أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي
نقد كتابات جودت سعيد
عادل التل
تعريفات أولية:
نطمح في هذه الدراسة إلى وضع معايير ثابتة لتمييز وفرز الكُتاب والمفكرين
الذين يتقدمون إلى الناس بالمنهج المادي، من خلال الخطاب الإسلامي، والدعوة
الإسلامية، وبعبارة أدق، أولئك الذين يحملون النزعة المادية عند التعامل مع
النصوص الشرعية. كما نهدف من هذه الدراسة - ومن خلال رؤية معاصرة -
إلى إبراز منهج أهل السنة والجماعة، وعرض طريقة السلف الصالح في مواجهة
التحديات الاعتقادية الوافدة.
وهذه الدراسة لا تشمل الذين يرفضون الامتثال لمنهج الله، وبالوقت نفسه لا
تهتم بالرد المباشر عليهم. وبما أن جودت سعيد يعتبر من أولئك الكُتاب المنتمين
للفكر المادي والداعين إليه فإن معظم الشواهد في هذه الدراسة ستكون من خلال
كتبه ورسائله. وقبل أن نبدأ في تحديد الارتباط بين فكر جودت سعيد وبين المنهج
المادي، نحتاج إلى إجراء مقارنة خاطفة بين الاتجاهات المعاصرة التي تهتم بتحديد
مصادر المعرفة.
ولدينا ثلاثة مناهج ظاهرة تتنازع الهيمنة على الساحة الثقافية في العالم
الإسلامي المعاصر:
أولاً: منهج التفكير الإسلامي (الديني) : ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على
النصوص الشرعية، المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون القيمة
الأساسية فيه لهذه النصوص، وتقدَّم على كل ما عداها من مصادر المعرفة عند
الاختلاف.
ثانياً: منهج التفكير الفلسفي (العقلي) : ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على
المذهب العقلي، وتكون القيمة الأساسية فيه للعقل كمصدر للمعرفة، ويقدم على
غيره من المصادر عند الاختلاف.
يقوم المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل، سواء
في إثبات الشيء أو نفيه، أو تحديد معانيه..
ثالثاً: منهج التفكير المادي (الوضعي) : ويتمثل بالاتجاه المادي، الذي ينظر
إلى العالم الخارجي باعتباره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة ...
الموضوعية ذات وجود مستقل عن وعي الإنسان، وغير خاضعة لشيء، وأن ...
المعرفة الصادرة عن المادة تقدم على كل معرفة أخرى عند التنازع.
والمذهب المادي: هو نظرية تقوم على اعتبار أن المادة هي الحقيقة الوحيدة، وأن الوجود ومظاهره وعملياته، يمكن تفسيرها كمظاهر أو نتائج للمادة.
ما هو المعيار الذي يحدد بموجبه الانتماء إلى أحد هذه المناهج؟
المعيار الذي يحدد الانتماء هو أسلوب التعامل مع النصوص الشرعية:
أ- في المنهج الإسلامي: نتعامل مع النصوص الشرعية بإثباتها وكما فهمها
الصحابة الذين عايشوا التنزيل وكما فهمها التابعون من الصحابة، وهذا هو منهج
أهل السنة والجماعة، وطريقة السلف الصالح وأسلوب المدرسة التجديدية.
ب - في المنهج الفلسفي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بطريق
التأويل وفقاً لمعطيات العقل، وبتقديم العقل على النقل، وهذا منهج الفرق الضالة
كالمعتزلة والرافضة وأمثالهم، وأسلوب المدرسة العقلية المعاصرة.
ج: في المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها
واعتبارها كأنها غير موجودة، والحصول على المعرفة من مصادر أخرى مثل
التاريخ أو السير في الأرض أو أحداث الكون، مما يستدعي -حسب رأي أصحاب
هذا المنهج - إلغاء النبوة والاعتماد على السنن (القوانين الطبيعية والاجتماعية)
بديلاً عنها (آيات الآفاق والأنفس) ، وإعطاء تفسير جديد لمفهوم الوحي ومفهوم
التلقي من الله، والاعتماد على قوانين تطور الطبيعة وقوانين تطور المجتمع في
سلم الدلالات الموضوعية، وهذا هو منهج المدرسة المادية التغييرية.
ولتحديد رأي جودت سعيد، وبيان موقفه من هذه المناهج، قمت بدراسة
جميع كتبه ورسائله ومقابلاته، ونستشهد هنا ببعض المقتطفات منها.
ونبدأ من خلال إشادته بالمنهج المادي الماركسي، فعندما تعرض لشرح آية
[إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] قال: ... الفكر الماركسي لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مئة عام، إنما كان تبنّيهم لهذه الفكرة وإدراكهم
لها [1] .
موقف غريب وعجيب في آن واحد..! غريب أن يصدر مثل هذا الرأي عن
رجل يعمل في حقل الدعوة، ويسعى لحل مشاكل الأمة الإسلامية، فإذا به يشهد
للفكر الماركسي بالأصالة والثناء عليه، وكأنه بأسلوبه هذا يُشعر الناس أن مصدر
الفكر الماركسي من كتاب الله، وظن أنه بهذه الطريقة - ومن خلال ذكر الآيات
القرآنية - يتمكن من تدعيم منهجه المادي بين المثقفين إسلامياً، لقد توهم أنه يحقق
هذه المهمة بنجاح، ودون عناء أو مشقة، وأنه يحقق بذلك ما عجز عنه أقطاب
الفكر الماركسي ودعاته في بلاد الإسلام، حين حاولوا - بالوسائل كافة وجميع
السبل- إيجاد الصلة بين المنهج الإسلامي والأفكار الماركسية، ولكن جودت سعيد
لا يزال مستمراً في هذه المحاولة، وهو هنا يشيد بهم ويطريهم على أنهم أول من
أدرك محتوى هذه الآية من القرآن الكريم، وعمل من خلالها. ويجب أن لا يصيبنا
الدوار من هذه الآراء، وأن لا نستغرب هذا الأمر..! لأن الأغرب من ذلك هو
دعوته الشباب المسلم إلى القيام بعملية التغيير، انطلاقاً من هذا المبدأ، إنها دعوة
سافرة لتبنّي منهج المادية، ويعتبر كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) تحقيقاً لهذه ...
الدعوة، فهو يدعوه من خلاله إلى التمسك بجانب الصواب في النظرية الماركسية
الشيوعية. ففي هذا الكتاب يقول: (وكذلك إذا تذكرنا أن علينا أن لا نبخس الناس
أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب
الصواب الذي في النظرية الماركسية لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفضنا جانب
الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم لا نكون مصيبين) [2] .
أية حكمة عند الماركسيين وأي صواب لديهم؟ ؟ فما لديهم إلا منهج يحمل
عوامل فنائه منذ قيامه، وهو لا يتلاءم مع الفطرة التي فُطر الناس عليها، لذلك
تزلزل وانهار كما كان متوقعاً له من قبل، لقد كان الماركسيون دائماً يسخرون من
المتمسكين بالفضيلة والحريصين على القيم ويقولون لهم: (أيها المثاليون المغفلون، ... إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له في الحقيقة.. حين تتكلمون عن الحق ...
والفضيلة والصدق والأمانة، إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له، ...
ولكنها هي في ذاتها ليست شيئاً ثابتاً محدداً يمكن التعرف عليها) . ...
لقد شعر جودت سعيد - وهو يتقدم إلينا بهذه الأفكار المادية - بعامل الضعف
والخجل من هذا الطرح لأنه يدرك أن هناك من يخاف على دينه من هذا التوجه
نحو الفكر المادي، لذلك تراه يستخدم عبارات الاطمئنان، ويؤكد أن الخوف على
آيات الله مستبعد في ظل الأفكار الشيوعية فيقول: (لم يعد هنا ما يجعلنا نخاف
على آيات الكتاب، لأن آيات الآفاق والأنفس ستبين أن آيات الكتاب هي
الحق) [3] .
والكاتب صريح في هذا كل الصراحة، وكأن لسان حاله يقول: خذ أفكار
الشيوعيين ودَعْ كفرهم، وربما يستمد هذا من المثل الشعبي المعروف: (خذ من
أقوالهم وما عليك من أفعالهم) . وقد عبر عن ذلك بقوله: (ولكن حين يصل ...
(الماركسي) من أقواله إلى القول: بأنه أصبح بناءً على ذلك من الواجب نبذ كل
نظرية إيمانية على الإطلاق - هنا نقول له: إن هذه النتيجة من تلك المقدمة هي
الفكرة الطوباوية الناشئة عن الكراهية والعاطفة لا عن الدراسة الموضوعية) [4] .
ومن المعروف أن الماركسية ليست شعاراً فقط، بل هي واقع عملي واعتقادي
ولا يمكن الفصل بينهما، وهم ينطلقون من شعار عريض (لا إله في الوجود والحياة
مادة) ، فلو فكروا أن يخدعونا - كما خدع الكاتب من قبل - ويبدلوا شعارهم إلى
عبارة أخرى مثل: (يوجد إله ولكن الحياة مادة) فهل يتبدل من الأمر شيء؟ وهل
يجوز لنا أن نقبل بالنظرية المادية من الشيوعيين من أجل التبديل الصوري؟ ! ،
لا يكون ذلك إلا إذا أجبنا - وعلى سبيل الدعابة - أن نطلق على من يكون إيمانه
على هذا النحو تسمية جديدة، (الماركسي المسلم) أو (الشيخ الأحمر) ! .
إن تقديم الأفكار الماركسية من خلال إلباسها العباءة الإسلامية أمر في غاية
الخطورة، وتمثل هذه العملية حالة خداع كبيرة، لا تزال الأمة الإسلامية تعاني من
آثارها باستمرار. ولا يزال صدى تلك المواجهات قائماً في الأذهان، حين حاول
البعض أن يقدم الإسلام إلى الناس في ثوب الاشتراكية، أو من خلال نظام
الديمقراطية، وقد اشتد نكير العلماء في مواجهة هذه المحاولة مما جعل معظمهم
يتراجعون عن موقفهم ويتبرؤون مما كتبوه في هذا الاتجاه.
وأما جودت سعيد فكان له أسلوب آخر، وطريقة مبتكرة للتعامل مع هذه
المسألة، حيث دعا صراحة للتمسك بالفكر الماركسي من خلال الدعوة للأخذ بجانب
الصواب الذي اكتشفه في النظرية الماركسية، يقول في كتابه (حتى يغيروا ما
بأنفسهم) [الرعد: 11] [*] في أسلوب التباهي: (وحين يقول الماركسي: إن د راسة التاريخ الاجتماعي أصبحت علماً، ينبغي ألا نقول له أخطأت، بل نقول له: هذا حق، وإذا اعتبر أن مظاهر الطبيعة قادرة على إعطائنا حقائق موضوعية، علينا أن نراه تقريراً بأن آيات الآفاق تعطي حقائق موضوعية، ونزيد له أيضاً: بأن آيات الأنفس كذلك تعطي حقائق موضوعية) [5] .
هذا هو المنهج المادي من بدايته إلى نهايته.. وهذه هي الماركسية، تطل
برأسها من خلاله! والكاتب لم يدعنا في حيرة من أمرنا للتأكد من موقفه هذا،
واعتناقه جميع الجوانب في النظرية الماركسية، فها هو يقرر أسبقية المادة في
الوجود كما تقررها المادية الماركسية، ويعتقد بضرورة تقديم المعرفة الصادرة عن
المادة على كل شيء كما يقدمونها.
يقول: (فالوجود الخارجي المادي هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند
الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للزيادة أو النقصان) [6] . والكاتب يلتقي في هذا
المنهج المادي مع الماركسيين إلى درجة التطابق تقريباً وسأترك المجال لرموز
الماركسية في إبراز جوانب الالتقاء بين أفكارهم وفكره، يقول ستالين: (إن المادة
والطبيعة والكائن هي حقيقة موضوعية، موجودة خارج الإدراك أو الشعور
وبصورة مستقلة عنه، وأن المادة هي عنصر أول، لأنه منبه الإحساسات
والتصور والشعور، بينما الإدراك هو عنصر ثانٍ مشتق لأنه انعكاس للمادة) [7] . ...
وقال إنجلز: (وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء) [8] .
ومن الممكن أن يطرح القارئ علينا سؤالاًمحدداً، هل يقدم جودت سعيد المادة
أو الواقع على كلام الله؟ ، يقول في رسالته - مستخدماً أسلوب السخرية من
المسلمين الذين يتمسكون بالنصوص الشرعية -: (فالمسلمون - بكل سذاجة -
يظنون أن لهم القدرة على الاتصال بالمعاني التي أرادها الله بواسطة هذه اللغة،
دون الرجوع إلى الواقع الذي تتحدث عنه..) [9] ، يجب الانتباه إلى استخدام
أسلوب التعميم (المسلمون) دون استثناء، كما يلاحظ تجهيل الأمة التي كانت تعتمد
في جميع مراحلها على اللغة العربية، ولهذا قال -تعالى-: [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآناً عَرَبِياً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [فصلت: 3] . وأما وصف المسلمين بالسذاجة والجهل
فلا تسأل عن ذلك، فقد ملأ كتابه بهذا اللون من التقريع دون تفريق أو استثناء، ثم
يقول محذراً المسلمين من العودة إلى النصوص أو التمسك بها: (ولكن ينبغي أن
نتعمق في فهم هذه الظاهرة، إن العودة إلى النصوص لم تكن لتحتل هذه الظاهرة،
ولو اقتصر على فهم هذه الحقيقة من الكلام أو من اللغة أو من النص لاستمر القتال، ولوجد ولأمكن أن تؤول النصوص؛ لأن النصوص قابلة للتأويل) [10] .
وها هو هنا يرفض فهم النصوص بواسطة اللغة، كما يرفض مفهوم التأويل،
وهو بهذا ينتصر للمنهج المادي في مواجهة منهج السلف الصالح والمنهج العقلاني
على حد سواء، ولكنه ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة خطيرة وذلك بالتعبير عن كلام الله
بأسلوب الرمزية. لقد تعامل الله معنا بالرموز والحقائق، وقال لنا بأن نرجع دائماً
إلى الواقع والنظر فيه، وأن الرموز إن هي إلا مساعدات مرحلية مؤقتة يمكن أن
تختلف بحسب الزمان والمكان، ولكن سننه الواقعية لن تتغير وكلما رجعنا إليها
نجدها كما هي ثابتة: [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
[الأحزاب: 43] ، وليست الرموز إلا [أَسْمَاء] [مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ]
[الأعراف: 71] [11] ، وموضع الخطر هو اعتبار كلام الله رمزاً وهو اللغة،
وأن الواقع يمثل الحقائق، ثم يظهر تناقضه الفاضح حين ذكر في أول الكلام أن الله
تعامل مع البشر بالرموز ثم قال في نهاية الكلام: إن الرموز [مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ] [الأعراف: 71] ، والله - تعالى - يقول: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]
[البقرة: 31] ، وهكذا يصبح الواقع المادي عنده مقدَّماً على كلام الله، حيث يقول
حول ذلك: (فحين يلح القرآن الكريم على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي
لفهم سننه ونظامه، فإنه يدل بذلك على أن الواقع أدل على ذاته في كلامه
له) [12] ، وهذا تصريح واضح في اعتماد الواقع واستبعاد كلام الله، وقد قاده هذا الاعتقاد إلى موقف أشد خطراً وأبعد ظلماً، وذلك بالإعلان عن انتهاء مهمة النبوة نفسها، والتعامل مع السنن والقوانين.
انتهاء النبوة:
يقول الكاتب: (من هنا لما بدأ الاهتمام بالواقع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن النبوة مرحلة انتهت) [13] ، ويقوم هذا الرأي من واقع إيمانه
بمراحل التاريخ واعتبار مرحلة البشرية خلال فترة الأنبياء مرحلة طفولية،
والمرحلة المعاصرة مرحلة مراهقة، وأن البشرية بدأت تتجه نحو مرحلة الرشد، ...
وقد استمد هذا التصور من آراء (أوغست كونت) مؤسس المذهب الوضعي المادي
في أوربا، وعن مرحلية النبوة يقول نقلاً عن إقبال: (إن النبوة في الإسلام لتبلغ
كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة - ختم - النبوة نفسها، وهو أمر
ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً - إلى الأبد - على مقود
يقاد منه وأن الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد
في الناية على وسائله هو) [14] .
هل يصدق أن هذا الكلام يصدر عن إنسان عاقل؟ أن يقرر انتهاء مهمة
النبوة؟ وتسليم زمام الأمور إلى الإنسان، وهذا ما دعا إليه علماء أوربا الوضعيون
الماديون، وهذه الفقرة بالذات مستقاة من أفكار (فريدريك نيشته) الذي كان يقول
بنظرية الإنسان الكامل أو (إنسان السوبر مان) [**] ، ويقرر الكاتب أن البديل عن
النبوة التي تتضمن نصوصاً من كلام وحروف إلى السنن التي ليست كلاماً وحروفاً، فانظر إلى قوله: (انتبه إلى هذا محمد إقبال، وخاصة في بحث ختم النبوة،
لماذا ختمت النبوة؟ ولم يعد نبي ولا كتاب، لأن الكتاب والنبي الخاتم دلنا على
الطريق الذي لا ينتهي، دلنا على الكلام الذي ليس هو كلام حروف، وإنما حقائق
ملموسة) [15] . أليس هذا تصريحاً باستبعاد كلام الله من العمل، والاعتماد على
الكلام الذي يمثل الحقائق الملموسة؟ أي الحقائق المادية الحسية.
ولنا أن نتساءل كما أن من حق القارئ أن يتساءل معنا كيف يتصور جودت
سعيد النبوة؟ وما هي الصيغة التي يعتمدها في تحديدها؟ .
ينسجم رأيه حول النبوة مع مفهومه المادي، وإيمانه بالتطور ويعبر عن ذلك
بقوله:
(وفي طفولة البشرية، تتطور القوة الروحية إلى ما أسميه (الوعي النبوي) ...
وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي وذلك بتزويد الناس
بأحكام واختيارات جاهزة، وأساليب للعمل أُعدت من قبل) [16] . ...
إذن النبوة قوة روحية واستعداد شخصي واختيارات وأساليب للعمل أو وعي
نبوي لا أكثر ولا أقل، فأين الوحي المباشر من الله (تعالى) ؟ !
يقول ابن تيمية: (والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم
الفاسدة - ابن سينا وأمثاله - لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله، لا
بخبر مَلَك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة وعقلية أكمل من غيرهم في قوة
الحدس ويسمون ذلك.. القوة الحدسية..) [17] .
ومن أجل هذا المفهوم يعتقد محمد إقبال وجودت في ضرورة انتهاء النبوة
وإلغاء دلالة النصوص الصادرة عنها وفي ذلك يقول الثاني: (الذي أريد أن نفهمه
من هذا أن دلالة الكتاب يمكن أن تُلغى إلغاءً تاماً، وكأنها غير موجودة، والذي
سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر
وحوادث التاريخ، أي أن الذي سيعلّمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون
والتاريخ هي التي ستعلمنا..) [18] .
ثم يقول بما يؤكد تقديمه للواقع على كل شيء ولو كان كلام الله: (إن صخرة
ما أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها حتى لو كان كلام الله..) [19] . وقد
لوحظ أن جودت سعيد يتضجر ويتضايق كلما احتج عليه أحد بقوله: قال الله أو قال
الرسول، أو حتى مجرد ذكر الله أو الرسول. ويتضح ضيقه في قوله: (.. لم تعد
ترهبني قعقعة الكلمات: الروح، النفس، الله أو الرسول أو قال فلان وفلان، نريد
أن نتحدث ماذا يحدث لنا، وكيف يحدث الفهم؟ كيف يعرف ما فهمناه أننا فهمناه؟
وكيف انتقلت إليَّ هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء، ولنبحث في
الأرض، لنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة.
كيف تصوغ البيئة هذا المولود؟ ! ، إن ما يحدث أمامنا بقوى تحيط بنا
وتصدر منا وليس غيباً ولا خارقاً، كما أنها ليست مما لا يستطيع العقل
فهمها) [20] .
لماذا لم تعد ترهبه كلمات (الله) أو (الرسول) ؟ ماذا حدث عنده حتى فقدت هذه الكلمات قدسيتها في نفسه؟ ؟ ألسنا مسلمين؟ ؟ لماذا يريد منا أن ندع الحديث عن السماء، ونخلد إلى الأرض؟ [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ (175) ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ] [الأعراف: 175-176] .
* يتبع * ...
__________
(1) كتاب (اقرأ وربك الأكرم) ، جودت سعيد، ص219.
(2) كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد، ص80.
(3) كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد، ص80.
(4) المصدر السابق، ص81.
(*) وضع المؤلف هذه الآية الكريمة عنواناً لكتابه (5) المصدر السابق، ص81.
(6) كتاب (اقرأ وربك الأكرم) ، جودت سعيد، ص57.
(7) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ص29.
(8) فورباخ ونهاية الفلسفة، ص16، طبعة دار التقدم بموسكو.
(9) رسالة (انظروا) ، 40، اللغة والواقع، جودت سعيد، ص4.
(10) المصدر السابق، ص5.
(11) المصدر السابق، ص7.
(12) المصدر السابق، ص8.
(13) المصدر السابق، ص7.
(14) كتاب العمل، ص131، جودت سعيد، وتجديد الفكر الديني، محمد إقبال، ص143-145.
(**) ذكر هذه النظرية الفاسدة في كتابه المترجَم الى العربية (هكذا تكلم زرادشت) البيان (15) رسالة (انظروا) ، 40، ص7.
(16) كتاب العمل، جودت سعيد، ص130.
(17) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1/179.
(18) رسالة (انظروا) ، 40، ص8.
(19) رسالة (انظروا) ، 40، ص8.
(20) المصدر السابق، ص4.(63/14)
مصطلحات
الزندقة
عبد العزيز بن محمد عبد اللطيف
أصل هذه الكلمة:
يقول ابن تيمية - رحمه الله - عن لفظ الزندقة: (هو لفظ أعجمي معرَّب، ...
أُخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام، وعُرب..) [1] ..
ويقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن أصل الزنادقة: (أصل الزنادقة ...
أتباع دَيْصان، ثم مانيّ ثم مزدَك وحاصل مقالتهم أن النور والظلمة قديمان، وأنهما
امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة، ومن كان
من أهل الخير فهو من النور) [2] .
ويذكر بعض المؤرخين أن زرادشت أتى بكتاب (البستاه) ، فمن أعرض عنه، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا الزندي، فلما جاءت العرب ... أخذت هذا المعنى من الفرس، وقالوا زنديق وعربوه.
وقد عدَّ الإمام الملطي - رحمه الله - الزنادقة أول الطوائف افتراقاً، ثم ذكر
فرق الزنادقة فقال: (أول من افترق من هذه المذاهب: الزنادقة، وهم خمس فرق
المعطلة والمانوية والمزدكية والهبدكية والروحانية) [3] . وقال الجاحظ: إن
الزندقة فشت في النصارى فقال: (ودينهم - يرحمك الله - يضاهي الزندقة،
ويناسب في بعض الوجوه قول الدهرية، وهم من أسباب كل حيرة وشبهة. والدليل
على ذلك أنَّا لم نر أهل ملة قط أكثر زندقة من النصارى، ولا أكثر متحيراً أو
مترنحاً منهم..) [4] .
إطلاقات الزندقة ومعانيها في الإسلام:
استخدم هذا المصطلح في معانٍ متعددة.. فبعضهم يطلقه على الثنوية
المجوس، وهو موجود في بعض معاجم اللغة العربية مثل تاج العروس (مادة ز ن ق، فصل الزاي من باب القاف) ومختار الصحاح (مادة ز ن د ق) وغيرهما، وربما أطلق الزنديق على الدهري كما في لسان العرب [5] ، ومنهم من يطلقه على من لا يؤمن بالله واليوم الآخر كما ذكر ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان [6] ، ونجد أن الفقهاء يطلقون الزنديق على المنافق، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: ... (فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته، فالمراد به عندهم المنافق، الذي ... يظهر الإسلام ويبطن الكفر) [7] .
ويقول الحافظ ابن حجر: (ثم أُطلق الاسم (الزنديق) على كل من أسرَّ الكفر
وأظهر الإسلام، حتى قال مالك: الزندقة ما كان عليه المنافقون، وكذا وأطلقت
جماعة من فقهاء الشافعية وغيرهم: أن الزنديق هو الذي يسرّ الإسلام ويخفي
الكفر) [8] وبعض علماء السلف يطلقه على الجهمية، كما يفعل ذلك الإمام عثمان بن سعيد الدارِمي (ت 282 هـ) في كتابه (الرد على الجهيية) [9] ، وفي كتابه (النقض على بشر المريسي) [10] . وقد يُرمى صاحب المجون والفحش ...
بالزندقة [11] .
عقائدهم:
إن عقائد الزنادقة قد تضمنت كماً هائلاً من صنوف الكفر الصريح، والردة
الظاهرة، كقولهم بالحلول، وتأليه البشر، وتشبيه الله - تعالى - بخلقه، وإنكار
النبوة أحياناً، وادعاء النبوة أحياناً أخرى! والقول بالتناسخ، وإنكار القيامة والجنة
والنار، واستحلال المحرمات وجحد الواجبات.. [12] .
آثارهم:
خلَّف الزنادقة آثاراً سيئة وعواقب وخيمة على الأمة المسلمة، فأشعلوا ثورات
سياسية وأفسدوا البلاد والعباد، كما فعلت القرامطة والإسماعيلية والمقنعية،
وغيرهم من فرق الزنادقة. كما أن بعض الفرق الإسلامية قد تزندقت، وخرجت
من دين الإسلام، كما هو الحال في غلاة الشيعة، والخطابية من المعتزلة،
والاتحادية من المتصوفة وغير ذلك.
اتخذ الزنادقة التشيع مطية ذلولاً في نشر مذهبهم، يقول ابن تيمية - رحمه
الله - عن الشيعة: (ومنهم من أدخل على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب
العباد، فملاحدة الإسماعيلية وغيرهم من الباطنية المنافقين، من بابهم دخلوا،
وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا على بلاد
الإسلام، وسبوا الحريم، وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام.. إذ كان أصل
المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي أمير المؤمنين -
رضي الله عنه - فحرَّق منهم طائفة بالنار، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه
البتار) [13] .
من جهود الخلفاء في محاربة الزنادقة:
اجتهد الخلفاء في تتبُّع الزنادقة والقضاء عليهم واستئصالهم، حفاظاً على
الدين وأهله.. فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يأمر بإحراق الزنادقة
كما روى البخاري [14] ، واشتهر الخليفة العباسي المهدي بالعناية بذلك، حيث
عين رجلاً ليتولى أمور الزنادقة. ويقول ابن كثير - في حوادث سنة 167هـ -:
(وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً
بين يديه) [15] .
ووصى المهدي ابنه موسى الهادي الخليفة من بعده بذلك.. وقد أنفذ الهادي
تلك الوصية، يقول ابن كثير - في حوادث سنة 169هـ -: (وسعى الهادي في
تطلب الزنادقة من الآفاق، فقتل منهم طائفة كثيرة واقتدى في ذلك بأبيه) [16] .
كلمة في أهمية الموضوع:
تظهر أهمية هذا الموضوع لعدة أمور، منها:
أن فكرة الزندقة والإلحاد موجودة منذ القدم، حيث كانت معروفة عند قدماء
اليونان والهندوس والفرس، كما أن الزندقة موجودة وظاهرة في العصر الحديث،
وقد قام الزنادقة - عبر العصور الإسلامية - بثورات سياسية وأعمال تخريبية،
والأولى من ذلك أنهم أثروا تأثيراً بالغاً على معتقدات بعض الفرق التي تدَّعي
الإسلام، بل نجد أن بعض الفرق قد (تزندقت) ، وأمر ثالث يؤكد أهمية ذلك وهو
أن المستشرقين قد اعتنوا عناية كبيرة بهذا الموضوع، فكتبوا دراسات مستقلة عن
بعض الزنادقة، ولكنهم - كما هي عادتهم - دافعوا عن هؤلاء الزنادقة وعن آرائهم، ولمّعوهم وأثنوا عليهم خيراً [17] ، ولا ننتظر من هؤلاء المستشرقين أكثر من
ذلك، وقد أُشربت قلوب أكثرهم حب كل ما يناهض الإسلام الصحيح الأصيل، ولا
أنسى أن أذكر أن البعض قد كتب عن الزندقة وانتقدها، وكله من أجل الدفاع عن
القومية العربية؛ حيث إن الزندقة وثيقة الصلة بالشعوبية الفارسية المجوسية
المناهضة للقومية العربية.
__________
(1) بغية المرتاد (السبعينية) ، ص 338، وانظر رسالة في تحقيق لفظ الزنديق لابن كمال باشا (ت940هـ) ، ص 47، والتي نشرت بتحقيق د حسين محفوظ في أحد أعداد مجلة كلية الآداب بجامعة بغداد.
(2) الفتح، 12/270-271.
(3) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص91.
(4) رسالة في الرد على النصارى، ص17.
(5) مادة (زندق) ، 10/147.
(6) 2/246.
(7) السبعينية، ص338.
(8) الفتح، 12/271.
(9) ص352.
(10) ص475-563، وقد نُشر سنة 1939 بعنوان: رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد.
(11) انظر: كتاب من تاريخ الإلحاد في الإسلام لعبد الرحمن بدوي، ص 28، وكتاب الزندقة والزنادقة لعاطف شكري، ص109.
(12) انظر توضيحاً لذلك على سبيل المثال: كتاب الفَرق بين الفِرق لعبد القاهر البغدادي في باب الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منها.
(13) منهاج السنة، تحقيق د محمد رشاد سالم، 1/10-11.
(14) انظر: الفتح 12/267.
(15) البداية والنهاية في التاريخ 10/149.
(16) البداية والنهاية في التاريخ، 10/157.
(17) انظر: كتاب (من تاريخ الإلحاد في الإسلام) لعبد الرحمن بدوي، ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين، 10/440-446.(63/23)
وتريدون أن يُمَكَّنَ لكم!
محمد العبدة
لابد أن تكون الدعوة في بدايتها قوية مندفعة، تُبذل في سبيلها طاقات تحتمل
أكثر مما كانت تحتمل، وترتفع فيها درجة الإيمان والسمو الأخلاقي حتى يستطيع
الفرد تحقيق ما يعجز عنه أمثاله، بل عشرات أمثاله من الآخرين. هذا هو الذي
يعجل بالانطلاقة، حتى تدور رحى الإسلام كما دارت أول مرة، وكما سطع نوره
في كل فترات التجديد.
وفي مثل هذه الأجواء يتغلب المثل الأعلى على كل جواذب الأرض، ويعيش
المؤسسون الأوائل ومن يلتفّ حولهم ظروف التفاني والإخلاص، وتكون علاقاتهم
الاجتماعية في ذروة التآخي والتلاحم، هكذا نحجت الدعوة الإسلامية الأولى وهكذا
ارتفع المهاجرون والأنصار فوق العصبية القبلية والإقليمية والقومية، كما ارتفعوا
فوق الأنانيات الشخصية، ولم يحْتَجْ المسلمون - وهم مضطهدون في مكة ولا حتى
عندما قامت لهم دولة في المدينة - إلى قضاة أو محاكم لفض خصوماتهم، وأقصى
ما يفعلونه أن يشتكي أحدهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسبب كلمة أو
هفوة قِيلت في حقه، أو يعترف هو للرسول -صلى الله عليه وسلم- بذنبه ليقيم
عليه الحد كما في قصة ماعز والغامدية، وذلك لأن الوازع كان من داخل أنفسهم،
وكان ميزان الشرع هو الميزان الوحيد الذي يتعاملون به، وعاش العالم الإسلامي
دهراً بتأثير تلك الاندفاعة العظيمة.
يطلب المسلمون اليوم نجاحاً للدعوة، ولكنهم يمارسون أعمالاً ويسلكون سلوكاً
أدنى بكثير مما يُطلب للإحياء والتجديد، ويذكرون الخلافة الراشدة في أحاديثهم
وكتبهم، ولكن تصرفاتهم ليست قريبة من تلك الصورة الوضَّاءة.
كانت الرعية تقدم الطاعة لأبي بكر عن رضا وطواعية ودين، وليس عن
رهبة أو رغبة، لا طمعاً في مال أو منصب، ولا لأنه من قبيلة معينة، وكان
الخلفاء الراشدون يعاملون الرعية بمثل ذلك فلا يقربون أحداً لأنه صاحب مال، أو
لأنه ضعيف الشخصية لا يعارضهم في شيء، أو بسبب قرابة قريبة، كل ذلك كان
غير وارد في أذهانهم، فهل يتعامل المسلمون اليوم بهذا السلوك؟ الواقع يدل على
أنهم يتعاملون بالطرق التي أحدثت بعد الراشدين فقد يقرَّب صاحب المال، ويكون
له الأمر والنهي وإن لم يكن في العير ولا في النفير، وقد يقرب صاحب الشخصية
الضعيفة حتى لا يعارض ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وأما الذي ينصح ولا
يداهن ويتكلم عن الأخطاء - ولو كان ضمن الضوابط الشرعية - فهو شخص غير
مرغوب فيه غالباً.
فهل نستطيع بهذه العقلية، وهذه الأخلاق أن ننهض ويكون لنا شأن؟ !(63/28)
مراجعات في عالم الكتب
كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟
تأليف: محمد قطب
عرض: عثمان ضميرية
-1-
الواقعة التاريخية حادثة مفردة تقع مرة واحدة ثم تنقضي ولا تتكرر. وإذا كان
الباحثون والمؤرخون يتفقون على وقوع الحادثة فإن تفسيرهم لها وتعليلهم لأسبابها
ودوافعها يختلف باختلاف المنهج الذي ينتهجه كل منهم، متأثراً في ذلك بعقيدته
وتكوينه الفكري والثقافي، وتصوراته التي ينطلق منها في النظر للحياة البشرية،
ودور الإنسان في هذه الأحداث.
ولذلك كانت الدعوة إلى كتابة التاريخ البشري كله (من زاوية الرصد
الإسلامية التي تقيس الإنجاز البشري بالمعيار الرباني، أي بمدى تحقيق الإنسان
لغاية وجوده التي خلقه الله من أجلها..؛ لأن هذا التاريخ يقدَّم لنا من زوايا تختلف
اختلافاً جذرياً عن زاوية الرصد الإسلامية، فلزم أن نعيد كتابته ليتناسق مع الرؤية
الإسلامية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فتكون لنا
وحدة في التصور تتناسب مع كوننا مسلمين) .
ولئن كان ذلك ضرورياً بالنسبة للتاريخ البشري عامة - خارج نطاق الأمة
الإسلامية - فإن الضرورة أشد والحاجة أكثر دينياً ومنهجياً لإعادة كتابة التاريخ
الإسلامي خاصة.
-2-
والكتاب الذي نعرضه قديم جديد، وهو للمفكر الإسلامي الأستاذ الداعية محمد
قطب - حفظه الله وبارك في عمره وجهده وجهاده - والكتاب ضميمة جديدة مكملة
لما سبقه من أبحاث وكتب، وقدمها الأستاذ محمد قطب - ذات صلة بالموضوع -
مثل (واقعنا المعاصر) و (حول التفسير الإسلامي للتاريخ) ..
أما إنه كتاب قديم، فلأنه (كان مكتوباً منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، إن
لم يكن أكثر، ولم يُقدَّر له أن يُنشر خلال المدى الطويل، لأنه كان في حاجة إلى
مراجعة أخيرة) .
وأما إنه كتاب جديد، فلأنه يُنشر لأول مرة في طبعته الأولى منذ
العام 1412هـ نشرتين متزامنتين، صدرت إحداهما عن (دار الأفق) بالرياض، والأخرى عن (دار الشروق) بالقاهرة [1] .
-3-
وكتابنا هذا (كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟) يتضمن الصورة الأخيرة لتفكير
الأستاذ محمد قطب في موضوع كتابة التاريخ الإسلامي، ويقدم منهجاً إسلامياً
وإطاراً للفكرة ذاتها. وهو يشعر جيداً - منذ البداية - بضخامة هذه المهمة وخطرها، ومدى الجهد اللازم لإنجازها. فهي أضخم من أن تكون جهد أفراد متفرقين في
جيل من أجيال المسلمين، إنما تحتاج إلى جهد جماعي منظم تقوم به مؤسسات
متخصصة على مدى قد يمتد بضعة أجيال.. ومع ذلك فلابد من القيام بهذا العمل،
رغم المشقة البالغة فيه، لأنه ما من أمة تستطيع أن تعيش بلا تاريخ ممحص محقق
ميسر التناول على جميع المستويات..
ولذلك يدلي الأستاذ محمد قطب بدلوه المتواضع (كما يصفه فضيلته) في أمر
المنهج الذي ينبغي أن تعاد على أساسه كتابة التاريخ الإسلامي، ومما نقتطف منه
مقتطفات سريعة، لعلها تلقي ضوءاً في مراجعة عامة للكتاب، والله الموفق.
-4-
هناك عدة ملاحظات في أكثر من اتجاه، تجعلنا نلح على ضرورة إعادة كتابة
التاريخ الإسلامي:
* فإذا نظرنا إلى المصادر الإسلامية القديمة، نجد فيها ذخيرة ضخمة من
الأخبار والوقائع والروايات، تصلح زاداً للمتعمق، ولكنها - بصورتها الراهنة -
لا تصلح للقارئ المتعجل الذي يريد خلاصة جاهزة ممحصة، سهلة الاستيعاب
والهضم..
* وإذا نظرنا، من ناحية أخرى، إلى معظم المراجع الحديثة المتأثرة بالمنهج
الاستشراقي، نجدها مكتوبة بصورة جذابة مغرية بالقراءة من ناحية الشكل، ولكن
عيبها من الناحية المنهجية أن أغلبها بعيد عن الأمانة العلمية الواجبة، ملون تلويناً
لتحقيق هدف معين، تكنّه صدور لا تحب الخير لهذا الدين.
* وسواء أكانت هذه المراجع من تأليف المستشرقين مباشرة، أو من تأليف
تلاميذهم، فإن هذا العيب المنهجي الخطير يجعل مراجعهم غير صالحة للاستمداد
منها، ويجعل إعادة النظر فيما تناولته من وقائع وتفسيرات - أمراً بالغ الأهمية..
* وهناك عيب رئيسي آخر في تلك الكتابات والمناهج بصفة عامة هو
التركيز على التاريخ السياسي للمسلمين على حسساب نجقية مجالات الحياة
الإسلامية: العقَدية والفكرية، والحضارية، والعلمية والاجتماعية.. إلخ، وذلك
يعطي صورة مشوهة ممسوخة!
وذلك أن تقسيم التاريخ إلى مراحل سياسية، والحديث عن كل مرحلة، كأن
هناك حدوداً فاصلة في مجرى التاريخ كله تفصل بين عهد وعهد، وتجعل كل عهد
قائماً بذاته - هذا المنهج يقطع التواصل التاريخي بين أجيال هذه الأمة، كأنما لم
تكن أمة واحدة متصلة، وكأنما لم تكن بالذات هي (الأمة الإسلامية) . ...
* وأمر آخر من أمور الدلالات التاريخية نفتقده حين يغيب عنا المنهج
الصحيح لدراسة تاريخ الأمة الإسلامية هو: علاقة أوضاع هذه الأمة - في
خصوصيتها التي أخرجها الله من أجلها - بأوضاع البشر على اتساعها..
-5-
ولذلك فحين نعيد كتابة التاريخ الإسلامي ينبغي أن نوجه انتباهنا إلى أن
التاريخ ليس مجرد أقاصيص تُحكى، ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث..
إنما يدرس التاريخ للعبرة، ويدرس للتربية. وكل أمة تصوغ تاريخها بحيث يؤدي
مهمة تربوية في حياتها. وهذا ما نفتقده في الكتابات المعاصرة لتاريخنا! ، التي
تشتت ولاء المسلم وتجعله متذبذباً بين الإسلام وتلك الجاهليات التي يبعثها
المستشرقون..
فينبغي - إذن - كتابة التاريخ الإسلامي بحيث تؤدي مهمة تربوية في تخريج
أجيال مسلمة تعرف حقيقة دينها وتتمسك به، وتعمل على إحيائه في نفوسها وفي
واقعها..
-6-
* وفي سبيل تحقيق هذا الهدف التربوي علينا أن نبرز جملة من المعاني في
تاريخ الأمة الإسلامية، لا نجدها بارزة المعالم في كثير من الدراسات المستحدثة
على وجه الخصوص:
1 - أن التوحيد هو النعمة الكبرى التي أضفاها الله على هذه الأمة، وهو
الهدف الأكبر الذي أُخرجت هذه الأمة من أجله، وكُلفت بنشره في الأرض،
التوحيد بمعناه الكامل الشامل الذي يعمل في مساحة واسعة تشمل الحياة كلها.
2- يجب أن نتبين من دراسة التاريخ أن التوحيد حركة تحريرية شاملة
للإنسان كله، وللحياة من كل جوانبها.. وأنه الذي أنشأ أمة فريدة في التاريخ
تجتمع على أساس العقيدة، التي تليق أن يجتمع الناس حولها وعليها.
3- وأن نتبين كذلك أن حركة الفتح الإسلامي كانت حركة فريدة تختلف عن
كل الحركات التوسعية في تاريخ الأمم كلها، من حيث الهدف والآثار.
4- ثم تولدت عن حركة التوحيد الكبرى حركة علمية وحركة حضارية
متميزة.
* هذا كله بعض ما ينبغي إبرازه في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية في
عصر صدر الإسلام. ومرحلة المد الإسلامي، فإذا درسنا فترة الانحسار فيجب أن
ننظر فيها إلى جملة من العوامل الداخلية النفسية، وهي تعطينا الأسباب الحقيقية
للانحسار الذي نشأ عن بُعد هذه الأمة عن مصدر قوتها وعزتها، وعندئذ زال
التمكين لها، وكانت سنة الله في تمكين غيرها لأمد.
* وفي الجولة الأخيرة من حياة هذه الأمة (واقعنا المعاصر) ينبغي التنبه إلى
أمور كثيرة في كتابة تاريخها لكثرة ما دُسَّ فيها من عوامل التشويه والتوجهات
السامة التي يقصد بها التدمير، كالإيحاء بأن الإسلام قد استنفد أغراضه، وأن اتخاذ
الحضارة العلمانية منهجاً للحياة هو طريق الإنقاذ وسبيل التقدم! وكذلك إبراز
التيارات الهدامة الوافدة مع الغزو الفكري، من وطنية وقومية واشتراكية، وتمجيد
أصحابها وتصويرهم بصورة الأبطال مع إهمال البطولة الحقة في تاريخنا
الإسلامي، وأخيراً: تصوير الصحوة الإسلامية على أنها الخطر الداهم الذي سيؤدي بالعالم إلى الدمار..
-7-
تلك أمور تدعو لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد، وفي فصول الكتاب
تفصيل وتطبيق للمنهج الذي أقام معالمه الأستاذ محمد قطب، ولذلك جاء الحديث
عن (الجاهلية) و (الإسلام) و (البعثة وصدر الإسلام) ثم (المد الإسلامي)
ودراسة (بدء الانحسار) لأخذ العبرة لتكون زاداً على طريق (الصحوة الإسلامية)
التي تبشر بتحقيق وعد الله - سبحانه - لهذه الأمة بالتمكين والنصر عندما تفي
بشرط ذلك كله، ثم يغلق الكتاب بهذه العبارة المتفائلة التي تصدر عن إيمان عميق
بوعد الله - سبحانه - وبشارة نبيه -صلى الله عليه وسلم-: وهو يستشرف
المستقبل الزاهر: (وذات يوم - مقدَّر في علم الله - ستأتي الجولة الممكّنة للإسلام، التي بشر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ *
بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 4-6] ) .
-8-
وبعد.. فإنه كتاب جدير بالقراءة، بل جدير بالدراسة المتأنية العميقة، ولعل
أصحاب الاختصاص من كُتاب التاريخ الإسلامي يبدون رأيهم في هذا المنهج ككتابة
التاريخ الإسلامي، فقد يضيفون جديداً أو يستدركون فكرة، أو يؤيدون صواباً.
ونسأل الله - تعالى - أن يبارك في جهد المؤلف، وأن ينفع به وبعلمه، وأن
يهيئ له من الأسباب لإنجاز ما وعد به من كتب تالية، وأن يتقبلها عنده.
__________
(1) وأجد هذا مناسباً للإشارة إلى ملاحظة غاية في الاهمية، في طريقه الأستاذ ومنهجه في الكتاب والتأليف؛ فهو يتأنى ويتأنق في كتبه، فيكتبها بعد أن تنضج الفكرة ثم يراجعها ويعيد مراجعتها وقد يتوقف الكتاب عن النشر سنوات تبلغ عِقدين أو ثلاثة - يُصدر أثناءها عدداً من الكتب والدراسات - لأنه يحتاج إلى مراجعة أو إضافة وهذا يعني أنه يخرج للقراء كتاباً ناضجاً، وبحثاً نافعاً، يمكث في عقول الناس وقلوبهم، كما يحتل مكانه اللائق في مكتباتهم ولعل في ذلك درساً لأصحاب الزبد من الكتب، الذين يتطلعون لإصدار كتاب جديد كل شهر، ليضربوا بذلك رقماً قياسياً في عدد المؤلَّفات والمنشورات! ، يسودون أوراقاً يزعمونها تأليفاً، ثم يقذفون بها لتخرج كتاباً (خديجاً) ، لا غَناء فيه ولا خير، وإن كان فهو غناء قليل! والكتب كالإبل، مائة لا تجد فيها راحلة، وهذه الكتب مائة لا تجد فيها كتاباً! .(63/30)
رسالة عدائية ضد المسلمين فى أوربا
د. أحمد إبراهيم خضر
وجهت الفتيات المسلمات الثلاث - اللاتي تمسكن بحُجبهن في المدارس
الفرنسية وأرغمن وزير التربية الفرنسي على الإقرار بحقهن في ذلك - صدمتين
قاسيتين للعقلية الغربية. كان الغربيون مطمئنين إلى أن أبناء المسلمين الذين
يعيشون بين ظهرانيهم ويتعرضون لقيم الحياة الغربية في المدرسة وعبر رسائل
الإعلام في طريقهم إلى الانصهار الكامل مع المجتمع الغربي والذوبان فيه. كانوا
يعرفون أن انحسار سلطة الآباء على أبنائهم سوف يؤدي إما إلى تعريض الأسرة
المسلمة في بلاد الغرب لمواقف اجتماعية قابلة للانفجار - يترتب عليها ردود فعل
عنيفة - أو أن تعيش هذه الأسرة في حالة صراع مع المجتمع ككل. كانوا مطمئنين
إلى أن ظروف الحياة الغربية سوف تخرب أخلاق الشباب المسلم وتفصلهم عن
عائلاتهم، وأن تعرض هذا الشباب للخمر والتدخين والأطعمة المحرمة،
والإغراءات العديدة المتوفرة في المدن الغربية سيبعد هذا الشباب حتماً عن دينه.
كانوا مطمئنين كذلك إلى شدة تأثير أعلى درجات العلمانية في المدارس الغربية على
الشباب المسلم، فجاءت واقعة الفتيات الثلاث في قلب المدارس الفرنسية صدمة
شديدة أيقظتهم مما اطمأنوا وركنوا إليه طويلاً.
أما الصدمة الثانية للعقلية الغربية فكانت استسلام وزير التربية الفرنسي أمام
إصرار الفتيات على التمسك بحجبهن. فهِم الغربيون هذا الاستسلام بأن المسلمين قد
نجحوا في فرض مصطلحاتهم الخاصة على المجتمع الأوربي، وأن الوزير
الفرنسي قد سمح - بموقفه هذا - بخرق القيم الغربية. كانوا يأملون أن يجبر
الوزير الفرنسي هؤلاء الفتيات على خلع الحجاب لأن القيم الانضباطية الإسلامية
التي يفرضها الإسلام على معتنقيه ليست ذات قيمة - في نظرهم - للبلاد كلها ومن
ثَم فإنهم يرون: أن على المسلمين المقيمين بينهم أن لا يخضعوا لهذه القيم، وأن
عليهم أن يتركوا أنفسهم لوسائلهم الخاصة وليس لما يفرضه عليهم الإسلام من التزام
وانضباط.
دفعت هاتان الصدمتان الشديدتان (أنتوني هارتلي) رئيس تحرير مجلة
(Encounter) [1] إلى تدقيق النظر في أوضاع المسلمين في أوربا وتوجيه رسالة
تحذيرية للحكومات الغربية صريحة أحياناً، وضمنية أحياناً أخرى، مما سماه
بالتوسع والبعث الإسلامي في أوربا والأخطار الناجمة عن وجود الأعداد المتزايدة
من المهاجرين المسلمين في الدول الأوربية. وجد (هارتلي) أن عدد المسلمين في
بريطانيا يقدر بمليون ونصف، وفي فرنسا من 2. 5-3 ملايين، وفي ألمانيا
هناك ما لا يقل عن 1. 9 مليون مسلم، غالبيتهم من الأتراك بالإضافة إلى مائة
وثلاثين ألف عربي، ومائة ألف من مسلمي البوسنة. وفي إيطاليا ما يقرب من 107 مليون يدخل معظمهم إليها بتأشيرة سياحية ثم يبقون هناك. وفي بلجيكا مائتي
ألف مهاجر من تركيا وشمال إفريقية، أما في هولنده فهناك 285 ألف مسلم من
المغرب وتركيا وسورينام. وجد (هارتلي) أنه على الرغم من أن غالبية العمالة
المسلمة في بريطانيا عمالة غير ماهرة فإن نسبة عالية من هذه العمالة تشغل وظائف
مهنية. ووجد (هارتلي) أيضاً أن في فرنسا وحدها ما يقارب من ألف مسجد وزاوية
صلاة تقام فيها شعائر الإسلام، وستمائة في بريطانيا يتلقى فيها الأطفال المسلمون
تعاليم القرآن وتعتبر مراكز تجمعات للمسلمين. وصلة المسلمين بوطنهم الأم لم
تنقطع، وما يحدث في هذا الوطن من حركات إسلامية وبعث إسلامي يتردد صداه
بين هؤلاء المهاجرين إلى العالم الأوربي.
أزعجت هذه الحقائق (هارتلي) لكن الذي أفزعه هو أن هؤلاء المهاجرين قد
نجحوا في إدخال المعتقدات والأعراف الإسلامية إلى المجتمعات الصناعية الغربية،
وخشي أن تتخلى هذه المجتمعات عن قيمها وأعرافها، وأن تخضع للقيم والمعايير
الإسلامية، لهذا فقد نظر إلى: واقعة الفتيات المسلمات الثلاث على أنها سابقة
خطيرة تنذر بإمكان حدوث ذلك؛ لهذا وجه (هارتلي) رسالته التحذيرية - المحشوة
بالعداء للإسلام والمسلمين - إلى الحكومات الغربية متضمنة ما يلي:
أولاً: محاولة إقناع الحكومات الغربية بأن المهاجرين المسلمين قد يتسببون
في مشاكل مستقبلية بين الدول الأوربية واستدل في محاولته هذه باحتجاج فرنسا
على بون بسبب تشجيع الألمان لهجرة العمالة التركية الزائدة.
ثانياً: محاولة إقناع الحكومات الغربية بأن مطالب المسلمين كثيرة ومتعددة
ويصعب الوفاء بها وأنها تسير ضد إيقاع وحركة الإنتاج الصناعي الحديث وضد
نمط الحياة الغربية. يقول (هارتلي) : (وعلى امتداد أوربا يطلب المسلمون أماكن
للصلاة في مواقع العمل وفي السكن العمالي والعقارات السكنية، ويطلبون إمدادهم
بالأطعمة الحلال - الموصوفة في القرآن - في المقاصف والمدارس، ويطلبون
أوقاتاً للاحتفال بأعيادهم (عيد الفطر وعيد الأضحى) ، ويطلبون الحق في الذهاب
إلى المسجد يوم الجمعة. ليس من السهل الوفاء بالعديد من هذه المتطلبات. حيث
يستلزم الصيام في رمضان الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر وحتى الغروب
لمدة شهر كامل. ومن شأن هذا الأمر تقليل القدوة الفيزيقية للعمال الذين يقومون
بأعمال يدوية. والتغيب عن العمل خلال اليوم من أجل الصلاة أمر لا يتسق
بسهولة مع إيقاع الإنتاج الصناعي الحديث والدفن الإسلامي يتطلب وضع الجثة
على جانبها متجهة إلى مكة وهذا أمر يصعب تحقيقه في مقابر حضرية مزدحمة،
ومن قائمة مطالب المسلمين في بريطانيا: أن ترتدي بناتهم الزي الإسلامي، وأن
ينفصل الطلاب عن الطالبات في حصص الرياضة وتعليم السباحة، وإمداد
المدارس بالأطعمة الحلال، وتوفير غرف للصلاة، والسماح بفرص لزيارة
المساجد في المناسبات والأعياد الإسلامية حتى يحصل الأطفال على تعاليم قرآنية.
هناك حالة من عدم الرضا العميق بين المسلمين عن تعليم الجنس في المدارس
وخاصة ما يرتبط بالجنسية المثلية، وقد قُدمت اعتراضات مشابهة لذلك إلى مديري
المدارس الفرنسية.
إن المجتمعات الأوربية قد تجد من الصعب عليها مقاومة مطالب المسلمين،
وهناك مواقف قد حدثت بالفعل وتخلت فيها المجتمعات الصناعية عن معاييرها
الاجتماعية السائدة، وانقادت لعادات الإسلام، وهي تجري مخالفة لقيمها ومعتقداتها.
ثالثاً: تحذير الحكومات الغربية من الآثار البعيدة المدى للدور المتنامي الذي
يمكن أن يلعبه المسلمون في الحياة السياسية الغربية خاصة بعد حصولهم على
جنسيات البلاد الأوربية، وحق التصويت في الانتخابات المحلية والعامة. وبناءً
عليه يرى (هارتلي) : أن ذلك سوف يمكّنهم من تحقيق مطالبهم وأهدافهم وخاصة
مع تصويت باقي المسلمين إلى جانب هذه المطالب.
استشهد (هارتلي) هنا بالخطاب الذي أرسله الاتحاد الإسلامي في فرنسا
لمديري المدارس والذي طالب فيه بوضع حد للاختلاط في الفصول المدرسية.
رابعاً: تحذير الحكومات الغربية من تزايد نفوذ الحكومات الإسلامية عليها
استناداً إلى وجود الأقليات الإسلامية فيها، ومن تسرب الحركات الإسلامية إلى
أوربا بسبب جو الحرية السائد في الغرب.
خامساً: تنبيه الحكومات الغربية إلى أنها مهما استجابت لمطالب المسلمين
فإنهم سيظلون منفصلين متميزين غير منسجمين مع المجتمع الأوربي، ولن يكون
ولاؤهم لهذا المجتمع مطلقاً.
سادساً: تحذير الحكومات الأوربية من خطورة الرضوخ لمطالب المسلمين،
وخاصة ما يتعلق منها بوضع المرأة، واعتبار ذلك تهديداً لقيم المجتمع الغربي
وبذراً للتعصب فيه مع التنديد الضمني المتكرر بموقف الوزير الفرنسي من الفتيات
المسلمات الثلاث المشار إليهن، واستغلال تلك الواقعة لإظهار صعوبة تعامل هذه
الحكومات مع المسلمين الملتزمين بعقيدتهم.
سابعاً: تحذير الحكومات الغربية من الدور الذي تلعبه المساجد في أوربا،
ومن تنامي هذا الدور وتأثيره على الحياة السياسية في الغرب، ولفت انتباه هذه
الحكومات إلى خطورة الخطب الدينية التي تُلقى في هذه المساجد، والدعوة إلى
ضرورة فرض الرقابة عليها.
ثامناً: لفت انتباه الحكومات الأوربية إلى النهضة الملحوظة في قطاع التعليم
الإسلامي في أوربا، وفي المدارس الإسلامية الخاصة بالذات، وما يمكن أن تسببه
هذه النهضة من مشاكل لهذه الحكومات تتعلق بالمعونات الحكومية، وخرق لقيم
المجتمع، والتأثير على تكامله خاصة مع نجاح قادة المسلمين في تطويع البناء
الإداري القائم وتوجيهه لصالح وخدمة معتقداتهم.
تاسعاً: تذكير الحكومات الغربية بآثار قضية (سلمان رشدي) على بريطانيا،
وتنبيه هذه الحكومات إلى أن القضية لا تخص بريطانيا وحدها بل إن جميع البلدان
الأوربية سوف تعاني من المشاكل الناجمة عن وجود أقليات مسلمة فيها، وأن الحل
الذي أمام هذه الحكومات هو إجبار المسلمين على الخضوع للقانون شاؤوا أم أبوا
بغض النظر عن أمر المساس بعقيدتهم مع التأكيد على عدم إعطاء وضع خاص
للإسلام يجعله فوق النقد بحيث يفرض نفسه على المجتمع الغربي.
عاشراً: التشديد على ضرورة مواجهة النهوض والتوسع الإسلامي في أوربا، وقطع الطريق أمام الحكومات الغربية - التي استعمرت وأذلت العالم الإسلامي
مدة طويلة - في التفكير في التسامح مع المسلمين في دولها وفقاً لنفس المبدأ الذي
تتعامل به مع اليهود (وهو التكفير عن ذنب ما يُعرف باضطهاد اليهود) .
لو ضممنا هذه الرسالة العدائية (لأنتوني هارتلي) إلى ما يجري للمسلمين في
البوسنة والهرسك كمحاولة لاستئصال الوجود الإسلامي من قلب أوربا لأدركنا معنى
قوله - عز وجل -: [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] ، إنه - كما يقول الشهيد (سيد قطب) - (تقرير صادق من العليم
الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم
بوصفهم الهدف الثابت المستقر لأعدائهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء
الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل، لأن وجود الإسلام في الأرض هو
بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم، وهو من القوة والمتانة بحيث يخشاه كل مبطل
ويرهبه كل باغٍ ويكرهه كل مفسد.. ومن ثم يترصدون لأهله ليفتنوهم عنه
ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة ذلك لأنهم لا يأمنون على باطلهم
وبغيهم وفسادهم في الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين وتتبع منهجه وتعيش
بنظامه، وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل
ثابتاً: أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم
سلاح انتضوا غيره، وكلما كانت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها، والخبر
الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى
الخطر ويدعوها إلى الصبر على الكيد والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة
الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر) .
__________
(1) Anthony Hartley,Europe`s Muslims,The National Interest,Winter1990/91,pp 57-66.(63/36)
البيان الأدبي
إسلامية الأدب.. لماذا وكيف؟
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
الشبهة الخامسة:
يثير بعض معارضي مصطلح (الأدب الإسلامي) شبهة (البدعة) في هذا المصطلح، فيقولون: إنه بدعة معاصرة، لم يقل بها أحد من سلف هذه الأمة، فهل نحن أحرص على الإسلام من أولئك؟ ؟ ونجيب على هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: لا ينطبق على مصطلح (الأدب الإسلامي) معنى (البدعة) المذمومة
التي تأتي مخالفة لما شرع الله، كما لا ينطبق عليه معنى (البدعة) على عمومه؛
لأنه - كما ذكرنا في حلقة ماضية - يقوم على تصور، وهذا التصور موجود منذ
نزول القرآن على النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - ومنذ أن كان للرسول -
صلى الله عليه وسلم- ولسلف هذه الأمة - رضي الله عنهم - موقفهم الواضح القائم
على ذلك التصور الإسلامي للأدب ودوره في حياة الأمة، وتنحصر الجدة في الأدب
الإسلامي في تسمية المصطلح نفسه بناءً على منهجية مستمدة-من القرآن والسنة،
وسنبين هذا فيما بعد - إن شاء الله -.
ثانياً: ليس صحيحاً ما يقوله أصحاب هذه الشبهة من أن السلف لم يشيروا
إلى إسلامية الأدب، بل إنهم أكدوا ذلك في مواقف كثيرة، وأشاروا إلى ضرورة
مراعاة تعاليم الإسلام في الأدب فلم يقروا لشاعر أو أديب الخروج عن تلك التعاليم،
ولم يضعوا مصطلحاً بهذا الإسم لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى وضع مصطلح إسلامي
في ظل خلافة وجهتها العامة إسلامية، ولها مواقفها الواضحة من أصحاب الأدب
المنحرف، تأديباً وإنكاراً.
ثالثاً: لم يكن الانحراف الأدبي في عصور الإسلام الأولى منظَّراً، أي أنه لم
يكن قائماً على (أيديولوجية) لها فلسفتها ونظامها القائم الذي تدعمه السلطات،
وإنما كان ذلك الانحراف - غالباً - شخصياً ينبثق من انحراف شخصي لأحد
الأدباء ثم يكون له أتباعه ومقلدوه، وكانت الدولة الإسلامية ترفض ذلك الانحراف
ملاحقة له - وإن لان موقفها منه أحياناً - ولذلك لم يكن الناس بحاجة إلى وضع
نظرية أو مصطلح للأدب الإسلامي، لمواجهة نظرية معارضة، وإنما كان دورهم
مقتصراً على نقد ذلك الانحراف ورفضه وييان سوئه للناس.
أما الانحراف الفكري والأدبي في العصور المتأخرة فهو انحراف قائم على
منهج، له أسسه وتصوراته وله رواده ودعاته، بل وله دوله التي تتبناه وتسعى إلى
دعمه ونشره [1] ، وقد وُضعت له النظريات والمناهج، وكتبت عنه الدراسات
المنهجية والبحوث الأكاديمية؛ فكان لزاماً على المسلمين الملتزمين أن يكون لهم
منهجهم المستقل ونظريتهم الأدبية الإسلامية القائمة على التصور الإسلامي، لأن
هذه المنهجية هي التي تستطيع مواجهة الانحراف الأدبي (الممنهج) في عصرنا
هذا، فكان مصطلح الأدب الإسلامي الذي قام على تصور إسلامي كما أشرنا من
قبل.
إن البدعة تكون مذمومة مرفوضة عندما تأتي مخالفة لمنهج الإسلام الصحيح
خارجة عن إطاره الذي رسمه القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح ومواقفهم، فهي
بهذا المفهوم مرفوضة حتى لو كان فيها زيادة في الطاعة يتوهم أصحابها أنها تقربهم
إلى الله أكثر مما ثبت عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أليس هو القائل في
شأن من يتنزه عن بعض ما كان يفعله: «ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء
أترخص فيها، والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» .
والبدعة بهذا المعنى المرفوض بعيدة كل البعد عن مصطلح الأدب الإسلامي؛
لأنه يقوم على رؤية إسلامية مؤيدة بالكتاب والسنة ومواقف السلف الصالح في شأن
الأدب.
إن هذا المصطلح من باب التجديد في أسلوب المواجهة بما يتلاءم مع حجم
القضية المعاصرة، ولولا هذه النظريات والمدارس القائمة على مناهج منحرفة
مدعومة باتجاهات رسمية عالمية، لما احتجنا في هذا العصر إلى مصطلحات ... (الفكر الإسلامي) و (الاقتصاد الإسلامي) و (الإعلام الإسلامي) و (الأدب
الإسلامي) ، إذن فإن القضية قائمة على مبدأ الإعداد لمواجهة الانحراف والفساد،
لا بأقوال ارتجالية، وأفكار مبتدعة كما يظن من يطلقون هذه الشبهة. ولكن بناءً
على الرؤية الإسلامية المنبثقة من ديننا العظيم.
فإذا كان - مثلاً - الشاعر الحداثي هو: (الذي يخوض معركة التحرر من
القوالب السلفية التي تحاول - بدورها - أن تشله وتعزله عن حركة التاريخ، وعن
التغيير، وتبقيه في عقم الثبات - هذه القوالب السلفية في الفكر والحياة معاً تتحول
إلى دعائم مشتركة، تشارك بشكل أو آخر في الحيلولة دون تحقيق التحرر
الكامل) [2] .
أقول إذا كان ذلك هو الشاعر الحداثي - كما صوَّره منظر مذهب (الحداثة) ...
العربي المرتد أدونيس - فإن الأدب الإسلامي يرسم صورة أخرى مشرقة ناصعة
للشاعر الإسلامي، فهو الشاعر الذي يتخذ من التصور الإسلامي قاعدة انطلاقه
ويبدع لنا أدباً رائعاً قائماً على عظمة الثبات على المبدأ وليس على الثورية
والانحراف.
وإذا كان الشاعر - عند منظري الحداثة - هو (الذي لا ينطلق من فكرة
واضحة محددة، بل من حالة لا يعرفها هو نفسه معرفة دقيقة، ذلك أنه لا يخضع
في تجربته للموضوع أو الفكرة أو الأيديولوجية أو العقل أو المنطق) [3] .
فإن الشاعر - عند منظري الأدب الإسلامي - هو الذي ينطلق من فكرة
واضحة ومن حالة يعرفها، ومن رؤية إسلامية صافية يبدع من خلالها أدباً مؤثراً
يرقى بالأمة ولا يهبط بها [4] .
إن (مليار) مسلم يعيشون في هذا العالم النكد بأمسّ الحاجة إلى أدب يرقى
بنفوسهم وعقولهم، ويصد عنهم هجمات الانحراف والضياع التي تشنها نظريات
الأدب المنحرف في هذا العصر [5] .
لقد حرص الرسول - عليه الصلاة والسلام - منذ نزول الوحي عليه على
رسم طريق الكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة، ولقد قال عن الشاعر المنحرف:
«لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً» ، وقال عن الشعر الإسلامي الصافي: «إن من الشعر لحكمة» ، وكانت عائشة - رضي الله عنها - تستدل في كلامها بالشعر الجيد السامي، وأوصت بتلقينه للناشئة، وبذلك أوصى معاوية - رضي الله عنه - وثبت عنهم جميعاً رفضهم للشعر المنحرف ومعاقبتهم للشعراء المنحرفين في أحاديث كثيرة وأخبار صحيحة ليس هذا مكان سردها، أفبعد ذلك يدعي مُدَّعٍ أن مصطلح (الأدب الإسلامي) بدعة لم يقل بها السلف؟ !
__________
(1) راجع ما كتبه الأستاذ جمال سلطان في كتابه القيِّم (أدب الردة - قصة الشعر العربي الحديث) : تحت عنوان: تيارات مشبوهة، ص123 وما بعدها.
(2) انظر: زمن الشعر لأدونيس، ص57.
(3) انظر: مقدمة للشعر العربي لأدونيس ص32، وانظر كذلك الكتاب القيِّم بعنوان: (أسلوب جديد في حرب الإسلام) للشيخ جمعان بن عايض الزهراني، ص33 وما بعدها.
(4) انظر: الإسلامية والمذاهب الأدبية للدكتور نجيب الكيلاني، ص20 وما بعدها.
(5) انظر: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد للدكتور عبد الرحمن الباشا، المقدمة.(63/43)
شعر
فلنحمل هَمَّ الإسلام
د. محمد بن ظافر الشهري
يقولان رِفقاً بجسم رقيقْ ... بعينيك دمعٌ وفي الصدرِ ضِيقْ
وتحيا أسيراً لحرِّ الأسى ... وإن كنتَ تبدو كَحُرٍّ طليقْ
وقالا دعِ الهم أو بعضه ... ولم يعلما أنني لا أُطيقْ
فكيف السبيل إلى بسمةٍ ... وليس يقهقهُ صدرٌ خنيقْ؟ !
أنضحك والهدمُ في البَابِرِي ... ومن قبلُ في القدسِ شبَّ الحريقْ؟ !
ويَذبح " راموسُ " إخواننا ... على أرض " مورو " وما من شفيقْ
وفي مَقَديشو تُسال الدِّما ... ليُصنعَ منها لسَامَ الغبوقْ
وبثَّ الصليبُ رجالاته ... برغم الخلافاتِ - عند " الرفيقْ " [1]
وفي إِرِتِرْيا وجاراتِها ... ليخنقنا سَامُ عند المضيقْ [2]
وكشمير والهند لا تسألا ... عن الهَتْكِ فيها لشعبٍ عتيقْ [3]
فكم حُرة مزقوا سِترها ... ووالدُها مثخنٌ والشقيقْ
خليليَّ حلَّ بإخواننا ... من الضيم ما لا يسرُّ الصديقْ
أُذيقوا من الذلِّ ألوانَهُ ... فهل نتضاحكُ حتى نذوقْ؟ !
وحتَّام نَسْفُلُ في همِّنا ... وأعداؤنا همُّهم في سموقْ؟ !
ونشرب من قيء أعدائنا ... وإسلامنا فيه أحلى رحيقْ؟
وتبقى هُتافات أبنائنا ... تعيش النجوم يعيش الفريقْ؟
وتبقى وسائل إعلامنا ... لنشر الرذيلة والزور بوقْ؟
ونغمس في الفن أولادنا ... لِنُخرجَ معشوقةً أو عشيقْ؟
إذا زُرع الفسقُ في نسْلنا ... فهل نتوقع غير العقوقْ
ومَن كان عبداً لأهوائه ... سيُهوَى به في مكان سحيقْ
عجبتُ لمن سار نحو الهدى ... كسَيْرِ الفراشات نحو البريقْ!
وإسلامنا فيه إعزازنا ... وفيه تُنال جميع الحقوقْ
فؤاديَ يخفقُ من حبِّه ... فتسري محبتُه في العروقْ
فهيا لنُحيي به أنفُساً ... وإن لم يشأْ كلُّ نذلٍ صفيقْ
نجادلُ بالحق كل الورى ... ولا نَرْمِ مَن أسلموا بالمروقْ
خليليَّ سيراً على منهجي ... على منهجٍ سلفيٍّ عريقْ
وكُفَّا عن اللوم ولْتحْمِلا ... معي الهَمَّ أو فاتْرُكاني أُفيقْ
__________
(1) الرفيق: يستخدمها الشيوعيون والبعثيون في الإشارة إلى زملائهم في التنظيم، وفي البيت إشارة إلى التعاون الشيوعي الأمريكي.
(2) باب المندب.
(3) عتيق: الكريم من كل شيء، والخيار من كل شيء.(63/47)
ملف العدد
المسلمون في الهند
دخول الإسلام إلى القارة الهندية
محمود السيد الدغيم
تعتبر شبه القارة الهندية واحدة من بقاع العالم التي استوطنها البشر منذ أقدم
العصور، فما من مؤرخ متوسع بالتاريخ إلا ويذكر الهند، وكذلك كُتاب طبقات
الأمم يَفُتهم ذكر الهند، وقد ذكر صاعد الأندلسي (420-462هـ/1029-1070م)
الأمم الثماني التي عُنيت بالعلم فقال: (أما الأمة الأولى - وهم الهند - فأمة كثيرة
العدد عظيمة القدر، فخمة الممالك، قد اعترف لها بالحكمة، وأقرَّ لها بالتدبير في
فنون المعرفة جميع الملوك السالفة، والقرون الخالية (..) ولملوكهم السِّيَر الفاضلة، والملكات المحمودة، والسياسات الكاملة، وأما العلم الإلهي: فمنهم براهمة،
ومنهم صابئة. فأما البراهمة: فهي فرقة قليلة العدد فيهم شريفة النسب عندهم،
فمنهم من يقول بحدوث العالم، ومنهم من يقول بأزليته، إلا أنهم مجمعون على
إبطال النبوات، وتحريم ذبح الحيوان، والمنع من إهلاكه وأكل أقواته. والصابئة
وهم جمهور الهند ومعظمها - فإنها تقول بأزلية العالم، الخ [1] .
الطبقات الاجتماعية في الهند:
بعدما انتصر الآريون على سكان الهند امتزجوا بسكانها وفرضوا تقسيم
المجتمع في الهند إلى أربع طبقات اجتماعية ومذهبية حددها (منو مهارشي) في
شروح الكتب الهندوسية المقدسة، وهي:
1 - البراهمة (Brahman) : وهم طبقة الكهنة، ومهمتهم درس أسفار (الفيدا!) المقدسة، وتدريسها وتلاوتها، وتقريب القرابين وإدارة الشؤون المالية. ...
وهم فئة متسلطة وتعتبر مقدسة لا تُسأل عما تفعل، ولو اقترفت جميع الجرائم بما ...
فيها القتل؛ لأنها الطبقة العليا في المجتمع. ويعيش البراهمة على ما يجبونه من
الهدايا والقرابين والضرائب. وللبرهمي حق في كل شيء بسبب النسب.
2- الأكشتري (Kshatrea) : وهي طبقة المحاربين، ومهمتها حماية ...
البلاد والعباد، ويجب عليها الابتعاد عن الشهوات. ويعد البرهمي أباً للأكشتري
وإن كان البرهمي أصغر سناً من الأكشتري.
3- الفيشية (Vaishya) : وهي طبقة الفلاحين، والتجار، ومهمتها تأمين
مستلزمات العيش للكهنة والمحاربين، ويحق لهم أخذ الربا، وعليهم تقديم الضرائب
للطبقتين السابقتين.
4 - الشودرا (Shudra) : (المنبوذون) وهي الطبقة السفلى التي لم تعترف لها الهندوسية بأية حقوق، وفرضت عليها واجبات تقديم الخدمات للطبقات ... الأخرى التي تستغل (الشودرا) وتجبرها على تنفيذ أسفل الخدمات، وسبب انحطاطهم - حسب الزعم الهندوسي -عدم جريان الدم الآري في عروقهم مطلقاً؛ لأنهم من سكان الهند الأصليين الذين لم يختلطوا بالآريين، وهم خطر على الدم الآري يجب الابتعاد عنه؛ لذا يُمنع الزواج بين المنبوذين وبقية الطبقات لأن المنبوذ نجس يجب اجتنابه! .
إن من يتصفح الكتب الهندوسية التي يطلق عليها اسم (شريعة منو مهارشي) ...
- يجد صورة المأساة الإنسانية في تلك النِّحلة الفاسدة التي ورد في نصوصها ما يلي:
(يجب على (الشودري: المنبوذ) أن ينفذ أوامر البراهمة تنفيذاً مطلقاً. ...
وخدمته للبراهمة هي أفضل عمل يحمد عليه. ولا يجوز له جمع ثروة زائدة؛ لأنه
يؤذي البراهمة بوقاحته. وتُقطع يد ابن الطبقة الدنيا إذا رفعها على مَن هو أعلى
منه، وتقطع رجله إذا رفسه برجله، وإذا ناداه باسمه أو باسم طائفته متهكماً يجب
أن يدخل في فمه خنجراً محمياً بالنار، ويأمر الملك بصب زيت حار في فمه وأذنيه
إذا أبدى رأياً للبراهمة في أمور أعمالهم، ومَن يُقِمْ علاقة مع منبوذ تسقط عنه صفة
الطبقية ويُنبَذ، ولو لم تتعدَّ علاقتُهُ: قراءة الكتاب المقدس معه، أو الركوب في
مركبة واحدة، أو الأكل معه على سفرة واحدة) .
هذه صورة عن العدالة الهندوسية ضمن المجتمع الهندوسي، وهي صورة
معبرة عن الظلم ضمن تلك النحلة التي تجور على أبنائها، لذا لا نجد غرابة في
الأمر عندما يجور الهندوس على أبناء المسلمين الذين يخالفونهم في أمور الدين
والدنيا.
دخول العرب إلى الهند قبل الإسلام:
جاء في تاريخ الطبري: (ثم إن كسرى وجَّه مع رجل من أهل اليمن يقال له
(سفيان بن معد يكرب) - ومن الناس من يقول إنه كان يسمى سيف بن ذي يزن -
جيشاً إلى اليمن؛ فقتلوا من بها من السودان، واستولوا عليها. فلما دانت لكسرى
بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند - وهي أرض الجوهر - قائداً من قواده
في جند كثيف، فقاتل ملكها فقتله، واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالاً
عظيمة وجواهر كثيرة) [2] .
تدل هذه الرواية على أن العرب كانوا في عداد جيش كسرى الذي استولى
على سرنديب. وكان مولد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في سنة اثنتين
وأربعين من سلطان كسرى أنوشروان. وتسمى تلك السنة بعام الفيل، وتلك
الأخبار تدل دلالة واضحة على معرفة العرب أشياء كثيرة عن الهند وبلادها
وشعوبها ونِحلها، كما تدل النقوش القديمة على العلاقات التجارية يين أبناء شبه
جزيرة العرب والهند، حيث راجت تجارة البخور والحرير والحديد. وبناءً على ما
تقدم لا نستغرب دخول الإسلام إلى الهند منذ فجر الإسلام ومبعث خاتم الأنبياء
والمرسلين.
انتشار الإسلام في شبه القارة الهندية:
نحن نواجه في هذا الزمان أزمة تاريخية، فعندما نطرح مسألة إسلامية مفيدة
تقوم قيامة أعداء الإسلام، ويبدأ الجدل المذموم، وتغيب المناظرة المحمودة،
ويطالبنا أذناب الأعداء بتقديم الدليل في كل قضية تنصف الإسلام والمسلمين، ولكن
أذناب الأعداء يسلمون بما يتخرص به المستشرقون والمستغربون من اليهود
والنصارى والملاحدة.
إن أعداء الإسلام يتقبلون الدعوى المسيحية التي تقول: إن (القديس توماس)
ذهب إلى الهند، وأسس أول كنيسة نصرانية على ساحل مليبار في سنة 52م،
وبقيت تلك الكنيسة حتى القرن الخامس الميلادي، وكانت تابعة للكنيسة الفارسية،
ووصل إلى هناك النسطوريون (أتباع نسطوريوس القسطنطيني 428م) في القرن
التاسع، وفي القرن الخامس عشر سيطرت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية البرتغالية
فوحدت كنيسة مليبار، ثم ارتد المليباريون إلى النسطورية سنة 700 م الخ..
كان أعداء الإسلام يشككون بكل ما يخص الإسلام من تاريخ وعدالة وازدهار. وهذا ما يدفعنا إلى مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل في سبيل تقديم البرهان
الذي يؤدي إلى النتيجة المرجوة.
(إن المسلمين العرب أقاموا في جزيرة سيلان، وساحل مليبار في القرن
السابع. وهذا ما يؤكده (فرانسيس دي Francisday) وكذلك (استرك Struck) .
وذكر المؤرخون: أنه وُجد محفوراً على حجر في مسجد يقع قرب (بيتور) في
(كيرله) أن الإسلام ظهر فيها في السنة الخامسة من الهجرة، ويعللون سبب ظهوره
بوصول بعض العرب مبكرين إلى ديار (مليبار) ولا ريب في أن المسلمين يوجدون
في الهند من أوائل القرن الأول الهجري، فسرِّح النظر إلى (راجه سرنديب) الذي
أسلم في سنة 40هـ، ثم ارجع البصر إلى (راجه مليبار) فهو كذلك) [3] .
وبالإضافة إلى ما ذكره الدكتور محمد الصديقي نجد قرينة أخرى على دخول
الهند في دين الله أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث جاء في مقال للأستاذ
محمد أبو الصلاح: (توجد وثائق تاريخية تدل على أن الإسلام قد وصل إلى مليبار
في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويؤكد المؤرخ الباحث (بالا كرشنا بلاي
Bala Krishna Pillay) ، بأن محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - قد ...
بعث الرسائل يدعو فيها إلى الإسلام ملوك إفريقية وملك (مليبار Malibar) ويقول
إن أول خطاب من الرسول العربي قد وصل إلى ملك مليبار في عام ستمائة وثمانية
وعشرين للميلاد [*] ) .
وتثبت الحقائق التاريخية أن الإسلام قد انتشر في بلاد (مليبار) في زمن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأكبر دليل تاريخي على ذلك تلك النقود الفضية
التي نشرتها الأسرة المالكة (باركل) في (كنور) في القرن الثامن للميلاد. وهذه
الواقعة تفند الرأي القائل بأن الإسلام جاء إلى مليبار بعد القرن الثاني لوفاة النبي -
صلى الله عليه وسلم-. وعرضت النقود التي تحمل اسم الملك (ملك أركل) في ...
المعرض الثقافي الذي أقيم في مَدْراس عام 1934م. وتحتفظ هذه الأسرة بتراثها
القديم وتحافظ على مجدها الغابر منذ القرون. وأصبحت هذه الوثائق التاريخية
المنكشفة في قصر (أركل) من نقود ومخطوطات ومنحوتات ورسائل وغيرها أبهى ...
الحجج التاريخية لتفنيد رأي صاحب (تحفة المجاهدين) بأن الدعوة الإسلامية قد
ابتدأت في (مليبار) في القرن العاشر للميلاد.
ومن المحزن أن كثيراً من الكتب التاريخية التي أُلفت بعده تقلد الرجل وتنقل
رأيه هذا بدون تمحيص وتحقيق. مع أن المؤرخ المشهور ابن عرب شاه (1476م)
والمؤرخ العربي المعروف فخر الدين (1272م) قد صرحا بأن الإسلام بدأ ينتشر
في سواحل الهند الغربية في زمن النبي - عليه الصلاة والسلام - وجاءت وثائق
(أركل) مؤيدة لرأي هذين المؤرخين [4] .
بناءً على ما تقدم نرى أن من واجب المؤرخين المسلمين البحث الدؤوب عن
العلاقات الإسلامية الهندية أثناء القرن الأول الهجري، والكشف عن أسرار الوثائق
والمحفوظات المحفوظة في المكتبات الهندية، والاطلاع على النقوش والنقود،
وذلك في سبيل توثيق التاريخ.
لئن تباينت الآراء حول تحديد ابتداء انتشار الدين الإسلامي في الهند، فإن
قضية الفتح لم يتم الإجماع على تحديد موعدها بعد. فالبلاذري يقول: (ولى عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعُمان سنة
15هـ، فوجه أخاه الحكم بن أبي العاص إلى البحرين، ومضى إلى عُمان فأقطع
جيشاً إلى (تانه) - التي تقع على ساحل بحر العرب في الهند إلى الشمال من مدينة
بومباي مسافة 15 كم2 - فلما رجع الجيش كتب إلى عمر - رضي الله عنه -
يُعلمه ذلك، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - يا أخا ثقيف: حملت دوداً على
عود، وإني أحلف بالله لو أُصيبوا لأخذت من قومك مثلهم. ووجه الحكم إلى
بروص (Broach) ووجه أخاه المغيرة إلى (خور الدييل) فلقي العدو فظفر ...
به) [5] . (ولما وُلي عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الخلافة، وولى عبد ... الله بن عامر بن كريز العراق وكتب إليه يأمره أن يوجه إلى ثغر الهند من يعلم ... علمه،
وينصرف إليه بخبره، فوجه حكيم بن جبلة العبدي، فلما رجع أوفده إلى عثمان،
فسأله عن حال البلاد، فقال: يا أمير المؤمنين قد عرفتها، فقال له: صِفْها لي،
فقال: ماؤها وشل (قليل) ، وثمرها دقل (ردئ) ، ولصها بطل، إن قلَّ الجيش فيها
ضاع، وإن كثر جاع. فقال له عثمان: أخابر أم ساجع؟ قال: بل خابر. فلم
يغزُها) . حتى جاءت سنة 39 هـ أيام خلافة أمير المؤمنين علي بن أي طالب -
رضي الله عنه - الذي أذن للحارث بن مرة العبدي بالتوجه إلى الهند، فتوجه إليها
وأصاب غنيمة وسبياً. وفي أيام الخليفة معاوية بن أي سفيان - رضي الله عنهما -
جاءت سنة 43 هجرية، وفيها استعمل معاوية (عبد الله بن عامر) فاستعمل (عبد
الله بن سمرة) على سجستان فأتاها وفتحها عنوة.. واستعمل على ثغر السند ...
عبد الله بن سوار العيدي، وعاد إلى كابل، وقد نكث أهلها ففتحها [6] ، وفي سنة 50 هـ كان الوالي (على البصرة والكوفة والمشرق، وسجستان وفارس، ... والسند والهند (زياد)) [7] وهذه قرينة تاريخية على تبعية تلك المناطق للدولة الإسلامية.
لم تتوقف الجهود الإسلامية الرامية إلى رفع رايات الإسلام في بلاد الهند،
وإنارتها بنور الإسلام ولكن الفتح العام لم يتحقق حتى جاءت (سنة 94هـ/715م،
وفيها افتتح محمد بن القاسم الثقفي أرض الهند) [8] .
وروى الطبري بسنده فقال:
(قال عمر: قال علي: وأخبرنا أبو عاصم الزيادي من الهلواث الكلبي،
قال: كنا بالهند مع محمد بن القاسم، فقتل الله داهراً، وجاءنا كتاب من الحجاج:
أن اخلعوا سليمان، فلما ولي سليمان جاءنا كتاب سليمان: أن ازرعوا واحرثوا،
فلا شأم لكم، فلم نزل بتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا) [9] .
يقال: إن سبب تسيير تلك الغزوة هو: (أنه كان في سيلان - جزيرة
الياقوت - نسوة من العرب المسلمين مات عنهن آباؤهن، فأراد ملك الجزيرة أن
يجامل الحجاج بن يوسف الثقفي ويرسل له هؤلاء النسوة تقرباً منه، فأركبهن سفينة
ووجهها إلى بلاد العرب، فتعرض للسفينة قوم من قراصنة (ميد الديبل) وأخذوا
السفينة بما فيها، فنادت امرأة منهن - وكانت من بني يربوع -: يا حجاج أغثنا! ! وبلغ الحجاج ذلك فصاح: لبيك. وأرسل إلى (داهر) يسأله تسريح النسوة، فقال: إنما أخذهن لصوص لا أقدر عليهم، فحمل ذلك الحجاج على غزو السند مملكة
الملك (داهر)) [10] ، ويقال إن محمد بن القاسم - رحمه الله - فتح الديبل وحرر ...
المسلمات وأرسلهن إلى واسط االعراق، كما أرسل القراصنة إلى الحجاج فنفذ فيهم
الحكم العادل. وكان ذلك أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وبقي محمد
بن القاسم هناك حتى سنة 95هـ حيث توفي الخليفة الوليد، وخلفه سليمان بن عبد
الملك فعزل محمد بن القاسم الثقفي، وولى مكانه يزيد بن أبي كبشة، واستمرت
السند في التبعية للدولة الإسلامية الأموية حتى آخر أيامها، وبدأت الخلافة العباسية، وأول خلفائها عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب،
الملقب بالسفاح، ومع انتقال الخلافة إلى العباسيين أصبحت السند تابعة لهم،
فتولاها منصور بن جهور، ثم موسى بن كعب بن عُيينة التميمي الذي سيطر على
كشمير والملتان، وبدأت السيطرة الإسلامية بالمد والجزر أيام العباسيين حتى حكم
الهند (محمود بن سبكتكين) المشهور بمحمود الغزنوي (387-421هـ /997 - 1 030 م) الذي أسس دولة إسلامية هندية استمرت حتى قضى عليها العدوان ... الإنكليزي سنة (1274هـ/1857م) ، وهدموا ما بناه محمود الغزنوي، وخلعوا أبواب تُربته في أفغانستان سنة 1838م ونقلوها إلى الهند، ومنها إلى بريطانيا العظمى آنذاك [11] .
ومن الدول الإسلامية التي قامت في الهند: الدولة الغورية (588-602 هـ/1182-1206م) وتلتها دولة المماليك التي حكمت حتى سنة (689هـ / 1290م) وتلتها السلطنة الخلجية فاستمرت حتى سنة (720هـ/1321م) ، ثم جاءت السلطنة التغلقية سنة فحكمت الهند كاملة، وأعادت ارتباطها بالخلافة العباسية في القاهرة، وأقام السلطان محمد تغلق (725-752هـ) علاقات علمية مع الشيخ عبد ... العزيز الأردبيلي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - واستمرت تلك السلطنة حتى غزا تيمور لنك مدينة دهلي سنة 801هـ مما أدى إلى تفكك الدولة الإسلامية، ثم انتهى حكم السلطنة التغلقية بموت السطان محمود سنة (815هـ / 1412م) ثم قام حكم السادات من سنة (815هـ / 1414م) حتى سنة (855هـ/ 1451م) وأعقبتها أسرة (لودي) في سلطنة دهلي، فاستمر حكمها حتى سنة ... (932 هـ /1525م) ، ثم جاءت الدولة المغولية التي أسسها (بابر) ، واستمرت ... حتى اعتُقل (واجد علي شاه) في كلكتا سنة (1273هـ/1856م) من قِبل الإنكليزى (د لهوزي) ؛ فقامت ثورة المسلمين سنة (1274هـ/1857م) ضد الإنكليز، لكن الإنكليز استعانوا بالهندوس على المسلمين، ومنذ ذلك التاريخ - وحتى الآن - يستمر تنفيذ المخطط الإنكليزي الرامي إلى تصفية الوجود الإسلامي في شبه القارة الهندية، وسائر بلاد المشرق بأيدي الهندوس، وبلاد أوربا الشرقية كافة بأيدي الصرب والكروات، وطُعن قلب العالم الإسلامي في بيت المقدس بالخنجر الصهيوني الذي صنعه وعد بلفور! !
__________
(1) انظر: طبقات الأمم، ص50-54.
(2) تاريخ الطبري، 2/153.
(3) انظر: ثقافة الهند، عدد كانون الثاني /يناير عام 1960، ص114- 115، ومقال الدكتور محمد أحمد الصديقي.
(*) لا يوجد في كتب السيرة المعروفة ما يؤيد هذه المراسلة إلى ملك مليبار
- البيان -.
(4) انظر: مجلة ثقافة الهند، عدد نيسان /أبريل سنة 1960، ص200 وما بعدها.
(5) انظر: فتوح البلدان، ص438.
(6) انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير، حوادث سنة 43هـ.
(7) انظر: تاريخ الطبري، 5/241.
(8) انظر: تاريخ الطبري، 6/483.
(9) انظر: تاريخ الطبري، 6/499.
(10) نقلاً عن تاريخ الإسلام في الهند للدكتور عبد المنعم النمر، ص73.
(11) انظر: تاريخ الإسلام في الهند، ص80-93.(63/50)
مسلمو الهند.. الجرح النازف
د. علي عبد الرحمن عواض
ما أشبه (الأمس الهندي) باليوم (البوسني) . وما أشبه هذا وذاك (بأمس ...
ويوم ومستقبل) فِلسطين المغتصبة وما أشبه الجميع بالأندلس! .
وما أشبه البابري بالأقصى والهند بفلسطين.. والمسلم هنا بالمسلم هناك! ! ؛
ففي البلدين قاد الصحابة الكرام والتابعون طلائع الفتوحات.. وفي البلدين أثمرت
حكمة الإسلام دولاً حكمت مئات السنين، عاش فيها المسلم كرياً مرفوع الرأس
وعاش غير المسلم مصان الحق محفوظ الأمن.
وفي كلا البلدين دخل المستعمر الأوربي - وبالتحديد الإنجليزي - وعاث
فيهما الفساد. وأُخرج منهما بتضحيات المسلمين وجهاد الصادقين ولكن بعد أن أذل
أهل الحق وسلم الزمام لغيرهم ورفع مكانة الظالم الذي لا يرعى للمسلم ذمة.. وهذا
شأنهم.
إن اليهودي الحاقد في فلسطين يقتل الأطفال والنساء ويسحق الشبان ويبعد
الشيوخ عن أرضهم ويدَّعي ملكية مقدساتهم.. والهندوس لا يمكن وصفهم بأقل من
ذلك، هذا إذا لم نضفْ إلى حقد اليهودي الماكر فجور الهندوسي الكافر الذي لا
يرضى بأن تُذبح في بلاده بقرة.. بينما نجد أن السكين تهدر دماء الأطفال والشيوخ
دون أن يبالي..
إن جهاد المسلمين في الهند قديم ومشرِّف، عمره عمر الإسلام نفسه؛ فقد بدأ
ضد طواغيت البراهمة الهندوس الذين كانوا يستعبدون الناس ويتحكمون في
مصائرهم ثم الأوربيين الطامعين في خيرات الشرق والذين توالت حملاتهم على
بلاد الهند متسترين بغطاء التبادل التجاري، الأمر الذي لم يدم طويلاً حتى كشف
عن حقيقة النوايا الاستعمارية والأهداف الاستغلالية، فتصدى لهم المسلمون الذين
قاوموا التغلغل الأوربي المتمثل بالشركة الهندية الشرقية الهولندية التي يعتبر نشاطها
إرهاصات التراجع الإسلامي في تلك البقاع في القرن السادس عشر بعد أن أقام فيها
المسلمون المغول دولتهم لمئات السنين.
وجاء بعدها الاستعمار البريطاني الذي دام سنوات عديدة كان (مسك ختامه)
أن قسَّم الهند وسحب السلطة من المسلمين ليسلمها إلى الهندوس الذين لم يراعوا في
المسلمين إلاًّ ولا ذمة، ومزق المجموعات الإسلامية ضمن ولايات ابتكرت ليكون
المسلمون فيها أقليات محرومة من أدنى حقوق الإنسان، كما ألحقت ولايات وممالك
إسلامية مستقلة بدول أخرى ذات غالبية هندوسية أو بوذية كحال كشمير المسلمة
التي ألحقت بالهند، وأَرَكَان التي ألحقت ببورما، ومملكة مورو التي أُلحقت بالفلبين، هذا إلى جانب العمل على تدمير ميراث المسلمين الذين ساهموا في صنع أنصع
صفحات تاريخ الهند عبر مئات السنين.
المسلمون وحصاد التقسيم:
ما إن انطلقت صرخات التكبير والتهليل معلنة قيام أكبر دولة للمسلمين (في
وقتها) تضم مسلمي الهند الذين عانوا من ظلم الاستعمار الأوربي في بلادهم، حتى
بردت الوجوه وتحولت دمعة الفرح إلى دموع أسى وحزن وتحول الاحتفال بولادة
دولة إسلامية إلى وجوم رافقه خوف من مستقبل يتوقع له أن يكون مليئاً بالمصائب
والمآسي والظلم.
عرف مسلمو الهند من اللحظات الأولى أن مأساتهم لم تنتهِ بإعلان دولة
باكستان - بشقيها الشرقي والذي أصبح (بنغلاديش) فيما بعد - والغربي - والذي
حمل اسم باكستان ولا زال - فالهند التي حكمها الإسلام مئات السنين وأقام فيها دولاً
هي مادة الصفحات البيضاء - ربما تكون الوحيدة - في تاريخ الهند المكتوب. فقد
وجد المسلمون أنفسهم مقسومين إلى كتلتين بشريتين كبيرتين في باكستان الشرقية
والغربية تفصل بينهما مئات الكيلو مترات مما ساعد على توسيع الشرخ داخل الأمة
الهندية الإسلامية. إلى جانب ذلك بقيت الملايين العديدة من المسلمين المشتتين على
شكل أقليات أو أكثريات في بعض الولايات ضمن الاتحاد الهندي، وتاريخ هذه
الأقليات هو سجل حي ومكرر لما تعانيه الأقليات الإسلامية في مجتمعات الكفر
بالمقارنة بما تلاقيه الأقليات غير الإسلامية من ضمانات وحماية ضمن دول الغالبية
الإسلامية أو تحت حكم إسلامي.
فمع الإعلان في 14 من أغسطس عام 1947 عن قيام دولة جديدة للمسلمين
على الخارطة السياسية العالمية بدأت الأخبار تتوالى من الهند ناقلة أخبار مَن تبقَّى
من المسلمين داخل الهند، إذ شنت الأغلبية الهندوسية على مسلمي البلاد حملة
همجية فرسخت بالدماء والأشلاء صورة الحقد والكفر الذي يكنُّه عباد البقر لعباد
الرحمن بتوجيه ورعاية من (المستعمر) الأوربي الذي عمل جاهداً ولسنوات عديدة
- على تشويه صورة تاريخ الحكم الإسلامي للهند، وغدت سيرة الإسلام في الهند
مليئة (بالظلم والقهر والاستبداد (00) الذي فرض الإسلام فرضاً على السكان
الأصليين للبلاد) . هذه الأفكار - الأوهام التي شحنت بها نفوس الهندوس مرفقة
بالجهل والأمية التي كانت - ولا زالت - تعم البلاد والتي أثمرت مجازر لا يقبلها
إنسان ولا يتصور وقوعها بعد سنوات الإسلام الطوال في بلاد الهند.
قامت المنظمات الهتدية وبشكل واسع جداً بحملة تصفيات جسدية للمسلمين
المنتشرين في الولايات الهندية يرافق ذلك نهب ممتلكاتهم وحرق بيوتهم إلى جانب
قتل الرجال والأطفال والاعتداء على أعراض النساء واستعبادهن.
المجازر التي ارتُكبت وصلت بشاعتها إلى حد الاعتراف بها من قبل الهندوس
أنفسهم في كتابات بعض عقلائهم الذين وصفوها (بالحيوانية والاضطراب العقلي) ، ... كما أن الغربيين - الذين كانوا لا يزالون في البلاد نقلوا - صوراً صادقة للأحداث
ولعل اصدقها ما نشرته جريدة (تايمز) اللندنية في 25 من أغسطس عام 1947م:
(آلاف المرات أكثر مما شاهدناه في الحرب) هو تعليق كبار الضباط
الإنكليز والهنود حول ما يحدث في شرق البنجاب من مجازر السيخ في طريق
الحرب. إنهم (ينظفون) شرق البنجاب من أي أثر للإسلام.. يذبحون المئات يومياً
مجبِرين مئات الآلاف على الهرب بأرواحهم إلى مناطق أخرى.. حتى أنهم في
جنونهم يحرقون أحياناً أتباعاً لهم. هذا العنف المنظم صادر فقط عن هيئات عليا
وليست انفعالات وعصبيات الجمهور وينفذ بإشراف قادتهم. بعض المدن الكبرى
مثل أمريستار وجولاهدور هادئة بعض الشيء الآن؛ لأنه لم يعش فيها أي مسلم.
الجثث في كل مكان، التشويه والتمثيل بالأجسام واضح جداً.. لم يوقروا أحداً:
الرجال، النساء.. والأطفال) .
كتب الماريشال (Auchinleck) القائد الميداني للقوات البريطانية في الهند -
في رسالة وجهها إلى رئيس وزراء بريطانيا -: (لا يستطيع المسلم أن يتحرك أو
يتجول في أية منطقة أو ولاية من ولايات الهند دون أن يخشى على حياته [1] ) .
حتى أن اللورد مونباتن (Mountbatten) - الشهير بصداقته للهنود وعدائه
للمسلمين - كتب معترفاً: (مع أن الأحداث كانت معدودة في كراتشي فإن دلهي
شهدت إبادة كاملة للمسلمين فيها) ! [2] .
الأمم المتحدة والأمة المنكوبة:
الاضطرابات التي عمت البلاد وذهب ضحيتها - بالغالب - مسلمو البلاد
استلزمت استنفاراً شعبياً لدى مسلمي باكستان شاركه استنفار سياسي لدى حكومة
الباكستان التي حركت ديبلوماسيتها متمثلة بالشكاوى إلى الأم المتحدة والتي أرسلت
لجنة تقصي حقائق ورد في تقريرها التالي:
(الآلاف بل مئات الآلاف (بدلاً من استخدام كلمة الملايين) قد لاقوا ...
حتفهم كنتيجة للصراع الداخلي والاعتداءت والتصفيات الجسدية والنهب والتشريد
ساهم فيها البوليس والجيش لسبب واحد هو الاختلاف في الدين) ! [3] .
حاولت باكستان جاهدة أن تحصل من الأمم المتحدة على موافقة لإجراء تقصي
حقيقة ما يجري داخل الهند ولكن معارضة الهند للأمر حالت دون ذلك. وماتت
على أبواب الأم المتحدة سنة 1948 حقوق المسلمين، كما هو الحال مع المسلمين
والأمم المتحدة عام 1993، فمع أن الظلم وفقدان العدالة هي سمة المعاملة التي
يعاملها المسلمون في الهند فإن كشمير أوضح مثال على أن قرارات الأمم المتحدة لا
تصبح سارية إلا إذا كانت تتعارض ومصالح المسلمين.
يختصر أول رئيس وزراء للباكستان لياقت علي خان الوضع في البلاد خلال
تلك الفترة فيقول:
(القيم الإنسانية التي حُكمت بها الهند لعصور عديدة ماتت مع وصول هؤلاء
اللا إنسانيين للتحكم بمصير الناس في الهند. القيم التي بنيت على العدالة والسلام
لمئات السنين استبدلت بالحقد والظلم. ملايين من الرجال والنساء والأطفال يقضون
حياة من الإهانة والنواح. المستقبل لا يعني لجزء كبير منهم إلا الدماء والخوف.
عندما تشرق الشمس لا يعرفون كيف سيكون الحال مع غياب شمس ذلك اليوم
وعندما تغرب لا يعرفون إذا كانت ستطلع عليهم وهم أحياء.. وهل سيعيشون يوماً
آخر. في هذا الواقع من الرعب والخوف فقد الناس كل شيء.. فقدوا فوق كل
شيء التوازن الذاتي والإحساس بالكرامة..) [4] .
هدم (البابري) وهدم القيم:
لا يحتاج الظالم دائماً لمبرر كي يغطي به ظلمه وعدوانه. فمع أن الهندوس لم
يستطيعوا أن يقدموا إثباتاً واحداً على أن مسجد البابري هو الموقع الذي وُلد فيه (الإله رام) إلا أنهم - وأمام كاميرات العالم ونواح المسلمين - قاموا بهدم معلم من
أهم معالم الحضارة الإسلامية في الهند، ضاربين بعرض الحائط كرامة المسلمين
غير آبهين للقيم أو القوانين والشرائع الدولية. ولعل رحلة في تاريخ المسجد -
الضحية - توضح أهمية المسجد وصراع المسلمين واستماتتهم في الدفاع عنه؛
لأنها لم تكن معركة لمنع هدم حيطان وحجارة المبنى ولكنها محاولة للإبقاء على
الوجود الإسلامي في الهند الذي يُتهدَّد يوماً بعد يوم:
- 1528-1529م بُني المسجد على أيدي مير باقي من سلالة البابري. لم
يأتِ ذكر لمولد (إله) في موقع المسجد في أي من المراجع أو الوثائق حتى العام
1875م حيث بدأت فتنة الإنكليز الجديدة في الهند.
- 1875م احتلت مجموعة من الهندوس جزءاً من المسجد وأقامت فيه
الشعائر الهندوسية، وفي نفس الوقت رفضت محكمة في الهند برئاسة قاضٍ
بريطاني حق الهندوس في إقامة معبد مكان المسجد.
- 1934م هاجم الهندوس المسجد وهدموا إحدى قبابه ومدخله الرئيسي.
- 1949م أدخل الهندوس أصناماً (للإله رام) وأعلنوا استعادة المكان من
المسلمين وبدؤوا يشاركونهم في استخدام المسجد.
- 1950م حاول المسلمون استعادة ملكيته واستخدامه عن طريق المحكمة.
- 1985م هددت المنظمات الهندوسية أنه إذا لم يُسمح ببناء المعبد حتى
تاريخ 8 من آذار (مارس) 1986 فسوف يُبنى بالقوة بعد احتلاله.
- 1986م قررت المحكمة الهندية فتح باب دائم للهندوس إلى المسجد للتعبد
فيه؛ لأن (إغلاق المسجد في وجه الهندوس يحرمهم من حق حرية العبادة) ! .
- 1989م قررت المحكمة إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه.
- 1989م نوفمبر بدأ الهندوس حملة لجمع مبلغ 250 مليون روبية لوضع
حجر أساس للمعبد في أيوديا.
- 1991م صادرت الحكومة الهندية 2077 هكتار من الوقف المحيط بالمسجد
(7 من أكتوبر) .
- 1991م (25 من أكتوبر) أصدرت المحكمة قراراً بعدم البناء على الأرض
المتنازع عليها والمحيطة بالمسجد..
- 1992م (19 من مايو) البدء بحفريات حول المسجد كأساس لبناء حائط
المعبد.
- 1992م (13 من يونيو) قرار المحكمة بوقف الحفريات.
أما اللحظات الأخيرة من عمر المسجد فهي كالتالي:
- 1992م (23 من يوليو) توصل إلى اتفاق مع رجال الدين الهندوس (لحل
المشكلة سلمياً) .
- 1992م (23 من نوفمبر) وصول 15000 جندي لحماية المسجد. ... ...
- 1992م (2 من ديسمبر) 100000 من المتطرفين يحشدون جهودهم في
أيوديا.
- 1992م (3 من ديسمبر) وصول (القطط السوداء) - وهم نواة الجيش
الهندي - لحماية المسجد.
- 1992م (6 من ديسمبر) تدمير المسجد تدميراً كاملاً.
- 1992م (6 من ديسمبر) الوعد بإعادة بناء المسجد.
- 1992م (12 من ديسمبر) مشروع حكومي يقترح بناء المسجد، ومعبد في
نفس المكان! .
- 1993م (مارس وأبريل) : بناء المعبد الهندوسي وإغلاق ملف المسجد.
بعد هدم المسجد مباشرة قامت الحكومة الهندية بحظر ثلاثة أحزاب هندوسية
متطرفة هي منظمة الخدمة الهندوسية، والمنظمة الهندوسية العالمية، وجيش
باجرانغ على أساس أنها أحزاب متطرفة ساهمت أو سببت هدم المسجد والتحريض
على حملة العنف التي عمت البلاد بعد ذلك وليس في هذا الأمر غرابة.. ولكن
الغرابة وأبعاد المأساة تتضح عندما أعلنت الهند في اليوم نفسه عن حظر وحل
حزيين إسلاميين هما: الجماعة الإسلامية في الهند ومنظمة الخدمة الإسلامية! .
منظمة الخدمة الإسلامية:
هي منظمة صغيرة وليس لها التأثير الكبير على مسلمي البلاد وصناع القرار
بينهم. ولكن حظر تنظيم الجماعة الإسلامية في الهند من قبل الحكومة الهندية يجعل
من المسلمين كالأيتام على مائدة اللئام في السياسة الهندية. فبهذا القرار سُحب من
المسلمين الإطار المنظم لأي تحرك سياسي، ثقافي، اجتماعي أو تربوي.
ولهذا القرار، وهدم المسجد، كان رد الفعل الدولي التالي:
- عينت (إسرائيل) إفرايم دويك سفيراً لها في نيودلهي واستلم زمام السفارة
بعد أيام قليلة كما عينت الهند (ب. ك. سنغ) سفيراً لها في (إسرائيل) .
- وافقت روسيا على تزويد الهند بقطع غيار طائرات ميغ 21 مع البدء
بمشروع بقيمة 466 مليون دولار لتطوير طائرة ميغ 29 بين الهند وروسيا.
ورحم الله أياماً كان فيها للدول الإسلامية (رد فعل) يرد إلى أهل الحق حقهم
وإلى الأمة اعتبارها.
الآن.. وغداً:
لعل أجمل - وقد يكون من أصدق - ما كُتب عن مأساة مسلمي الهند ما كتبه ... (ظفر الدين خان) بعنوان (مكانان للمسلم في الهند: باكستان..أوالمقابر) ! [5] . ولعل هذا العنوان يختصر حكاية مسلمي الهند وتوقعات المستقبل.
مأساة كشمير بدأت تأخذ مكانها في ضمير الأمة وأصبحت كلمة كشمير تثير
الإحساس بخطورة الموقف.
آسام التي شهدت عام 1983م (مجزرة الأطفال) التي راح ضحيتها 3500
طفل مسلم خُطفوا من بيوتهم وجُزِّروا في ساحة واحدة في صعيد واحد.
هدم البابري لم يكن هدماً للبنيان فقط.؛ فقد رافقه ولحق به تشريد مئات
الآلاف (البعض يقول 600 ألف) من المسلمين من مناطقهم بعد هدم ممتلكاتهم
وحرق بيوتهم إلى جانب الضحايا التي وصلت أعدادها إلى 1800 قتيل من
المسلمين اعترفت الشرطة الهندية بأن أطلقت النار على بعضهم.
عندما ارتُكبت مجازر الهندوس بحق المسلمين في العقد الخامس من هذا القرن
كانت معظم بلاد المسلمين تئن تحت نير الاحتلال وسياط الاستعمار؛ لذا قد نجد لها
مبرراً (لصوتها المخنوق) الذي لم يصل آذان الأمة ناهيك عن اذان العالم. أما
اليوم - والمجزرة مستمرة والعالم الإسلامي ممثل بـ 53 سفارة وقنصلية لدول حرة
ومستقلة في نيودلهي دون أي اعتراض أو حتى استنكار! - فهذا ما لا نجد له
مبرراً.. إلا إذا كان الشرق والغرب قد اتخذا قراراً نهائياً بشأن مسلمى الهند على
أن يكون: (مكانان فقط للمسلم في الهند.. باكستان.. أو القبر) ! .
__________
(1) G W Choudhury,Islam and the contmporary world,Indos,Thames Publishers Ltd ,1990,p126.
(2) ibid,p125.
(3) (United Nations Papers) Publications,3rd October 1947.
(4) New York Times,7 April 1950.
(5) ظفر الدين خان، (مكانان للمسلم في الهند: باكستان أو المقابر) ، جريدة الحياة 30/12/1992م.(63/58)
تعريف موجز
عن أهل الحديث في الهند
محمد عبد الهادي العمري
دخل الإسلام الهند في عهد التابعين عام 93هـ، وكان فيمن دخل من التابعين
ربيع بن صبيح السعدي البصري، وحباب بن فضالة، وإسرائيل بن موسى، حتى
قيل للأخير (نزيل الهند) ، كما ذُكر في ميزان الاعتدال للذهبي، ووصلت تعاليم
الإسلام عن طريق هؤلاء إلى الهند خالصة ومنزهة عن شوائب الشرك والبدع
مطلقاً، ولكن أصابها ما أصاب المناطق الأخرى التي وصل إليها الإسلام من جراء
التقليد والجمود الفكري، فبدأت البدع تزحف رويداً حتي تمت السيطرة لها، وبلغت
ذروتها من حيث لا يتصور أحد حتى صار علم الحديث والسنة يعد من الشذوذ
والغرائب في الهند، وكان هناك بعض العلماء الذين كانوا يعرفون الحق، ولكن لم
تكن عندهم جرأة لإظهار الحق وإرشاد الناس إلى ما يرونه صحيحاً نظراً إلى
الأخطار المتوقعة، ولكن لم يخلُ دور من الأدوار من أهل الحديث، أو أصحاب
هذه الفكرة السلفية، وإن كان عددهم قليلاً، ولما ظهر المحدث الدهلوي (شاه ولي
الله عبد الرحيم) الذي رأى ما يجري حوله باسم الإسلام، والإسلام بريء منه،
فعكف على ترويج علوم القرآن والسنة وغرس حبهما في قلوب الناس، ولقي ما
لقي من المشاكل والصعوبات على أيدي المعاندين والأعداء، ولكنه لم يترك الحق،
وكتب في رد التقليد الأعمى والجمود الفكري، وفي فهم الإسلام كتباً كثيرة، فرحمه
الله رحمة واسعة..
ومن هنا تغيرت الحالة وبدأت الحركة في ميادين العلم وتفنيد البدع
والخرافات، والجهاد ضد غير المسلمين، وأهل الحديث لهم حظ وافر في تأييد هذه الحركة وتقويتها، وقد تبنوها وعملوا لنشرها وبذلوا مساعيهم المشكورة.
مَنْ هم أهل الحديث؟ :
اسم لحاملي الفكرة السلفية الذين يريدون الإسلام على نهج السلف الصالح الذي
عرضه القرآن الكريم، وطبقه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون التعصب
للشخصيات والعلماء.
تأسيس إدارة الجماعة في الهند:
أُسست جمعية أهل الحديث المركزية في الهند في 6 من ذي القعدة 1324
هـ الموافق 22/12/1906م على شكل منظمة، وقد ذكرنا آنفاً أنه لم يخلُ دور
من الأدوار في الهند من أهل الحديث، ولكن لم يكن لديهم التنظيم أو الهيئة الإدارية
بالشكل المطلوب، فأسست هذه المنظمة أولاً باسم (مؤتمر جمعية أهل الحديث) ثم
صار اسمها (جمعية أهل الحديث المركزية) وكان رئيسها الأول العلامة المحدث
عبد الله غازيفوري، وسكرتيرها الشيخ محمد ثناء الله الأمرِتْسَرِي، ثم فتحت
الفروع في طول الهند وعرضها، وكان يوجد في كل مدينة تقريباً فرع للجمعية،
وقد تجاوز أعضاؤها مئات الآلاف في الهند بفضل الله (تعالى) .
بعد تأسيس هذه المنظمة بدأ دورها البارز في نشر التعاليم الإسلامية،
وإصلاح ما فسد من العقائد والتصورات، ودفع الفرق الضالة المنحرفة - خاصة
القاديانية والشيعة ومنكري السنة، والمسيحية وبعض الفرق التي تتفرع من الهنادك
- وكان لدى الجمعية بعض الدعاة والمبلغين المتخصصين لتحقيق هذه الأهداف،
واستمرت هذه السلسلة حتى استقلال الهند، وبعد تقسيم الهند تغيرت حالة الجمعية
أيضاً. وبدأت التقهقر إلا في السنوات الماضية فقد استيقظ بعض أُولي الهمم العالية
وحركوها من جديد، فبدأت نشاطها، وشمل ثلاثة أقسام هي:
1- إشاعة علوم السنة عن طريق المدارس الدينية الأهلية:
أ- أما إشاعة علوم القرآن والسنة عن طريق المدارس، والتأليف في التفسير
والسيرة والعقائد والسنة، فقد نال هذا القسم عناية بالغة من علماء أهل السنة (أهل
الحديث) حيث تم في تلك الأيام تدوين عدد كبير من الكتب نحو: تفسير القرآن
بكلام الرحمن في العربية للشيخ محمد ثناء الله الأمرتسري وهذا التفسير صورة حية
لتفسير القرآن بالقرآن، والتفسير الثنائي للشيخ المذكور في الأُردية، وعون
المعبود في شرح سنن أبي داود للشيخ شمس الحق العظيم آبادي المتوفَّى سنة
1329هـ، وتحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي للشيخ عبد الرحمن
المباركفوري، وفي السيرة (رحمة العالمين) للشيخ القاضي محمد سليمان المنصور
فوري، ويعتبر هذا الكتاب مرجعاً رئيسياً في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-
ولم يسبق له مثيل في اللغة الأردية، وهناك كتب أخرى كثيرة جداً، وقد ذكرنا هذه
على سبيل المثال فقط لا الحصر.
ب - المدراس الإسلامية في الهند: لا شك أن المدارس الإسلامية التي تدرس
فيها علوم القرآن والسنة وما يتصل بهما من المواد الدراسية لها دور بارز في نشر
الدعوة في أنحاء الهند، وتعتبر هذه المدارس حصوناً شامخة لنشر العلوم الإسلامية، وعدد المدارس التي أُسست على أسس من تعاليم القرآن والسنة كثيرة، وخدماتها
جليلة في مجال نشر السنة وإزالة البدعة، تبدأ من المدرسة الرحيمية التي أسسها
الشيخ عبد الرحيم في عام 1070هـ بدلهي، والتي تولاها العلامة المحدث الشاه
ولي الله الدهلوي، صاحب حجة الله البالغة، وقد تخرج في هذه المدرسة أعلام
الفكر والدعوة في الهند، بل كانت هذه المدرسة منارة العلم والهدى، ووسيلة الدعوة
إلى الكتاب والسنة حينما أهمل الناس علم السنة في الهند.
ومدرسة العالم الجليل المحدث نذير حسين المحدث المتوفى 1310هـ بدلهي، وقد تخرج من هذه المدرسة فحول العلماء وأساطين الدعوة السلفية، فمنهم العلامة
شمس الحق صاحب عون المعبود، والعلامة عبد الرحمن المباركفوري صاحب
تحفة الأحوذي. والمدرسة الرحمانية التي أسست سنة 1329هـ من قبل الشيخين
عبد الرحمن وعطاء الرحمن في دلهي، وقد تقلد المتخرجون من هذه المدرسة
مناصب رفيعة وصاروا أئمة العلم أينما توجهوا، وليس في المواد الدراسية فقط،
وإنما في نشر الدعوة السلفية أيضاً، وأغلقت هذه المدرسة بعد استقلال الهند، وما
عرفت الهند مثل هذه المدرسة إلى الآن.
نكتفي بذكر تلك المدراس القديمة وننتقل إلى ذكر بعض المدارس المعروفة،
والتي بدأت دورها بعد استقلال الهند:
1 - المدرسة الأحمدية السلفية: التي أقيمت في إقليم بهار ولها دور كبير في
تعليم المسلمين وخاصة في هذا الإقليم وشمالي الهند.
2- جامعة دار السلام بعمر آباد: أقيمت في منطقة مدراس، وحاول
المؤسسون منذ البداية تدريس العلوم الشرعية، والعلوم المعاصرة الضرورية.
وحاولت هذه المدرسة منذ البداية أن لا يتخرج الطالب إلا بعد معرفة اللغة الإنكليزية، بل قرر في المنهج: إن على الطالب أن يحصل الدرجات المطلوبة في اللغة
الإنكليزية مثلما يحصل في مواد التفسير والسنة لنيل شهادة التخرج وكانت المدرسة
على طراز المدارس المعاصرة في أسلوب التدريس، وإسكان الطلبة ورعايتهم،
ولها دور ملموس في خدمة الإسلام والمسلمين خاصة في جنوب الهند.
3- الجامعة السلفية: فُتحت هذه المدرسة من قبل جمعية أهل الحديث في
مدينة (بنارس) البلدة المقدسة لدى الهنادك، وكانت تعرف أولاً بدار العلوم، ثم
الجامعة السلفية، والمدرسة حديثة العهد وافرة الإنتاج العلمي والدعوي، وقد تخرج
منها عدد كبير من العلماء وحاملي الدعوة السلفية والمخلصين لها، كما قدمت
المدرسة مئات من الكتب والمؤلفات على المستويات المختلفة في اللغات العديدة،
وما زالت السلسلة مستمرة ولله الحمد.
لقد ذكرنا هذه الأسماء الثلاثة كمثال فقط لا على سبيل الإحاطة، وهناك
عشرات من المدارس السلفية على مستويات مختلفة في الهند ونقول بكل صراحة:
إن هذه المدارس الدينية هي في الحقيقة الوسيلة المؤثرة العميقة لنشر الدعوة السلفية
والعلوم الإسلامية على نهج السلف الصالح، والطلاب لا يتخرجون من هذه
المدراس إلا وعندهم فكرة واضحة عن الدين، وأذهانهم مفتوحة لقبول الحق حيثما
كان، ولكن مع الأسف الشديد توجد بجانب هذه المدارس بعض المدارس الدينية
التى تعمل على تدريب الجيل الجديد وفق التقليد والجمود الفكري، والتعصب
المذهبي، والدفاع عن علماء وأئمة المذاهب أكثر من الدفاع عن السنة النبوية
ورجالها.
2- رد أفكار الفرق الضالة من المسلمين وغير المسلمين:
تصدر مجلات وصحف أسبوعية وشهرية عن جمعية أهل الحديث في اللغات
المختلفة، وتقدم الصورة الصحيحة للإسلام، وترد ما يشاع عن الإسلام والمسلمين
من الأفكار المنكرة من قبل أصحاب الفرق الضالة المختلفة، نحو (جريدة ترجمان) التي يصدرها مركز الجمعية والتوعية في المعهد التعليمي، و (المحدث) من
الجامعة السلفية في الأردية، و (صوت الأمة) من الجامعة نفسها في العربية، ...
و (البلاغ) من بومباي و (صوت الحق) من الجامعة المحمدية في (هاليغاون) قرب (بومباي) ، وغير ذلك من المجلات والصحف والجرائد، كما كانت تصدر سابقاً مجلات عديدة منها مجلة (أهل حديث) الأردية بإشراف العلامة الأمرتسري التي كانت تعتبر سلاحاً قوياً ضد الأفكار الهدامة.
3- إصلاح وتزكية المسلمين والتصدي للبدع والخرافات:
كانت التربية الجهادية مستمرة ولكنها تطورت، وأخذت قوة جديدة من الحركة
التي أنشأها الشيخ محد إسماعيل الدهلوي المتوفى سنة 1831م، وزميله الشيخ
السيد أحمد - رحمهما الله - حيث بدأ الشيخان حركة الإصلاح والتزكية أولاً في
صفوف المسلمين لإصلاح ما فسد من العقائد، وألف الشيخ كتابه المعروف (تقوية
الإيمان) الذي نال الإعجاب والثناء من العلماء، ثم خرجا للجهاد ضد العدوان
والاعتداءات من قبل غير المسلمين خاصة (السيخ) ، واستشهد الشيخان في معركة
(بالاكوت) مجاهدين في سبيل الحق ومدافعين عن السنة النبوية، ومقاومين ضد
الخرافات والبدع التي أحدثتها الطوائف المنحرفة عن الإسلام..
أما الرد على الفرق الضالة فكان لدى جمعية أهل الحديث علماء بارزون،
نكتفي بذكر واحد منهم وهو العلامة الشيخ محمد ثناء الله الأمرتسري الذي كان بحراً
في العلوم الشرعية، والمناظرات والخطب وتأليف الكتب، ولم يكن له مثال في
الهند وباكستان، وقام بجهود جبارة لا نظير لها، وكان ينوب عن المسلمين في الرد
على الفرق الضالة يتصدى لدعاتها في المناظرات حيث لم يكن غيره قادراً على
مواجهة هذه التيارات الهدامة ونظرًا لقوته في العلم والاستدلال كُسرت شوكة
الأعداء وخاصة الفرقة القاديانية التي جاءت عن طريق المدعو (غلام أحمد قادياني
المتنبِّئ) ، فكان له الشيخ الأمرتسري بالمرصاد وذلك بتأليف الكتب وإلقاء ...
المحاضرات، ودخول المناقشات مع هذا الكذاب، وكان ذلك المدعي يخاف من
الشيخ أشد الخوف بل كان يدعو للنجاة منه.
وُلد العلامة الشيخ الأمرتسري سنة 1287هـ الموافق 1868م في أمرتسر
بإقليم البنجاب، وتلقى العلوم الشرعية على يد عدد من العلماء وخدم السنة ودافع
عن الحديث النبوي، وجاهد في الله حق جهاده حتى توفي في 3 من جُمادَى الأولى
سنة 1367هـ الموافق 15/4/1949م، في (سرغودها) (رحمه الله رحمة
واسعة) .(63/66)
الهند والديموقرطية الضائعة
د. أحمد محمود عجاج
ليس من باب المبالغة القول إن الهند - بما تمثله من تعدد طوائفها، وتنوع
لغاتها، وتوزع شرائحها الاجتماعية - هي بالفعل حالة فريدة من نوعها قل نظيرها
في عالم اليوم. فهذا البلد الذي يتجاوز عدد سكانه الثمانمائة مليون نسمة انتهج
لنفسه النموذج الديموقرطي الغربي واستمر في تطبيقه في خضم اختلافات عرقية
ودينية كان من المفترض أن تؤدي في أسرع وقت إلى تفكيك الهند كبلد متعدد
الأديان والأعراق. وقد تغنى بعض الكتاب والنقاد بهذه الديموقرطية ولكنها كانت
قشرة رقيقة ضعيفة حافظت على زخمها قليلاً، وكانت تخفي تحتها - ومنذ البداية
- تعصباً هندوسياً لا يحتمل التعدد ولا يحتمل وجود الإسلام بالذات، ولذلك شهدت
الفترة الأخيرة ما لم يكن متوقعاً، وأبرزت ما لم يكن ممكناً تصوره، وذلك عندما
انطقت كتل بشرية يبلغ تعدادها مائتي ألف نسمة - تركض باتجاه مسجد في بلدة
أيوديا الواقعة في شمال الهند وهي تصرخ باسم (الإله رام) رمز الشجاعة والتسامح
عند الهندوس لتبدأ لدى وصولها بهدم جدرانه وسط الأناشيد والتهاليل والهرج
والمرج. ويقول هؤلاء الهندوس إن المسجد - وهو المسجد البابري - قد بناه الفاتح
المغولي بابر على أنقاض معبد هندوسي، وهو المكان ذاته الذي وُلد فيه الإله رام
المعظم بدعوى أن بناء المسجد على أنقاض المعابد تقليد درج عليه المسلمون
الفاتحون آنذاك.
وقصة المسجد ليست جديدة على الإطلاق فقد نجحت جماعة من الهندوس
المتشددين في التسلل إلى المسجد في عام 1949م، ووضعت لاحقاً صنماً للإله رام
في داخله، وادعت أن ما قامت به هو استجاية لتدخل مقدس. وتطورت قضية
المسجد منذ ذلك الحين بعد أن رفعت دعاوى تطالب بتثبيت ملكيتهم الوحيدة للمسجد، ووصلت المشكلة أوجها في عام 1984، وذلك عندما نظمت مجموعة من
الهندوس المتشددين مظاهرة تدعو إلى تحرير مكان ولادة الإله رام ولكن اغتيال
رئيسة الوزراء أنديرا غاندي آنذاك وما تبعها من عمليات قمع قامت بها الشرطة
حالت دون ذلك.
وجد حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الفاشيستي في قضية المسجد فرصة ذهبية
لا يمكن تضييعها على الإطلاق في ظل ديمقراطية تسمح له بممارسة التحريض
والتزمت وبث الفرقة، وإثارة النعرات في سبيل الحصول على مكاسب انتخابية
تضمن له الوصول إلى السلطة؛ وإن كان على حساب الأملاك والأرواح والقيم
والمثل. وبالفعل ساعدت السياسة النفعية المحضة واللا أخلاقية الحزب الهندوسي
الفاشيستي على كسب المزيد من الأصوات، واستمالة شرائح واسعة من المجتمع
الهندوسي مما زاد من شهيته وحضه على تصعيد العداء الديني، وبث الروح
الهندوسية وإحياء الماضي والدعوة إلى إقامة مجتمع هندي خالص؛ لذا جاء في
دليله الخاص على لسان الفيلسوف (أ. م. غولكار) أن المسلمين في الهند
والمسيحيين والشيوعيين يمثلون خطراً أجنبياً على الهند وأن ما هو مطلوب منهم
ليس إلا التخلي عن ردائهم الأجنبي المعقد، ودمج أنفسهم في التيار الوطني
المشترك، وهو بالطبع القومية الهندوسية. وقد ساعدت الحزب الهندوسي عوامل
محلية عديدة منها اعتقادات خاطئة ومنتشرة على نطاق واسع في صفوف الهندوس
مفادها أن المسلمين يتكاثرون بسرعة فائقة تفوق سرعة تكاثر الهندوس، وأن
الأحزاب بمجملها - وعلى رأسها حزب المؤتمر - تحابي المسلمين في سبيل كسب
أصواتهم مما يسمح للأقلية - وهم المسلمون - أن تفسد الأغلبية الهندوسية.
والأكثر اعتقاداً أن المسلمين ناشطون في مجال الدعوة ويقومون عملياً بتغيير
معتقدات الطبقات الهندوسية الدنيا وعلى رأسها طبقة المنبوذين.
ويعتقد حزب بهاراتيا أنه في سبيل تنفيذ سياسته أو برنامجه الانتخابي كما هو
متعارف عليه في النظام الديموقرطي لابد له من الوصول إلى السلطة حتى يتسنى
له تغيير الدستور والقوانين التي يمثل وجودها عائقاً أمام تحقيق برنامجه الذي
يتضمن فيما يتضمن هدم المسجد البابري، وتشييد معبد هندوسي على أنقاضه
بذريعة أن الأرض للهندوس وأن المكان شهد ولادة الإله رام إله التسامح والمحبة.
وهكذا استطاع الحزب ضمان أرضية انتخابية تضمن له نجاحاً بارزاً في أية
انتخابات قادمة وبالتالي دخول السلطة من بابها السهل بغض النظر عن الأسلوب
طالما أن الغاية تبرر الوسيلة.
ليست الغرابة في طبيعة حزب بهاراتيا - الذي هو أصلاً لا يعدو عن كونه
حزباً فاشياً عضويته مقصورة على الهندوس، ويقوده زعماء سبق أن كانوا قادة في
حزب جان سانغ المتطرف، والمعادي للإسلام والمسلمين والمنادي بفرض اللغة
الهندوسية على جميع سكان الهند ورفض إعطاء تنازلات للأقليات سواء أكانت
متعلقة باللغة أو التعليم أو قوانين الأحوال الشخصية - بل الغرابة هي مسارعة بقية
الأحزاب العلمانية للتعامل والتنسيق معه في الحملات الانتخابية بغية إخراج حزب
المؤتمر من السلطة. حيث لم يتلكأ حزب جانتا دال عن التحالف مع حزب بهاراتيا
في عام 1989م التي انتهت بفوز الأخير في 63 مقعداً مما جعله أكبر حزب
معارض في البرلمان الهندي، وبالتالي صار قادراً على إسقاط أية حكومة لا
تستجيب إلى بعض مطالبه.
الحقيقة تقال إن نجاح حزب بهاراتيا يعود في معظمه إلى فشل التجربة
الديموقرطية في الهند بسبب ممارسات خاطئة انتهجها حزب المؤتمر أكبر أحزاب
الهند والذي تزعم هو وحزب الرابطة الإسلامية تحرير الهند من بريطانيا مستفيداً
من ثورة المسلمين الكبرى على الإنجليز عام 1857م. وسبب فشل هذا الحزب
بالذات ناتج عن عجزه عن متابعة المسار الذي خطه له جواهر لال نهرو والقائم
على حفظ التوازنات بين جميع القوى الفاعلة، وتنشيط كوادر الحزب والاستجابة
لمطالبها على مستوى الولايات، وضمان تمثيل معتدل لها في السلطة المركزية.
فقد تحول حزب المؤتمر بعد وفاة جواهر لال نهرو وتولي أنديرا غاندي قيادته إلى
حزب عائلي محض يتمحور حول شخصية أنديرا غاندي التي أصبحت هي الحزب
والحزب هي، بمعنى أن برنامجه الانتخالي أصبح محصوراً ومرتبطاً بشخصها
بعدما كان في الماضي يعتمد على الكوادر المحلية في كل ولاية. وهذا التوجه أدى
إلى تراجع شعبية الحزب الذي لم يعد قادراً على إنتاج شخصيات مستقلة تستطيع
ممارسة سياسة تتعارض مع قائد الحزب طالما هي في النهاية تصب في مصلحة
الحزب والمجموع. لم يتراجع هذا النهج بعد وفاة أنديرا غاندي بل تعزز مع
وصول ابنها راجيف غاندي الذي قام بتعيين الوزراء في المقاطعات على أساس
الولاء الشخصي والمحسوبية الضيقة والمصلحة الآنية وبالتشاور مع دائرة محدودة
من المقربين والمنتفعين دون الرجوع إلى آراء الكوادر الحزبية.
لم يتردد راجيف غاندي في اتباع أية وسيلة، وممارسة سياسات ضارة منها:
الاستجابة للروح القومية الهندوسية، وإثارتها في سبيل كسب أصوات انتخابية،
وسحب هذه الورقة من الأحزاب الهندوسية المتطرفة. واتضحت تلك السياسة
الطائفية ووصلت نتيجتها الحتمية عندما أصدرت إحدى المحاكم المحلية - بإيعاز
غير مباشر من حزب المؤتمر - قراراً ينقض حكماً سابقاً بخصوص مسجد البابري
- مضى على صدوره 36 عاماً - ويسمح بالتالي للهندوس بممارسة الشعائر الدينية
أمام تمثال الإله رام الذي وُضع داخل المسجد في سنة 1949م.
لم تسفر سياسة الاسترضاء عن أية نتيجة إيجابية سوى تعزيز قدرة الأحزاب
المتطرفة، وتشجيعها على زيادة مطالبها، وبالتالي رفع حدة التقسيم داخل المجتمع
الهندي على أساس الوازع الديني، والإيذان بمرحلة جديدة يقودها التطرف ويُحكم
مسارها الحقد والكراهية؛ لذا لم يتردد زعيم حزب بهاراتيا بالقول: (إن ما حدث
في أيوديا كان بداية أساس للوطن الهندي) ! .
إن التجربة التي عاشتها الهند أخيراً تستدعي من القادة الهنود الوقوف قليلاً،
والتبصر بحكمة وصبر ورويَّة في أبعاد السياسات التي تنتهجها الأحزاب الهندوسية
المتعصبة ووضع خطة جديدة تلائم الواقع الهندي، وتنسجم أكثر مع شعارات
الديموقرطية التي ترفعها، وتأكيد الحكومة - فعلاً لا قولاً - أنها تعني ما تقول حتى
تعطي لنفسها المصداقية. وكنا نتمنى أن لا تبدأ سلسلة التراجعات الهندية الرسمية
التي بدأت بالوعد من قِبَل رئيس الوزراء ببناء المسجد ثم تحولت إلى بناء مسجد
ومعبد في نفس المكان ولكنها انتهت عملياً ببناء المعبد وإقفال ملف المسجد! .(63/72)
المسلمون والعالم
كشمير
أليس لهذا الليل من آخر؟ !
(2)
د.يوسف الصغير
المسلمون والأمم المتحدة:
أصدر مجلس الأمن القرارات الكثيرة التي تدعو إلى إعطاء شعب كشمير
حرية الاختيار [1] ووافقت باكستان وكذلك أظهرت الهند موافقتها وادعت أنها
ستقوم بإجراء استفتاء عند استتباب الأمن، وأن ضمها لكشمير إنما هو ضم مؤقت، ولكن أفعال الهند تناقض أقوالها، فقد استمرت في تدعيم وجودها في الجزء
المحتل من كشمير، وتم تعيين الشيخ عبد الله في منصب رئيس الوزراء في الولاية
من جديد بدعم من صديقه نهرو، وتم إجراء انتخابات صورية سنة 1952م؛ حيث
جرى لاقتراع اثنين فقط من بين 75 مقعداً أما الباقون فقد فازوا بالتزكية من حزب
الشيخ عبد الله (المؤتمر الوطني لعموم جامو وكشمير) وقام هؤلاء العملاء بإعلان
انضمامهم للهند بصورة هزلية، وهنا بدأ الخطاب الهندي يتغير حتى أعلن وزير
الداخلية الهندي عام 1965م أن ضم كشمير (أمر نهائي وكامل ولا عودة عنه) ؛
فقامت الثورة وقام الجيش الهندي باتخاذ ذلك ذريعة للهجوم على باكستان. واشتعلت
الحرب الثانية بين الهند وباكستان، وتمت هزيمة الجيش الهندي، وتدخلت روسيا
بالوساطة وعُقد مؤتمر في طشقند تم فيه تحويل انتصار باكستان العسكري إلى
هزيمة ديبلوماسية بتثبيت الأوضاع كما كانت عليه قبل الأحداث الأخيرة، وبدأت
الهند باتباع سياسة جديدة في كشمير قائمة على تقوية مركزها العسكري في الولاية
إضافة إلى محاولة طمس الإسلام، ومن أهم أساليبهم ما يلي:
1 - تغيير المنهج التعليمي في المدارس الحكومية وإيقاف تدريس القرآن
الكريم والحديث الشريف وإدخال اللغة الهندية كلغة إجبارية.
2- نشر الإباحية والفساد الخلقي في المعاهد والكليات والجامعات..
3- محاربة الحجاب والدعوة إلى الاختلاط.
4- تشجيع الزواج بين المسلمين والهندوس.
5- منع ذبح البقر.
6- إباحة الخمر.
7- تأسيس دور السينما والملاهي الليلية.
8- منع تعدد الزوجات وتنفيذ برامج تحديد النسل.
9- تشجيع الهندوس على الاستيطان في كشمير في سبيل تغيير تركيبة
السكان.
وهكذا مرت السنون ومجلس الأمن يصدر القرارات بينما الهند مستمرة في
فرض الأمر الواقع وتعرض المسلمين للبطش والتنكيل بصورة دورية، وإزاء ذلك
كانت ردة الفعل - إضافة للانتفاضات المستمرة - بتكوين جمعيات إسلامية تعليمية
تربوية تمثل نشاطها في الآتي:
1- إنشاء المدارس والكليات الإسلامية والتي تخرج منها جيل جديد يحمل
عقيدة التوحيد، ومنها الكلية السلفية في وسط العاصمة التي أقامتها جمعية أهل
الحديث عام 1397هـ.
2- نشر الدعوة الإسلامية من خلال الندوات والمؤتمرات والاجتماعات
وإصدار المجلات.
وكان عام 1988م بداية عهد جديد من الجهاد فقد بدأت انتفاضة تحولت في
عام 1990م إلى حركة جماهيرية برزت فيها الجماعات الإسلامية.
التنظيمات والأحزاب:
ذكرنا سابقاً أن هناك حزبين رئيسيين أولهما: حزب (المؤتمر الإسلامي)
والذي كان يؤيد الانضمام إلى باكستان وكان له دور في تكوين كشمير الحرة التي
تمثل ثلث مساحة كشمير الأصلية وترتبط بباكستان مع حكم ذاتي وتشكل الآن
القاعدة الرئيسية لتدريب وتسليح المجاهدين.
أما الثاني: فهو حزب (المؤتمر الوطني) بقيادة الشيخ عبد الله الملقب بأسد
كشمير، وكان شعار الحزب (اخرجوا من كشمير) ويبدو من تصرفات زعيم
الحزب أنه يريد أن يكون زعيم كشمير المستقلة، وإذا لم يحصل ذلك فلا مانع عنده
من أن يتولى إدارة كشمير بالتعاون مع الهند أما الأمر المرفوض لديه فهو الانضمام
إلى باكستان ولهذا نجد أنه تارة يُظهر العداء لحكم الهندوس ويدخل السجن ولكن
عندما يثور المسلمون فإنه يتعاون مع الهندوس ويتولى الحكم باسمهم ولكنهم لا
يثقون به ولهذا فإنه يتعرض للسجن والإبعاد عندما تستقر الأمور ثم يخرج من
السجن ليتولى رئاسة الحكومة من جديد في الحالات الطارئة، وقد حصل هذا عدة
مرات ومات الرجل في السبعينيات وهو رئيس للوزاء وقد تجاوز السبعين عاماً،
ولكنه كان حريصاً على إبعاد كشمير عن باكستان، وقد استغلت الهند أباه كما
حاولت استغلال ابنه فاروق ولكن المجاهدين أمروه بمغادرة كشمير وإلا سيكون
مصيره الاغتيال فهرب واستقر في أوربا.
تتنازع الساحة الكشميرية الآن ثلاثة تيارات هي:
أولاً: تيار علماني صغير يدعو للانضمام إلى الهند.
ثانياً: تيار يدعو للاستقلال التام والانفصال عن الهند وباكستان ومن هذا
الاتجاه حركة تحرير جامو وكشمير J. K. L. F. وهي حركة وطنية تهدف
إلى إقامة دولة مستقلة وعلمانية، وكانت في السابق تنفرد في المقاومة العسكرية
للوجود الهندي، وبالتالي هي التي حظيت بالدعم من باكستان حتى أواخر
الثمانينيات حيث خف تأييد باكستان نظراً لظهور الأحزاب الإسلامية على الساحة،
وكما يقول مؤسس الجبهة أمان الله خان: (حين أوجد الباكستانيون بدائل مثل حزب ...
المجاهدين أداروا ظهورهم لنا) ، وفي الفترة الأخيرة قام مقاتلو الجبهة بمهاجمة
قواعد المجاهدين في المدينة القديمة من سريناغار واستمر القتال عدة أيام ثم ساروا
بمظاهرات في الشوارع وهم يصرخون (الموت لباكستان) ! وقد وقفت القوات
الهندية موقف المتفرج.
ثالثاً: حزب المجاهدين وهو أكبر القوى العسكرية على الساحة وينضوي مع
تجمعات إسلامية أخرى في الاتحاد الإسلامي لمجاهدي كشمير ويدعو الحزب إلى
خروج الهنود والانضمام إلى باكستان وقد بدأ نشاط الحزب بقوة منذ عام 1990م،
ويحظى بدعم الحركة الإسلامية في كشمير الحرة وقد استعد الحزب للعمليات عن
طريق إرسال الآلاف من الشباب إلى كشمير الحرة بالإضافة إلى أعداد كبيرة
شاركت في الجهاد في أفغانستان؛ حيث إن الجهاد الأفغاني هو أكبر عوامل انطلاق
الجهاد في كشمير، حيث إنه إذا كان طرد الروس ممكناً فَلِمَ يكون طرد الهندوس
مستحيلاً. ومنذ يناير 1990م اشتعلت الانتفاضة في كشمير ونزل مئات الآلاف من
المسلمين إلى شوارع العاصمة مطالبين بالحرية فقابلهم الهنود بالرصاص، وفي
الأشهر التالية اعتقل الآلاف وكانت عمليات القتل والاغتصاب وحرق المنازل
والمتاجر من قِبَل قوات الهندوس من الأمور الروتينية، وفر الآلاف من الشباب إلى
كشمير الحرة سعياً وراء السلاح والتدريب، وكما يذكر الأستاذ غلام صفي أمير
حزب المجاهدين فإن هناك تنسيقاً تاماً بين الحركة الإسلامية في ولاية جامو
وكشمير الحرة وبين الاتحاد الإسلامي لمجاهدي كشمير حيث إن الاتحاد الإسلامي
يقوم بترشيح الشباب المسلم للتدريب العسكري بينما تقوم الحركة الإسلامية بتدريبهم
عسكرياً، وتزويدهم بالسلاح، ويذكر أن حوالي خمسين ألفاً من الشباب وصلوا إلى
كشمير الحرة خلال السنتين الماضيتين عابرين الحدود سراً عبر الجبال الثلجية وقد
استشهد منهم حوالي 3000 وجرح 400، وتم تدريب حوالي 40000 شاب ويوجد
هناك مراكز تدريب داخل كشمير.
مراحل الجهاد:
لقد ركز المجاهدون من البداية على محو آثار الاستعمار الهندي فتم إغلاق
مراكز الفاحشة والمخدرات ومحلات بيع الخمور والملاهي الليلية، وجميع مراكز
الفساد الخلقي، وعادت النساء إلى ارتداء الحجاب، ثم تواصل الجهاد ضد الجيش
الهندي وبلغت خسائر الجيش الهندي حوالي أحد عشر ألف قتيل، وتمت ملاحقة
وتصفية عملاء الهندوس، وسارع الكثير ممن بقي منهم إلى إعلان قطع علاقاتهم
مع الاستعمار على صفحات الجرائد، أما تضحيات الشعب المسلم فبلغت حتى الآن
ثلاثين ألف شهيد، وأكثر من تسعين ألف معتقل، وحتى نتصور جهود الهندوس
في مواجهة المجاهدين فإن تعداد الجيش الهندي المرابط في كشمير يزيد على 400
ألف عدا قوات الشرطة والقوات الحدودية، مع ذلك فإن الحكومة الهندية فشلت في
تكوين حكومة في الولاية فهي تجد الحكم المباشر من دلهي ولا يوجد سلطة مدنية في
الولاية، وقد نصحت الاستخبارات الهندية الحكومة أن تنقل الإدارات العسكرية
والمراكز التقنية من الولاية؛ لأن الحركة قد تعدت مرحلة إمكانية التحكم. فالذي
يحكم هو الاتحاد الإسلامي للمجاهدين، ففي مدينة بارامولله شمالي سريناغار يقسم
نهر جيلوم المدينة نصفين، فعلى الضفة الجنوبية يوجد البازار الجديد (السوق)
والمباني الإدراية ومواقع عسكرية، أما المدينة القديمة على الضفة الشمالية،
فيسيطر عليها المجاهدون، ولا يدخلها الجيش إلا في حملات تفتيش دورية، أما ما
عدا ذلك فإن قوات الأمن تبقى خارج المنطقة تماماً.
مستقبل الجهاد:
إن ما يجري في كشمير هو حلقة من حلقات الصراع الدامي بين المسلمين
والهندوس، وقد حرص الإنجليز على تسليم السلطة للهندوس، ولما تبينت استحالة
ذلك تم تقسيم الهند إلى قسمين هما هندوستان (الهند) وباكستان، وخرجت الهند
بنصيب الأسد من الجيش والصناعات والموارد، أما باكستان فقد ولدت ضعيفة
مشتتة حيث إنها كانت جزئين: الأول باكستان الغربية والثاني باكستان الشرقية،
وكان هدف الهند منذ البداية تدمير باكستان؛ فدارت رحى الحرب بينهما عام
1947م وعام 1965م وعام 1971م؛ حيث تمكنت من تقسيم باكستان إلى جزئين
هما باكستان وبنغلاديش وذلك هو أكبر انتصار للهند، حيث إنه تم استبعاد
بنغلاديش من خارطة القوى المؤثرة، وبقيت باكستان الغربية وحدها تواجه التحدي
الهندوسي وخلال الصراع نلاحظ الآتي:
1- أنتج الحكم في باكستان سياسة موالية للغرب ومع ذلك فإنه يتعرض
لضغوط شديدة لعرقلة تقدم باكستان في المجال العسكري وخاصة النووي.
2- كانت الهند تدعي عدم الانحياز (الحياد الإيجابي) ؛ فاستفادت من تنافس
الغرب والشرق على كسب وُدها، فأقام الروس صناعات عسكرية متطورة،
وأمدت كندا الهند بالتقنية النووية حتى أتمت بنجاح تفجير قنبلة ذرية في أوائل
السبعينات، وهي تحاول الآن تطوير نظام صواريخ بعيدة المدى، ومع ذلك لا
نسمع الغرب يتحدث عن البرنامج النووي الهندي.
3- كان الغرب ينتهز أية فرصة لتقوية الهند، فمثلاً قامت أميركا وبريطانيا
بتزويد الهند بكميات كبيرة من السلاح أيام أزمة الحدود مع الصين على الرغم من
أن هذه الأسلحة استُعملت أساساً ضد باكستان فيما بعد.
4- العلاقات المتميزة بين الهند و (إسرائيل) ، وقد تمكن المجاهدون في
كشمير من أسْر مجموعة من عملاء الموساد الإسرائيليين، كما تم في بيشاور
اعتقال ثلاثة من اليهود المغاربة الذين يحملون جوازات فرنسية لقيامهم بنشاط
تجسسي.
5- تجاهل الغرب لمأساة المسلمين في كشمير، أما روسيا فقد استعملت الفيتو
في مجلس الأمن لمنع إدانة الهند.
6- تخوف الغرب والشرق من البُعد الإسلامي في الصراع، فبينما كانت
أمريكا تتبنى عملية تسليح وتدريب المجاهدين في أفغانستان، سارعت أمريكا إلى
وضع حليفتها باكستان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب نظراً لوجود المجاهدين
العرب في أراضيها، وتخوفها من انتقالهم إلى كشمير خاصة، وقد استشهد أحد
المجاهدين العرب في إحدى عمليات المجاهدين في عاصمة كشمير.
7- الحرص على عدم إقامة دولة إسلامية في باكستان، وهذا كان واضحاً في
أول يوم؛ فقد حُكم على أبي الأعلى المودودي - رحمه الله - بالإعدام وسجن مراراً
لمطالبته بإقامة الدولة الإسلامية التي بذلت في سبيلها مئات الألوف من الأنفس،
وتتابع على الحكم الإسماعيلية والرافضة. ولا يغيب عنا دعم الغرب القوي لبي
نظير بوتو (الرافضية) والظروف الغامضة التي قُتل فيها ضياء الحق.
8- إبراز الهند كقوة إقليمية رئيسية والسماح لها بالتدخل في محيطها مثل
تدخلها في سري لانكا وموريشيوس.
ويمكن تصور ثلاثة مواقف محتملة للهند في سبيل حل مشكلة كشمير:
الأول: محاولة تكوين حكومة مرتبطة بدلهي مع تمتعها بالحكم الذاتي
وإشراف دلهي على الأمن والدفاع والخارجية، ويقابل هذا بالرفض من قِبَل
المجاهدين.
الثاني: إلقاء تبعة الصراع على باكستان، وبالتالي التحرش بها ومحاولة
غزوها، وهذا احتمال وارد ولكن نتائجه غير مضمونة نظراً لاحتمال وجود ترسانة
نووية لدى باكستان.
الثالث: السماح باستقلال كشمير بشرط عدم الانضمام إلى باكستان وهو
احتمال وارد.
ولكن تزايد موجة التطرف الهندوسي في الهند قد يرجِّح الاحتمالين الأول أو
الثاني خاصة بالنظر إلى مطالبة السيخ بالاستقلال. والذي يبدو أن استقرار الحكم
الهندي في كشمير أمر مستبعد، والهند غير قادرة على حرب استنزاف طويلة الأمد، وستحاول بقدر جهدها إثارة القلاقل والنزعات الانفصالية في باكستان حتى يخف
تأييد باكستان للمجاهدين، فهل تصمد باكستان في وجه الضغوط، وتعرف أن
كشمير هي أكبر ورقة رابحة لها في صراعها مع الهند، وأن الهند معرضة للتشرذم
إذا حلت باكستان راية الإسلام؛ حيث إن حوالي مئة مليون مسلم في الهند يمكن أن
يقلبوا الموازين رأساً على عقب. أما إذا استمرت سياسة الملاينة فإن الهند ستمضي
في خطتها لاستكمال تحطيم باكستان وبالتالي القضاء على آمال المسلمين في كشمير.
__________
(1) * 21 من نيسان سنة 1948م: (تود كل من الهند وباكستان أن يتقرر مصير جامو وكشمير بإجراء استفتاء حر نزيه فيها) * 23 من آب سنة 1948م: " من المؤكد أن تقرير ولايتي جامو وكثممير لا يتم إلا وفق رغبة الشعب الكشميري الحر " * 5 من كانون الثاني سنة 1949م: " إن كلتا الحكومتين تعترف بوجوب تقرير مصير كشمير بإجراء استفتاء حر محايد بطريق ديمقراطية سلمية " * 13 من كانون الأول 1952م: " وإن مجلس الأمن ليعيد قراره السابق الذي وافقت عليه كل من الهند وباكستان والذي يقضي باجراء الاستفتاء العام الحر المحايد في كشمير " * 16 من تشرين الثاني 1957م: " تسلم الحكومتان - الهند وباكستان - بما اتُّخذ في 13 من آب 1948م و5 من كانون الثاني 1949 من قرارات بشأن إجراء الاستفتاء الحر والمحايد في ولايتي جامو وكشمير ".(63/76)
مقابلة
أمين مكتب الإعلام
في حركة الجهاد الإسلامي الإريتري
يتحدث إلى (البيان)
د. مالك الأحمد
أجرى الدكتور مالك الأحمد مندوب مجلة (البيان) مقابلة مع الأخ آدم ...
إسماعيل أمين مكتب الإعلام في حركة الجهاد الإسلامي الإريتري ودارت المقابلة
حول الوضع العام على الساحة الإريترية.
* حبذا لو عرفتم قراء مجلة (البيان) بإريتريا وأهميتها وسكانها؟ . ...
تقع إريتريا في أقصى الساحل الغربي للبحر الأحمر جنوباً، وتعتبر بوابته
الرئيسية، ويحدها السودان غرباً وأثيوبيا جنوباً. ولهذا الموقع أهمية بالغة لأنها
تعتبر جزءاً من القرن الإفريقي وبوابة شرق إفريقية، فضلاً عن قربها من
المقدسات الإسلامية ومنابع البترول، وأغلب السكان مسلمون، واللغة العربية
أساسية عندهم، وهناك قلة من النصارى والوثنيين. وقد دخلها الإسلام مبكراً من
الهجرات الأولى للصحابة، وكانت منطلقاً لنشر الإسلام في إفريقية.
* كيف وقعت إريتريا فريسة للاستعمار وأصبحت جزءاً من الإمبراطورية
الحبشية؟
كانت إريتريا جزءاً من الخلافة الإسلامية حتى نهاية القرن التاسع عشر حيث
ضعفت الخلافة فوقعت البلاد بأيدي الاستعمار الإيطالي الذي سعى لنشر النصرانية
في البلاد، وبعد الحرب العالمية الثانية وانهزام إيطاليا حل الاستعمار البريطاني
محله وفرضت الدول الغربية في عام 1950م الفيدرالية؛ حتى ضُمَّتْ إريتريا
المسلمة لأثيوبيا النصرانية، وقام هيلاسيلاسي باضطهاد المسلمين وإلحاق البلاد
بأثيوبيا متعاوناً مع نصارى إريتريا الذين كان لهم دور هام في ذلك مما أثمر
انتفاضات شعبية إريترية أعقبها قيام جبهة التحرير الإريترية التي تسعى لاستقلال
إريتريا.
* كيف برزت الجبهة الشعبية وسيطرت على مقاليد الأمور في البلاد؟ .
في بداية السبعينيات طغت الصراعات الحزبية، وانحرفت جبهة التحرير عن
مسارها، ودخل العلمانيون فيها مما أثمر عدة تنظيمات أبرزها وأقواها الجبهة
الشعبية التي انفردت بالساحة بعد تصفيات ومعارك مع التنظيمات الأخرى،
وسيطر النصارى على مقاليد الجبهة الشعبية وعلى رأسها أسياس أفورقي، وسعى
لتخريب البلاد وإفسادها وإذلال المسلمين ومحاربة دينهم وتجنيد الفتيات ونشر
الرذيلة.
* كيف تأسست حركة الجهاد الإسلامي الإريتري؟ .
بعد أن خلت الساحة للجبهة الشعبية الصليبية التوجه، والتي أصبحت رديفاً
للعدو الأثيوبي في معاناة الشعب الأثيوبي - سعى المسلمون ووحدوا صفوفهم
وأعلنوا ميلاد حركة الجهاد عام 1409هـ لحماية المسلمين وأعراضهم ورد الظلم
عنهم، ومواجهة الجبهة الشعبية ابتداءً ثم العدو الأثيوبي لاحقاً، وبحمد الله فقد
حققت الحركة الكثير من الإنجازات خلال الأعوام السابقة سواء في الجوانب
الدعوية أو الجهادية ضد الجبهة الشعبية.
* ما هو منهج حركة الجهاد؟
تتبع حركة الجهاد المنهج الإسلامي كما هو في الكتاب والسنة، وعلى فهم
السلف الصالح وعقيدتها سلفية بحمد الله، وتؤمن بأهمية التربية الشاملة للمسلم كي
يؤدي دوره في الحياة وتسعى الحركة لإقامة دين الله مستخدمة الوسائل الممكنة ومنها
الجهاد في سبيل الله.
* ما هي أوضاع إريتريا الحالية وهل استقلت؟ .
عندما ضعف (منغستو هيلا مريام) وفشل في تنفيذ الدور المطلوب،
ضغطت الدول الغربية والعرَّابان: كارتر وكوهين، وتم الاتفاق على تنازله عن
السلطة (1991م) . وتسلمت الجبهة الشعبية السلطة في إريتريا والجبهة المتسلطة
في أثيوبيا، وهما جبهتان نصرانيتان متحالفتان ضد المسلمين، وأعلنت الجبهة
الشعبية أنها ستقوم باستفتاء شعبي حول الاستقلال (رغم أن هدف الجبهة المعلن هو
الاستقلال) .
* ما هو الوضع الاجتماعي والاقتصادي الحالي في البلد بعد سيطرة الجبهة
الشعبية؟ .
الوضع متدهور على كافة الأصعدة، فاقتصادياً هناك فقر شديد بسبب سياسات
الجبهة وإقصائها للتجار، كذلك الوضع سيء للغاية اجتماعيا؛ فالفساد الإداري
يضرب أطنابه في البلاد، وهياكل الدولة مهترئة مما شجع اللاجئين على عدم
العودة إلى بلادهم، بل اضطر بعض الناس للهجرة ثانية بعدما رأوا سوء الأوضاع.
* هناك أخبار عن دور خبيث للجبهة ضد المسلمين داخل البلاد؟ .
هذا الأمر واضح للعيان، فمحاربة الجبهة للإسلام تتم على كافة الأصعدة في
الإعلام، والمدارس، والقوانين، وكذلك نشر الفساد الأخلاقي كالبارات وبيوت
الدعارة، وإثارة النعرات القبلية، وتوزيع أراضي المسلمين على النصارى
لاستثمارها، وتسهيل تجنيس النصارى من (التغراي) وأثيوبيا لتغيير التركيبة
السكانية بحيث تتحول الأكثرية إلى نصارى فضلاً عن إحلال (اللغة التغرانية) محل
العربية كلغة رسمية في البلاد.
* ما هو الوضع السياسي العام في إريتريا الآن؟ .
الحاكم الآن في البلاد هو الجبهة الشعبية بمشاركة بسيطة وغير مؤثرة من
التنظيمات العلمانية الأخرى، وعلقت استقلال البلاد باستفتاء شعبي، وربطت البلد
بأثيوبيا تماماً وأطلقت لها حرية التصرف في ميناء مصوِّع الحيوي لإمدادها
بحاجاتها.
* على الصعيد العربى والإسلامي ما هي علاقات النظام الحاكم الآن بهذه
الدول؟ .
تنكرت الجبهة الشعبية للدول العربية التي ساندتها سنين طويلة وأمدتها بالدعم، بل وأصبحت تعاديها جهاراً وتسبها بالإذاعة وتنفي صلة البلد بالعروبة والإسلام
كاشفة وجه الجبهة الشعبية الصليبي..
* هل لكم أن تحدثونا عن العلاقات اليهودية مع نظام الجبهة الشعبية؟ .
علاقات الجبهة مع اليهود أصبحت معلومة ومكشوفة، وهي تبررها بأن وجود
علاقات طبيعية بين بعض الدول العربية (مصر) مع كيان (إسرائيل) مبرر كافٍ
لأن تقوم هي بذلك، والحقيقة أن مبعث هذه العلاقة هو الخطر الإسلامى المشترك،
وإريتريا مدخل البحر الأحمر وبالتالي تحولها إلى منطقة إسلامية صرفة يهدد أمن
دويلة (إسرائيل) ؛ لذلك قامت دويلة (إسرائيل) باستئجار جزر (دهلك) في مدخل البحر الأحمر حيث موقعها الاستراتيجي، وبدأت في إقامة مطار عسكري على أعلى هضبة تطل على البحر الأحمر؛ حيث الموقع الحساس والخطير، وزارها أسياس أفورقي بدعوى العلاج للتمويه والتضليل واستقبلت مجموعة كبيرة من المتدربين وأرسلت خبراء لمعاونة الجبهة في قمع (الإرهاب) .
* هل للجبهة الحاكمة توجه صليبي بارز في المنطقة؟ .
نعم وهي تعمل جاهدة لتوطيد النصرانية في المنطقة، وفتحت الباب على
مصراعيه للمنظمات التبشيرية التنصيرية (80 منظمة) في الوقت الذي منعت جهود
منظمات الإغاثة الإسلامية، وتقوم باستقدام النصارى من المناطق المجاورة
وتعطيهم الأراضي والقروض لتوطينهم، كذلك تقوم باعطاء المناصب الحساسة
للنصارى، وتضغط على المسلمين كي تضطرهم لترك البلاد، وتنسق بقوة مع
نصارى أثيوبيا؛ حيث العمق الصليبي وتتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية
وتقدم لهم المعلومات وتحصل منهم على المساعدات الاقتصادية للتمكن من السيطرة
على البلد بالقوة.
* علاقة الجبهة مع السودان محل تساؤل واستغراب فما تفسيركم لهذه
العلاقة؟.
العلاقة بين السودان والجبهة الشعبية - في الأساس - علاقة مصالح مشتركة، فالسودان يعاني من ضغوط (قرنق) والذي استفاد كثيراً من أثيوبيا وكذلك إريتريا ...
كمنطلق لتحركاته العسكرية، فاتفق السوادن مع إريتريا وأثيوبيا بعدم تقديم أي من
الجهات دعماً لجهات معارضة، ومن هذا المنطق ضغط السودان على حركة الجهاد
كي تخرج من السودان تنفيذاً لهذا الاتفاق، ولا شك أن الإخوة في السودان أخطؤوا
التقدير، فبينما لا يرتدع النصارى عن نقض الاتفاقات يقع الظلم على المسلمين
الإريتريين، ويظهر أن تقدير السودان في أن يحتوي الجبهة وينشر الإسلام في
إريتريا سلمياً كان في غير محله، حيث كشرت الجبهة عن أنيابها الصليبية وقاومت
كل الجهود الإسلامية، بل حدث أنها طردت سفير السودان لأنه أقام مآدب إفطار
للمسلمين.
* ما هو الوضع العسكري لحركة الجهاد؟ .
الحمد لله الوضع العسكري جيد، ولقد تغيرت الاستراتيجية السابقة المعتمدة
على الحرب الشاملة وتحولنا إلى حرب العصابات؛ حيث أثبتت الأيام جدواها
خصوصاً لوضعنا، وكان ضغط السودان علينا للخروج - وإن كان محل سخط -
فقد كان له أثر طيب فأصبحنا نعتمد - بعد الله - على أنفسنا وطاقاتنا واستطعنا
الوصول إلى الشعب في الداخل، وسيطرنا على مناطق كثيرة من الريف (6
محافظات من أصل 8 محافظات) ، بل استطعنا الوصول إلى الساحل الشمالي للبحر
الأحمر؛ حيث أهميته كبيرة. وحققنا انتصارات طيبة في الفترة الأخيرة، ومنها
انتصارات هامة في رمضان، ومعنويات مقاتلينا - بحمد الله - عالية بعكس مقاتلي
الجبهة الشعبية حيث بدؤوا الفرار من جيشهم، وإذا سمعوا بقرب وصول قوات
الحركة يفرون من المنطقة؛ لأنهم يقاتلون من أجل الدنيا ونحن نقاتل من أجل
الآخرة. وبدأ الشعب يلتف حول الحركة في الداخل، وازدادت قوافل المجاهدين
الذين ينضمون للحركة.
* هل لكم جهود دعوية خلاف جهودكم العسكرية؟ .
جهودنا في ميدان الدعوة هي الأساس وآثارنا ملموسة في أوساط اللاجئين
الإريتريين في السودان؛ حيث نقوم بتعليمهم وتربيتهم وإعدادهم للجهاد، وانطلقنا
أخيراً في قوافل لنشر الدعوة في أوساط الشعب في داخل البلاد ووجدنا - بحمد الله
- قبولاً من الناس.
* هل لكم مكاتب تمثيلية في الخارج؟ .
نعم لنا مكاتب في بعض دول الخليج، وكذلك في بعض الدول الأوريية
وأمريكا وكندا وأستراليا، وحيث يوجد مهاجرون إريتريون فلنا وجود معهم إعلامياً
ودعوياً بفضل الله.
* أخيراً ما هو مستقبل الأوضاع - في نظركم - في إريتريا؟ .
المنطقة بأكملها مقبلة على أوضاع صعبة وخطيرة؛ فالمد الإسلامي في
المنطقة من الصومال جنوباً إلى السودان غرباً يقضّ مضاجع اليهود والنصارى،
لذلك سارعت دولهم إلى إيجاد موطئ قدم لهم في الصومال وأثيوبيا وإريتريا فضلاً
عن المناطق ذات الوجود الغربي الكثيف سابقاً مثل كينيا، وأرسلت مجموعات من
الخبراء والباحثين لدراسة الظاهرة الإسلامية في المنطقة، واقتراح أفضل السبل
لمقاومتها وتحجيمها. كذلك من وسائلهم إثارة الفتنة والقلاقل كمبرر مستقبلي للتدخل
المباشر في شؤون المنطقة، وإثارة ما يسمى حقوق الإنسان عندما تستدعي الأمور
ذلك.
أما مستقبل الأوضاع داخل البلاد - في ظني والله أعلم - أن التعددية
السياسية مرفوضة من الجبهة الشعبية نظراً للثقل الإسلامي في البلد ونظام الجبهة لا
يمتلك مقومات البقاء؛ فالتصدع داخل الجبهة بارز والعجز الإداري وغياب
الأرضية الشعبية فضلاً عن صحوة الشعب والتفافه حول حركة الجهاد، والعاقبة
أخيراً للمتقين إن هم ساروا على المنهج وصبروا عليه؛ [ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: 171-
173] .
* هل من كلمة أخيرة؟ .
أدعو من خلال مجلتنا (البيان) إخواننا المسلمين لدعمنا ودعم الجهاد؛ قال
تعالى: [وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ
واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] [الأنفال: 72] ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من
جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا» متفق عليه، وأملنا كبير بدعم إخواننا بالدعاء والنصح والمال، وفق الله الجميع لما يحبه
ويرضاه.(63/84)
المسلمون والعالم
مشاهدات في بلاد البُخاري
(5)
د. يحيى اليحيى
لقد تضافرت الدول النصرانية على دعم الكنيسة وبرامج التنصير في الاتحاد
السوفييتي - المنهار -، وقامت ببناء الكنائس في مختلف الجمهوريات، كما قامت
بترجمة الإنجيل إلى جميع لغات شعوب المنطقة، حتى اللغة التي لا يزيد عدد
الناطقين فيها عن مائة ألف، فلقد ترجم الإنجيل إلى لغة شعب (قره جاي) في بلاد
القفقاز الذين لا يزيد عددهم عن مائة وستين ألف. وشيدت الكنائس في طاجيكستان
وداغستان وغيرهما، وافتتحت المدارس التنصيرية في مدينة (خولو) في (أجاراي) وقدم للطلاب السكر والدقيق والملابس، وقد التحق بالكنائس عدد من أبناء
المسلمين.
أما من الناحية التجارية فقد قدمت وفود كبيرة من الأوربيين والأمريكيين
واليابانيين لاستثمار المنطقة، والسيطرة على مواردها واستغلال ثرواتها، وقد
لاحظنا كثرة الوفود للغرض التجاري، فما إن يفارق الفندق وفد حتى ينزله وفد
آخر!
أما اليهود - عليهم لعائن الله - فقد شرعت (إسرائيل) في إقامة بعض
المشاريع داخل هذه الجمهوريات، وبدأت شركة طيران (العال) اليهودية رحلاتها
إلى الجمهوريات، وتقوم الآن بتنفيذ مشروع زراعي [*] كبير بولاية فرغانة - ومن
المعلوم أن ولاية فرغانة هي من أكثر المدن تمسكاً بالإسلام - وأقامت عدداً من
المشروعات المشابهة في جمهورية القرغيز. وهذه قائمة ببعض أنشطتهم: ...
1- أول من وصل إلى المنطقة وفد من إدارة العمل الاسرائيلية، الذي زار
أوزبكستان في بداية عام 1991م وكان على رأس الوفد المدير العام لخدمات
التوظيف، وقد صرح الوفد: أن كثيراً من اليهود الذين هاجروا من أوزبكستان إلى
(إسرائيل) يرغبون في تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
2- وقعت شركتان إسرائيليتان هما (شركة أناب للتجارة والاستثمار المحدودة، وشركة مركور) على اتفاقية مع اللجنة الإدارية لخُوارزم اوبلاست لإقامة مشاريع
لإنتاج النسيج.
3- قام وفد من جمهورية القرغيز بزيارة (إسرائيل) ، وتم الاتفاق على
إنشاء جمعية تجارية إسرائيلية قرغيزية في بشكيك لإنشاء عدد من المشاريع في
قرغيزيا.
4- تم الاتفاق على إنجاز عدد من المشاريع الصناعية على يد اليهودي
السوفييتي والمؤلف المشهور (شنعيز ايات ماتون) ، الذي اتفق مع (إسرائيل)
على إنشاء المصانع التالية في قرغيزيا:
* مصنع للسجائر.
* مصنع إنتاج علب البوليثيلين للمنتجات الغذائية.
* إنشاء مزرعة نموذجية مساحتها 2000 هكتار بمساعدة إسرائيلية من
الناحية الفنية.
* إنشاء مصنع لتعبئة الحليب.
* إنشاء شركة لتصنيع آلات الري.
5- قام وزير الزراعة الإسرائيلي إيتان بزيارة لقرغيزيا وبحث موضوع إقامة
مشاريع في مجالات الري وإنتاج القطن، وصوامع الحبوب، والبيوت المحمية،
وتربية المواشي.
6- أقامت جمهورية آذربيجان اتصالات رسمية مع (إسرائيل) ؛ حيث جرى
توقيع بيان مشترك مع الوفد الإسرائيلي برئاسة الوزير الصهيوني للعلوم
والتكنولوجيا يوفال نيمان ورئيس آذربيجان مطلبوف حيث وقعا في (باكو) على
اتفاقية رحلات جوية بين (باكو) وتل الربيع (تل أبيب) كل يوم أربعاء.
أما الإسماعيلية الآغاخانية: فتحاول الآن بناء مركز لها تزيد تكلفته على مائة
مليون دولار في سمرقند، وأن دراسة المركز كلَّفتها مليون روبل.
أما القاديانية فقد دخلت جمهوريات بحر البلطيق، وقامت بنشر مذهبها بين
المسلمين الذين لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، وقد حدثني أحد المسلمين هناك أن
القاديانية جاءتهم من بريطانيا، وأن المسلمين لا يوجد بينهم مَن يحسن الإمامة.
أما الروافض (الشيعة) فلهم تاريخ أسود مع أهل السنة في تلك البلاد،
وخاصة أيام الدولة الصفوية التي أسسها الشاه إسماعيل في إيران، فقد أحس
العثمانيون بالخطر على القفقاز بسبب اتفاق الشاه طهماسب الرافضي (ت984 هـ/ 1576م) مع إيفان الرهيب (1530-1584م) على معاداة العثمانيين في القفقاز.
ابتدأ الروس بمناجزة بلاد القفقاز بعد الانتهاء من بلاد التتار، وتم الاتفاق بين
الشاه الصفوي الشيعي طهماسب والقيصر الروسي إيفان الرهيب، وبعد ضعف
العثمانيين احتل الروس بلاد داغستان وسواحل بحر الخزر الغربية. وبعد انهيار
الشيوعية نزلوا بثقلهم لمساعدة إخوانهم، وبَنِي ملَّتهم، والسيطرة على أهل السنة
والتأثير عليهم، وقد ذكر لي مفتي وقاضي طاجيكستان أن وزير الخارجية الإيراني
زارهم وتبرع بتوسعة مسجدهم، وقد اطلعت على هذه التوسعة، وذكر لي أيضاً أنه
تبرع بمكافأة للطلاب في معهد الإمام الترمذي، وهناك النشاط الإعلامي الذي تبثه
إيران لهذه الجمهورية باللغة الفارسية المشتركة وللعلم فإن كثيراً من أهل السنة لا
يعلمون عن الشيعة شيئاً، ولا يتصورون خطرهم، بل وجدت عدداً كبيراً من
الشباب يفتخر بهم لجهله إياهم.
أما الصوفية فيوجد عندهم كثير من الطرق الصوفية الغالية، إلا أن التأثير
الخرافي والذي يخشى من انتشاره بينهم، هو ما يحمله الزوار - من أهل الخرافة
- القادمون من الحجاز وبعض البلدان العربية والهندية، لأنهم يرون - خصوصاً
في أهل الحرمين - القدوة ويتقبلون ما يأتيهم منهم باعتبار أنهم من أهل العلم
والإيمان، وفعلاً قام هؤلاء بالدعوة هناك وبنشر الكتب في العقيدة وغيرها -
المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة - وبناء مساجد تحمل أسماء رموز أهل الخرافة
والتصوف.
هذه بعض جهود أعداء الله ورسوله في ديار العلم والعلماء، ولا شك أن مكر
الكفار كبير وتخطيطهم دقيق؛ كما قال - تعالى -: [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وعِندَ اللَّهِ
مَكْرُهُمْ وإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ] [إبراهيم: 46] ، وقال - تعالى -:
[وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً] [نوح: 22] ، ولكن لنعلم أن مكر الكفار لا قيمة ولا وزن له
إذا ما تحرك أهل السنة والجماعة، وبذلوا ما بوسعهم في سبيل الدعوة إلى الله -
تعالى - وسيتحول المكر إلى ضعف وزوال إذا واجه أهل الله وخاصته؛ كما قال -
تعالى -: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء: 76] ، وقال - تعالى: [لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وإن
يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ] [آل عمران: 111] .
لن تخيفنا النصرانية بدولها ولا اليهودية، ولا الطوائف المضللة إن قمنا
بتبليغ وإرشاد إخواننا هناك، وبذلنا ما نستطيعه من الجهد والمال لنشر الإسلام،
وإخوانا هناك هم الآن بأمسّ الحاجة إلينا، والساحة - ولله الحمد - تتسع لكل
العاملين، فاللهَ اللهَ لا تخذلنّ جهة من جهات أهل السنة الأخرى، بل لتعمل جميع
الجهات من أهل السنة والجماعة، وإن اختلفت وجهات النظر؛ فالساحة واسعة ولله
الحمد، ولا يمكن أن تغطيها جهة واحدة أو جماعة واحدة، ولابد أن نسارع إلى
عرض الإسلام في صورته الصحيحة، قبل أولئك المجرمين، قبل أولئك المضللين، قبل أولئك الزنادقة، لنقدم ما نستطيعه لدين الله - عز وجل - في بلاد أئمة
العلماء وثقاتهم.
حاجات المسلمين هناك:
تعيش المنطقة اليوم مرحلة خطرة، والغرب يخطط لها كي تنتظم في سلك
الدول الإسلامية التي أخذت بالمنهج العلماني (اللاديني) ؛ فوزير الخارجية الأمريكي
اجتمع بالمسؤولين هناك وعرض عليهم الإسلام التركي، دلالة على هذا العنوان
معلومة ومعروفة لأنهم لا يريدون الإسلام الذي يحضهم على العلم والتقوى
والصلاح، ويُرجعهم إلى تاريخ آبائهم الأولين في العلم والتعلم والجهاد في سبيل الله، فهم يريدون لهم أن يأخذو اسم الإسلام، أما المحتوى فهو العلمنة، والبُعد عن دين الله - عز وجل -.
عاش المسلمون هناك تحت نير الشيوعية وكأنهم خرجوا من سجون مظلمة،
والعدو الآن يخطط ويبذل كل شيء محاولاً طمس معالم الإسلام في قلوب الناس،
فلقد ذعر الشرق والغرب من بقاء المسلمين على دينهم على الرغم من هذه الحرب
الشرسة على معتقدهم، ومن هذه الإبادة التامة لعلمائهم وشعائرهم لمدة سبعين عاماً؛
ولذا أقول: لابد من مد يد العون لهم، ولابد من المسارعة في ذلك وبذل الوسع
والله - عز وجل - وصفنا أننا من المسارعين والمسابقين إلى فعل الخيرات، كما
قال - تعالى -: [وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ] [آل عمران: 114] ، وقال -
سبحانه-: [سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والأَرْضِ]
[الحديد: 21] .
احتياجات مسلمي الدول المستقلة:
1 - المدارس الشرعية: وكما هو معلوم فإن المدراس الدينية في تلك البلاد
تشهد إقبالاً من الآباء والشباب، ومع ذلك تشكو من عدم وجود المناهج المدروسة
والتي تتناسب مع ظروفهم الحالية؛ لذا لابد من المسارعة إلى وضع المناهج
السليمة والصحيحة التي تجمع المسلمين على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله
عليه وسلم- ولا تفرقهم.
2- مواجهة الطوفان الكنسي النصراني، الذي أغرق الأسواق والمدارس
والمساجد بالأناجيل والكتب والنشرات والأشرطة النصرانية، بجميع اللغات،
وتكون المواجهة بسد فراغ الضائعين، والتصدي لغزو الملحدين وذلك بتقديم
المنشورات الإسلامية الصحيحة كافة.
3- العناية بالدعوة إلى الله واستغلال جميع الوسائل الشرعية.
4- إن الإقبال على التعليم في تلك البلاد منقطع النظير؛ لذا لابد من السعي
إلى تكثيف المدارس وتحمل مصارف تشغيلها، وإيفاد البعثات للدراسة في الجامعات
الموثوقة في الخارج.
5- العمل على إنشاء عدد من الكليات الشرعية لتأهيل العلماء والدعاة
والخطباء والأئمة.
6- اهتمام الناس هناك بصلاة الجماعة وحبهم للمساجد واضح، إلا أن
الإمكانات قد لا تساعد الجميع على بناء المساجد، فلابد من تكثيف المساجد واختيار
المناطق النائية والقرى البعيدة لذلك، مع العناية في نشر المساجد في كل قرية
وناحية، وترميم المساجد القائمة، واستغلال الفرصة في ذلك ما دامت تكاليف البناء
حتى الآن زهيدة إذا ما قِيست بغيرها، مع أن الأسعار تتضاعف مع تقدم الزمن.
7- العمل على شراء ووقف بعض المنشآت المعروضة للبيع لاستغلال ريعها
في الإنفاق على المشاريع الخيرية.
8- تنظيم برامج ودورات لإعداد وتدريب الدعاة.
9- تنظيم دورات للأئمة والخطباء.
10- تسيير قوافل الدعوة والإغاثة إلى المناطق النائية.
11 - الإشراف على رحلات الحج.
12- فتح مكتبات تجارية إسلامية مقروءة ومسموعة.
13 - فتح مكتبات في المساجد والمدارس مقروءة ومسموعة.
14- إقامة مراكز ترجمة إلى اللغات المحلية.
15- العمل على شراء دور الطباعة والنشر؛ لتتولى طباعة الكتب الإسلامية
والدوريات والمجلات والنشرات.
16- إنشاء مراكز إسلامية متكاملة في العواصم لتقوم بأنشطة متعددة، مثل
عقد المحاضرات والندوات، وإقامة المخيمات، والإشراف على الدورات المركزة
للدعاة والخطباء، ومتابعة برامج الإغاثة للمسلمين في المناطق النائية، وتنظيم
الزيارات والوفود واستغلال أوقاتهم لتحقيق المنفعة العامة.
17- الاستفادة من مواسم الخير مثل رمضان لإرسال الدعاة والعلماء لتعليم
الناس واستغلال تجمُّعهم في مثل هذه المواسم.
18- العمل الجاد على نشر اللغة العربية وتقريبها للناس، وذلك بإنشاء
مختبرات تعليم اللغة، وبعث المدرسين العرب إليهم، ونشر الآلات الكاتبة العربية
في المكاتب الرسمية وغيرها.
19- التركيز - وخاصة في البلاد النائية - على تعليم الناس وما يجب أن
يعلَّم من الدين بالضرورة مثل: توحيد الله - عز وجل - والوضوء والصلاة وغير
ذلك من الأحكام المفروضة.
20- العمل على إيصال بث إذاعة القرآن الكريم إليهم، باللغة العربية
ولغاتهم المحلية، حيث يوجد في هذه البلاد - أعني بلاد الحرمين - ولله الحمد -
من يجيدون تلك اللغات وهم على علم وفقه واعتقاد سليم، فينبغي المطالبة بذلك،
وتذكير المسؤولين به.
21- إقامة مصانع للمسلمين في بلادهم، كمصانع القطن والحرير؛ حيث لا
توجد عندهم مصانع ذات شأن يُذكر، مع العلم أن النصارى يتسابقون إلى ذلك،
فينبغي قطع الطريق عليهم.
22- العمل على انتخاب بعض الشباب لدراسة العلوم التقنية الحديثة في
الخارج، مع رعايتهم ووضع برامج تربوية لهم.
23- قيام لجنة من ذوي العلم والخبرة بزيارة المنطقة والبقاء فيها مدة كافية،
لتقدم للمسلمين دراسة متأنية واضحة عن المنطقة وحاجاتها.
كيف نأخذ أخبارهم بصورة صحيحة؟
لقد زار تلك المنطقة عدد كبير من الناس، على اختلاف طبقاتهم، ومشاربهم، واتجاهاتهم، وأديانهم، وكلٌّ يصف ما رأى، ويذكر ما يوافق مبدأه؛ لذا لابد من
الاعتماد على الثقات من أهل العلم والصلاح، والتجربة والرؤية الثاقبة، والدراسة
المتأنية لمعرفة أحوال أهل تلك البلاد، وعدم أخذ أخبارهم ممن لا يوثق به، أو من
المتحمسين والمستعجلين؛ حتى تكون الرؤية صحيحة وصائبة بإذن الله.
وأخيراً فهذه لمحة سريعة عن تلك البلاد وأهلها وبسط ذلك يحتاج إلى كتب
ومجلدات، وتستحق أكثر من هذا، كيف لا وهي بلاد أمير المؤمنين في الحديث،
أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - رضي الله عنه وأرضاه - وأسكنه فسيح
جنانه. إن هذه البلاد هي بلاد العلم والعلماء، بلاد الصلحاء والأتقياء، بلاد
المجاهدين في سبيل الله - تعالى - حتى كان بعض السلف يسميها (بلاد التقوى) ،
لكثرة ما فيها من العلماء الربانيين؛ ولذا لابد من أن نذكّر إخواننا هناك بأن يسيروا
على منهج أولئك، من المحدثين الصالحين البررة أمثال البخاري، والترمذي،
والنسائي وابن ماجة، والدارِمي، وعبد الله ابن المبارك، والإمام أحمد، وسفيان
الثوري، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من نجوم هذه البلاد، فأهل هذه البلاد هم
أحفادهم وبَنُوهم، فلابد أن يسيروا على منهاجهم، وأن يقتفوا خطاهم، ويجب علينا
أن ننشر كتبهم عندهم.
وأقول مرة أخرى، ينبغي أن يحرص أهل العلم وأهل الثقة ممن يعرفون
لغات أولئك القوم - أن يقيموا معهم السنين، وإن لم يستطيعوا فالشهور، وأن
يكونوا دعاة إلى الله - عز وجل - وعلى بصيرة فإن الله - تعالى - سائلهم عن
ذلك، وهم لهم حقوق عليهم فقد فرطوا فيها سبعين عاماً، فليقوموا بذلك ويعوضوا
ما فات، كيف وهم يعلمون نشاط أعداء الإسلام بينهم، والله - تعالى - يقول:
[إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ] [النساء
: 104] ، أي إن يُصبْكم الألم في العمل الصالح بينكم وبينهم أنكم [تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ...
مَا لا يَرْجُون] ، ترجون من الله الخير والثواب في الدنيا والآخرة وذلك ما لا ...
يرجونه.
فيا إخواني: كيف نراهن على ديننا؟ كيف نراهن على إخواننا؟ أعداء الله
وأعداء رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قاموا بكل جهدهم، ونزلوا المنطقة بكل
ثقلهم، ولم نَرَ وجوداً يُذكر لأهل السنة والجماعة إلا ظلاً، فلابد أن نسارع قبل
غيرنا لإنقاذ هذه البلاد، قبل أن تدخل في العلمنة فتمسخ فِطَرهم، وينبغي عرض
أحوال أهل هذه البلاد على أهل الغيرة من أهل العلم، والمحسنين التجار، وعدم
التأجيل في ذلك.
__________
(*) ملاحظة: تحاول (إسرائيل) الصهيونية إقامة مشاريع زراعية في بلدان العالم الإسلامي، وتنشر نوعاً من الهرمرنات التي تولِّد العقم، وهدفها قطع نسل المسلمين وقد كشفت وسائل الإعلام المصرية عن أخطار المشاريع الزراعية الصهيونية في مصر وفي قطاع غزة المحتل.(63/90)
منتدى القراء
فتاة الأمس! !
حسن بن محمد الرافعي
أنا - يا فتاة الأمس - أعشق صحوتي ... تيَّاهةً تحيي موات الأمةِ
هي نظرة للحقِّ تدمغ باطلاً ... أغشى العيون وحال دون الرؤيةِ
أفنيتُ عُمراً في العواطف أبتغي ... بحراً من الأحلام يُغرق لوعتي
قدمت لي كأساً من الحب الغبي ... فسكبتُ كأسكِ في قرارة مهجتي
وبنيتُ من نسج الخيال مدينةً ... فوق السَّحاب وما سكنت مدينتي
وأتيتُ أروي ظمأتي بسرابها ... فشربتُ من ماء السراب سعادتي
وتداركتني رحمة فهجرتني ... فبكيت حزناً يا لفرط حماقتي
وَلَكَمْ تعالت من فؤادي صرخةٌ ... تشكو جراحي من فراق حبيبتي
ولقد رأيتُ الدرب في ظُلم الهوى ... كَنُجَيْمة لمعت بحالِكِ ظلمتي
هذا هو الدرب القويم وليتني ... ألفيتُه قبل الضياع وغربتي
فلتعلمي أني نسيتك والهوى ... ونسيت حباً كاد يصرع همتي
ولتعلمي أني ابتعدتُ عن الغوى ... ولْتعلمي أني سموتُ بنظرتي
وتركتُ شعرا كان يبعثُهُ النوى ... وجعلتُ قولَ الحقِّ متنَ قصيدتي
لا.. ليس شوقي اليوم قيد غرامكم ... شوقي تسامى نحو حُور الجنةِ
أنا إن سكنتُ الأرض مفترِشَ الثرى ... فهناك قرب النجم تسكن غايتي
أنا مسلم أَأْبَى الهوانَ لديننا ... أنا إن رضيت الذلَّ أقتل عزتي
أنا مسلم أهوى الجهاد وصادقاً ... أدعو إلهي أن تحقَّ شهادتي
فسفينتي عبْر الحياة تطوف بي ... وكتابُ ربي مرشدٌ لسفينتي
إني كتمت اليوم ألف قصيدة ... وقصرتُها قصراً بجوف قصيدتي(63/97)
يا بوسنة البُشْنَاق
مطلق عماش العتيبي
يا بوسنة البشناق صبراً ... فالمهالكُ في ذهابْ
لا يبقى إلا مسلمٌ ... باقٍ على دينِ الحبيبْ
مهلاً فقد كاد الدخانُ ... يذوبُ في الأفقِ الخضيبْ
ويصيح أن القائل ... ين الجائرين بلا قلوبْ
وَيْحَ لهم لم يرحموا ... طفلاً ولم يَرْثوا لِشِيَبْ
قتلوا النساء حواملاً ... ومشوا بهنَّ إلى الكروبْ
لا ترتجِي عطفاً من الأوْغ ... ادِ أصحابِ الصليبْ(63/98)
رسالة إلى قوم الصمت
عمر محمد أبو عنزة
يا قوم تحية لكم، جراحاتنا لا تعد، فكلما تذكرنا جرحنا في بورما، فتح
الجرح الآخر في سريلانكا، ثم تبعه جرح الهند، ولا أنسى جرح الفلبين،
وسأعرج بعد عودتب من الفلبين على جرح فطاني، ثم أعود لفلسطين الحزينة
وأتركها لأنتقل إلى وسط آسيا، ومنها سأمشي إلى سرايفو المثقلة بالمآسي والفظائع، فهل انتهينا؟ لا، فالمسلمون في كل مكان، ما بين تنصير وتغريب، وتقتيل
وتشريد واغتصاب وتعذيب، أرواح تزهق، أعراض تنتهك، موارد تنهب عيانا
جهارا، وإزاء هذا كله ما زال الصمت، كصمت الحجارة والصخور الصم.
آه يا قوم الصمت آه جعجعوا، ازبدوا، ارعدوا، انطلقوا، لا تبقوا هكذا،
فصمت الحجر قاس، والشجرة ترفض الصمت، فإن احتاجت الماء، عبرت عن
ذلك باصفرار أوراقها فهب زارعها وأعطاها ما تريد، أما الحجر فالصمت الصمت.
لمثل هذا يذوب القلب كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان
ولكن:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ... ولا دنيا لمن لم يحيي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين ... فقد جعل الفناء لها قرينا(63/97)
بريد القراء
* الأخ أبو مالك - الرياض:
يقترح في رسالته فتح باب (الهواة للتعارف في العالم الإسلامي) شرط أن ...
لا يُسمح بنشر الصور، و (لا مشاركة النساء) والهدف هو (معرفة المسلمين في ...
كل ناحية وزيادة التعارف بين المسلمين) .
البيان: المتابع للبيان يعرف جيداً أن هذه الأبواب ليست من سياسة المجلة.
جزاكم الله خيراً على الاقتراح.
* الأخ بوهية داروزي:
أرسل لنا بمقالة بعنوان: (لماذا يتعصب الغرب؟) يرى أن الغرب اليوم (لا
يختلف كثيراً عن الغرب الذي تعصب لصليبيته مرسلاً جيوشه لتحتل القدس عام
1099م وما تلاها..) ، يخلص إلى القول إلى أن: (تصريحات وزير الخارجية
الأمريكي بأنهم - أي الأمريكيين - عندما يصرحون بأنهم لم يغيروا رأيهم من
الإسلام. وأنه ليس عدوهم بل عدوهم جماعة معينة متطرفة ( ... ) وهذا محض
افتراء؛ لأن الواقع يدحض ذلك) .
* الأخت عبير عبد الله الطنطاوي:
القصة القصيرة (للموت مليون طريقة) التي أرسلتِ وصلت المجلة. وهي
قيد الدرس جزاكم الله خيراً.
* الإخوة حسن عزوز وأبو ذر أحمد:
وصلت رسائلكم، جزاكم الله خيراً، للحصول على المجلة لابد من الاشتراك
الذي تجدون تفاصيله على غلاف المجلة.
* الأخ الفاضل صالح العلي الخليفة:
وصلت قصيدتكم (رثاء البوسنة والهرسك) وهي قصيدة جيدة، ولكن نعتذر
عن نشرها لكثرة ما يردنا عن الموضوع ذاته وجميعها (رثاء) للبوسنة أو غيرها ...
من مناطق العالم الإسلامي.
* الأخ الفاضل عبد العزيز بن أحمد با طرفي:
وصلت (دراستكم) ، والتي تجاوزت العشرين صفحة. جزاكم الله خيراً على
ثقتكم بالبيان وعلى المجهود الذي بُذل في هذه الدراسة، ولأسباب دلالة فالدراسة
طويلة جداً فإننا نعتذر عن نشرها إلا إذا أحببتم تزويدنا بتلخيص لها أو بمقالات
ترون نشرها في الموضوع نفسه أو بموضوعات أخرى مع الالتزام بشروط النشر.
* الأخ الفاضل شريف قاسم:
أرسل لنا قصيدة بعنوان (رواية الحجر) نعتذر عن نشرها كاملة لطولها
ولكثرة ما يردنا عن نفس الموضوع ونختار منها الأبيات التالية:
ترجع القدس ولكن بالتُّقى ... لا بأقوامٍ بغوا وانقسموا
ومفاتيح فِلسطينَ على ... صدر مغناها ولا تنبهم
بابها ينتظر النصر وكم ... مر من شارعه مَن أُتخموا
يا لأجدادي الذين استعذبوا ... نسمة الجنة إذ هم أقدموا
في ظلال السيف أحيوا مجدهم ... وبأيدي العز رفّ العلمُ(63/100)
واحة البيان
نشرت مجلة (الرسالة) في عددها رقم 120 الصادر في 23 من رجب
1354هـ الموافق 21 من أكتوبر 1935 - قصيدة لأمير الشعراء الراحل أحمد
شوقي وجهها لمراقب الصحف في (إسطنبول) :
مراقب الصحف بالآسِتَانة
لنا رقيب كان ما أثقله ... الحمد لله الذي رحَّلهْ
لو ابتلى الله به عاشقاً ... مات به لا بالجوى والولهْ
لو دام للصحف ودامت له ... لم تنجُ منه الصحف المُنْزلةْ
إذا رأى الباطل غالى به ... وإن بدا الحق له أبطلهْ
جرائد الترك على عهده ... كانت بلا شأن ولا منزلةْ
الشر بالشر فيا قوم لا ... إثم إذا راقبتمو منزلهْ
فحاصروا الأبواب واستوقفوا ... مَن أخرج الزاد ومن أدخلهْ
إن كان في السلة تفاحةٌ ... ضعوا له موضعها حنظلةْ
أو جيء بالشرشر [1] له فاملؤوا ... مكانها من علقم جردلهْ
أو اشتهى الأبيض من ملبس ... قولوا له الأسود ما أجملهْ
ذلك يا قوم جزاء امرئ ... كم غيَّر الحق وكم بدلهْ
***
أين تعلمت هذه الكتابة؟ !
تلقى أحد الأدباء رسالة كُتبت بخط رديء فكتب لمرسلها ساخراً: أحد حروفك
طبل ممزق، والنقطة داخله بلاطة ثقيلة، والآخر حوش انهار سقفه، فلم يبقَ إلا
عمود يسند بقاياه، قل لي: كيف استطعت أن تحمله هذا الجلمود الثقيل؟ ، كل
سطر منك يشغل صفحة كاملة، الحرف كشجرة ممتدة الأغصان، وعملت فيها
فؤوس الحطَّابين، عجيب: أين تعلمت هذه الكتابة؟ !
****
فرّ زيتون من الجبن
قال خليل بن أيبك الصفدي في (الغيث المسجم في شرح لامية العجم) : كتب
القاضي محيي الدين عبد الله بن الظاهر: لما التقى الملك الظاهر مع (زيتون
الفرنجي) قريباً من عكا، هرب زيتون وأسر غالب مَن كان معه من الفرنج فجاء
في مجلة الكتاب: (وفرَّ زيتون من الجبن) !
****
المرأة والكتب
جاء في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة، حدثني الشيخ
شديد الدين المنطقي بمصر، قال: كان الأمير ابن فاتك محباً لتحصيل العلوم،
وكانت له خزائن كتب، فكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يغادرها،
وليس له دأب إلا المطالعة والكتابة، وكانت له زوجة كبيرة القدر من أرباب الدولة، فلما توفي (رحمه الله) نهضت هي وجواريها إلى خزائن كتبه، وفي جُلها من
الكتب، وأنه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في
بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها، ثم أبلت الكتب بعد ذلك من الماء،
وقد غرق أكثرها، فهذا سبب أن كتب المبشر بن فاتك يوجد كثير منها وهو بهذه
الحال.
****
حتى متى أرقعك؟
قالت أسماء بن خارجة لجاريته: أخضبيني.
فقالت: حتى متى أرقعك؟ فقال:
عيرتني خلقاً أبليت جدته ... وهل رأيت جديداً لم يعد خلِقاً
__________
(1) عين معدِنية، مياهها حلوة صحية.(63/101)
مقال
هكذا تذكرهم ذاكرة الشعوب
د. عبد الله عمر سلطان
بدون مبالغة أو تهويل مرت أحداث الصومال وأهواله لتضرب لي مثلاً آخر
على الكيفية التي أنفقت عليها القوى السياسية الإقليمية ومنابرها للتصدي للمتغيرات
الخاطفة التي تكاد تصيب المنطقة بالدوار، وقد تجلَّت تلك الكيفية حينما دخل إلى
أرض الصومال 30000 جندي من أفراد (المارينز) الأمريكيين، وكانت المواقف
المتولدة عن هذا التدخل غاية في التطابق لسابقاتها من الأحداث والأهوال، فالعالم
العربي والإسلامي قرر منذ الثاني من أغسطس عام 1990 أن يكون بمثابة العضلة
الآلية الصَّمَّاء التي تُستثار فتقذف الطاقة اللازمة للانتفاض قبل التفكير في الاتجاه أو
عواقب هذا التقلص الآلي.
احتُلت دولة مستقلة عدة أشهر، وبدا أن خط سير التدخل طويل المدى
ومتعرج المسار لا كما تخيل هتافة التدخل، أو المتخوفون من (أمركة) البلد ذي
النسبة الكاملة من المسلمين السُّنَّة..
أردت أن أكتب شيئاً عن التدخل، لا سيما وأن ظلاله بدأت تطير (شمالاً)
منذرة (بمناطق آمنة) .. فأدركت أن التصدي للوضع أعقد مما يحتمل مقال سريع، وأن الماء الذي في فمي يلجمني عن الحديث عن الظاهرة، والراصدين لها ...
والمتأثرين بها، وقررت هذه المرة أن أبسط الحديث عن ظاهرة وإحدة صاحبت
هذا (الغزو) ، وكنت قد أعددت العدة للحديث عنها قبل سنين حينما أُثيرت كقضية
شائكة على الساحة الأمريكية..، ففي عام 1987م سافرت وفود أمريكية شعبية إلى
فيتنام في محاولة منها لحل مشكلة جيل من اليافعين أطلق عليهم اسم (أمريكيي
فيتنام) .. أولئك كانوا أطفال السِّفَاح وشاهد الجريمة التي ارتكبها الجنود الأمريكيون
خلال الحرب في الهند الصينية.. كانت الأغلبية العظمى من أولئك من أبناء الزنى، ولا يتعدى الأبناء الشرعيون بضعة آلاف بين أكثر من 35000 طفل وشاب هو
مجموع نتاج الحضارة الأمريكية الزاحفة إلى مجاهل فيتنام..، وانطلقت الصحافة
الأمريكية ووسائل الإعلام الغربية تعرض جزءاً من المشهد الكالح.. وكيف تحولت
قرى بأكملها إلى فراش عُهر، وأن القاصرات كُنَّ هدفاً جماعياً لإغراء الدولار
الأخضر..، دُمرت أسر وهتكت أعراض وظهر جيش من الجراد البشري يذكّر
صباح مساء بالجريمة ومقترفيها من خلال المعالم والقسمات التي كانت تحكي عن
قصة حزينة جاءت بأولئك الذين لا يشبهون الفيتناميين ولا الأمريكان، إنهم أولاد (البين بين) كما يسميهم السكان المحليون..
(هكذا دخل الفاتحون من اليانكي) قالها شيخ فيتنامي عجوز، وأشار (لقد
أوجدوا مدناً ليس فيها إلا شيطان للشهوة يحكم ويعربد..) ويمضي العرض
التوثيقي فيبرز لنا (مدن الرذيلة) الشرق آسيوية، فلقد كانت بانكوك مدينة صغيرة
غارقة في أحلام وهموم أبنائها، حتى أتى الدولار الأخضر تحركه آلة بشرية
متوحشة، تبحث عن اللذة، وتدمر القيم، وفي سنوات قصيرة انقلبت بانكوك إلى
أكبر ماخور آسيوي وأخطر بيت للدبابير الوبائية في العالم.. وبالطبع كانت هناك
مدن أخرى كمانيلا وسنغافورة..
ربما تتساءلون ما علاقة الصومال بذلك؟ وأجيب: العلاقة ظاهرة لمن
يتذكر حادث الاعتداء على الفتاة الصومالية التي كانت) لا ترفِّه عن الفرقة الفرنسية
في مقديشو، والتي أفلتت من الموت بعد تدخل أهل (النخوة) من الجنود
الأمريكان لإنقاذها! .. وخوفي على الصومال زاد حين طُرحت المشكلة مرة
أخرى على نمط ما يحصل في الفلبين - حيث ينسحب الجنود الأمريكان من
قواعدهم العسكرية بعد عقود من التواجد الدائم - تفجرت مشكلة مشابهة حيث هناك
الآلاف من أطفال اللذة المحرمة الذين يرفض آباؤهم الاعتراف بهم ويتركونهم
يواجهون خطر الجوع والانحراف حيث أصبحوا مادة رائجة لتجار الانحراف في
العاصمة الفلبينية، لقد تعقدت المشكلة وتفاقمت لكن الذي بقي في ذهني من النقاش
حولها كلمة قالها (وحش بشري) من المارينز وهو متجهِّم: (يكفيهم شرف وجود
الدم الأمريكي بين أطفالهم..) ! .
هكذا ... هكذا.. والآن.. ماذا عن الفاتحين الغازين من جنود أمريكا في
الصومال؟ ؟ (إنهم يتجهون إلى هنالك لأداء مهمة لا يعرفون لها هدفاً ولا ...
يتحمسون لنتائجها..) هكذا يقول (أرنست دلسوك) المعلق الأمريكي ويضيف: (مأساة الجندي الأمريكي أنه ينفذ الأوامر دون أن يحمل قضية بل ربما حمل ...
تناقضات مجتمعه إلى البلد المغزوّ..) .
ماذا وجد هؤلاء في الصومال المسلم؟ :
بعض الشهادات من الجنود والمعلقين الأمريكيين تقول إنهم وجدوا:
(أناساً فقراء، لكنهم أعزة) .
(الشرف والعِرض أغلى ما يملكه الصومالي ولو كان لصا..)
(مقديشو أكثر أمناً من شوارع واشنطن، في واشنطن هناك أباطرة
المخدرات وزعماؤها، وهنا أباطرة الحرب والسلب، والفريق الثاني أقل خطراً من
الأول..) .
أحداث لوس أنجلوس والصراع العرقي الصاعد في المدن الأمريكية أثَّر بدوره
على التعايش، وفتح أعين العديد من الجنود السود على عالم يخلو من التفرقة،
ويعيش رغم مأساته في ألفة، وبعيداً عن العنصرية التي تعشعش داخل المؤسسة
العسكرية الأمريكية، كما تقول مجلة (نيوز ويك) [1] .
(نظر أحد الجنود البِيض إلى زميله في اللون (والعقلية) وقال: (سأطلق
النار على أول أسود ابن (..) أشاهده) .
ما الذي يجمع بين فيتنام والفلبين والصومال وبين جندي المارينز الأمريكي ... (الغازي) غير خيط رفيع يتمثل في عنصرية وبشاعة الرجل الأبيض الذي يثير هذه
العنصرية الفجة، خيط واضح كل الوضوح يجعله مسار السخط أينما حل وأينما
ارتحل حيث يعامل الآخرين من بني البشر بتعالٍ كريه ويتفضل عليهم حينما يلقي
بفضلاته على عرضهم وأرضهم التي يستبيحها.
الصومال فيه عرق إيمان سيظل نابضاً بحول الله. وهو حينما يرفض أن
يتحول إلى (لعبة سهام) أو (ساحة قنص بشري) أو (كباريه أمريكي) فإن أول تهمة ستُوجَّه له أنه: أصولي متطرف! !
خوفي على الصومال لا تطفئه إلا ثقتي باندحار كل حضارة تقدس القوة
وتحترف الرذيلة وتهلك الحرث والنسل، وهذا الاطمئنان يتأكد كلما ذكّرت البشرية
بنماذج الفاتحين الذين أحالوا الحرب إلى نموذج أخلاقي رفيع وفن في تبليغ دعوة
ورسالة.. هنا فقط تأتي المفارقة ساطعة كشمس الصومال المنيرة حينما تنتمي
الضحية إلى حضارة - وإن كانت مطمورة - بينما لا يحارب اليانكي (في قمة
صعود حضارته المادية الصماء) إلا بعضلاته وهي التي تسوقه إلى حتفه يوماً ما
سنراه قريباً.
__________
(1) 3/1/1993.(63/102)
مقال
التطرف الديني:
عبارة يُراد منها الإساءة إلى عقيدتنا
سليم عبد الرحمن الزغل
(التطرف الديني) المزعوم، هذا الاصطلاح الوافد إلينا من كل الجهات
يصبح اليوم الأب الروحي لغيره من الاصطلاحات التي لا زالت تدوِّي وتجلجل
وتقرع الأسماع وتصمّ الآذان (كالتشدد والتعصب والانغلاق والأصولية ...
والإرهاب..) ، في أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ومن الجدير بالذكر أن ... اصطلاحاً كهذا ينصرف على الفور إلى الإسلام والمسلمين لمجرد سماعه من غير بذل أي جهد في التحليل والتمحيص؛ ذلك لأن الإشاعة التي برمجها أعداء هذا الدين في أروقة الاستخبارات التابعة للاستعمار - الكافر في الشرق والغرب - مدعومة بالجهود اليهودية والنصرانية - جعلت من هذا الاصطلاح تعبيراً بديلاً عن النشاط الإسلامي في أية بقعة من بقاع الدنيا.
يجب أن نستبعد استعمال اصطلاح (التطرف الديني) من إعلامنا وكتاباتنا
ونشراتنا؛ لأن هذا الاصطلاح لا يدل على موجود فضلاً عن أنه لا علاقة لنا به،
وهو عندما أُطلق للمرة الأولى أُطلق على غيرنا؛ فالله - جل ذكره - يقول عنا
نحن المسلمين: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] ، إننا نقف وسط الخط من غير إفراط ولا
تفريط، وعندما يطلق العالم الكافر هذا الاصطلاح علينا فإنه لا يطلقه على فرد في
المجتمع وإنما يرمي به جماعات ومجتمعات وحركات عريضة، وعلماء أجلاء
وقادة أفاضل، ورموزاً طاهرة قادت الأمة إلى الجهاد في الليل الحالك لترفع سيف
الاستعمار الآثم والصهيونية المجرمة والشيوعية المقبورة عن رقاب الأطفال
ولتصون أعراض المسلمات في كل بقاع الدنيا من عدوان الصهاينة والشيوعيين.
لقد أصبحنا في العالم الإسلامي المنكود نردد ما يقوله الغرب والشرق عنا من
التطرف والغلو والتشدد، ونستخدم مثل هذه المصطلحات ضد إخواننا وأبنائنا ممن
ساروا مع قافلة الصحوة، وتشبثوا بأهداب هذا الدين الحنيف، وما ذلك إلا تنفيذاً
لكل ما لقنته لنا الهيئات الاستعمارية حول كون تلك الحركات والجماعات
والمنظمات متطرفة متعصبة أصولية إرهابية، فسِرْنا وراءهم بحماس يفوق ...
حماسهم، سرنا وراءهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، ولو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم، كما قال رسول هذه الأمة (عليه الصلاة والسلام) ..
قوافل الشباب المسلم والذين ألقي بهم في سجون الطغاة، وقُطِّعوا إرباً ارباً
وذاقوا من صنوف العذاب ما لا تتوهمه الأوهام، ودفن المئات منهم وهم أحياء،
وأعدم الكثير على أعواد المشانق، وفعلت ببعضهم الفاحشة، وقضى آلاف منهم
عشرات الأعوام في الأقبية والزنازين والسراديب المظلمة.. خرجوا بعدها إلى
الحياة لكي يجدوا أن الأبناء تشردوا، وأن الأسر قد تبعثرت بعد أن عبثت بها
الأيدي الآثمة، وحِيل بينهم وبين لقمة العيش الكريمة.. كل تلك الكؤوس المترعة
تجرَّعوها حتى الثمالة لا لذنب اقترفوه وإنما لأنهم قالوا: [رَبُّنَا اللَّهُ] [الحج:
40] ، وتنفيذاً لرغبات الأسياد في الشرق والغرب حصل ما حصل.
إننا نتساءل وبكل لغات العالم: مَن هو المتطرف.. الضحية أم الجلاد؟ ؟ !
ولماذا قامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا لأن بعض التلميذات العربيات ارتدين
اللباس الإسلامي؟ ؟ وبدأ الإعلام الآثم يمارس سياسة التحريض ضد الإسلام
والمسلمين ويصورهم على أنهم وحوش هذا العالم وصار الخطاب عن التطرف
الإسلامي والإرهاب الديني، أين هو التطرف؟ ؟ إننا لم نشاهد هذا الزخم
الإعلامي ولم نرقب مثل هذه التحذيرات المرعبة، ولا طرقت أسماعنا بالأحاديث
المفزعة عن الإرهاب والتطرف والهمجية -وسكاكين الصرب لا زالت تخوض في
بحور الدماء في البوسنة والهرسك، إدارات المدارس والوزارات والحكومات
والهيئات الشعبية هناك، كلها وقفت تنادي بطرد العرب والمسلمين، واليهود
والنصارى دقوا الطبول لأن اللحن أعجبهم، الكل صار يهتف بنغْمة متناسقة تنادي
بوقف التطرف الديني، مَن هو المتطرف - بالله عليكم - التلميذات العربيات أم
الحاقدون عليهن من أعداء الإسلام؟ !
الصليبيون عندما احتلوا مدينة القدس ذبحوا كل أهلها عن بكرة أبيهم حتى
خاضت الخيل في بحور الدماء إلى بطونها، وعندما دخلها (صلاح الدين الأيوبي)
وحررها من النصارى وأهل الصليب أعطى أهلها الأمان وعاملهم معاملة الرجال
الكرماء. إنها وسطية الإسلام وتطرف الآخرين! !
الشعب الجزائري المسلم اختار الإسلام منهاجاً للحياة بالطريقة الديمقراطية
التي يتغنى بها الغرب، ولكن العلمانيين صادروا إرادة الشعب بقوة السلاح،
وفتحوا السجون ونصبوا المشانق. وإننا نتساءل: مَن هو المتطرف؟ ؟ !
يُحتقر الإنسان الأسود في أمريكا وتصل المعاملة في بعض الأحيان إلى حد
القتل لا لذنب سوى أن لونه أسود، ذلك هو التطرف، وتلك هي الجريمة
والإرهاب والهمجية في عالم يدعي الحضارة واحترام الإنسان! أما أولئك: الذين
يحاولون جاهدين السير بقانون الله في الناس فليسوا متطرفين، وإنما هم بررة
فضلاء أطهار زكاهم ربهم وأنِس إليهم الناس رغم الجهود المبذولة لعكس
الاصطلاحات وتجريم الأبرياء وتبرئة المجرمين!
إن هتلر - لسان حال ألمانيا النازية كان يقول وبصراحة -: (الشعوب
الشرقية يجب أن لا تعيش، وإذا قُدّر لها أن تعيش فيجب أن تُدرَّب كما تدرب
الكلاب الصغار) ! !
إنه التطرف.. وإنها العنصرية والحيوانية.. والهمجية والبهيمية، إنها
صفاتهم وأما نحن المسلمون فلا نقول إلا كما قال ربنا: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [الحجرات: 13] ، إنه اعتدال المسلمين ووسطية الإسلام.
اليهود في فلسطين، والصرب في البلقان، والبوذيون في بورما، والهندوس
في الهند وكشمير، والأرمن في قره باغ، والشيوعيون في جمهوريات آسيا
الوسطى خصوصاً في تركمانستان وطاجيكستان، كل هذه الملل وغيرها تمارس
القتل والذبح والاغتصاب والتصفية العرقية، وكل ما هو محرم إنسانياً وحيوانياً،
يمارسون ذلك ضد المسلمين في طول الأرض وعرضها لا لشيء سوى أنهم
مسلمون - تحت مظلة الحماية التي توفرها لهم الأمم المتحدة - (الأمم المتحدة ضد
كل مما يمتّ إلى الإسلام بصلة) - ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس
الأمن، والتي تشكل عصابة تروج للانحراف والجريمة، والتخطيط الآثم للاعتداء
على المسلمين وإذلالهم، وهتك أعراضهم والزج بهم في أتون الفضيحة الكبرى،
فقط لأنهم مسلمون! !
إذن مَن هم المتطرفرن دينياً؟ ؟ ولماذا يسكت العالم وسدنة النظام العالمي
الجديد؟ .
إن سكوت العالم يعتبر من أنواع التطرف الديني الخطر بل يعتبر تطرفاً
سافراً وعنصرية منحطة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً قط، عندما يُطلب من المسلمين
الانصياع - وبالعصا - لمقررات صِيغت بأقلام المستعمرين، وذُيلت بختم الأمم
المتحدة يُكافَأ اليهود والنصارى والهندوس والشيوعيون على قفزهم فوق مقررات
المنظمة الدولية! !
أما العلمانيون من بني جِلدتنا فإنهم لا يرون شيئاً في الإسلام يمكن أن يطلق
عليه اعتدالاً، فالإسلام والتطرف لديهم مترادفان أبداً، ونقول لهم ولأمثالهم:
كل ما عدا الإسلام هو تطرف وشطط ومروق من الفطرة، وأما أن يعمد
بعض أفراد المسلمين إلى المغالاة في تفسير بعض أحكام الدين فذلك ليس تطرفاً
بالمعنى الصحيح وإنما هو قصور في الفهم، فقصور الفهم لدى المسلم كالعالِم إذا
كان عاجزاً، كلاهما قد يسيء إلى هذا الدين من حيث يدري أو لا يدري، ورحم
الله الشهيد عبد القادر عودة عندما كتب: (ضاع الإسلام بين جهل أبنائه وعجز
علمائه) .
[وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] [الأحزاب: 4] .(63/106)
من أنشطة المنتدى الإسلامي
«اللجان الخارجية»
بعون الله قامت اللجان الخارجية في المنتدى الإسلامي ببرنامج (تفطير صائم) وذلك في رمضان 1413هـ كجزء من أنشطته الإسلامية المصروفة، وبلغ ...
إجمالي المبالغ المصروفة على هذا البرنامج 438.005 ألف دولار أمريكي أي ما ...
يعادل 1.642.519مليون ريال سعودي وكان إجمالي عدد الوجبات 836.993 ...
وجبة طوال شهر رمضان، وصاحَب هذا البرنامج محاضرات إسلامية ودروس
يومية حول الصيام والصلاة والزكاة وكذلك دورس في التفسير والعقيدة والسيرة
فضلاً عن توجيهات تربوية عامة ومواعظ كان لها أكبر الأثر في نفوس الناس.
ونرفق جدولاً تفصيلياً لهذا البرنامج، والذي ما كان أن يتم إلا بتوفيق من الله - عز
وجل - ثم بدعم من المسلمين في البلدان الإسلامية كافة والذين ما فتئوا يتبرعون
لأنشطة المنتدى الإسلامي الخيرية.
جعلها الله في ميزان حسناتهم يوم القيامة.
-------------------
الدولة: كينيا (اللاجئون الصوماليين)
المبلغ الإجمالي: 160.000 $
عدد الوجبات: 300.000
تكلفة الوجبة: 0.53 $
أماكن تقديم الوجبات: 15مسجد، 5 مدارس، 5خلايا تحفيظ قرآن، 17
مركز إغاثي.
-------------------
الدولة: باكستان (أ-المهاجرين الأفغان - ب-البنجاب وحولها)
المبلغ الإجمالي: 17,650$ ... ... - 51.500$
عدد الوجبات: ... 29. 460 ... ... - 161. 640
تكلفة الوجبة: ... 0.59$ ... ... ... - 0.31 $
أماكن تقديم الوجبات: 126 مسجد ومدرستين.
-------------------
الدولة: السنغال
المبلغ الإجمالي: 31.675$
عدد الوجبات: 17.500
تكلفة الوجبة: 1.81$
أماكن تقديم الوجبات: 12 مسجد، عدد من مراكز ومدارس تحفيظ القرآن
وبعض السجون والجمعيات الإسلامية
-------------------
الدولة: بنغلاديش (أ-البنغلاديشيين - ب-اللاجئين البورميين)
المبلغ الإجمالي: 9.660$ ... ... -28.750$
عدد الوجبات: 21.000 ... -61.500
تكلفة الوجبة: 0.46$
أماكن تقديم الوجبات: 4 مساجد، عدد من المراكز والمدارس، أكبر مخيمين
للاجئين البورميين.
-------------------
الدولة: غانا
المبلغ الإجمالي: 24.700$
عدد الوجبات: 94.000
تكلفة الوجبة: 0.26$
أماكن تقديم الوجبات: 19 مسجد، ومركزين إسلاميين و8 مدارس ومعاهد.
-------------------
الدولة: جيبوتي
المبلغ الإجمالي: 6.600
عدد الوجبات: 7.333
تكلفة الوجبة: 0.9$
أماكن تقديم الوجبات: 3 مساجد
-------------------
الدولة: نيجيريا
المبلغ الإجمالي: 16.00$
عدد الوجبات: 20.000
تكلفة الوجبة: 0.8$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد في مختلف الولايات بلغ عددها
23 ولاية.
-------------------
الدولة: أثيوبيا
المبلغ الإجمالي: 13.350$
عدد الوجبات: 16.600
تكلفة الوجبة: 0.8$
أماكن تقديم الوجبات: 20 مسجد، 10 مدارس تحفيظ القرآن الكريم.
-------------------
الدولة: أفغانستان
المبلغ الإجمالي: 12.320$
عدد الوجبات: 18.480
تكلفة الوجبة: 0.66$
أماكن تقديم الوجبات: -
-------------------
الدولة: أندونيسيا
المبلغ الإجمالي: 10.660$
عدد الوجبات: 21.320
تكلفة الوجبة: 0.5$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد في 24 مدينة.
-------------------
الدولة: الفلبيين
المبلغ الإجمالي: 10.600$
عدد الوجبات: 13.250
تكلفة الوجبة: 0.8$
أماكن تقديم الوجبات: 4مساجد، 16 مركزاً إسلامياً، و6 مدارس.
-------------------
الدولة: السودان
المبلغ الإجمالي: 10.600$
عدد الوجبات: 12.800
تكلفة الوجبة: 0.82$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد في 24 مدينة
-------------------
الدولة: أرتيريا
المبلغ الإجمالي: 8.000$
عدد الوجبات: 4.500
تكلفة الوجبة: 1.77$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد، و6مراكز في المعاهد وغيرها.
-------------------
الدولة: الصومال
المبلغ الإجمالي: 6.640$
عدد الوجبات: 12.450
تكلفة الوجبة: 0.53$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد، 8 مراكز في مدن مختلفة داخل
الصومال.
-------------------
الدولة: مالي
المبلغ الإجمالي: 6.000$
عدد الوجبات: 5.660
تكلفة الوجبة: 1.06$
أماكن تقديم الوجبات: في 5 مساجد.
-------------------
الدولة: أوغندا
المبلغ الإجمالي: 6.000$
عدد الوجبات: 7.500
تكلفة الوجبة: 0.8$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد.
-------------------
الدولة: تشاد
المبلغ الإجمالي: 3.700$
عدد الوجبات: 6.000
تكلفة الوجبة: 0.61$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد.
-------------------
الدولة: كشمير
المبلغ الإجمالي: 3.600$
عدد الوجبات: 6.000
تكلفة الوجبة: 0.6$
أماكن تقديم الوجبات: مجموعة من المساجد.(63/111)
الصفحة الأخيرة
يا رعى الله زمان الشجب
محمد بن حامد الأحمري
في زمن مضى غير بعيد كانت الإذاعات تشجب العدوان الصهيوني، وتهدد
وتتوعد لإزالة هذه الشرذمة المحتلة، وكانت الشعوب تسخر من لغة الشجب
والشكوى، ثم تتابعت النقائض، وتدهورت المواقف، وتراجع الشاجبون وحرموا
الشجب والاستنكار، بل وحرموا تلك الكلمات التي كانوا يقولونها هم؛ حتى لم يعد
يتجرأ أحد على التفوه في أية لحظة بتلك الكلمات التي كان يقولها القائلون فخراً
ونشوة. وترحمنا على الزمن الذي كنا نسميه (زمن الشجب والهزيمة) . حينما كان
يُسمح لنا فيه أن نقول: إنهم أخذوا أرضنا واستباحوا أعراضنا ودماءنا، والقرار
اليوم يقضي أن نعترف بأن لا نهاية لمطالب عدونا، وأن المنهزم لا يرده شيء
وسيقبل بكل ما يُملى عليه.
هل يمكن أن لا يكون لنا عدو؟ ! وهل تحيا الشعوب بدون أعداء؟
حتى بمنطق الذين لا يعترفون بنصوص القرآن والسنة الصريحة في عداوة
الكافرين وشدة عداء اليهود لنا فإن سنة الله في البشر وجو التدافع والصراع - وهي
حقيقة ثابتة ثبوت الليل والنهار - تكشف أن هذه الدعاية ومعنى هذا التوجه - الذي
يقول: إن اليهود والنصارى يحبوننا، ويعطفون علينا أكثر من إخواننا ليس معناه
أن نوقف المواجهة على جبهتهم، ولا أن يتجه السلاح إلى الداخل، إلى القمع
والاضطرابات، واختلاق المشكلات والقلاقل - وليس معناه أن تتحول حروب
الموساد والـ (سي. آي. إيه) إلى قلاعنا، ولا أن يجند عدونا منا عدواً للآخر،
ويتضح ذلك جيداً لمن تابع قضية المشكلة الأخلاقية في مصر مع (لوسي) وما تلاه
أحد نواب البرلمان من أن الموساد وقوى أخرى كانت وراء فتح جبهات داخلية
وإثارة الشعب للانتقام، وهذه نعمة يرفل في ظلالها الإسرائيليون ومن هم خلفهم؛
إذ ليس أحب إليهم من استمرار الرعب والقلاقل في بلادنا.
حقاً، إنها مسكينة هذه الشعوب التي يحدد أعداءها وأصدقاءها أناسٌ بالاتفاق
مع امرأة ذات علاقات مشبوهة. وكم من (لوسي) في بلدان أخرى! وكم من
كوهين وكوبلاند من الذين يصنعون القلق والانهيار والخوف واضطراب الأمن! ! .
أما آن للغافلين أن يعرفرا عدوهم من صديقهم؟ أما آن لهم أن يتركوا فرصة
للشعوب كي تئن من الألم؟ أما آن لهؤلاء أن يأذنوا لشعوبهم أن تعي وأن تقرأ وأن
تفهم حتى تكون مواقف الجميع سليمة؟ وأن تشارك الأمة في تحديد عدوها من
صديقها ولا تتراجع كل يوم الى الخلف حتى تصبح في حال لا تملك فيه مخالفة أي
قرار صهيوني في داخل بلدانها! !
أبعد الله ذلك اليوم.(63/112)
ذو الحجة - 1413هـ
يونيو - 1993م
(السنة: 7)(64/)
كلمة صغيرة
تتعرض شعوب العالم الإسلامي لأحداث كبيرة جداً، وعلى كل المستويات من
(التطهير الديني) في البوسنة والهند إلى الحملة على (الأصولية) والتي هي حملة على
الإسلام. وقد أعددنا في العدد الماضي ملفاً عن مسلمي الهند وانتقلنا في هذا العدد
للحديث عن الأدب واللغة العربية حيت المعركة دائرة بين من يريد التدمير باسم الأدب
وبين من يراعون حق الكلمة أن لا تكون مصدراً للتخريب.
بعض قراء (البيان) لا يلتفتون إلى هذا الجزء من الصراع الذي يريده الأعداء
ونرجو أن يكون (الملف الأدبي) بداية اهتمام وتقدير.
المحرر(64/1)
الافتتاحية
التوحيد والتوحُّد
رئيس التحرير
لماذا يتحلّق أهل الباطل حول باطلهم، ويتعصبون له، ويؤلفون في سبيله
الأحزاب، ويقيمون له الدعايات ويجمعون الأموال لتنفق من أجله؟
ولماذا يتبع كثير من الناس رؤوس البدع والانحراف، ويستميتون في الذب
عنهم، وتجميع الأنصار حولهم؟
إننا نجد هذا لدى كثير من الفرق التي انحرفت، أو خرجت عن سنن الإسلام، ونظرة فاحصة إلى أعياد المبتدعة التي يجتمعون عليها، أو مؤسساتهم المنظمة
الكبرى، أو محاولاتهم المتكررة للتغلغل بين صفوف أهل السنة، هي خير دليل
على أحوالهم، وصحة ما يقال عن اجتماعاتهم على الباطل.
لماذا لا نجد مثل هذا التجمع ومثل هذا التكتل والالتفاف حول العلماء والدعاة
من أهل السنة والجماعة؟ ولماذا لا نجد هذا الحرص البالغ على نشر الإسلام الحق، والتبشير به؟
سؤال طالما حير أولي الألباب، وفكر فيه المخلصون، وتعجبوا وتساءلوا
قائلين: أيقام للبدع سوق وترفع لها رايات، وأهل السنة عن هذا غافلون؟
الغريب الغريب هو أن أهل السنة ليس لهم قضية، ولا قيادة، والأغرب من
ذلك أن خاصة أهل السنة الذين ينادون بمنهج الاتباع، ويحاربون الابتداع،
متفرقون لا تجمعهم وحدة، ولا يعصمهم عن التشرذم تفكير في مصلحة الإسلام
ومآل أمر المسلمين..
إن معالجة هذه الأزمة المستعصية بحاجة إلى بيان وبسط لا تحتمله هذه
الصفحات، ولكننا نحاول الإلمام بطرف فنقول:
إن أهل البدع والخرافات يجتمعون على بدعهم ورؤسائهم لانعدام تحملهم
وتفكيرهم، وهم الذين تأتي بهم الكلمة والإشارة، ويغويهم دجال من الدجاجلة،
ويغريهم بالترخص واتباع الأهواء والشهوات، والإنسان العاميّ يميل بطبعه إلى
المحسوسات والأمور المادية؛ فعندما تقام له النصب، وتعقد معه الاجتماعات
الباهرة، وعندما تدغدع عواطفه بمآس تاريخية؛ لا يلبث أن ينقاد إليها لأنه ليس
صاحب علم ينفع أو عقل يردع.
وأما أهل السنة فهم أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام بالتوحيد الخالص، وأعظم
أغراضه محو الشرك، وعبادة الله وحده، وليس عبادة الأشخاص أو الأشياء، فلقد
جاء الإسلام لإنقاذ الناس من اتباع الشعوذة والخرافة، ودعا إلى التربية الاستقلالية
لشخصية الإنسان، وأرشد إلى طريق الصواب أولئك الذين يتبعون أهواءهم، أو
يقتفون آثار الآباء عن جهل وتقليد أعمى، أو يلقون القول بلا علم أو برهان.
وكانت الآيات القرآنية تعلّم المسلم النهج الصحيح، وتوقفه على اضطراب عقائد
المشركين وتناقضهم. وهذا المنهج يرفع المسلمين إلى مستوى العلم النافع الصحيح، الذي يؤدي بدوره إلى اجتماعهم ووحدتهم، قال الله تعالى داعياً المسلمين إلى
التفكير في أمر العبادات التي لا تعود على المعبود بنفع أو ضر: [ومَا خَلَقْتُ
الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ]
[الذاريات 57] ، وقال عن المشركين: [والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ
شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ] [النحل20- 21] ، [أَفَمَن يَهْدِي إلَى
الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إلاَّ أَن يُهْدَى] [يونس 35] ، [إنَّ الَذِينَ تَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ... ]
[الأعراف 194] .
كل هذا يدل على أن أهل السنة لا يجتمعون إلا إذا كانوا على مستوى الإسلام، من الفطرة السليمة والتحقق بالتوحيد الخالص، والعقل الراجح، والأفق الواسع
ومعرفة سنن الله في الخلق كما يروى عن الشعبي -رحمه الله-: «إنما كان يطلب
هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل والنسك، فإن كان عاقلاً ولم يكن ناسكاً
قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك وإن كان ناسكاً ولم يكن عاقلاً قال: هذا أمر لا
يناله إلا العقلاء فلن أطلبه» [1] .
إن أصحاب التربية الاستقلالية هم الذين لا تضيق صدورهم بالرأي الاجتهادي
ولا يتعصبون لشخص أو لجماعة، وينظرون دائماً إلى المستقبل والمآل، ويضعون
المصلحة العامة فوق مصالحهم وفوق أنانياتهم. والفرد الذي يربى على الفهم
الصحيح للنصوص لا يكون من دعاة التفرق لأنه سوف يفكر في مصلحة الإسلام،
أما الذي ربُّي تربية ضيقة فهو لا يرى الدنيا إلا من خلال شيخه أو جماعته أو
حزبه.
إن أصحاب السياسات الدنيوية يؤلفون أحزاباً ويجمعون لها الجموع وربما
ينجحون، وإن أصحاب البدع وأتباع الخرافات يؤلفون تجمعات؛ وقد ينجحون،
وما ذلك إلا لأنهم اجتمعوا على شيء محدد في أذهانهم، وأما أهل السنة فإذا لم
يكونوا على مستوى الإسلام فقد تفوتهم أسباب الوحدة والقوة.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 4/307.(64/4)
مقدمة في التفسير الموضوعي
محمد بن عبد العزيز الخضيري
إن أجلَّ علم صرفت فيه الهمم، علم الكتاب المنزل، إذ هو كلام الله الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فيه الهدى والشفاء،
والرحمة والبيان، والموعظة الحسنة والتبيان، فلو أنفقت فيه الأعمار ما أدركت
كل غوره، ولو بذلت الجهود كلها ما أنضبت من معينه شيئاً يذكر، ومن هنا
اجتمعت كلمة علماء الأمة على العناية بتفسيره، وبيانه ودراسته، واستدرار كنوزه، والنهل من معينه العذب النمير، ولأجل انكبابهم على دراسته، تنوعت طرائقهم
في عرض علومه، واختلفت مشاريعهم في إيضاح مكنوناته، وكان القدح المعلى
لعلم التفسير من ذلك كله، ولهم في تناول هذا العلم والكتابة فيه أربعة أساليب:
أولاً: التفسير التحليلي:
يتولى فيه المفسرون بيان معنى الألفاظ في الآية، وبلاغة التركيب والنظم،
وأسباب النزول، واختلاف المفسرين في الآية، ويذكر حكم الآية وأحكامها، وقد
يزيد بتفصيل أقوال العلماء في مسألة فقهية أو نحوية أو بلاغية، ويهتم بذكر
الروابط بين الآيات والمناسبات بين السور ونحو ذلك. وهذا اللون من التفسير هو
أسبق أنواع التفسير وعليه تعتمد بقيتها، ويتفاوت فيه المفسرون إطناباً وإيجازاً،
ويتباينون فيه من حيث المنهج، فمنهم من يهتم بالفقهيات، ومنهم من يهتم
بالبلاغيات، ومنهم من يطنب في القصص وأخبار التاريخ، ومنهم من يستطرد في
سرد أقوال السلف، ومنهم من يعتني بالآيات الكونية أو الصور الفنية أو المقاطع
الوعظية أو بيان الأدلة العقدية. وبذلك يكون هذا اللون من التفسير هو الغالب على
تواليف العلماء وأكثر كتب التفسير على هذا النمط.
ثانياً: التفسير الإجمالي:
وهو بيان الآيات القرآنية بالتعرض لمعانيها إجمالاً مع بيان غريب الألفاظ
والربط بين المعاني في الآيات متوخياً في عرضها وضعها في إطار من العبارات
التي يصوغها من لفظه ليسهل فهمها وتتضح مقاصدها، وقد يضيف ما تدعو
الضرورة إليه من سبب نزول أو قصة أو حديث ونحو ذلك.
وهذا اللون أشبه ما يكون بالترجمة المعنوية للقرآن الكريم، وهو الذي
يستخدمه من يتحدث بالإذاعة والتلفاز لصلاحيته لعامة الناس ومن أمثلته (تفسير
الشيخ عبد الرحمن السعدي) .
ثالثاً: التفسير المقارن:
وهو بيان الآيات القرآنية باستعراض ما كتبه المفسرون في الآية أو مجموعة
الآيات المترابطة، والموازنة بين آرائهم، وعرض استدلالاتهم، والكرّ على القول
المرجوح بالنقض وبيان وجهه، وتوجيه أدلته، وبيان الراجح وحشد الأدلة وغير
ذلك.
رابعاً: التفسير الموضوعي:
وهذا اللون من التفسير هو مجال بحثنا، ومدار حديثنا، ولأجله كتبت هذه
الخلاصة:
أولاً: تعريفه:
يتألف مصطلح (التفسير الموضوعي) من جزأين ركبا تركيباً وصفياً فنعرف
الجزأين ابتداء ثم نعرف المصطلح المركب منهما.
فالتفسير لغةً: من الفسر وهو كشف البيان، قال الراغب: (هو إظهار
المعنى المعقول) .
واصطلاحاً: الكشف عن معاني القرآن الكريم..
والموضوع لغةً: من الوضع؛ وهو جعل الشيء في مكان ما، سواء أكان
ذلك بمعنى الحط والخفض، أو بمعنى الإلقاء والتثبيت في المكان، تقول العرب:
ناقة واضعة: إذا رعت الحمض حول الماء ولم تبرح، وهذا المعنى ملحوظ في
التفسير الموضوعي، لأن المفسر يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى
يفرغ من تفسير الموضوع الذي أراده.
أما تعريف (التفسير الموضوعي) علماً على فن معين، فقد عرِّف عدة
تعريفات نختار منها ما نظنه أجمعها وأخصرها وهو: علم يتناول القضايا حسب
المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر..
ثانياً: نشأة التفسير الموضوعي:
لم يظهر هذا المصطلح عَلَمَاً على علم معين إلا في القرن الرابع عشر
الهجري، عندما قُرِّرت هذه المادة ضمن مواد قسم التفسير بكلية أصول الدين
بالجامع الأزهر، إلا أن لبنات هذا اللون من التفسير كانت موجودة منذ عهد النبوة
وما بعده، ويمكن إجمال مظاهر وجود هذا التفسير في الأمور التالية:
1- تفسير القرآن بالقرآن: لا ريب أن تفسير القرآن بالقرآن هو لب التفسير
الموضوعي وأعلى ثمراته. وجميع الآيات التي تناولت قضية واحدة والجمع بين
دلالاتها والتنسيق بينها كان أبرز ألوان التفسير التي كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يربي أصحابه عليها، فقد روى البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فسر مفاتح الغيب في قوله تعالى: [وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ]
[الأنعام 59] ، فقال: مفاتح الغيب خمسة: [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ
الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [لقمان 34] .
ومن هذا القبيل ما كان يلجأ إليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الجمع
بين الآيات القرآنية التي يُظنُّ بينها تعارضٌ. وقد وضع العلماء بعده قاعدة في
أصول التفسير تقتضي بأن أول ما يرجع إليه المفسر القرآن الكريم، إذ ما أجمل
في مكان قد فصل في آخر، وما أطلق في آية إلا قد قيد في أخرى، وما ورد عاماً
في سورة، جاء ما يخصصه في سورة أخرى، وهذا اللون من التفسير هو أعلى
مراتب التفسير وأصدقها إذ لا أحد أعلم بكلام الله من الله.
2- آيات الأحكام: قام الفقهاء بجمع آيات كل باب من أبواب الفقه على حدة، وأخذوا في دراستها واستنباط الأحكام منها، والجمع بين ما يظهر التعارض،
وذكروا ما نص عليه وما استنبط من القرآن بطريق الإشارة والدلالة الخفية، ونحو
ذلك، وكله داخل تحت مسمى التفسير الموضوعي.
3- الأشباه والنظائر: وهو اتجاه نحاه بعض العلماء في تتبع اللفظة القرآنية، ومحاولة معرفة دلالاتها المختلفة، مثال ذلك: كلمة (خير) وردت في القرآن على
ثمانية أوجه حسبما ذكره الدامغاني في كتابه (إصلاح الوجوه والنظائر) ، وهي:
المال: كقوله [إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْراً] [البقرة 180] ، والإيمان
كقوله: [ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ] [الأنفال 23] ، والإسلام كقوله:
[مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ] [القلم 2] ، وبمعنى أفضل كقوله: [وأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ]
[المؤمنون 109] ، والعافية كقوله: [وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ
وإن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [الأنعام 17] ، والأجر كقوله: [لَكُمْ
فِيهَا خَيْرٌ] [الحج 36] ، والطعام كقوله: [فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ] [القصص 24] ،، وبمعنى الظفر والغنيمة والطعن في القتال كقوله:
[ورَدَّ اللَّهُ الَذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً] [الأحزاب 25]
وهذا كما ترى لون من التفسير الموضوعي، وهو أول وسيلة يلجأ إليها
الباحثون في البحث عن موضوعات القرآن حيث يجمعون ألفاظ ذلك الموضوع من
سور القرآن ثم يتعرفون على دلالة اللفظ في أماكن وروده.
4- الدراسات في علوم القرآن: اهتم العلماء بموضوعات علوم القرآن
فأشبعوها، ومن بين هذه الموضوعات والدراسات، لون ينصبُّ على دراسة وجمع
الآيات التي لها رابطة واحدة، كآيات النسخ والقسم والمشكل والجدل والأمثال وغير
ذلك، ومؤلفاتهم في ذلك يعز على الباحث حصرها وهي أشهر من أن تذكر.
كل هذه الأمور والحقائق تدلنا على أن التفسير الموضوعي ليس بدعاً من
العلوم أفرزته عقول المتأخرين، وغفلت عن الاهتمام به أفهام الأولين. لكن بروزه
لوناً من التفسير له كيانه وطريقته لم يوجد إلا في العُصُر الأخيرة - تلبية لحاجات
أهلها - التى وجد فيها من المذاهب والأفكار كما وجد فيها من الآراء والموضوعات
ما اضطر علماء الشريعة إلى بحثها من وجهة النظر القرآنية ليقينهم بأنه الكتاب
الذي يحوي دراسة وعلاج كل موضوع يطرأ في حياة الناس، علمه من علمه،
وجهله من جهله، [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك 14] .
ومن ثم كثرت الدراسات القرآنية، وأصبحت المكتبة القرآنية تستقبل كل يوم
مواداً جديدة من عالم المطبوعات، ونظرة خاطفة إلى فهارس المكتبة تنبيك بكثرة ما
كتب في هذا المجال، وإن كان في الحقيقة قليلاً على مادة القرآن. ولشدة عناية
الكاتبين بهذا الفن من التفسير قام جمع من الباحثين بخدمة هذا اللون من التفسير
بوضع فهرسة للقرآن على حسب الموضوعات منها ما هو في عداد المخطوطات،
ومنها ما طبع ككتاب المستشرق (جون لابوم) والذي عنوانه (تفصيل آيات القرآن
الكريم) ، وقد ترجمه إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي وترجم المستدرك الذي
وضعه (إدوار مونتيه) وخرجا في كتاب واحد، وهو خطوة أولى في طريق طويل
لا بد وأن تجد مستدركاً ومعقباً كعادة ما يكتب أولاً.
ثالثاً: ألوان التفسير الموضوعي:
الأول: أن يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم، ثم يجمع الآيات
التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية. وبعد جمع الآيات والإحاطة
بتفسيرها يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها. وقد
أصبح كثير من الكلمات القرآنية مصطلحات قرآنية ك (الأمة، والجهاد، والذين في
قلوبهم مرض، والخلافة..) ، وهذا اللون كما ترى قد اهتمت به كتب الأشباه
والنظائر إلا أنها بقيت في دائرة الكلمة في موضوعها، ولكن يحاول مؤلفوها أن
يربطوا بينها في مختلف السور، مما أبقى تفسيرهم للكلمة في دائرة الدلالة اللفظية..
أما المعاصرون فقد تتبعوا الكلمة وحاولوا الربط بين دلالاتها في مختلف
المواطن، وأظهروا بذلك لوناً من البلاغة والإعجاز القرآني، وقد كان من نتائجها
استنباط دلالات قرآنية بالغة الدقة، لم يكن بمقدورهم العثور عليها لولا انتهاجهم هذا
السبيل، وممن اعتنى بهذا اللون من المعاصرين الدكتور أحمد حسن فرحات في
سلسلة سماها (بحث قرآني وضرب من التفسير الموضوعي) أصدر منها كتاب
(الذين في قلوبهم مرض) ، و (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ، و (الأمة في
دلالاتها العربية والقرآنية) وغيرها..
الثاني: تحديد موضوع ما، يلحظ الباحث تعرض القرآن المجيد له بأساليب
متنوعة في العرض والتحليل والمناقشة والتعليق، أو تطرأ مشكلة أو تطرح قضية
فيراد بحثها من وجهة نظر قرآنية وهنا نشير إلى عجيبة من عجائب القرآن الكريم
المعجزة، تدلنا على أن القرآن دستور حياة، ومنهج عمل، فيه الشمول والعموم
والكمال والبيان.
خلاصتها: أنه ليس بمستغرب أن يجد باحث اهتمام القرآن صريحاً بموضوع
معين فيرى جوانب معالجة الموضوع ودراسته في القرآن كافية وافية، ولكن
الغريب حقاً أن تقترح موضوعاً فتلج إلى عالم القرآن كأنما أنزل فيه فيدهشك أن
الموضوع قد استوفيت جوانب دراسته في القرآن كأنما أنزل القرآن من أجله.
وطريقة الكتابة في هذا اللون تتم باستخراج الآيات التي تناولت الموضوع،
وبعد جمعها والإحاطة بها تفسيراً وتأملاً يحاول الباحث استنباط عناصر الموضوع
من خلال ما بين يديه من آيات، ثم ينسق بين تلك العناصر بحيث يقسمها إلى
أبواب وفصول حسب حاجة الموضوع ويقدم لذلك بمقدمة حول أسلوب القرآن في
عرض أفكار الموضوع.
ويكون منطلق العرض والاستدلال والدراسة هو آيات القرآن الكريم لا غير،
مع ربط كل ذلك بواقع الناس ومشكلاتهم، وإن ذكر شيء من غير القرآن في
الموضوع فيذكر من باب الاعتضاد لا الاعتماد.
وعلى الباحث أن يتجنب خلال بحثه التعرض للأمور الجزئية في تفسير
الآيات، فلا يذكر القراءات، ووجوه الإعراب ونحو ذلك إلا بمقدار ما يخدم
الموضوع ويتصل به اتصالاً أساسياً مباشراً. والباحث في كل ذلك يهتم بأسلوب
العرض لتوضيح مرامي القرآن وأهدافه ومقاصده، ليتمكن القارئ من فهم
الموضوع وإدراك أسراره من خلال القرآن بجاذبية العرض الشائق وجودة السبك
والحبك ورصانة الأسلوب ودقة التعبيرات، وبيان الإشارات بأوضح العبارات.
وهذا اللون من التفسير الموضوعي هو المشهور في عرف أهل الاختصاص،
وحتى أن اسم (التفسير الموضوعي) لا يكاد ينصرف إلا إليه، والمتتبع لهذا يجده
جلياً، وسبب ذلك يتلخص في أمرين:
ا - غزارة الموضوعات التي طرقها القرآن وأشبعها دراسة وبحثاً.
2- تجدد الموضوعات والمشكلات التي تحتاج إلى بحث من وجهة نظر
قرآنية فالأولون صدروا من القرآن، والآخرون وردوا إلى القرآن. وكلاهما بحر ولا ساحل له، لا تكاد تنتهي موضوعاته أو تقف عند حد.
3- البحث عن موضوع من خلال سورة من القرآن بتحديد الهدف الأساسي
للسورة أو غيره من الأهداف ودراسته من خلال تلك السورة. وهذا اللون شبيه
بسابقه إلا أن دائرته أضيق.
وطريقة البحث فيه: أن يحدد الباحث الهدف أو الأهداف الأساسية للسورة ثم
يختاره أو يختار إحداها إن كانت ثمة أهداف متعددة ثم يحاول إبراز عناصر بحث
هذه السورة للموضوع وتقسيمها وتبويبها، ثم يدرس علاقة كل المقاطع بهذا الهدف
بدءاً بمقدمة السورة، وانتهاءً بخاتمتها، مع التعرف على أسباب نزولها، ومكان
نزولها، وترتيبها من بين سور القرآن ويبين علاقة كل ذلك بهدف السورة عنوان
البحث، وسيجد الباحث الصلة بينه وبين الرابطة جلية عند إحالة النظر وإمعان
الفكر، وسيعلم أن للسورة هدفاً واضحاً ترمي إلى إيضاحه وبيانه والاستدلال له وبه، وتفصيل جوانبه وأبعاده، وكل سورة من القرآن لها شخصية مستقلة تعلم عند
البحث فيها، بل ويمكن أن يكون للسورة أهداف متعددة بينها من الترابط
والتعاضد والتداخل شيء يصعب معه التفريق بينهما أو إفراد إحداهما بالبحث مع
إغفال البواقي.
وليعلم أنه ينبغي عند البحث في هذا اللون ألا ينطلق الباحث في دراسة
موضوع السورة من آيات لم ترد فيها، بل يكون منطلقه آيات ومباحث ومقاطع
السورة وأما غيرها فتذكر استئناساً لا تأسيساً، وتوكيداً لا تأصيلاً، واستشهاداً لا
استناداً.
وهذا اللون ظفر بعناية القدماء بل جاءت في ثنايا تفاسيرهم الإشارات إلى
بعض أهداف السورة ومحاولة الانطلاق منها لبيان تفسيرها، كالذي فعله البقاعي
في كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) . وأما في العصر الحديث فقد أولع
به سيد قطب في تفسيره (الظلال) حيث يقدم لكل سورة ببيان أهدافها الرئيسية أو
هدفها الوحيد، وينطلق في باقي تفسير السورة من خلال هذا المحور الذي تتحدث
السورة عنه، وقد أفردت بحوث كثيرة في هذا اللون من التفسير الموضوعي منها
سلسلة (من مواضيع سور القرآن) التي يكتبها الشيخ (عبد الحميد طهماز) وقد
صدر منها (العواصم من الفتن في سورة الكهف) .
رابعاً: أهمية التفسير الموضوعي:
ويمكن تلخيص أجدر جوانبها في الأمور التالية:
الأول: إبراز وجوه جديدة من إعجاز القرآن الكريم، فكلما جَدّت على الساحة
أفكار جديدة - من مُعطيات التقدم الفكري والحضاري - وجدها المفسر جلية في
آيات القرآن لا لبس فيها ولا غموض بعد تتبع مواطن ذكرها في القرآن، فيسجل
عندها سبق القرآن إليها، ويدلل بذلك على كونه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه، وأنه الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه ودلائل
إعجازه.
الثاني: التأكيد على أهمية تفسير القرآن بالقرآن، الذي هو أعلى وأجل أنواع
التفسير، إذ قد يوجد من لا يلجأ إلى القرآن عند إرادة إيضاحه وتفسيره لقصور فيه
أو تقصير منه، وبالتفسير الموضوعي ندرك أهمية هذا اللون من التفسير فتزداد
عنايتنا به، وتتعاضد جهودنا لبيانه، فَنُكفى بذلك الوقوف عند كثير من مشكل
القرآن أو مواطن الخلاف بين علماء الأمة في تفسير آياته، لورود ما يوضح المراد
ويشفي العليل ويروي الغليل بالقرآن نفسه.
الثالث: إن تجدد حاجة البشرية، وبروز أفكار جديدة على الساحة الإنسانية
وانفتاح ميادين للنظريات العلمية الحديثة لا يمكن تغطيتها ولا رؤية الحلول لها إلا
باللجوء إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم. إذ عندما نجابه بنظرة جديدة أو علم
مستحدث فإننا لا نقدر على تحديد الموقف من هذا العلم وتلك النظرية وحل المشكلة
القائمة، وبيان بطلان مذهب إلا عن طريق تتبع آيات القرآن، ومحاولة استنباط ما
يجب نحو كل أولئك.
إن جمع أطراف موضوع ما من خلال نصوص القرآن والسنة يمكن الباحث
من القيام بدور اجتهادي للتوصل إلى تنظير أصول لهذا الموضوع، وعلى ضوء
هدايات القرآن ومقاصده نستطيع معالجة أي موضوع يَجدّ على الساحة.
الرابع: إثراء المعلومات حول قضية معينة. غالباً ما يُطرح موضوع أو
قضية أو فكرة أو مشكلة للبحث ويبقى أيُّ من ذلك محتاجاً إلى إشباع البحث ومزيد
الدراسة، ويتم تحقيق ذلك من خلال التفسير الموضوعي بحيث تتبين لذوي الشأن
أدلة جديدة، ورؤى مستفيضة، وتفتيق لشيء من أبعاد القضية المطروحة.
الخامس: تأصيل الدراسات أو تصحيح مسارها:
لقد نالت بعض علوم القرآن حظاً وافراً من البحث والدراسة، إلا أن هناك
علوماً أخر برزت جديدة تحتاج إلى تأصيل بضبط مسارها حتى يؤمن عثارها مثل
(الإعجاز العلمي في القرآن) ، فقد كثر الكاتبون حوله إلا أنه بحاجة ماسة إلى
ضبط قواعده لِيُتَجَنَب الإفراط فيه أو التفريط، وهذا إنما يتم عبر دراسة موضوعية
لآيات القرآن وهداياته في هذا المجال.
وهناك علوم ودراسات قائمة منذ القدم لكن المسار الذي تنتهجه يحتاج إلى
تصحيح وتعديل، وإعادة تقويم كعلم التاريخ الذي أخذ منهجاً في سرد الوقائع
والأحداث من غير تعرض لسنن الله في الكون والمجتمع، علماً بأن هذه السنن قد
أبرزتها آيات القرآن خلال قصصه بشكل واضح، وهناك انحرافات مبثوثة في
كتب التاريخ تخالف ما نص عليه في القرآن الكريم، ولن يتم تعديلها وتقويم مثل
هذه العلوم إلا بطريق استقصاء منهج القرآن في عرضها ودراستها..
مراجع هذه النبذة:
ا- مباحث في التفسير الموضوعي للدكتور مصطفى مسلم.
2- دراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر عواض الألمعي.
3- الفتوحات الربانية في التفسير الموضوعي للآيات.
4- دراسات في القرآن الكريم للدكتور محمد عبد السلام محمد.
5- دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني للدكتور أحمد جمال
العمري.(64/7)
في إشراقة آية
[وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] [*]
د. عبد الكريم بكار
قصّ الله - تعالى- علينا في كتابه العزيز نبأ لقاء موسى بالعبد الصالح
الخضر -عليهما السلام-، وما جرى بينهما من إخبار الخضر لموسى بعدم صبره
على ما سيراه من أعماله، وتعهد موسى بالسمع والطاعة وعدم العجلة حتى يكون
الخضر هو الذي يخبره بكنه ما يراه وعواقبه، كما تضمنت القصة عدم
تمكن موسى -عليه السلام- من الصبر الذي التزم بمكابدته. وفي ثنايا هذه الواقعة
عبر ودروس عديدة نجلوها في النقاط التالية:
1- أراد الله -تعالى- أن يُعلّم موسى وجوب تفويض ما لا يعلمه إليه؛ فقد
ورد في الصحيح أن رجلاً سأل موسى على ملأ من بني إسرائيل: هل تعلم أحداً
أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه: بل عبدنا خضر أعلم منك [1] . وفي هذا
إرشاد لأولي النهي أن يقفوا الموقف المنهجي مما لا يعرفونه؛ فنبي الله موسى كان
رسولاً من أولي العزم، وهو كليم الله ومبلغ رسالته، ومع هذا بين الله له وجوب
تفويض ما لا يعلمه إليه؛ فهو لم يجتمع بكل البشر، ولم يعرف مقادير ما خصَّ الله
به من شاء من عباده.
وفي هذا الزمان تشعبت العلوم، وتفرغت حتى صار من العسير على الواحد
منا أن يحيط بفرع من فروع المعرفة فضلاً أن يحيط بها جميعاً. وأمانة العلم
تقتضي التريث بالفتوى والتحرز من التطاول على ما لا نحسن حتى لا تجتاحنا
الفوضى العلمية..
2- في هذه الرحلة المباركة وقف موسى موقف المتعلم، ووقف الخضر في
موقف الأستاذ، مع أنه لا خلاف في أن موسى أفضل من الخضر، وهذا يدل على
أن الأفضلية العامة لا تقتضي التفوق في العلم، وهذا يحثنا على أن نرجع لأهل
الاختصاص في اختصاصاتهم، وألا نرهق أهل الفضل بالسؤال عما لا يعرفونه،
ولا يحسنونه فيسقطون من أعيننا لعدم معرفتهم، أو يسقطون ويُسقطوننا معهم إذا ما
هم قالوا بغير علم! ورحم الله الإمام مالكاً حين كان يقول: (إن من شيوخي من
أطلب منه الدعاء، ولا أقبل روايته) .
3- التزم موسى - عليه السلام - في البداية بالصبر على ما يراه وعدم
العصيان حين قال: [سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً ولا أَعْصِي لَكَ أَمْراً]
[الكهف 69] . وهذا الالتزام كان بناء على ما يعرفه من نفسه من الحرص على طلب العلم ومعرفة الخير. وكان تأكيد الخضر له أنه لن يصبر معه على ما يراه لما يعرف عنه من الحرص والالتزام بما شرع الله من حرمة الأنفس والأموال، وكانت النتيجة إنكار موسى على الخضر، كما توقع الخضر. وموقف موسى كان على النهج العام الذي ينبغي على المسلم سلوكه، وهو إنكار ما خالف الشرع وعدم السكوت عليه ما دام ذلك ممكناً، ولا يعكر صفو هذا خصوصية الموقف
والحادثة [2] .
وقد أنكر موسى على الخضر مع علمه بقدره وعلمه لأن المنهج فوق
الأشخاص أياً كانوا. وقد ابتليت هذه الأمة في تاريخها المديد بأقوام أصيبوا بداء
تقديس الأشخاص وإقامة البراهين على خيرية ما يفعلونه وتسويغ ما يرتكبونه من
مناكر ومخالفات قطعية التحريم لما يعتقدونه فيهم من الصلاح! .
وأدى ذلك إلى غبش عظيم في الرؤية، وقد حطوا من قدر المنهج المعصوم
على قدر ما رفعوا من شأن من يعظمون! وما زال هذا مستمراً إلى يوم الناس هذا
والله المستعان.
4- كان الخضر موقناً بعدم صبر موسى على ما يراه منه، وعلل لذلك بقوله: [وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] [الكهف 68] . وهذا يشير إلى ظاهرة
ثابتة في حياة البشر، هي عدم الصبر على رؤية أحداث وأعمال تخالف ما استقر
عندهم من الأعراف والمعايير، أو على بذل جهود لا يرون لها نتائج تنسجم معها.
وقد وقف الصحابة - رضوان الله عليهم - موقفاً مشهوراً من شروط صلح الحديبية
التي كانت في ظاهرها مخالفة لمصالح المسلمين، ولولا أن الذي ارتضى تلك
الشروط النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤيد بالوحي لكان هناك شأن آخر. لكن
الله - تعالى - جعل فيها من الخير والبركة ما حمل أكثر المفسرين على القول: إن
المراد بالفتح في قوله - سبحانه -: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] [الفتح 1] صلح
الحديبية [3] . وسبب ذلك الموقف أن الصحابة ما كانوا قادرين على إبصار مآلات
تلك المعاهدة ونهاياتها.
واليوم نجد رغبة جامحة لدى كثير من الدعاة والعاملين في حرق المراحل
والقفز فوق الحواجز بدافع من الصدق والإخلاص، والسبب في ذلك أنهم ما أحاطوا
خُبْراً بجوانب العملية التغييرية الكبرى التي يتصدون للقيام بها. ونجد ذلك بشكل
واضح لدى الشباب الذين يغلي في دمائهم حب هذا الدين والغيرة على هذه الأمة.
وسبب الاستعجال عند الشباب يعود - في أكثر الأمر - إلى أن كثيراً من قادة
الدعوات يوهمون الشباب بأن التمكين في الأرض وبسط سلطان الدين هو قاب
قوسين أو أدنى، وذلك رغبة في كسبهم وإغرائهم بالعمل الدعوي، حتى إذا مرت
السنين تلو السنين أدرك أولئك الشباب أن الطريق أطول بكثير مما قيل لهم، فيؤدي
ذلك - عند أية هزة - إلى الإحباط والانزواء والسلبية أو إلى تسفيه القيادات
واتهامها بالقصور وتجاوز المرحلة لها ثم الاندفاع خلف قيادات شابة تفتقر في أكثر
الأوقات إلى الحكمة والخبرة والعلم والنتيجة معروفة!
وسبب ذلك أن الشيوخ ما بصَّروا الشباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه
ومشاقه، مع أن النصوص، الواردة في ذلك كثيرة جداً.
أما الجوانب التي لم نحط بها خُبْراً فهي عديدة، نذكر منها ما يلي:
أ- المنهج الرباني الذي نحمله، منهج مشتمل على أجزاء صلبة راسخة لا
يجوز أن تتطور أو يُغض الطرف عن شيء منها كي تؤدي وظائفها في الهداية
والإصلاح، وفيه أجزاء مرنة تقبل شيئاً من الموازنة لتحقيق خير الخيرين ودفع
شر الشرين؛ وكل أجزاء المنهج خير، ومطلوب التحقق بها؛ لكن الظرف هو
الذي يعطي الأولوية لبعضها على بعض؛ فأعمال الخير كثيرة جداَ لكن الحال
المعاش يرجح شيئاً على شيء، فإذا كانت في المسلمين مجاعة كان مجال إطعام
الطعام أولى بالبذل من مجال التنفل بالحج والعمرة، وإذا اجتاح العدو بلاد المسلمين
كان تجهيز المقاتلين أولى من بناء مسجد أو تأثيث مكتبة عامة وهكذا.. وإذا كان
المريض الذي نعالجه يشكو من أمراض عديدة وجب أن نبدأ بالأخطر منها كالنزيف
مثلاً.
ب - ومما لم نحط به خُبْراً على الوجه المطلوب الواقع الذي نتحرك فيه،
وهو واقع مفعم بالمؤثرات المختلفة حيث صار من غير الممكن معالجة أية قضية
من قضايانا الكبرى على أنها شأن محلي خاص، فوسائل الاتصال العجيبة المتاحة
وتشابك المصالح وتداخلها ونفوذ الثقافة العالمية، كل أولئك يجعل ما نظنه داخلياً
خاضعاً لاعتبارات دولية وإقليمية إلي جانب الاعتبارات المحلية. وفهم تلك
الاعتبارات ما عاد ممكناً عن طريق التأمل والشفافية، وإنما عن طريق الدراسات
المتقنة والصلات والعلاقات والمعايشات الداخلية.. وفهم طريقة التفكير لصانعي
الخيارات والقرارات.
ج - ومما لم نحط به خُبْراً الإنسان موضع الدعوة، وهذا الإنسان صار
يخضع لمزيج كبير من المؤثرات الثقافية المتضادة - في كثير من الأحيان - مما
يجعل تفكيره مختلفاً عن تفكيره في القرن الماضي، ومفاتيح اهتمامه أيضاً تبدلت،
والطريق إلى حفز مشاعره صارت أكثر التواء. ولم يصاحب ذلك التعقيد كله ما
يحتاجه من الفهم العميق القائم على معرفة النفس البشرية والسنن الإلهية التي
تحكمها. وآية ذلك جمود خطاب كثيرين منا دون أدنى تحسين أو تحوير.
د- ومما لم نحط به خُبْراً سنن الله - تعالى - في تغير المجتمعات، ذلك
التغير الذي لا يتوقف أبداً لكنه لا يخرج عن الأحكام والأنظمة الإلهية التي تسيره،
وهو تغير أساسه الحركة البطيئة التي إن تسارعت لم تصل أبداً إلى حد الطفرة
المناقضة للفطرة. وبما أن عمر الإنسان قصير فهو متشوق أبداً إلى معرفة نتائج
أعماله ومجهوداته قبل أن يرحل عن هذه الدنيا لكن سنن الله - تعالى - لا تخضع
للرغبات والأهواء، ومن ثم فإن الله - تعالى - قال لنبيه: [وإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ
الَذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ] [الرعد 40]
وإذا كان الوقوف على مفاتيح شخصية الفرد صار معقداً، فإن الوقوف على
مفاتيح شخصية المجتمع أكثر تعقيداً؛ لأن أبناءه ينتمون إلى شرائح متعددة وكل
شريحة منها تخضع لمؤثرات مغايرة، وهذا يجعل التعامل معه غاية في التعقيد!
إن الحل الوحيد لحالات الاستعجال على قصف الثمار قبل نضجها هو
الإحاطة المبصرة بكل جوانب التغيير المنشود وآلياته، وإلا فإن كثيرا من الجهود
ستكون جهاداً في غير عدو، بل ستكون أخطر على الدعوة من أعدائها!
إن فقه التحرك بالمنهج أشق من فقه المنهج نفسه؛ لأنه يقوم على ركائز
عائمة، وتراكم الخبرة فيه ضعيف لتنوع أحواله وكثرة خصوصياته. ولله الأمر من
قبل ومن بعد.
__________
(*) الكهف 68.
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء.
(2) ورد في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يرحم الله موسى لو كان صبر لقصّ الله علينا من أمرهما.
(3) فتح القدير.(64/17)
أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي
نقد كتابات جودت سعيد
(2)
عادل التل
«تهدف هذه الدراسة إلى تحديد المعايير الثابتة وبيان المقاييس الدقيقة لحصر
وتمييز أصحاب الاتجاه المادي، من المفكرين الذين ينطلقون في اتجاههم هذا من
خلال العمل في حقل الدعوة الإسلامية، والذين يلجؤون إلى تفسير النصوص
الشرعية وفق النزعة المادية، كما تهدف ومن خلال رؤية معاصرة إلى إبراز منهج
أهل السنة والجماعة، وعرض طريقة السلف الصالح في مواجهة التحديات
الاعتقادية المعاصرة» .
رصدت في المقالة السابقة أفكار الكاتب جودت سعيد، من خلال نصوص
مختارة من كتبه ورسائله. وسيكون بحثنا هذا حول الحجج التي يعتمدها الكاتب -
والماديون من قبله - في تقديم المعرفة الصادرة عن المادة، وسنبحث في موضوع
السنن.
اتكأ الكاتب - في تقديمه المادة - على مفهوم مراتب الوجود السائدة عند
الفلاسفة والمشهور في الفلسفة، أن الصراع قائم فيها بين منهجين:
ا- المنهج العقلي (المثالي) الذي يقوم على الاعتقاد بأن الفكر هو السابق في
الوجود على المادة، ومن ثم يجب تقديم المعرفة الصادرة عن الفكر في كل شيء.
2- المنهج المادي (الوضعي) الذي يقوم على الاعتقاد بأن المادة هي أقدم من
الفكر في الوجود، ولذلك يجب تقديم المعرفة الصادرة عن المادة على كل شيء..
وهذه الأفكار التي يتبناها جودت سعيد، ويدعو إلى التمسك بها تشبه الأفكار
الماركسية، وإذا كان الموقف النقدي الشامل يدفعنا لأن نأخذ الجانب التاريخي لهذه
الآراء بالحسبان، فإننا نلمح - وبصورة جازمة - أن تلك الأفكار ترجع في
جذورها التاريخية إلى:
ا- منهج الفلاسفة وطريقتهم في الاستدلال.
2- منهج القدرية المعطلة - نفاة القدر - الذين وقفوا إلى جانب الفكر المادي
الأرسطي بعد انتقال العدوى في الصراع إلى علم الكلام في ديار الإسلام، وقالوا
بنفي الصفات - الذي قالت به المعتزلة والرافضة - وهؤلاء المعطلة يعتبرون
أسلافاً لأصحاب الفكر المادي المندسين بين المسلمين.
3- علم الاجتماع الغربي، القائم على المذهب الوضعي، والذي نشأ في
عصر النهضة الأوربية، وهؤلاء يعتبرون أرسطو وأصحابه أسلافاً لهم.
أولاً: تقديم المادة على العقل والنقل:
اهتم جودت سعيد بتعريف كل مرتبة من مراتب الوجود، وبيان خصائصها [*] ليجعل هذا الأسلوب في الاستدلال ذريعة لتقديم المادة على العقل والنقل، وبعد
أن استعرض هذه المراتب انتهى إلى القول [1] : (فالوجود الخارجي - المادي -
هو الثابت الذي كلما اختلفنا في تفسيره رجعنا إليه؛ ودققنا النظر والبحث والتعامل
معه لنصحح الصور الذهنية) . ومنه فإن كل شيء خارج الواقع - المادة - فهو
عنده قابل للزيادة والنقصان [2] ولا يجوز الاعتماد عليه، ويشمل هذا المفهوم
النصوص الشرعية (كتاباً وسنة) . ويقول في رسالة اللغة والواقع: (ولكن البدء في ...
الدراسة من كتاب الله دون أن يعترف للواقع، أنه هو الذي في النهاية سيشهد بمعنى
الكتاب وصدقه) [3] .
ثانياً: تقديم العقل على النقل:
يحرص جودت سعيد على تقديم المادة (الواقع) على العقل والنقل - كما رأينا
- إلا أنه يقدم العقل على النقل أيضاً، لأن هذا التقديم ينسجم مع مفهوم مراتب
الوجود الذي اعتمده في تقدم الصور الذهنية - العقلية - على اللفظ والكتابة، وقد
أكثر من النقل عن أبي حامد الغزالي، وتبني منهجه، وخاصة قول الغزالي في
المنطق اليوناني: (هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بعلوم
أصلاً) ..
ونلاحظ أن جودت سعيد قد حذف كلمة (المنطق) [4] من كلام الغزالي لإبعاد
الشبهة عن نفسه في متابعة الفلاسفة والمناطقة الإغريق، والاستمداد من أفكارهم،
والمعروف أن تقديم العقل على النقل يمثل منهج الأشاعرة والمعتزلة، ومن أجل
ذلك بدّل جودت تلك المصطلحات بألفاظ معاصرة، وتُمَثل هذه الفعلة عملية خداع
وتمويه خطيرة.
ثالثاً: مصدر المعرفة:
إن قضية مصدر المعرفة في الإسلام محسومة، وهي لا تتفق مع منهج طريقة
الفلاسفة ولم مع أسلوبهم، فأهل السنة والجماعة يقدِّمون القرآن الكريم والسنة
النبوية عند التنازع، ولا يقدمون ما يتوصل إليه عن طريق الحس ولا عن طريق
العقل. ولابن تيمية كلام مهم في بيان منهج أهل السنة في موضوع العلم حيث
يقول: (طرق العلم ثلاثة: الحس والعقل، والمركب منهما، كالخبر، فمن الأمور
ما لا يمكن عمله إلا بالخبر، كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر
المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - ويمتنع أن يقوم
دليل صحيح، على أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر ولهذا كان
أكمل الأمم علماً المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذًّب بطريق منها
فاته من العلوم بحسب ما كذب من تلك الطرق) [5] .
وكثيراً ما يحاول جودت سعيد أن يذكر ابن تيمية في موضوع مراتب الوجود، مما يوهم القارئ أن رأيه في هذه القضية يتطابق مع رأي ابن تيمية، ولكن
الحقيقة غير ذلك على الإطلاق، لأن ابن تيمية وأهل السنة جميعاً لا يقدمون على
الشرع شيئاً، فهم يعارضون المعتزلة وغيرهم في تقديم العقل على النقل وكذاك
يعارضون تقديم الحس على النصوص، ولا يبحثون المسألة مع الفلاسفة أصلاً،
ولا من خلال مراتب الوجود، كما أراد جودت سعيد أن يبعث هذا الأسلوب من
جديد. ولابن تيمية رأي واضح في هذا المقام ونحتاج أن نذكره لقطع طريق
التدليس والنقل المبتور الذي اعتاد جودت أن يستخدمه في مثل هذه المواضع،
يقول ابن تيمية: (وهو سبحانه عَلِمَ ما في الأذهان، وخلق ما في الأعيان وكلاهما
مجعول له، لكنّ الذي في الخارج جعله جعلاً خلقياً، والذي في الذهن جعله جعلاً
تعليمياً..) [6] .
ولابن تيمية كلام صريح في رد القضية التي يعتمدها جودت سعيد وغيره من
الفلاسفة والمتكلمين من خلال مراتب الوجود حيث يقول [7] : (والطريق المشهور ...
عند المتكلمين هو: الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وقد بينا
الكلام على هذه في غير موضع، وأنها مخالفة للشرع والعقل..) . والذي نصل
إليه من هذه المقارنة أن طريقة جودت سعيد في تحديد مصدر المعرفة تَتِّمُّ وفق
أسلوب الفلاسفة وعلماء الكلام وتخالف منهج أهل السنة والجماعة.
مفهوم السنن
بينا - في الحلقة السابقة- أن جودت يجعل السنن في مقابل النبوة حيث يقول: ... (من هنا بدأ الاهتمام بالوقائع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن
النبوة مرحلية وانتهت) [8] !
ما هي هذه السنن التي استبدلها بالنبوة؟
يقول الكاتب: (والناس لا يعرفون السنة إلا في الطبيعة، ولا يعترفون بها
في الأنفس، ويعتبرون عالم الأنفس خارج الثبات، أو خارج السنة وهذا مناقض
لمنهج القرآن، بل لمناهج المسلمين السابقين - ولقد جاء إلى العالم الإسلامي قصر
معنى العلم على الآفاق من المفهوم الغربي) [9] .
يفهم من خلال هذا النص أمراً محدداً: أن الكاتب يعتبر مجال السنن:
1- في المجتمع.
2- في الأنفس.
3- في الطبيعة.
والذي يبحث في القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة لا تظهر له
جميع هذه المجالات، التي ذكرها الكاتب. قال تعالى: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا
مِن قَبْلُ وكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً] [الأحزاب 38] ، أي حكم الله فيها. وقال
سبحانه أيضاً: [سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ]
[غافر: 85] .
وفي كل آية جاء فيها لفظ السنة، كان يدل على أحد جوانب الدين، ويكون
فيها دعوة للاتباع أو موعظة للاعتبار. وأما في مجال الطبيعة، وفي الدلالة على
أحداثها، كان القرآن يطلق على مثل هذه المواضيع لفظ (الآيات) مثل قوله تعالى: [وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ] [يس: 37] ، وإن ما فعله الكاتب من تعميم
مفهوم السنن ليخرج عن إطاره الشرعي، ويقوم بالغاء النبوة والتعامل مع السنن،
فإن هذا يعتبر خروجاً عن المنهج القرآني ومناقضاً له. وإدراك هذا الأمر من
الأهمية بمكان كبير، ولو كان الأمر سيبقى مجرد اصطلاح فحسب، ولا تقوم عليه
نتائج أخرى، لما نشأ عليه أي اعتراض. ولكننا نتعامل مع كاتب يؤمن بالمنهج
المادي ويعتقد بانتهاء النبوة، وانحسار أهميتها ومن هنا ندرك خطر الخلط في
موضوع المصطلحات، وأثرها في تعطيل الآيات في كتاب الله، وتحريفها عن
معانيها، واستبعاد العمل بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم - وإخضاعها
للسنن، فعندما يذكر مثالاً للتفريق بين الواقع والقرآن يقول: (القرآن يقول عن القلوب أنها التي تفقه، أي أن القلب هو عضو الفهم، ولكن الواقع، أي التعامل مع الواقع كشف أن القلب ما هو إلا مضخة، ولا علاقة له بالفهم، وإنما فقط هذه المضخة تشتغل بسرعة أو ببطء حسب الأوامر التي تصدر إليها، وليس هي التي تصدر الأوامر) [10] . وهكذا ندرك خطر هذا التوجه، وسوء هذا التصرف. ماذا ... حدث له حتى تجرأ على تكذيب القرآن بهذه الطريقة المزرية؟ إن القرآن لم يقل إن عضو الفهم هو العضلة التي تضخ الدم - كما يزعم - وإنما هذا افتراء من جودت سعيد، وتطاول على كتاب الله لا يتصور. إن الآية التي ألمح إليها هي قوله تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] [الحج 46] . إن ما صدر عنه في تفسير الآية يعتبر خروجاً على أصول التفسير وإغفالاً لمفهوم اللغة التي نزل بها القرآن، ولو أنه عاد - قبل أن يصدر تفسيره الجائر - إلى معاجم اللغة العربية لوجد أن معنى القلب فيها (خالص الشيء وشريفه) ، وقد جاء في لسان
العرب بأنه قد يعبر بالقلب عن العقل. وقد عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- في
بيانه بين القلب والفؤاد حين قال: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين
قلوباً» [11] . وإن كنا غير معنيين الآن في بحث مفهوم القلب والعقل إلا أنه من
الضروري كشف عملية التضليل التي يمارسها أصحاب الاتجاه المادي في كتاب الله، من جهة الفصل بين اللغة وآيات الكتاب، ومحاولة إيجاد التناقض بين الكتاب
والواقع وقد قال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا
كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
عَذَابَ الحَرِيقِ] [الحج: 8-9] .
الوجود السنني
يربط الكاتب بين القدر وبين مراتب الوجود فيقول [12] : (وإن الوجود
الخارجي-المادي - الذي اعتبرناه أساس مراتب الوجود راجع إلى هذا الوجود
السنني -القانون-) ، أي أن القانون هو القدر.
وقد عبر الكاتب عن القدر - الوجود السنني - بأسلوب آخر حيث يقول:
(هذا الوجود السنني، هو نوع آخر من مراتب الوجود، وربما يكون مدخلاً لتصور
الروح، والله تعالى له الأمر والخلق، والروح من أمر الله، [قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي] [الإسراء 85] ، وأمر الله وكلمة الله وسنة الله، ألفاظ متقاربة في مدلولها،
ولكن سنة الله توصف بأنها لا تتبدل ولا تتحول) [13] .
يفهم من هذا النص أن الكاتب يجعل السنن في مقام كلام الله وتعبيراً عن قدر
الله وأمره في الخلق، وكأن الله ليس له تدخل في الكون إلا من خلال السنن التي
قدرها قبل الخلق، وهذا يتفق مع مفهوم المذهب الوضعي الذي يجعل قوانين
الطبيعة وسننها المصدر الأساسي للمعرفة، وهذا ما تبناه الكاتب ودعا إليه من خلال
فكرة مراتب الوجود. وبما أن السنة قابلة للكشف والمعرفة، والروح من أمر الله،
فإن الروح سيكون قابلاً للمعرفة والتصور، وسيكون - حسب هذا المفهوم - كشف
حقيقة الروح قريباً بمتناول الذين وصلوا في مجال العلوم إلى مرحلة الانطلاق وهم
- كما يزعم الكاتب - محور موسكو - واشنطن، وهذا التصور يقود إلى انتهاء
مفهوم الغيب من الحياة.
وهذه مفارقة كبيرة، وانحراف عظيم في التصور الاعتقادي، أن نجمع بين
أمر الله وكلمة الله وسنة الله ليكون الجميع في متناول المعرفة البشرية - كما
يصورها الكاتب - في موضوع الوصول إلى معرفة الروح، فإن ذلك ينسجم مع
مفهوم المذهب الوضعي المعاصر، بإخضاع كل شيء للمنهج التجريبي كما ينسجم
أيضاً مع مفهوم القدرية، وذلك بالإشارة إلى استنباط آخر يقوم على هذا التصور،
وهو أن الله يتفاهم مع البشر بواسطة السنن - الأنبياء من البشر - وأن الله لا يتكلم
إلا من خلال السنن، وهذا هو التعطيل الذي كانت عليه القدرية، الذين ينفون
الصفات عن الله تعالى [14] .
ونستطيع أن نختزل رأيه من خلال معادلة رياضية..
كلام الله = قدر الله = الوجود السنني «المادي» = القانون
كلمة الله = أمر الله = سنة الله!
وبما أن سنة الله قابلة للكشف عنده، فلا غيب بعد ذلك..! !
__________
(*) تناول جودت سعيد موضوع مراتب الوجود في كتابه (اقرأ وربك الأكرم) وخصص ما يعادل خمس حجم الكتاب (47 - 104) لإقرار مبدأ تقديم المادة (الواقع) على كل شيء، وقد قام بتغيير بعض الألفاظ، فهل يظن أن هذا يبعد عنه التهمة في موافقة الفلاسفة والقدرية والمعتزلة على آرائهم؟ ! .
(1) كتاب (اقرأ وربك الأكرم) ، ص 57.
(2) كتاب (اقرأ وربك الأكرم) ، ص 57.
(3) رسالة انظروا 40 - اللغة والواقع ص 9.
(4) اقرأ وربك الأكرم، ص 50.
(5) درء تعارض العقل والنقل، 1/678.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية، 16/267.
(7) مجموع فتاوى ابن تيمية 16/267.
(8) رسالة اللغة والواقع، ص 7.
(9) اقرأ وربك الأكرم، ص 95.
(10) رسالة انظروا 40، اللغة والواقع، ص 9.
(11) حديث متفق عليه، البخاري: 388 4، مسلم: إيمان 84.
(12) اقرأ وربك الأكرم، ص 91.
(13) اقرأ وربك الأكرم، ص 93.
(14) كان أول القدرية الذين ينفون الصفات (الجعد بن درهم) وقد ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط، وقال إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وهو بهذا الكلام، ينكر أن يكون الله قادراً على الكلام مع موسى، وفي هذا مخالفة لصريح القرآن.(64/22)
خواطر في الدعوة
الأعمال الجماعية
محمد العبدة
كان الجيل الأول من الصحابة - رضوان الله عليهم - على فهم عميق
بمقاصد الإسلام ومراميه في إصلاح البشر، وكانت الأمة يومها في حالة إنشاء
وتأسيس وتيقظ واندفاع، فهي تقوم بالأعمال الحضارية بصورة عفوية تأتي من
طبيعة الإسلام نفسه.
في مثل هذه الأجواء قام الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
بعمل علمي كبير يؤكد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي..) .
لقد خشي عثمان - رضي الله عنه - من تفرق المسلمين واختلافهم في
قراءات القرآن، فعزم على جمعهم على مصحف واحد، وشكل لهذا الأمر لجنة
علمية من: زيد بن ثابت، عبد الله بن الزبير، سعيد بن العاص، عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام، وسأل عن أفصح هؤلاء، فقيل له سعيد بن العاص، فقال:
فليمل سعيد وليكتب زيد، وقال لهم أيضاً: (إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من
القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم) . وقامت هذه اللجنة بمهمتها -
وربما تكون أول لجنة علمية في الإسلام - وأرسلت المصاحف إلى الأمصار،
واجتمع الناس على مصحف إمام.
أليس هذا عملاً عظيماً، وهو من صميم حضارة الإسلام؟ وإن عمل هذه
اللجنة يلفت نظرنا إلى ما عليه حال المسلمين اليوم من البعد عن الأعمال الجماعية
والعلمية بخاصة، حيث تجتمع الطاقات وتحشد الجهود، ويستفيد كل واحد من
الآخر، والسبب في هذا أنه لم تترسخ عندنا المؤسسات العلمية التي تقوم على
الجهد المشترك لإخراج أعمال لا يستطيع الفرد أن يقوم بها، وإن فعل فسيكون
إنتاجه ضعيفاً.
إن التخلف الحضاري الذي نعيشه والذي ورثناه يبعدنا عن العمل المؤسسي،
فالفردية متأصلة فينا، ويصعب على الفرد أن يشاركه غيره في عمل علمى، لأنه
لم يتعود على الحوار والمشاركة، وسماع وجهات النظر الأخرى.
إن الأعمال والجهود المتعاونة إذا كانت ضمن منهج علمي واضح ستؤدي إلى
نتائج يتفق عليها الجميع.(64/30)
«عواطفنا.. ليست لنا مطايا!!»
خالد بن صالح السيف
إن تأسيس رؤيتنا على بنية عاطفية ظاهرة تناولنا بها جملة من قضايا الأمة
المصيرية! ! ويبدو أننا لم نفق بعد من سكر العاطفة! ونتاج هذا البناء العاطفي
المكرّس بائن في الهزائم المتلاحقة والخسران المضطرد لمدخرات الأمة - الإنسان
على رأس قائمتها - وما زالت قوافلنا يتقدمها حُداة العاطفة أنفسهم بأصواتهم الشجية
وكأننا نسعى بجهد لاهث لأن نصدّق فينا هذا النعت بأننا: (ظاهرة صوتية
فحسب) ! ! ويبدو- ثانية -أن من يُناصبنا العداء هو- الآخر - يمارس باقتدار إذكاء أُوار عاطفتنا بصورة عكسية يظفر هو كنتيجة لها بإبلنا فيمتطي بعضاً ويدخر بعضاً! ! ونحن لا نصدق خبراً فنروح من حينها نوسعه سباً وتدور جولة ثانية تعود ف يها إليه الإبل والسبُّ لنا ثمن بخس! !
إن مجاوزة الحد في عواطفنا مكمن ضعف أُتينا من خلاله، كما أن الغلو في
العقل مكمن خلل سقطنا من خلاله سابقاً - والتوزير الرافضي والاعتزالي شأنه ليس
بسر في العصر العباسي - والشاطبي [1] يعتبر إلغاء هذا المفهوم قاعدة حيث يقول: ... (لا يجعل العقل حاكماً بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل ...
الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم - وهو الشرع -، ويؤخر ما حقها التأخير -
وهو العقل -، لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل لأنه خلاف المعقول
والمنقول بل ضد القضية، وهو الموافق للأدلة فلا معدل عنه، لذلك قيل: اجعل
الشرع في يمينك والعقل في يسارك تنبيها على تقديم الشرع على العقل) ..
ونحن بإزاء هذه الظاهرة العاطفية المؤججة نتساءل: هل ثمة وسطية يُثَبَّتُ
فيها طيش العاطفة - بِقِيَم العقل - مناط التكليف وموطن التكريم لتجيء من بعد
النصوص - قرآن وسنة - مهيمنة عليهما في ابتغاء رؤية مؤصلة لا تغيرها
المستجدات بقدر ما تستوعب هي المستجد فتوجهه وفق مُرادات النصوص المتكئة
على فهوم السلف الصالح.
ف (مدار الأمر كله على العقل فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على
أقوى دليل. وثمرة العقل فهم الخطاب وتلمح المقصود من الأمر. ومن فهم
المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق) [2] ، فهل نعي نحن
لنتجاوز البناء على العاطفة الأرضية الهشة، مستأنسين بمواطن ابن الجوزي،
ومنضبطين بقواعد الشاطبي - رحمهما الله تعالى - فحيثيات الاستخلاف والتمكين
ليست معادلات عاطفية تعالج إشكالاتها (الجماهيرية) بأرقام منْبَتّة فلا هي لظهورها
أبقت ولا هي لأرضها قطعت! !
بل الاستخلاف والتمكين (وعد حق) ممن لا يخلفه - سبحانه - بيد أنه لمن
تتوافر فيه الأهلية بصفاتها المشروطة [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [النور 55] ، فالتمكين من لدن الله متحقق لا
محالة إبان الاستواء على الشرط وامتثال واقع النص لا مجرد حفظه وبح الصوت
به..
إن أبجديات النصر والغلبة ليست أمان نُشكّل بها مربعات ضعفنا وهواننا على
الأمم؛ وليست تأريخاً نستجره - حاضراً - لندغدغ به مشاعرنا ونُحذِّر به جيلاً يُبَحُّ
هو الآخر صوته بإنشاد أفعال الماضي: (كنّا.. وكانوا ... كانت لنا.. وآبائي
وأجدادي واسألوا عنا! !) الخ.. منظومة الماضي المجيد الذي مضى برجالاته
صناع تاريخنا الذين نحفل به إلى حد استشرافه ثانية واقعاً نحياه - بإذن الله - إنما
النصر والغلبة.. وعد.. كسابقه مشروط: [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ] [محمد 7] ، ولن يكون شيء من ذلك بلا قرح يمس الجيل.. ولن يكون
بلا ابتلاء ومجاهدة ومصابرة ومن قبل التمحيص: [ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا
ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ] [آل عمران 141-142] . هكذا يجيء النصر وتجيء الغلبة مع جيل
النصر وحده ذي الصياغة الفردية على منهج المدرسة النبوية.. لا غير..
وأجدني أخيراً مضطراً إلى أن أجعلك تشاركنا مخاض تجربة شيخنا الأستاذ
محمد قطب وهو - أثابه الله - لم يأل جهداً من أمد بعيد وهو يقرر أنه: (برغم كل
عواطف الجماهير، وكل حماستهم التي يبدونها حين يذكر الإسلام فهي حماسة
عاطفية لا تقيم بناءً حقيقياً.. ولا حركة حقيقية.. إنما تحتاج القاعدة إلى الإنشاء
من جديد.. فرداً فرداً حتى يكتمل بناء متماسك كبناء الجماعة الأولى على يد
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إلا يكن في الدرجة فعلى نفس المنهج، الذي
هو مجال الأسوة في رسول الله -صلى عليه وسلم- وفي الجماعة التي رباها ليقوم
عليها البناء) [3] .
ويؤكد مرة أخرى على أن المعركة بين الإسلام وأعدائه ليست معركة سريعة
خاطفة بل معركة طويلة شاقة قد تستغرق عدة أجيال: (فينبغي للقاعدة التي تنشأ
للقيام بهذا العبء الضخم أن تربى لتكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة
الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة وقادرة على
أن تبذل من نفسها: من جهدها ومالها ودمها وفكرها، ما يحتاج إليه إزالة الغربة
التي ألمت بالإسلام اليوم، واستنقاذ) الغثاء (من دوامة السيل واستنباته مرة أخرى
راسياً في الأرض عميق الجذور..) [4] .
لست أدري.. بعد أن تشكلنا إلى حد، عاطفياً - ولم نفلح - أتصعب معاودة
الصياغة مرة أخرى ضمن ضوابط ما ذكرنا سلفاً؟
الإجابة.. تملكها أنت.. وهو.. وهي وهم.. وأنتم ونحن.. في إطار عمليٍّ
فاعل منشَؤُهُ استقامة الرؤية:
* قال الحسن البصري: (ما استودع الله أحداً عقلاً إلا استنقذه يوماً ما) [5] .
* قال أبو حفص الكبير الشأن: (من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم
يَتَّهِم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال) [6] .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 2/327.
(2) صيد الخاطر 211، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي الحنبلي.
(3) الصحوة الإسلامية، 165-166.
(4) الصحوة الإسلامية، ص166.
(5) أدب الدين والدنيا، ص 2، للماوردي.
(6) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 1/ 100، لابن قيم الجوزية.(64/32)
خواطر من عرفات
أحمد بن محمد حسبو
عرفات يا رمز الأمة، والرسالة! عرفات كم وقفت بساحك جموع، وسالت
على ثراك دموع، وتعارف على راحتيك الناس، وذابت في محيطك الأجناس،
وبورك منكسر ورُدَّ شديد المراس. كم تعانقت فوقك قلوب، وفرجت على ثراك
كروب، ومحيت أوزار وذنوب. كم امتزجت فيك دموع المذنبين، وتعانقت
أصوات المستغفرين، وتوحدت رغبات الراغبين.. كم تجردت فيك النيات،
وسالت على جنباتك العبرات، وخشع أهل الأرض لخالق الأرض والسموات.
أيها المسلمون: كم تغلي قلوب أعدائكم حقداً! ! وكم عضَّوا أناملهم غيظاً
وحسداً! ! [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ] [البقرة 105] . هم يريدون أن يقطعوا دابر الدين كي تخور القوى، ويُتَبع الهوى، وتَعُمُّ البلوى. كي لا يعز دين، ولا يقوى يقين، ولا يتم تمكين.
كيف يُضْحِي بأسنا بيننا شديداً. وأملنا في العودة إلى المنبع الرائق بعيداً.
أيها الأحباب: إن الذي أمركم بالتلبية فلبيتم، وبالحج فحججتم، وبالوقوف
هنا فوقفتم هو الذي قال: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم] [الأنفال 60] . وتسلحوا لهم
بالتقوى فمن أراد غنى بغير مال، وعزاً بغير جاه، ومهابة بغير سلطان فليتق الله.
فإن الله عز وجل يأبى أن يذل إلا من عصاه.
وتذكروا جيداً وصية نبيكم منذ ألف وأربعمائة عام يوم النحر في منى وهو
يقول ويقرر، ويوصي ويحذر: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم
هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم، قال: (اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع. فلا ترجعوا
بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) رواه البخاري.
فاذكروا ذلك جيداً - واعلموا أن الأمة التي تعمل بالمعاصي وتحيد عن أمر
الله تسقط وتنهار، ولستم والله أفضل من سعد بن أبي وقاص - بطل القادسية
المبشر بالجنة، السابق إلى الإسلام - ومع كل ذلك هذه وصية عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه- له وهو متأهب للمسير إلى القادسية حيث قال له: (يا سعد!) ،
لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله. فإن الله عز وجل لا
يمحو السيء بالسيء، ولكنه يمحو السيئة بالحسنة، يا سعد! إن الله ليس بينه
وبين أحد نسب إلا طاعته. فالناس جميعاً شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء.
الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالتقوى، ويدركون ما عنده بالطاعة) ، فكونوا - ...
رحمكم الله - على المؤمنين قلوباً صافية، وعلى أعداء دينكم أسوداً ضارية.
أنسيتم أيها الأحباب غضبة رسولكم حيث أقسم ألا يبيت اليهود بالمدينة وقد
أنجز ذلك، أنسيتم غضبة الهادئ الوديع الساكن أبي بكر حين زمجر وقال: (والله
لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) .
أنسيتم غضبة نور الدين حينما وقع الأقصى أسيراً في أيدي الصليبية فظل
حزيناً عابساً ولما سأله سائل: (لم لا تضحك؟) قال: (أستحي من الله أن أبتسم
والأقصى أسير في أيدي الأعداء! !)
والآن أيها الأحباب متى تُحَركُنا مصاحف تُحرق، ومساجد تُهْدَم، وأعراض
تُنْتَهَك، وأطفال أطهار يداسون بالأقدام، ودموع في عين القدس وكشمير والبوسنة
والهرسك وارتيريا والصومال وغيرها.
رُبَّ وامعتصماهُ انطلقت ... مِلءَ أفواهِ الصبايا اليُتَّمِ
لامستْ أسماعَهُمْ لكنَّها ... لم تلامِسْ نخْوةَ المعتصم
نريدها أمة جادة في القول والعمل، إن قالت فبعلم، وإن سالمت فبعلم، وإن
حاربت فبعلم، وإن قررت فبعلم، ليست عابثة، ولا لاهية، ولا غافلة. يقول
يحيي بن معاذ -رحمه الله-: (القلوب كالقدور تغلي في الصدور، ومغارفها
ألسنتها. فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، من بين حلو
وحامض وعذب ومالح. يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه) .
روى البخاري عن عدي بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - قال: (وفدت
في وفد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجعل يدعو رجلاً
رجلاً ويُسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال بلى! ! أسلمت إذ
كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عدي: فلا
أبالي إذاً) . فهذا رصيده وهذا مناط فخره، ورأس ماله، وقوام شخصيته.
إن الهمم العالية لا ترضى بالدنئ ولا تقنع إلا بمعالي الأمور:
قلت للصقر وهو في الجو عال ... اهبط الأرضَ فالهواء جديبُ
قال لي الصقر: في جناحي وعزمي ... وعنانِ السماءِ مرعىً خصيبُ
وهذا المرعى لا شك يجهله الأرضيون، حيث ثقلة الأرض ومطامع الأرض. وتصورات الأرض، ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف
على اللذائذ، والمصالح والمتاع، ثقلة الدعة والراحة والاستقرار:
أتُسبى المسلمات بكل ثغرٍ ... وعيش المسلمين إذن يطيبُ؟
أما لله والإسلام حقُّ ... يدافع عنه شبانٌ وشيبُ؟
فقل لذوي البصائر حيث كانوا ... أجيبوا اللهَ وَيْحَكُمُ أَجِيبوا(64/36)
الملف الأدبي
دعوة للأدب
محمد بن حامد الأحمري
هل هذا زمن الدعوة للأدب إنشاء وإطلاعاً؟
وهل انتهت مشاكلنا فلم تبق إلا مشكلة الأدب؟
أم هذه الدعوة من باب الهروب من الواقع المُعاش إلى الخيال الأدبي؟
كارادتش السفاح الصربي الشهير يهيج جنوده بالأشعار والأغاني الجديدة
والقديمة، ويحفظ من أشعار الصرب النصارى القديمة والحديثة ما يثير عواطف
جنوده أشد الإثارة، ويستعيد أشعار الصرب وأحزانهم في حروبهم السالفة مع
العثمانيين، ويتغنى بأمجاد أجداده الذين ماتوا في المعارك مع المسلمين، ويحث
جنوده النصارى على قتل المسلمين عند حنايا الأودية، ويحثهم على اصطياد
المسلمات، ويثير عواطف الصرب باستغلال آدابهم القديمة الحاقدة على المسلمين،
والتي ترجم بعضها وللأسف إلى العربية.
أما نحن فعندنا ضعف في الإنشاء الأدبي وفي استرجاع الأعمال الأدبية
المهمة.
ورب أمة حفظت أدبها وأساطيرها وغابت في طيات النسيان.
أدب الحرب حماسة، وأدب السلم متعة وهو في كل الأحوال صناعة من
القول العذب الراقي يستجمع فيها المنشئ للمادة الأدبية مخزونه العلمي واللغوي
ويستحث خياله لصناعة عالم جديد يبدؤه بهيكل الفكرة الرئيس حتى تكتمل، ثم
يتعهده بأجمل اللباس وأرقى الزينة اللفظية والأسلوبية، في تناسب لا تبعده الفكرة
عن الأسلوب والزينة، ولا تجرده الزينة من المضمون.
حين تطغى الفكرة على اللغة يتحول النص إلى دراسة فكرية جافة، وحين
تطغى الزينة الكلامية والأثقال اللفظية على الفكرة تتشوه الفكرة ويسقط المضمون
والزينة. لأن التناسق الفكري القوي مع الزينة لا تثقل بناء النص، فيحافظ على
رونق مقبول. والفكرة المكثفة الضعيفة الزينة تبقى خاصة بمن يقدر على ركوب
الصعب.
ما من أدب بلا قضية، حتى الذي سموه باللا معقول فإنه يحمل فكرة الضياع
والدعوة لها. إذ الفكرة أو المبدأ ليس إلا الروح السارية في النص، وهي التي
تجعلك تنتقل من صفحة إلى أخرى متابعاً لحدث أكان سببه عندك أو عند الكاتب،
سواء أفسّره كاملاً أو وقف عند جانب منه واكتفى بالرمز والإيحاء لأنه حاول
إعطاء فكرة وهدف.
إن الذين يستغفلون القراء وشداة الأدب بالزعم: إن الفن لا هدف له ولا
قضية ولا فكرة، أضاعوا أجيالاً من أمتنا؛ حاولت أن تنسج على منوال ما قيل لهم
أنه أدب بلا هوية ولا قضية، فإذا بقومنا يكتبون أدباً تملؤه أفكار أمم أخرى،
وتتلبسه صور وأحداث ومجتمعات وأديان غريبة، فهو يرثي أمة مزقت فوق
صلبانها ويحكي الضياع في أدغالها وتستهويه ثلوجها، ويتعارك مع إقطاعها
وحراس كنائسها، ترى أي أدب هذا؟ أليس صورةً لمجتمع وأفكاراً لقضايا
ومجتمعات أخرى تتردد على ألسنة من يقول: ليس لديه قضية ولا لفنه معنى.
نعم ربما كان كذلك، ولكن الذين أوحوا له هذا المعنى السلبي كان عندهم
قضية عالجوها فعالجها هو كما يعالجها أهلها دون أن يعي دوره.
حين ينجو الأديب المقلد من الصورة الوافدة لا تغادره الفكرة الغربية، وما من
عمل أدبي دون قضية أو مأساة إنسانية تعصف بقلب موهوب، سواء أكانت
العاصفة حباً أو حرباً أو موتاً، فهذه إن لامست قلباً موهوباً شجياً، وغنى ثقافياً،
وإرادة للعمل فتحت للناس نافذة للعقل والخيال، وصنعت لهم عملاً أدبياً يحمل فكرة
ومتعة، وينبئ عن صاحب الحال وزمانه جاعلاً فكرة من غير الفكرة. ومن أبسط
المواقف عبرة في سياق لا يخصك ولكنك تجد نفسك من خلاله شاهداً متفاعلاً
بدروس الأدب والحكمة. ولكم تقدر باحثاً عن الحق، هاوياً للمغامرة مثل محمد أسد
في (طريق إلى الإسلام) وأنت معه في تتابع الأحداث، لا يخبرك المؤلف بما يريد، ولكنك بعد زمن تفكر فيما قرأت، قال أحد قراء كتابه: (لقد أحسست بالظمأ في حلقي حين قص محمد أسد قصة الظمأ في الكتاب) ، إنه رسم صوراً في أذهان قرائه فكأنهم شاركوه وحلوا معه وارتحلوا وناقشوا النصارى في مصر، وجذبهم نور الإسلام في أفغانستان، وحاوروا المستشرقين بقوة وثقة. وضاغجي في (السنوات الرهيبة) صور مأساة المسلمين المحاربين في روسيا، واستطاع ... أن يجعل من القارئ مصاحباً له في القوقاز، شاهداً لإسقاط منارة المسجد العالية في قريته، وكأن القارئ يجلس معه في فصله الدراسي يرقب من النافذة السيارة الضخمة وقد ربطت المنارة بالسلاسل وجرتها، والمنارة تميل وتميل ثم تسقط، وكأنما سقطت مدينته، وانتهى تاريخه من تلك الأرض. وتقرأ رواية (السنوات الرهيبة) فكأنك تشاهد هدم المساجد اليوم في البوسنة، وتستمع إلى قول شيخ بوسني: (إن المساجد إذا هدمت فلن يعود المسلمون إلى هذه البقاع، إذا هدم المسجد انتهت هوية البلاد لذا بدؤوا بها) .
مشروعنا الإسلامي اليوم مشروع شامل لكل جوانب الحياة؛ والأدب من
أبرزها كيف لا وقد تميز ميلاد ديننا بالإعجاز القرآني، وبلاغة الكلمة النبوية،
وسحرها الذي تميز بالوضوح والإيجاز، وانتقاء الكلمات حتى ليكاد العادّ أن يعدها.
وبنى القرآن مع السنة ثقافة ثُقِّفَتْ فيها العبارة، وجلَّ الأسلوب فهدى الدعاة
العالم بفكر قويم، وأسلوب بليغ مستمد من كلام الصحابة الذين كان كل واحد منهم
حكيماً أديباً ينطق بكلمات جميلات جليلات كأنهن أفراس مسرجة.
حينما وقع الوهن جراء الانفصال الذي يروق لبعضهم أن يسميه تخصصاً
ذهب أهل المذاهب إلى عالمهم الجاف، وذهب أهل الزينة الكلامية إلى مشاغلهم،
وخرج الأولون بهياكل جافة منحوتة من الجلاميد، وبالغ أهل الزينة في زينتهم
فكانت غثاثة وملالة، فضعف الذوق، وقل الواردون إلى النبعين، ولم يصدروا
بأدب ودعوة وحكمة ذي بال.
مشروعنا الإسلامي يأخذ بشغاف القلوب، وينبه العقول، ويطلب من كلٍّ
جهدَه عملاً ومشاعراً، وفَجْرُنا يتنفس اليوم في أعقاب ليل كان حالكاً بهيماً ولم يزل
غالباً، ولكن فلوله آذنت بالرحيل والله غالب على أمره. والناشئة المسلمة لها ميول
وتلهف إلى الأدب قراءة وإنشاء بل يكاد أن يكون هو الرافد الأول في زمن المراهقة، وأوائل الشباب، لذا يجب أن لا نقف دون الرغبة ولكن نستثمرها وستجر القراءة
الأدبية إلى خير منها بإذن الله.
إن الأدب مدخل لصياغة عقول الناشئة، وتحفيز هممهم، وفتح سبل الأمل
في حياتهم، أما الثقافة المنقوصة فلا تبني الشخصية المتكاملة، والدعوة الجزئية لا
تجمع شمل الأمة، لذا يجب أن نراقب تكامل عملنا، وإلمامه بهذه الجوانب
الرئيسية، وعلينا إعداد القدوات المتميزة بغنى الثقافة، وعمق الشخصية، ونبل
العواطف، واتساع الخيال وآمال الخير.
وفي الصفوف الأولى من مسيرتنا الضاربة بعيداً في أعماق الزمان منارات
تميزت بأصالة المعرفة، ورهافة الحس والذوق بل وبمنهج نقدي واضح رائع أمثال
عمر وابن عباس - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -.(64/40)
الملف الأدبي
الحداثة بين التعمير والتدمير
د. حسن بن فهد الهويمل
الثابت من خلال المتابعة أن الحداثة ذاهبة لا محالة، وأن أشياعها سيوفضون
إلى نصب جديدة تقيمها الحضارة المهيمنة، ويقيني أن العالم النامي المسكون
بالتبعية وقابلية الاستجابة يتهيأ لاستقبال (ما بعد الحداثة) وهو مذهب نشأ قبل
خمسين عاماً وبطأ به انشغال المسرح بأدوار الحداثة في ظل إذعان كرسَّه الانبهار
وفقد الثقة والشعور بالنقص. حتى ضاعت الهوية وانطمست المعالم وتلاشت
الخصوصية، ولا مراء في أن الأخذ بعصم المتغيرات قبل وعيها سمة الضعف
والدونية والرداءة.
وما لا ننكره أن الغرب تخطى المقاعد الخلفية، وهب من رقاد طال أمده،
ونهض من تخلف استحكمت ظلمته، ونفض عن نفسه وضر الخرافة وانسلخ من
ماضيه واستقبل حياة مجردة متحررة من كل سلطان، وشكل حياة جديدة خلصته من
عصور التخلف التي حاربت العلم وأحرقت الكتب وربطت الناس بطقوس دينية
ثقيلة.
عمل كل ذلك لحياته الدنيا وحين رفض الآخرة رفضته الأولى وذلك سر
اضطرابه وتدهور حياته.
ولن تتأتى لمشرقنا العربي ممارسة التجربة الغربية لأن له عقيدة ورسالة
وموروثا، تشكلت منها حياته التي خاض بها تجربة التفوق والتألق، ولم يعش
فراغاً فكرياً، وتخلفه وضعفه العارضان نتيجة تفريطه بمؤهلاته القيادية. وحين
أدرك الغرب ببقايا صليبية وطوفان استكباره وهاجس تخوفه أن المارد منتفض لا
محالة، أفاض عليه بسقَطِه وحَشَفِه وسوء كيله ليظل مقطورة مسيرة لا مخيرة.
ومن مصائبنا الجسام قيام بعض المفكرين العرب بترسم خطى المصطلح الغربي ظناً
منهم أن التجربة الناجحة في الغرب سيكتب لها النجاح في الشرق. وتحرر الغرب
من عصور التخلف، ونجاحه في عملية الانفلات من قيوده حمله على جرأة التغيير
والتدمير وامتد وباء التغيير إلى الفن حيث استعذب التخلي والمغامرة بحثاً عن
عرض الحياة الدنيا المحصورة بين رحم الأم ورحم الأرض على حد قول الحق
عنهم [إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ومَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] [الأنعام 29] .
والراصد للتحولات يصاب بالذهول لتتابعها واستشرائها في مجال الفكر
والسياسة والاقتصاد والتربية وعلم النفس والأدب، ففي مجال الفن نهضت
الكلاسيكية ماثلة بالمحافظة على القيم والمعايير القديمة، ولكنها هدمت ليقوم على
أنقاضها مذهب رومانسي تسامى على عقلانية عصر التنوير متجهاً إلى حدس
التوصف رافضاً الموروث في اللغة والشكل والمضمون، ولم يطل مقامهم في
رحابه، لأنهم لا يصبرون على طعام واحد، فألحقوا الرومانسية بالكلاسيكية
ونبذوهما معاً وراء ظهورهم سخرياً ليستقبلوا (البرناسية) وما تلبثوا في مداها إلا
قليلاً، فقد ملوا من لغو الحديث لذاته.. ثم أوجفت عليهم (الواقعية الاشتراكية)
بخيلها ورجلها واستمر ينتابهم طائف منها في مختلف تحولاتهم، وهبت وثنية العلم
تقلب لهم الأمور، فتفتقت أذهانهم عن أدب رمزي سداه الذات والموضوع، ولحمته
العالم العلوي فجسد لهم ضعف الإنسان وقلقه. واتخذ لغة الإشارة والإبهام لغةً بديلةً
عن الوضوح؛ ولما اشتد ساعد الرمزيين أفاضوا إلى (الدادية) واتخذوها احتجاجاً
على القيم والمؤسسات والمنطق فغمرتهم بطوفان القلق والتشاؤم والبَرَم بالحياة
والشك بكل شيء، واستفحل داء العبثية وتشكلت السريالية بتلقائيتها المتحررة من
العقل والقيم والجمال والشعور، وتحقق في ظل سيادتها أحط دركات الفوضى.
ومنها هبت رياح (المستقبلية) متأثرة ببقايا الرمزية وجاء (التصويريون) بصور لا
تتعلق بمعنى ولا عاطفة، وعطلوا التوصيل، وركزوا على الإيحاء والغموض،
ونهض (التعبيريون) بثورتهم ضد الفن السائد، معتمدين على تشويه الملامح
البارزة. وعلى سفوح المذاهب شبت نوابت سوء أدركها الضياع بعد ما أفسدت
الأذواق وعطلت مهمات الكلمة الطيبة وأفقدت الأدب هدفه السامي وغاياته النبيلة.
وتشعبت المذاهب الأدبية، يتجه بعضها إلى الشكل لإيمانه بجمالية الفن وإمتاعه،
ويأخذ بعضها الآخر بعصم الموضوع لإيمانه بنفعية الفن وتوجيهه. وسمع الناس
دوي المصطلحات وصخبها وتداخلت التحولات واختلطت المذاهب، ولم تقم بينهما
حواجز ظرفية تميز بعضها عن بعض، كما لم تقم في الساحة ثوابت وقناعات
يرجع إليها عند الاختلاف. وأقبلت الشيوعية بإلحادها، والرأسمالية بأنانيتها،
وهبت أعاصير الوجودية بعبثها. وقامت صراعات طاحنة بين رؤوس الفتنة،
واختلطت الأمور، واختلت الموازين، وسقط الفن في وحل الصراع، وطاف عليه
وعلى اللغة طائف (البنيوية) يُشرِّح، ويُحوِّل ويفكِّك، وتلقفها الشرق والغرب،
ووجدوا فيها ضالتهم لأنها تًمنِّيهم وتعدهم بالإنقاذ من معضلة النشأة الأولى، وامتدت
إليها يد الملاحدة لينسفوا بها كل منجزات الفكر الإنساني وارتفع مكاؤهم وتصديتهم
بعد ما اكتشفوا الخلية، وضاع رشدهم عندما سئلوا عما قبلها. وبلغ الفن دَرَك
التشتت والضياع بعد طرح مصطلح (الحداثة) ، وفيما بين هذا وذاك نسمع ونرى
مذاهب شتى لها انتفاخ الأسد وضآلة الهر. ويطل عالمنا يستهلكه التلقي الأبله
والتبعية المنضبطة، يركض وراء كل بارق، ويحارب تحت كل راية، ليس له
قضية محددة ولا هدف معين، ولا خصوصية متميزة، يؤمن بمعادلة كاذبة أطلقها
الحاقدون وصدقها المغفلون، فإما الإسلام والتخلف؛ أو العلمانية والتقدم، وأشاعوا
بأن الخطاب الإسلامي برداءته وإسفافه ومرجعيته يقف في وجه المستجدات
ويحارب العقل، ويشل التفكير. والحق أن العقل شرط التكليف، والتفكير فريضة
إسلامية. وجرَّت (الحداثة) وابلاً من إشكالياتها تمثلت في تعددها واختلاف
الحداثيين حول مقتضيات كل حداثة ومداها في التغيير، فالحداثة لم تكن أحادية
اللغة فكل قومية لها لغتها.. وكل لغة لها حداثتها. ولم تكن أحادية الأصل والتراث
فلكل قوم أصولهم وأسلوب التعامل مع هذه الأصول. ولم تكن نتاج مرحلة زمنية
واحدة، فعمرها يمتد مع الزمن الماضي، حتى أن رموز الحداثة العربية التمسوها
في اتجاهات تراثية متباينة. فهي عند أبي تمام لغوية، وعند أبي نواس عبثية،
وعند الرومي عقدية، وعند المتنبي ثورية، ومن ثم فهي مترامية الأطراف مختلفة
الألسن متباينة الأصول، ومتناقضة العقائد، فلكل رمز من رموزها حداثته.. ولكل
عصر حداثته، وهناك حداثة مطلقة وأخرى مشروطة، وحداثة إبداع، وحداثة فكر.
وتبعاً لهذا جاء تركيبها معقداً، واستوعبت كل المتناقضات وأصبح من
المجازفة إطلاق الأحكام العامة في سياق الإدانة أو البراءة.
واتساع نطاق الحداثة وتعاقب المنظرين واختلاف ألسنتهم وألوانهم ومشاربهم
وخلفياتهم الثقافية والعقدية هيأ للخلاف البين حول رسم خارطة لها.. ولو أتيحت
متابعة متأنية لطروحات الدارسين لكنا أمام كم هائل من الحداثات حتى أن بعض
النقاد يشك في قيمة المصطلح كأداة نقدية نظرية، ولكن غبش الرؤية لا يمنع من
تسليط الأضواء على المقترفات. ونحن في عالمنا العربي نتلقى هذا الفيض،
ونتمثل هذا الخلاف فنقول مثل قولهم، ونختلف كاختلافهم، حتى لو دخلوا جحر
ضبٍّ لدخلناه، وعلى المناهضين للحداثة أن يتلبثوا في أحكامهم، لأن الحداثة
العربية خليط من حداثات شتى، تسربت من كل جهة، ونسلت من كل حدب.
وفي إطار هذه التحولات المتلاحقة لن نستطيع إعطاء صورة سوية مقرؤوة
الملامح (للحداثة) ، لأنها تنتمي إلى مفاهيم متغيرة متناقضة. كالمفهوم التاريخي،
واللا تاريخي، ويسمى بالمكونات اللا زمنية، والمفهوم العقدي والفني. وإذ لم تكن
أحادية الظرف واللغة والثقافة والحضارة والدين جاء مصطلحها إشكالاً متنامياً بذاته. فالربط الزمني يحوله إلى صراع القديم والجديد مما عرفه أسلافنا: كأبي عمرو
بن العلاء والأصمعي والمبرد وابن قتيبة، والربط الدلالي يحوله إلى مقابل دلالي
هو (القِدَم) ، والربط التشكيلي يحوله إلى مناحي التجديد في الصورة والوزن
والأسلوب. وكل هذه الروابط لا تحسم جدل الحداثة، لأن جدلها عقدي حضاري
فلسفي قبل أن يكون فنياً. ومقتضيات المصطلح الغربي أخرجها من كل أطرها
الفنية، ليورطها في ممارسة منحازة تدعي الاستجابة للانفجار المَعْرفي، مما
يستتبع تفجير اللغة والبنية والدلالة، ومن ثم يتغير موقف الفن من الله والإنسان
والكون.
وعندما ناشد بعض منظري الحداثة بوضع فلسفة لها، وقدم مشروعاً يقوم
على تشكيلها من الفلسفات (الوضعية) (والمثالية) (والواقعية) ؛ تساءل أحد
الباحثين بسخرية مضحكة: (أيَّة وضعية تعني: أتعني وضعية) أوغست كونت (أو وضعية) مور (أو الوضعية المنطقية ... وأية مثالية تعني: هل تعني المثالية ...
الذاتية. مثالية) فيخته (أو المثالية الموضوعية مثالية) سللنغ (أو المثالية المطلقة مثالية) هيجل (أو المثالية المتعالية مثالية) كانت (أو المثالية الإشكالية مثالية (ديكارت) . ومع كل الصعوبات ما برح الوسطاء والتوفيقيون يخو ضون جولات مرهقة للقضاء على عنصر الرفض، وردم هوة الخلاف، وتجسير الفجوات القائمة بين الحداثة الغربية ومطالبنا الملحة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولم يفكروا في تشكيل حداثة تحافظ على خصوصيتنا، وتستجيب لمطالبنا، وتنسجم مع قناعاتنا وثوابتنا، بحداثة تحترم ذوق المتلقي، وتملأ فراغ نفسه، وتوقف نزيف الكلمة الطيبة المنحورة على نصب الغموض والنثرية وعبث القول.
وفي سياق التبرير والتوفيق نسمع وصف (الحداثة) والتحديث والتفريق بين
التجديد والتجدد، والاحتذاء والتجريب. ونضيق من الإسراف في ضرب الأمثال
وتناسي جوهر الأشياء وما تفضي إليه، والقول بأن الحداثة مطلق التغيير، وتقدير
حتمية التجديد، وتناسي ذلك عند التطبيق.
والكلمة.. وتفسير الكلمة لا يحل الإشكال. وإذ نؤمن بالتجدد وضرورة
التجريب يجب أن نضع لذلك ضوابطاً وشروطاً فيها اتساع ومرونة. فالتجريب
بدون ضوابط عبث، والتجريب بدون انتماء ضلال، والتجريب دون ثقافة ووعي
تخريب. والعبث والضلال والتخريب مرتكزات الحداثة التدميرية ومنطلقاتها. وإذا
أردنا مواكبة المستجدات والفكاك من العزلة والانكماش، فلا بد من التحرك في
إطار الانتماء والضوابط والثقافة والوعي، ويكون الانتماء باستصحاب مقتضاه
[الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ] [آل عمران 191] ، [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ] ، [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ] [آل عمران 139] ، [واعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] [الحجر 99] . ولا تكون الثقافة إلا باستيعاب الموروث
وتمثل الطارىء. ولا يكون الوعي إلا بفهم المرحلة المعاشة ومعرفة متطلباتها.
وبهذا كله نستطيع التفكير في (أَسْلَمةِ الحداثة) وجعلها إشكالية عربية متحاشية
التورط في الإلحاد والرفض والتصدي للإسلام واتهامه بتزييف الوعي وسخافة
الخطاب، في سبيل تحديث الإسلام لأسلمة الحداثة.. وإذ لا ننكر وجود تحولات
في كل أوجه الحياة؛ فإن الأدب شعره ونثره طرأ عليه تجديد واضح وملموس
أدركه علماء القرن الثاني، ورفضه بعضهم وسماه بالمحدث، ومع المقاومة العنيفة
والتصدي القوي غلب الجديد لأنه سنة الحياة التي لا تتبدل ولأن لكل زمان ذوقه
وتطلعاته، فهلا نطلق كلمة حداثة على هذا اللون من الأدب، أو أن من لازم شيئاً
اشتهر به، وملازمة الحداثة للمخالفة المرفوضة حددت مفهومها. مجرد سؤال.
فلربما يقول البعض: إن رفض هذا الإطلاق من باب كف الغيبة ودفع الشبهة
والابتعاد عن الحمى على هدى: [لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا] [البقرة 104] ،
فالنهي لا يرتبط بالمدلول الوضعي لهذا الجذر العربي، وإنما ينظر إلى ملابساته
وسياقه وظرفه. وعلى غرار (الكافر) للمزارع (والغائط) للمنخفض من الأرض.
فتحامي الاستعمال لتلبس الدلالة، ولما كانت ملابسات الحداثة بهذا الشكل
رفض البعض إطلاقها تلافياً للتوهيم. وقبل أن نختلف حول قبول المسمى أو
رفضه، لا بد أن نفهم جذور البلاء، ونستبين ملامح الدعاة فكم من دعاة على
أبواب جهنم. ولا يتم ذلك إلا بفهم متكامل لطبيعة الصراع بين الإسلام وسائر
القوى المضادة منذ أن وقف المنافقون واليهود في وجه المهاجرين والأنصار إلى
يومنا هذا. ولا يتم إلا بفهم شامل ودقيق للبعد الثقافي لكل الفترات ولكل
الشخصيات التي تركت بصماتها واضحة في مسار العالم الإسلامي، ابتداء من
الحملة الفرنسية، ومروراً بمحمد علي وأتاتورك، ثم بالعلماء والأدباء والمفكرين
الذين اختلفت فيهم الآراء، ومعرفة فصائل الصراع ودوافعها والممول الفعلي لهذا
الصراع وسبر أغواره وفهم منازعه. ومع كل هذا يجب استبعاد سوء النية
والتخلص من عقدة الغزو الثقافي فليس من صالحنا أن نعيش هذا الهاجس في كل
مواجهاتنا، وأن نعتبر أنفسنا في حالة حرب مستمرة مع الطرف الآخر. إن هناك
غزواً ولكنه دون الشمول الذي نتصوره، وبالتالي فليست كل ممارسات الغرب من
باب المكيدة، وفهمنا الصحيح للغزو يحدد أسلوب تحركنا وتعاملنا، وفهمنا للدعوات
يكشف الهدف من قبل التورط في النتائج.
ولو أننا فهمنا جذور البلاء وميزنا بين الغزو والتبادل لحلنا بين العدو وبين ما
يشتهي، ولتخلصنا من داء العزلة والتبعية. إن إمكانات العصر أدت إلى سرعة
الاتصال وتعدد قنواته وتداخل حاجاته وتلاحق متغيراته. وكل ذلك أسهم في تصعيد
مشكلة التصور، وأفضى إلى خلافات لا تخلو من الوهم والتفاهة والهامشية. (والحداثة) في سياق طروحات الغرب اختلفت حولها الآراء، والثابت أنها تستمد
لحمتها وسداها من واقعها المعاش، ومن ثم فإن لكل زمان، ولكل أمة، ولكل ثقافة
(حداثة متميزة) . هذا ما يجب أن يكون، أو ما هو كائن عند غير المقلدين، فهل
نملك القدرة على بلورة (حداثة عربية) ذات شخصية متميزة تصد وباء الطارىء
وتغني شبابنا عن الركض وراء سراب القيعان، وتطوق مكائد الأعداء ومكرهم
وتفسد عليهم حيلهم.
حداثة ذات ملامح عربية وإسلامية، ثم لنسمها ما شئنا حداثة أو معاصرة أو
تجديداً. ثم أنملك - وذلك أضعف الإيمان - القدرة على تحييد الحداثة القائمة من
عبثية التدمير. أم أنها عالمية الانتماء علمانية العقيدة، ثورية الحركة. ودورنا
يقف عند التلقي.
إننا نسمع بإمكان بلورة حداثة عربية، ونسمع من يؤكد هذه الهيمنة الغربية
على الحداثة العربية، ومن يناقض نفسه فينظر إلى إشكاليتها التراثية من خلال
محورين: أحدهما باركه ابرت قتيبة والمبرد وابن جني وابن رشيق. محور
التجديد الدلالي واللغوي والتجديد في البناء والصورة والأسلوب. ومحور التمرد
على الأعراف، كما هو عند الصعاليك، والتمرد على القيم والأخلاق كما هو عند
الخمريين، والمجان، والعلمانيين، والتمرد على السلفية كما هو عند شعراء الفرق، والتمرد على السلطة كما هو عند شعراء الطوائف، ومحور التمرد على الأعراف
والسلفية والأخلاق والسلطة يمثل الحداثة الحقيقية عند رموز التدمير. ونسمع من
ينادي بضرورة ربطها بحداثة الغرب ومن يراها جزءاً من مشروع حضاري شامل. وتلك المقولات المشبوهة تقف دون مشروع حداثة عربية وفصلها عن سياقها
الاجتماعي والتاريخي والحضاري في الغرب. وحين نتفق على تعريب الحداثة
وأسلمتها - ولا أحسبنا متفقين - فمن المخول بوضع شروطها وتحديد أبعادها
الدلالية والفنية؟ وتلك مشكلة لم تنشأ بعد.
وإذا كانت الحداثة في الغرب متلوثةً بمادية الماركسيين وإلحادية الوجوديين
فإنها في الشرق متلوثة بباطنية الهدامين ومادية المخربين وصليبية الحاقدين
وعلمانية المارقين.
وفي إطار هذا التورط، أنقدر على التوفيق بين وجهات النظر، ونتخلص من
تطاحن الأجيال ونطرح بديلاً يقوم على أصالة قادرة على المقاومة والتماسك في
مواجهة الطارئ؟ أم نتسلل لواذاً ونفضل التخلي عن جذر عربي للأعداء ينتزعونه
كما انتزعوا غيره على مر التاريخ العربي المدان بالتخلي الجغرافي والفكري. إنها
مشكلة يجب أن نفكر فيها جيداً قبل أن نتخذ القرار بالرفض أو القبول، لأننا مللنا
الخلاف والشجب والتناحر الكلامي، وحان الوقت لنلتقي على كلمة سواء ترأب
الصدع، وتفك الاشتباك، وتعيد لنا بعض ما فقدناه.
لقد تفرق الناس على مواجهة الحداثة إلى أصناف ثلاثة تذبذبت الحداثة عندها
بين التصنيم والتجريم والتحتيم. ففئة ترفضها بلا تفصيل، وتتهم أربابها، دون
استثناء، ولا تقبل بالمفهوم العام للتجديد والمعاصرة على سنن من قبلها من أدباء
وعلماء، ولا تفرق بين من يقبلها مفهوماً للتجديد الفني الخالص، ومن يتورط
بمدلولها الدنس وتدنيها المادي، وهذا الصنف تحركه عاطفة جياشة متقدة وتدفعه
نار متأججة، وتتحكم به رؤية غير واضحة؛ ومع عنف المواجهة وصرامتها فإن
العائد ضئيل والأثر وقتي. أما الصنف الاخر فخليط عجيب مريب من المشبوهين
والإمعات والتبعيين وعشاق الشهرة بالمخالفة، وهذا الصنف يحمل جراثيم متنوعة
لا يقضي عليها بوصفة علاجية واحدة لأن فيها مريض القلب، وضعيف الإيمان،
والمتردد، والمستجيب ببلاهة والشاك القلق، ومهزوز التصور والجاهل المستكبر،
والمتردية والنطيحة، والموقوذة وما أكل العدو.. والتصدي لهذا الخليط من
الفصائل - متفرقين أو مجتمعين - يتطلب الفهم والقوة والدراية والدربة في إطار
منهج دقيق وتحرف حاذق وأسلوب متكافىء للمجادلة والمحاجة، فالمخربون لا
يتحركون بهمجية ولا ينطلقون من فراغ، إن فيهم أساطين فكر يعرفون الحق ولكن
الهوى أصمهم وأعمى أبصارهم، وفيهم من يخبط كالعشواء في مجاهل التيه لا
يلوي على شيء من الوعي أو العلم بل سمع الناس يقولون شيئاً فقاله، ومشكلة
الواقع العربي استفاضة هذا النوع الذي يرفع رصيد الإمعية والغثائية وقابلية
الاستجابة لكل ناعق.
وثالث الثلاثة فئة تزودت من الثقافة بمفهومها الواسع، وتضلعت من التراث، وفهمت الحد المقبول من المعاصرة، وألمت بالمرحلة ومقتضياتها، وكشفت من
مكائد المقنعين والمندسين للوقيعة والفتنة وعرفت المدى المتاح للتغير والتجديد، ولم
تعر السمة أهمية بل نفذت إلى الجوهر، وجاء صراعها وتصديها متكافئين مع قوة
الخصم ومكره وخطورة الطرح المضاد، ومشكلتها الصراع الجانبي مع المتصدين
للأحداث عاطفياً، الذين يجهلون بعض الملابسات ويحرصون على تكريس الكيانات
وتنمية الصراع المذهبي. والحرص على التآلف لا يمنع من كلمة الحق، وواجبنا
الديني يقتضي الصدق والصراحة.
فالغاية واحدة والهدف مشترك، واختلاف المناهج يشفع له اتحاد الغايات.
وعلى المتخاذل في مواجهة الباطل والمتردي والمندفع باهتياج أعزل أن يقدروا
جميعاً المواقف غير المتضادة فكل إنسان مسؤول عن القول والصمت، [مَا يَلْفِظُ
مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] [ق 18] ، [وجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ
وشَهِيدٌ] [ق 21] .
وما أريد تأكيده في هذا الموقف أننا حين نتحدث يجب أن نفكر بمسئوليتنا
الشاملة، فليست مهمتنا مقتصرة على الأقربين، فالعالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ،
ومن لم يحمل هم أمته فوق كل أرض وتحت كل سماء فما أدى مسؤوليته، وعندما
نعرض مشاكلنا ونصنف الناس فإنما ننطلق من تصور شامل للمسلمين وهمومهم في
الداخل والخارج، وخدمة العقيدة ليست وقفاً على فرد أو جماعة وليست خاصة
بموقع دون موقع. فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، ومهمته أن يحفظ هذا
الثغر بكل ما آتاه الله من قوة وفق ما يراه مجدياً في هذا السبيل، وعلى المرء ألا
يكلف نفسه فوق طاقاتها، ودخول المعركة الفكرية بدون سلاح فكري متكافىء
تمكين للخصم وتكليف للنفس، والتصدي للفكر المضاد مناطه القدرة.
وإذا أردنا مصداقيتنا الاستمرار فعلينا أن نتخطى التعميم والتشهير وعشوائية
التصدي وأن نتجه بأناة وروية إلى الجانحين في إبداعاتهم أو في تنظيرهم لتنبيههم
وأخذهم بما اقترفوا، وتلافي إطلاق الأحكام العامة على أي مذهب يختلف حوله
الناس، وتختلف الفئة في إطاره، لأن في ذلك إفلاتاً للمذنب.
وصراع المذاهب معروف وقائم لا يستنكره أحد لأنه قد يحمل على التعصب
والهوى والمنافسة، فلا يكون له وقع ولا أثر، والمصرون على الحنث يجدون في
التراشق المذهبي فرصة ادعاء أن الخلاف من باب التنوع لا من باب التضاد.
والصراع الفكري يكرس المذهبية، ويقيم الكيانات، ويجعل الولاء والبراء للمذهب، فما الداعي لتجاوز نص الإدانة وخصوصيته إلى أفق المذهب وعموميته.
والصراع المذهبي قد يحيد بنا عن العدل في الحكم، ونحن مطالبون بالعدل،
والعدل صنو التفكير العلمي الذي لا يقبل الارتجال ولا التعميم ولا الانطباعية،
ومن مقتضياته تحديد الأحكام، وأخذ الأمور بقوة الفهم ودقة التصور، ومواجهة
الظاهرة بعقلية مستنيرة متفتحة تتيح الفرصة لعرض مفردات الظاهرة. والتبين
مطلب إسلامي ولا يعيب الحق مصدره، والمصطفى بخلقه العظيم أثنى على حلف
الفضول، وهو حلف جاهلي، وإذا بدت ظاهرة أدبية أو فكرية فعلينا محاكمتها
بصرف النظر عن مصدرها، فإن صحت قبلناها؛ وإلا رددناها. ولعلنا على علم
بنغمة حوار الحضارات، وقبل الدخول في دوامته لا بد أن نعرف مهمتنا في الحياة
وهويتنا وخصوصيتنا. فحوار الحضارات لا يعني التخلي عن ثوابتنا، ولا يعني
اللجاجة ومصادرة حق الطرف الآخر. والمحق في كل زمان ومكان حاجته إيصال
صوته، وإذا لم يذعن المبطلون لهذا الصوت فإنهم سيضيقون به ذرعاً، لأنه
صوت الضمير الحي والفطرة السليمة. والاستجابة لهذا الصوت آتية لا محالة،
فعلى صاحب الحق أن ينفي خبث اللجاجة عن صوته، وأن يقف حيث يتم
التوصيل. والمرتجفون من صوت الحق يتواصون فيما بينهم [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا
القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت 26] ، لأن صوت الحق إن لم يغلب
أوهن الخصم وخلخل حشوده، وما دمنا أصحاب حق فإن علينا أن نقتصر على
التوصيل. والفكر الإسلامي في مواجهته لكل التيارات بحاجة إلى الهدوء والأناة
والملاطفة [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] [النحل 125] ،
وبحاجة إلى تلافي صراع النجومية الذي يحوله إلى أداة تصارع من أجل الكسب لا
من أجل التصحيح. وبحاجة إلى تلافي صراع المذهبية الذي يحول الولاء والبراء
للكيان ولأعلامه. وبحاجة إلى فهم الطرح، وتمثله سلوكاً ومنهج حياة وفهم الطرح
المضاد، والاعتراف بحقه إن كان ثمة حق في بعض مفرداته، فالاعتراف بحق
الغير دعم للمصداقية. ويحتاج أيضاً إلى عقلية مستوعبة تفهم المرحلة ومتطلباتها،
وتدرك حجم المواجهة والامكانيات المتاحة. وتدرك قبل هذا وبعده ما يحاك داخل
أوكار الماكرين لمعرفة المنحرفين الذين ينسلون من كل حدب ليندسوا في الصف
الإسلامي وراء قناع الغيرة على الإسلام والدفاع عنه. وما الصهيونية والماسونية
والعلمانية والماركسية والرأسمالية والوجودية والباطنية وسائر النحل المنحرفة إلا
تشكل معاصر لجيش الفتن الذي فرق بين كلمة المسلمين وجعل الصحابي يشهر
سيفه في وجه أخيه. وما علينا لو أعدنا قراءة التاريخ لنتزود من مواقفه، فالتاريخ
قد يعيد نفسه، وقد نسمع ونرى ابن السوداء ماثلاً أمامنا يشعل الفتنة ويغرر بالناس. فلنأخذ حذرنا ولنعرف أن زماننا المواتي لن يترك فنحن أصحاب نعمة واستقرار
ورخاء. وهل هناك نعمة تتكافأ مع نعمة الإسلام.(64/44)
الملف الأدبي
مقدمة في بناء الرواية
د.مصطفى بكري بن محمد السيد
- 1 -
مكتبة علوم القرآن، معجزة أخرى لهذا الكتاب العظيم، تتمثل في نهر ...
المعرفة المتدفقة التي فجرتها آياته وكلماته منذ لحظة نزوله الأولى وحتى النصف
الأول من الألف الثانية من عمره المبارك، هذا ما كان في المضمار الثقافي، أما
في الميدان العملي، فما زال يبعث في الأمة أملاً متجدداً وعزة قعساء [1] ، لا ترى
فيما يجبهها أكثر من كبوة عابرة ومحنة زائلة، لأنها تجد في تاريخ البشرية الممتد
فوق جباه القرون لوحات ناطقة، مواعظ وعبراً، إنشاءً وخبراً، وكم أرخت هموم
الحياة سدولها على واقع المسلمين حتى قال أعداؤهم: هذه مُهلكتهُم، فيُقيِّض الله
لهذه الغمة رجالاً ينكشف بهم الضر ويصححون العلاقة بين الأمة والقرآن، بتقديم
الدراسة الواعية والقراءة العميقة، التي تجعل منه سوراً منيعاً أمام محاولات
الاجتياح الثقافي والانكسار الحضاري.
لقد كان القرآن الكريم مصحوباً بالحديث الشريف أمام كل انتصار ووراء كل
وثبة للأمة الإسلامية؛ وكان العلماء هم الطليعة في كل الزحوف، ولم يكن أعداء
الدين جاهلين مصدر قوة المسلمين وتماسكهم، ففكروا وقدروا ثم فكروا وقدروا
فرأوا ألا مُكْنة [2] لهم في إدخال الزيادة أو النقصان على حروفه وكلماته وسوره
وآياته لأنه محفوظ في حرز حريز إنجازاً لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول:
[إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر15] ، فلم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى: [والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ] [المائدة 44] ، أي بما طلب إليهم حفظه، والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد وأن هذا القرآن جيء به مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه [3] ..
(وكم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا
القرآن وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء ثم لا يظفر
أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا
عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ] [الأنفال 36] ، ذلك بأن
الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا) [4] .
إن أكبر مصيبة تحل بالمسلمين هو أن يحال بينهم وبين كتاب ربهم وسنة
نبيهم، وذلك عندما يُقرآن قراءة لا تتأسس على أصول السلف ولا تستصحب معها
رؤى العصر، إن ذلك عندما يحصل يجعل من المسلمين أمة بلا هوية، ويفقدهم
الشهادة على الناس لأن الحياة لا تستأمر غائبين، ولا تستشهد مغيبين.
- 2 -
وإن من أكبر الجهاد إعادة تشكيل العقل المسلم وبناءه على معايير النصين
المباركين في كل شؤون الحياة الحاضرة والتي يعد الأدب المعاصر أحد أهم روافدها، وفي التجهيز المعنوي والأسلوبي للأدب ما يؤهله ليوفر المساندة الفعالة لتصحيم
مسار الحياة الإسلامية، وإيقاف التداعي المؤسسي والخلل البنيوي في جهدها
وجهادها، وإذا كانت أفعالنا أبناءً لأفكارنا فإن دور النص الأدبي في مملكة الفكر
يأتي بعد النص الشرعي مكوناً أساساً للبنية الثقافية للفرد والأمة، وفي الثقافة العامة
والخاصة لأية أمة يكمن التفسير الدقيق لفعلها وانفعالها وتخلفها، ومن هنا فالأدب
الذي يكون اليوم أسطورياً، سيكون غداً شخوصاً ودستوراً، ولكم سمعنا عن نبيل
يخال القرار يباعد الأجل فيتحرك محفوظه الشعري ليرده إلى قلب المعركة كما
حصل لمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -[5] والمتنبي.
وكم رأينا قائلاً يتوازى إيقاعه مع توقيع [6] الأمة فيتوحد المرسل بالمتلقي
ليصبح عمله الأدبي صوتاً قومياً كنونية عمرو بن كلثوم أو نشيداً إسلامياً كبائية أبي
تمام (190 هـ - 231 هـ) التي جعلت مباشرة الخيار العسكري دليلاً على وجود الأمة وألقت بمؤسسة الكهانة في مزابل التاريخ.
وليست القصة أقل خطراً من الشعر في أثرها وتأثيرها، بل وفي إيثارها من
القراء أكثرهم على بقية الأجناس الأدبية. ففي صياغتها النثرية ما يحرر المبدع من
بعض القيود، التي قد تحدّ من تدفق أفكاره.
ولئن كان الشعر قد أطرب البشرية وأمتعها، فإن النثر قد بلغ مع هذين
الهدفين أهدافاً كثيرة أخرى كالمعرفة والخبرة وتقطير التجربة. والنثر كما كان
أسلوب الكتب المنزلة من الله عز وجل، هو أيضاً لسان الحياة الحديثة، (لأن
الأديب فيه يكون أكثر حرية تجاه اللغة فهو ليس مقيداً بقيود التشكيل الموسيقي
للشعر، والذي تقف فيه (أنا) الشاعر ولغته ورؤيته في الصدارة) [7] .
وهذا رأي كبار النقاد الذين يؤمنون بأن (لغة النثر حمالة للمضمون والمحتوى، وأن قيمتها فيما تحمله من أفكار للتخاطب، ولغة الشعر قيمتها ذاتية، لأنها تهدف
إلى توصيل معان ومضامين، بقدر ما تشكله هي ذاتها من تعبير فني يقوم على
التوزيع الصوتي والموسيقي، والقدرات التعبيرية الصورية أو المادية، أو
الإيحاءات الكامنة الهائلة التي يمكن أن تفجرها الصور الشعرية في ائتلافها
وتلاحمها أو في تعارضها وتنافرها) [8] .
(فالكلمة في الشعر تستخدم بطاقاتها التصويرية، والتشكيلية والإيقاعية،
وليست مهمتها في الدرجة الأولى أن تحكي الحدث، إنما الشعر طاقة انفعالية
وشعورية مكثفة إزاء موقف ما أو حدث ما) [9] .
أما القاصُّ فالمطلوب منه أن يختفي كلية وراء عمله، وأن يفسح المجال
للشخوص كي تتحرك في علاقات محددة، وأن يدع الأفعال تترابط وتتحرك على
مستوى معين، ثم أن يدع الحركة تنمو والزمن يتحرك من الماضي إلى الحاضر أو
العكس، ومن الحاضر والماضي إلى المستقبل ثم عليه بعد ذلك أن يعزز المغزى
البعيد الذي ينسج من حوله الأحداث وتطور الزمن وحوار الشخوص مع بعضهم
بعضاً.
والكثيرون من المبدعين يؤثرونها أي القصة (لأنها أقدر الأنواع الأدبية على
التأثير على الناس أفراداً وجماعات وطبقات وحقباً معاصرة وتاريخية) [10] .
وبتقدم الأمم ثقافياً وفكرياً وإيثارها التأمل على الصوت والتحليل على الانفعال
فمن المحتمل في ظل ذلك أن تقفز القصة لتكون فن المستقبل، وربما صارت
الجنس الأدبي الذي يحتكر القراءة والقراء، إذ فيها من الشعر لغته، ومن المسرح
قضيته. ومضامينها المختلفة تشكل لقرائها ومشاهديها ومستمعيها - عبر وسائل
الإعلام - منظومة معرفية، ودستورية أخلاقية وذوقية، ومعايير محاكمة للذات
والآخر أفراداً وجماعات أفكاراً وتيارات، ولو رحنا نحلل فكرياً وسلوكياً ثقافة
الكثيرين لوجدناها غالباً تنحدر من مقروءاتهم القصصية، ولعل ذلك يجعلنا نفقه
لماذا يأتي نجيب محفوظ في مقدمة المقروئين في مصر يتلوه الشيخ محمد متولي
الشعراوي [11] فهذه النتيجة تفصح عن مكانة القصة والثقافة الشرعية وإن كنا
نرجو أن تتقدم الثانية على الأولى..
إن القصة تفعِّل الموضوع الماضي الحاضر وتخصبه فنياً ليكون المستقبل،
لأن الفنان حقاً لن يذهب إلى عرض الحياة في صورة فوتوغرافية ولكنه سيذهب
إلى عرض صورة أكثر حقيقة وحيوية وكمالاً من الحقيقة نفسها. (وإذا كانت نقطة
انطلاق الروائي هي عالم الواقع، فإن نقطة الوصول ليست هي العودة إلى عالم
الواقع بل إنها إيجاد عالم مستقل له خصائصه الفنية التي تميزه عن غيره) [12] .
وبرؤيتها المستقبلية تكون مسودة التاريخ ومخطط حياة الغد، يقول أندريه جيد:
(لئن كان التاريخ رواية وقعت فعلاً، فإن الرواية تاريخ يمكن أن يقع [13] ، لأنها
كما يقول الفرنسي الآخر (البير كامو) : القصة هي الواقع مصححاً) [14] . ...
(وخلاصة القول إن لغة القصة إذا ما استخدمت بكفاءة بالغة تجعل الماضي
واقعاً معاشاً، وتمتد بالحاضر إلى رؤية مستقبلية مشحونة بالتوقعات، كما إنها
تحمل الإشعاعات العاطفية والفكرية) [15] . وإذا كانت القصة بهذه الخطورة فإن
إنتاجها إنما يكون عبر التأليف أو من خلال الدارسة النقدية (لأن حكمنا على
التجربة هو نفسه تجربة) [16] ..
هذه الإنتاجية لم تعد مغامرة فنية ومشاركة أدبية فحسب، بل مواجهة أداتها
الكلمة المعبأة بالأسلوب المتشبع المتضلع بالمعمار الفني. وأنا لا أصطنع
لأطروحتي مناخاً خيالياً فتكون مجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار، بل أدعو
القارئ الكريم ليتأمل أولاً كلمة القاصّ الرافضي اليساري العراقي المنشق عن روح
الأمة عبد الرحمن مجيد الربيعي (إنني أكتب القصة لأطرح من خلالها موقفي
السياسي والاجتماعي أي أنني كاتب ذو قضية، وإن وسيلتي الناجحة في التعبير
عنها هي هذا الفن الصاعد، القصة القصيرة) [17] .
ثم ليتأمل ثانياً: استعداء الناقد الماركسي القبطي غالي شكري للقاصّ يوسف
إدريس ت (1991 م) على من يسميهم (الأصوليين) وتهييجه أن يترجم سخطه
عليهم في أحد أعماله القصصية القادمة! !
- 3 -
(وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما) [18] .
لقد كان في هذه الحفاوة المبكرة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقصة
ما يؤهل هذا النوع الأدبي، لتتأوج مكانته، وليحتل المنزلة المناسبة لعطاءاته
التربوية والجمالية، والمعرفية فنسبة القصة في القرآن الكريم إلى غيرها من
الموضوعات ما يعزز هذه المكانة إذ نجد أن المساحة التي شغلتها (من كتاب الله
كانت مساحة واسعة، ما نظن أن موضوعاً آخر كان له ما كان للقصة من نصيب،
فالقصص القرآني لا يقل الحيز الذي شغله من كتاب الله عن الربع إن لم يزد
قليلاً) [19] . وتجد في آيات القرآن الكريم من قواعد القصِّ في الشكل والمضمون والمتبوع بالنموذج التطبيقي ما يرفد هذا الفن ويضع بين يديه صُوى [20] ، ليسترشد بها مبدعو الفن القصصي، فقد وصف الله تعالى القرآن بقوله: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ] [الزمر 23] ، ووصف قصصه بأنها [أَحْسَنَ القَصَصِ] [يوسف 3] ، وقد يكون الحديث عن القصة أكثر تفصيلاً، في قوله عز اسمه: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ولَكِن تَصْدِيقَ الَذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]
[يوسف 111] . وقوله عز اسمه: [وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] [هود 120] ، فالتاريخ كما هو مدون ومكون للقص مقصود له [21] ، والقرآن الكريم لا يسرد التاريخ سرداً
آلياً، بل يعرضه بأسلوب يتجاور فيه الحق والجمال، ويتحد معه الشكل بالمضمون فيشبع الذائقة الأدبية بلغته الجمالية، ويترع الواعية المعرفية بحقائقه النهائية، وإخال أن الموسوعات التاريخية الإسلامية - في أسلوب تدوينها التاريخي - لم تكن بمبعدة عن النهج القرآني ولا سيما في كتابي (الرسل
والملوك) لابن حجر [22] و (البداية والنهاية) لابن كثير [23] .
فقد كان علمهما بالتفسير يترك بصمات واضحة على عملهما في التاريخ
والعكس صحيح أيضاً، كتبا كمؤرخين وأديبين ومسؤولين تجاه دينهما وأمتهما،
وتناثرت في سفريهما لوحات موحية ولمحات مورقة، لا تمر بالحدث مروراً محايداً، ولا تباعد يبن العلم والعقيدة بدعوى الموضوعية، وهكذا تكون عطاءات القرآن
الأسلوبية، ثروة معرفية أخرى من كنوز هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه..
وإذا كان قارئ الرواية ينتقل من موضعه إلى عوالم شتى من صنع الروائي
نفسه [24] ، فإن دراسة قصة مثل قصة موسى [25]- عليه السلام - تفتح عين
القارئ على ملحمة صادقة لهذا الرسول -عليه السلام- منذ ألقت به الأم في لجة اليم
إلى أن تمكن بسلاح الكلمة أن يثل عرش طاغية كان قد أعلن في لحظة مظلمة من
تاريخ البشرية [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات 24] ، وبين لحظة الميلاد ونهاية الحياة تطوف بنا الآيات بين مصر والشام وشمال الجزيرة (مدين) ، وهي تتابع مسيرة هذا الفتى قبل أن ينبأ، والذي كان في نفسه شديد الغضب وتوقفنا على شهامته ونخوته عندما يسقي لبنات شعيب -عليه السلام-، ولا تأخذه العزة بهذه اليد التي يسديها إلى الفتاتين بل ينجلي شكره على هذه النعمة بهذا الحوار مع النفس
[رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] [القص 24] .
وتستدعي الآيات إلى أبصارنا مسيرة ابنة شعيب -عليه السلام- تدعو موسى
- عليه السلام- بحديث خال من تبرج الكلمات، ليلقى والدها -عليه السلام-،
فيعرض عليه شعيب [*] (أن يجزيه أجر ما سقى لابنتيه، فيجيبه موسى - عليه
السلام-: (إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهباً، ولانأخذ على
المعروف ثمناً) ، فيعقد له على إحدى ابنتيه مقابل أن يسترعيه ثمان حجج، وبذلك
يدخل مدرسة الأنبياء: (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم. فقال صحابته: وأنت؟ فقال:
نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) [26] ..
هكذا تكون تربية الأنبياء، إنهم ليسوا مثل أولئك الواثبين على السلطة أو
المستقدمين إليها دونما رصيد وتدرج في سلم المسؤوليات، فمن رعاية موسى -
عليه السلام- للمواشي، (اكتسب الكثير من حكمة النبوة، فلما حان موعد سيناء
كان مهيئاً للنهوض بالعبء الذي لا يصلح له إلا (أولو العزم) [27] .
ونتابع سيرة هذا النبي -عليه السلام- في آيات القرآن التي تنقل لنا:
مواجهته للكفر المؤسس بفرعون ودولته وما فيهما من سحر ومكر، وتصديه لليهود
الذين كانوا الخصم الألد [28] لدعوته ولكل داع ودعوة، ولقارون وثروته التي
وظفت للصد عن سبيل الله، وغير ذلك من الموضوعات الرئيسية والقضايا الجانبية، خلال حياته التي امتدت حتى بلغت عشرين ومائة سنة [29] ، هذا الزمن الفلكي
الممتد يختصر إلى أبعد حد في (زمن القص) المذكور في السور القرآنية المباركة،
هذه الشخصية التي تبدأ حياتها بفتوة عارمة تسخرها لطاعة الله عز وجل تنتهي
أيضاً كذلك مع ملك الموت: فقد روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: (أرسل ملك الموت إلي موسى -عليه السلام- فلما جاءه صكه..) ، الحديث [30] .
هذه السيرة العطرة جعلت رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يتنازل
تواضعاً أمام إنجازاتها النبوية الفذة فيقول: بأبي هو وأمي (لا تخيروني على موسى
فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا
أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله) [31] .
__________
(*) الراجح أن والد الفتاتين في سورة القصص ليس النبي شعيباً كما هو شائع عند كثر من المفسرين لأن شعيباً لم يكن معاصراً لموسى -عليه السلام-.
(1) قعساء: يقال عزةٌ قعساء: ممتنعة ثابتة المعجم الوسيط 2/749 قام بإخراج هذه الطبعة: د إبراهيم أنيس، د عبد الحليم منتصر، عطية الصوالحي، محمد خلف الله أحمد، دار إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
(2) ن م رقم 21/882 ومعنى ن م: نفس المصدر أو المرجع، المكنة (بضم الميم) القدرة والاستطاعة، القوة وبشدة.
(3) النبأ العظيم، ص 3 1 -4 1، د محمد عبد الله دراز، دار القلم الكويت، ط م 1390 هـ.
(4) ن م رقم 3، ص 44.
(5) في كتاب أيام العرب في الإسلام، تأليف: محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد اليحياوي - دار إحياء التراث العربي /بيروت و 3/1388 ص 362، (لم يزل الاشتر في هجمته حتى وصل إلى حرس معاوية، وكان معاوية يقول: أردت في هذا الوقت أن انهزم فذكرت قول ابن الأطنابة:
... أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وإقدامي على البطل المشيح
... وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
... وقولي كلما جشأت وجاشت: مكانك تحمدي أوتستريحي
فمنعني هذا القول من الفرار وفي (نضرة إلا غريض في نصرة القريض) للمظفر العلوي /357، يقول معاوية -رضي الله عنه-: (علموا أولادكم الشعر، فإني أدركت الخلافة، ونلت الرئاسة، ووصلت إلى هذه المنزلة بأبيات ابن الأطنابة) .
(6) التوقيع نوع من السير المعجم الوسيط 2/1050 [**] .
(**) المعجم الوسيط غير موثق وأغلاطه كثيرة ولا سيما في الطبعة الأولى
- البيان -.
(7) الرواية وفن القص /وهو عنوان عدد لمجلة فصول /المجلد الثاني، العدد الثاني، يناير-فبراير-مارس، 1982 ص 14.
(8) ن م /7، ص 109، مجلد 5 عدد 4، 1985م.
(9) نقد الرواية، د نبيلة إبراهيم سالم، النادي الأدبي، الرياض، 1400/ 1980 م ص 11.
(10) ن م 7، ص 182، عدد 0 3، 1991م.
(11) حديث الثلاثاء، 2/ 341، أحمد عبد المعطي حجازي، دار المريخ للنشر الرياض.
(12) سيزا قاسم، بناء الرواية، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، دار التنوير بيروت، ط أولى 1985، ص 105.
(13) من بحث مخطوط لكاتب المقال بعنوان: خواطر عن القصة في القرآن الكريم، ص 9.
(14) المصدر نفسه.
(15) ن م 7/44، نقد الرواية.
(16) قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر ص 20، د عز الدين إسماعيل، الناشر: دار الفكر العربي 1980م.
(17) مجلة فصول، عنوان العدد، الأدب والايدلوجيا، ص108، مجلد 15 عدد 4، 1985م ويعلق كاتب المقال على إجابات بعض الكتاب عن أسباب كتابتهم القصة فيقول: لست أدري لماذا جاءت هذه الآراء الخجولة (لأنها تتحدث عن غياب المغزى عن مخططهم الأدبي ارتقاء بالفن عن أية غاية) ويعلق على كلام الربيعي بقوله: ألا ما أجمل الوضوح والبساطة بغير معاظلة ولا التواء.
(18) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 410، والكتاب للامام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، وبمناسبة النص: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قص على اصحابه قصة موسى والخضر -عليهما السلام- فلما بلغ قوله تعالى: [هذا فراق بيني وبينك] [الكهف] ، قال: وددنا أن موسى 00) الحديث.
(19) القصص القرآني، إيحاؤه ونفحاته، ص 10، د فضل حسن عباس، دار الفرقان، عمان ط1، 1407 ط /1987 م.
(20) المعجم الوسيط 1/530، الصُّوَى: ما نصب من الحجارة ليستدل به على الطريق، ج: صُوى وأصواء.
(21) في كتاب قضايا التكرار في القصص القرآني، د محمود زلط، ط أولى، دار الأنصار بالقاهرة 1398هـ رأي غريب وهو: القرآن لا يهدف إلى التاريخ، وينقل هذه الجملة عن فضيلة الإمام الشيخ محمود شلتوت في كتابه تفسير القرآن الكريم ص 573.
(22) ابن جرير الطبري، ت 310 هـ.
(23) ابن كثير ت 4 77هـ.
(24) ص 99 من المرجع رقم 12 بناء الرواية.
(25) تفسير الكشاف للزمخشري المعتزلي، 3/159 قريء موسى.
(26) فتح الباري 4 / 441، ورقم الحديث 2262 كتاب الإجارة رقم 37 باب 2، رعى الغنم على قراريط.
(27) نظرات تحليلية في القصة القرآنية، محمد المجذوب، 120/190.
(28) الألد: الخصم الجدل المعجم الوسيط 2/ 821.
(29) فتح الباري 6/442.
(30) فتح الباري 6/ 440.
(31) فتح الباري 6/ 441.(64/56)
الملف الأدبي
إسلامية الأدب كيف ولماذا؟ ؟
عبد الرحمن صالح العشماوي
الشبهة السادسة [*] :
تثار هذه الشبهة منذ زمن بعيد بالصيغة التالية: الأديب العالمي هو الذي
يتخلص من النظرة الأحادية، إلى العالم من حوله، فتكون له رؤاه المتعددة القائمة
على مرونته لا في التجامل مع الأفكار والمبادئ الأخرى، والأدب الإسلامي يقوم
على (النظرة الأحادية) التي لا تتحقق معها الرؤية العامة والعالمية.. أما هذه الأيام، فإن هذه الشبهة تثار بعينها، ولكن بأسلوب آخر فيقال: النظام العالمي الجديد ينادي بثقافة عالمية موحدة لا فواصل بين العقول والأفكار فيها، فالناس جميعاً ينتمون الآن إلى ثقافة واحدة تقوم على فكرة (الإنسانية [**] ) التي لا تعرف الحدود، والأدب الإسلامي بنظرته الأحادية يدعو إلى التميز، وإقامة الفواصل بينه وبين الآداب العالمية المخالفة له في الوجهة الثقافية.
هكذا تثار هذه الشبهة، فما موقفنا منها؟ ؟ !
أولاً: نؤكد أنه لا تعارض بين (أحادية النظرة) وتعدد الثقافة ومصادر الفكر
في حياة الإنسان السوي، ولذلك فإن من الخطأ الكبير ما يقال عن حيلولة النظرة
الأحادية دون تعدد مصادر ثقافة صاحبها، فالثقافة بمعناها العام ليست حكراً على
أحد من البشر، والإطلاع على العلوم والأفكار المختلفة شيء، والمرونة القائمة
على الذوبان في تلك الأفكار شيء آخر، والأدب الإسلامي قائم على تصور إسلامي
واضح لا غبار عليه، ولا يجيز لنفسه أن يتركه بدعوى تعدد الرؤية الثقافية،
ولكنه مع ذلك يؤمن بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
ثانياً: أحادية النظرة بهذا المعنى - الذي ألمحنا إليه - هي الطريق السليم إلى
التميز عن الآخرين؛ التميز في الفكر، وأصول الثقافة، وقبل ذلك كله (في
الاعتقاد) ، أي في (الدين) . وإذا كان هذا التميز مطلباً فطرياً في الإنسان، وهدفاً تسعى إليه الأمم والشعوب في ظل أفكارها ومبادئها الخاصة بها، فإنه مطلب شرعي أساس في دين الإسلام.
يقول الله تعالى: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم 30] ، وهذه الآية صريحة كل
الصراحة في رسم إطار التميز للإنسان المسلم وهو تميز فريد ذلك لأن الله قال:
[إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ ومَا اخْتَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ
بَغْياً بَيْنَهُمْ ومَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) ] آل عمران 19 [.
إذن فالدين الإسلامي هو الدين الذي دعا إلية الأنبياء جميعاً، وهو قائم على
رؤية متميزة كل التميز عن الرؤى العقدية والفكرية والثقافية التي تقوم عليها
المذاهب البشرية الوضعية، بل والديانات السماوية المحرفة وهذا التميز يقوم في
أساسه على (رؤية واحدة) لا يجوز للمسلم الحق أن يتزحزح عنها قيد أنملة، ولا يصح له أن يستقي أصول ثقافته وفكره وأدبه من سواها، ولهذا قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بعد هذه الآية:] فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ وقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [] آل عمران 20 [،. وهذه الآية صريحة كما نرى في تأكيد (الرؤية الواحدة) مهما اختلفت الرؤى، ومهما أصر أصحاب التعددية الفكرية على مواقفهم، ذلك لأن هذه الرؤية الواحدة هي التي تبني (القاعدة الأم) لفكر الإنسان وثقافته وأدبه] فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ [] آل عمران 20 [، أي: أن أولئك الذين يعترضون على هذه القاعدة الصلبة والرؤية الواحدة قد يحاجون الرسول -عليه الصلاة والسلام- فيها، فإذا حاجوه فإن عليه - بأمر من الله - أن يعلن لهم الثبات عليها دون تردد أبداً، فإذا ما تولى أولئك فأمرهم إلى الله وهو بصير بعباده.
وهذه المعاني التي يغفل عنها كثير من نقاد الأدب المسلمين المعاصرين هي
القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في أدبنا.
ويبرز هنا سؤال هو: هل تتعارض هذه القاعدة، وهذا التصور مع تنويع
مصادر ثقافة الأديب الإسلامي؟ ؟
الجواب الذي لا احتمال لغيره: كلا.. ثم كلا.. فالأديب المسلم مطالب
بالإطلاع على الثقافات المختلفة وأساليب الأدب المتعددة، مع أن له نظرته الموحدة
القائمة على تصوره الإسلامي الثابت. ومن هنا ندرك أن شبهة التميز المثارة هي
خاصية يتميز بها الأديب الإسلامي عن سواه، ويسلم بها فكره وأدبه من
الاضطراب، والذوبان، والسير الأعمى وراء كل ناعق ثقافي أو أدبي يدعو إلى
التعددية الثقافية الشوهاء.
وإذا كان التميز مطلباً إسلامياً بناء على نصوص القرآن والسنة المطهرة فإنه
قاعدة لا بد من الاتكاء عليها في مواجهة انحراف الثقافات والآداب الأخرى، وهو
أيضاً قاعدة يمكن أن ينطلق منها الأديب الإسلامي إلى العالمية. فالعالمية في الأدب
لا تعني انفلات الأديب من قيمه وملاحقة المذاهب والأفكار الأخرى المنتشرة في
العالم ملاحقة التابع المقلد، ولكنها تعني الانطلاق من رؤية خاصة وقاعدة أدبية
مستقلة إلى آفاق إنسانية رحبة..
إن الشاعر الإسلامي محمد إقبال - رحمه الله - هو الذي أوصاه أبوه أن يقرأ
القرآن، وهو الذي تناول في شعره قضايا عالمية كبرى تحققت له بها العالمية التي
نتحدث عنها. فهل كان التميز عقبة في طريقه؟ ؟] 1 [.
وكذلك (شاعر الإنسانية المؤمنة) عمر بهاء الدين الأميري - رحمه الله - لم
ينطق إلى دوره الشعري العالمي من تقليد أعمى لشاعر غربي أو شرقي، وإنما
انطق إليه من ديوانه الأول (مع الله) ، إنه التميز الذي يحققه الأديب الإسلامي
على وعي وبصيرة، وهذا التميز هو الذي يحمي الأديب الإسلامي من الانخداع
بدعاوى النظام العالمي الزائفة، فيقف أمام هذه الدعاوى شامخاً، ويفندها ويبين
للأجيال زيفها وتضليلها، وهو بذلك يسلم من تلك الرؤية الزائفة التي يرى بها -
بعض الأدباء المنحرفين - أحداث العالم المعاصر..
يتناول الأديب الإسلامي القضايا الكبرى تناولاً واعياً فإذا تحدث عن النظام
العالمي الجديد تحدث عنه حديث الواعي الذي يدرك أنه استعمار صليبي وهيمنة
غربية جديدة. بينما نجد من أدباء ونقاد العرب - ممن يتنادون إلى التعددية الثقافية
والفكرية الزائفة - من يرى النظام العالمي الجديد وسيلة من وسائل التقدم لأمتنا..
فها هو لطفي الخولي يقول في كلمة ألقاها في مهرجان أصيلة الأخير: (النظام
العالمي الجديد سيفرز ثقافة جديدة تحاول إنقاذ العالم من أهم أربعة أخطار وهي
القنبلة النووية، ومشكلة تلوث البيئة، وتفجر الصراعات العرقية، ومشكلة
الفقر) ] 2 [.
ويبدو أن هذا الكاتب (المثقف) ] *** [؟ ! .. لم ير ما يجري في البوسنة ...
والهرسك ولم ير الهياكل العظمية التي تعرضها وسائل الإعلام في الصومال
الجريح، ولم يفهم معنى التآمر العالمي على الجهاد الأفغاني، ولذلك كانت صورة النظام العالمي في ذهنه صورة حسنة..
وبمثل هذا الوعي الناقص قال أحد أبناء الجزيرة العربية التي انبثق منها نور
الإسلام المتميز: (إن النظام العالمي الجديد يستوعب تفكيراً جديداً، رائده هو كيف
(نتأقلم) ] 3 [. وكأنه يريد أن نصنع ما تصنع الحرباء ذات التعددية في اللون حيث
أنها تغير لونها على حسب الموقع الذي تكون فيه.
إن الأديب الإسلامي يظل بمنجاة من هذا التخبط لأن التصور عنده إسلامي
قائم على تميز في الفكر والثقافة والأدب، وليس معنى هذا التميز أن يكون الأديب
الإسلامي غائباً عما يجري في هذا العالم - كما قد يخطر ببال البعض - كلا فإن
رؤية هذا الأديب أعم وأشمل، وهنالك قدر مشترك من القضايا والمواقف بين أدباء
العالم على اختلاف أفكارهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، مع وجود الفوارق التي تميز
بعضهم عن بعضهم.. فالحديث عن المظلومين والمشردين، وتصوير آهات اليتامى
والثكالى.. والحديث عن العدل وقيمته، والحرية وأثرها إلى غير ذلك من القضايا، كل ذلك من الأمور المشتركة بين أدباء العالم، أما التميز والنظرة الموحدة إلى
الأمور فمن أهم خصائص الأدب الإسلامي الذي تضرب جذوره في تربة الإسلام
الخصبة النقية..
وختاماً أنادي كل أديب وناقد يتخذ موقفاً سلبياً من الأدب الإسلامي أن يتخلص
من هوى نفسه، وأن يدرس حقيقة هذا الأدب دراسة موضوعية منصفة، فإذا فعل
الأديب ذلك فإنني أبشره بزوال غشاوة الشبه المثارة حول هذا الأدب عن عينيه،
وعندها سيرى أن الأدب الإسلامي هو سفينة النجاة للأجيال المسلمة في هذا الخضم
المائج من المذاهب الأدبية الزائفة المنتشرة في عالم اليوم.
__________
(*) نشرت خمس شبهات في الأعداد السابقة المحرر الأدبي ... ... ... ...
- البيان -.
(**) لقد طرح الشيوعيون من قبل فكرة (الأممية) ونتيجتهم ما شاهدناه لا كما زعموا (المحرر الأدبي ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(1) راجع كتاب " إقبال الشاعر الثائر " لنجيب الكيلاني ص 15 وما بعدها.
(2) انظر جريدة عكاظ، ملحق دنيا عدد 52الثلاثاء 20 صفر 1413 هـ.
(***) الذين يلبسون لكل بلاد لبوسها، وليس من باب التقليد الأعمى " المحرر الأدبي ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-.
(3) انظر جريدة عكاظ، الثلاثاء 20 صفر 1413هـ.(64/66)
الملف الأدبي
قصيدة عن حُبٍّ قديم
د. صالح الزهراني
تسعونَ قرناً، في هواك غريقُ ... من بعد هذا العُمر كيف أفيقُ
يا أيها الوجهُ الذي أحببتُهُ ... من أين يبتدىءُ الحديث مَشوقُ
تسعون قرناً، كان حبُّك رايتي ... ولمثل عينيك العذاب يروقُ
تسعون عاماً، والقصائدُ شُرَّعٌ ... والليل نزفٌ، والفؤاد حريقُ
ما قلت: يا أمي الحبيبة، خانني ... قلبي، فقلبُ المستهام صدوقُ
ما قلت.. أعلم أن حُبَّك واجبٌ ... وعليَّ في هذا الجهاد حقوقُ
كانت تضيقُ بي البسيطةُ كلّها ... ونفوسُ مَنْ حفِظَ الوداد تضيقُ
ويظل هذا الوجه غايةَ رحلتي ... والحرفُ حُرٌّ، والنّشيدُ سبوقُ
والشّعر منكوس البيارقِ، لم يزلْ ... والبيت فيه عناكبٌ وشُقوقُ
يتسابقون إلى القصيد جحافلاً ... تترى، وكُلٌّ خَانَهُ التّوفيق
وأَتيتِ فوق مطالعي شَمْسَ الضُّحى ... وعليَّ من حُلَلِ الضّياء بُروقُ
وقصيدتي من طُهْرِ وَجْهِك تَزْدَهي ... في كُلّ حرفٍ نضرةُ.. ورحيقُ
وأتيتِ يا وجْهَ الحياةِ، على فمي ... شجرُ له في الخافقين عروقُ
وأتيتُ ما ضيّعت عهد أميرتي ... فالعهدُ في لغةِ القلوبِ وثيقُ
يا عُنفوانَ الشِّعرِ حين أهزُّهُ ... والخطبُ هوْلُ، والمدارُ نعيقُ
تتخشَّبُ الكلماتُ، يصبح عَذْبُها ... شَجناً، فيا لِلْمُرِّ حين أذوقُ
أمي الحبيبة، يزدهون ببِّرهم ... والبرّ في هذا الزمان عقوقُ
أسرجتُ ظهر الشّعر قلتُ لك اركبي ... وركبت والمُهْر الحرون عتيقُ
تسعون قرناً، ما تراخى عزمُهُ ... فكأنَّه من حُرقتي مخلوقُ
واليوم يا نهرَ الجلال وسيفُنا ... خشبٌ وفارسُنا العظيم مَعوقُ
ما غيَّر الفكرُ الجديد مواقفي ... فالبعدُ بين الموقفين سحيقُ
أَنَّى أبيعك للظَّلام، وِلِلْخَنَا ... ضِدان ليلٌ أليلٌ وشروقُ
يتكالبون على جِراحِكِ، ما دَرَوْا ... أنَّ الكريمةَ دونها العيُّوقُ
ما ضرَّني لجبُ العُداةِ وحشدهم ... وَرَقُ العُداةِ بأرضنا محروقُ
ما ضرَّني إلا بَنُوْكِ تطاحنوا ... ماذا إذا طَحَنَ الشّقيقَ شقيقُ؟ !
في كلِّ قارعةٍ يُجالِدُ مَجْدَنا ... باسم الحضارةِ خائنٌ زنديقُ!
(يا عالمي العربيُّ) أين عُروبةٌ؟ ... من نَسْلِها الصدّيق والفاروقُ
(يا عالمي العربيُّ) أي عُروبةٍ؟ ... (والقبلة الأولى) دَمٌ وشهيقُ
(يا عالمي العربيُّ) أي عروبةٍ؟ ... في القلب حقدٌ، والكساء فسوقُ
(يا عالمي العربيُّ) ، كُلٌّ يدعي ... صدق الصّديق وما هناك صديقُ
ضيعت مبدأك العظيم، وليس في ... عصر الدراهم للبطالة سوقُ
دعْ هذه الألقابَ، دينك واحدٌ ... دينُ المحبَّةِ ليس فيه فُروقُ
من (قندهارَ) إلى (الرصافةِ) وحدةٌ ... (بيمار) يشرب من شَجَاه طُويْقُ
إني لألمح في يمينك رقدةٌ ... والكفُّ حتفٌ والحسامُ ذليقُ
ما خانَ هذا الكفَّ إلا ماكرٌ ... والمكرُ بالقلب الخؤوفِ محيق
يا فجرَنا الميمون ضَوْؤُك قادمٌ ... مهما يُعَششُ في العيون بريقُ
والأفق في عينيك يا محبوبتي ... معشوشبٌ، غضُ الإهابِ، وريقُ
تسعون قرناً والجراح مُرِبَّةٌ ... والوجهُ يندى، واللسان طليقُ
ما كلَّ زندُك، يا أميرةَ أحرفي ... زند العظيمةِ بالعظام خليقُ
ورحلتِ يَصْفَعُك العُبابُ بِكَفِّهِ ... ويعوقُ سَيِركِ عاصفٌ ومضيقُ
وبلغتِ كان بلوغُ أمرِكِ آيةً ... ولمن نجا فوق السُّيوفِ طريقُ!(64/71)
الملف الأدبي
سراي ايفو = سراي البوسنة
محمود السيد الدغيم
سراي ايفو سراييفو
إذا ما قعقعَ المدفع
ورددتِ الجبال الشُّمُّ أصداءَ انفجاراتِ
وعاثَ القصفُ بالأرواح فاضطربت
وأصبح شعبُك المنكوبُ محتجزاً ومُغْتَصَبَاً
كما احتُجِزَت رُبوُع القدس بل أرض النبواتِ
فلا تدعي إلى الميدان أعراباً ولا عربا
لأنَّهم طوال الوقت مشغولونَ بالأفيون بالقاتِ
لقد أعموا عيونَهُمُ عن الماضي عن الآتي
وناموا في فراشِ الذلِّ ما اختلجتْ
جوارِحُهُمْ
بل انتشرتْ
فضائِحُهُم
وصبَّ الصِّرب حِقْدهُمٌ، وصوتُ رصاصِهم لَعْلَعْ
لقد خانوا، كما خانتْ جهاتُ العالم الأربعْ
وغاب الخُبزُ، غاب الأمنُ، غاب الحبٌّ، غاب العُرْبُ، غاب العدلُ
والإنصافُ والإسلام واكتأبت قلوبُ الناسِ وانحسرتْ
عن المأساةِ أفواجٌ وأفواجٌ، من التعتيمِ والتضليلِ والدجلِ
وفاضتْ أدمعُ الأملِ
وسادتْ موجة الإحباط وانتصرتْ
وماتت ثُلة الأطفال وانطفأتْ
بأعينهمْ خيوطُ النورِ للأبدِ
لقد حُرِقوا وأذرعهم مُشَبَكةٌ على الصدرِ
أمامَ الفرن ينتظرون تحتَ القصفِ والتجويعِ دهراً لقمة الخبزِ
وناغاهم حمامُ الجامع الباكي
ورَدَّدَت اليمَاماتُ التي في الجامع المأسور صرخَتَهُم
وعمَّ هديلُها الأنجادَ والوديانَ كالطوفانِ كالبحرِ
هديلٌ يوقظ الأشجانَ يا أبناءَ أُمَّتِنا
تُكرِرُهُ صحافتُنا إذا قُمنا إذا بِتْنا
وخالطنا من الأوهام ما يُوْهي عزيمتَنا
وما يُدمي كرامتَنا التي طُعِنَتْ
بمديةِ مجلس الخوفِ الذي سَموه مَيْناً " مجلس الأمن "
بسهم عصابةِ الأمم، وخائِبها الرخيص الأصل والفصلِ
تُرى هل تُحفظُ الأنسابُ إن خَضَعَت لأمرِ الحاقدِ النّغلِ؟
بلا شكٍ يُدنِّسُها - وَضِيْعُ النَّهج - بالوحل
ويقتلُها كما قُتِلَتْ سراييفو بِخُطّة " مجلسِ الأمنِ "
بخطةِ مجلسِ الأقباط والرومِ
بخطة " مجلس الكرواتِ والصربِ "
وَكَرَّرتِ الإذاعاتُ التي في الشرقِ والغربِ
صدى صوتِ الحماماتِ التي ناحت
وناحَ الغصنُ
ناح البرجُ
ناح الجسرُ والدوحُ
فلم يُجْدِ النّواح الناسَ وانْصَبَّتْ قنابِلُهمْ
وغطت نَوحَ من ناحوا من التُّجارِ قعقعةٌ
وفاضَ القصفُ، ماجَ الجمعُ والمجموعُ واجتمعت
أمام الفرن والفران جَدَّاتُ وأحفادُ
وعضَّ الجوعُ أكبرهم، وأصغرَهم
فَجمَّعهم، وأرسلهم إلى الفرنِ وحاصرهم ليستمعوا خطاب الكافر الأكبرْ
وخاطبهم خطيبُ الصِّرب بالبارود والمدفعْ
فلم ترجعْ - بُعَيْدَ القصفِ - كوكبةٌ من الجوعى إلى المهجعْ
لقد كُتبتْ بلون الدمّ ملحمةٌ أمامَ الفرنِ تُنبي عن تَخَاذلنا
ستحملها إلى الأجيالِ أجيالٌ وأجيالٌ
سَتَشتُمُنا سلالتنا إذا قرأتْ وقائعنا
إذا عرفتْ مواقفنا تواطؤنا
إذا عرفت تخاذلنا
لقد كِلْنا كما كالوا بمكيالين واغتلنا كرامتنا كما اغتلنا ديانتنا حضارتنا
لقد نمنا كأهلِ الكهف بل أكثر
وقعقع مدفعُ الأعداء بئس الضِّدّ والمدفعْ(64/74)
المسلمون والعالم
التحالف المشبوه بين الهندوس واليهود
أحمد بن عبد العزيز أبو عامر
عاشت بعض الأقطار العربية في عصورها الأخيرة تحت مظلات الحكومات
العربية العلمانية التي جعلت من صداقة (الهند الوثنية) واحدة من ثوابتها السياسية
العقيمة؛ تارة تحت عنوان (تجمع دول عدم الإنحياز) وتارة تحت عنوان (تجمع
دول العالم الثالث) وربما وقفت تلك الحكومات في صف حكومة الهند (الهندوسية)
ضد مصالح دول إسلامية كالباكستان، وضد مصالح شعوب إسلامية في جامو
وكشمير. وسكتت عن تدخلاتها في مصالح ذلك البلد وذلك الشعب المسلم وما
يعانيانه من حملات عنصرية وهمجية كما حصل عند اكتساح الهند لولاية (حيدر
أباد) ، و (جامو وكشمير) و (جوكانده) . بينما ميول حكومة الهند الهندوسية هي
العداء لكل ما هو إسلامي عامة وللشعب الباكستاني خاصة وبالرغم من ادعائها
(الحكم العلماني في الهند) إلا أن ميولها، وحكم الأحزاب الهندوسية لها يجعلها
تسكت، وربما ترعى كل المؤامرات التي يحركها الهندوس ضد المسلمين في الهند
من قتل وهدم وتشويه لتاريخ الإسلام، وهجوم على تعاليم الإسلام. في المقررات
المدرسية، وليس آخرها هدم (المسجد التاريخي المعروف بالبابري) وما تبعه من
هدم العديد من المساجد الأخرى، والقتل والتشريد للمسلمين هناك. وجل إخوانهم
المسلمين بعيدون كل البعد عن نجدتهم ونصرهم.
العلاقة بين اليهود والهندوس:
قل من يعلم بوجود حلف بين الهندوس واليهود، مهدت له بريطانيا رغم
تأليف العديد من الدراسات العلمية، والوثائقية التي تفضح ذلك الحلف الخطير،
وترجمت إلى اللغة العربية إلا أنه قل من يعرفها وبخاصة الصفوة المثقفة،
والمتنفذين من الساسة والإعلاميين العرب، وسأذكر ثلاثة مصادر في هذا
الموضوع وهي أهم مراجعي في هذه المقالة.
1- الحلف الدنس: التعاون الهندي الإسرائيلي ضد العالم الإسلامي: تأليف
الأستاذ محمد حامد [1] .
2- مؤامرة الصهيونية والهندوكية على المسلمين لنفس المؤلف وهو أشبه ما
يكون بملخص للكتاب السابق.
3- علمانية الهند: للأستاذ شريف المجاهد، عميد كلية الصحافة في
كراتشي [2] ، وكل تلك الكتب نشرت بعناية وتقديم الأستاذ (إحسان حقي) وقبل ... بيان أوجه التحالف المشبوه بين الهندوس واليهود نرجع إلى تاريخ العلاقة القديمة كما سجلها كتاب الهندوس المقدس (منو سمرتي) [3] لنعلم التشابه بين الديانتين، وسر التآلف والتحالف بينهما، وذلك الكتاب يعني (شريعة منو) أحد آلهة الهندوس المزعومة. وفيه يجد القارئ كل ما يجب أن يعرفه عن الديانة الهندوسية وزيفها وأحكامها وأهلها، وهذا الكتاب ترجمه العلامة (إحسان حقي) للعربية، ووضح: أنه عقد مقارنة بين هذا الكتاب والشرائع السماوية الثلاث (اليهودية والنصرانية والإسلام) وتبين له بجلاء أن الهندوسية هي صنو الديانة اليهودية في (توراتهم المحرفة) وكأنهما من أصل واحد مع اختلافات يسيرة لعلها نتيجة من نتائج تقادم الزمان، وتغير المكان، ومن أبرز سمات التشابه بين الهندوسية واليهودية ما يلي:
1 - اعتقاد الهندوس أنهم شعب الله المختار، والنظر لغيرهم - وخاصة
المسلمين - نظرة احتقار وإهانة، وهذه الدعوى معروفة عند اليهود.
2- تقديسهم ليوم السبت فهم لا يعملون فيه ولا يطبخون إلا ما يعتبرونه
إنسانياً كقتل المسلم دون حرج. وتقديس اليهود للسبت معروف.
3- تقديسهم (العجل -والبقر) معروف للجميع [*] .
4- يشتركون مع اليهود في التجارة والمراباة، فالهندوسي يبيع السلعة للمسلم
ولغيره ولكنه لا يشتري منهما لأنهما نجسين في نظره، لكن الدراهم التي يأخذها
من البيع لهما ليست نجسة، ومعلوم أن بالهند يهوداً منذ الزمن القديم. (انظر
مؤامرة الصهيونية والهندوكية ص 117، والحلف الدنس ص 197) .
ومن العجيب أن العقلية التوسعية بين هذين الشعبين واحدة، فاليهود يأملون
الوصول في حدودهم من الفرات إلى النيل، وطموحات الهندوس في مد حدودهم
من الفرات إلى (الميكونج) في فيتنام، ليدخل فيها كل بلد يبدأ بلفظ (هندو)
كإندونيسيا وبلاد (الهند الصينية) .
وهناك رابط واضح بين اليهود والهندوس وهو العداء للمسلمين، رغم العشرة
الطويلة التي جمعت بين المسلمين والهندوس في الهند لإثني عشر قرناً تحت الحكم
الإسلامي العادل آمنين على أرواحهم وممتلكاتهم وأديانهم. ولم يدخل الإسلام أحد
منهم إلا عن اقتناع وحب للإسلام.
كان من المفروض أن يثمنوا ذلك التاريخ المشرق تجاه مواقف المسلمين إبان
حكمهم للهند، لكنهم بعد الاستقلال، وبعد قرن من الاستعمار الإنجليزي كشروا عن
أنيابهم وهاجموا المسلمين بوحشية وهمجية لا يمكن أن تحصل من أمة متحضرة،
وما زالت هذه النظرة العنصرية الوحشية يسام بها المسلمون سوء العذاب قتلاً وهدماً
وتشريداً، وليس آخرها هدم المسجد (البابري) كما عرفنا، وما يؤكد تواطؤ
الحكومة الهندية الهندوسية في هدم البابري، أو على الأقل لا مبالاتها بما حصل هو
نشر الغسيل الهندوسي بين حكومة الهند وحزب (جاناتا) من نشرهما لكتابين سماه
كل منهما (الكتاب الأبيض) لشرح وجهة نظره حول الموضوع [4] .
بداية العلاقة المعاصرة بين الهندوس واليهود:
عرفنا العلاقة الروحية المتمثلة في التشابه بين كتابيهما المقدسين، وتجدر
الإشارة هنا إلى دور بريطانيا في تاريخها الاستعماري وعدوانها على كل ما هو
إسلامي.
من إيجاد مراكز نفوذ له وإيجاد مناطق متنازع عليها طبقاً لسياستها المعروفة
(فرق تسد) فقد فكر الساسة الإنجليز مع بدايات أفول إمبراطوريتهم بإقامة قواعد لهم
في المناطق الإسلامية لتلعب دوراً مماثلاً لدورهم الاستعماري. وقد نجحوا في
التخطيط لإنشاء دولتين خطيرتين من أخطر الدول عداء للإسلام وأهله، الأولى
لليهود في (فلسطين) بدأت بوعد بلفور الذي أوجد دولتهم ككيان مستقل بعد ذلك عام
1948، أما المؤامرة الثانية فهي إعطاء القارة الهندية للهندوس، غير أن توفيق الله
ثم صحوة رجال الدعوة الإسلامية آنذاك في الهند حال دون ذلك الخطط، واضطروا
للاتفاق مع المسلمين على أن تتمتع المناطق ذات الأغلبية المسلمة بالسيادة
والاستقلال، ومن هنا قامت دولة (باكستان) إلا أن الإنجليز كعادتهم نكثوا بوعدهم
باعطائهم بقاعاً شاسعة للمسلمين وسلمت للهندوس مثل (حيدر أباد الدكن) و (غالبية
جامو وكشمير) و (جوناكد) .. مع تهيئة الهنادكة تعليمياً وثقافياً وإدارياً وسياسياً،
والمساهمة بتأسيس (حزب المؤتمر الهندي) كما ساهم المؤرخون وعلماء الآثار
الإنجليز مع الهنادكة في البحث والتنقيب لاختراع تاريخ مزيف للهنادكة حتى
باللجوء إلى الأساطير والخرافات، وحولوا (غاندي) من محام بسيط إلى زعيم
لعموم الهند بواسطة (اللورد ريدنج) نائب الملك الإنجليزي في الهند، وساهمت
الزعيمة اليهودية لرابطة الحكم الذاتي (آني بيزانت) بمسرحية إنجليزية مكشوفة
بوضع غاندي في السجن مدة تعظيماً لشأنه، ثم مُكِّن من تخطي عقبات كثيرة في
سياق عمله السياسي مما جعله في عيون الشعب الهندي بطلاً.
عرف الهندوس خطر وحدة المسلمين وصحوتهم في الهند على مخططاتهم
فتعاونوا مع الإنجليز على نشر الآراء والمبادئ القومية والعنصرية الهندوسية التي
وضعها أحد زعمائهم في القرن الرابع قبل الميلاد والمدعو (كوتيليا) وهو يتفوق
على (ميكيافيلي) في المكر والدهاء. وهكذا استقلت دولة الهندوس، وبعد استقلال
باكستان أصبح المسلمون وهم أكثر من مائة مليون أقلية في بحر الهندوس والسيخ
وغيرهم. وتعرضوا للاضطهاد. ومع ذلك تَزْعم الهند أنها دولة علمانية، وتخدع
الدول العربية والإسلامية، وهي وثنية هندوسية مطلقة كما أوضحت ذلك الأيام
والأخبار، وساعدهم الإنجليز في النهضة والتقدم التقني مع أنها من أفقر دول العالم
ومن أضعفها في دخل الفرد.
عود على بدء: للعلاقات اليهودية الهندية المعاصرة
بعد ثلاثة أشهر من قيام دولة العدو الصهيوني عام 1948م الذي كان انتهاكاً
صارخاً لكل شرائع العالم، وتحد واضح للمنظمات الدولية بسلب وطن وطرد شعب
من أرضه وجدنا (الزعيم الهندي المحبب لحكام العرب) (نهرو) ، آنذاك في
البرلمان الهندي يقول: (من البديهي أن نعترف بواقع قائم وهو أن إسرائيل دولة
قائمة) ، وبعد إعلان الاعتراف الرسمي أعلن ناطق رسمي هندي أن إسرائيل
موجودة وأنها خلقت لتبقى) ، وقد عملت الهند طوال السنتين الماضيتين بتعاون قائم
مع إسرائيل.. وأنشأ العدو الصهيوني (قنصليته في بومبي) فكانت حصناً قوياً
للتعاون بين الدولتين المعاديتين للعرب والإسلام.
يقول الأستاذ محمد حامد: (والحقيقة إنها لم تكن قنصلية بالمعنى المتعارف
عليه دولياً بل كانت مستعمرة كاملة الجهاز تضم أكثر من مائتي موظف، وكان لها
من الإمكانات والسيارات ما يفوق ما لدى السفارات العربية في الهند، ولها دور
ضخم في تغيير الرأي العام لصالح العدو الصهيوني، وقد بقي الهندوس يلعبون
لعبتهم السياسية بدعوى حيادهم بين العرب واليهود كذباً وبهتاناً حينما زعموا أن
اعترافهم بدولة العدو الصهيوني إنما كان اعترافاً بالأمر الواقع. لمعرفتهم بردود
الفعل العربية آنذاك لو كان الاعتراف كاملاً) .
موقف الهند من العدو الصهيوني في مؤتمر (باندونج)
كان الموقف الهندوسي واضحاً من العدو الصهيوني عام 1955م حينما عقد
مؤتمر باندونج بإندونيسيا حيث دعا (نهرو) - نصير العدل والسلام المزعوم - إلى
إشراك العدو الصهيوني في ذلك المؤتمر بدعوى: أن دولتهم معترف بها من الأم
المتحدة وترتبط بها العديد من دول عدم الإنحياز بعلاقات ديبلوماسية، وحينما
علمت الدول العربية بذلك هددت بمقاطعة المؤتمر فألغي اقتراح نهرو.
التعاون العسكري بينهما:
بعد مراسم الاعتراف بين الدولتين زارت الهند وفود رسمية صهيونية لتوثيق
عرى التعاون بين البلدين وبخاصة في النواحي العسكرية، ومن أشهرها عام
1962 م الوفد الذي كان برئاسة (الادان بركمان) العضو في وكالة الطاقة النووية
للتوقيع مع الهند على اتفاقية التعاون النووي بينهما، وتم التوقيع عام 1963م بين
الوفد الصهيوني برئاسة (دافيد شفيل) ورئيس أركان الجيش الهندي على اتفاقية
سرية وكان موضوعها تزويد الهند بالأسلحة، وتدريب العسكريين في المؤسسات
والكليات العسكرية، وكان لهزيمة العرب سنة 1967 م صداها باغتباط الهندوس
بانتصار العدوان الصهيوني، وقال وزير دفاع الهند: أننا حريصون على معرفة
كيف تمكنت إسرائيل من تعبئة جميع قواتها في غضون 24 ساعة وبطريقة أدت
إلى نتائج إيجابية مؤكدة. ومن العجيب أن ينشر ضمن ما نشر من خفايا هزيمة 67
دور عديمي الخبرة من الضباط الهندوس الذين كانوا يدربون الطيارين المصريين،
وكانوا عملاء للاستخبارات الصهيونية وقد وصل الخبر خطأ ونشر في غانا في 20
أيار عام 1970م مما كشف المستور. وما زال التعاون بينهما مستمراً وإن أخذ
صفة السرية غالباً.
التعاون النووي:
بريطانيا وضعت أساس البرنامج النووي للهند بعد الاستقلال وشجعت الكوادر
الهندية لدراسة ذلك التخصص، ولما أرادت الهند التوسع في برنامجها النووي
وجدت في اليهود ضالتها حيث أنشأت مفاعلاتها النووية في العديد من مدنها مثل
(كلكام) و (بهابها) .. ومعلوم أن العدو الصهيوني يمدها بالخصبات النووية، وكان
لكندا دور في دعم برامج الهند النووية ثم ادعت كندا أنها فوجئت بقيام الهند بالتفجير
النووي وكان (للاتحاد السوفييتي) السابق دور كبير أيضاً في دخول الهند (عالم
الفضاء) حينما ساعدها على إطلاق قمرها الصناعي الأول (آريا بهارتا) من
الأراضي السوفيتية آنذاك في 19 نيسان 1974 م.
التعاون الاقتصادي بين اليهود والهندوس:
من صور التشابه بين هذين الشعبين عبادتهم للمال واستعمالهم الربا، ومن
خلال معاملة الهندوس للفقراء والفلاحين، وخاصة المسلمين لا تختلف عن معاملة
اليهود إذ كانوا يستولون على أراضي المسلمين، ويقرضونهم المال كلما ساءت
المحاصيل، ويرتهنون الأراضي حتى يتم الدفع، وكان القضاء الهندوسي ينقل
ملكية الأراضي للمرابين كلما عرضت لهم قضية مما أدى إلى استيلائهم على
مساحات شاسعة من أراضي المسلمين، ونشأ فيما بينهم ما سمي بالملف الصامت
القائم على إنشاء (الشركات المتعددة الجنسيات) حيث تستعمل كواسطة للعلاقات
المتبادلة بينهما وتستطيع أن تعمل لصالح الصهاينة. وأشار إلى فاعلية هذه
المؤسسات (مايلز كوبلاند) في كتابه (عالم التجسس الحقيقي) . وهناك بيانات
توضح الآثار الكبيرة للتعاون بين اليهود والهندوس، ودور القنصلية الصهيونية في
تدعيمها مما يضيق المجال عن بيانه، وبخاصة في كتاب (التحالف الدنس) الآنف
الذكر.
التعاون الاجتماعي:
معلوم أن للعدو الصهيوني دور بارز في توطيد العلاقات بين الصهاينة وبين
الشعوب التي لا تعرف حقيقتهم العدوانية ولا تعلم منطلقاتهم العنصرية، وهذا ما
فعلوه مع إخوانهم الهندوس ساعدهم على ذلك وجود جالية بل طائفة يهودية في الهند، إضافة إلى دور القنصلية الصهيونية في بومبي في دعم العلاقات بين البلدين،
وتوجيه الرأي العام الهندي غير المسلم لتأييد الصهاينة عن طريق إقامة الحفلات في
المناسبات واستدعاء صفوة المثقفين من كافة فئات الشعوب الهندية، وتارة تستغل
التسميات الساذجة مثل (مجلس المواطنين) للدعاية وتوثيق العلاقات الاجتماعية بين
أولئك المدعوين، وفي عام 1962 م أسمت جمعيات (أصدقاء إسرائيل) والتي
تضاعفت بعد حرب 1967م تحت مسمى (مؤسسات الصداقة الإسرائيلية الهندية)
في طول البلاد وعرضها تحت رعاية أعضاء البرلمان والشخصيات السياسية
ورجال الأعمال. ومن مهامها توثيق روابط التفاهم والأخوة وتبادل المنافع بين
الشعبين والحكومتين، ومن أشهر الأحزاب ذات العلاقة الوطيدة مع الصهاينة حزب
(جان سنغ) و (جناتا) الهندوسيين الإرهابيين. وكذلك مختلف الأحزاب العلمانية
حيث تقوم يبنهما زيارات متبادلة وليست الأحزاب الأخرى أقل اندفاعاً للولاء
للصهاينة مثل حزب (المؤتمر) والذي كثيراً ما يسمي أعضاؤه (العرب) بالمعتدين
ونجد حزب (سوانتا نترا) يندد بطلب العرب من الهند قطع علاقاتها مع الصهاينة،
وللصحافة الهندوسية في دعم العدو الصهيوني دور كبير وليس من المبالغة أنهم
صهاينة أكثر من اليهود أنفسهم، وتتوالى الزيارات بينهم ومن خلال المتابعة
للصحافة الهندوسية نجد موالاة اليهود سمة بارزة من سمات الصحافة الهندوسية ومن
جانب آخر نجد العلاقة الثقافية والفكرية بين اليهود والهندوس بارزة أيضاً بالدعاية
للأدب الصهيوني وترجمتهم للأدب الهندي الوثني.
خطر اليهود والهندوس على المسلمين:
الخطر الصهيوني معروف وأساليبه مكشوفة، أما خطر الهندوس فهو القائم،
ولم يتم الكشف عن أبعاده التي تتمثل فيما يلي:
1- أن الحكومة الهندية بالرغم من إعلان علمانيتها إلا أنها تخضع للأحزاب
الهندوسية التي تملك مراكز قوى تؤثر في صنع القرار، وما موقفها غير المبالي
من هدم المسجد البابري عنا ببعيد، وتواطؤ الشرطة والجيش الهندي مع المتطرفين
الهندوس كالشمس في رابعة النهار. ومضايقتها للمسلمين في أرزاقهم ومدنهم
ومساجدهم وحتى تشريعاتهم لم تعد مجهولة، وبالرجوع إلى كتاب (المسلمون في
الهند بين خدعة الديموقراطية وأكذوبة العلمانية) نجد مصداق ذلك [**] .
2- المسلم الهندي حين ينشأ في محيط وثني ولا يرى أثراً لمظاهر الإسلام
يتراخى رويداً رويداً وخاصة أمام الاضطهاد والجهل والجوع والمرض بدءاً بتغيير
الاسم وانتهاء بتغيير الدين، وهذا ما حدث بالفعل جراء ما يعانونه من مضايقات
تحت سمع وبصر الحكومة الهندية الوثنية.
3- إن المسلم هناك أمام تلك الضغوط الكبيرة وإهمال إخوانه المسلمين له، لا
ينصرونه ولا يعملون لرفع الظلم عنه، يعاني ما يعاني من أخطار. فماذا صنعنا
لهم؟ وما هو واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في الهند؟
يفترض فينا نحن المسلمين ألا نجهل عداء أولئك الكافرين لنا، وهذا أمر
صريح في القرآن الذي نقرؤه ليل نهار في أكثر من آية ومنها قوله تعالى:
[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا] [التوبة 82] .
يجب أن يفكر كل مسلم بالأطروحات المؤيدة للصلح مع اليهود. لأننا نعرف
من هم اليهود؟ وما هو العداء الذي يكتمونه لنا ولديننا، وما آثار السلام عليهم؟
ويجب على كل مسلم بشكل عام وكل مسؤول بشكل خاص أن يبذل كل ما في وسعه
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأن يقوم المسلمون جميعاً كل فيما يستطيع بذله لنصرة هذا
الدين، وعلى كل الحكومات في البلاد الإسلامية أن تضغط على هؤلاء الأعداء
لرفع يد الضر عن إخواننا المسلمين المستضعفين في الهند وفي غيرها، وإتاحة
المجال لهم لأداء عباداتهم وحفظ مساجدهم واحترام تشريعاتهم، وألا يهاجم الإسلام
في وسائل إعلامهم ولا في مناهجهم الدراسية، وعلى المسؤولين أن يهددوا بكل ما
من شأنه تعكير العلاقات مع تلك الدول الظالمة. فهم المحتاجون لنا ولسنا بحاجة
لهم. وإذا وجدوا أننا صف واحد وقلب واحد رضخوا راغمين ورفعوا ظلمهم،
وحينها تعود لإخواننا مكانتهم رغم أنف الظالمين وإن أي تساهل في ذلك يبوء بإثمه
كل مفرط في نصرة هذا الدين، فإن من يرى الإسلام وأهله يهانون وهو قادر على
نصرتهم ولا يفعل شيئاً، لا شك أنه منافق معلوم النفاق. وأن أي تساهل في ذلك
هوان وأي هوان، وخيانة للواجب وانهزامية [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وأَكِيدُ كَيْداً *
فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] [الطارق 15-17] .
__________
(*) ربما كان لعجل السامري علاقة بذلك.
(**) للشيخ أنور عالم أميني.
(1) نشر الكتاب (مجلس شؤون المسلمين في العالم) ، إسلام أباد، باكستان ص 198.
(2) نشرته مؤسسة الصحافة - بيروت.
(3) ترجمة الأستاذ إحسان حقي.
(4) أنظر صحيفة الحياة العدد 11026 في 29/10/143هـ.(64/78)
دراسة في الجغرافية البشرية للهند
المسلمون في الهند
أقلية تتجاوز المائة مليون
د. علي عبد الرحمن عواض
الهند بالأرقام [1] :
تعتبر الهند من أكبر دول العالم، إذ تتجاوز مساحتها 3.287.263 كم2. تمتد من الشرق إلى الغرب بعرض 2933 كم، ومن الشمال حتى الجنوب بطول
3214 كم. تمتد حدودها مع الدول المجاورة إلى 15.500 كم منها ما يقارب 7.517 كم سواحل وهي سابع دولة في العالم من حيث المساحة.
أما من حيث تعداد السكان، فهي الدولة الثانية عالمياً وعدد سكانها يتجاوز ال
844.324.222 نسمة حسب إحصائية 1991م. ولا يتوزع البشر بالتساوي
فبعض المناطق الهندية مكتظة بالسكان وبعضها تكاد تكون خالية. وأسباب ذلك عدة
عناصر أهمها: خصوبة الأرض، ومستوى هطول المطر، وسائل الزراعة
والاتصالات، والوضع السياسي إلى جانب عناصر اجتماعية ودينية أخرى. ونسبة
الكثافة السكانية في المناطق الهندية هي 267 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد.
وتتفاوت النسبة بين الولايات الهندية: فعدد السكان في الكيلومتر الواحد في البنغال
الغربي هي 766 نسمة، أما في كيرالا فهي 747، ويصل في بيهار إلى 497،
وإلى 78 في فيعالايا، و 33 في ميزورام، و10 في ارونشال باراديش.
تعتبر نسبة النمو السكاني في الهند من النسب العالية دولياً حتى بين معدلات
دول العالم النامية. فمعدل الولادات 30.4 في الألف والمعدل العالمي 27.1 في الألف، ومعدل الوفيات 10.2 في الألف والمعدل الدولي 9.9 في الألف،
وبهذا تكون الزيادة السكانية الطبيعية: 20.2 في الألف والمعدل الدولي 17.2
في الألف. ومعدل الأعمار هو 58.1 سنة للرجال و 59.1 سنة للنساء. يعتبر
المجتمع الهندي من المجتمعات المتخلفة من نواح عدة أهمها: الجانب التعليمي
التربوي إذ أن ما يزيد عن 64.8% من السكان يعانون الأمية الكاملة بينما 7.1% حصل على التعليم الابتدائي فقط ولا يتجاوز خريجو الجامعات والحاصلين على
درجة علمية عالية على 2.5% من السكان.
الهند.. القوميات والعقائد:
تعج الهند بخليط من البشر الذين يتفاوتون في الشكل والعرق واللغة والدين
والطبقة الاجتماعية.. ففي شبه القارة الهندية ما يزيد عن خمسمائة لغة محلية،
واللغة الرسمية هي الهندية. ويعتنق الهنود عدداً هائلاً من المعتقدات والأديان
تتفاوت ما بين الديانات السماوية إلى عبادة الأصنام والنار والأبقار.. عبادة البشر.
والهندوس يمثلون 82% من السكان وهم الغالبية العظمى. كما أنهم مقسمون إلى
طبقات اجتماعية وأعراق ومذاهب.
وتصل نسبة المسلمين إلى 12% تقريباً معظمهم من أهل السنة ويتبعون
المذهب الحنفي، كما يوجد هناك أصحاب المذاهب الأخرى المنحرفة والتي تحسب
على الإسلام كالأحمدية والبابية، والبهائية والقاديانية والإسماعيلية. كما أن للشيعة
تواجد في الهند.
ونسبة النصارى 2.43%، والسيخ إلى (1.97%) ، والبوذيون (1.71%) ، والجاين (0.48 %) ، والمجوس (0.01 %) . وتبرز في الهند الممارسات والطقوس الغريبة والمعتقدات المجهولة إلى جانب مجموعة قليلة جداً من اليهود.
المسلمون على الخارطة الهندية:
تفيد إحصائيات العام 1991م أن عدد المسلمين يزيد عن 96 مليون نسمة
(وأكثر من مائة مليون في 1993م) . وقد تصاعد عدد المسلمين في الهند في
النصف الأخير من هذا القرن (منذ الاستقلال) على النحو التالي:
السنة عدد المسلمين نسبة النمو النسبة للسكان الازدياد الإسلامي
----------------------------------------------------
1951 35.44.284 --- 9.91 ---
1961 46.940.799 25.61 10.70 0.79
1971 61.417.934 30.85 11.21 0.51
1981 75.512.489 30.59 11.35 0.14
1991 96.655.922 28.00 11.45 0.10
----------------------------------------------------
يقيم مسلمو الهند بشكل عام في المناطق الغنية بالمياه والثروات النباتية في
شمالي الهند وعلى الشواطئ في الجنوب والجنوب الغربي وليس لهم وجود ملاحظ
في مناطق الجبال والأدغال. ويتواجد المسلمون بشكل كبير في ثلاث مناطق شمالية
أساسية هي: بيهار والبنغال الغربي وجامو وكشمير إذ أن 52.1 % من مسلمي
الهند يتواجدون في هذه الولايات الشمالية الثلاث. كما يقطن22.4 % أي خمس
المسلمين في الهند في أربع ولايات جنوبية هي: كيرالا، أندهار باريش، كارناتاكا
وتاميل نادو. كما يعيش 14.9 % أي سبع مسلمي الهند في أربع ولايات غربية
هي: راجستان، كجرات، ماهارشاترا وغولا. كما يوجد 5.05 % منهم في
الولايات الشمالية الشرقية و 3.86 % في الولايات الشرقية. وتوجد أقل نسبة
للمسلمين في ولايات تشاها يسفارا واندكاريانا.
ويُرجع الدارسون السبب في خلو المناطق الجبلية والأدغال (في مناطق
غودافاري) من المسلمين إلى أن المنطقة كانت ولا زالت تُسكن من قبائل لا تقبل
التعامل مع الآخرين ويتميزون بالعدائية والانطوائية حيث أنه لا مجال للدخول إليهم
أو التكلم معهم. أما المناطق التي تقطنها مجموعات إسلامية لا تتعدى ال 1% من
السكان هي: البنجاب، هايريانا، هيكاشال باراديش، أردناكالي باردايش، ناغالا
لاند، ميزورام، ميغاليا، آسام. وانخفاض هذه النسب نتيجة لحملات التهجير
القسري عام 1947م، وقد كانت النسبة في هذه الولايات تتراوح بين 5ا-33%
من المجموع العام للسكان في ولاية هيراما، و 23- 50% من سكان ولاية
البنجاب.
في الولايات:
لن نستعرض كثيراً ولاية جامو وكشمير مع أنها الولاية الوحيدة ذات الغالبية
الإسلامية في الهند..
1 - أوتار براديش: وتأتي من حيث الترتيب الرابعة بالنسبة للمساحة،
ويصل عدد المسلمين فيها إلى 23 مليون نسمة حسب إحصائية عام 1991م. وأهم
المقاطعات التي يسكنها المسلمون في هذه الولاية هي: مراد آباد (38.06%) ،
ساهار نابور (31.57 %) ، بجنوري (39.45%) ، رامبور (47.22%) ،
وأقل نسبة للمسلمين تتواجد في منشة باندا (5.51%) .
2- البنغال الغربي: تصل نسبة السكان إلى 766 شخص في الكيلومتر
المربع وتوجد فيها مقاطعة مرشد آباد أكبر تجمع إسلامي في الهند إذ يصل عددهم
إلى 2.170.000 شخص بنسبة تصل إلى 58.67% من السكان. أما أقل نسبة في مقاطعات هذه الولاية فهي مقاطعة بنمورة (5.65%) ودارجلنغ (3.64%) . ويعتبر كثير من مسلمي هذه الولاية امتداد لمسلمي بنغلادش. والعدد الإجمالي لمسلمي هذه الولاية هو 15.267.000 نسمة.
3- بيهار: وفيها ثالث أكبر تجمع إسلامي في الهند وتقع بين ولايتي أوتار
بارديش والبنغال الغربي، ومساحتها 123.877كم 2 وعدد السكان 86.339.000
نسمة، وعدد مقاطعاتها 42 مقاطعة. وفيها 13% من مسلمي الهند. وكان عدد المسلمين في الولاية عام 1951 م 4.314.000 نسمة، نسبة المسلمين بينهم 11.28%، وارتفع العدد إلى 12.874.993 عام 1991.
4- مهارشترا: ويبلغ عدد المسلمين في هذه الولاية 7.606.000نسمة، نسبتهم إلى العدد الإجمالي 9.25%. ومعظم المسلمين يقطنون في مقاطعات:
بومباي، جالفون، برهاني، نانديد، عثمان أباد، بولدانا.. وتتدنى نسبتهم في
مقاطعة بندارا إلى 2% من مجموع السكان.
5- كيرالا: يقطن في هذه الولاية ما يزيد عن 6.492.000 نسمة.
وتصل النسبة فيها إلى 747 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. ونسبة المسلمين
هي 21.25%.
6- اندهرا براديش: عدد سكانها 66.355.000 نسمة، ونسبة المسلمين
بينهم 8.47%. وأهم المقاطعات التي يقطنها المسلمون هي كورنول ونسبتهم
(17%) وفي حيدر آباد ونسبة المسلمين فيها (27%) وهي من أهم المراكز الثقافية
والتراثية للمسلمين في الهند.
7- كارناتاكا: يبلغ تعداد المسلمين في هذه الولاية5.213.000 نسمة، ومساحتها 191.791كم 2. ونسبة المسلمين فيها11.05%. أهم المناطق التي يسكنها المسلمون كولارغا (18 %) وييدار (19 %) ونسبتهم من 5- 10% في عشرة مقاطعات.
8- جامو وكشمير: وقد اتسع الحديث عنها في العددين السابقين للبيان،
حيث أن هذه هي الولاية الوحيدة في الهند ذات الغالبية المسلمة،. ويحاول أبناؤها
الاستقلال وإقامة دولة لهم.
9- آسام: عدد سكانها 22.295.000 نسمة ومساحتها 78.438 كم 2 ونسبة المسلمين فيها 24.03% من مجموع السكان.
10- كجرات: مساحتها تقدر بـ 196.024 كم 2 وعدد المسلمين 2.908.000 نسمة (عام1981) ، ونسبة المسلمين بينهم 8.53%. وأهم
المقاطعات مقاطعة أحمد آباد وتصل نسبة المسلمين فيها إلى 11%.
11- تاميل نادو: مساحتها 130.038 كم 2 وعدد سكانها 3.024.000
نسمة، وعدد مقاطعاتها 21. ونسبة المسلمين فيها 5.21%. وأهم مناطق المسلمين كانياكوماري وتانجافور.
12- مادهيا براديش: تبلغ مساحة هذه الولاية 443.446 كم 2، وعدد
سكانها 66.136.000نسمة. ونسبة المسلمين فيها 4.80% من مجموع السكان، وأهم مناطقهم راتلام، أوجيان.. (مجموع عدد المسلمين 3.303.000 نسمة) .
13- راجستان: مساحتها 342.239 كم 2 وعدد سكانها 43.881.000 نسمة. ونسبة المسلمين 4.05% من السكان (عدد المسلمين فيها 3.315.000
نسمة) .
14- هاريانا: مساحتها 44.212كم 2، ويبلغ تعداد المسلمين فيها 23.536 نسمة، ونسبة المسلمين فيها 4.02 %من مجموع السكان. وأهم المقاطعات
فريد آباد (11.27%) ، جورجوان (30.8%) . وعدد سكانها 16.315.000
نسمة.
15- دلهي: وتتجاوز مساحتها 1.483كم 2، وعدد سكانها يقارب العشرة
ملايين نسمة، وعدد المسلمين فيها 1.031.056 نسمة؛ أي بنسبة 11.4% من مجموع السكان.
وهناك عدد من الولايات نسبة المسلمين ضئيلة جداً لا تتجاوز 1% من
مجموع السكان في بعض الأماكن..
إن المجموع النهائي لمسلمي الهند هو موضع خلاف بين المصادر. فبينما
تكاد تجمع المصادر الغربية على أنهم لا يتجاوزون المائة مليون، نجد أن المصادر
الإسلامية تلمح إلى أرقام أعلى من ذلك تصل إلى 120 مليون وأحياناً إلى 145
مليون. (راجع جدول 1 و 2) .
الحاضر.. ونظرة إلى المستقبل:
المجازر التي تناقلت الصحف أخبارها مع نهاية شهر أبريل الماضي، والتي
ذهب ضحيتها مئات المسلمين معظمهم من النساء والأطفال وكثير منهم أحرقوا
أحياء، تنذر بخطر جديد على مسلمي الهند. تقع ولاية مانيبور في شمال شرقي
الهند، وهي على الحدود مع بورما. ولم تشهد سابقاً حوادث عنف بين المسلمين
والهندوس، بل إن الولاية كانت ملجأ لعدد من المسلمين الذين هربوا من الاضطهاد
البورمي للمسلمين (1992م) في ولاية أراكان الإسلامية الواقعة تحت السيطرة
البورمية. فاندلاع حملات العنف والاضطهاد في مثل هذه الولايات يعني إيقاظاً
للأحقاد الدفينة ضد المسلمين في المناطق التي تشهد تسامحاً نسبياً مع غيرهم.
مع أن المجازر بحق المسلمين كانت ولا زالت ترتكب بشكل متكرر في الهند
لكنها لم تؤثر على قرار السياسة الهندية حتى العام 1989م حيث تفجرت قضية
مسجد البابري واندلعت الانتفاضة في كشمير إلى جانب التغييرات في الإطار
الإسلامي المحيط فبدأت ترتسم أطر لسياسة جديد تجاه المسلمين في البلد. وفي عام
(1989) قتل 500شخص (حسب الإحصائية الرسمية الهندية) علي الأقل في
الاضطرابات العرقية والدينية، وهذا الرقم هو ضعف الرقم للعام الماضي وتد ميز
هذه الاضطرابات أنها حدثت في ولايات: أوتار بارديش، كارانتاكار، بيهار،
مادهيا بارديش، جرنمارات، ماهراشترا.. وهذه الولايات لم تشهد أية اضطرابات
عرقية ودينية منذ تقسيم الهند. مما اعتبره المراقبون السياسيون بداية تحول جديد
في التعامل مع الوجود الإسلامي في الهند. الملاحظ أن أية محاولة لتحسين ظروف
المسلمين في الولايات الهندية يلقى مقاومة قاسية من الأكثرية الهندوسية. وهذا
الواقع يعاني منه معظم الأقليات الإسلامية فليس المسلمون في بورما أو الفلبين
بأفضل حال من إخوانهم في البوسنة أو الهند. وليس الحقد البوذي هناك بأقل منه
عند الصليبي الحاقد أو الهندوسي الفاجر. ولا يتردد دعاة الشيطان وجنوده من
التصريح بأن معركتهم مع الإسلام والمسلمين لن تنتهي ما دام للدين قائمة. فهل
يقدّر المسلمون أبعاد كلمة (بال تاكري) (زعيم مجموعة شيف سيفا الهندوسية) ؟
(لقد خرج النمر الهندوسي من قفصه والويل لمن يقف في طريقه) .
المسلمون حسب توزيعهم في ولايات الاتحاد الهندي [2] :
--------------------------------------------------
الولاية عدد المسلمين النسبة المئوية
--------------------------------------------------
1- جاموا وكشمير (Jammu& Kashmir) 3.843.451 64.49%
2- البنغال الغرب (west Bangal) 11.743.259 21.51%
3- كيرالا (Kerala) 5.409.687 21.25%
4- أوتار براديش (Uttar Pradesh) 17.657.735 15.93%
5- بيهار (Behar) 9.874.993 14.13%
6- كارناتاكا (Karnataka) 4.104.616 11.05%
7- مانيوبار (Maniupar) 1.600.000 10.00%
8- ماهاراشترا (Maharashtra) 5.805.785 9.25%
9- غوجارات (Gujarat) 2.907.744 8.53%
10- أندهرا براديش (Andhra Pradesh) 4.533.700 8.47%
11- راجاستان (Rajastthan) 2.492.145 7.28%
12- تاميل نادو (Tamil Nadu) 2.519.947 5.21%
13- مادهيا براديش (Madhya Pradesh) 2.501.919 4.80%
14- أوريسا (Orissa) 422.266 1.60%
15- البنجاب (Punjab) 168.094 1.00%
-------------------------------------------------
المجموع في الولايات الرئسية [2] 77.112.439 11.35%
المسلمون في الولايات الأخرى [3] 21.025.466 0.1-0.9%
المجموع العام لمسلمي الهند [4] 98.137.895 11.5%
-------------------------------------------------
التواجد الهندوسي في البلاد العربية والإسلامية [5]
-------------------------------
الدولة ... ... ... ... ... العدد
-------------------------------
أفغانستان ... ... ... ... 120.000
الجزائر ... ... ... ... 500
البحرين ... ... ... ... 20.000
بنغلادش ... ... 11.000.00
بروناي ... ... ... ... ... 500
تشاد ... ... ... ... ... ... 20
مصر ... ... ... ... ... 5.000 ...
غامبيا ... ... ... ... ... 500
غينيا ... ... ... ... ... ... 50
أندونيسيا ... ... 5.000.000
إيران ... ... ... ... ... 10.000
العراق ... ... ... ... ... 5.000
الأردن ... ... ... ... ... 1.000
الكويت ... ... ... ... 10.000
لبنان ... ... ... ... ... 100
ليبيا ... ... ... ... ... 500
ماليزيا ... ... ... 1.095.000
المغرب ... ... ... ... ... 50
نيجيريا ... ... ... ... 22.000
باكستان ... ... ... 1.100.000
قطر ... ... ... ... ... 500
السعودية ... ... 5.000
السنغال ... ... ... ... 100
سيراليون ... ... ... 500
الصومال ... ... 5000
السودان ... ... ... ... 500
سوريا ... ... ... ... ... 100
تانزانيا ... ... ... 60.000
تونس ... ... ... ... ... 100
تركيا ... ... ... ... ... 100
الإمارات ... ... 15.000
-------------------------------
المجموع ... 18.482.120
-------------------------------
__________
(1) الأرقام والنسب مقتبسة من " الموسوعة البريطانية " عام 1992 /ومن نشرة Radiance عدد 5- 11 آذار 1992م، ص 66-68، بعنوان: سكان الهند المسلمون، للكاتب الدكتور م مطيع الرحمن.
(2) الأرقام مأخوذة عن إحصاء عام 1981 (وهي غير دقيقة بشأن نسبة المسلمين للسكان في جاموا وكشير حيث أن نسبة المسلمين فيها يبلغ 68% من السكان لكن الإجمالى موثق، كما أن ولاية آسام لم تضمن في الإحصاء) .
(3) المسلمون من الولايات الأخرى تقل نسبتهم عن 1% من السكان.
(4) عن الموسوعة البريطانية 1991.
(5) المصدر: مجلة " Hindusm Today " (الهندوسية اليوم) 15 نوفمبر 1992.(64/87)
المسلمون والعالم
القرآنيون وشبهاتهم حول السنة
تأليف: د. خادم حسين بخش
عرض: عثمان جمعة ضميرية
أنكرت فئة ضالة حجية السنة النبوية كخطوة على طريق إنكار حجية القرآن
الكريم نفسه، ثم انقرضت تلك الفئة، لتظهر في هذا القرن بصور جديدة، حيث
ظهرت في شبه القارة الهندية بزعامة غلام نبي المعروف بـ (عبد الله جَكْرَالَوِي)
وكان من أبرز دعاتها مع آخرين ساعدوه في ذلك، وسموا أنفسهم باسم (أهل ...
القرآن) .
وساعدت على قيام الحركة عدة أسباب، أهمها:
ا- المناخ الذي هيأته حركة السيد أحمد خان.
2- الاستعمار بأساليبه المختلفة حيث كان الإنجليز يسيطرون على الهند
وباكستان.
3- هزيمة بعض المسلمين النفسية أمام الحضارة الغربية.
كافح علماء شبه القارة الهندية فكرة (أهل القرآن) منذ وجودها، وذلك لما
يترتب عليها من خطر وردة عن الدين، وقاموا بتفنيد شبهاتهم، وذلك بدراسات
علمية كشفت ضلال هذه الفرقة وفندت جوانب الزيف والانحراف لهذه الحركة في
مجال السنة والقرآن والعقيدة والعبادات والتشريع الإسلامي. وقد تصدى لهم الأستاذ
الباحث خادم حسين بخش، فقدم هذه الدراسة (القرآنيون وشبهاتهم حول السنة)
وهي أطروحة جامعية تقدم بها لنيل درجة الماجستير من كلية الشريعة والدراسات
الإسلامية بمكة المكرمة. وقد طبعتها مكتبة الصديق بالطائف في مجلد واحد.
جاءت هذه الرسالة في بابين وخاتمة:
أما الباب الأول فقد عالج فيه المؤلف فكرة إنكار السنة قديماً وحديثاً، فتحدث
عن تاريخ فرقة القرآنيين والأصول التاريخية لها.
وأما الباب الثاني فقد جعله خاصاً لدراسة أفكار القرآنيين، ويقع في أربعة
فصول.
عرض في الفصل الأول شبهات القرآنيين حول السنة مع مناقشتها، وفي
الفصل الثاني دراسة لمنهج القرآنيين في تفسير القرآن الكريم. وفي الثالث عرض
ومناقشة لآرائهم الاعتقادية في مسائل وأحكام اعتقادية كثيرة. وفي الفصل الأخير
عرض لآراء الجماعة في جوانب الشريعة، فتحدث عن موقفهم من العبادات
والعقوبات والمعاملات، وعن موقفهم من الحدود، والميراث.. وكانت الخاتمة
خلاصة عامة، تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة. ويليها ثبت
المراجع العربية والأجنبية وكان عددها وفيراً ومتنوعاً. هذا وقد اجتمعت لهذه
الرسالة ميزات جمة تجعلها جديرة بالقراءة والاطلاع، فهي رسالة علمية كتبها
باحث مطلع على أفكار الجماعة عن كثب، ويقرأ لهم بلغتهم ولسانهم، مع حماس
لدينه وعقيدته، فنسأل الله تعالى أن ينفع به وبما كتب.(64/96)
مقابلة
البيان تحاور المتحدث الرسمي
باسم حزب النهضة الإسلامي في طاجيكستان
أجرى الحوار: د. مالك الأحمد
ضيف (البيان) في هذا اللقاء هو سيد قيام الدين غازي المتحدث الرسمي
لحزب النهضة الإسلامي في طاجيكستان، وهو من الخمسة المؤسسين لهذا الحزب
وعضو مجلس الشورى فيه، وهو خطيب الحزب المفوه الذي كان يخطب في
الجماهير المحتشدة في ميدان الشهداء في دوشنبه أيام الاعتصام، وكان عددهم يربو
على المائتي ألف، وكان الناس يستمعون لتوجيهاته، ولم ينفضُّوا إلا بعد أن أمرهم
بذلك.
* يستغرب الكثيرون الظهور القوي والمفاجئ لحزب النهضة في طاجيكستان
فكيف تعلل ذلك؟
يظن الكثيرون أن حزب النهضة وليد السنوات القليلة السابقة وهذا غير
صحيح، نحن كنا نعمل منذ 15 سنة لكن جهادنا كان سرياً، كنا نعلم أبناءنا في
الإسطبلات والسراديب كي نحفظ عليهم دينهم. لكن بعد سقوط الشيوعية أنشأنا
الحزب كي يكون واجهة لنا، ورغم ذلك لم نكشف كل ما لدينا خوفاً من الشيوعيين
الذين ما زالوا على رأس الحكم، فقد خشينا أن ينضم الناس نظراً لجهلهم وتشوقهم
للحرية إلى الأحزاب الجديدة الوليدة وبعضها إسلامي الاسم؛ كالحزب الديمقراطي
الإسلامي لكنها كانت علمانية التوجه.
* كيف سمح لكم الشيوعيون بإنشاء الحزب رغم أن كثيراً من البلدان
الإسلامية تعارض إنشاء أحزاب ذات توجه ديني إسلامي؟
ظن الشيوعيون أن الإسلام قد دفن وللأبد في بلادنا وبالتالي فلا خوف من
ظهور حزب إسلامي لأنه في نظرهم مهزوم لا محالة، لكن الله رد كيدهم وظنهم
في نحورهم، فانطلق الشباب للدعوة في أصقاع البلاد، وأنشأت المساجد، وظهر
الحجاب، وعم الخير في بلادنا ولله الحمد.
* كيف تطورت الأمور بعد ذلك؟
بعد انتشار المد الإسلامي خلال سنتين تقريباً صدم الشيوعيون بهذا الأمر
وكان التخوف لدى الروس أيضاً، وعقدوا اجتماعات كثيرة متتالية لدراسة خطة
ملائمة لمقاومة المد الإسلامي، وبعدها أصدر (البرلمان) الكثير من القرارات
الجائرة للتضييق على المسلمين، وحبسوا بعض العلماء، وشددوا على حزب
النهضة، فاضطررنا للخروج ومواجهة الحكومة سلمياً عن طريق الاعتصام بميدان
الشهداء، وجلسنا أياماً مطالبين بتغيير الحكومة، وإلغاء الأحكام الظالمة ضد العلماء، وتطبيق نظم الإسلام في البلد سواء في العطلة (الأحد) أو اللغة (الروسية) أو
الإعلام أو القوانين الأخرى.
وقبلت الحكومة مطالبنا، فطلبنا من الناس الرجوع إلى منازلهم، لكن فوجئنا
بعد ذلك بنقضهم للاتفاقات، بل زادوا من التشديد على المسلمين؛ فخرجنا مرة ثانية
- ومعنا الأحزاب الأخرى التي تنادي بالديموقراطية - وحدثت اضطرابات شديدة
أدت إلى استقالات جماعية للوزراء، وسقط الرئيس، وتحولت الصلاحيات إلى
البرلمان وأغلبه من الشيوعيين، وتطورت الأمور سلباً لأن البرلمان استمر في
الضغط والتضييق على المسلمين، ووضعت المساجد تحت يد الحكومة وكذلك
الخطباء. فاضطررنا للخروج مرة ثالثة ضد قرارات البرلمان المجحفة واعتصمنا
في الميدان قرابة الشهر، فوافق البرلمان أخيراً على مطالبنا، لكن ظهر أنهم قبلوا
فقط ليتفرق الناس، وفوجئنا في الوقت الذي كنا نستعد فيه للخروج من الميدان
بتجمع عدد من الشيوعيين في ميدان مجاور مطالبين بأمور مخالفة لمطالبنا، وهذا
كان من تدبير قادة الشيوعية في البلد، فأصبح الوضع متفجراً خصوصاً بعدما
حصلوا هم على أسلحة.
* كيف أنقذتم الموقف المتفجر في تلك الساعات العصيبة؟
خطبت في الناس وقلت لهم نحن لا نخشى شيئاً لأن الله معنا، نحن مسلحون
بالإيمان والثقة بالله. وطمأنت الناس، فهدأت النفوس، وخاف الشيوعيون وظنوا
أنه لدينا أسلحة فهربوا من الميدان المجاور.
* كيف تكونت الحكومة الائتلافية؟
في البدء انسحب الروس من العاصمة ومعهم الأسلحة، ومع تطور الأمور
أوقع الله في قلوب الشيوعيين الرعب، فبدؤوا بالفرار، فاستولى بعض الشباب -
من حزب النهضة - على مبنى الإذاعة والتلفاز بعد معركة قصيرة، وسقطت البلاد
بأيدي التحالف الإسلامي الديمقراطي، وكونت حكومة ائتلافية ووافق عليها البرلمان
(والذي ما زال شيوعياً) .
* وكيف سقطت الحكومة بعد ذلك ووقعت المأساة؟
تطورت الأمور باتجاهين داخلي وخارجي، ففي الداخل أُخرج الشيوعيون
المجرمون من السجون وجمعوا قواتهم - وهم يملكون في الأصل أسلحة - وبدؤوا
بحملات عسكرية خارج العاصمة. وخارجياً اجتمع الشيوعيون من طاجيكستان
وأوزبكستان وروسيا وكازاخستان وقيرغيزيا، واتفقوا على ضرب الإسلاميين
خوفاً من استفحال أمرهم في طاجيكستان؛ وانتقال الأمر إلى الدول المجاورة.
وفعلاً أرسلت الدبابات والأسلحة الثقيلة، وهاجموا بالطائرات من أوزبكستان،
وساعدتهم القوات الروسية الموجودة أصلاً في المنطقة.
* حبذا لو أعطيتمونا نبذة عاجلة عن المأساة؟
الأمر أصعب وأشق من أن يصور، فالقتلى بعشرات الآلاف والمفقودون
كذلك، فضلاً عن أكثر من مليون مشرد، لقد دمروا منطقة قرغان تبه حيث معقل حركة النهضة ودمروا القرى وأحرقوا المساكن والبشر حتى الحيوانات لم تسلم من شرهم، لقد فعلوا ما لم يفعله جنكيزخان أو هولاكو، لم يرحموا صغيراً ولا كبيراً ولا مريضاً، حتى بيوت الله لم تسلم من شرهم. وكان العلماء أشد بلاء، فقد عذبوهم ثم مثلوا بهم قبل أن يقتلوهم.
* يؤخذ عليكم أنكم دخلتم اللعبة السياسية قبل أن تنضج الحركة؟
أقولها لك صريحة، أنا شخصياً لا أؤمن باللعبة الديموقراطية، ولنا في
التجربة الجزائرية خير شاهد، أنا أريدها إسلامية صريحة، وكنت أقول للناس في
الميدان ماذا تريدون؟ قالوا: نريد الإسلام. وكان الناس يستمعون لقولي، لو قلت
لهم قوموا لقاموا. بالنسبة للحزب كان هناك رأيان في مجلس الشورى. الأول:
هو التدرج في إعلان الحكومة الإسلامية، واستخدام سياسة الخطوة خطوة كي لا
نثير الأعداء الشيوعيين علينا مرة واحدة. وكان الرأي الثاني - وكنت من أنصاره
- أن الفرصة مواتية والشيوعيين في أضعف أحوالهم والناس تريد الإسلام، وإن
كان ولا بد فدعوا الأمر يتناطح فيه الشيوعيون والديموقراطيون حتى تحين فرصة
مواتية لنا، وساد الرأي الأول، وأنصاره يأسفون اليوم لما آل إليه رأيهم ويبقى
الأمر اجتهاداً منهم لنصرة الدين.
* ألم يحسب الأخوة في حزب النهضة أي حساب لما قد تؤول إليه الأمور؟
لم يكن لدينا خيارات كثيرة فقد علمنا - بعد مدة قصيرة من تكوين الحكومة
الائتلافية - عزم الشيوعيين على التحرك ضدنا، ولكنا كنا محاصرين. فالدول
المجاورة كلها شيوعية، ولا يمكن أن نتحرك من خلالها، أما أفغانستان فقد كان
الروس يحرسون الحدود، وكان من الصعب علينا التحرك، ولم تكن لدينا أصلاً
أسلحة، وليس لدينا أموال لشرائها.
* هل من كلمة خاتمة؟
أقول مأساتنا قد علمتموها وتفاصيلها قد نشرت، ونحن نحتاج من إخواننا
المسلمين لكل أنواع المساعدة بالمال والسلاح والدعاء والله لا يضيع أجر المحسنين.(64/98)
أخبار قصيرة
إسرائيل ... والزئبق الأحمر
قدَّم الكسندر روتسكوي نائب رئيس جمهورية روسيا الاتحادية تقريراً بعنوان
(من أين لك هذا؟ وأين ذهبت ثروات روسيا؟) جاء يعرض لكثير من قضايا الفساد ...
والرشوة في البلاد ولكن أخطر ما جاء في التقرير على جميع المستويات التالي:
(منذ عام 1968 والعمل في الاتحاد السوفييتي يجري لتصنيع مادة الزئبق الأحمر)
أو (ملح الزئبق) وحسب تقديرات الخبراء فإنه لا يوجد غير مركز واحد في أوربا
(سويسرا) قادر على الاستفادة من المادة. واستناداً إلى المعطيات المتوفرة فإن سعر
الغرام الواحد من مادة الزئبق الأحمر تتراوح بين 340 أو 380 دولاراً أي أكبر
بعشر مرات من سعر الذهب. وهذه المادة يستفاد منها لتصنيع: صواعق ذات دقة
متناهية للقنابل العادية، تصنيع صواعق قنابل نووية، تشغيل المفاعلات النووية،
تصنيع معدات وآلات الكترونية غاية في الدقة، صناعة ورق خاص بطبع النقود،
صناعة رؤوس أوتوماتيكية للصواريخ ذات الدقة المتناهية في تدمير الأهداف....
ومن خلال عقود تمت بين شركة (بن صهيون) والإدارة الروسية فقد تم بيع كميات
هائلة منها إلى إسرائيل بسعر بخس. حيث أن القرار رقم 87 بتاريخ 16 يناير
1992 أوعز بتسليم شركة (سوفيجزدين) الإسرائيلية 30 كيلوغراماً من مادة ...
الزمرد الخام بهدف تصنيعه وبيعه في الخارج لقاء بضعة آلاف من الروبلات. إنه
هدية للإسرائيليين تزيد قيمتها عن عشرة مليارات دولار علماً بأن ديون روسيا
بلغت عام 1992م بلغت 12 مليار دولار) .
... ... ... ... ... ... الأسبوع العربي26/4/1993
التقرير-الضجة لم تشأ أجهزة الإعلام - المحكومة صهيونياً - أن تثيره
خاصة في معمعة الأحداث الجارية في أوربا الشرقية وإن كانت قد تحدثت بعضها
عنه، كما أنه وجد بعض التغطية في الصحافة العربية. هكذا تخطط إسرائيل
(لسلام دائم وشامل مع العرب) !
ساعدوهم لمحاربة التطرف
أكد خبير أميركي في شئون الأمن القومي أمس أن العالم العربي يجب أن
يعالج مشاكله الاجتماعية والاقتصادية المتمثلة في الفقر والنمو السكاني الكبير
وغياب الانتماء الاجتماعي لمواجهة انتشار الأصولية. وعليه ألا يكتفي بالإشارة
إلى خطر هذه الدولة أو تلك لأن معظم الدول التي يشار إلى أخطارها العسكرية لم
تعد تملك التجهيزات العسكرية المتطورة لا في أساطيلها الجوية ولا في تجهيزاتها
الألكترونية المطلوبة للتفوق في هذا العصر التي تعتمد على التكنولوجيا المتطورة،.
الحياة 8 / 4 / 1993
أصابع الاتهام تشير إليهم
تناقلت الإذاعات والصحف المصرية أخبار حالات الإغماء الجماعي التي
أصيب بها مئات الطالبات في المدارس المصرية في منتصف شهر مايو. الأخبار
تفيد أن ما يزيد عن خمسمائة تلميذة أصبن بالإغماء والغيبوبة من دون سبب واضح، وقد خصصت مستشفيات كثيرة في الجيزة والقاهرة والإسكندرية لمعالجتهن وقد
أصبحت هذه الحادثة - الظاهرة لغزاً! للإعلاميين والتربويين.. كل يدلو بدلوه
فيه. وقد تعطلت الدراسة في مدرستين للفتيات في قريتي بويط وفيشان التابعين
لمدينة الرحمانية حيث بلغ عدد المصابات بالإغماء والغيبوبة في المدرسة 250
تلميذة. وقد قامت مجموعة من الأطباء والمتخصصين في الأمراض الوبائية
واستعين ببعض المعامل الخاصة لكشف غموض حالات الإغماء. وانتشرت
مجموعة من القوات المسلحة في المناطق التي تشهد هذه الحالات واستدعي خبراء
في الحرب الكيمياوية من القوات المسلحة المصرية لتحليل الظاهرة.
وقد ألقى وزير الصحة الدكتور راغب دويدار بياناً رسمياً في مجلس الشعب
دعمه بالبيانات والإحصاءات عن عدد المصابات وحالاتهن والتفسير الطبي لهذه
الحالات والنتائج المخبرية والعينات التي أخذت من المصابات وأكدت خلوها من أي
إشعاعات وفيروسات خطيرة قادمة من الخارج أو مبيدات حشرية أو نفايات ذرية.
وقد فسر (السيد الوزير) الظاهرة بأنها: (إما هستيريا جماعية) ، أو (حالة نفسية
بحتة) ! !
ولكن (السيد الوزير) نسي أن يذكرنا بأن هذه الحالة والتي ظهرت قبل ذلك
بأسبوعين بأعداد أقل تكاد تكون تكراراً لما حدث في مدراس البنات في (بير زيت) في فلسطين المحتلة عام 1983م عندما دس خبراء الموساد مواداً كيماوية في
خزان مياه الشرب التابع للمدرسة. علماً بأن هذه المواد لا يتأثر بها إلا البنات وفي
سن المراهقة وتؤدي إلى إفقادهن خصوبتهن.
والجدير بالذكر أن إسرائيل - والتي امتدت أيديها إلى إفساد قطاعات كبيرة
في الزراعة المصرية - تحاول باستمرار تقديم العرب للعالم على أنهم سريعو
التكاثر داخل فلسطين مما يعني أن اليهود مهددون بأن يصبحوا أقلية في (بلادهم)
لذا يرى الخبراء اليهود بأن إفقاد قطاع كبير من المسلمات لخصوبتهن سبيل لتحقيق
أغراضهم.
ليسوا متطرفين! !
انتهى الحصار الذي فرضته قوات الشرطة الفيدرالية الأميركية على مجمع
سكني تحاصر فيه مجموعة دينية يرأسهم كوريش الذي (يزعم أنه رسول من الله،
برسالة جديدة محتواها يهودي بإطار مسيحي. وقد قضى (جميع من كان بالداخل
تقريباً) 95 شخصاً حرقاً بينهم 17 طفلاً بعد أن رفض (سيدهم) الخروج قبل أن
تأتيه (رسالة من الله) . المجموعة المسلحة بأحدث البنادق قد قتلت خمسة من
رجال الشرطة عند محاولتهم اقتحام الموقع منذ شهرين تقريباً. جميع الذين كتبوا
عن الموضوع لم يبرزوا الرجل وجماعته كمتطرفين لأن وصف التطرف يُحتفظ به
لقضايا المسلمين ورجالاتهم فقط.
من جرَّب المجرَّب
أنهى الحزب الشيوعي التونسي مؤتمره العام في 24/4/1993 بالإعلان عن
(عهد بالوفاء للشيوعية) وتغيير اسمه إلى (حركة التجديد) لأن المرحلة - كما يقول رئيسها العام - محمد حرمل: (تقتضي تضافر جهود الديموقراطيين لمجابهة خطر التيارات الأصولية) .(64/102)
الملف الإعلامي
إحصائيات
العرب بالأرقام
قدر التقرير العربي الموحد للعام 1992 عدد سكان العالم العربي في نهاية عام
1991م بـ 230 مليون نسمة يشكلون 5 بالمئة من عدد سكان العالم. فيما يبلغ
عدد العمالة العربية 67 مليون عامل. واعتبر التقرير أن نسبة احتياطي النفط
المؤكدة في الدول العربية (1 63 بليون برميل) أي 6206% من الاحتياطي
العالمي. وتشكل نسبة احتياطي الغاز في الدول العربية 2402% من الاحتياطي
العالمي. وقدر التقرير الصادرات السلعية بـ 119 بليون دولار عام 1991م،
وهي تشكل نسبة 307% من الصادرات العالمية. فيما بلغت قيمة الواردات 105
بليون دولار تشكل نسبتها 3% من إجمالي الواردات العالمية.
أعلن صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة يونيسيف في كراتشي أن خمسة
ملايين طفل مسلم يموتون سنوياً في العالم الإسلامي، وأن ملايين آخرين يعانون
من سوء التغذية التي تترك بصماتها على حياتهم مستقبلاً. ودعت المنظمة التي
تعمل على حماية الطفولة بلدان منظمة المؤتمر الإسلامي إلى تخصيص 20% من
موازناتها للتنمية البشرية لتلبية حاجات النساء والأطفال.
المسلمون في أميركا
عرضت جريدة (هيرالد تريبيون) الدولية في عددها الصادر 8/5/1993 أن
عدد المسلمين في أميركا يتجاوز الـ 4 ملايين نسمة، وأن أعدادهم في تزايد
مستمر، ومعظمهم من الدول العربية والإفريقية إلى جانب الباكستانيين والهنود..
ويقيم المسلمون في بعض المدن مثل (ديربورن) وسكانها 870000 نسمة
يشكل المسلمون فيها 20% منهم.
ويقول التقرير أيضاً أن المسلمين في أمريكا ليس لهم وجود سياسي واضح
ولا يشكلون (قوة ضغط) واضحة المعالم، ولكنهم على ما يبدو في الطريق إليها إذ
أن ذلك يبدو واضحاً من خلال إنشاء المقومات الأساسية لتكوين أنفسهم، حيث لهم
165 مدرسة إسلامية.(64/105)
مصطلحات
القنبلة الإسلامية [*]
وهو تعبير أطلقته باكستان عام 1979م على القنبلة النووية الباكستانية المزمع
تصنيعها آنذاك. وهذا التعبير كثير الاستخدام في العالم الغربي للتحذير من أية قوة
إسلامية علماً بأن جميع شعوب العالم - ما عدا المسلمين - يملكونها. فالهند لديها
مشاريعها النووية وكذلك كوريا واليابان وإسرائيل وجنوب أفريقيا ودول أوربا
وأمريكا ولكنها محظورة على المسلمين.
وقد كان الدافع الأول للمشروع الباكستاني هو التهديد والتحدي الهندي - العدو
التقليدي والأول لباكستان. وقد هددت إسرائيل عشرات المرات وأشارت إلى
إمكانية قيامها بتدمير المنشآت النووية الباكستانية للحيلولة دون تصنيع (القنبلة
الإسلامية) على غرار مما فعلت عام 1981م عندما قامت بقصف المفاعل النووي
العراقي.
فمع أن القانون الدولي يحرم استخدام أسلحة التدمير الشامل، وعقدت مئات
الاتفاقيات وعشرات المعاهدات إلا أن العالم لا زال يمتلك ذلك السلاح [*] :
- أميركا: لديها ما يكفي لتدمير العالم 21 مرة.
- روسيا: لديها ما يكفي لتدمير العالم 18 مرة.
- فرنسا وبريطانيا لديها ما يكفي لتدمير العالم 5مرات.
- إسرائيل تمتلك 26 قنبلة نووية صغيرة.
__________
(*) هذه المعلومات حسب إحصائيات قديمة ولدى إسرائيل اكثر من ذلك بكثير.(64/106)
الملف الإعلامي
إصدارات
من الكتب التي صدرت حديثاً عن أحداث الجزائر، كتاب (شيوخ وجنرالات؛ الصراع على الجزائر) ، أعده فريق من الخبراء العرب، نشر دار الكتاب
العربي، القاهرة /دمشق، سنة 1412هـ/1992م، الكتاب من 200 صفحة من الحجم المتوسط.
جاء في مقدمة الفصل الأول منه: (طويلة هي قصة الصراع بين العسكر
والدين في أوطاننا العربية، ومعقدة هي فصول هذه القصة ومتداخلة، وهو واقع
الحال مع الجزائر في تاريخها الحديث، وبخاصة في تجربتها الأخيرة (ديسمبر
1991م - يناير1992 م) فلقد كان الصراع دامياً ودرامياً بين العسكر والشيوخ) .
والكتاب عبارة عن سرد للوقائع والأحداث ورصد المواقف، مدعماً بالوثائق
والنصوص، لفترة معينة في الصراع بين الحق والباطل وحتى قبل هلاك
(بوضياف) !
وقد قسم الكتاب إلى أربعة فصول هي:
الفصل الأول: رياح الديمقراطية تأتي بالإسلاميين (الجزائر قبل الاستقلال) . ...
الفصل الثاني: مواقف القوى السياسية العربية من الفوز الإسلامي (مواقف ما ...
قبل استقالة (بن جديد)) وفيه: أولاً: موقف الإخوان المسلمين، ثانياً: موقف
الإسلاميين المستغلين، ثالثاً: موقف القوى اليسارية.
الفصل الثالث: الإنقلاب الأبيض (الجزائر بعد استقالة (بن جديد) وفيه:
رصد للأحداث الداخلية من خلال الصحف المحلية والغربية، وبيان بعض مواقف
قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ مع تصريحات لبعض القيادات العربية. كما يحتوي
هذا الفصل على أول رد فعلي رسمي أميركي على أحداث الجزائر.
الفصل الرابع: الدبابات تعود (رصد عام لمواقف القوى السياسية العربية بعد
استقالة (بن جديد) وفيها: أولاً: موقف الإخوان المسلمين، ثانياً: موقف القوى
الإسلامية المستقلة، ثالثاً: موقف القوى اليسارية، رابعاً: موقف قوى رسمية
مستقلة. ثم يختتم الكتاب بالنص الكامل للبرنامج السياسي للجبهة الإسلامية للإنقاذ.
وفي الجملة، فإن الكتاب من (أحسن ما في الباب) حالياً، لمن يهمه أمر أمة
المليون شهيد، حتى يأذن الله.(64/107)
صور من تاريخ الطغيان
د.محمد عابد باخطمه
التاريخ كتاب عظيم الفائدة لمن أراد أن يقرأه ويستفيد من حوادثه كمنهج
قرآني. قال تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن
قَبْلُ] [الروم 42] . وقد استخدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا المنهج في
غير موضع.
دراسة التاريخ غزيرة الفوائد ولعل من أهمها:
أولاً: إن الحقائق تصبح ظاهرة.. حيث أن الحادثة وتفاعلاتها ونتائجها تكون
معروفة، لذلك يمكن إعطاء الأحكام العادلة على الحوادث المنصرمة.
ثانياً: يصبح في المقدور ربط الحاضر بأصوله، وجذوره في الماضي، فلا
نخدع بالثمرة الحسنة المظهر المرة المذاق من الشجرة الخبيثة الأصل، وعلى أثر
ذلك فإن أحكامنا على الحوادث والأمور الحاضرة سوف تتسم بالجدية والأسلوب
العلمي البعيد عن العاطفة والتخمين.
ثالثاً: يمكننا عند دراسة التاريخ - دراسة واعية - أن نستشف المستقبل،
فيصبح خداعنا أمراً صعباً ومستحيلاً، وتكون الخطط المستقبلية - وهي أحد
أساسيات تطور الشعوب - مبنية على أسس صلبة لا تتأثر بالرياح الموسمية.
إذن التاريخ يخبرنا عن الماضي لنفهم الحاضر ونخطط للمستقبل، وفي هذه
المقالة أريد أن أدرس أمراً واحداً فقط وهو الطغيان لنرى ماذا يقول التاريخ فيه.
والطغيان في اللغة: مجاوزة الحد والتعدي. وعند تطبيق هذا المعنى في الدين
يكون الطغيان: التمرد على أوامر الله سبحانه وتعالى ومحاربته سبحانه، وللطغيان
أسس هي:
أولاً: الطاغوت: وهو كل ما يعبد من دون. الله تعالى.. صنم.. رجل..
شجرة.. حزب.. منهج ... الخ.
ثانياً: الطاغية: وهو المؤمن بأحد هذه الطواغيت، ويجبر الناس على
عبادتها مثله،
ثالثاً: السبيل الذي يسلكه الطاغية للوصول إلى هدفه وقد يكون القتل.
التجويع.. الإغراء.. الخ،
رابعاً: الأمة الضعيفة.. الجاهلة.. الواهنة.. المترفة.
ويقول لنا التاريخ: أنه لا بد من اجتماع هذه الأصول، فالطاغوت بدون
طاغية لا قيمة له.. والطاغية لا يجبر الأمة العالمة القوية المجاهدة على عبادة
طاغوته مهما استخدم من سبل، وقد تطغى أمة بمجموعها أو قد يطغى فرد واحد،
والأمثلة على النوعين كثيرة.
1 - طغيان الأمم:
قوم نوح -عليه السلام-، قال تعالى [قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً ونَهَاراً
* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلاَّ فِرَاراً * وإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] [نوح5- 7] .
القوم أبوا إلا عبادة الأصنام وأصروا على ذلك.. قال تعالى: [وقَالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وداً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً] [نوح 23] ،
أعلنوها حرباً صريحة مع الله تعالى، وهنا صدر الحكم، قال تعالى: [مِّمَّا
خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً] [نوح 25] .
إذن اتخذوا طواغيت.. استكبروا وأصروا على غيهم.. أعلنوا الحرب مع
الله فأغرقوا وانتقلوا من الدنيا إلى جهنم وبئس المصير.
ثم قوم هود وهم عاد كانوا جبابرة، قال لهم نبيهم.. قال تعالى: [واذْكُرُوا
إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ] [الأعراف 169] . وقال تعالى: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
الحَقِّ وقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً]
[فصلت 15] . إذن أعلنوا التحدي لله تعالى بل طلبوا المنازلة..! وهنا صدر
الحكم، قال تعالى: [وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً] [الحاقة 6-7] .
أما قوم لوط.. فاختاروا طريق الشهوات ونكسوا فطرتهم وأصبح العفاف
عندهم جريمة تستوجب النفي، ألم يقولوا [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ] [النمل 56] ، ومثلهم قوم شعيب وقوم سبأ.. الخ، فمما سبق نستنتج ما
يلي:
قوله تعالى: [ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن
يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ
يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] [الأعراف 96 -
99] .
التاريخ يقول: أن الأمة التي تكثر معاصيها وتطغى لابد وأن تهلك، ولا
ينجو إلا من آمن بالله تعالى، بل إن المؤمن إن لم ينه عن المنكر فقد يهلكه ذلك
المنكر الذي لم ينه عنه.
والنوع الثاني من الطغيان هو طغيان الأفراد، ومن أمثلة ذلك إمامهم وقدوتهم
فرعون الذي أُعطى كل دعائم القوة.... . الشباب.. السلطة.. الفصاحة.. المال.. الجيوش.. الأراضي.. القصور.. العبيد، ومع ذلك كله كان عنده قومه إنهم
كانوا قوم سوء فاسقين لأنهم مهدوا له طريق الطغيان، كل هذا جعله يقول لهم: [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] فأماته الله شر ميتة مع جنده، وهو في أوج مجده، وقارون كان
فقيراً معدماُ فآتاه الله علماً در عليه المال فلم يحمد الله على ذلك.. فخسفت به
الأرض وهو يمشي متبختراً بين قومه. وكسرى.. كان أقوى ملوك الدنيا في
عصره ولكنه باستخفاف الطاغية لم يحترم رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بل مزقها، فمزق الله ملكه. وأبو جهل لقي نفس المصير.. لقد ماتوا شر ميتة وهم
في أوج تغطرسهم.. وفي عصرنا الحاضر ماذا كانت عاقبة هتلر.. جنرالات
إسبانيا.. ماذا حصل لتشاوشيسكو.. المصير واحد والمعادلة معروفة الطغيان يؤدي
إلى الهلاك.. التاريخ يقول لنا أن الطاغية يصل إلى أوج مجده ثم بسرعة جداً
يسقط إلى الحضيض، ومن لا يعتبر فالسنة الربانية لا تتغير.
وما هو حال من يطغى في وسط أمة صالحة؟ الجواب: هو ما حصل
لصاحب الجنتين الذي قال لصاحبه وهو يحاوره: [ومَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ولَئِن
رُّدِدتُّ إلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً] [الكهف 36] ، أحرقت جنته وأصبح
يعض أصابع الندم. الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي قوله تعالى: [فَأَمَّا مَن طَغَى
* وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى] [النازعات 37-39] ،.
إن العودة إلى الله تعالى وترك المعاصي هي سبيل النجاة الوحيد للأمم
والأفراد، ووقوع الكوارث والمصائب لا يكون إلا عندما تكثر المعاصي، ولا ترفع
إلا بالتوبة إلى الله عز وجل.
وباختصار إذا أرادت أمة أن تطغى.. أو أراد فرد أن يطغى فلتبحث تلك
الأمة.. أو ذلك الفرد عن ملكوت غير ملكوت الله تعالى، أما في ملكوته فهو وحده
الجبار المتكبر سبحانه وتعالى..(64/108)
بريد القراء
* من الأخ سليمان عبد الرحمن العبيد وصلتنا قصيدة (كم وكم) نختار منها ...
بعض الأبيات:
يا من له الأولى وحكم الآخرة ... ربَّ العشية والضحى والهاجرة
يا رب نسألك النجاة جراحنا ... من كسب أيدينا الضعيفة غائرة
يا رب نسألك الثبات عقولنا ... من كيد صهيون -الخيانة- حائرة
ولقد علمنا لا محالة أن في ... يوم تدور على اليهود الدائرة
كم ساجد جاؤوه وقت سجوده ... عَدْواً بمطرقة الحديد الكاسرة
وجماعة تدعو بمسجد ربها ... مَلأتْ سجون الظالمين الجائرة
هذي المساجد معقل الإرهاب بل ... هذي وصايا (أورشليم) الكافرة
* الأخ سعد الحمدان
نشكرك على عواطفك النبيلة، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
* الأخ بدر الربدي
نتيجة بحوث المسابقة خاصة بالمجلة، ولا نستطيع في الوقت الحاضر توزيع
هذه البحوث، وقد طبع البحث الأول على حساب مؤلفه.
* الأخ زين بن حسن يماني
ملاحظاتك حول الأخطاء المطبعية سيتم التنبه إليها. جزاكم الله خيراً على
نصائحكم.
* الأخ إبراهيم المزيني
يدعو لمناصرة المسلمين في كل مكان، وجمع التبرعات لنصرة قضاياهم
ويخص المنتدى الإسلامي بذلك.
* الأخ عمر كوري
سوف تصلك مستقبلاً إن شاء الله أعداد البيان كاملة.
* الأخ عبد الرحمن عبد اللطيف
اقتراحاتك وملاحظاتك نرجو التفاهم حولها مع أقرب مكاتب المجلة إليك.
* الأخ خالد يوسف
اقتراحاتك موضع عناية واهتمام من أسرة تحرير المجلة.
* الأخت حصة البازعي
موضوع السنن الربانية: هناك رسالة دكتوراة في الموضوع من جامعة أم
القرى ويمكنك الرجوع إلى تفسير (المنار) للشيخ رشيد رضا.
* الأخ عبد العزيز التويجري
نشكرك على ثقتك بمجلة البيان، وبالنسبة لطلبك فإنه يتعذر الآن.
* الأخ محمد سليمان آدم
نرحب بك قارئاً للمجلة ونحن نستقبل جميع الكتابات حول شؤون العالم
الإسلامي..
* الأخ جمعان الزهراني
نوافقك على ما جاء في رسالتك ونرجو أن نكون عند حسن ظنك.
* الأخ محمد أبو عزام
أرسل نداءً خاراً للمسلمين داعياً إياهم للوحدة والاجتماع على منهج أهل السنة
والجماعة.
* الأخ عثمان الخنين
يطرح قضية هامة وهي تعرية رؤوس الشر والفساد والتخريب في الأمة وفي
الساحة الثقافية على وجه الخصوص، ويدعو الكتاب والمفكرين للمساهمة في هذا
الموضوع.
* الأخ محمد ابكر طبيقي
نشكرك على ثقتك بالمجلة، أما عن وصول المجلة إليك كما ذكرت في
رسالتك فهي خارجة عن إرادتنا تماماً.
* الأخ سليمان السنيدي
ملاحظاتك حول بريد القراء واقتراحاتك بشأن المقالات محل دراسة وشكراً
لك.
* الأخ عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي
أرسل لنا رسالة يبدي فيها إعجابه بقصيدة الأخ د. محمد وليد في العدد 61
وكان له بعض الملاحظات التي طلب منا إرسالها للشاعر.
البيان: ونشكر لك اهتمامك وملاحظاتك المهمة سنحقق رغبتك إن شاء الله.(64/111)
شذرات وقطوف
دعاء
(اللهم قد أطغاهم حلمك وتجبروا بأمانك حتى تعدوا على المسلمين بغياً، ...
اللهم قلّ الناصر، واعتز الظالم، وأنت المنصف الحاكم، بك نستعين وإليك نهرب
من أيديهم، اللهم إنَّا حاكمناهم إليك، وتوكلنا في إنصافنا منهم عليك، فاحكم بيننا
بالحق وأنت خير الحاكمين) .
حنين إلى العدل
يكفيك حزناً ذهاب الصالحين معاً ... وأننا بعدهم في الأرض قُطَّان
إنّ العراقَ وإن الشام من زمن ... صفْرانِ ما بهما للعدلِ سلطانُ
ساسَ الأنام شياطينٌ مُسَلَّطَةٌ ... في كلِّ قُطْرِ من الوالين شَيطانُ
متى يقومَ (زعيمٌ) يستقيدُ لنا؟ ... فتعرف العدل أجيال وغيطان!
أبو العلاء المعري
حب الرئاسة
(وهلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحب الرياسة وكذلك من يهلك إلى ...
انقضاء الدهر فبحب الرياسة) .
... ... ... ... ... رسالة بين العداوة والحسد، الجاحظ 369
***
(ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها، فإن أساس ...
النبوغ (ما يجب كما يجب) ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة
الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق، أما هي (الصحافة) فأساسها
(ما يمكن كما يمكن) ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا
غير) .
... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي، الرسالة 5/244
آفة المزاح
قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك فالإفراط فيه يذهب بالبهاء،
ويجرئ عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين ويوحش المخالطين، ولكن
الاقتصاد فيه صعب جداً، ولذلك تحرَّج عنه أكثر الحكماء لأنه مقطعةٌ للإخاء مسلبةٌ
للبهاء.
***
أقوال
(لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يُعطي منه حقه، ويكف به
وجهه عن الناس) .
... ... ... ... ... ... سعيد بن المسيب، سير 4/238
(إن الحق لا ينقلب باطلاً لاختلاف الناس فيه، ولا الباطل يصير حقاً لاتفاق
الناس عليه) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... العامري 192(64/114)
الصفحة الأخيرة
أذكرتنيهم الخطوب التوالي
حسين بن علي الذومي
ما زالت صورة أولئك الرجال ترتسم في ذهني بقوة.. صورة الرجال الذين
لبسوا أكفانهم ترحيباً بالموت فى سبيل الله.. وحملوا أرواحهم على أكفهم.. يرفعون
كتاب الله.. ويهتفون بصوت مجلجل: الله أكبر، ولم ينسوا أن يكتبوا وصيتهم قبل
مسيرتهم.. (مسيرة الموت) ! !
لله درّكم يا رجال (مرج الزهور) .. لقد ذكرتمونا رجالاً كدنا أن ننساهم في
خضم أحداث الحياة.. ولم يغفلهم تاريخنا المضيء.. لم ينس من كتبوا التاريخ
لإبائهم ودمائهم.. لم ينس نور الدين وصلاح الدين وعز الدين.. وكل من نصر
الدين.
ها أنتم تعيدون الأمل إلى القلب من جديد.. لتحيوا العزة والإباء فلكم منا كل
شكر وعرفان.. ولا نملك لكم إلا الدعاء! نقول ذلك وقد وضعنا أيدينا على وجوهنا
حياء وخجلاً منكم.. لأننا نعيش في زمن الضعف.. نرجو منكم أن تتقبلوا أعذارنا
غير المقبولة!
بينما أنتم تستنفرون حماسنا.. نسلّم خانعين معقلاً من معاقلنا في (البوسنة
والهرسك) ..
ها قد سقطت مدينة (سريبرينتسا) .. فهل حدث ما يحكونه فعلاً عن سقوطها؟ ! بعد إقامة المجازر البشعة بأيدي الصليبيين! !
نحن لم نُفِق منذ سقوط الأندلس (الفردوس المفقود) .. وحتى الآن فما زلنا
نعيش على ذكراها.. فهل لدينا الطاقات الفكرية التي تغطي رثاء المدن الإسلامية
التي بقيت لنا في أوربا؟ ! .. مع الأسف.. حتى الرثاء لم نعد نحسن صنعته.
ولا يكاد يلتئم جرح في أمتنا.. إلا وتتلوه عشرات الجراح الحديثة.. ولا
تقف حدود المجازر عند الجراح بل تستأصل الأطراف! !
وبدلاً من انشغال إعلامنا بإيجاد حلول لمداواة آلامنا ومتابعة قضايانا.. فإنه
انشغل بمسرحية ما يُسمى (الإرهاب الأصولي) ! !
يقول رئيس تحرير أحد المجلات العربية: لا غرابة في أن يكون أكثر حديثنا
عن قضية (الإرهاب الأصولي) فهو حديث اليوم وحديث الغد!
فإلى هؤلاء - العملاء الخونة - نقدم التعزي بعد أن خذلوا الأمة، وزادوا
المسلمين ذلة ومهانة في الأرض.. وطبقوا المشروع الصهيوني الأميركي بحذافيره.. حذو القذة بالقذة! ! ونبشرهم بأن دماء إخواننا خارج الحصون وداخلها..
ستكون سيلاً جراراً يكتم أنفاسهم.. ويكسر أقلامهم.. وسيأتي أولئك الرجال الذين
إذا دعُوا هبّوا.. وإن دوى النفير أغاروا..(64/116)
المحرم - 1414هـ
يوليو - 1993م
(السنة: 8)(65/)
كلمة صغيرة
لم يكن سقوط بغداد (656 هـ) ممكناً لولا خيانة الوزير ابن العلقمي، لأن القوى الخارجية تبقى محدودة التأثير ما لم تتعاون معها قوى عميلة من الداخل.
تكررت مآسي المسلمين بعد سقوط بغداد فتساقطت مدن الأندلس واحدة تلو
الأخرى وتتابعت المآسي، فضاعت فلسطين وبضياعها ضاعت حقوق أهلها، وها
نحن الآن نعاصر ضياع البوسنة والهرسك والأعداء هم الأعداء، وطريقة الضياع
هي نفسها لم تتغير، والعالم الإسلامي يقف متفرجاً كأنما أصيب بالشلل التام.
إنه أمر عجيب تحار فيه العقول! !
ما الذي دهى المسلمين حتى ضاعوا وأضاعوا حقوقهم وبلادهم. إننا لا نطلب
من العلماء والمفكرين وصف الداء بل وصف الأدواء علنّا نجد مخرجاً من هذا
المأزق، كما نطلب أن يتحملوا المسؤولية كاملة قولاً وعملاً، قياماً بما يمليه عليهم
الواجب في هذه الأيام العصيبة التي كرست اليأس الذي يكاد أن يحيط بالمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحرر(65/1)
الافتتاحية
قد خلت من قبلكم سنن
رئيس التحرير
أحداث مهمة وخطيرة جرت وتجري على الساحة الإسلامية في السنوات
الأخيرة، أحداث استنفذت الطاقات وذهبت بالجهود سدى، استنزفت الدماء الطاهرة
وأدت إلى زج خيرة الشباب في السجون. هذه الأحداث وغيرها مثل الدخول في
معمعان السياسة من الأمور الكبار التي لا يجوز أن ينفرد بتقريرها أفراد أو تجمعات
صغيرة، لأن أمرها يهمُّ الأمة كلها ونفعها أو ضرها يعمُّ الجميع، وليست من
مجالات الاجتهادات الخاصة ببلد دون آخر.
هذه الأحداث المستمرة لا يجوز أن تبقى خارج دائرة النصح وإبداء آراء
السياسات الشرعية فيها، كما لا يجوز أن تبقى خارج دائرة التحليل والنقد ومعرفة
أسباب الخلل ومواطن الضعف، وهذا يقتضي أن نصارح بعضنا وننقد أنفسنا،
ولئن كان في السكوت مصلحة مقُدَّرة فيما مضى فإن الدعاة والعلماء والمفكرين
مدعوُّوْن اليوم لبيان الرأي الصريح، وقول كلمة الحق في هذه الأمور الكبيرة طلباً
للحق الذي يجب إحقاقه عاجلاً أو آجلاً.
لقد سنَّ الله تعالى النظر في سير الأولين والآخرين لمعرفة أسباب الظفر
والتمكين وأسباب الفشل والتراجع فهل كُتب على المسلمين عدم الاعتبار بحدث
ماضٍ، وعدم التفكير بما وقع لإخوان لهم في زمن قريب؟ هل درُست كل
الحركات التي قامت سابقاً ولاحقاً؟ تلك الحركات التي أكبر أسباب فشلها ناتج عن
العجلة وقلة الاستعداد المطلوب شرعاً وعقلاً، بل إن البعض الآن لا يتعجل قطف
الثمار لأنهم يعلمون - كما يصرحون - أن لا ثمار ولا نتيجة من وراء هذا العمل،
ولكنهم يعملون لمجرد أنه لا يوجد طريق آخر بنظرهم!
هل يجوز شرعاً.. القيام بإعمال لمجرد اجتهادات من هذا النوع؟ وهل -
يصح في العقول - أن يقوم أفراد بعمل يجرون فيه المسلمين إلى الصراع دون أخذ
الأهبة ودون (تخطيط مسبق) تحسب فيه كافة الاحتمالات؟
في مثل هذه الظروف الارتجالية يدخل في العمل من يظنُّ أن النصر قريب
طلباً لجني الثمار، وهو بذلك أقرب إلى المنافقين، ويدخل أشخاص انتهازيون
يريدون السيطرة على هذا العمل، وهذا أمر سهل، يكفيه أن يرفع شعار المرحلة،
بل يزاود على الذين رفعوه - بصدق - من قبَلُ ليتقدم الصفوف الأولى.
حينما تعمُّ الفوضى يعُتقل أكثر القادة وبكل سهولة، ففي أحداث بلد عربي
بلغت الخسائر في مدينة واحدة خلال أشهر أكثر من (600) شهيد، وفي مدينة
أخرى يقود العمل متُصوفٌ يخطط لعملياته بناء على الأحلام التي يراها في
الليل [1] ، وذلك ما أدى إلى كشف وقتل معظم الذين كانوا معه واعتقُل آلاف الشباب بسبب اشتراك أناس لم يتربوا تربية إيمانية، بل اندفعوا عاطفياً وتعرفوا على كل شيء، وعندما اعتقلوا اعترفوا بكل شيء، وكانوا صيداً ثميناً للطغاة، فهل يُضحّى بشباب تربوا تربية طويلة من أجل أهداف بسيطة، وهل أتاك نبأ الذين يتورطون في هذه الأعمال ثم يضطرون للكذب في بياناتهم عندما يتحدثون عن الإعداد والعدَّة، وإذا سألتهم عن مئات الشباب الذين قتلوا أو سجنوا (وهم على نياتهم الخيرّة الصادقة) قالوا: لا بدّ من التضحية! نعم لا بد من التضحية وليذهب الآلاف إذا كان ذلك في صالح أهداف المسلمين وإعزاز دين الله وإذلال الكفر وأهله.
إن من أهداف العمل الإسلامي قمع أهل الكفر والضلال، وأن يكون الدين كله
لله، وأن تعلو راية الإسلام، فإذا كانت النتائج على الضدِّ من هذا، وكانت ضعفاً
للمسلمين وإذلالاً لهم وشفاءً لصدور الكفار والفسقة والعلمانيين، فلماذا لا نراجع
حساباتنا لنعرف ما إذا كنا قد أخطأنا التقدير، والرجوع إلى الحق خير من التمادي
في الباطل.
إننا مأمورون شرعاً بأخذ كافة الاستعدادات المادية على المستوى البشري ثم
نتوكل على الله ولانقلب الآية فنفسر التوكل تفسيراً غير صحيح، ونقوم بأعمال
ضعيفة باسم التوكل على الله، كما أنه لا يجوز أن يجرنا اليأس والإحباط، أو
تخاذل البعض وارتمائهم في أحضان أعداء الإسلام وتأويلاتهم الفاسدة، لا يجوز أن
يجرنا إلى أعمال لسنا مقتنعين بها.
هل يظن المسلمون أن الرعيل الأول من المسلمين لم يكونوا على علم واسع
بعدوهم ومقدرته ومعرفة طبيعته من كل الجوانب، ألم يكن أبو بكر - رضي الله
عنه - عالماً بأنساب العرب تفصيلاً؟ وهذا أمر مهم للدعوة. ألم تكن قريش -
بسبب تجارتها - تعرف أرض فارس والروم، وطرق المواصلات وخصائص تلك
الشعوب؟ ألم يكتب عمر - رضي الله عنه - لسعد بن أبي وقاص طالباً منه
وصف أرض العراق وأرض المعركة كأنه يراها؟ ألم يُعين القادة الفاتحون أمثال
خالد وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - من أولي الخبرة
الشخصية القيادية؟ ولم يؤمَّر من هو أعلم منهم في أمور الدين. فلماذا تترك أمور
خطيرة لأصحاب النوايا الطيبة ممن ليس عندهم الخبرة الكافية.
نحن نعلم أن هذا الكلام لن يعجب الكثيرين من الناس، ولكن لابدّ من قول
كلمة الحق، ولابد من النصح لخاصة المسلمين وعامتهم، ولا نقصد من النصح -
علم الله - تجريحاً لفرد أو جماعة مع علمنا أن الذي حدث ويحدث كان بنية طيبة،
ولكن هل تكفي النوايا الصادقة؟ أم يجب الأخذ بالركن الثاني وهو الصواب في
العمل.
__________
(1) قد وقع هذا ولا داعي لذكر الأسماء.(65/38)
في إشراقة آية
[إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ]
د. عبد الكريم بكّار
أكرم الله - سبحانه وتعالى - الخلق، فأرسل لهم الرسل تترى حتى تظل
أعلام الهداية منشورة، وحتى لا يكون لأحد على الله حجة بعد إرسال الرسل.
وينقسم الناس أزاء كل رسالة في العادة إلى فريقين فريق يصدق، وفريق يكذِّب،
وكانت حجة المكذبين الجاحدين ما حكى الله عنهم: [وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *
قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ]
[الزخرف 23- 24] .
وظاهر هذه الآية أن الرؤساء والوجهاء والمترفين هم - في الغالب - الذين
قاوموا دعوات الرسل؛ لأن أية رسالة ستحدث تغييراً في القيم السائدة والأحوال
المعاشة، وهذا التغيير سيمس مصالحهم ومكاسبهم، ومن ثَمَّ فإن موقفهم هو التأبي
والمعاندة. وبما أن الحياة الجمعية لا يمكن أن تستقيم، وتنتظم من غير ضوابط
عرفية تؤمِّن نوعاً من التعاون، وتَحُوْل دون بغي الخلطاء على بعضهم بعضاً كان
الجواب دائماً: أن ما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية هو ما وَرِثوه عن آبائهم
وأجدادهم من الأعراف والعادات والتقاليد، وما حياتهم إلا استمراراً لحياة سلفهم
الذين يفاخرون بهم.
والخلف لا يكتفي عادة بالتلقي الأصمّ عن السلف لكنه ينشئ من الفلسفات
والمقولات والخرافات ما يمنح ما ورثه - من تقاليد - القداسة والاحترام مما يجعلها
محوراً للمنظومات العقدية والفكرية والرمزية والتاريخية! وهذا كله طبيعي؛ لأنه
في حالة اندراس معالم المنهج تصبح السوابق التاريخية هي المنهج، ومن ثم كان
من مهمات المصلحين وضع السوابق التاريخية في إطارها الصحيح.
ماذا تعني الآبائية؟
ليس كل ما يرثه المرء عن آبائه وأجداده رديئاً - لأنه لا يوجد جيل مختص
بالرذائل - لكن الرديء هو أن نفقد القدرة على الحكم على تلك الموروثات، ونُحلها
محلَّ القبول والاقتداء! وإذا تأملنا قضية التقاليد الموروثة وقبولها دون تبصُّر ولا
تمييز وجدنا أنها تعني أموراً عديدة منها:
- إن الإنسان قادر على امتلاك منهج يُسَيِّر حياته من خلال خبرته التراثية
دون مرشد خارج عن حدود ذاته، وهذا ما نجده واضحاً في جواب المترفين للرسل
حين قالوا لهم: [أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟] [الزخرف 24] ،
وكان الجواب: [إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [الزخرف 24] . وفي هذا الجواب
القاطع الخالي من أي تدليل أو برهان توصيف آخر للآبائية هو أن التقليد وإن بنى حوله بعض الفلسفات التسويغية إلا أنه يظل مع الدليل والبرهان على طرفي نقيض، فهو ظاهرة لا دليل لها سوى وجودها فحسب!
ومما تعنيه الآبائية أن البشر امتلكوا ناصية الحقيقة كاملة فيما يتعلق بشؤون
حياتهم الاجتماعية. والشعور بامتلاك الحقيقة مع أنه غير صحيح إلا أنه يدفع إلى
الجمود؛ لأن حركة الفكر والعلم لا تنشط إلا عند الإحساس بأن هناك حقائق خافية
أو مشكلات تحتاج إلى حل. ومن هنا كانت متابعة الآباء والأجداد من غير ميزان
عبارة عن حركة إلى الوراء تصادم منطق التاريخ، وتجعل أصحابها مخلفين بكل
ما تحمله هذه الكلمة من معنى! وإذا كان المنهج الحق يسعى إلى تجديد ذوات
معتنقيه ونقدها واستيعاب العظات والعبر من حياة الأولين فإن الآبائية تعني تعطيل
تراكم الخبرة البشرية وتقويمها؛ لأن ذلك يخلُّ بالمكانة التي أنزلوا آباءهم فيها!
وتعني الآبائية أيضاً إحالة العادات والأخلاق إلى إطار مرجعي لا منطقي
ومتحجّر، يحكم الناس في حالات اجتماعهم، ويتيح لهم الانطلاق الحر في خلواتهم، أي: يؤسِّس الحياة على نوع من الازدواجية، على حين أن الدين يجعل الوازع
الداخلي أساساً للانضباط الفردي والجماعي. وإن التفسير المستمر في كل شؤون
الحياة يجعل تقليد الآباء فارغاً من مضامينه في أحيان كثيرة، فإذا كان الآباء
يتقلدون السيف - مثلاً - لمواجة حيوان مفترس، فما معنى حمل الأبناء له وهم
يركبون الطائرة؟ ! وإن الآبائية بعد هذا أو ذاك توجد نوعاً من الانحباس
الاجتماعي المصادم لسنّة التغيير التي بثها الله - تعالى - في الكون، ومن ثَمَّ فإن
الانغلاق على مواريث بالية لابد أن يعقبه انفلات غير متزن يطيح بصالح
الموروثات وطالحها.
المصلحون والآبائية:
لا نبعد النجعة إذا قلنا: إن الآبائية هي أخطر مشكلة واجهت الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام - وتواجه أتباعهم من المصلحين على مدار التاريخ حيث تمتلئ
الساحة الاجتماعية بتركة الآباء ومخلفات الأجداد مما يجعلهم يحتاجون إلى تزييف
الموروثات أولاً، ثم إحلال المنهج الرباني محلها. وإن حملة الهدى الرباني
يصطدمون بالآبائيين صداماً مباشراً حيث يرون أن ما بأيديهم من الهدى يجعل
التراث مملوكاً خاضعاً للمحاكمة على حين يرى الآبائيون أن التراث هو مالكهم
والقاضي في حياتهم لا المتهم!
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل بإمكان البشر الفرار من الارتهان
للماضي بدون منهج منفصل عن خبرة الإنسان، أي: لا زماني؟ الواضح أن ذلك
غير ممكن؛ لأننا باعتبارٍ ما جزء من الماضي ومكوناتنا الثقافية أكثرها موروث،
فنقده وتجاوزه بمبادئ وأدوات منه غير ممكن. ونحن حينئذ كالجرَّاح الذي مهما
كان ماهراً فإنه عاجز عن استئصال زائدته أو مرارته بنفسه! وعلى المهتمين
بصلاح الأمة الغيورين على مستقبلها أن يخوضوا معركتين في آن واحد: معركة
الحياة العامة وتنقيتها من الرواسب والشوائب التي تولدها حركة الأيام، ومعركة
داخلية في مجال الحياة الفكرية، وما فيها من مشكلات التجديد والتقليد والاجتهاد
وحدود سلطان العقل والنقل الخ..
إن معالم المعركة الأولى تتمحور حول (مفاصل) التقاليد والسنن والتوزيع
الصحيح للاهتمام بمفرادت التكاليف الشرعية، وما يتصل بها مما يحفظ كيان الأمة. وعلى هذا الصعيد نلاحظ أن المسلمين منتشرون في بقاع الأرض؛ ولذا فإنهم
يعيشون في ظروف شديدة الاختلاف تؤدي إلى تفاوت عظيم في معرفتهم بالدين،
كما أن الثقافات الأجنبية التي تأثروا بها مختلفة أيضاً، والمؤثرات المدرسية
والمناهجية التي تعرضوا لها متفاوتة، وهذا كله يجعل إمكانات إقامة التوازن بين
متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا مختلفة، كما يجعل تحرير الخلاف وترجيح
الصواب مختلفاً أيضاً! ولا ننسى في هذا السياق الآثار الكثيرة التي تتركها توجهات
الحكومات المختلفة في إبراز أجزاء من الدين وضمور أجزاء أخرى بحسب
المصلحة!
ونستطيع القول: إنه كلما خمدت حركة الفقه في دين الله، زحفت العادات
والتقاليد والبدع لتحل مكانه في حياة الناس، ذلك لأن من شأن البشر أن يجعلوا
الدين - الذي هو منهج رباني مطلق فوق الزمان والمكان - واحداً من عناصر
ثقافتهم بدل أن يكون الموجّه لتلك الثقافة والحاكم عليها، وذلك ميسور عليهم ولا
سيما حين تكون هناك بعض الملابسات بين العادات وحقائق الدين في الكُنْهِ أو
المظهر، وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - " أن من الناس من لو جلدته حتى
يصلي ما فعل، ولو جلدته حتى يفطر رمضان ما فعل! " مع أن أهمية الصلاة
أعظم. وفي زمننا صار إنكار الناس لتعدد الزوجات في كثير من بلاد المسلمين
أعظم من إنكارهم للزنا! كما صار هناك استغراب من إقبال الشباب على المساجد
لأن المساجد خُلقت لمن أكل الدهر عليهم وشرب، على ما تعودوه في عقود مضت. وفي زماننا تُشْتَنْكَرُ الفاحشة من البنات ويغضُّ الناس الطرف عنها إذا وقعت من
الرجال ولا سيما الشباب! !
وفي زماننا يُتَّخذ الاهتمام بليلة القدر والمولد النبوي وليلة النصف من شعبان
وإغراق الأسواق بالسلع في رمضان قناعاً وستاراً مشهوداً ومن خلف الستار لضرب
ركائز الإسلام ومبادئه الكبرى وجعل الداعين إليها غلاة متشددين إرهابيين! !
ويزداد الطين بلة حين يُسهم في هذا الخلل أشخاص تثق بهم العامة لما عندهم
من العلم والتقوى. والعامة غير قادرين على مناقشة الأفكار ولا التمييز بين الأدلة؛
مما يجعلهم تبعا للأعلى صوتاً والأكثر تابعاً. وهذا كله يجعل مسألة تحجيم الآبائية
أكثر صعوبة وتكلفة. لكن لا خيار: فإما المنهج وإما المنهج، وإلا فكيف يكون
خلود الرسالة، وكيف تستمر أنوار النبوة في العالمين؟ !
المعركة الثانية لا تبتعد في منطلقاتها وعقابيلها [*] عن المعركة الأولى؛ إذ
أنّ تقديس القديم لمجرد أنه قديم هو الطاقة المحركة لأبطالهما، لكن الخصوم
يختلفون فإذا كان الخصوم في معركة الحياة الاجتماعية من العامة والدهماء وأنصاف
المتنورين فهم في الثانية ممن يحمل العلم، ويحسب نفسه من المصلحين - وقد
يكون كذلك - لكن بُنَى ثقافتهِ العميقة لا تختلف كثيراً عما لدى العامة!
هذه المعركة هي معركة الاجتهاد والتقليد، والاجتهاد هو بذل الجهد لمد
سلطان النصوص إلى كلّ الحوادث والحالة المستجدة المشابهة في علة الحكم لحالات
ورود النص وتطبيقاته لدى السلف، على حين أن التقليد يحجم من فاعلية
النصوص، ويجعل مجالات الاهتداء بها تتضاءل يوماً بعد يوم؟ ذلك لأن أية
مرحلة سابقة لا تَتَّسِع في تنظيماتها وآلياتها ومعطياتها الجزئية لمرحلة لاحقة، وهذا
ما دعا الصحابة والتابعين من بعدهم إلى الاجتهاد، وهو ما يدعونا أيضاً إليه.
لعل نقطة الخلاف الأساسية ليست في تجويز الاجتهاد والتقليد لشرائح محددة
من الأمة، وإنما تكمُنُ في نزع (صفة دوام الصواب) عن المجتهد، ومع أن الجميع
يُصَرِّحون بأن المجتهد يُخطئ ويُصيب، إلا أننا نجد في الممارسة العملية مواقف لا
تحصى لا تدلّ إلا على اعتقاد أصحابها العصمة في بعض الأئمة والمجتهدين
لاعتقادهم أن إحاطة أولئك الأئمة بالأدلة وَحِدَّةِ ذكائهم وفهمهم مع ما أكرمهم الله به
من التوفيق يجعل وقوع الخطأ منهم نادراً أو معدوماً! وقد رأينا كثيراً من طلاب
العلم يلتزم الواحد منهم مذهباً واحداً في كل دقائقه، ويحاول الدفاع عن ذلك بكل ما
أوتي من قوة، ويوالي ويُعادي في ذلك، ويخسر إخوة في الله، وهو يظنّ أنه
يخوض معركةً لِنُصرة دين الله!
وهذا يدل على جهلٍ فاضح في العملية الاجتهادية المعقَّدة، والتي تلتحم فيها
عناصر أربعة، هي مجال رحب، للاختلاف بين المجتهدين، هذه العناصر هي:
الإمكانات الذهنية التي أكرمنا الله بها والنصوص والأدلة المتعلقة بالقضية موضع
الاجتهاد والخلفية الثقافية للمجتهد (وهي ما كان يُسْمّى بالأهلية) بالإضافة إلى الواقعة
نفسها والظروف والخلفيات المحيطة بها. وتَمَكُّنُ المجتهدين من كل ذلك متفاوت
إلى حدًّ بعيد، وهذا كله ينفي عن المجتهد دوام الصواب في كلّ ما ينظر فيه. وأن
من المفيد أن ننظر إلى المجتهد بعيون أبناء زمانه حيث تخلصوا من وَهْمِ التقديس
بسبب من المعاصرة والمعاشرة ومعرفة الخفايا والإمكانات لبعضهم بعضاً.
إننا إذا لم نتمكن من التجديد الذاتي فسنعرِّض أنفسنا إلى غزو من الخارج، أو
انحباسٍ داخلي يعقبه انفجار لا ينبع معه الترقيع! وإن تجاوزنا المعطيات مراحل
عديدة في حياة المتقدمين لنلتصق بالادلة في إطارٍ من مقاصد الشريعة العامة أمر
حيوي للغاية؛ حتى لا نقعَ ضحيةً للغرق في مراحل الانحطاط والتدهور التي مرت
بها هذه الأمة في قرونها المتأخرة! وعلى الله قصد السبيل.
__________
(*) العقابيل: الدواهي. ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -(65/8)
من إيجابيات الدعوة الإسلامية
«تعظيم مذهب السلف»
د. عابد السفياني
الدعوة الإسلامية المعاصرة بذلت جهداً كبيراً لإصلاح العالم الإسلامي ومعالجة
ما يحمله من أمراض وعلل منها على سبيل المثال شرك القبور والأضرحة وما يتبع
ذلك من الخرافات والغلو في الصالحين، ومنها الإعراض عن التحاكم للشريعة
الإسلامية، وقام في العالم الإسلامي علماء يمثلون صوت الدعوة الإسلامية يذكرون
بالعلم الصحيح ويدعون إلى التحاكم إلى الشريعة الإسلامية في جميع المجالات.
ولقد بقي أمام المصلحين من مؤسسي الدعوة الإسلامية المعاصرة مجالات
كثيرة تحتاج إلى تجديد وبذل مزيد من الجهد. من هذه المجالات:
1- تصحيح العقائد عند طوائف كثيرة من الناس سيطرت عليهم الخرافات
والغلو في الصالحين وانتشرت بينهم أنواع كثيرة من الشرك وحملهم التقليد
والتعصب والجهل إلى رد العلم الصحيح بالسنة.
2- انتشار الإعراض عن دين الله بترك العمل به وترك التحاكم إليه وترتب
على ذلك انتشار القوانين الوضعية والعمل بها. وراجت في العالم الإسلامي
المذاهب الفكرية التي زَّينها الغزو الفكري للناس فحكمت قوانينها وتمكنت وصدت
طوائف من الناس عن عبادة الله وحده. وقد ناهض الدعاة والمصلحون هذا الخطر
العظيم وبقي السؤال المهم وهو على أي أساس قام هؤلاء الدعاة بالإصلاح والتجديد؟
ونكتفي بذكر الجواب على سبيل الإجمال لندلّ به على جوانب الخير العظيمة
التي اشتملت عليها الدعوة الإسلامية المعاصرة. ومنهجنا الذي نذكّر به - وقد سبق
بيانه في المقال الأول - إن هذه الإيجابيات لا تمنعنا من الوقوف عند أمور تحتاج
إلى معالجة، وتأمُّل مقالات بعض المفكرين يحتاج إلى تصحيح. والمقام هنا
للحديث عن الإيجابيات ومنها:
توجه الدعوة الإسلامية المعاصرة إلى تعظيم مذاهب السلف ويدل على ذلك:
أولاً: استمرار دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وانتشار آثارها
العلمية في العالم الإسلامي وأبرز ما فيها تحقيق مذهب السلف في التحذير من شرك
القبور والخرافة وما يتبعها من بدع وأهواء والتحذير أيضاً من كفر الطواغيت
وإعراضهم عن قبول الشرع والتحاكم إليه. وقد كشف في كتابه (مسائل الجاهلية)
عن تلك المظاهر الشركية والكفرية محذراً منها ومبيناً أن الإيمان قول واعتقاد
وعمل وأن له نواقض هي أسباب الكفر والشرك الأكبر مذكراً بعقيدة السلف في ذلك
كله داعياً الناس إلى الاعتقاد الصحيح في صفات الله -سبحانه وتعالى-.
ثانياً: استمرار الدعاة إلى مذهب السلف في أنحاء كثيرة من العالم وانتشار
كتبهم وأتباعم وأنصارهم ومن أبرز ما نشير إليه من المظاهر التي تدل على تعظيم
مذهب السلف مما يلي:
أ- نشمر العلم الصحيح بالسنة وبرزو أئمة مجتهدين في بيان صحيح الحديث
وضعيفه فانتشرت كتب الحديث وشاع هذا العلم بين الطلاب.
ب- نشر الاعتقاد الصحيح في صفات الله تعظيماً لله واتباعاً لعقيدة الصحابة
- رضوان الله عليهم -.
ب- إنكار البدع والأهواء المضلة عن مذهب السلف ومحاربتها.
ومن أبرز المظاهر العملية لهذه الدعوات تعليم الأفراد في المجتمعات، وإنكار
المخالفات العملية، ومن أبرزها انحراف أهل البدع وشرك القبور ومخالفة السنة.
ولعل سائل يسأل فيقول: إن هذا الجهد في تعظيم مذهب السلف جهد طيب
ولكن المشاهد عند هؤلاء الدعاة الاقتصار على معالجة هذه الانحرافات وهناك
انحرافات أخرى مثل " المذاهب الفكرية، وقوانينها الوضعية " وهذه تحتاج من
الدعاة إلى جهد كبير لكشف زيفها وتحذير الناس منها. فكيف تتم معالجتها؟
ويمكن أن يجاب على هذا السؤال بما يأتي:
1- أن الدعاة السلفيين يعتبرونه انحرافاً يحتاج إلى معالجة ولكنهم يعالجون
الانحرافات التي سبق ذكرها لأنهم يرون أنها أخطر والمسألة عندهم لا تعدو ترتيب
الأولويات.
2- أنهم ينادون بتصحيح الواقع في ضوء عقيدة السلف ويرون أن تحذير
الناس من شرك القبور والأهواء والبدع ومخالفة السنة هو طريق لمحاربة المذاهب
الفكرية المعاصرة وقوانينها.
والظاهر أن هذا النقص الموجود عندهم في مواجهة المذاهب الفكرية
والقوانين الوضعية قد سده دعاة آخرون من أهل السنة والجماعة شاركوا في كشف
أباطيل الغزو الفكري وقوانينه مع محافظتهم على عقيدة السلف ومشاركتهم إخوانهم
في معالجة الانحرافات الأخرى. ولا شك أن هؤلاء وهؤلاء معظمين لمذهب السلف.
ثالثاً: هناك دعاة آخرون يخلطون مذهب السلف بغيره من آراء المتأخرين
ومناهجهم متأثرين تارة بالأشعرية وتارة بالصوفية ومع ذلك فإنهم يعظمون مذهب
السلف ويدل على ذلك أنهم لما جعلوه مقارناً لبعض الأسماء قدموه عليها فقالوا:
أ- دعوتنا طريقة سلفية وحقيقة صوفية..
ب- أنهم يعتقدون السلامة فيه كما قال الأشاعرة من قبل " مذهب السلف أسلم
" والشهادة لمذهب السلف بالسلامة تعظيم له بهذا الاعتبار.
ج- أن أكثرهم يعتبرون المسألة مسألة أولويات وأسلوب وإلا فإن عقلائهم
يشهدون بأن مآل الحال هو انتصار مذهب السلف ويرددون قولتهم المشهورة وهل
أحد يخالف مذهب السلف؟
ومع وجود كثير من المخالفات لمذهب السلف إلا أن ما ذكرناه فيه دلالة
ظاهرة على أن مذهب السلف له تعظيمه في النفوس وله هيبته فتجد المخالف لبعض
عقائد السلف يشهد بأن السلامة فيه كما صنعت الأشاعرة. فآل الأمر - والحمد لله
- إلى تعظيم مذهب السلف قولاً وعملاً واعتقاداً أو على الأقل الشهادة له بالخيرية
والسلامة.
ومن البشائر التي نذكرها في هذا الباب وجود أقوام قد خرجوا من تحت
أنقاض الشيوعية الخاسرة محتفظين بإسلامهم على عقيدة السلف الصالح وهذه بشارة
تشير إلى أن البديل عن المذاهب الوضعية والعقائد البدعية هو الإسلام لا على فهم
العصور المتأخرة بل على فهم الجيل القدوة الذي رباه رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، وهذا هو الطريق الصحيح الذي ينبغي على الدعاة أن يتعاونوا على
الاجتماع عليه ونصرته مبتغين بذلك وجه الله -عز وجل- والدار الآخرة وهمهم
هداية الخلق وإبعادهم عن أسباب الشرك والكفر بجميع أنواعه سواء أكان شرك
القبور والغلو في الصالحين، وما يتبعه من الأهواء والبدع أو كان شركاً في
العبودية والطاعة والتشريع مِنْ دون الله.(65/14)
دعوة
حتى نستفيد من خطبة الجمعة
محمد بن عبد الله الدويش
ما أحوج الدعاة إلى التأمل في مجالات الدعوة، ووسائل مخاطبة الجماهير،
والسعي إلى توسيع دائرة المخاطبة، والتحدث للجميع وإسماع رسالتهم للكل. إن
مراجعة الدعاة لوسائلهم الدعوية، وأساليبهم مطلب ملحّ، وواجب تمليه ضرورة
الدعوة ذاتها.
وإن من الوسائل التي يمكن للدعاة أن يخاطبوا فيها الجميع، ويبلغوا رسالتهم
للناس كافة، (خطبة الجمعة) فأي قدر حظي به هذا المنبر، وهذه الوسيلة من
الدراسة، والعناية، فضلاً عن التوظيف العملي لهذه الوسيلة.
وهذه محاولة لوضع إضاءات، وإشارات حول هذا الموضوع الملحّ.
أولاً: أهمية خطبة الجمعة:
1- الأمر بالسعي لها، فإن المسلم مأمور بالسعي لصلاة الجمعة حين يسمع
النداء، ويحرم عليه أن ينشغل ببيع أو نحوه. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ] [الجمعة 9] . وهو في الوقت نفسه يحض على التبكير إليها كما قال -
صلى الله عليه وسلم -: (مَثَلُ المهجر [1] كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي
بقرة، ثم كالذي يهدي الكبش، ثم كالذي يهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدي
البيضة) [2] . ويؤمر بالتهيؤ النفسي لها فيؤمر بالتطيب والاغتسال والسواك.
قال - صلى الله عليه وسلم -: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) [3] .
2- وحين يحضر المصلي للجمعة يلزمه الإنصات للخطيب ولا يجوز له
الكلام ولو أن يقول لصاحبه صه. (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة:
أنصت فقد لغوت) [4] . فهذا المصلي الذي أوجب عليه السعي للجمعة، وحُث
على التبكير لها، والتغسل والتطيب، وحُرّم عليه الكلام حال الخطبة، من حقه أن
يعتني بهذه الخطبة التي تقدم له.
3- خطبة الجمعة لها شأن عظيم عند الله -عز وجل- فهي ذكر لله كما سماها
الله في كتابه، وهي شعيرة من شعائر الدين، تشهدها الملائكة، كما قال -صلى الله
عليه وسلم-: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة
يكتبون من جاء من الناس على قدر منازلهم، فرجل قدم جزوراً، ورجل قدم بقرة،
ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم عصفورا، ورجل قدم بيضة، فإذا
أذَّن المؤذن، وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون
الذكر) [5] .
إن هذا الحديث يلقي ظلالاًً من الهيبة والجلال على هذه الخطبة، وفي الوقت
نفسه يعطي الخطيب شعوراً بأهمية الكلمة التي يقولها من على المنبر فعلاوة على
كل ما فيها من قيمة دعوية، فإن الملائكة الكرام يسمعونها، فليت الذين يوظفون
خطبهم لتحقيق مصالح فلان أو علان يفقهون هذا الحديث.
4- شهود المسلمين جميعهم لها. فالمسلمون على اختلاف طبقاتهم،
ومستوياتهم التعليمية، يحضرون هذه الصلاة ويشهدونها. فيحضرها المثقف،
والجاهل وطالب العلم، والمتعلم. ويحضرها الكبير والصغير، ومن جانب آخر
فحضورها ليس مقصوراً على الأخيار وحدهم، فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة
يحضر الجمعة، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع، وأن يتحدث للكثير ممن
لا يحضرون المحاضرات والندوات، ودروس المساجد. إنها باختصار هي المجال
الوحيد المتاح للدعاة والذي من خلاله يتحدثون مع الجميع.
5- تكررها كل أسبوع. ففي العام الواحد يستمع المصلي لـ (52) خطبة،
وحين يعتني بها الخطيب ويرتب موضوعاتها يقدم للمستمع مادة متكاملة. إنها تمثل
دورة مكثفة مستمرة.
6- قيمتها المعنوية عند الناس وتأثيرها، ففي بحث عن أثر خطبة الجمعة
أجري في مصر أفاد 78% أنهم يتأثرون تأثراً دائماً بما يقوله الخطيب، وذكر 71
% أنهم يلتزمون دائماً بما يقوله الخطيب. واتفق مع أحد خطباء المساجد على أن
يخطب عن الربا، فأجرى استفتاء قبل الخطبة وبعدها، كانت النتيجة:
أ- 85% كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا. وبعد الخطبة ارتفعت النسبة
إلى 97%.
ب- 33% كانوا يعرفون عقوبة المرابي. وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى
59%.
ج- 71% كانوا يعلمون أن البنوك المصرية تتعامل بالربا. وبعدها ارتفعت
النسبة إلى 94%.
د- 50% كان يفضل الاستثمار في البنوك الإسلامية. وبعد الخطبة ارتفعت
النسبة إلى 64%.
هـ- نتيجة الخطبة: 34% سينصحون الآخرين بترك الربا. 31% سيقاومون
أي عمل ربوي [6] .
إن هذه الدراسة وغيرها تعطي دلالة صادقة أن خطبة الجمعة لها تأثيرها على
المصلين، وذلك حين يجدون الخطيب المؤثر.
7- حضورها يزيد ولا ينقص. فالمصلون لا يخرج منهم أحد قبل انتهاء
الخطبة، إنما يتوافدون، بخلاف المحاضرة والدرس، فقد يخرج بعضهم قبل
اكتمال الموضوع. ومع اقبال الناس على الخير في هذه الفترة، يتوافد الكثير من
المسلمين إلى الجمعة ممن كانوا لا يعرفونها قبل ذلك.
8- ثباتها في كافة الأحوال، فهي مستمرة في السلم والحرب، وفي القحط
والجدب، وفي سائر الظروف.
ومع ذلك كله رغم مدى عنايتنا بهذا المنبر، وشعورنا بأهميته، والحرص
على أن يصعده الدعاة الصادقون، وطلبة العلم الواعون؟
والخطباء أنفسهم أمام مدى إدراكهم لهذه الرسالة وقيمتها وأهميتها؟ أليست
خطبة الجمعة تستحق منا عناية ودراسة لاستثمارها، وأساليب تطويرها؟ ولم لا
تتلقى المراكز والمؤسسات الإسلامية دورات وبرامج لإعداد الخطباء وتدريبهم،
والرفع من مستواهم؟ إنها تساؤلات آمل أن تلقى عناية إخواننا.
ثانياً: الموضوع:
1- أن يختار الموضوع في وقت مبكر، فإن تأخير اختيار الموضوع، إلى
ليلة الجمعة وربما يومها، يؤدي بالخطيب، إلى أن يقرر أي موضوع يخطر في
باله، وربما لا يكون مقتنعاً به القناعة التامة، إضافة إلى أنه لا يترك له فرصة
كافية للتحضير والتفكير في عناصر الموضوع ومحاوره. ويعاني الكثير من
الخطباء من هَمِّ اختيار الموضوع، فيُقترح إعداد قائمة متنوعة من الموضوعات،
يختار بعد ذلك من بينها.
2- التفكير الجيد في الموضوع بل وطول التفكير فيه - وهذا يستوجب
الاختيار المبكر له - يقول (دايل كارنيجي) في كتابه (فن الخطابة) : (حدد
موضوعك مسبقاً حتى يتسنى لك الوقت للتفكير به مراراً. فكر به طيلة سبعة أيام،
واحلم به طيلة سبعة ليال، فكر به أثناء خلودك إلى الراحة، وفي الصباح وأنت
تستحم، وفي طريقك إلى المدينة، أو بينما تنتظر المصعد، وعندما تكوي الثياب،
أو حين تطهو الطعام، وناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك، واسأل نفسك
جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلق به) [7] .
3- أن يكون الموضوع عن قناعة لا تمليها ضغوط الشارع، أو المناسبة، أو
جهة معينة. مع الترفع عن الإثارة العاطفية.
4- التنويع في الموضوعات والمجالات وعدم التركيز على جانب واحد.
فينبغي أن تشتمل موضوعات الخطيب الحديث عن مشاكل الناس الاجتماعية،
وحلولها، وعلى بيان واقع الأمة، والمؤامرات عليها، وعلى الحديث عن الأخطاء
المتفشية بين الناس، وعلى بيان العقيدة وتعليمها للناس، وعلى بيان ما يحتاجه
الناس من أحكام عباداتهم ومعاملاتهم، وعن الرقائق والوعظ، وتذكير الناس؛
وباختصار ينبغي أن تشمل على كل ما يحتاج المسلم أن يعرفه في شؤون حياته.
وقد تجد البعض من الخطباء يركز على جانب الوعظ دون سواه، والآخر على
الجانب السياسي، والثالث على الجوانب الاجتماعية.. وهكذا.
إن هناك فئة غير قليلة من المسلمين لا يتلقون العلم إلا من خلال خطبة
الجمعة، وإن تحقيق التكامل والتنوع في موضوعات الخطبة يهيئ لهؤلاء حَدّاً أدنى
من الثقافة الشرعية.
5- التحضير الجيد والمتكامل للموضوع، من خلال القراءة والاطلاع على ما
كتب في الموضوع حديثاً وقديماً، وإن ترتيب الخطيب لملفاته وأوراقه، وتدوين ما
يمر بباله من عناوين لكتب، أو مقالات، أو موضوعات، أو تقارير مما يعينه
على ذلك. إن المنبر أمانة، والمصلون ينتظرون أن يسمعوا الجديد من الخطيب،
ومهما كانت ثقافة الخطيب وإطلاعه، فإنه لا يستغني عن المراجعة والإعداد،
والترتيب لموضوعه، ومن الظلم للمصلين، وإهمال الأمانة، أن يحدد الخطيب
موضوعه متأخراً، ولا يعد له فيجيء مهلهلاً متنافراً.
وفي حادثة السقيفة المشهورة قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - ... (فزورت في نفسي مقالة) . قال البعيث الشاعر - وكان من أخطب الناس -: (إني والله وما أرسل الكلام قضيباً خشيباً، وما أريد أن أخطب يوم المحفل إلا بالهائت المحكك) . وكان ابن النوام الرقاشي إذا دُعي للكلام ولم يكن مهيئاً نفسه يقول: (ما اشتهي الخبز إلا بائتاً) .
6- أن يكون الموضوع حول واقع الناس، وما يحتاجون إليه؛ فالعالم
الإسلامي اليوم يموج بأحداث ساخنة، ومضطربة، والعقل المسلم يعاني من
تحليلات الإعلام المضلل الذي يصور القضايا وفق ما يريد فلان، أو غيره؟ ولذا
فإن المصلي ينتظر أن يسمع الكلمة الصادقة، وعرض القضية من هذا الخطيب
الذي يثق فيما يقول لأنه يعرف أنه يدرك أمانة الكلمة، ومسؤليتها.
وثمة طائفة من المسلمين لا تتفاعل مع قضايا الساحة، ولا تُعيرها أي اهتمام، فلها شأن آخر مع شهوات النفس ورغباتها؛ وهذه الفئة تحتاج لمن يغرس فيها
التفاعل مع قضايا المسلمين، والاهتمام بها، وأقرب الناس، وأقدرهم على ذلك هو
خطيب الجمعة. ومن الجوانب التي تمسّ الناس، ما قد يحصل من قضايا،
وإشاعات، وأخبار أو ظواهر متفشية، إلى غير ذلك مما يخصّ بلداً معيناً، فينبغي
للخطيب أن تكون له فيه كلمته.
وحين يتحدث الخطيب عن هذه القضايا، لا ينبغي أن يفرط في التحليلات
السياسية، والاجتهادات الخاصة، والتي هي عرضة للخطأ والصواب، إنما يركز
على بيان وجه القضية، والأخبار الصادقة عنها، والمنهج الشرعي في التعامل
معها.
7- مناسبة الموضوع المصلين، فالمسجد الذي يؤمه كثير من غير أهل البلد
قد لا يناسب التحدث فيه عن مشاكل اجتماعية خاصة بهذا البلد، والمسجد الذي
أكثريته من الطلاب غير المتزوجين ليس من الحكمة أن يتحدث الخطيب فيه عن
المشاكل الزوجية، ومسجد القرية والبادية لا يستحسن الحديث فيه عن قضايا تخص
النخبة المثقفة. فعلى الخطيب أن يدرك طبيعة المصلين، وتركيبتهم، ويختار لهم
ما يناسبهم، وما يحتاجون إليه.
8- العمق العلمي في الموضوع، فلا يكفي أن يقتصر الموضوع على
عبارات إنشائية، أو خواطر وأفكار شخصية، وإن العناية بالاستشهاد بالنصوص
الشرعية، وأقوال أهل العلم، والعناية بالتأصيل العلمي للموضوع يعطي المستمع
الثقة، والقناعة بما يطرح.
9- دقة المعلومات والتأكد من صحتها ومن ذلك:
أ- الأحكام الشرعية: ببحثها بحثاً دقيقاً وتأصيلها.
ب- الأحاديث النبوية: وذلك بالتأكد من صحتها وثبوتها؛ لذا فعلى الخطيب
أن يتعرف على طريقة التعامل مع كتب الحديث ليتسنى له الوقوف على ما قاله
أهل العلم في درجة أي حديث يود الاستشهاد به.
ج- الإخبار: فلا يليق بالخطيب أن يتلقف أية إشاعة، أو خبر ليكون مادة
لخطبته، بل يثبت ويتبين.
د- القضايا العلمية والمتخصصة: قد يتطرق الخطيب للحديث عن بعض
الجوانب الطبية، أو التخصصية في أي فن؛ وحين يتحدث الرجل بغير فنه يأتي
بالعجائب، فعليه أن يتأكد من صحة المعلومات، فقد يكون ضمن المصلين أحد
المختصين بما يتحدث عنه، فيسمع الغرائب.
10- مناسبة الموضوع للمقام والزمن: فقد خطب أحد الخفاء، في إحدى
عواصم الدول الإسلامية عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان؛ وليس هناك أمل
بإدراك هذه الليلة. أو يكون هناك حدث يعني الأمة كلها، وينتظر المصلون الخطبة
ليستمعون رأي خطيبهم في ذلك، فيفاجؤون به يتحدث عن قضية اجتماعية، أو
قضية لا تمت بصلة لما هم فيه.
11- الوحدة الموضوعية، فلا يسوغ أن تكون الخطبة خليطاً متنافراً من
القضايا والموضوعات، ومليئة بالاستطرادات المناسبة وغير المناسبة.
12- تناسق الأفكار وتسلسلها.
(يتبع)
__________
(1) المبكر وزناً ومعنى.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(3) رواه البخاري (877) ، ومسلم (844 845) كلاهما عن حديث ابن عمر.
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(5) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(6) انظر: (خطبة الجمعة والاتصال بالجماهير) لمحي الدين عبد الحليم ص (160) فما بعدها.
(7) فن الخطابة، مع ملاحظة أننا نوافقه على أصل الفكرة دون تفاصيلها.(65/18)
في وضح النهار
التطرف
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
ترد في القاموس من معاني (طرف) [الطَرَف] بمعنى الناحية من النواحي ...
والطائفة من الناس، وطرف الشيء: أقصاه من اليمين أو اليسار، وهو أبعد
الناحيتين، ومن ذلك (طرف الحبل) و (طرف الصف) . وللكلمة معانيها الأخرى التي سردتها معاجم اللغة.
ظلّت هذه الكلمة ساكنة مستقرة في مواقعها من كتب اللغة، وفي أماكنها من
أساليب الناس، ومرَّت عليها قرون طويلة وهي تنعم بهذا السكون وذلك الهدوء،
ولكنّ دوام الحال من المحال، والأيام مداولة بين الناس، وقد جرى لهذه الكلمة من
تغير الأحوال ما أزال هدوءها، وقضى على سكينتها وملأ حياتها قلقاً واضطراباً،
وقد استيقظت ذات يوم على صدى حروفها يتردد على الألسنة وتتناقله وسائل إعلام
عصر (العلمانية) ومنذ ذلك الوقت فقدت راحة البال، وأصبحت مسكونة بالجنون
لا يقرُّ لها قرار، وهي شقية بذلك كل الشقاء، صحيح أنها تغيظ جاراتها في
قواميس اللغة لأنها أصبحت (على كل لسان) ، بل أنها أصبحت من الشمولية
والانتشار بمكانة لم تحظ بها أهم كلمات القاموس وأشدها وطأة وأسماها مكاناً،
صحيحٌ كل ذلك، ولكن هذه الكلمة شقية كل الشقاء لأنها حُمَّلت ما لا تطيق من
المعاني التي لم تكن تخطر على بال. (التطرف) .. مصطلح جديد أضيف إلى
هذه الكلمة الحزينة، وهو محدَّد المعنى، إنه يعني المبالغة في الاتجاه إلى أحد
الطرفين مما لا يمكن أن يتم معه الالتقاء بينهما. وقد دار هذا المصطلح وطار،
حتى استقر أخيراً على رؤوس الملتزمين من أبناء الإسلام - أعانهم الله - فأصبحت
الكلمة - في عرف علماني هذا العصر - حكراً على المتدينين من أبناء الإسلام لا
تكاد تتجاوزهم إلى سواهم، فهم المتطرفون أي المبالغون في الاتجاه إلى أحد
الطرفين فما يدعون مجالاً للالتقاء بالطرف الآخر، وكاد الأمر يهون على هذه
الكلمة لولا أنها أصبحت تعاني أشدَّ المعاناة من ملاصقة كلمة أخرى لها صارت
بالنسبة إليها الشبح المخيف الذي لا يفارقها ألا وهي كلمة (الإرهاب) وقد آلم كلمة ...
التطرف هذا الاقتران المفروض عليها بكلمة (الإرهاب) بالرغم من تباعد مكانهما ...
في القاموس لفظاً ومعنى تباعداً لا يؤهلهما للاجتماع، ولكنَّ علمانية العصر
(المتطرفة) تأبى إلا أن تجمع بينهما. ...
ولا بد لنا - بعد هذا العرض المأساوي - لحياة هذه الكلمة من الوقوف قليلاً
أمام كلمة (التطرف الديني) هل هي صحيحة بهذه الصورة من التركيب، وهل ...
مصطلح التطرُّف موقوف على أبناء المسلمين الملتزمين به؟ ؟
هنا يكمن الخلل في نظري.. فالمعروف أن (التطرُّف) يعني الانحياز إلى
أحد الطرفين، فهل انحاز أبناء الإسلام إلى أحدهما؟ ؟
أولاً: الإسلام دين شامل وهو دين (الوسطية) بمعنى أنه يراعي جوانب
الحياة البشرية كلها دون انحياز إلى طرف منها على حساب الآخر، فالعقل والروح
والقلب، وجوانب النفس البشرية الأخرى لها وجودها في الرؤية الإسلامية لا تطغى
في ظل شرع الله واحدة منها على الأخرى، وهو بهذا يختلف عن الديانات الأخرى
التي عالجت جانباً من الجوانب، وتركت الجوانب الأخرى، ومن هنا فإنَّ كلمة
التطرف بعيدة كل البعد عن حقيقة الإسلام.
ثانياً: شباب الإسلام الذين التزموا به حملوا مبادئه وأخلاقه بما فيها من
شمولية ووسطية واعتدال، وإنما تطرَّف غيرهم ممن ابتعد عن هذا الموقع
الإسلامي الفريد، فغرقوا في شهواتهم وأهوائهم، واغتروا بعقولهم واختراعاتهم،
وطال عليهم أمد هذا الانحراف حتى ظنوه اعتدالاً، وظنوا الالتزام بالإسلام تطرفاً،
وأوغلوا في هذا الظن السيء حتى أصبحوا يرون كلَّ مخالفة لما هم عليه (تطرفاً
وإرهاباً) .
ثالثاً: بناءً على هذا الفهم الصحيح يصبح (العلماني) [*] هو المتطرف،
والقومي هو المتطرف، واليساري هو المتطرف، والحداثي هو المتطرف، أما
الإسلامي فهو الذي يقف في منطقة الشمولية والاعتدال، ألا فليفهم المخدوعون هذه
الحقيقة، وأعان الله كلمة (التطرُّف) على ما تعانيه من قلق واضطراب. ...
__________
(*) إن كلمة علماني هي ترجمة غير صحيحة للكلمة الانكليزية " Secularism " ومعناها: الدنيوية، عدم المبالاة بالدين، أو بالاعتبارات الدينية، ويروج العلمانيون هذه الأيام لمصطلح جديد هو " العالمية " أو " العالمانية " وهذا مصطلح مغلوط أيضاً، وأفضل ترجمة بنظرنا إلى هذه الكلمة هي " الردة " و " المرتدون " وهو أكثر تعبيراً وأدقُّ وصفاً لنابتة السوء هذه. ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -(65/25)
خواطر في الدعوة
أصحاب العقل المعيشي
محمد العبدة
لا شك أن الحزب الأكبر داخل المجتمعات الإسلامية في هذه الأيام، هم من
وصفهم ابن القيم ب (أصحاب العقل المعيشي) الذين يقلقهم دائماً التفكير بكيفية رفع
مستواهم المعيشي، أو كيفية المحافظة على هذا المستوى. ترى أحدهم يفكر ليل
نهار في هذه الأمور، ويتعب نفسه ليل نهار بغية الوصول إلى مستوى يضاهي
أصدقاءه وجيرانه، فالأحاديث دائماً عن المسكن والملبس، وعن السيارة والأثاث
والراتب.
هؤلاء جمهور كبير، قد ألفوا هذه الحياة وعاشوا على هامشها. تتقطع بهم
الأيام والليالي، بلا هدف ولا رسالة، فهل يستطيع الدعاة نقل هذا الصنف من
الناس إلى الطرف الآخر، أو بالأصح الانتقال بهم تدريجياً ليصبحوا أصحاب مبدأ
ورسالة والتزام؟
ليس عسيراً نقل بعضهم على الأقل، وذلك عندما تُغشى مجالسهم، ويسمعون
التذكير البليغ والموعظة المؤثرة، وبيان عظمة الله في خلقه وأمره، وآياته في
الأنفس والآفاق، وأحاديث اليوم الآخر، ومصائر الشعوب والأفراد. من العصاة
قديماً وحديثاً وبيان محاسن الإسلام.
إن من الضروري للدعوة أن تنتقل إلى صفوفها أعداد غير قليلة حتى تفرض
نفسها على أرض الواقع، ومن الضروري أن ينتقل إليها من كان عدواً لها بالأمس
أو مُهملاً لها، فهؤلاء ربما يكونون أنشط وأقوى لأنهم يريدون تعويض ما فات من
التقصير والنقص، هناك أساليب كثيرة - غير ما ذكرنا - لاجتذاب أمثال هؤلاء أو
بعضهم، ولكننا نحن المقصرون في تجديد الوسائل الدعوية واستنفاذ كل الجهود
للاتصال بجماهير الأمة ودعوتها للالتزام بدين الله.
لقد سمع أحدهم حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يفسر سورة
البقرة في أيام منى، فقال: لو سمعها اليهود والنصارى لأسلموا، وذلك دليل على
أن العلم بكلام الله ووضعه مواضعه الصحيحة قد يؤثر في أشد الناس عُتُوّاً،
وخاصة إذا خرج الكلام من قلب خالص يملؤه الاهتمام بأمر المسلمين.(65/28)
نقد
أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي
نقد كتابات جودت سعيد
(3)
عادل التل
إن الخطورة في تبني المنهج المادي، لا تنشأ من خلال الانتماء الاعتقادي
لهذا المنهج كشعار فحسب، وإنما تكمن في الآثار والنتائج التي تترتب على هذا
الانتماء، حيث تعتبر هذه الآثار من مستلزماته الأساسية، ويتضح هذا الأمر من
خلال التطبيق العملي لهذا المنهج في واقع الحياة. لأن الالتزام بالمنهج المادي،
يفرض على معتنقيه التزامات أخرى تقوم عليه، وترتبط به ارتباطاً كاملاً لا تنفك
عنه.
وبما أن جودت سعيد من المنتمين لهذا المنهج - كما أثبتنا هذا من قبل - فإنه
يدعو صراحة للتمسك بأسس هذا المنهج، والرجوع إلى هذه الأسس عند التنازع أو
الاختلاف حيث يقول: " إن الوجود الخارجي للمادة أو المجتمع له حقيقة واقعية،
يتفاوت تصاور الناس لها حسب خلفياتهم الفكرية، وعند الاختلاف يتم الرجوع إلى
الوجود الخارجي " [1] . والمقصود بالوجود الخارجي هو الوجود المادي أو المادة
وهذا يمثل لبُّ النظرية الماركسية، وبما أن النظرية الماركسية تقوم على أُسُسٍ
محددة لا تنفك عن بعضها، وهي المادية الجدلية والمادية التاريخية، وشملها قوانين
تطور المجتمع، فإن عزل أي جانب منها للعمل به منفرداً، لا يفيد في قطع الصلة
بأصل النظرية الماركسية وفي هذا يقول ستالين: " إن المادية الديالكتيكية، والمادية
التاريخية تظهران كعِلم واحد وكفلسفة متكاملة، فلا المادية التاريخية معقولة بدون
المادية الديالكتيكية، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية.. " [2] ،
وبناء على ذلك فإن أي أصل من أصول النظرية الماركسية لا يكون صواباً على أي
حال، لأن كل أصل منها يقوم على المادية، يقول لينين: " إن هذه الفلسفة
الماركسية المسبوكة من قطعة فولاذية واحدة، لا يمكن انتزاع أي منطلق منها، ولا
أي جزء جوهري واحد دون الخروج عن الحقيقة الموضوعية " [3] .
ونستطيع هنا أن نميز قاعدتين بارزتين يتسم بهما فكر جودت سعيد بشكل
خاص، والفكر المادي بوجه عام.
1- قاعدة التغيير الكلية.
2- قاعدة التطور العامة.
وتمثل هاتان القاعدتان المحور الأساسي الذي تقوم عليه كتب جودت وأفكاره
كلها، وسنتناول في هذا البحث بعض التطبيقات العملية لقاعدة التغيير، ونرجئ
البحث في موضوع التطور إلى حلقات أخرى.
قاعدة التغيير الكلية:
يربط هذه القاعدة بمفهوم المشيئة ويجعل مشيئة الله تابعة لمشيئة البشر حيث
يقول: " كما قلب قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
[الرعد 11] مفهوم الناس عن التغيير الذي كانوا ينتظرونه من الله، ويرى البشر
أنفسهم مثل الطين بيدي الخزاف، تقيدهم الأقدار، قلبت هذه الآية الفكرة رأساً على
عقب، فردت عملية التغيير إلى البشر واعتبرتهم مسؤولين عنها " [4] . وفي هذا
يقول أيضاً: (قلنا فيما سبق أن الله يخلق الصفات في المادة - ونكمل الموضوع الآن، بأن نبين أن الله يخلق الأفعال من الأفكار.. فمَن تمكَّنَ من معرفة الخواص
التي يخلقها الله تعالى في المواد، يمكنه أن يسيطر عليها، كذلك من تمكَّنَ من
معرفة الأفعال التي يخلقها الله تعالى مما بالأنفس، يمكن أن يسيطر على
المجتمع) [5] . وعن هذه الحالة يصف الشيوعيين الماركسيين أنهم: " لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ والقيام بعملية التاريخ " [6] .
إن التعامل مع الإنسان من خلال الأسس المادية - كما يرغب جودت -
وقياس خواصه على خواص المادة؛ وإخضاعه لما تخضع له من قوانين، فيه
إغفال لتكريم الإنسان وتميزه عن سائر المخلوقات، ومن خلال هذه المبادئ تعامل
النظام الماركسي في روسيا مع الناس وأخضعهم لقوانين قسرية كالتي تخضع لها
المادة فكان العذاب والشقاء، وكان التنكيل والقتل لمن يرفض هذه القوانين المادية
الجائرة التي تُفْرَضَ على الناس بالقوة.
ثم يقول مُبَيِّناً حقيقة التغيير المطلوب: " يفيد أنه يمكن أن توضع في النفس
الأفكار ابتداء، كما يمكن أن يرفع ما فيها من مفاهيم، ويوضع فيها أخرى، وهذا
أهم ما في عملية التغيير، من إنشاء الأمر ابتداء، ومع ذلك أسند الله للبشر هذه
القدرة في إزالة المفاهيم واستبدال غيرها بها " [7] . كما يقول في أكثر من موضع
عن البشر: إن مصائرهم بأيديهم، وكما تلتقي هذه الأفكار مع آراء الماديين
الماركسيين، فإنها تلتقي أيضاً مع آراء " فرقة القدرية " المعروفة في تاريخ علم
الكلام، وقد انتصر جودت هنا لأفكار هذه الفرقة، وتعرف هذه الفرقة بمصطلح
آخر هو " مذهب الاختيار " وذلك في مواجهة " مذهب الجبر " الذي بدأ ينتشر في
ذلك العهد، وقد جعل جودت موضوع الصراع يدور حول (الجبر والاختيار) في
حرية الإنسان، وأغفل منهج أهل السنة الذي يقوم على إثبات المشيئتين، وتقديم
مشيئة الله على مشيئة البشر، وفي هذا يقول ابن تيمية: (أثبت الله المشيئتين
مشيئة الله ومشيئة العبد، وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب) . ثم ذكر ابن
تيمية قوله تعالى: [فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ
إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً] [الإنسان 3] [8] . وقال ابن تيمية أيضاً: (الالتفات إلى
الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل،
والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه
معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر من الأسباب ما يصلحه في
الدنيا والآخرة) [9] . أي: «أعقلها وتوكل» [10] . ومن الممكن أن نلخص
الرد على هذا الجانب بمثال عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يشهد لما
ذهب إليه أهل السنة والجماعة في هذا الموضوع، وهو أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان حريصاً على هداية عمه أبي طالب وألحَّ في دعواه، حتى نزلت الآية: [إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] [11] . ولو كان تغيير ما في النفس مما يملكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما
تأخر عن تغيير ما بنفس عمه من الضلال إلى الهدى. فإذا كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يستطع أن يهدي عمه أو يغير ما في نفسه فكيف يمكن لجودت
سعيد أن يجعل مهمة تغيير المشيئة بيد البشر؟ لماذا لم يقدر النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن يهدي عمه؟ هل هذا عن عجز منه، وعدم معرفته بالأفعال التي يخلقها
الله تعالى مما بالأنفس؟ أم أنه أغفل سنن التغيير التي اكتشفها جودت سعيد
والماركسيون من قبله؟ ؟ ..
لن يملك جودت ولا أصحابه الماديون ولا جميع علماء النفس والاجتماع الذين
يُعْتَدُّ بهم أن يغيروا ما في قلب إنسان من الهدى إلى الضلال، ولا أن يبدلوا ما في
قلب إنسان من الضلال إلى الهدى إلا بمشيئة الله، قال تعالى: [فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ] [الشورى 48] ، وبحث هذه المسألة
سيكون بصورة أشمل في الفصل الخاص بموضوع المشيئة، وإن ما ذكرناه في هذه
المقدمة إنما هو توطئة لبحث جوانب أخرى من قاعدة التغيير.
تغيير مصادر المعرفة:
يقصد بتغيير مصادر المعرفة: تغيير مصادر العلم، يقول ابن تيمية " أصول
العلم ثلاثة: الحس والعقل، والخبر المركب منهما؛ كخبر الأنبياء عن طريق
الوحي "، ولكن جودت يجعل مصدر المعرفة في التاريخ وحده، حيث يقول في
ندوة تلفزيونية: " اسمحوا لي أن أقول: إن الإسلام يعتبر التاريخ هو مصدر
المعرفة، مصدر العلم، وأقول إن سبب انقطاع الوحي - ختم النبوة - بأن التاريخ
صار مصدراً للمعرفة، وهذا النظر أعتبره فلسفة جديدة وقديمة في آن واحد، لأن
التاريخ، هو الذي إذا شهد لأحدٍ استحق شهادة صحيحة، وإذا شهد على أحد أيضاً
فهو الذي يَخْرُجُ من التاريخ.. " [12] . ويظهر في هذا الحديث - أنه يعتبر
وظيفة القرآن قد انتهت، وأن التاريخ هو مصدر المعرفة الذي يُعْتَدُّ به، وأن
شهادته ذات اعتبار وتأثير، وبناء على هذا التصور يذكر قاعدة التغيير في مصدر
المعرفة، وأنها ليست من القرآن فيقول: " أي: أن الذي سيعلمنا ليس القرآن،
وإنما نفس حوادث الكون - والتاريخ هي التي ستعلمنا " [13] .
تغيير مصادر الأدلة:
لما تقرر عند جودت استبعاد دلالة النصوص الشرعية كمصدر من مصادر
المعرفة التي تقدم الحقيقة الموضوعية كان طبيعياً أن يحاول تغيير مصدر الأدلة
أيضاً، فعند تفسير قول الله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ] [الشورى 17] ، يقول: " هذه الآية تنقل أدلة موضوع الفكر
الديني الذي تُقَرِّرُهُ آيات الكتاب، تنقل مصدر الأدلة من آيات الكتاب إلى آيات
الآفاق والأنفس، وهذه النقلة البعيدة المدى لم تكن البشرية مهيأة لها إلى الآن.
وانعدام هذه النقلة أو عدم القدرة على التكيف هو الذي جعل مصدر أدلة العلم
والإيمان مختلفة في أذهان العالم المعاصر. فجعلوا الدين غير العلم، وأن مصدر
العلم من الواقع، وأن مصدر الدين من الغيب، فهذه الآية بهذه النقلة التاريخية التي
لم يقدر البشر على تفهمها، تدمج الدين دمجاً كاملاً في العلم الواقعيِّ في المحيط
الإنساني ليكون موضع تأمل الناس " [14] . أليس من حقِّ المسلم أن يتساءل إلى
أيِّ مدى يريد جودت أن يغير مصادر الأدلة في هذا الدين؟ لو كان هذا التبديل
ضرورياً، لَبَيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لنا ذلك، وقد قال الله تعالى له:
[ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل 89] .
يبين جودت السبب في جعل الأدلة من خارج القرآن حيث يقول: (هذه الآية؛ آية الآفاق والأنفس قَلَبَتْ مكان الدليل ومصدره، كما قلبت آية التغيير مفاهيم
الناس، فآية الآفاق والأنفس حدَّدَتْ مكان الدليل ومصدره بأنه ليس الكتاب، فلا
نطلب كيف بدأ الخلق من الكتاب، وإنما نطلبه من السير في الأرض والنظر، كما
أمر بذلك الكتاب فالحكم في الكتاب، والدليل في الواقع والأرض وآيات الآفاق
والأنفس " [15] .
من أين جاء بهذا الحكم الذي يُلغي مكان الدليل في القرآن فيجعله في آيات
الآفاق والأنفس، والآية لا تشير إلى هذه الفكرة، وليس لها هذا المنطلق ولا يمكن
فهم ذلك الأمر من نصَّها، وقد جعل القرآن آيات الآفاق والأنفس تأكيداً وتوضيحاً،
ولم يجعلها تغييراً ونقلاً، والله تعالى يقول لنا: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ] [النساء 59] ، ثم يأتي جودت
سعيد فيقول: ردوه إلى الوجود الخارجي المادي، أو إلى آيات الآفاق - العلوم -
وإلى آيات الأنفس - علم النفس - ويجب أن نعلم أن هناك إجماعاً عند المسلمين
على أن المرجع عند الاختلاف هو كتاب الله وسنة رسوله، كما أن منهج السلف
الصالح هو المعتمد في فهم الكتاب والعمل بالسنة.
إن تقرير هذه النقلة بهذا الأسلوب، يقطع الصلة بين المسلمين ومصدر علمهم
ومنهج معرفتهم، كما يفصل بين أحكام الكتاب وبين التطبيق العملي له في واقع
الحياة، وهذا يستدعي أن آيات الله تحتاج للتزكية والشهادة المستمدة من آيات الآفاق
والأنفس كما يصور ذلك جودت.
يقول أصحاب النزعة العقلية: إن العقل هو الذي يشهد بالصدق والقبول
لآيات القرآن والسنة، وبهذا جعلوا العقل حَكَماً على الدين، كما يقول محمد إقبال:
" ومما لا شك فيه أن للفلسفة الحق في الحكم على الدين " [16] . ويقول أصحاب
النزعة المادية: إن آيات الكتاب لا تؤدي دوراً، وإنَّ الواقع أو التاريخ وآيات
الآفاق والأنفس هي التي تشهد لآيات الله بالصحة والثبات والقبول. وفي هذا يقول
جودت: " في القضاء يطلبون البينة والأدلة والشهود، والله يقيم على دينه وكتابه
شاهدي عدل، وهما آيات الآفاق والأنفس، وهما شاهدان معتبران لهما حق
الشهادة " [17] .
وقد يظن البعض أن هذه الشهادة كما نتصورها - نحن - شهادة تأكيد وتأييد
أو من العوامل التي تساعد الناس على فهم آيات الله في القرآن، والاعتبار بها
ولكن نلاحظ أنه يجعلها الحَكَمَ على آيات الله، وكأن آيات الله لا تكفي لوحدها لبيان
الحقِّ وتقديم العلم. وها هو يقول: " وللمجادل أن يصادر آيات الكتاب، ولكنه لا
يمكنه أن يصادر آيات الافاق والأنفس، فمن هذا الجانب صار دليل الدين دليلاَ
عالمياً إنسانياً علمياً، وليس دليلاً لطائفة معينة من الناس " [18] . وبهذا يعطي
جودت الحق لأي إنسان في رفض آيات الله ومصادرة معناها باعتبارها ظنية.
ويشير إلى ذلك، عند وصفه للمعارف حين كانت ظنية: " حينما كانت المعارف
ظنية وتابعة للأهواء، ولم تكن تشهد بها آيات الآفاق والنفس وكان النزاع يجري
فيها، ولكن حين قامت أدلتها من الآفاق والأنفس تغير الوضع " [19] .
وها هو يردد ما بثه المستشرقون في ديار الإسلام في بداية الغزو الفكري،
وزعموا أن النصوص الشرعية ظنية الدلالة ولا تصلح لقيام الحجة والبرهان من
خلالها وهذا طَعْنٌ في أصول الدين، ويقول جودت في معرض تحديد مصادر جديدة
للمعرفة، وتعيين أصول جديدة للدين: " يذكر إقبال: إن هذه الآية جعلت آيات
الآفاق والأنفس مصادر لمعرفة الحق، فكأن هذا القول يظهر شيئاً جديداً في أدلة
أصول الدين من الكتاب والسنة والقياس والإجماع، وبمقتضى هذه الآية، فإن آيات
الآفاق والأنفس لها حق معرفة الحق وكشفه، وهذا الحق كشيء مستنبط من الكتاب
لا يؤدي دوراً كبيراً مثل قوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الخَلْقَ] [العنكبوت 20] ، ولكن حين يبدأ الناس يتعلمون كيف يتعاملون مع آيات
الآفاق والأنفس فإن دلالة آيات الآفاق والأنفس تطلع ضوءاً مبحراً يحق معه أن
يقال: طلع الصباح فأطفئ القنديل، ولكن الذين ظلوا طويلاً في الظلام يصيبهم
العشي من الضوء الساطع. وقد يرى بعض الناس في هذا الاتجاه خروجاً من الدين
وتضييعاً له ولكننا نرى عكس ذلك.. " [20] . نضع هذا النص الواضح في دلالته
على تغيير مصدر أدلة أصول الدين أمام أهل العلم، ونسألهم: هل يمثل هذا
الطَّرح خروجاً من الدين أم لا؟ ! !
وأما قوله: " طلع الصَّباح فأطفئ القنديل " فإنه يمثل سُخرية واضحة للتفريق
بين أدلة أصول الدين، وأدلة اللا أصول الجديدة التي اختارها واعتمد (آيات الآفاق
والأنفس) بديلاً جديداً عن الأدلة الصحيحة.
وأخيراً فإن الطريقة التي أعرض بها آراء اصحاب النزعة المادية ونقدها
وإبراز مواضع الانحراف فيها لا تعدو أن تكون نموذجاً لنقد مناهجهم، فالهجمة
على أصول الدين كبيرة وقد هيأ الأعداء لها من الأساليب والخطط ما يفوق التصور. يقول محمد أركون في معرض حديث عن مواجهة الذين لا يزالون متمسكين
بالنصوص الشرعية: (نحتاج إلى مائة مؤسسة وثلاثين سنة للتمكن من زحزحة
المسلمين عن التمسك بحرفية النصوص..) .
__________
المراجع:
(1) كتاب " اقرأ وربك الأكرم "، جودت سعيد، ص 226.
(2) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ص 129، من الترجمة العربية (منشورات دار دمشق) .
(3) المؤلفات الكاملة، لينين 14/132.
(4) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 218.
(5) كتاب: " حتى يغيروا ما بأنفسهم "، ص 77.
(6) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 219.
(7) كتاب: " حتى يغيروا ما بأنفسهم "، ص 59.
(8) الفتاوى الكبرى لابن تيمية، 8/238.
(9) المصدر السابق، 8/528.
(10) أخرجه الترمذي (2649) ، بإسناد حسن عن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(11) راجع القصة في فتح الباري.
(12) ذكر هذا الكلام خلال ندوة في التلفزيون السوري بالاشتراك مع الدكتور الكردي محمد سعيد رمضان البوطي، لمواجهة موضوع الصحوة الإسلامية.
(13) رسالة انظروا، اللغة والواقع، جودت سعيد ص 8.
(14) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 217.
(15) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 221.
(16) كتاب: " تجديد الفكر الديني "، محمد إقبال، ص 7.
(17) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 221.
(18) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 222.
(19) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 222.
(20) كتاب: " اقرأ وربك الأكرم "، ص 223.(65/30)
تيار التجزئة والتفتيت
منصور بن زويد المطيري
حينما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة: (اللهم حبب إلينا ...
المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدّها وصاعها) . وحينما
رفع بلال عقيرته بالمدينة بعد أن نزعه الشوق إلى مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي أذخر وجليل
وهل أردنْ يوماً مياه مجنّة ... وهل يبدونْ لي شامة وطفيل؟
لم يكن ذلك إلا تعبيراً عن شعور فطري يعتري الإنسان تجاه منبته وموطنه
والدار التي درج فيها، وترعرع في رباها، وهو شعور يجده كل إنسان في شتى
بقاع العالم، ليس فيه ما يُعاب أو يُذَمُّ بل هو من تمام المرؤة وكمال الخلق إلا أن
هناك شروطاً لا بدّ من وجودها حتى لا يخرج هذا الشعور الفطري من المدح إلى
القدح وهو أن يكون في حجم طبيعي بسيط. أما إذا تضخم هذا الشعور ونفخ فيه
حتى يصل إلى حدود الولاء فإنه يتحول عندئذ إلى خصلة ممقوتة وصفة مذمومة من
وجهة النظر الإسلامية.
والحقيقة أن هذا الشعور المتضخم تجاه الوطن أو الإقليم وُجِدَ في بلاد الإسلام
في العصر الحديث بل إنه صنع وصدر إليها بغرض خبيث، بعد أن كان شعور
المسلمين في مختلف أنحاء العالم تجاه بلادهم المختلفة شعور فطري طبيعي مما
يُحْمَدُ ويمدح.
إن الغرب بالذات صنع كثيراً من المبادئ والعقائد في أرضه ثم صدَّرها عامداً
إلى أبناء العالم الإسلامي - والحق أنه لم يكن ليصدرها لو لم تكن عند المسلمين
قابلية للاستيراد - يقول المستشرق اليهودي برنارد لويس معترفاً بالجريمة الغربية:
(كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصّة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة
الأوثان منذ دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف انتصر النبي - صلى الله
عليه وسلم - وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية
لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى ولكنها ليست ضد (
اللات) و (العزى) وبقية آلهة الجاهلية بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: الدولة والعنصر والقومية. وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف.. الأصنام! ! فإدخال هرطقة القومية والعلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان
أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط - ولكنها مع كل ذلك كانت
أقل المظالم ذكراً وإعلاناً) [1] . وليس من العجيب أن يحرص الغرب على تفتيت
وحدة المسلمين، فقد كانت العقبة الكأداء في وجهه إبان استِعَارِ الاستعمار، حيث
كانت الجامعة الإسلامية كفيلة بأن تثير حمية الهندي والفارسي والأفغاني والتركي
والعربي وكل مسلم وسيلبون النداء حين يدعو داعيه.
ومن المعلوم أن انتشار الإسلام في بقاع الأرض ضمّ في إطاره الكثير من
الأعراق والشعوب والبلاد، وكتب لهم تاريخاً جديدا وبتَّ الصلة بما كان قبله،
ورتَّب حياتهم على أساس الولاء للإسلام وحده، وكوَّن من كل هذه الأعراق أمة
واحدة تَتَّفق في الاعتقاد وفي التشريع المنظم للحياة الروحية والمادية، وقد كان
الإسلام هو السِّمة الأساسية لهذه الشعوب والأعراق التي تكونت في رحابه، وتحت
حكمه وفي ظله. وعلى ضوئه قام المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية،
وأصبحت اللغة العربية وعلومها وأدابها تاجاً يتزين به كل عالم في هذه الأمة من
العرب أو من غيرهم؟ بل لقد برز غير العرب كعلماء ترجع إليهم الأمة في مختلف
المعارف، وكانت الأعراق تكّون أمه واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعت له سائر
الأعضاء بالسهر والحمى.
ومع مرور التاريخ استلم قيادة هذه الأمة الإسلامية خلفاء بني عثمان، وساروا
بها في جزء كبير من تاريخهم من نصر إلى نصر. وكانت دولتهم في أول أمرها
فتية ثم اشتد عودها ثم شاخت في نهاية أمرها لتعود رجلاً مريضاً يدفن بمرضه،
ويردم الأعداء التراب على قبره، ليتردد بعد ذلك في الأرجاء النواح والعويل
والجزع والذهول يشارك الجميع أحمد شوقي [*] في مرثيته للخلافة:
عادت أغاني العرس رَجْع نُواح ... ونُعيتِ بين معالم الأفراحِ
كُفِّنْت في ليل الزفافِ بثوبه ... ودُفِنْت عند تَبَلُّج الإصباحِ
شُيِّعتِ من هَلَعٍ بِعَبْرةِ ضاحكٍ ... في كل ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ ... وبَكَتْ عليك ممالكٌ ونُواحِ
الهند والهةٌ ومصرُ حزينةٌ ... تبكي عليك بمدمعٍ سَحَّاحِ
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسُ: ... أمَحَا مِنَ الأرضِ الخلافةَ ماحِ
لقد تحققت إرادة الأعداء في تفتيت وحدة هذه الأمة، ولكن لم تحققت إرادة
الأعداء؟
وكإجابة على هذا السؤال سنشير فيما يلي وفي عجل إلى عامل واحد أدى إلى
فقدان الأمة الإسلامية لوحدتها وهو ظهور النزعات الإقليمية والقومية. لقد انتقل
كثير من المفاهيم الغربية إلى بلاد الإسلام عن طريق الاحتكاك الثقافي، وعن
طريق الزرع المقصود. ومن هذه المفاهيم، القومية. وهي مفهوم برز في
المجتمعات الغربية بشكل واضح وقوي في القرن التاسع عشر، وهو يهتم بخلقِ
وعي جديد يمجَّد جماعة محدودة من الناس، يضمها إطار جغرافي ثابت، ويجمعها
تراث مشترك وتنتمي إلى أصول عرقية واحدة (وهذا الوعي القومي على درجات،
ويبدأ من مرحلة العاطفة الوطنية أي حب البلد الذي تتفتح فيه عينا الإنسان للنور،
بلد الآباء والأجداد، بلده الذي يحنُّ إليه إذا نأى عنه، ويحميه إذا اعتُدِيَ عليه..
وينتهي بمرحلة التفكير القومي وليس لهذه المرحلة حدّ، ولكن المراد منها هو جمع
شمل أبناء القوم الواحد، ولمّ شعثهم، والخلاص من الأجنبي الذي يرزحون تحت
نيره إن وجد، وإنشاء دولة مستقلة تضمُّ تحت لوائها مَنْ تجمعهم وحدة الأفكار
والمصالح والعواطف والذكريات والرغبة في العيش المشترك ضمن إطار جغرافي
معين تحدده في الغالب اللغة القومية) [2] .
وروح القومية هي الشعور بالتشابه من ناحية، والشعور بالامتياز عن الغير
من ناحية أخرى. فالشعور بالتشابه به يؤدي إلى عاطفة التضامن والتآلف والتناصر
بين أعضاء الأمة الواحدة، وهو الذي يقرِّب بين طباعهم وأمزجتهم وآرائهم،
ويشكِّل عامل توحيد وجذب بينهم.
والشعور بالامتياز ينمِّي الشعور بالكرامة الوطنية والشرف القومي والحسّ
بالمصير القومي، وينمي الرغبة في تأكيد صفات الخلق القومي وفرضه على مرأى
ومسمع من العناصر الأجنبية الأخرى، فهو الذي يحملهم على منافسة الغير وبذل
أقصى الجهد في سبيل التفوُّق.
هذه الفكرة وُجِدَتْ في بلاد المسلمين أول ما وجدت في دار الخلافة الإسلامية
تركيا فقد تسربت إليها من أواسط وشرق أوربا عبر قنوات عديدة منها أن اللاجئين
البولنديين والمجريين نقلوا معهم هذا المبدأ بعدما لجأوا إلى تركيا بعد فشل ثورتهم
سنة 1848م. فلقد بقي قسم كبير منهم فيها واعتنقوا الإسلام واحتلوا مناصب هامة
في الدولة العثمانية. وكان أحدهم الكونت بورزيسكس الذي سمى نفسه بعد ذلك
مصطفى جلال الدين باشا قد نشر كتاباً بعنوان (أتراك الأمس وأتراك اليوم) وفيه
جزء عن تاريخ الشعب التركي القديم يوضح الدور الإيجابي الخلاّق للأتراك في
التاريخ وقد كرَّس بورزيسكي جهده لإثبات أن الأتراك هم من العرق الأبيض مثل
شعوب أوربا، وينتمون لما أسماه العرق (الطوراني - الآري) . ويقول برنارد
لويس: (ولقد عمل الكونت بورزيسكس على نقل القومية البولندية ووضعها في
قالب تركي وساعده على هذا العمل ما عرضه من أعمال المستشرقين الأوربيين
الباحثين في الشؤون التركية، ولقد وصلت نتائج أبحاث هؤلاء إلى المجتمع التركي
عن عدة طرق، وكان لها تأثير هام على الذهنية التركية خصوصاً في تقدير التركي
القديم، والاعتقاد بالهوية المميزة والمركز اللائق في التاريخ، ولقد كان الأتراك
أكثر من العرب والعجم نسياناً لتاريخهم الماضي فقد كانوا لا يفكرون بأية هوية
أخرى غير الهوية الإسلامية، ولكن المستشرقين.. ساعدوا الأتراك على استعادة
هويتهم القوية الضائعة وعلى الدعوة إلى حركة قومية جديدة) [3] . وبمثل هذه
الأساليب تعزَّز عند جزء من الأتراك هذا الشعور القومي، وأدى بعد ذلك كواحد من
عوامل كثيرة إلى نشوء القومية العربية.
لقد كان لغير المسلمين جهد واضح وأثر فعال في ترسيخ الانتماء القومي الذي
يستند على العلمنة كإطار مبدئي. ولنستمع إلى ما يقوله إبراهيم اليازجي وهو
يستنهض همم العرب ويدعوهم إلى إحياء أمجاد آبائهم ويحثهم على الثورة على
الترك:
دع مجلس الغيد الأوانس ... وهوى لواحظها النواعس
إلى أن يقول:
ودع التنعم بالمطا ... يا والمشارب والملابس
أي النعيم لمن يبيت ... على فراش الذل جالس
ولمن تراه بائساً ... أبداً لذيل الترك بائس [**]
ولمن أزمته بك ... ف عداه يُظلم وهو آيس
إلى أن يقول داعياً العرب إلى الثورة على الترك كما فعلت شعوب البلقان:
ماذا نؤمل بعدهم ... إلا مقارعة الفوارس
فإليكم يا قوم واطَّ ... رحوا المؤانس والمدالس
وتشبهوا بفعال غي ... ركم من القوم الأحامس
بعصائبَ اتفقوا فجا ... دو بالنفوس وبالنفائس
تركوا جموع الترك يق ... صفُ فوقها الركب الروامس
فالترك قوم لا يفو ... ز لديهم إلا المشاكس
وفي آخر القصيدة يظهر الشاعر الوجه العلماني للقومية العربية:
ودعوا مقال ذوي الشقا ... ق من المشايخ والقمايس
ما هم رجال الله في ... كم بل هُمُ القومُ الأبالس
فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانس
وله قصيدة بائية أخرى لها نفس الغرض ختمها بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت ... دهراً فعما قليل تُرفع الحجبُ
لنطلبنّ بحد السيف مأربنا ... فلن يخيب لنا في جنبه أربُ
يقول مؤلف كتاب الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (وقد
سبق المسيحيون العرب المسلمين منهم إلى التحسس بالشعور القومي، وإلى
المجاهرة بالحركة القومية. ففي بداية القرن التاسع عشر دخل المذهب البروتستانتي
إلى البلاد العربية وترجم الإنجيل إلى اللغة العربية، وأخذت طوائف الروم
الأرثوذكس في بلاد الشام تطالب بتعريب كنيستها - وكانت الكنائس الكاثوليكية بما
فيها الموارنة قد استقلت عن روما وصار لها بطاركة، وخوارنة من العرب وغدت
لها مدارسها العربية، وتخرج من المعاهد التي أنشأتها الإرساليات التبشيرية
والطوائف المختلفة رواد الحركة القومية العربية) [4] .
ويقول: (وعلى يد العرب المسيحيين تشكلت أول الجمعيات السرية العربية،
التي ندَّدت بالحكم التركي وطالبت باستقلال الولايات العربية عن الدولة
العثمانية) [5] .
وكما هو معروف فقد لعبت القومية العربية بعد ذلك بسنين دوراً أساسياً في
الساحة شَهِدَهُ الجميع. والحقيقة أن هناك ما هو أخطر من القومية على وحدة
المسلمين ويتمثل في تيار الإقليمية الوطنية بمعنى حب الوطن والولاء له. وهو
مفهوم حديث لم يعرفه المسلمون من قبل، وقد ورد إلى العالم الإسلامي قبل المفهوم
القومي. وكان أول من دعا إلى الوطنية بهذا المفهوم رفاعة الطهطاوي، فمثلاً
يقول في أحد كتبه: (فقد أجمع المؤرخون على أن مصر دون غيرها من الممالك
عَظُم تمدُّنها وبلغ أهلها درجة عالية في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وأن
آثار التمدن وأماراته وعلاماته مكثت بمصر نحو ثلاثة وأربعين قرناً، ويشاهدها
الوارد والمتردد، ويعجب من حسنها الوافد والمتفرج. مع تنوعها كل التنوع،
فجميع المباني التي تدل على عظم ملوكها وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة
الملوكية وبراهينها) [6] ، وقد تطورت مثل هذه الفكرة بعد ذلك حتى أصبحت
دعوة شعبية شعارها (مصر للمصريين) .
وكما يقرر المستشرق لويس فإن مصر كانت (البلد المسلم الوحيد الذي تقدمت
فيه فكرة الوطنية المحلية وكان ذلك بسبب عوامل عدة:
1- مصر بلد واضح المعالم الجغرافية والتاريخية.
2- كان فيها عائلة حاكمة قوية مصممة على إتمام الاستقلال (يقصد الانفصال
عن تركيا) .
3- تاريخ قديم رائع اكتشفت آثاره منذ مدة وهو من أهم العوامل التي يستند
إليها الافتخار بالوطنية) [7] .
وفي سبيل ترسيخ الشعور بالوطنية في بلاد المسلمين نشط الاستشراق بشكل
فعال في بعث التاريخ السابق على الإسلام في كل بلد من البلاد الإسلامية وأفلح في
تأسيس هيئات للإشراف على عمليات التنقيب عن الآثار وإنشاء متاحف وطنية،
وكان الإشراف على هذه العمليات في يد الغرب فقد أشرفت فرنسا على بحوث
الآثار في مصر وإيران، وأشرفت بريطانيا على الهند، وأشرفت إيطاليا على آثار
ليبيا. وبعد الاستقلال تغيرت الأوضاع واستلمت الحكومات الإشراف على هذه
الآثار ولكن الذي حدث (هو أن عالم الآثار الغربي في كل دولة من تلك الدول قد
ساعد في إعداد قانون خاص بالآثار للبلد الإسلامي الذي يعمل فيه، وأصبح
مستشاراً لموظف وطني عين من حكومته مديراً لمصلحة الآثار) ، وكان الغرض
من هذا كله أمرين:
الأول: إحياء التاريخ الميت للبلاد الإسلامية ومحاولة بثه في شعور أهل كل
بلد بحيث يحصل اعتزاز وافتخار بالانتساب إلى مثل هذه الحضارات، والشعور
بهوية متميزة، فالمصريون أحفاد الفراعنة والسوريون أحفاد الفينيقيين، والعراقيون
أحفاد الآشوريين والبابليين، والمغاربة أحفاد البربر، وأبناء الجزيرة العربية أحفاد
العرب الأقحاح وهكذا
الثاني: إضعاف دور الإسلام حيث تعطي مثل هذه البحوث التاريخية انطباعاً
عاماً بأن الإسلام مرحلة من مراحل حضارة البلد، سبقته حضارات وستتلوه
حضارات. وما هو إلا حلقة ضمن هذه الحلقات يعتز به كما يعتز بغيره، والولاء
في النهاية للوطن الذي أبدع كل هذا.
وعلى كل حال لم تكن هذه الجهود لتؤتي أُكُلها في تجزئة بلاد المسلمين لولا
القوة الاستعمارية التي فرضت هذه التجزئة، فكما يقطع الجزار ذبيحته قطعة قطعة
فعل الاستعمار بالدولة العثمانية فعل الجزار، فالبلاد الواقعة تحت سيطرة العثمانيين
قُسِّمت إلى عشرات الأجزاء ولم يكن ذلك لتعدد المستعمرين، بل كانت العملية
واعية ومقصودة هدفها التمزيق إلى أقصى درجة فالذي حدث (أن المناطق التي
وقعت تحت سيطرة الاستعمار الواحد جزئت تجزيئاً، فلبنان انفصل عن سوريا،
وكلاهما تحت الانتداب الفرنسي، والأردن فصل عن فلسطين، وفصل العراق
على حدة، وكذلك دول الخليج ومصر والسودان وكلها كانت تحت نفوذ الاستعمار
البريطاني، الأمر نفسه بالنسبة للمغرب العربي الكبير الذي تجزأ وكان أغلبه تحت
السيطرة الفرنسية) [9] . كما عُزِلَتْ البلاد التي لم تدخل تحت الولاية العثمانية
حيث عُزِلَتْ إيران على حدة، وأفغانستان على حِدَةٍ، والمناطق الإسلامية في آسيا
الوسطى كل منطقة على حدة، والهند على حدة.
انتهت خطة التجزئة بالعدد الذي نراه من الدول في العالم الإسلامي،
وبالحواجز التي نشاهدها بين أبناء الأمة الواحدة، وقد تكوّنت في كل بلد مع الأيام
أنظمة وقوانين خاصة، ودساتير متنوعة، ووُجِدَ في كل بلد أصحابُ مصالح في
إبقاء الوضع وإدامته، ونشأت افكار وعقليات وطنية خاصة بكل بلد، ونشأت
محظورات عالمية يُحَزَّمُ المساس بها (سيادة الدولة) و (سلامة أراضي الإقليم) و (حرمة الحدود) و (تخطيط الحدود) وعدم التدخل في (الشؤون الداخلية) وإقامة (الدولة العصرية) أو (الاشتراكية) أو (التقدمية) وغيرها مما يكرِّس واقع التجزئة. ومن ناحية أخرى فعلى كلّ بلد أن يُسَيِّرَ أموره حسب إمكاناته حتى ولو سارت الأمور عكس ما هو معقول بالنسبة للأمة الواحدة، فكم من بلد يملك القدرة البشرية ولكنه لا يملك المال، وكم من بلد يملك المال وتنقصه القدرة البشرية، وكم من بلد يملك الإمكانات الاستراتيجية ولكنه لا يملك المال أو البشر، فمثلاً: (أكثر من ثلثي الأراضي العربية الصالحة للزراعة تقع في خمسة أقطار عربية، ... ومعظم النفط العربي يكمن في خمسة أقطار عربية، وإن ثلاثة أقطار عربية يتركز فيها أكثر من نصف سكان الوطن العربي، وإن عشرة منها يتركز فيها 90% من السكان) [10] . هذا على نطاق العالم العربي فما بالك بالعالم الإسلامي.
لقد كان الأمر يسيراً في البداية ولم يكن يسيطر واقع التجزئة على العقول بل
كان يُنْظَرُ إليه على أنه حالة طارئة، ولكن في الوقت الحاضر أصبح الواقع يحظى
بالقبول من الكثرة الأكثرية ويشكل الأساس في الفكر وفي الحياة الواقعية.
وفي الختام فإن تنمية الوعي بأهمية وحدة المسلمين كما يأمرهم الإسلام هي
النقطة الأساسية الأولى في سبيل التغلب على الواقع. لقد نقلتهم الإقليمية من القوة
إلى الضعف ومن الغنى إلى الفقر ومن الأخوة إلى العداوة (كم هناك من الخلافات
حول الحدود قابلة للانفجار في أية لحظة) . وستجعل لهم الوحدة مكانة متميزة بين
الأمم، وستوفر لهم مجالات أرحب للتنمية. وعلى كل حال فإن الواقع يفرض أن
يقتصر الحديث في هذه المرحلة على التكامل الاقتصادي، وإنشاء سوق إسلامية
مشتركة، والتقارب عن طريق المنظمات الإسلامية وأن شحَّت فاعليتها إلى أكبر
حد ممكن. كما ينبغي أن تيسر تنقلات المسلمين فيما بين دولهم، ومن الأهمية
بمكان وجود تكامل سياسي يدعم معنوياً ومادياً ويساعد على حل الخلافات بين دول
العالم الإسلامي.
__________
(*) انظر الشوقيات المجلد الأول ص 105-109. ... ... ... ... ...
-البيان-
(**) بائس: مقبل.
(1) برنارد لويس، الغرب والشرق الأوسط، تعريب: د نبيل صبحي، كتاب المختار ص 93.
(2) د نور الدين حاطوم، تاريخ الحركات القومية، الجزء الاول دار الفكر ص 15.
(3) برنارد لويس، المرجع السابق، ص 111.
(4) علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1987، ص 29.
(5) المرجع السابق، ص 130.
(6) المرجع السابق ص 122.
(7) برنارد لويس، المرجع السابق، ص 106.
(8) محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة ص 140.
(9) منير شفيق، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثانية، 1407 هـ، ص 82.
(10) منير شفيق، نفس المرجع، ص 86 وانظر في الموضوع: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، محمد محمد حسين.(65/38)
عودة إلى المعرفة
محمد بن حامد الأحمري
هل من المناسب أن نكتب عن التعلم والقراءة في الوقت الذي يشهد العالم فيه
نهاية دولة مسلمة، وإلغائها من الأرض ودفن كل المعالم التي قد تشير إلى مكانها
في قادم الأزمان؟ تكتب صحف العدو على صدر صفحاتها (وداعاً البوسنة)
ويقولون عن خطة الغدر التي كتبها أوين وفانس: (لقد أصبحت حبراً علتى ورق)
على رغم كونها مأساة، فقد سلبت المسلمين أرضهم، ولكن تدهور الموقف فيما بعد
جعل المسلمين يتمنونها.
نكتب عن هذه القضية لأن الجهل أنشب مخالبه في عقول وقلوب المسلمين؛
في جامعاتهم ومدارسهم وكل مرافق حياتهم، حتى إذا أرادوا أن يهربوا من الجهل
فروا إلى الحصول على الشهادات فزادتهم عماية وضياعاً وغروراً بجهلهم. ولا بد
قبل الاهتمام بالمعرفة من الاعتراف بالجهل؛ وذلك بعرض بعض مظاهره عندنا.
إعادة سبب مصائبنا إلى البعد عن الدين والعلم - وهما في ثقافة المسلم
متلازمان - تفسير صحيح لما حل بنا، تفسير يقوله العدو والصديق، يقوله
الثعالبي عند خروجه من تونس، ويرى الحل في المدارس الشرعية، ويرى
أهميتها قبل القتال، ويرى ذلك محمد علي السنوسي عندما كان عائداً من الحجاز
في طريقه إلى تلمسان بالجزائر، وجد بلاده قد وقعت تحت أيدي الفرنسيين ولا
يستطيع العودة إليها فيبقى في برقة يعلم الناس ويحثهم على التعلم، ويتابع إنشاء
الزوايا السنوسية، ومن أهم أهدافها التعليم. ولمس هذا السبب كل من اتصل بهموم
الأمة وقضاياها من رجالها أو من أعدائها، فكتب الرحالة الغربيون وهم طلائع
الاستعمار؛ كتبوا بكل سخرية واستصغار عن الجهل وترسخه في بلاد المسلمين.
وكتبوا عن الخرافة والكرامات والقبور التي لها مكانة خاصة عند أصحاب المدن،
ويتعجب من إيمان بعض المسلمين بأن بعض القبور والمشاهد تحكم العالم وتهيمن
عليه وهكذا فرق السحرة وجيوش الخرافة.
الإعجاب المتناهي بالغريب والجهتل المتناهي به، جعل بعض المسلمين
يكتب إلى الحاكم الفاشي الإيطالي موسيليني يخاطبه بحامي حمى الإسلام والمسلمين، ولا نستغرب الذين قالوا أبشع من ذلك أو قالوا لن تتحرر فلسطين (حتى يرفرف
فوقها العلم الأحمر) فانضموا إلى حزب راكاح الشيوعي الصهيوني ليحرروا
فلسطين من الرأسماليين اليهود وليحكمها الشيوعيون اليهود بدماء الأعراب. أما في
البوادي فكان الحال أشنع فليس غريباً أن يقف أعراب سيناء مع الإنكليز ضد الثوار
المصريين مقابل الذهب الذي دفع لهم، ثم اكتشفوا وبعد مناصرة بريطانيا أن الذهب
الذي أعطي لهم كان مزيفاً (صفراً) .
وأعراب العراق كانوا يتلقون الأوراق التي تلقيها الطائرات البريطانية والتي
تحتوي تعليمات أو تحذيراً أو أوامر لهم، فيظنون أن الطائرة فيها ثقب ولذلك
يجمعون الأوراق ليعيدوها لهم لأنهم لا يقدرون على القراءة. وكانت الرسالة تصل
القرية فيمر بها صاحبها عدداً من القرى لا يجد من يقرأ له رسالته.
وهكذا آل مآل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال لهم فيما صح
عنه: (العلم فريضة على كل مسلم) [رواه ابن ماجه] ، وتحولت وسائل التعليم
والمدارس والجامعات في بلدان العالم الإسلامي إلى مواقع ينتشر فيها الجهل والتقليد، والعمل الإداري الروتيني، والسباق الساذج نحو الشهادات، وترك العلم الذي قيل
إنها أنشئت من أجله.
فقد أصبح التعليم وسيلة للعيش فقط، والتعلم طريق الشهادة التي تفتح باباً
للعيش، وأنىّ للمدرس الذي يحيا هذه الظروف حوله أن يخلص من هذه الكوابيس
إلا من رزقه الله إخلاصاً وهمة وحمية لدينه وأمته.
إن الجامعات الغربية التي على مثالها أنشئت ما نسميه جامعات في بلداننا تقوم
بدور آخر، لا أقول كل جامعاتهم ولكن كثيراً منها يقوم بدور حيوي في حياة أمتهم، فتعلم الصناعات الكبرى تبدأ نظرية وتطبق أولاً في الجامعات، حيث يطلب
الجيش الأميركي أو الفرنسي تطويراً لجهاز ما ويتحدثون عن المشكلة الصناعية أو
الجهاز الذي يريدون مع أستاذ في الجامعة وسرعان ما يقوم المدرس وعدد من
تلاميذه وأكثرهم وللأسف من دول العالم الإسلامي بدراسة المشكلة وحلها، وما هو
إلا زمن يسير حتى تنتهي وتتحسن الصناعة وهكذا بقية الشركات وأغلب
المؤسسات العلمية العلم عندهم يعني العمل والتطبيق المباشر.
أما السياسة عندهم فهي علم يدرس في الجامعات، يدرّسه مهرة يعيشون في
موقع القرار في الدولة، أو عايشوا ذلك في الماضي، وهم على صلة قريبة جداً
بكل ما يحدث، وما تسمعه اليوم من خبر في وسيلة إعلام قد يكون موضع نقاش
ودرس وبحث عن السبب والحل في الجامعة والصحافة، لأنهم كما قالوا: سياستهم
علم وسياستنا كهانة.
إن الذي صاغ ورقة الحوار ونقاش السلام المصري -الإسرائيلي في عهد
السادات أستاذ في جامعة هارفارد، صاغه مع تلاميذه وقسمهم إلى فريقين كل منهم
مستوعب لقضيته يطالب بحقه، والمدرس وفريق معه يدرس عملية الصلح حتى إذا
تمت الدراسة ونجحت الفكرة طبقت على المتحاورين الإسرائيليين والمصريين، ولم
يجدوا صعوبة إلا مع الجانب الإسرائيلي؛ لأن (بيغن) لم يكن يقطع برأي حتى
يشاور حزبه والكنيست، أما السادات فيقول عنه (كارتر) إنه كان يعيد الأوراق
موقعة وبسرعة، حتى أن فريق السادات الذي كان معه لم يكن يقرأ أوراق المعاهدة
هكذا قال عنه كارتر في كتاب (دم إبراهيم) .
وهكذا بإمكاننا نقل الأسماء والمصطلحات والاشكال والطقوس الجامعية أو
البرلمانية، ولكن المضمون يبقى غريباً عنا فالجامعة عندنا مكان نحصل منه على
شهادة ولو كاذبة، والمدرس في أي المستويات بعد حصوله على الشهادة يطلّق العلم
طلاقاً بائناً، ويكرهه ويكره ذويه، ذلك أن مقتضى الترك له البعد والكراهة.
والبرلمانات مكانة اجتماعية يتسابق الناس لها وليس لها تبعات ولا اعتراضات بل
أدوات زينة وديكور بلا قرار، يندر فيهم الدارس الجاد لمشكلات أمته الباحث عن
الحلول، ولقد قالت زوجة بوش تصف زوجها يوماً: إنه رجل دراسة لما كان ينفق
من الوقت في قراءة ما يصله، وعندهم للأسف أمثلة من رجال السياسة والمعرفة ما
لا يوجد له قرين عندنا في زمن الانحدار، إذ لا يمكن أن يهدي أمته جاهل أو
ينتصر لها.
ولقد كان العلم دائماً رفيق الغلبة والجهل قرين الهزيمة، لم يكن بعيداً أن
ينتصر صلاح الدين وابن هبيرة يتنقل معه بعلمه وكتبه في الخيام من جبهة لأخرى، وليس غريباً أن ينتصر الشيخ شامل في داغستان على القياصرة ومعه مكتبته
تحمل على الخيول. ويلخص أحد المؤرخين الغربيين انتصارهم على المسلمين في
بداية المرحلة الاستعمارية علينا نحن المسلمين أن عندنا جهل وشجاعة وقصر نَفَس
وفساد نظام، وعندهم علم ومثابرة وجد متدرج فغلبوا. يقول: (يقهر علم الغرب
ومثابرته تدريجياً شجاعة أهل الشرق وفساد نظامهم) [1] . وبعد الإشارة إلى هذه
المظاهر يأتي الحديث - بإذن الله - عن بعض وسائل الخلاص.
... ... ... ... ... ... ... ... ... - يتبع -
__________
(1) تمبرلي وجرانت، (أوربا في القرن التاسع عشر العشرين) ، 2/37.(65/48)
البيان الأدبي
مقدمة في بناء الرواية
(القسم الثاني) [*]
د.مصطفى بكري السيّد
-4-
لا يأتي الباحث بدعاً من الرأي إن قال بأولوية زمانية وفنية للقصة القرآنية
بوصفها الجذر الفني الذي استولدت منه القصة الحديثة سواء في الشرق أو الغرب،
ولا بأس أن نردد مع إحدى الدراسات قولها: (يبدو أنه قد آن الأوان لكي نقول أن
القصة القديمة أشد ظهوراً في القرآن الكريم منها في أي موضع آخر) [1] .
ولئن سبقت قصة التوراة قصص القرآن، فإن التحريف الذي أملته أهواء
أهل الكتاب جعلت العقول المؤمنة تمجّ القصص التوراتية لما (فيها من مخالفة قواعد
العلم، وقوانين التربية، وهي تذكر الله ورسله بما يأباه العقل وتشمئز منه النفس،
وماذا أكثر من أن يوصف الله بالندم والبداء (أي تبدو له الأمور وكأنه يجهلها،
والظهور بصور البشر - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - وأن يوصف الرسل
بالكذب والسكر والزنا) [2] .
كما نجد في القصص التوراتي (هيجاناً جنسياً لا يتورع عن استباحة أخس
الوسائل لتحقيق الاتصال الفاجر حتى بين النبي وابنيته كما يزعم (سفر الخروج)
في شأن لوط، وكالذي يطالعنا في بعض تلك الأسفار عن اتهام داود، باقتراف أحط
الجرائم في سبيل السطو على زوجة أحد رجاله) [3] .
ماذا ترك التحريف في الكتاب المقدس (للأدب اليوناني الذي يعد المنبع الأول
للأدب في شطريه الإباحي والوثني؟
وما هي العلاقة بين القصة الأوربية - بوصفها أصدق امتداد مضموني
للإباحية والوثنية - والكتاب (المقدس) (*) في وضعه الحالي المحرف؟ إن هذا
التساؤل يذكر بقالة قرأتها لبعض علماء المسلمين في تنظير العلاقة بين أوربا ودعوة
المسيح -عليه السلام- (إن أوربا لم تتنصّر، ولكن المسيحية تأوربت) .
وأياً كان الرأي المضاد لهذه الأولية - أي أولية القصة القرآنية الزمانية
والأسلوبية، إن كان من أهل النصفة - أن ينكر أن القصة القرآنية كانت بمضمونها
وأسلوبها؛ ولا تزال نقطة مضيئة في مسيرة هذا الفن، وأنها في الشكل والأسلوب
لم تكن عبر الحروب الصليبية في المشرق والأندلس غائبة عن التأثير والتأسيس
لهذا الفن في الأدب العربي.
- 5 -
وليس غريباً أن تتقدم قصة موسى -عليه السلام- سائر القصص القرآني
سواء لجهة المكان الذي شغلته من صفحات المصحف الشريف، أو المكانة التي
تبوأتها عند العلماء، أو لخطورة الفئتين اللتين واجههما موسى حيث كانت إحداهما
فئة ممعنة في التكبر والطغيان (فرعون وملؤه) وأخرى استمرأت الذل والتبعة
والاستضعاف (بنو إسرائيل) [4] .
هذه القصة وإن كانت تتمحور حول حدث من الماضي، فهي قادرة على
تحريك الزمن، ومن ثَمَّ الملتقى في كل اتجاه، بوصفها بنية عقدية تشريعية،
تربوية، تاريخية، زمانية، مكانية، أداتها اللغة، وقراؤها لأداء العبادة في الصلاة
والتلاوة تعلماً وتعليماً، يعدون بمئات الملايين، فمن حق هؤلاء أن تكون بين أيديهم
قراءة واعية وعميقة للقصص القرآني عموماً، وقصة موسى - عليه السلام - على
وجه الخصوص، بحيث تضاعف هذه القراءة - الدراسة - فهم المسلم وغيره
لمقروئه، لأنها ليست قصة فرد أو قصة أمة (بل قصة البشرية جميعاً) [5] .
فالمسلم يدرك بتأمل القصص القرآني عموماً أنه سليل أمة متميزة بعقيدتها
ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، قادتها الأنبياء، وهويتها العقيدة، [إنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء 92] ، [وإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] [المؤمنون 52] ، ويدرك خصوصاً أوجه الشبه بين دعوة
رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخيه موسى - عليه السلام -[6] ، فيعلم
ديمومة المعركة، وأن شرف الجندية لخدمة هذه الدعوة المباركة من أعظم ما
صرفت فيه الأعمار [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي
مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت 33] .
أين كتاب وأدباء المسلمين من دراسة القصة القرآنية التي يجب أن تتم ابتغاء
تحقيق أكبر محصول عملي من قراءة المسلم القرآن وصولاً إلى الفهم الحقيقي
الشامل لخطاب الله -عز وجل-، وتأسيساً لمعرفة قرآنية إسلامية تعطي النص
الإسلامي دوره المطلوب في تشكيل القول والفعل والقول في دار الإسلام؟ ...
إنني أكتب هذا الكلام (لأذكر بأن رسالة الأدباء والمفكرين في هذه المرحلة في
بلادنا ليست هي دور (المَوالي) (بفتح الميم) لثقافة وآداب وصيغ وشعارات أوربا
شرقاً وغرباً) [7] . وكم يؤلمنا عندما يتشبه قلة من كتابنا (بالمستشرقين والملاحدة)
فيستشهدون بالآيات الكريمة من غير اعتبار خاص ويشيرون إلى الرسول - صلى
الله عليه وسلم - من غير تمييز [8] . إن دورهم الحقيقي يكون في انسجام إبداعهم
الأدبي مع عقيدة الأمة وتجربتها العميقة ورحلتها الطويلة، ولكننا نلاحظ بعض
الغياب بين الدراسات القرآنية والدراسات الأدبية، التي كانت سالكة في الاتجاهين،
وكانت خيراً عميماً للجانبين، أما الآن فإذا تقدمت كمَاً تراجعت كيفاً، وإذا برز
مفكرون متمكنون، نرى آراءهم تعْليباً جديداً لأفكار المعتزلة، وهم مستعدون على
أمتهم بالمناهج الغربية [9] .
إن هذا الغياب عن ساحة الدراسة الجادة للقصة القرآنية آثار تعجباً وتساؤلاً
لدى بعض الكتّاب فقال: (عجبت أن لم يلتفت إليها (القصة القرآنية) أحد من نقادنا
ثم ما لبثتُ أن قمعتُ هذا العجب، فمنذ متى يهتم نقادنا بديننا أو تراثنا؟ إنما كل
همهم أن يلووا ألسنتهم بلغة غير لغة بلادهم، وينسبوا أنفسهم إلى أدب غير أدبهم
وحسبنا الله ونعم الوكيل) [10] .
وإذا كان هذا موقف أكثر المعاصرين فإن مجهودات الأقدمين على جلالتها في
خدمة التفسير عموماً فقد حجب سحاب الإسرائيليات اللجب جماليات القصص
القرآني أحياناً كثيرة، كما تمحور كثير من دراسات السابقين حول المفردات
والتراكيب دون التمكن من تشييد فضاء واسع يتجلى في منظومة متكاملة تكون أكثر
عونا للقارئ لتمضي به نحو فَهْمٍ شامل وكامل للقصص القرآني، وبعضها كان
يجهد في غير عدو ويعمل في غير معمل، عندما (يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس
معهم بالبحث عن النملة، وهل هي ذكر أم أنثى، وعن الموضع الذي كانت فيه
مملكتها، واسم الوادي الذي قامت فيه تلك المملكة.. ثم اسم النملة إي والله اسم
النملة) [11] .
لقد أدان ابن تيمية - رحمه الله - هذا الاتجاه - عند المفسرين - الذي يأتي
على حساب النص لا لحسابه فيقول: (لا خير فيما لم يذكره القرآن، كالبعض الذي
ضرب به موسى الغلام، والغلام الذي قتله الخضر ما اسمه..) [12] ...
يكفي القصص القرآنية فضلاً ومكانة اختيار الله -سبحانه وتعالى- لها لتكون
موضوع إحدى سور القرآن الكريم الطويلة [13] ، أو بعض موضوعات تلك السور، ولتكون صورة للوجود المثالي للإنسانية متمثلاً بالأنبياء ونموذجاً للعلاقة بين ...
الإنسان والكون وبارئه -سبحانه وتعالى-، وبياناً لمنهج العيش مع أفراد الأسرة
البشرية من مؤمنين وكافرين ومنافقين.
ويكفي هذه القصة أن تحمل إلينا صيحة أطلقتها نملة - نعم نملة - فكرة -
وأن هذه الصيحة تبالغ مسامع سليمان -عليه السلام-، لو أن قاصاً معاصراً -
غربياً على وجه الخصوص - أفسح للنملة في صفحات قصته مكاناً لسدت الأفق
إشادات النقاد بهذه اللفتة الإنسانية لهذا المخلوق الضعيف! ! [الَذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ
عِضِينَ] [الحجر 91] ما كان لهم أن يرتقوا إلى سمو القرآن وأفقه الرحب.
تتساءل إحدى دراسات الرواية العربية (كيف يمكن أن تنتظم العلاقة بين
السماء والأرض أو بين الله والإنسان، بحيث يمكن أن تسير الحياة في إيقاع منسجم
في جميع مراحل الحياة؟) [14] . إن وجودنا في هذا العالم وحياتنا فوق هذا
الكوكب من صنع [رَبُّنَا الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] [طه 50] . وإن الله
سبحانه قد هيأ لهذا الإنسان - فضلاً منه ومنّة - كل أسباب العيش الرغيد والوجود
المتوازن، والقصة القرآنية باستعراضها النماذج المختلفة لما كان لينسج على
منوالها ما يكون ولما فات ليبني على منوالها ما هو آت.
لا ندعو إلى استعادة آلية للماضي، ولا إسقاطه على الحاضر دونما مراعاة
خصوصية كل عصر أو مصر، بل ما نريد أن نستحضره في كتابة الأدب وقراءته
ونقده جوهر الحياة التي يريدها القرآن.
ولعل في الأسطر السابقة إجابة على تساؤل الناقدة والدراسة المتعمقة..
__________
(*) نشر القسم الأول هذه الدراسة في العدد 46، ص 56-65.
(**) الكتاب المقدس: مصطلح نصراني شائع يعني العهد القديم والعهد الجديد وتوابعهما
- البيان -.
(1) كليلة ودمنة في الأدب العربي دراسة مقارنة، د ليلى حسن سعد الدين، دار النشر للتوزيع عمان، ص119.
(2) القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته، د فضل حسن عباس، دار الفرقان، عمان، ط 1، 1407/ 1987م،ص12.
(3) نظرات تحليلية في القصة القرآنية، محمد المجذوب 19/120.
(4) القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته، ص 224.
(5) السرد القصصي في القرآن الكريم، ثروت أباظة، ص10.
(6) في كتاب (سيكولوجية القصة في القرآن) ، د تهامي نقرة، الشركة التونسية للتوزيع، ص 124، استظهر أكثر من وجه شبه بين دعوة محمد وموسى -عليهما السلام.
(7) قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح ص 12، أحمد موسى سالم، دار الجيل، بيروت 1987م.
(8) مجلة المنهل، عدد 493، ص 26 رجب 1412، مقال بعنوان: الاتجاه الإسلامي في الشعر الجزائري، د محمد مرتضى.
(9) عنوان الدكتور جابر عصفور لمقالة عن كتاب د نصر حامد أبو زيد [***] ، مفهوم النص، (مفهوم النص والاعتزال المعاصر) والأخير عنوان المقال في: مجلة ابداع، العدد 3، مارس 1991، ص 30.
(***) - نصر حامد أبو زيد: الذي رُفضت ترقيته الى درجة أستاذ بجامعة القاهرة بعدما أحيلت قضية ترقيته إلى "لجنة الشؤون الدينية في الحزب الوطني الحاكم، وهي برئاسة الدكتور عبد الصبور شاهين"، وسبب الرفض هو عدم استحقاقه هذه المرتبة، وقد اتسمت كتابته بالهرطقة والانحلال والاستخفاف بالمقدسات الإسلامية حتى تجرأ على القرآن الكريم في كتابه "مفهوم النص - دراسة علوم القرآن، كما روّج لكل ما يعادي الإسلام في بقية كتبه، وناصره كافة أعداء الإسلام في مصر من ملحدين وشيوعيين وإباحيين، ومنحه الرئيس التونسي وساماً رفيعاً، وهكذا كلما استبدت عقدة الشهرة بجاهل بحث عنها في الهجوم على الدين، وأصدرت مجلة "أدب ونقد"، الماركسية الشيوعية ملفاً دفاعياً عنه، وتضامناً معه وذلك في أيار (مايو) 1993 م تفوح منه عفونة الإلحاد - البيان -.
(10) السرد القصصي في القرآن الكريم، ص 3.
(11) القصص القرآني من العالم المنظور وغير المنظور، عبد الكريم الخطيب ص 22.
(12) الفتاوى 13/345، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مكتبة المعارف الرياض / المغرب.
(13) كسورة يوسف -عليه السلام-.
(14) نقد الرواية، ص 13 انظر أيضاً: نقد الرواية، د نبيلة إبراهيم سالم، النادي الأدبي الرياض، 1980 م.(65/53)
شعر
سراييفو يا.. مدينة المساجد
إبراهيم داود
سراييفو
ماذا تبقّى لديكِ؟ وماذا لديّ؟
اعذريني فليس لديّ سوى جَسَدٍ مُثْخَنٍ بالجراحِ، وقَلْبٍ مُدَمَّى
وحُبٍ كبيرٍ، وإِرْثٍ دفيْن
اعذريني
إذا صار لونُك لونَ الرَّمادْ
وشَبَّ الحريقُ هنا وهناك، وعمَّ الحدادْ
اعذريني فليس لديَّ سوى أوتارِ قلبي، وَذَوْبِ فؤادي، وزَيْتِ عيوني
وأنّي سأبقى على العهد مهما تَجَّرعتُ مُراً وَصَابا
ومهما لَقِيُت على القرب والبعد فيك عذابا..
سأبقى ولو أنّ أهدابَ عينيك أضحتْ حِرابا
سأبقى وأَدْفِن ما بين عينيْكِ وَجْهي
لأِشمَّ طِيبَ رجالٍ يموتون مثلَ الرِّماحِ شبابا
وأبقى يَسُدُّون بيني وبينكِ باباً، فأفتح بابا
* * *
سراييفو
كنّا رفيقيِّ عذابٍ طويلٍ طويلْ
وَصَبْرٍ جميلٍ جميلٍ جميلْ
وَرِحْلَةِ بحث عن الضوِء والدِّفء، والممكنِ المستحيلْ
شقينا سَوِيَّا، شَبِعْنا وجُعْنا
وعند اشتداد الظلامِ افتَرَقْنا وضُعنا
وكانتْ رياحُ السَّمُومِ تُشَّتِتُ خَطْوي
وكنتُ أواصِل زَحْفي إليكِ
بِرَغْم عذابي، وَرَغْمِ عِثاري
وفي زَحْمَةِ الزَّحف والخوف
بيني وبينك كانتْ تموتُ المسافاتُ كالأُمْنِيات
وكنتُ أراكِ كَشَمْسِ النهارِ
* * *
يا سراييفو! أيتها الشهيدةُ الشاهدة! أيتها المجاهدة! أيتها الغريبة!
أيتها البعيدةُ القريبة!
يا دُرَّةَ البلادْ، يا حَبَّةَ الفؤاد
" يا مدينةَ المساجدْ.. " وأنّةً مكتومةً في صدرِ كُلِّ راكعٍ وساجدْ
يا كوكبَ الضياء، يا كَوْثرَ الدُّنى
يا حُزْمِة السناء والسنى
يا بُؤرةَ الآمالَ والآلام والمنايا والمنى
أَذِّني وأكثري من الدُّعاء
وكبِّري وسبحي لخالقِ السماء
تأَلَّقي وأشرقي في الصيف والشتاء
توهَّجي وأحرقي في الصبح والمساء
واصبري وأَبْشِري
ففي غدٍ سيطلع النهارْ
وفي غدٍ ستلبسين ثوبَكِ الجديدْ
وتطلعين من وراء ذلك الرُّكامْ..
بَهيَّةً كأنكِ القمرْ ويكتب التاريخُ في دفاترِ الأيامْ
تاريخك المجيدْ:
سراييفو ملحمةُ الجهاد
وقصةُ الإباءِ والظَّفَرْ(65/59)
شعر
مغامرات هر
فيصل محمد الحجي
يعيش في بيت الشاعر هر أليف..غاب هذا الهر عن المنزل شهراً كاملاً ...
على غير عادته.. وفي يوم من الأيام سمع الأطفال مُواءهُ على الباب فخرجوا ...
متصايحين متدافعين ليفتحوا له الباب.. وخرج الشاعر يستقبله ويسأله: ... ... ... ... ... ادخل رعاك الله يا هرُّ ... طال الغياب وفي الجوى جَمْرُ
فارقتنا شهراً.. وما أَلِفَتْ ... نفسي فراقاً طوله شهر..!
ماذا دهاك؟ وهل لقيتَ أذىً ... حتى تركتَ البيتَ؟ ما السرُّ؟
* * *
أَتُرى وقعتَ بحب شاردةٍ ... حسناءَ في ألحاظها أسر؟
صادفتَها عند الرصيفِ وقد ... مالتْ.. فمال القلب والثغر
ماءتْ.. فَمُئْتَ ودار بينكما ... همسٌ ... وهمس كِلَيْكما جهر
فَمَشَتْ. وسِرْت وراءها وَلِهاً ... وبشائر الآمال تفترّ
ألفيتَها في بيت سيّدها ... كحمامةٍ يصطادها نسر
حتّى إذا ملَّتْ.. وقد وَجَدَتْ ... منك الفتورَ.. تحطّم الجسر
طردتْك زاهدةً.. فعُدْت لنا ... لولا الجفا.. ما عُدْتَ يا هرَ
* * *
أتُراكَ كنت بقصر ذي نَشَبٍ ... رجلٍ كريمٍ مالُهُ وَفْرُ
ووجدتَ أصنافَ الطعام فلا ... بُخْلٌ يقترها ولا حظر
شتّان بين فُتاتِ مطبخنا ... الخاوي وما يُلْقي به القصر
كم لاطفوك وأنت مغتبطٌ ... جذلانُ لا ضربٌ ولا نهر
وتنام فوقَ سرير سيّدةٍ ... يحنو عليك بدفئه الصدر
حتى إذا رحلوا بنعمتهم ... أَضْحَتْ همومكَ ما لها حصر
والجوع أبدى ناجذيه فلا ... لحمٌ تفوز به ولا فأر
فذكرتَ عند الجوع مطبخَنا ... لولا الطوى ما عُدتَ يا هرّ
* * *
أَتُرى مواءك كان مرتفعاً ... رَفْعُ المواءِ نتاجه ضرّ
ولربَّما بعضُ المواءِ له ... معنىً يُسيء لمن له الأمر
وضعوك في زنزانةٍ غضباً ... ضاقتْ عليك كأنّها قبر
قد ذقتَ ألوانَ العذاب بها ... فاليومُ ضِمْنَ سجونهم دهرُ
حتى إذا اكتشفوا البراءة من ... فحوى غبائكَ وانتهى الجورُ
فكوا قيودك ثُمّة اعتذروا ... فشكرتَهم وتكررّ الشكر
تلك السجون حَبَتْكَ حكمتها ... أنّ المواءَ بأرضنا كفر
لو كنتَ مثلَ خروف جارتنا ... لسلمتَ لم ينزلْ بك الضيْرُ
أُنظُرْ إليه في سعادته ... يغفو.. ويسترخي.. ويجتر
كم علّمونا في مداجنهم ... أنَّ السكوتَ على الأذى تِبْرُ
ورجعتَ غيرَ مصدِّقٍ أبداً ... لولا الدُّعا ما عُدْتُ يا هرّ
* * *
أتراكَ أغضبتَ المرور هنا ... ومررتَ قسراً حينما مرّوا
وشرعتَ (بالتفحيط) لم تحفِلْ ... بإشارة التنبيه تحمرّ
وضعوكَ في سجن المرور وقد ... طال المُقام وضامك الأسر
وعزاءُ من يُلقَى بفندقهم ... أنّ المرور سجونُهُ حَشْرُ
ونَسُوك.. لا همُّ يؤرّقهم ... مَنّ أنت؟ لا شأنٌ ولا قَدْرُ
لو كنتُ أعلم جئت ملتمساً ... ودعوتُ أصحابي وهم كُثْر
ليوسِّطوا ذا الشأنِ صاحبهم ... فبهاتفٍ يتضاءل الوزر
مَضَتِ الليالي لم يَبِنْ أَمَلٌ ... وكأنّ ليلك ما له فجر
وَجرَتَ دموعُك في محاجرها ... ممّا جرى.. وتبدّد الصبر
نظر الرقيب وقال حكمته ... وحنا عليك فناله الأجر:
اثنانِ لا تخرِقْ نظامهما: ... الدّينُ -يا فهمانُ- والسَّيْرُ
ورجعتَ نحوَ البيتِ منطلقاً ... لولا الرضا ما عُدْتَ يا هرّ
* * *
أَتُرى غدوتَ تهيمُ في كرةٍ ... جوفاءَ حيث الكرّ والفرّ
كرةٍ بها الأنظار عالقةٌ ... فَهُمُ العبيدُ وطيشها حرّ
حَمِيَ الوطيسُ وثار ثائرهم ... فكأنّها اليرموكُ أو بَدْرُ
شَغْبٌ وتصفيقٌ وهمهمةٌ ... في جوِّها الغوغاءُ قد سُرّوا
حتى إذا انتصر الفريق طَغَتْ ... حُمّى الجنونِ وعربد الفخر
وحماسة الجمهور ترجمها ... صَدْمٌ وضربٌ فيك أو عَصْرُ
ورماك تحت نعالهم أَلَمٌ ... وإصابةٌ في الرأس بل عشر
واستقبل الإسعاف ما حملتْ ... سيارة الإسعاف و " المكرو "
وبقيتَ شهراً في معالجةٍ ... إنّ العلاج أقّله شهر..
ورجعتَ نحو البيت منكسراً ... لولا الشفا ما عدتَ يا هرّ
* * *
أَتُرى ذهبتَ إلى المطار وقد ... أغراكَ ما يلغُو به السَّفْرُ
عن بلدةٍ في الأرض قاصيةٍ ... لكنّها للمشتهي شِبْرُ..
فاض الجمالُ على شواطِئها ... ومِنَ الفنادقِ يشرقُ السحر
فحِسانُها في ساحها بحر ... وطريقها بحسانه نهر
دوّى برأسك بعض ما وصفوا ... والغِرُّ بالأهواءِ ينجرّ
فحشرتَ نفسك في زحامِهمو ... وصعدتَ مستتراً فلم يَدْرُوا
وجلستَ بين (العفش) مختبئاً ... والحرُّ يصبر حين يُضْطَرُّ
واستقْبَلَتْ (بَنْكوكُ) فارسَها ... ومشى بها فانتابه كِبْرُ
حَلُمَ الغبيُّ بأنّ مغنَمها ... سَهْلٌ وأنّ عسيرها يُسْرُ
سينال شهوتَهُ بلا حَرَجٍ ... فهناك لا نَهْيٌ ولا زَجْرُ
* * *
وَقَفَتْ أمامك هرةٌ تزهو ... بجمالها وسلاحها مَكْرُ
فكأنَّ شعر جبينها زهرُ ... وكأنّ دورةَ وجهها بدر
ماءتْ فلم تَفْهَمْ.. ومُئْتَ فما ... فَهِمَتْ.. فغاض بوجهك البشرُ
" وتعطّلتْ لغةُ الكلام " فلا ... نثرٌ يوضّحها ولا شعر
نَظَرَتْ إليك فأبصرتْ ذَكَرَاً ... لا المالُ يرفعه ولا الذِّكْرُ
ورأت وِفاضَكَ خالياً فَأَبَتْ ... أَنْ يعترِيْها الفقرُ والعُهْرُ
لو كنتَ مِنْ أهلِ الثراء لَمَا ... ضَنَّت عليك ونالك الخير
ما تبتغي بالفقر في بلدٍ ... أجواؤهُ وتُرابُه فقر
قد أرخصوا أعراضهم طلباً ... للأصفر الرنّان كي يُثْروا
فارحلْ فلا وَطَراً قضيتَ ولا ... شَرَفٌ يعزُّ بمثلهِ الحرّ
ورجعتَ.. بل هم أرجعوك لنا ... لولا العصا ما عدتَ يا هرّ
* * *
يا هرّ لي رأيٌ أبوح به ... فاسمع فإنّك جاهلٌ غِرّ..
سر في المكان أو الزمان كما ... تهوى.. مداك الكون والدهر
واسْبرْ غوامضَها وقاصيَها ... وانْظُرْ بما يأتي به السبر
ستعودُ يوماً ما لِتخبَرنا ... أَنَّ الحقيقةَ ما لها سِتر
التائهون لدى الخنا كُثُرٌ ... لكنّهم عند القنا صفر
قد نكّسوا راياتِ أمّتهم ... لا (خالدٌ) يغزو ولا (عمرو)
قد آثروا الخضراءَ في دِمَنٍ ... فكأنّ نَتْنَ فجورها عِطر
تلقاكَ تسقيك الهلاكَ كما ... لو تلتقي السكينُ والنحرُ
هذي هداياها تهاجمنا ... " الإْدزُ " والأفيونُ والخمرُ
أين الحرائر قد سَمَتْ نسباً ... والحُسْنُ يكسوهنَّ والطُّهْرُ
تُبدي الوفا والخبزُ بُلْغَتُها ... والزيتُ والزيتونُ والتمرُ
أين البطولةُ في معاركنا ... وعدوّنا مستأسدٌ يَضْرو
ساحاتها طِرْسٌ نسطّرهُ.. ... ودماؤنا لسطورها حِبْرُ
سترى إذا عهد الصبا ولّى ... وبدا خريف العمر يصفّر
وَغدتْ عروضُ البيع كاسدةً ... في السوق.. لم يُدْفَعْ بها سِعر
وتهاوتِ الأوهامُ زائفةً ... وأتى النذير وأَمْرُهُ الأمر:
أنّ الندامةَ لَسْعُها جَمَرُ ... أنّ الخطيئةَ طَعْمُها مُرّ..
طاشَتْ سهامُك هاهنا وهنا ... عَبَثاً رميتَ وأُفْلِتَ الطيرُ
وتمزّقت منك الدّلاءُ.. فلا ... ماءٌ يبلّلها ولا قَطْرُ..
وبقيتَ في تيهِ السرابِ.. له ... قَفْرٌ وخلفَ قِفاره.. قَفْرُ
مَنْ ذا الذي يَهْدي خُطاك إلى ... برّ الأمان.. وقد مضى العُمْرُ
العمرُ مثل البئرِ تنزله.. ... والموت يحفظه لك القعر..
* * *
ُدخل هداك الله يا هرّ ... أرأيتَ أنّك جاهل غرّ؟
* * *(65/62)
التعليق الثقافي
أحدث اكتشافات عصر الانحطاط المعاصر
(اللغة التونسية)
- المحرر الثقافي -
منذ أمد طويل والمعارك تُشَنُّ بعض المعارك، واللغة العربية الفصحى هي ...
المستهدفة في تلك المعارك، وأمّا أعداء اللغة العربية الفصحى فهم كالبعوض كثرة
وأذىً لا يكتفون بما لديهم من جراثيم بل يستوردون وينقلون الجراثيم الخارجية
ليزداد السوء سوءاً، واستيراد المؤذي والضار ليس أمراً جديداً، وإنما عرفه حُمَاة
اللغة العربية الفصحى منذ القديم، وكان فريق الأعداء مكوناً من الأعاجم الشعوبيين
بالإضافة إلى عملائهم الذين هم أكثر منهم ضِعَةً وانحلالاً وتآمراً وأذىً، لأن العدو
الداخلي أخطر من العدو الخارجي لتمكنه من نسف البناء من الداخل.
ذهبت القرون تلو القرون، وانقرضت طبقات وطبقات فخلَّف أنصار اللغة
العربية الفصحى ميراثاً نزيهاً تفوح منه عطور الإخلاص والأمانة، أما الأعداء
فخلفوا ورائهم روائح الخيانة العفنة النتنة.
رفع راية العداء في العصر العباس أعاجم شعوبيون ومجوس، وتتالت
القرون، ومرَّ ما يسمى عصر اليقظة، وهو عصر السُّبات العميق، وأعقبه ما
يسمى عصر النهضة - زيفاً وبهتاناً - لأنه عصر الغيبوبة والخدر، ومصداق ذلك
ما آلت إليه الثقافة العربية التي قُلبت رأساً على عقب، فحلّ الهجين محل الأصيل، والعميل محل الوطني، والخائن محل المخلص، والجاهل محل العالم، والكافر
محل المؤمن، والغبي محل الذكي، وعديم الشعور محل الشاعر، والمغفل محل
النبيه، والأصاغر محل الأكابر، وزُوِّرت الأسماء والصفات فأطلق على الأوضاع
الشاذة مصطلح (عصر الحداثة) ! !
في عصر الحداثة سُنَّت الحروب على اللغة العربية الفصحى، فرُفِعت بيارق
اللهجات العامية الضحلة في أكثر من قطر عربي، وبلغ البعض أسفل درجة من
الانحطاط فدعوا إلى استخدام الحروف اللاتينية محل الحروف العربية، واتخذوا
مما نفذه يهود الدونمة نبراساً يهتدون به.
إن سبب إعلانات الحروب على اللغة العربية الفصحى هي كون تلك اللغة:
لغة القرآن الكريم، ولغة السُّنة النبوية، ولغة التراث الإسلامي بشكل عام. فإذا ما
هُزِمت تسهل هزيمة ما تحتويه من تراث مشرف، فاللغة كالإناء إذا كسر ضاع
محتواه.
لم تتوقف أنواع المعارك، كما لم تقتصر على الدعوات إلى العامية،
واستبدال الحروف، وإلى آخر ما هنالك من جِيَفٍ فاحت عفونتها من مصر وسوريا
ولبنان والعراق والجزائر.
لعل الغريب أتى هذه المرة من تونس الخضراء، وذلك بالدعوة إلى الاهتمام
باللغة التونسية، نعم اللغة التونسية، وربما يدعون إلى القومية التونسية غداً،
والدين التونسي (البورقيبي + ورثته) بعد غد.
لقد تضمنت أخبار الثقافة - خبراً تقشعر منه أبدان الذين ما زال عندهم بقية
باقية من غيرة وحياء. وهذا هو الخبر:
تونس/ إصدارات
كتاب: (الأمثلة الشعبية التونسية) محاولة لتأكيد وجود (لغة) تونسية. ...
تونس 10/5/1993: يتضمن كتاب (الأمثلة الشعبية التونسية) للأستاذ
الجامعي التونسي (الهادي بالغ) مدرس اللغة الفرنسية في إحدى الكليات التونسية،
اعتقاداً راسخاً بوجود (لغة) تونسية بعيدة عن اللغة العربية الأم، وقد جمع فيه
المأثورات الشعبية المتداولة في تونس معتمداً منهجية دقيقة قوامها تصنيف
المأثورات بحسب التوزيع الأبجدي.
وفي لقاء مع (وكالة فرانس برس) لم يعتبر المؤلف كتابه شاملاً لكل
المأثورات التونسية بل خطوة ستليها خطوات أخرى (موضحاً أن فكرة الكتاب
نبعت من تجربته مع صحيفة (لا بريس) اليومية الصادرة باللغة الفرنسية حيث كان
يقوم أسبوعياً بترجمة الأمثلة التونسية إلى اللغة الفرنسية. وبعد ما توافر له عدد
كبير من الأمثال الشعبية جمعها في الكتاب المشار إليه.
وأضاف: إن كتابه (أسس لقيام مُنجد خاصّ باللغة (التونسية) الأمر الذي ...
يحمله على الاعتقاد الراسخ - بوجود لغة تونسية بعيدة عن اللغة الأم العربية) . ...
وقال: إن (الحديث عن لهجة تونسية على غرار اللهجات العربية الأخرى أمر
مغلوط وأوضح: إن (اللغة التونسية) لغة أصيلة يعتمدها أفرد الشعب التونسي في
تخاطبهم اليومي) ، وهي حسب رأيه (وإن تعرضت إلى ضغوطات سابقة نتيجة ...
الاستعمار، تظل دائماً محافظة على شخصيتها المستقلة، وعلى كيانها اللغوي
المتكامل والمتناسق) ، ويؤكد المؤلف أن كتابه (يقيم مصالحة بين الإرث الثقافي
في تونس وبين نخبتها المثقفة) ، ويسعى إلى البحث في ثقافات أخرى ولا سيما
الفرنسية منها عن مأثورات نظيرة لما وجده في المخزون الثقافي التونسي الأمر
الذي استغرقه جهداً كبيراً. وقد أراده قناة تؤمِّن التواصل بين الثقافات الإنسانية في
الجنوب والشمال وفي الشرق والغرب.
ولا ينكر (الهادي بالغ) وجود مأثورات تونسية شعبية منقولة عن اللغة الأم
وهي تُمثل الجانب الأوفر مما هو متداول. كذلك يرى جانباً من هذه الأمثلة متجانس
مع بعض الأمثلة الأخرى المتداولة في أقطار عربية أخرى. ويؤكد على أن نسبة لا
تَقِلُّ أهمية عن سابقاتها تونسية محضة، وهي من إبداعات التونسي، ومعبرة عن
واقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
ويتمنى المؤلف أن يتمكن الكاتب من أن يُطلِعَ التونسي على إرثه الثقافي
الثري وأن يتجاوز رواجه الحدود التونسية على غرار شريط الخرج التونسي (فريد
بوغدير) (عصفور سطح) الذي حقق نجاحات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، ...
لأنه ضمنه أمثلة شعوب أخرى متعددة ناطقة بالعربية والألمانية والسويدية
والإيطالية والإسبانية.
وسيصدر المؤلف الأجزاء الأخرى من (الأمثلة الشعبية التونسية) في مرحلة
لاحقة) .
***
هذا هو الخبر، اكتشاف بحجم المآسي التي تصفع وجه العالم الذي يدعي
الحضارة زيفاً ونفاقاً، ومختصر القول: من تونس لم يأت الجديد، وإنما من هناك
فاحت رائحة العداء للغة العربية بعد معاداة الإسلام والمسلمين.(65/68)
المسلمون والعالم
مأساة البوسنة و (الحل الغربي)
رصاصة الرحمة
د. علي عبد الرحمن عواض
الإجماع الأوروبي الاميركي:
لمدة أشهر وأسابيع بقيت الولايات المتحدة تتلاعب بعواطف المسلمين وتدغدغ
مشاعرهم بالعزف على وتيرة التدخل العسكري لحماية (ضحايا الإجرام الصربي) ...
وتهدد برفع الحظر (حظر التسلح) عن البوسنة حتى يتمكن سكان البلد وجيشه من ...
حماية أنفسهم. ظلت أميركا تزيد من حدة وتيرة التدخل العسكري وضرب مواقع ...
الصرب.. حتى أوهمت المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة بأن الفرج اقترب، ...
وأن الضمير الإنساني لا بد وقد استيقظ حتى كتبت جريدة الاندبندنت في عنوانها
الرئيسي [1] : (أوين يستجدي الأميركيين ألا يطلقوا النار) .
لكن الأحداث الأخيرة نقلت لنا صورة أخرى فقد وافق الأميركيون أخيراً
(ورضخوا للإصرار الأوروبي) ووقعوا على خطة جديدة لحل مشكلة البوسنة ...
والهرسك راعت (مشاعر الأوروبيين) وأخذت بالاعتبار الموقف الروسي الموالي ...
للصرب. وقع على (مشروع العمل المشترك، كل من أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا وإسبانيا. بينما وقفت ألمانيا (وهي السند الأصلي لكرواتيا) موقف الناقد ...
والمشكك فيما توزعت الدول الأخرى بين مؤيد ومشكك ومعارض. معظم
المعارضة جاءت من باكستان وفنزويلا.
والخطة الجديدة هي عملية تقزيم جديدة - إن لم نقل إنهاء فعلي - للدولة
البوسنوية ولوجود المسلمين في هذا البلد، فالمناطق الآمنة هي جيوب سكانية -
مدن وقرى محيطة بها - تقل مساحتها بكثير عن مساحة الأقاليم التي حددها
الوسيطان الدوليان - سايروس فانس واللورد دايفد أوين في تقسيمها للبوسنة إلى
عشر مناطق عرقية بين المسلمين والصرب والكروات.
طبعاً الخطة كان لها وقع الصاعقة على مسلمي البلاد حيث صرح رئيس
البلاد علي عزت بيكوفيتش أن الخطة هي (خيانة) لقضية البوسنة والهرسك ودعا
شعبه إلى (القتال) لأنه (على ما يبدو فإن الحل الأوحد لإثبات حقنا في الوجود
والأرض.. إننى أدعو شعبي وكل المحبين لهذا البلد أن يتوحدوا ويقاتلوا من أجل
إبقائه ومن أجل إثبات وجودهم) [2] .
الصرب رحبوا بالخطة ورأوا فيها اعترافاً دولياً (بانتصاراتهم العسكرية) ...
ووصفوها (بالواقعية) مشيدين بالرئيس الأميركي على (مواقفه الحازمة) وبأنه ...
(سوف يكون رئيساً عظيماً لأنه لم يستمع إلى نصائح محبي الحروب ممن أرادوا أن
يقحموا الولايات المتحدة في فيتنام أخرى) [3] ، كما جاء على لسان زعيم صرب
البوسنة رادوفان كاراداجيتش. الكروات بدورهم لم يعلنوا رفضاً أو قبولاً لأن الأمر
لا يرتبط بهم كثيراً ولكون هذه الجيوب (مناطق آمنة) في إطار صربي صرف.
تهدف الخطة إلى حماية (ستة مناطق) أعلنتها الاتفاقية (مناطق آمنة) . ولا تتعرض لمئات الآلاف من المسلمين تحت سيطرة القوات الصربية والكرواتية أو المشردين في أنحاء أخرى من العالم. كما تهدف الخطة لوضع مراقبين دوليين على الحدود بين صربيا والبوسنة وزيادة عدد الجنود العاملين ضمن قوات الأمم المتحدة لحماية (المدنيين الأبرياء) كذلك وافقت على استمرار الحظر الجوي على البوسنة و (التحرك بسرعة لتشكيل محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب والسعي إلى تنفيذ خطة السلام الدولية على مراحل) .
المناطق (الآمنة) التي وافقت عليها أوروبا وأميركا وأقرتها الأمم المتحدة لا ...
تمتلك من مقومات الاكتفاء الذاتي شيئاً. فالصرب الذين يحاصرونها من جميع
جوانبها يستطيعون خنقها متى شاؤوا وبهذا فهي مناطق آيلة للسقوط آجلاً أم عاجلاً
للصرب الذين أكملوا المرحلة الأولى من إقامة دولة صربيا الكبرى.
المعلقون السياسيون والإعلاميون وصفوا هذه المناطق بأنها: (ليست سوى
مخيمات واسعة للاجئين لا تمتلك من مقومات القوة الذاتية شيئاً وتعتمد كلياً على
العالم الخارجي لاستمرارية بقائها. لذا فإن سقوطها أمر حتمي) [4] .
تقول مجلة الإيكونومست: إن هذه المناطق الستة (يمكن تسميتها بأي شيء إلا
بالآمنة، والمسلمون على ما يبدو بعيدون جداً عن الأمن في هذه المناطق فهي
محاصرة مخنوقة من الخارج ومزعزعة من الداخل اجتماعياً واقتصادياً ... على ما
يبدو أنه ليس هناك مستقبل للبوسنة (الحكومة البوسنية)) [5] .
ومع أن هذه المنطقة أُعلنت رسمياً (مناطق آمنة) فإن القصف العنيف
والحصار والهجوم عليها مستمر - بل بعنف لم يُشهد من قبل - ويبدو أن الأمم ...
المتحدة نفذت لديها تعابير الاستنكار لذا لم يكن رد الفعل - بالمستوى - حتى كلامياً. ...
الرئيس الأميركي الذي ندد في 21 أيار/ مايو بفكرة المناطق الآمنة رافضاً أن
يورط الولايات المتحدة في قضية ينتج عنها إيرلندا شمالية أو قبرص أو لبنان
آخر [6] .. عاد فصرح بعد يومين (23/5/1993) وأشاد (بالحل العملي الأمثل ... الذي سيكون الخطوة الأولى والمرحلة لإحلال السلام في البوسنة. واعتبر أن هذه الخطوة هي لمصلحة الشعب الأميركي ذاته! !) (الغارديان 24/935) . ...
عملياً فالخطوة الأميركية-الأوروبية الجديدة هي إنهاء، وبشرعية دولية،
لوجود البوسنة والهرسك كدولة ذات سيادة تتمتع بحريتها واستقلالها وتحويلها إلى
مخيمات كبيرة للاجئين يجردون من سلاحهم ويحبسون فيها.
الحلول البديلة:
كانت هناك بعض المعارضة داخل الولايات المتحدة كتلك التي برزت من
الديموقراطيين والجمهوريين الذين صرحوا على لسان نائبهم في البرلمان بوب دول: ... (أن الخطة جاءت لتمحي من الوجود شيء اسمه دولة البوسنة والهرسك) . وقد ...
صرح النائب الديموقراطي دانيال باتريك مونيهام: (إننا بهذا نُشَّرع للقتل الجماعي
والمجازر.. لم يشهد النظام الدولي ذلاً وعوجاً أخلاقياً لهذا منذ العام 1930) .
الدول الإسلامية - (بكل ما عُرف عنها في الفترة الأخيرة من حزم وشدة
وقرار) - عملت مع (الدول غير المنحازة) على إعداد مشروع قرار هدفه ...
(إطاحة استراتيجية الاحتواء للنزاع البوسنوي التي تبنتها الولايات المتحدة وروسيا
وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا في واشنطن في إطار ما يسمى برنامج العمل
المشترك) [7] .
ويدعم مشروع القرار استعداد عدد من الدول الإسلامية مثل باكستان والمغرب
للمساهمة بقوات ضمن إطار قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك
وذلك لحماية المسلمين شرط (تمكين القوة الدولية من اتخاذ إجراءات لفرض التنفيذ، وشرط ربط حماية المناطق الآمنة في إطار زمني بتنفيذ خطة فانس أوين للسلام
لئلا يتكرس الأمر الواقع الذي أفرزته سياسة التطهير العرقي الصربية) [8] . وقد ...
أصدرت منظمة المؤتمر الإسلامي بياناً دعت فيه إلى توسيع قوة الحماية الدولية
لتشمل قوات الدول الإسلامية وأعربت باكستان عن استعدادها لإرسال كتيبة من
حوالي 400 جندي. ورحب الأوروبيون بالفكرة شرط انتقاء دول إسلامية مثل
مصر والمغرب والأردن وماليزيا وأندونيسيا وباكستان كرد على بلاغ الأمين العام
للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي أن (العجز بالميزانية والقوات يجعل الأمانة
العامة غير قادرة على تعزيز الحماية في المناطق الآمنة والذي يتطلب حوالي 10
آلاف جندي و700 مليون دولار) ..
(ودبت النخوة) في أحد السفراء المسلمين في الأمم المتحدة فصرَّح إثر
الاجتماع: (إن حجة الأوروبيين - خاصة الفرنسيين والبريطانيين منهم - أن عدم
فرض التنفيذ في البوسنة - الهرسك هي الحرص على سلامة وأمن قواتهم العاملة
في إطار قوة الحماية الدولية وأمنها، لذا فإن ردنا هو أننا على استعداد لإرسال
قواتنا والمخاطرة بأرواح شبابنا في البوسنة (..) ونريد بذلك منع تكرار التذرع
بالحرص على سلامة شبابهم (..) فلقد طفح الكيل) [9] ! !
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ يا مربع
مناطق آمنة أو خطة فانس - أوين:
الأوروبيون والاميركيون الذين وقعوا على وثيقة أو برنامج (العمل المشترك) ...
والذي شاعت تسميته (مشروع المناطق الآمنة) علقوا على النقد الذي وجه إليهم
بأن خطتهم هذه ليست خطة جديدة بل هي خطوة عملية أولى لتطبيق خطة فانس -
أوين التي وافقت عليها الأمم المتحدة.
وبما أن المسلمين في وضع (كلما أشرق عليهم يوم ترحموا على الذي قبله)
أخذوا يطالبوا بالالتزام الكامل بخطة السلام الأولى والتي وقع عليها رئيس الدولة
علي عزت بيكوفيتش، وكان الكروات قد وقعوا عليها مسبقاً ورفضها الصرب
رفضاً قاطعاً، بعد أن وقع عليها زعيم صرب البوسنة كارادجتش معلقاً توقيعه
بشرط قبول برلمان صرب -البوسنة للاتفاقية وقد أجري استفتاء شعبي للصرب في
البوسنة أظهر رفضاً كلياً للاتفاقية. فإذا كانت الاتفاقية تحرم المسلمين من معظم
حقوقهم وتعطي للصرب والكروات أكثر مما يستحقون فلماذا يرفضها الصرب.
طبعاً الجواب المبدئي هو أن الصرب الذين لا يواجهون - على المدى البعيد
أو القريب - بأية قوة توقفهم عند حدهم، يرون أنه لا داعي لأن تتوقف (انتصاراتهم) عند هذا الحد. بل يجب أن يستكملوا مخطط إقامة دولة صربيا
الكبرى طالما الظروف العسكرية والسياسية (والإسلامية) ملائمة لهذا المشروع.
عرف الصرب من أين (تؤكل الكتف) وكيف. فقد أعدوا إلى جانب القوة ...
العسكرية الطاحنة جواً (شرعياً) داخل مناطقهم وبلادهم لتقبل فكرة إنهاء الوجود
الإسلامي في هذا القطاع من (أوروبا المتحضرة) . فكارادجتش نفسه شاعر قومي
طالما أثار حماسة أهل بلاده بقصائده الوطنية المليئة بالحقد والنقمة على الإسلام
وأهله. وأصدرت كنائسهم ورجالات دينهم (الفتاوى) بقتل المسلمين وسبي نسائهم
وإبادة أطفالهم وتدمير ممتلكاتهم أو مصادرتها وطردهم منها إلى غير رجعة.
الكنيسة الشرقية التي لا زالت تعيش مشاعر هزائمها مع الأتراك المسلمين
وجدت الفرصة سانحة للثأر ولإعادة الكرة عليهم. لذا وجدنا أن ناقوس الحرب قد
دُقّ في مناطق (أرثوذكسية) أخرى ليلبي أبناؤها نداء الدين في اليونان ورومانيا
وروسيا.. حتى وصلت أعداد مرتزقة تلك المناطق عشرات الآلاف ممن جاءوا (ليحموا الكنيسة من الأصولية الإسلامية) .
وقد عرف الصرب أيضاً من أين تؤكل الكتف (سياسياً ودبلوماسياً) . فقد ...
شاركت وفودهم في المفاوضات من أمريكا إلى بريطانيا إلى.. جنيف باسطين
الغطاء على العمل العسكري الذي لم يتوقف يوماً واحداً داخل البوسنة-الهرسك.
هكذا يأتي أعداء الإسلام إلى طاولات المفاوضات ورأينا كيف أتاها المسلمون أو من
يمثلهم في البوسنة وغيرها.
(الحلفاء المخلصون) ؛ الكروات:
منذ اندلاع الشرارة الأولى للحرب الشاملة في البوسنة والناس تتداول أخبار
الحلف الكرواتي - المسلم في هذا البلد فحيناً يصفه بعض المراقبون بأنه حلف (صادق) وثابت لأن الكروات والمسلمين بحاجة إلى الوقوف في صف واحد أمام
جحافل الصرب القادمة من صربيا والجبل الأسود لتدعم كتائب صرب البوسنة
ومرتزقتها من روس ويونانيين، جاؤوا ليحموا الكنيسة الأرثوذكسية من (خطر
الأصولية الإسلامية) . وحيناً كان (المشككون) يرون أن الكروات يستغلون
المسلمين كوقود لمعركة يعرفون أن المسلمين لن يخرجوا منها إلا بخفي حنين
خاصة وأن (التجاوزات) التي كان يرتكبها عساكر الكروات كانت تزودهم بالأدلة
على صحة ادعاءاتهم، وبعد أن نشرت الصحف الألمانية خطة تودجمان -
ميلوسيفيتش [10] لتقسيم البوسنة وضمها إلى كرواتيا الكبرى وصربيا الكبرى
نشطت الزيارات وكثرت التصريحات لتؤكد أن لا صحة لهذا الادعاء وأن الكروات
متعهدين بوعودهم تجاه (رفاق السلاح) و (أصحاب الحق الشرعي) حكومة
البوسنة والهرسك.
وجاءت الحقائق والأحداث لتدفع بالأدلة وثيقة الخداع والنفاق الكرواتي وتبرز
حقدهم وتميط اللثام عن أنياب أبناء الكنيسة الكاثوليكية وحقيقة نواياهم تجاه هذه
الدولة الوليدة، فقد أبرز الكروات نواياهم علناً بعد العدوان الخفي المستمر والمتمثل
بحرمان جيش البوسنة من الإمدادات التي لا بد وأن تمر عبر الأراضي التي تسيطر
عليها القوات الكرواتية مباشرة بعد توقيع الرئيس البوسني علي عزت بيكوفيتش
على خطة السلام المقدمة من سايروس فانس واللورد أوين (وهو ما عرف بخطة
فانس -اوين) . وقبل التوقيع عليها أعطى الرئيس الكرواتي توجمان اليمين المغلظة
لرئيس البوسنة بأن جميع المساعدات على اختلاف أنواعها ستصل إلى قوات
الجيش البوسنوي بدون أي عراقيل فور توقيع الرئيس البوسنوي على الخطة.
وهذا ليس سراً فقد غطته وكالات الأنباء والصحافة الكرواتية قبل غيرها.
ولكن كعادتهم في حفظ العهود، قام أعداء الإسلام الكروات وبتوجيه من
رئيس الدولة الكرواتية بهجوم عسكري واسع شمل جميع المدن ذات الغالبية المسلمة
التي ضمها الوسيطان الدوليان إلى الجانب الكرواتي. وقد سبق الهجوم تحذير
وإنذار من القوات الكرواتية للجيش البوسني والمسلمين بأن (الجيش الكرواتي) ...
يجب أن يأخذ السيطرة على جميع المناطق الكرواتية. لذلك لا بد لجيش البوسنة أن
يذعن لأوامر قوات مجلس الدفاع الكرواتي، أو يسلم أسلحته أو يغادر فوراً الأقاليم
الكرواتية إلى الأقاليم المسلمة (كما جاء في المؤتمر الصحفي للناطق الرسمي
لمجلس الدفاع الكرواتي في 15/4/1993. علماً بأن الأقاليم المسلمة محتلة
بمعظمها من الصرب..
المدن والقرى التي يتحدث عنها الكروات هي مدن ذات غالبية إسلامية، وقد
ضمها الوسيطان إلى الأقاليم الكرواتية، ونظرة فاحصة في بعضها يوضح الأمر:
----------------------------------------------
المدينة عدد السكان [11] مسلمون: كروات: صرب: آخرون
----------------------------------------------
موستار 1260067 35% ... 34% 19% 12%
ستولاتس 180845 44% ... 32% 12% ... 3%
يابلانيشا 664 120 ... 72% ... 18% 4% ... 6 %
كونيتس 636 430 55% 26% ... 15% 4 %
ترادينك 401 700 ... 45% 37% ... 11% 7%
دوني واقف 232 240 55% 7% ... 38% ... -
غورني واقف130 250 56% 42% ... 1% ... 1% ...
بوغوينو 834 460 42% ... 34% ... 19% 5%
----------------------------------------------
لم يختلف الكروات كثيراً عن إخوانهم الصرب في معاملة المسلمين في
المناطق التي سيطروا عليها أو هاجموها. فقد طبقت القوات الكرواتية سياسة
الصرب بحذافيرها إذا لم نقل أنهم (أبدعوا) أكثر في إجرامهم. فسياسة التطهير
العرقي وقتل المدنيين الأبرياء وإحراق القرى المسلمة على أهلها ونهب الممتلكات
واغتصاب النساء والبنات القاصرات والذبح والتمثيل بجثث الشيوخ والأطفال أو
زجهم في السجون وإجبار المدنيين على حفر الخنادق في خطوط القتال مع المسلمين
أو استخدامهم كدروع بشرية في المواقع الكرواتية.. من معالم (الوفاء الكرواتي) ...
لمسلمي المنطقة.
مشاهد وأمثلة:
رافق الهجوم العسكري تخطيط لإذابة أي وجود إسلامي في تلك المناطق التي
يعتبر المسلمون غالبية في معظمها وذلك من خلال تطبيق الإجراءات التالية:
- فرض اللغة الكرواتية في جميع المراحل الدراسية عند المسلمين في الأقاليم
التي أصبحت من نصيب الكروات وفرض مناهج التدريس في جمهورية كرواتيا.
- إلغاء اسم (جامعة موستار) وفرض اسم (الجامعة الكرواتية بموستار) .
- تدمير المساجد (وبعضه ضارب في التاريخ قدماً إلى ما يقارب الـ 500
سنة) وإقفال جميع المؤسسات الإسلامية أو ذات التوجه البوسنوي المسلم. وقد نقلت
أجهزة الإعلام صور المساجد المدمرة والمآذن المتهاوية شاهدة على المؤامرة
الصربية - الكرواتية وخذلان العالم الإسلامي لهم. وقد تزامن ذلك مع حملة
الصرب لتدمير المساجد، خاصة الأثرية منها، في بانيالوقه وغيرها..
وقف مراسل التلفزيون البريطاني أمام أنقاض منزل أحرق كغيره من منازل
القرى التي هاجمها الكروات وقال: (اعتقد بأن المشهد لا تتحمله أعصاب ...
المشاهدين، ولكن لا بد من القول أن ما يحصل هنا أقل ما يمكن وصفه هو أنها
حملة لا ترحم طفلاً ولا امرأة ولا عجوز.. إنها حرب ضد الإنسان وحضارته) .
استخدمت القوات الكرواتية في جميع الجبهات الدبابات والمدفعية الثقيلة
لقصف المدنيين وضرب تجمعات اللاجئين.
- يوم 16/4/1993 مسحت القرية المسلمة الشهيرة (أحميتشي) في بلدية
(فيتيز) بالأرض. وقد نقل شهود عيان - ومنهم أفراد القوات الدولية - أن
الكروات أشعلوا النيران في البيوت وأجبروا الأمهات مع أطفالهن والعجائز على
القفز من الدور الثاني أو الثالث من المنازل الملتهبة. ثم بدأوا يجربون مهارتهم
القتالية بإطلاق النار عليهم وهم في الهواء.. والملفت للانتباه في القضية أن الإعلام
الكرواتي أشاع أن المسلمين قاموا بإحراق البلدة وقتل أهلها (بهدف إثارة الخلافات
بين المسلمين والكروات) ! !
- أحرق الكروات قرى روتيلويشينيسا وباليز ونهبوها واغتصبوا النساء
والبنات القاصرات وأحرقوا المساجد وساقوا أكثر من 2. 800 مسلم إلى ثكنة
الجيش بينهم الأئمة والدعاة وأبرز المثقفين في المنطقة لتبدأ معهم سلسلة التعذيب
والتقتيل.. الأخوي.
هذا غيض من فيض ما نشرته وسائل الإعلام الغربية والعربية وما لم ينشر
فحدث عنه ولا حرج. وبالتحديد الاتفاق الذي نشرت تفاصيله الصحف العالمية في
16 حزيران 1993 حيث توصل الكرواتيون والصرب في مدينة تشيليبيتشي
جنوب غرب البوسنة والهرسك إلى اتفاق ينظم عملية نقل السكان واستكمال عملية ... (التطهير العرقي) بينهما بدون إراقة دماء إن سياسة (فكي الكماشة) التي يتعاون الصرب والكروات على تطبيقها لكسر المسلمين تؤكد كلمات الرسول الأعظم - وكل ما قاله حق - (أمة الكفر واحدة) وصدق الله القائل: [ولَن ترْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ..] [البقرة: 120] .
صناعة فلسطين جديدة:
أوجه الشبه بين مأساتي البوسنة وفلسطين أكثر من أن تعد وتحصى. ففي كلا
البلدين نجد أن العصابات والمرتزقة تأخذ بزمام المبادرة لتقوم بحملة شعواء على
الأهالي الأصليين في البلاد فتذيقهم أشد التنكيل في عمليات وحشية من قتل وبقر
بطون الحوامل من النساء، والاعتداء على الأعراض والممتلكات كتفريغ البلاد من
أهلها الأصليين لتهيئتها لقدوم جحافل من مرتزقتهم لتقيم دولة على أنقاض دولة أهل
الحق من أبناء البلاد.
وفي كلا الحالتين وقف العالم (المتحضر) إلى جانب المعتدِي لأن المعتدَى ...
عليه هو الإسلام وأهله. وطبعاً فإن الأمم المتحدة، والتي وجدت لمثل هذه
الأغراض، لا يسعها إلا أن تتبنى مواقف الكبار فيها وهم الأوربيين والروس
وأميركا، وموقفهم وتاريخهم مع الإسلام معروف.
ففي عام 1947 لجأت الأمم المتحدة إلى حيلة قذرة لتكريس شرعية الاحتلال
اليهودي بتبني قرارات التقسيم لتبدأ مرحلة الحوارات التي لم يحصد أبناء فلسطين
إلا مزيداً من الويل والضحايا والضياع. وهل يختلف الأمر كثيراً عندما تتبنى الأمم
المتحدة في 5/6/1993 قرار تقسيم البوسنة (على أن يبدأ بعدها الأطراف الثلاثة
مفاوضات من أجل حل القضية بالطرق السلمية) . فهل حلت المفاوضات السلمية
قضية ملايين اللاجئين الفلسطينيين وأين أصبح الفلسطيني اليوم؟ !
كتبت جريدة الاندبندنت البريطانية (25 /5/1993) مقالاً تحليلياً بعنوان ...
(فلسطين أخرى قيد التصنيع) (Another Palestine in the Making)
نترجم منه النقاط التالية:
(بغض النظر عن صحة أو خطأ الاتفاق الأميركي الأوروبي فإنه - أي
الاتفاق - لا بد أن يُرى على أنه نموذج آخر لنتائج أول حرب عربية-إسرائيلية
عام 1948 والتي أدت إلى تهجير 70. 000 فلسطيني من بيوتهم. الأمر الذي
أدى إلى تسميم ليس المنطقة فحسب بل والعلاقات الدولية منذ ذلك الحين) .
وسيراً على منهج الصحافة الغربية - والعربية هذه الأيام - في التحذير من
الإسلام و (أصولييه) فقد أضافت الأندبندنت: (.. المحزن جداً والخطير في هذه
القضية أن هؤلاء الضحايا من الاعتداءات الكرواتية والصربية وغياب القرار
الغربي هم الذين قدموا أنموذجاً جيداً لمجتمع متسامح متطور وغير متدين من
المسلمين. إن سقوط مثل هذا المجتمع تحت ضربات الديموقراطية الغربية سوف
تجعل من هذه الفئة من الناس أرضاً خصبة للمتطرفين والأصوليين المسلمين من
إيرانيين وسعوديين. إن السعودية لن تتردد في مساعدة ودعم هؤلاء الناس لبناء
مدراس وجامعات ومساجد. وطبعاً فلن يكون هناك نقص بالإمدادات العسكرية التي
سوف يستخدمونها لتوسيع دائرة) مناطقهم الآمنة (.. وعندها فإن التاريخ لن يرحم
المسؤولين عن مثل ما سوف يحدث) ! !
يهاجمون المسلمين ويخوفون منهم حتى في أحط وأدنى مراحل وجودهم. نعم
إن المعركة ضد الإسلام سوف توقظ كثيراً من النائمين في تلك البلاد، ولكن هل
هي حرب ضد (المتطرفين) المسلمين في البوسنة والهرسك؟ وهل لهم وجود
هناك؟ !
هل يقتل الطفل ابن الأشهر الثلاثة - حتى الجنين في جوف أمه المغتصبة -
لأنه متطرف أصولي يهدد بقنابله ومتفجراته سلام العالم وأمنه واستقراره. [قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [التوبة: 30] .
الاجتماع الثلاثي الذي حضره رؤساء كل من صربيا وكرواتيا والرئيس
البوسني علي عزت في جنيف في 16/6/1993 على ما يبدو قد وضع النقاط على
الحروف وأسدل الستار عن آخر مشاهد المسرحية - المأساة التي سميت مفاوضات
السلام.
فالاجتماع أسفر عن خطة (معدلة) لمشروع فانس - أوين ينص على تقسيم
البوسنة إلى ثلاث دويلات عرقية بدلاً من عشرة أقاليم. وبهذا يكون الصرب
والكروات قد بدأوا المرحلة الثانية بعد الإجهاز على الهيكلية السياسية والعسكرية
لحكومة البوسنة وشعبها في المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية هي بعينها إرهاصات المرحلة الأخيرة والتي تهدف إلى إتمام
المشروع بضم الأجزاء المغتصبة من البوسنة وضمها إلى دولتي صربيا وكرواتيا
ليبقى الجانب الإسلامي هو الطرف الخاسر الأوحد في معركة رفع فيها المسلمون
خيرة أبنائهم وأكلت ماكينة الحرب إمكانياتهم ولوثت كراماتهم أمام عدسات العالم
المتحضر! !
فهل يعتبر المسلمون من أن جولة السكين ليست بعيدة عن أعناقهم إذا لم
ينتبهوا ويواجهوا مأساتهم والواقع بأنفسهم وليس باستجداء العدالة والنصر من
مؤسسات قامت أصلاً لإذلال المسلمين وكسر شوكتهم. غداً تنتهي السكين من أعناق
مسلمي البوسنة والهرسك لتعمل في رقاب مسلمين آخرين في مكان ما من العالم.
وتستمر العلاقات الرسمية مع حكام صربيا وكرواتيا لأنهم من (الدول الصديقة)
ومن (مجموعة دول عدم الانحياز) وكأن شيئاً لم يكن. وبين شدة وصرامة الأمم ...
المتحدة في الصومال وضعفها وليونتها في البوسنة يبقى الدم الإسلامي يسير مهراقاً
باسم الشرعية الدولية.
أرقام للمقارنة [12]
المسلمون 45% من السكان يسيطرون على 14% من الأرض
الكروات 17% من السكان يسيطرون على 13% من الأرض
الصرب 31% من السكان يسيطرون على 70% من الأرض
سراييفو ومحيطها: منطقة سيطرة مشتركة.
خطة المناطق الآمنة
الخطة تحِّول مناطق المسلمين إلى مخيمات كبيرة تعج باللاجئين دون أي
ضمانات مستقبلية أو مقومات الاستقلال. الخطة الأخيرة التي وافق عليها الصرب
والكروات وديفيد أوين ورفضها المسلمون لم تنشر تفاصيلها بعد ولكنها تقترح تقسيم
البوسنة إلى ثلاث ولايات: واحدة للصرب وأخرى للكروات وثالثة للمسلمين
(وتتألف من شقين الأول في وسط البوسنة والثاني في مقاطعة بيهاتش في الشمال
الغربي من البلاد مع حق استخدام مرفأ على البحر الأدرياتيكي تحت حماية الأمم
المتحدة) . والخطة تقلص مناطق المسلمين أكثر مما اقترحته خطة فانس أوين وتبقي
على المناطق التي احتلها الصرب والكروات كجزء من ولاياتهم.
__________
(1) الاندبندنت، 3/5/1993.
(2) الغاردين , 26/5/1993.
(3) التايمز، 26/5/1993.
(4) الاندبندنت، 27/5/1993.
(5) الإيكونومست، 327 تاريخ 29/5-4/6 1993.
(6) الاندبندنت , 27/5/1993.
(7) الحياة، 29/5/1993.
(8) الغاديان , 29/5/1993.
(9) الحياة 29/5/1993
(10) إشارة إلى الاتفاق السري بين كراوتيا تودجمان والصربي ميلوسوفيتش في مدينة كارجورجيفو عام 1991، وقد نشرت الصحف الألمانية تفاصيل الاتفاقية في يونيو / حزيران 1992
(11) الأرقام الواردة في الجدول مأخوذة من مصادر رسمية، ولكن المسلمين وإحصائياتهم تفيد أن أرقام المسلمين ونسبتهم أكثر من ذلك
(12) الأرقام الأصلية قبل التهجير القسري.(65/73)
كابل
وأزمة التحالفات الهشة
أحمد الإدلبي
رغم مرور عام على وصول المجاهدين الأفغان للسلطة في كابل لم تظهر في
الأفق أية علامة على اتفاق فيما بينهم بتشكيل حكومة جديدة [*] مجمع عليها من
قبل كافة الأطراف لتدير البلاد بقوة وحزم خاصة في بلد عُرف بتنائي أراضيه
وعدم توفر المواصلات والاتصالات بين الولايات وبين الأطراف والمركز أيضاً
إلى جانب قيام كل حزب أو فصيل أو قبيلة بإدارة شئون منطقتها بمعزل عن
الآخرين خاصة مع إقامة إدارة كل إقليم علاقات مع دول مجاورة تسهل عليه
التمويل والاتصالات والخبرات ونحو ذلك.
وما تزال الخريطة الأفغانية مرشحة لعديد من الهزات والزلازل ما دامت
خريطة التحالفات في تقلب مستمر فحليف الأمس عدو اليوم والعكس صحيح.
خاصة وأن هذه التحالفات لم تقم على أرضية مشتركة في الهدف والمصير والواقع
وإنما تحالفات آنية تفرضها ظروف وقتية إما بظلم الأخ لأخيه حيث يدفع الواحد
منهم لإيجاد أي تحالف مع عدو الأمس حتى يستطيع الصمود أمام عاديات المرحلة.
لعل الاجتماع الأخير الذي ضم الرئيس برهان الدين رباني ورئيس وزرائه
قلب الدين حكمتيار وعبد رب الرسول سياف أمير الاتحاد الإسلامي في بغمان (20كم غرب كابل) حيث معقل الأخير لعل هذا اللقاء يجسد جانباً من الأمل الذي طالما
دغدغ المخلصين من أبناء الأمة في لم شمل المخلصين الذين حمَّل بعضهم جانباً
مهماً من المأساة لسياف الذي وقف إلى جانب الحكومة في كابل والتي تضم ...
جنرالات الشيوعيين البارزين أيام حكم نجيب الله من أمثال الجنرال عبد الرشيد
دوستم والجنرال باباجان قائد الفيلق المركزي في كابل والقائد عبد المؤمن قائد
الميليشيات الشيوعية المعروفة إضافة للجنرال آصف ديلاور، وفريد مزدك وبابرك
كارمل ومحمود بريالي وآخرين.
وتقول مصادر الحزب الإسلامي في بيشاور: إن اجتماع بغمان كان مشجعاً
حيث علق حكمتيار آمالاً على اللقاء والذي وافق فيه رباني وسياف على إرسال
وزرائهم إلى مجلس الوزراء الذي يقوده حكمتيار حيث كان وزراء الحزبين قد
تغيبوا عن اللقاءات التمهيدية للحكومة في محاولة وصفت بأنها إصرار على إفشال
حكمتيار في لقاءاته، ويبني المعلقون والمراقبون كثيراً على اللقاء لأنه الوحيد الذي
حصل منذ سقوط نجيب الله في إبريل (نيسان) العام الماضي بدون وسطاء خارجيين
أو داخليين. ويبدو أن لقاء بغمان إن كان كما صُوِّرَ من الإيجابية والتفائلية فحينها
سيكون على هذا التلاحم بين القادة الثلاثة أمرين:
الأول: ما بدأ يظهر على العلن من لقاءات بين قادة الفصائل الشيوعية من
خلق وبرشم حيث عقدوا في مارس (آذار) الماضي لقاءً في موسكو، ثم تبعه
اجتماع في مدينة بيشاور معقل حزب العوام القومي - (اليساري) التوجه-، والذي
يقوده عبد الولي خان، وكان من ضمن الحاضرين سليمان لاتعد وزير الحدود
والقبائل السابق والجنرال محمد رفيع نائب الرئيس نجيب الله سابقاً والجنرال أسلم
وطنجار وزير الدفاع السابق وبابرك شنواري رئيس منظمة الشباب الشيوعي
وغيرهم كثير.
ومعلوم أن قادة الحزب الشيوعي الأفغان بشتية (برشم) الراية، وخلق ...
(الشعب) قد تفرقوا بين مزار شريف - حيث معقل المليشيات الأوزبكية بزعامة
الجنرال عبد الرشيد دوستم الذي فك ارتباطه شكلياً مع نجيب الله في أبريل (نيسان)
العام الماضي ليتحالف مع أحمد شاه مسعود رئيس مجلس شورى النظار للإطاحة
بنجيب الله - وبين موسكو ودلهي وبيشاور ويعمدون حالياً على تجميع أنفسهم
بالتحالف مع المعتدلين من الأفغان خاصة الجبهة الإسلامية التوجه بزعامة بيرسيد
أحمد جيلاني لعقد اجتماع في قندهار معقل الملك الأفغاني ظاهر شاه للمناداة به كملك
للبلاد. وكان بعض القادة من الحزب الشيوعي (الوطن حالياً) زاروا مقره وناقشوا
المسؤولين هناك بالأمر. وتجدر الإشارة إلى أن جيلاني نادى مؤخراً وعلناً بعودته
رغم توقيعه اتفاق جلال آباد الذي ينص على عقد انتخابات عامة ولعقد لوياجركا
الذي سينجم عنه بالتأكيد عودة الملك الأفغاني السابق.
ويرى البعض أن تجميع الشيوعيين أنفسهم مع المعتدلين بحيث تكون السلطة
السياسية القوية في البلاد سيسهل عملية تزاوج أو تحالف بين هذه السلطة والسلطة
العسكرية التي يقودها دوستم في مزار شريف خاصة مع هروب (خانو) رئيس
ميليشيات هلمند أمام هجمات مشتركة للجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي حيث فر
مع قادته إلى دوستم الأوزبكي رغم أنه بشتوي مما يؤكد أن الرابطة الشيوعية لديهم
فوق الرابطة العرقية.
أما الأمر الثاني فهو ما تسرب من معلومات عن انقلاب يقوم به دوستم
ومسعود وبعض المعتدلين على الرئيس رباني لإقصائه عن الرئاسة (وتنصيب
شخصية معتدلة) وبهذا تستبعد أي تسوية مستقبلية في البلاد.
لعل هذا أو ذاك أو أموراً كثيرة دفعت بالمخلصين للالتقاء، ولكن يبقى القول
أن تحالفات أفغانستان ليس لها أرضية ثابتة صلدة، وإنما تحالفات آنية فهل سيكون
ذلك ضمن المعادلة الأفغانية للتحالفات أم أنه سيكسر القاعدة ويخيب ظن الشائنين
والمعتدين؟
__________
(*) أخيراً " أدى رئيس الوزراء الأفغاني قلب الدين حكمتيار وأعضاء حكومته القسم الدستوري في قلعة حيدر خان في منطقة بغمان على بعد 20 كيلومتراً غرب كابول بحضور الرئيس برهان الدين رباني، وزعيم الاتحاد الإسلامي عبد رب الرسول سياف " وذلك يوم الخميس 17/حزيران/1993 م، 27 ذو الحجة 1413 هـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
-البيان-.(65/87)
الأمم المتحدة:
صقر الصومال وحمامة البوسنة
- التحرير-
توالت الأحداث متسارعة في الصومال حيث تحولت مهمة جنود القوات ...
الدولية من (إغاثة الجائعين) وتأمين (المساعدات الإنسانية) و (إحلال السلام) ، ... كما ورد في قرار الأمم المتحدة، إلى كتيبة تزرع القتل والدمار والدماء في جميع ... أنحاء العاصمة مقديشو وذلك بحجة تأديب (أمراء الحرب) أو (لوردات الحرب) كما يُطلق عليهم و (المسؤولون عن تفلت الأمن في البلاد) .
الأجواء السياسية والعسكرية كانت تنذر وتنبئ بما حصل. فقد فشلت [*] (الأمم المتحدة، ومن قبل أبناء البلاد وقادته في إيجاد صيغة حل سياسي يزيل عن
الصومال غبار الحرسب ويمسح دموع الثكالى والأيتام والأرامل الذين أنهكهم القتل
وأضناهم الجوع.
أشعلت الشرارة عندما قامت قوات مؤلفة من أميركيين وباكستانيين بقيادة
جنرال أميركي بهجوم مفاجئ فجر يوم السبت 5/6/1993 على مبنى الإذاعة التابع
للجنرال محمد فارح عيديد مما أسفر عن مقتل أفراد الحراسة وبعض المدنيين إلى
جانب احتلال الإذاعة والسيطرة عليها. وقد قام عيديد أثناء الغارة باستدعاء قواته
واستنجد بأعوانه الذين تدفقوا بالآلاف مدججين بسلاحهم. عندها انسحبت قوات
الأمم المتحدة من موقع العملية واستعادت قواته السيطرة على الإذاعة مصحوباً
بجماهير مسلحة غاضبة صبت جام غضبها على كتيبة باكستانية كانت توزع
المساعدات في إحدى المدارس حاصدة 23 جندياً. تلت ذلك عملية انتقام للقوات
الباكستانية حيث أطلقت النار على المتظاهرين فقُتِلَ عشرات الصوماليين.
الجدير بالذكر أن القوات الأميريكية تستخدم غيرها من قوات الدول الأخرى
كحرس لها، فبينما تدير شئون المطار واستقبال الرحلات وإدارة شؤون المرفأ،
فإن الحراسة تقوم بها قوات أخرى. حتى السفارة الأميركية يقوم على حراستها
جنود غير أميركيين مما يضع هذه القوات في الصف الأمامي وفي حالة صدام
مباشر مع الصوماليين وهذا ما يفسر وقوع ضحايا من غير القوات الأميركية
كالباكستانيين مثلاً.
وتفيد المصادر أن الأميركيين والذين يسيطرون على القرار السياسي
الصومالي لا يسمحون لغيرهم من القوات بالمشاركة في اتخاذ القرارات، حتى
للقوات الأوربية الموجودة هناك. وقد بدأت تظهر علامات التذمر حيث كتبت
الصحافة الألمانية عن تحجيم دور وصلاحيات القوات الألمانية وانتقدت الهيمنة
الأميركية في الصومال وجمدت الحكومة الألمانية إرسال الإمدادات العسكرية
والإنسانية التي كانت مقررة من قبل. وتهدف الإدارة الاميركية من وراء ذلك
تكوين حكومة صومالية أحضرت لها شخصياتها من الصوماليين الذين يعيشون في
أميركا منذ عشرات السنين. وهذا ما يفسر بعض التصادم في المصالح بين عيديد
وصاحبة (الأيدي البيضاء) أميركا.
الأخبار التي احتلت عناوين الصحف والمجلات والإذاعات - والتي تعتبر
الأسوأ من نوعها بالنسبة لجنود الأمم المتحدة منذ مقتل المئات منهم في كمبوديا في
أوائل السبعينيات - أخذت بُعداً جديداً عندما استنكر مجلس الأمن (الجريمة) ووعد ...
بملاحقة المسؤولين وبالفعل صدر قرار الأمم المتحدة رقم 837 القاضي بملاحقة
ومعاقبة قادة التحالف الوطني الصومالي. وقد تعهد الأميركيون بالقيام بالمهمة
مذكرين العالم باجتياح (بنما) واعتقال رئيسها (نورييغا) .
الأيام التي تلت ضجت بأخبار الصدامات بين المتظاهرين و (جنود السلام) ...
حيث حصد رصاصهم عشرات القتلى من نساء وأطفال وعُزَّل خرجوا إلى الشوارع
متظاهرين، ثم استكملت القوات الدولية مهمتها عندما بدأت حرب شاملة في نقاط
متعددة من العاصمة ومناطق أخرى استخدمت فيها الطائرات والدبابات والصواريخ
في عملية هدف إلى (إسقاط عيديد) عسكرياً واعتقاله ومحاكمته كمجرم حرب،
النتيجة طبعاً دماء المسلمين العزل وجنود عيديد الذين امتلأت شوارع العاصمة بهم
حيث تحدثت الأرقام عن مئات القتلى والجرحى ونزوح الأهالي بعد أن دمرت
بيوتهم وأحرقت محلاتهم في عملية (شرعية دولية) لإعادة السلام إلى البلاد.
الغياب الإعلامي العربي والإسلامي من الساحة الصومالية أعطى للإعلام
الغربي ومن ورائه الإعلام الأميركي بشكل خاص فرصة ترجمة الأحداث وتشكيلها
ورسمها في عقول الناس كما شاءت وبما يتناسب والمصلحة الغربية.
عيديد الذي تواجهه الأمم المتحدة مسؤول كغيره من (قادة) الصومال عن ...
تدمير البلاد وإغراقها في حرب طائفية طاحنة أعطت الضوء الأخضر للأمم المتحدة
لدخول الصومال. وعيديد نفسه خرج مصفقاً مهللاً لوصولها شاكراً المجتمع الدولي
على تعاونه ومساعدته لإيقاف المعارك وإعادة السلام إلى البلاد.
وعيديد نفسه الذي يحذر الصومال اليوم من (هجمة الصليبية الدولية) على ...
المسلمين ويهدد (بإعلان الجهاد) لم يكن غيوراً على مستقبل الإسلام في الصومال ...
بالأمس عندما رأى في الصليبيين أيدي خير وبركة سوف تدر بخيراتها على
الصومال وأهله.. ويبقى الخاسر الوحيد هم المسلمون الذين أوكلوا قيادتهم
وسياساتهم إلى رجالات عقائدهم كالحرباء التي تغير لونها حسب (الظروف)
والمكان الذي تقف عليه. ولكنها (موضة) حكام اليوم وزعماء العالم الإسلامي
يتحدثون عن الإسلام عندما يحتاج الأمر ليتحولوا لألد الأعداء عندما يمر الزلزال
وتنتهي العاصفة وتثبت الكراسي.
الأصوات بدأت تتصاعد في أنحاء متعددة من الصومال للتحذير من مخططات
مشبوهة تهدف إلى استغلال المجاعة والحرب في هذا البلد لأغراض تنصيرية حيث
أن مئات الجمعيات النصرانية تعمل بلا كلل في مخيمات اللاجئين وإقامة العيادات
ومآوىٍ للعجزة والأطفال، ومؤسسات الأيتام حيث تسهل لديهم إعطاء أبناء
الصومال جرعة التنصير مع رغيف الخبز وحبة الدواء. وقد حذرت مصادر إغاثة
إسلامية من احتمال قيام الأمم المتحدة بتنفيذ مخطط تنصيري تحت غطاء
المساعدات الإنسانية في الأراضي الصومالية. وقالت أن الأمم المتحدة نجحت حتى
الآن من خلال وسائل الإعلام الغربية في إقناع العالم أن ما يحدث في الصومال هو
حرب قبلية بين الجنرال محمد فارح عيديد والرئيس المؤقت علي مهدي تمهيداً
للمطالبة بوضع هذا البلد تحت حماية الأمم المتحدة وتنفيذ برنامج (تبشيري) هناك.
الأحداث الأخيرة وغزارة الدماء - وهي دماء المسلمين من الطرفين - التي
سالت فيها وضعت الأمم المتحدة موضع النقد، وقراراتها موضع تساؤل.
لماذا هذا (الإصرار والعزيمة) و (الدقة) في تطبيق قرارات الأمم المتحدة ...
والضرب بيد من حديد (لإحقاق الحق) في الصومال بينما هي مجرد اقتراحات
و (تمنيات) و (قرارات لا تطبق) في البوسنة وفلسطين وكشمير؟ ...
لماذا تصبح الأمم المتحدة (شحاذاً) يستعطي عندما تكون بصدد مناقشة ...
مشروع قد يكون فيه بعض الخير للمسلمين ولكنها (تستغني وتكتفي) ولا تحتاج
للاستشارة والمشاركة عندما يكون في الأمر ضرب للمسلمين أياً كانوا؟
ألا يرى المسلمون في العالم أن للأمم المتحدة وقواتها أنياباً تُلبسها إياه القوى
العظمى - بالأحرى القوة الوحيدة العظمى اليوم - عندما تريدها أن تنهش لحوم (الخصوم) وتقتلعها متى شاءت؟ !
__________
(*) ولعلنا نقول نجحت.(65/91)
مقال
يائيل دايان والثوار والمبادئ
أحمد عبد العزيز أبو عامر
نقلت بعض الصحف العربية والأجنبية مؤخراً نبأ لقاء (يائيل دايان) - عضوة
حزب (مابام) الصهيوني - مع زعيم (منظمة التحرير الفلسطينية) وسروره ...
بإهدائها له مذكرات والدها المقبور موشي دايان الذي سام الأمة العربية
والفلسطينيين سوء العذاب بحروبه ومواقفه الدموية. ولقد فرح بعضهم حينما أعلنت: ... أنها ستعود إلى تل أبيب بانطباع آخر يدعو إلى فتح صفحة جديدة بين دولتها
والمنظمة على أساس (وضع ما يقارب نصف قرن من الصراع العربي الإسرائيلي
في مزبلة التاريخ) هكذا! مع إشادتها بالزعيم الفلسطيني ووصفه بأنه صادق في
توجهه للسلام بنسبة 100%، وقد نقلت بعض الأوساط الفلسطينية إنه ربما تكون
النائبة الصهيونية قد نقلت أفكاراً ومقترحات من (شمعون بيريز) للزعيم.
بغضّ النظر عن حقيقة هذه الزيارة والتي لا تخفى مبرراتها لكل متابع
للأحداث على الساحتين (العربية والإسرائيلية) لا سيما بعد سطوع نجم (منظمه
حماس الإسلامية) وتعاطف الكثير من الفلسطينيين معها في الأراضي المحتلة، بعد
تداعي المنظمة المترهلة) على عملية السلام بالرغم مما لحقها من إذلال (يهود) في
عدم الاعتراف بها ورفضهم قبول أحد أعضائها في الوفد المفاوض إلا أنها تداعت
على عملية السلام تداعي الذباب على الشراب. بينما العدو الصهيوني ما زال يُصِرُّ
على أحقيته في الأراضي المحتلة ويرفض الجلاء حتى عن الأراضي المحتلة بعد
نكبة (1967) ويكتفي بالقول: يمكن الجلاء عن (أراض) محتلة وليس عن (الأراضي) المحتلة. فضلاً عما يقوم به من بطش وإرهاب هناك، ومن آخرها ...
الإبعاد المتمثل في نفي أربعمائة عنصر من خيرة الشباب الفلسطيني المتعاطف مع
التيار الإسلامي. ولا يخفى ما يعانونه الآن من لأواء ومشقة في (مرج الزهور)
حيث الظروف المناخية السيئة المعروفة أمام سمع وبصر العالم المتحضر من
أدعياء حقوق الإنسان بل وحتى حقوق الحيوان. وإزاء رفض الشعب الفلسطيني
المغلوب على أمره لهذا الإبعاد، وما قام به من مقاومة للإرهاب اليهودي لم يسلم
من أبشع عمليات البطش حينما ضربت غزة مؤخراً بالطائرات مما يخالف كل
النظم الدولية. وليس هناك من يُنكر تلك الأفعال غير الإنسانية أو يفكر حتى
بإدانتها وتحذير العدو من تكرارها، وما دام أن المتنفذين في (هيئة الأمم المتحدة)
يهود أو متعاطفون معهم فلن ننتظر منهم أي إنصاف فضلاً عن إعطاء الحقوق
لأهلها. والواقع أكبر شاهد، حيث نرى تساهلهم أمام تعنت الصرب حيال جرائمهم
ضد مسلمى (البوسنة والهرسك) .
أما تعنُّت الصهيونية أمام قرارات (هيئة الأمم) - التي تصدرها لمن يخالف
الأعراف الدولية وآخرها القرار رقم (799) بوجوب إعادة المبعدين لأرضهم فهذا
ليس له عقوبة - مستغلةً تعاطف الإدارة الأميركية معها حينما قبلت بالتجاوب
الجزئي لعودة المبعدين حتى وبعد جولة وزير الخارجية الأميركية في المنطقة والتي
عاد منها (بخفي حنين) وما زال العدو مستشهداً بالقرار الأخير. هكذا وبكل بساطة ...
تسير السياسة الأميركية وفقاً لرأي الصهاينة حتى ولو خالفت القرارات الدولية التي
يفترض التزامها نصّاً وروحاً من الجميع، ومن لا يلتزم بها يلزم بها قسراً ولو
بالقوة، عدا (الصهاينة) وتصبح قرارات (هيئة الأمم) حيالها غير ملزمة، ويمكن
الاكتفاء بالحلول الجزئية حتى ولو كانت المخالفات تدينها كل الأعراف الدولية
والإنسانية لا سيما في واقع المبعدين الأربعمائة وما يعانونه من ظروف صعبة لا
يمكن بحال من الأحوال قبولها لو كانت لفئة أخرى غير مسلمة مهما كانت توجهاتهم
أما (المسلمون فلا بواكي لهم) .
إن الكيل بمكيالين في السياسة الأميركية جعلها سياسة عوراء وأوضح ميولها
الصهيونية التي لم تعد تخفى على أحد وهذا أصبح معروفاً للجميع ولا يجهله إلا
مغفل ولا يتجاهله إلا مكابر عنيد. ويكفي أن الإدارة الأميركية الجديدة جاءت بدعم
(اللوبي الصهيوني) وحتى لا أكون متجنياً في قولي هذا أحيل القارئ الكريم إلى
كتابين وثائقيين يوضحان الخلفيات الحقيقية للسياسة الأميركية وهما:
1- الخلفيات التوراتية للسياسة الأميركية (د. إسماعيل الكيلاني) .
2- البعد الديني في السياسة الأميركية (د. يوسف الحسن) .
إن ما يلزم بيانه والتنبيه عليه في هذا المقام هو مدى صدق الصهاينة مع
مبادئهم وحدبهم عليها واستماتهم في الدفاع عنها بكل السبل، ويكفي أن نعرف أنهم
أتاحوا المجال للأحزاب " الدينية الصهيونية " لها لتعمل في وضح النهار حتى صار
لها دورها المؤثر في وصول أحد الحزبين للحكم، ولهذه الأحزاب جهودها المؤثرة
في المجتمع الصهيوني مما جعل الصهاينة يحترمون دينهم ومبادئهم ولا سيما في
المواقف الدولية ولعلنا نتذكر رفض الوفد الصهيوني الاجتماع بعد حرب رمضان في
خيمة " الكيلو 101 " (يوم السبت) بينما رضي قومنا بالاجتماع في وقت صلاة
الجمعة ومما يؤسف له أن كثيراً من المنتسبين لهذه الأمة ممن ابتلينا بهم قادة
للأحزاب وزعماء للمنظمات ورؤساء للدول من الحاكمين بأمرهم، نجد أن آخر ما
يفكرون به هو طاعتهم لربهم واقتفاؤهم لسنة نبيهم -عليه الصلاة والسلام- لا سيما
في التحذير من عداوة الكافرين وبخاصة (يهود) لما عرفنا من عدائهم وخُبْثِ نواياهم، وحسبهم أنهم الأمة الملعونة في القرآن وقد حذر الإسلام من كيدهم ومكرهم فيما
نقرأه من كتاب ربنا -جل وعلا- فهم الكذابون على الله بقولهم: [إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
ونَحْنُ أَغْنِيَاءُ] [آل عمران 181] ، وبقولهم: [يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا
بِمَا قَالُوا] [المائدة 64] ، وهم المتمردون على الله تعالى بقولهم: [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ] [المائدة 41] ، وفي آية أخرى: [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ] [المائدة 42] ، وهم المتمردون على رسل الله -عليهم السلام-: [أَفَكُلَّمَا
جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ] [البقرة7] ... ولنقضهم العهود: [الَذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ] ...
[الأنفال 56] ، ولجهودهم المستمرة في الإفساد: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً] [المائدة 64] ، وحبهم الشر لغيرهم: [ودُّوا مَا
عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] [آل عمران 118] ،
وتحريفهم للكتب السماوية: [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ
عِندِ اللَّهِ] [البقرة 79] ، وذلك غيض من فيض مما سجله القرآن عليهم من سيء
الخلق وفاسد الأفكار مما ربُّوا عليه أجيالهم وأنشأوا عليه أبناءهم. فهم مخادعون
كاذبون ومبغضون لكل ما عداهم ممن يسمونهم (الجوين) والذين يعتقدون بأنهم ما
خلقوا إلا ليكونوا حميراً لهم لكي يركبوهم.
(يائيل دايان) واحدة من ذلك الشعب الملعون، لها أفكارها الصهيونية التي
تربت عليها، وهي لا تقل خبثاً وعنصرية ولا كذباً من بني جنسها، وسيتضح ذلك
بجلاء في استعراض سريع لبعض نتاجها الفكري؛ فَمَنْ هي هذه المرأة وما حقيقة
توجهاتها؟
يائيل دايان في دائرة الضوء:
هي ابنة وزير الدفاع الصهيوني الأسبق (موشي دايان) وهي كاتبة وروائية [*] ... صهيونية معروفة. وضعت أفكارها اليهودية في رواياتها نصرة لأمتها ودولتها
مع الافتراء والعنصرية ضد العرب والمسلمين عامة والشعب الفلسطيني خاصة،
وهي الآن عضو في حزب (مابام الصهيوني) .
كتابها الأول (وجه امرأة) وهو مذكراتها الشخصية التي صاغتها في قالب
روائي استعرضت فيه أيام طفولتها، وكشفت القناع عن حالتها النفسية المضطربة
التي عانتها من أب يكره البشر ويعتزلهم ويهمل عائلته. وأم وجدت أن زوجها لا
يعيرها اهتماماً فعوضت ذلك بالعبث واللهو والفجور.. وكيف دخلت (يائيل) الجيش
باسم مستعار هو (إريال رون) وعرفت فيما بعد أنها ابنة وزير دفاعهم المشهور
(موشي دايان) فساعدوها على سرعة الترقية وأتاحوا لها المجال في الدورات
العسكرية فاجتازتها بسرعة حتى صارت مدرسة لوحدة من المجندات قبل إنهاء
خدمتها العسكرية وكشفت الحقيقة عن جيش بلادها وما يحويه من فساد وفجور،
وكيف كان يلذ لها أن ترى الرجال يتعذبون وهي توقعهم في حبالها. ثم تتحدث عن
حياة (المجندات اليهوديات) الإباحية وخاصة في المستعمرات، وكيف أن نتاج
السفاح الحاصل معهن هم (أبناء المستعمرة) حيث يكون لهم بيت خاص ومربيات
وميزانية خاصة وأن الأم هي التي تحدد والد الطفل في حفل خاص، وتطرقت
لفساد الشباب اليهودي وما يعيشه من أنواع الفواحش التي يُسرت لهم أسبابها في
الملاهي وبيوت الدعارة.. وأنها حينما تخرجت جاء والدها ليسلمها شهادة التخرج.. ثم أوضحت في الأخير سوء حالتها الأسرية حينما طردها والدها في ليلة ماطرة
فلجأت إلى بيت للدعارة وعاشت فيه أياماً في موقف حرج لكونها خالية الوفاض من
أي شيء معها، وفجأة أُنقذت حينما لمحت صديق أسرتها (العسكري الإنكليزي
بيتر) فألقت بنفسها بين يديه وشرحت له ظروفها وعادت معه إلى (القدس) قبل
احتلالها النهائي عام 1967، حيث يعيش في شقة الوحدة وقررت أن تكون عشيقته
لتلهب قلبه وهو في الخمسين من عمره ثم تتركه لتحطم قلبه! ! ثم بينت كيف
توسط لها للعمل مشرفة اجتماعية لمساعدة (اليهود المهجرين) للوطن المحتل حيث
عملت في ذلك العمل بكل جهد.. ثم بينت التفرقة العنصرية بين اليهود الشرقيين
(السفارديم) واليهود الغربيين (الاشكناز) ثم كيف حلت محل (بيتر) في مراسلة
صحيفة بريطانية بعدما سافر بيتر إلى بلده وراسلها مشيداً بتقاريرها التي تنشرها
الصحيفة ثم فاجأته بزيارتها لندن حيث استقبلها بكل شوق وعلى ضوء حياتها
الإباحية معه كتبت مذكراتها الوقحة تلك.
والحق يقال إن (يائيل دايان) في كتابها هذا أقل غطرسة في الحديث عن
العرب وعن اليهود حيث وجدناها أكثر واقعية، وأقل تزييفًا لقربها من الأحداث
ومعايشتها لما يدور في الداخل بعكس كتابات اليهود خارج الأراضي المحتلة لفقدانهم
الموضوعية وللجوئهم للمبالغات، وخضوعهم للتناقضات، وهي على كل صهيونية
تكتب لخدمة مبادئها وإفساد الآخرين.
ثانياً: روايتها (للموت ولدان) وهي عبارة عن نسيج من بطولات وهمية
(للسوبرمان الصهيوني) القاتل والحاقد واجترار لحوادث ماضية من معاناة اليهود
المزعومة على يد النازية حيث تبدأ الرواية بوصف عملية العذاب التي تعرض لها
(حاييم كالنسكي) وفقده لولديه وبيته، ومقتل زوجته وتشرده، وجهله كل شيء عن
مصير ولده (دانييل) الذي رحل على متن قارب من (البيريه) في اليونان إلى
الأرض المحتلة مع عدد من الأطفال اليهود اليتامى إبان (الحرب الهتلرية) حيث
التقى (دانييل) مع صديق عمره (يورام) وعاشا في (مستعمرة جلعاد) وهناك كبر
وهو لا يعرف له أباً غير (إسرائيل) ولا صديقاً إلا (السوبرمان: يورام) وصديقته
(ريتا) عشيقة (يورام) ، وفي حرب 1967 م انتقلا إلى سيناء حيث لقي صديقه
يورام حتفه بلغم مصري. وبعد مراسلات طويلة وبحث شاق يتوصل (حاييم) إلى
معرفة مكان ابنه (دانييل) فيجيء إليه في الأرض المحتلة بعد أن تزوج الأب من
أخرى وأنجب ابنته (مريم) ، ثم يصاب بالسرطان ويموت بمستشفى بئر السبع
وحيداً بعد خلاف مع ابنه (دانييل) ويجتمع شمل الأسرة هو واخته مريم وزوجها
وطفلها. وقد وضحت الكاتبة أثر تربية المستعمرة لدانييل على المبادئ الصهيونية
الحاقدة وتطبيقه دروس القتل التي تلقاها ضد العرب وكيف كان يمارس (رجولته) !! كما تراها في القتل كوظيفة، وكيف أصبح الحقد لديه شيئاً طبيعياً. والرواية
أشبه ما تكون بدعاية إعلانية مكشوفة لاحتوائها على الأفكار الصهيونية التالية:
1- دعوة يهود العالم أجمع لتأييد دولتهم والإيمان برجوعهم لأرض الميعاد
المزعومة.
2- العرب لديها مجرد متسولين يبحثون عن المال حتى بالدعاء من أجل
المرض مقابل دريهمات.
3- الدعاية السياحية المزينة لحياة (الكيبوتزات) التي تغري أطفال العالم
بالهروب إليها لأنها جنة العصر الموعودة لليهود.
4- إمبراطوريتهم يجب أن تمتد حدودها حتى الفرات كما توضحها طموحاتهم
الصهيونية المزيفة.
5- وضع نموذج " السوبرمان الصهيوني " الذي له قدرة على استيعاب
الأشياء وهضمها والاستفادة منها مع البطولة الخارقة.
والخلاصة أن هذه الرواية مجرد دعاية صهيوينة في ثوب أدبي حاكت فيه
الكاتبة قصة حاييم اليهودي، والذي كان له ولدان الأول (شمؤيل) الذي قتلته
(النازية) والآخر (دانييل) الذي نجا بأعجوبة! ويكاد يقتله العرب اليوم!
وتناست الصهيونية الحاقدة كيف تحول (دانييل) إلى هتلر جديد في الأرض
المحتلة إذ جعل القتل والحقد وظيفة له ضد الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره.
ثالثاً: روايتها (طوبى للخائفين) وكانت المؤلفة فيها أكثر قدرة على مسايرة
الفكر الصهيوني وتطلعاته ووضعها القيَم كلها بما فيها (الدينية) بمرتبة الوسائل التي
يمكن الصعود عليها، فالصبي (نمرود) بطل الرواية هو التعبير الحقيقي عن
الأطماع الصهيوينة، وهو رمز للجيل الذري يُهيّأ لممارسة القوة، أما " جيديون "
فهو النموذج. وطموح الآباء والأجداد لتربية أبنائهم على مشاكلهم ليعبر حقيقة عن
الفكر الصهيوني الإرهابي فهو نموذج للقوة الجسدية والاستهانة بالأخطار حيث
يشترك في أعمال إرهابية ضد الفلسطينيين ثم يعود سالماً إلى مستعمرته.
هذه حقيقة (يائيل دايان) ، تلك الصهيونية الحاقدة الفاسدة المفسدة تبينت لنا
أفكارها بجلاء بما عرفناه من استعراض سريع لبعض أعمالها الأدبية المشهورة
وفيها تتضح بجلاء منطلقاتها الصهيونية وتصوراتها التوراتية، ومبادئها الانتهازية
الميكافيلية. فإلى متى نبقى ساذجين، نصدق دعواها وقومها بالرغبة في السلام
بينما هم يغتصبون أرضنا المباركة، ويقومون ليل نهار بالإرهاب لأهل الأرض
المحتلة. وكتبهم الدينية تنطق بتلك الأسس الإرهابية وأكثر، ويتضح لنا أن أدبها
فيه كل خصائص أدب العدوان الصهيوني الذي يحاول اجتذاب اهتمام العالم ويعمل
جاهداً لإجهاض أدب المقاومة العربية ضده ولا سيما ما ينطلق من أطر وتصورات
إسلامية. ومن أبرز ملامح الأدب الصهيوني ما يلي:
1- توظيف معاناتهم المزعومة من الحرب النازية ضدهم وقد تبين مؤخراً أن
جلّ هذه الدعاوى مبالغ فيها، وتبين كذبها وزيفها، وكُتِبت فيها دراسات علمية من
أهمها: (هل فعلاً قتل 6 ملايين يهودي) وهو بحث من تأليف (روبير موريسون
وماري بول ترجمة ماجد حلاوي) ، وانظر أيضاً إلى كتاب (الأكذوبة الكبرى:
حرق 6 ملايين يهودي، للأستاذ أحمد التهامي سلطان) .
2- احتقار كل ما هو غير صهيوني كما أوضحته كتبهم المحرَّفة ولا سيما
كتابهم المخترع (التلمود) .
3- إظهار شخصية الصهيوني (السوبرمان) المتفوق جسدياً وعقلياً وحضارياً.
4- احتقار العرب بصورة خاصة وجعلهم في صورة متخلفة لتبرير معاملتهم
باحتقار واستخفاف.
5- إفساد الشعوب بإشاعة الفواحش والإباحية سلوكاً اجتماعياً عادياً.
6- عداوة أمتنا باستمرار مثلما شربوها مع الحليب صغاراً وتربوا عليها كباراً
مما لا يمكن بحال أن يأمنوا المسلم أو يأمنهم المسلم لما يعرفه عنهم من أخلاق
منحطة وسلوك همجي.
7- الغاية في مناهجهم الفكرية والدينية تبرر الوسيلة، والزعم بخلاف ذلك
عندهم محال.
والخلاصة: أن يائيل دايان تؤمن إيماناً جازماً بمبادئها لأن ما تلقته من
دروس في حياتها جعلها تعمل بكل دأب لصالح عقيدتها وأعمالها الأدبية تنطلق من
منطلقات عقائدها وكونها اليوم نائبة في حزب سياسي لا شك له أيديولوجيته
ومنطلقاته الفكرية التي تعمل لخدمة شعب إسرائيل فحالها ليست كحال كثير من بني
جلدتنا ممن يعيشون بعيداً عن مبادئ دينهم، ويعملون غالباً وفقاً لمنطلقات فكرية
وأيديولوجيات حزبية لا تمت لمعتقداتهم بأدنى صلة بل ربما كانت تضرب بالدين
الإسلامي عرض الحائط بدعوى التقدمية والتمدن لأنهم أذناب لجهات شتى،
وعملاء لأعداء الإسلام فأي خير فيهم وقد تجردوا من قيم وأخلاق ديننا الحنيف.
__________
(*) ترجمت لها عنوانها " غبار " ونشرتها مجلة الموقف الأدبي في دمشق سنة 1974م أثناء مسرحية حرب الاستنزاف! !
- البيان -.(65/95)
منتدى القراء
صدمة وحيرة
محمد بيومي
طالعت ما كتب الأخ (عادل التل) تحت عنوان (أخطار النزعة المادية في ...
العالم الإسلامي) فأصابتني صدمة وحيرة؟ !
أما الصدمة: فكان سببها تلك الأفكار التي نقلها الأخ عادل التل عن جودت
سعيد، فمما لا شك فيه أن هذه الأفكار والعبارات - التي سُطرت بها - تصدم كل
مفكر ينتمي إلى أهل السنة والجماعة وتدعه في حالة من العجب: كيف تأتي هذه
الأفكار وتصدر تلك العبارات عن رجل مثل (جودت سعيد) يعمل في حقل الدعوة
الإسلامية ويسعى لحل مشاكل الأمة الإسلامية! !
وأما الحيرة: فكان منشؤها أن بعض الكتاب الإسلاميين من أمثال " الأستاذ
محمد العبدة " [1] " والدكتور محمد بن صامل السلمي " [2] وغيرهما قد نقل عن
جودت سعيد وعن ذات الكتب التي تناولها الأخ عادل التل بالنقد، كما أن مجلة
البيان قد نشرت مقالات [3] لبعض الأخوة وبها استدلالات بآراء جودت سعيد! !
لقد دفعني ذلك إلى الحيرة، وألجأتني الحيرة إلى تفكير طويل لعلي أجد لهذا
الأمر تفسيراً، وأَصِلُ من هذه الحيرة إلى مخرج؟ ! وبعد التفكير الطويل لم أجد
إلا هذا التفسير الذي أرجو الله -عز وجل- أن يكون موفقاً:
1- موقف جودت سعيد: أظن -والله أعلم- أن نشوء الآراء الغريبة في فكره
قد حصل لأن (جذور) الرجل الفكرية ليست موصولة بالتربية الفكرية الصافية
لأهل السنة والجماعة، بل هي موصولة بخليط من التربية والأفكار الأخرى الغريبة
على الفكر السني تُعلي من قيمة العقل إلى حدّ يجاوز حدوده التي رسمها الشرع.
2- وأما المفكرون والكتاب الذين استدلوا بآراء؛ أو على الأصح ببعض آراء
جودت سعيد، فإنهم - في تقديري - قد استدلوا بها لأنهم رأوا فيها الحكمة التي هي
ضالة المؤمن، ولأنهم حين يتعاملون مع غيرهم لا يأتمنوهم مطلقاً ولا يعصمونهم
مطلقاً، بل يسيرون في تعاملهم معهم وِفْقَ قول الله -عز وجل-[وإذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا] (الأنعام 152) ، كما أنهم حين ينقلون عن غيرهم يقتدون بسلفهم، الصالح الذين قال قائلهم: "
لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال " [4] . أو كما قال أحدهم تعليقاً على
كتاب قد ضمنه منهجه: " الكتاب لا الكاتب " [5] .
أظن هذا الذي ذكرت يزيل بعض آثار صدمتي وصدمة كثير من قراء مجلة
البيان.. ويخرجني ويخرج كثيراً منهم من حيرة أوقعتنا فيها تلك المقالات التي
كتبها الأخ عادل التل.
أسال الله -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يعافينا
وكل إخواننا مما يصيبنا بصدمة أو حيرة [6] ".
__________
(1) مثل كتاب (مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم) .
(2) كما في رسالته للدكتوراه بعنوان (منهج كتابة التاريخ الإسلامي) .
(3) مثال مقالة (الأفكار أساس التغيير) بقلم محمد بدري.
(4) ابن القيم - مدارج السالكين - ص3 الصفحة الأخيرة.
(5) سيد قطب - الاخوان وعبد الناصر - أحمد عبد المجيد.
(6) ونزيد على ما قال الأخ أن جودت سعيد قد بعد عن المنهج وزاد انحرافاً في كتابه الأخير مثل (اقرأ وربك الأكرم) وما بعده من كتبه
- البيان -.(65/104)
تعدد النجاحات
عبد العزيز بن محمد الخضر
لم تكن الدعوة الإسلامية أشد حاجة لتوحيد الصف والاستفادة من هذا المد
الإسلامي مما هي عليه اليوم، فهي بحاجة إلى كل جهد - ولو كان قليلاً - وإلى كل
الطاقات في كل مجال لسد الثغرات، لذا فهي بأمسِّ الحاجة إلى استيعاب تعدد
النجاحات التي تصب في مكان واحد وتخدم مسار الدعوة.
متى تختفي ظاهرة الإعاقة في أسلوب الرد لمناقشة أية قضية وتُسْتَبْدَلُ
بالتشجيع والمساعدة وتعديل المسار بأسلوب لا يدخل منه الأعداء لتفريق الصف
وتشتيت الجهود، وتقدير عامل المصلحة والمفسدة ومتى..؟ وأين..؟ وكيف..؟ يكون هذا الرد.
هناك عدة أساليب تستخدمها نوعية من هواة رصد الأخطاء، بها يستطيعون
تخطئة أي عامل في حقل الدعوة ... وهم بها يحسمون القضية حتى لا يدعون
للآخر أية فرصة للمناقشة، وكأن وجهة نظهرهم هي الحق حتماً وما عداه باطل،
وإن كانت هذه الأساليب تستخدم عن حسن نية غالباً، إلا أنها تنشأ ممن لديهم خلل
في جانب تجعل النقاش معهم متعذراً.
قد يستخدم أحدهم حجة صحيحة، ودليلاً صحيحاً، وكلاماً عاماً لا أحد يخالفه
عليه، لكنك تجده يركز عليه تركيزاً يوحي للمتابع أن الطرف الآخر لا يوافقه عليه
- مع أنهم متفقون عليها - فيأتي بالنصوص وأقوال السلف وعموميات تبعده عن
الفكرة التي اختلف الرأي حولها، وخطورة الدندنة في هذا الأمر مع خصومه الذين
يوافقونه في المنهج تصبح وكأنها تهمة بطريقة إيحائية تجعله بعيداً عن منهج السلف، خاصة إذا لم يجد مع خصمه أمراً واضحاً لاتهامه بها.
أحياناً نجد الاختلاف في وجهة النظر في أمر واسع لا يتعدى كونه مستحباً،
لكنك تجد عند بعضهم الحماس لهذه الأمور حتى أنه يوالي ويعادي من أجلها، فمثلاً
عند الاختلاف حول أساليب الدعوة نجد أن هناك من يريد أن يحجر على من
يخالفونه في الرأي - وإن كان لا يطلب ذلك مباشرة - حتى في طريقة عرضهم
للقضايا في محاضراتهم ودروسهم وكتبهم، مع أنه لا يوجد خطأ شرعي، في
مضمون الفكرة التي يريد الوصول إليها أو إقناع المتلقي بها، ومع هذا نجد التُّهم
توجه إليهم بطريقة أو بأخرى وهي ناتجة عن ضيق أفق وعُقَدٍ نفسية ممن يخالفه،
فإذا لم يجد خطأ في الفكرة أوحى إلى المتابع أنه يخالف منهج السلف ويشابه أهل
البدع بطريقة غير موضوعية، وينصَّب نفسه حكماً.
إذا كان الردّ على أحد نفع الله به، وصار كثير من الناس يستمع له ويقبل منه
قال إن الكثرة لا تدل على صحّة المنهج ثم يستشهد بالأدلة وكلام السلف وهذا الكلام
صحيح، لكن هل قلة الأتباع وعدم النجاح في نشر الدعوة دليل على صحة
المنهج..؟ ! فهم يتعاملون مع هذا حسب الحاجة.
إطلاق تُهم عدم المنهجية عند فلان وفلان - أيضاً بطريقة إيحائية - خاصّة
عند كلامهم مع تفصيلات دقيقة حول أي حدث لتبرير عجزه، فتجده يقلِّل من شأن
أية معلومة صغيرة بحجة أنها لا تفيد المنهجيين في طلب العلم وتدريسه مع أن هذه
التفصيلات تعطي رؤيا أوضح، وتصور أكثر واقعية لكلّ حدث خاصّة أن الحكم
على الشيء فرع من تصوره، ومع هذا فهم يصرون على أن هناك استحالة للجمع
بين الاهتمام بالتفاصيل المعقولة للأحداث وبين المنهجية في طلب العلم،، والتربية
للأمة من خلال الأحداث ينبغي الاهتمام بها وهذا لا يتأثر بالكلام العام دون التعليق
والدخول في التفصيلات المعقولة للأحداث والتربية في كل حدث لا يكون أثره
إيجابياً إلا إذا جاء في وقته، لأن الجميع يتابعونه، أما إذا مضت السنون على
حدث فإنه يفقد قيمته حيث يندر المتابع له بعد هذه المدة، ونحن إذا تأملنا أهمّ
الأسباب التي جعلت الأمة تفقد وعيها وهويتها حتى وصلت إلى درجة كبيرة من
الانحراف في جميع المجالات، إضافة إلى جعلها لا تستفيد من الأخطاء في كل
مجال وكل حدث، نجد أهمها هو الإعلام بجميع أنواعه فهو الذي يوجِّه الأمة إلى ما
يريد، ولا يكاد يسلم من هذا إلا أقلّ القليل، فتأثيره شامل لجميع فئات المجتمع
ومختلف الأعمار ففي كلّ يوم، بل وفي كل ساعة والأمة تتربى على هذا.
ولو كان هناك استيعاب لتعدد النجاحات وعدم احتقار الجهود - لتسير
النجاحات بخطوط متوازية مع انطلاقها من قاعدة واحدة لا نقبل الاختلاف فيه -
لتوفرت الطاقات وتوحدت الأهداف..
فلينزل إلى الساحة من حصر نفسه علمياً داخل الغرف المغلقة، أو في الزوايا
والتكايا فلسنا بحاجة إلى متفرجين يجيدون فنَّ التنظير والتعليق على الأخطاء من
خلف الأسوار.(65/105)
نصائح طبية
ماذا تفعل الأم؟
د.محمد محمد القرمه
كثيراً ما يصاب الطفل بحوادث طارئة، وتكون السرعة في علاج هذه
الطوارئ هي السبب الأول الذي يُقدرّه الله -عز وجل- في طريق الشفاء.. وهنا
سنبين للأم كيفية التعامل مع الحالات الطارئة على طفلها، ونوضح لها ماذا تفعل
في كل منها قبل مراجعة الطبيب.
* إذا دخلت ذبابة أو بعوضة إلى أذن الطفل.
تضع قطرات من الزيت داخل الأذن وبذلك تموت الحشرة وتفرزها الأذن بعد
إحاطتها بالشمع.
* إذا أصيب الطفل بدمامل صغير في الأنف.
لا تعبث به أبداً لاتصال أوردة هذه المنطقة بالمخ وسهولة تسرب الميكروبات
إليه عند العبث بالدمل.
* إذا ابتلع الطفل قطعة نقود أو خرزة.
يعطى الطفل بعض القطن أو حتى طعامه الطبيعي مع ملاحظة براز الطفل 3
أيام فإذا مرت الأيام الثلاثة دون خروج الجسم الغريب، فلا بد من عرض الطفل
على الطبيب لتصوير جهازه الهضمي بالأشعة ومعرفة مكان الجسم الغريب.
* إذا دخلت ذرة رمل أو نشارة خشب أو غيرها في عين الطفل
تغسل العين بكمية كبيرة من الماء لطرد هذا الجسم الغريب، فإذا استمر
احمرار العين، فلا بد من مراجعة طبيب العيون.
* إذا دخل حنجرة الطفل جسم غريب كالحمص أو الخرز.
سترى الأم أن طفلها بحالة اختناق وأن هناك صفيراً مع التنفس، ويكون دور
الأم هو تمييل رأس الطفل وصدره إلى الأمام والأسفل مع الخبط تحت مؤخرة العنق
وأعلى الصدر، وسترى أن هذا الشيء الذي يسبب الاختناق قد خرج بإذن الله. أمّا
إذا لم يخرج فعليها أن تسرع إلى الطبيب لاستخراجه بالوسائل المناسبة.
* إذا تناول الطفل مادة سامة.
ينقل الطفل إلى المستشفى مع ما يدل على نوع المادة أو الدواء الذي تناوله..
ويمكن بوجه عام إعطاء الطفل كوباً من الماء به 3 ملاعق من ملح الطعام وذلك
لدفعه إلى القيء. ولكن تستثنى من ذلك الحالات التي يشرب فيها الطفل الكيروسين
أو البنزين أو المواد الكاوية.. حيث يكون العلاج السريع هو إعطاء الطفل كوباً من
اللبن مخلوطاً ببياض البيض.
* إذا أصيب الطفل بحروق.
تضع الثلج على مكان الحرق لمدة 10 دقائق ثم تدهنه بمرهم ملطف وتعطيه
بعض المسكنات حتى يعرض على الطبيب.
* إذا أصيب الطفل بتشنجات مصحوبة بفقدان الوعي.
تفك الأزار والأحزمة ويمدَّد الطفل على بطنه، ورأسه إلى أسفل قليلاً حتى لا
يبتلع الطفل لسانه، ويتسبب اللسان في انسداد الحلق.
وإذا كانت التشنجات بسبب ارتفاع درجة الحرارة، فيجب على الأم العمل
على تخفيض درجة الحرارة بوضع كمادات باردة على الجبهة والرقبة وإعطاء
الطفل " تحاميل " خافض للحرارة.
* إذا أصيب الطفل بنزيف من الأنف.
يُجلس الطفل بحيث يميل رأسه إلى الأمام، وتضغط الأم على جانب الأنف
لسد فتحته وإعطاء الفرصة لتجلط الدم النازف، مع وضع قطعة من الثلج على
جبهة الطفل بضع دقائق.
* إذا أصيب الطفل بالتهاب حاد في الأذن.
يُعطى الطفل المسكنات، ولا يُنقط أي دواء في الأذن، مع ضرورة عرض
الطفل على الطبيب.
... هذه بعض النصائح الطبية للأم.. وقد حاولنا فيها أن يكون العلاج في
حدود قدرتها، وما يمكن أن يحويه بيتها، ونسأل الله لجميع أطفال المسلمين العافية
والنجاة من الحوادث.(65/108)
إصدارات
-التحرير-
الإسلام كبديل، 251 صفحة:
المؤلف: مراد هوفمان. المترجم: د. غريب محمد غريب.
الناشر: مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام ألمانيا، ومجلة النور الكويت، الطبعة
الأولى 1413 - 1993.
موضوع الكتاب: المؤلف هو سفير ألمانيا في المغرب الذي أعلن إسلامه،
وكتب عن الإسلام كبديل، استعرض فيه المجتمع الغربي وعوامل الضعف فيه،
كما تكلم عن العقيدة الإسلامية مقارنة بالنصرانية، وعن الصوفية، وعن الحرية
الاقتصادية، وعن الحكومة الإسلامية، والمؤلف صاحب ثقافة واسعة، ولا يخلو
الكتاب من أخطاء نظراً لعدم تعمق المؤلف بالعلوم الإسلامية، واعتماده على الكتب
المترجمة أو المؤلفة باللغات الأجنبية.
***
البوسنة والهرسك من الفتح إلى الكارثة، 212 صفحة:
المؤلف: الدكتور محمد حرب.
الناشر: المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي، القاهرة، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م.
موضوع الكتاب: دارسة عامة لبلاد البوسنة والهرسك منذ الفتح الإسلامي
وحتى الوقت الحاضر، والكتاب دراسة أكاديمية موثقة.
***
المسلمون واكتشاف الأميركيتين، 80 صفحة:
المؤلف: خالد عزب.
الناشر: دار الصحوة في القاهرة، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م.
الموضوع: دارسة مفصلة لاكتشاف أميركا مع إبراز الدلائل على وجود
المسلمين في أميركا قبل وصول كولومبس إليها.(65/111)
الصفحة الأخيرة
الأرض الثقافية المحروقة!
جمال سلطان
الثابت في ساحة الفكر والثقافة العربية الحالية؛ أن ثقافة الاغتراب والعلمنة
والتبعية، آلت إلى المحاق الأخير، وأوشكت آثارها على الاندراس نهائياً من ديار
الإسلام، فقد سقطت الماركسية في أعلى نماذجها، بل إن موجة (الاشتراكية) ذاتها
تُمنَّى بانتكاسات خطيرة على امتداد العالم كله، شرقية وغربية، كما أن العلمانية
الغربية ودعاوى التقدم والإخاء الإنساني والحضارة الإنسانية الواحدة، والعقلانية
وعصر النور، كل هذه الدعاوى الغريبة قد سقطت تماماً على أرض الواقع، وتم
تكفينها ودفنها من تراب البوسنة والهرسك، حتى ارتفعت أصوات بعض المثقفين
الغربيين بالصراخ ولطم الخدود، وشق الجيوب على هذا الانحدار المزري الذي
آلت إليه حضارة أوربا وإنسانيتها، أمام ما يحدث بين جنباتها أو تحت سمعها
وبصرها وبصنع أيديها.
اليسار العربي - بفصائله - والعلمانية العربية على اختلاف ألوانها ومذاهبها، ترى ذلك وتتيقن منه، وتعلم يقيناً أن فكرها ومذاهبها ومناهجها وأحزابها، ليس
إلا زبالة ستئول إلى مقابر التاريخ! كما أنها توقن أن " الدين الإسلامي " هو دين
الأمس واليوم والغد، في ديار العرب والإسلام، وهل تخطيء العين شمس الواقع
ونهاره إلا عن رمد أو عمى؟ المهم في القضية هو: أن ثقافة الاغتراب وثقافة
الماركسيين العرب، تأبى لجماهير الأمة أن تختار طريقها، وتخط مستقبلها،
وتبني مشروعها الثقافي والحضاري، بحرية وهدوء، وترقى إلى تدمير كل شيء،
أي شيء من ثقافة الأمة، ودين الأمة، ومعالم حضارتها وسكب الوحل على
تاريخها كله، ولا تزال فلول المخربين المتنفذة في بعض مراكز التوجيه والقرار -
في عدد من البلدان العربية - تحاول إحراق أرضنا الثقافية قبيل إعلان النصر
الإسلامي الحضاري نهائياً على أعداء الإسلام، ولا زالت الفلول تغذي نيران الفتنة، طائفية أو سياسية، في عدد من ديار العرب، بغية تدمير ما يمكن تدميره من بناء
الأمة النفسي والاجتماعي.
هذه الهجمة الموتورة، هي - بلا شك - إرهاصات النصر وإشارات المنتهى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(65/112)
صفر - 1414هـ
أغسطس - 1993م
(السنة: 8)(66/)
كلمة صغيرة
سلك الأعداء كافة السبل للنيل من شأن الإسلام والمسلمين، واستخدموا العديد
من الأقنعة لإخفاء صورهم القبيحة، فتستروا بستائر (العلمانية) إخفاء لما في السرائر من الأحقاد والضغائن، ورغم التمويه فقد انكشفت الحقائق عن سوء الطوية، والتخطيط لاستلاب هوية الأمة، ووضع مقدراتها بين أيدي أعدائها، وأصبحت (العلمانية) حديث الساعة، فجاءت الكتابات - وبعضها لم ينشر في هذا العدد - حول هذا الموضوع دون اتفاق أو تخطيط مسبق وكأنه مطابق لما جاء في الحديث: " الأرواح جنود مجندة ".
إنه لأمر غريب جداً ومستنكر ولكن هذا هو الواقع المرّ.
المحرر(66/1)
الافتتاحية
[مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ]
رئيس التحرير
جاء الإسلام والعرب من أشد الأمم استعداداً لقبوله، وهم - في الوقت نفسه -
من أشد الأمم تفرقاً، فجمعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهدى،
وأنقذ الله بهم أمماً من الكفر والضلال عندما حملوا الرسالة وتمسكوا بها، ثم كان ما
كان من التراجع عن هذا المركز الخطير، حتى صاروا من أضعف الأمم، ولكن
الجذوة ما تزال باقية تحتاج من يوقدها، والراية تنتظر من يرفعها، ولا شك أن
الغرب يعي ويعلم أهمية المنطقة العربية، وأنها مَهْدُ الإسلام ومادته، وهي منه
بمثابة قطب الرحى، ولذلك كان التركيز لإبعاد المنطقة وأهلها عن الإسلام،
وتشجيع التيارات العلمانية والإلحادية، والمساعدة على الانقلابات العسكرية التي
أكلت الأخضر واليابس، وتسخير الأقليات التي تخدم الغرب خدمة تفوق توقعاته
أحياناً.
قامت الدولة الإقليمية العلمانية بالمهمة نفسها، فأبعدت الدين عن مواقع التأثير، وخرِّبت مرافق العلم والاقتصاد والبنية الاجتماعية، وتجرأت التيارات العلمانية
فجهرت بأفكارها وآرائها بكل وضوح وصراحة متحدية شعور الأمة، وطاعنة بأعز
ما تملك هذه الشعوب وهو الإسلام، وظهرت على الساحة فلول العلمانيين من بقايا
الشيوعيين، أو الأحزاب الغابرة والإلحادية الذين ارتكسوا في الضلال واستمرأوا
التبعية والذل لكل متسلط من الشرق أو الغرب. وقامت بدعم هذه الفئة فئات
مستهترة، تعرف وتحرف، وتعلم وتنكر، أصحاب أهواء وأتباع مناصب ومال،
أعمتهم الشهوات، وأضلهم طول الأمل، وهم في غمرة ساهون. وهناك فريق
ثالث قوامه أفراد متحيرون، متهوكون، جاهلون بأمر الله، لا يعادون الإسلام
ولكنهم يظنون أنه صلاة وصيام، وأما شؤون الحياة الأخرى فتنظمها القوانين
الوضعية والتراتيب الإدارية، فهؤلاء يجهلون عظمة هذا الدين ومنهجه في إصلاح
البشر، و [مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] [الحج 74] إذ ظنوا أنه يخلق الخلق ثم
يتركهم هملاً، فلا ينزل عليهم كتاباً فيه حياتهم وسعادتهم، وتشريعاً يجب أن يطبق
في الأرض، وإن لم يفعلوا فهو الشرك، قال تعالى: [ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام 121] .
تقف هذه الفئة موقفاً سلبياً تجاه الأحداث التي تعصف بهذا الدين، وتلحق
الضرر بالدعاة والدعوة الإسلامية، وتصدق هذه الفئة ما يُروج من دعايات تُصور
بأن المعركة مع (الأصولية والإرهاب) وليست مع الإسلام.
إن هذه الفئة وأمثالها بحاجة ماسة إلى من يوضح معالم الطريق الصحيح،
ويصدع بالحق دون وَجَلٍ، حتى تكون الصورة جلية مكشوفة لا عوج فيها ولا
تمويه ولا تضليل، وحتى تكون على بينة من أمرها، وتكون عوناً للمسلمين على
أعدائهم، وعدم الاكتفاء بالمواقف المحايدة فالله هو الخالق الآمر [أَلا لَهُ الخَلْقُ
والأَمْرُ] [الأعراف 54] ، ولا يكون الناس عبيد سوء يأكلون من رزقه ويطيعون
غيره، فالإسلام جاء لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله.
إن الاعتراف بربوبيته سبحانه يستلزم العبودية له، والخضوع لشرعه [أَمَّن
يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [النمل 64] ، [الله الَذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ]
[الشعراء 40] .
ماذا يظن هؤلاء بآيات تحريم الربا (سورة البقرة) وآيات تشريع العلاقات
الأسرية (البقرة، النور، الأحزاب) وآيات الميراث (النساء) وآيات الحكم بما
أنزل الله (المائدة، الأنعام، النساء) وآيات الشورى (الشورى، آل عمران) وغير
ذلك من الآيات الكثيرة الموجودة في القرآن العظيم، مما يتعلق بشؤون الناس في
الدنيا؟ هل يظنون أنها للتلاوة والتبرك بها فقط؟ وكذلك أحاديث الرسول - صلى
الله عليه وسلم - الكثيرة التي تفصل أحكام معاملات المسلم في شؤونه اليومية، وما
قيده علماء المسلمين في الموسوعات الفقهية التي تضم أدق التفاصيل في المعاملات
والحكم. كل هذا جاء ليطبق في الأرض، ولا يطبق إلا بحاكم ودولة، وإلا فمن
الذي يطبق قوله تعالى: (والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَ.. [
] المائدة 38 [،] ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [] البقرة
171 [،] فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ.. [] المائدة 48 [.
إن الذين يقولون: إن هذه الآيات لا تصلح لهذا العصر - مع أن البشر هم
البشر، والأرض هي الأرض - فإن طرحهم هذا هو الخروج من ربقة الإسلام
والتفصي عن منهجه، وهذا الذي جعل المنطقة العربية والإسلامية تعيش النكد
والغصص في العيش، والذل والهوان أمام الغرب والشرق. ففي ظل الدولة
العلمانية الإقليمية، هاجرت أكثر العقول العربية المسلمة المتعلمة تعليماً عالياً إلى
أوربا وأميركا وعملت هناك، واستفاد منهم الغرب علمياً وتقنياً ثم عاد يضرب
المسلمين بعلمه وصناعته المتفوقة فكنا كمن يخربون بيوتهم بأيديهم، وفي ظل
الدولة الإقليمية قضي على العلم والجامعات، وأممت المساجد فأصبح الإمام كما قال
أحد المفكرين (شاويش صلاة) ، وفقدت الأمة روح المقاومة والاستقلالية، وتم
استيراد كل شيء من الغرب والشرق، وعندما نتأمل ما نأكله ونلبسه ونستعمله في
الإدارة، والتجارة والزراعة نجد أكثره ليس من صنعنا.
لقد طالت آثار هذا الضعف والهوان كل شيء بدءاً من فلسطين حيث يضرب
الأب في غزة أمام أولاده لتحطيم الأسرة في عزتها وكرامتها، مروراً بالبوسنة والهرسك حيث كارثة قتل واقتلاع شعب بكامله من أراضيه، ومرت هذه الكارثة ولم
تستطع دول العالم الإسلامي إيقافها، وبتنا نراقب المؤامرة الغربية الدنيئة دون أن
نستطيع الحراك، وما أظن أحداً يتجرأ على دولة في أميركا اللاتينية، أو شرق
آسيا كما يتجرأ الأعداء على العرب والمسلمين في هذه الأيام.
وصلت آثار هذا الذل إلى العرب والمسلمين المقيمين في الغرب فارين بدينهم، أو يعملون لكسب قوُتهم. فعندها تأججت نار العنصرية الأوربية وجد المسلمون
أنفسهم بين المطرقة والسندان، فلا دولهم تدافع عنهم، ولا الدول الغربية قلمت
أظفار الأحزاب العنصرية عندها، فأُحرقت أسر بكاملها، ودمرت بيوت وبدأ
التحرش بالمسلمين وإهانتهم بشكل سافر في فرنسا وألمانيا، وبشكل مستور في بقية
أنحاء العالم الجديد! !
ترى هل يتنبه الذين يقفون موقفاً سلبياً من الأحداث الجسيمة التي تلف العالم
الإسلامي، فيدركون خطورة مواقفهم؟ هل يفهمون أن حماية الإسلام ونصرته
ليست موقوفة على فئة معينة دون فئات كثيرة، ولا على قلة من الدعاة والعلماء،
بل هو واجب مشترك لكافة المسلمين؟
إن ما يفعله العلمانيون أو يريدون فعله، إن هو إلا تجريد للأمة من هويتها
وسلخها عن حضارتها، بل عن روحها وحياتها.
ماذا نسمي هذا الفعل، ألا يعني ذلك تسليم القلعة وما فيها إلى الأعداء
البغضاء؟
ما زال في الوقت متسع لمن يود العودة إلى رشده، وما زالت الفرصة متاحة
أمام من عقد العزم على النهوض من نومه العميق. وما زالت نيران أحقاد العدو
تستعر في قلب العالم الإسلامي وأطرافه ولكن إطفاءها ليس مستحيلاً على من تمسك
بحبل الله المتين وصراطه المستقيم.(66/4)
دعوة
حتى نستفيد من خطبة الجمعة
(2)
محمد بن عبد الله الدويش
تحدث الكاتب في العدد الماضي عن أهمية خطبة الجمعة واختيار الموضع
المناسب وفي هذا العدد يُكمل الحديث عن هذا الموضوع المهم.
ثالثاً: الأسلوب:
1- حسن الأسلوب وجودته فالألفاظ قوالب المعاني.
2- وحسن الأسلوب وجودته لا يعني أن يتكلف الخطيب فيقع فيما نُهي
عنه [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] [ص 86] . وأخبر - صلى
الله عليه وسلم - أن التكلف، والتفاصح صفة مذمومة يبغضها الله -عز وجل- فقال: ... ... (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها) [1] . ... ... وقال أيضاً: (هلك المتنطعون) [2] قال ابن الأثير: التنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح [3] . ومن ذلك قول أحدهم: (لقد فاحت رائحة الشمس، فعطرت وجنات القلوب، وتركت قطرات الندى الإيماني الأبيض على شفاه الخفقات الدافئة في الصدور) .
3- الاعتماد على الحجج العلمية المنطقية، وعدم إلقاء النتائج مباشرة. فإن ...
الخطيب لم يعد المتعلم الوحيد ولا فريد عصره، أو نسيج دهره.
4- تجنب النقد اللاذع والعبارات الجارحة، والتركيز على الأخطاء،
والحكمة في معالجة الخطأ.
5- الاعتدال وعدم المبالغة. خَطَبَ أحد الخطباء عن الفتيات وخروجهن ليلاً، ... وطالب الآباء أن يقوم أحدهم منتصف الليل ليتأكد من وجود ابنته على سريرها؛
فخرج المصلون وهم يمقتون مثل هذه المبالغة. ونموذج آخر ذكره الشيخ عبد
اللطيف السبكي في مجلة الأزهر [4] وذلك أن خطيباً خطب في جامع الأزهر عن
حديث " واتبع السيئة الحسنة تمحها " فهَوَّن أمر المعصية، وأن الله فطر الناس
عليها وقال بالحرف الواحد: (إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا، ولكن قال إذا أسأتم ...
فاستغفروا) . إنه لا يسوغ أن تمتلك الخطيب عاطفته الجياشة فيتحدث بمبالغة دون
اعتدال أو إنصاف؛ بل إن المبالغة تؤدي إلى نتائج معاكسة.
رابعاً: الأداء:
1- الصوت: فينبغي العناية بوضوح الصوت والتأكد من الأجهزة التي تنقل
الصوت، إضافة إلى التحكم في صوته هو، ورفعه وخفضه في المكان المناسب،
وأن يعتني بسلامة إخراج الحروف.
2- تصوير المعاني بالنطق، ففي حالة الاستفهام ينتظر الجواب، وهكذا في
حالة التعجب.
3- حسن الوقوف، فيراعي المعاني وتمامها عند وقوفه.
4- الحماسة، والعاطفة الحية التي يشعر المصلي من خلالها أن الخطيب
يحمل الفكرة في عروقه ودمائه، وليست مجرد كلمات هامدة، وقد كان - صلى الله
عليه وسلم - إذا خطب علا صوته، واحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم
ومساكم.
5- رباطة الجأش، والتعود على ذلك.
6- سلامة اللغة وعدم اللحن، وقد كان السلف يعتنون باللغة وسلامتها، وكان
اللحن مما يعاب به على المرء فضلاً عن طالب العلم، وليس ثمة ما يعيب الخطيب، أو ينقص من قدره، أن يدرس مبادئ النحو، أو يبحث عمن يقرأ عليه فيصحح
قراءته. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: " تعلموا الفرائض واللحن اللغة
والنحو فإنه من دينكم ". ويمكن أن يلجأ إلى حل مرحلي بأن يشكل الكلمات التي
يرى أنه عرضة لأن يخطئ بها.
خامساً: بين الارتجال والخطبة من ورقة:
أولاً: نود الإشارة إلى أن هنالك فرقاً بين الارتجال في المصطلح المعاصر،
وعند العرب، فهو لدى العرب الخطبة من غير إعداد واستعداد، ولم يكونوا
يعرفون الخطبة من الورقة أصلاً؟ أما في المصطلح المعاصر فيقصد به الخطبة
دون ورقة، ولو أعد الخطيب لتلك الخطبة.
فالارتجال بمعناه عند العرب لا ينبغي أن يسلكه الخطيب فيصعد المنبر،
ويفكر في موضوع الخطبة أثناء الآذان، أو يفكر وهو في الطريق إلى المسجد،
ومهما علت مكانة الخطيب، واتسع علمه، فلا يستغني عن الإعداد والتحضير
المسبق، لكن ما يكثر عنه السؤال، ويدور حوله النقاش، أيهما أولى: أن يخطب
الخطيب من ورقة، أو من دون ورقة مع التحضير والإعداد المسبق. والموضوع
يحتاج لتفصيل تضيق عنه هذه المقالة لكننا نسجل بعض الملحوظات:
1- الناس يختلفون ويتفاوتون في ذلك.
أ- فبعضهم يحتاج للورقة لتضبط ألفاظه، فلا يشطح، ويقول ما يُحسب عليه، أو تضبط له موضوعه فلا يتشتت به الحديث يمنة ويسرى، وينسى موضوعه،
أو يضبط له وقته فلا يطيل على الناس.
ب- والبعض يحتاج لرؤوس الأقلام، والنصوص.
ج- والبعض لا يحتاج لذلك، ويستطيع أن يستوعب موضوعه، ويضبط
ألفاظه، ووقته. فإذا كان كذلك فهذا أدعى للتأثير على الجمهور وجلب انتباههم.
2- من لا يجيد الارتجال يستطيع التعود، بالتدرج؛ وأفصح الناس قد ولدته
أمه وهو لا يجيد النطق بحرف واحد.
3- ليس بالضرورة أن يجعل الخطيب الخطبة دون ورقة هدفاً له، فقد
يخطب من خلالها، ويفيد الناس، ويحقق المقصود.
سادساً: بين الإيجاز والتطويل:
الإيجاز هو السنة. روى مسلم في صحيحه عن أبي وائل قال خطبنا عمار
فأوجز وأبلغ، فلما نزل، قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست،
فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن طول صلاة
الرجل وقصر خطبته مَئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من
البيان سحراً ".
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: (كنت أصلي مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً) .
وقال أبو بكر -رضي الله عنه- ليزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -
حين أمّره على جيش إلى الشام: " وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي
بعضه بعضاً ".
وها نحن نرى في عصرنا من يطيل الخطبة حتى يُملَّ الناس. ذكر اللواء
محمود شيت خطاب أنه صلى مع خطيب في القاهرة استمرت خطبته ساعة وعشر
دقائق، مع اللحن والخطأ في الآيات، والأحاديث، والشعر [5] .
الإيجاز والتطويل نسبي وقد يتطلب الموضوع أحياناً قدراً من الإطالة، أو
طبيعة المستمعين. أو من الخطيب؛ كأن يفد غريب وهو ممن يحب الناس سماع
كلامه؛ فمثل هذه المواقف قد تسوغ فيها الإطالة ويبقى بعد ذلك الإيجاز هو الأصل، فالإيجاز يزيد مسؤولية الخطيب؛ إذ سيحتاج لعرض جملة من الحقائق
والمعلومات في وقت يسير. وليس صحيحاً أن التحضير يتناسب طردياً مع وقت
الخطبة.
سابعاً: أمور لابد من اجتنابها:
أ- التركيز على سلبيات المصلين، والحديث عن أخطائهم، أو استعمال
ضمير المخاطب كثيراً، وهذا مثل الطبيب الذي يحدث المريض عن مرضه ويبالغ
في وصفه وخطورته؛ إن التركيز على مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يحطِّم كل
جوانب الأمل لدى المصلي، مما يجعله يشعر أنه لا يمثل إلا مجموعة من الأخطاء
والعيوب، ومع كثرة النقد وبيان الأخطاء يتلبد إحساسه؛ فيشعر أن الخطأ أمر
طبيعي لا يمكن أن يفارقه. أو أن يشعر أن هذا الخطيب لا ينظر إلا بعين واحدة،
فينصرف عن سماع ما يقول.
إن الخطيب الناجح يستطيع أن يحقق المقصود، ويعالج الخطأ دون حاجة
للانتقاد المباشر للناس، فحين يتحدث عن إهمال الناس لصلاة الجماعة مثلاً؛
بإمكانه بدلاً من النقد اللاذع أن يتحدث عن أهميتها، وفضلها، ويسوق الأدلة
الشرعية على ذلك؛ ثم يُثَنِّيْ بعناية السلف بها، ومحافظتهم عليها، وذمهم من
يتخلف عنها؛ وبعد ذلك يقف عند هذا الحد، واللبيب يفهم الإشارة، وفي التلميح ما
يغني عن التصريح، وهذا لا يعني بالضرورة عدم الحديث عن الخطأ أو مجاملة
الناس، لكن هذا شيء، وما نفعله أحياناً شيء آخر.
2- وصف الأخطاء والتحذير منها دون العمق في تحليل أسبابها، والتفتيش
عن مكمن الضعف. فقد أصبح الشعور بالخطأ مشتركاً لدى الأغلب، لكنهم
ينتظرون برنامجاً عملياً، وخطوات واقعية. ومن ذلك الحديث المجرد عن الموت
والقبر دون ربط ذلك بالواقع. ويشير ابن القيم -رحمه الله- إلى شيء من ذلك،
فيقول: " وكذلك كانت خطبته، إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله،
وملائكته وكتبه، ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل
طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خفته إيماناً وتوحيداً،
ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمراً مشتركاً بين الخلائق،
وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب
إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً
للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة؛ غير
أنهم يموتون، وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم، فليت شعري أي إيمان
حصل بهذا؛ وأي توحيد وعلم نافع حصل به؟ ! " [6] .
3- النقد الشخصي والتصريح بالأسماء، فهذا خلاف هدي النبي - صلى الله
عليه وسلم - الذي كان كثيراً ما كان يقول: " ما بال أقوام يفعلون كذك وكذا ". أو
الغلو والإيغال في التعمية، فالمنكرات الظاهرة العامة يجب أن تنكر صراحة.
4- مدح من لا يستحق المدح، والثناء عليه، كما في بعض المواقف
والمشاريع التي يدرك الجميع أنها غير صادقة، وغير جادة، أو كانت جادة؛ لكن
الخطيب لا يستطع أن يقول كل شيء، فلا يستطيع الانتقاد وبيان الخطأ، فلا
يسوغ له الاقتصار على الثناء؛ لأنه يتضمن التزكية عند الناس، أما ما يقوله
البعض من أن هذا شهادة للمحسن بإحسانه؟ فهذا مطلوب لكن حين يستطيع أن
يشهد بالإساءة والإحسان، أما حين تكون الشهادة بالإحسان وسيلة لطمس الحقائق؛
والتلبيس على الناس، فهذا أمر مرفوض.
5- تأثر الخطيب بعمله الوظيفي. فحين يكون مدرساً يتحدث كثيراً عن
الإجازات، والامتحان، وبدء العام، وهكذا مَنْ يعمل في ميدان الاحتساب ترى
معظم خطبه تدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن المنكرات
المتفشية في المجتمعات، وهذه أمور مطلوبة؛ لكن هذا شيء وكونها سمة غالبة
على الخطيب شيء آخر.
ثامناً: مقترحات للخطيب:
لعلنا نقترح هاهنا بعض المقترحات للخطيب على أمل أن تساهم في إفادته،
ورفع مستوى خطبته:
1- اللقاء بالخطباء في الحي، والتنسيق معهم، والاستفادة المشتركة من
المعلومات، ووجهات النظر، مما يختصر عليهم كثيراً من الوقت.
2- وضع صندوق للمقترحات؛ يشمل موضوعات للخطبة، وانتقادات،
ومعلومات عن ظاهرة معينة، ليكون هذا الصندوق حلقة وصل بين الخطيب
والمصلين، وقناة للتفاهم بينهم.
3- اللقاء ببعض فئات المجتمع كالمدرسين، والطلاب، والعمال، والأطباء، والقضاة، والعسكريين، فيستفيد من إطلاعهم على جوانب في المجتمع قد لا
يطلع عليها، ومن التعرف على مشاكلهم، والتي تمثل عينة من مشكلات يعاني
منها الكثير من زملائهم، إلى غير ذلك مما يفتح للخطيب قنوات أكثر مع المجتمع.
4- الاستفادة من بعض المصلين، فقد يصلي مع الخطيب أحد طلبة العلم،
أو المثقفين، أو ممن يمكن أن يستفيد منه، انتقاداً، واقتراحاً، ومعلومات؛ إلى
غير ذلك.
5- وضع " أرشيف " شخصي، ينظم له معلوماته، ويمكن أن ينسق مع
غيره من الخطباء لتبادل الخبرة، والمعلومات.
6- الخطيب هو الرجل الوحيد الذي لا يسمع خطبة الجمعة، ولعله حين
يحرص على سماع الأشرطة المسجلة لمشاهير الخطباء يستفيد كثيراً.
7- القراءة في الكتب المؤلفة في الخطابة وفنها.
8- الترجمة للخطبة إذا كان في المسجد جاليات أعجمية.
تاسعاً: هل سألت نفسك هذا السؤال؟
ماذا حققت من خلال الخطابة خلال مدة اعتلائك المنبر. هل صححت أخطاء
تربوية؟ هل قمت بحل مشاكل اجتماعية؟ هلى ساهمت في تعليم الناس أصول
العقيدة، والأحكام التي يحتاجونها في حياتهم؟
إن هذا السؤال لا يعني فشلك، أو اتهامك بالتقصير. لكنه سؤال يجب أن
تطرحه على نفسك باستمرار مدى قيامك بهذه الأمانة، ورعايتها.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود (5005) ، والترمذي (2857) .
(2) رواه مسلم (2670) وأبو داود (4608) .
(3) جامع الأصول (11/733) .
(4) صفر 1377 هـ.
(5) مجلة لواء الإسلام (شوال 1396هـ) .
(6) زاد المعاد (1/423) .(66/9)
دعوة إبراهيم -عليه السلام-
محمد الخضيري
إن الدعوة إلى الله تعالى طريق الأنبياء -عليهم السلام- وأتباعهم كما قال
تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ
ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] .
وكان مما اعتنى به القرآن الكريم ذكر قصص دعوات الأنبياء، وتصويرها
بأبلغ أسلوب، وعرضها بأدق عبارة، حتى أصبحت أخبارهم في القرآن نماذج حيّة
يحتذيها الدعاة ويقتبسون من نورها، ويهتدون بهداها [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] . وقد اخترنا دراسة موضوع الدعوة إلى الله من خلال قصة إمام
الحنفاء وأبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - ولم يكن اختياري لهذه الدعوة جزافاً
بل لأسباب أوجزها فيما يلي:
أولاً: أنها دعوة خليل الرحمن، ومؤسس الحنيفية، وأحد أولي العزم الخمسة
من الرسل.
ثانياً: أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باتباع ملته
[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] . ... ...
ثالثاً: تلك الصفات العظيمة التي تحلى بها إبراهيم حتى قال الله تعالى فيه
[وإبْرَاهِيمَ الَذِي وفَّى] فكانت نبراساً يقتفى أثره فيها الدعاة إلى الله. ...
رابعاً: استغراق القرآن واستقصاؤه لأساليب إبراهيم المتنوعة في عرض
دعوته على قومه، حتى إنه ليعز على الباحث أن يجد لنبي من الأنبياء خلا نبينا -
صلى الله عليه وسلم - مثلما يجد لهذه الأيام من الطرائق والسبل في إقناع المدعوين
وترويضهم على قبول الدعوة. ولا غرو فقد سنَّ للناس من بعده من الدعوة أساليب
لم تعهد لأحد من قبله ولم تقف عند حد الكلمة بل تخطتها إلى الحركة والفعل.
خامساً: رسمت هذه الدعوة للدعاة منهاجاً في الصبر يحق لهم أن يقتدوا به،
فقد صبر إبراهيم -عليه السلام- في أحوال مختلفة وظروف متباينة وأعمال متنوعة
كالصبر على جفاء الأبوة، وعدوان العشيرة، وهجران الأرض، والفتنة بالنار،
والأمر بذبح الولد، وغير ذلك.
وسنعرض الموضوع من خلال نماذج من صفات إبراهيم -عليه السلام-
الدعوية وأساليبه في نشر دعوته.
نماذج من صفات إبراهيم الدعوية:
لن يتسع المقام لحصر تلك الصفات التي اتسم بها إبراهيم -عليه السلام- فلقد
وصفه ربه بأنه وفّي جميع مقامات العبد مع ربه ولذلك سنقتصر. على جملة من
الصفات ونخص بالذكر منها ما له صلة ظاهرة بدعوته، وله أثر ظاهر في الاهتداء
والاقتداء به.
1- أمة:
قال تعالى: [إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..] وهذه الكلمة تأتي لعدة معان، منها
الجماعة [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً] ، ومنها الزمان والحين [وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ] ومنها: الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس، وهذا هو المقصود
في حق إبراهيم، وهذه تدلنا على عظيم ما كان يتصف به إبراهيم من عبادة ودعوة
وخلق حري بأن يحتذي به الدعاة في حياتهم وتزكية أنفسهم، واجتهاد أحدهم في
تقويم أخلاقه والنشاط في دعوته ليقوم مقام أمة في ذلك. وقيل أن المقصود بالأمة
هنا: أي الإمام، أي قدوة يقتدى به في الخير، وممن قال به ابن جرير الطبري
وابن كثير.
2- قانت:
قال تعالى: [إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً] ، والقنوت: لزوم الطاعة
مع الخضوع، وكذا يجب أن يكون الداعية ملازماً لطاعة الله على كل حال، فلا
يكون كالمنبت يجتهد حتى تكلّ راحلته، ثم ينقطع، بل يلازم ويستقيم.
3- حنيفاً:
والحَنَف: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيفُ: المائل والجنف:
ضده. والأحنف: مَنْ في رجله ميل سمي بذلك تفاؤلاً، وقيل لمجرد الميل.
قال ابن كثير: الحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد. وقد كان
ذلك من إبراهيم حتى عُدَّ إمام الحنفاء الموحدين، قال تعالى: [ولَمْ يَكُ مِنَ
المُشْرِكِينَ] ، وقال: [ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] ، وهكذا فليكن أولياء الله.
4- شاكر:
قال تعالى: [شَاكِراً لأَنْعُمِهِ] أي قائماً بشكر نعم الله عليه (وأصل الشكر)
ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهوراً بيناً. يقال: شكرت الدابة: أي سمنت
وظهر عليها العلف، وكذلك حقيقته في العبودية: وهذا ظهور أثر نعمة الله على
لسان عبده: ثناء واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً
وطاعة. والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له،
واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه، وأن لا يستعملها فيما يكره [1] ، وقد كان ذلك من
إبراهيم -عليه السلام-.
5- الحلم:
قال تعالى: [إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ] .
والحلم: ضبط النفس والطبع عن الهيجان عند الاستثارة. والحليم: الكثير
الحلم وموقف إبراهيم من مقالة أبيه [لأَرْجُمَنَّكَ] ومن العتاة قوم لوط حينما مرت
به الملائكة وأخبرته بما أمرت بها قال: [فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ
البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ] ، ولم يكن حلم إبراهيم
ذريعة يتذرع للسكوت عن المنكر بل كان يعلن الحق وينكر الباطل [وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] .
6- أوّاه:
قال الراغب الأصفهاني: (الذي يكثر التأوه وهو أن يقول: أوّه وكل كلام
يدل على حزن يقال له التأوّه، ويعبر بالأوّاه، عمن يظهر خشية الله تعالى) [2] ،
والذي يتحقق من معنى الأوّاه أنه الخاشع الدعّاء المتضرع، وكثرة تأوّه إبراهيم
وتضرعه بين يدي ربه قد ذكرت في آيات كثيرة تدل على تحقيق إبراهيم [رَّبَّنَا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] وجدير بمن سلك طريق الدعوة أن يجعل
تعجيل الإنابة من أبرز سماته ليكسب عون ربه وتسديده ومحبته.
7- السخاء:
قال تعالى: [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ
فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ
إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ] فذكر أن الضيف مكرمون لإكرام إبراهيم لهم، ولم يذكر
استئذانهم ليدل على أنه قد عرف بإكرام الضيفان، مع أنهم قوم منكرون لا يعرفهم
فقد ذبح لهم عجلاً واستسمنه، ولم يعلمهم بذلك بل راح: أي ذهب خفية حتى لا
يُشعر به، تجاوباً لضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان،
وخدمهم بنفسه، فجاء به ومرّ به إليهم ولم يقربهم إليه، وتلطف مبالغة في الإكرام
فقال: [أَلا تَأْكُلُونَ] . قال ابن القيم: " فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي
هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تَخَلف وتكلف: إنما هي من
أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على نبينا
وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين " [2] .
8- الصبر:
كان إبراهيم مثلاً يحتذى في الصبر حتى استحق أن يكون من أولي العزم
الذين أمر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كصبرهم [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ
أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] . وكان صبر إبراهيم شاملاً لابتلاءات كثيرة، سيأتي بيان
جملة منها بإذن الله.
9- رعايته لأهله:
لم يكن إبراهيم ممن يلتفت إلى الناس بدعوته ويترك أهله، بل بدأ بهم
وخصهم بمزيد الرعاية والعناية وقد قال الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -
[وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] وكذلك كان إبراهيم، فدعا أباه [يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا ... لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ] ، ووصى أبناءه بالتمسك بالدين [ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ..] ، وكان يدعو [واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] ، ويتضرع بقوله: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] .
10- شجاعته:
واجه إبراهيم قومه ولم يخش كيدهم وقال مقسماً: [وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم
بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] ، وقوله لهم: [أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..] .
وكان ذلك لعلم إبراهيم بأن معه القوة التي لا تهزم، وأن ما أصابه لم يكن
يخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فرسم للدعاة منهجاً في الشجاعة المنضبطة
بضوابط الشرع بلا تهور يحتذونه في مواجهة الباطل من إقرار الحق.
11- تحقيقه الكامل لعقيدة الولاء والبراء:
قال تعالى عن [فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي] ، وقال: [وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ
وقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ] فكل عدو لله وإن
قربه النسب تجب البراءة منه، وكل ولي لله وإن باعدت به الأوطان والأزمان
تجب موالاته ومحبته وقد أمرنا أن نتأسى بإبراهيم في ذلك: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ..] .
12- سلامة القلب:
قال تعالى: [وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] وسلامة
القلب نوعان: كلاهما داخل في مضمون الآية، أحدهما: في حق الله وهو سلامة
قلبه من الشرك، وإخلاصه العبودية لله، وصدق التوكل عليه. والثاني: في حق
المخلوقين بالنصح لهم وإيصال الخير إليهم، وسلامة القلب من الحقد والحسد وسوء
الظن والكبر وغير ذلك.
وبعد فهذه جملة مختصرة من الصفات الدعوية لإبراهيم عليه السلام سائلاً الله
تعالى أن يوفقنا لاتباع ملته والسير على منهجه وبالله التوفيق.
-يتبع -
__________
(1) انظر مدارج السالكين.
(2) وقال السمين الحلبي: " الأواه: الذي يكثر قول: آه آه، والتأوه كل كلام يظهر منه تحزن، وقوله [أْوَاه] [التوبة 114] ، قيل: هو المؤمن الداعي، وقيل من يخشى الله تعالى حق خشيته، والأواه: الكثير التأوه خوفاً من الله تعالى، (عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، ص 33/طبعة اسطنبول) .
(3) التفسير القيم 446
-البيان-.(66/17)
نقد
أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي
نقد كتابات جودت سعيد
(4)
عادل التل
مفهوم العقيدة:
لم يتناول جودت موضوع العقيدة في بحث مستقل ولم يحدد مفهومها بناءً على
المنهج الإسلامي، وإنما كانت مباحثتها متناثرة، وكان له فيها فهم خاص يتلاءم مع
أصول المذهب المادي، وقد أظهر في هذا المجال مصطلحات جديدة وغريبة،
ولكنها تلتقي مع آراء الفرق الضالة وتبتعد عن منهج السلف الصالح. وقد أظهر
هذه الآراء عندما تعرض لتعريف الإيمان وجعله مرتبطاً بالحقائق الخارجية المادية، حيث قال: " والإيمان ليس مجرد إيمان وإنما توحيد، أي الإنسان مرتبطاً
بالحقائق الخارجية وتحريره من عالم الأشخاص والصور الذهنية " [1] .
وينطلق جودت من مفهوم حسي للغيب حيث يقول: " وهكذا يصبح الغيب
علماً، عندما تكون طريقة إيماننا بالقيم السماوية كإيماننا بأي شيء محسوس " [2] .
ثم يربط بين الإيمان ونتائج الأسباب في عالم الواقع سلباً وإيجاباً فيقول: " إذا
أدركنا معنى ربط الأسباب بالنتائج، وأنها ليست عقلية وإنما مشاهدية، نستطيع أن
نربط الإيمان بالنتائج فإذا شاهدنا الإيمان ونتائجه، جعلنا شروط العلم بكل محتوياته
في موضوع الإيمان " [3] .
ثم يجعل للعلم - الذي وضع له شروطاً حسية - سلطاناً على دين الله حين
يقول: " كما بسط العلم سلطانه على الفلك والكيمياء والطب فسيبسط سلطانه أيضاً
على الدين " [4] .
ومما لا شك فيه عند المسلمين جميعاً أن العقيدة لا تؤخذ إلا من مصدر واحد
هو طريق الوحي، طريق النبوة. قال تعالى: [وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ
أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا
فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ] [الشورى 54] .
لقد قرن جودت مفهوم التوحيد بالوقائع الخارجية المادية، كما أخضعه إلى
مرحلية تاريخية عند قوله: " إن العلماء يشكون من أن العلم كَمَلكة في البشر
وكمعرفة لكنهه وتعميمه محدود الانتشار بين الناس، كما أن ظهوره بين البشر
تاريخياً محدود أيضاً، وحديث النشأة، إن التوحيد في مبدئه ومنتهاه إنما هو إيقاظ
ملكة العلم " [5] .
ثم يظهر المفهوم المادي لتوحيد الله عندما يقول: " وتوحيد الله يأمر بالنظر
إلى الوقائع الخارجية للاتصال بالحقائق الخارجية وإعطاء معنى أقدس لظاهرة
الكون كعملية إبداع " [6] . ثم يصل جودت سعيد إلى الهدف الأساسي من بحث
التوحيد والعلم إلى النتيجة النهائية في تعريف الإيمان: " يصبح العلم في نهاية
الأمر هو الإيمان، والإيمان هو العلم والشرك هو الجهل، والجهل هو الشرك) [7] وتعتبر هذه التعريفات غريبة على العقيدة الإسلامية، وليس من الصعوبة
إيجاد المصادر المستمدة منها، فإن سجل الفرق الكلامية الضالة حافل بمثل هذه
الآراء، ومثال ذلك قول الجهم بن صفوان: (الإيمان هو المعرفة، والكفر هو
الجهل) .
قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الإيمان بما لا يدع مجالاً للجدل
والانحراف وذلك في حديث جبريل المشهور حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم
- عن الإيمان: " قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت " [8] ، ولكن
جودت سعيد تأثر بالمنهج المادي، حتى لم يعد عنده للغيب اعتبار، وقد قال تعالى: [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] [البقرة 3] .
لقد قاده هذا الفهم إلى أن يجعل للبشر سلطاناً على تصور وجود الروح من
خلال كشف السنن فقال: " هذا الوجود السنني هو نوع آخر من مراتب الوجود،
وربما يكون مدخلاً لتصور وجود الروح، والله تعالى له الخلق والأمر والروح من
أمر الله، [قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي] [الإسراء 85] . وأمر الله، وكلمة الله،
وسنة الله ألفاظ قد تكون متقاربة في مدلولها، ولكن سنة الله قد توصف بأنها لا
تتبدل ولا تتحول " [9] .
مصطلحات الاعتقاد:
يسخر جودت من المسلمين حين يعظمون التشكك بالاعتقاد فيقول: " ولكن
السلوك هو الكافر (من ترك الصلاة فقد كفر) والمسلمون عكسوا القضية فعظموا
التشكيك في الاعتقاد، وتهاونوا بالتقصير بالأعمال " [10] . صحيح أن بعض
الفرق تهاونوا بالأعمال ولكن من الخطورة بمكان كبير تعميم هذه القاعدة ومحاولة
عكس مفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة، للمصطلحات الشرعية (الإيمان، والشرك، والكفر) حيث يعتمد المسلمون في تحديدها على منهج القرآن، قال تعالى: [إنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى
إثْماً عَظِيماً] [النساء 48] . ومنهج أهل السنة في هذه المسألة واضح من خلال
قولهم المشهور: " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " [11] .
والاستحلال أمر اعتقادي قلبي، وقد تَبَنَّى الخوارج هذا المنهج واعتبروا مرتكب
الكبيرة - المعصية أو السلوك - كافراً حتى تجرأ هؤلاء على تكفير الصحابة
وتطبيق الأحكام الخاصة بالكافرين في حق المسلمين. وقد ذكر جودت مذهبي
الجبرية والقدرية ولم يذكر الرأي الصحيح وهو ما عليه أهل السنة والجماعة إذ
يقول: " ومن أسباب جعل السلوك البشري خارج العلم وخارج السيطرة عليه أمران: أولاً: فهم العقيدة الدينية فهماً خاطئاً، وهو أن الله يفعل ما يشاء [ومَا تَشَاءُونَ
إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ... ] [التكوير 29] وتاريخ النزاع طويل بين الذين يرون
الجبرية في سلوك البشر، وبين من يرون الانسان مخيراً في سلوكه " [12] .
وظاهر كلامه الانتصار لمذهب المعتزلة الذين يرون أن للإنسان مشيئته التامة دون
ربطها بمشيئة الله، ويجعلون عقولهم الحكم على أمر الله، فيقولون: يجب على الله.. كذا بناءاً على تصوراتهم البشرية عن الحكمة والعدل، وهذه النظرة للاعتقاد
تحمل جودت على القول: أن الاعتقاد خاضع لعمليات الضبط والتصحيح وذلك
حين يقول: " إذا كان عالم الأشخاص يقدم لنا العلم والتوحيد إلا أن العلم والتوحيد لا
بد أن تجري فيهما دائماً عمليات التصحيح والضبط " [13] .
كيف بدأ الخلق:
لبيان موقف جودت من موضوعات الخلق نجده يلجأ إلى فكرة إعادة النظر
فيما تعتقده الأمة بموضوع كيف بدأ الخلق، وعند تفسير قوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا
فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ] [العنكبوت 20] . يقول: (تحتوي هذه الآية
الكريمة على منهج محدد للبحث يشمل جوانب العالم المادية وغير المادية، الجواهر
والأعراض حسب تعبير الأقدمين، فالموضوع يشمل كل الكائنات من الذرة وما
دونها من الصفر إلى المجرة بل عموم الكون من المواد العضوية إلى الإنسان الذي
هو في أحسن تقويم، عضوياً وفكرياً واجتماعياً، ومن الأفكار الأولية التي
أعقدها) [14] .
وعن السبب في تبني هذا المنهج يقول جودت: " أن معرفة كيف بدأ الخلق
وفهم الأمور على هذا المستوى، ينبه الإنسان إلى أن الخلق قد ينمو ويتحسن لأن
من عرف كيف بدأ الخلق ضعيفاً وعاجزاً ثم نما نمواً بطيئاً وأن هذا النمو اقتضى
دهوراً طويلة، فقد يقوده التأمل في بدء الخلق إلى التفكير في مصير الخلق " [15] ، ثم يبين جودت الأمور التي تخضع للبحث وعدد بعضها، فقال: " وعلى مقتضى ...
هذه الآية ينبغي أن يذكر في مقدمة كل موضوع كيف بدأ خلقه، حتى ما يتعلق
بطريقة الإيمان بالله: كيف بدأ الإنسان يدرك معنى الألوهية، إذن كل موضوع له
بدء خلق بالنسبة لدخوله إلى إدراك الإنسان، وبمقتضى ما تطلبه الآية ينبغي أن
نعيد النظر في كل ما نراه من حيث كيف بدأ خلقه " [16] .
إن إعادة النظر هذه وإعادة البحث في أمور اعتقادية مقررة في النصوص
الشرعية، يعتبر خروجاً على هذه النصوص وتعطيلاً لمضمونها، وإن الخطر لا
يكمن لمجرد إعادة النظر في هذه القضايا فحسب وإنما في تغيير مكان الدليل،
ومكان هذا العلم، ويقول: (إن هذه الآية تنقل موضوع بحث معرفة كيف بدأ
الخلق، من آيات كتاب الله إلى آيات الآفاق والأنفس والسير في الأرض) [17] .
ما هي الحاجة الملحة التي يراها جودت لإعادة النظر بالمعارف التي يتضمنها
كتاب الله أو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
نستطيع أن نشير إلى موضوعين هامين يطلب جودت فيهما إعادة النظر
وتغيير الاعتقاد السابق، وهما بداية الإيمان بالله، وخلق الإنسان، فكيف خلق الله
الإنسان؟ من لا يعرف كيف خلق الله الإنسان؟
إن الطفل الصغير ليدرك هذه الحقيقة.. إن الله خلق الإنسان من تراب فقد
قال تعالى: [إن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ] [الحج: 5] .
وقال أيضاً: [قال: يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ] [ص: 75] .
ثم يبين الله كيف بدأ الخلق: [الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن
طِينٍ] [السجدة: 7] . لقد بين الله تعالى لنا بطريقة واضحة كيف بدأ خلق الإنسان، الخلق والمادة التي كان منها الخلق، وتفصيلات عن طريقة الخلق، فلماذا نبحث
هذه القضية في مصدر آخر؟ وما حقيقة أن نطلب تعديل ما هو مقرر في كتاب الله؟ أليس في ذلك نفي لقدرة النصوص الشرعية، على تقديم المعرفة العلمية
الصحيحة؟ ولقد فصل القرآن كل شيء عن خلق الإنسان، ولا نحتاج إلى تلقي
هذه المعلومات من مصادر أخرى.
لقد خالف جودت إجماع المسلمين في تلقي النصوص الشرعية والعمل بها
والتحاكم إليها عند التنازع والرضا التام بما يصدر عنها، ولئن لم يعتقد جودت
بتلقي، كيف بدأ الخلق من الكتاب والسنة فمن أين يحصل عليها؟ هل نعود في
ذلك إلى الذين ساروا في الأرض وقاموا بالحفريات ثم قالوا بنظرية النشوء
والارتقاء، أو الانتخاب الطبيعي، أو الصفات المكتسبة، وقد دحض العلماء هذه
النظريات وكذبوها، ولكن جودت لا يزال يلمح إليها في كل مناسبة، رغم أنه لا
يؤمن إلا بما يصدر عن الواقع والأمر الحسي إلا أنه في موضوع التطور يتخلى
عن منهجه المادي قليلاً ليقول بلغة التخيل: (لو تيسر للإنسان أن يراقب فكرياً
وضع الكرة الأرضية ونشوء الحياة فيها وأنواع الحيوان التي عاشت عليها، وأنها
يوماً ما كانت الحياة كلها في الماء، ثم صارت في اليابسة ثم وجد الإنسان، لماذا لا
يخطر لنا أن هذا الخلق لا يزال مستمراً؟ لماذا لا يخطر لنا أن الخلق لم يتوقف ولا
يزال يخلق، ويزاد في الخلق وأن هناك نشأة أخرى؟) [18] . يقصد النشأة في ...
الحياة الدنيا أو الانسان المتفوق (السوبرمان) [*] ثم يقول بأسلوب السخرية من
المسلمين: " إن التاريخ سيضطر المسلمين أن يغيروا فهمهم للقرآن، لهذا يقفون من
التاريخ موقفاً سلبياً " [19] .
كيف أدرك الإنسان الألوهية؟
إن طلب جودت إعادة النظر بموضوع كيف بدأ الإنسان يدرك معنى الألوهية، وكيف كان الإيمان بالله، وكيف نتلقي هذا الأمر من خارج القرآن الكريم؟ تلك
أمور تحتاج إلى وقفة مع جودت، وذلك لأن موضوع إدارك الإنسان الأول - آدم
عليه السلام - لمعنى الألوهية لم يكن موضوع اختلاف بين المسلمين، لأن هذه
الحقيقة واضحة عندهم، ولا تغيب عنهم، وهم يتلقونها من كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأما ميدان هذه البحوث والجدل القائم حولها فهو لدى علماء الاجتماع الوضعيين،
الذين يرفضون تلقي هذه العقيدة من مصدر الوحي، ويظهر أن جودت قد انحاز إلى
رأيهم وتبني منهجهم في هذه القضية، وأصبح يدعو لإعادة النظر فيها، وهو يؤمن
كما يؤمنون بمراحل التاريخ وتقسيماته، إذ يقول جودت عن التاريخ: " قطع
الإنسان فيه مراحل ومراحل حين خرج من حياة الصيد إلى الرعي إلى الزراعة،
إن تقسيم تاريخ البشر إلى عصور حجرية وقديمة وحديثة وعصر البرونز والحديد
كل ذلك يدل على: كيف بدأ الخلق والعلم وخلق السيطرة والتسخير " [20] .
ولا يشك المسلمون - كما يفعل علماء الاجتماع - بأن آدم -عليه السلام- كان
نبياً وكان موحداً خالصاً، وأنه تلقى عقيدة التوحيد من الله تعالى: [إنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ] [آل عمران 33] .
وقال تعالى يصف توبة آدم: [فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ] [البقرة 37] .
هذا هو منهج آدم ومنهج الأنبياء من بعده، وكلما أتى على هذا المنهج طارئ
من المعتقدات المنحرفة، كان يستدعي إرسال رسول جديد. وظن أصحاب التوجه
المادي أن هذه الانحرافات في تاريخ البشر، هي تطور في تاريخ العقيدة، فوضعوا
على أساس هذا الفهم الخاطئ تصورات عن تطور مفهوم هذه الألوهية، من
التعددية إلى التثليث إلى الثنائية إلى التوحيد، وأنكروا أن يكون أول البشر مهتدياً
موحداً، وظهرت عند بعض المسلمين هذه الأفكار واستخدموا عبارات علماء
الاجتماع الوضعية ذاتها، مثل قولهم: الأديان العليا، والأديان السفلى، كما جاء
عند جودت في كتاب اقرأ: " لهذا اعتبر توينبي الحضارات نكوصاً عن الأديان
العليا، فالأديان العليا إنسانية وسمو.. " [21] ، والقرآن يرد هذا الافتراء حيث
يقول الله تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ
مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [البقرة 213] .
- يتبع -
__________
(1) كتاب " اقرأ وربك الأكرم "، جودت سعيد ص 117.
(2) المصدر السابق ص 116.
(3) المصدر السابق ص 119.
(4) المصدر السابق ص 120.
(5) المصدر السابق ص 117.
(6) المصدر السابق ص 117.
(7) المصدر السابق ص 117.
(8) جزء من حديث طويل عن عمر أخرجه البخاري " باب الإيمان "، حديث 50 ومسلم 1/1.
(9) كتاب " اقرأ وربك الأكرم "، ص 93، ذكرت هذه الفقرة بالعدد 64 ص 28.
(10) المصدر السابق ص 116.
(11) العقيدة الطحاوية ص 316.
(12) كتاب " اقرأ وربك الأكرم "، ص 87.
(13) المصدر السابق ص 204.
(14) المصدر السابق ص 209.
(15) المصدر السابق ص 212.
(16) المصدر السابق ص 210.
(17) المصدر السابق ص 215.
(18) رسالة انظروا 40 اللغة والواقع ص 10.
(*) إن الفيلسوف الألماني الملحد نيتشه قد درج لنظرية (السوبرمان) في كتابه هكذا تكلم زرادشت.
(19) رسالة انظروا 40 اللغة والواقع ص 10.
(20) كتاب اقرأ ص 90.
(21) المصدر السابق ص 193.(66/23)
في وضح النهار
هرقل والعلمانيون
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
ما أزال أعجب كلَّ العجب، وآسى كلَّ الأسى على فئات من المسلمين
يرفعون شعارات بعيدة عن الإسلام، ويدعون إليها وينافحون عنها، وينالون من
الإسلام وأحكامه وشعائره من أجلها، ويهاجمون دعاة الإسلام ورجاله المصلحين ليل
نهار، أعجب والله من ذلك كلَّ العجب، وأسأل الله السلامة والعافية وأحمده على
صحة المعتقد، وسلامة العقل، وأسأله الثبات على الحق.
إنَّ الذي يتأمل (الطرح العلماني) في صُحفنا ووسائل إعلامنا في هذه الأيام
يشعر بالحزن لحال هذه الفئة (العلمانية) التي أغلقت عقولها وقلوبها أمام الحق،
ورضيت لنفسها أن تتخبط في دروب الضياع.
ومع أننا لا نستغرب (الهجمة العلمانية) الشرسة - هذه الأيام - التي يشنها ...
أدعياء الثقافة والفكر على إسلامنا ورجاله فإنها (شنشنة نعرفها من أخزم) ، وقد ...
تعودنا على مثل هذه الهجمات من (اليساريين) الذين أفرغوا - في زمن مضى - ...
ما في قواميس اللغة من عبارات السِّباب والشتم للدين والدعاة الملتزمين به والداعين
إليه، مع أننا لا نستغرب هذه الهجمة، إلا أننا نستغرب هذا القدر الهائل من الوهم
الذي تشقى به عقول هؤلاء العلمانيين، وهذا القدر الكبير من (الغباء) الذي يُعمي
أبصارهم عن رؤية الحق.
فهذه الأنظمة البشرية، والمذاهب والأفكار والمعتقدات الوضعية تتهاوى واحداً
تلو الآخر، وتنهار بصورة مروِّعة أمام أعين الناس، ومع ذلك ما تزال فئة
(العلمانية) في بلادنا جادة في طرح أفكار الغرب، وطروحات الغرب السياسية
والثقافية، وكأن ما يجري في العالم من سقوط لتلك الأفكار إنما هو شريط خيال يمر، أو مشهد من مسرحية (مأساوية) لا علاقة له بالواقع المعاش.
أحدهم يكتب المقالات الطوال مؤكداً أهمية (المشروع الغربي) سياسياً وثقافياً
واجتماعياً لإنقاذ الأمة من ضعفها وتخاذلها، ويرى أن النظام العالمي الجديد مظلة
يمكن أن نستظل بها، وأن نعيش حياة العزة والكرامة تحت سقفها، ويرى أن
هؤلاء المتخلفين أصحاب النظرة الأحادية من (دعاة الإسلام ورجاله) إنما يريدون
أن يعودوا بالأمة إلى الوراء وأن يمارسوا نوعاً من (التسلط الديني) على رقاب
الناس.
وآخر من فئة (العلمانيين) يرى أن علمنة الفكر والثقافة والنقد الأدبي أمرٌ لا ...
بد منه إذا أردنا الخروج من سجن (الفكرة الواحدة) و (النظرة الواحدة) إلى ...
فضاءات الحرية الثقافية التي لا حدود لها، وهي حرية - في رأيه متحققة - في ...
(المشروع الثقافي الغربي) .
وآخر يقول: إن فكرة النظام العالمي الجديد ستساعدنا على التخلص من
سيطرة (الدوغما) أي من سيطرة العقيدة والمبدأ، فهو يرى أن سبب تخلُّف الأمة
العربية هو التزامها بالمبدأ مما يشكل (سلطوية دينية) [*] تحكم الثقافة العربية
والعقل العربي، ولذلك تخلف العقل العربي عن اللحاق بالعقل الغربي في ميادين
العلم والثقافة والسياسة وغيرها.
إن هذا الاتجاه المخيف - عند فئة (العلمانيين) - إلى ثقافة الآخرين وفكرهم
ومذاهبهم بحاجة إلى طرح واع ودراسة واعية، إنها فجيعة كبيرة يجب أن لا تمر
بنا هكذا، ففي الوقت الذي طلعت فيه الشمس صافية لا يكدر وجهها غبار ولا غيوم، وفي الوقت الذي تتهاوى فيه طروحات الديموقراطية الغربية إلى الحضيض؛ كما
تهاوت قبلها الأيديولوجية الروسية - وما جرى في الجزائر دليل على ذلك - وفي
الوقت الذي يعلن فيه الغرب عودة أساليب الاستعمار العسكري بشكل واضح فيه قدر
كبير من التبجح - كما هو الحال في البوسنة والهرسك والصومال - أقول: في هذا
الوقت ما نزال نرى هذا الاندفاع الأعمى من فئة (العلمانيين) في بلادنا في هذه ...
الطرق المعوجّة المنحرفة، وما نزال نرى هذا التحامل على الإسلام وأهله وعلى
كتابه وسنته، وأقول لفئة العلمانيين من أبناء المسلمين: ألا يسعكم ما وسع هرقل
الروم في موقفه الإيجابي من دعوة الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما قال -
كما ورد في صحيح البخاري -: (قد كنت أعلم أنه خارج - يعني النبي عليه
الصلاة والسلام - لم أكن أعلم أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت
لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدمه) . ألا يخجلكم أيها العلمانيون موقف هرقل هذا؟
* * *
__________
(*) يعتبر الكاتب السوري علي أحمد سعيد المسمى: أدونيس من ألد أعداء الإسلام المروجين لهذه الآراء الفاسدة وتحتل مقالاته مكاناً بارزاً في الصحف والمجلات العربية بالإضافة إلى مقالات زوجته: خالدة سعيد، ومقالات ابنته: أرواد أسبر.(66/31)
خواطر في الدعوة
طبيعة الإسلام
محمد العبدة
إن طبيعة الإسلام تأبى أن يقوى عوده، ويعلو شأنه، عن طريق المؤتمرات
التي تعقد في الفنادق الفخمة، وفي الصالات والردهات التي تنفق عليها عشرات
الألوف إن لم نقل مئات الألوف من الدولارات. ويبدو هذا الأمر واضحاً للدعاة
الذين تمرسوا بالدعوة، وعاشوا همومها، وتدراسوا السيرة النبوية وعاشوا مراحلها
من حراء إلى حصار الشعب، ومن الدعوة في الطائف والاتصال بالقبائل إلى
الهجرة والجهاد، ثم بناء الدولة.
إن القرآن الكريم قد ذمّ الترف والمترفين، ونهى المسلمين عن الركون إلى
ذلك، ودعا إلى القصد وعدم الإسراف في شؤون الحياة. كما نهى عن إنفاق
الأموال الكثيرة في سبيل الكماليات ورغد العيش، وهذا أمر مطلوب إذ كان الإسلام
هو الحكم المنتصر، الضّاربُ بجُرّانه في الأرض، فكيف إذا كان في غربة وأهله
مستضعفون متخطفون في الأرض، يحاربهم القريب قبل البعيد؟ !
إن الإسلام لا يقوى إلا بالجهد والتعب، ولا يقوى إلا بالإيواء الذي يوفر
للمسلم الأمن النفسي والاجتماعي، ولا يقوى إلا بالنصرة التي تأخذ للمظلوم من
الظالم، وتحقيق معاني المؤاخاة والموالاة على أرض الواقع وليس في طيات الكتاب
المؤلفة عن (الأخوة الإسلامية) ، [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] [الأنفال
72] .
منذ أن نشأت ظاهرة المؤتمرات في الفنادق لم نجد لها أثراً كبيراً في تقوية
جبهة الإسلام، وإن ما ينفق عليها يمكن أن يؤسس مدرسة بل كلية في بلاد
المسلمين الفقيرة، كي يتخرج منها مئات الطلبة الذين يتربون على منهج سليم،
وأخلاق عالية، لأن أولئك هم الذين يمكن أن يحدثوا أثراً فعالاً في بلادهم.
كيف نقدم أموالنا للغربيين (أصحاب الفنادق) ثم نقول: إن ما نقوم به هو
خطوة كبرى في سبيل تقدم الإسلام، وإذا كان أمر المؤتمرات بهذه الأهمية فلماذا لا
تكون للمسلمين أماكن مُعدّة لهذا الغرض، وتكون ملكاً لهم حتى لا تذهب أموالهم
سدى.(66/34)
الحركة العلمية في بلاد الحجاز
في العهد الأموي [*]
(4)
د. محمد أمحزون
الفقه:
يقرر الرأي السائد والواقعي عن تطور التأليف في كثير من ميادين المعرفة
في العصر الأموي: أن كتب الإخباريين الكثيرة في القرن الثاني الهجري؛ أمثال
كتب: ابن إسحاق، وسيف بن عمر، وأبي مخنف، والواقدي هي عملية جمع لما
تفرق من كتب سابقة، وأن تفاسير كثيرة للقرآن الكريم في القرن الأول الهجري قد
دخلت في المؤلفات التي ظهرت بعد ذلك، وأن مؤلفات الحديث في القرنين الثاني
والثالث الهجريين سبقتها كتب أخرى مهَّدت لها، وبناء على ما تقدم يمكننا أن نعد
كتب الفقه الضخمة التي ألفت في القرن الثاني الهجري نتيجة تطور مواز.
ولا شطط في ذلك، فقد شهدت بلاد الحجاز في القرن الأول الهجري نشاطاً ...
فقهياً منقطع النظير. وتميزت به المدينة المنورة بفقهائها السبعة المرموقين وهم:
سعيد بن المسيب (ت 94 هـ) وسليمان بن يسار (ت107 هـ) وسالم بن عبد الله (ت 106 هـ) والقاسم بن محمد (ت 120 هـ) وعروة بن الزبير (ت 94 هـ) وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (ت بعد 90 هـ) وخارجة بن زيد بن ثابت (ت 100 هـ) وهؤلاء قد كونوا مجلساً للفقه والنظر تدور عليه الفتوى، وكانوا إذا وردت عليهم مسألة، أو قضية من القضايا المستجدة جلسوا جميعاً فتأملوها، وأصدروا ما يلزمها من فتوى أو رأي [1] .
وقد كون عمر بن عبد العزيز - عندما كان عاملاً على المدينة - مجلساً
استشارياً يتألف من هؤلاء الفقهاء [2] . وتشير الروايات إلى خبر لهشام بن عروة
يقول: أن كثيراً من كتب الفقه كانت في حوزة أبيه عروة بن الزبير يوم الحرّة
(سنة 63 هـ) ، وأنها احترقت كلها، فحزن لذلك حزناً شديداً [3] . بل منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وجدت مسائل في الفقه مدونة، فعندما وُلِّيَ عمر بن عبد العزيز إمارة المدينة أمر بالبحث عن مدونتين قديمتين، الأولى: (كتاب الصدقات) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والأخرى بنفس ... التسمية لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد احتفظ بالنسخة الأصلية للمدونة الأولى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (ت سنة 120 هـ) [4] . وكان جد والده عمرو بن حزم تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيها كلام في الفرائض والزكاة والديات والصلاة وغير ذلك [5] ، وقد دخلت هذه الرسالة فيما بعد في كتب الحديث التي تشمل أبواباً فقهية [6] .
وتلقى أنس بن مالك كتاباً من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن
فرائض الصدقة كما بَيَّنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[7] . وكانت لعلي
- رضي الله عنه - صحيفة دوّن فيها مسائل فقهية تحفظ عادة في قراب سيفه [8] . لكن الأفضل أن تسمى - الكتب المذكورة آنفاً - فتاوى فقهية لا رسائل في الفقه.
ويمكن اعتبار أول رسائل فقهية حقة تلك التي ظهرت في عصر بني أمية من
تأليف شباب الصحابة والتابعين، ويعد زيد بن ثابت (ت بعد 50 هـ) من الفقهاء
المشاهير في تلك الفترة، روى عنه تلميذه قبيصة بن ذويب كتاباً في الفرائض [9] . كما رواه عنه ابنه خارجة، وهو من مرويات ابن خير الإشبيلي [10] ، وهناك
أخبار كثيرة حول هذا الكتاب احتفظ بها البيهقي في كتاب السنن في الباب الخاص
بالميراث. وقد أفرد فيه قسماً خاصاً لزيد بن ثابت ومكانته الممتازة في الفقه وكتابه
الفرائض [11] ، ويتضح من الأخبار أن هذه الرسالة عُدَّت عند التابعين مصدراً لا ...
غنى عنه في موضوع المواريث؛ ويتضح ذلك في قول الزهري: (لولا أن زيد
بن ثابت كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس [12] ) .
ومما يدل على تقدير هذا المصنّف أنه شرح في وقت مبكر، حيث شرحه أبو
الزناد عبد الله بن ذكوان المدني (ت 132 هـ) وكان أحد كبار فقهاء التابعين بالمدينة، ووصف بأنه كان صاحب علم وحساب، بصيراً بالعربية [13] ، ومن العلماء
الذين شغلوا بالفقه في ذلك الوقت قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني تلميذ
زيد بن ثابت. وقد اتفقت الآراء على أنه كان ذا مكانة مرموقة بين فقهاء الطبقة
الأولى [14] وقد ذكرنا سابقاً أنه راوية كتاب الفرائض لزيد بن ثابت - رضي الله
عنه -، أما آراؤه فقد وصلتنا عن طريق بعض كتب الحديث والفقه [15] . ...
وكان زيد بن أسلم (ت سنة 136 هـ) من مشاهير الفقهاء بالمدينة؛ وهو أحد الفقهاء الذين دعاهم الوليد بن يزيد إلى دمشق ليسمع فتاواهم في قضايا
فقهية [16] . أما آراؤه الخاصة فقد جمعها ابن عبد البر نقلاً عن الموطأ في كتابه (التجريد) بعنوان: مراسيل زيد بن أسلم [17] .
وتشير الأخبار إلى أنه كان من المألوف في العصر الأموي تبادل الرسائل في
المسائل الفقهية. وقد كتب مثلاً نافع بن الأزرق (أحد زعماء الخوارج) إلى ابن
عباس - رضي الله عنه - يسأله عن رأيه في نصيب الأقارب في الميراث ويسأله
عن رأيه في قتل الأطفال [18] .
يبدو أن بداية تأليف كتب الفقه المصنفة حسب الأبواب الفقهية كان في أواخر
القرن الأول الهجري، إذ يذكر ابن قيم الجوزية: أن مصنفاً للزهري في الفقه كان
في ثلاثة أسفار، وأن فتاوى الحسن البصري كانت في سبعة أسفار مرتبة على
أبواب الفقه [19] .
وفي تلك الفترة أيضاً برز فقهاء مهدوا لمدرسة الرأي منهم علقمة بن قيس
(ت سنة 62 هـ) والأسود بن يزيد (ت سنة 75 هـ) . وكان على رأس هؤلاء ربيعة بن أبي فروخ (ت سنة 136 هـ) ، روى عن الصحابي أنس بن مالك وعن كبار التابعين [20] وأبرز تلاميذه مالك بن أنس [21] . وكان الناس يلجأون ... إليه عند عدم وجود نص، فسمي ربيعة الرأي [22] ، تقديراً له، ولذلك قال مالكاً: ... (ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة) [23] ، ويبدو أن له كتاباً في الفقه أفاد منه المالكية في كتبهم، إذ يذكر صاحب المدونة بعض آراء ربيعة في الفقه [24] . والراجح أن مالكاً قد استخدم هذا المصنف الذي يحتوي على عدد كبير من آراء ربيعة في كتابه الموطأ [25] .
العقائد:
ترتبط بدايات الدراسات العقيدية الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بالأحداث السياسية
في صدر الإسلام، إذ شهد عصر ما بعد الفتنة ظهور فرق تميزت بنظريات وآراء
خاصة بها في المجال السياسي. فمن الحقائق المعروفة في التاريخ الإسلامي أن
قضية الخلافة التي واجه فيها الخوارج فكرة الإمامة عند الشيعة قد تطورت تطوراً
سريعاً إلى نقاش حول القدر، ثم تطور ذلك النقاش إلى فروع أخرى من العقيدة مثل: مرتكب الكبيرة أكافر هو أم مسلم؟ .
فلما غالى الخوارج في الوعيد بتكفيرهم أصحاب الكبائر واعتبارهم مخلدين
في النار بالغت المرجئة في الوعد، وارجأت الحكم على أهل المعاصي إلى يوم
الحشر مع تفويض أمرهم إلى الله إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم [26] .
وإزاء تلك المواقف المتطرفة للفرق، هب أهل السنة والجماعة لنصرة الحق، وبيان العقيدة الصحيحة، وتحذير الأمة من تلك المذاهب الضالة. فبدأت مرحلة
جديدة عنى فيها علماء السنة بالتدوين والتأليف لبيان العقيدة الصحيحة والردّ على
المنحرفين عنها، واتخذت مصنفاتهم منهجين اثنين: الأول منهج الردّ، والثاني
منهج العرض.
وقد نشط أرباب الفرق بدورهم في مجال التأليف، وخاصة المعتزلة، وقد
كان واصل بن عطاء (ت 131 هـ) مؤسس مدرسة الاعتزال بليغاً مفوهاً، مكَّنته قدرته اللغوية من التصنيف في مذهبه، فألف عدداً من الكتب منها: كتاب (المنزلة بين المنزلتين) ، وكتاب (العدل والتوحيد) [27] ، وكتاب (أصناف
المرجئة) [28] .
لقد كثر التأليف في الرد على القدرية، واعتبر أقدم ضروب المصنفات
العقيدية. ومن أوائل من ألف في الردّ على القدرية أبو الأسود الدؤلي (ت سنة 69
هـ) في مصنفه المسمى (رسالة في ذم القدرية) [29] . كما ألف آخرون كتباً في الردّ على القدرية والمعتزلة مثل عيسى بن عمر الثقفي، ويحيى بن معمر (ت 89 هـ) ، وزيد بن علي الهاشمي المدني (ت سنة 122 هـ) . وهذا الأخير صنف كتابين في الرد على القدرية والمعتزلة وهما: (الردّ على القدرية) و (رسالة في الإمامة إلى واصل بن عطاء) [30] . .
وصف البغدادي كتاب الردّ على القدرية للخليفة عمر بن عبد العزيز بأنه
رسالة بليغة [31] . وصنف جعفر الصادق الهاشمي (ت سنة 103 هـ) ثلاثة رسائل في الردّ على القدرية والخوارج والرافضة (الشيعة) [32] .
أما كتب القدرية أنفسهم فلا يعرف منها إلا كتاب القدر لوهب ابن مُنَبِّه
(ت سنة 110هـ/728 م) [33] . ويقال إنه ندم بعد ذلك على تصنيفه [34] . أما كتب غيلان بن مسلم وهو من أوائل من قال بالقدر فيبدوا أنها ضاعت، وقد ذكر له ابن النديم مجموعة من الرسائل في " الفهرست " [35] . وهناك مجموعة من خطبه وصلت إلينا في كتاب " عيون الأخبار " لابن قتيبة [36] .
وترجع أقدم المؤلفات حول الإرجاء والردود عليها إلى تلك الفترة اأيضاً،
فأول من تكلم في الإرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية الهاشمي المدني (ت سنة 99 هـ) ويقال أن رجلان (وهما زاذان وميسرة) دخلا عليه فلاماه على الكتاب ... الذي وضع في الأرجاء، فقال لزاذان: لَوَدَدْتُ أني متُّ ولم أكتبه [37] . ثم كتب الرسالة التي نبذ فيها الإرجاء بعد ذلك [38] . والرسالة الأولى في الإرجاء ذكرها أبو عمر العدني في كتابه " الإيمان " [39] .
ويصور ثابت قطنة (ت 110 هـ) الشاعر الأموي المشهور عقيدة المرجئة وفكرهم في قصيدة محكمة البناء نظمها لبيان الإرجاء الخاص بالصحابة بعد الفتنة، وهو ما يسمى بإرجاء المرجئة الأولى. ومطلع القصيدة:
يا هند فاستمعي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لا نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مُشَبَّهة ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا
وقد وردت هذه القصيدة في كتاب (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) [40] . ... ...
وترجمها (فان فولتن) إلى اللغة الألمانية، و (ألفرد فون كريمر) إلى اللغة ... ...
الألمانية، كما ترجمها " نالينو " إلى اللغة الإيطالية [41] .
وهناك بضع رسائل وقصائد ذات مضمون عقيدي ألفها ونظمها زعماء ...
الخوارج، ومنها كتاب العقيدة لعبد الله بن أباض المري الذي عاش في النصف
الثاني من القرن الأول الهجري [42] . ولأبي حمزة مختار بن أوس الأزدي ...
(ت سنة 90 هـ) مجموعة من العظات في باب العقيدة [43] . وأورد أبو مخنَّف في كتابه (الغارات) بضع رسائل ذات مضمون عقيدي ألفها زعماء الخوارج في مناقشاتهم وجدالهم مع بعض الصحابة مثل ابن عباس [44] .
كما عبر الخوارج عن آرائهم وعقائدهم عبر خطبهم وأشعارهم. وكان قَطَرِيّ
بن الفُجَاءة، وعمران بن حطان ذوي موهبة حقيقية في الشعر والخَطابة، وسخرا
خطبهما وأشعارهما للدعوة إلى عقيدة ورأي الخوارج. وهناك نصوص وردت من
ذلك في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ [45] ، و (المؤتلف والمختلف) ...
للآمدي [46] ، وقد جمع إحسان عباس هذه الأشعار في كتاب ونشرها بعنوان
(شعر الخوارج) [47] .
وفي الختام يمكن القول: أن الأمويين أَصَّلوا مبادئ بعض العلوم، وفتحوا
طريق التأليف، إذ نشط التدوين والكتابة في عصرهم، وكثرت المؤلفات ذات
الصبغة العربية الإسلامية الخالصة، ولو أن الزمن أغار على جُلِّها وأضاعها.
وبصفة خاصة: إن الأمويين يمثلون بحق طبيعة العربي المتحضر، تلك
الطبيعة التي تتبلور من خلال ميلهم للحضارة والعمران والفن، والآداب والشعر،
وعنايتهم بمختلف العلوم وتشجيع أهلها.
__________
(*) تابع لما قبله، انظر العدد 55 ص 47 (التفسير) والعدد 56 ص 66 (الحديث) والعدد 61 ص 60 (السيرة والمغازي) .
(1) ابن سعد: الطبقات، 5/334.
(2) ابن سعد: المصدر نفسه، 5/179.
(3) انظر أبو عبيد: الأموال، ص 501-502.
(4) السرخسي: المبسوط، 2/152.
(5) ابن حجر: الإصابة، 2/1264.
(6) النسائي: السنن، كتاب القسامة، 8/57-58.
(7) أحمد: المسند، 1/183-184، والخطيب: تقييد العلم، ص 87.
(8) النسائي: المصدر السابق، كتاب القسامة، 8/24.
(9) أحمد: العلل، 1/236.
(10) ابن خير الأشبيلي: فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 246.
(11) البيهقي: السنن، 6/213، 226، 232، 245، 247.
(12) الفسوي: المعرفة والتاريخ، 1/486.
(13) ابن سعد: المصدر السابق، ص 320 (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة) ، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/447.
(14) الشيرازي: طبقات الفقهاء، ص 33.
(15) انظر أبو داود: السنن، كتاب الفرائض، 3/121، ومالك: الموطأ: كتاب الفرائض، ص 418-420.
(16) الذهبي: تاريخ الإسلام، 5/251، وعبد القادر بدران: تهذيب سيرة تاريخ دمشق، 5/442.
(17) ابن عبد البر: التجريد، ص 51-54.
(18) ابن أبي حاتم: العلل: 1/307 ويعني قتل أطفال المخالفين له (الخوارج) لأنه يعتبرهم كفاراً.
(19) ابن القيم: إعلام الموقعين، 1/26.
(20) ابن حجر: تهذيب التهذيب، 3/258.
(21) ابن حجر: المصدر نفسه، 3/258.
(22) الجاحظ: البيان والتبين، 1/102.
(23) الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/91.
(24) انظر: مالك: المدونة (رواية سحنون) ، 1/15-35.
(25) انظر: التجريد لابن عبد البر، ص 34-38.
(26) الأشعري: المقالات، 1/89-157-189، وابن حزم: الفصل في الملل والنحل، 1/115 -157.
(27) الذهبى: سير أعلام النبلاء، 5/465.
(28) سزكين: تاريخ التراث العربي، 4/19.
(29) البغدادي: أصول الدين، ص 316.
(30) البغدادي: المصدر نفسه، 307-308.
(31) البغدادي: المصدر نفسه، 307.
(32) البغدادي: المصدر نفسه: ص 307-308.
(33) ابن عساكر: المصدر السابق [**] ، 17/479.
(**) لم يذكر الكاتب اسم المرجع، فمن إحالته الأولى قال: المصدر السابق والمرجح أن المرجع المشار إليه هو: تاريخ دمشق.
(34) ياقوت: معجم الأدباء، 7/233.
(35) ابن النديم: الفهرست، ص 17.
(36) ابن قتيبة: عيون الأخبار، 2/345.
(37) ابن سعد: المصدر السابق، 5/328.
(38) المزي: تهذيب الكمال، 1/279.
(39) العدئي: الإيمان، ص 148.
(40) أبو الفرج: الأغاني، 14/271.
(41) سزكين: المرجع السابق، 3/102.
(42) سزكين: المرجع السابق، 4/5.
(43) أبو الفرج: المصدر السابق، 20/103.
(44) سزكين: المرجع السابق، 4/5.
(45) الجاحظ: المصدر السابق، 2/126.
(46) الآمدي: المؤتلف والمختلف، ص 91.
(47) نشرته دار الثقافة في بيروت عام 1974.(66/36)
وقائع برلمانية
د.أحمد إبراهيم خضر
" لم أكن أظن أن ما قضى الله به في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - يحتاج إلى موافقة عباد الله، ولكنني فوجئت أن قول الرب الأعلى
يظل في المصحف - له قداسته في قلوبنا - إلى أن يوافق عباد الله في البرلمان
على تصيير كلام الله قانوناً. وإذا اختلف قرار عباد الله في البرلمان عن حكم الله
في القرآن فإن قرار عباد الله يصير قانوناً معمولاً به في السلطة القضائية مكفولاً
تنفيذه من قبل السلطة التنفيذية؛ ولو عارض القرآن والسنة. والدليل على ذلك أن
الله حرم الخمر، وأباحها البرلمان. وأن الله أمر بإقامة الحدود، وأهدرها البرلمان. والنتيجة على ضوء هذه الأمثلة أن ما قرره البرلمان صار قانوناً رغم مخالفته
للإسلام ".
هذه الكلمات هي خلاصة ما انتهى إليه أحد علماء الإسلام بعد أن قضى ثماني
سنوات كنائب في البرلمان. وكان ذلك النائب العالم قد أحس بضرورة الخطابة
على المنابر، والكتابة في الصحف، بعد طول معايشته لتلك الأساليب، ازداد إيماناً
بجدواها لكنه شعر أنها وحدها لا تحدث تغييراً في القوانين، ولا تأثيراً مستمراً في
السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، فرشح نفسه لعضوية البرلمان بحثاً عن
أسلوب جديد لإعلاء كلمة الله تعالى بتطبيق الشريعة الإسلامية، إنقاذاً للعباد من
الضلالة وتخليصاً لهم من الأباطيل ودفعاً بهم إلى رحاب الإسلام.
فاز العالم بعضوية البرلمان تحت شعار " أعطني صوتك لنصلح الدنيا بالدين "
وأعطاه الناس أصواتهم ثقة فيه رغم كل وسائل التزييف والتزوير في الانتخابات.
واستمر النائب في عضوية البرلمان دورتين متتاليتين ثم قال بعدها: " إنه عَزَّ على
البيان الإسلامي أن يجد صداه المنطقي في هاتين الدورتين ".
ذهب النائب العالم يوماً إلى واحدة من مديريات الأمن لقضاء مصالح مواطنيه
ففوجئ في مكتب الآداب بحوالي ثلاثين امرأة يجلسن على البلاط فسأل قائلاً: ما
ذنب هؤلاء؟ فقال له المسؤول: إنهن الساقطات! فسأل وأين الساقطون؟ إنها
جريمة لا تتم إلا بين زان وزانية. فأخبره المسؤول بأن الزاني عندهم هو مجرد
شاهد بأنه قد ارتكب الزنا مع هذه وأعطاها على ذلك أجراً فهي تحاكم ليس لأنها
ارتكبت الزنا ولكن لأنها تقاضت الأجر. فتحول المّقُرُّ والمعترف بأنه زان إلى
شاهد عليها ولا يلتفت القانون إلى إقراره واعترافه بالزنا.
غضب النائب العالم غضبة لله، فقال له المسؤول ببساطة: (نحن ننفذ قانوناً
أنتم أقررتموه في البرلمان) .
أدرك النائب العالم أنه مهما كثرت الجماهير المنادية بتطبيق الشريعة، ومهما
ساندها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الآمال في تطبيق
الشريعة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق البرلمان الذين يسمونه (السلطة
التشريعية) ، ولأن السلطة القضائية لا تحكم إلا بالقوانين التي تصدر عن البرلمان،
وأن السلطة التنفيذية لا تتحرك لحماية القرآن والسنة، ولا لحماية الإسلام إلا بمقدار
ما أقره البرلمان من هذه الجوانب المقدسة، اعتقد النائب العالم بأن الوصول إلى
هذه الغاية ممكن إذا علم نواب البرلمان أن هذا هو قول الله، وقول رسوله، وحكم
الإسلام ليقروه.
انطلق النائب العالم فقدم مشروع قانون لإقامة الحدود الشرعية، ومشروع
قانون لتحريم الربا مع اقتراح الحل البديل، ومشروع قانون لتطويع وسائل الإعلام
لأحكام الله، ومشروع قانون لرعاية حرمة شهر رمضان، وعدم الجهر بالفطر في
نهاره، ومشروع قانون لتنقية الشواطئ من العربدة، والعديد من المشاريع
الإسلامية الأخرى. ووقع معه على مشاريع هذه القوانين عدد كبير من أعضاء
البرلمان. وذهب النائب العالم لأداء العمرة، واصطحب معه بعض أعضاء
البرلمان، وعند الحجر الأسود عاهدوا الله جميعاً على مناصرة شريعة الله في
البرلمان، ثم ركبوا الطائرة إلى المدينة المنورة، ثم تعاهدوا في رحاب المسجد
النبوي على رفع أصواتهم لنصرة شرع الله لا لنصرة انتماءاتهم الحزبية.
حمّل النائب العالم السلطات الثلاث في الدولة مسؤولية إقرار المحرمات
ومخالفة الشريعة، وتوعد وزير العدل آنذاك بأنه سيستجوبه بعد بضعة شهور إذا
هو لم يقدم ما تم إنجازه من قوانين تطبيق الشريعة الإسلامية. ولم يقدم الوزير ما
طلبه منه النائب فوجه إليه النائب استجواباً - والاستجواب في عرف البرلمانات
ملزم للمستجوب بالرد عليه ما لم تسقط عضوية الوزير أو يخرج الوزير المستجوب
من الوزارة - وأصر النائب على استجواب الوزير ووقفت الحكومة خلف وزيرها،
وأصرت على إسقاط الاستجواب، ولما اشتد إصرار النائب على الاستجواب
أحدثت الحكومة تعديلاً وزارياً لم يخرج منه إلا وزير العدل، أي أن الوزير أخرج
من الوزارة ليسقط الاستجواب، وتكرر هذا العمل حتى أصبح قاعدة من قواعد
التعامل مع البرلمان.
لجأ النائب العالم مرة ثانية إلى أعضاء البرلمان وقال لهم: إن مشاريع
القوانين الإسلامية وضعت في أدراج اللجان، وقد عاهدتم الله في الحرمين على أن
تكون أصواتكم لله ورسوله، وطالب بتوقيعهم على المطالبة بالتطبيق الفوري
للشريعة الإسلامية فاستجابوا، ووقعوا على ما طالبهم به ووضع النائب العالم هذه
الوثيقة في أمانة البرلمان، وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله.
فقام رئيس البرلمان وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله. وقال
للنواب: إن الحكومة لا تقل عنكم حماسة للإسلام، ولكننا نطلب منكم فرصة
للمواءمات السياسية، فصفق له النواب الموقعون، المتعاهدون في الحرمين على
العمل على تطبيق شريعة الله، ووافقوا على طلبه، فضاعت المطالبة بالتطبيق
الفوري للشريعة وانتصرت الحكومة.
غلب اليأس النائب العالم لعدم جدوى محاولاته في سبيل تطبيق الشريعة مع
أعضاء يناديهم فيستجيبون ثم يعدلون، ثم فوجئ يوماً باقتراح من رئيس البرلمان
للموافقة على تكوين لجنة عامة لقوننة الشريعة الإسلامية، وتبين حقيقة الأمر فوجد
أن قرار الحكومة المفاجئ هذا لم يكن إلا تغطية لفضيحة كبرى مست كرامة البلاد.
ولم تتخذ الحكومة قراراً لصالح الإسلام. ورحب النائب بالفكرة رغم فهمه لأبعادها، واجتمعت اللجنة لكن النائب العالم أحس عدم جدية الدولة في تطبيق شرع الله
لأنها إذا أرادت إرضاء الله فهناك أمور لا تحتاج إلى إجراءات. فإغلاق مصانع
الخمور يمكن أن يكون بجرة قلم. وإغلاق الحانات يمكن أن يتم بجرة قلم.
كانت هناك مظاهر تدل على ما في الأعماق حقيقة، تضافرت كلها لتترك في
نفس النائب العالم انطباعاً - يشكل في حد ذاته قاعدة من قواعد التعامل مع
البرلمانات - مؤداه: أن شرع الله لن يتحقق أبداً على أيدي هؤلاء.
فوجئ الناس وفوجئ النائب العالم بحل البرلمان بعد أن كان هو رئيساً للجنة
مرافعات تطبيق الشريعة الإسلامية، وظل يوالي مع اللجنة عملية الدراسة والتقنين
عبر ثلاثين اجتماعاً. وفي غيبة البرلمان صدر قرار خطير في مسألة تمس حياة
الناس الشخصية. فوقف النائب العالم ضد هذا القرار لأنه مخالف للإسلام والدستور، ولكن القاعدة تقول: أن البرلمان كله يمكن أن يحل بقرار إذا أرادت الدولة فرض
أمر على الناس حتى ولو كان مخالفاً للإسلام.
أما أهم قاعدة يستند إليها البرلمان فقد لخصها النائب العالم بقوله: " إنه مهما
أوتيت من حجج ومهما استند موقفي إلى الكتاب والسنة فإن من عيوب البرلمان
ومسؤوليته الفادحة أن الديموقراطية تجعل القرار ملكاً للغالبية المطلقة بإطلاق وبلا
قيد ولا شروط ولو خالف الإسلام ".
أحس النائب العالم بأن زحفاً من التضييق عليه يشتد من جانب الحكومة،
ومن رئيس البرلمان، ومن حزب الغالبية؛ وافتعلت رئاسة البرلمان ثورات ضده،
واتهمته بأنه يعطل أعمال اللجان. ولكنه استمر في بذل جهوده. فقدم العديد من
الأسئلة التي لم تدرج في جداول الأعمال، وقام بالعديد من طلبات الإحالة فوجدها
قد دفنت ولم تقم لها قائمة، ثم عاد إلى استخدام سلاح الاستجواب الذي لا يمكن رده. فاستجوب وزراء الحكومة عن ضرب الدولة للقضاء الشرعي والأوقاف،
والمعاهد الدينية، ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم، وعن ضربها لمناهج التعليم في
الجامعات الدينية بحجة تطويرها، وعن ضربها للمساجد بإصدارها قانوناً لا يسمح
لأحد حتى ولو كان من (المشايخ) أن يدخل دور العبادة، وأن يقول ولو على سبيل
النصيحة الدينية قولاً يعارض به قراراً إدارياً أو قانوناً مستقراً؛ ومن فعل ذلك
حبس وغرم، فإن قاوم ضوعفت الغرامة وسجن.
قدم النائب العالم استجواباً إلى وزير السياحة لأن طلاباً في المدارس الفندقية
أرغموا على تذوق الخمور فرفضوا ففصلوا، وقدم استجواباً آخر إلى وزير الإعلام
بغية تطهير وسائل الإعلام من العربدة التي تعصف بالقيم والأخلاق ومقدسات البلاد، واستجواباً ثالثاً إلى وزير النقل والمواصلات عن صور القصور والتقصير بهذه
المرافق، وشعر النائب العالم أنه يقدم الاستجواب تلو الاستجواب إلى بالوعات،
فوقف في البرلمان يحاسب رئيسه ويتهمه بالخروج على لائحة البرلمان، فأمر
رئيس البرلمان في لعبة مثيرة بإدراج الاستجوابات الثلاثة في جلسة واحدة مع أن
كل استجواب يحتاج إلى أيام، ثم دعا الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية لتحبط هذه
الاستجوابات، ونودي على وزير السياحة فتدخلت الحكومة التي اعترضت على
إدراج هذا الاستجواب في جدول الأعمال لأن فيه كلمة نابية هي بالضبط (اتهام
صاحب الاستجواب الوزير بأنه جافى الحقيقة أثناء رده على السؤال) ثم طرح
الموقف على نواب البرلمان فقرروا إحباط الاستجواب وعطلوا ما يسمى بالحق
الدستوري للنائب في محاسبة الدولة، ثم نودي على الاستجواب الثاني المقدم لوزير
الإعلام، وكما انتصر النواب للخمر، انتصروا للرقص رغم أنهم عاهدوا الله على
النصرة لشريعته، ثم نودي على وزير النقل لكن النواب رأوا أن محاسبة الوزير
تتلاقى مع أهوائهم، فقام النائب العالم إلى المنصة وقال لنواب البرلمان:
" يا حضرات النواب المحترمين لست عابد منصب ولست حريصاً على
كرسي لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي " أعطني صوتك لنصلح الدنيا
بالدين " وكنت أظن أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تقدم مشروعات القوانين
الإسلامية لكنه تراءى لي أن مجلسنا هذا لا يرى لله حكماً إلا من خلال الأهواء
الحزبية، وهيهات أن تسمح بأن تكون كلمة الله هي العليا..
لقد وجدت طريقي بينكم إلى هذه الغاية مسدوداً، لذلك أعلن استقالتي من
البرلمان غير آسف على عضويته " وانصرف النائب العالم إلى داره في أبريل
1981 ورفعت الجلسة.
رحل النائب العالم عن البرلمان، ثم رحل عن هذه الدنيا كلها بعد ذلك بعدة
سنوات، وبقي البرلمان يقضي ويشرع وينفذ بغير ما أنزل الله.(66/44)
البيان الأدبي (شعر)
وا أُمَّتاه
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
زفراتكم من حولنا تتصعَّد ... وصراخكم في صمتنا يتبدَّدُ
ذبتم على وَهَج الرَّصاص ولم نزلْ ... لعدوِّنا وعدوِّكم نتودِّد
تتغيَّثون سحابَنا، وسحابَنا ... وَهْم كبير في الفضاء مجَّمُد
تترقَّبون قرار مؤتمراتنا ... بُشرى لكم، فقرارها سيندِّد
ولسوف ينطق ناطقٌ، أنّا على ... شَجْبِ العدوِّ المستبدِّ سنصمدُ
ولسوف يحلف حالفٌ من قومنا ... أن َّ الأسى من أجلكم يتجدَّدُ
ولسوف تُقْرَأُ كلَّ يومٍ نشرةٌ ... عنكم مصوَّرةٌ ويُعرض مشهَدُ
ولسوف تُرسَمُ لوحةٌ ... زيتيَّةٌ فيها صريع بالتراب موسَّدُ
بُشرى لكم سيُقام حفلٌ ساهرٌ ... وتُصاغ أُغنيةٌ لكم وتُردَّد
هذا الذي سترون منا فافرحوا ... واستبشروا،وعلى الكلام تعوَّدوا
أما الجهادُ لأجلكم، بعتادنا ... فمحرَّم، إنَّ الجهاد تمرُّدُ
ولِمَ الجهادُ، وهيئةُ الأممِ انبرتْ ... للظالمين، ففضلُها لا يُجحَدُ
ألقت على الصومال ألفَ قذيفةٍ ... تحيي بها الأَمْنَ الذي لا يُوجد
ورمتْ إلى الصَّرب الزِّمام فجيشهم ... يُرغي بأوروبا هناك ويُزْبُد
أحبابَنا عفواً فغايةُ قومنا ... مالٌ وأولادٌ وعيشٌ أَرْغَدُ
أما مقاومة العدوِّ فعادةٌ ... مذمومةٌ، من مثلنا لا تُحَمُد
أنَّى تجاهد أمةٌ تحيا على ... غَبَشٍ، تُفرِّط في الكتاب وتُلحِدُ
سيفُ الجهاد بغمده متلفِّع ... والبابُ في وجه المجاهد يُوصَدُ
أحبابنا إني أغالب حسرةً ... مشبوبةً وعلى الأسى أتجلَّدُ
نظراتُ أعينكم تعذِّبني فلا ... عيشي يطيب، ولا جفوني ترقدُ
تبكي سراييفوا دماً فأنينُها ... لهبٌ، وخاطرُها الحزين الموقدُ
تجري دماء الأبرياء على الثرى ... نهراً، وعالَمُنَا المخدَّر يشهَدُ
وتبيتُ مقديشو على آلامها ... نفسٌ محطَّمةٌ وجَفْنٌ مُسْهَدُ
والمسجد الأقصى يباع ويُشترى ... جهراً، وقُدس الفاتحين تُهوَّدُ
أوَّاه من نار أُحسُّ بحرِّها ... لما يُراق دَمٌ، ويهدم مسجدُ
إني لأبصر وجه طفلٍ تائهٍ ... وسؤاله الحيرانُ، أين المرشدُ؟
يبكي ولا أمُّ تكفكف دمعَه ... يشكو وليس له أبٌ يتودِّد
سرق النظام العالميُّ ثيابَه ... وسهام أوروبا إليه تُسدَّد
وقذائفُ الصِّربِ العنيفةُ لم تَدَعْ ... عصفورَ أحلام الصغير يغرِّد
أين الدفاترُ يا محمَّد، لم يُجِبْ ... أنَّى يجيب عن السؤالِ محمَّد؟!
أنَّى أُجيبُ، وفي لساني حُبْسَةٌ ... والنار من أنقاض داري تَصعَدُ؟
أنَّى أُجيبُ، ولعبتي محروقةٌ ... وأبي الحبيبُ على الرصيف مُمدَّدُ؟ !
أنَّى أُجيبُ، وثوب أمي شاهد ... أنَّ الجريمةَ، حَدَّها لا يبرُد؟ !
أنَّى أُجيبُ، وقُرط أختي لم يزلْ ... يبكي عليها، والعدوُّ يهدِّدُ؟ !
أنَّى أُجيب، ونحن زَرْعُ طفولةٍ ... كسنابل القمح النديَّة نُحْصَدُ؟ !
أنَّى أُجيبُ، ومات ألفُ تَساؤُلٍ ... ومضى الزمانُ، وما أزال أُشَرَّدُ؟ !
ماذا جنى هذا الصغيرُ، أما هُنا ... رجلٌ إلى قول الحقيقةِ يُرشدُ؟ ؟ ! !
إني لأسمع صوت مسلمةٍ لها ... قلبٌ، وليس لها على الباغي يدُ
ظلَّت تصيح وتستجير فلا ترى ... من قومها مَنْ يستجيب ويُنْجدُ
نادتْ ونادت، فاستجاب لها الصَّدَى ... إن الذي يحمي الحمى لا يُوْجَدُ
لا تصرخي، فصلاحُ دينك غائبٌ ... وحصانُ معتصم الإباءِ مقيَّد
والخيلُ، خيلُ الله، لم تُصنع لها ... سُرُجٌ، ولم يقد الكتيبةَ أحمدُ
لا تصرخي. فسلاحُ أمتك التي ... تستصرخين، من العدا مستوردُ
لا تصرخي فالحاكمون بأمرهم ... حفظوا أناشيد الخضوع وأنشدوا
يا ويحهم لو أنهم جعلوا الهدى ... درباً، لما حكم القريب الأبعدُ
إنى لأبصر أمةَ الإسلام في ... لَهْوٍ، تقوم على الهوان وتقعَدُ
نار الصليب تُشَبُّ بين خيامها ... ولواءُ إسرائيل فيها يُعقَدُ
ورصاص أوروبا مزِّق جسمَها ... وغرور أمريكا فَمٌ يتوعَّدُ
فأكاد أحلف أنَّ أمتنا غدتْ ... بالذُّل في دَيْر الهوانِ تُعمَّد
وكأنّها لم تَبْنِ صرحاً شامخاً ... ظلَّتْ به نحو المعالي تصعد
واأُمتاه، وضجَّ بحر تساؤلي ... ما هذه الحُرَقُ التي تتوقَّدُ
ماذا دهاك، وأُسرجت لي شمعةٌ ... واستبشرت طرقي وبان المقصدُ
ورأيت أمتنا، وفي تاريخها ... هِمَمٌ عظامٌ، نَهْرُها لا يركدُ
لما سألت الليل عنها، قال لي: ... كانت إذا أكْنَنْتُها تتهجَّدُ
لما سألت الفجر عنها، قال لي: ... كانت تسبح ربَّها وتحمِّدُ
لما سألت الحرب عنها أقسمتْ ... بالله، أنَّ ظهورها لا تُجلَدُ
لما سألت الروم عنها زمزموا ... لما سألت الفرْس عنها أَبْلَدٌوا
لما سألتُ مقوقساً ورجاله ... قالوا: لأمتك العُلا والسُّؤْدَدُ
كانت فوا أسفا على الحال التي ... صارت إليها، إنها لا تُسْعِدُ
ماذا أقول لها، أألطم وجهها ... بالشعر حتى ينهضَ المستعبَدُ؟!
ماذا أقول: إذا رسمنا لوحةً ... للحزن، قالوا إنّ شعرك أسودُ؟!
وإذا رفعنا الصوت نشكو ما جرى ... قالوا تُثير الغافلين وتحشُدُ
وإذا تنهدنا أداروا نحونا ... ظهراً، وقالوا: العارُ أنْ تتنهَّدوا
من أين نخرج، كلُّ زاويةً بها ... ذئبٌ يراقبنا، وعينٌ ترصدُ؟!
ماذا أقول لأمةٍ، قد خيَّبَتْ ... ظني، وصارت في المكارم ترصدُ؟
سأقول في وضح النهار وإن طغى ... طاغٍ، وإنْ كره المقالةَ مُلحِدُ:
إني أرى في جيل صحوتنا مُنَىً ... مخضلَّةً، عنها سينكشف الغَدُ
إني برغم الحزن لستُ بيائسٍ ... فالفجر من رحم الظلام سيُولَدُ(66/51)
يا أمتي [*]
محمود السيّد الدغيم
ما للمعارك ضدّنا تتصعَّدُ ... والضدُّ يغتال المنى ويُبدِّدُ
وقيادةٌ حيرى تخبَّط رأيُها ... لعدونا وعَدُوِّها تَتَوَدَّدُ
ففريقُها متشبثٌ بكبيرها ... وصغيرُها خلف الغريق مُجَمَّدُ
تَتَصنَّع الإنصافَ مؤتمراتُها ... وتُدين من عادى العِدا وتُندِّدُ
وتُهجَّر الأحرارَ عن أوطانهم ... وتثور في وجه الجهاد وتصمدُ
لكنَّها ترضى بذُلِّ وافد ... عَبْرَ الفصول بأرضنا يتجدَّدُ
والحقُّ مكسور الجناح مُحَطَّمٌ ... في " مجلس الأمر " المخيف مُوَسَّدُ
يتحلَّقُ الشُّذاذُ حول فراشِهِ ... ونهيقُهم مِنْ حولهِ يتردَّدُ
صاغوا قرارات لنفاق فويلهم ... قد أجحفوا، وعلى النّفاق تعوَّدوا
وَدَعَوا إلى إلغاء كُلِّ فضيلةٍ ... بَلْ كَرَّروا " إنّ الجهاد تَمَرُّدُ "
يا ويلهم! ! ودماؤنا مسفوحةُ ... في كُلِّ أرض إنها لا تُجحَدُ
شُفحَتْ ففي الصُّومال نهر دمائنا ... يَستَصْرِخُ الحرَّ الذي لا يوجدُ
والصِّرب تسبح في الدماء " وبطرسٌ " ... يُرغي بمجلسهِ الرخيصُ ويُزْبِدُ
أين العصا للعبد؟ إن دروسَها ... عِظَةٌ وأخلاقٌ " وعيشٌ أَرْغَدُ "
أما مُمالأة الوضيع فَخِلَّةٌ ... مَمجُوجةٌ- في ديننا -لا تُحْمَدُ
والسَّيْرُ في رَكْبِ النِّفاقِ جريمةٌ ... والرَّكب يَهزأ بالكتاب ويلحدُ
أما الجهاد فركبه متغيبٌ ... في السِّجن والسَّجانُ باباً يُوْصِدُ
كيف الرقادُ وفي " السَّراي " معاركٌ ... بدماء أطفالٍ صغارٍ تُوقَدُ
في كل بيتِ-في السراي - ضحيةٌ ... ظلماً، وأخبارُ الوقائعِ تشهدُ
هجم العدوُّ مدمِّراً أمجادنا ... فالقدس-في وضح النهار-تُهَوَّدُ
دُكَّتْ جوامِعُنا بأيدي عدوِّنا ... فَبَكَتْ مآذنُنا وناح المسجد
أطفالنا عَبْرَ الدروب تشرَّدوا ... فَقَدُوْا خرائطَهم وَضَاعَ المرشدُ
يبكون لا أمُّ تجيبُ ولا أب ... وَوَصِيُّهمْ لعدوِّهمْ يَتَوَدَّدُ
شَرِبَ " النظام العالميُّ " دماءَهم ... وسهامهُ نحو القلوب تسددُ
ظُلِمَ الصِّغار وشرِّدوا وتعذَّبوا ... وعلى عدوِّ الله لم تُرفعْ يدُ
فتهكمَ الأعداءُ، قال كبيُرهم: ... مَنْ ذا صِغارَ المسلمينَ سينُجْدُ؟
ما للحداثة أفسدتْ أحداثَنا، ... وشيوخنا منهاجهمْ مُسْتَوْردٌ
والحاكمون تحكَّموا بشعوبهم ... والشِّعرَ في مدح الأعادي أنشدوا
نبذوا القريبَ إلى البعيد وقرَّبوا ... أعداءهم، قَرُبَ البعيدُ الأبعدُ
نُفِيَ الكريمُ وحطِّمت آماله ... فالوغد في بيت المُهَجَّرِ يقعُدُ
والهودُ في القدس الشريفِ تحكَّموا ... راياتُهُمْ فوق السواري تُعقَدُ
حاخامُهُم في الشَّام صار مناضلاً ... فَظّاً غليظاً دائماً يتوعَّدُ
مهلاً؟ أبا حمرا [**] فإن جيوشَنا ... صارتْ بدير الراهابات تُعَمَّدُ
لكن تعميدَ الجيوشِ مؤقتٌ ... وغداً إلى قمم المعالي تَصعدُ
تلك الجيوش تَبَرَّمَتْ من قهرها ... غَضَباً وحُزْناً كاللظى تَتَوَقدُ
قد أدركت خُططَ العدو وغدرِهِ ... إذ أسفَرَ الباغي وبان المقصدُ
وتكشَّفَتْ للنَّابهين سياسةٌ ... همجيَّةٌ، وسُمومُها لا تركدُ
تغتالُ مَنْ سلكوا طريق محمدٍ ... ليلاً وتوحي أنها تَتَهَجَدَّ
وتسيرُ في درب الضَّلالة عن هوىً ... والسَّيرُ في درب الهوى لا يُحْمَدُ
سلختْ جلودَ المؤمنين سياطُها ... من غير ذنب بالمقامع تُجلدُ
ضحكتْ علينا الرُّومُ في نَدَوَاتِها ... في الغرب والفرسُ المجوسُ تَبَلَّدُوْا
للغدر - آناء الجرائم - أسفروا ... عن حقدهم جهراً وغاب السُّؤدُدُ
" ورخيصُهم " تاجٌ على رأس الخنا ... فلذا البريَّةُ كُلُّها لا تسْعَدُ
أحفيدُ من خانوا يُحَرِّرُ أُمَةً؟ ... لا لَنْ يُحَرِّرَ أمَّةً مُسْتَعْبدُ
أقواله بيضٌ وأَمِّا فِعْلُهُ ... -ضدَّ الشريعة والعروبة - أسودُ
نارٌ على الإسلامِ برْد للعدا ... وجيوشُهُ تحت البيارق تُحْشدُ
للصِّربِ عَوْنٌ في جميع حروبهم ... قَلِقاً على أحوالهم يتنهدُ
ولذا تراهُ كذئبةٍ قطبيَّةٍ ... لَبَدَتْ على درب الأيائل تَرْصدُ
وطلائعُ الفتح المبين تغيَّبَتْ ... غَصْباً فصارتْ بالملاحم تزهدُ
فانهار سَدٌّ شيدوه جدودُنا ... وتَصَدَّعَ الباقي فعربَدَ مُلحدُ
فمتى ستصحو أُمَةٌ من نومها ... وتَلُّمُّ أشتاتاً إذا هجمَ الغدُ
وتُرَشَّدُ الأجيالُ بعد تَخَبُّطٍ ... والرشد من بعد الضلالة يولدُ
* * *
يا أمة الإسلام ثوري واثأري ... لا تجزعي إنْ أبرقوا أو أرعدوا
آسي جراح النازفين على الثرى ... وتوحدي إن التوحُّدَ أَنْجد
* * *
__________
(*) هذه القصيدة معارضة متواضعة لبعض أبيات القصيدة السابقة " واأمتاه " للشاعر عبد الرحمن العشماوي.
(**) إبراهيم حمرا كبير حاخامات يهود سوريا في دمشق.(66/55)
الجولة الأخيرة
مقطع من رواية (صقور القوقاز) التي تظهر موقف الشيخ شامل في نهاية الصراع مع الروس. - بتصرف -
انتهت حرب القرم، وتولى القيصر الكسندر الثاني العرش خلفاً لنيقولا الأول، فقام - لإنزال الضربة الأخيرة بشامل - بإرسال الجيش - الذي سحبه من القرم- إلى جهة القوقاز. وقد أصدر إلى (فورونتزوف) أمره التالي: ...
(- اقض على جميع عشش الصقور، وانتف أجنحة الصقور حتى لا
تستطيع الطيران بعد ذلك. انتظر منكم جميعاً النشاط والهمة والغَيْرة. ولا بد لهذا
العمل من نهاية) .
والواقع أن جناحاً من أجنحة حرب الاستقلال قد تحطم عند انفصال الحاج ...
(مراد) . وقام بعض أمراء الآوار والقازاق بتغيير المكان من جديد واتحدوا ضد ...
(شامل) ، ولم يكن هذا غير الملح والفلفل الذي يوضع على هذا الجرح. وباتت
وحدة الناس التي كانت بين المجاهدين وكانت مثل قلعة لا يمكن اختراقها، باتت
هينة لدرجة أن السيف يمكن أن يدخل بينها (..) وأثمرت بذور الشقاق التي سبق
زرعها، وحوصر الإمام " شامل " في " داركو " حاصرته جيوش روسية ثلاثة.
انسدت كل طرق المساعدات، وتحكم المستطلعون الروس في نظام التخابر
بين الداغستانيين ( ... ) يلعب (شامل) ومعه مجموعة من المسلمين المخلصين
التفوا حوله، ساعاتهم الأخيرة في جولتهم الأخيرة.
ضغط كلا الفريقين على قبضاتهم بشدة هائلة. محكوم على واحد منهما قطعاً
ألا يبقى قائماً وأن يقع أرضاً. وسيكتب على أسوار مقر القيادة في " داركو "
النتيجة القاطعة.
لم يكن الإمام " شامل " ينتظر أي مساعدة قط تأتيه من العالم الإسلامي كان
واقعياً طوال حياته، أدار ظهره دوماً للخيال، وعاش يواجه الواقع والحقائق
ويعيش فيها. وكانت الحقائق مُرَّة. كان العالم الإسلامي مشغولاً للدرجة التي لا
يستطيع فيها أن يساعد إخوان الدين الذين يجاهدون في سبيل حريتهم.. كان
مشغولاً وأي انشغال. نَسيَ فيه الغيرة الجهادية التي أمر الله بها في القرآن، والتي
حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها، واستبدل هذا العالم وِفَاقَهُ بالنفاق
واتفاقَهُ بالتفرقة. لقد ألمّ بهذا العالم سبات وخدر طارئان.
وبعد دعاء طويل، قرأ للشاعر التركي الشيخ إبراهيم حقي الأرضرومي، ثم
خرج:
هيا نرى ماذا يريد المولى ... فكل ما قد قدَّر المولى جميل
كانت أضواء الغابات المحترقة من بعيد تنعكس، على وجه " شامل "،
وتجعل إنساني عينيه تلمعان. كانت هذه خطة " فورونتزوف ". كان يحرق كل
غابات بلاد القوقاز، وأخذت جريمته هذه تشمل الحيوانات أيضاً. كان القيصر قد
أصدر أمره التالي: " خرب عشش الصقور. وطالما أن هذه الغابات موجودة فلا
بد أن يكون بالضرورة خلف كل شجرة فارس ششني أو داغستاني آخر. يتحدى
بمفرده روسيا حتى لو احتاج هذا الأمر إلى روحه. كان هكذا يفكر " فورونتزوف ". ولأنه يفكر هكذا كان يحرق الغابات.
لا بد أن تكون هذه اللُهب، لهب نيران الحرية المنبعثة من عمق القوقاز.
لكن آه! لقد بدأت نيران الروس تعمل عملها بعد أن سقطت جمرات الطمع في
بعض القلوب. وإلا فهل يمكن أن يرتاح العدو في مكان تنبعث منه الغيرة الدينية؟
كم كان الظلام دامساً، يا ربي! .. لا شيء فيه يَبين، لا اتجاه ولا طريق.
لا صديق طاهر ولا غريب. إنما مجموعة من الفدائيين، ذاقوا أهوالاً كثيرة.
تخطوا الوحدات الروسية موجة بعد موجة، كسروا إطاراتهم، نجوا من ذل الأسر
أسرعوا في الجري وهم يحترقون في مشعل الحرية، وصوت " شامل " الجهوري
يدوي.
(من يفكر في نهايته لن ينجح أبداً في أي وقت. إنما القوة والقدرة من الله
وحده) . ( ... )
لم يبق في القلعة سوى ثلاثمائة شخص أغلبهم مسنون لم يعودوا بمستطيعي
إطلاق الرصاص. أو أطفال لا يستطيعون الصعود إلى الأبراج. لكن فيها نساء.
أخذت النسوة القوقازيات أمكنتهن بجوار رجالهن. تعلمت الأيدي الناعمة الإمساك
بالبنادق ومع ذلك لم يكف هذا. ورغماً عن هذا، فقد رفض الشيخ اقتراح التسليم
الثالث الذي كانت مدته حتى المساء. وأعلن قراره الحاسم بقوله:
(عدوٌّ، كل من يمد يده إلى العدو.)(66/58)
حديقة الحيوان
فيصل محمد الحجي
وَلَدي يزور حديقةَ الحيوانِ ... ويعود يحكي لي كوصف عيانِ
ويقول: يا أبتي رأيتُ مَشَاهداً ... تَدَعُ الحليمَ هناك كالحيرانِ
إنّي رأيتُ الذئبَ يظهرُ بأسَهُ ... في نعجةٍ منهدَّةِ الأركانِ
ورأيتُ قرداً فاسقاً متلصصاً ... يرنو إلى أُنثى لدى الجيران
ورأيتُ ديكاً مُتْخَماً شَبَعاً ولم ... يَرْمِ الفُتاتَ لجارهِ الجوعانِ
ورأيتُ ليثاً خائراً متخاذلاً ... وعرينًهً بقيادة الجرذانِ
ورأيتُ صقراً غافلاً.. وإناثُهُ ... مفتونةٌ بالبومِ والغِربانِ
ورأيتُ ثوراً كم يظنُّ خُوارَهُ ... شَدْواً كشدوِ بلابل البُستانِ
ورأيتُ دُبَّاً كالكثيب ضخامةً ... ويظنُّ قامتَهُ كغُصن البانِ
ورأيت للحرباء ألفَ عباءةٍ ... لِتَبَدُّلِ الأحوالِ والأزمانِ
والثعلبَ المكُار يمشي خاشعاً ... متظاهراً بالزُّهد والإيمانِ
فصرختُ: أُقْصُرُ يا بُنَيَّ ولا تَزِدْ ... وصفاً.. فتلك حديقة الإنسانِ
لَلذِّئب أرقى مِن بني الإنسان إنْ ... عاشوا بغير المنهج الربَّاني(66/61)
المسلمون والعالم
المسلمون المنسيون في روسيا
د. علي عبد الرحمن عواض
مقدمة:
إن الحديث عن الجمهوريات " الإسلامية " في آسيا الوسطى والتي كانت تابعة
للاتحاد السوفييتي يجب أن لا ينسينا مسلمي روسيا الذين يقطنون في القسم الأوربي
من الاتحاد السوفييتي السابق، فطبقاً لإحصاء عام 1989 إن أكثر من 60 شعباً من
الشعوب القاطنة في الاتحاد الروسي هي شعوب إسلامية. تتوزع على دول مستقلة
وأخرى ذات استقلال ذاتي ضمن الاتحاد الروسي، والبقية تتوزع على دول الاتحاد
الروسي الأخرى كأقليات عرقية أو على شكل قبائل مشتتة في جمهورية أو أكثر.
وفي روسيا اليوم - الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي - ست وعشرون
جمهورية تكون بمجموعها الاتحاد الروسي، بينها ستة ذات غالبية إسلامية بعضها
يتمتع بحكم ذاتي وإمكانات اقتصادية جيدة، وبعضها الآخر يطالب بمزيد من
الإصلاحات ويطمح إلى استقلالية أوسع.
تاريخ الإسلام في روسيا:
دخل الإسلام بلاد ما وراء القوقاز الشرقي (آذربيجان) وآسيا الوسطى في فترة
مبكرة حيث أن الفتح الإسلامي شمل آذربيجان عام 18 هـ، وتوغل المسلمون في
داغستان عامي 22/23 هـ، وفتحوا دربند (باب الأبواب) عام 32 هـ ثم
تراجعوا عنها، وأعادوا فتحها عام 38 هـ نهائياً وبهذا فتحت جميع بلاد القوقاز
التي انتشر فيها الإسلام بسرعة هائلة.
وفي منتصف القرن السابع توغل الفاتحون العرب في آسيا الوسطى حيث
كانت الزرداشتية والمانوية والمسيحية والنسطورية تتصارع فيما بينها فسيطروا
على باكو عام 56 هـ وفتحوا بين أعوام 86 و 96 هـ كل الإقليم الواقع جنوب
داريا لتتحول كل المنطقة إلى الإسلام.
وبعد أن قضى المغول على الخلافة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر
الميلادي، واستتب لهم الأمر في مناطق شاسعة من بلاد المسلمين بدأ الإسلام ينتشر
في صفوفهم بعد أن هدى الله ملكهم بركة خان للإسلام فأسلم واتخذ اسم الملك السعيد، وقد أعطى ذلك دفعاً جديداً للإسلام أوصله حتى القرم وسهوب روسيا الجنوبية في
شمال البحر الأسود وبحر الخرز وحتى سيبيريا الغربية. وفي نهاية القرن الخامس
عشر اعتنق دين الإسلام معظم البلقان والقره تشاي والكبردين والشركس الشرقيون.
وجاءت بعدها فترة التحول المعاكس، أو التوسع الروسي المضاد حيث بدأ
عام 960 هـ توسع دولة مسكوفيا لتضم إليها قازان واستراخان وسيبيريا الغربية
ومع نهاية القرن السادس عشر كان الروس قد وصلوا إلى شمال القوقاز في كبارديا
وبلاد الشاشان، ولم يتوقف الزحف النصراني على المناطق التي كانت حديثة
الإسلام إلا بعد أن فرض المسلمون هيبتهم مع نهاية القرن وأوقفوا تقدم المسيحية في
القوقاز الأوسط وبلاد الكبردين الذين بقوا فترة طويلة يترددون بين موسكو المسيحية
واسطنبول المسلمة حتى آثروا الإسلام نهائياً وأصبحت كبارديا بلاداً مسلمة مع بداية
القرن السابع عشر ومنها دخل الإسلام بلاد الأوسيت.
في تلك الفترة، مع نهاية القرن السادس عشر، انتشر الإسلام ببطء في
غوربا جنوب شرق جورجيا ورضي به جزء من أهل البلاد الذين أقاموا فيما بعد
دولتهم التي عرفت باسم أدجاريا وهي من الدولة المكونة للاتحاد الروسي الحالي.
وقد استمر الإسلام في التوسع والانتشار في ظل الإمبراطورية الروسية
خاصة في الفترة التي حكمت فيها كاترين الثانية في المنتصف الثاني من القرن
الثامن عشر حيث أنها كانت ترى في الإسلام ديناً مقبولاً وأكثر قابلية من الدين
المسيحي فسمحت للدعاة المسلمين للعمل في بلادها بحرية كاملة كذلك سمحت في
عام 1188 هـ /1773 م ببناء المساجد والمدارس الإسلامية فنشطت الدعوة،
ونقلت على أيدي التجار والمبشرين بالدين الحنيف إلى بشكيريا وسيبيريا الغربية
وسهول قازاخ.
وأخيراً كان انتشار الإسلام في بلاد الشاشان الذين عُرفوا عبر التاريخ
بتمسكهم بالإسلام وخوضهم أشرس المعارك في بلادهم الجبلية لإيقاف التوسع
الروسي ولعل ثورة الإمام شامل الداغستاني من أشهر الأمثلة لهذه المواجهات،
وبعدها نقل الإسلام عام 1294هـ/1905م إلى بلاد الأنغوش.
المرحلة الأخيرة من انتشار الإسلام كانت في مطلع هذا القرن وقد استمرت
هذه المرحلة عام 1324هـ /1905م حيث أعلنت الحريات الدينية في روسيا
استفاد منها الإسلام استفادة واضحة وانتهت عام 1348هـ /1928م عندما تدخلت
الحكومة السوفييتية وبدأت حملتها المعهودة على العلماء وكتب الإسلام ومعالمه
وأفكاره وشخصياته والتي استمرت إلى وقتنا الحاضر..
المسلمون والتوزيع العرقي:
تعيش معظم الشعوب الإسلامية في مواطنها التاريخية وعلى سبيل المثال:
يعيش في تركمانيا 93% من التركمان.
وفي قبرطه بلكار 93% من القبرط و 2، 82% من البلقار.
وفي داغستان 5، 82% من الأفاريين، 2، 82% من القوميك، 6، 77%
من اللاك، و 8، 76 من الدرع.
وفي فرستاي -شركساي 83% من قرشاي، و 9، 76% من الشركس.
وفي بشكيرستان 6، 59% من البشكير.
والتتار هم الشعب المسلم الوحيد المشتت إذ يعيش 6، 26% منهم فقط في
تتارستان بينما تتوزع البقية على مختلف أنحاء روسيا ودول آسيا الوسطى. بعد أن
أجبر التتر على الهرب من قسوة النظام المسكوفي إلى مناطق متفرقة.
أكبر القوميات الإسلامية هي القومية الكازاخاية حيث يزيد تعداد أفرادها على
التسعة ملايين شخص جلهم من المسلمين وأقلها العرب الذين يقرب عددهم على الـ
10 آلاف شخص استوطنوا مناطق مختلفة منذ الدخول الأول للإسلام إلى تلك البلاد.
والقوميات المسلمة المتنوعة تنقسم في أصلها إلى مجموعات عرقية كبيرة هي:
الأتراك، والإيرانيون وقوقازيون إبيريون.
المسلمون وسياسة " الترويس ":
رافق الحملة الدعائية والفكرية ضد الإسلام حملة على المؤسسات الإسلامية إذ
ألغيت عام 1344 هـ /1924 المحاكم الشرعية، وكذلك محاكم للأعراف كما
ألغيت عام 1348 هـ/1924م جميع المدارس الدينية الثانوية والابتدائية والكتاتيب
وكان عددها في ذلك الوقت 15000 مؤسسة. وفي عام 1350 هـ/ 1930 م تمت
مصادرة آخر ممتلكات الوقف الإسلامي الذي كان يؤمن القوة الاقتصادية للدعاة
المسلمين ولمؤسساتهم.
ثم كانت الحملة البشرية - وهي من الخطورة بمكان - والتي رتَّب لها الاتحاد
السوفييتي وخطى فيها خطوات واسعة، والتي كانت بمثابة الضربة القاسمة لكثير
من الآمال التي كان يحلم بها أبناء الجمهوريات والمقاطعات الإسلامية. حيث أن
سياسة الاتحاد السوفييتي فرضت عملية إعادة تشكيل (ديمغرافية) للمقاطعات
والدويلات الإسلامية وذلك من خلال ترتيب عمليات ترحيل قسري وطوعي لكثير
من أبناء المقاطعات واستبدالهم بوافدين روس من مناطق مختلفة من شتى أنحاء
الاتحاد السوفييتي السابق.
فقد قامت السلطات بمصادرة الملايين من الكيلومترات المربعة من ممتلكات
المسلمين لتوهب للقادمين الروس، حيث يقام لهم نظام اقتصادي متكامل يتوافق مع
الخطة المرسومة لإبقائهم في تلك المناطق على أمل كسر الطابع المميز لهذه
المناطق وذلك بتزريع هذه المجمعات السكانية الهائلة في قلب مناطق القوميات
الأخرى غير الروسية والجدول التالي يوضح بعض هذه النماذج:
التركيبة العرقية للجمهوريات والمناطق ذات الغالبية الإسلامية
الدولة ... السكان بالآلاف [*] السكان ... الروس أقليات أخرى ... نسبة
الأصليين ... ... المسلمين
بشكيرستان ... 3.943 ... بشكير 21.9% 39.3% منهم تتار 28.4% 55%
شاشان/أنغوش 1.270 ... شاشان 57.8% 23.1% منهم أنغوش 12.9% 75%
الأديغة ... 432 ... اديجيين 22.1% ... 68% ... 19.9% ... 70%
جوفاش ... 1.338 ... شوقاش 67.8% 36.7% ... 5.5% ... 70%
داغستان ... 1.802 داغستانيين 80.2% ... 9.2% ... 10.6% ... 75%
كاباردين-بلكار 754 كابادانيين 48.2% 31.9% منهم بلكار 9.4% ... 70%
شركس قرتشاي 415 كاراشيين 31.2% 42.4% منهم شركس 9.7% 70%
قاقازيا ... 567 قاقاقزيين 11.1% 79.5% ... 9.5% ... ... 20%
تتارستان 3.642 ... تتار 48.5% 43.3% ... 8.2% ... ... 55%
رافق هذا الغزو الروسي تفريغ لمناطق إسلامية من سكانها الأصليين وإعادة
توطينهم في مناطق أخرى من روسيا.
الوضع الحالي:
إن النقص الواضح في الكتابات العربية عن مسلمي روسيا بشكل خاص يزيد
من صعوبة الكتابة في هذا الموضوع من جانبين:
- الأول: أن الكاتب سوف يضطر إلى استخدام المراجع الأجنبية غير الموثقة
أحياناً.
- الثاني: أن الكتابة المقتضبة لا تفي الموضوع غرضه وتشرح تناقضات
وتداخلات الواقع المعاش في تلك البلاد والتفصيل في واقعها.
فإلى جانب الجمهوريات الإسلامية لآسيا الوسطى والتي كثر الحديث عنها في
السنوات الأخيرة وهي ستة جمهوريات
(أذربيجان/اوزبكستان/قازاخستان/طاجيكستان/قيرغيزيا/تركمانيا) فإن الوضع الحالي
للمسلمين في روسيا يمكن تقسيمه سياسياً إلى ثلاثة مجموعات كبيرة من الكيانات
هي كالتالي:
1- الجمهوريات المستقلة ذاتياً وتضم:
* جمهورية تتاريا.
* جمهورية بشكيريا.
* جمهورية الكبردين - البلقا.
* جمهورية داغستان.
* جمهورية الشاشان - الانغوش (والتي انقسمت إلى دولتين حديثاً: الشاشان
والأنغوش) .
2- مناطق تتمتع باستقلال ذاتي [**] :
* منطقة الأديغة.
* منطقة القره تشاي - الشركس..
3- قوميات إسلامية ليس لها إقليم وطني، ولكنها تتمتع باستقلال ذاتي.
إلى جانبها قوميات ومجموعات عرقية لا تتمتع باستقلال ثقافي ذاتي.
1- الجمهوريات الإسلامية المستقلة ذاتياً:
من بين الجمهوريات الستة والعشرين التي تشكل الاتحاد الروسي هناك خمس
منها ذات غالبية إسلامية هي: بشكيرستان/الكبردية-
البلقارية/تتارستان/داغستان/الشاشان/الأنغوش. وكذلك جمهورية أبخازيا والتي هي
جزء من جورجيا حالياً.
أ- جمهورية تتاريا:
مساحتها 68000 كم 2 عدد سكانها الإجمالي 3.5 مليون نسمة حسب
إحصائية 1413هـ /1992 م، عاصمتها قازان وهي مركز صناعي مهم. وهي
الإقليم المسلم الأقرب إلى موسكو حيث أنها تمثل طليعة الإسلام المتقدم في قلب
روسيا. يقع هذا الإقليم في المجرى الوسط لنهر الفولغا ومعظم سكان العاصمة من
الروس. والمعروف أن الترر هم من القوميات التي أصابها التشتت بسبب الحروب
والتهجير القصري ولا يتجاوز التتر المقيمون في هذه الجمهورية 28% من
المجموع العام للتر في روسيا.
ب- جمهورية بشكيريا:
تأسست الجمهورية في 20 آذار 1919م/1318 هـ كجزء من الجمهوريات
الفيدرالية الاشتراكية السوفييتية. تمتد مساحتها فوق 143500كم 2 وعدد سكانها
يتجاوز الأربعة ملايين نسمة وعاصمتها أوفا وهي مدينة غالبيتها من الروس والتتر. تمتاز هذه الجمهورية بأن سكانها الأصليين أو البشكير هم أقلية بالنسبة للأقليات
الأخرى والتوزيع العرقي كالتالي:
بشكير 21.9%، تتر 28%، روس 39.3%، تشوفاش 3.2%،
ماريون 2.8%، أوكرانيون 2.0%.
طبيعة سكان الجمهورية بشكل عام قرويون يعملون في الزراعة (80%) ،
يتولى الروس معظم العمل الصناعي والوظائف الرسمية.
ب- جمهورية الكبردين - البلقار
تحتل أراضي هذه الجمهورية الجزء الأوسط من جبال القوقاز. أنشئت
الجمهورية لأول مرة عام 1340هـ/1921م كمنطقة مستقلة وتحولت إلى جمهورية
مستقلة عام 1356 هـ/1936 م وتحول اسمها إلى كبارديا خلال الحرب العالمية
الثانية لاتهام البلقار ظلماً بالتعاون مع الألمان، وجرت حملات أبعاد منظمة لهم إلى
سيبيريا وآسيا الوسطى. ولكن في عام 1389هـ /1968م أعيد لهم الاعتبار
وأعيدوا إلى جمهوريتهم، وعادت الجمهورية باسم الجمهورية الكبرديل - البلقارية.
مساحة الإقليم تتجاور الـ 12500 كم 2 عدد سكانها يقارب المليون عاصمتها
نالتشيق، ويقطنها ثلث سكان البلاد وهم يتألفون من عرقيتين أصليين. الكردين
(وهم الشركس الشرقيون) والبلقار (الأتراك) .
ج -جمهورية داغستان:
كغيرها من العديد من جمهورية الاتحاد الروسي فإن جمهورية داغستان
تأسست عام 1340 هـ /1921 م، تبلغ مساحتها 50300كم 2، وعدد سكانها
يقارب المليونين نسمة يقطن المدن منها 30% والباقي قرويون. نسبة المسلمين في
هذه الجمهورية 85.3% من المجموع العام. عاصمتها مختش -قلعة. يمثل
الداغستانيون 78% من مسلمي البلاد يليهم الأذاريون ثم الشاشان.
حتى الثورة البلشيفية كانت العربية هي لغة الأدب في داغستان وكانت ايضاً
اللغة الرسمية لمنطقة شامل. وفي العام 1347 هـ/1928م أبعدت الحكومة الروسية
اللغة العربية لما لها من طابع ديني، وحلت محلها اللغة الروسية للتعامل الرسمي
والآذارية كلغة شعبية والغالبية العظمى من السكان من أهل السنّة وتتبع المذهب
الشافعي كما تنتشر بينهم الطرق الصوفية خاصة النقشبندية والقادرية.
تعاني هذه الجمهورية كغيرها من جمهوريات الاتحاد الروسي من وضع
اقتصادي سيء ونقص في المؤسسات والكليات الشرعية.
من الأحزاب ذات الطابع الإسلامي في هذا البلد حزب النهضة الإسلامي،
الحزب الديموقراطي الإسلامي وجماعة المسلمين (صوفيين) .
د- الجمهورية الشاشانية-الإنغوشية:
تألفت هذه الجمهورية عام 1354هـ/1934م (وذلك بتوحيد جمهوريتي الشاشان
التي تألفت عام 1341 هـ/1922م " وجمهورية الانغوش التي تألفت عام 1924)
وأصبحت جمهورية مستقلة عام: 1356هـ/1936م. عام 1364 هـ/1944م طرد
من ديارهم جميع السكان الأنغوش والشاشان إلى سيبيريا وآسيا الوسطى في ظروف
صعبة أدت إلى موت أرقام كبيرة منهم أثناء عملية الترحيل. ومن ثم قسمت
أراضيهم بين جمهوريات أخرى مجاورة وجورجيا. وبعد موت ستالين أعيد
الشاشان والأنغوش إلى بلادهم وأعيد إنشاء الجمهورية واستعاد أبناؤها اعتبارهم.
يزيد عدد سكان الجمهورية على 1300 مليون يعيشون على مساحة تغطي
19300 كم 2 عاصمتها غروزني ومعظم سكانها حالياً من الروس.
وكلتا العرقيتين الأنغوش والشاشان قرويون جبليون يعانون من أوضاع
اقتصادية صعبة. قبل الثورة كانت لغة البلاد الشائعة هي العربية وتحولت مع
سياسة الترويس إلى اللغة الروسية عام 1359 هـ/1939م.
دخل الإسلام هذه البلاد في وقت متأخر (القرن الثامن عشر) ومن الراجح أنه
دخل عبر بخارى وداغستان وشيرفان الذين قادوا الحرب ضد الغازي الروسي.
أعلن استقلال الجمهورية عام 1412هـ / 1991م، وتعاني البلاد من
أوضاع سياسية غير مستقلة كنتيجة للرغبة في التغيير من قبل الإصلاحيين والتي
تواجه بمعارضة منظمة مدعومة من شيوعيي البلاد، ومدعومين من الحكومة
المركزية في موسكو.
هـ - أبخازيا:
تمتد أبخازيا على الشواطئ الشمالية الشرقية للبحر الأسود على مساحة تبلغ
8600 كم2 عاصمتها ساخومي وعدد سكانها مئة وخمسون ألفاً معظمهم من الأبخاز
(أو الأباض كما هي التسمية الحقيقية في تلك البلاد) . معظم الأبخاز (الأباض)
يعيشون في تركيا إذ أن 70% من السكان كانوا قد هجروا ونزحوا عام 1310هـ/
1864م وعندما تعرضوا لغزو بشري منظم وتحولت البلاد إلى خليط من الروس
والجورجيين والأرمن والروم مما أوصل نسبة السكان الأصليين من الأبخاز إلى
17 % من السكان.
اعتبرت أبخازيا جمهورية سوفييتية بعد الثورة الشيوعية عام 1336هـ/1917م
ولكن ستالين ألحقها بموطنه جورجيا عندما استلم الحكم. وكانت بدايات المحاولات
الوطنية للتغيير عام 1406هـ/1985م عندما قامت مظاهرات من الأبخاز مطالبة
باستقلال بلادهم وانفصالها عن جورجيا، ولكن جورجيا واجهت ذلك بقمع شديد
سقط ضحيته العديد من القتلى وألغيت الحريات وعطل العمل بدستور البلاد الذي
يميزها عن جورجيا والذي كان معمولاً به منذ العام 1340هـ/1921م ولكن السلطات
في جورجيا ضمت البلاد بكاملها لجورجيا وألغت الدستور.
وتكرر الوضع عندما قرر مثقفوا وقادة البلاد اعتبار أبخازيا جمهورية
سوفييتية مستقلة والعودة إلى دستور 1340هـ/1921م فكان رد فعل الجورجيين أن
تصدوا للمظاهرات بشكل دموي ذهب ضحيته عشرات الأشخاص. ولكن الوضع
العسكري تفجر يوم 14 أغسطس (آب) 1413هـ/1992م عندما دخلت قوات مجلس
الدولة الجورجي أبخازيا بحجة حراسة سكة الحديد ومكافحة الإرهاب والبحث عن
الرئيس الجورجي الهارب فدخلت العاصمة الأبخازية دون إذن من سلطات أبخازيا.
لكن الكميات الهائلة من الجنود الجورجيين كانت كافية للسيطرة على البلاد واحتلال
معظم أراضيها ويحاول شفرنادزه تسليح الجورجيين الذين يسكنون أبخازيا للتصدي
للأبخاز الذين ينادون بالانفصال عن جورجيا وينادون بالاستقلال.
ومع أن الإبخاز أقلية في بلدهم بسبب سياسة التهجير الستالينية ولكنهم
يتمتعون برصيد تاريخي بحقهم في البلاد يعترف لهم به غيرهم من أقليات البلاد.
ولهذا فإن من بين عدد نواب البرلمان الأبخازي (28 مقعداً) للأبخاز بينما توزعت
المقاعد الأخرى كالتالي: 26 للجورجيين، 5 مقاعد للروم، 5 للأرمن، مقعد
للأروام.
الوضع الحالي هو أن المعارك لا تزال مستمرة بين قوات الاحتلال التي
تسيطر على مناطق تكفاتيتلي، غال، تسمتثيرا، ساخوم، في محاولة لاستعادة
حرية هذه المناطق والمنطقة مقطوعة عن بقية العالم الإسلامي إلا من بعض المدد
الذي يقدمه مسلمو القوقاز من متطوعين وبعض العتاد. وقد أعلن الرئيس الجورجي
الأحكام العرفية في البلاد أوائل شهر (يوليو) 1414هـ/1993م ولمدة شهرين فاتحاً
البلاد إلى حرب مفتوحة. وقد قامت رابطة شعوب القوقاز التي تضم القوميات
القاطنة جنوب روسيا بإعلان التعبئة العامة لنجدة الأبخازيين سيما وأنه تربطهم بهم
رابطة دينية وامتدادات عرقية وتاريخ مشترك.
2- المناطق المستقلة ذاتياً:
إلى جانب الجمهوريات المستقلة ضمن اتحاد روسيا فإن هناك خمس مناطق
تتمتع باستقلال ذاتي بينها اثنتين ذات غالبية إسلامية وهي: منطقة الأديغة ومنطقة
القره تشاي -الشركس. وهذه المناطق تستخدم لغاتها القومية إلى جانب الروسية ولا
يمكنها الانفصال عن الاتحاد الروسي.
منطقة الأديغة:
وهذه المنطقة تشكلت عام 1341هـ /1922م باسم منطقة الأديغة الشركس
المستقلة. وتحول اسمها إلى الأديغة عام 1356هـ/1936م، مساحتها 7600 كم2
وعدد سكانها يتجاوز النصف مليون نسبة المسلمين بينهم 70% من مجمل السكان،
عاصمتها ما يكوب معظم سكانها من الروس. والأديغة الأصليون هم من أهل السنة
يتبعون المذهب الحنفي، وهم جزء من الأمة الشركسية. والمعروف أن أكثر من
70% من الأديغيين هاجروا إلى الإمبراطورية العثمانية عندما غزت روسيا
القيصرية القوقاز الشمالي، وكانت اللغة العربية هي لغة الادب حتى العام 1337هـ/
1981م واستبدلت رسمياً عام 1356هـ/1936م باللغة الروسية.
منطقة القرة تشاي - الشركس:
تشكلت هذه المنطقة عام 1341هـ/1922م وانقسمت عام 1354هـ/1926م إلى
منطقتين مستقلتين ذاتياً: منطقة القره تشاي المستقلة ذاتياً، ومقاطعة الشركس
القومية. وعادت إلى الاتحاد عام 1347هـ/1928م واتخذت اسمها الراهن. تم
ترحيل قسري للقره تشاي عام 1346هـ /1944م ثم أعيد البعض إليها عام 1398
هـ/1957م بعد اتهامهم ظلماً بالتعاون مع الألمان وإبادة أعداد كبيرة منهم ونفي الجزء
الآخر.
مساحة الإقليم 14100 كم2 وعدد سكانه حوالي النصف مليون نسمة
عاصمتها شركس وغالبية سكانها من الروس.
3- أقليات وقوميات إسلامية أخرى:
كما يتوزع في أنحاء مختلفة في الاتحاد الروسي مجموعة من القوميات التي لا
تتمتع باستقلالية ضمن إطار وطني ولكنها تتمتع بنوع من الاستقلال الثقافي الإقليمي
إذ تستخدم هذه القوميات لغاتها المكتوبة، ولها مؤسساتها التربوية والعلمية
وصحافتها ومسارحها ومعاهدها الخاصة بالبحث، وهناك أربع قوميات إسلامية
تتمتع بهذه الخصائص اثنتان منها هاجرت من الصين وهي: الويغور المسلمين
ويبلغ تعدادهم 250 ألف نسمة وهم امتداد لنفس العرق في الصين حيث يبلغ
تعدادهم 8 ملايين نسمة.
والدنغان: وهم مسلمون على المذهب الحنفي هربوا من الصين عام 1291هـ
/ 1877م بعد فشل ثورة المسلمين في الصين ضد السلالة المنشورية.
الأكراد: ويبلغ تعدادهم حوالي 125 ألف نسمة جاؤوا على شكل موجات من
المهاجرين على فترات زمنية متباعدة من إيران والعراق وتركيا اثر مشاكلهم مع
الحكومات في تلك البلاد.
تتر القرم: وكان لهم حتى عام 1364هـ/1944 إقليم خاص بهم له استقلالية
ذاتية ولكنهم عوملوا كإخوانهم الأنغوش والشاشان عندما اتهموا بالتعاون مع الألمان
وشتتوا على أيدي ستالين في سيبيريا وقازاخستان وتذكر المصادر أن أعداد كبيرة
منهم قضت خلال فترة التشريد وقد ألغيت جمهوريتهم نهائياً وألحقت المنطقة
بأوكرانيا.
وإلى جانب هذه المجموعات العرقية هناك قوميات وعرقيات إسلامية عديدة لا
تتمتع بأي استقلال أو تميز ثقافي أو اجتماعي وقد عمل على دمجهم في الإطار
الروسي الأوسع لإذابة شخصيتهم المميزة ومنهم:
البلوش/الأيروني/الأتراك/وعرب آسيا الوسطى. كما أن الإسلام ينتشر بين
أعراق وقوميات بشكل جزئي حيث أن البعض اعتنق الإسلام بينما بقيت
المجموعات الأخرى على ديانات إما نصرانية أو وثنية منهم: الأرمن
المسلمون/التات المسلمون/الغجر المسلمون..
كلمة أخيرة:
لعل الاستعراض السريع لأحوال مسلمي هذه المناطق يلفت الانتباه إلى
الوضع المأساوي الذي تعيشه معظم هذه الدول والأقليات ضمن إطارها الروسي -
النصراني الواسع.
وقد نستخلص من أهم المشاكل التي يشترك فيها معظم مسلمي هذه المناطق:
- الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تؤثر سلباً على إثبات أنفسهم وإصلاح
واقعهم.
- الأوضاع السياسية حيث أن معظم هذه المناطق تحكم من قبل شيوعيين
يتسمون بأسماء إسلامية.
- الجهل بالدين والبعد عنه حيث أن سنوات الشيوعية الطوال أنتجت أجيالاً
من المسلمين الذين لا يعرفون عن دينهم إلا الاسم.
- انتشار الخرافات والبدع بينهم. مما يزيد من أهمية وضرورة العمل على
نشر العلم الشرعي الصحيح بين أبناء هذه الطوائف.
- سارعت الكنيسة لاحتضان النصارى من تركة الاتحاد السوفييتي، وهي
تعمل جاهدة في بلاد المسلمين ومناطقهم. والمؤسسات الإسلامية الخيرية والدعوية
مدعوة للمشاركة في احتضان ومساعدة وتعليم المسلمين المنسيين في روسيا.
__________
(*) إحصاء عام 1992.
(**) انظر حاضر العالم الإسلامي للدكتور جميل المصري، المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفييتي تأليف الكسندر بينغسن وشانتال لوميرية كيلكجاي ترجمة عبد القادر ضللي دار الفكر المعاصر، بيروت لبنان 1989.(66/63)
تفليس عاصمة جورجيا
محمود السيد الدغيم
تضم جمهورية جورجيا، جمهوريتان هما جمهورية ابخازيا ذات الحكم الذاتي، وعاصمتها سوخومي [*] ، وجمهورية آجاريا ذات الحكم الذاتي أيضاً،
وعاصمتها باطوم [**] ، وعدد سكانها " 82000 " نسمة، كما تضم مقاطعة
أوسيتيا الجنوبية ذات الحكم الذاتي، وكان عدد سكان جورجيا بما تضمه من أبخازيا
وآجاريا وأوسيتيا، يساوي 4 ملايين نسمة أكثر من ثلاثة أخماسهم من الجورجيين،
وبقية السكان من الروس والأوكرانيين والأرمن وغيرهم من الشعوب " [1] ولم
يشر المؤلف إلى الشعوب الأخرى وهم الترك والآذريون والأبخاز والشركس لأنهم
من المسلمين.
لا أحد يستطيع معرفة مستقبل جورجيا هل ستستمر العواصم الثلاث - تفليس
وباطوم وسوخومي - في الاتحاد، أم ستنفصل العاصمتان الأخيرتان عن جورجيا،
ولا سيما أن الجالية الإسلامية قد عانت القهر المر على أيدي شيوعي الاتحاد
السوفييتي المنهار.
تفليس (عاصمة جورجيا) :
يحتل اسم مدينة تفليس مكاناً مرموقاً في وسائل الإعلام بسبب ما تتعرض له
من كوارث الحرب الداخلية، واستعمال وسائل الإعلام لاسم هذه المدينة العريقة
متفاوت الصحة، فبعض وسائل الإعلام تذكرها بصورة صحيحة، وبعضها يترجم
اسم تفليس دون تعريب، ودون عودة إلى المراجع العربية الصحيحة فيكتبها (تبليسي) ، ونظراً للهوة الفاصلة بين المواطن العربي وتراثه فقد أصبحت تفليس في
عداد المدن المنسية؛ شأنها شأن الكثير من المدن التي اشتهرت عبر تاريخها، ثم
خبا ذكرها مع تراجعنا عنها، حتى أصبحت مجهولة من قِبَلِ قطاع عريض من
قراء لغتنا العربية، وأصبح واجبنا - إزاء ذلك - أن نعرف بها وبماضيها
وبعلاقتها بأمتنا عَبْرَ التاريخ.
تعرف هذه المدينة باسم تبليسي (Tiblisi) في لغة الكُرْج وبعض المراجع
اللاتينية تذكرها باسم تفليسي (Tphilsi) أما المراجع والمصادر العربية فتذكرها
باسم: تفليس [***] ، ما عدا البلاذري أحمد بن يحيى، المتوفى سنة 279 هـ
فقد ذكرها في كتابه فتوح البلدان باسم " طفليس " بالطاء وليس بالتاء، وسبب
التسمية: ينابيع تفليس الحارة، فمعنى حار؛ في لغة الكُرْج: تفيلي (Tphili) ،
أما الأرمن فيطلقوا عليها اسم: تفخيس (Tpkhis) .
النسبة إلى تفليس:
" التفليسي: نسبة إلى تفليس، وهي آخر بلدة من بلاد أذربيجان، مما يلي
الثغر، خرج منها جماعة من العلماء والمُحَدِّثين، منهم: أبو بكر محمد بن إسماعيل
بن بنون بن السري التفليسي (400 - 483 هـ) .. وأبو أحمد حامد بن يوسف بن
أحمد بن الحسين التفليسي، من أهل تفليس.. وكانت وفاته بعد سنة 484هـ،
ومحمد بن بيان بن حمران المدائني التفليسي، أصله من تفليس.. وعبد الله بن
حماد التفليسي [2] ..
وذكر الذهبي، في سير أعلام النبلاء، نجم الدين ثابت بن تاوان التفليسي
المتوفى سنة 631 هـ[3] . كما ذكر محمد بن اسماعيل السري التفليسي،
المتوفى سنة 483 هـ[4] ، وأسند الذهبي رواية للناتاني تفيد أن الإمام علي بن عبد
الرحمن ابن عَلِيَّك النيسابوري، قَدِمَ تفليس وحدث عن الخفاف، وتوفي في تفليس
سنة 468 هـ[5] والناتاني التفليسي هو أحمد بن عمر بن محمد بن ناتان، سمع منه
شيخ الإسلام أبو طاهر السِّلَفِيَّ (475 هـ -576 هـ) في تفليس سنة 500 هـ[6] .
تفيد القوائم الإحصائية، أن عدد سكان تفليس قد بلغ سنة 1341هـ/1922م،
958. 233 نسمة، منهم 85. 309 من الأرمن، و 80. 884 من الكُرج،
و38. 612 من الروس، و9. 768 من اليهود، و 3. 984 من الفرس، و 3.
255 من الترك الآذربيجانية، و 2. 457 من الألمان وغيرهم.
توضح لنا الإحصائيات السابقة أن سكان تفليس ينتمون إلى عدة قوميات،
وهذه نتيجة ما تعاقب على حكمها من الشعوب، ولا شك أن بعض سكانها من أصل
عربي امتزج بالفرس والترك عبر مسيرة الزمن.
ذكر الطبري، في تاريخه أن تفليس قد فتحت سنة 22 هـ على يد حبيب بن
مسلمة - رضي الله عنه - وذلك بعد فتح باب الأبواب على يد سراقة بن عمرو،
في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-[7] . وذكر الطبري
[8] كتاب الأمان الذي كتبه حبيب ابن مسلمة إلى أهل تفليس، وقد عَينَّ حبيبٌ
الفقيهَ عبد الرحمن بن جزع؛ ليعلم أهالي تفليس أصول الدين الإسلامي، وأقدم
درهم أموي ضرب في تفليس سنة 85 هـ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن
مروان، وقد استمرت دارُ سَكِّ الدراهم في تفليس لغاية سنة 310 هـ. واستمرت
الإمارة الأموية في تفليس لغاية سنة 238 هـ حيث قضى عليها " بُغَّا " التركي -
ومعنى بغا التركية: ثور باللغة العربية - وكان ذلك أيام المتوكل العباسي (232-
247 هـ) [9] وإثر ذلك بدأت سيطرة العرب بالتراجع [10] وبدأ تاريخ الصراع
الطويل بين المسلمين العرب والترك من جهة، والكُرْج والأرمن من جهة أخرى،
حيث سيطرت الإمارة الساجية على أذربيجان وتفليس (276-317هـ) ولكن الكُرْج
اجتاحوها سنة 421 هـ، ثم هاجمها آلب أرسلان السلجوقي (455-471 هـ)
فشتت شمل الكُرْج، وأخضع تفليس لسيطرته.
حاصر الكُرْج مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها وتفاقم الخطب وعظم الأمر
على أهلها، ودام الحصار إلى سنة (515 هـ) فملكوها عُنْوَةً، وكان أهلها لما أشرفوا
على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكُرج في طلب الأمان، فلم تُصغِ
الكُرج إليهما، فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً، وغلبة، واستباحوه، ونهبوه،
ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة 516 هـ،
فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه، واستغاثوا به، فسار إلى أذربيجان،
وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج.. " [11] .
وفي سنة 788 هـ داهم تيمورلنك بلاد الكُرج، واحتل تفليس، وخرب
البلاد سنة 803 هـ وأقام في تفليس حامية خراسانية، ثم استمرت المناوشات،
فأعاد تيمور الكرة على تفليس " وضرب جميع أديرتها وكنائسها وذهب سنة805 -
806 هـ[12] ، وفي عام844 هـ استولى الشاه جهان القراقيون لي (جهان شاه)
(841-872هـ) على تفليس، وطرد الكُرج منها، ثم غزا أوزون حسن (حسن
الطويل) الآق قويون لي (الغنام الأبيض) بلاد الكرج سنة 871 هـ وحرر الأسرى
المسلمين، وترك حامية في تفليس، بقيادة صوفي خليل بك.
واستولى العثمانيون على بلاد الكُرج فترة (986-1012هـ/1579-1603 هـ)
واستولوا على تفليس، وولي عليها محمد بن فرحاد باشا (فرحات باشا) [13] ، ثم
استعاد الشاه عباس الأول مدينة تفليس من العثمانيين سنة 1012هـ/1603م وسيطر
على بلاد الكُرج فقتل منهم سنة 1025هـ حوالي " 70. 000 " ثم قتل منهم
حوالي 10. 000 سنة 1033هـ، وبعد ذلك سيطر كيخسرو (رستم) على تفليس
(1043هـ) . ثم آلت مقاليد الحكم إلى جيورجي الحادي عشر سنة 1099هـ وخلفه
أريكله الأول (Ereklei) (1099- 1102هـ) فأسلم وأصبح يعرف باسم: نظر علي
خان.
توفي الملك أريكله الكهل سنة 1212هـ/1798م وخلفه ابنه جيورجي الثاني
عشر، فأعلن تبعيته لقيصر روسيا، وأصدر بطرس الأول فرماناً بضم بلاد الكُرج
إلى روسيا سنة 1214هـ /1800م وأعلن الضم في 27 رجب 1081هـ/11 يناير
1801م، وتخلى الفرس عن المطالبة ببلاد الكُرج منذ سنة 1228هـ /1813م،
وفي سنة 1336هـ/1918م أصبحت تفليس عاصمة جورجيا السوفييتية، وفي 16
جمادى الأولى سنة 1339هـ/26 يناير 1921م اعترف الحلفاء بالكُرج.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استيقظت النزعات القومية بعد أن عانت من
الكبت الشيوعي كثيراً، وراحت كل قومية تعمل من أجل بناء دولتها، وجورجيا
كغيرها من دول الاتحاد المنهار، تعاني من التعددية القومية، والتعددية الدينية
والمذهبية حيث تضم ثلاث جمهوريات ومقاطعة مستقلة، تحتوي على عدة شعوب
منهم الكُرج والأرمن ومنهم الفرس والترك والآذربيجانيون، وهذا هو السبب الذي
يدفع هذه الجمهورية إلى حرب أهلية ستسفر عن ثلاث جمهوريات أو أكثر، وقد
أعلنت مقاطعة أوستيتا الجنوبية استقلالها لتنضم إلى أوستيتا الشمالية، وهذه فاتحة
التمزق بالإضافة إلى حروب رئيس الوزراء السابق " زفياد غمسا خورديا "
وحروب الأبخاز التي ما زالت مستمرة.
__________
(*) يخوض الأبخاز حرباً ضارية في سبيل الاستقلال عن الكُرْج الجورجيون.
(**) كانت باطوم تابعة للخلافة الإسلامية العثمانية، احتلتها الحكومة الروسية ونشرت إعلاناً لسكان باطوم في شهر آب سنة 1880 م نذكر منه ما يلي:
1- إن الدين الإسلامى يبقى محترماً والانتقام ممنوع منعاً كلياً ولا يسوغ لأحد أن يمس عرض نساء الترك ولا أن تنتهك حرمتهن فإن قوانين الروسية تنهى عن ذلك وكذلك القرآن يأمر الرجال من المسلمين أن يحترموا أزواجهم.
2- إذا وقع نزاع بين المسلمين يكون فصله بموجب الشريعة الإسلامية كما كان أيام الترك.
3- لا يزاد شيء في الضرائب والعوائد ولكن عوضاً عن أداء الأعشار تجعل ضريبة معلومة ويحصل بالتساوي بين الغني والفقير وبالجملة فان الضرائب تكون أخف مما كانت في أيام الترك بل يكون الفقراء مستثنين من ذلك.
4- حقوق التمتع في المعابر تبقى كما كانت.
5- دولة الروسية لا تأخذ من الأهالي أحداً للخدمة العسكرية كما هي العادة في " القوقاز " و " كرجستان " ولكن ترتب جنوداً محلية للمحافظة على الحدود ويكون لهم مرتب شهري ولا يخفى أنه من الواجب على كل من أبناء الوطن أن يحافظوا على بلادهم لدفع تسلط العدو فيلزم لأهل باطوم أن يعتبروا هذا الأمر حق الاعتبار.
6- يلزم إنشاء مدراس تتعلق بالجوامع كما كانت في أيام الترك ودولة الروسية تساعدها على إنشائها من دون أن لكون لها حق في استعمالها.
7- يكون لكل أحد حق في أن يهاجر إلى تركيا إلى غاية المدة التي قررتها معاهدة برلين وأن يبيع كل ما يريد بيعه ما عدا الأراضي وبعد مضي المدة المذكورة يمكن له أيضاً أن يهاجر ولكن يلزمه الحصول على تذكرة المرور (باسبورط) .
8- المسلمون الذين يظهرون حسن السيرة والسريرة يوظفون في الوظائف العادية، وفضلاً عن ذلك يوظفون أيضاً في الوظائف الإدارية، وفي رتبة قائم المقام " نقلاً عن مختارات الجوائب 7/245 ".
(1) جغرافية الاتحاد السوفييتي، ص 313.
(***) انظر معجم البلدان لياقوت الحموي مادة: تفليس.
(2) الأنساب، للإمام السمعاني، المتوفي سنة 562 هـ /1166 م، مادة التفليسي، 1/471 - 472.
(3) 22 / 367.
(4) 19/11، الترجمة 6.
(5) سير أعلام النبلاء 18/299.
(6) سير أعلام النبلاء 21/13 وص 24.
(7) تاريخ الطبري، 3/235 - 236.
(8) 3/241.
(9) تاريخ الطبري، 9/139 وابن كثير 10/317.
(10) تاريخ المسعودي 2/67.
(11) الكامل لابن الأثير 11/399، طبعة بريل 1864 م وسير أعلام النبلاء للذهبي 19/453.
(12) دائرة المعارف الإسلامية، 9/452 (يجب الانتباه إلى مغالطات دائرة المعارف الإسلامية) .
(13) تاريخ الدولة العلية العثمانية 261-266.(66/76)
بلاد الطاغستان والشيخ شامل [*] [**]
-شكيب أرسلان-
(يا شامل! جياد غريبة تشرب من ينابيعنا،
وأناس غرباء يطفئون قناديلنا فهل تمتطي
وحدك صهوة جوادك أو نساعدك على ذلك) .
شاعر من داغستان
على الضفة الغربية من بحر الخرز بين 43و41 من العرض الشمالي بلاد
يقال لها طاغستان، مساحتها نحو 297630كم2 وعدد نفوسها سبعمائة ألف،
أما إذا انضم إليها جميع بلاد القوقاس الشمالية فيقال أن أهلها يبلغون مليونين إلى
ثلاثة. وقد فتح العرب في خلافة هشام بن عبد الملك الطاغستان سنة 105 للهجرة
ووطد أخوه مسلمة الحكم العربي في تلك الديار، وكانوا يلقبونها بالدربند، وكانت
ثغراً من ثغور العرب ومنها انتشر الإسلام في تلك الأقطار، وكان الأهالي من قبل
وثنيين ونصارى ويهوداً.
ولما اجتاح المغول بلدانهم كان أكثر هؤلاء صاروا مسلمين، ولما كانت غارة
تمرلنك (سنة 1359م) كان أشهر شعوب الطاغستان قبيلتين أحدهما القايتاق،
والآخر القومق ويقال لهم: غازى قومق. وأكثر أشراف الطاغستان يدّعون أنهم من
أصل عربي وأن آباءهم قدموا مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وقد صادفت في
الروسية بعض أشراف الطاغستان فقالوا لي: أن أصلهم من العرب يوم فتحوا
الدربند وهم يفتخرون بذلك. وقد طمع الروس في الاستيلاء على الطاغستان منذ
أواخر القرن السادس عشر للمسيح فلم يفلحوا وهزمهم أولاد الشامكال وأخرجوهم
من بلاد سولاك التي كانوا احتلوها، ثم سنة 1604 م كروا ثانية على الطاغستان
وقصدوا بلدة طاركهو فلم يفوزوا بطائل.
وفي سنة (1722م) ساق بطرس الأكبر جيشاً استولى الدربند وسائر سواحل
الخزر الغربية إلا أن نادر شاه صاحب فارس غزا هذه البلاد واسترجع أكثرها من
أيدي الروس (1735 م) وزحف تتر القريم التابعون للدولة العثمانية على
الطاغستان في تلك الأثناء ففشلوا؛ وبقي الحكم هناك للعجم لكن المملكة الفارسية
بعد نادر شاه تضعضع أمرها، فتقلص ظلها عن الطاغستان وزحف الروس ثانية
فاجتاحوا البلاد سنة 1755 وفي سنة 1784 خضع لهم الشامكال مرتضى علي
وبعد ذلك استولوا على القوقاس، فتمكنت قدمهم في الطاغستان.
ولما تخلى الترك من جهة والفرس من جهة عن الطاغستان، عقد أمراء البلاد
محالفة فيما بينهم على مناهضة الروس فاشتبك القتال بين الفريقين، وتجشمت
الروسية كلفاً عظيمة إلى أن تمكنت من تدويخ البلاد فألغت لقب العصمى من أمراء
قايتاق (1819) ولقب المعصوم أمير تبازاران (1828) وجعلت لدى الأمراء الباقين
ضباطاً روسيين يأخذون على أيديهم، فاستسلموا جميعاً للحكومة الروسية، فثار
الشعب على الروس وعلى الأمراء وتولى أمر الثورة علماؤهم وشيوخ الطريقة
النقشبندية المنتشرة هناك؛ وطلبوا أن تكون المعاملات وفقاً لأصول الشريعة لا
للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام؛ وكان زعيم تلك الحركة غازي
محمد الذي يلقبه الروس بقاضي ملا، وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية؛ وله تأليف في وجوب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع اسمه " إقامة
البرهان على ارتداد عرفاء طاغتسان ".
وفي 29 تشرين الأول سنة 1832 م بعد جهاد طويل أحيط بغازي محمد في
قرية جيمري، واستشهد في معمعة القتال - رحمه الله -، فخلفه حمزة بك الذي
استشهد أيضاً - رحمه الله - بقرب غنزاق بعد ذلك بسنتين، فتولى زعامة الثورة
الشيخ شامل افندي - المقصود بهذه الترجمة - الذي خرج من المشيخة إلى الأمارة، وتناول السيف من طريق القلم. ولم يكن الشيخ شامل في سعة علم سلفيه ولكنه
كان أحسن منهم إدارة للأمور، وبصيرة بالحروب، فشمر عن ساق الجهاد والْتَفَّ
ذلك الشعب الأبي من حوله، فذب عن حوض ملته نحو 35 سنة ظفر فيها بالروس
وفي وقائع عديدة وألقى الرعب في قلوبهم. وجلاهم عن جميع البلاد إلا في بعض
مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية وكانت أعظم الدبرات التي والاها عليهم هي
في سنتي 1834 و 1844 حيث افتتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال
وغنم منها 35 مدفعاً وأعتاداً حربية ومؤناً وافرة، وأخذ عدداً كبيراً من الأسرى،
فجردت الروسية بعظمة ملكها وسلطانها جيوشاً جرارة ونادت هي بالجهاد في
الطاغستان. ونظم شعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب؛ وما زالت
توالي الزحوف حتى تمكنت من البلاد ولكن بقي الشيخ شامل عشر سنوات يناوشها
القتال في الجبهات الغربية من الجبال ولم يُسَلِّم هذا المجاهد العظيم للروس إلا في 6
أيلول سنة 1859م فعمد الروس على أثر تسلميه إلى إعادة سلطة الأمراء، ولكن
لما استتب لهم الأمر بواسطة هؤلاء الأمراء عادوا فخلعوهم هم أيضاً؛ كما هي
العادة بأن هذه الدول تبدأ أولاً باستعمال نفوذ الأمير الوطني في أغراضها،
وتصريفه في حاجاتها، حتى إذا قضتها كلها رجعت إليه ونبذته نبذ الحصاة،
وذهب يقرع سن الندم على استرساله إليها واعتماده عليها. وبقي الأمر كذلك إلى
سنة 1877 إذ نشبت الحرب بين الروسية والعثمانية فثار الطاغستانيون وافتتحوا
قلعة القومق، ولكن لما دارت الدائرة على الدولة العثمانية في تلك الحرب، تمكن
الروس من قمع الثورة بدون عناء كبير.
ولما انحلت الحكومة القيصرية، وقامت الحكومة البولشفيكية سنة 1917
محلها وأعلنت استقلال الأمم المهضومة، وخيرت الشعوب التي كانت القياصرة
الروس قد أخضعوها بحد السيف بين أن تبقى منضمة إلى روسيا الأصلية، أو
تنفصل عنها، كان أهالي بلاد القوقاس أجمعين ممن أعلنوا استقلالهم التام، فتألفت
جمهورية في كرجستان [***] ، وأخرى في الطاغستان، والثالثة في آذربيجان،
والرابعة في أريفان [****] ، وأوفدت كل من الجمهوريات الأربع وفودها إلى
الآستانة لمفاوضة الأتراك والألمان في الاعتراف بهذه الجمهوريات الأربع، وصار
الحديث في ارتباطها بعضها ببعض بشكل حلفي، وكان الوفد الطاغستاني الجركسي
مؤلفاً من عبد المجيد بك، وعلي بك، وحيدر بك بامات الذي كان ناظر الخارجية
الطاغستاتية. وما مضت مدة قصيرة حتى داخل الكرج الدولة الألمانية وطلبوا
حمايتها فاعترفت لهم بالاستقلال دون غيرهم [1] وأحدث ذلك خلافاً بين الأتراك
والألمان لأن تركيا تقاضت حليفتها ألمانيا الاعتراف باستقلال الجمهوريات الثلاث
الباقية، حتى أن طلعت باشا الصدر الأعظم يومئذ سعى لدى ألمانيا في معرفة
استقلال جمهورية اريفان الأرمنية التي كانت تتقرب من الدولة العلية، وكان رجال
الدولة يريدون بمساعدتها إصلاح ذات البين بينهم وبين الأرمن [2] فتقدم أنور باشا
إلى هذا العاجز [3] أن أذهب إلى برلين وأتكلم في هذا الموضوع وأقنع نظارة
الخارجية الألمانية بلزوم المساواة بين جمهوريات القوقاس كلها، وإلا لم يكن مناص
من الاختلاف.. وكلفني الوفد الطاغستاني أيضاً أن أهتم بقضيتهم نوعاً لأنهم حسبوا
أن الترك قد يصرفون معظم عنايتهم في مصلحة جمهورية آذربيجان التركية فقط،
فبذلت في تلك الأيام جهدي مع نظارة الخارجية في برلين في تمهيد الخلاف، وكان
أكثر الكلام مع فون روزنبرغ الذي كان مديراً للأمور الشرقية، وهو هو اليوم بينما
أحرر هذه الأسطر ناظر الخارجية الألمانية. ولم يلبث أن حضر إلى برلين طلعت
باشا والكونت برنستورف سفير ألمانيا في الآستانة، واشتركنا في حل هذه المسائل
جميعاً وتم الاتفاق لولا أن الحرب في الجبهة المقدونية جاءت بما لم يكن في
الحساب. وطلبت بلغاريا الهدنة، وابتدأت نهاية الحرب فوقف كل شيء من جهة
ألمانيا وتركيا، واحتل الانكليز القوقاس، وعلق القوقاسيون عامة آمالهم بانكلترة.
أنها تعترف باستقلالهم وتوطد لهم حكوماتهم، لا سيما أنها كانت تعطف على
الطاغستانيين قديماً أثناء مقاومتهم الطويلة للروس فكان الأمر بالعكس إذ حصرت
انكلترة جهودها في مناهضة البولشفيك، وإعادة الحكم الإمبراطوري على أصله،
وأمدت الجنرال دنيكين عدو هؤلاء بالمال والسلاح، فما بدأ الجنرال بالحرب مع
البولشفيك حتى غزا الطاغستان، وحاول القضاء على استقلالهم، فجرت بين
الفريقين الوقائع الدامية، وما زالت إلى أن انقضى أمر دينيكين، واستتب الأمر
للبولشفيين أنفسهم، فجرد هؤلاء جيوشاً على جمهوريات القوقاس الأربع. فقبضوا
على أزمتها وألحقوها بحكومة موسكو خلافاً لوعدهم الأول؛ وثار أهالي الطاغستان
عليهم فتغلبت الحكومة البولشفية على الثوار وقبضت على بعضهم وألقتهم في
السجون، وشُرِّدَ قسم من رؤساء الحكومة المستقلة؛ ومنهم عبد المجيد بك،
وصديقنا حيدر بك بامات إلى أوربا، حيث يواصلون مساعيهم لأجل قضيتهم
القومية إلى يومنا هذا [*****] .
__________
(*) عن كتاب " حاضر العالم الإسلامي " للأمير شكيب أرسلان (بتصرف) .
(**) الطاغستان هي التسمية التي كانت متداولة لما يعرف الآن: داغستان.
(1) تم ذلك لأن أكثرهم نصارى وقد كررت ذلك ألمانيا في الاعتراف ودعم استقلال كرواتيا وسلوفينيا ولم تحافظ على استقلال البوسنة والهرسك.
(2) لأن طلعت باشا لم يكن صاحب حمية إسلامية، وهو من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي التي ثارت على السلطان عبد الحميد، وكانت تعتمد على عناصر يهود الدونمة الذين تحركوا باسم القومية.
(3) أي كاتب هذه السطور الأمير شكيب أرسلان.
(***) كرجستان = بلاد الكرج = جورجيا.
(****) أريفان = أرمينيا.
(*****) ولد شكيب أرسلان في سنة 1286هـ /1869م وتوفي في سنة 1366 هـ/1946 م انظر الأعلام للزركلي 3/173-175 ومذكرات شكيب أرسلان.(66/82)
آذربيجان بين الماضي والحاضر
تتناقل وسائل الإعلام اسم آذربيجان بصورة عمومية تحتاج إلى الإيضاح -
أكثر من أي وقت مضى - لأن القارئ العربي قد كونَّ صورة مغلوطة عن تلك
البلاد خلال هذا القرن.
لقد حدَّد الجغرافيون العرب موقع أذربيجان وضبطوا اسمها، والنسبة إليها،
وخير مثال على ذلك ما دونه ياقوت الحموي (ت 2 62 هـ/1225م) في كتاب معجم
البلدان (1/128-129) حيث قال.
" وحَدُّ أَذربيجان من بَرْذَعَة مشرقاً إلى أرزنجان مغرباً، ويتصل حدُّها من
جهة الشمال ببلاد الديلم، والجيل والطَّرْم، وهو إقليم واسع. ومن مشهور مدائنها:
تبريز، وهي اليوم قصبتها وأكبر مُدُنِها، وكانت قصبتها قديماً المَراغة، ومن مدنها
خُوَيّ، وسَلمَاس، وأُرمية، وأرْدَبيل، ومَرَند، وغير ذلك. وهو صُقع جليل،
ومملكة عظيمة، الغالب عليها الجبال.
وقد فتحت أولاً في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان عمر قد
أنفذ المغيرة بن شُعبة الثَّقفي والياً على الكوفة، ومعه كتابٌ إلى حُذيفة بن اليمان،
بولاية أَذربيجان، فورد الكتاب على حذيفة وهو بنهاوند، فسار منها إلى أَذربيجان
في جيش كثيف، حتى أتى أردبيل، وهي يومئذ مدينة أذربيجان. فقاتلوا المسلمين
قتالاً شديداً أياماً. ثم إن المرزبان صالَحَ حذيفة على جميع أذربيجان، على ثمانمائة
ألف درهم وزن ".
إن آذربيجان تعرضت للتجزئة جراء ما تعرضت له من مؤامرات خارجية،
حيث قسمت حسبما أراد جيرانها الأقوياء، فأنشئت جمهورية آذربيجان السوفييتية
في 28 نيسان/أبريل سنة 1920م كجزء من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية المحلية
القائمة وراء القفقاس، ثم ألحقت بالاتحاد السوفييتي في 5 كانون الأول/ديسمبر سنة
1936، وأصبحت آذربيجان السوفييتية تعني: " آذربيجان " ومساحتها: 86630
كم2، وجمهورية (نخجوان) المستقلة إدارياً ومساحتها: 5500 كم2، ومقاطعة
(قره باغ) الأعلى ذات الاستقلال الإداري ومساحتها: 4400 كم2.
الحدود: يحدها من الشرق بحر قزوين، ومن الشمال جمهورية داغستان
المستقلة استقلالاً إدارياً، ومن الشمال الغربي جمهورية جورجيا، ومن الجنوب
الغربي جمهورية أرمينيا، ومن الجنوب تركيا، وآذربيجان الإيرانية، وتفصل
أرمينية بين آذربيجان وجمهورية نخجوان. ويفصل بين آذربيجان الشمالية
وآذربيجان الجنوبية - التي هي جزء من إيران - نهر (اركس، أو اراس، أو
الرس) - حسب ما ورد في المراجع العربية، وتحدها من الشرق منطقة (كيلان)
جيلان، ومن الجنوب منطقة زنجان. ومنطقة " سنندج "، وهما إيرانيتان، علماً
أن أكثرية سكان سنندج من الأكراد.
معظم السكان في آذربيجان الإيرانية من القبائل التركية الأصل واللغة، ولا
سيما في الشمال الشرقي والجنوب، وقد هاجر الكلدان والآشوريون من الشمال إلى
العراق وسوريا، في الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين، وحصلوا على
الجنسية العراقية، والجنسية السورية، وانفصلوا عن وطنهم الأم نهائياً.
والآن يدعون أن بلاد ما بين النهرين وما حولها هي بلاد أجدادهم، وتتبنى
قضاياهم منظمات حقوق الإنسانية الغربية لزرع الفتنة في بلاد المسلمين.
علماء آذربيجان:
لقد حفظت لنا كتب التاريخ، وكتب الطبقات؛ عدداً لا بأس به من أسماء
العلماء الذين انتسبوا إلى مدن آذربيجان. فقد ذكر الإمام الذهبي في كتابه سير
أعلام النبلاء (17/544، الترجمة رقم: 363) من مدينة باكو: (الإمام الصالح
المحدث: أبي عبد الله، محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن باكويه، الشيرازي
الباكوبي (ت 428 هـ) ، ولهذا العالم ترجمة في أنساب السمعاني 2/54، واللباب
للجزري 1/113.
وذكر لنا الذهبي في سير أعلام النبلاء من مدينة زنجان، سعد بن علي بن
محمد بن علي بن الحسين الزنجاني، أبو القاسم.
عصر الاحتلال الروسي:
لم ينحصر تآمر أعداء الإسلام في منطقة معينة بل امتد التآمر إلى معظم
الأقطار، وواكب مسيرة الزمن عبر العصور، واستعراض الوقائع التاريخية يدل
على ذلك وكثيراً ما كان أعداء الإسلام يتحدون ضد الإسلام متناسين خلافاتهم،
وضمن هذا السياق يبرز الاتفاق البريطاني الروسي ضد المسلمين في القرن
الماضي وما تلاه، وقد شملت المؤامرات آذربيجان التي دخلتها القوات الروسية
القيصرية سنة 1326هـ /1908م ولم يختلف الحال مع وصول الشيوعيين إلى
الحكم بعد انقلاب تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1917 م حيث أن قواتهم احتلت باكو
عاصمة آذربيجان سنة 1918م، واعتبروا آذربيجان (جمهورية سوفييتية) سنة
1355 هـ/1936م وبدأت مسيرة إلغاء الهوية الإسلامية الآذربيجانية.
وعندما وصلت الشيوعية إلى نهايتها وانهارت غير مأسوف عليها، بدأ الناس
يتحررون من أَسْرِ الشيوعية، ولم يقتصر الأمر على المسلمين بل شمل حتى
الروس الروم الأرثوذكس الذين اعتبروا الحزب الشيوعي الروسي حزباً محظوراً.
ومع الأسف الشديد ما زال الشيوعيون العرب متمسكين بتلك النظريات الفاسدة.
بدأ العد التنازلي السريع في مسيرة القهر الشيوعية، فسقطت النظم الشيوعية
التي كانت حاكمة سنة 1989 في أوربا الشرقية. وفي 19/8/1991م حصل
الانقلاب العسكري على غورباتشوف، وبرز بوريس يالتسين كبطل قومي روسي،
وعندها سقط الحزب الشيوعي، ومع سقوطه انتهى الاتحاد السوفييتي، وكان قد
سبق ذلك قيام اتحاد جديد أطلق عليم اسم (اتحاد الجمهوريات المستقلة) وضم
جمهورية روسيا الاشتراكية الفيدرالية، وآذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان
وطاجكستان، وقيرغيزستان، وبيلوروسيا وكازاخستان، ورفضت الدخول إلى ذاك
الاتحاد دول: أرمينيا، واستونيا، وجورجيا، وليتونيا، وليتوانيا، وكولدافيا
وأوكرانيا.
هكذا خرجت الدول النصرانية من تحت السيطرة الروسية بينما بقيت للروس
سيطرة على الدول التي تضم أغلبية مسلمة من خلال الاتحاد الجديد. ويتضح ذلك
من خلال تتبع الأحداث في الدول المستقلة، فما أن تتجه إحدى هذه الدول نحو
الحرية، والتقارب مع الدول الإسلامية حتى تتصدى القوات الروسية للمسلمين
فتقمعهم وتُنَصِّب حكومات من الشيوعيين الملحدين، وتقدم لهم القوات الروسية
الحماية، وخير مثال على ذلك ما حدث في طاجيكستان، وما يحصل في جورجيا،
وآذربيجان.
الوضع المتفجر:
بعد سني الشيوعية الطوال ظن الآذارييون أن أملاً بحل الأزمات المتفاقمة في
البلاد قد لاح في الأفق عندما تخلصوا من نظامهم الشيوعي في آذار (مارس)
1992م أقصى البرلمان مطلبوف، الرئيس الشيوعي آنذاك، في: " انقلاب
برلماني " وذلك بقرار إلغاء مجلس السوفييت الأعلى المؤلف من 250 عضواً يشكل
الشيوعيون السابقون غالبيتهم، وأقروا " ملي مجلس " منح صلاحيات تشريعية،
اقتسم الشيوعيون والديموقراطيون مقاعده الخمسين مناصفة وبدأت رحلة الحكم
لترث تركة صعبة في " قره باخ " وفي الاقتصاد الذاتي والمدني بحل أزمة قره باخ
وأتعا وإنهائها وحسم المعارك خلال مئة يوم ولكن شيئاً من هذا لم يحصل.
وأخذت الأمور تتدهور بشكل " دراماتيكي " عندما قامت حركة معارضة
شيوعية بقيادة أحد ضباط الجيش سورت حسينوف (والذي كان الرئيس أبو الفضل
التشي بيه قد أقاله منذ فترة قصيرة) وأخذت قوات المتمردين تسيطر على مدن
آذربيجانية دون أية مقاومة من الجيش الذي تحرك باتجاه العاصمة بدلاً من التحرك
غرباً لمواجهة التقدم الأرمني داخل الأراضي الآذارية. وحسينوف هذا من
مليوناري البلاد الذين يملكون مصانع نسيج وقد ساهم في تسليح الجيش ورصد
ميزانية له مما يفسر عدم تعرض الجيش له عندما توجه إلى العاصمة.
التمرد الذي قاده سورت حسينوف كان قاصمة الظهر لوحدة الجيش الآذاري
الذي يواجه جيشاً أرمنياً منظماً حيث أن قوات التمرد وبدلاً من التوجه إلى قره باخ
فقد أحكمت سيطرتها على عدة مدن وهددت باحتلال العاصمة الأمر الذي أدى
بالرئيس التشي بيه إلى إرسال قوات حكومية لتجريدها من السلاح فاصطدمت مع
قوات التمرد في مدينة غنجة سقط من جرائه مئات القتلى والجرحى واستقال على
أثر الحادث باناخ حسينوف ورئيس الوزراء عيسى غمباروف اللذان اتهما بتدبير
الحادث.
وكانت عودة الشيوعيون إلى الحكم بتسلم حيدر علييف زعيم الحزب الشيوعي
السابق مهمات رئيس الدولة في آذربيجان يوم الجمعة 18/6/1993 بعد أن غادر
الرئيس المنتخب (في حزيران 1992) أبو الفضل التشي بيه العاصمة باكو بصورة
مفاجئة ولجوئه إلى مسقط رأسه في ناختشيفان (وهي مقاطعة تقع بين أرمينيا
وإيران تتمتع بحكم ذاتي ضمن جمهورية آذربيجان) . وكان رئيس الدولة التشي بيه
قد وعد عند تسلُمِّه مقاليد الرئاسة بحسم مشكلة قره باخ وتحسين الأوضاع
الاقتصادية ولكن إخفاقه في تحقيق أي من هذه الوعود إلى جانب الهزائم المتكررة
التي منيت بها القوات الأذارية وضعت شعبيته موضع تساؤل أدت إلى الإنقلاب
عليه.
في الخامس والعشرين من شهر يونيو (حزيران) 1993 قرر البرلمان رسمياً
سحب جميع الصلاحيات من الرئيس أبو الفضل التشي بيه وتحويلها إلى حيدر
علييف. والذي التقى برئيس التمرد في اليوم التالي وأسند إليه منصب رئاسة
الوزراء في مطلع شهر يوليو الحالي وبذلك يكون الرئيس علييف قد تخلص من
جميع أنصار التشي بيه وأسند المراكز الحساسة وقيادة الجيش إلى من " يثق بهم ".
وبهذا تكون آذربيجان قد عادت إلى الحكم الشيوعي المباشر مضيفة هماً جديداً
إلى الثقل الذي تحمله البلاد من اعتداءات الأرمن واحتلال أراضيها.
وبسقوط مدينة مارداكيرت الاستراتيجية (أغديري كما يسميها الآذارييون) في
يد الأرمن في التاسع والعشرين من حزيران الماضي تكون القوات الأرمنية قد
استكملت احتلالها لمعظم المدن والمناطق الآذارية المحيطة والمكونة لقره باخ والتي
تخطط أرمينيا لضمها لأراضيها على أساس أنها منطقة " ذات غالبية أرمنية "،
بعدما كانوا قد سيطروا على ممر لاتشين وقضاء كلياجار وهما منطقتان
آذربيجانيتان خارج قره باخ. ثم واصلت القوات الأرمنية تقدمها نحو مدينة أغدام
داخل الأراضي الآذارية لتدخلها أوائل شهر يوليو الجاري وتحول القوات الأرمنية
لقصف مدينتي فضولي وجبريل لتغطية سقوط أغذام.
والمعروف أن أرمينيا تتلقى الدعم من الغرب بشكل عام ومن روسيا على
وجه الخصوص. كذلك تتلقى الدعم من إيران وقد حجزت تركيا باخرة سلاح
إيراني كانت متجهة عبر مياهها إلى ارمينيا، وهنا قد يتساءل البعض عن سر
الدعم الإيراني للأرمن؟ والجواب أن إيران لا ترغب في قيام دولة آذربيجانية حرة
مستقلة خوفاً من اتحاد الآذاريين في دولة واحدة لأن ذلك يهدد بانفصال آذربيجان
الجنوبية عن إيران سيما وأن الآذريين يتكلمون اللغة التركية وليس الفارسية. كذلك
فإن إيران لا تريد أن تزعج روسيا التي تزودها بالسلاح.
المشهد يتكرر في مناطق أخرى في العالم الإسلامي، فلييت الأراضي الآذارية
التي احتلها الأرمن بأحسن حال من تلك التي تسقط في أيدي الصرب أو الهنود أو
الجيش البورمي. فتقارير " جمعيات حقوق الإنسان " تتحدث عن انتهاكات خطيرة
بحق السكان العزل حيث أفادت التقارير من أغدام بأن " الجثث تملاً الشوارع
والعديد منها قد أعدم عن مسافة قريبة (..) إنك أمام مجزرة حقيقية يصل أعدادها
للمئات إذا لم نقل الآلاف ".
المئات والآلاف من القتلى أرقام اعتادت التقارير التي تتحدث عن المسلمين
أن تتميز بها 600 ألف شخص شردوا حتى الآن من المناطق الآذارية المحتلة (أي
واحد من كل عشرة أشخاص من سكان البلاد الإجمالي) والحكومة في أزمة والجيش
في انشقاق.
الشيوعيون يهددون بإقامة دولتهم في شمال أفغانستان والحكومة في ذلك البلد
في انشقاق والجيش في انقسام.
الشيوعيون يأخذون الحكم في طاجيكستان على رقاب عشرات الآلاف من
القتلى ومئات الآلاف من المشردين.
الشيوعيون يعودون إلى الحكم في آذربيجان والأرمن يتقدمون في أراضي
المسلمين والجيش إلى مزيد من الانقسام وخلاف على (الورثة) بين زعماء البلاد
وسياسييه.
الشيوعيون الذين لفظتهم روسيا ودفنت مؤسساتهم من غير دموع يعودون
للحكم في مناطق المسلمين بدعم من روسيا التي تدعمها أميركا والغرب.(66/87)
أخطار الكنيسة الرومية الأرثوذكسية في ألبانيا
عبد العزيز طيفور
إن الحرية التي تتمتع بها الكنيسة الرومية الأرثوذكسية في ألبانيا دفعتها
لاختيار قس يوناني لرئاستها في ألبانيا بعد تزكيته من قبل البطريركية الرومية
الأرثوذكسية في اسطنبول، ولم تسفر معارضة القساوسة (البطارقة) الألبان رغم ما
بذلوه من معارضة اتخذت الصحافة وبعض وسائل الإعلام لها منبراً، وتم بموافقة
الحكومة الألبانية اعتماده رئيساً لأساقفتها وهو البطريق (باتو لاتوسي) .
وعمد هذا البطريق اليوناني إلى اختيار قساوسة لكل مدينة من مدن الجنوب،
وممن أختارهم: القس البطريق كريستوف استومي، لمدينة جروا كاسترا، وقد
كان يتردد عليها من مقره في يانيا بشمال اليونان، ومن نتائج حركته التي اتخذت
طابعاً ديبلوماسياً تمكن من خلاله من تنفيذ مخطط نتج عنه تهجير كمًّ هائل من
الألبان تحت ضغط المعاناة المعيشية متخذاً أسلوب تغيير الاسم المسلم إلى نصراني
سبباً للحصول على تأشيرة الدخول التي يتيسر له العمل بها، كذلك دعمه
للأرثوذكس من الأصل الألباني، أو اليوناني لشراء الأراضي في الجنوب حتى بلغ
به أن جاهر بدعوته في حث الأرثوذكس على المطالبة بالإنضمام إلى الشمال
اليوناني بحكم أنها امتداد طبيعي لخارطة اليونان، بدليل انتشار عضوية الحزب
اليوناني الذي سيطر على بعض البلديات في انتخابات المجالس البلدية بالجنوب
الألباني.
وبعد طول متابعة لما يجري على مرأى ومسمع من أهل الجنوب، بدأت
الحكومة الألبانية في جمع الحقائق والمعلومات، ثم وجهت له الانذارات التي انتهت
أخيراً بالقرار الصادر في 25/6/93 بإبعاده من البلاد، وتم ذلك في 26/6/93،
وعندها بدأت ردود الفعل اليونانية وبصورة عاجلة بطرد 1500 مهاجر، واعتقال
4500 بدعوى دخولهم إلى البلاد وتسللهم بدون أوراق ثبوتية، ثم تلاحق الطرد
للمهاجرين الألبان إلى أن وصل إلى حوالي 20 ألف مهاجر، علماً بأن اليونان
كانت قد أقامت لهم معسكراً حول مدينة سيلانيك [*] أكبر مدن الشمال اليوناني،
والمتاخمة للحدود الألبانية على الطريق المؤدي إلى اسطنبول حيث مقر المنظمة
التي تدعى منظمة شمال اليونان (Vorio Epir) ويتم فيها اعتناق الأرثوذكسية من
قبل هؤلاء المهاجرين الألبان.
ثم بدأ الإعلام دوره في تغطية ما يدور، متخذاً أسلوب صرف الأنظار عن
موضوع الإبعاد، حيث أذاعت اليونان خبراً مغايراً فادَّعت أن ما تم تنفيذه من
الإبعاد إنما كان لاتفاق سابق تم في اجتماع سابق بين السيد صالح بريشة رئيس
الجمهورية الألباني، ورئيس الوزراء اليوناني، ودعمت ذلك إذاعة لندن الـ B.
B. C في تبرير موقف اليونان، وآخر مارددته الإذاعة اليونانية، تصريح
الرئيس الروسي بوريس يالتسين في زيارته لليونان ضمن خطابه الذي ألقاه في أثينا
تحت شعار حماية الأرثوذكسية بكل الوسائل، ومواجهة هجمات المسلمين أينما
كانوا، وتكلم بشدة ضد ألبانيا.
ولا تزال اليونان تذكي نار الفتنة في جنوب ألبانيا حيث قامت عدة تظاهرات
تندد بالرئيس صالح بريشة، وتؤيد موقف اليونان، مما يؤكد فعالية الأيدي الأجنبية
التي لا تزال تعمل داخل ألبانيا.
أخي المسلم:
لا يخفى على أحد أن ما يجري في منطقة البلقان ابتداءً بالبوسنة وتمهيداً
لكوسوفو وإعداداً لألبانيا، يشبه المؤشرات التي سبقت وانتهت بالحرب العالمية
الأولى والثانية، وقد لاحت في الأفق ملامح حرب عامة وصارت قاب قوسين أو
أدنى، فقد تكالبت كل أطراف الأرثوذكسية بكل بشاعتها ووقاحتها وتحرشاتها
السافرة سواء من اليونان بما يجري الآن في جنوب ألبانيا، أو من صربيا وقناصتها
في شرق ألبانيا التي لا تزال تنال من الشعب الألباني بين فترة وأخرى.
إن موقف هذا الشعب الذي لا تزال آثار الشيوعية عالقة بسحنته شحوباً وفقراً، يتطلب حماية ووقفة تذكره بإسلامه وتدفع عنه وتواسيه.
إن ضرورة الوقوف بجانب الحكومة والشعب الألباني المسلم يحتمها الإسلام
في دعم المواقف والمؤازرة، لذلك قامت الجمعيات من خلال مجلسها التنسيقي
بإعداد وترتيب الجهود في جمع ما يمكن توفيره من المساعدات لمساعدة هذا الكم
الهائل من المهاجرين الذين افتقروا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء زيادة
على ما تعانيه دولتهم من البؤس وقلة المؤونة.
لذلك نهيب بأهل الخير والإحسان أن يعملوا كي تتضافر الجهود لدعم ونصرة
هؤلاء المستضعفين والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. (وأهل
المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة) ، والله يجزي المحسنين خيراً.
__________
(*) كانت سيلانيك مركزاً هاماً من مراكز اليهود وأعداء الخلافة الإسلامية، وفي سيلانيك ولد
مصطفى كمال أتاتورك ابن زبيدة، ثم نسب إلى علي رضا الذي تزوج زبيدة حينما كان عمر ابنها مصطفى 12 سنة
- البيان -.(66/95)
لمن المطرقة بعد الصومال؟
محمد الشيخ عثمان
مضت سنتان ونصف أو أكثر على الإطاحة بمحمد سياد بري (21 / 1/ 1991 م) وما زالت أحوال الصومال ومصيرها غير معروفة حتى الآن، وخاصة ب عد الأحداث الأخيرة في مقديشو والتي وقعت بين قوات الأمم المتحدة بقيادة أميركا، وبين أنصار الجنرال محمد فارح عيديد، وأدت إلى خسائر في الأرواح والممتلكات بعد قصف الطائرات الأميركية الأماكن التابعة لعيديد. وقد سبق أن كتبتُ في (البيان) [*] عن أسباب التدخل الأميركي وموقف المسلمين تجاه أحداث هذا البلد.
وبما أن الأوضاع تغيرت سريعاً وجُلّ من يكتبون في هذه الأحداث لا ينطلقون من
رؤية إسلامية واضحة اضطررت إلى كتابة هذا المقال لبيان وجه الحق في هذه
القضية إن شاء الله.
1- إن جميع الجبهات السياسية-العسكرية في الصومال قبلية ولها طابع
علماني، وقادتها - بدون استثناء - لا يمثلون الشعب، وهم بحمد الله معروفون في
الداخل، ولا يوجد أدنى فرق بين الجنرال محمد فارح عيديد، والعقيد عبد الله
يوسف، والجنرال محمد سعيد حرس " مورغان "، وعلي مهدي محمد والعقيد أحمد
عمر جيس، وغيرهم. وقد شارك الجميع بشكل أو بآخر في مأساة هذا الشعب
المنكوب سواء في الحروب القبلية، أو بالمشاركة في البرنامج السياسي المتمثل
بدعوة أميركا للتدخل في الصومال لإكمال التبعية لكلينتون وبطرس غالي، وكل
أعداء الإسلام والمسلمين.
2- إن قوات التدخل الأميركي في الصومال سواء أعملت تحت اسمها أو
تحت مظلة الأمم المتحدة لم تطبق ما ادّعته أميركا في القرار 784 بتاريخ 9/12/
1992م والذي أوحى أنها تتدخل لإعادة الرجاء لهذا الشعب، وحماية قوافل الإغاثة
التي كانت تتعرض للنهب والسطو من قبل العصابات التابعة للجبهات القبلية، وإنما
كان هذا التدخل يمثل أموراً أخرى، على رأسها تكوين حكومة علمانية موالية بعد
إيجاد الأرضية لها، ومحاولة التخلص مما يسمونه (الأصولية) المتنامية في المنطقة، إلى غير ذلك من الأهداف. ودليل ذلك سلسلة الأحداث ابتداء بنزول المارينز
الأميركيين على شواطئ مقديشو يوم 9/12/1992م وما تبعها من قوات فرنسية
وبلجيكية وذلك فيما عُرف بـ: (UNITAF) (United Task Force) . وفور
نزول تلك القوات بدأت - كعادتها - تُحسّن صورتها بالقيام بأعمال إنسانية، وفعلاً
قامت القوات بإيصال مواد غذائية لمقديشو وبيدوا وبارديرا وكسمايوا وغير ذلك من
المدن التي كان يموت فيها يومياً مئات الأطفال والعجزة. وخلال تلك الفترة رحب
الشعب بتلك القوات اعتقاداً منه أن تدخلها إنساني، ولإيجاد حل سياسي لإنقاذ البلاد
مما تتعرض له من قتال ونهب واغتصاب واعتداءات أخرى. ولا غرابة في
ترحيب الشعب بهذه القوات وخاصة بعد ما خاب أمله في الدول الإسلامية.
كان المسؤول الأول سياسياً عن قوات الـ (UNITAF) روبرت أو كلي وهو
سفير سابق لأميركا في الصومال، والجنرال جنسون قائد القوات الأميركية في هذه
العمليات. وبدأت أميركا المرحلة الثانية من مهماتها بعد تمهيد الأرضية لها بارتداء
ثوب الأمم المتحدة معلنة انتهاء دور قواتها في الصومال، لذا فقد أصدر بطرس
غالي القرار رقم 814 بتاريخ 26/3/1993م بدعوة قوات متعددة الجنسيات إلى
الصومال للقيام بمهام خارج مهمة حماية الإغاثة، مثل إعادة الأمن إلى البلاد،
ونزع السلاح من المسلحين، وجمع الأطراف المتنازعة إلى مائدة المفاوضات.
وذلك إثر مؤتمر أديس أبابا الثاني والذي اتفقت الجهات المتحاربة فيه على إيقاف
الحرب وتكوين مجلس انتقالي للبلاد، وخلال تلك الفترة وهي فترة (1 UNISOM) حاول مندوب الأمم المتحدة السيد محمد سحنون محاولات جادة لحل أزمة البلاد وجمع شمل الشعب من خلال التقريب بين الجبهات إلا أن جميع جهوده باءت بالفشل وذلك بسبب العراقيل التي وضعت أمامه من قبل أميركا وبطرس غالي مما أدى لاستقالة سحنون من مهمته، ولم يكن تنازل أميركا للأمم المتحدة إلا أمراً صورياً حيث عينت الأدميرال الأميركي " جونثان هاو ": (Jonothan Howe) قائداً لقوات الأمم المتحدة وعينت العقيد " ستوك ولل " (Stockwell) وهو أميركي مسؤولاً أمنياً لهذه القوات. ولما انتدبت الأمم المتحدة " عصمت كتاني " وهو ديبلوماسي عراقي لمتابعة قضية الصومال فوجئ بأن القوات المزعومة ليس لها أي صلاحيات، وأن أمور البلاد تدار من قبل السياسة الخارجية الأميركية مما أدى إلى استقالته فوراً متعللاً بأسباب صحية. وخلال فترة ما يعرف بـ (UNISOM1) خدعت أميركا رؤساء الجبهات القبلية بوعود فارغة، وذلك من خلال مؤتمر أديس أبابا الثاني. وقد وافقت جميع الجبهات على ما أملت عليها أميركا من نقاط كتعديل دستور البلاد وحذف فقرات منه، وإضافة أشياء أخرى. وأصرّ " روبرت أو كلي " حذف عبارة " الإسلام هو الدستور الوحيد للبلاد " وتغييرها بـ: " الإسلام أحد ... مصادر دستور البلاد ". ومن الغريب جداً أن أميركا طلبت أن يكون ثلث أعضاء المجلس الانتقالي المكون من 75 عضواً، من النساء، كما أضافت فقرة وهي: (حرية الأديان وحماية حقوق الأقليات) . ويعنون بالأقليات فئة من الصوماليين النصارى أمثال محمد سعيد سمنتر مدرس في إحدى جامعات أميركا وأحمد حيلي الذي عينه علي مهدي في منصب نائب وزير الخارجية بمؤتمر جيبوتي المنعقد في شهر 6 و 7 عام 1991م.
هذا الدور الأميركي خلق شكوكاً لدى رؤساء الجبهات القبلية وبالأحرى
العساكر منهم مما أدى إلى لقاء عاجل بين الجنرال عيديد والعقيد عبد الله يوسف في
مقديشو في نهاية شهر أيار (مايو) 1993م مما فتح مواجهة مسلحة بين عيديد
وقوات الأمم المتحدة أو القوات الأميركية بعد مقتل 23 من القوات الباكستانية داخل
مقديشو. وتعد هذه المرحلة الثالثة والخطيرة، وهي مرحلة استعمال القوة وضرب
أي شخص أو مجموعة تقوم بعمل عدائي ضد قوات الأمم المتحدة وهذا تحت القرار
رقم 837 بتاريخ 7/6/1993م.
بعد صدور هذا القرار بدأت القوات الأميركية بضرب مناطق مهمة في جنوب
العاصمة كانت تحت سيطرة عيديد مما أدى إلى خسائر في الأرواح والممتلكات،
وإرغام الجنرال على الاختفاء ولا زال مصيره مجهولاً [**] . وراحت قوات
الجيش الأميركي تتصرف بطريقة عشوائية كما حصل في بداية شهر تموز (يوليو)
من قصف الجيش الأميركي اجتماعاً لأنصار عيديد مما أدى إلى مقتل 73 صومالياً، وجرح أكثر من مائة وذلك كله بحجة أن الجنرال فارح عيديد كان في الاجتماع.
بيد أن الأمر ليس ملاحقة عيديد وإلاّ فقد ذكر أحد الجنرالات الإيطاليين أن قواته
كان بإمكانها مرتين القبض على عيديد إلا أن " جوناثان هاو " القائد الأميركي رفض
القيام بذلك حتى لا تنتهي المسرحية.
إن أميركا من خلال دورها الجديد في الصومال مستخدمة مظلة الأمم المتحدة
أصبح واضحاً أن هدفها الأول والأخير هو تدمير ما تبقى من هذا البلد المنكوب،
وملاحقة العناصر التي ترفض سياستها، فعلى من الدور الآن يا ترى، وعلى من
ستنزل المطرقة بعد الصومال.
__________
(*) العدد 59، الصادر في رجب 1413 هـ، ص 70.
(**) " قال الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي أنه بات ضرورياً تصفيه زعيم التحالف الوطني الجنرال محمد فارح حسن عيديد جسدياً من جهة أخرى، سأل مراسل صحيفة (ربيببلكا) اليومية الإيطالية بطرس غالي - في نيويررك - عما إذا كان ضرورياً تصفية الجنرال عيديد جسدياً، فأجاب ب (نعم) في الحديث الذي نشرته الصحيفة في روما " يوم السبت 17/7/1993م/27 محرم
1414هـ ".(66/98)
عودة إلى المعرفة
(2)
محمد بن حامد الأحمري
لا تقدم المدارس - التي في بلاد المسلمين - للطالب ثروة ثقافية كافية تُعَرِّفه
بنفسه وبالحياة وبالناس من حوله، وإذا كان الطالب من ذوي الرغبة في الفهم
والوعي يجب عليه أن يترصد المعرفة خارج المدرسة، ولهذا السبب يعجز عدد
كبير عن التماس سبيل المعرفة، ويضل حيث يتلقاهم عالم نصراني واسع الاهتمام
بنشر أفكاره وسلوكه، كما يتلقاهم عالم الأحزاب المتناحرة التي يعطي كل حزب
منها ثقافة خاصة به سرية أو علنية، وربما كانت سخيفة أو ذات أهمية وخطر.
لذلك يفرض هذا المجهود الفردي المضني الذي يعانيه الطالب حتى يتعلم -
لأن المدارس لا تقدم له شيئاً من ذلك - والتخبط في وضع المناهج التعليمية هو
الذي أوجد التعليم المتناقض، والمجتمع المتباين، والولاءات المتعارضة مما لا
يعانيه غيرنا في العالم.
إن مدارس المسلمين - في أغلب الأحوال - لا تستطيع صياغة فكر الطالب
لأنها لا تعرف ماذا تريد به ومنه، وحتى لو كانت تعرف، فإن غيرها قد يجبرها
على سلوك طريق غير الطريق التي تريدها هي لأنها قامت على أسس شكلية ربما
كانت كردة فعل ضد الذين يتهمون الشعب بالافتقار إلى المدارس أو الجامعات، لذا
كان قيامها كإثبات شكلي أحياناً الغاية منه وجود المدارس لا فاعليتها وتربيتها، ولا
ليكون لها دور في تنوير المجتمع وهدايته وترقيته، وتخلصه من غابة النصارى
المفترسة وذلك بتقديم المؤسسات الإسلامية الهادفة..
اللغة:
لا تقدم المدارس للطالب آلة معرفية قوية. فآلة المعرفة هي اللغة، وتكاد
تكون معرفة اللغة العربية مشكلة جماعية، بينما نجد الأساتذة الأجانب يجيدون
لغاتهم إجادة تامة، وينقرون فيما لا يخطر على بال في أعماق اللغة " لغتهم "،
وهذا ما ذكره لي أحد الطلاب الذين يدرسون مرحلة الدكتوراة في جامعة أوربية.
وذكر أنه وزملاءه لا يعرفون لغتهم الأم مثلهم مثل الباحثين حتى بالعربية في البلدان
العربية من الذين يعانون من هذه المشكلة التي لا يحلها الأستاذ المشرف ولكن لا بد
من خبير آخر لحلها.
لقد أصبحت وسيلة المعرفة عائقاً عن التعلم والتعليم بسبب تجاهلها من قبلنا
ولأسباب ضغوط أخرى منها اللغات التي تزاحم الأصل إذ يتهجىّ الطالب أول
كلماتها، ثم لا يعرف بعد ذلك عنها شيئاً، ويشعر نفسه أنه عرف لغتين، أو تفتخر
المدرسة وتدعي أنها علمت تلاميذها عدداً من اللغات في الوقت الذي لم يتعلموا من
اللغتين شيئاً مذكوراً، ومن ضعفت وسيلته عسر عليه بلوغ غايته.
تخضع العملية التعليمية - في العالم الإسلامي - لجهات عديدة متباينة في
أهدافها ومصالحها تتنافى أحياناً مع مصالح المسلمين وغاياتهم، فالذين يضعون
البرامج التعليمية لا بد لهم من مراعاة «اليونيسكو» وقوانينها، ولا بد لهم من
مراعاة دول الغلبة والقوة، ولا بد لهم من مراعاة الأقليات والجيران، بعدوا أم
قربوا، ولكل أمة وهيئة شروطها على مدارسنا تقتضيها القوانين النصرانية التي
يسمونها عالمية.
وتخيلوا كيف يمكن لهذا التعليم أن يصوغ للطالب هوية ولغة ودين ومكانة بعد
أن اشترط الجميع عليه إرضاءهم.
إن الذي يرضع الولاء والبراء مع لبن الطفولة، ويقرر ما يفيده حين يكون
صاحب قراره، دون الانصياع لأعداء ورث عداوتهم ووعاها عن قناعة، وعاداهم
عن مصلحة وضرورة شرعية وعقلية، ذلك هو الذي يمكن أن يكون عنصر بناء
وريادة، لا عنصر تقليد وتبعية مهينة.
روافد المعرفة:
التعليم عملية مبدئية تحتاج لاستقرار بعض المبادئ الثابتة لدى الفرد، وهي
صراع بين الجهل والمعرفة، وليس لأحد الحق أن يحول الطالب إلى مادة مستهلكة
تنفق عمرها في صراعات أنواع الجهل والغموض والبلادة بلا نهاية، فالذي يريد
أن يشارك في صراع الحضارات وبناء المدنيات والأمجاد، والذي له دين ورسالة،
يجب أن يبدأ ببناء هذه الأولويات من المراحل الأولى، ومع مرور الزمن يمكننا أن
نجد رجالاً ينفعون ويضرون، فمدة حضانة المعرفة عشرون سنة يغتنم خلالها
المعلم والمتعلم زمنه، وزمن حضانة الأخلاق أربعون عاماً تنتج دربة الخُلُق بعد
التخلق أربعين عاماً. ولا يقاوم انهيار التعليم إلا بإثارة الحوافز لدى الأمة وإشعارها
بأخطار الآخرين ومنافستهم.
لقد شهدت ندوة أقيمت في بريطانيا، وكان الحديث فيها عن العملية التعليمية
وضعفها عندهم، واقتراح سبل المعالجة للشباب الذي فقد هويته ومكانة وطنه
وضعف انتماؤه وكانوا يركزون على غياب الانتماء الحضاري، وينددون بهجمة
كلمة العالمية التافهة التي جعلت البريطاني لا يحترم بلاده، ولا يعمل ولا يجدُّ ولا
يدرس، وكانت اقتراحات عديدة منها ضرورة الدخول في حروب تذكي الحمية
والولاء، وتعيد القوة والغيرة، وتفتح الأسواق، وتنمي الجيش والجدَّ في الحياة.
أما نحن فنرى - مقابل هذه الدعوات - بعض السذج في العالم الإسلامي
يطالبون المسلمين بالتخلي عن المواجهة كلية، وإلغاء كلمة الجهاد، واللحاق بالعالم
النصراني المسالم حتى لكأنهم يعيشون في كوكب آخر ليس فيه الصومال والبوسنة
وفلسطين وغيرها، وغيرها كثير جداً. ينسون دفع الله الناس بعضهم ببعض
وأهمية جندية المسلم وإعداده للغزو حماية للحمى، أما الأمر بالغزو فذلك ما لا
يطيقه الخانعون، ولا يطيقون الحديث عن استعادة كرامتهم، من خلال بناء مناهج
التعليم بناء إسلامياَ كريماً، ولا أقول: عدوانياً، ولكن بناءً يتخلص من عقدة
العدمية.
إن للإنسان المسلم روافد ثقافية عديدة يجب إحياءها كالمسجد الذي فقد دوره
الثقافي عندنا، بينما استمر دور الكنيسة عند النصارى، ودور الإعلام الثقافي
عندهم، يقابله إعلام الدعاية الفجة في بلدان العالم الإسلامي التي تدعو للجهل لا
للمعرفة.
القراءة:
لقد ضعفت إثارة الرغبة في المعرفة والفهم في مدارسنا، فالكتاب المدرسي
الذي يجب أن يكون بداية لكتب أخرى، ولسلسلة من الكتب والمعارف، واتساع
دائرة المدروس، وإثارة الرغبة الدائمة لدى الطالب والمدرس في معرفة بقية
جوانب المواضيع الدراسية لأن قراءة كل صفحة هي إضاءة لجانب مجهول،
وزيادة للقوة، فالعلم قوة، والمعلومات المتناثرة في عهد الدراسة لا بد أن يحولها
الطالب بعد فترة إلى علم، وإلا فسيبقى المدرس والطالب على هامش المعرفة، ولا
عمق لهم ولا مدخل إليه، جموع جاهلة تدعي المعرفة وتجهلها، والحكمة تغترف
من رفوف الكتب، وتأبى أن تمنح نفسها للعاجزين والكسالى، وذوي الملل
والاستغناء بالشهادة أو المغرورين بالرأي الفاسد.
حرية التعليم:
لا بد للمعرفة من حرية تصان، ولا يمكن أن يصون الجاهلون الحرية، ولا
أن يعرفوا سبيل الحصول عليها، وكلما ضاق طريق الاختيار أمام الفرد ضاق
إمكان تأثره أو استفادته من نفسه ومن الآخرين، فتنوع المعرفة وعمقها وتناول
مجالات عديدة من مجالاتها تجعل الإنسان عارفاً بحقِه، عارفاً بطريق الحصول
عليه، وأن تعسر طريق لم يكن كلاً عن ابتداع طريق آخر مدركاً لإمكان وجود
بدائل صحيحة أخرى. وليس المقصود هنا حرية إنشاء المدارس الإنجليزية
والفرنسية والصينية فذلك تعليم هدّام، يمزق المجتمع وينشئ ولاءات داخله
وتتصادم ثقافاته في عقل الطفل.
المعرفة الشرعية:
المعرفة الشرعية هي أس المعارف وهي التي تصون كل المعارف، وتهذبها
لذا يجب أن تكون مهيمنة عليها ليس فقط كمادة مدروسة، ولكن اعتمادها توجهاً،
ومساراً يجمع شمل التعليم، ويقلل الخلاف، ويوحد الأمة، ويخفف الصراعات
داخلها. وغياب المعرفة الشرعية عند المسلمين، غياب لذاتهم ولتاريخهم ولهويتهم، وهو محو للشخصية، ولذلك يوجد المجتمع ثقافته البديلة أثناء غياب المعرفة
الشرعية لتكون بديلاً عن المعرفة الشرعية، ويتصرف حسب ثقافة اجتهادية
متنوعة بديلة فيها الحق والباطل مؤذنة بالشذوذ والخرافة، وتفتح باب الثقافات
الأخرى ويدخل المجتمع في دوامة لا نهاية لها.
يدعي البعض: أن غيرنا كالنصارى مثلاً ليس لديهم تعليم ديني، ولا احترام
لدين، فهذه مغالطة فلديهم مدارس دينية، وبرامج دينية، ومحطات تلفاز عديدة
دينية، وجامعات دينية، وبعضها يميزون فيها البنين عن البنات إلى حد كبير
ويطردون من يخالف منهج جامعاتهم، أو يصرح بالإلحاد، وليس ثبوت حرية
الإلحاد في جامعات أو مكان يلزم منه حرية الإلحاد في كل مكان أو كل جامعة "
وليس هذا موطن شرح ذلك " [*] . ودارسوا الحضارات من كل الشعوب، وفي
كل العصور يرون أن الحضارة لا تقوم إلا على دين يجمع ويدفع للعمل، ولم يشذ
عن ذلك سوى الشيوعية، وكانت شاذة في بدايتها وفي نهايتها. ولا يزعم أحد أنها
كانت حضارة، بل مشهد قسوة من مشاهد الانحراف والتشوه الفكري الألماني،
وشذوذ اليهود سرعان ما ثبت فشله، فإلى متى لا نركب مركب الحق ونسلك طريقه؟ كيف نرقى بالسلوك الشاذ بين الأمم بلا دين ولا هوية؟ ونجهد لطمس ديننا كل
يوم وطمس معالمه بأنظمة تعليمية غريبة ومعادية، ولا تكفي لمعرفة الشرعية التي
تدرس على مستوى ضيق بل وندرة في بعض البلدان، وبعضها الآخر يحاربها،
فإنها تدرس بشكل نظري جاف وبلغة لا تكاد تُفْهَمُ، ونسي رجال المناهج أن يجعلوا
من العملية التعليمية الشرعية أسلوباً عملياً ولو في نطاق ضيق حسب المسموح به،
ولك أن تقارن بين شيخ صادق يدرس الفقه بالمصطلحات العباسية كالرطل العراقي، ولا يكاد يحدده لتلاميذه، وبين الإمام أبي داود الذي نزل بئر بُضاعة يقيسها
بعمامته حتى يعرف ويعرِّف بمقدار الماء النجس والطاهر. ونحتاج تحديث
المصطلحات الشرعية من خلال نشر معرفتها أو استخدام بدائل فيما يصح أن يكون
له بدائل معاصرة أو أصبحت له بدائل أو " مُسَمَّيات " في زماننا ما دام ذلك لا
يوجب حرجاً شرعياً، ومن المكاييل والمقاييس والموازين تنقل بالتحديث
والمعاصرة إلى غيرها، حتى لا يجد الطالب نفسه يتعلم رموزاً غريبة عنه. وأهم
من ذلك إنزال الفقه إلى حياتنا اليومية.
القدوة:
لا يسوق الطالب للعمل الصحيح سوى المثال الرائع بدءاً بأمثلة مدروسة في
التاريخ مثل تراجم الرجال التي تُربى لديه نزعةَ السّمو والاتباع للأبطال، وتزيد
معارفه في جوانب الحياة الإسلامية العامة، وتبعده عن أمثلة التفاهة وأقزام المجتمع، وتجنبه السلوك الضعيف والقدرة الماجنة الهزيلة التي حذرنا منها، ويكون
استبدال ذلك ببدائل جادة وأمثلة من تاريخنا الإسلامي العامر بسير ذوي الشجاعة
والعلم والكرم والحلم والجهاد، وليس في مقالات قصيرة مبتسرة وإنما في حملة
ثقافية واسعة تشمل شتى جوانب المعرفة.
إن من يجهد لإقامة أمة وتعليمها لا يمكن أن يراعي كل الأمم، ولا أن
يستشير كل مفكريها، وليس هناك شيء اسمه مناهج عالمية، أو ثقافة عالمية، أو
تربية عالمية ولكن لكل قوم مناهجهم، وثقافتهم وغاياتهم، وتربيتهم والذي يقره قوم
يرفضه آخرون، ولكن هناك وسائل قد تكون عالمية ويبقى المحتوى التربوي
والهدف أمر يصنعه العالم الإسلامي لنفسه إن كانت له قدرة على أن يفكر لنفسه في
هذا الأمر.
__________
(*) في مذكرات الفيلسوف الأميركي المعاصر مورتيمر إدلر، ذكر العديد من الحوادث منها: أنه درس في الكلية الجامعية بنيويورك وكان البنين مفصولين عن البنات، وذكر أن زميلاً طرد من الجامعة في جامعة كولومبيا الشهيرة في نيويورك؛ لأنه كتب شعراً فُهم منه الإلحاد وفي أميركا جامعات خاصة للبنات كالتي في مدينة دمنتون شمالي ولاية تكساس.(66/102)
منتدى القراء
المجلات الإسلامية والدعم المفقود
سعد العبد اللطيف
لا يجهل أحد أهمية الإعلام ودوره في التأثير على المتلقي وصياغة معتقداته
وتصوراته وسلوكه وأخلاقه، سواء أكان قاطناً في المدينة أو البادية.
وفي خضم هذا التوجه، كانت محاولات لإيجاد قنوات إعلامية تلتزم بأحكام
الإسلام، وترفع لواءه وتذب عنه. وقد أدرك الكثير من العلماء والدعاة والمصلحين
أهمية إنشاء وإصدار المجلات الإسلامية وأثرها في نشر الوعي، وتصحيح المفاهيم، ونشر الفضيلة، وممن أدرك أهمية المجلات الإسلامية من العلماء والمصلحين:
عبد الحميد بن باديس، ومحمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، ومحمد بن
إبراهيم آل الشيخ، وغيرهم -رحمهم الله جميعاً-.
ورغم قدم عهد الأمة الإسلامية بالمجلات الإسلامية، إلا أن الغيورين من هذه
الأمة يتطلعون إلى مجلات إسلامية شاملة وقوية.
وفي هذه السطور نذكر أسباب عدم انتشار وقوة المجلات الإسلامية.
1- عدم إدراك الكثير من المنتسبين إلى الصحوة الإسلامية أهمية المجلات
الإسلامية، فالكثير ينظر إلى هذه المجلات على أنها من باب الترف الثقافي ولذلك
لا يشجعها ولا يقتنيها؟ ! وقد أشرنا آنفاً إلى كوكبة من العلماء المصلحين الذين
ساهموا في إصدار المجلات الإسلامية، وكان لتلك المجلات أثر بالغ على الأمة
الإسلامية آنذاك في توعية الأمة وشحذ همم أبنائها.
2- ضعف الدعاية والإعلان والتوزيع لهذه المجلات، فهناك مجلات إسلامية
تصدر منذ سنين، ومع ذلك لا أحد يعلم عنها شيئاً ولا أين تصدر.
3- هناك فجوة بين المجلة الإسلامية وبين الشباب ومعالجة قضاياهم
وأحوالهم. ...
4- ضعف الإمكانات المادية والفنية والبشرية. ولعل هذا سر عدم
استمرارها، فربما صدر عددان في عدد واحد.. الخ، وقد يكون هذا السبب مانع يحول دون مواصلة تقدم المجلة على طريقها الدعوي الإعلامي.
اقتراحات وحلول
- السعي إلى «الاستقلالية» الشمولية، ويكاد يكون هذا حل جذري لكثير
من المشاكل والمصاعب التي يعاني منها العمل الإسلامي، ومن ذلك " المجلات
الإسلامية ".
- الاستقلالية في الموارد والدخل، فلا تكون المجلة الإسلامية عرضة
للمزايدات والمقايضات، حتى إذا ما وقع خلاف بين الممول وبين المجلة توقف
ضخ التمويل، ومن ثم فلا خيار للمجلة إلا أن تسعى إلى كسب رضاه وتستجدي
منه العفو والمال؟ !
- الاستقلالية عن الحزبية الضيقة حيث لا تكون المجلة مجرد صوت لشيخ أو
لاتجاه معين، ومن ثم تتبنى القضايا والأفكار التي توافق مسار ذلك الحزب أو ذلك
الاتجاه. بل يكون مرجع المجلة والقائمين عليها الكتاب والسنة وفق فهم السلف
الصالح -رضوان الله عليهم-. ويكون منظار المجلة والقائمين عليها للقضايا
والموضوعات من المنظور الشرعي السني لا من المنظور الحزبي الضيق، ولا
من منظور البيئة أو الطائفة.. إلخ.
- عدم الخضوع لضغوط الواقع ومجاراة السائد، أو الوقوع في فخاخ " ردود
الفعل ".
لقد كانت بعض المجلات الإسلامية تميل إلى أسلوب التهويش والصراخ،
والتحدث بلغة المجابهة والمواجهة، في فترات سابقة ثم تحولت الآن إلى لغة اللين
والتمييع والمسايرة.
- التنسيق والتعاون بين المجلات الإسلامية: فلا بد أن يستحضر القائمون
على المجلات الإسلامية الإخلاص وأن عملهم خدمة لهذا الدين ونصرته. فلا بد أن
يكون هناك تعاون بين المجلات، وتبادل الخبرات والاستشارات، وكذلك إقامة
المؤتمرات، والاجتماعات من أجل النهوض بالعمل الدعوي الإعلامي الإسلامي.
- تقوية العلاقات بين المجلات الإسلامية وبين العلماء وطلبة العلم والجهات العلمية
والدعوية، والمراكز الثقافية والعلمية الأكاديمية.(66/109)
شذرات وقطوف
القلوب المريضة
[فَأَمَّا الَذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ]
كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر شيئاً بل لا يزيده
إلا ضعفاً وفساداً إلى فساده، كما يصل الغيث إلى الأرض الغليظة العالية التي لا
تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
ابن القيم
***
صور الجوْر كثيرة
" العدل في الشيء صورة واحدة، والجور صوره كثيرة، ولهذا سَهُلَ
ارتكاب الجور، وصَعُبَ تحري العدل، وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ
فيها، فإن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعاهد، والخطأ لا يحتاج لشيء من ذلك "
أسامة بن منقذ
***
الغريب
الغريب من إذا ذَكَر الحقَّ هُجر، وإذا دعا إلى الحق زُجر.
الغريب إذا امتار لم يُمر، وإذا قعد لم يُزر، يا رحمتا للغريب: طال سفره
من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير.
أبو حيان التوحيدي
* * *
هكذا يفعل الغرب
في حديثه مع الشيخ رشيد رضا قال أحد زعماء النصارى في طرابلس الشام
وكان قنصلاً لروسيا وألمانيا:
".. إن في الإسلام فضائل كالجبال أو أشمخ وأرسخ، ولكنكم دفنتموها حتى
لا تكاد تعرف أو ترى، ونحن عندنا شيء قليل ضئيل ككلمة " حب الله والقريب "
فما زلنا نمطه ونمده ونقول: الفضائل المسيحية حتى ملأ الدنيا كلها ".
أحد علماء النصارى
* * *
" من مصائب هذا الشرق أن الخصام السياسي فيه لا يدل على سياسة،..
تبرأ متبوعٌ من تابع فاختصما، فكانا كرجل وحذائه، يقول الرجل: أنا خلعت
الحذاء، ويقول الحذاء: بل أنا خلعت الرجل.. "
مصطفى صادق الرافعي
* * *
... ... ... ... " اجعل بينك وبين صنم الإفرنج بوناً شاسعاً،
فعهده وميثاقه لا يساوي حبة شعير،
خذ النظرة من عين الفاروق
... وضع القدم الجريء في العالم الجديد ".
محمد إقبال(66/111)
مقال
الكُتَّاب العرب بين السلام
والاستسلام وبين الوطنية والخيانة
المحرر الثقافي
قِيل: (الجاهل عدوّ نفسه) ومعنى ذلك أن إضراره خاصٌّ منحصر في كل
محيط محدود إلى حدًّ ما، أما المتعالم فإن إضراره يتجاوز محيطه الشخصي ويمتد إلى أماكن أخرى متجاوزاً المحيط الخاص إلى المحيط العام، ولا سيما إن كان
المتعالم مُثقًّفاً، مِمَّن ثُقِّفوا ثقافةً موجَّهة لخدمة فئة سياسة معينة، أتاحت له فرصة
الوصول إلى مركز إعلاميّ يمكِّنه من بثِّ سمومه التي تنتشر انتشار (حُمّى
الأهواز) [1] أو (حمى خيبر) [2] ولئن كانت طرق انتشار الحمى مكشوفة واضحة الأعراض، فإن طرق انتشار الحمم الدخيلة مموهة بطريقة متقنة تتيح لها انتهاج المناهج المتعددة مستفيدة من تغير المناخ السياسي كاستفادة الحرباء من تنوع الألوان المحيطة بها، " فلكل مقام مقال، ولكل زمان دولة ورجال "، وبين الزمان والمكان يمتد " خيط الشيطان " [3] ليفعل فعله متوهماً ديمومة " ظل الغمام " [4] دون أن يوقظه من سُباته قول كثير عزة.. في أمالي القالي: (2/109) .
وإنّي وَتَهْيامي بعَزَّة بعدما ... تخلَّيْتُ عمّا بيننا وتَخَلَّتِ
لكالمُرْتَجِي ظِلَّ الغَمامةِ كلما ... تبوَّأَ منها للمَقِيْل اضمَحَلَّتِ
كل هذا يحصل وأمتنا مبتلاة بكتبة مبادئهم " كسحابة الصيف " و " إلمامة
الطيف " [5] يمرون على رزايا الأمة " مرَّ السحاب " دون أن يرفَّ لهم جفن، لأن
إخلاصهم " أبعد من مَناط الثريا " [6] وكأن الشاعر عناهم بقوله:
مَناط الثريّا من يَدِ المُتناوِلِ ... وأبعَد من هذا الذي قدْ أَرَدْتَه
لقد انسلك لفيفّ من حملة الأقلام في سلك (كُتَّاب النِّثار) [7] الذين ينطبق
عليهم قول الشاعر ابن عروس حيث قال: - في ثمار القلوب ص 686 -
ولمَّا أنْ رأَيْتُهُم وقُوفاُ ... على الجِسْرَينِ كالِحِدَءِ الضَّواري
سألتُ فَقيِلَ: كُتَّابٌ ولكنْ ... أَلَمْ تَسْمَعْ بِكُتَّاب النَّثارِ؟
وَكَمْ بَغْلٍ على بغلٍ وَكَمْ مِنْ ... حمارٍ قد أنافَ على حمارِ! !
وبرْذَوْنٍ تَراهُ وَقَدْ تَثَنَّى ... على بِرْذَوْنِهِ مثل الجدِارِ
أعداء الأمة المتلفعون بأقنعة التقدمية، المتسربلون بسرابيل المناهج الوافدة،
تفيض أقلامهم سماً زعافاً يفرق بين أبناء الأمة الواحدة. وأما آراء الكتبة فهي
(كمشية السرطان) [8] وشأنهم كشأن من عناه أبو منصور العبدوني بقوله: - في
يتيمة الدهر 4/43 -
فَرَأيُك في الإِدبار رأيٌ أَخَذْتَهُ ... وعُلِّمْتَهُ من مِشية السَّرطانِ
لقد أدمنوا على الإدبار، ورجوع القهقري، وتمجيد الاستسلام، وتزييف
صورة السلام، مستخدمين المصطلحات التضليلية التي صيغت صياغة ملغومة بغية
تفجير البنى الفكرية ونسفها من جذورها فأطلقوا على قوى الاحتلال اسم (الاستعمار)
والأصح من ذلك أن يطلق عليه اسم (الاستخراب) لأن أعمال الغزاة المحتلين
قائمة على التخريب العام، وليست قائمةً على التعمير، ولكن العملاء من الكتبة
روَّجوا الأخطاء فشاعت وأصبحت من المسلمات السارية كالأمراض السارية،
وينشر المخربون مزيداً من المصطلحات الفتَّاكة، ودورهم في ذلك كدور " فأرة
الْعَرِم " [9] و " بعوضة نمرود بن كنعان " [10] و " الصَّعوة " [11] و " الخرفان "
التي ورد ذكرها في قول الخوارزمى: - في تيمة الدهر 4/222 -
لا تَعْجَبوا من صيد صَعْوٍ بازِياً ... إنْ الأُسود تُصادُ بالخرِفانِ
قَدْ غَرَّقَتْ أملاكَ حِمْيَرَ فَأْرَةٌ ... وبَعوضَةٌ قَتَلَتْ بني كَنْعانِ
إن الإنسان ليعجب من عقوق اللاهثين وراء الأجنبي، وقد أصبح (عُقوقُ
الضَّبِّ) [12] شعاراً لهم، وهم (أهبَرُّ مِنَ الهبيرَّة) [13] التي تأكل أولادها، ...
وكتاباتهم تُخيِّم على الوطن، وتُقْلِق المواطن (كظل الموت) [14] و (طُغيان
أقلامهم) ينبئ عن أصلهم.
والغريب الغريب من أمور الكتبة خداعهم حتى لَتجِدَ الواحد منهم " أَخْتَلَ من
الذِّئب " [15] إذا رام صيده، " وأحرصَ من كلبٍ على جيفةٍ أو عِرْقٍ " [16] فيا
ويل من احتاج النُّصرة منهم لأن مصيره كمصير من عَنَاهُ الشاعر بقوله:
أَمسى لَعَمْرُكَ مُحتاجاً إلى الصُّوفِ ... مَنْ جَزَّ كلباً لِمَا في الكلبِ منْ وَبَرٍ
وإن سأل سائل عن رأس مال المتحذلقين المتخرصين فالجواب: إن رأس
مالهم " ورأسَ مال الدَّلال " [17] سواء، لا يتمشى بغير الكذب والتمويه والتضليل
أسوةً بإبليس أول دلاَّل دَلَّ [عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لاَّ يَبْلَى] [طه/120] . إنهم
(كدودة الخل في الخل) ، و (ديدان السموم في السموم) نهجهم عجيب، وأمرهم
غريب، مولعون بالخلاف، ومَثلُهم الأعلى " لَجاج الْخُنْفُساء " [18] إذا تعلق الأمر
بخدمة العدو، وإيذاء الأهل، وهم كصاحب الشاعر خلف بن أحمر المقصود بقوله: - معجم الأدباء 16/161 -
لنا صاحِبٌ مُوْلَعٌ بالخلافِ ... كثيرُ المرِاءِ قليلُ الصَّوابِ
أشدّ لَجاجاً من الْخُنْفُساء ... وأزهى إذا ما مشى من غُرابِ
وهم (أخلف من وَلدِ الحمار) [19] إن كانت أمه فرساً، فهو (لا يشبه أباه
ولا أمه) وهم كذلك لا يشبهون الأهل في إخلاصهم، ولا الأعداء في أهدافهم،
وخير وصف لهم: أنهم (مفاتيح الفتن) و (كِلاب الناس) [20] الذين عناهم
الشاعر فقال:
كَكَلْبِ الإِنسِ إنْ فكَّرتَ فيه ... أشدَ عليك مِنْ كَلَبِ الكِلابِ
يروِّجون لكل ما هو دخيل، ويشيدون بالمتآمر والعميل، يطبِّلون للتنازلات،
ويزمرون للمُمَاحكات، يُدينون السلام، ويَدينون بالاستسلام، يهللون للأباطيل
الصهيونية ويلبسونها جلود الحملان، وينددون بالحقائق العربية الإسلامية،
ويصفونها بالرجعية والعدوانية والديكتاتورية المتخلفة، وكأن الشرق الأوسط مباح،
بل حق لكل طامع دخيل متآمر محتال من شذاذ الآفاق الذين ضاق العالم بهم،
فقذفهم على شواطئ بلاد الشام كما يقذف البحر زبده الذي يذهب جفاء، وبدلاً عن
الاحتجاج على هذا الأمر نرى مجموعة حاقدة من الكتبة تقوم بالدعاية - غير
الشريفة - لهذا الدجل السياسي الذي يُرتكب دون رادع، بل تحول قسم من النظارة
إلى [قِرَدَةً خَاسِئِينَ] [البقرة/65] ، أذلاء وكأن أمر الوطن والمواطن لا يعنيهم لا
من قريب ولا من بعيد، وإذا ما ثار ثائر على الذل، أو دافع مدافع عن قضية تَهُمُّ
المسلمين، أو رفض رافض أمراً مرفوضاً، نجد قيامة الكتبة قد قامت وبدؤوا
يتهمون الشرفاء بالتطرف والأصولية، وراحوا يتلاعبون بالمصطلحات على هواهم
حتى يُصبحَ الحقُّ باطلاً والباطل حقاً في غمرة العزف النشاز الصادر عن جوقة
المطبلين والمزمرين والمشعوذين من دعاة الاستسلام والتسليم لكل ما هو دخيل
وغريب، ولا غرابة بذلك، فالأمر سهل على من مات ضميره وانسلك في سلك
العملاء الموتورين غير المأجورين.
إذا ما طالب مطالب بالوحدة الإسلامية قالوا: هذا طرح أصولي، وهم لا
يعنون المعنى الحقيقي لكلمة أصولي ولا يعون معناه أصلاً إنما يعنون بكلمة أصولي
المعنى المترجم للكلمة الإنجليزية «Fundamentalism» التي تعني مذهب
العصمة الحرفية الذي ابتدعته حركة بروتستانتية تؤكد على أن " الكتاب المقدس "
الذي يضم التوراة والإنجيل معصوم عن الخطأ في كل ما يحتويه، كما تعني الكلمة: الإيمان بهذا المذهب البروتستانتي. فهل من يصفونهم بالأصولية من المسلمين
يؤمنون بما يؤمن به الأصوليون البروتستانت؟ أم أن استعمال هذا المصطلح هو
استعمال نابع عن الجهل المتأصل أو التجاهل المبرمج؟ ولا يقف هذا القذف عند
حَدِّ اتهام المتدينين المسلمين بالأصولية، وإنما يتجاوزهم ليشمل قطاعات أخرى من
أبناء شعبنا حتى يعمهم جميعاً ما عدا العملاء لا غير، فَمَنْ يُطالب بتحكيم شرع الله
يُتَّهم بالأصولية الإسلامية، ومن يطالب بالوحدة العربية يتهم بالأصولية القومية،
ويجهرون بآرائهم المتهافتة دونما خجل، وكأنما المعري قد عناهم بكتابه " زجر
النَّابح " [21] وجمع بينهم وبين نقيضهم في كتابه " الصاهل والشاحج " [22] فقدم
الصاهل لأصالته وأخر الشاحج لهجنته، وما أجدر دعاة الآراء الفاسدة بالحلول محل
الثاني في عنوان كتاب المعري، وذلك مقام لائق بمن يخلط بين الأصولية
البروتستانتية، ودين الله الذي لا يقبل من الناس غيره، ويسمى التطرف الديني،
ويضفي على الاغتصاب الصهيوني صفة الشرعية النابعة عن ديمقراطية المجازر
التي نفذتها عصابات الهاغانا في قِبية ودير ياسين، ومن ثم نسجت على منوالها
عصابات أخرى كتبت تاريخها بدماء أبناء الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني،
واستمرأ الكتبة جرائمهم فعتَّموا عليها، وهاجموا من لم يمل للعاصفة الصهيونية،
لأنهم أكثر صهيونية من الصهاينة الأفاقين.
__________
(1) حمى الأهواز: قيل عنها ليست إلى الغريب بأسرع منها إلى القريب (ثمار القلوب ص: 550) .
(2) حمى خيبر: يضرب بها المثل، لأن خيبر مخصوصة بالحمى والوباء (معجم البلدان 3/497) والحيوان 4/ 136) ومجمع الأمثال (1/95) .
(3) خيط الشيطان: يشبه به الشيء الباطل الذي لا أصل له: " وقيل: خيط باطلٍ الذي يقال له لعاب الشمس ومخاط الشيطان " لسان العرب: خيط.
(4) ظل الغمام: يضرب مثلاً لما لا يدوم بل يسرع انقضاؤه.
(5) إلمامة الطيف: يشبه به غضب العاشق، ويقال: " طاف به الخيال طوفاً: ألم به النوم وطيف الخيال: مجيئه في النوم " لسان العرب طوف، طيف.
(6) أبعد من مناط الثريا: يضرب به المثل في البعد، واستحالة الحصول (انظر جميع الأمثال 1/575 201) .
(7) كتاب النثار: هم الذين لا يتعلموا من مُعلم بل يسرقون جهود الآخرين ويكوِّنون موادهم من النفاق والتملق والسطو.
(8) مشية السرطان: يضرب بها المثل في الإدبار، ورجوع القهقري.
(9) فأرة العرم: تضرب مثلاً في الضعيف يقوى على الأمر الكبير، ويقال أن فأرة خربت سد مأرب فحصل سيل العرم (انظر سورة سبأ، الآية: 16، والحيوان للجاحظ 5/249) .
(10) بعوضة نمرود بن كنعان: يروى أن البعوضة دخلت في أنف نمرود بن كنعان وكان بها حتفه.
(11) الصعوة: طائر من صغار العصافير أحمر الرأس (انظر الحيوان للجاحظ 216/5) .
(12) عقوق الضب: إن الضبة تحرس بيضها، فإذا خرجت أولادها وثَبَتْ عليها واكلتها فقالت العرب: أعق من الضب، (انظر الحيوان 1/196 -197) .
(13) أهبر من الهبيرة: أهبر: أقطع، الهبيرة: الضبعة (انظر تاج العروس، هبر) .
(14) ظل الموت: كناية عن السيف.
(15) أختل من الذئب: يضرب مثلاً للمخادع الغادر (انظر الحيوان 6/ 410، 2/354، ختل الذئب كروغان الثعلب) .
(16) أحرص من كلب على جيفة أو عرق: يضرب مثلاً للبخيل، والعرق: العظم: (انظر مجمع الأمثال رقم: 1217، والحيوان: 1/220، 227، 271) .
(17) رأس مال الدلال: الكذب.
(18) لجاج الخنفساء: يضرب به المثل، لأنها إذا نحيت جانباً عادت (الحيوان للجاحظ 3/340، 345، 500) .
(19) اخلف من ولد الحمار: هو البغل لا يشبه أمه ولا اباه (انظر مجمع الأمثال للحيوان رقم: 1342 والحيوان للجاحظ 1/108) .
(20) كلاب الناس: هم الأنذال والسفهاء إذا قويت شوكتهم تسلطوا وظلموا.
(21) زجر النابح: اسم كتاب من كتب أبي العلاء المعري، نشرت مقتطفات منه في دمشق سنة 1965 م، مجمع اللغة العربية، تحقيق أمجد الطرابلسي.
(22) الصاهل والشاحج: من كتب المعري أيضاً نشرته دار المعارف في القاهرة سنة 1975 م، تحقيق عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) .(66/113)
إصدارات
الكتاب: صقور القوقاز، (256 صفحة) .
المؤلف: سلجوق قُلَلى، ترجمة د. محمد حرب.
الناشر: دار المنارة للنشر والتوزيع جدة /1992.
موضوع الكتاب: رواية إسلامية تصوِّر جهاد الداغستانيين بقيادة الإمام شامل
ضد الروس المعتدين على مدى خمس وثلاثين عاماً. وتفصل الرواية وقائع الحياة
في داغستان قبل وخلال ثورة هذا المجاهد الذي استحق اسم أسد القوقاز والذي "
دوّخ روسيا القيصرية وتصدى لظلمها وجبروتها وجيشها وخاض معارك ضارية
بثلة من رجاله.. صقور القوقاز ". والكتاب إلى جانب كونه دراسة في سيرة
الرجل -البطل فهو سجل تاريخي للأحداث الدامية التي مرَّت في تلك الفترة.
* * *
الكتاب: أسلوب جديد في حرب الإسلام (210 صفحات) .
المؤلف: جمعان بن عايض الزهراني.
الناشر: رابطة العالم الإسلامي (1989) الطبعة الثانية 1412 هـ / 1991 م.
الموضوع: يرفع هذا الكتاب الستار عن الحداثة ويفضح الحداثيين ويفتح
أعين المصلحين على أخطار الوضع الراهن..
* * *
الكتاب: اليهود في القرآن والسُنَّة، بعض من خلائقهم (166 صفحة) .
المؤلف: د. محمد أديب الصالح.
الناشر: دار الهدى للنشر والتوزيع، الرياض.
الموضوع: دراسة للنصوص في محاولة لاستلهام العبر والدروس، وذلك في
سبيل تحديد شخصية اليهود، حسبما ورد في الكتاب والسنة. والكتاب هو الجزء
الأول وسيصدر الجزء الثاني قريباً.(66/119)
الصفحة الأخيرة
خطبة الحاجة على الطريقة العلمانية
جمال سلطان
يتأدب المسلمون - عادة - عندما يبدأون الكلام ذا البال، أو الأحاديث الهامة، أو الخطب المطولة، فيبدؤون بحمد الله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله، يلي
ذلك إعلان كلمة التوحيد والتصديق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتلاوة
آيات من القرآن الكريم، على النحو الذي يعرف باسم " خطبة الحاجة " اهتداءً
بهدى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدخلون في الموضوع المقصود.
لقد أصبح للعلمانيين العرب في - أيامنا هذه - ما يشبه " خطبة الحاجة " عند
المسلمين، غير أن خطبتهم تبدأ بسب الإسلاميين والتعريض بهم، وإعلان
التصديق بأنهم إرهابيون، وتأييد خطوات " الحكومات الديموقراطية " التي تبطش
بهم، ووصفهم بأنهم أعداء الحضارة، وأعداء التقدم والاستنارة، ودعاة الفتنة..
إلى آخر قائمة المغالطات الإعلامية المعروفة.
ويندر أن نجد اليوم مقالاً في صحيفة، أو بحثاً في مجلة، أو حواراً بين
أصحاب الفكر العلماني المنحرف، في أي مكان، وعبر أي منبر، يتعرض
للأحوال العامة في المنطقة العربية، إلا ويبدأ بسب الإسلاميين، والهجوم عليهم،
والدعوة إلى عزلهم، والتنكيل بهم ونحو ذلك.
اليساريون في مصر، كتبوا مقالاً هاجموا فيه أحد الكتاب في صحيفة ...
(الأهرام) بدعوى أنه يتعاطف مع الإسلاميين، وقدموا للمقالة بالديباجة المعروفة فلم
يقصروا في شتم الإسلاميين ولعنهم والتأكيد على أنهم سبب كل بلاء، ولكن الكاتب
المقصود، لم يتأخر، حيث نشر مقالاً ينفي فيه " تهمة " تعاطفه مع الإسلاميين،
ولم ينس أن يبدأ مقاله بالديباجة أو " خطبة الحاجة العلمانية " من سب وتجريح
وتشهير بالإسلاميين، ثم دخل في موضوعه مدعياً: أن " التطرف اليساري " هو
الذي يغذي " التطرف " الإسلامي، فأصبح الأمر مثيراً للضحك حيناً، وللشفقة
أحياناً أخرى، في زمن الهوان والضعة، زمن انحدار أصحاب الأقلام العربية
العلمانية.(66/120)
ربيع الأول - 1414هـ
سبتمبر - 1993م
(السنة: 8)(67/)
كلمة صغيرة
تجربة مرة طويلة - هي تجربة الاستبداد في عالمنا العربي منذ صرخة
الكواكبي في نهايات العشرينات من هذا القرن.. إنها نتاج غاية من نباتات السوء.. المحلية منها والوافدة. هل نذكر منها «النخب المخترقة» ، وأوكار الهزيمة من
الأحزاب الجاهلية أم يكفي أن نصف الأرض الخصبة الصالحة لاستنبات هذا النوع
من السلوك. نعم إن الأرض التي تغذو الاستبداد وتحتضن جذوره ليست سوى
الشعوب التي نخرتها الغفلة وعض عليها الجهل بأنياب حداد فلم تعد تفرق بين العدو
والصديق، ولا تملك الإرادة التي تمنحها الحركة وتجذّر فيها كره الزنازبن المعتمة
حيث لا رأي ولا رؤية؛ فما تلبث أن تظلها أفرع التسلط وتضللها ويدركها - من
بعد - سوط التجويع فيشغلها اللهاث وراء لقمة العيش عن كل جليل من العمل
والأمل!
إن أمة كهذه لن تنهض من عثارها إلا بجهود «أولي بقية» يصابرون الجسد
الذي استوطنته الأوبئة، ويحرثون الأرض من جديد كي يضعوا بذرة الشجرة
الطيبة ويرعوها مدركين أن زمن الثمر قد لا ينعم به إلا أحفاد الأحفاد وبعض ذلك
جهد يثقل الجبال غير أنه الإنسان الذي حمل الأمانة بعد أن عجزت عنها السماوات
والأرض.. والجبال أيضاً!(67/1)
الافتتاحية
المواقع والرجال!
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
لا شك أن الممارسة الكتابية لا سيما الفكرية الدعوية منها من أشق أنواع
التفكير المقروء وأصعبها وبخاصة مع الظروف التي تحيط بأمتنا الإسلامية اليوم.
إننا نجد هنا معادلة صعبة تقتضي معالجة الأخطاء على الساحة الدعوية
الإسلامية وسط أجواء موبوءة تضخم من أخطاء التيار الإسلامي وتحاول محاصرته
بكل الوسائل المتاحة بغض النظر عن شرعيتها وزيفها ... وهنا يجد الكاتب المفكر
نفسه أمام حقل من الألغام يصعب عليه اختراقه إلا بمهارة فائقة وحسابات دقيقة ...
مجلة البيان خلال أعدادها الستة والستين الماضية كانت تعيش هذه الأجواء وتتنفس
في هذا المحيط وتخوض حقل الألغام هذا لتحافظ على رسالتها واستقلاليتها ومنهجها
الذي اختطته لنفسها ... وفي هذه المناسبة لابد من القول إن المجلة في طريقها قد
واجهت مواقف صعبة ومحطات شاقة خرجت منها في النهاية والحمد لله وقد
حافظت على الأقل على استقلاليتها وطرحها الفكري الدعوي المطالب بسلوك منهج
خير القرون، في وقت يصعب فيه الاحتفاظ بالاستقلالية ومواجهة تحديات الإبقاء
على منهجية واضحة.
إن قطاعاً عريضاً من قراء البيان قد يرى أن الاستقلالية مرتبطة طردياً مع
طرح القضايا السياسية والواقعية التي تمس هذا الطوفان المزمجر من الأحداث
والنكسات التي عاشت المجلة وعاصرت الجزء الأخير منها، وفي هذا بعض الحق
لأن القضايا السياسية ومعالجتها تشكل أعراض المرض الصارخة لا سيما في هذه
الحقبة الأخيرة من القرن العشرين حيث أصبحت القوة السياسية المتمثلة بالدولة
القطرية تتدخل لترسم لأفرادها خطوط حياتهم التفصيلية، ومع هذا فإن الإفراز
السياسي القائم هو محصلة لشبكة معقدة من التطورات العقدية والفكرية والاجتماعية
والاقتصادية ...
لقد حاولت " البيان " طوال الفترة المنصرمة أن تعالج واقعنا المعاصر من
خلال تسليط الأضواء على الانحرافات العقدية والفكرية والاجتماعية والسياسية
والتعامل معها كوحدات الأواني المطرقة التي يتأثر بعضها ببعض سلباً وإيجاباً ...
وهذا هو جانب واحد من الإشكالية وطرف مهم من المعادلة التي نحاول أن نجد لها
الحل ... ، أما الجانب الآخر فهو وصف الدواء لهذا الداء الذي يتمثل في منهج
الإسلام الذي تلقاه الرسول الكريم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ونشره
صحابته واقتدى به التابعون والذي عُرف وقت افتراق الأمة بمنهج أهل السنة
والجماعة المنقول عن سلفنا الصالح..
لقد حاولت المجلة أن ترسم واقع المسلمين وتعالجه من خلال ذلك المنهج في
جميع مناحي الحياة ومشكلاتها، وأصرت حينما طرحت هذا المنهج على أمر هام:
الاستقلالية. هذا المكسب (في وقفة الجرد هذه) لم يكن إلا نتيجة جهد رجال عملوا
بصمت وإنكار للذات في سبيل الوصول إليه، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ محمد
العبدة رئيس التحرير السابق لهذه المجلة في رحلتها التي أشرنا إليها آنفاً ... الذي
بذل جهداً متميزاً للمحافظة على مستوى هذه المجلة الرفيع وما ادخر وسعاً في
تطويرها والرقي بمستواها والتنويع بمادتها منذ أن تولى مسؤوليتها وإن كان الأستاذ
محمد قد آثر الانتقال إلى موقع آخر فإن هذا لا يعني أن قراء البيان ومحبيها سوف
يفتقدونه ... ، ذلك أن الأستاذ العبدة سيستمر في تقديم عطائه الدعوى والفكري
وسيكون أكثر تفرغاً لدراسة المشكلات التي تؤرق كل من يحمل هم الإسلام ويشتغل
به ...
إن المجلة وهى تجتاز هذه المرحلة الجديدة تتمنى أن تكون قد كرست العمل
الدعوي المؤسس الذي ينهي النمط «الفردي» الذي ساد في فترات معينة من حياة
الدعوة الإسلامية المعاصرة، والذي نبه الأستاذ العبدة في أكثر من مقال على
خطورته وذلك حينما تنحصر الدعوة الإسلامية في قالب أشخاص تموت إذا ماتوا..
وتحيا إذا دب فيهم النشاط والهمة.
والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.(67/4)
في إشراقة آية
فؤاد حجازي الهجرس
قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا
نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]
يمدنا القرآن الكريم بدعائم الأخلاق وكرائم الخصال والعادات، حتى تقوم
حياة مجتمع المسلمين على قدر وافر من التقدير والإعزاز والإكرام.
وللقرآن مقاصد ثلاثة: تصحيح عقيدة، وتصحيح عبادة، وإقامة أخلاق..
والأخلاق الحسنة لها أثر جليل في تأسيس المودة والحب بين الناس.. قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
في هذه الآية الكريمة نهى الله عن أخلاق ذميمة ثلاثة:
1 - نهى عن السخرية.. وهي الاستهزاء بالآخرين أو التقليل من شأنهم
وتحقيرهم، وهذا يخالف الآداب الإسلامية.. قال أحد العارفين: «لو سخرت من
رضيع لخشيت أن يجوز بي فعله» . خشى جواز فعله به - أي مروره عليه - مع
أنه ضعيف لا حول له وإنما هو حِسُّ المؤمن.
2 - ونهى عن اللمز.. وهو الغمز بالوجه مثلاً أو تحريك الشفاه بما لا يفهم،
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «أعوذ بك رب من همز الشيطان ولمزه» .
تعلمها من قول الله تعالى:
[وقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ] وندرك نحن أن من يفعل هذا يصبح شبيه الشيطان.. أو يكونه.
3 - ونهى عن التنابز بالألقاب: وهو مناداة الرجل بما يكره من الأسماء،
جاء في كتاب لسان العرب أن من المسلمين من كان ينادي اليهودي بعد إسلامه:
«يا يهودي» فنزلت الآية تدفع عنهم ولذا قال تعالى: [بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ] وهو نَهْىٌ عام في كل لقب يكره المسلم أن ينادى به.
إن الكلمة إذا سَرَتْ سخريةً فإنها تفرق الوحدة وتمزق الألفة.. وهل للشيطان
تأثير إلا من خلالها وصدق الله: [وقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ] .
هي الكلمة.. فقط نحبسها داخل الجنان لا تخرج إلا مصفاةً منقاة. وهو
اللسان.. فقط يُحبس ويُطوي داخل الفم.. لا ينطق إلا بخير.. أو في الصمت نجاة. قال معاذ بن جبل -رضى الله عنه-: (يا رسول الله.. أنحن محاسبون على
الكلمة نقولها؟ ..) فقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثكلتك أمك يا معاذ.. وهل
يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال - على مناخرهم.. إلا حصائد
ألسنتهم) .
وقرأت أن قُسَّ بن ساعدة الإيادي - خطيب العرب - اجتمع ذات يوم هو
وأكثم بن صيفي حكيم العرب، فقال أحدهما للآخر: كم وجدت في ابن آدم من
عيوب؟ .. قال: هي أكثر من أن تحصى، وقد وجدت خصلة إذا استعملها سترت
عيوبه.. وهي حفظ اللسان.
ولله در الشاعر حين قال:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق
تضمنت الآية نهيا عن ثلاث: السخرية واللمز والتنابز، وهن ثلاث تؤرق
أمن الجماعة المؤمنة نفسياً، واعتبر الإسلام أن من يعملها إنما يسئ إلى نفسه،
ويوجه السهم إلى نحره: [ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ] كأن الآية تقول: لا تسخر من غيرك فلربما كان في ميزان الله أفضل منك، إن لله موازين يزن بها أقدار الناس وعلى أساسها يتحدد المصير.. إنْ في الجنة وإنْ في النار. وكأنها تقول كذلك: لا تلمز غيرك فهو أخوك في الإنسانية والدين، والأخوة بينكما لحمة البناء، فإن فعلت فنفسك تصيب وعيبك تفضح. وكأنها تقول أيضاً: لا تُنَابِزْ بالألقاب فتؤذي شعور مَنْ تنابزه وتشدخ كبرياءه، وتفصم آصرة الود بينك وبينه.
واعلم أن هذا الجرم قد شبهه المفسرون بالردة من بعد إيمان: [بِئْسَ الاسْمُ
الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ] ومن وقع منه ذلك ولم يتب فإنما يظلم نفسه، ويوبقها بأغلال تهوي به إلى الجحيم: [ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون] ومن الآية نستنبط هذه الإشارات:
أولها: لا يليق بمجتمع رباه الإسلام، أن تسود فيه موبقات.. السخرية،
واللمز والتنابز، ففيه مخالفة للمهمة التي من أجلها بعث -صلى الله عليه وسلم-
حيث قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
وحيث قال: «أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة تقوى الله وحسن
الخلق» .
وثانيها: أن هذه الصفات المسيئة تضع موازين للناس غير موازين الله تعالى
حيث قال: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] فهي لا تنتقص الرجل إلا من فقر أو ضعف أو سذاجة وما إلى ذلك وهي لا تنتقص المرأة إلا بسبب دمامة أو قِصَر أو تشوُّهٍ وما إلى ذلك. إن ميزان الله أساسه التقوى وهو أبقى وأعدل: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ثم ... أيمكن أن يكرم الله ابن آدم على خلقه ويسخر له البر والبحر والجو، ونُهَوِّنُ نحن من شأنه بشىء من ذلك.. [ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]
إن آثار الأمر كما يبدو أبعدُ من أن تكون كلمة تقال تسخر أو تلمز.. لأن الله
نهى عن ذلك نهياً أكيداً حفاظاً على قيمة التقوى التي هي ميزان الله لأقدار الناس.
ولقد تضافرت آيات كثيرة على كف الناس عن هذه الصفات قال تعالى: [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] واقرأ السورة إلى آخرها وتصور العقاب: [كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * ومَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ] أي تأكل الجلد فاللحم فالعظم حتى تصل إلى عضلة القلب نعوذ بالله من ذلك الهول: [إنَّهَا ... عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ] . وقال تعالى في سورة القلم يصف الوليد بن المغيرة.. ضمن أوصاف أخرى: [هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ] .
وقال جل شأنه: [قُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ] .
يقول الإمام ابن كثير: «ولا تلمزوا أنفسكم» تساوي: «ولا تقتلوا أنفسكم» في سورة النساء.
قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت أكبر مني سناً قلت سبقني بالإسلام والعمل
الصالح فهو أفضل مني.. وإذا رأيت أصغر مني سناً قلت سبقته بالذنوب وارتكاب
المعاصي فهو أفضل مني.. وإذا رأيت إخواني يكرمونني قلت: نعمة تفضلوا بها
علىّ.. وإذا رأيتهم يقصرون في حقي قلت: من ذنب أصبته.(67/6)
محاضرات إسلامية
حقيقة التطرف [*]
(الأسباب والعلاج)
الشيخ / سلمان بن فهد العودة
التطرف مصطلح صحفي - وإن كان صحيحاً من حيث اللغة - يعني أخذ
طرف الشيء لكنه ليس من المصطلحات الشرعية فهو لم يرد في القرآن الكريم ولا
في السنة النبوية وأكثر من يستخدمه العلمانيون دون أن يلتزموا بالموضوعية في
هذا الاستخدام إطلاقاً، فهم لم يحددوا أولاً ما هو التطرف؟ بل يريدون أن يبقى
لفظاً غامضاً مائعاً فضفاضاً يحاولون إضافته وإلصاقه بخصومهم سواء أكانت
خصومة سياسية أو فكرية أو شرعية أو حتى خصومة شخصية أحياناً.
وهم أيضاً لا يريدون أن يكون لهذا المصطلح معنى خاص به حتى يسهل
عليهم تقليبه كيف شاؤوا، فهم اليوم يصفون به هذه الفئة وغداً يطلقونه على تلك
الفئة الأخرى، واليوم يصفون هؤلاء بالتطرف، وغداً بالاعتدال، وفي نظر هؤلاء
يمكن أن يوظف مصطلح التطرف أحياناً في مواجهة بعض المواقف السياسية،
فالذين ينتقدون الصلح مع إسرائيل متطرفون، ومثال ذلك صنيع مجلة الوطن
العربي فهي تنبز منظمة (حماس) الإسلامية الفلسطينية بأنها منظمة متطرفة لماذا؟
لأن موقفها من قضية السلام موقف واضح وصريح، إنها ترفضه وتعتبر أن
المشاركة في مؤتمرات السلام خيانة لقضية الأمة الإسلامية وبالأمس القريب كانت
منظمة حماس عند هؤلاء وغيرهم رمزاً من رموز المقاومة الوطنية الناضجة التي
تقاوم الاحتلال الصهيوني الغاشم.
أحياناً يوظف المصطلح في مواجهة بعض المواقف السلوكية ففي نظر أولئك
العلمانيين يُعد من يلتزم بالسنة في صلاته، وفي لباسه، وفي تجنبه للمحرمات،
يعد هذا عندهم من المتطرفين وكثيراً ما تسخر الكاريكاتيرات في الصحف من
أصحاب اللحى الطويلة وأصحاب الثياب القصيرة وكأن تلك السمة عندهم هي رمز
التطرف. وترتبط هذه الصورة في ذهن السذج والبسطاء والمغفلين بالإرهاب
والتطرف والعنف وبالذين يرفضون الحوار دون أن يتحدثوا ودون أن يستخدموا
أسلوب النقاش الهادئ العلمى في الموضوع الذي يتحدثون عنه، لكننا نعرف الخلفية
التي يستبطنها هؤلاء الصحفيون وهم يتحدثون أو يرسمون، لا نعرفها من باب
ادعاء الرجم بالغيب، فالغيب لله لكن نعرفها من مواقف أخرى.
إنهم يحاولون أن يحشروا دعاة الإسلام تحت عنوان التطرف ومن ثم يحذرون
المجتمعات من خطورتهم، فجريدة عربية دولية معروفة تعتبر الجبهة الإسلامية في
الجزائر أصولية متطرفة وأهل السودان أصوليين متطرفين وأهل اليمن أصوليين
متطرفين وأهل الأردن أصوليين متطرفين وحزب النهضة في تونس أصوليين
متطرفين - والأخير من أكثر الاتجاهات الإسلامية تسامحاً في أفكاره ومصطلحاته
وفي علاقاته - أما الجماعات الإسلامية في مصر فحدث ولا حرج بل حتى
المجاهدين الأفغان صنفوا الآن ضمن المتطرفين وبالأمس كانوا شيئا آخر مختلفاً
تماماً وهذا الوصف الذي أطلقته هذه الصحيفة على الجماعات الإسلامية وعلى دعاة
الإسلام لم تصف به كل المجتمعات البشرية، حتى اليهود لم تصف مجتمعاتهم بذلك
بل وصفت مجتمعات اليهود بأن فيها صقوراً وحمائم وأن فيها معتدلين وآخرين
منادين بالسلام، ولم تصف الصرب الذين دمروا المسلمين في البوسنة والهرسك لم
تصفهم بهذا الوصف قط ولم تصف بلداً في العالم بذل، ولا الشيعة، ولا البعث ولا
غيرهم.
وخرجت علينا مطبوعات عدة تحذر من الشباب العربى المسلم العائد من
أفغانستان مع أنا لم نسمعها يوماً من الأيام تحذر من الشباب العائد من بانكوك الذي
يحمل جرثومة الإيدز، وما كانت تحذر بالأمس من الشباب العائد من موسكو يحمل
جرثومة الشيوعية والعمالة للفكر الأحمر إن هذه الصحف لا تتحدث عن فئة بعينها
ولكنها تتذرع بالحديث عن التطرف إلى شفاء غليلها والتنفيس عن أحقادها وعداوتها
لحملة رسالة الإسلام، حتى ولو كانوا معتدلين بل حتى ولو كانوا مفرطين متساهلين
وقد يوظف لفظ التطرف أحياناً في مواجهة مواقف عقائدية فمثلاً الذى يطلق على
النصارى لفظ كفار يعتبر عند بعضهم متطرفاً، والذى يتحدث عن الحكم الإسلامي
والدولة الإسلامية يعتبر متطرفاً، لماذا؟ لأن هؤلاء يقولون: الإسلام لم يطبق أبداً
حتى أيام الخلفاء الراشدين وهذا كلام فرج فوده - الذي دفع حياته ثمناً لأفكاره
العلمانية المتطرفة حقاً - يذكر في كتابه " الحقيقة الغائبة " ما معناه: إن الإسلام حلم وخيال ولم يطبق على محك الواقع يوماً من الدهر ولذلك فالذين ينادون ... بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية هم من المتطرفين، والذي يدعو لمخالفة المشركين في هديهم وسلوكهم وأعمالهم وأعيادهم هو من المتطرفين والذي ينادي بتصحيح عقائد المسلمين وأحوالهم وأخلاقهم على ضوء الكتاب والسنة هو من المتطرفين وهو من الذين يدعون إلى الحجر على العقول وتعطيلها.
والغريب أنه يستخدم بدلاً من لفظ التطرف لفظ الأصولية وهو في الأصل لفظ
يطلق على إحدى المجموعات النصرانية التي تلتزم بحرفية الكتاب المقدس التزاماً
صارماً والتي نشأت في ظروف وأوضاع خاصة وقد حاول هؤلاء أن يبحثوا عن
أوجه شبه بين هذه الفئة من النصارى ودعاة الإسلام أو بعضهم ثم نقلوا المصطلح
إلى الشرق وهو مصطلح أجنبي له ظروفه وملابساته الخاصة، وإن كانت الصحف
العلمانية لا تتورع عن شيء في نفث أحقادها فإنها تستخدم كل مصطلح وتعده وسيلة
أو سلاحاً لها ضد دعاة الإسلام.
- المفهوم الشرعي للتطرف: اللفظ الشرعي الصحيح في مقابل التطرف هو
لفظ الغلو وقد جاء هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة قال الله عز
وجل: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ] وقال
سبحانه: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ]
كما جاء في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ومنها حديث ابن
عباس -رضي الله عنه- لما جمع للنبي -صلى الله عليه وسلم- جمرات أمره أن
يلقط له حصى صغاراً وقال مثل هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك
من كان قبلكم الغلو في الدين.
والحديث رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي
وصححه ابن خزيمة وابن تيمية والنووي والألباني وغيرهم، ولذلك ينبغي استخدام
المصطلحات الشرعية وتجنب المصطلحات العلمانية المحدثة التي أصبح لها جرس
ورنين في آذان مستمعيها وأصبح لها وقع في قلوبهم يصعب التخلص منه، مع أنها
ليس لها تعريف خاص يمكن فهمه ومعرفته وهذا لا يعني أيضاً أن استخدام
المصطلح الشرعي ينهي المشكلة ونحن نجد أن هناك من يرمي بالغلو أقواما ما
جاوزوا الحد ولا تعدوا الحق بمجرد مخالفته لهم في المنهج أو في الطريقة أو جهلاً
منه بما هم عليه أو حسداً من عند نفسه أو لأي سبب آخر، ومن أمثلة ذلك ما نعلمه
جميعاً عن خصوم الدعوة السلفية إن معنى إنهم يطلقون عليها لفظ الأصولية ولفظ
التطرف وغير ذلك من الألفاظ وهم ما فتئوا ينبزونها بالألقاب بدون علم ولا هدى
ولا كتاب منير.
إن معنى الغلو مجاوزة الحد، والحد هو النص الشرعى من كلام الله عز وجل
أو كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند
حدود الله تعالى [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ] وإذا بحث
المسلم مسألة وجب عليه أن يجمع النصوص القرآنية والنبوية فيها ويؤلف بينها
على وجه لا يضرب بعضها بعضاً ولا يأخذ نصاً ويهمل غيره، أما الغلاة
فيضربون بعض النصوص ببعض أو يقتطعون نصاً يلائم غلوهم ويسكتون عما
عداه: -
الغلو نوعان:
1- غلو اعتقادي، كغلو النصارى في عيسى عليه السلام، أو غلو الرافضة
في الإمام علي والأئمة الاثنى عشر، أو غلو الخوارج أيضاً في تكفير أهل الإسلام
بالمعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، ومن الغلو أيضاً في الاعتقاد ما أشار إليه
الشاطبي وهو الغلو في بعض الفروع بتنزيلها منزلة الأصول إذ أن المعارضة
الحاصلة بذلك للشرع مماثلة للمعارضة الحاصلة له بأمرٍ كلي.
2- أما القسم الثاني فهو غلو عملي وهو المتعلق بالأمور العملية التفصيلية
من قول السان أو عمل الجوارح مما لا يكون فرعاً عن عقيدة فاسدة، ومن أصح
الأمثلة على ذلك رمي الجمار بالحصى الكبار مثلاً فإن النبي -صلى الله عليه
وسلم- عده غلوا كما في حديث ابن عباس السابق، وهو غلو عملي لا يترتب عليه
اعتقاد، ومثله المبالغة في العبادة كما يحدث عند بعض الفرق الصوفية التي تبالغ
في العبادة وتزيد فيها عما شرع الله عز وجل كوصال الصوم، وقيام الليل كله،
وما أشبه ذلك ولا شك أن الغلو الاعتقادي هو الأخطر لأنه النقطة التي تشعبت
عندها الفرق المختلفة في الإسلام، وظهرت عندها الأهواء، واختلفت عندها
القلوب والعقول، ثم سلت السيوف، فسالت الدماء.
أسباب الغلو:
والذين يحاربون الغلو - أو ما يسمونه التطرف - لم يكلفوا أنفسهم مشقة
البحث عن الأسباب الحقيقية التي كانت ستفرز - ولابد - نبتة خبيثة كهذه، ومن
أهمها:
أولاً: - الجهل وعدم معرفة حكم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
ومن ثم يندفع الإنسان وراء عاطفته، وقد يكون هذا الإنسان غيوراً معظماً للحرمات
شديد الخوف من الله عز وجل، فإذا رأى إنساناً يعصي ولو كانت معصية صغيرة
لم يطق أو يتصور أن يكون هذا الشخص مسلماً أو مغفوراً له أو من أهل الجنة
لشدة غيرته فيؤدي به ذلك إلى لون من الغلو، أو يكون عنده محبة لرجل صالح
مثلاً وأصل المحبة مشروع ولكن هذه المحبة بسبب الجهل زادت وطغت حتى
وصلت إلى درجة الغلو في هذا الإنسان ورَفْعِهِ فوق منزلته. والجهل يزول بالعلم
ولهذا كان كثير من الخوارج الأوائل يرجعون عن بدعتهم بالمناظرة بل رجع منهم
على يد عبد الله بن عباس -رضى الله عنهما- لما أرسله علي بن أبى طالب
لمناقشتهم - رجع منهم في مجلس واحد - أكثر من أربعة آلاف إنسان وفي عهد
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد -رضي الله عنه- نوقشوا فرجع منهم ما يزيد
على ألف إنسان في مجلس واحد ولهذا فالجهل من أسهل الأسباب علاجاً لأنه
سرعان ما يزول بالعلم والتعليم، وقد يكون الجهل جهلاً بالدليل لعدم الاطلاع عليه
سواء أكان آية أو حديثاً وقد يكون جهلاً بطرق الاستنباط من هذا الدليل لعدم المعرفة
باللغة العربية أو القواعد الأصولية أو غيرها.
السبب الثاني: هو الهوى المؤدي إلى التعسف في التأويل ورد النصوص.
وقد يكون الهوى لغرض دنيوي من طلب الرئاسة مثلاً أو الشهرة أو نحوه، وقد
يكون الهوى لأن البدعة والانحراف والباطل سبق إلى عمق الإنسان وقلبه واستقر
فيه وتعمقت جذوره ورسخت، وكما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فيعز على الإنسان حينئذ أن يتخلى عنه، ويصعب عليه أن يقر على نفسه
بأنه كان متحمساً للباطل مناوئا للحق، فيتشبث بخطئه ويلتمس له الأدلة من هنا
وهناك، وقد يكون الهوى لأن هذا الإنسان الغالي ذو نفسية مريضة معتلة منحرفة
فهي تميل إلى الحدة والعنف والعسف في مواقفها وآرائها وتنظر دائماً إلى الجانب
السلبي، الجانب المظلم من الآخرين وقد يشعر صاحبها بالعلو والفوقية دون أن
يدرك ذلك من نفسه وقد يحس بأنه أتيح له في وقت يسير ومبكر من العلم والفهم
والإدراك ما لم يتح لغيره في أزمنة طويلة، وعند ذلك يفقد الثقة بالعلماء المعروفين
والدعاة المشهورين، ويستقل الإنسان بنفسه ورأيه فينتج عن ذلك الشذوذ في الآراء
والمواقف والتصورات والتصرفات.
السبب الثالث: - أحوال المجتمع، فمن الخطأ الكبير. أن نعتقد أن
المتطرف شجرة نبتت في الصحراء - لا - بل هو فرع عن شجرة، وهو جزء من
مجتمع عاش فيه، ولهذا المجتمع في نفسه وتفكيره وعقله أعظم الأثر، فمثلاً:
التطرف في الانحراف يؤدي إلى تطرف مقابل، سواء الانحراف الفكري أو
الانحراف العملى ولذلك فالذين يَجرّون المجتمعات الإسلامية إلى الفساد والانحلال
الخلقي هم في الحقيقة من المتسببين، في حصول الغلو وإن أعلنوا الحرب عليه
وعلى ما يسمونه بالتطرف إلا أنهم من أول المتسببين فيه، فمظاهر الرذيلة في
المدرسة والجامعة والشارع والشاطئ والمتجر والحديقة والشاشة والإذاعة وغير ذلك
إذا أقرها المجتمع وسكت عنها فإنه يجب عليه أن يستعد للتعامل مع أنماط كثيرة من
الغلو، فما بالك إذا كان دور المجتمع بكليته هو تشجيع مظاهر الانحراف ودعمها
وحمايتها وحراستها وتبنيها، سيكون الأمر ولا شك أخطر وقل مثل ذلك في
الأوضاع الثقافية والإعلامية، فمحاصرة فكرة من الأفكار مثلاً وإغلاق منافذ التعبير
والكلام أمامها في مختلف الوسائل الإعلامية هو سبب لأن تتبلور لدى هذه
المجموعة فكرة الغلو أحياناً أو على الأقل فكرة المواجهة والسعي لإثبات الذات ومن
الغريب جداً أن الإعلام العربي خاصة يتهم من يسميهم المتطرفين بأنهم لا
يتسامحون مع غيرهم أو أنهم يسعون لإسكات الأصوات الأخرى التي تخالفهم، مع
أننا نعلم أن هؤلاء الناس لا يملكون شيئاً أصلاً لا يملكون أجهزة الإعلام ولا
الصحافة ولا المنابر، بل الكثير منهم لا يملكون حق الاجتماع بعشرة أو أقل من
هذا العدد، فكيف يقال عنهم إنهم يقفلون منافذ التعبير على غيرهم؟ !
والواقع أن هذا الإعلام المهيمن هو الذي أصبح حكرا لاتجاه معين أو مذهب
خاص أو طائفة محدودة وأصبح يبخل على الآخرين ببضعة أسطر أو ببضع دقائق
فضلاً عن أن يساويهم بغيرهم في كافة الأجهزة الإعلامية، فقد صودرت الآراء
النزيهة المعتدلة فضلاً عن الآراء الغالية أو المتطرفة، ومثل هذا الوضع لابد أن
يولد آلاف الأمراض في المجتمعات.
وكذلك الأمر بالنسبة للأوضاع السياسية، فإن الكبت والتسلط والقهر لا يمكن
إلا أن يؤدي إلى قتل إنسانية الشعوب والقضاء على كرامتها وليس هذا فحسب بل
يؤدي مع الزمن إلى أن تفقد الثقة بقيادتها، ثم تعمل في الاتجاه المضاد، وتعتبر
هذه القيادات ضد مصالح الأمة وأنها عقبة في سبيل الإنجاز لابد من تجاوزها.
إنك تعجب من دول يرد في دساتيرها أن الدين هو الإسلام ثم لا تسمح للتعبير
الإسلامي بأي قناة وربما اعتبرت إعلان الأذان في التلفاز نوعاً من الاقتحام
الأصولي لأجهزة الإعلام.
كيف يمكن القضاء على الغلو؟
أولاً: - ينبغي أن يكون واضحاً الفرق بين نوعين من الغلو: - الغلو الذي
هو فعلاً غلو في الدين ومجاوزة للحد وانحراف عن سواء السبيل كغلو جماعات
التكفير والهجرة الموجودة في مصر وعلى قلة في الجزائر وفي بعض البلاد الأخرى، فهذا لا شك غلو وانحراف.
والثاني: - ما تسميه أجهزة الإعلام غربيها وشرقيها غلواً أو تطرفاً أو
أصولية أو غير ذلك، وهو في الواقع ليس شيئاً من ذلك وإنما هو دعوة إلى الله
وإلى دينه إلى تحكيم شريعته والعمل بالكتاب والسنة، فنحن نفرق بين هذا وذاك
ونقول إن الغلو موجود في كل مكان وفي كل الأديان، وقد أخبر النبي -صلى الله
عليه وسلم- الخوارج لا ينقطعون بل كلما انقرض منهم قرن ظهر قرن آخر إلى
آخر الزمان، وهاهنا أسئلة لابد أن نجيب عليها.
أولا: - هل يمكن القضاء على الغلو؟ أو حتى قل القضاء على الجماعات الإسلامية وعلى رجال الدعوة الإسلامية الغلاة منهم والمعتدلين هل يمكن القضاء عليهم بالسجن والرصاص والمقاصل والمجازر؟ كلا فهذا في النهاية اعتقاد وفكر وعلى قاعدة الإعلام نفسه فالفكر إنما يحارب بالفكر لا يحارب بالرصاصة وإنما يحارب بالحجة هذا أولاً.
وثانياً: - إننا سبق وأن قلنا إن الغلو هو نتاج الضغط والإرهاب والتعسف،
ولذا فالضغط والإرهاب والتعسف لا يزيده إلا مضاء وقوة وإصراراً وهذا العسف
هو «المسوغ» الذي يحرق صبر المعتدلين فالمعتدل يوماً بعد يوم يفقد اتزانه لأنه
يجد من شراسة الخصومة والقسوة وإغلاق المنافذ في وجه الدعوة ما يكون مسوغا
وحجة لأولئك الغلاة، فلماذا تصر بعض الحكومات على مواجهة ما تسميه بالتطرف
بل على مواجهة الإسلام والدعوة الإسلامية الصحيحة النظيفة بالإرهاب والمداهمة
والسجون والمعتقلات؟
لماذا كان جزاء مؤلف كتاب (معالم في الطريق) و (في ظلال القران) السجن
ثم الإعدام؟ هل تعلمون أن كتاب معالم في الطريق مثلاً يعلم القارئ كيفية صناعة
قنبلة يدوية؟ كلا، هل هو يعلم الإنسان كيف ينظم مسيرة في الشارع؟ كلا، هل
هو يدرب الناس على حرب الشوارع؟ كلا. إنه فقط يرسم منهجاً للدعوة، فلماذا
يكون جزاء صاحب هذا الكتاب الإعدام؟ وأين الذين يدافعون عن فرج فوده
صاحب كتاب (الحقيقة الغائبة) ؟ لماذا لم يدافعوا عن سيد قطب رحمه الله حينما
أعدم؟ [ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] إننا نعلم أن في
إسرائيل أحزاباً أصولية متطرفة متشددة، فماذا فعلت إسرائيل تجاه هذه الأحزاب،
ها أنتم تسمعون أنها الآن تشارك في الحكم في خلاف مع حزب العمل الذي فاز في
الانتخابات وتصل إلى الحكم، فلماذا لا يقتدون بهم في هذا؟ كنا نقرأ ونحن صغار
أن القتل والتضييق والسجن والمداهمة لا يقضي على الدعوة بل يقويها ويرسخ
جذورها ويجمع حولها الأنصار ويكثر الأتباع، كنت وأنا صغير أشعر في دخيلة
نفسي أحياناً أن هذا الكلام نوع من ترضية النفس أو خداع الذات والتسلية الوهمية،
أما الآن فنحن نرى ما نرى في المغرب ومصر والشام بل والعراق وقد جاء يدل
على أن الصحوة حتى في العراق على قدم وساق وإن لم تكن ظاهرة للعيان بسبب
العسف والكبت ولكنها قوية جداً. لقد تحولت هذه الكلمات إلى قناعة راسخة عميقة
في مشاعرنا، وآمنا أن الدعوات لا تحارب بالقهر والعسف والملاحقة.
هل يحارب الغلو بالتجاهل؟ كلا لقد سبق أن بينت أن للغلو أسبابه التي
لابد من إزالتها ولذلك فإنه لابد من: -
أولاً: - تمكين العلماء الربانيين من القيام بواجبهم وفتح السبل لكلمتهم
والسماح بمرورها إعلامياً وتسخير إمكانات الأمة كلها لهذا الغرض، وأن يشكل
العالم الشرعى مرجعية حقيقية للجميع: الحاكم، والمحكوم، على حد سواء ولا
يجوز أن تكون المنابر الدينية حكرا على فئة من الهتافين المصفقين من أمثال
المفتين الرسميين كما في بعض البلدان.
«سئل مفتي مصر في جريدة صوت الكويت عن التطرف والنصارى وكان
من ضمن ما قال: " أما أن بعض الكتب السماوية حرفت أو بدلت أو غيرت فتلك
قضية يسأل عنها أصحابها وجميع الأديان تتفق في الأصول، لماذا يقول إن الأديان
تتفق في الأصول؟ هل هو يقصد الأصول التي عليها الأديان اليوم؟ أم الأصول
المنزلة؟ ، الأصول المنزلة هي أصول التوحيد لكن أهل الأديان اليوم من اليهود
والنصارى وغيرهم أهل شرك ووثنية، فكيف يقول إن الأصول هكذا متفقة عند
الجميع؟ !
أما إذا كان الحديث عن من يسمونه بالمتطرفين فالألسنة حداد والكلمات
كالقنابل.. لأن هذا ما يريده السلطان!
إن المناصب الرسمية الدينية أصبحت وقفا في أكثر من بلد إسلامي على فئات
معلومة ممن يجيدون فن المداهنة والتلبيس، وأصبح هؤلاء في زعم الأنظمة هم
الناطقين الرسميين باسم الإسلام والمسلمين، مع أنه لا دور لهم إلا إعلان دخول
رمضان وخروجه والهجوم على من يسمونهم المتطرفين.
ثانياً: - لابد من إيجاد القنوات العلمية والدعوية والإعلامية التي يمكن للدعاة
إلى الله عز وجل من خلالها عرض الصورة الصحيحة للإسلام، وتنقيته من الداخل
عليه، وتعريف الناس بدينهم الحق، أما مجرد الخطب الرنانة التي ينقضها الواقع
فإنها لن تغير شيئاً، حتى الاتجاهات التي يصاحبها نوع من الحدة أو الشدة يجب أن
تحاور وتناقش في الهواء الطلق وليس من وراء القضبان، وإذا لم تعرض الدعوة
الإسلامية الصحيحة الناضجة من الكتاب والسنة فإن البديل عن ذلك أمران: -
1 - شيوع المنكر الفكري والخلقي بلا نكير وهذا يؤدي إلى التطرف كما
سبق بيانه.
2 - الدعوات المنحرفة التي ستجد آذاناً صاغية فإن الناس إذا لم يعرفوا الحق
تشاغلوا بالباطل.
ثالثاً: - لابد من تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يخالف الإسلام عقيدة وأحكاماً
وأخلاقاً، ولابد من منع أصحاب الفكر المنحرف من التسلل إلى الإعلام، ومنع
المساس بالدين وأهله في تلك الأجهزة، إن مما يؤسف له أن الإعلام العربي يتحدث
عن الدعوة الإسلامية باسم التطرف أو الأصولية فيتخلى عن الموضوعية ويتناقض
وينحاز، فلا يعرض إلا رأياً واحداً ولا يعرض إلا جانباً واحداً من الحقيقة فمقتل
فرج فوده مثلاً يسمونه مصادرة للفكر وجريمة، مع أنني أقول: أي فكر يحمله
وماذا يقول؟ يقول: أفتخر بأنني أول من عارض تطبيق الشريعة الإسلامية يوم لم
يكن يعارض ذلك أحد، ويقول: سبق أن قلت لك يا وزير الصحة عليك أن تعالج
الوضع عن طريق زيادة المهدئات الجنسية، يعني أن من يسميهم المتطرفين أو
الشباب المتدين هم ضحايا الكبت الجنسي هل هذا حوار؟ هل هذه حجة؟ هل هذا
تعقل؟ أين الموضوعية! ! ؟
رابعاً: - ضرورة ضبط مناهج التعليم وربطها بدين هذه الأمة وتاريخها
وحاضرها ومستقبلها حتى يتخرج جيل مؤمن يعرف دينه.
تقول التقارير الأمنية: إن تكثيف المواد الدينية هو الذى يولد المتطرفين،
وتدريس التاريخ الإسلامي والجهاد يولد روح الفداء في نفوس الشباب، والواقع أن
تكثيف المواد الشرعية والإسلامية هو الذي ينتج العلم الصحيح الواقي من الانحراف
أما أولئك الذين يظنون أنهم سيحولون بين الأمة ودينها وبين الأمة ولغتها وبين الأمة
وتاريخها فهم مفرطون في الوهم، فالإسلام قادم لا محالة، وإذا كانوا يحاربون
الإسلام فليبشروا بالخيبة والخسارة والخذلان.
خامساً: - ضرورة إصلاح الأوضاع الشرعية والأخلاقية في المجتمعات
الإسلامية وحمايتها من الانحلال الخلقي، ودعم المؤسسات الإصلاحية القائمة على
حماية الآداب والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه كما يوجد جهاز
مختص لمكافحة المخدرات يجب أن توجد أجهزة قوية ممكنة وذات صلاحية واسعة
أيضاً في مكافحة ألوان الجرائم التي لا يقرها الشرع وأول من يجب أن يساند هذه
الجهات القانون نفسه أو النظام فلا معنى لوجود جهاز مثلاً لمكافحة الرذيلة والبغاء
في بلد يسمح قانونه بالزنا ويسكت عنه.
سادساً: - ضرورة العدل وإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم، سواء أكانت هذه
الحقوق حقوقاً مالية أو كانت حقوقاً شخصية أو سياسية أو غير ذلك، فإن
المجتمعات لا يمكن أن تقوم على الظلم أبداً، والله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو
كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، ومن الظلم سرقة أقوات
الناس وأموالهم ومن الظلم بل من أبشع الظلم مؤاخذة الناس بما لم يفعلوا ومن الظلم
حبس الناس بالتهمة والظن ومن الظلم سرقة نتائج الانتخابات في البلاد
الإسلامية [**]
سابعاً: مناقشة الأفكار والحجج والشبهات التي يتذرع بها أهل الغلو
وتفنيدها والرد عليها وتطعيم الناس ضدها لئلا يغتروا بها، فنحن نقول فعلا في بأن
الغلو هو الآخر خطر على الإسلام كما أن التفريط خطر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفَيْ قصد الأمور ذميم
__________
(*) الموضوع في الأصل محاضرة تم اختصارها وإعدادها للنشر.
(**) ومن الظلم التجسس على الناس والاطلاع على عوراتهم وأحاديثهم، وفي صحيح البخاري إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم.(67/11)
الحلقة الثانية
2- مراحل دعوة إبراهيم
- عليه الصلاة والسلام -
محمد الخضيري
ذكر القرآن الكريم لدعوة إبراهيم عليه السلام ثلاث مراحل، نوجزها فيما يلي:
المرحلة الأولى: دعوته لأبيه، وقد صورتها أبلغ تصوير آيات سورة مريم حيث يقول الله جل وعلا [واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً (41) إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياً (44) يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ ولِياً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِياً (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِياً (47) وأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياً] [مريم41 / 48] .
لقد كانت كلمات إبراهيم تفيض حناناً وشفقة وتتدفق عطفاً ورقة، فبيّن لأبيه
أن ما يعبده فاقد لأوصاف الربوبية من السمع والبصر فضلاً عن الخلق فكيف يضر
أو ينفع ثم أردف ذلك ببيان ما قد أوتيه من علم وحكمة وأن دعوته فد بنيت عليهما
ففى اتباعه سلوك الصراط السوي، ثم حذره من عدو البشرية الذي تلبس بمعصية
الرحمن فهو جدير بأن يتخذ عدواً وأن لا يطاع بل يعصى، ثم أعلمه بشدة خوفه
عليه من أن يمسه مجرد مس عذاب من الرحمن فيكون ولياً للشيطان، وأمام هذه
الدعوة الحانية الرفيقة المتزنة نسمع عبارات الأب الفجة الغليظة التي تمثل صورة
التقليد الأعمى وإغلاق القلب عن النظر والتأمل، ومع ذلك كله فإن الابن البار لم
يواجه تلك السيئة إلا بالتي هي أحسن (سلام عليك) كحال عباد الرحمن الذين إذا
خاطبهم الجاهلون قالوا: (سلاماً) بل وعد بالاستغفار لأبيه، وذلك قبل أن يتبين له
أنه عدو لله [فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ] ثم قرر اعتزاله ليراجع الأب
نفسه، ولينأى إبراهيم بنفسه عن الشر ومواطنه، وكانت رحمة الله لإبراهيم أن
عوضه بأبناء صالحين بررة عن أولئك القوم الفجرة.
المرحلة الثانية: دعوته لقومه. بعد أن دعا إبراهيم أباه لقربه توجه بالدعوة إلى قومه، وكانوا فيما قبل قسمان، منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الكواكب، وقيل: إنهم كانوا يعبدون الكواكب ويصورون أصناماً على صورها يعبدونها ويعكفون عليها، وعلى أي، فقد أبطل كلا المعبودين بالأدلة القطعية وبين وهاء ما هم عليه من العبادة، وبدأهم بالدعوة إلى توحيد الله بالعبادة وتقواه وبين لهم أن ما يعبدون ما هو إلا إفك مفترى، وأنها لا تملك لهم رزقاً فليعبدوا من يملك رزقهم، ثم أخبرهم بأنه مبلغ لا يستطيع هدايتهم إلا بإذن الله، ولفت أنظارهم إلى أن مصيرهم إن لم يستجيبوا للدعوة مصير أمثالهم فقد سبقهم على ذلك أمم ولحقهم من ربهم من النكال والعذاب ما لا يخفي عليهم، قال تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ
إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وتَخْلُقُونَ إفْكاً إنَّ الَذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وإن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ومَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] [العنكبوت: 16-18] .
- ولقد سلك إبراهيم في إقناع قومه مسلك المساءلة عن جدوى أصنامهم، هل
تنفع أو تضر أو تسمع الدعاء، فما وجد إلا التبعية العمياء [واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
إبْرَاهِيمَ * إذْ قَالَ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ *
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وجَدْنَا آبَاءَنَا
كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] فما كان من إبراهيم إلا أن أعلن البراءة مما هم عليه، وأوضح
سبب ذلك وسبب قصره العبادة على الله [قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ
وآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *
والَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ * وإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ… الآيات]
[الشعراء: 69 -80] .
- وبدأ القوم يراوغون فيما عرضه عليهم إبراهيم إلا أنه ما كان من إبراهيم
إلا إعلان النكير، وبيان الحق فعلاً لا قولاً فحسب ودخل بهذا مرحلة خطرة من
مراحل إقناع القوم بعدم جدوى أصنامهم وفي هذا يقول الله تعالى [ولَقَدْ آتَيْنَا
إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إذْ قَالَ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي
أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَاؤُكُمْ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ
والأَرْضِ الَذِي فَطَرَهُنَّ وأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ] [للأنبياء: 51-56] ولم
يكتف القوم بهذه المراوغة مع إبراهيم بل دعوه للخروج معهم إلي عيد من أعيادهم
ولكنه اعتذر عن الخروج بتورية [فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ *
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ] [الصافات: 88-90] وقال عند ذلك [وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم
بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] فسمعها بعض القوم، وبادر إبراهيم [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إلاَّ
كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا
سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
* قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إن
كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى
رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ] لقد ورطهم إبراهيم في هذه الإجابة وهذا ما
كان يريده ليندفع بكل قوة مخاطبا عقولهم إن كانت لهم عقول: [قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً ولا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ] وهنا لم يجد القوم بدا من تدبير المؤامرة عليه والتخلص منه [قَالُوا
حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى
إبْرَاهِيمَ * وأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ] [الأنبياء: 51-70] .
أما عبادتهم للكواكب فقد سلك في دحض تعلقهم بها سبيل المناظرة وذلك فيما
حكاه الله عنهم في سورة الأنعام، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في رسائل
إبراهيم العملية.
المرحلة الثالثة: دعوته للملك، حين ناظره في ربه وذلك فيما حكاه الله تعالى عنهم في سورة البقرة فقال: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ: ... ] وتفصيل ما وقع فيها آت بإذن الله في الوسائل، وهذه المناظرة كانت فيما يظهر بعد نجاة الخليل من النار كما ذكره السدي ويدل عليه: أن العادة جارية بأن الأنبياء يبدأون بتكوين قاعدة شعبية حتى يكون للدعوة ثقل ثم يلتفتون إلى القيادة ليدعوها، وأيضاً، فمن عادة خصوم الدعوة ملاحقة الداعية وإحراجه ليفضح أمام الناس خصوصاً وأن إبراهيم بعد نجاته من النار بمعجزة التفتت إليه الأنظار وتعجب الناس من ربه الذي نجاه فبادر الملك إلى مناظرته ليوقعه في الحرج ظنا منه أن إبراهيم قد ينهزم في المناظرة، وما علم أنه المؤيد من عند الله وهو سيد المناظرين، ومنظرهم الأكبر، والمجادل عن حوزة التوحيد وحمى الملة بكل ألوان الجدل.
- ولا نستطيع الجزم بأن هذه المناظرة كانت بعد النجاة لكنه الذي يظهر من
خلال ما تقدم من الأدلة والله أعلم.(67/26)
خواطر في الدعوة
درس من السيرة
محمد العبدة
لابد أن نعود دائماً للسيرة النبوية، نستلهم منها ما يفيدنا في سيرنا الدعوي،
ونعود لبدايات تشكل القاعدة الصلبة التي كانت قلب الوحى الذي يدور حوله
المجتمع الإسلامي. كانت هذه القاعدة في مراحلها الأولى من الطبقة التي سميت
فيما بعد بالمهاجرين، وجلّ هؤلاء من قريش، التي كانت تتمتع بصفات نادرة،
تفوقت بها على القبائل العربية، القريبة والبعيدة.
قال القدماء: والعجيب أن قريشاً تركت الغزو والنهب على طريقة العرب
يومها، ولكن بقيت فيهم الشجاعة والأنفة، وقوة البأس. ومع انشغالهم بالتجارة
والرحلات التجارية إلا انه لم يعترهم ما يعتري التجار عادة من البخل والمداهنة
والممحاكة، بل كان الفرد منهم يطعم الطعام لزوار البيت، وتمدحهم الشعراء كأنهم
ملوك.
إن بنية الفرد في هذه القاعدة بنية قوية، فكيف إذا أكرمه الله سبحانه وتعالى
بالإيمان والتوحيد الخالص، فلا شك أنه سينقلب إلى شخصية تقيم الدول، وتحرك
التاريخ. ولقد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الدين بأنه (الفطرة) ومعنى هذا أن
الفطرة السليمة تقبله، وتقبل تفصيلاته الجزئية. أما إذا كانت الفطرة فاسدة،
والبنية الأساسية مفقودة فكيف يقوى على حمل هذا النور، ويتمثله واقعاً وعملاً من
يحمل بين جنباته الضعف والضآلة، ويحمل مفاسد المدنية المعاصرة، وتناقضات
المجتمع الذي يعيش فيه.
هل يقوى على حمل هذه الأمانة من تعوّد على الكذب؟ أو رجل أناني إقليمي
أو رجل ليس عنده وفاء وشجاعة. وهنا نجد أن شخصية الفرد شخصية هشة لا
تستطيع بناء الدول ولا إقامة بنيان مرصوص. حتى وإن قرأ الكتب وحفظها وصار
مناقشاً ومجادلاً، والأصل أن فهم العقيدة السليمة وتطبيقها على أرض الواقع يؤدي
إلى هذه الأخلاق العالية التي لابد منها لحمل الرسالة، فاذا لم نجد مثل هذه
الشخصية فهذا يعنى خللاً في فهم العقيدة أو في التطبيق.
إن الظروف العصيبة التي يعيشها المسلمون لهى في العمق من المرارة
والقسوة بحيث تحملهم على أن يفكروا في أمرهم، ويزدادوا بصيرة بأحوالهم، وقد
ضرب الله لنا الأمثال ببني إسرائيل وأخلاقهم الملتوية، ونفسياتهم المحطمة حتى لا
نقع فيما وقعوا فيه، هذه الأخلاق التي جعلت سيدنا موسى-عليه السلام- يعاني
منهم ما يعاني وهو يريد إنقاذهم، وجاءت خاتمة الرسالات وكان حواريو رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، فكانوا خير أصحاب لفهم الدعوة
وتبليغها والدفاع عنها.(67/31)
الإسلاميون وقضايا التنمية
د /أحمد بن محمد العيسى
يثير كثير من العلمانيين شبهات عديدة ويدَّعون أن الحركة الإسلامية إنما هي
عائق لمسار التنمية والتقدم في المجتمعات الإسلامية، وذلك لأن خطابها «الأيديلوجي» يهتم بتعاليم وقيم لا تتمشى مع متطلبات التنمية الحديثة مثل الانفتاح ...
الاقتصادي والتعاون الدولي والحرية الفكرية والتعليم الذي لا يركز على الغيبيات
والحفظ.. إلى آخر القائمة المعروفة التي يتداولها كثير من المفكرين والمثقفين ...
العرب في كتبهم أو في منتدياتهم الفكرية والثقافية وما يسودونه على صفحات الفكر
والثقافة في الصحف العربية. وعلى الرغم من أننا قد تجاوزنا الطرح العلماني الذي
كان سائدا قبل عقدين أو ثلاثة والذي يعزو هذا العائق إلى الإسلام ذاته لأن اعتبار
الشريعة الإسلامية هي المصدر لقضايا التنمية، وهي قضايا سياسية واقتصادية
واجتماعية لا يتناسب بزعمهم جمع واقع العصر وتعقيداته أقول على الرغم من
الفكر الإسلامي قد تجاوز هذا الطرح إلا أننا لازلنا مترددين - أو على الأقل
مقصرين - أمام كثير من الشبهات التي يطرحها كثير من العلمانيين اليوم والتي
تركز على أن الحركات الإسلامية - وليس الإسلام - هي العائق أمام «التحديث
والتنمية في بلاد المسلمين» منذ أكثر من 1300 عام، يقول برهات غليون في
كتابه «اغتيال العقل» : «ولعل سبب هذا الانحطاط في مفهوم التقدم العري
راجع هو نفسه إلى الأزمة التي يعيشها مشروع هذا التقدم كما تبلور في القرن
الماضي، أي كبناء لمجتمع عربي موحد ديمقراطي عقلاني عادل.
ونتج عن هذه الأزمة نوعان من مواقف الهروب إلى الأمام، أحدهما يقول بالتغريب الكامل بمثالبه وحسناته، والثاني يقول بالانسحاب الكامل و» الأسلمة «أو العودة الكاملة للأصول» (ص207) ثم يصل إلى نتيجة يعتبرها عقلانية ومنطقية في آخر كتابه، حيث يقول: «وعندما نقول أنه لا يوجد حل واحد لجميع المشكلات، فنحن نعني أن المشكلات المطروحة اليوم على العالم العربي لا يمكن حلها جميعاً من أفق أيديلوجي واحد، أو من أفق أيديلوجي بشكل عام. هذا غير منطقي وغير ممكن وغير واقعي، فليس هناك حل لمشكلة التنمية الاقتصادية، الصناعية أو الزراعية من أفق الأيديلوجية السلفية أو الأصولية، كما أنه ليس هناك حل للمشكلة القانونية والتشريعية من أفق أيديلوجية تنكر الإسلام أو تتنكر له..» (ص 364) . وهذا الطرح الذي نتحدث عنه يجد الآن اصداء كبيرة عند كثير من المثقفين، وقد بدأ هذه الموجة المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه ... «الخطاب العربي المعاصر» (1982م) والذى اتبعه بعدد من الكتب تدور في فلك أفكاره الذي أثبتها في الكتاب المذكور.
وقد تركز فكره في نقد الفكر التغريبي الكامل وفي نفس الوقت نقد الفكر الإسلامي الذي يعتمد على منهج أهل السنة والجماعة في التلقي والاتباع. وهو بهذا يؤسس فكرا جديدا يراه أصحابه وتلاميذه أنه فكر «عقلاني» موضوعي يستند إلى منهجية معرفية صارمة، مع أنه من الأساس فكر «تغريبي» يستقي ... أدواته المعرفية والمنهجية من نظريات المعرفة «الابستمولوحيا» الغربية التي لا تعترف بالعقائد الدينية ولا بالغيب والإيمان وثوابت العقيدة الإسلامية.
إن الخطاب الإسلامي الذي يدعوا إلى التوحيد والإيمان وإلي تطبيق الشريعة
الإسلامية لا يدعو إلى طرح (ما ضوي) - كما يقولون - ولا يريد أن يعود العرب
والمسلمون إلى ركوب النياق والحمير والبغال (كما يعبر أحمد عبد المعطي حجازي- ... الأهرام 15 إبريل 92) . بل هم يدعون إلى طرح مستقبلي واضح يرتكز على
عقيدة سماوية وشريعة ربانية أنزلها الذي يعلم ما كان ويكون وما سوف يكون، [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] . وهى ليست من مخلفات الماضي مثل
شريعة حمورابي أو قوانين الرومان، بحيث نقول إنها خضعت لتصورات الإنسان
الذي عاش في تلك الفترة وفي تلك البيئة وفي تلك الظروف المحيطة، إن الشريعة
التي ندعو إليها هي شريعة متكاملة تربط العقيدة والعبادات والأحكام والحدود
والأخلاق والآداب وجميع شؤون الحياة في بوتقة واحدة لا تنفصل وتربطها بعبادة
الخالق سبحانه وتعالى [! قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] .
إن هذا الذي نقوله الآن هو من البديهيات التي لم تكن مطروحة على العقل
المسلم قبل عقود من الزمن ولم يحتاج المسلم إلى تعمق في دراسة العلم الشرعي أو
في قراءة كتب الفكر والثقافة، لكى يفهم هذه البديهيات، ولكننا في هذا الزمان -
والله المستعان - أصبحنا نجادل أهل الفكر والثقافة - أنفسهم - في أساسيات الدين
والعقيدة التي لا تستقيم حياة المسلم بدونها.
ولكن إذا سلمنا بهذه البديهية وابتعدنا قليلا عن «ردود الأفعال» لما يثيره
بعض العلمانيين، وتساءلنا: هل الفكر الإسلامي الذى يطرح في الساحة الآن قد
اهتم اهتماماً جدياً بقضايا التنمية في العالم الإسلامي؟
أحسب أن الجواب سيكون بالنفي.. ذلك أن الفكر الإسلامي، وجهود الدعوة
عموماً لا تزال مشغولة بقضية كبرى (وحق لها أن تشغل بها) ألا وهي تراكمات
موجات التغريب خلال قرن من الزمن أو يزيد، وكادت هذه الموجات أن تقتلع
الأمة من جذورها وتجعلها جزء تابع للغرب أو الشرق. إن الاهتمام بقضية الهوية
هو من الأولويات ولا شك ويجب أن يتفرغ لها القادرون على التأصيل لها والإبداع
في طرحها، ولكن ينبغي على المفكرين والأكاديميين الإسلاميين الاهتمام بقضايا
حيوية تعصف بالمجتمعات الإسلامية ومن أهمها قضايا التنمية التي غربت بها
الأفكار الدخيلة أو شرقت بها، فأصبحت التنمية في بلاد المسلمين اضحوكة يتندر
بها صحفيو الغرب ومنظروهم.
إن الحاجة اليوم ماسة لدراسة أكثر من قضية تنموية، دراسة عميقة مدعمة
بالوثائق والإحصاءات ومبنية على أسس منهجية علمية واضحة لا مجال فيها
للعاطفة المفرطة في التشاؤم أو التفاؤل أو في استباق النتائج. والمطلوب ليس فقط
تنظيراً إسلامياً لهذه القضايا وإنما دراسات واقعية وتطبيقية تهتم بمحاولة وضع
تصورات وحلول للمشاكل القائمة حالياً. إن لدينا الآن فرصة تاريخية لإبراز الفكر
الإسلامي الصحيح الذي يلتمس حلولاً جذرية من منظور إسلامي للمشكلات التنموية
التي تعانيها المجتمعات الإسلامية، ولعلي أشير هنا إلى بعض الأمثلة للقضايا
الحيوية التي يجب أن نهتم بدراستها، وهذه الأمثلة تمثل قضايا كبرى تحتاج إلى أن
تجزأ إلى قضايا صغيرة تجعل من السهل دراستها، ومن هذه القضايا:
1- قضايا التعليم: ويدخل فيها قضايا غياب الرؤية الإسلامية للعملية
التربوية، ضعف الناتج التعليمي، وانفصال واقع التعليم وأهدافه عن حاجات
المجتمع، قضايا إعداد المعلم والمربى وفق منهج الكتاب والسنة، إيجاد الحلول
لمشكلة الأمية، وغير ذلك من القضايا.
2- قضايا الاقتصاد: ومنها قضايا أولويات النظام الاقتصادي في الإسلام
وقضايا النمو الاقتصادي والهدر العام والتبذير والاستهلاك، ومنها وقضايا الديون
والعجوزات، وقضايا النفط والتصنيع والتجارة الدولية والاتفاقات الاقتصادية
وغيرها.
3- قضايا التنمية الاجتماعية: ومنها قضايا النمو السكانى، والبيئة وبرامج
التثقيف والتوعية، وقضايا الإعلام وقضايا العنف والتفكك الأسري والجنوح ...
وغيرها.
4- قضايا التقنية والتقدم العلمي: ومنها قضايا التخلف التقني، وقضايا نقل
التقنية أو استنباتها، وربطها بالنظام العقائدي والأخلاقي للأمة.
كل هذه القضايا (وغيرها كثير) بحاجة إلى دراسات عميقة من قبل المفكرين
الإسلاميين توازي الجهود التي يبذلها القائمون على بعض المؤسسات العلمانية في
العالم العربي التي تعقد المؤتمرات والندوات وتنشر الكتب والمقالات عن هذه
القضايا حتى غدت مفاهيم النهضة والتنمية ترتبط غالباً بمفاهيم علمانية مثل مفاهيم
(حق الأمة في التشريع) في قضايا السياسة وغيرها، ومفاهيم إبعاد الدين والغيبيات
عن عقول الناشئة في قضايا التعليم، ومثل تقديم مفاهيم المصالح المتبادلة وقوى
السوق في قضايا الاقتصاد، ومثل مفاهيم تحرير المرأة ومشاركتها في جميع
مجالات العمل، ومفاهيم تحديد النسل في القضايا الاجتماعية، وهناك قائمة طويلة
من المنطلقات العلمانية التي تتناول قضايا التنمية لا يمكن تقصيها في هذا المقال.
وقد سبب غياب الفكر الإسلامي الصحيح عن قضايا التنمية، احتلال أصحاب
الفكر التغريبي لمواقع عالية في المؤسسات الحكومية والدولية في شتى أقطار العالم
الإسلامي، بل لقد أوهم كثير من العلمانيين وهم يكتبون ويتحدثون عن هذه القضايا، أوهموا أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في البلاد الإسلامية بأنهم هم الذين
يفهمون لغة الأرقام ولغة النتائج الإحصائية ولغة التخاطب في المؤتمرات الدولية
والمحلية، أما أهل العلم والدعوة وأصحاب الفكر الإسلامي فإنهم لا يعرفون إلا لغة
الشعارات والخيالات والقضايا الهامشية! !
فهل من وقفة جادة من أصحاب الفكر الإسلامي مع هذه القضايا..؟ وصدق الله
العظيم إذ يقول: [أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] .(67/33)
التواضع
سمة.. قيادة.. أيضاً
سامي سلمان
التواضع سمة وخلق رفيع من تحلى به ساد نفسه ومن ساد نفسه ساد
الناس [1] .
وقد تبدو العلاقة بين التواضع وسياسة النفس وسيادة الناس غير واضحة
ولكنها تتضح عندما ندرك معنى التواضع الحقيقي، سئِلَ الفضيل بن عياض عن
التواضع فقال:
«يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله» .
فإذا كان هذا هو حال المتواضع فهو قد ساد نفسه بلا شك وإذا أحببنا أن
نبحث عن طرف المعادلة الأخير فلابد أن نستمع لابن عطاء وهو يقول: «العز
في التواضع» .
وقد ساد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمة وساد الناس وهو سيد ولد
آدم وخير الناس، فكيف كان حاله:
- كان إذا صافح الرجل لم ينقل يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع
يده [2]
- كان يوم الأحزاب ينزع التراب ولقد وارى التراب بياض بطنه. [3]
- كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم. [4]
- كان يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف العاجز ويدعو لهم. [5]
- كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم. [6]
-كان يدعى إلى خبز الشعير. [7]
- كان يقول: «هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل
القديد» [8] .
- كان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويحتلب الشاة. [9]
- كان يقول: «أنتم أعلم بأمور دنياكم ... » .
(فأي تواضع أعظم من هذا التواضع ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قائد الدولة وإمام المسلمين والمشرع لهم عن الله والموحى إليه من ربه ... ) .
وعليه فإنه ينبغي التنبيه إلى أن المسئولية تستوجب التواضع إذ أن التواضع
الحقيقي هو التواضع لله ومن عرف الله عرف الناس وأنزلهم منازلهم.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرف الناس بربه فهو القائل أنا
أتقاكم لله.
وإن ارتباط هذه السمة بنجاح القيادة ينتج من معاني عديدة ينبغي التنبيه لها
أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: -
1- إن المتواضع لين، سهل المعشر، يفتح له الآخرون قلوبهم مما يسهل
عليه حين يكون قائداً مسئولاً القدرة على التوجيه وتملك زمام الآخرين من خلال
قلوبهم لا من خلال منصبه وجبروته وعنفوانه وهو ما يحتاجه القائد الناجح، إذ أن
الولاء الحقيقي للأفراد والمنظمات هو ما ينبع من حب الموالين واحترامهم لرؤسائهم.
2 - إن المتواضع أقدر الناس على الاعتراف بأخطائه إذ يدرك أن اعترافه
بوقوعه في الخطأ لا يسلبه احترام الآخرين له وليس هو الذي يقول ويتبجح بأنه
صاحب الحق دائماً بل هو على العكس من ذلك فاعترافه بالخطأ بصراحة وأمانة
وشجاعة هو تأكيد لبشريته وإتاحة المجال لإصلاح الخطأ بدلاً من الاستمرار عليه.
ولا شك أن هذا هو عين ما يتميز به القائد الناجح إذ لا يُقبل نجاح قيادة تصر على
الاستمرار بالخطأ.
3 - إن المتواضع يعطي الناس حقهم وقدرهم فلا يحتقرهم مما يساعد على
إيجاد روح المشاركة وإبداء الرأي وبروز الإبداع الذي يحتاجه أي قائد ناجح إذ لا
نجاح لقائد دون وجود هذه الروح بين مرؤسيه.
4 - إن المتواضع لا يعيش في عالم الغرور والتيه والكبرياء الذي يجعل
القائد يحسب نفسه وكأنه صاحب صفات ومزايا لا يملكها إلا هو وحده ثم لا يلبث
إلا قليلاً وتنكشف حقيقته فلا يبق له هذا النجاح المصنوع. يقول أحد العارفين:
«لا يمكن للرئيس أن يخدع مرؤوسيه طويلاً ولابد أن تكشفه الأيام والنوائب
فإذا كان متواضعاً أمام نفسه بقى قويا أمام الآخرين وإن كان صادقاً استطاع أن
يطلب الصدق من الآخرين» [10] .
5 - إن المتواضع تأبى نفسه أن يكون أنانياً لأن الأنانية هي وليدة الغرور
ولا يجتمع متضادان في نفس واحدة وعليه فإن القائد المتواضع هو الذي يعيش
ليحقق أهداف الجماعة والمصلحة العامة بدافع الواجب والذي ينجح ليحقق هدفاً
جماعياً ليس كفرد ينجح ليحقق هدفاً فردياً فالأول يكتسب بحبه للآخرين وولاءهم
والآخر ينتظر الآخرون فشله بتلهف.
6- إن المتواضع أعظم من أن يجعل لحب الظهور مدخلاً إلى نفسه، يقول
أحدهم: «يعمل الرئيس المغرور بدافع حب الظهور فيجد نفسه في النهاية محاطاً
ببطانة لا ترى إلا بعينيه ولا تسمع إلا بأذنيه فيفقد الفائدة التي يحملها إليه انتقاد
معاونيه الصالحين الذين يرون الاشياء من زاوية مختلفة، كما يفقد الاحتكاك مع
الوسط الذي يعيش فيه، فيصبح غير أهل للقيادة. [11]
رحم الله عمر بن عبد العزيز فلقد كان متواضعاً وكان قائدا أحبه الناس. يقول
سهيل بن أبي صالح» كنت مع أبي غداة عرفه، فوقفنا لننظر لعمر بن عبد العزيز، وهو أمير الحاج، فقلت يا أبتاه والله إني لأرى الله يحب عمر، قال: بم؟ قلت:
لما أراه دخل له في قلوب الناس من المودة «.
ولا عجب في ذلك فمن كان حاله ما أسلفناه من التواضع أحبه الناس، ولا
شك أن هذا هو معنى نجاح القيادة الحقيقي. [12]
__________
(1) ذكره الماوردي، في كتاب أدب الدنيا والدين طبعة دار اقرأ ص 245.
(2) أخرجه الترمذي وغيره وهو في المشكاة (رقم 5824) .
(3) عن صحيح مسلم (كتاب الجهاد) باب غزوة الأحزاب.
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 2112) .
(5) صحيح أبو داود رقم (2298) .
(6) رواه النسائي، انظر السلسة الصحيحة رقم 1278.
(7) صحيح الشمائل المحمدية رقم 287.
(8) سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 1876) .
(9) رواه الطبري في الكبير وغيره وهو في السلسلة الصحيحة رقم 2120.
(10) فن القيادة ص 59.
(11) المرجع السابق ص 58.
(12) كل ما ذكر عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - نقل من المجلد الخامس في سير أعلام النبلاء طبعة مؤسسة الرسالة.(67/39)
البيان الأدبي
نحو شعر إسلامي مبدع
بقلم: إبراهيم بن منصور التركي
مدخل:
تفتح مجلة البيان الحوار الهادف والبناء حول ما طرحه الكاتب من آراء حول
هذا الموضوع ولاسيما من ورد ذكرهم في المقالة - وصولاً إلى الرأي الصواب
ورغبة في النهوض بالأدب الإسلامي إلى المستوى اللائق به.
- البيان -
درج الباحثون في دراسة الآداب على أن يسبقوها بالحديث عن حيوات
العصور المدروسة، فيتحدثون عن التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية
والاقتصادية التي زامنت الأدب؛ ذلك لأن الأدب - في حقيقته - انعكاس شعوري
يتأثر بما تفرزه تلك التيارات سلباً أو إيجاباً. وما اقتيات الأدب العربي المعاصر
من موائد الرطانة المستعجمة إلا شاهد إثبات حي على ما أشربته بعض المجتمعات
العربية (والإسلامية) من حب مناهج الغرب الحياتية.
إن عدم شيوع فكر إسلامي ناضج يظل الأدب في ظله ويكلؤه برعايته سبب
رئيسي وراء غربة الأدب الإسلامي. لقد نبت الفكر المعاصر على السحت حتى
أوشك الأدب أن يرتع فيه لولا بضع أيادٍ تداركت منه بعضاً.
على أن تلك الأيادي لم تخل - بحسن نية - من بعض القراءات الخاطئة،
فأدخلت في حقل الأدب الإسلامي أعمالاً بينه وبينها بعد المشرقين، لمجرد تناولها
حوادث تاريخية أو إسلامية معروفة. فلأن توفيق الحكيم يحكي قصة (أهل الكهف)
في مسرحيته المشهورة، ولأن صلاح عبد الصبور يعرض (مأساة الحلاج) !
في مسرحية أخرى، اعتُبِر عمليهما أدباً إسلامياً دون النظر إلى البعد الفكري
الذي تنطوي عليه المسرحيتان [1] رغم أن كاتباً آخر يطرح رأياً نقيضاً حول
مسرحية صلاح عبد الصبور، يرى فيه أن الحداثيين (يعتبرون رموز الإلحاد
والزندقة أهلَ الإبداع والتجاوز، وأهلَ المعاناة في سبيل حرية الفكر والتجاوز
للسائد، وألفوا في مدحهم القصائد والمسرحيات والمؤلّفات كما فعل صلاح عبد
الصبور مع الحلاج) [2] . إن مثل هذا الخطأ - غير المقصود - لم يكن ليحدث لو
أن المسرحية وقفت في محكمة الفكر الإسلامي.
بل لعل ذلك اللغط الذي يدار بين الفينة والفينة مشروعية الأدب الإسلامي
مصطلحاً وأداءً، لم يكن ليظهر لولا أن ساحاتنا الثقافية ثمُلت من ماء الفكر الآسن
المتلوث بمعميات العلمانية والقومية والعقلانية والتنوير وما أشبهها.
لقد كان في غياب الرؤية الإسلامية تناسل للرؤى الضبابية، وإثارة للزوابع
المفتعلة حول النص الأدبي الإسلامي. بيد أن مؤثرات أخرى أوغلت في فعلها
السلبي إلى داخل النص؛ إذ لا زال بعض من منظري الأدب الإسلامي ومطبقيه
يصرّ على تكبيل الشعر والحد من قدراته الجمالية، تارة بإلباسه عباءة الهدف
الأخلاقي، أو سربلته تارة أخرى في ثياب المكاسب النفعية المجردة. على أنني
لست من أرباب الفصل الحاد بين المتعة والمنفعة في تحديد وظيفة الأدب؛ ذلك أني
أعتبر علاقة المتعة بالمنفعة كعلاقة الجزء بالكل. إن تحقيق المتعة المشروعة منفعة
ملحة لا غنى للحياة الكاملة عنها، وإيجاد الجمال المشروع جانب تكميلي لا تتم
الحياة إلا به.
ومن هذا المنطلق أرى أن الفن بكل مفرداته ليس إلا عملاً غائباً ينتهي عند
تحقيق الإمتاع المشروع [3] ، يستوي في ذلك الرسم والشعر والموسيقى [4] .
تلك هي الوظيفة الأصل في مهمة الفن، وإن كان لا يخلو من وظائف طارئة
تتلبّس النفعية أحياناً دون أن تكون خالصة لها. غير أن قلب الأمور أحياناً يحيل
الطارئ إلى أصيل والغاية إلى وسيلة، وذلك عندما يتم القول بأن (الفن في الإسلام
يتخذ مسلكاً مميزاً، فهو - (كما يقول الكاتب) - وسيلة مهمة من وسائل إثراء
الحس الجمالى عند الإنسان، ولكنه بفضل منهج الإسلام السليم لا يكون غاية في
ذاته، بل هو وسيلة إلى غايات سامية) [5] .
ولا يمكن قبول ذلك على إطلاقه، فالفن - إذا شئنا اعتباره وسيلة - فليس إلا
وسيلة إلى هدف أُخروي، هو دخول الجنة، على اعتبار أن قصد المسلم في جميع
أعماله أن تقربه إلى الله زلفى. أما أن يكون الفن وسيلة إلى هدف نفعي يتحقق في
الدنيا فذلك مما اختلف مع الكاتب فيه، وإن كنت لا أريد أن أحجّر واسعاً فتغلق
أبواب النفعية في الأدب ولكني أشدد على أنها تظل طارئة وأن الأصل في الأدب
هو الجمال. إنّ فرقاً في جماليات النص يظهر واضحاً بين من يسخَّر جهده ليعلي
من أدبية النص وبين من يبتغي به وجه المكاسب النفعيّة. على أني لا أشك في أن
أرقى النصوص هو ذلك الذي يستطيع بلوغ هدفه النفعي عبر فّنّيات العمل الأدبي.
وإذا كان العالق السالف يبوء بإثم التقريرية والوضوح والخطابية في الشعر
الإسلامي فإن عائقاً آخر يأتي ليزر وازرة التخليط المستهجن. هذا التخليط الذي
يجعل بعض القصائد أمشاجاً من المعاني لا يؤلف بينها رابط، فتبدأ القصيدة بلا
إعداد مسبق لخط السير الذي ستمضي فيه [6] ، وتخبط خبط عشواء، دون أن
يكون ثمة معنى عام تمضي لتؤديه؛ مما يجعلها مِزقاً من الخواطر تنوء بالتشرذم
والشتات.
لقد وقف الناقد العربي ابن قتيبة موقف المدافع عن الشعر الجاهلي حينما اتّهم
بتشتت موضوعاته، فراح يبحث لتلك الظاهرة عن تعليل، وبرغم تعسفه في
التعليل [7] إلا أنه ذو دلالة واضحة على أن ابن قتيبة كان يرى أن الشاعر الجاهلي
يتصور عمله وحدة متصلة الأجزاء يسلم الواحد منها إلى صاحبه. وكذلك كان الناقد
ابن طباطبا يوجب جاهزية المعنى في الذهن بصورته النثرية قبل الشروع في كتابة
القصيدة [8] . وفي الوقت الذي كان فيه النقد العربي يعيب التعلق المعنوي للبيت
الشعري بما قبله أو بعده، يأتي ناقد كابن الأثير ليجيز ذلك محتجاً بوروده بين
الآيات القرآنية [9] .
إن تلك الثسذرات التراثية تأتي لتؤكد على أن ترابط القصيدة ووحدة معناها
هاجس كاد النقد العربي يركن إليه لولا أن معيار وحدة البيت شغف القصيدة العربية
حباً وملأ عليها قلبها. ومهما تكن القصيدة القديمة قد عضّت على ذلك المعيار
بالنواجذ، فإن ذلك لا يعيبها فلكل عصر مقاييسه الخاصة. غير أن الأنماط
المعيشية المنتظمة في عصرنا الحاضر توجب لوناً من التفكير المنظّم، وهو تفكير
يدفع الشاعر إلى أن يعرف سلفاً: كيف سيبدأ؟ وكيف سيستمر؟ وكيف سينهي
القصيدة؟ . ثم بعد أن يرتسم منهج القصيدة في ذهنه كاملاً يشرع في تدوين تجربته
الشعرية متحرّفاً إلى التتابع المنطقي بين معانيه.
والذي يبدو أن إمساك القصيدة الإسلامية بعِصَم التقليدية احتجزها في زاوية
ضيقة لم تخرج منها بعد. ففي الوقت الذي أثبت الشعر الحر (شعر التفعيلة) وجوده
على الساحة لازال بعض النقاد الإسلاميين يماري في مكانته [10] ، ولازال بعض
الشعراء محجماً عنه أو مقلاً منه. إننا لا نشك في أن الشعر العمودي متى ما أبدع
كان السقف الأعلى للإنتاج الشعري. بيد أن ذلك لا يمنعنا من طرق الأبواب
الجديدة، وتجريب الأشكال الشعرية المعاصرة متى توفر فيها إيقاع الشعر
وموسيقيته الشعرية.
هذا الجمود الشكلي عند بعض الأدباء الإسلاميين صاحبه جمود دلالي ظلّت
القصائد تئن تحت وطأته بلا فِكاك، ونراه يتمثل في وقوع القصيدة الإسلامية
مضغة في شدق المأساوية الدامية، لا تكاد تخرج منها إلا إلى شعر المواعظ والزهد وبرغم هذا فإن القصيدة لازالت دون المستوى المأمول في شعرها المأساوي ذاك،
فكما لَفَظَ الذوق السليم شعر الغزل الصريح لوقوفه عند معانٍ مستهلكة لا تتجاوز
الخد الوردي والشَعر الفاحم والقوام المعتدل، فقد استكره من الشعر الإسلامي
استعادته - أو سرقته على رأي النقد العربى القديم - لمعانٍ لاكها الشعر من قبل
حتى مَّجها. فلا زالت القصيدة تعيد - بتسطيح ظاهر - المعاني ذاتها التي ذكرها
أبو البقاء الرندي في نونيته قبل عدة قرون، وهي لا تتجاوز اغتصاب أنثى وتيتيم
طفل وإبادة الرجال والشيوخ.
إن تلك المآسى تحتاج إلى توظيف فني يعمّق أثرها في النفوس بتناول للمأساة
منفرد عبر مشاهد تعرضها وتكشف آثارها الخبيئة، بدلاً من جمع البيض في سلة
واحدة كما فعل الرندي.
على أني أعتب على كثير من الشعراء الإسلاميين عدم طرقهم موضوعات
شعرية أخرى غير الشعر المأساوي، فقد أَفَلَتْ شمس الشعر الوجداني وشمس الشعر
الغزلى العفيف، فلم يعد لهما وجود بينهم. إن ما يجب أن نذكره ها هنا أن طرحنا
للأدب الإسلامي يعني اعتباره الخيار الأول والأخير، وأن وجوده في الساحة يعني
رفض ما سواه، مما يوجب توسيع دائرة الأدب الإسلامي ليستوعب جميع
الإبداعات المحتمل وجودها في المجتمع المسلم، والتي لا تتعارض نصاً أو روحاً
مع الإسلام.
ومن ذلك المنطلق أرى وجوب مخاطبة الشعر الإسلامي لجميع فئات المجتمع، بحيث يتوجّه قسم منه، عبر الوسائل التعبيرية القريبة، ليحرّك وجدانات العامة
ويثير انفعالاتهم، على أن يبقى منه قسم آخر يستهوي المتخصصين في الأدب
والنقد بتقنياته الفنية العالية.
إنى لا أريد أن نقع - كما وقع الكثير من النقاد - في مزلق النظرة الأحادية
عند الحكم على النتاج الشعري، لقد ذهب بعضهم بدافع تقديس الرؤية الجمالية إلى
تفضيل شعر الغموض، وبزاوية قدرها مائة وثمانون درجة انحرف آخرون نحو
شعر الوضوح تحت ستار نفعية الأدب.
بينما ما أعتقده أن القضية لا تحتاج كل ذلك الورم التنظيري؛ فالشعر الزبد
سيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وإن كنا نتمنى أن يكون
الشعر الإسلامي قد اختار لنفسه منزلة بين تلك المنزلتين، فلا يُوغل في سماء
الغموض، ولا يُغرِق في بحار الوضوح.
ومما يلاحظ أن النقد المعاصر قد وجّه وجهه نحو تمرير الإبداع الساذج
وتبريره، فإنى أرجو أن لا تزلّ قدم النقد الإسلامي المعاصر، بعد ما رأيت الثناء
المتبادل يلفح في وجه النقد الإسلامي، مع تغييب للفعل النقدي الفاعل الذي يتلمّس
الأخطاء ويبحث سبل إصلاحها، ولعلي أرجو أن يكون ما كتبته مساهمة مفيدة في
قطع مشوار من ذلك الطريق الطويل.
والله الموفق،
__________
(1) يرى الأستاذ الفاضل الدكتور سعد أبو الرضا في كتابه (الأدب الإسلامي قضية وبناء) أن مسرحية صلاح عبد الصبور المذكورة مما يكشف عن روعة قيم هذا الدين في الإخلاص للمبدأ وهداية الناس (ينظر ص 131) ومن فتاوى ابن تيمية - رحمه الله - إشارة إلى أن الحلاج من أهل البدع والزندقة، لا أنه من المخلصين لهذا الدين كما فهم الدكتور أبو الرضا (انظر الفتاوى مجلد 11/ص18) .
(2) عوض القرني - الحداثة في ميزان الإسلام ص 29 لمعرفة المزيد عن فكر صلاح عبد الصبور تنظر صفحات (103 - 106) .
(3) يمكن القول بأن الإحساس بمتعة الجمال الفني سبب في حصول ما يسميه أرسطو بالتطهير وهو تحرر الإنسان من الانفعالات الضارة (النقد الأدبي الحديث ص 80 - د محمد غنيمي هلال) .
(4) موقف الإسلام من الموسيقى مثل موقفه من الشعر والرسم، فقد أباح الموسيقى بقيود تبدأ بتحديد الآلة الموسيقية وهي الدف وتنتهي بتحديد وقت استخدامها مقيداً، في الأعراس والأعياد.
(5) د عبد الرحمن العشماوي - بلادنا والتميز ص 122.
(6) نشرت مجلة المشكاة/العدد 13 / ص89 / دراسة حول الشعر الإسلامي محمود مفلح، وجاء فيها مقولة للشاعر نفسه يقول فيها: (الحقيقة لا أنا أهندس القصيدة ولا أخطط لها … ولم أجلس في حياتي قط لاستجداء القصيدة أو استعطار عطفها ودلالها) ! ! ! .
(7) لمطالعة تعليل ابن قتيبة يرجع إلى (الشعر والشعراء - ص 63 - تحقيق شاكر) .
(8) ينظر: عيار الشعر ص 5.
(9) ينظر: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ص 293.
(10) انظر مجلة المشكاة / العدد 14 / مقال بعنوان (القرآن والسنة يحددان ما هية الشعر العربي) للدكتور: رضوان محمد حسين النجار / ص 22.(67/45)
البيان الأدبي
برقية إلى بيقوفيتش
د/محمد بن ظافر الشهري
بيقوفيتش. .
أعرف أنك لم تسألني قول الشعرْ
أعرف أنك لم تسألني كسرة خبزْ
أعرف أنك لم تسألني شربة ماءْ
أعرف أنك لست تريد كساء
أنت تريد الجمرْ
تغرسه في عين الكفرْ
تقذف فيه كلاب الصربْ
وخنازير الجبل الاسودْ
توقد منه فتيلَ النصرْ
* * *
بيقوفيتش..
ِثق في قوليْ
فأنا مثلك مسلمْ
آلمُ للجرح كما تألمْ
سيقول لك الغرب الكافرْ
لا تسمع قول الإرهابيْ
لا تَتْبَعْ هذا المتطرفْ
بيقوفيتش..
إني أحسبُ أنك تعرفْ
أنك في حكمهمُ الجائرْ
إرهابيٌّ
أنت أصوليٌّ متطرفْ
* * *
بيقوفيتش..
لا تسأل أمما متحدةْ
أن تتدخلْ
فالبطرسُ ذو الكف الأحمرْ
مشغول جداً في البصرةْ
يقتل أطفالاً ونساءاً
كي يرتاحوا
من بطش البعثِّي " الأصغَرْ "
ولقد نفذ في " كسمايو "
نفسَ الفكرةْ
وقريباً قد يصدر أمرَهْ
بدخول السودان الحُرّة
* * *
بيقوفيتش..
لا تدخل معبد بيزنطهْ
لا تسأل أوثانَ الرومْ
إن تسألهمْ.. سيقولونْ:
لا تطلب دعم الإرهابْ:
لا تطلب نبلاً وحرابْ
نَفِّذْ أمرَ الباب العالي
بطرسْ غالي
خذ مِنّا شجباً
خذ تنديداً
وخطاباً معتدلَ اللهجةْ
.. سيقولونْ:
اطلب مِنّا " ما يطلبهُ المستمعونْ "
* * *
بيقوفيتش..
كيف تسير بلا نعلينْ
تطلب غوثاً في صحراءْ
ليس بها زرع أو ماءْ
سيحدثك الرملُ الأبكمُ فيها
بأحاديث " الَمْبعوثَيْنْ "
كيف قصدتَ النهر الأعظمْ
تحكي للطحلبِ ما يجري
وسواءً يا بيقوفيتشْ
فهم الطحلبُ أمْ لَمْ يفهمْ
فسيرفض رفضَ الصحراءْ
أن تُلْزِمَهُ ما لا يلزمْ
* * *
بيقوفيش..
تعلمُ أن زيوتَ الأرض " بِرِنْتْ "
زيت " برِنتْ "
لن يملأ قنديلك أنتْ
زيت " برنتْ "
يملأ أخدوداً صربياً، يستوعبُ كلَّ البشناقْ
املأْ قنديلكَ يا عِزّتْ
بدموعٍ من عينيْ ثكلى
بدماءٍ من صدر مجاهدْ
وإذا شئتَ بألا يُطْفأْ
املأ قنديلكَ يا عزتْ
بدموعكَ ودمائكَ أنتْ
* * *
بيقوفيتش..
لا تُدخلْ كفكَ في الأرضِ السُّفلى
لا تملأها وحلا
ارفع كفيكَ إلى الأعلى
أعلنها حرباً من أجل الله
صدقني.. لن تخسر شيئاً يُذكرْ
فسياستهمْ لن تتغيرْ
فبنو الأصفرْ
منذ البدءِ تلقوا من " كيسنجرْ "
هو من نَظّرْ
ومن الدينِ قديماً حَذّرْ
بيقوفيتش..
صدقني أنك لن تخسرْ
سوف تُمَكَّنُ مِنْ أنْ تَثأرْ
سوف تُظَفَّرْ
ستعيش إذا عشت حميداً
وإذا مت تكون شهيداً
هذا نصح أخيك المسلمْ
لا يعرف زورا ونفاقاً
لا يؤمن " بالعرف الدولي "
لا يحمل معنى للغشْ
صبراً صبراً بيقوفيتشْ(67/53)
البيان الأدبي
الإفك الثقافي والأدبي
إعداد:نورة السعد
لا خير في نشيد شاعر ولا صوت مغن
إذا لم يفيضا على المجتمع الحياة والحماس
(محمد إقبال)
لقد وضعت بين أيدينا آلاف الكتب المترجمة، لنطلع على آداب الغرب
والشرق من الدول الوثنية والأدب الوثني على وجه الخصوص، كل ذلك تحت اسم
عالمية الثقافة، وبهدف تعريفنا بالعطاء الإنساني! ! في ألوانه الجاهلية! ! بل لقد
دعينا من قبل أكثر مثقفينا إلى الانفتاح على الثقافات العالمية، وحضنا بعض
المتحمسين على الالتفات إلى الثقافات الأسيوية الوثنية في الصين والهند واليابان
وكوريا (انظر على وجه التحديد د. عمار الطالبي - بحث بعنوان: التفاعل
والتواصل بين الثقافات الإنسانية - قدم في ندوة الثقافة العربية: الواقع وآفاق
المستقبل من 12 - 15 إبريل 1993 - جامعة قطر)
ولكن ما طبيعة ذلك التواصل والتلاقح الثقافي المقترح بين الإسلام والحضارة
الوثنية؟ ؟
وكيف يمكن أن تتصالح هاتان المنظومتان المتعارضتان؟: (ثقافة تراعي
الشمول الإنساني بين وفاء الإنسان لربه وتزكيته لنفسه ونقاء قلبه وعمله لآخرته
والأخذ بالمقتضيات العصرية.
ثقافة مؤسسة على الوحي وثقافة لم يرد لها أصحابها هذا الأمر، ثقافة ترفض
الغيبيات وتقوم على المادة أساساً وثقافة تتبنى ثوابت إنسانية لا تغير فيها من جانب
العقيدة والعبادة والأخلاق وأصول المعاملات.... ومصطلح التفاعل والتواصل،
هل مفهومهما واحد لدى الثقافات؟
وأين رحابة الصدر الواسعة في الثقافة الإسلامية التي تتسع للمخالفين وكم
بينها وبين الثقافات الأخرى التي تضيق بالمخالفين ولا ترضى بغير التبعية
والإلحاق [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
[البقرة: 120] (تعقيب للدكتور محمد رأفت سعيد على بحث الدكتور الطالبي، المشار إليه آنفا - استمع لشريط صوتي بعنوان: ندوة الثقافة العربية بالدوحة - بحث د. عمار الطالبي)
لماذا - يا ترى - حرمنا من العطاء الإنساني في صبغته الإسلامية؟ ؟
ولماذا حجبت عنا آداب الشعوب الإسلامية، وإنتاجها الأصيل، تلك التي
تجمعنا بها العقيدة الواحدة والصلات الناجزة والآلام والآمال المشتركة؟ ؟
ومتى تفتح الصفحات الثقافية والأدبية - كما يسمونها -، كوة صغيرة للأدب
الإسلامي؟ ؟ متى يكتشف القراء المسلمون أن أدب ناظم حكمت ليس هو الممثل
الحقيقي للأدب التركي وأن ناظما ورفاقه الشيوعيين ليسوا سوى الصوت النشاز في
نسق الأصوات الإسلامية المبدعة في تركيا من مثل محمد عاكف، الذي تغنى في
قصائده بالجهاد الإسلامي ضد قوات الحلفاء، وتحدث عن محنة المسلمين في ظل
(العلمانية) التركية، وكذلك نجيب فاضل وابداعاته في الشعر والمسرح، وسيزائي
قره قوج، ومصطفى مياس أوغلو، وعلي نار، وآخرين يمثلون حقاً واقع الشعب
المسلم في تركيا ومعاناته وابائه، ومتى يعلو صوت محمد إقبال عبقري شبه القارة
الهندية على طنطنات القوم حول قصائد طاغور العالمية (! !) وفلسفته الوثنية؟ ؟
متى سيفتح لنا باب صغير لندلف منه إلى عرصات الميدان الواسع للأدب
الإسلامي المغبون، ذلك الميدان الشاسع المتنوع، لدى كافة الشعوب الإسلامية في
مشارق الأرض ومغاربها، قديماً وحديثاً، زاد وفير يزدريه المثقفون ويعمى عنه
الجاهلون، ويتنكب عنه الدارسون والباحثون - تحت تأثير الأهواء والدعايات
والغفلة - إلى سواه من الآداب القميئة التي تعملقت بفعل الأضواء الباهرة. متى
نتوفر على دراسة الأدب الإسلامي؟ لنقع على قواعده الخاصة ومناجمه الغنية
ودروسه العظيمة؟ متى ننظر إلى رسالة الأديب المسلم العقدية وإلى مفاهيم الأدب
الإسلامي وقيمه الأدبية والبلاغية والنفسية والاجتماعية؟
ومن منكم سمع عن الشاعر العربي المسلم كامل أمين، شاعر الملاحم
الإسلامية، الذي يقف اليوم على مشارف العقد الثامن من عمره. لقد أبدع كامل
أمين الملحمة الشعرية بمعناها الفني المتكامل وشهد له شيخ النقاد د. شوقى ضيف،
حين وصف ملحمته (عين جالوت) بأنها الشهنامة المصرية. وقد بلغت هذه الملحمة
عشرين ألف بيت من الشعر وللشاعر ثلاث ملاحم أخرى وخمسة دواوين ومسرحية
شعرية واحدة. فأين هو هذا الإنتاج الغزير؟ ؟ (انظر مجلة المجتمع الكويتية -
28 - شوال - 1413 - العدد 1046 - ص 50 - 51)
ولماذا يغيب كل شأن إسلامي عن أهله المسلمين؟ ولم يضرب صفحا عن كل
إنتاج يعبر عن وعي وعاطفة إسلامية؟ ؟ ولماذا يحكم عليه - غيابيا - بالوهن
والافتقار إلى الصنعة الفنية؟
ولماذا يستبعد ويطرد من حياتنا الثقافية والأدبية تماماً؟ ؟ ومن الذي يحكم؟ ؟
وما المعيار المعتبر في هذه القضية؟ ؟
إنك إذا جرؤت اليوم على الحديث عن عقدية الأدب وأخلاقياته، سيصرخون
في وجهك: ما لنا ولهذا الحديث؟ ألا تعلم أيها الجاهل بأن كتابة الأدب الحديث،
يعني أن تتحرر من كل القيود والضوابط؟ لقد روضت الحداثة ما كان صعبا حرونا
ودخلت اليوم البذاءة والفحش والتجديف في الدين إلى ما يسمونه أدبا (والأولى أن
يسمى انحلالا) . فالحداثة تعني التحرر من ورقة التوت ذاتها وصدق العمل وفنيته
مرهون، بمدى خوضه - العميق - في ما يسمونه الحياة التحتانية اللاواعية لفرد.
لكن الأديب المسلم - بالضرورة - أديب داعية مسلم، ينطلق من مشكلات
أمته وتحديات عصره، ويلتمس - بعقيدة المسلم وبصيرته - الحلول والوسائل التي
تتفق مع التصورات الإسلامية والمقاصد الشرعية. إن قضية الأديب المسلم هي
بالذات قضايا الإسلام والمسلمين في العالم. وأنى للأديب المسلم أن يتجاهل كل هذه
المآسي والمحن والنكبات وصنوف الإذلال والتعسف والهوان التي نزلت بساحة أمته
لينصرف تلقاء مشكلات مصطنعة وقضايا باطلة من مثل الاشتراكية والوجودية
والحداثية والشكلية! ! (انظر شريط سمعي - لمحمد قطب - بعنوان: رسالة
الأديب المسلم إلى النظام الجديد) وقد برز إلى الساحة الأدبية الإسلامية المعاصرة
أدباء متميزون كبار، أمسكوا بين أيديهم بخيوط الأدب والفكر والدعوة في آن واحد عرفنا منهم محمد اقبال وسيد قطب وأبا الحسن الندوي.
ولقد نظمت الملاحم الإسلامية القوية في لغة الأوردو، لغة الهند الشعبية وانتشرت هذه الملاحم الشعرية بين مسلمي الهند وكان لها أكبر الأثر في تنشئة الأجيال المسلمة على الخصائص والأخلاق الإسلامية بل إن لها فضل كبير في إثارة النخوة الدينية وتأجيج الجهاد الإسلامي ضد الانجليز المحتلين. وتصدى الأدباء والشعراء المسلمون في شبه القارة الهندية وفي باكستان لقيادة الركب الفكري والثقافي وقاوموا الغزو العقدي والثقافي والأخلاقى. (انظر نظرات في الأدب - أبو الحسن الندوي - رابطة الأدب الإسلامي العالمية - دار القلم دمشق - 1408 - ص 84 - 85) هذا بقطع النظر عن الأدباء والمثقفين المتأسلمين (ذوي الأسماء الإسلامية) الذين أنبتتهم المخططات الغربية (الانجليزية على وجه التحديد) وأرضعتهم لبانها فانسلخوا عن الإسلام واتبعوا خطوات الشيطان (من أشهرهم في وقتنا الحاضر سلمان رشدي) .
إن الأدب الإسلامي ليس وعظا ولا ما يشبه الوعظ، وليس بيانات وإرشادات
مباشرة عاطلة من الجمال، مفتقرة إلى الأساليب الفنية، بل إن العقيدة الإسلامية لا
تمثل قالبا جامدا لكنها موقف عام يصدر عنه الأدباء المسلمون بمختلف آرائهم
وإمكناتهم وعواطفهم وصورهم وأخيلتهم وإبداعاتهم الخاصة. إن الأدب الإسلامي
يتفرد بكونه أدب العاطفة الحرة والحماسة المشبوبة للدعوة والجهاد. وهو أدب
مترسل طبيعي، يلجأ إلى الفنية في الأداء والتأنق في التعبير ولكن لا تسيطر عليه
الصناعات اللفظية ولا يتسلط عليه التعقيد الفكري المأزوم ولا تسجنه النخبوية ولا
تخنقه الفردية. إنه أدب معافى من وهن الروح ومرض القلب.
وفي الأدب الإسلامي - وحده - عاطفة إيمانية جياشة، صقلها الاشتغال بالله
والدعوة إليه (بمفهومها العام) ، والعزوف عن الشهوات والأهواء الدنيوية كلها،
بشتى أنواعها.
فأين تلك الأشعار والنصوص؟ ؟ هل سقطت سهوا من المناهج الدراسية
والوسائل الإعلامية والملاحق الأدبية؟ ؟ هل حار فيها الجاحدون أيمسكونها على
هون أم يدسونها في التراب؟ ! لقد استبدلت بها النصوص المبهرجة وأنواع النثر
والخمريات والهجائيات والمجونيات والحداثيات الكفرية التي تطاولت على الثوابت
العقدية وعلى سائر الغيبيات.
ولقد سخروا من المرأة طويلاً، حين استحسنوا أدب التنهدات والأوجاع
النسوية، وحين صفقوا للنماذج النسوية الجريئة (! !) التي اخترقت طوق القيم
وقاومت ما يسمونه التخلف الديني. والاجتماعي! ! وتميزت تجاربها بالصدامية
والاعترافات والممارسات التحررية، منذ صالون مي زيادة، وإلى كتابات غادة
السمان ونوال سعداوي ومن تابعهما. وما زالوا ينعون على العهود الإسلامية،
(التي منعت المرأة العربية من التعبير عن نفسها منذ أن رحلت الخنساء في العصر
الإسلامي الأول فسكتت بعدها النساء حتى العصر الحديث) هكذا! ! (رجاء النقاش
انظر جريدة الشرق القطرية - الصفحة الثقافية - عدد 15 ذو الحجة 1413) كثيرة
هي أحاديث الافك الثقافي والأدبى، لا سيما تلك المتعلقة بالنفخ الشيطاني في صورة
المرأة الأدبية والمرأة الفنانة! ! .(67/58)
المسلمون والعالم
القذافي ويهود:
بقي من الوقت ستة أعوام
د: عبد الله عمر سلطان
عنوان هذا المقال يرجع إلى تصريح أدلى به رئيس وزراء ليبيا السابق السيد
مصطفى بن حليم تعقيبا على مذكراته الشخصية التي حملت عنوان: «صفحات
مطوية من تاريخ ليبيا السياسي» والتي نشرت في بداية العام الحالي.. في هذا
التعقيب يذكر السيد (بن حليم) بعد أن صمت لأكثر من ثلاثة عقود أن الرئيس
الأمريكي رتشارد نيكسون قد قال له بعد انقلاب القذافي عام 1969م إن وزير
الخارجية الأمريكي وسفير أمريكا لدى ليبيا قد قدما تقريراً هاماً للرئيس الأمريكي
يقولان فيه «ننصح بعدم التخلص من القذافي ... فأمامنا 30 عاماً للتعاون معه! !
إذن فها هي الأعوام تمر بطيئة على شعب ليبيا المحاصر، وها هو القذافي
يمسك بزمام السلطة لربع قرن تقريباً ... وبعملية حسابية بسيطة فإن القذافي على
ضوء الكلام الرسمي الأمريكي لا يزال صالحاً للاستعمال لستة أعوام مقبلة على
الأقل ... تنتهي فيها الفترة الافتراضية التي وصفها السيناتور الأمريكي للإفادة من
الضابط الأكثر سوءاً في تاريخ العرب المعاصر ...
لن تقبل تفسيرات بالغة البساطة أو موغلة في سوء الظن.. وهي منتشرة
وشائعة بين أبناء الشعب الليبي - ترجع تفسير سلوك وتصرفات الرجل إلى أنه قد
ولد لأم يهودية ... وتربي بين اليهود ... ! !
لن نُسطِّح القضية إلى مستوى فرضية العمالة المباشرة لجهاز المخابرات
الأمريكي» CIA «وأن القذافي أتى للسلطة لتنفيذ مخطاطات وسياسات الغرب
وتوجهاته بصورة العميل المباشر الذي يقبض الثمن من خلال حمايته في السلطة أو
دفع مبلغ من المال مقابل القيام بالمهمة! !
وسنحاول ان نبتعد قليلاً في هذا المقال - حينما نتحدث عن القذافي واليهود
عن نظرية» المؤامرة «التي أعدها الصهاينة أو الماسونية العالمية بزرع هذه
النبتة الشيطانية في ليبيا لتهلك الحرث والنسل ...
ومع هذه المحاولات فإن من حقنا أن نسأل من هو المستفيد الأول في بقاء
القذافي في السلطة طوال هذا الوقت - ومن هو الخاسر الأكبر من خطواته السياسية
الأخيرة ...
يقول العقيد إن المستفيد الأول هو الشعب الليبي وإنه لا يريد الحكم ولا
يمارسه حقيقة وواقعا بل هو يحرض الجماهير على أن تحكم نفسها بنفسها كما
صرح للتلفزيون الكندي CBC ...
ونقول ... من فمك ندينك ولا سيما إذا نقلنا آخر تصريحاته النارية لجريدة
العرب القذافية الصادرة في لندن حيث يقول:» إن ليبيا بلد ليس له مستقبل.. لذا
يتوالد الناس ويتكاثرون وتبنى الطرق والمدارس والمباني فيه ... في أقل من
عشرين عاماً سنكون مضطرين أن نخرج من ليبيا ونتركها! «لا علما أن القذافي
قد عرض العام الماضي مبلغ عشرة آلاف دولار لكل ليبي مقابل أن يهاجر إلى
مصر أو السودان أو تشاد، حيث الأنهار والجنان بينما ليبيا صحاري قاحلة لا أمل
في استصلاحها ...
نسمع عن قادة يقتلون معارضيهم ... وقادة يسجنون منتقديهم ... لكننا لم
نسمع حتى الآن عن قادة يهجَّرون شعوبهم بالكامل، وينادون بإزالة بلدانهم عن
الخريطة الدولية وإقفالها وكأنها دكان أو مشروع نفطي فاشل! !
وقد يردد أنصار العقيد إن المستفيد الأول هم العرب والعروبة المستعربون! !
لكننا نقول لهم إن هذا أمر كان يقبل التصديق قبل عقد من الزمن مثلاً حينما كانت
إذاعة» صوت مصر العروبة «تنادي بالحل القومي طريقاً للخلاص وتسمى
(اتفاقيات كامب دافيد) خيانات معسكر داود ونشير إلى مقررات قمة فاس وتسميها مقررات» مربض فاس «!
أما الآن فالقذافي أول المطالبين بالانضمام إلى الإسطبل وبقبوله عضوا في
المربض الإسرائيلي.. دع عنك» مربض فاس «! لقد ثبت أن القذافي قد أضر
بقضية العرب بصورة كارثيه لا تقل شؤما عن دور إخوانه من قادة الحل القومي
العلماني: جمال عبد الناصر وصدام.
قد يقول قائل» إن القذافي في الحقيقة «رجل ثوري» وجد أن حلمه القومي
قد انتكس بعد عدة محاولات للوحدة مع الجيران العرب والأخوة الأفارقة، ولذا فقد
توجه إلى الحركات التحررية في العالم يدعمها ويقدم لها السند اللازم لخوض
معركتها الثورية العادلة «! !
والرد على هذا ندعه للناطق باسم الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي أنفق
القذافي عليه مئات الملايين من الدولارات، واطلع في المقابل على أدق أسراره
وتركيبته التنظيميه ... ، هذا الناطق يقول لم نكن نتصور أن القذافي قذر إلى هذه
الدرجة حيث عمل كمخبر دولي تجسس على منظمتنا والمنظمات الثورية
الأخرى! !
وإن شئتم اسألوا الأشقاء الثورين في نيكراجوا والسلفادور وتشيلى وفيتنام
والصحراء الغربية وليبريا حيث بُدد مال الشعب الليبى في مشاريع العقيد التحررية
والتى كف عن ممارستها بعد أن طلب منه ذلك فسارع إليه وقدم أكبر حجم من
المعلومات السرية لأعداء المشروع الثوري الذي كان زعيمه في فترة جمع
المعلومات المطلوبة ...
وهنا قد نسأل قائل ربما كان هناك جهة أخرى مستفيدة من بقاء القذافي
ونظامه لمدة ربع قرن ...
والحقيقة أن المراقب المنصف يعجز عن أن يجد جهة واحدة تستفيد من وجود
هذا المعتوه سوى جهة واحدة هي جهة يهود.
يهود سواء أكانت متمثلة بقبائلها الإسرائيلية أو الأمريكية أو الاقتصادية
وسجل القذافي خير دليل.
القذافي خنق شعبه وأذله وحارب» الأصولية «التي تشكل التهديد الأول
لليهود والغرب بأسلوب فائق الكفاءة ...
والقذافي جعل ليبيا من أتعس دول العالم العربي ودمر قوتها الاقتصادية
بطريقة لا يمكن إلا للقذافي أن يكررها بهذه الصورة المفزعة.
القذافي شق صف العرب بحجة الرهبنة الثورية بينما كان في الحقيقة يمهد
للمشروع الصهيوني أن يأخذ مداه.
والقذافي هو الأبرز حالياً من بين الحكام العرب ممن تلاعب بالدين بصفاقة
وألغى السنة وحارب الشريعة.
والقذافي هو أكثر من شوه صورة العرب والمسلمين في أوربا خلال التاريخ
المعاصر ...
بعد هذا هل يمكن أن تكون الإجابة على السؤال الذي طرحناه آنفا عن
المستفيد من حكم القذافي غير جواب واحد من أربعة حروف: يهود!
المرحلة المكشوفة: التطبيع القائم
اختار القذافي أسلوب التناقض الشيزوفريني الذي يجعله ينتقل من النقيض إلى
النقيض دون شعور بأعراض الانفصام السلوكي ... ولذا فقد كان انتقاله من جهة
الرفض والصمود والتصدى للصهاينة إلى جبهة الانهيار الكامل أمام مشروعهم
انهياراً سريعا.. مثيراً ... مدهشاً.
القذافي الذي يعرض على كل يهودي خرج من ليبيا مليون دولار تعويضا هو
نفسه الذي لبس القفاز الأبيض حتى لا تلمس يداه يد الذين صافحوا اليهود من القادة
العرب..»
أما الآن فقد اتضح السبب ... القذافي لا يؤمن بالوسطاء ... كان يريد التحدث
مع اليهود مباشرة ومصافحتهم يدا بيد ... ! !
اتضح ذلك بعد سلسلة من الأحداث المتسارعة خلال الأشهر القليلة الماضية
في أسرع عملية تطبيع قائم بين اليهود والحكومات العربية ...
ودعا الصحفية الصهيونية جودت ميلر المشهورة بتعصبها الصهيونى لإجراء
مقابلة صحفية لجريدة الهارلد تربيون أبدى استعداده فيها لتطبيع العلاقات مع اليهود
والدخول معهم في مشاريع مشتركة واستعداده لتعويض اليهود الليبين بمبالغ مالية
مجزية.
استقبال القذافي لروميو فلاح اليهودي من أصل ليبي والاتفاق معه على صفقة
تتدخل إسرائيل بموجبها طرفا لفك الحصار عن نظام القذافي مقابل زيارة الليبيين
لدولة الكيان الصهيوني في صورة حجاج وهذا ما تم مع احتمال زيارة القذافي نفسه
للصهاينة..
الدعوة لمؤتمر للأديان السماوية على غرار مؤتمرات السادات التي رافقت
الصلح مع اليهود ويدعى خلال هذه المؤتمرات اسرائيليون بارزون منهم عمدة القدم
الصهيوني وضباط بارزون في المؤسسة العسكرية الصهيونية.
فضيحة ابراهام صوفير اليهودي من أصل عراقي وقد اتصل به رئيس الجهاز
الإستخباراتى الليبي لمواجهة المشاكل القانونية التي تواجه نظام القذافي لا سيما في
الأوساط الشعبية في الغرب ... وصوفير كان يعمل مستشاراً قانونياً لوزارة
الخارجية الأمريكية بين عامي 1985 - 1990 وهو الذي صاغ المذكرة الأمريكية
التي حددت التهم الموجهة للعقيد القذافي.
لقد أثار القذافي مشاعر السخط لا سيما خلال زيارة مجموعة المخابرات الليبية
للقدس في الوقت الذي كان المسلمون يحجون لبيت الله الحرام ...
فقد وصلت الخيبة ببعض القوميين لأن يكتب مخاطباً القذافي أمين عام القومية
العربية! قائلا «إن زيارة الحجاج الليبيين للقدس هي فضيحة تعادل زيارة السادات
للقدس. تلك القدس (1) وهذه القدس (2) ...
ويحز في النفس أن الذي قام بهذه الخيانة هو الذي كان يقول:» كيف تستمر
السفارة الإسرائيلية يوماً واحداً في القاهرة، ليس في المعقول أن يسير إسرائيلي في
شوارع القاهرة مطمئناً مستهتراً ... مش قادرين تذبحوهم.. الأمريكان يذبحون
إخوانكم في ليبيا «.
هذا كان زمن الاستنكار ... واليوم يوم الانكسار.... .
لقد اتصل مواطن أمريكي بالكاتب الأمريكي الشهير جيم هو غلاند معلقا على
المحاولات القذافية للتطبيع مع اليهود قائلاً له: إن فضيحة ابراهام صوفير هي
الجزء الصغير الظاهر من جبل الجليد ... وكلما تمعنت في المحاولات الليبية على
الساحة ستجد العامل الإسرائيلي» ويعلق الكاتب الشهير، إن المواطن مصيب تماما
حيث إن واشنطن تراقب بحذر التحالف الليبي - الإسرائيلي الصاعد «واشنطن
بوست 22 / 7 / 93.
.. نعم تحالف بين اليهود ... والقذافي الذي يريد إبادة شعبه مرة بالقتل
والتصفية الجسدية ومرة بالحصار الاقتصادي ومرة بمصادرة كرامته وحريته ومرة
بدعوته للهجرة من بلده علنا ودون حياء....
إن لحظة تأمل لهذه المرحلة المقبلة من التحالف الإسرائيلى/ القذافي تجعلنا
نقلب صفحات هذا المشؤوم لنفهم طبيعة الرجل فلا نجد أبلغ من خطابه الذي ألقاه
في سبتمبر عام 1984 بعد أن أعدم مجموعة من الشباب الليبي في شهر رمضان
كما يقول محمد مخلوف» كان حادث شنق المهندس الصادق الشويهدي في 5
حزيران قد هز الشعب الليبي حيث شاهدها الناس قبل إفطار رمضان وبعده ...
وبعد أن تم اقتياد المتهم إلى حبل المشنقة وسط هتافات اللجان الثورية وفي مجمع
المدينة الرياضية في بنغازي ... أما خصوصية حادث المهندس الشويهدي فهو أنه
بعد إنزاله من حبل المشنقة ونقله إلى المستشفى وجد حياً وأجرى له الأطباء تنفساً
صناعياً، وتم الاتصال بالقذافي لإبلاغه الأمر، فأصدر أمراً فوريا بالإجهاز عليه
وحينما رفض الأطباء القيام بذلك قامت إحدى الثوريات المقربات من القذافي
المدعوة (هدى بن عامر) بتنفيذ الأمر بقتله وبرر القذافي عمليات الإعدام العنيفة هذه
في خطابه في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه قائلا «شفتوا الإعدامات زي السلام
عليكم في شهر رمضان (! !) ولا يهمني في رمضان لا حرام ولا شيء ... ما فيه
شىء حرام ما قمنا به عبادة! !
نعم إنها قرابين قدمها القذافي لآلهته..
فهل نبذل العناء لكي نسأل السؤال الممجوج..؟
» من المستفيد من بقاء القذافي «؟ خصوصاً إذا عرفنا أن التطبيع المتسارع في الأعوام القليلة القادمة يقتضي وجود أمثال هذه الزعامات، التي أشار نيكسون إلى أن لها أعواماً قليلة أبرز عناوينها وخططها التمكين للمشروع الصهيوني في وسط غابة الدُمى.(67/65)
المسلمون والعالم
أوضاع المهاجرين الطاجيك
بقلم: نظر الفريابي
توطئة:
بعد حملات الإبادة الشاملة التي قامت بها الحكومة الشيوعية الطاجيكية، فإنها
لم تستطع السيطرة التامة على الأوضاع، وتثبيت دعائم الاستقرار في البلاد،
ولأجل ذلك قامت بتوزيع الأسلحة على الموالين لها في المناطق الجبلية للحيلولة
دون سيطرة المقاومة الإسلامية عليها، ودعمها بالقوات الروسية، والأوزبكية، مما
أدى إلى قصف المدن والقرى، والمواقع التي يسيطر عليها الإسلاميون، وتقوم
بذلك القصف الطائرات الروسية، والأوزبكية، مما دفع بالمواطنين العزل إلى
الهجرة إلى جهة أكثر أمناً، فكانت هجرتهم إما إلى الدول المجاورة لطاجيكستان،
أو إلى الجبال والغابات، فتفرق أكثر من مليون نسمة، منهم من دخل إلى آسيا
الوسطى المتآخمة لطاجيكستان، ومنهم من لاذ بالفرار إلى أفغانستان، والذين
تمكنوا وعبروا الحدود يزيد عددهم عن مائة ألف نسمة، وأكثر هؤلاء هاجروا من
الولايات المتآخمة لأفغانستان، كولايات «قم سنكي» و «توس» و «بنج»
و «قورغان تبه» وبقية هؤلاء المهاجرين منتشرون وسط الجبال في طاجيكستان،
أو في القرى الأكثر أمناً.
وقد قام الشيوعيون بالهجوم الشرس على هؤلاء فاضطروا لاختراق الأسلاك
الشائكة، وعبور نهر «جيحون» والدخول إلى شمال أفغانستان، وذلك بمجازر
وحشية مما جعل بعض المهاجرين يرمون بأنفسهم في النهر، وحسب الإحصائيات
يبلغ عدد الذين قتلوا عند العبور، أو ماتوا غرقاً في النهر ما يقارب عشرين ألف
مسلم، أما عن انتهاك الحرمات، واغتصاب الفتيات اللاتي أخذن بالقوة،
وإرجاعهن إلى داخل طاجيكستان، بعد أن قاموا باغتصابهن، وغير ذلك من
الأفعال المشينة التي يعجز القلم عن تصويرها في هذا الموجز، فحدث ولا حرج.
وضع المهاجرين في أفغانستان:
تربط الشعب الأفغاني بالشعب الطاجيكي بالإضافة إلى الروابط العقدية، وحدة
اللغة، والعادات، مما جعل الأفغان بحكم ما عانوه خلال الغزو السوفيتي الشيوعي
الغاشم من تهجير ولجوء، يسارعون وعلى جميع المستويات بإيواء هؤلاء
المهاجرين خلال الفترة التي سبقت وصول المساعدات الإغاثية، وامتدت هذه الفترة
حوالي أكثر من شهرين:
بعد ذلك تم نقل هؤلاء المهاجرين من مناطق لجوئهم خاصة عند نهر
«جيحون» إلى معسكرات أعدت لهم، وقد تضافرت في ذلك العمل جهود الحكومة
الأفغانية، والشعب الأفغاني، وقد كان لهذا العمل الأثر الكبير في نفوس هؤلاء
المهاجرين، والتخفيف عن آلامهم؛ حتى وصول المساعدات الإغاثية الخارجية.
ويتوزع المهاجرون في عدة مناطق، وهي كالآتي:
1 - ولاية «قندوز» :
يوجد في ولاية «قندوز» ما يقارب أربعين ألف مهاجر، توزعوا في:
أ- المدارس، والمرافق الحكومية.
ب- مطار قندوز حيث كانت ثكنات الجيش الروسي في عهد الاحتلال
الروسي لأفغانستان ويبعد عن مركز «قندوز» عشرة كيلو مترات.
ج - مخيم الإمام البخاري، وأقيم هذا المخيم بجهود من مجلس التنسيق
الإسلامي، ويقع على مسافة قريبة من مطار «قندوز» .
2 - ولاية تخار:
ويوجد في مركز «طالقان» ما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمائة عائلة توزعوا
في بيوت المواطنين في «طالقان» حيث لم تتوفر لهم إقامة المخيمات.
3 - ولاية «بدخشان» :
لا يتجاوز عدد المهاجرين في هذه الولاية ألفي شخص، وسبب ذلك عدم توفر
المواد الغذائية في المناطق التاخمة للحدود الطاجيكية لولاية «بدخشان» ونأمل أن
يتم نقل هؤلاء إلى مناطق أخرى يتوفر فيها إمكانيات إيوائهم، وإعاشتهم، لأنهم
يعيشون في حالة مأساوية شديدة.
4 - ولاية «مزار شريف» :
تم نقل عدد كثير من المهاجرين بواسطة طائرات مروحية إلى «مزار شريف» لأن المسافة من الحدود الطاجيكية إلى «مزار شريف» تبعد حوالي ثلاثمائة
كيلو متر، وقد أقيم لهم مخيم على بعد عشرة كيلو مترات من مركز «مزار شريف» وقد ساعدت في ذلك المنظمات الإغاثية الدولية، وذلك بحفر الآبار، وإيوائهم في
المخيمات، وتقديم المساعدات الغذائية لهم، علما بأن عدد هؤلاء المهاجرين يتجاوز
خمسة وعشرين ألف مهاجر.
وأريد أن أشير هنا إلى أن إدارة مزار شريف مشتركة بين المجاهدين،
وقوات دوستم، ووالي «مزار شريف» مولوي محمد علم من المجاهدين الأوائل،
أبدى استعداده الكامل لتقديم كل التسهيلات للمشاريع التي يتم تنفيذها بين المجاهدين
الطاجيك في مزار شريف «.
5 - مديرية» طاشقرغان «:
هذه المديرية تابعة لولاية» سمنجان «لكنها لا تبعد عن» مزار شريف «
أكثر من ثلاثين كيلو متراً تقريباً، وقد أقيم فيها مخيم على مقربة من مديرية
» طاشقرغان «من قبل المنظمات الإغاثية، وهذا المخيم تشرف عليه منظمة الأمم ...
المتحدة كما تشرف على مخيمات المهاجرين في ولاية» مزار شريف «وعدد ...
هؤلاء لا يتجاوز خمسة آلاف مهاجر.
المنظمات الإغاثية:
لا يوجد في الساحة سوي منظمتين للإغاثة، وهما:
(1) مجلس التنسيق الإسلامي:
وهو يتكون من عدة منظمات إغاثية إسلامية كان يقوم بين المهاجرين الأفغان ...
في بيشاور بعمل الإغاثة، ثم انتقل فرع منه إلى ولاية» قندز «ليقوم بعمل
الإغاثة وسط المهاجرين الطاجيك، وهي الجهة الوحيدة التي تقوم بهذا العمل في
ولاية» قندز «حيث لم تقدم منظمة الإغاثة الدولية التابعة للأم المتحدة أي مساعدة، وتعلل ذلك بأسباب واهية بعيدة عن الحقائق، ويكمن ذلك في عدم إمكانية
استقلالية عملها في هذه الولاية، وقد قام والي» قندز «قاري -رحمة الله- مع
بعض المسؤولين بمقابلة مندوبي الإغاثة الدولية لإقناعهم بتقديم المساعدات لهؤلاء
المهاجرين، وبعد محادثات طويلة اعتذروا عن تقديم أي مساعدة في ولاية» قندز «إلا إذا تم نقل هؤلاء المهاجرين إلى ولاية» مزار شريف «حيث توجد
محاولات بين الأمم المتحدة، والحكومة الطاجيكية الشيوعية لإرجاع هؤلاء
المهاجرين إلى طاجيكستان، لا يتحقق لهم هذا الحلم في ولاية» قندز «مع أن
دوستم في زياراته لهؤلاء المهاجرين في مخيم» مزار شريف «يتظاهر لهم أنه لن
يسمح لأي جهة بإرجاعهم إلى طاجيكستان إلى أن يستقر الوضع هناك.
نظرا لقلة إمكانيات مجلس التنسيق الإسلامي، فإنه لا يستطيع أن يوفر جميع
احتياجات المهاجرين في ولاية» قندز «لذلك ينحصر نشاطه في توزيع الخبز،
والأرز، والدقيق، وتوزيع الخيام، ويقوم يومياً بتوزيع أربعين ألف قطعة خبز
على المهاجرين الذين يسكنون في المدارس، والمرافق الحكومية، وكذلك مخيم
الإمام البخاري.
وقد كون والى» قندز «قاري -رحمة الله- لجنة من أئمة المساجد، وبعض
القيادات من المجاهدين، لتقوم بجانب مجلس التنسيق الإسلامي في تحمل أعبائها،
وهم الذين يقومون بتوزيع المواد الغذائية بين المهاجرين.
(2) منظمة الإغاثة الدولية:
وهى إحدى المنظمات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وتنحصر مجالات عملها
في ولاية» مزار شريف «ومديرية» طاشقرغان «وذلك بإيواء المهاجرين في
المخيمات، وتوزيع المواد الغذائية عليهم، وقد قاموا بحفر عدة آبار في هذا المخيم، ويعتبر هذا المخيم أفضل حالاً من المخيمات الأخرى. حيث تشرف عليه هذه
المنظمة المدعومة دولياً، ولا يخفى على ذي بصيرة مآرب هذه المنظمة في تقديمها
هذه الخدمات.
وضع المهاجرين في ولاية» قندز «:
كما أشرنا فيما سبق أن مجلس التنسيق الإسلامي رغم جهوده المشكورة
والمقدرة في إغاثة هؤلاء المهاجرين، إلا أن حالتهم سيئة للغاية، حيث لا يتوفر
لديهم ما يفترشونه، وما يتقون به شدة البرد، كما أن الماء لا يتوفر خاصة في
ثكنات مطار» قندز «ومخيم الإمام البخاري، حيث يواجهون صعوبات في جلب
الماء، فيضطر أحدهم أن يقطع مسافة ساعة ونصف مشياً على الأقدام، لجلب
الماء لشربه، وبسبب هذه الصعوبات فإنهم يؤدون صلواتهم الخمس بالتيمم، حيث
الماء فقط للشرب وصنع الطعام، والناظر لأحوال هؤلاء المهاجرين يلحظ أن كثيراً
منهم لا يملكون سوي ثوب واحد، وهو الذي فروا به من بلادهم، كما أنك تجد
معظمهم حفاة لا يملكون نعالاً، وأما الناحية الطبية، والرعاية الصحية بين هؤلاء
المهاجرين، فإنها تكاد أن تكون معدومة، حيث يعاني بعضهم الأمراض الناتجة من
سوء التغذية، والأمراض متفشية بينهم لقلة الرعاية الصحية، وبسبب ما عانوه
خلال عبورهم النهر في فصل الشتاء القارص.
الكفاءات الموجودة لدى المهاجرين:
نجد غالب المهاجرين متعلمين، بل كثير منهم أكمل تعليمه الجامعي، فيوجد
بينهم المهندسون، والأطباء بمختلف تخصصاتهم، والمعلمون، والكفاءات العلمية
الأخرى من الرجال والنساء، كما أنهم مستعدون للعمل إن تيسرت الظروف.
احتياجات المهاجرين:
القارئ لما ورد في هذا التقرير يدرك أن الحاجة قائمة في كل جانب من
جوانب الحياة، ويتمثل ذلك فيما يلى:
1 - تأمين الطعام، والملابس، والمحروقات.
2 - تأمين حليب الأطفال المجفف.
3 - تأمين الخيام، والأغطية كالبطاطين، وفراش النوم.
4 - حفر الآبار بواسطة الحفارات.
5 - بناء المساجد في المخيمات، وتعيين الأئمة والدعاة بين المهاجرين، مع
فتح الخلوات، والكتاتيب البسيطة لتعليمهم القرآن، وأمور دينهم.
6 - طباعة الكتب، والنشرات الإسلامية التي تبصرهم بأمور دينهم.
7 - الرعاية الصحية، وذلك بتقديم الأدوية والأجهزة الطبية، والوحدات
الصحية المتكاملة فقط، حيث يوجد بينهم الأطباء والممرضون والفنيون القادرون
على القيام بالأعمال المهنية.
8 - القيام بالعمل التعليمي والتربوي خاصة وأنهم تنسموا عبير الحرية من
برِاثن الشيوعية، فهم بحاجة ماسة إلى التعليم، وذلك ببناء دور الأيتام للرعاية
وكفالة الأيتام، وتقديم المواد التعليمية والتربوية، علماً بأنه توجد في ولاية» قندز «مدارس عديدة لم تتمكن الحكومة الأفغانية من الاستفادة منها، وتشغيلها لقلة ...
إمكانياتها، ويمكن الاستفادة منها لأبناء مهاجري طاجيكستان.
واقتراح مهم، آمل أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو:
اتخاذ كل الإجراءات الممكنة لنقل هؤلاء المهاجرين إلى منطقة أبعد من مركز
» قندز «بسبعة كيلو مترات وهو واد يسمى ب» ميدان مير علم «يتسع لكل
المهاجرين الموجودين في» قندز «و» طالقان «و» بدخشان «على أن يتخذ
تدابير مهمة لحفر الآبار، ونقل الأجهزة التي تقوم بذلك، ولاتساع الوادي بإمكان
المهاجرين أن يقوموا بزرع هذا الوادي ليخفف عنهم بعض المعاناة، وبالتالي نوجد
حلاً للفراغ الهائل الموجود لديهم، ونشغل القدرات الفنية، والمهنية لدى
المهاجرين.(67/73)
المسلمون والعالم
ألبانيا
أدركوها قبل أن تفقدوها
عبد الرحمن العقيل
تقع ألبانيا في شبه جزيرة البلقان ويحدها من الشمال والشمال الشرقي
جمهورية يوغسلافيا الجديدة (صربيا - كوسفو - الجبل الأسود) ويحدها من الشرق
ماقدونيا ومن الجنوب الشرقي اليونان ومن الغرب البحر الأدرياتيكي وجزء من
البحر الأبيض المتوسط وتقدر مساحتها بـ 748ر28 كيلو متر مربع تقريباً
وعاصمتها تيرانا ويبلغ التعداد السكاني فيها 5ر3 مليون نسمة نسبة المسلمين
85% تقريباً و15% نصارى.
ويُعدُ الألبانيون من أقدم الشعوب الأوربية ويتميزون بلغة خاصة بهم لا يتكلم
بها أحد غيرهم.
وفي أواخر القرن الرابع عشر الميلادي دخل الإسلام إلى ألبانيا حيث جاء
العثمانيون وفتحوها ونشروا الإسلام في ربوعها وكان ذلك في عام 1385 م. وقد
نالت ألبانيا استقلالها في عام 1330هـ وبعد نيلها الاستقلال بدأت محنتها الجديدة
حين تسلم أنور خوجه زمام الأمور في البلاد لمدة 45 سنة هي عمر الحقبة
الشيوعية من الفترة 14/12/1336هـ وحتى 18/9/ 1412 هـ إذ بقيت ألبانيا
في عزلة عن العالم الخارجي خلال تلك الفترة وأعلن الإلحاد رسمياً وحورب الدين
فهدمت المساجد حيث لم يبق من مجموع 1700 مسجد كانت موجودة في ألبانيا
سوى 50 مسجداً حولت إلى متاحف وورش للنجارة والحدادة، وسُجن العلماء وقُتل
بعضهم ومُنع إظهار أي شعيرة من شعائر هذا الدين.
وقام أنور خوجه بربط ألبانيا بالنظام الشيوعي تحت ظل الاتحاد السوفيتي
ولكن في سنة 1380 هـ وقع خلاف عقدي بينه وبين خروشوف مما أدى إلى قطع
العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وكل الدول السائرة في فلك الروس وهكذا بقيت
ألبانيا معزولة عن العالم الخارجي، وتميز النظام الشيوعي في ألبانيا بتطرف عقدي
منع بموجبه ممارسة أي لون من ألوان الشعائر الدينية.
وابتداء من سنة 1405 هـ بدأ الغضب الشعبي يتزايد إلى أن تم إسقاط
النظام سنة 1412هـ عن طريق الانتخابات الأولى من نوعها في البلاد.
وبذلك انتقلت البلاد من الانغلاق الكامل إلى الانفتاح الكامل الأمر الذي أدى
إلى التسيب الكامل حيث تسبب في تدمير المصانع والمرافق المحدودة التي كانت
قائمة.
ونتيجة لذلك فإن ألبانيا تعيش الآن أزمة اقتصادية تحاول الحكومة الخروج
منها بأي طريقة حتى أنهم أقاموا علاقات مع إسرائيل وتبادلوا الزيارات من أجل
الحصول على بعض المعونات.
ويجرى هناك صراع سياسي عنيف بين الأحزاب يقابله استياء شعبي من كل
الساسة الذين كثرت وعودهم ولم يفوا بشيء من هذه الوعود مما جعلهم يعلقون أمالاً
كبيرة على الغرب وما يجود به من معدات قديمة وأدوية انتهت صلاحيتها للخروج
من الأزمة.
الوضع الاقتصادي لألبانيا:
إن الزائر لألبانيا لا يصدق أنه في بلد أوروبي نظرا للحالة الاقتصادية الرديئة
التي يعيشها البلد والشعب فالمواصلات غير كافية، والطرق رديئة ومتطلبات الحياة
الضرورية غير متوفرة، ولذلك تجد أن المصانع متعطلة والبطالة مرتفعة حتى أن
الماء والكهرباء في انقطاع مستمر ليلاً ونهاراً والشعب الألباني أغلبه من الطبقة
الكادحة.
ولذلك فإنهم اعتمدوا على ما يقدمه الغرب لهم وبخاصة إيطاليا فهي تمولهم
بكثير من المواد التموينية الضرورية. وبدأت تستغل مدخرات البلد الذي يُعدُ غنياً
بالمعادن التي تقع عليها أطماع الغرب.
والوضع الاقتصادي الرديء في البلد له دور سلبي نتيجة للضغوط التي
يمارسها الغرب على الحكومة من خلال المساعدات المشروطة. والحكومة تحاول
الخروج من هذه الأزمة بأية طريقة والدول الغربية حريصة على تقديم الدعم
للحكومة من أجل تسييرها في فلكها مما يشكل خطراً كبيراً على عقيدة هذا الشعب
واستقلاله وهويته وإليك مثالاً واحداً على ذلك:
لقد زار وفد من السوق الأوروبية المشتركة ألبانيا وتم الاتفاق مع وزير التعليم
على أساس توأمة كل مدارس ألبانيا مع نظيراتها في أي قطر من الأقطار الأوروبية
وتبني الصلة بين تلاميذ كل مدرسة مع نظرائهم في المدرسة الأخرى على أساس
التوأمة الفعلية.
ويلاحظ من هذا شدة رياح التنصير التدريجي للشعب الألباني من خلال التعليم
في مراحله المختلفة. فهم لم يستطيعوا اكتساح المسلمين عن طريق الكنيسة ففضلوا
الانسياب البارد بهذا الأسلوب. ولقد لاقى هذا الخبر القبول عند عدد من مديري
المدارس تحت وطأة الظروف الاقتصادية الملحة لتحسين حال المعلم والطالب.
وهذا بند من بنود الاتفاقية مع دول السوق الأوروبية المشتركة والتي لا يُعلم كثير
من تفاصيلها وخفاياها وهذا حدث في ظل غيبة الحكومات الإسلامية عن تقديم الدعم
لهذا البلد المحتاج والذي يعد كالسلعة فمن يقدم أكثر فهو الكاسب في هذا الميدان
فالبدار ... البدار.
وجمعية اتحاد المعلمين المسلمين في ألبانيا يرون ضرورة قيام عمل مسبق قبل
تنفيذ هذا القرار الذي سيبدأ في شهر صفر القادم ولا بد من الترتيب قبل بدء العام
الدراسي الجديد.
ولابد أيضاً من استغلال موافقة وزير التعليم الألباني المبدئية على إمكانية
تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية في جميع المدارس إذا تم تمويل الكتاب
والمعلم من قبل من يتولى هذا الأمر فلابد من التحرك الفوري السريع الذي يجعلنا
نقف سداً منيعاً أمام هذا التيار الأوروبي النصراني.
المنظمات التنصيرية:
تعيش ألبانيا هذه الأيام حملة تنصيرية شرسة تحتاج إلى من يقف في وجهها
ويصدها حيث توجد قرابة 83 منظمة تنصيرية تمارس أعمالها بحرية تامة فلقد
وجدوا الساحة خالية أمامهم تماماً وفي ظل الفراغ الروحي والفقر المدقع والبطالة
الكبيرة دخلت الأموال الغربية والمنظمات التنصيرية التي تسترت بدعوى الإغاثة
الإنسانية ومساعدة الشعب الألباني فتدفقت هذه الجمعيات لتلقي بكل قواها محاولة
كسب أكبر عدد ممكن من الشباب المسلم فقدمت تسهيلات للعمل في كثير من الدول
الغربية وقامت بطباعة الكثير من الكتب والنشرات التنصيرية ووزعت الصلبان
وعُلقت على صدور الأطفال والنساء، لذلك فهم لا يركزون على بناء الكنائس
وتشيدها بقدر حرصهم على من يدخل الكنيسة قبل بنائها، كل هذا حدث في ظل
غيبة المسلمين عن هذا البلد المسلم الذي ينتظر منا جهوداً مخلصة وجادة لإعادته
إلى الإسلام ولقد سيطروا على وسائل الإعلام سيطرة تامة وخاصة التلفاز وبدأوا
ببث البرامج التنصيرية التي تتحدث عن ما يسمونه المسيح المخلص وأيضاً قدموا
البرامج التي تضخم حجم المساعدات التي قدمتها المنظمات والدول النصرانية
وشوهوا صورة المسلمين حيث صوروهم بأنهم هم الذين استعبدوا المرأة وقيدوا
حريتها ووصفوهم بأنهم شهوانيون لا هم لهم إلا الزواج وتعدد الزوجات. وترزح
ألبانيا الآن تحت ضغط إعلامي غربي موجه حيث من السهولة التقاط القنوات
الأوربية الإباحية والتنصيرية.
ولقد تم توزيع الكثير من المنشورات التنصيرية على كل منزل بل على كل
طالب حيث قام النصارى بإهداء طلاب المدارس حقائب تحتوي على بعض
الأدوات المدرسية والنشرات التي تدعو إلى النصرانية ونسخة من الإنجيل وقدموا
الصليب لكل طالب لتغريب أبناء المسلمين.
ومن وسائلهم الماكرة التي يسممون بها أفكار الشباب إقامة الدورات لدراسة
اللغات والتي يهدفون من خلالها إلى دس السم في العسل.
ولقد قامت إحدى المنظمات التنصيرية الأمريكية بكفالة دار للأيتام في
العاصمة تيرانا فأيتام المسلمين بأيدي المنصرين ولا حول ولا قوة إلا بالله! !
وتنتظر ألبانيا هذه الأيام زيارة من بابا الفاتيكان وقد أعدت العدة لهذه الزيارة فعلقت
اللافتات والشعارات الترحيبية ووزعت النشرات بأعداد كبيرة في مختلف أنحاء
ألبانيا، والمنظمات التنصيرية تعمل ليل نهار للتمهيد والاستعداد لهذه الزيارة لأنهم
يعلمون الأثر الذي ستتركه، وسيقوم البابا بجولة في ألبانيا وزيارة المدن والقرى
وتقديم بعض المساعدات للأسر الفقيرة ناهيك عما سيقدمه للحكومة من أجل أن
تكون له يد عليها وسوف تستغل هذه الزيارة من قبل البابا والمنظمات التنصيرية
لصرف الناس عن الإسلام والإيحاء لهم بأنهم مهتمون بهم. وأعتقد أن هذه الزيارة
سيكون لها أثر سلبي على المسلمين في ألبانيا وستعزز ولاء الشعب الألباني للغرب
لأنهم خذلوا من كثير من الدول الإسلامية التي وعدت بالكثير ولكنها لم تفِ بشيء
من تلك الوعود. ولذلك لابد من تكثيف الجهود والقيام بحملة دعوية مخطط لها عبر
الجمعيات الإسلامية القائمة هناك لمواجهة هذا المد الصليبي الحاقد، ويقع على
عاتق الدعاة المخلصين جزء من المسئولية للوقوف أمام هذه التيارات التي تهدف
إلى مسخ هوية هذا الشعب.
المذاهب والتيارات الهدامة:
وبما أن الغرب الصليبي يسعى إلى انتزاع الإسلام من نفوس المسلمين فقد
عَمِدَ إلى محاولة ضرب الإسلام من الداخل فصور الإسلام على أنه دروشة وجنون
وأنه دين لا يصلح للحياة وذلك عن طريق دعم الطرق الصوفية المنتشرة هناك
والتي لديها الكثير من البدع والضلالات وقد بدأت هذه الجماعات الصوفية تغزو
فكر الناس وتصور الإسلام على أنه عبادة للأحجار وتوسل بالموتى فبنيت التكايا
والمقامات وانتشرت الزوايا في أنحاء ألبانيا المختلفة وتنتشر هناك فرقة البكداشية
ورأينا بعضاً من مواقعهم التي يتوسلون بها ولمسنا الأثر الذي تركته هذه الفرقة على
الناس حيث عادت بهم إلى الجاهلية الأولى فتوسلوا بالأموات واعتقدوا فيهم معتقدات
باطلة.
وهناك فرق منحرفة أخرى متفرقة في أنحاء ألبانيا لها مريدوها وأتباعها فتجد
التكايا والأضرحة في كل يوم تزداد رغم الفقر الذي يعيشه الشعب وهذا ناتج عن
جهلهم بدينهم فهم يصدقون مثل هذه الخزعبلات.
دور العالم الإسلامي والمسلمين:
إن العالم الإسلامي ممثلاً في حكوماته وشعوبه وهيئاته الخيرية مطالب
بالوقوف في مواجهة المد الصليبي الحاقد الذي اجتاح ألبانيا. ومطالب أيضاً بتقديم
كافة أنواع المساعدات العينية والمادية لهذا الشعب الذي تجرع مرارة الفقر
والحرمان لفترة طويلة من الزمن وهذا الشعب بحاجة إلى من يعيد إليه هويته
وكرامته ويقع هذا الأمر على عاتق الدعاة المخلصين الذين يضحون بالغالي
والنفيس في سبيل خدمة هذا الدين. إنها صرخة نوجهها إلى كل ضمير حي، إلى
كل من في قلبه غيرة على حرمات المسلمين وعلى دينهم وعقيدتهم في بقاع الأرض
قاطبة.
إلى الشعوب الإسلامية إلى الجماعات والهيئات والمؤسسات الخيرية صرخة
نطلقها علّها تحرك شيئاً في هذه القلوب فتقدم عملاً يعيد هذا الشعب إلى دينه فيكون
ذلك نصراً وعزاً للإسلام والمسلمين.(67/81)
مقال
كلمة في تقويم الرجال
خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد كثر الكلام وتقابلت الآراء في مسألة دقيقة مهمة، وهي: المنهج الصحيح
في الكلام على الطوائف والأفراد والكتب.
وصار كثير من الناس في هذه المسألة على طرفين متباعدين:
الأول: من يرى أن العدل الواجب أن تُذكر الحسنات مع السيئات ويستدل
على ذلك بأدلة يمكن أن يُستدل على رأي الطرف الآخر بمثلها أو أقوى منها. وقد
يرى هؤلاء أن الكلام إن عري من ذكر الحسنات فهو يدل على تحامل قائله أو
كاتبه.
والطرف الآخر: يُشنع على هؤلاء ويرى أن لا وجه لذكر الحسنات بل تُذكر
المثالب فحسب، إذ المقام مقام نقد.
ولا ريب أن موقف كل واحد من هؤلاء فيه نظر، لأنه أطلق وأجمل
والصواب في مثل هذه المسائل يلزم التفصيل الذي به تتبين كثير من الأمور.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبّطا الـ ... آراء والأذهان كل أوان
وحاصل الكلام في هذه المسألة هو أن الكلام في الآخرين له ثلاثة مقامات:
المقام الأول: وهو الذي تُذكرُ فيه الحسنات والسيئات. ويكون هذا في
الحالات الآتية:
1 - إذا تعادلت الأقوال (أعني أقوال المجرحين والمعدلين) في الراوي، فهنا
يُذكر هذا وهذا.
2 -عند دراسة طائفة أو شخص أو كتاب أو منهج من المناهج يُذكر ما له ما
عليه.
3 - حينما يكون القصد من الكلام مجرد الترجمة والتعريف فيذُكر ما للرجل
وما عليه. وهذا واضح جداً في كتب التراجم.
4 - إذا كانت الكتابة موجهة للطائفة نفسها أو للرجل ذاته أو إذا كان له أتباع
كثر ويُراد ردهم إلى الحق فعند ذلك يُذكر شيء من فضائل الرجل ومحاسن الطائفة
كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما كتب الوصية الكبرى لاتباع عدي
بن مسافر.
المقام الثاني: وهو الذي تُذكر فيه الحسنات فحسب ويكون هذا في حالتين:
1 - إذا كان الرجل من أهل السنة وله من الفضائل ما يربو على سيئاته فلا
وجه لذكر المثالب في مثل هذه الحال إلا إن دعت الحاجة إلى ذلك من أجل التنبيه
حتى لا يغتر السامع بهذا القول. لكن لا يُذكر الغلط ليكون سبباً في التنقص من
قائله. (أما ترى أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث) .
2 - في الكلام على الرواة إذا كان الغالب على الرجل التعديل وكان هو
المختار فلا وجه لذكر أقوال المجرحين حينما نعرض للرجل بل يكفي أن نقول
(ثقة) مثلاً.
المقام الثالث: وهو الذي يُذكر فيه الجرح فقط ويكون هذا في الحالات الآتية:
1 - في مقام التحذير. فإن المطلوب هو ذكر ما ينفّر من المتكلم عليه
وبالتالي لا تُذكر محاسنه.
2 - إذا غلب على الراوي الجرح وكان هو المختار فلا حاجة لذكر أقوال
المعدلين.
3 - إذا كان الغالب على الطائفة أو الفرد الانحرافات والمخالفات التي
تتضاءل معها حسناتهم فهم بحسب ما غلب عليهم.
هذه خلاصة القول - فيما أظن - في هذا الموضوع ويوجد من الأدلة
والشواهد من كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكلام السلف
شيء كثير يدل على ما سبق. لعله يتيسر فسحة من الوقت فتبسط هذه المسألة
بشكل أكبر مدعمة بشواهدها.
والله من وراء القصد.(67/88)
مكتبة البيان
الإسلاميون وسراب الديموقراطية [*]
تأليف: عبد الغني الرحال
عرض: أبو أنس
يعتبر الكتاب بحق إضافة هامة للمكتبة الإسلامية في حقل شديد الحساسية وهو
شرعية دخول الإسلاميين للبرلمانات، والموضوع وإن طرقه الكثيرون سابقاً وكتبوا
فيه، لكن كل ما كتب - فيما أعلم - إما أن يكون تبريرات عاجلة في وريقات قليلة
أو اتهامات شديدة على عجل وقد نشر بعض منها في مجلات إسلامية في أوقات
متفرقة.
وبالتالي فإن هذا الكتاب يعتبر الأول من نوعه في هذا المضمار حيث إنه
دراسة أصولية شرعية مستفيضة لمشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية.
الكاتب يقرر ابتداء عتدم الموافقة على دخول الإسلاميين البرلمان ثم هو ينقد
الإسلاميين المجلسيين كما يسميهم في إجازتهم لأنفسهم الدخول فيه من دون دراسة
لحكم الدخول في تلك المجالس دراسة شرعية متعمقة.
ويقوم الباحث بجمع كافة المبررات والمسوغات التي يحتج بها هؤلاء
الإسلاميون وبالأخص قضية المصلحة ثم يفندها بنداً بنداً مؤصلاً لمبدأ مهم وهو أن
المشاركة في هذه البرلمانات هو تأصيل لواقعها المخالف لدين الله دستورياً
وقانونياً.
والكاتب بذل جهداً مضنياً ومستفيضاً في دراسته التي استغرقت - كما يقول -
سنين طويلة.
وتبدأ الدراسة بمقدمة ضافية تمثل دراسة نقدية موجزة للواقع المعاصر وموقف
الجماعات الإسلامية منه، وهي مقدمة رائعة - حبذا لو نشرت مستقلة - ثم يتبعها
ثلاثة أبواب بفصولها ومباحثها المتعددة وهي كالتالي:
الباب الأول: الديمقراطية، وفيه فصول:
- النظام الديمقراطي.
- مصلحة الأنظمة الحاكمة من النظام الديمقراطي.
- مصلحة الإسلاميين المجلسيين من النظام الديمقراطي.
الباب الثاني: المجالس النيابية ومقاصد الشرع، وفيه مباحث؛
* الاندراج في مقاصد الشرع، وفيه فصول:
- مصلحة تحكيم الشريعة.
- مصلحة الإصلاح.
- مصلحة عدم تمكين أعداء الله من الانفراد بالسلطة.
- مصلحة نشر الدعوة.
- مصلحة الدفاع عن حقوق المسلمين في العالم.
* عدم المعارضة للكتاب والسنة، وفيه فصول:
- حق التشريع.
- تضييع حدود الولاء والبراء..
- تثبيت أركان الأنظمة المتبرقعة بالديمقراطية.
- تضييع المنهاج النبوي في طريقة تغيير الواقع الشركي إلى واقع إيماني.
- التلبيس على المسلمين في عقيدتهم من خلال إضفاء ثوب إسلامي على
أنظمة غير إسلامية.
- الرضا بواقع الأنظمة الديمقراطية.
* عدم المعارضة للقياس، وفيه فصلان:
- القياس..
- وقفات مع استدلالهم بالقياس.
* عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها، وفيه فصول:
- إجمالي المصالح التي تضيع بمشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية.
- ميزان النظر في المصالح.
الباب الثالث: مصالح متوهمة أمام أبوب مغلقة، وفيه فصول:
- عدم اندراجها في المصالح المرسلة.
- عدم اندراجها في باب سد الذرائع.
- عدم اندراجها في باب الضرورة.
يختم الكاتب بحثه بخلاصة موجزة لأهم النتائج التي حصل عليها ويقول إن
النتيجة النهائية التي يُخرج بها من هذه الدراسة أن الإسلاميين المجلسيين اختطوا
بمشاركتهم في المجالس النيابية منهجاً في التغيير مخالفاً لمنهج الأنبياء في ذلك،
متجردين عن الدليل الشرعي، مما أدى إلى إضاعة الجهود الكثيرة في غير ما
طائل، فضلاً عن صرف الأنظار عن المنهاج النبوي في مواجهة الملأ وتغيير
الواقع الشركي إلى واقع إيماني ثم يقول: «وبصوت عال أدعو الإسلاميين
المشاركين في المجالس النيابية أن ينسحبوا منها ويوظفوا جهودهم لصالح خدمة
الإسلام وفق منهاج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن يبينوا للناس حقيقة تلك
المجالس بعد أن عرفوها من الداخل وعرفوا أساليبها في الوقوف في وجه أي
مشاريع إسلامية جادة» .
وأخيراً فالكتاب جدير بالقراءة، مع التركيز والتمعن فالكتاب عميق في طرحه
دقيق في معالجته.
__________
(*) الكتاب صدر حديثاً (1413) عن مؤسسة المؤتمن للنشر والتوزيع - السعودية في (536) صفحة من القطع الكبير، ويمثل الجزء الأول، ويليه مستقبلاً الجزء الثاني عن التجربة المصرية والسورية.(67/91)
في دائرة الضوء
الشيوعيون والوظيفة الجديدة
د. محمد يحيى
من الظواهر الثقافية التي تستحق الرصد أو على الأقل التسجيل في العالم
الإسلامي وبالذات البلاد العربية في الفترة الأخيرة ذلك الدور الذي أنيط بنفر من
الشيوعيين أو أنهم سعوا إليه في منظومة التصدي للحركات والفكر الإسلامي إن
نجم النخب الشيوعية الذى علا وتألق في سماء عدد من البلدان العربية في ...
الأربعينات وحتى الستينات قد خبا وأفل في السنوات الأخيرة، ولا يرجع ذلك
فحسب إلى تدهور وسقوط التجارب السياسية الشيوعية فيما عرف بالاتحاد السوفيتي
والكتلة الاشتراكية بل إن هذا السقوط للشيوعية المحلية كان قد بدأ قبل سقوط
الشيوعية الدولية بعد فشل طروحاتها المحلية وبعد ثبوت تواطئها مع مجمل النخب
العلمانية الحاكمة وبعد تخليها عن العديد من مواقفها وشعاراتها التي أعلنت فيها
الانحياز للجماهير الكادحة وتغيير المجتمع إلى الأفضل وما شابه ذلك من الأهداف.
إن القضية المحيرة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة وشغلت بالعديد من
الكتاب الصحفيين تمثلت في سؤال مهم هو: لماذا سقطت الشيوعية في روسيا
وأوروبا الشرقية وغير ذلك من أنحاء العالم بينما ازدهرت فجأة في عدد من البلدان
العربية في وقت كان فيه الجميع يتحدثون عن ذبولها؟
والواقع أن هذا السؤال وبصياغته هذه بحاجة إلى توضيح وتحليل. إن
السقوط الذي حدث في أوروبا الشرقية وغيرها كان في المقام الأول سقوط أنظمة
سياسية واجتماعية واقتصادية شيوعية لأسباب داخلية وخارجية متعددة سبقه فشل
الفكر الاشتراكي النظري والأيدلوجية الماركسية التي كانت تستند إليها تلك النظم.
وقد بادر بعض المحللين المدافعين عن النظرية الماركسية إلى التمييز بين الأنظمة
والتجارب الشيوعية من ناحية، التي اعترفوا بفشلها، وبين الفكر الاشتراكي كفكر
اجتماعي سياسي اقتصادي من ناحية أخرى الذي أقروا بتعرضه للفشل إلا أنهم رأوا
أنه ممكن تعديله لمواجهة الظروف الاقتصادية العالمية الجديدة وهي سيادة النظام
الرأسمالي الغربي ومعه فلسفاته المميزة من ليبرالية وبراجماتية ويمينية وغيرها.
كذلك ميز المدافعون بين النظم والتطبيقات الشيوعية - الاشتراكية من ناحية وبين الفكر الماركسي من ناحية أخرى فبينما رأوا أن الأولى قد فشلت وتهاونت زعموا أن الأخير مازال حيا وصالحاً وأنه قابل للتطور والتكيف ليتمشى مع التطورات العالمية.
وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت الماركسية كفكر قد ثبت خطؤها في معظم تنبؤاتها وتفاصيلها التحليلية إلا أنه تبقى مبادئها العامة ومستوياتها النظرية العليا الصالحة لتكون إطار نظر فلسفي في شتى جوانب الحياة أي أنه إذا كانت الماركسية قد فشلت كعلم كما كانت تزعم لنفسها إلا أنها لم تفشل كفلسفة أو كدعوة أيدلوجية
«أخلاقية» ! ! أو كإطار نظري لتحليل المجتمع وفهم ووضع بعض الطرق والبدائل أمامه.
ويذكر أن الذاهبين إلى هذا الرأي الذي يحول الماركسية من عقيدة ثورة وتغيير
للمجتمع إلى فكرة فلسفية تأملية كانوا من الغرب ومن المفكرين والأساتذة في معاهد
البحث والجامعات بأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية حيث أصبحت تسود الآن في
دوائر معينة تلك الفلسفة الماركسية (وليس الشيوعية أو الاشتراكية) المنقحة.
هذا عن مجمل التطور الحادث في الغرب أما في البلدان الإسلامية ونحن
نركز هنا على البلدان العربية، فقد فشلت أيضاً الأنظمة الحاكمة التي إن لم تكن
شيوعية معلنة - باستثناء ما كان في اليمن الجنوبي أو بعض فترات الحكم في
العراق أو السودان أو مصر - إلا أنها تبنت ما وصف بالاشتراكية في المجالات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع فشل هذه الأنظمة الحاكمة من
خلال الهزائم الخارجية العسكرية وتفاقم الأزمات الداخلية انهارت أحزابها الأحادية
وسقطت معها الأحزاب الشيوعية، المعلنة وشبة المعلنة، التي كانت تساندها بالدعم
السياسي والمعنوي والدعائي الفكري. وسقط كذلك الفكر والبرنامج الاشتراكي ولا
سيما في المجال الاقتصادي والاجتماعي. لكن هذا السقوط لم ينسحب على النخب
الشيوعية الفكرية والثقافية والإعلامية وبعض النخب السياسة التي كانت خلال فترة
الأنظمة الاشتراكية قد نجحت في التخندق في العديد من المؤسسات السياسية
والاجتماعية كالنظام السياسي الحزبي والإعلام والتعليم الجامعي والثقافة بل وبعض
هيئات صنع القرار على المستويات العليا كوزارات الخارجية والمكاتب الرئاسية
الاستشارية وما شابهها.
ونشأ في البلدان العربية خلال الثمانينات وضع محدد غريب يتمثل في وجود
نخب شيوعية قوية في مواقع مؤثرة ولكنها تسبح في شبه فراغ بعد سقوط الأنظمة
الدولية أو ضعفها التي كانت تستمد منها الدعم والقوة المادية والمعنوية وتعمل من
خلالها وفي سياقها وبالإضافة إلى ذلك فإن الرسالة- الاشتراكية الشيوعية ذات
المحتوى السياسي والاقتصادي التي كانت هذه النخب تروجها من خلال مواقعها
وتعاونها مع الأنظمة قد فقدت مصداقيتها وسقطت هي الأخرى تاركة النخب بدون
محتوى أو رسالة سوى ذلك الكم من الفكر الماركسي النظري الذي وجد لنفسه
فرصة حياة داخل نطاق الفلسفة الغربية العلمانية التي احتضنته كأحد روافدها
المتعددة. لكن المشكلة التي واجهت هذه النخب الشيوعية المحلية تمثلت في أن جل
أفرادها لم يكونوا من المثقفين حقيقة أو الفاهمين أو حتى المطلعين على هذا الفكر
الماركسي لأنهم كانوا يعيشون على فتات نظري محدود متمثل في بعض الشعارات
والشذرات ألقيت لهم من الكتلة الشرقية البائدة في سنوات سابقة من التلقين والترويج
والدعاية العقائدية الفجة. ومن هنا انطبق على النخب الشيوعية المحلية قانون البقاء
للأصلح وتعرضت لمزيد من الضعف ليس فقط لانفصالها عن الأنظمة الحاكمة
المغذية لها ولا عن الكتلة الاشتراكية الأم بل لأنها كذلك لم تكن تتقن صنعة الفكر
الماركسي النظري الذي تبقى بعد الانهيار العظيم.
ولكن وسط هذا الركام من التدهور والفوضى تجمعت عناصر قوة معينة أو
لعلها «عوامل حظ» لتنقذ هذه النخب. أول هذه العوامل هو أن انفصال النخب
الشيوعية المحلية في الظاهر عن دعم وقوة الأنظمة السياسية الحاكمة محلياً أو دولياً
مع انهيار هذه الأنظمة ومعها الحركة الدولية الشيوعية قد أزال أو أضعف عنصر
الخوف والقلق والتوجس الذي كانت دوائر محلية عديدة حاكمة وعلمانية ومتغربة،
تنظر به إلى تلك النخب. فقد انتهت مثلاً نظرية الخطر السوفيتي وخطر نخب
الشيوعية كعملاء وطلائع للسوفيت وانتهت نظرية خطر الثورة العمالية وغيرها من
الأخطار التي كانت هذه النخب تمثلها وأدى هذا الوضع إلى إزالة أي تحرج من
التعامل مع النخب الشيوعية لا سيما فى حالة ضعفها المادي والمعنوي وإفلاسها
وخوائها وفشلها الفكري الواضح لقد تحول الثعبان الضاري فجأة إلى حيوان أليف
منزوع الأنياب والسم.
وعنصر القوة الثاني هو ذلك الالتقاء الذي يبدو غريبا لكنه منطقي وطبيعي
الذي حدث بين النخب الشيوعية وبين الدوائر النافذة والسياسات الغربية في المنطقة. لقد نشأ الجميع في العقود السابقة على فكرة أصبحت أشبه باليقين والبديهيات
مفادها أن الغرب لا يعادي ولا يواجه إلا الخطر الشيوعي في المنطقة العربية رغم
أن المواجهة الغربية كانت دائماً وفي الحقيقة مع الإسلام.
وأيا كانت الحال وأيا كان خطر هذا التصور فقد استمر مهيمنا على الأذهان
لكن السقوط الواضح لنظرية الخطر الشيوعى وظهور نظرية الخطر الإسلامي لدى
الغرب كان بمثابة صك البقاء للنخب الشيوعية. فمن ناحية كانت هذه النخب أمام
الغرب مجموعات من المثقفين منزوعة القوة وبلا دور واضح في المجتمعات
العربية التي توجد فيها، ومن ناحية أخرى كانت أفكار بعض أفرادها الماركسية
تلقى القبول في الفكر الغربي المعاصر باعتبارها أحد مكونات هذا الفكر وجذوره
وكذلك باعتبارها فاقدة للطابع الثوري المعادي للغرب الذي كان يميز شعاراتها
المرفوعة في وقت سابق. وبجانب ذلك كانت تلك النخب وبرغم عوامل الضعف
المتعددة التي أشرنا إليها تحتفظ بمواقعها الوظيفية والمؤثرة داخل المؤسسات
السياسية والاقتصادية والثقافية وهى فوق أي شيء آخر تبحث عن دور أو وظيفة
جديدة تتناسب مع مؤهلاتها. واجتمعت كل تلك العوامل لتجعل من التعامل الغربى
مع النخب الشيوعية المحلية أو ما تبقى منها أمرا مرغوبا بل مطلوبا في ظل
سيطرة نظرية الخطر الإسلامي على التفكير الغربي وإزاء «مؤهلات» هذه
النخب من ناحية الموقع الوظيفي المؤثر الموروث من عهود سابقة وامتلاكها لفكر
يحظى بالقبول الغربي العام.
ونقطة الفكر هذه مهمة للغاية في تفسير عنصر القوة الرئيسي الثالث لهذه
النخب ألا وهو الالتقاء والاندماج مع مجمل النخبة العلمانية في العالم الغربي بل
والوصول إلى زعامتها وزيادتها وتوجيهها. إن النخب العلمانية المتغربة في العالم
العربي كما في مجمل العالم الإسلامي قد تأسست على الفكر الليبرالي الذي صيغ
صياغة خاصة ركزت على جوانبه اللادينية وليس الديمقراطية، وكان ذلك أمرًا
طبيعيا في عهود الاستعمار وما له من حكومات محلية. وعندما ورد الفكر الشيوعي
والماركسي إلى البلاد الإسلامية من خلال دعايات الكتلة السوفيتية أو من خلال
التعامل من عدد من البلاد الغربية على المستوى الثقافي والأدبي والجامعي فإنه
برغم احتوائه على عنصر العداء للدين والإلحاد إلا أنه طرح في شكل سياسي
ثوري أوجد قطيعة مع سائر عناصر النخب العلمانية صاحبة النفوذ والمتأثرة بالفكر
الليبرالي والبراجماتي الغربي وتفريعاتها. وهكذا عانت النخبة العلمانية في البلاد
العربية من انقسام بين عنصريها اليميني والأوسط من ناحية واليساري الماركسي
من ناحية أخري، وهو انقسام أضعف من أفاقها إلى حد كبير وكان انقساما تقع
خطوطه على السطح فقط أي في المواقف السياسية والاقتصادية والتكتيكات بينما
كان الجميع في المستويات الأبعد عمقا والأكثر نظرية يشتركون في الموقف العدائي
نفسه الناقد للإسلام من منظور فلسفي ثقافي واحد هو منظور علمانية الغرب المشكلة
في فكر عصر النهضة وعصر التنوير هناك قبل ظهور الماركسية بزمن بعيد وهى
على أي حال بنت هذه العصور مثلها في ذلك مثل الليبرالية والبراجماتية وغيرها
من المذاهب الغربية الكبرى.
لكن التحول الخطير الذي طرأ على النخب الشيوعية في السنوات الأخيرة
قضى على هذا الانقسام وفتح أبواب الوحدة والتكاتف بين مكونات النخبة العلمانية
العامة مرة أخرى بعد أن كان الشيوعيون أو الماركسيون قد ناصبوا الطرف
الليبرالي العداء من موقع الإحساس بالقوة وموقع احتكار التعامل مع الأنظمة الحاكمة، ... وتمثل هذا التحول الخطير في هذا الصدد في سقوط الفكر الشيوعي والاشتراكي
الثوري في جوانبه الاقتصادية والسياسية التي كانت تعتبر حد الانقسام أو الحد
الفاصل بين المكونين الماركسي والليبرالي للنخبة العلمانية. ولم يبق من الفكر
الشيوعي سوى المكون الماركسي الثقافي النظري الفلسفي الأصلي الذي يلتقي مع
الفكر الليبرالي في جذر أساسي هو العلمانية والنظرة الناقدة والرافضة للدين. وهكذا
وبعد تعرية النخب الشيوعية من أسباب القوة السياسية ومن أقسام رئيسة وواسعة
من أفكارها أصبحت مؤهلة وراغبة في الانضمام إلى عموم النخبة العلمانية المتغربة
تلتمس فيها القوة والبقاء من خلال التضامن السياسي كما تلتقي معها في المكون
العلماني الفج والصارخ وفي العداء للدين (الصاعد نفوذه) بعد زوال الكم الفكري
«الكم الاشتراكي الثوري» الذي كان يميزها ويفصلها عنها.
لكن الشيوعية العائدة إلى صف النخبة العلمانية المتغربة العام كانت تمتلك
سبباً آخر للقوة، هو العنصر الرابع في تحليلنا هذا، لا تمتلكه سائر مكونات النخبة
ألا وهو امتلاكها لتحليل مطول ونقدي لظاهرة الدين (المسيحي بالذات) بالإضافة
إلى سبق خبرتها الواسعة خلال الخمسينات والستينات في الحرب الفعلية والمواجهة
الميدانية للتيارات الإسلامية على المستوي الفكري والسياسي. وفي الواقع كانت
هذه الورقة الرابحة أو عنصر القوة الحقيقي الذي يميز النخبة الشيوعية في نظر
السياسة الغربية مؤخراً وأيضاً في نظر الدوائر السياسية الحاكمة الجديدة والتى
خلفت الأنظمة التى سبق أن تعاونت النخبة الشيوعية معها ضد الإسلام صحيح أن
الليبرالية علمانية التوجه وأنها تمتلك هي الأخرى تحليلاً نقدياً للدين تضخم في
العقود الماضية كثيرا لكن هذا التحليل ليس جذرياً أو متخصصاً. مما فيه الكفاية
كما أن الدوائر الليبرالية والمصاحبة لها في العالم العربي بالذات لا تمتلك مثل هذا
التحليل لأنها ركزت في الفترة الأخيرة على الجوانب الاقتصادية بالذات (سياسات
الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وتنفيذ برامج المؤسسات المالية الدولية - إلخ)
أكثر من تركيزها على نقد الدين ومواجهة أفكاره وفوق ذلك فإن الخط الليبرالي
العلماني العام كما تطور في العالم العربي لم ينشأ في الغالب علاقة تصادمية مع
الدين بالدعوة إلى الإلحاد أو رفض العقيدة والطعن فيها وفي الشريعة وفي النصوص
الدينية كما فعل الشيوعيون في أوقات سابقة وكما يفعلون الآن ولهذا كانت النخبة
الشيوعية أقوى من سائر مكونات النخبة العلمانية المتغربة في جانب التصدي للفكر
الديني (الإسلامي وحده) الذي أصبح يلح الآن على الدوائر الغربية والأنظمة
السياسية الحاكمة الآن في العديد من البلاد العربية والإسلامية.
لقد تضافرت عناصر القوة الأربعة هذه وتجمعت في نسيج واحد لتؤدي إلى ما
يسميه بعضهم بالازدهار الظاهري الذي تمر به الشيوعية على المستوى السياسي
الرسمي العربي في وقت كان يفترض فيه وفق منطق الأشياء أن تذوي وتذوب.
إن أحزابا شيوعية تقام هنا وهناك في وقت تلغى فيه الأحزاب الشيوعية
الكبرى في شرق وغرب أوروبا وتغير أسماءها خجلا وعارا رغم طول تاريخها.
وفي بلادنا العربية تنشأ الصحف والمجلات ودور النشر والمنتديات والتجمعات
الشيوعية الثقافية والأدبية والنسوية بشكل شبه يومي في الأعوام الأخيرة. ويقفز
دعاة الشيوعية السابقون والذين كانوا قد سقطوا وأفلسوا فكريا إلى مواقع الوزارة
والصدارة في شتى المؤسسات ويناط بهم تشكيل النظام التعليمي وتكوين الرأي العام
من خلال وسائل الإعلام والتأثير في محتوى ومضمون الثقافة والفكر في المجتمعات
ككل ويرسمون السياسات الاقتصادية ويضعون القرار السياسي. لكن كل هذا
النشاط ليس ازدهارا طبيعيا بل هو تحرك مصنوع ومدبر ومفتعل بقرار علوي من
السلطات الحاكمة وبمباركة وتوجيه حاسم من جانب الدوائر الغربية السياسية
المؤثرة ومعها المؤسسات المالية الدولية والحركات الكبرى كالصهيونية والعلمانية
والصليبية كذلك. وهذا الازدهار المصطنع والخطط المحكوم يجيء لكي تؤدي
النخبة الشيوعية دور التصدي لصعود قوة الإسلام.
إن الصورة الفعلية التي تواجهنا هي صورة نخب سقطت وأفلست وصارت
تبحث عن دور وعندما عرض عليها هذا الدور في التصدي الفكري لتيار الإسلام
سارعت بانتهازية معهودة إلى العض عليه بالنواجذ ولم تفلته لأنه فرصتها الوحيدة
في البقاء. وإذا كانت هذه النخبة قد مارست التصدي والهجوم على الإسلام في
عقود سابقة إبان فترات قوتها النسبية وجدتها ولحساب الأنظمة الاشتراكية
الدكتاتورية التي تحالفت معها فإنها تمارسه الآن من موقع الضعف والإفلاس الفكري
والذيلية المطلقة لأنظمة علمانية متغربة وديكتاتورية أيضاً وتمارسه باضطرار من
يغرق ويريد النجاة بأي ثمن وليس بحنكة من يريد أن يؤدي دورا في لعبة القوة
والسلطة له منه نصيب. والصورة التي تواجهنا ليست صورة تيار سياسي فكري
يستعيد أو يواصل عافيته بل هي صورة التقاء مصالح ومخططات أقرها لنا الدور
الشيوعي الجديد على امتداد الساحة العربية. فهناك نخب ساقطة ومنتهية لكنها تملك
فقط توزيعا جغرافيا ومناخيا وبقايا فكر معاد للدين ومتخصص في مواجهته بسابق
الخبرة وهى تبحث باستماتة عن دور يحفظ وجودها، وهناك على الناحية الأخرى
دوائر غربية ومحلية مؤثرة وحاكمة تبحث بإلحاح عن طرف يؤدي مهمة ضرب
الإسلام والتصدي لفكره على أن يكون مؤهلا لذلك وعلى ألا يكون من القوة أو
الإمكانية بحيث يخرج من طور التابع الذيلي العميل إلى دور الفاعل المستقل بالرأي
والمصلحة.
هذا الالتقاء أو هذا البحث المزدوج هو الذي أخرج لنا الدور الشيوعي الجديد
في العالم العربى في سياق من العناصر والعوامل التي أشرنا إليها آنفا.
ولكن الدور الشيوعي الجديد في خط الدفاع ضد الإسلام يجرى على حساب ما
تبقى من صورة النخب الشيوعية ودعايتها لنفسها وشعاراتها.
فالنخبة الآن لا تنشغل إلا بشيء واحد فقط هو الهجوم والمزيد من الهجوم
على الإسلام وهي بذلك تؤدي وظيفتها بأمانة تحسد عليها ولم تعهد فيها من قبل
وتتلقى الثمن المناسب ماديا ومعنويا بتوزيع الحقائب الوزارية والمغانم المادية
والظهور والشهرة الإعلامية. ولكن الانغماس الشيوعي شبه التام في التصدي
للطرح الإسلامي يجعل الشيوعيين مكشوفين مفضوحين أكثر مما كانوا أمام
الجماهير التي ما عادوا يثبتون أيا من قضاياها ومشاكلها السياسية والاقتصادية بل
على العكس يهاجمون عقيدتها.
إن الشيوعي النمطى يقف الآن بورجوازيا محترما يدافع عن القطاع الاقتصادي الخاص والملكية الفردية والقيم الغربية الليبرالية كما يقف محافظا رصينا يدعوإلى الاستقرار والسكينة في ظل نظم شمولية ويبشر بالتعاون مع الغرب (الاستعماري سابقا) وبالتحالف مع اليمين المحلي والعالمى في وجه الخطر الإسلامي ويرحب بالصهيونية وإسرائيل كشريك في صنع التقدم المستقبلي غير الإسلامي في المنطقة كما يرحب بالصليبية الدولية والمحلية باعتبارهما حلفاء في وجه العدو المشترك أي الإسلام. وهو ينسى كل الشعارات القديمة عن الثورة والجماهير الكادحة والاستغلال الاقتصادي الطبقي وهبة القوى العاملة ولا يعود إليها، وإن عاد فإنه يستخدمها فقط ضد الإسلام الذي اخترع له ألفاظ الظلامية والسلفية والأصولية ليشوه صورته بها. هذا الشيوعي النمطي إذن وهو يؤدي الدور الذي أنيط بقومه يخاطر بفقدان البقية من ورقة التوت التي تغطي العورة لأنه يتحالف وبشدة مع من كان حتى الأمس القريب ينعتهم بالأعداء سواء على المستوى المحلي أو العالمي وهو كذلك يتخلى عن الدور السابق المزعوم كمعارض صلب ومناضل يضحي من أجل مصالح الكادحين.
إن الوضع الجديد للنخبة الشيوعية في العالم العربى وفي العالم الإسلامي على
نطاق أوسع بحاجة إلى تدبر وتحليل حاولت هنا أن أضع معالمه الأساسية.
والخلاصة التي أتوصل إليها ويتوصل إليها أي تدبر موضوعي هي أننا أمام حالة
من حالات السياسة الثقافية التي توظف مجموعة انتهازية من المثقفين في أداء مهمة
الهجوم بوسائل فكرية وإعلامية متعددة على تيار معين (الإسلام) لحساب قوى
خارجية وأخرى محلية تريد التخلص من هذا التيار لأنه يناقض طروحاتها العلمانية
ومصالحها السياسية في الحكم والسيطرة واحتكار السلطة وانتزاع المجتمعات
الإسلامية من دينها وعقيدتها بل تاريخها وهويتها.
إن ما يحدث على الساحة الفكرية الآن وفي بلدان عربية كثيرة هو أبعد ما
يكون عن مجرد تطورات فكرية وثقافية جريئة أو كما يصوره بعضهم من تصد لما
يسمى بالإرهاب والتطرف المنسوب للإسلام وحده.
إنما يحدث هو استراتيجية موضوعة بعناية لتتكامل مع استراتيجيات أخرى
أمنية وسياسية واجتماعية لكي تضرب جذور الإسلام. ودور النخب الشيوعية في
هذه الاستراتيجية هو دور المنقذ الباحث عن دور والمعَّين لدي أصحاب المهمة
الباحثين عمن يقوم لهم بهذا الدور.(67/95)
منتدى القراء
إلي إخواننا العرب المسلمين
أسامة أمين الطيب
(الفلبين)
أيها الأخوة الأعزاء:
إن القلوب دائما معلقة بكم وإن العيون لتنظر إليكم وإن الآمال معلقة بكم بعد
الله جل جلاله لما لسلفكم الصالح من الفضل العظيم والأجر الكبير في هدايتنا بإذن
الله إلى هذا الدين القويم بعد أن كنا كغيرنا شبه حيوانات بأكل ونشرب ونتناسل
ونعبد الأوثان وأنقذنا الله بفضله ومنته ثم بفضل أولئك الذين قطعوا الفيافي والفجاج
بين الأخطار المحدقة من أمواج البحار وهوامه وقراصنته، يهلك. إن ذلك يعني
تحمل العبء الكبير في حمله وإبلاغه ثم أدركوا معنى الآيات الأخرى بإبلاغه
والدعوة إليه وأن ذلك أمر واجب التنفيذ وعرفوا معنى التقصير فيه والحساب عليه
ثم علموا علم اليقين عظيم الأجر والثواب لمن قام بهذه الدعوة لأنها أهم وظيفة في
الحياة فهي وظيفة الأنبياء والرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إذ أن هذه
أمور تقتضي التضحية بالغالي والنفيس وكل ممتلكات الحياة من ماديات أو معنويات
أو طاقات علمية أو عملية وتعلمون ما فعلوا وحق لهم ذلك الفعل والفوز بالأجر
والثواب لما أحدثوا من أثر فعَّال في هذه الجزر حيث أنقذوها من براثن الشرك إلى
هدى الإسلام.
أيها الأخوة الأعزاء:
مع اعترافنا بجميلكم في مؤازرتنا في هذا العصر الحاضر بالمساعدات المادية
والمعنوية منذُ بدء اليقظة الإسلامية الجديدة إلا أننا نعتبر أنفسنا وإياكم مقصرين
تقصيراً كبيراً تجاه هذا الدين العظيم وما يجب له من الدعوة والإبلاغ فنحن وإن كنا
قد أخذنا في الدعوة إلى الله وأنشأنا المؤسسات التعليمية والتربوية باللغة العربية
وعلى مناهج البلاد العربية ومنهج السلف الصالح بجهودنا الضعيفة ومساعدتكم
بالإمداد المادي والمعنوي مما ساهم في نشر اللغة العربية للتعرف إلى الإسلام من
خلالها مباشرة والارتواء من معينه الصافي وقد اهتدى الكثير وأسلم كذلك من
الوثنيين والنصارى الكثير، إلا أننا نعتبر أن هذه جهود ضعيفة وأعمالاً هزيلة، إذا
قورنت بما يجب علينا جميعاً وبما نملك من الوسائل الآلية مما يلزم من تبليغ دين
الله والدعوة إليه في كل دار وفي أي موقع وبأقصى سرعة.
ألا يعتبر عملنا هذا تقصيراً كبيراً في حق أنفسنا وديننا؟ بلى والله! ومن
جانب آخر إذا رجعنا إلى تعليمنا ومدارسنا نجدها تقوم في الدرجة الأولى على
رسوم طلابها الفقراء أو ما يتبرع به بعض الفقراء أو مستوري الحال؟ لا الأغنياء ... وتسير الهوينا بشكل مزرٍ فالكتاب المدرسي الذي هو عماد التعليم لا يوجد إلا بالنقل من اللوح - السبورة - أو تصويراً لمن يجد قيمة الكتاب ... ومباني المدارس معظمها من القش والأخشاب والزنك وبالإضافة إلى سوء مظهرها فإنها لا تصمد أمام مياه الأمطار ولا تحمى طلابها. والمدرسون معظمهم متطوعون أو بمكافآت رمزية والواحد منهم يدرس درساً ويترك الآخر ولا عليه من سبيل مادام متطوعاً ... والمراجع الإسلامية شبه معدومة، ورب الأسرة قد يدرس واحداً من أبنائه أو أكثر أو لا يدرسهم بالكلية لأنه قد لا يجد النفقات الدراسية من رسوم أو أدوات مدرسية.
وهكذا يسير تعليمنا الإسلامي بخط متعرج، ومع هذا له أثر كبير مع ضعف
ما يقدم له من إمكانيات مادية أو معنوية وذلك فضل من الله ونعمه لا من جهود
البشر المقصرين. بينما غير المسلمين نجد لهم في كل حي أو قرية مدرسة على
الطراز الحديث مجهزة بالمعلمين والكتب والوسائل المدرسية وحتى وسائل العلاج
وتستميل أبناء المسلمين بالإغراءات والعروض المادية فتعطيهم الكتب والمواد
المدرسية مجاناً بل واللباس والعلاج، وفي بعض المواقع تعطي لأهلهم بعض
الأطعمة والملابس، وفي مواقع أخرى تهيئ لهم المساكن للعائلة بكاملها مقابل
تمكينهم واحداً فقط من أبنائهم في مدارسهم لينصروه أو يمسخوا شخصيته الإسلامية
فيكون حربة ضد الإسلام فيما بعد وحتى الجبال العالية التي لا تصل إليها السيارات
يصلونها بالطائرات المروحية أو على الدواب ... فما لهؤلاء القوم مع ضلالهم
يبذلون ما لم نتحمله نحن أبناء البلاد وأبناء المسلمين.... وهم قد أتَواْ من بلاد
الترف والنعيم ... لماذا هذه المفارقات أيها الأخوة الأعزاء.
ابن الإسلام لا يتحمل في سبيل دينه الحق إلا ساعات أو أيام قلائل ... وابن
الضلال يقيم الشهور والسنين ويخترق الغابات ويتسلق الجبال العاليات ويجتاز
المخاطر، كل ذلك في سبيل الدعوة إلى ضلاله ... لماذا هذه الفوارق؟ ألا يدل ذلك
على خلل في المنهج التربوي لأمتنا المعاصرة؟ بلى والله إنه لبرهان عليه.
ولو نهجنا منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تربية أصحابه وما
ساروا عليه في تربية أتباعهم ومن بعدهم: أولئك الذين فتحوا الدنيا آنذاك، لو فعلنا
ذلك لما سبقنا هؤلاء إلى التضحية والبذل في سبيل باطلهم، إن هذه هي رسالتكم يا
حملة العلم والمعرفة ومسئوليتكم تجاه أمتكم يا من نزل هذا الدين القويم بلغتكم وفي
أرضكم ... إنها مسئوليتكم بالدرجة الأولى ثم مسئولية كل فرد مسلم بأن تربوا الأمة
الإسلامية على حمل هم الإسلام وجعله أهم شيء في الحياة إذا بصرتم الناس إلى
هذا الواجب وأشعرتموهم بمسئوليتكم عن ذلك ... فإن هذا كفيل بإذن الله بإعادة دور
الأمة الإسلامية إلى مكانتها اللائقة بها ... فهل أنتم فاعلون؟ إننا والله مقصرون
نهتم لمأكلنا ومشربنا وراحتنا أكثر مما نهتم للإسلام بل الكثير منا لا يهمه إلا نفسه
ولا يحمل للإسلام هماً ومن حمل منه شيئاً قارنه بمصلحته قبل الإقدام عليه، نسأل
الله العون والبصيرة لنا ولإخواننا في كل مكان.
أيها الأخوة الأعزاء:
مع ما ذكرناه أعلاه من واجبات ومسئوليات ومشاعر فإننا نعترف بفضلكم
سابقاً ولاحقاً ونقر بجهدكم ونقول إن لكم الباع الطويل في هذه الأعمال ونتائجها
تعليماً ودعوة فما وجدنا المدد المادي والمعنوي إلا من الله ثم من إخواننا العرب
المسلمين.(67/107)
الورقة الأخيرة
في تقويم الصحوة
د / صلاح الصاوي
للصحوة الإسلامية المعاصرة إيجابياتها العديدة نذكر منها المحافظة على شمول
الإسلام وتكامل فهمه في حس أجيالنا المعاصرة، فقد أبقت في ذاكرة الأمة قضايا
أساسية في دين الله كان يمكن أن تكون أثراً بعد عين، كقضية تحكيم الشريعة.
ومنها الانتقال بمنهج التعامل مع القرآن الكريم من مجرد التعبد بسماعه وتلاوته
والاستمتاع الفني بدراسته إلى ما كان عليه سلفنا الصالح من الاتباع لأمره ونهيه
والتقيد بتحليله وتحريمه كما روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قولها: كنا نقرأ الآية من القرآن فنحل حلالها ونحرم حرامها ونتأدب بآدابها لا نتجاوز
إلى الآية التي بعدها حتى نفعل بها ذلك فتعلمنا العلم والعمل جميعاً، ولقد كاد
خصوم الإسلام في هذا العصر أن يحيلوا الكتاب الكريم إلى أثر تاريخي مقدس يتلى
على سبيل البركة ولا علاقة له بالحياة ولا بالأحياء فجاءت هذه الصحوة المباركة
لترد الأمة إلى كتابها باعتباره المصدر الأعلى للوحي المعصوم الذي أنزله الله
ليكون الحجة القاطعة والحكم الأعلى بين العباد.
ومنها: تجديد الدين بإحياء كثير من السنن وإماتة كثير من البدع، وإزالة
الغربة عن كثير مما هجر الناس من شعائر الإسلام وشرائعه من كان يظن أن
حجاب المرأة المسلمة سيبعث مرة أخرى في جامعاتنا المعاصرة التي دار معظمها
في فلك التغريب بعد أن حرص خصوم الإسلام على إماتته والتشنيع عليه أكثر من
نصف قرن؟ ؟ ! إنه القدر الأعلى الذي لا يقف في وجهه أحد!
وللصحوة الإسلامية سلبياتها المتعددة كذلك، نذكر منها: تفرق كلمتها وفساد
ذات بين أفرادها في بعض الأحيان.. وهو أمر جد خطير لأن مآله في منطق السنن
الكونية إلى الفشل وذهاب الريح، قال تعالى: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ] ومنها: عدم ترتيب الأولويات في بعض الأحيان، فقد تهمش أموراً
أساسية وقد تغلوا في أمور جانبية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ومنها غياب
فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد أو ضعفه وهو عمدة الفقه وأساس التعامل في
واقع الفتن وغربة الدين..
إن العمل الإسلامي المعاصر يعيش في واقع لا تكاد تتمحض فيه المصالح
والمفاسد، إنما تتلاقى وتتزاحم في مناط واحد وعند حدوث هذا التلازم يقع الاشتباه
ويحدث الالتباس، ولا مناص في مثل هذه الحالة من الاجتهاد لتحقيق خير الخيرين
ودفع شر الشرين، لأن مبنى الشريعة كما قال أهل العلم تحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها.. إن هذه الموازنة وهذا النوع من الفقه هو عمدة التعامل
في هذه المرحلة، ومن لم يستوعب أبعاده أعياه الأمر وعطل كثيراً من المصالح
الشرعية، وربما يفضي ببعض الناس إلى التحلل وخلع الربقة بالكلية، إن ذلك في
الحقيقة يمثل معقد التفرقة بين التطرف والاعتدال أو بين القصد والغلو.(67/111)
ربيع الآخر - 1414هـ
أكتوبر - 1993م
(السنة: 8)(68/)
كلمة صغيرة
لا يخلو الجهد الإنساني من قصور؛ وبالتالي من سلبيات والصحوة الإسلامية، ...
بوصفها جهداً إنسانياً يستهدي بكتاب الله وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبمنهج
سلفنا الصالح، لم يكن من المتصور أن تخلو من بعض السلبيات، إلا أن كثرة ...
الحديث عن نقد الصحوة والإلحاح عليه قد أنسى بعضاً منا «إيجابيات» هذه الصحوة، وعطاءاتها المتميزة وآثارها الكبرى في حياة الأمة، هذه الإيجابية وتلكم الآثار،
التي حاولت «البيان» إبراز بعض جوانبها في هذا العدد.
المحرر(68/1)
الافتتاحية
الإيجابية والسلبّية
التحرير
العناية والاهتمام بأخبار المسلمين وأحوالهم، والكلام عن المآسي والآلام في
ديار الإسلام، مما يقتضيه واجب الموالاة والنصرة، حيث نحزن لحزن إخواننا،
ونفرح لفرحهم فالمسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى
رأسه اشتكى كلّه « [1] .
وهذا الإحساس والاهتمام يجب أن يدفعنا إلى برامج عملية جادّة لمعالجة هذه
الآلام أو تخفيفها، وهذا الواجب لا يخص فئة دون أخرى، بل يشمل جميع
القادرين من المسلمين ذكوراً وإناثاً، علماء وعامة، تجارا وأطباء مهندسين
وغيرهم، فعليك أخي المسلم المشاركة بما تستطيع لخدمة دينك وأمتك، وقول ما
تستطيع فلا يكفي منك مجرد مشاركة يسيرة بوسيلة قد يستطيعها الكثيرون ممن هم
أقل منك قدرة وإمكانات، بل نريد المشاركة الجادة بكل ما تستطيع من وسائل، بل
وابتكار وسائل وأساليب جديدة، فالثغرات كثيرة، والأعداء كثيرة والمسؤولية
جسيمة، فلا مجال للتهرب من المسؤولية، وإلقائها على الغير، أو التعلل بالعلل
الواهية، التي إن أعفتك أمام الناس، فلن تعفيك من المسؤولية أمام الله عز وجل،
وهنا لابد لنا من التحذير من بعض السلبيات الواقعة لدى بعض العاملين في الحقل
الدعوي:
1- التحذير من النقد السلبي، ومن مظاهره: كثرة النقد بمناسبة وبدون
مناسبة، وتضخيم السلبيات والأخطاء، والتقليل من الإيجابيات أو تجاهلها،
والإغراق في المثالية، مما يصيب بعض طلبة العلم باليأس والإحباط، ومن ثم عدم
تقديم أي شيء للدعوة، لأنه لا جدوى من ذلك - حسب ظنهم - ونحن هنا لا نقلل
من أهمية النقد والتقويم، ومراجعة الأخطاء، فالصحوة في أمس الحاجة له، وإنما
نريد أن يكون ذلك باعتدال وتوازن مع طرح بدائل عملية أفضل.
2- توهم البعض أن الإصلاح، ونصرة الدين لا تكون إلاَّ بهذه الوسيلة أو
تلك، ومن ثمّ التحقير والتصغير من شأن الوسائل الأخرى، مثل أن يظن أن نصرة
الدين لن تكون إلا بوسائل علنية، ولا يجدي غير ذلك، أو يظن أن ذلك لا يكون
إلا بوسائل سرية، ومن ثم يهون من تأثير الوسائل العلنية، وقد يتجاهل جهود
الآخرين وإنجازاتهم، وقد يتجاوز مرحلة التجاهل فيشكَّك في أعمال الآخرين، أو
يطعن في نياتهم رغم اتفاقهم معه في المنهج والهدف، مما يؤدي إلى تشتت الجهود، وتفرق الكلمة والفشل، قال تعالى: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]
فهل من وقفة جادة لتنسيق الجهود وتكاملها؟ هذا ما نرجوه، ونسأل الله عز
وجل إخلاص النية والقصد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) رواه مسلم كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم رقم 2586.(68/4)
في إشراقة آية
[وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ]
د.عبد الكريم بكار
أنزل الله - جلَّ وعلا - في المنافقين سورة سُميت باسمهم، تفضح بعض
مواقفهم، وتُخبر عن بعض صفاتهم، وكان من جملة ما نَعَتَهُمْ الله تعالى به قوله:
[وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [1] .
فقد وصفهم الله - تعالى - بأن الناظر إليهم يُعجبُ بجمال أجسامهم، ومن
يسمعهم يُؤخذ بفصاحة ألسنتهم، لكنهم كالهياكل الفارغة، أشباح بلا أرواح،
وأجسام بلا أحلام ...
وهذه الصفات تتناسب مع حالة النفاق، إذ إن ظاهر المنافق دائماً خير من
باطنه، فظاهره الإيمان، وباطنه الكفر، وهو ذلق اللسان، لكنه يقول غير ما يعتقد؛ فهو كذاب، وهو جميل الصورة، لكنه عاطل من الصفات النبيلة كالإيمان
والمروءة والرجولة، وكل ما يزين الباطن.
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «كان عبد الله ابن
أُبي (رأسُ النفاق) وسيماً جسيما صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي -
صلى الله عليه وسلم- مقالته» [2] .
ولمّا كان للظاهر سلطانه القوي في التأثير، وانتزاع الإعجاب علَّم النبي -
صلى الله عليه وسلم- أصحابه ضرورة تجاوزه إلى المعاني الباطنية؛ لأنها هي
الفيصل الحقيقي في تقييم الرجال؛ وقد ورد في الحديث الصحيح: أن مرَّ رجلاًَ
على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تقولون في هذا؟ «قالوا: حري إن
خطب أن ينكح، وإن شفع يُشفع، وإن قال أن يُستمع إليه» قالوا: «حريٌّ إن
خطب ألا يُنكح، وإن شفع ألا يُشفَّع، وإن قال ألا يُستمع إليه» ثم مر رجل آخر،
فقال: «ما تقولون في هذا» . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «هذا
خير من ملء الأرض مثل هذا [3] ففضَّل النبي صلى الله عليه وسلم الفقير على الغني
، وذلك لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني، إنما أراد أن يعلمهم أن التفاضل
لا يقوم أبداً إلا على المعاني الباطنية، وما يتبعها من أعمال.
وتطرح هذه الآية الكريمة مسألة خطيرة في حياة الإنسانية بعامة وحياة
المسلمين بخاصة، هي قضية العلاقة بين الشكل والمضمون، أو الجوهر
والمظهر [4] .
ونعني بالجوهر ابتداءً: مجموع الخصائص الخُلُقِيَّة والنفسية. والصور
الذهنية، والخبرات والموازنات العميقة للفرد.
أما المظهر: فإنه مجموع ما يحمله الفرد من الصفات الجسمية، وما يمتلكه
من الأشياء، وما يتحمله من وظائف، مما لا يعد على صلة مباشرة بكينونته الذاتية.
في البداية ليس الجوهر والمظهر شيئين منفصلين انفصالاً تاماً، بل بينهما
علاقة تأثر وتأثير وأخذ وعطاء، وقد ورد ما يدل على هذا فقد كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان يمسح مناكب أصحابه في الصلاة، ويقول:» استووا، ولا
تختلفوا فتختلف قلوبكم « [5] . والمرء حين ينشرح صدره يظهر ذلك على مُحيّاه،
ومن ثم قيل:» من كثرت صلاته بالليل ضاء وجهه في النهار «.
وإذا كان بين الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتلازم فإن من البدهي ألا
يزهِّد الإسلام الناس في الشكل؛ فالصلاة موقف روحي بحت، ومع ذلك حرص
النبي -صلى الله عليه وسلم- على انتظام الصفوف فيها، والأمر قريب من ذلك في
صفوف القتال.
وحث الإسلام على النظافة، كما امتنَّ الله - تعالى - علينا بما نشعر به من
التأنق عند غدوِّ الأنعام ورواحها، كما قال سبحانه: [ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ
تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ] [6] ، وتلك مسألة شكلية. والأمثلة على هذا أكثر من
أن تُحصى.
إذن ما هي المشكلة؟
تكمن المشكلة في اختلال التوازن بين الجوهر والمظهر، أو بين المضمون
والشكل؛ فالبشر متفقون على أن اللباب هو الأصل، وأنه ينبغي أن يُعطي من
الاهتمام والعناية والبلورة القسط الأكبر لأن كل الإنجازات الحقيقية التي تتم على
السطح نابعة أساساً من إنجازات تمت على مستوى الكينونة والجوهر. وهذا
يتناسب مع حقيقة تسخير الكون الذي حبا الله - تعالى - به الإنسان؛ كيما يظل
حراً طليقاً يحكم ويأمر دون أن يُكَبَّل! بشيء من صنع يديه!
وللمجتمع وما يقره من أعراف سلطانٌ كبير على الناس، ولما كان الحكم
الاجتماعي منصباً على الشكل كان الانحدار نحو الاهتمام بالشكل هو الأمر الطبيعي
المتبادر إليه، أما العناية بالجوهر فيمكن أن تنمو عن طريق التربية الخاصة في
الأسرة أو المدرسة، لكن ذلك سيظل ضعيف التأثير ما لم يكن المجتمع كله خاضعاً
لمبادئ عليا خارجة عن إنتاجه، ولن يكون مصدر تلك المبادئ حينئذ الأرض،
وإنما السماء! لكن حين يكون الدين عبارة عن بعض الرؤى الغيبية، أو الدغدغات
العاطفية - كما هو الشأن عند بعض الملل - فإنه لا يضع شيئاً في مواجهة التيارات
الاجتماعية العاتية؛ لأنه لا يعدو آنذاك أن يكون عنصراً رخواً من عناصر الثقافة!
وإن الذين الذي يوجِّه ويقاوم هو الذي نُمحِّص حياتنا من أجله!
وحينما يضعف الوازع الديني لدى المسلم فإن الميزان يميل مباشرة لصالح
المظهر. وبما أننا نعيش في عصر نتأثر فيه أكثر مما نؤثر فقد أضيف إلى ضعف
الوازع الديني عند أكثر الناس الوقوع تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب الحياة
المختلفة، تلك الفلسفة التي شكَّلت من الإنتاج غير المحدود والحرية غير المحدودة
والسعادة غير المتناهية ديناً جديداً اسمه التقدم! واقتضى ذلك توجهاً كلياً نحو
الطبيعة لاستثمار كل شيء فيها! ثم استهلاكه بصورة جشعة لم يسبق لها مثيل
ناسين أن موارد الطبيعة محدودة، وأن الطبيعة. سوف ترد على ذلك، بل إنها
بدأت بالرد فعلاً!
وعلى صعيد الرمز فقد كان البطل المسيحي يستوحي شخصية الشهيد، وهو
عيسى - عليه السلام - حيث وهب حياته من أجل غيره - حين صلب كما
يزعمون -، ثم انقلبت الأمور رأساً على عقب، حيث صار العالم الغربي يستوحي
شخصية البطل الوثني، كما يتجسد في أبطال الإغريق والرومان، ذلك البطل الذي
يغزو، وينتصر، ويدمر، ويسرق، وينهب. وشتان ما بين شخصية الشهيد الذي
يهب حياته من أجل غيره، وبين المقاتل الذي غايته السيطرة على الآخرين
وتضخيم الحياة الشخصية! ! 12
وكانت النتيجة ولادة مجتمعات تعاني من الوحدة، والقلق، والاكتئاب،
والنزوع التدميري، والخوف من المستقبل، والأنانية الشخصية، والتفكك الأسري ...
تأثرنا - نحن المسلمين - بهذا كله من حيث ندري، ولا ندري، وتوجهت
قوانا الفاعلة نحو الخارج، وأهملنا الجوهر، وكانت حالتنا في بعض النواحي أسوأ
ممن تأثرنا بهم؛ لأن القوم صاروا إلى الشكل بعد أن حققوا ذواتهم بطريقة فعَّالة
وإن كان انحرافها يحمل في النهاية بذرة موتها؛ أما نحن فقد غادرنا الجوهر لغمر
أنفسنا بالشكليات!
والناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والحياة العامة لصحابته -
رضوان الله عليهم - يجد أن السيطرة كانت للكينونة الداخلية، وليس لما يمتلكه
الناس من أشياء؛ لأن المحور الأساسي للحياة الاجتماعية كان الإنسان، وليس
الأشياء؛ أما الآن فقد صارت (الملكية) هي المحور، ويتجلى ذلك واضحاً في أمور
عديدة منها:
1 - تناقصت الألفاظ المستعملة في الدلالة على الجوهر، في حين زاد تداول
الألفاظ الدالة على الأشياء، فحديث المجالس لم يعد يتمحور حول البطولات،
والإنجازات، والمواقف الكريمة، والصفات الحميدة، وإنما حول العقارات،
والسيارات، وأسعار السلع، وأثاث البيوت، والأرصدة المالية ...
2 - الرغبة في مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من الاستهلاك جعل اعتماد
الناس على الآلة يتزايد يوماً بعد يوم، وصار الإنسان ترساً من تروسها، وصار
دوره مكملاً لدورها؛ ومن طبيعة هذا الشأن أن يزيد اهتمامنا بالمظاهر، ويشغلنا
عن الحقائق.
3 - كانت قيمة وجود الإنسان مستمدة مما يُحسن ويتقن، وصارت المعادلة
الجديدة: قيمة وجودي مستمدة من مقدار ما أملك، ومقدار ما أستهلكُ! وهذا ولَّد
الخوف الدائم من ذهاب الملكية؛ لأن ذهابها ذهاب لمالكها؛ واقتضى ذلك مزيداً من
الشح والأثرة والتقاطع ...
4 - علاقتنا بالمعرفة تبدلت؛ فقد كان حب العلم واكتساب المعرفة من أجل
الفقه في الدين وتنمية الشخصية ومعرفة الحياة ... وكانت العملية التعليمية عبارة
عن اندماج بين العلم وطالبه، أما الآن فقد صارت علاقة طالب العلم بما يطلب
علاقة تجارية بحتة، فهو يتعلم لينال الشهادة؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي
عند إفراغها على الورق في الامتحان!
5 - السمات الأساسية للجوهر هي: الاستقلالية، والحرية، وحضور العقل
النقدي، والاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية، والنمو، والتدفق، لكن العلاقات
الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية الجديدة جعلت أنشطة الإنسان عبارة عن
انشغال دائم مفصول تماماً عن قواه الروحية، بل يقف ضدها، ويحد من فاعليتها
في كثير من الأحيان؛ مما أدى إلى الاتكالية والسأم والتذمر، وجعل الحياة تفقد
طعمها الحقيقي بشكل عام.
6 - كانت عواقب الاتجاه إلى الشكل والتغافل عن المضمون كثرَة اللذائذ
وانعدام السعادة! واللذة إشباع الرغبة على نحو لا يتطلب نشاطاً، مثل لذة الحصول
على مزيد من الربح، أو هي: تجربة لحظة من لحظات الذروة يعقبها في الغالب
نوع من الكآبة، ولا سيما حين تكون غير مشروعة، حيث يبدأ التقريع الداخلي.
أما السعادة فهي: شعور مصاحب للنشاط الإنساني؛ وهي أقرب إلى أن تكون
حالة من الوجود المتصل على ربوة رحبة؛ لأنها وهجٌ لكينونة الإنسان، ونشاطه
الداخلي.
ويمكن القول: إن السعادة في مقياسنا الإسلامي تتعاظم كلما ردم المسلم من
الفجوة القائمة بين معتقداته وسلوكياته، حيث يرضى المسلم عن أدائه، ويستشرف
عاقبة المتقين.
كل هذه التحولات باتجاه الشكليات جعلت كثيراً من أمة الإسلام قوة عددية
ليس إلا؛ لأن الذي يفقد الصلة بمكوناته الأساسية لابد أن يصبح شكلياً. فهل تعيد
الصحوة المباركة الأمر إلى نصابه بإعادة التوازن من جديد بين الشكل والمضمون،
والجوهر والمظهر لنستأنف رسالتنا الحضارية؟ ! هذا ما نرجوه. وعلى الله قصد
السبيل.
__________
(1) المنافقون: 4.
(2) تفسير القرطبي 18 / 124.
(3) أخرجه البخاري.
(4) ننصح بالرجوع إلى كتاب الإنسان بين الجوهر والمظهر الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت وقد أفدت منه هنا في بعض ما كتبت.
(5) أخرجه مسلم وغيره.
(6) النحل: 6 ومثل هذا قوله سبحانه: [والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً] .(68/6)
أهل السنة
يعرفون الحق ويرحمون الخلق
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله
وصحبه أجمعين.
... أما بعد:
إن من القضايا الملحة التي ينبغي الاعتناء بها علماً وعملاً موضوع الصفات
السلوكية والأخلاقية عند أهل السنة والجماعة. فإن الناظر إلى واقع كثير من دعاة
أهل السنة يرى ما هم عليه من تفرّق وخصومة وتناحر بل ربما تجاوز ذلك إلى حد
التضليل والتفسيق.
ويبدو أن من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى هذا الواقع المحزن الغفلة عن
الالتزام بالصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة، فأنت ترى أن أولئك الدعاة على
توجه واحد، ومنهج واحد في الاستدلال، ومع ذلك كله فلا اجتماع ولا وئام، بل
تشرذم وتناحر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد اعتنى السلف الصالح بالجانب السلوكي الأخلاقي علماً وفقهاً، كما حققوه
عملاً وهدياً، بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة
في ثنايا كتب العقيدة، وعلى سبيل المثال فهذا قوام السنة إسماعيل بن محمد
الأصبهاني (ت 535هـ) يقول:
«ومن مذهب أهل السنة التورّع في المآكل والمشارب والمناكح، والتحرز
من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحاب في الله عز وجل، واتقاء الجدال
والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم،
والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وغضّ الطرف عن
الريبة والحرمات، ومنع النفس عن الشهوات، وترك شهادة الزور وقذف
المحصنات، وإمساكُ اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم
الغيظ، والصفح عن زلل الإخوان، والمسابقة إلى فعل الخيرات، والإمساك عن
الشبهات، وصلة الأرحام، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله، والشفقة على
خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة القرآن، والبدار إلى أداء الصلوات [1] .
والحديث عن تلك الصفات السلوكية حديث طويل، ولكن حسبي في هذه
المقالة أن أشير إلى إحدى تلك الصفات المهمة، ألا وهي أن أهل السنة يعلمون
الحق، ويرحمون الخلق، فإنهم أصحاب هدى واتباع، وأرباب عمل واقتداء،
ومن ثم كانوا أعلم الناس بالحق، وأحرص الناس على تبليغ الدين والدعوة إليه،
ومنابذة أهل الأهواء والبدع، وفي الوقت نفسه فإنهم يرحمون الخلق، ويريدون لهم
الخير والهدى، ولذا كانوا أوسع الناس رحمةً وأعظمهم شفقة، وأصدقهم نصحاً.
يقول ابن تيمية في هذا المقام:
» وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة،
فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة ويعدلون على من
خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تَعالَى: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ويرحمون الخلق،
فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم،
وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق « [2] .
ويقول ابن رجب في هذا الصدد:
» كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون
إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والإلهية،
ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده.
وكانت الرسل وأتباعهم يصبرون على الأذى في الدعوة إلى الله ويتحملون في
تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية المشقة وهم صابرون بل راضون بذلك، كما كان
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول لأبيه في خلافته: «إذا
حُرِص على تنفيذ الحق وإقامة العدل يا أبت لوددت أني غَلَتْ بي وبك القدور في
الله عز وجل» وقال بعض الصالحين: «وددت أن جسمي قُرِّض بالمقاريض،
وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل» ومعنى هذا أن صاحب ذلك القول قد
يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب الله، وأحب أن يقيهم من عذاب
الله بأذى نفسه، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته، وما يستحقه من الإجلال
والإكرام والطاعة والمحبة، فود أن الخلق كلهم قاموا بذلك، وإن حصل له في نفسه
غاية الضرر « [3] .
إن التزام أهل السنة بالعلم والعدل أورثهم هذه الخصلة الرفيعة، فمسلك أهل
السنة قائم على العلم والعدل، لا الجهل والظلم، حتى كان أهل السنة لكل طائفة من
المبتدعين خير من بعضهم لبعض» بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض
الرافضة لبعضهم، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا
ينصف بعضنا بعضاً لقد تلقى أهل السنة هذه الصفة الحميدة من صاحب الخلق
العظيم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلقد كان -عليه الصلاة والسلام - أعلم
الناس بالحق، وأعظم الناس رحمة ورأفة، فمن أجل إظهار الحق بلّغ الرسالة،
وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، ومن أجل نصرة الحق نجده -صلى الله
عليه وسلم- يغضب أشد الغضب، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب،
وكل ذلك حين رأى بعض أصحابه - رضي الله عنهم - يتخاصمون في القدر، ثم
قال: «مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم
الكتب بعضها ببعض: إن القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا، وإنما نزل يصدق
بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» [4] .
ومع ذلك كله فقد كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، قال تعالى:
[لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] .
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «قالت: ما خير رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان
إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، إلا
أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها» .
وتأمّل - أخي القارئ - ما لقيه -صلى الله عليه وسلم- من أنواع الأذى في
سبيل دعوته ونصحه للخلق، ولما سألته عائشة -رضي الله عنها قائلة: «يا
رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد» فقال: «لقد لقيت من قومك
وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد
كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا
بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك
ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال وسلّم علىّ ثم قال: يا
محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك لتأمرني
بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به
شيئاً» ، أخرجه الشيخان.
ولقد سار سلف الأمة على ذلك، فهذا أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه -
يقول الحق، ويرحم الخلق، فإنه لما رأى سبعين رأسا من الخوارج، وقد جزت
تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق، فقال رضي الله عنه إعلاماً بالحق:
«سبحان الله، ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت
ظل السماء» .
ثم بكى قائلاً: «بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام» [5] .
وهذا الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله - يثبت على كلمة الحق
لا يخشى في الله لومة لائم، فيقول بكل يقين: القرآن كلام الله غير مخلوق،
ويصبر الإمام على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة -
آنذاك -، ومن تبعهم من خلفاء كالمأمون، والمعتصم، والواثق.
«ولما جاءه أحدهم وهو في السجن فقال: يا أبا عبد الله عليك رجال، ولك
صبيان، وأنت معذور - كأنه يسهل عليه الإجابة -، فقال الإمام أحمد: إن كان
هذا عقلك فقد استرحت [6] .
ومما قاله الإمام الذهبى - رحمه الله - في شأن محنة الإمام أحمد:
» الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز
عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملاً، فهو صدّيق، ومن
ضَعُفَ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا
بالله « [7]
لقد كان الإمام أحمد بن حنبل رجلاً ليناً، لكن لما رأى الناس يجيبون
ويعرضون عن الحق، عندئذ ذهب ذلك اللين، وانتفخت أوداجه، واحمرت
عينا [8] .
ومع ذلك البطش والجدل والسجن من قبل أولئك الخلفاء إلا أننا نجد هذا الإمام
يقول:
كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم-
في حل ورأيت الله يقول:» وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم «
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بالعفو في قصة مسطح - ثم قال - وما
ينفعك أن يعذِّبَ الله أخاك المسلم في سبيله؟» [9] .
وهاك مثالاً ثالثاً لأئمة أهل السنة، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يقرر عقيدة السلف الصالح، ويجاهد بلسانه وسنانه طوائف الزيغ والانحراف،
فيرد على أهل الكتاب ويقمع أكاذيب الباطنية، ويناظر الصوفية وأهل الكلام ...
وكل ذلك من أجل بيان الحق وتبليغه.
وفي الوقت نفسه فقد كان -رحمه الله- من أعظم الناس شفقة وإحساناً، وإليك
المشاهد الدالة على ذلك:
يقول ابن القيم: «جئت يوماً مبشراً له (أي لابن تيمية) بموت أكبر أعدائه،
وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت
أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا
وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له» [9] .
ولما مرض ابن تيمية - مرض الوفاة - دخل عليه أحدهم، فاعتذر له،
والتمس منه أن يحلله، فأجاب الشيخ: «إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا
يعلم أني على الحق، وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل ذلك غيره ... » [10] .
وقال أحد خصومه (ابن مخلوف) : «ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه
فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا» [11] .
وأخيراً أدعو إخواني إلى ضرورة معرفة الحق ورحمة الخلق، وأن نهتم
بتحقيق العلم والعدل في هذا الشأن، وأن نسعى جادين صادقين إلى تحقيق منهج
أهل السنة عقيدة وسلوكاً، والله المستعان.
__________
(1) الحجة في بيان المحجة 2 / 528 وانظر عقيدة السلف للصابوني (ت 449 هـ) ص 97 - 99 واعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي (ت 371 هـ) ص 78، وانظر آخر مبحث في العقيدة الواسطة لابن تيمية.
(2) الرد على البكري ص 257.
(3) شرح حديث ما ذئبان جائعان ص 19.
(4) أخرجه أحمد 2 / 181، 195 وابن ماجه (85) .
(5) انظر تفصيل ذلك في الاعتصام للشاطبي 1/71 - 73.
(6) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 24.
(7) أسير أعلام النبلاء 9 / 234.
(8) المرجع السابق 9 /238.
(9) مدارج السالكين 2/345.
(10) الأعلام العلية ص 82.
(11) الباب الثالث 14 /54.(68/13)
دراسات في الأصول
سد الذرائع
(1)
هيثم الحداد
من خصائص هذه الشريعة وميزاتها صلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو ما
يُعبّر عنه أحياناً بالشمولية.
فأدلتها الأساسية وهي نصوص الكتاب والسنة، وما ثبت من الإجماع - الذي
هو بمثابة النصوص أيضاً - محصورة، لكنها مع ذلك صالحة للاستدلال على
الوقائع المتجددة، التي لم تكن جزءاً من الواقع عند تنزل النصوص.
ولقد بذل علماء هذه الأمة جهودا عزّ نظيرها في خدمة هذا الدين، وإن من
أعظم جهودهم في ذلك استقراءهم نصوص الكتاب والسنة، وإعمال النظر فيها،
فألفوا بين النصوص ذات الدلالات المتشابهة، وخرجوا بقواعد كلية، تنتظم تحتها
جملة من الفروع الفقهية، فإذا صحت هذه القواعد على ما وقع، فإنها تصح كذلك
على ما يقع، سواء أتى النص بحكمه أم لا.
ومن هذه القواعد، قاعدة «سد الذرائع» وهي قاعدة عظيمة، لها تطبيقات
عديدة، سيما في عصرنا الحاضر، حيث كثرت نوازله، وتعقدت مسائله، فهي
جديرة بالبحث.
* تعريف «الذرائع» لغة:
الذرائع جمع ذريعة، وهي الوسيلة، والسبب إلى الشيء، أصلها لغة من
ذرع [1] .
ف «سد الذرائع» لغة: سدّ الطرق حتى لا تؤدي إلى نتائجها وآثارها،
بصرف النظر عن كون هذه الآثار محمودة أو مذمومة [2] .
* تعريف «الذرائع» اصطلاحاً:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الذريعة هي الوسيلة، لكنها
أصبحت في عرف الفقهاء عبارة عمّا أفضى إلى فعل محرّم» [3] .
وعرفها القرطبي - رحمه الله - بقوله: «عبارة عن أمر غير ممنوع في
نفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع» [4] . وهذا من أرجح ...
التعريفات [5] .
وعلى هذا فالذريعة بالمعنى الاصطلاحي هي أحد أفراد الذريعة بالمعنى
اللغوي، يؤكد ذلك ما قاله القرافي رحمه الله: «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها
يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة
المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج. وموارد الأحكام
على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة المصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل،
وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم، وتحليل،
غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسائل إلى أفضل المقاصد أفضل
الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة» [6] .
فللذريعة - إذن - ثلاثة أركان، هي:
الوسيلة، والمتوسَّل إليه، والواسطة بينهما، أو إفضاء الوسيلة إلى المتَوسَّل إليه.
ومثال ذلك: بيع العنب، فهو وسيلة غير ممنوعة في نفسها، واستخدام هذا
العنب في صناعة الخمر هو المتوسَّل إليه، ودرجة الإفضاء هو قوة ثبوت استخدام
هذا العنب الذي بيع في صناعة الخمر، ولهذه درجات متفاوتة.
وعلى هذه الأركان تُبنى جلّ مباحث الذرائع: تقسيماتها، وأحكامها، بل حتى
تعريفها، ولذلك فإن دراسة كل ركن من هذه الأركان على حدة من الأهمية بمكان.
الركن الأول: الوسيلة:
وهي الأساس - الذي تقوم عليه الذريعة، فبوجودها توجد باقي الأركان.
والتعبير عن هذه «الوسيلة» بأنها «أمر غير ممنوع في نفسه، يدخل
المباح، والمندوب، والواجب، ويُخرج ما كان ممنوعاً في نفسه، كشرب الخمر،
فهو ذريعة للفرية، والزنى، فهو ذريعة لاختلاط الأنساب، لكنهما محرمان في
أنفسهما، حتى ولو لم يؤديا إلى تلك المفاسد..
الركن الثاني: المتوسَّل إليه:
ولابد أن يكون أمراً ممنوعاً، إذ لو كان أمراً جائزاً، لانتقلنا من الحديث عن
الذريعة بالمعنى الاصطلاحي إلى الذريعة بالمعنى اللغوي.
ويُفهم من عبارات العلماء إرادة مطلق المنع أو التحريم، ولم يحددوه بدرجة
معينة؛ إذ المنع تختلف درجاته - كما هو معلوم -، فيتبع ذلك اختلاف قوة منع
الوسيلة المفضية إليه، فما كان المنع منه أقوى كالاعتداء على الضروريات الخمس، كان المنع من الوسائل المفضية إليه أقوي، فالشريعة - مثلاً - جاءت بسد أى
وسيلة تؤدي إلى المساس بالدين، سواء أكان بالابتداع فيه، أو التساهل في أمره،
ولو كان في المحافظة عليه ذهاب الأنفس والأموال، لأنه أهم الضروريات.
الركن الثالث:
إفضاء الوسيلة إلى المتوسل إليه؛ وهو الذي يصل بين طرفي الذريعة:
الوسيلة والمتوسل إليه.
والبحث في هذا الركن يكون في قوة الإفضاء هذه، فهناك وسائل يكون
إفضاؤها إلى المحذور ضعيفاً، كزراعة العنب مطلقاً؛ فإنه وسيلة إذ قد يتخذه
بعض الناس لصناعة الخمر، فهل تُمنع زراعته؟ وإذا بيع لمن يصنع منه الخمر،
فإنه يصبح ذريعةً إفضاؤُها إلى المتوسل إليه قوية.
وضابط هذا الركن من أهم أسباب الخلاف في تعريف العلماء للذريعة؛ لأن
قوة الإفضاء تختلف، ودرجاتها ثلاثة: ضعيفة، وقطعية، وما بينهما.
وعلى هذا فالمقصود بسدِّ الذرائع شرعاً:» حسم مادة الفساد بقطع
وسائله [7] .
أقسام الذريعة وأحكامها:
بالنظر إلى التعريف السابق للذريعة، وإلى حال كل ركن من أركانها على
حدة نحصل على الأقسام الآتية:
القسم الأول:
وضابطه أن قوة الإفضاء فيه نادرة، سواء أكانت الوسيلة:
أ - واجبة؛ كالذهاب إلى صلاة الجماعة في المساجد لسامع النداء؛ إذ قد
يتعرض بيته وماله إلى السرقة.. وهكذا.
ب - أو مندوبة؛ كالصدقة على عموم المسلمين الذين لا يُدرى ما حالهم.
ج - أو مباحة؛ كالتجاور في البيوت؛ فإنه يفضى نادراً إلى الزنى.
وحكم هذا القسم الجواز في صوره الثلاث؛ لأن النادر لا حكم له.
القسم الثاني:
وهو أنواع، تشترك في أن قوة الإفضاء: إما قطعية، أو غالبة، أو كثيرة
ولكن ليست بغالبة، فيحصل لدينا ثلاثة فروع:
1 - وسيلة مباحة تؤدي إلى محرّم، كالسفر إلى البلاد التي تكثر فيها
المنكرات، وارتياد الأماكن العامة إذا أدى ذلك إلى رؤية المنكرات وعدم إنكارها أو
أدى إلى النظر إلى العورات. وكقيام ذي الهيئة الذي يُتخذ في الناس قدوة بفعل
مباح على وجه يسئ الجاهل فهمه، فيعتقد حل محرم أو تحريم حلال، ومن ذلك
تولي الولايات في الجهات أو المؤسسات التي يلتبس أمرها على العامة، فإن رأوا
فيها الدَّيِّنَ الثّقة، ظنوا صلاحها وشرعيتها.
أما حكم هذه الذريعة فهو السدّ؛ لأنها تؤدي إلى مفسدة أكبر من المصلحة
المترتبة على فعلها..
2- وسيلة مندوبة تؤدي إلى محرّم، كالسفر إلى الحج النافلة، أو إلى الدعوة
غير الواجبة إذا كان ذلك يؤدي إلى تضييع حق الأولاد، أو يغضب الوالدين.
وحكم هذه الذريعة المنع أيضاً؛ لأن مفسدتها أعظم من مصلحتها.
3- وسيلة واجبة تؤدي إلى محرم، وهذه موطن رحب للاختلاف، وإعمال
الاجتهاد، فمن العلماء من يرى منعها مطلقا، تغليبا لجانب الخطر على الإباحة.
والأمر يحتاج إلى نوع تفصيل، يعتمد على القاعدة الأساس في الحكم على
الذرائع، وهي: «إذا تعارضت مفسدتان دُفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما» .
ومن صور هذا الفرع، إذا كانت الوسيلة واجبة ضرورية متعلقة بفرد واحد،
تؤدي إلى متوسَّل إليه ممنوع متعلق بأمر ضروري أيضاً، لكنه متعلق بمجموعة،
فما الحكم؟
والأمثلة الواقعية على ذلك كثيرة، وكل مسألة تحتاج إلى دراسة مستقلة حسب
ظروفها، وملابساتها، وما يحيط بها.
* تحرير محل النزاع بين العلماء في سد الذرائع:
تنقسم الذرائع من حيث الحكم عليها إلى ثلاثة أقسام:
أ- قسمٌ أجمع العلماء على سده، بصرف النظر: هل يُعتبر من باب
«الذرائع» أم لا؟ فبيع العنب لمن يتخذه خمراً، وإلقاء السُّمِّ في أطعمة المسلمين،
ونحوهما من الأعمال ممنوعة سواء أسميت «ذرائع» أم لا، وسواءً أكان
الاستدلال على منعها بقاعدة «سد الذرائع» ، أو بقواعد شرعية أخرى، كاستدلال
ابن حزم - وهو ممن لا يرى العمل بسد الذرائع - على حرمة ما ذُكر بقاعدة تحريم
التعاون على الإثم والعدوان.
فالخلاف المتعلق بهذا القسم خلاف لفظي لا ثمرة له، ومنشأ الاختلاف مبسوط
في كتب الأصول.
ب - قسم أجمع العلماء على عدم سدّه، سواء سمي ذرائع أم لا، وذلك مثل
زراعة العنب مطلقاً، فلا تمنع خشية أن يستخدمه بعض الناس لزراعة الخمر.
ج - القسم الثالث هو موطن النزاع، الذي وقع فيه خلاف حقيقي، والخلاف
فيه بالتحديد في صورتين:
الأولى: ما هي درجة الإفضاء التي يحكم عندها بمنع الوسيلة، هل هي
الدرجة القطعية، أم الظنية ظناً غالباً - وإن لم يكن كثيرا -، أم الدرجة الكثيرة؟
بمعنى هل يُلحق الكثيرُ غيرُ الغالب، بالغالب، فيأخذان حكم القطعي؟ الظاهر -
والله أعلم - أنهما يلحقان بالقطعي، فيحكم عندئذ بسد الذرائع، وذلك من أجل
الاحتياط، ولأن كثرة وقوع المفاسد مع قابليتها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع، ثم إن
الشرع ورد بتحريم أمور كانت في الأصل مباحة؛ لأنها تؤدي في كثير من الأحيان
إلى مفاسد، حتى وإن لم تكن غالبة [8] .
الثانية: هل العبرة في العقود بمجرد الظاهر - كما يرى ذلك الشافعية - أو
أن للقصد تأثيراً في الحكم على الذريعة؟ بمعنى: هل يمنع الفعل الذي يؤدي إلى
ممنوع حتى وإن لم يقصد صاحبه ذلك الممنوع؟ كمن يسب آلهة المشركين أمامهم،
غيرة على دينه، مع أن ذلك يؤدي إلى سب الله - تعالى - الذي لا يقصده مسلم.
الراجح أن القصد ليس له تأثير في الحكم على الذريعة، خصوصاً قبل الفعل،
فالكلام في المنع الذي يكون قبل الفعل، لا في التأثيم الذي يبحث فيه بعد الفعل،
وذلك حتى لا يفتح الباب لفعل ذلك مرة أخرى، وحتى لا يتساهل الناس في ذلك،
أو يظنوا حِل ذلك الفعل [9] .
__________
(1) انظر: مادة (ذرع) في: القاموس المحيط، ومختار الصحاح.
(2) انظر: سد الذرائع للبرهاني 52 وما بعدها.
(3) الفتاوى المصرية الكبرى 6/ 174.
(4) انظر: سدّ الذرائع للبرهاني 74.
(5) وهناك تعريفات أخرى انظرها في: البحر المحيط للزركشي 6 / 82.
(6) الفروق 2 / 33، وقارن بما في إعلام الموقعين 3 / 147.
(7) تقريب الوصول لابن جزي 149.
(8) أصول الفقه وابن تيمية لآل منصور 503.
(9) المصدر نفسه 503.(68/20)
خواطر في الدعوة
الهروب إلى الأمام
محمد العبدة
عندما تكون وطأة الواقع ثقيلة قوية، وعندما لا يقوم المسلمون بواجبهم من
الأخذ بالأسباب الشرعية والاهتمام بالعدد والعدة، وعندما يفشلون بسبب أخطائهم
المتكررة، أو مخططاتهم القاصرة، عند ذلك يلجأ بعضهم إلى ما يسمى في علم
النفس بسياسة (التعويض) فتوسوس لهم نفوسهم تخيلات موهومة، وحكايات عجيبة، ... وأشياء مضطربة، تتملكهم وتسيطر عليهم، حتى يظنونها شيئاً وهي ليست
بشيء، وإنما هي أوهام وظنون. فيركضون - مثلاً - وراء (خليفة) وهمي، أو
يقعون في حالة اليأس والإحباط وينتظرون (المهدي) ، أو يذهبون إلى عالم آخر،
عالم الجن والشياطين، فقد حدثني أحد الثقات أنه قد أُلف في بلده وحدها في
السنوات الأخيرة حوالي سبعين كتاباً أو كتيباً عن الجن والشياطين، وغالباً ما تكون
النوايا طيبة في مثل هذه الحالة، ولكن ليس هذا هو الطريق. وقد يهرب أناس من
هذا الواقع الذي يدعوهم للتحدي والتعب والنصب إلى الإغراق في تفاصيل العلوم،
الذي هو من قبيل (تلبيس إبليس) والذي غيره أفضل منه وأولى.
إن حالتهم هذه شبيهة بما وقع للمسلمين بعد القرون المفضلة، عندما هرب
بعضهم إلى التصوف والزوايا والتكايا، ينذرون للأولياء النذور، ويطلبون منهم
الحاجات، فوقعوا في الشرك والكسل والبطالة، كما وقعوا في الأفكار الغامضة
المشوشة.
تكَالب العالمُ في هذه الأيام على المسلمين، ورماهم عن قوس واحدة، وأظهر
ما كان يخفيه من قبل، وبانت عداوته صريحة لا التواء فيها، فماذا يفعل المسلمون؟
هل يجابهون هذا بافتعال أمور ليست صحيحة؟ أم أن الأولى بهم دراسة هذا
الواقع، والتأمل فيه، ومعرفة مكامن القوة ومكامن الضعف، ومجابهة هذا الواقع
بالإمكانات الذاتية والقدرات الموجودة بعد تنميتها وصقلها.
لابد من البحث العميق في نفسية المسلم وعقله وأخلاقه التي تعيق النهوض
والتمكن، والبحث العميق في أسباب التفرق وأسباب التوحد، والإخلاص في ذلك
كله لله. ولابد من تملك ناصية كل العلوم المفيدة التي يأمر بها الإسلام ويحبذها،
لتكون وسيلة من وسائل [وأعدوا....] ولابد من المال الذي يساعد على تحقيق
هذه الأهداف حتى يكون الدين كله لله.
لاشك أن هذه الأمور أصعب على النفس التي تلجأ إلى أحلام اليقظة،
وتستروح رفقة يؤيدون هذا الهروب ويشجعونه سواء أكان عن جهل، أو عن
خفيات الهوى ونزغاته..(68/28)
مصطلحات وتعريفات
الكُفْر
بقلم / عثمان جمعة ضميرية
-1-
الكفر في اللغة هو الجحود. وأصله من الكَفْر، وهو السَّتْر والتغطية.
يقال: كفرتُ الشيء: إذا غطيته. ومنه قيل للَّيل: كافر، لأنه يستر الأشياء
بظلمته.
وسمى الزارع كافرا لأنه يستر الحبَّ بالتراب. وليس الكافر اسما لليل أو
الزارع، ولكنه وصف لهما.
والكفر: ضد الإيمان، سمى بذلك لأنه تغطية وستر للحق، فالكافر ساتر
للحق، أو ساتر لِنَعم الله تعالى عليه.
ويقال: كفر بالله، يكفُر كُفراً، وكفوراً، وكُفرْاناً. وأكفر فلانا: دعاه كافراً.
وتستعمل كلمة «الكُفْر» في الدين أكثر من استعمالها في كفران النعمة،
«الكفران» في جحود النعمة، و «الكَفور» فيهما جميعاً. و «الكافر» عنه
الإطلاق - متعارف فيمن - يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة، أو يجحدها
جميعاً [1] .
وأما تعريف الكفر اصطلاحاً، فيقول ابن تيمية في ذلك: - «الكفر: عدم
الإيمان، باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أولم يعتقد شيئاً ولم يتكلم» مجموع الفتاوي 20/86.
ويقول أيضاً: - «إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-
فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود
ونحوهم» درء تعارض العقل والنقل 1/242.
ويعرف ابن حزم الكفر بهذه العبارة:
وهو [أي الكفر في الدين] : صفة لمن جحد شيئاً مما افترض الله تعالى
الإيمان به بعد قيام الحجة عليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان.
ويقول السبكي: «التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية،
أو الرسالة، أو قولٌ أو فعلٌ حكم الشارع بأنه كفر، وإن لم يكن جحدا» (فتاوي
السبكي 2 / / 586) .
فالكفرْ اعتقادات، وأقوال، وأعمال، حكم الشارع بأنها تناقض الإيمان.
والكفر حكم شرعي، والكافر من كفره الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
فليس الكفر حقا لأحد من الناس، بل هو حق الله تعالى.
يقول ابن تيمية: - «ولهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم،
وإن كان ذلك المخالف يكفرن؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب
بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزنى بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى. وكذلك التكفير حق الله فلا يُكفر إلا من
كفّره الله ورسوله» الرد علي البكري ص 257.
ويقول ابن الوزير: - «إن التكفير سمعي محض لا دخل للعقل فيه، وإن
الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعياً قطعياً، ولا نزاع في ذلك» العواصم والقواصم
4 / 158.
والكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر.
أما الكفر الأكبر؛ فهو ما يضادُّ الإيمان من كل وجه، ويُخرج صاحبه من
الدين والملة، ويُوجب له الخلود في النار. قال الله تعالى: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا] [البينة: 6]
وهذا الكفر يأتي في النصوص الشرعية مقابلاً للإيمان فيكون ضده. وإذا
أطلق لفظ «الكفر» فإنه ينصرف إلى هذا النوع، فهو الكفر الأكبر الذي يحبط
العمل، ولا يغفره الله لصاحبه إذا مات عليه.
ويتنوع الكفر إلى ستة أنواع، من لقى الله تعالى بواحد منها لم يغفر له،
وهي [2] :
1 - كفر الإنكار، وهو أن ينكر بقلبه ولسانه، ويزعم أنه لا يعرف الله أصلا
ولا يعترف به، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، قال الله تعالى: [إنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] [البقرة: 6] : أي كفروا
بتوحيد الله وأنكروا معرفته.
2 - كفر الجحود، وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقرّ ولا يعترف بلسانه،
فهو كافر جاحد، مثل كفر اليهود وجحودهم لنبوة نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم-، وكتمانهم لصفاته في كتبهم: [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ
والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ]
[البقرة: 159] .
وهذا الجحود قد يكون عاما بأن يجحد جملة ما أنزله الله تعالى أو يجحد إرسال
الرسل، وقد يكون خاصاً مقيداً، بأن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو يجحد
تحريم محَّرم من محرماته.
3 - كفر الشك، حيث لا يجزم بصدق رسول الله ولا بكذبه، بل يشك في
أمره، ولا يستمر هذا الشك إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن آيات الله، ودلائل
صدق الرسول.
4 - كفر الإعراض؛ بأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول -صلى الله عليه
وسلم-، فلا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه. وبينه وبين ما سبق صلة.
5 - كفر النفاق، بأن يظهر بلسانه الإيمان، وينطوي قلبه على التكذيب،
وهو النفاق الاعتقادي.
6 - كفر العناد؛ وهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف ويقرّ بلسانه، ويأبى أن
يقبل الإيمان أو أن يدين به، فهو كفر إباء واستكبار، مثل كفر إبليس.
- وما أكثر الأبالسة اليوم - فإنه لم يجحد أمر الله تعالى، وإنما تلقاه بالإباء
والاستكبار. وكذلك كفر فرعون وأبي طالب إنما هو من هذا اللون.
وأما الكفر الأصغر فهو مخالفة لحكم من أحكام الشريعة، ومعصية عملية لا
تُخْرج عن أصل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار دون الخلود فيها،
وسميت كفرا لأنها من خصال الكفر. [3]
ويمكن تعريفه بأنه كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر ولم تصل إلى
حد الكفر.
وهذا النوع من الكفر يسميه بعض العلماء: الكفر العملي، الذي يقاب الكفر
الاعتقادي. وهو أيضاً: كفر النعمة، مع العلم أن الكفر العملي ينقسم إلى: ما لا
يخرج عن الملة كالطعن في الأنساب والنياحة على الميت.
وقسم يخرج عن الملة كالسجود لغير الله، وإهانة المصحف.
ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر الأكبر في عصرنا الحاضر: الامتناع عن
الحكم بشريعة الله تعالى، وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً عنها.
إن الحكم بما أنزل الله تعالى وحده هو إفراد الله بالطاعة، قال تعالى:
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] .
والإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق
بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير تشريع الله، كالذي
يعبد الصنم، ويسجد للوثن، لا فرق بينهم البتة.
ويكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبراً في عدة حالات منها:
1 -أن يجحد أو ينكر الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الشريعة.
2 -أن يفضل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى.
3 - أن يساوي بين حكم الله تعالى حكم الطاغوت.
4 - أن يجوز الحكم بما يخالف حكم الله وروسوله، أو يعتقد أن الحكم بما
أنزل الله تعالى غير واجب، وأنه مخير فيه.
5 - من لم يحكم بما أنزل الله إباءً وامتناعاً، فالكفر ليس تكذيبا فحسب، بل
قد يكون امتناعاً عن اتباع الرسول مع العلم بصدقه، والإيمان قول وعمل،
وتصديق وانقياد، فلا يتحقق الإيمان مع ترك الانقياد والطاعة.
__________
(1) انظر: الزاهر للأزهري ص: (379) ، معجم مقاييس اللغة: 5/9، لسان العرب: 5/144 الكليات للكفوي: 2/535، مفردات القرآن للراغب ص (434) ، المغُرِب للمطرزي: 2/224.
(2) هذا التقسيم نجده عند علمائنا قديما، فهو في الزاهر للأزهري ث (380 - 381) وتفسير البغوي: 1 / 64 طبعة دار طيبة وشهره ونشره الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن قبله ابن القيم - رحمهم الله تعالى.
(3) فتح البارى لابن حجر: 1 / 83 - 84، شرح النووي على صحيح مسلم: 2/49-50.(68/30)
من فقه الدعوة
دعوة إبراهيم عليه السلام
(3)
أساليب إبراهيم عليه السلام في نشر دعوته
محمد بن عبد العزيز الخضيري
1- تقرير توحيد الألوهية ببيان دلائل الربوبية:
جميع دعوات الرسل قائمة على تقرير توحيد الألوهية الذي من أجله خلق الله
الثقلين [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ، وهو الذي اختلف الناس فيه،
ووقع لديهم بسببه زيغ عظيم، ولذلك أخبرنا الله عن هدف بعث الرسل بقوله
[ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] .
أما توحيد الربوبية: فأكثر الناس متفقون عليه، وهو الإقرار لله بالخلق
والتدبير والملك [ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] وتوحيد
الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فالذي يستحق العبادة وحده هو الذي يخلق
ويرزق، ويحي ويميت، وينفع ويدفع، ويملك ويدبر، وقد بيّن الأنبياء لأقوامهم
هذا أتم بيان، ومنهم إبراهيم [إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وتَخْلُقُونَ إفْكاً إنَّ الَذِينَ تَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ
تُرْجَعُونَ] فبين أن الله هو الرزاق، فهو إذن المستحق للعبادة دون سواه ممن لا
يملكون لأنفسهم - فضلاً عن غيرهم - رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً، وقال: [أَفَرَأَيْتُم
مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي
خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ * وإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ... ] وأمثلة ذلك كثيرة.
2 - التصريح بقصد النصيحة وأنه لا هدف للداعي إلا نفع المدعوين وأنه لايريد على ذلك حظا من الدنيا:
إن إعلان الداعية عن هذا للمدعوين من شأنه أن يلين قلوبهم، ويدعوهم إلى
تأمل ما يُدعون إليه، ولقد درج على ذلك الأنبياء جميعاً، فقال نوح: [ويَا قَوْمِ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ..] وقال هود: [يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الَذِي فَطَرَنِي] وفي سورة الشعراء ذكر الله: [ومَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ] ذكرها عن نوح وهود وصالح
ولوط وشعيب، وقال محمد -صلى الله عليه وسلم-: [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ
لَكُمْ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] .
وحكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه: [يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ
مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ ولِياً] فهو لا يريد شيئاً من أبيه، وإنما يخاف عليه من
عذاب الرحمن، فيكون ولياً للشيطان، وتأمل في العبارات التي نطق بها إبراهيم:
(أخاف) و (يمسك) و (عذاب من الرحمن) تُلفها تعبر بصدق عما يكنه إبراهيم لأبيه.
3 - الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة:
وقد جاءت جلية في دعوته لأبيه وخطابه الرقيق الحاني المتدفق ليناً - وعطفاً
ولطفاً، اتباعاً للحكمة التي تقرب المدعو من الدعوة وتلين قلبه للاستجابة.
4 - التشنيع على المعبودات الباطلة وعابديها:
لما بين إبراهيم لقومه دعوته، وألان لهم الخطاب، لعنهم يستجيبون، وما
زادهم ذلك إلا التمادي في باطلهم، فما كان من إبراهيم إلا أن أظهر تهافت
معبوداتهم وأحنق النكير عليهم، فقال: [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ]
فسماها تماثيل ولم ينعتها بوصف (الألوهية) ، ولما ظهر له أنهم لا يعتمدون فيما
فعلوا على حجة وبرهان قال لهم: [لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] وزاد
فقال: [أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] ولقد برهن لهم على
سفههم ما سوغ في تهكمه بتصرفاتهم حيث سألهم: [هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ * أَوْ
يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ] فإن أقل ما يقال في هؤلاء المعبودين أنهم لا يسمعون
كعابدين فكيف يجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضراً؟
5 - التذكير بنعم الله على عباده:
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ولذلك عنىَ الدعاة إلى الله بتذكير
الخلق إحسان الله إليهم ليكون ذلك أدعى إلى قبول الدعوة فهذا هود يقول:
[واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] . وقال صالح: [واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] وأما إبراهيم فقال: [أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ * وإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ] .
6 - التذكير بأيّام الله:
ما من أمة تَخْلف في الأرض إلا وتنظر في أحوال من سلف من الأمم تتبع
مواطن العبرة فيها، فتستفيد من الإيجابيات، وتحذر من السلبيات، وكان أنبياء الله
يذكرون أممهم بأحوال الغابرين ممن كذبوا أو آمنوا، فيذكرونهم بعاقبتهم،
وينذرونهم أن يحل بهم ما حل بمن كفر من أمم الأرض، لعلهم يتعظون أو
يرتدعون، ولذا قال إبراهيم لقومه: [وإن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ومَا عَلَى
الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] أي فقد كذبت أممٌ أنبياءهم فحل بهم ما تعلمون من
العذاب، فإن فعلتم عوقبتم بمثل عقابهم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
7 - المناظرة والتدرج في إفحام الخصم:
قال ابن القيم في مناظرات إبراهيم: «وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة
المشركين وأهل الباطل، وكسر حججهم، وقد ذكر الله مناظرته في القرآن مع إمام
المعطلين، ومناظرته مع قومه المشركين، وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة،
وأقربها إلى الفهم وحصول العلم [1] » وسنذكر هنا مناظرتين وقعتا لإبراهيم،
وذكرهما القرآن الكريم:
- الأولى: مناظرته لعبدة النجوم قال الله تعالى [وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ
لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا
رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفاً ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ * وحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدَانِ] ... الآية إلى قوله [وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] [*]
لقد عني إبراهيم بإخوانه من الأنبياء بالتوحيد وإيضاحه، والاستدلال له أيما
عناية، وسلك في سبيل بيان الحق، وتزييف الباطل كل وسيلة تؤدي إلى ذلك،
ومنها هذه المناظرة التي قامت بينه وبين قومه لبيان حقيقة ما هم عليه من الضلال.
فأنكر على أبيه اتخاذ الأصنام آلهة، ولما أشرك قومه معه شدد في إعلان
الفكر عليهم، وبين أن ما هم فيه ما هو إلا ضلال يبُين عن نفسه، وذلك ليثير
عواطفهم، ويدفعهم إلى التفكير الجاد العميق فيما هم فيه، وكان إبراهيم قد بصره
الله بالدلائل الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى، فآراه آياته في ملكوته، ليعلم
حقيقة التوحيد، أو ليزداد علما به، ويقينا إلى يقينه.
وأرشده إلى طريقة الاستدلال بها على المراد من العباد.
ودخل إبراهيم مع قومه الصابئة الذين يعبدون النجوم، ويقيمون لها الهياكل
في الأرض، دخل معهم في مناظرة لبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب المعبودة،
ولم يشأ أن يقرر التوحيد مباشرة. بل جعل دعوى قومه موضوع بحثه، وفرضها
فرض المستدل لما لا يعتقده، ثم كر عليها بالنقض والإبطال، وكشف عن وجه
الحق، فحينما أظلم الليل ورأى النجم قال: هذا ربي فرضا وتقديرا، وقال: أهذا
ربي، فلما غاب عن أعينهم علم أنه مسخر ليس أمره إليه، بل إلى مدبر حكيم
يصرفه كيف شاء، ثم انتقل بهم في البحث إلى كوكب هو في أعينهم أضوأ وأكبر
من الأول، وهو القمر، فلما رآه قال مثل مقالته الأولى، فلما ذهب عن أعينهم
تبين أنه ليس بالرب الذي يجب أن تألهه القلوب، ويضرع العباد إليه في السراء
والضراء، ثم انتقل بهم إلى معبود لهم آخر أكبر جرماً من السابقين فلما أفل، قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
حنيفا وما أنا من المشركين، فاستدل بما يعرض لها من غيرها على أنها مأمورة
مسخرة بتسخير خالقها.
فإذا كانت هذه الكواكب الثلاثة في نظرهم أرفع الكواكب السيارة وأنفعها قد
قضت لوازمُها بانتقاء سمات الربوبية والألوهية عنها، وأحالت أن تستوجب لنفسها
حقاً في العبادة فما سواها من الكواكب أبعد من أن يكون لها حظ ما في الربوبية أو
الألوهية، ولذا أعلن إبراهيم في ختام مناظرته براءته مما يزعمون من الشركاء،
وأسلم وجهه لفاطر السماوات والأرض ومبدعهما، دون شريك أو ظهير، وضمَّن
إعلان النتيجة الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، وهذا هو معنى (لا
إله إلا الله) فإن ما فيه من البراءة من الشركاء نظير نفي الألهية الحقة عن الشركاء
في كلمة التوحيد، وبهذا يكون إبراهيم قد سنَّ للدعاة إلى الله أسلوبا متميزا في دعوة
المنحرفين، وذلك بالتنزل معهم بالتسليم بأباطيلهم فرضاً، ثم يرتب عليها لوازمها
الباطلة، وآثارها الفاسدة، ثم يكر عليها بالنقض والإبطال، فإن الدعوة إلى الحق
- كما تكون بتزيينه، وذكر محاسنه - تكون بتشويه الباطل، وذكر مساويه
ومخازيه (بتصرف من مقالة الشيخ عبد الرازق عفيفي في مجلة التوعية الإسلامية
عدد 6، 7) .
الثانية: مناظرته للملك في قوله تعالى _[أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَذِي يُحْيِي ويُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ
قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَذِي كَفَرَ
واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [البقرة: 258] .
لقد جادل الملكُ إبراهيم في ربه، وفي ذكر الرب وإضافته إلى الضمير العائد
على إبراهيم تشريف لإبراهيم وإشعار بأن الله سيتولاه وينصره.
ولماذا يجادله؟ لأن الله آتاه الملك، فحمله كبره وبطره على طلب المخاصمة، ولم يكن بسبب إيثاره الحق وطلبه له.
وكان الملك قد طلب من إبراهيم عليه السلام أن يقيم له الدليل على وجود
الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: «ربي الذي يحيي ويميت» أى أن الدليل
على وجوده هو: هذه المعجزة المتكررة الظاهرة المستترة، معجزة الحياة والموت، عندئذ قال الملك «أنا أحيي وأميت» فآتى برجلين استحقا القتل فأمضيه في
أحدهما دون الآخر، فأكون قد أحييت الثاني، وأمت الأول، وهذه مكابرة صريحة، وعناد ظاهر، يعلمه كل ذي عقل، ولذلك ترك إبراهيم الخوض معه في مكابرته، وجاءه بواقعة لا يحير معها جوبا، قال: «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق
فأت بها من المغرب» أي إذا كنت قادراً على الإحياء والإماتة، وهما من صفات
الرب، فيلزم أن يكون بمقدورك التصرف في الكون، وأن تأتي بالشمس من
المغرب، عندئذ بهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.
إن انتقال إبراهيم من دليل إلى آخر دون مناقشة لإجابة الملك الساذجة ليس
عن هزيمة؛ لأن حجته كانت قائمة، إذ إبراهيم وكل عاقل يعلم أن المراد حقيقة
الإحياء والإماتة، أما ما فعله الملك فأمر يقدر عليه كل أحد، حتى إبراهيم كان
يمكن أن يقول له: إني أردت حقيقة الإحياء والإماتة، أما هذا فأنا أفعل مثله،
ولكن إن قدرت على الإماتة والإحياء فأمت هذا الذي أطلقته من غير استخدام آلة
وسبب، وأحي هذا الذي قتلته، فيظهر به بهت اللعين، إلا أن القوم لما كانوا
أصحاب ظواهر، وكانوا لا يتأملون في حقائق المعاني خاف إبراهيم الاشتباه
والالتباس عليهم، فضم إلى الحجة الأولى حجة ظاهرة، لا يكاد يقع فيها أدنى
اشتباه.
وهذا الانتقال من أحسن ما يكون، لأن المحاجج إذا تكلم بكلام يدق على
سامعيه فهمه، ولجأ الخصم إلى الخداع والتلبيس جاز له أن يتحول إلى كلام يدركه
السامعون، وأن يأتي بأوضح مما جاء به، ليثبت ما يريد إثباته، وهذا لأن الحجج
مثل الأنوار، وضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وهذا لا يكون إلا دليلا
على ضعف أحدهما أو بطلان أثره.
8 - استثارة الخصم:
والمقصود بذلك: تحريك نفوس المدعوين، وتنبيه عقولهم، ولفت أنظارهم
إلى الأمر الذي يدعوهم إليه الداعية.
لقد فعل إبراهيم ذلك حين ترك كبير الأصنام بلا هدم (فجعلهم حطاماً إلا كبيراً
لهم لعلهم إليه يرجعون) وذلك من أجل أن تدور في أذهانهم الأسئلة التالية
- من فعل هذا بآلهتنا؟
- لِم لمْ يدافع الصنم الكبير عن صغاره؟ وهل كان ذلك عن عجز أو عدم
إدراك لما يقع حوله؟
- لِم لمْ يوقع الصنم. الكبير سوءاً بمن فعل ذلك؟
ثم استشارهم مرة أخرى حينما جاؤا إليه يسألونه عمن أوقع ذلك بآلهتهم فقال:
- بل فعله كبيرهم هذا، فنسكب التكسير إلى جماد لا يتحرك، ليقولوا له
مباشرة: إنه لا يفعل شيئاً، وليقروا بضعف هذه الآلهة.
- ولم يكتف بذلك، بل أمرهم أن يوجهوا إليها الأسئلة إن أخبرهم بمن أوقع
بها ذلك، ولذلك أجابوا بكل سذاجة: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» وعند ذلك
انطلق مبادرا «أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، أف لكم ولما
تعبدون من دون الله أفلا تعقلون» .
ثانياً الأساليب العلمية:
وهي كثيرة نختار منها:
1 - القدوة: لقد كان إبراهيم مثالاً يحتذى في الخير، ولذلك وصفه الله بقوله
[إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً] أي جامعا للخير، كلفه الله بأمور فقام بها خير قيام [وإذِ
ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ] وكان الجزاء: [إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً]
فالسبب الذي أهله للإمامة إتمامه الكلمات التي ابتلاه ربه بها، ومن أجل ذلك أُمر
نبينا -صلى الله عليه وسلم- باتباع ملته (ثم أوحينا إليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا)
وأُمرت هذه الأمة أن تأتسي بإبراهيم ومن معه، لكونهم قدوة (قد كانت لكم أسوة
حسنة في إبراهيم والذين معه) والأمر الذي نهينا عن الإقتداء بإبراهيم فيه استغفاره
لأبيه «إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، وما أملك لك من الله من شيء» وقد
تقدم ذكر بعض من صفات هذا النبي الكريم وأساليبه وأعماله وما كان به قدوة
للمصلحين من بعده (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) .
2 - البداءة بالأهم: بدأ إبراهيم بالدعوة إلى توحيد العبادة، وهو أهم ما
يدعي إليه، وأول ما يبدأ به (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم
إن كنتم تعلمون) .
3 - اللين والشدة: وهذا ظهر جليا في دعوته لأبيه، وفي دعوته لقومه، فقد
دعا كلا منهم باللين والاستعطاف، لعل كلامه يتخلل قلوبهم، ولينه يعطف أفئدتهم
لقبول الحق الذي جاء به، ولكن ما زادهم إلا عتوا، فما كان منه إلا أن أغلظ لهم
القول، وشدد اللهجة، ففي اللين قال: [يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا
يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً] وفي الشدة قال: [وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً
إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] .
4- البراءة والمعاداة: التي تعني البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم، وهي
أصل من أصول العقيدة ومن مستلزمات (لا اله إلا الله) . قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» ومفاصلة
خصوم الدعوة ارتفاع بالنفس والعقيدة إلى المستوى اللائق بهما، فلا يستوي حزب
الله الذى كتب الله له العزة والكرامة وحزب الشيطان الذي كتب الله له الذلة والهوان، وفيها إشعار لأولئك الخصوم بأنهم على باطل، وأن الأمر ما وصل بالداعية إلى
المقاطعة إلا لحق يعتنقه ويدعو إليه، فيكون ذلك ردعا لهم عما هم فيه. وفيها قطع
لآمال أعداء الدعوة في الحصول على تنازلات من الدعاة، يستدرجونهم بها.
وقد قال إبراهيم لأبيه حين استكنف واستكبر: (واعتزلكم وما تدعون من دون
الله وأدعو ربي ... ) وجعله الله في براءته من المشركين قدوة، فقال: [قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] . وقد اشتملت هذه الآية على أمور نوجزها فيما
يلي: -
- أن البراءة قائمة على الإيمان بالله فمن كان مؤمنا بالله أحب في الله.
- أنها نهج الأنبياء، فمن أراد النجاة فليلحق بركابهم، ويستن بهديهم.
- أن البراءة ليست من أشخاصهم فحسب، بل ومن آلهتهم، وأفكارهم،
ومذاهبهم.
- أنها مستمرة علنية، وليست مجرد شعور قلبي إلا عند الضرورة.
- أنها مما اتفقت عليه الشرائع، وليست لهذه الأمة الخاتمة فحسب.
- أن دعامتها التوكل على الله والدعاء كما ذكر في ختام الآية [رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] .
- أنه لا فرق في البراء بين قريب أو بعيد مادام قد وحد بينهم كفر أو شرك.
5 - الدعاء والتضرع: وهو السلاح الذي لا يحق للمؤمن أن يسير في ركاب
الحياة بدونه، وقد امتدح الله خليله بدعائه فقال: [إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ]
وقد تقدم معنى (الأواه) ، ولذا تل أن نجد موطنا تذكر فيه دعوة إبراهيم إلا ويذكر
معها جانب من تضرعه ودعائه ومن ذلك: [رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً ... ] ،
[رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] ، [وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ] ، [واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] ، [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وتَقَبَّلْ دُعَاءِ] ، [رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ... ] ، [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ... ] . إلى آخر ما هناك من الدعوات المباركات، التي تضرّع بها إبراهيم، وخلدها القرآن، فكان قدوة في اللجوء إلى الدعاء.
6- تحطيمه للأصنام: لم يكتف إبراهيم في دعوته بالكلمة والحجة التي
أبطل بها حجج الخصوم، بل عضد ذلك بعمل كبير، أقدم عليه بشجاعة وعلو همة، وهو تحطيم الأصنام التي تعلق بها قومه، حتى صرفهم تعلقهم بها عن التفكير في
حقيقتها، والنظر في ماهيتها، فأراد إبراهيم أن يبين عن ذلك بالقول والفعل فكان
بيانه القولي الذي شرحنا طرفا منه فيما تقدم، وكان بيانه الفعلي بما أقدم عليه من
تحطيم الأصنام، وجعلها جذاذاً [إلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ] . والآية هذه
تشير إلى مدي البيان الذي أراد إبراهيم إبلاغه لقومه، فلم تأخذه فورة التكسير
بتحطيمها كلها، بل ترك كبيرها لا لعجز ولا لخوف بل لعلهم إليه يرجعون، فيحقق
إبراهيم غرضه من هذا الأسلوب الدعوي الرائع، وفعلاً لقد كان ما أراده إبراهيم
حين قالوا: [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ] وحينها انقض عليهم كالشهاب:
[أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً ولايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] وتحقق لإبراهيم مراده حين قالوا: [قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ] فالآلهة تحتاج إلى من ينصرها، ويدافع عنها، وتحقق له كذلك حين (رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) ولكنه التعصب الذي ردهم على أعقابهم [ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ] .
7 - الهجرة: ذكر الله تعالى هجرة الخليل في ثلاثة مواطن فقال: [ونَجَّيْنَاهُ
ولُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [وقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي
سَيَهْدِينِ] .
فهو أول من هاجر لله - كما ذكره بعض المحققين - وكانت سنة لمن بعده من
الأنبياء وأتباعهم، وممن عمل بها محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه، فكانت هذه من ثمرات تلك التجربة الإبراهيمية ولونا من الإقتداء به.
إن الهجرة أسلوب يلجأ الدعاة إليه لأن أرضهم ما عادت تقبل الكلمة الطيبة،
فهم يبحثون عن أرض طيبة تحمل دعوتهم، أو لأن القوم المعرضين بدأوا يناوشون
الداعية، ويوصلون الأذى إليه فهو يفر بدينه من الغتن [ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وسَعَةً] .
__________
(*) [والصحيح أن إبراهيم في هذا الموطن كان مناظرا لقومه لا ناظرا بنفسه ويدل على ذلك: أ - قوله تعالى:] ولَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ [والمراد بالقَبْلية ما كان قبل النبوة على الصحيح، وأي رشد آتاه الله إبراهيم إن لم يكن موحداً مؤمنا بالله ب - قوله تعالى:] ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [يقتضي نفي الشرك عن إبراهيم في كل مراحل عمره السابقة ج - أن الله ذكر هذه الحادثة بعد إنكاره على أبيه وقومه، مما يدل على المناظرة د - أن الله تعالى ذكر القصة بعد أن ذكر منته على إبراهيم برؤية ملكوت السماوات والأرض ليكون من المؤمنين، ولذلك ذكر الفاء التعقيبية] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [ر - أن الله ذكر فيها] وحَاجَّهُ قَوْمُهُ [مما يدل على قيام المناظرة بينه وبينهم و - أن الله تعالى ذكر في خاتمتها] وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [فقال (على قومه) ولم يقل (على نفسه) وبهذا القول قال كثير من علماء السلف والخلف وهو الذي تدل عليه الأدلة.
(1) جلاء الأفهام ص 159.(68/35)
من إيجابيات الدعوة الإسلامية
«مقاومة التغريب»
د/ عابد السفياني
التغريب مصطلح يستعمله بعض الكتّاب للدلالة على جهود
الغرب في نشر أفكاره وقوانينه ونظمه في أقطار العالم الإسلامى.
لقد بذل الكفار - على اختلاف مللهم ونحلهم - جهداً كبيراً في نشر التغريب
الذي يمثله النموذج الغربي في مجالات الحياة المعاصرة في التشريع والنظم
الوضعية، وفي مجال الإعلام، والاقتصاد، وفي مجالات أخرى متذرعا تارة
بالديمقراطية، وتارة بالمحافظة على حقوق الإنسان، وتارة بالمشاركة في تنمية
أحوال «العالم الثالث» بشرط الالتزام بتلك النظم نفسها.
وأكبر عائق يقف في وجه «النموذج الغربي» هو تطبيق الشريعة الإسلامية، ولهذا كانت جهود الكفار تبذل في تغيير مفهوم تطبيق الشريعة.
يقول المستشرق «جب» في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» ص26، «ليس لدى الإنسان أنظمة كبرى في العقيدة، والفكر، والإرادة من شأنها أن
تظل ثابتة أكثر من عشرة قرون» .
والبديل عن الشريعة الإسلامية هو بزعمهم انتشار العلمانية:
يقول أيضاً في ص 74 «إن انتشار العلمانية في البلدان الإسلامية طيلة
المائة سنة الماضية قد جعل مثقفي المسلمين عرضة لنفس التأثيرات التي زعزعت
التفكير الغربي بالنسبة للمسائل الدينية» .
ويرى هذا المستشرق أن تكوين «الرأي العام» على الطريقة الأوروبية عن
طريق نشر التعليم «العلماني» أي الغزو الفكري الأوروبي، وذلك هو السبيل
الوحيد لإدخال التطور والتحرر من سلطان الدين، «وجهة الإسلام» ص 214-
217.
وعندما يتحدث عن استبدال، القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، وأن
ذلك قد أدى إلى تمكن القوانين الوضعية وانتشار النموذج الغربي فإنه يحذر قومه
من الاطمئنان القائم على هذه المكاسب، ويطالبهم بإدخال الاقتناع بها إلى قلب كل
مسلم عن طريق التعليم ص 213 -214 وهذا الطريق هو «التغريب» وتغيير
المفاهيم وأما تغير مفهوم تطبيق الشريعة، فبدلاً من أن يكون مفهوم الحكم بالشريعة
شاملاً لجميع المجالات، فلا بأس أن يكون قاصراً على جوانب معينة، وبقية
الجوانب يحكمها «التغريب» ، المهم أن يكون له سلطان مع الشريعة.
ولذلك يقول هذا المستشرق - وهو من المستشرقين الذين يعرفون هذا الدين
كما يعرفون أبناءهم كما قال الله - تعالى - عنهم: [الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] 2 - الأنعام يقول في
كتابه السابق الذكر ص 121، «إن قبول القانون الإسلامي كان منوطا بقبول
الشريعة الإسلامية، كما كان ذلك النتيجة الحتمية لكون المرء مسلما» وبالنسبة
للذين يتمسكون بهذا المعتقد تعتبر فكرة تعديل هذه القوانين الأساسية أو إلغائها من
باب الكفر 123 - 124.
وأمامكم هذه العقيدة الإسلامية التي هي أكبر عائق في وجه التغريب، لابد -
كما يقول هذا المستشرق - من نقد تاريخي خاص، «فعجز الإسلام من طريق
اللجوء إلى عناصر قد سبقت نتائج التغريب وما على العالم الإسلامي أن يعيش من
جديد مجمل التطور الذي صادف العالم الغربي الحديث» [1] .
وخلاصة ما يخطط له الأعداء للتمكين للتغريب هو أن يصبح النموذج الغربي
سائداً ومنتشراً في العالم الإسلامي، ويكفي أن تبقى معه بعض أحكام الشريعة،
وأما مفهوم التحاكم إلى الشريعة الإسلامية في جميع المجالات - والاعتقاد بأن ذلك
واجب، وأن قبوله شرط لصحة الإسلام فمفهوم يمكن أن يغير ويبدل، ليصبح
مقصورا على بعض المجالات، وحينئذ لا يكون قبول الشريعة - في جميع
المجالات - شرطا لصحة الإسلام، ولا يكون التشريع من دون الله كفرا، فيأمن
حماة التغريب والقوانين الوضعية من وصمة الكفر، وهذا ما يريده الاستشراق.
وللمشرعين من دون الله أن يحكموا ببعض أحكام الشريعة، ويحكموا بالأنظمة
القانونية، ويأذنوا تارة للناس بأن يتحاكموا تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، فالشريعة
والحالة هذه ليست حاكمة بإطلاق بل هي محكومة، والدين ليس كله لله، بل بعضه
لله، وبعضه لغير الله، وحينئذ يستقر التغريب في العالم الإسلامي. ولاريب أن
أئمة المستشرقين - وهذا أحدهم - يعرفون هذا الدين، ويحسنون التخطيط للتمكين
للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، وقد عملوا لذلك دهرا طويلا.
وإذا أدركنا هذا المكر والدهاء منهم علمنا أن من أعظم إيجابيات الدعوة
الإسلامية مقاومة ذلك التغريب، وقد سخرت الصحوة - ولله الحمد - كثيرا من
طاقتها وفي جميع المجالات لمحاربته وتحذير الناس منه، وتنشأ في هذه المرحلة
بالذات أسئلة كثيرة أمام حملات الإبادة التي يتعرض لها المسلمون، فيقول قائلهم:
ماذا يريد الكفار منا؟ ألم تنتشر مذاهبهم وتحكم قوانينهم، وينتشر سلطانهم،
ويقطعو الطريق على المسلمين كل ما أرادوا أن يتميزوا بشريعتهم، بل ويلاحقوهم
بالفساد عن كل طريق؟ والآن وفي هذه المرحلة بالذات - يقتلون بصورة لم يسبق
لها نظير، ويهجرون، ولا خيار لهم، فإما الخضوع للقوانين الوضعية، وعبادة
النموذج الغربي، والتمكين لشهواته، وإما تدمير الإنسان المسلم وحقوقه باسم حقوق
الإنسان الغربي. والنتيجة أن المسلمين لا حق لهم في الحياة إلا تحت إشراف
حقوق الإنسان الغربي، وانتشار مذاهبه وأفكاره، وهذا يمثل قمة الصراع بين
النموذج الغربي والشريعة الإسلامية، فلا عجب أن تبذل الدعوة الإسلامية من خلال
علمائها ودعاتها وأنصارها في هذا المجال كل غال ونفيس، وأن تستنهض همم
المسلمين في كل مكان لمناصرتها، وأن تنادي بإخراج آثار التغريب من مجال
التربية، والإعلام، والاقتصاد، وجميع المجالات التي حاولوا التغلل فيها.
ولنضرب أمثلة محدودة تدل على حتمية الصراع بين الصحوة الإسلامية
ودعاة التغريب، وأن على جميع المسلمين مناصرة علمائهم ودعاتهم؛ ليتمكنوا من
إقامة الدين الحق، وتقديمه لسائر الملل بصورته الشاملة الصحيحة، لعل ذلك يكون
سبباً في هداية الكثيرين منهم للإسلام.
المثال الاول: - يتسلط «النموذج الغربي» لا على الناس ويعطي باسم
حقوق الإنسان «الحق» للقوانين الوضعية، لتتستر على مظاهر الشرك والكفر،
وتمنع الدعوة الإسلامية من أن تنتشر مبادئها، وتعبد ربها، وأن تظلل الأرض
بتحكيم شريعته، وفضح دعاة التغريب، الذين يعتبرون قتل المجرم وحشية،
وتحريم الزنى تدخل في الحرية الشخصية، والفوائد الربوية ضرورة اقتصادية.
المثال الثاني: - يبذل دعاة التغريب جهودهم لاستمرار الاختلاط والخلاعة،
ومحاربة التستر والفضيلة.
والشريعة الإسلامية تأمر اتباعها بالتستر، كما قال الله - سبحانه وتعالى -:
[قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]
[النور: 30 - 31] .
وحرم الله سبحانه وتعالى الزنى بقوله [ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وسَاءَ سَبِيلاً] [الإسراء: 32] .
فهل يقتنع الكفار الغربيون، وغيرهم من دعاة التغريب بأن يسلمو ويتبعوا
الشريعة الإسلامية، وينبذوا الجاهليات التي زينوها للناس؟
وهناك أمثلة أخرى في مجال الاقتصاد وغيره من المجالات لا يتسع المقام
لذكرها.
ولقد كان من جهود الدعاة والعلماء والمصلحين أن يبينوا للناس أحكام الشريعة
ومقاصدها، ووجوب التحاكم إليها، ونبذ ما سواها والكفر به، ودعوة الكفار
للإسلام، ونصحهم وجدالهم بالتي هي أحسن، وقد استفاد الناس من جهود الصحوة
الإسلامية التي تواترات بها الأخبار في كل مكان، والتي أصبح همها إحياء صفات
النموذج القدوة - جيل السلف الصالح - ليكون منهجهم هو الطريق العملي لمقاومة
أثار النموذج الغربي، وقد تربى كثير من المسلمين - ولله الحمد - على هذه
الصفات، وانتشرت طريقة السلف في مجال الاعتقاد، والتربية، والتعليم،
والصبر، والورع، والعطاء، والبذل، والولاء، والبراء، ونشر الدعوة،
والاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على مناصرة الدعوة، وحذر العلماء من الجاهلية الحديثة ومسائلها وقوانينها، ودعوا إلى وجوب إزالتها
وتغييرها، وأجمع العلماء أيضاً في هذا العصر على وجوب تطبيق الشريعة
الإسلامية في جميع المجالات، وانتشرت - ولله الحمد - جهودهم عن طريق الكتب، والمقالات، والأشرطة، والبحوث العلمية، والإفتاء والرسائل العلمية،
والمجلات الإسلامية، وهذا قليل من كثير أُشير إليه مجرد إشارة لأذكّر بالجهد
المبارك الذي بذلته الدعوة الإسلامية في مقاومة التغريب، متمنين لجهود العاملين
لنصرة الإسلام التوفيق لمزيد من العمل والصبر حتى تزول آثار التغريب من العالم
الإسلامي من كل مجال دخلت فيه، ويحل محلها الأحكام الشرعية والاعتقادات
الصحيحة، ومن المعلوم أن من أحب شيئا تمسك به، وقدمه على غيره، وأن من
أبغض شيئا تركه، فيجب على جميع الدعاة بيان الحق للناس، حتى يؤمنوا بأن الله
هو وحده المستحق للعبادة، وأن شريعته هي الحاكمة على أمورهم بإطلاق، فيحبوا
الله سبحانه وتعالى، ويحبوا شريعته ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: [قُلْ إن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [آل
عمران: 31] ، وبيينوا لهم ويبشروهم بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً
من عند الله.
وفي الوقت نفسه يجب عليهم أن يحذروهم من أسباب الشرك والكفر وأثاره
وقوانينه، فيبغضون أثار «التغريب» والقوانين الوضعية وجميع مظاهر البدع
والشرك، القديم منها والجديد، ليعرف ذلك الجميع، وعلى الدعاة إلى الله ...
والمصلحين بذل الجهد والصبر حتى يجتمع الناس على عبادة الله وحده بلا شريك،
ويحكموا شريعته في جميع أمورهم، وحتى يزول سلطان الجاهليات والأديان
الباطلة والفساد الذي صنعته وزينته للناس الأفكار المنحرفة والأهواء المضلة،
ويكون الدين كله لله، ولا يكون منه شيء للأرباب المتفرقين، وللشرائع المتفرقة،
كما قال يوسف -عليه السلام- وهو يبين هدف دعوته للناس: [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 39، 40] .
__________
(1) الاتجاهات الحديثة في الإسلام 175، وانظر مناقشة هذه الأفكار بالتفصيل في كتابي المستشرقون وموقفهم من ثبات الشريعة.(68/46)
نصوص شعرية
عبوس
عبد الوهاب عبد الله
- أ -
لماذا أريد؟ !
لماذا الهدير يُمزِّق ضعفَ الوليدْ؟
ويبغي المزيدْ! !
ويُنِبت جمرَ الوريدْ!
أيبقى اللهيبُ على بابنا ينتظرْ؟
ألم ينتصرْ؟
أيَخنقُ عاصفةَ الجمر صمتٌ أشِرْ؟ !
- ب -
هراءٌ
صباح السلامْ! !
وريشُ الحمائم يا برقعاً
قاتماً في الظلامْ
هراءٌ
صباحُ الكلامُ
أيصحو المسافرُ عند اصطدامِ
السفينة؟
ويحظى من الرحلةِ الحالمةْ
بماءٍ وملحْ! !
ويَطرحُ عن كاهليه شجونَهْ
ويغفو بقاع المحيطِ
ويُكفى المئونةْ!
سلامٌ لعصف الرياحْ
سلام يُهُزُّ جذوعَ المطرْ
سلامٌ لموج الرمالْ
سلام يبث الدماءَ
حريقَ السؤالْ
هراءٌ هراءٌ
هراءٌ صباحُ السلامْ
سيورقُ فينا صباحُ اللهيبْ
ويَنتحرُ الليلُ فوق الكثيبْ
ويعلو الحبيبْ
ليخضب من دِمِه ... قدميهْ.(68/53)
نصوص شعرية
مدرستي الكبرى
الشيخ: عائض القرني
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وفي ربى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني
دفنت في طيبة روحي ووالهفي في روضة المصطفى عمري ورضواني
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني
بدر أنا وسيوف الله راعفة كم حطمت من عنيد مارد جاني
كتبت تاريخ أيامي مرتلة فى القادسية لا تاريخ شروان
وما استعرت تعاليما ملفقة من صرح واشنطن أو رأس شيطان
وما سجدت لغير الله في دعة وما دعوت مع معبودنا ثاني
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزاني
فقبلتي الكعبة الغراء يعشقها روحي وأنوارها في عمق أجفاني
وليس لى مطلب غير الذي سجدت لوجهه كائنات الإنس والجان
ليت المنايا تناجيني لأخبرها أن المنايا أنا لا لونها القاني
ليرم بي كل هول في مخالبه ما ضرني وعيون الله ترعاني
ممزق الثوب كاسى العرض ملتهبٌ أنعى المخاطر في الدنيا وتنعاني
وعزم عمار في دنيا فتوته أسقي شبابي من ينبوعه الداني
عصى الكليم كفى كي أهش بها على تلاميذ فرعون وهامان
في حسن يوسف تاريخي وملحمتي من صنع خالد لا من صنع ريجان
داود ينسج درعي والوغى حمم لا يخلع الدرع إلا كف أكفاني
دعني ألقن قوماً ما لهم همم إلا على العزف من دان ومن دان
قوم مخازنهم نهب ومطعمهم سلبُ موكبهم من صف فئران
يا جيل يا كل شهم يا أخا ثقة يا ابن العقيدة من سعد وسلمان
يا طارقاً يا صلاح الدين يا ابن جلا يا عين جالوت يا يرموك فرقاني
يا بائعي الأنفس الشماء في شهب من الرماح على دنيا سجستان
يا من بنوا المجد من أغلى جماجمهم في شقحب النصر أو في أرض أفغان
يا من سقوا دوحة الإسلام من دمهم من كل أروع يوم الروع ظمآن
يا صوت عكرمة المبحوح يقطعه قصتف العوالي من سمر ومران
هيا إلى الله بيعوا كل فانية فصوت رضوان ناداكم وناداني(68/56)
المسلمون والعالم
كامب أريحا
التحرير
في الوقت الذي كان «جنين» السلام الذي سمى «بغزة، وأريحا: أولا»
يخرج إلى النور ويرى الحياة، كان أبواه يمهدان لحفلة القدوم بطريقة مختلفة.
الأب الإسرائيلي هو الطرف الأقوى والأغنى والأقدر على رسم خريطة
الأحداث وتضاريسها، بينما كانت المنظمة الأم - كالعادة - تتقن فن الوقوف في
الجانب الخاسر 000، المنظمة/ الأم كانت تضع آمال القضية المركزية الأولى
للعالم العربي وتاريخها وعرق الأمة ودمها وفداءها على طاولة المباحثات السرية
حيث أنها تحلم «بطفل، بعد أن شارفت على بلوغ سن اليأس، وهي التي تعد
الجميع بالمولود في كل عام، ومع كل مناسبة، لكن عوارض سن اليأس قاسية
واضحة مؤلمة، وهذا ما دفع الأصدقاء قبل الأعداء إلى التهامس بأن السيدة /
المنظمة عاقر.. عاقر.. عاقر....
حتى أشد التقدميين الماركسيين لم يستطع أن يخفي تشاؤمه وحنقه، فكتب
خطاب استقالته إلى الزعيم، وأرفقه بقصيدتين تقول إحداهما:
» لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا
والنهاية تمشي إلى السور واثقة من خطاها « [1]
نعم الجميع يتحدث عن اليأس، وسنه، ومظاهره وأعراضه، وحتى يحافظ
الزعماء التاريخيون على مناصبهم ومسؤولياتهم، فقد خرجوا بحل عبقري لم يسبقوا
إليه.
هذا الحل يقول: لابد من إنجاب طفل حتى ولو كانت ملامحه إسرائيلية
صارخة، وهكذا ولد العار في صيف لافح، وفي ليالي أغسطس الخانقة، وتسربت
أنباء الوليد/ الفضيحة، الذي اعتبرته الأم دليلاً على عنفوانها، وعنوانا لقدرتها
على البقاء حية، حتى ولو سفكت في سبيل ذلك سبب بقائها، وأُس وجودها:
قضية الشعب الفلسطيني. أما الولد المتعجرف فقد كان يتحدث بلهجته المعتادة شاتماً
إياها مهدداً بوأدها أسلوبه الرديء ... ومع أن المنظمة/ الأم أخذت في كيل الثناء
والمدح، ورسم صورة مشرقة باهرة زهرية عن الغد القادم في ظل حراب صهيون، فإن إسحاق رابين قد أفسد عليهم متعة الاحتفال، وها هو يصرخ، فيقول:
» كثيرون حاولوا أن أعترف بالمنظمة قبل هذا الاتفاق، لكني أقول لهم الآن: إن المرء لا يبيع قبل الحصول على الثمن، وقد حصلنا عليه. إننا وقعنا اتفاقا لن يزال بموجبه أي مستوطنة إسرائيلية، وسنصر على إبقاء «القدس» عاصمة أبدية لإسرائيل، ثم إنه في حالة تدهور الأوضاع ستعود الأمور على ما كانت عليه! !
إننا لن ندفع الثمن الذي دفعته ليكود في اتفاقيات كامب «دايفيد» وأضاف
في كلمة ألقاها في 4سبتمبر 1993 في عهد وايزمال للعلوم وبعيد إعلان الاتفاق
الإسرائيلي - الفلسطيني: «إن على اليهود أن يصيغوا السلام مع الأعداء،
وأحيانا مع أعداء سفلة» [2] .
وفى ظل الحديث عن علاقة وتعاون ومشورة طفح بها اتفاق خروج الجنين
إلى النور بدا واضحا من هو الطرف العاجز المستسلم، بل الخائر القُوَى الذي
يصف جلاديه وقاهريه ومهينيه بأنهم شجعان وأصدقاء ومتفهمون للأوضاع وبين
الطرف الآخر في هذه العلاقة المثيرة للجدل، والذي يصف شريكه بالسفالة،
والنذالة، والهمجية ...
سفر الانهيار أم أُم الاتفاقيات؟ :
قبل الدخول في متاهات الاتفاق، وتفصيلات الاتفاقية، هناك حقائق ثابتة
ناصعة، لا يستطيع الفريق المؤيد أو الفصيل المعارض للاتفاقية أن يحجبها، أو
يلغيها من الاطار التاريخي الواقعي والتحليلي للقضية الفلسطينية، وهذه الحقائق
والمعطيات لن يستطيع أحد أن يشكك فيها، أو في أهميتها. ولعل المرتكز الأول
الذي يصلح مدلفا للموضوع، ومفتاحا له هو أن يعي الجميع - مؤيدين ومعارضين - أن العدو الذي نتحدث عنه لم يهبط علينا فجأة من سطح المريخ، أو تجاويف
المشترى، إنه عدو حدثنا عنه رب الأرباب، وخالق الأرض والسماوات، عدو
شاء المولى - عز وجل - أن يواجهه أهل هذا الدين، وهو في بداية مساره، ثم
واجهوه مرة بعد مرة، وأثبتت كل هذه المواجهات حقائق صارخة، لا تجدي معها
تصريحات الساسة، أو نخاسة السلام، أو المتاجرين بالأوطان. حدثنا المولى عنهم
فقال: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليهود والَّذِينَ أَشْرَكُوا] ، وصدق الله، فقد أرانا إحدى آياته البينات الواضحات في هذا العصر حينما أذاق الله أمة
الإسلام الشاردة ألوانا الهول والذل على أيدي الصهاينة اليهود، الذين طردوا
المستضعفين وحرقوا الديار، وجزروا الآمنين، واستولوا على بيت المقدس،
وحرقوا المزارع، وشردوا الأحرار، وظهر حقدهم وعداؤهم لهذا الدين وأهله، كما
أبانت الآيات أن المكر يجمع أهل الكتاب، ولذا جاء النص القرآني المعجز جامعاً
لهذين الفريقين معاً، وهي آية أخرى تحققت في هذا العصر، حيث لم ير تاريخ
البشرية تعاوناً وتنسيقاً بين اليهود والنصارى كما نرى اليوم، وصدق الحق القائل:
[يا أيها اللذين آمنوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ
أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] .
أمام هذه الآيات المزلزلة ينبغي أن نعرض القضية برمتها:
- قضية الحلف اليهودي النصراني، الهادف إلى تجريد الأمة من هويتها
ومعتقدها ...
- ومصير المسارعين إلى أعدائهم، يقدمون رقابهم، لتجز في سلوك
هستيري، يرى النار جنة، والهلاك نعيماً، والموت حياة سرمدية ...
- ومصير الصابرين العاملين بصمت، لتحقيق وعد الله بفتح من عنده.
ثم على ضوء ما نستعرض حقائق قائمة، تحمل تفاصيل المشهد التحليلي:
أولاً: إن الكيان الصهيوني على الأرض المحتلة يشكل أبشع عملية استعمارية
في تاريخ العالم المعاصر، حيث وظفت القوى الصهيونية والغربية المشاعر الدينية
والاستعمارية في سبيل إقامة كيان لا يمت إلي المنطقة وثقافتها وهويتها بصلة، في
سبيل إضعافها، وفرض السيطرة الصهيونية الصليبية عليها. ورغم مرور ثلاثة
أرباع القرن على هذه الإشكالية، وبالرغم من نيل كثير من الشعوب المستضعفة
والمستعمرة حقوقها - وآخرها الشعب الأسود في جنوب إفريقيا - فإن مأساة الشعب
الفلسطيني ظلت خلال الحرب الأولى والثانية، والحرب الباردة وما تلاها تأخذ
نفس النمط: دعم المشروع الصهيوني بلا نهاية من قبل الدول الغربية - لا سيما
بريطانيا وأمريكا وروسيا - بطريقة تدل على أن المخطط المرسوم لا يتأثر حتى
بأهم المعطيات الدولية والإقليمية.
ثانياً: إن شعبا قد طرد من أرضه وسلبت ممتلكاته في ظل المخطط
الصهيوني وإن ثقافة يهودية توراتية عنصرية قد أزاحت ثقافة عربية إسلامية،
وأخذت تعمل يد التغيير في كل شيء انطلاقا من صراع حضاري بين اليهودية
المدعومة بفهم ورؤية إنجيلية، وبين الإسلام الذي كان يعيش فترة تراجع رهيبة في
بداية القرن ... هذا الصراع الحضاري انتهى في جولته الأولى بانتصار اليهود بلا
شك، وذلك لضعف المسلمين وشتاتهم، وبعدهم عن دينهم، فكان طعم الهزيمة
والانكسار يملأ الأفق: ضُيعت يافا وحيفا، وانتصبت تل أبيب رمزاً يهودياً موحياً، وكانت الفاجعة أن سقطت القدس بنصفها الغربي، ثم سقطت كاملة بعد أقل من
عشرين عاماً ...
ثالثاً: إن المجتمع الدولي بأدواته الهزيلة المضحكة قد أدان دولة الصهاينة
أكثر من مرة، وبدا واضحا أن هذا المجتمع لا قيمة له ولا وزن إذا كان الأمر
يتعلق بجزاري الشعوب الإسلامية، واتضح للشعب الفلسطيني أنه لا سبيل لاستعادة
حقوقه سوى بانتفاضة شعبية، ترتكز على معاني الجهاد، ومنطلقات الإسلام ليس
إلا.
رابعاً: صادف بروز الانتفاضة في عام 1987م إفلاس الحلول العلمانية،
الوطنية والتلفيقية. لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية المثال الأوضح لحالة
الإفلاس العلماني، البعيد عن خط الإسلام، ما شكلت حالة إدانة واضحة للواقع
السياسي في العالم العربي، الذي يشكو من الاغتراب الفكري والسياسي، والتبعية
للقوى الخارجية، وسوء القيادة، وقصر نظرها.
خامساً: لأول مرة منذ بدء الصراع يتبنى الشعب الفلسطيني - لا سيما في
قطاع غزة - حلاً إسلامياً للمشكلة ورؤية عقدية للصراع. ومن السخرية أن دماء
شباب الانتفاضة وجهادها شكل الوقود الحقيقي للحل السلمي المطروح، فالجميع
يعرف أنه لولا الانتفاضة لما فكرت إسرائيل في طرح الحل السلمي، بل ولما نادت
بالانسحاب من غزة دون شروط.
إذن فهذه المعطيات السابقة تدلل بصورة قاطعة على وجود هوة عميقة بين فهم
إطار المشروع الغربي/ الصهيوني المثقل بأنهار الدم وضحايا قنابله العنقودية،
وعجرفته العسكرية، وآلته الصماء، التي امتدت آلتها من تونس حتى المفاعل
النووي في العراق، وبين المقاومين من رجال المنظمة، الذين نجحوا في تحويل
القضية إلى قضية السيادة على نظافة المدن: وحصص الدراسة! وملاحقة
المجاهدين! اللذين يرون في الصراع سلسلة حلقات الصراع الحضارى، الذي
يتحدث الغرب ومنظروه عنه بلا حياء أو موارية، ويركز على أمور معينة بإيحائية
شديدة، تصل إلى حد المباشرة، كما يحدث الآن في الحديث عن القدس، التي
تشكل رمزا للماليزي، كما تشغل بال السنغالي المسلم، والتي جعلها الاتفاق سلعة
كاملة للتفاوض في مرحلة لاحقة، بينما يصرح الجانب الأقوى في وجه اللاهث
عرفات: «القدس عاصمة أبدية لإسرائيل» !
لقد وصف أحد مساعدي عرفات الاتفاقية بأنها أم الاتفاقيات «اقتباسا من
القطب العلماني والصديق الحميم لعرفات: صدام حسين، بينما كان أشد المقربين
من عرفات يشهدون - والحق ما شهد به حاشية عرفات الماركسية - بأن الاتفاق
جزء من سفر يكبر يوما بعد يوم هو (سفر التنازلات) ! :
» من سيُنزل أعلامنا: نحن أم هم
ومن سيتلو علينا معاهدة الصلح ... «
والجواب إنه المناضل الختيار الأراجواز أبو عمار، الذي يخاطبه زميله في
التيه مضيفا:
» لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة، لكن عرشك نعشك فاحمل النعش كي تحفظ
العرش يا ملك الانتظار.
إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار « [3]
- يا سقى الله الكامب الأول!
ما بين الكامب الأول (كامب ديفيد) والكامب الثاني (كامب أريحا) هناك فاصل
زمني يقارب الخمسة عشر عاما، كما أن هناك مساحة عريضة من التنازلات
والاستسلام، تجعل من (كامب ديفيد) إنجازا بكل المقاييس عند مقارنته بالاتفاق
الأخير ... ، وبالطبع فإن عرفات وجوقته قد غيروا من إيقاع نشيدهم المبحوح،
فبعد الهجاء، والشجب، والاستنكار، والنواح، واللطم، والتخوين غدت الخيانة
إنجازا، والهجاء مدحا، والشجب احتفالا، والنواح» دبكة «!
الكامب الأول الذي رفضوه عادوا ليقبلوا بمعشاره أو أقل، وهناك أسباب لا
يمكن إغفالها، تدعو المنظمة وقيادتها المعزولة للقبول بهذه الاتفاقية، وأهمها ضعف
المنظمة، وابتعاد الشارع الفلسطيني عنها، بل وصل الأمر إلى القمة، حيث
استقال الشيخ السائح، ثم هدد ثلاثة من الوفد المفاوض بالانسحاب، ثم استقال
محمود درويش، وشفيق الحوت: عضوي اللجنة التنفيذية، للمنظمة مما دفع مجلة
الأيكونمست البريطانية للقول:» لو لم يعقد عرفات هذا الاتفاق اليوم فإنه حتما لن
يكون المتحدث باسم الفلسطينيين بعد عام واحد من الآن، حيث أن شعبية المنظمة
آخذة في التبخر «.
وفي الجانب الإسرائيلي فإن الاتفاق يحل لها العديد من المشكلات الخانقة،
كوجود مناطق توتر مكتظة كغزة التي شكلت بؤرة صداع مستمر لإسرائيل، وربما
شكلت المناطق الجديدة» أرضا لإلقاء العناصر المشاغبة، بدلا من طردهم للبنان،
حيث يضر هذا بسمعة إسرائيل، التي تريد مأمورا فلسطينيا كعرفات، يقوم بدور
تأديب أعداء السلام «.
ولا شك أن الوضع المالي المتأزم للمنظمة ساهم في إسراعها إلى عقد صفقة
يخرج بها فريق عرفات بأقل الخسائر، وفي الوقت ذاته يرى بعض الفلسطينيين -
لاسيما النافذين في المنظمة - أن عرفات أوجد هذه المشكلة طمعا في تركيع الشعب
الفلسطيني، وتجويعه للقبول بأي حل يكفل زعامته! انطلاقا من الحكمة التي تؤمن
بها الزعامات العربية منذ العصور الجاهلية» جوع كلبك يتبعك «.
لكن التركيع بهذه الصورة لن يأتي بالنتائج المطلوبة، خصوصاً إذا عرفنا أن
الشعب الفلسطيني مسيَّس، وصلب العود، لا سيما في السنوات الأخيرة.
إن الاتفاقية التي وقعت تترجم مرحلة جديدة يُراد للمنظمة وعرفات أن تشارك
فيها، من أجل خنق الخيار الإسلامي، وهذا ما صرح به المسؤولون الإسرائيليون
الذين وضعوا الاتفاق كمخرج لتضاؤل عرفات وجماعته، حيث العدو المشترك (كما
يصورون) للمنظومة العلمانية والصهيونية يزداد ظهورا وشعبية. لقد رضي
عرفات - الجائع للزعامة - بقبول دولة ال 400 كم 2 المسلوبة السيادة، والبعيدة
عن القدس والتي أججت من حدة الخلافات في البيت الفلسطيني، وامتدت لتشغل
التفاعل الغاضب في قلب كل مسلم يتعبد الله بحب بيت المقدس ومسرى المصطفى
-صلى الله عليه وسلم-.
لقد لخص شيخ فلسطيني هذه المأساة بقوله:» إن مصير المسلمين في
فلسطين سيكون مشابها لمصير مسلمي البوسنة ... «وإحقاقا للحق فإن علي عزت
بوجوفتش يرفض حتى الآن اتفاقية الدويلة الممسوخة، التي تشكل إنجازا بجانب
دويلة أريحا، حيث إن غزة مغرم ولست مغنما.
وهذا ما دفع إدوارد سعيد المفكر النصراني الفلسطيني الأمريكي للقول:» إن
المرء يتساءل: لماذا هذا الضعف أمام المشروع الإسرائيلي الذي يتطلب نوعا من
السجود المطلق أمام الإسرائيليين والأمريكيين إلي هذه الدرجة؟ ونحن شعب
مقاتل ... «
إنها مأساة القيادة المتعبة المريضة المضطربة، المنحرفة البعيدة عن نبض
شعبها، التي خاطبها أحد قيادتها في لبنان قائلا:» إذا كنتم تعبتم من النضال
فتنحوا لغيركم أو أتركو النضال لغيركم «
__________
(1) من قصيدة الشاعر الفلسطيني الماركسي محمود درويش بعنوان (للحقيقة وجهان والثلج أسود) .
(2) وكالات الأنباء 4 / 9 / 1923.
(3) قصيدة: (للحقيقة وجهان والثلج أسود) لمحمود درويش، وقد قدمها مع خطاب استقالته.(68/59)
المسلمون والعالم
نظرة عابرة على
واقع المسلمين المعاصر في الهند
(1)
أحمد بن عبد العزيز أبو عامر
المسلمون في الهند أكبر الأقليات في العالم، إذ يزيد عددهم على 120 مليون
نسمة في بحر من السكان الوثنيين من هندوس وسيخ وبوذيين وغيرهم. وكانت
وجهة نظر بعض علماء ومفكري المسلمين في الهند قبل الاستقلال عدم تقسيم البلاد
بين المسلمين وغيرهم، وكان على هذا الرأي العلامة: أبو الكلام آزاد، والعلامة:
أبو الأعلى المودودي، وغيرهما. لكن الرأي الآخر المنادي بالتقسيم وإقامة دولة
مستقلة للمسلمين هي (باكستان) قد تَغلَّب فيما بعد، وبقي من بقى من المسلمين في
الهند أقلية، مما أفقدهم الكثير من عناصر قوتهم. ومعاناتهم اليوم - التي سأشير
إلى بعض منها فيما بعد -إنما هي نتيجة طبيعية لذلك التقسيم، الذي انقسم بموجبه
المسلمون في الهند إلى قسمين كما هو معروف. والحق أن المسلمين في الهند هم
أحسن شعوبها خلقاً وتعاملاً، ويتميزون عن غيرهم من شعوب القارة الهندية بسمات
مميزة منها:
1 - الكرم وبذلهم ما يستطيعونه لإكرام ضيوفهم، مع ما يعانيه أكثرهم من
فاقة وضعف حال، وهذه الخصلة اكسبتهم إعجاب غير المسلمين، ودفعتهم للإسلام
إعجابا بهذا الخلق الرفيع، وقد ذكر (أبو الحسن الندوي) صوراً من تلك المواقف
في كتابه: (المسلمون في الهند) .
2 - حبهم للإسلام، ولنبيه عليه السلام، ولديار الإسلام لا سيما (الديار
المقدسة) ، وتمردهم على العنصرية والنزعات القومية والوطنية الضيقة، وتفاعلُهم
مع إخوانهم المسلمين معروف وملموس.
3 - امتيازهم بأخلاقهم وأدائهم لأعمالهم على أحسن وجه، ومجانبتهم لرذائل
الأخلاق في تعاملهم.
4 - بسبب كثرة الطرق الصوفية في بلادهم تأثر الكثير منهم بها وبما هى
عليه من غلو في الصالحين والتمسح بالأضرحة والقبور، وبخاصة العامة منهم من
مريدي تلك الطرق المبتدعة.
(ثورة الهند الكبرى 1273 - 1857م) :
بدأ ضعف الدولة المغولية المسلمة الحاكمة آنذاك للهند منذ أواخر القرن السابع
عشر الميلادي، حينما بدأت الأحوال تتغير بتدخل (شركة الهند الشرقية) الإنجليزية، التي سيطرت على معظم أنحاء الهند في بداية القرن التاسع عشر الميلادي،
وانحسر أمر المملكة المسلمة في العاصمة (دهلي) وبالذات في (الحصن الأحمر) ،
وأمام هذا التدخل المريب تنادى العلماء والدعاة للجهاد ضد أولئك الغزاة، وتفجرت
الثورة وامتد لهيبها، واستولى المجاهدون والأهالي على معظم الأماكن الاستراتيجية؛ حتى كادت السلطة الإنجليزية تسقط أمام عنفوان الجهاد، إلا أن الإنجليز ومن
بقى معهم من الجيش الهندى استطاعوا أن يمسكوا بخناق المجاهدين، وان يلتفوا
عليهم عام 1273 هـ بما لديهم من إمكانيات عظيمة تفوق ما لدى المسلمين،
وبذلك تلاشت المملكة المسلمة من خارطة الهند، واستولى الإنجليز على الحكم
وانتهى حكم الشركة الإنجليزية. وقد سام الإنجليز المسلمين سوء العذاب،
وصادروا أموالهم، وانتهكوا حرماتهم؛ لأنهم كانوا في طليعة الثورة ضدهم،
فخططوا للقضاء على المسلمين قضاءاً مبرماً بوسائل منها: إبعادهم عن المناصب
الحكومية، ووضع نظام تعليمي يصادم دينهم وصارت كلمة (وهابي) لفظة يخوف
بها المسلمون، فاستغل الهندوس ذلك الموقف الحرج للمسلمين، فانتقموا منهم شر
انتقام، وتحولت حياة المسلمين الدينية والسياسية تحولاً كاملاً للأسوأ، وبقى العامة
لا قادة لهم حينما انقطع جل العلماء للحلقات والزوايا بينما الأعداء يستولون على
الأراضي بالحديد والنار، وصار المسلمون في حال لا تسر الصديق حيث أصبحو
فئتين متناقضتين هما:
أ - فئة آمنت بالعلوم الغربية، ورأت الأخذ بالحياة الغربية على علاتها سبيلا
للنهضة.
ب - فئة أخرى رأت التمسك بما ورثوه من علوم جامدة وأساليب متوارثة
رأت أنه لا يمكن العدول عنها.
وكاد الدين يضيع بين جاحد وجامد كما سنرى، ويمكن تلخيص التيارات
والحركات التي سادت بين المسلمين بالهند كما يلى:
أولا: حركة السيد أحمد خان:
لما رأى الرجل انهيار الحكومة المغولية المسلمة، وإخفاق الثورة الكبرى،
واطلع على أسباب ذلك الإخفاق، ورأى سطوة المستعمر الذي سيطر على مقاليد
البلاد وهوان شعبه، ولما كان له سابق علاقة بالإنجليز بحكم عمله معهم أعجب
بمدينتهم؛ فصار يدعو لتقليدهم والسير على منوالهم، والحث على التشبه بهم في
عاداتهم وأساليب حياتهم. وقد أثر عنه قوله: «لابد من قبول الحضارة الغربية
بكاملها حتى لا تزدرينا الأمم المثقفة، فأسس كلية (عليكرة) الشهيرة، التي أصبحت
فيما بعد جامعة كبرى، وشرع الرجل في تفسير القرآن محرفا الكلم عن مواضعه
ليوافق ما لدى فلاسفة الغرب؛ فأنكر المعجزات والجن وتعدد الزوجات وغير ذلك
مما هو معروف لدى أصحاب المدرسة العقلية.
- جوانب الضعف في منهاج الرجل: تبين من استقراء منهج الرجل مظاهر
ضعفه المتمثلة فيما يلي:
1 - نقله المنهاج التعليمي الغربي بحذافيره من دون إخضاعه لمبادئ الإسلام، وتجاهله لطبيعة المجتمع المسلم الذي يريد إصلاحه والنهوض به.
2 - اقتصر في منهاجه التعليمي على اللغة والآداب، ولم يعن بالعلوم
والفنون التطبيقية العناية الواجبة، بل عارض ذلك بشدة بدعوى أهمية الثقافة
الفكرية على غيرها، وهو في ذلك واهم ولا شك.
لقد تنبه السيد أمير علي الزعيم الهندي المسلم لم اعترى خطة السيد أحمد خان
من قصور، ومع إيمانه بالمنهج التربوي الثقافي في الإصلاح إلا أنه أبرز الدور
السياسي بتأسيه عام 1871 م (الجبهة الوطنية الإسلامية) للدفاع عن حقوق
المسلمين بالهند، وتحديد وضعهم السياسي بما يتفق وعددهم، وأهميتهم، وتاريخهم
وتمثيلهم عادلا. وفي هذه الظروف ظهر الزعيم المسلم أبو الكلام آزاد وكان له من
ثقافته الإسلامية والعصرية ما مكنه من بلورة برنامج إصلاحي متكامل لمواجهة
مشكلات المسلمين الخطيرة، وكانت مجلته (الهلال) لسان حال حزبه. ومما يؤخذ
عليه نزعته القومية التي جعلته يدعو إلى تعاون المسلمين والهندوس ضد بريطانيا.
ثانياً: مدرسة ديوبند الإسلامية:
وكان لمدرسة السيد أحمد خان ردود فعل معاكسة لدى بعض العلماء المسلمين، الذين رأوا فيها خطرا على مستقبل الإسلام وأهله بالهند، وضياعا لشخصيتهم
بتقليدهم لأعدائهم، لاسيما بعد سطوع نجم المدرسة السلفية بشخصي الشيخ: أحمد
السرهندي والشيخ: أحمد بن عرفان - اللذين استشهدا في الجهاد ضد الإنجليز -
فآثر أولئك المشايخ فتح مدارس دينية في القرى والأمصار ليس للحكومة عليها يد،
فكانت نواتها مدرسة ديوبند التي نمت وترعرعت برعاية أهل الرأي من علماء
الكلام ومتعصبة الحنفية، الذين فتحوا باب التأويل للحديث لترجيح مذهبهم،
وتأثروا بمثل الشيخ الكوثري الذي ناصب أهل السنة العداء، وهذا ما ظهر في
كتابات علمائهم: حبيب الرحمن الأعظمي، ويوسف النبوري، وأنور شاة
الكشميري، ولم يرضوا بأي تعديل أو تغيير في مناهجهم لمواجهة عواصف
التغريب والإلحاد، ومن متأخري هذه المدرسة (جماعة التبليغ) ومن أشهر رجالها
الشيخ: محمد زكريا مؤلف (تبليغي نصاب) المحشو بالشركيات والطوام، وكذلك
محمد حسن السنهلي، وحسين أحمد المدني، وغيرهم: ومازال لكثير من علماء
هذه المدرسة مواقف مغرضة وحاقدة ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا
لشيء إلا لكونها فضحت منهجهم القبوري وعقائدهم الشركية: ولمزيد من الاطلاع
على هذا الاتجاه انظر كتاب (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في القارة الهندية
بين مؤيديها ومعارضيها) للأستاذ أبو الكرم بن عبد الجليل السلفي وكذلك كتاب
الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف عن مناوئي الدعوة السلفية بنجد، وهما مطبوعان.
ثالثاً: المدرسة الوسطى الإصلاح:
لما استمر حال تلك المدرستين على ما هما عليه من منطلقات فكرية تخرجت
أجيال من الاتجاهين يكره كل منهما الآخر، مما جعل الشعب المسلم في الهند
يضيق ذرعا بالشقاق والصراع بينهما، فنادى نفر من العلماء الصالحين وذوي
الرأي بالاعتدال، وضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة فكان نشوء (ندوة
العلماء) عام 1310 هـ بعد ربع قرن من نشوء عليكرة وديوبند حينما اجتمع أولئك
النفر من العلماء برئاسة الشيخ محمد علي المونكيري الذي تبنى فكرة (ندوة العلماء)
وتولى تأسيسها، ووضع قواعدها في جلسة حضرها 14 من كبار العلماء بمدينة
(كانفور) . وأيدوا الفكرة بالإجماع، وتم التأسيس لها لتكون جبهة قوية لمواجهة
أخطار الحضارة الغربية وقمع مفترياتها، وردّ أسطورة (فصل الدين عن الحياة)
وإعادة ثقة المسلمين بدينهم الخالد ومستقبلهم المشرق، وأدرك الشيخ المونكيري
أهمية إصلاح التعليم، وضرورة وضع نظام شامل متزن يجمع بين التربية والتعليم، وبين أصالة العلوم الإسلامية وأهمية العلوم التطبيقية، فوضع خطة لتأسيس (دار
العلوم) وتم عرضها على المجلس التأسيسي في17/1/1313فوافقوا عليها بالإجماع.
ولما اتسع العمل على جهود الشيخ المونكيري قيض الله له رجالا أكفاء ذوي
خبرات وفي مقدمتهم العلامة شيلي النعماني الذي أشرف على نظام التعليم وعلى
تنفيذ برامجه ومراقبة سيره، فاستطاع أن يكسب لها شهرة واسعة. وما لبثت هذه
الجامعة فيما بعد أن خرجت أعلام الإسلام المعاصرين في الهند، ومنهم: سليمان
الندوي، ومسعود الندوي، وأبو الحسن الندوي، وغيرهم كثير بن العلماء العاملين، ومن أشهر مطبوعات هذه المؤسسة: مجلة (البعث الإسلامي) .
رابعاً: المدرسة السلفية ودورها في حفظ العقيدة:
حينما ضعف الاهتمام بالحديث وعلومه في البلاد العربية وكاد يتلاشى قيض
الله له الحفظة من العلماء بالهند، حيث أسست مدارس خاصة بالحديث وعلومه منها: مدرسة شاهي بمراد آباد، والمدرسة الأحمدية في لهريا سراي، والمدرسة
الرحمانية في دربهنكا، وغيرها.
ومن أشهر علماء المدرسة السلفية بالهند الشيخ العلامة: ولي الله الدهلوي
الذي درس السنة على علماء الحرمين أمثال أبو طاهر الكردي، ومحمد حياة
السندي أستاذ الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) وقد سار أبناؤه على نهجه السلفي،
واعتنوا بالحديث النبوي، وهم: ابنه الشاه عبد العزيز الذي حل محل والده،
وكذلك إخوانه: رفيع الدين، وعبد الغني، وعبد القادر وكذلك ابن أخيه الشاه
إسماعيل بن عبد الغني، وكان لهم دور كبير في نشر السنة ومحاربة البدع
والمبتدعة. ومن علماء المدرسة السلفية الآخرين بالهند العلامة: صديق حسن خان، والسيد ندير حسين، وأبو الوفاء ثناء الله الامر تسري، ومحمد بشير السهسواني، وغيرهم: ومن جهود أهل الحديث بالهند تأسيسهم (جمعية أهل الحديث) عام
1383 هـ، وإنشاء (الجامعة السلفية) في بنارس 1385 هـ، (مجمع البحوث
الإسلامية) وهو تحت إشراف مركز أبي الكلام آزاد للتوعية الإسلامية ويرأس
المركز الشيخ عبد الحميد الرحماني ومن أهم أهدافه العلمية ما يلي:
1 -إحياء نفائس تراث سلفنا الصالح.
2 - نشر الثقافة الأصلية المستمدة من الكتاب والسنة.
3 - الدعوة إلى العودة بالأمة للاعتصام بالوحيين ونبذ الشرك والكفر والإلحاد.
4 - معالجة القضايا الجديدة في ضوء الكتاب والسنة وبفهم السلف الصالح.
5 - محاربة البدع والأهواء والعادات المستنكرة في أوساط المسلمين
وتبصيرهم بالحق ودليله ومن جهود الجامعة السلفية العلمية إقامتها ندوة علمية
عالمية عام 1408 هـ عن شيخ الإسلام ابق تيمية ومآثره التجديدية وأعماله الخالدة، وفي عام 1412 عقدت مؤتمرا عاما للسيرة النبوية شارك فيها الكثير من علماء
ومفكري الأمة الإسلامية، وألقيت فيها العديد من الدراسات العلمية الهامة.
ومن أبرز شباب التيار السلفي في الهند صلاح الدين مقبول أحمد وعبد
الرحمن الفريوائي، وأبو المكرم السلفي. ولهم أبحاث هامة عن دور الدعوة السلفية
في الهند مذكورة ضمن مراجع هذا المقال، ومن أهم مجلات الدعوة السلفية بالهند
مجلة (صوت الأمة) ويرأس تحريرها الشيخ مقتدى حسين الأزهري، وهو وكيل
جامعة بتارس السلفية بالهند.
الواقع الاجتماعي والتشريعي للمسلمين بالهند:
المجتمع المسلم هناك مجتمع محافظ متمسك بآداب الإسلام، لا سيما في
النواحي الاجتماعية التي هي محل اهتمام أعداء الإسلام لمحاولة هدم مجتمعهم
وتغريبه.
ولقد اهتم المسلمون بالمرأة وتكريمها في الوقت الذي كانت المرأة الهندوسية
فاقدة لإنسانيتها، بل قد تضطر لإحراق نفسها تفاديا لإهانات الهندوس.
ومع اهتمام المسلمين بتعليم الفتيان إلا أنهم لم يهتموا بتعليم المرأة كالفتى،
وكل ما حصل في بدء تعليمها أنها لقنت شيئا من القرآن الكريم لكسب الثواب
ولأداء العبادة، دون أن توجه إلى فهمه وإدراك مراميه. ومن هنا وجد المستعمر
والمبشرون ثغرة استغلوها بجلب فتيات متعلمات لتدريس بنات الأمراء والأعيان،
وتربيتهن على الأسس الغربية، ثم أقنعوا بعض الأهالي بتدريس بناتهم في تلك
المدارس التي تبث السم في الدسم، ولذلك حث (كارسان دتاسي) الإنجليزي في
خطبته الحولية عام 1871 على التعليم النسوي، وحصر النتائج بقوله» إن النشء
الجديد سيملك السبق في الفكر، وينجو من ضيق الأفق، ويلغي جميع التقاليد البالية «وتحت ضغط القيم الإسلامية السائدة بدأ تعليم البنات غير مختلط، ولم يستطيعوا
الدعوة للاختلاط إلا عام 1974 حيث تقّبل الناس ذلك وأصبح مألوفا.
وصدرت خطة التعليم الخمسية عام (1947 - 1951) ، ومن أهدافها:» أن
تبذل الدولة الجهود بواسطة الدعاية التعليمية للقضاء على التعصب في الأوساط
الريفية ضد التعليم المختلط «وحينما استطاع دعاة التغريب استغلال تعاليم الإسلام
للترويج لتوجهاتهم نجحوا في خداع المرأة والدعوة لفرنجتها - كما فعل دعاة
التغريب في الشرق العربي أمثال قاسم أمين وبطانته - مما ساهم في تخلي الكثير
من النساء المسلمات عن قيمهن الإسلامية تحت دعاية تحرير المرأة، والدعوة
لمساواتها بالرجل، فشقين أولئك المخدوعات زمنا، ولما رأينا نتيجة ذلك انحرافا
وتدهورا ظهرت صحوة إسلامية في محيطهن؛ فتمردت الكثيرات على تلك
الأحاييل، وعدن إلى الله وتحجبن طاعة لله ورسوله، فلله الحمد والمنة.
النظم التشريعية وكيف انحرفت:
بدأ الانحراف بالقضاء على التشريع الإسلامي علنا على يد الإنجليز عام
1772م حين أسند منصب رئيس القضاة لملك انجلترا. وبدأ التشريع الوضعى يأخذ
طريقه لساحة القضاء. والمتتبع لحركة هذا الانحراف لا يخفى عليه أن الإنجليز قد
هيأوا الأسباب لنقض التشريع الإسلامي عروة عروة، بدءا بتحديد مجال تطبيق
الشريعة.
وبعد قرن غمر الإنجليز البلاد بتشريعاتهم الوضعية منذ بداية العقد السابع من
القرن 19 وكانت سياستهم على حد قولهم: (بطيء ولكن أكيد المفعول) ففى خلال
30 سنة من القرن الماضي وضعت كل التشريعات البشرية بعدما استفادوا من
التشريعات الإسلامية خوفاً من الصراع مع المسلمين.(68/67)
المسلمون والعالم
ما هكذا تكون إرهابياً ... أيها الأسمر!
د/ عبد الله عمر سلطان
وأخيرا عملت آلت التصنيف عملها، حين أدرجت السودان في قائمة الإرهاب
العتيدة ...
هذه القائمة تصغر عاماً، وتنمو بصورة مذهلة في عام يليه، دون أن يكون
هناك قانون ثابت يحكمها أو ناموس واضح يفسرها ... ولهذا فإن على المشبوهين
المسجلين في قائمة الانتظار أن يتحلوا بشيء من الصبر، وكثير من الدهاء، حتى
ينجوا من «العقوبة» التي تطاردهم ... إن ناظر المدرسة الأمريكي - الذي هو
طالب يتمتع بكثير من العضلات المفتولة - قرر بعد أن انتقل من مقاعد الطلبة إلى
مكتب الإدارة «الدولية» أن يسلط بعض «قوته وجبروته حين يمنح شهادة حسن
السيرة والسلوك لزملائه ... هذه الشهادة تمثل فكرة جميلة، ويُمنح بموجبها العضو
المنضم إلى محيط المجتمع الدولي شهادة حضارية على نبل سلوكه، وبعده عن
اللجوء إلى أساليب الإرهاب والبطش ... صحيح أن الفكرة جميلة وحضارية وراقية
إلا أن همساً يدور بين أوساط الأقران في» المدرسة الدولية «يقول: كيف يمكن
لعضو ندّ لَنا أن يمارس علينا دور الأستاذية، بغض النظر عن نبوغه وقدراته
وثروته ... إنها مسألة مبدأ، فالأقران من الطلبة والأفراد، والجماعات والدول
متفاوتون حتماً ... بعضهم نابغ، وثانٍ ورثَ ثروة لم يتعب في تحصيلها، وثالث
جاد مجد غير موفق، ورابع محظوظ ... لكنهم في النهاية أقران مشتركون في
مساحة معينة وثابتة، ولذا فليس من حق التلميذ القوي أن يفرض جبروته على
الضعيف لمجرد أنه مفتول العضلات، أو أنه يملك أسلحة رعب ودمار، ويذكر
بأنه صبها على رأس الملايين من الأبرياء قبل خمسين عاماً في هيروشيما
وناجازاكي؛ لمجرد إثبات جنون الدمار المتمكن في ذاته، أو تكريس مبدأ الهزيمة
والعار للجانب المستسلم تحت ظلال الدخان النووي المدمر! !
من الطبيعي إذن - والحالة هذه - أن يتساءل المتابع لقائمة الإرهاب السنوية
وأن يلقي بعض الملاحظات بعد أن يتجاوز إشكالية شرعية إصدار قائمة للإرهاب
من قِبل جهة تتهمها جهات كثيرة بأن لها تاريخاً طويلاً في استخدام العنف
وتكريسه ...
لقد خلت القائمة الأمريكية من ذكر دولتين تمارسان الإرهاب وقذف الرعب
في قلوب الأبرياء قبل صدور اللائحة في صورتها النهائية وأثناءه وبعده؛ فإسرائيل
قامت خلال صيف هذا العام بغزو بربري لجنوب لبنان بحجة ضرب حزب
الرافضة المسمى بحزب الله في الوقت الذي شردت فيه أكثر من نصف مليون مدنى
بريء، وطاردت طائراتها الأطفال والنساء والشيوخ حتى مشارف الشمال السني..! ... دع عنك ما تردده منظمات حقوق الإنسان من إدانة دامغة لسلوك إسرائيل العدواني
تجاه سكان الأراضي المحتلة، واستخدام أساليب إرهابية مبتكرة، كتدمير منازل
المشتبه بهم، وتبنى المجتمع الدولى لقرار يجبر إسرائيل على إعادة المبعدين
المدنيين إلى ديارهم شاهدُ آخر على قبح السلوك الإرهابى الإسرائيلي، الذي يصب
جام غضبه على أبناء الأمة منذ أكثر من نصف قرن فإذا لم تكن إسرائيل إرهابية
فمن الإرهابي إذن..؟ ؟ ربما يقول ساذج: الصرب الذين دمروا المساجد الآمنة
وهتكوا عرض 100. 000 امرأة، ومارسوا التطهير العرقي، وأبادوا الحرث
والنسل، وبقروا البطون، ومثلوا بالأحياء والأموات ... ! والجواب بـ كلاّ..»
كبيرة جداً، فالصرب الهمج لا تشملهم قائمة الإرهاب الأمريكية، مثلهم مثل اليهود، والسبب يتضح ببساطة حيث أن المقصود بهذه القائمة إرهاب الشعور النصراني
اليهودي ليس إلا!
* معظم الدول التي جاءت بها القائمة دول إسلامية، ابتليت بجزارين وطغاة، صنعتهم مبادئ الغرب وقيمه، سواء أكانت وطنية، أو قومية، أو اشتراكية،
فالعراق يسدد جرائم البعث، وليبيا عليها أن تقاسي من جراء انفصام شخصية
القذافي، أما إيران فإن حكم الملالي لا يتورع عن استخدام العنف لتحقيق أحلام
الخميني الهالك، أو بروتوكولات حكام (قم) . وقس على ذلك ... إن القائمة إن
شملت كوريا الشمالية فإنما يصب إدخالها في خانة الإسقاط النفسي القائل بأن
الإرهاب هو سلوك يرتبط بالإسلام والشعوب التي تدين به!
إن أمريكا بأقمارها الصناعية، وطائراتها التجسسية، وعملائها المبثوثين فى
الأرض، والبحر، والجو، عجزت عن أن تقدم دليلاً واحداً لهذا السلوك السوداني
الإرهابى، والمعروف عن أجهزة التجسس الغربية أنها تُتبع التهم بالأدلة حتى
ترسخ التهمة بالنسبة للشعوب التي تحكمها، وتثير الفزع في قلب الضحية والمتهم!
فهل عجزت الأجهزة التي تراقب مستودعات تخزين الأسلحة، ومواقع صواريخ
محددة عن الإتيان بدليل مقنع ومبرر مقبول، أم أن الاتهام سياسي في أساسه كما
قال (وليم كوانت) الخبير بشؤون الشرق الأوسط الذي يرى أن إدراج السودان هو
إشارة سياسية ضاغطة للحد من التوجه الإسلامي في هذا البلد؟ !
كان بإمكان (جون جرنج) أن يستمر في ممارسة تمرده، وما يصاحبه من
تقتيل، وتشريد، وإرهاب، جعل الجنوبيين أنفسهم يبتعدون، وينشقون عنه وعن
حركته البربرية، التي لا تراعي حقوقاً إنسانية أو أخلاقية. ف (جرنج) صنيعة
مجلس الكنائس العالمي مدعوم بصورة مكشوفة، بالرغم من أنه يقود حركة تمرد
ضد حكومة معترف بها دولياً، ورغم ذلك فلم يرف جفن خبراء الإرهاب في وزارة
الخارجية الأمريكية؛ لأنه مضموم ضمناً إلى قائمة إسرائيل وصربيا لا ضر من
ممارساتها الإرهابية؛ طالما أن الضحايا من الذين يحملون شهادة التوحيد في
صدورهم....
فالسودان الشمالي المسلم إذن لم يعرف كيف يفهم أن يكون محاكياً لرابين، أو
بيجن، أو شارون، أو ميلوسيفتش، أو كارفاجيش ومن الفصيل «الحضاري»
الذي يعلي من شأن حضارة الرجل المسيحي الأبيض، والذي قد يقبل في زمرته
أتباع الكنيسة السُمر، كجون جرنج، ونيريزي من قبل، اللذين افتتحوا فرعاً كنسياً
جنوبياً يهدد بخنق منابع النيل والانتشار الحضاري للإسلام في القارة السوداء. ولو
رضي السودان الأسمر بزعامة عصابات «جون» فإن اسمه سيُمحى من القائمة
آلياً؛ لأن من يريد أن يمارس الإرهاب كما يريد التلميذ الفُتوَّة، فإن بإمكانه أن
يفعل ذلك، حتى ولو كان أسمراً! ! أما إن كان أسمراً ومسلماً في الوقت نفسه فإن
همساً يجري تداوله في محيط الأسرة الدولية يحذر من الجمع بين سمرة البشرة،
والإسلام، والقبول في المحيط الدولي المتحضر، الذي لا يفهم إلا القوة والجبروت
حين تصبان ضد سودان (أسمر مسلم مستقل) وهى صفات يستحق من يحملها أن
يسارَع إلى رميه بشتى النعوت والتهم! ولكن السودان الأسمر لو انحرف عن
توجهه فإنه حتماً سيكون مقبولاً بكل بشاعته وإرهابه، حتى ولو كان في قبح جون
قرنق وأفراد عصابته إن القانون يريد إرهابياً كهذا! يرحب به ويقول له: «هكذا
تكون إرهابياً ... أيها السودان الأسمر!» .(68/77)
المسلمون والعالم
مجاهدو مورو لم يهزمهم الاستعمار
لكن هزمتهم مائدة المفاوضات
التحرير
وردنا البيان رقم (21) (414هـ، 1993م) من لجنة الإعلام الخارجي
لجبهة تحرير مورو الإسلامية، وفيما يلي عرض لأهم ما تضمنه ذلك البيان:
أكد لنا التاريخ أن الاستعمار الصليبي - رغم جهوده - لم يهزم مسلمي مورو
في ميدان الحرب، ولكنه هزمهم في مائدة المفاوضات. لقد خاض مسلمو مورو
أطول حرب في التاريخ كما قاله المؤرخ الأمريكي فيك هارلي في كتابه (هسهسة
السيف) ، وفيما يلي مقتطفات وترجمة من الكتاب المذكور: «تعتبر بلاد بانجسا
مورو من أقدم ميادين الحرب في العالم، فقد خاض مسلمو مورو حروباً مريرة
استمرت 377 عاما ضد الحملات الأسبانية المتتالية التي شهدتها الأجيال المتلاحقة، ولعل العالم لم يسجل حروبا دامية مريرة أطول من حروب مورو ضد الأسبان.
وقد فشلت محاولات المعتدين للسيطرة على شعب مورو الشجاع وفي عام 1899 م
ألقى المعتدون سلاحهم وغادروا المنطقة خائبين ذليلين، وانتصر السيف على
البندقية، وبقي شعب مورو وبقيت عقيدته حيث انتصر الإسلام على الصليب في
أرض بانجسامورو» . هذه ترجمة ما قاله المؤرخ الأمريكي في كتابه المذكور.
ومضى قائلاً: «وفي غرة القرن العشرين جاء الأمريكيون، وحاولوا عبثاً أن
يخضعوا مسلمي مورو لحكمهم، وعندما أدرك الأمريكيون أن مسلمي مورو لا
يعرفون الاستسلام، بل يحبون الموت (الاستشهاد في سبيل الله) ، ولن يتوقفوا عن
الجهاد إلى آخر رجل منهم، عرض عليهم الأمريكيون وقف القتال والمفاوضات
معلنين أنهم لا يريدون السيطرة على البلاد، وإنما يريدون التعاون في المجالات
الاقتصادية والتعليمية والصحية، فوافق المسلمون، وبذلك نال الأمريكيون غرضهم، ولم يهزموا المسلمين في ميدان الحرب، ولكنهم هزموهم في مائدة المفاوضات،
ووقعت بلادهم تحت حكم الولايات المتحدة الأمريكية. وقد فشل الحديد والنار في
قهر شعب مورو المسلم وإخضاعه، وأصبحت بلاد مورو تحت الحكم الأمريكي عام
1935 م؛ بسبب دخول شعب مورو في المفاوضات مع الأمريكان، ثم ضمتها
أمريكا إلى الفلبين عام 1946 م حين منحت الأولى الثانية استقلالها في ذلك العام،
أي أن أمريكا أعطت شعب مورو للفلبين جزاء لمساعدتها لهم في حرق هذا
الشعب» .
هكذا لم يهزم شعبنا المسلم أمام القوات العسكرية التي فاقت قواتها مئات
المرات إمكانياته المادية، ولكنه انهزم عن طريق الحيلة والمكر وبواسطة
المفاوضات المقرونة بالخداع، وقد ذكرنا ما تقدم تنبيها لكل من يدفعون جبهة
مسواري الوطنية إلى المفاوضات ويشجعونها، وتذكيراً لهم بأن شعب مورو فقد
استقلاله بسبب المفاوضات. صحيح أننا لم نعارض مفاوضات مسواري إعلاميا
ولكن لم نشجعها ولن ندفعها إلى الأمام، فإن قيل: إن عدم المعارضة نوع من
التشجيع قلنا: عدم معارضتنا إعلامياً ليس تشجيعاً، ولكنه سياسة.
مفاوضات الاستسلام وقضية مسلمي مورو:
مفاوضات جبهة مسواري الوطنية العلمانية الحالية مع حكومة راموس
الصليبية هي سلسلة من المفاوضات التي استمرت أكثر من ثمانية عشر عاماً، لقد
تفاوض مسواري مع جميع حكومات الفلبين المتعاقبة ابتداء من حكومة الديكتاتور
ماركوس مروراً بحكومة زوجته إلى حكومة الثعلب المحتال راموس الحالية، التي
ليس لها هدف في مفاوضاتها معه سوى إقناعه بالاستسلام، وعرض منصب
حكومي عليه، ومبلغ من الأموال. والشيء المضحك أن حكومة الفلبين - التي
تعتبر من أفقر الحكومات في العالم - ما زالت قادرة على دفع الملايين من الأموال
للاحتيال والمكر والرشوة وشراء ضعاف الإيمان والنفوس كما فعلت أثناء
الانتخابات الأخيرة فيما يسمى الحكم الذاتي، فقد أنفقت الملايين من أجل إنجاح ذلك
المخطط، كما أنفقت أيضاً الملايين لشراء ضعاف النفوس من الثوار العلمانيين من
أتباع مسواري، وقد استسلم عدد من هؤلاء مقابل بعض المبالغ التي دفعت لهم،
فإلى الله المشتكى.
والله نسأل أن يوفق المجاهدين لقطف ثمار الجهاد، وأن يكفينا شر الراكبين
موجات الجهاد لمصالحهم.
والله المستعان.(68/82)
محاضرات إسلامية
الصحوة الإسلامية وأزمة المثقفين
في ديار الإسلام
(1)
جمال سلطان
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،
وبعد:
فإن الحركة الإسلامية إذا شئنا التقييم الموضوعي النزيه، هي أهم وأعظم
حركة اجتماعية فكرية سياسية، شهدتها المنطقة الإسلامية، على مدار القرن الفائت
كله، وذلك بالنظر إلى الفكرة التي قامت عليها هذه الحركة، ومحورها الإسلامي،
الذي يمتاز بالأصالة والتجديد والإحياء والنهوض، وهي المعاني التي سرقتها
طوائف أخرى من تيارات الحركات العلمانية السياسية والفكرية والاجتماعية،
وحاولت نسبتها إلى ذاتها ورفعها شعاراً تتجمل به، وتخدع به المسلمين؛ وأيضاً
بالنظر إلى البعد الجماهيري واسع النطاق لهذه الحركة، ورغم أنها حركة بعيدة عن
السلطة أغلب الأوقات، فلم يعرف المسلمون حركة اجتماعية وفكرية وسياسية،
استطاعت أن تكسب هذا الامتداد الجماهيري الهائل، رغم كل الضغوط والترهيبات، والقمع بأنواعه المختلفة. إن قبول الحركة الإسلامية واجتذاب الناس خلف شعار
أو فكرة - في حد ذاته - ليس دليلاً كافيا على صدقيتها، ولكن أن تحشد هذه
الجموع خلف لواء الإسلام من جديد، وتتحدى شياطين الإنس، في الداخل
والخارج، وتستطيع أن تحرك الناس بهذا القدر للمطالبة بعودة الإسلام، دينا ودنيا، عقيدة وشريعة، مصحفاً وسيفاً، فهذا - بكل المقاييس - حدث فذ.
أيضاً؛ فالحركة الإسلامية حدث فذ وفريد، من جانب الهبة الإلهية لأبنائها أن
تمتد هذه الحركة وتياراتها، لتخترق الحدود المصطنعة، لكنها القاسية والصارمة،
بين أقطار الإسلام، لتصبح الحدث الاجتماعي الأكبر في بلاد المسلمين كافة، كلا،
بل الحدث البارز والمثير للانتباه والبحث والتفكير في قارات العالم أجمع، وحينما
وُجد إنسان يشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيضاً؛ فالحركة الإسلامية حدث فذ، من حيث أنها أول تيار فكري سياسي
اجتماعى في العالم الإسلامي الحديث، يقوم وينتشر، متطهراً من عقدتي: الغرب، والتخلف، وهذا ما أفزع دوائر الغرب ومراصده من هذه الحركة، لأنه - لأول
مرة - يشهد مثل هذه الحركة الجماهيرية التي تعلن -في جرأة وثقة- أنها تقبل
التقنيات والعلوم البحتة، فهي تراث إنساني مشاع؛ وتكفر بالمناهج والنظريات
والقيم والأفكار الغربية، ويقول أتباعها: إن في ديننا وإسلامنا غناءً لنا، وفيه
حاجتنا، وهدانا، ورشدنا، ومنهاجنا للنهوض والتحضر.
ومن جانب آخر؛ كانت الحركة الإسلامية، متجاوزة لعقدة «التخلف» ،
التي أثارت الخلل المنهجي والعقلي والسلوكي في أجيال عدة من بني الإسلام لا
سيما مثقفيه، فمنهم من رأى التخلف قدرنا، ومنهم من جعله ناتج تراثنا،، ومنهم
من جعله بسبب تمسكنا بديننا، ومنهم من جعله بسبب ترددنا في الالتحاق بالغرب،
وها هي الحركة الجديدة، تقلب كل المفاهيم، لتؤكد أن «التخلف» ليس قدرنا،
بل هو ما جنت أيدينا، فإذا ما عدنا لما صلح به أولنا، صلح واقعنا، وارتفعت عنا
وصمة «التخلف» ، كما أن التراث هو جهد الإنسان، فيه ما في الإنسان، من
خير وشر، وصحيح وباطل، ونهضتنا لا تقوم إلا بعودتنا إلى تراث سلفنا الصالح، ورفض ما عداه من الانحرافات والبدع، والموبقات الفكرية والسلوكية والسياسية، حاكِمُنا كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم من بعد ذلك حاجات
واقعنا الجديد.
ثم ها هي الحركة الجديدة، تصل إلى تحديد منطلق التصحيح والنهوض،
وذلك بالتأكيد على أن سبب تخلفنا، كان هو بعدنا عن الإسلام، وهجرنا لمعالمه،
وخور العزائم في الدفاع عنه، ومن ثم فإن سبيلنا هو إحياء الدين في النفس وفي
الواقع، والدفاع عن السنة، وتعزيز إيمان المسلم بأن الإسلام هو السبيل، والإسلام
هو الحل.
وإذا كانت الحركة الإسلامية بهذا القدر من الخطر والشأن بشهادة خصومها،
بل بشهادة الواقع الذي لا يكذب أبداً، فإنها - بالمقابل - كانت من أكثر الحركات
ظلماً لدى بعض الباحثين والناقدين والمؤرخين، وذلك لأسباب عديدة لا مجال
للتفصيل فيها هنا، ولكننا - في هذا المقام - نعتني على بعض الإسلاميين أنفسهم
الذين استهوتهم موجات النقد، ودعاوي النقد الذاتي، حتى غرقوا في بحاره، وما
عاد أحد يسمع عن «إيجابيات» للحركة الإسلامية، وأنا زعيم بأن تسعين بالمائة
مما يكتب في تقييم الحركة الإسلامية ينحى باتجاه إبراز «سلبيات الحركة» ،
ويبقى نزر يسير، يشير إشارات عجلى إلى «إيجابيات» الحركة، وهذا خلل
خطير، على الأقلام الإسلامية بالذات أن تتنبه له، وتعيره اهتمامها.
والآن من الضروري أن نحدد أبرز إيجابيات الحركة الإسلامية مما يتعلق
بسياقنا الحالي، ليس من قبيل التزكية، أو مجرد التذكير بهذه الإيجابيات، وإنما
لما لهذه المعالم التي سنذكرها من أهمية كبيرة في كشف خلفيات العداء الذي أسفر
عن وجهه أخيراً ببشاعة بين تيارات الثقافة المغتربة بمختلف فصائلها، وبين
الحركة الإسلامية، وبعد ذلك، نرصد بعض مظاهر «الفجور في الخصام الثقافي» لدى بعض المثقفين العرب وغير العرب من أبناء المسلمين، في موقفهم من
الإسلام والحركة الإسلامية، ثم نخلص بعد ذلك برؤية مستقبلية للعلاقة بين الحركة
الإسلامية والمثقفين في ديار الإسلام.
معالم الحركة الإسلامية وإيجابياتها:
أولا: الحركة الإسلامية عندما تقدمت إلى الواقع منذ عدة عقود، لم تتقدم إليه، بصفتها جمعية دينية، بالمفهوم الضيق لمعنى الدين، وإنما تقدمت بصفتها
مشروعاً للنهضة والتجديد ينطلق من الإسلام وحده.
وبالتالي، فظهور العمل الإسلامي بهذه الصورة لم يمكن العلمانية ومثقفيها من
خوض معاركها مع الحركة الإسلامية على أساس «التقسيم الأوروبي التاريخي»
بين الحكم الثيوقراطي والحكم المدني، وبين رجال الدين ورجال النهضة والتجديد،
لأن الإسلاميين كانوا «رجال نهضة وتجديد» ، والحركة الإسلامية كانت حركة
نهضة وتجديد، وهذا ما أضعف كثيراً تشويشات العلمانيين العرب على الحركة
الإسلامية، وجعل حديثهم عن الكهنوت، والثيوقراطية، والحكم الديني، ونحو ذلك، أشبه بالمزاح أو العبث الثقافي، فضلاً عن فقدانه أي تأثير على القطاعات الثقافية
الواسعة وعموم الناس.
ثانياً: أن الحركة الإسلامية هي - بشهادة الواقع والخصوم - صانعة الموجة
الثقافية الحالية في ديار الإسلام كافة، ويستطيع القارئ المتأمل أن يلحظ ذلك الأمر
على الفور، من خلال الاطلاع على مختلف النشاطات الثقافية، فكرية وأدبية وفنية، إذ يجد أن «قضية الإسلام» و «الصحوة الإسلامية» ، هي القاسم المشترك
الأعظم في النتاجات الثقافية المتصلة بهذه الجهود كافة، سواء كان ذلك بالسلب أو
بالإيجاب، إن المعادين للإسلام والصحوة الإسلامية - أو أبناء الصحوة ورجالاتها
ونساءها والمتعاطفون معها أو المتأثرين بها. في كل هذه الأحوال تبرز الحقيقة
ناصعة، لتثبت أن الحركة الثقافية الآن في ديار الإسلام تدور حول قطب واحد هو
«الإسلام» ، وذلك نصر كبير للحركة الإسلامية، رغم أن العديد من الإسلاميين
أنفسهم لا ينتبهون إلى خطره وقيمته.
لقد كانت الثقافة في ديار الإسلام - حتى عهد قريب - تدور حركتها حول
قطب «الغرب» والفكر الغربي والحضارة الغربية، سواء بالتبعية، أو النقد، أو
المواءمة، المهم أن القطب صاحب الحيوية الثقافية الذي يصبغ الحركة الثقافية
بصبغته - سلباً أو إيجاباً - كان هو الغرب والفكر الغربي والآن أصبح «الإسلام» هو القطب، والفكر الإسلامي هو الذي يصبغ الحركة الثقافية بصبغته - سلباً أو
إيجاباً -، المهم أن الجميع الآن يدورون في فلكه، أرأيتم حجم النقلة وروعتها؟
ثالثاً: إن مثقفي الحركة الإسلامية اليوم هم الرواد الحقيقيون للجماهير المسلمة، وهم الأكثر التصاقاً بالناس، وتعبيراً عنهم، وجاذبية لديهم وهم الأكثر نفوذاً في
العقل العربي والإسلامي الجديدين بوجه عام.
والكلام هنا لا نقصد به أبداً، التفاخر، أو التفريط أو المباهاة، فليس المقام
مقام ذلك، وإنما نحن نرصد «ظاهرة» ثقافية، من حقنا بل من واجبنا أن نبني
عليها، ونضعها في اعتبارنا عندما ندرس حياتنا الثقافية الجديدة.
إن الحركة الإسلامية في ديار المسلمين لا تملك السلطة، بل هي - غالباً -
مضطهدة من السلطة، ومع ذلك نجد إقبال الناس على الدعاة - شباباً كانوا أو
شيوخاً - بالغ الإدهاش، وإقبال طلبة الجامعات والمثقفين على الكتب الإسلامية
والمحاضرات طاغياً بوضوح، حتى أنه لم يعد من قبيل المفاجأة أو الجديد أن يزور
القارئ معرضاً من معارض الكتب الرسمية، فيجد دور النشر العلمانية بل الشيوعية
تضع في صدر أجنحتها كتب سيد قطب، وأبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى
المودودي، ناهيك عن كتب السلف الصالح، وقد شاهدت ذلك بنفسي في معرض
القاهرة الدولي للكتاب.
بالمقابل؛ تجد المثقف العلماني أو المتغرب، قوميا كان، أو شيوعيا، أو
ليبراليا شبه معزول عن واقعه، محروماً من الإحساس بجمهور الناس، حانقاً على
شعبه. إن أحداث الجزائر وما تلاها،، كشفت بوضوح أن المثقف العلماني، قد
تحول إلى عدو صريح للشعب، وللجماهير، يصرح باحتقاره للناس، وبعدم أحقية
الشعوب - الآن - في اختيار حكامها، واتهام الجماهير بالتخلف والغباء
ونحو ذلك.
كما تحولت لقاءات المثقفين العلمانيين إلى ما يشبه «نوادي أدبية» محدودة
العدد ومحفوظة الوجوه، المتحدث فيها هو المستمع، ولا يخرج صوتهم - أبداً -
إلى الشارع، ولا ينفذ إلى عقول الناس وقلوبهم، ولا يكاد يسمع الناس بأسمائهم إلا
عبر الصحف الحكومية التي «أُجّرت» لهم، نظير سب الإسلام والصحوة
الإسلامية ورموزها وتشويهها، ودعوة الناس إلى الانصراف عنها.
إن الحصار الذي يفرض الآن على الحركة الإسلامية - سياسياً وفكرياً
واجتماعياً - هو بالمقياس الثقافي العام «مدمّر» و «قاتل» ، ومع ذلك؛ تصل
دعوة الحق وصوت الإسلام إلى الناس في كل مكان، وتتأبي الحركة الإسلامية على
الموات بفضل الله ورحمته.
رابعاً: الحركة الإسلامية وصحوتها أدت إلى بلورة الموقف الثقافي، ودفعت
الحركة الثقافية إلى درجات حادة من التمايز والوضوح، وبالمصطلح الإسلامي،
فإن مسألة «الولاء والبراء» قد انتقلت بالفعل إلى الحياة الثقافية، وفرضت على
الرموز الثقافية حسم مواقفها وخياراتها، بعد أن ذابت المناطق المحايدة، وتمايزت
السبل، وأصبح الانتماء الثقافي محصوراً في وجهتين: الأصالة والإسلام من جانب، والتقليد والتأورب من جانب آخر.
وفي الحقيقة فإن الطرح الجديد للحركة الإسلامية، كان نقلة ضخمة فى
الوعي الإسلامي الحديث كله، إذ نادى الإسلاميون بأن الإسلام - والإسلام وحده -
هو السبيل، وهو الحل، وهو حضارتنا، وأن الإسلام كل متكامل، ومنهاج شامل، عقيدة وشريعة، ديناً ودنيا، وأن للإسلام خصوصيته التي لا تشبه شيئا من أفكار
البشر، ومناهجهم، ومذاهبهم.
هذا الطرح قطع الطريق على المزورين، والملفقين، الذين احترفوا تمييع
المواقف الفكرية، بمحاولات المزاوجة بين الإسلام والفكر الغربي، ونظرياته
السياسية والاقتصادية، ونظمه التشريعية، ونسقه القيمي، وهي المحاولات التي
أسهم فيها - بحسن نية - قطاع واسع من المفكرين المسلمين على مدار القرن
الأخير، زعماً أنهم - بذلك - يجملون الإسلام في عين الإنسان الجديد،
ويستجلبون تأشيرة دخول للإسلام إلى نادي الحضارة الأوربية الطاغية!
وعلى الرغم من أن نفراً من المفكرين المسلمين اليوم، مازال أسير هذا
الموقف الساذج والمهزوم، إلا أنهم أصبحوا «ندرة» وشبه معزولين عن المجرى
العام للصحوة الإسلامية الجديدة.
هذا الموقف والطرح الفكري الحاسم والواضح، جعل المثقفين أمام أحد
خيارين، لا ثالث لهما؛ إما الإسلام، وإما الاغتراب، وكان من نتائج ذلك على
الصعيد العملي، تعدد حالات التحول الفكري لرموز ثقافية كبيرة إلى الإسلام، على
ما شاب بعضها من بعض الغبش، وبالمقابل سفور عداء المثقف العلماني للإسلام،
والانحدار الخطير في لغة الحديث عن الإسلام وتاريخه وشريعته ورموزه المقدسة،
ومن ثم؛ نذكر، ونؤكد، أن ازدياد عنف مثقفي العلمانية والإعلام المؤازر لهم،
وطغيان هجومهم على الإسلام ورموزه ودعاته، هو مؤشر طيب، وإيجابي،
وليس سلبياً، هو شعور «الظلاميين» باقتراب الفجر، وتميز الخيط الأبيض من
الخيط الأسود، وكلما ازداد موقف الإسلاميين وضوحاً، وكلما نجحوا في نقل هذا
الوضوح إلى «الناس» وإلى عامة المثقفين، كلما ازداد السعار العلماني، وكلما
تواتر انحداره الأخلاقي والفكري بصورة متسارعة ومتخبطة.
خامساً: لقد شاء الله تعالى أن يعلو مد الحركة الإسلامية، ويشتد عودها، في
الوقت الذي كانت فيه أكبر تجربة أوربية عقائدية جديدة تذوي وتنهار، وتنتهي
بفضيحة سياسية واقتصادية وإنسانية لا حدود لها، وأعني بذلك المشروع الماركسي
وهو نبت فلسفي أوربي كما هو معروف، أي أنه إفراز لحضارة أوربا ومع
سقوط الماركسية وتتابع انهيار نماذجها في أوربا وآسيا وإفريقيا، بدأت حقائق
التاريخ تعود من جديد، لتؤكد ما حاولوا تغطيته وستره طوال قرن أو أكثر من
تاريخنا الحديث، عادت حقائق التاريخ، لتبرز العداء الغربي تجاه الإسلام، والحقد
الغربي على المسلمين، والقلق الغربي من ظهور دولة الإسلام من جديد، وأصبحنا
اليوم نسمع الكلام سافراً عارياً، من الدوائر الغربية، الإعلامية أو السياسية، بأن
«الإسلام» هو العدو الجديد / القديم، للغرب، ومن ثم؛ فإن الحركة الإسلامية أو
«الأصولية» كما صاغوها، هي حائط الصد الذي يحول دون إعلان السيادة
الأوربية على العالم أجمع، وإعلان النصر النهائي للحضارة الأوربية
في الأرض.
إن المواجهة مع الغرب اليوم، قد بدت مواجهة مع الكيان الإسلامي بوصفه
أمة، فليست القضية قضية يمين أو يسار، أو ليبرالية أو اشتراكية، أو ديكتاتورية
أو ديمقراطية، وإنما القضية أصبحت قضية الوجود الإسلامي بكامله، فإما أن
ينمحق في المشروع الغربي، أو يكون عدواً للحضارة والمدنية، وأصولياً وإرهابياً، و ... إلى آخر قائمة الاتهام.
ومن ثم؛ تبدو الحركة الإسلامية اليوم في موقف الدفاع عن «الأمة» وعن
«الوجود» وعن «الهوية» ، كل أولئك بالقدر نفسه في دفاعها عن «الدين» إن التحالف الغربي الصليبي والصهيوني، يتجلى اليوم واضحاً في فلسطين، وفي البوسنة، وفي جمهوريات آسيا الوسطى «السوفيتية سابقاً» ، وفي ... الصومال، وفي غيرها من المواقع الديار، وعندما نجحت جبهة الإنقاذ في الجزائر، وحازت ثقة الشعب، وأصبحت صاحب الشرعية لقيادة الجزائر، فزعت الدوائر الغربية، وكان محور الفزع ليس الوضع الداخلي للجزائر، وإنما «آثار ما يحدث على أوربا ومصالحها في المنطقة» ، ومازلنا نذكر تصريحات سياسية من أعلى الدوائر الغربية، التي تؤكد بأنها لن تسمح بقيام حكم «أصولي» في الجزائر.
هذه الحقيقة، جعلت الحركة الإسلامية بمثابة الممثل الشرعي الوحيد لثقافة
الدفاع عن الأمة، وعن وجودها، وتراثها، وحاضرها، ومستقبلها، واستقلالها،
كما أنها الممثل الشرعي عن دينها وعقيدتها، وبالتالي أصبح معظم المعادين
للصحوة الإسلامية اليوم، لا يستحون من الكشف عن ولائهم الفاضح لأعداء الأمة،
إلى الحد الذى يتحدث فيه الشيوعيون والعلمانيون المصريون - مثلاً - عن عميل
للمخابرات الأمريكية، وكأنه بطل قومي لأنه تجسس على معارض إسلامي، كما
أن الذاكرة مازالت تحفظ آخر برقية أرسلها طاغية أفغانستان المخلوع «نجيب الله» إلى الرئيس الأمريكي، والتي قال فيها «ادخرني لعدوك..!» وعلقت
الصحافة يومها على البرقية بالقول: «إن نجيب الله عرض على الولايات المتحدة
أن تساعده في مقابل أن يقف صخرة في طريق المد الإسلامي» الأصولي «في
آسيا الوسطى، وإلى الحد الذي يشرنا فيه بعض المعارضين السودانيين من فلول
العلمانية والشيوعية بقرب التدخل الغربي في السودان، لتحريره من» الجبهة
الإسلامية «! ! !(68/85)
في دائرة الضوء
رؤية جديدة للدين الإسلامي [*]
روبن رايت
في آخر أيام شهر رمضان وفي اللحظات الباردة التي تسبق انبلاج الفجر
وشروق الشمس تأتي إلي الأسماع أصوات المؤذنين من آلاف المساجد بالقاهرة تلك
المدينة القديمة قدم الزمن تقول: الله أكبر الله أكبر «تنطلق من مكبرات الصوت
من خلال شوارع المدينة الضيقة والملتوية، بعدئذ تبدأ الشوارع التي كانت خالية
من الناس في الحركة.
لقد كان هذا صباح يوم عيد الفطر.
انطلقت أصوات الناس بالتهليل، تحمل في طياتها أدعية الحمد والثناء
» الحمد لله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا اله الا الله «إنها واحدة من أكبر المدن في العالم العربي تمثل منطقة حضارية هائلة تضم بين جنباتها كل الأشياء.
إنها أيضاً مدينة عربية، قريبة من قلب الصحوة الإسلامية المتنامية، التي
تدعو مسلمي العالم إلى أن يصبحوا على علاقة أوثق بجذور دينهم أكثر من أي وقت
مضى خلال التاريخ الإسلامي، الذي استمر 1400 عام حتى الآن.
يشكل الإسلام - الذي يبلغ عدد أتباعه بليون نسمة في كافة أنحاء العالم
ويعيش ملايين منهم كأقليات في الغرب - يشكل اليوم قوة سياسية وثقافية دولية،
تقف لتعيد تحديد علاقة الغرب بالعالم الثالث، وتتحدى مفاهيمه عن التقدم، وتضع
المعايير للنظام العالمي الجديد.
في الشهور الأخيرة احتلت الأخبار الإسلامية العناوين الرئيسة في الصحف،
بعد المكاسب الانتخابية التي حققوها في الجزائر، والأردن، والكويت، بعد أن
فجر الإسلاميون المتطرفون القنابل في نيويورك والقاهرة [1] .
واذا مانحينا العناوين الرئيسية في الصحف جانباً فإن الحقيقة الأكثر أهمية
تتمثل في أن الدين أصبح بشكل متزايد جزءا لا يتجزأ من نسيج الحياة اليومية
للمسلمين، من أفريقيا إلى آسيا، ومن نيوجيرسي إلى مانيلا، حيث تأتي عملية
التجديد للدين بمصدر جديد للهوية الثقافية، والعمل السياسي في عالم يشهد تغييرا
كبيرا.
ففي الجمهوريات السوفيتية السابقة في أوزبكستان وطاجيكستان نجد أن
مدارس قرآنية جديدة قد فتحت أبوابها كي تحل محل المؤسسات التعليمية العلمانية
التي قامت إبان الحكم الشيوعي، وفي الأردن نجد أن الخمور قد منع تقديمها على
طائرات الخطوط الأردنية، وفي جنوب شرق آسيا نجد أن ماليزيا تحاول بتردد
تطبيق الشريعة الإسلامية، في حين تجابه الفيلبين خطر الحروب الانفصالية بتحديد
مناطق للحكم الذاتي، يعيش فيها المسلمون.
ومن تونس إلى الأردن يحصل الأب المسلم النشط على أصوات الأغلبية في
الانتخابات المحلية لاتحادات الطلبة والنقابات والمجالس البلدية، كما أن المساجد في
مصر تضيق بتدفق المصلين إليها، حتى أنهم صاروا يؤدون صلواتهم في أقبية
المباني، وفي الحجرات الخلفية لها، وحتى في الممرات الجانبية التي يسير فيها
الناس.
لكن هذه الصحوة الإسلامية قليلاً ما يفهمها الغرب، الذي تنبع تصوراته عن
الإسلام من ثورة إيران في 1979، وجموعها الغاضبة التي كانت تهتف:»
الموت لأمريكا «كما تنبع من أحداث لبنان، التي قام خلالها جيل من المحاربين
المسلمين بعمليات قتل أو إرهاب للغربيين الذين غامروا، واقتربوا من قلب الحرب
الأهلية في لبنان.
وفي الواقع فان الارتباط التاريخي للإسلام بالسيف يجعل البعض من الغربيين
يرتعد حينما يرى كلمات تقول:» لا اله إلا الله محمد رسول الله «مكتوبة فوق
سيف مسلول على العلم السعودي وفي الوقت نفسه فإن هؤلاء لا يبالون بالعبارة
التي تقول» نحن نثق في الله «المنقوشة على ظهر الدولار الأمريكي.
الافتراءات والمفاهيم الخاطئة:
يعتبر الربط بين الإسلام والمحاربين من رجال القبائل العربية الذين نشروا
الإسلام في بدايته واحدا من العديد من المفاهيم الخاطئة، التي لها مفعولها اليوم.
فالعرب في التسعينات يتزايد وضعهم كأقلية بين الـ 75 دولة التي تشكل» دار
الإسلام «، والتي تقع مراكزها الكبرى حالياً في أندونيسيا، وباكستان،
وبنجلاديش، والهند، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى.
إن خمس سكان العالم ينتشرون عبر منطقة تمتد مسافة 11000 ميل من
غرب أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا، وهؤلاء جميعا يشهدون بأن محمدا هو خاتم
أنبياء الديانات السماوية. ولم يقتصر الأمر على الربط بين الإسلام والسيف، ذلك
أن هناك أيضاً خرافات وافتراءات أخرى منها قولهم:
- إن الدين الإسلامي دين» بربري «؛ لأنه يطبق حدودا مثل: قطع الرأس، وبتر الأعضاء، والرجم، كعقوبات لبعض الجرائم. وفي الحقيقة فإن المملكة
العربية السعودية، وإيران عموماً، والسودان من حين لآخر يطبقون هذه العقوبات
إلا أن قطع الرأس في الرياض لا يمكن أن يكون أكثر بربرية من الإعدام بالكرسي
الكهربائي.
إن كل المواطنين اعتبارا من سائقي سيارات الأجرة إلى أساتذة الجامعات
يثنون على هذا الأسلوب العقابي، ويردون على المنتقدين بالإشارة إلى الفارق بين
معدلات الجريمة في الرياض، ومعدلاتها في نيويورك.
- إن الوجه الصارم لآية الله روح الله خميني - الذي حكم بالموت على
المرتدين - يمثل غالبية رجل الدين من المسلمين، لكن يتعين علينا أن نجرب
مشاهدة رجل دين حكيم على شاشة التلفزيون هو الشيخ محمد متولي الشعرواي،
الذي يجلس متربعا مساء كل يوم جمعة، ويقوم بروح طيبة بتفسير القرآن الكريم
للملايين من المشاهدين.
- إن الإسلام الجهادي يسير على طريق التصادم العنيف مع الغرب.
وفي هذا الصدد يمكن القول بأن الإسلام قد يكون على خلاف مع الغرب في
نواحي معينة، لكن أسلحته بالنسبة للمستقبل تأخذ شكل المؤتمرات، والمنتديات
الفكرية، وصناديق الاقتراع، أكثر من أن تأخذ شكل الإرهابيين الملتحين، حتى
في مصر التي عانت من أسوأ أعمال العنف الإسلامية في السنوات الأخيرة.
في الواقع فإنه في الوقت الذي يبدو فيه أن العالم الإسلامي صار الجبهة التالية
للصراع بعد الحرب الباردة، فإن ذلك لا يرجع إلى حد كبير إلى أن المسلمين
يمثلون تهديداً عسكرياً أو إرهابياً، لكن لأنهم يطرحون تحديا أساسيا: يتمثل في قوة
اجتماعية سياسية متنامية، تثير تساؤلات حول بعض مفاهيم الغرب؛ عن الواقعية، وعن طبيعة التقدم، والعلاقة بين الله والبشر، ودور التقنية، والعصرية،
والمبادئ الأخلاقية في حياة الإنسان.
هناك جيل جديد من الإسلاميين الذين درس الكثير منهم في الغرب على
استعداد للاستفادة من المفاهيم الديمقراطية.
إن هؤلاء الإسلاميين يتسلحون بالكتابات القديمة من القرآن، التي جرى
تعديلها لتتواءم مع احتياجات الحاضر في إطار الإصلاح العصري، وهي تمثل
واحدة من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الإسلامي.
وفي هذا الصدد يقول أحد المفكرين» إنها ليست مسألة إحياء روحية فقط،
إنها مسألة إحياء أيضاً للقرآن، كما أنها تجديد للفكر ذاته، إنها صحوة لنشاط الطاقة
الإسلامية الكامنة، وهي على الأغلب صحوة تقودها الصفوة العصرية، التي
تعرضت لتأثير الغرب ولتحدي ثقافة الغرب ذاتها «ويضيف:
» أما مسألة أن قدر العالم الإسلامي المحتوم هو الصراع مع الغرب فإن ذلك
يعتمد على مدى استعداد الغرب لقبول مستوى من النزاهة والعدل يسمح بسيادة
الديمقراطية في العالم الثالث، حتى ولو تولدت عنها الحركة الجهادية الإسلامية،
وضمانُ معاملة المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي فلسطين، وليبيا بالمعاملة
نفسها التي يلقاها اليهود في إسرائيل، والنصارى في أي مكان من العالم «.
ويقول آخر:» المفروض أن نتحدث عن الاستقلال الفعلي، لا الاستقلال
الاسمي: عن الاستقلال الاقتصادي، وعن الاستقلال في الأنظمة التعليمية،
والأنظمة السياسية إلا أن هذا قد يتعارض بشكل أو بآخر مع مصالح الغرب.
إن قيام علاقة بناءة بين الغرب والعالم الثالث يعني وضع جداول أكثر عدلا
لسداد ديون الدول المدينة في العالم الثالث، وإقامة علاقات تجارية أكثر عدالة،
وتحقيق قدرة أفضل من جانب الدول النامية على الاستفادة من مواردها الطبيعية «.
ومن جهة أخرى يقول مفكر آخر اقتفى الحركة السياسية من ثورة مصر في
عام 1919 التي استمر المصريون بعدها في تبني التقاليد الغربية في مجالس
الأعمال والثقافة حتى ثورة جمال عبد الناصر في 1952 التي أقامت الاستقلال
الاقتصادي الاجتماعي على مذاهب قومية علمانية ماركسية.
» أعتقد أننا الآن في المرحلة الحديثة من حركة التحرير الوطنية وفي إطار
هذه المرحلة اكتشفنا أننا قد انغمسنا كثيراً في التقاليد الغربية إلى الحد الذي نسينا فيه
حقيقة أننا نختلف عنه أي: عن الغرب، وأننا حينما نتحدث عن شخصيتنا، وعن
هويتنا الوطنية، فإننا نأتي حتماً إلى الإسلام «.
ويضيف إن أول شيء نرفضه في الغرب هو إصرار أصحاب الثقافة الغربية
على أنهم يحتكرون مفهوم التقدم، وأنهم يحددون هوية التقدم والعصرية بربطها
بالحياة الغربية، ونحن نتساءل لماذا؟ !» .
ويضيف: «إن المسلمين إذا ما تولوا زمام الحكم فإنهم قد يضعون لدى
الآخرين نموذجا يجعل المعايير هناك تختلف، كما أنه لن يكون لديك معيار واحد
للقياس يتمثل في معدل النمو الاقتصادي إننا لا نعبد معدل النمو الاقتصادي إننا فكرة
الاستقلال الثقافي، الذي ربما يمثل أكثر التهديدات للغرب، وهو الاستقلال الذي
يبني بديهات التقدم والعصرية على تحكم العقل، والسعي إلى تحقيق الازدهار
الاقتصادي، وهي المفاهيم التي سادت الحضارة الغربية لأكثر من ثلاثة قرون.
إن الإسلام يتيح نموذجاً آخر يتمثل في نظام شامل للإيمان، يمتزج فيه الدين، والحكم، والزواج، والعمل امتزاجا كاملا في نسيج واحد متداخل، تحل فيه
الأفكار الراسخة والمحددة للأخلاق والقيم محل لغة الاستيعاب، وتسود فيه سلطة
التشريع على الأفكار الغربية العصرية عن القانون، الذي يسن وفقا للضرورة
والظروف المتغيرة.
يقول أحد المفكرين الفرنسيين ويدعى (فرانسوا بورجا) : إن هذه الحركات
الإسلامية تسبب لنا الجنون لأنها تؤذينا في الصميم.
لقد اجبرونا على أن ندرك الحقيقة التي تقول: إننا لا نملك احتكار النظام
الرمزي، اننا لسنا الوحيدين الذين يمكن أن يتعاملوا مع الأمور الكونية فهل صار
ميزان القوى يتغير في هذا المجال؟ نعم - وهل هذا التغير في صالحنا؟ والإجابة
طبعا:» لا «ويضيف (فرنسوا بورجا) إلى ذلك قوله» لكن إذا كنا نفقد احتكارنا
لهذه الأمور فهل يتعين علينا أن نواجه ذلك بالتدخل في العمليات التي تتم في
محيطنا ومن حولنا، إننا بذلك نربي عداوات أكثر.
إن الصحوة الإسلامية تعكس جزئياً ظاهرة متنامية على المستوى العالمي،
أصبح فيها الدين قوة للتغيير، تتسم بالطاقة والديناميكية.
وفي المجتمعات التي تناضل في محاولاتها تخليص نفسها من الإفلاس، أو
من الأنظمة التي تنقصها الكفاءة، أو البحث عن بدائل قابلة للبقاء فإن الدين يوفر
المُثُل، والهوية، والشرعية، كما يتيح البنية التحتية أثناء عملية البحث، ويتم ذلك
بدرجات مختلفة في كل أنحاء العالم، وعلى سبيل المثال فإن البوذيين في شرق
آسيا، والكاثوليك في شرق أوربا وأمريكا اللاتينية والفلبين، والسيخ والهندوس في
الهند، وحتى اليهود في إسرائيل، كل هؤلاء تحولوا إلى دياناتهم حتى يتمكنوا من
تحديد أهدافهم، ولتعبئة قواهم.
وفي أغلب مناطق العالم العربي نجد أن الإسلام يطرح طريقة لمعالجة عقود
من الفشل: الاجتماعي، والاقتصادي، والعسكري، والاضطراب الذي حدث
مؤخراً بسبب حرب الخليج.
في حقبة الضياع هذه نجد أن الإسلام يبعث الحياة من جديد في صورة
الماضي، التي وحد أثناءها منطقة تعيش فيها قبائل متصارعة، في إطار لغة واحدة، ودين واحد.
ومنذ الفترة التي هاجر فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة في عام
622 م، وبدأ في إقامة أول دولة إسلامية على أرض الصحراء العربية في المدينة
المنورة فإن الإسلام بدأ عصرا ذهبيا من الصعود السياسي والفني غطى عدة قرون، وتم نقل التعاليم الإسلامية مع الذين قاموا بفتح أسبانيا، ومع الأتراك العثمانيين
الذين فتحوا استانبول، وعادوا عن طريق البلقان إلى أوروبا.
أما في آسيا فإن التجار العرب قاموا بإدخال أجيال كاملة من المتعاملين معهم
في جاوه، وسومطرة، وبورما، وماليزيا، وتايلاند، والهند، والصين، والفلبين، في الإسلام خلال الفترة من القرن السادس حتى القرن الثاني عشر، وبعد ذلك
بمئات السنين انتقل الإسلام على السفن التي كانت تنقل العبيد من إفريقيا إلى أمريكا.
إن تلك هي الحقبة التاريخية التي تحول فيها العديد من المسلمين خاصة في
المنطقة التي تمثل القلب من العالم الإسلامي، لقد خدعت أجيال من العرب بسلسلة
من المذاهب السياسية المتتالية، التي تمثلت أساساتها في الماركسية والقومية اللتين
جعلتهم يعيشون، في أحلام الوحدة والاستقلال الذين لم يتحققا قط.
وكانت نقطة التحول للعديد من هؤلاء هي الهزيمة العربية في عام 1967
على أيدي الإسرائيليين، وهم شعب يعرف الكثيرُ من المسلمين عنه أنه شعب يحقق
النصر؛ لأنه لم يفقد صلته بجذوره الدينية.
إن العالم الإسلامي مشغول الآن بفكرة جديدة عن الجهاد، وهى تعني رد
العدوان، وليست الفكرة التقليدية، التي تعني شن الحرب المقدسة، وهي تنطوي
أيضاً على معنى النضال من أجل الإنجاز وبناء الأفضل، وإقامة مجتمعات أخلاقية، وتحقيق كفاية الإنتاج لتحقيق الاستقلال الاقتصادي.
وفي الحقيقة فإن المسلمين زادت مقاومتهم كثيراً، وسوف يردون العدوان عن
أنفسهم بالطبع إذا ما حاولت أوروبا أن تفرض نموذجها عليهم.
إننا نعلم أن أوروبا لا تؤمن بالديمقراطية إيمانا مطلقا، فهم يكبحون
الديمقراطية حينما تأتي بالإسلام إلى الحكم، ويقضون عليها. لقد فعلوا ذلك في
تركيا، وفي الجزائر، وإذا ما تعرض الإسلام للظلم والاضطهاد فإن المسلمين
سوف يتحولون إلى الجهاد، ويعني هذا الجهاد المقاومة، ولا يعنى الحرب؛ لأنه
إذا وجه شخض إليك فعلا، فإنك توجه إليه بالتالي فعلا آخر «.
__________
(*) للكاتب (روبن رايت) في مجلة (لوس أنجلوس) الصادرة في 6 أبريل 1993.
(1) أثبتنا في الترجمة ألفاظ الكاتب وتعبيراته دون تدخل منا، حتى تتسق أفكاره أمام القارئ المسلم، ويكمل تصورنا عن نظرة الغرب إلى الصحوة، ولا يعني ذلك - كما هو واضح - موافقتنا على تعبيراته واتهاماته.(68/95)
منتدى القراء
خاطرة حول خواطر في الدعوة
أخوكم نبيل الأميري
طالعت ما كتبتم في ركن - خواطر في الدعوة - مجلة البيان عدد65 محرم
1414 هـ.
فخطرت لي خاطرة سجلتها لكم مبينا قضية ليست غائبة عنكم ولا بالجديدة
عليكم أو عندكم، ولكن أردت بها التبيين والتوضيح والتركيز أكثر:
صحيح أن الفئة العريضة من المجتمع الإسلامي اليوم هم ممّن ذكر فضيلة
الشيخ العبدة تسمية ابن القيم - رحمه الله - لهم ولأمثالهم بـ «أصحاب العقل
المعيشي فلا يهمهم إلا زينة الدنيا وبريقها. ولا ذكر لهم غير المسكن والملبس
والسيارة والأثاث والراتب.
وجيد كذلك أن توجه دعوة للدعاة للاهتمام بهؤلاء ونقلهم مما هم فيه إلى ما هو
أفضل لهم في الدنيا والآخرة ولكن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، ولا نغض الطرف
عنها، وهي أن الفئة العريضة أيضاً في المقابل من دعاتنا وللأسف يشغلهم شغل
الفئة الأولى، فمن من دعاتنا وعلمائنا - طبعا إلا من رحم الله - ممَّن يتبوؤون
المناصب العليا في المؤسسات الرسمية، والمراكز الإسلامية، والجمعيات الخيرية
والعلمية وغيرها ... ، منَ مِن هؤلاء من لا يهتم بامتلاك المساكن العديدة والسيارات
المختلفة، والسعى إلى الحصول على أرفع الرواتب والوصول إلى أعلى الدرجات
والمناصب ... ؟ !
إن السعي في تحصيل رزق الأطفال واجب، وتأمين مصالح الأهل كذلك.
ولكن أن نبالغ في كل ذلك وننغمس في تحصيل الكماليات بدرجات أرفع وكميات
أكبر فهذا ما يأباه العقل.
إن على دعاتنا وعلمائنا إذا أرادوا حقا أن يُخرجوا هذه الفئة مما هي فيه
وينتقلوا بها إلى بر الأمان، عليهم أن يتورعوا هم - أولاً - عن هذه الشبهات،
وأن يبتعدوا عن حياة البذخ والترف المُبَررة، وأن يعيشوا هموم مجتمعاتهم،
ويشاركوها حياة المعاناة، وعبء الحياة، ثم يكونوا لهؤلاء قدوة في الاعتدال في
العيش والبساطة في الحياة؛ ليتّم لهم من خلال ذلك - بإذن الله عز وجل - الولوج
إلى قلوبهم، وجرّها إلى الخير في الدنيا والآخرة، وليتذكر كثير من دعاتنا أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يورث لأهله ديناراً ولا درهماً، رغم أنهم
أعز وأرفع عند الله منَّا ومن أهلنا وأولادنا.
وليذكر هؤلاء - كذلك - أنّ رسول هذه الأمة - عليه الصلاة والسلام - كانت
تمر عليه الأيام تلو الأيام فلا تُشعل نار طهي في بيته، كما روت أُمنَا عائشة -
رضي الله عنها - كما كان - عليه الصلاة والسلام - يسأل أصحابه إكرام ضيوفه
لافتقاده ما يطعمهم به عليه الصلاة والسلام.
وإنها لوقفة جديرة بالتأمل من كل داعية إلى الله، والله المستعان(68/105)
منتدى القراء
إلى الأستاذ عادل التل مع التحية
د. مأمون مبيض
لست ممن يفضل النقاش والحوار عبر صحف المجلات، إلا أنني وبعد قراءة. مقالة الأخ عادل التل «أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي، نقد كتابات
جودت سعيد» في عدد البيان «البيان» (65 - محرم 1414) رأيت أن أكتب
هذه الرسالة. وما أذكر هنا يقتصر فقط على ما قرأته في هذه المقالة، وهي الثالثة
من مجموعة مقالات متعددة لم ينته نشرها بعد:
إنه لأمر مؤلم أن نفتقد في عالمنا الإسلامي الجو العلمي الهادئ النظيف الذي
يتيح المجال للحوار الفكري دون التعرض للإخلاص والنيات. فنجد أن الأخ عادل
يقول: «هل هذا الطرح خروج من الدين أم لا؟» (ص 36) إن عد الأستاذ
جودت في عداد «الماديين» و «الماركسيين» ظلم كبير لمن يؤمن ويعيش على
الإيمان بالله ورسوله، ومجانبة للحقيقة، وتشويش للقارئ المسلم وخاصة لمن يطلع
بشكل واسع على كثير من الكتابات الإسلامية. ويظهر هذا التشويش من رسالة «
صدمة وحيرة» المنشورة في نفس العدد من البيان (65) .
من قرأ كتابات الأستاذ جودت يلحظ أن ما ورد في مقالة النقد هذه فقرات
أخذت من سياقها، ليعيد الأخ عادل صياغتها بأسلوبه، وبما يوافق رأيه حول «
المدرسة المادية» لقد اتهم الأستاذ جودت بأنه «يلغي مكان الدليل في القرآن»
(ص 34) وما أظن الكاتب قد فهم المقصود من مجال الأفكار المعروضة.
وحتى لا أعقد الأمور، وأطيل فيها سأذكر مثالاً واحداً وهو قضية «الشورى
» لأشير إلى موضوع الاستفادة من «عالم الآفاق والأنفس» والذي يؤكده الأستاذ
جودت، وأظن أن الأخ عادل قد أخطأ في فهمه فأخذه على أنه إلغاء للنص: اختلف
علماء المسلمين ومنذ القديم حول كون الشورى «ملزمة» أم «معلمة» والذي
يقرأ ما كتب يجد أن هذا الأمر لم يحسم عبر السنين. ولكن إذا نظرنا إلى عالم
الشهادة والواقع والتاريخ وتجارب البشر رأينا أنه من الحكمة والأنسب لحفظ مصالح
العباد وأمور الحياة في هذا العصر أن يشترك المتشاورون في صنع القرار، بعيداً
عن الفردية والجزئية في اتخاذ القرار. هل في الاستفادة من عالم الواقع إعراض
عن الآيات والأحاديث؟ لا أظن هذا وهو ما حاول الأخ عادل أن يفهمه للقارئ.
وأخيراً أدعو الله أن يلهمنا الفهم الصحيح لتغيير ما بأنفسنا (إن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) .
وأدعو إخوتي من شباب الإسلام إلى العناية الجادة بالقراءة والبحث والحوار.
وأدعو أخى عادل التل إلى قراءة ثانية وثالثة لكتب مفكرينا وعلمائنا، وإن
شاء الله لنا لقاء للحوار المباشر، وتبادل الأفكار، والمعايشة الأخوية.(68/107)
الورقة الأخيرة
بناء الإنسان
أحمد عبد الرحمن الصويان
لقد شرَّف الله الإنسان، وكرمه على سائر المخلوقات بنعمة العقل، وجعل
ذلك مناطاً للأمر والتكليف، ولذا فليس غريباً أن يوجد في كتاب الله - عز وجل -
عشرات الآيات، التي تدعو إلى التفكر والتعقل، والنظر في ملكوت الله سبحانه
وتعالى، من مثل قوله عز وجل:
[إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ] [آل عمران: 190] .
ولكن هل يجوز أن يكون عقل الإنسان انعكاساً لأفكار المجتمع من حوله..؟
فيتأثر بنمط التفكير السائد، ولا يفكر إلا فيما يفكر فيه الناس، ولا يعمل إلا ما
يعمله الناس..!
إن البيئة الاجتماعية والفكرية التي يعيش فيها الإنسان تؤثر تأثيراً بالغاً على
تصوارته وأفكاره، وهي التي تصنع في الغالب أطروحاته وهمومه. والأمة
الإسلامية تعاني من فراغ مدهش، جاء نتيجة تخلف عقود متتابعة، وزاد في
ترسيخه وتعميق جذوره الغزو الثقافي الغربي، قبل الاستعمار وبعده. وإننا نعاني
من أدواء عديدة في البيئة التي نعيش فيها، ومن ملامح ذلك على سبيل المثال:
- قصور بيِّن في طريقة التفكير.
- قصور في نوعية المسائل التي يفكر فيها الإنسان، ويشغل نفسه بها.
- قصور في طريقة بحث الأفكار، ومناقشتها مع الآخرين.
- قصور في توظيف الأفكار في ميادين العمل والبناء.
وأبناء الصحوة الإسلامية جزء من هذا المجتمع يتأثرون به كغيرهم سلباً
وإيجاباً، ومن مهمات الحركة الإسلامية انتشار هذه الإيجابيات وتنميتها، ومقاومة
السلبيات، وتقليلها قدر الإمكان. ولقد قامت الحركة الإسلامية بجهد مبرور مشكور
في هذا الميدان، ولكنه أقل بكثير ممَّا يجب، وأقل بكثير من الإمكانات التي تملكها، وكما قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
إن بناء الإنسان المفكر القادر على التمييز والنظر من أصعب الصناعات
التربوية، ولكنها في الوقت ذاته من أهم الصناعات. ومهما كثرت الضغوط على
الصحوة الإسلامية، وتزايدت عليها المحن، وتكالب عليها الأعداء، وتشعبت بها
دروب العمل، فيجب أن يكون ذلك من أولويات البناء والتكوين. حتى تضمن
بفضل الله تعالى بقاءها وصلابتها من جهة، ونقاءها وسلامة توجهها من جهة
أخرى. وإن غياب المنهج العلمي، وفقدان الضوابط الشرعية في الفهم، والتلقي،
والعمل، يؤدي جزماً إلى هذا القصور والخلل الذي نعيشه. والنهوض بالأمة من
هذه الكبوة لن يكون إلا وفق الأسس والقواعد الشرعية، المبنية على الكتاب والسنة
ومنهج السلف الصالح. والعاملون للإسلام لا ينقصهم - في الغالب - الصدق
والإخلاص، وإنَّما يحتاجون إلى العلم الدقيق بمحكمات الشرع وأصوله، ليتسنى
لهم تنزيلها على مقتضيات العصر.. ولذا كان التحدي الكبير الذي تواجهه الصحوة
الإسلامية هو بناء الإنسان المفكر.!(68/111)
جمادى الأول - 1414هـ
نوفمبر - 1993م
(السنة: 8)(69/)
كلمة صغيرة
المتداعون على السلام مع العدو الصهيوني كتداعي الذباب على الشراب هل هم
حقاً يعرفون (يهود) حق المعرفة؟ أم أنهم تعبوا من (الكفاح الصوتي) منذ عام
1948؟ . الحقيقة أنهم لا يعرفون (العدو) فعلاً لاسيما حتمية وقوع ملحمة كبرى بيننا
وبينهم سيكون النصر فيها للمسلمين. وحتى ننتصر على هذا العدو لا بد أن نعرفه
حق المعرفة وألا نضلل أجيالنا بالأكاذيب مثل (حتمية السلام) و (الدعوة لإزالة الحاجز
النفسي) و (التفريق بين اليهود والصهاينة) فلابد من إعداد العدة، وما علينا أن ندرك
شرف (نداء الشجر والحجر) بل حسبنا أن نكون عاملين في سبيل الوصول إليه [
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله] .(69/1)
الافتتاحية
[من كان يظن أن لن ينصره الله]
التحرير
والآن، أسفر صباح الحقيقة، وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في
مستقبل قضية فلسطين، واستسلمت كل الرايات، ورضي رئيس منظمة التحرير
أن يبيع كل شيء، التاريخ، والحق، والعدل، ودماء الشهداء، ومستقبل الأجيال، والقدس، مقابل أن ينصبه إسحق رابين رئيساً لبلدية (أريحا) ، وفوقها (غزة)
مجاناً، إذ من المعلوم أن إسرائيل قد عرضتها مجاناً لمن يقبل منذ أشهر، لولا
تدخل بعض الوسطاء بطلب التأجيل حتى لا تقع في يد الأصوليين. إذن لقد نُكست
الرايات جميعها، الوطنية، والشيوعية، والاشتراكية، والقومية، والثورية عدا
بعض الجهات اليسارية المعارضة، وموقفها ظل لموقف إحدى الدول العربية،
والمتوقع تغييرها له بتغير رأي تلك الدولة نفسها، وبقيت راية واحدة تعلن الرفض، وتتمسك بثوابت التاريخ والحق، وتفي وتحمل الأمانة إلى الأجيال القادمة، تلك
هي راية الإسلام، وأولئك هم أبناء الصحوة الإسلامية المجاهدة في فلسطين وفي
أرض الله الواسعة كذلك.
ومما هو جدير بالتذكر الآن، أن هذه الرايات المنكوسة، هي ذاتها التي
حاربت راية الإسلام على مدى نصف قرن، وقهرت كل من حاول رفعها في العديد
من ديار الإسلام، وذلك باسم (قضية فلسطين) ، (ولا صوت يعلو فوق صوت
المعركة) ، ومنذ ذلك التاريخ، وفلسطين تضيع قطعة قطعة، حتى أتى (آخر
الثوار) ليسلم رايته مقابل (عزبة) ! .
إن الغضب الإسلامي مشروع ولا ريب.. الغضب لله ولدينه ولحرماته
ولمسجده الأقصى، ولكن الذي ينبغي الحذر منه، أن يصبح الغضب فورة عاطفة،
وانفلاتة أعصاب ومشاعر، دون أن تقنن هذه العاطفة وتلك المشاعر في خطط
جديدة طويلة الأمد، ندير من خلالها صراعنا الجديد/القديم مع اليهود، ونظام الظلم
العالمي الجديد.
إن ما حدث أخيراً، هو مفتتح جديد للتاريخ، بالقدر نفسه الذي يمثل نهاية
مرحلة وتاريخ، وهذا التاريخ الجديد، يتحمل فيه الإسلاميون -وحدهم - عبء
المواجهة، وتبعات الجهاد الأكبر، وفي الصفحة الأولى من صفحات التاريخ الجديد، نقرأ المعالم التالية:
أولاً: إن قضية فلسطين ليست - كما يدعي الساقطون اليوم - شأناً فلسطينياً
مجرداً، وذلك ليقطعوا فلسطين -حكماً- عن الإسلام وعالمه ومجاهديه، بعد أن
قطعوها عملياً عنه، بل إن (فلسطين) شأن كل مسلم، والإثم يلحق الأمة بأسرها إذا
فرطت فيها.
ثانياً: إن قضية فلسطين ليست قضية جيل من الأجيال، يبيع فيها ويشتري،
وإنما هي ميراث أجيال مضت، وحقوق أجيال قادمة، وإذا عجز جيل عن الوفاء
بحقها، فحسبه أن يعلن عجزه، ويخلي السبيل لغيره من الأجيال الجديدة، فالعجز
ليس - دائماً عيباً، طالما استنفذت الجهود، وأدى المؤتمنون الأمانة، وإن العيب
كله أن يأبى العاجز، إلا أن يفرض عجزه وهزيمته على الأجيال كلها، سابقها
ولاحقها.
ثالثاً: إن شيئاً كبيراً من الجهاد المتعلق بفلسطين، لا بد أن يتوجه إلى العقول
والمشاعر، لكي تظل رسالة الجهاد والتحرير في خواطر الأجيال لأن (الخطر)
ليس في الهزيمة على الأرض، أو ضياع جزء منها في زمان ما فهذا كله من
عوارض المواجهة، وتداول الأيام، وإنما الخطر كله أن تصبح الهزيمة في النفوس
والعقول والأفكار، فهذا هو الضياع وهذا هو (القبر) الحقيقي لقضية فلسطين.
إن التجبر الذي بلغه (يهود) الآن، واستعلاءهم في الأمة، والأوضاع التي
آلت إليها موازنات القوى في العالم اليوم، بما في ذلك المنطقة العربية، يؤذن
بصعوبة المهمة، وجسامة التحدي، وأيضاً - وهذا هو المهم - يؤذن بأن (الوقت)
هو سلاح جوهري في هذه المواجهة، فالواضح حتى الآن، أن الأمر سيطول،
وصاحب النفس الأطول هو المؤهل لكسب السباق، وقصر النفس واستعجال
النصر واستصعاب المسافة، كلها مورِّثات للعجز، ومثبطات للعزائم، وعجز
العاجزين ينتهي -عملياً- إلى ذات النتيجة التي ينتهي إليها فجور الفاجرين.
عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: «كيف أنتم إذا انفرجتم عن
دينكم، كما تنفرج المرأة عن قُبُلها لا تمنع من يأتيها» ، قالوا: لا ندري! ، قال:
«ولكني والله - أدري - أنتم يومئذ بين عاجز وفاجر» [1] .
نسأل الله البراءة من عجز العاجزين، وفجور الفاجرين.
رابعاً: إن الثقة بنصر الله، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله، هي
زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق زاد
الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة،
وتبقى (لحظة النصر) و (بشارة التمكين) حية شاخصة في رؤى المجاهدين
ومشاعرهم، وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره، فقد خسر خسراناً مبيناً، ومن
تشكك فيها لحظة، فقد تأخر عليه النصر على قدرها، [مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن
يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ] . [2]
__________
(1) رواه ابن ابي شيبة في مصنفه، والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وهو عند أحمد (المسند) بلفظ قريب، وصححه أحمد شاكر في التعليق على المسند.
(2) سورة الحج / الآيتان 15، 16.(69/4)
مصطلحات
الشرك
عثمان جمعة ضميرية
خلق الله تعالى هذا الإنسان على فطرة التوحيد والإسلام متهيناً لقبول الدين،
فلا يعدل عن هذا وينحرف إلا لآفة تنحرف بهذه الفطرة وذلك عندما تتضافر جملة
من العوامل التي تساعد على الانحراف، فيقع الإنسان عندئذ في واحدة من صوره
كالشرك والنفاق. وسنقف - إن شاء الله تعالى - على كل واحدة من هاتين
الصورتين بكلمة تعريفية موجزة، تحدد معناها اللغوي والاصطلاحي، وأصل
نشأتها، وبعض صورها.
-1-
إذا استنطقنا كتب اللغة وجدنا أن (الشين والراء والكاف) أصلان يدل أحدهما
على اقتران وعدم انفراد ... وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به واحد
منهما.
يقال: «شاركتُ فلاناً في الشيء؛ إذا صرتُ شريكه. وأشركتُ فلاناً: إذا
جعلته شريكاً»
والشرك أيضاً: إسناد الأمر المختص بواحدٍ إلى من ليس معه أمره. يقال:
أشرك بالله: جعل له شريكاً في ملكه -تعالى الله عن ذلك - ... ومن عدل بالله
تعالى شيئاً من خلقه فهو كافر مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له، ولاندّ له ولا
نديد [1]
-2-
وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق لفظ الشرك على نوعين:
أحدهما: إثبات شريك لله تعالى، وهو الشرك الأكبر.
والثاني: مراعاة غير الله تعالى في بعض الأمور، وهو الشرك الأصغر.
فالشرك الأكبر وهو أن يتخذ مع الله تعالى، أو من دون الله، إلهاً آخر،
يعبده بنوع من أنواع العبادة.
قال ابن القيم: (والشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من
دون الله نداً يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين
برب العالمين) . [2]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:
«الشرك قد عرّفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعريف جامع، كما في
حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال:» أن تجعل لله نداً وهو خلقك «أخرجه البخاري ومسلم، والند: المثل والشبيه،
فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركاً يبطل التوحيد
وينافيه» . [3]
وعرّف الشيخ عبد الرحمن السعدي هذا الشرك بتعريف جامع مانع قال:
«إن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد
نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور
به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك
وكفر، فعليك بهذا الضابط الذي لا يشذ عنه شيء» . [4]
وهذا أعظم الشرك والظلم، ولا يغفره الله لصاحبه إن مات عليه، لأنه
يناقض أصل التوحيد ويخرج صاحبه عن الملّة، ويحبط عمله، ويخلِّد في النار.
وإذا أطلقت كلمة الشرك فإنها تنصرف إلى هذا النوع منه.
-3-
وأصل هذا الشرك ومنشؤه هو: تسوية غير الله بالله تعالى، أو هو تشبيه
غير الله بالله تعالى في صفة من الصفات التي يختص بها؛ مما لم يعهد في جنس
الإنسان، فالذي يعبد كائناً ما من دون الله فيدعوه أو يطلب منه الشفاعة أو يخافه،
أو يتخذ حكمه شرعاً له ... إنما يفعل ذلك لأنه يعتقد أنه صاحب سلطة وحكم على
الخلق..
يقول ابن تيمية: «وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما
يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن
عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك» . [5] والصورة الواضحة الجلية لهذا الشرك
هي عبادة الأصنام، التي كانت تتخذ سابقاً في عصور الجاهلية القديمة من حجر أو
خشب ... ولكنها تظهر في عصور أخرى بمظاهر شتى قد تكون مذهباً من المذاهب
الفكرية، أو الاقتصادية وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس فيتخذونها آلهة.. وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية والمادية التي تسيطر على الناس، على ما حكاه الله تعالى عن أقوام فقال: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ
عَلَى عِلْمٍ] [الجاثية: 23]
[مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا
يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وبَاطِلٌ مَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ] [هود: 15، 16] .
-4-
ويبحث العلماء تحت هذا الشرك أنواعاً من العبودية لغير الله، كشرك الدعاء
سواء كان دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، مما لا يجوز أن يتوجه به إلا
لله تعالى وحده، لأن الدعاء هو العبادة.
وكذلك شرك العبادة والتقرب الذي يظهر جلياً وواضحاً في عبادة الأصنام
وإعطائها بعض خصائص الألوهية، أياً كانت هذه الأصنام وبأي صورة ظهرت.
ولا يقل عن هذا اللون من الشرك ما يسمى أيضاً بشرك طلب الشفاعة من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.. وكتب العقيدة والتوحيد أفاضت في بيان ذلك
كله.
وتبقى ألوان أخرى من الشرك الأكبر قد تكون اتسعت دائرتها في العصور
الأخيرة، أكثر مما كانت في عصور سابقة، وذلكم هو شرك الطاعة والاتباع،
وشرك المحبة والنصرة.
-5-
فقد اتفق العلماء على أن الحكم لله وحده سبحانه وتعالى، فهو المتفرد بالخلق
فينبغي أن يكون متفردا بالأمر. فلا أحد يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من
كان له الخلق والأمر - سبحانه وتعالى - فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا
مالك إلا الله الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما غيره سبحانه، فلا يجب شيء
بإيجابه، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم [6] .
وقد تواردت النصوص الشرعية تؤيد هذا المنطلق السليم وتؤكده، فهي تُلْزِم
البشر باتباع ما جاء من عند الله تعالى، وتحرِّم عليهم تحريما قاطعاً اتباع ما يخالفه: [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ]
[الأنعام: 106] ، [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ] [الأعراف: 3] ...
والآيات في ذلك كثيرة تعزُّ على الحصر.. توجب الحكم بما أنزل الله وتحكم
بالكفر والفسق والظلم على كل من يخالف حكم الله تعالى.
ولذلك كان كل من أطاع مخلوقاً في تحريم الحلال أو تحليل الحرام - وهو
متبع له في هذا التبديل - فهو مشرك شرك الطاعة والانقياد والاتباع [7] .
وقد حكم الله على اليهود والنصارى بالشرك لاتباعهم الأحبار والرهبان
واتخاذهم أرباباً من دون الله، ثم بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بياناً
واضحاً ببيان ما هية العبادة التي وقعوا فيها. [8]
وهذا النوع من الشرك يعم اليوم أصقاعاً وبقاعاً كثيرة في بلدان العالم، بعد
تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في شؤون الحياة كبيرها وصغيرها، وحصرها
في جوانب ضيقة، واستبدلوا بها القوانين الوضعية التي ارتضاها الناس لأنفسهم
بمعزل عن دين الله تعالى وشرعه. ولذلك كان من الواجب العناية بهذا اللون من
الشرك وبيان خطورته، وإن كان ذلك سيؤدي إلى تكاليف باهظة يحتسبها المسلم
عند الله تعالى.
وأما شرك المحبة والنصرة والولاء فيكون عندما يتوجه الإنسان بالمحبة لغير
الله تعالى، إذْ من مقتضيات التوحيد وأصول العبادة أن نفرد الله تعالى بالمحبة التي
لا تصلح إلا له «وهي حب طاعته والانقياد لأمره» وإلا وقع الشرك الذي جاء
التحذير منه، عندما تكون المحبة لأعداء الله، عند موالاة الكافرين ونصرتهم، لأن
في ذلك نقضاً للميثاق ولكلمة التوحيد، وخروجاً على مقتضيات الإيمان: [لا
يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي
شَيْءٍ] [آل عمران: 28] [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
[المائدة: 51] .
وأما تعريف الشرك الأصغر فهو ما أتى في النصوص الشرعية أنه شرك،
ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر.
ومن أمثلة هذا الشرك: التطير؛ وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ لم
والبقاع وغيرها.
ومن الشرك الأصغر: شرك الألفاظ كالحلف بغير الله، وقول أحدهم: ما شاء
الله وشئت، ولولا الله وفلان ... إلخ..
ومن الشرك الأصغر: يسير الرياء لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن يسير
الرياء شرك) . وفي ختام هذه المقالة ندعو بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في قوله: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم واستغفرك لما لا
أعلم» .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة: 3 / 365، لسان العرب: 10/449 - 450.
(2) مدا رج السالكين: 1 / 339.
(3) الدرر السنية: 2/153.
(4) القول السديد: 43.
(5) الاستقامة: 1/344.
(6) المستصفى لغزالي: 1/ 83، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 76، مسلم الثبوت: 1 / 52، وشرح الكوكب المنير: 1/ 484، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/157- 158.
(7) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 1/97، 98، 14/ 328، 7/70 وتيسير العزيز الحميد (543) .
(8) انظر: تفسير الطبري 4 1/210-211، والبغوي: 4/ 39، تفسير ابن كثير: 3/122-123 مفاهيم ينبغي أن تصحح، للأستاذ/ محمد قطب، فصل (مفهوم لا إله إلا الله) .(69/8)
دراسات أصولية
سد الذرائع
-2-
هيثم الحداد
استدل العلماء على هذه القاعدة (سد الذرائع) بالنقل والعقل، والمتأمل في هذه
الأدلة يجدها تفيد القطع بصحة القاعدة في الجملة.
أما النقل: فيستدل به من عدة أوجه: [1]
أولاً: الله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم أسبابه ووسائله، ولا يعقل كما يقول
ابن القيم - رحمه الله - أن يحرم الله شيئاً ويبيح أسبابه ووسائله المفضية إليه وهذا
واضح في أمور كثيرة. بل إن الشريعة تؤكد على تحريم الوسائل والأسباب إذا كان
ما تؤدي إليه من الكبائر، وأمثلة هذا النوع وشواهده كثيرة جداً، فقد حرم الله عز
وجل الكفر، وحرم أسبابه ووسائله حتى يصون المؤمنين، ويبعدهم أشد البعد عن
هذا الظلم العظيم. ومن أهم أسباب الكفر اتباع خطوات الشيطان ووسائله، فحذر
الله - عز وجل - من هذه الوسائل، بعدة طرق، وفي مواطن كثيرة جداً، قال الله
تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [2] ونهى الله - عز وجل - عن اتخاذ المشركين
أولياء، لأن هذا من أسباب محبتهم ومحبة دينهم وهو من ذرائع الكفر، قال تعالى
[لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ] [3] وقال [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] [4] وبيّن سبحانه وتعالى علة النهي فقال:
[ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ] [5]
كما نهى سبحانه وتعالى عن الإقامة بين أظهرهم، قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول
الله ولمَ؟ قال: لا تراءى نارهما [6] عن مخالطتهم، لأن مخالطتهم تؤثر على
الإيمان، وتضعف بغضهم وبغض دينهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:
» لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم « [7] .
بل إنه سبحانه وتعالى نهى عن مشابهتهم للأسباب نفسها أيضاً واستفاضت
النصوص في التحذير من ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» من
تشبه بقوم فهو منهم « [8] ، بل قد حرمت الشريعة أموراً لكونها تشبها بالكفار،
ومن ذلك تحريم التشبه بهم في الملبس والمأكل، ومنها الصلاة في أوقات معينة،
وغير ذلك كثير.
وبعد فقد حذرت الشريعة أشد التحذير من المعاصي ومقارفتها لأنها بريد الكفر.
ومثل ما تقدم في تحريم الكفر وذرائعه، والزنا وذرائعه، كان تحريم الربا
وشرب الخمر وذرائعهما، إلى غير ذلك من المحرمات.
وكل هذه الشواهد تفيد القطع بأن الشريعة إذا حرمت شيئاً حرمت ذرائعه.
ثانياً: وهذا الوجه من أقوى وجوه الاستدلال على هذه القاعدة وأوضحها؛ إذ
جاء الشرع بتحريم وسائل لاشك في إباحتها لو تجردت عما أفضت إليه - وقد
تتجرد فترجع إلى أصل الإباحة. وانما حرمها الشارع، لعلة إفضائها إلى محرم
وأدلة هذا الوجه كثيرة أيضاً، لكن دلالاتها تختلف قوة وضعفاً، بل قد نازع فيها
بعض العلماء؛ لأن تلك العلل غير منصوص عليها، فلم يتفقوا مع غيرهم على أن
علة التحريم هي إفضاؤها إلى محرم، فكأنهم جعلوا النهي تعبدياً، أو بنوه على علة
أخرى.
من أجل هذا سأقتصر هنا على تلك الأدلة التي نصت على أن علة تحريم هذه
الوسائل إفضاؤها إلى محرم.
الأدلة من الكتاب:
1 - قال تعالى [ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ
عِلْمٍ] [9] .
ووجه الاستدلال أن الله - عز وجل - حرّم سب الآلهة مع أنه عبادة، وعلل
هذا المنع بكونه ذريعة إلى سبهم له -جل وعلا- فمصلحة تركهم سب الله -سبحانه- راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم. [10]
فالوسيلة هنا هي سب آلهة المشركين، وأقل أحوالها الاستحباب، ويغلب
على الظن إفضاؤها إلى سب المشركين لله - عز وجل -.
2- قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] [11] ... وجه الاستدلال: أن هذا النص ظاهر في المنع من السؤال المباح، إذا خيف
إفضاؤه إلى محظور، خاصة إذا علم سبب نزول الآية: وهو أن رجلاً قال: يا
رسول الله من أبي؟ قال: فلان، فقالت له أمه: ما سمعت بابن أعق منك أظننت
أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس فقال:
والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت.
وأما السنة فالشواهد كثيرة جداً منها:
1- تركه -صلى الله عليه وسلم- قتل المنافقين، مع أن في قتلهم مصلحة
كبيرة، ثم علل ذلك بقوله» حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه « [12]
2- وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها-:» لولا
قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل منه الناس،
وباب يخرجون « [13] وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله» باب من ترك
بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه « [14] .
ثالثاً: جاءت الشريعة بالحث على ترك الشبهات؛ لأن ارتكابها ذريعة إما إلى
الوقوع في الحرام بغير قصد، وإما إلى اتخاذها مطية لأغراض فاسدة، فمن احتاط
لنفسه، لم يقرب الشبهات، فلا يقع في واحد من هذين المحظورين. وقد حث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك الشبهات في أكثر من حديث، منها
الحديث المشهور عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-، وموطن الشاهد منه:
» فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام «. [15] ، وحديث» دع ما يريبك إلى ما لا يريبك « [16] .
ومظاهر العمل بترك الشبهات، الذي هو عمل بسد الذرائع، كثيرة جداً
يطول استقصاؤها ومن صورها:
1- أن الشرع حث المسلم على اجتناب مواطن التهم حتى لا يتعرض لإساءة
الظن بدينه، ومن ذلك قصته - صلى الله عليه وسلم - وصفية -رضي الله عنها-
حين أراد أن يودعها إلى أهلها فرآه اثنان من الصحابة، فأسرعا، فقال لهما رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-:» على رسلكما، إنها صفية بنت حيي «فقالا:
سبحان الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» إن الشيطان يبلغ من ابن
آدم مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً « [17]
2- حديث امتناعه - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل التمرة التي رآها ملقاة
خشية أن تكون من الصدقة» [18] .
رابعاً: أن الله - عز وجل - توعد بالعقاب من يحتال إلى الممنوع بفعل جائز
فدل ذلك على تحريم الفعل الجائز إذا كان يتوسل به إلى ممنوع، وهذا هو عين سد
الذرائع.
ومن أشهر أمثلة ذلك: أن الله - جل وعلا- ذم أصحاب السبت؛ لأنهم
احتالوا على ما حرمه عليهم من صيد الحيتان يوم السبت، وابتلاهم الله -عز وجل- بأن جعل الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً (ظاهرة) ، ولا تكون على هذه الحالة
باقي الأيام، فاحتالوا على ذلك؛ بأن حفروا لها حفراً في البحر تحجزها ليسهل
عليهم صيدها في باقي الأيام. [19]
وأما العقل: فيمكن إجمال اعتبار العقل لقاعدة سد الذرائع بكلام ابن القيم -
رحمه الله - حيث يقول: «لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق
تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها، فوسائل المحرمات
والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها، وارتباطها بها
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غاياتها،
فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصودٌ قصدَ الغايات،
وهي مقصودةٌ قصدَ الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي
إليه فإنه يحرمها، ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه،
ولو أباح الوسائل المفضية إليه لكان ذلك نقصاً في التحريم، وإغراء للنفوس به،
وحكمته تعالى تأبى ذلك، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده
أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه
فقد أفسد منعه، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده.
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع
الموصلة إليه، وإلا أفسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة
الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها
ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سدا الذرائع المفضية إلى المحرمات بأن
حرماها ونهيا عنها» [20]
أمثلة وتطبيقات على سد الذرائع:
قبل ذكر هذه الأمثلة لابد من التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن تطبيق هذه
القاعدة والعمل بها -وهو ما يُعرف بتحقيق المناط الذي من معناه تحقيق وجود العلة
في الواقعة حتى يُبنى عليها الحكم - لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا بمعرفة واقع
المسألة معرفة جيدة، وهو ما أطلق عليه ابن القيم - رحمه الله - الفقه في الواقع،
فحتى نخرج بتطبيق صحيح لهذه القاعدة، لابد أن نميز درجة إفضاء الأمر الجائز
إلى الممنوع، وتحديد درجة الإفضاء هذه تختلف فيه التقديرات اختلافاً كبيراً، كل
بحسب ما وصل له، أضف إلى ذلك أن تقدير متعلق الوسيلة بأمر حاجي أو
ضروري، وكذا المتوسل إليه، أمر قابل لاختلاف وجهات النظر.
فمن أمثلة تطبيق هذه القاعدة في حياة السلف مما يشابه واقعنا:
1 - الحرص على الوحدة والائتلاف، ونبذ أسباب الفرقة والاختلاف.
وهذا من أعظم الأصول التي دعت إليها الشريعة وطبقها السلف الصالح -
رضي الله تعالى عنهم-، فظهرت آثار المحافظة على هذا الأصل في مواقف كثيرة، منها مثلاً تركهم بعض المباحات، بل بعض السنن من أجل عدم التفرق
والاختلاف، وهذا من فقههم -رحمهم الله تعالى-، فواجب على من سار على
سبيلهم أن يقتدي بهم في ذلك، ومن أمثلة ما نقل عنهم في هذا الباب، قصة عبد
الله بن مسعود -رضي الله عنه- في صلاته خلف أمير المؤمنين عثمان بن عفان -
رضي الله عنه- بمنى إتماماً مع أن السنة القصر، فلما قيل له في ذلك قال:
«الخلاف شر» .
ومن أجل ذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقرر أنه
«يستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك مثل هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا» .
ومن هذا ما يقع الآن بين الدعاة وطلبة العلم من رد هذا على ذاك. إن الرد
على المخالف، مشروع في الجملة، وهو سنة الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن
سار على هذا من أكابر العلماء، إلى يومنا هذا.
لكن هل هذا الأمر على إطلاقه؟ فهل يكون الرد على المخالف مشروعاً حتى
وأن أفضى إلى فساد، أو منكر أكبر؟
إن الرد على المخالف وسيلة، القصد منها إظهار الحق لازهاق الباطل،
وإعلاء كلمة الدين، لكن هذه الوسيلة قد تأتي بضد ما شرعت لأجله، فيحصل
بسبب هذا الرد تفريق الأمة، واقتتالها فيما بينها ومن ثم ضعفها، واستطالة الأعداء
عليها، ومن ثم ذهاب بيضة هذا الدين، فهل يبقى الرد عندئذ على المخالف مطلوباً
مشروعاً؟
هذه مسألة تحتاج إلى بحث ونظر، حسب القواعد والضوابط الشرعية،
وحسب الواقع، ولا يتسع المجال لعرضها في هذا المقال، وأدعو الأخوة الباحثين
والدعاة وطلبة العلم، أن يبحثوا هذه المسألة بحثاً علمياً مؤصلاً.
ولا مانع هنا من أن نعرض بعض ما يجب مراعاته في دراسة هذه المسألة
مما له صلة ببحثنا.
الرد على المخالف في المسائل الاجتهادية كطرائق الدعوة مثلاً
أكثر ما يقال فيه أنه وسيلة مشروعة، لا تصل إلى الوجوب، إذا غلب على الظن أداؤها لحدوث تدابر وتباغض بين المسلمين وإنما تسد؛ لأنها ذريعة إلى أمر ممنوع.
لكن ما حكم الرد على المخالف في غير المسائل الاجتهادية، إذا أدى إلى
حدوث ذلك الفساد؟ ينبغي أن ينظر إلى حجم المخالفة، ثم مدى تأثر الناس بها،
وحجم المصلحة الناتجة من هذا الرد، ثم حجم الفساد الذي أفضت إليه هذه الذريعة، وكذلك درجة إفضاء هذا الرد لهذا الفساد.
الأمر بمجانبة أهل الأهواء والفساد
لقد سبق القول إن الشرع حث المسلم على عدم مخالطة المشركين، لأن ذلك ذريعة لمحبتهم أو محبة دينهم، وكذلك فإن مخالطة أهل الأهواء ذريعة إلى التأثر بهم، أو دخول بعض شبههم إلى قلبه، وأقل ذلك الخوض معهم في باطلهم، ومثل مخالطتهم، قراءة كتبهم والنظر فيها، لذلك فقد جاءت نصوص كثيرة عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف في التحذير من ذلك، وأقوالهم في ذلك كثيرة حتى كانت مجالاً رحباً للتصنيف، وما ذلك إلا عملاً بسد الذرائع، من أشهر ذلك قصة عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- مع صبيغ بن عسل، حينما كان يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين، فأمر الناس باعتزاله، حتى رجع عن ما هو فيه، ثم أذن عمر للناس بمخالطته.
وقال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: «لا تجالس صاحب هوى فيقذف
في قلبك، ما تتبعه عليه فتهلك، أو تخالفه فيمرض قلبك» .
وعن أبي قلابة -رحمه الله تعالى- «لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون» قال
أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب. [21]
حدثوا الناس بما يعرفون كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال
ابن حجر معلقاً: «وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ... »
ثم قال: «وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج قصة العرنيين لأنه اتخذها
ذريعة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك
أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه
عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم» . [22]
ليس كل ما يعلم يقال وإن كان حقاً، كما قال كثير بن مرة الحضرمي:
«إن عليك في علمك حقاً كما أن في مالك حقاً، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل، ... ولا تمنع العلم أهله فتألم، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيقتلوك» [23] . وهذا واضح في حديث معاذ. أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا فيتكلوا) . وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال محدثاً عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
«لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال: إن فلاناً يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلاناً، فقال عمر: لأقومن العشية، فأحذر هؤلاء الرهط، الذين يريدون يغضبوني، قلت: لا تفعل، فإن الموسم، يجمع رعاع الناس، ويغلبون على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير، وأمهل حتى تقدم المدينة، دار الهجرة، ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها، فقال: والله لأقومن في أول مقام أقومه بالمدينة» .
وتطبيقات سد الذرائع أكثر من أن تحصى، ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله
تعالى- «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي والأمر نوعان،
أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان أحدهما ما
يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد
الذرائع أحد أرباع الدين) .
هذا ما تيسر والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه
وسلم.
__________
(1) انظر: الفتاوى الكبرى (المصرية) لابن تيمية: وأعلام الموقعين لابن القيم 3/ 103، وسد الذرائع للبرهاني 329.
(2) البقرة: آية 168.
(3) آل عمران: آية 28.
(4) الممتحنة: آية 1.
(5) النساء: آية 89.
(6) رواه أبو داوود، كتاب الجهاد 3/105 رقم 2645، والترمذي في السير 5/329 رقم 1604، وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 1474.
(7) رواه أبو داوود، كتاب الجهاد 3/224 رقم 2787، وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 6062.
(8) رواه أبو داوود، كتاب اللباس 4/314 برقم 4031، والإمام أحمد في المسند 7/142 رقم 5114 (تحقيق أحمد شاكر) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال شيخ الإسلام: إسناده جيّد كما في اقتضاء الصراط المستقيم 1/236.
(9) الأنعام: آية 108.
(10) الفتاوى الكبرى 6/ 174.
(11) الماندة: آية 101.
(12) انظر: تفسير القرطبي 6/330 وما بعدها.
(13) انظر مناسبة الحديث في الاستيعاب لابن عبد البر 3/ 941.
(14) رواه مسلم وغيره.
(15) رواه مسلم.
(16) رواه أحمد والنسائي والطبراني في المعجم الكبير.
(17) أعلام الموقعين 3/ 147.
(18) انظر: مجموع الفتاوى 22/405 - 407.
(19) الاعتصام 130، وانظر اللالكاني في السنة رقم 244، وعبد الله بن أحمد في شرح السنة 18.
(20) فتح الباري 1/ 272.
(21) الاعتصام 2/ 14.
(22) الموافقات 4/190.
(23) أعلام الموقعين 3/171.(69/15)
من فقه الدعوة
فن معالجة الأخطاء
عبد الله آل سيف
ترصد الشركات الغربية الكبرى أموالاً ضخمة لدراسة علم العلاقات الإنسانية، الذي يشمل: فن معالجة الأخطاء، وفن التعامل مع الآخرين، وفن كسب القلوب، وفن الإقناع، وفن قيادة الآخرين، وتنشئ لهذا الغرض معاهد مستقلة، وتدعم
البحوث والدراسات المتعلقة به؛ لأنه يخدم مصالحها وأهدافها في الاتصال
بالجماهير، ولا تكاد تخلو شركة من الشركات من قسم العلاقات العامة الذي يوظف
فيه أناس متخصصون في هذه العلوم، أو ما يحلو [لديل كارينجي] أن يسميهم:
(كاسحي الألغام) ، الذين يتولون أمور زبائن الشركة المشاغبين والمتعبين، ويحلون
مشاكلهم، ويكسبونهم إلى صفهم، ولا شك أن الدعاة أولْى الناس بدراسة هذه العلوم، لأن طبيعة عملهم هي الاتصال بالآخرين، ومعالجة أخطائهم. وسوف أحاول هنا
طرق أبواب ذلك العلم لإبراز بعض القواعد المهمة في ذلك، ومحاولة شرحها،
وتأصيلها بالدليل الشرعي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
القاعدة الأولى:
اللوم للمخطئ لا يأتي بخير غالباً:
تذكَّرْ أن اللوم لا يأتي بنتائج إيجابية في الغالب، فحاول أن تتجنبه، وكما
يقول أنس بن مالك _رضي الله عنه-: إنه خدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عشر سنوات ما لامه على شيء قط، وإذا حدثه في ذلك بعض أهله قال: «دعوه
فلو كان شيء مضى لكانْ» ، وفي رواية للطبراني قال أنس بن مالك: «خدمت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما وُريت شيئاً قط وافقه، ولا شيئاً
خالفه» [1] .
واللوم مثل الطيور مهيضة الجناح، التي ما إن تطير حتى تعوْد إلى أوكارها
سريعاً، أو مثل السهم القاتل الذي ما إن ينطلق حتى ترده الريح على صاحبه
فيؤذيه، ذلك أن اللوم يحطم كبرياء النفس البشرية ويكفيك أنه ليس أحد في الدنيا
يعشق اللوم ويهواه.
وكم خسر العالم كثيراً من العباقرة وتحطمت نفسياتهم؛ بسبب اللوم المباشر
الموجه إليهم من المربين [2] قال معاذ بن جبل: «إذا كان لك أخ في الله فلا
تماره» [3] .
القاعدة الثانية:
أبعد الحاجز الضبابي عن عين المخطئ:
المخطئ أحياناً لا يشعر أنه مخطئ، وإذا كان بهذه الحالة وتلك الصفة فمن
الصعب أن توجه له لوماً مباشراً وعتاباً قاسياً، وهو يرى أنه مصيب. إذن لابد أن
يشعر أنه مخطئ أولاً حتى يبحث هو عن الصواب؛ لذا لابد أن نزيل الغشاوة عن
عينه ليبصر الخطأ.
جاء شاب يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزنا بكل جرأة
وصراحة فهمَّ الصحابة أن يوقعوا به؛ فنهاهم وأدناه وقال له: «أترضاه
لأمك؟ !» قال: لا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم» قال: «أترضاه لأختك؟ !» قال: لا، قال: «فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم» [4] . فكان الزنى أبغض شيء إلى ذلك الشاب فيما بعد.
وكذلك في قصة معاوية بن الحكم حيث قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت: (يرحمك الله) ، فرماني
القوم بأبصارهم فقلت: (ما شأنكم تنظرون إلي) فجعلوا يضربون بأيديهم على
أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فبأبي هو وأمي -ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه- فوالله ما
نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام
الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. [5]
القاعدة الثالثة:
استخدم العبارات اللطيفة في إصلاح الخطأ:
إذا كنا ندرك أن من البيان سحراً فلماذا لا نستخدم هذا السحر الحلال في
معالجة الأخطاء! فمثلاً حينما نقول للمخطئ لو فعلت كذا (ما رأيك لو نفعل كذا)
أنا أقترح أن تفعل كذا (عندي وجهة نظر أخرى ما رأيك لو تفعلها؟) وغيرها ...
فلا شك أنها أفضل مما لو قلت له: (يا قليل التهذيب والأدب، وعديم المروءة
والرجولة) .. (ألا تفقه) .. (ألا تسمع) .. (ألا تعقل) .. (أمجنون أنت …)
(كم مرة قلت لك) .. فلا شك أن الفرق شاسع بين الأسلوبين، وعندما نسأل أنفسنا
أي الأسلوبين نحب أن يقال لنا، فلا شك أننا نختار الأول فلماذا لا نستخدمه نحن
أيضاً مع الآخرين؟ ! ولهذا كان النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يستخدم مثل
هذا، ففي حديث عائشة مرفوعاً» لو أنكم تطهرتم ليومكم « [6] . وروى مسلم
أيضاً مرفوعاً:» لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك « [7] . والسر في تأثير
هذه العبارات الجميلة، أنها تشعر بتقدير واحترام وجهة نظر الآخرين، ومن ثم
يشعرون بإنصافك فيعترفون بالخطأ ويصلحونه [8] .
القاعدة الرابعة:
ترك الجدال أكثر إقناعاً من الجدال:
تجنب الجدال في معالجة الأخطاء، فهو أكثر وأعمق أثراً من الجدال نفسه
وتذكر أنك عندما تنتصر في الجدال مع خصمك المخطئ فإنك تجبره في الغالب أو
على الأقل يحز ذلك في نفسه، ويجد عليك ويحسدك، أو يحقد عليك فحاول أن
تتجنب الجدال، ولذلك فإن النصوص الشرعية لم تذكر الجدال إلا في موضع النفي
غالباً، والمحمود منه ما كان محاورة هادئة مع طالب للحق بالتي هي أحسن.
ذُكر عن مالك بن أنس أنه قيل له:» يا أبا عبد الله الرجل يكون عالماً بالسنة
أيجادل عنها؟ «قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت وإلا سكت [9] . وفعلاً فإن
طالب الحق إذا سمع السنة قبلها، وإن كان صاحب عناد لم يقنعه أقدر الناس على
الجدل، لكن إن سلم بها وذكرت له السنة بلا جدال فقد يتأملها ويرجع.
وبالجدال قد تخسر المجال، والداعية ليس في حاجة إلى أن يخسر الناس ولذا
يقول عبد الله بن حسن -رحمه الله-:» المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل
العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة والمغالبة، أمتن أسباب القطيعة [10] . حتى ولو كان المجادل محقاً، فينبغي له ترك الجدال، وفي الحديث الذي رواه أبو
داود مرفوعاً «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان
محقاً» [11] .
وتذكَّر أن المخطئ قد يربط الخطأ بكرامته، فيدافع عنه كمن يدافع عن
كرامته، وإذا تركنا للمخطئ مخرجاً سَهُلَ عليه الرجوع وجعلنا له خيارات للعودة
فلا نغلق عليه الأبواب [12] .
القاعدة الخامسة:
ضع نفسك موضع المخطئ ثم ابحث عن الحل:
عندما نعرف كيف يفكر الآخرون، ومن أي قاعدة ينطلقون، فنحن بذلك قد
عثرنا على نصف الحل.
حاول أن تضع نفسك موضع المخطئ، وفكر من وجهة نظره هو، وفكر في
الخيارات الممكنة التي يمكن أن يتقبلها، فاختر له ما يناسبه [13] .
القاعدة السادسة:
ما كان الرفق في شيء إلا زانه:
عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: «إن الله رفيق يحب الرفق،
ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» [14] .
وفي رواية أخرى له: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا نُزِعَ من شيء إلا
شأنه» .
وتذكَّر قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وكيف عالجها النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالرفق كما في الحديث المتفق عليه عن أنس [15] .
القاعدة السابعة:
دع الآخرين يتوصلون لفكرتك:
عندما يخطئ إنسان، فقد يكون من المناسب في تصحيح الخطأ أن تجعله
يكتشف الخطأ بنفسه، ثم تجعله يكتشف الحل بنفسه فإن هذا أدعى للقبول.
ومن الشواهد على هذا ما ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم من قصة الشيخ عبد
الرحمن البكري، حينما ذهب إلى الهند، وسمع أحد العلماء الهنود يلعن الشيخ
محمد بن عبد الوهاب في نهاية كل درس، فقام الشيخ البكري ونزع غلاف كتاب
التوحيد، ودعا الشيخ لمنزله ثم استأذنه ليأتي بالطعام، وكان الكتاب قريباً من
الشيخ الهندي فأخذ يتصفحه وأعجبه قال: فلما رجعت وجدته يهز رأسه عجباً فقال: لمن هذا الكتاب؟ هذه التراجم عناوين الفصول شبه تراجم البخاري، هذا والله
نفس البخاري، فقلت: ألا نذهب للشيخ الغزوي لنسأله -وكان صاحب مكتبة-
فاخبرهم أنه للشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فصاح العالم الهندي بصوت عال:
الكافر! ! فسكتنا وسكت قليلاً ثم هدأ غضبه، واسترجع ثم قال: إن كان هذا
الكتاب له فقد ظلمناه ثم صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه، وتفرق تلاميذه
في البلاد وهم على عادة شيخهم يدعون له في دروسهم [16] .
والإنسان عندما يكتشف الخطأ ثم يكتشف الحل والصواب فلا شك أنه يكون
أكثر حماساً لأنه يحس أن الفكرة فكرته [17] .
القاعدة الثامنة:
عندما تنتقد اذكر جوانب الصواب:
حتى يتقبل الآخرون نقدك المهذب، وتصحيحك الخطأ، أشعرهم بالإنصاف
بأن تذكر خلال نقدك جوانب الصواب عندهم، ففي البخاري أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» ، قالت: حفصة
فكان بعدُ لا ينام إلا قليلاً [18]
وقال -صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء
المدينة» [19] .
فعندما يعمل إنسان عملاً فيحقق نسبة نجاح 30% فإنني أثني عليه بهذا
الصواب، ثم أطلب منه تصحيح الخطأ، ومجاوزة هذه النسبة [20] .
القاعدة التاسعة:
لا تفتش عن الأخطاء الخفية:
حاول أن تصحح الأخطاء الظاهرة ولا تفتش عن الأخطاء الخفية لتصلحها
لأنك بذلك تفسد القلوب، وقد نهى الشارع الحكيم عن تتبع العورات فقد روى الإمام
أحمد عن ثوبان مرفوعاً «لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم،
فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» [21] .
وعن معاوية مرفوعاً «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن
تفسدهم» [22] .
القاعدة العاشرة:
استفسر عن الخطأ مع إحسان الظن والتثبت:
عندما يبلغك خطأ عن إنسان فتثبت منه، واستفسر عنه مع إحسان الظن به،
فأنت بهذا تشعره بالاحترام والتقدير كما يشعر في الوقت نفسه بالخجل وأن هذا
الخطأ لا يليق بمثله ويمكن -مثلاً- أن تقول له: زعموا أنك فعلت كذا، ولا أظنه
يصدر من مثلك، كما قال عمر -رضى الله عنه-: «يا أبا إسحاق زعموا أنك لا
تمشي تصلي» .
القاعدة الحادية عشرة:
امدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب:
وقد أخذ بهذه النظرية محترفو السيرك، فنجحوا في ترويض بعض الحيوانات
الضخمة أو الشرسة ودربوها على القيام بأعمال تدعو للدهشة والاستغراب
وطريقتهم في ذلك أنهم يطلبون من هذا الحيوان عملاً معيناً، فإذا حقق منه نسبة
نجاح 5% أعطوه قطعة لحم، وربتوا على جسمه دلالة على رضاهم عنه، ثم
يكررون العملية عدة مرات مع قطع لحم أخرى أيضاً، وتزداد نسبة النجاح شيئاً
فشيئاً حتى يتوصلوا للمقصود فإذا نجحت هذه النظرية مع الحيوانات؛ أفلا تنجح
مع الإنسان وهو من أكثر المخلوقات ذكاء واستجابة وقدرة على تفادي الأخطاء؟ ! .
مثلاً: عندما تربي ابنك ليكون كاتباً مجيداً، فدربه على الكتابة، وأثن على
مقاله الأول، واذكر جوانب الصواب فيه، ودعمها بالثناء فإن قليل الصواب إذا
أُثني عليه يكثر ويستمر [23] .
القاعدة الثانية عشرة:
تذكر أن الكلمة القاسية في العتاب لها كلمة طيبة مرادفة تؤدي المعنى نفسه:
عند الصينيين مثل يقول: (نقطة من العسل تصيد من الذباب ما لا يصيد
برميل من العلقم) ، وهذا واقع والكلمة الطيبة تفعل وتؤثر ما لا تفعله أو تؤثر به
الكلمة القاسية التي هي في حقيقتها برميل أو براميل من العلقم المر القاسي الذي لا
يطيقه أكثر الناس.
القاعدة الثالثة عشرة:
اجعل الخطأ هيناً ويسيراً وابن الثقة في النفس لإصلاحه [24] .
القاعدة الرابعة عشرة:
تذكر أن الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم:
وهذه غريزة بشرية فالإنسان عبارة عن جسد، وروح وهو ملئ بالعواطف
الجياشة، وله كرامة وكبرياء، فالإنسان لا يحب أن تهان كرامته، أو يجرح
شعوره، حتى ولو كان أثقل الناس، ولذلك لما بلغ أبا أسيد الساعدي فتوى ابن
عباس في الصرف أغلظ له أبو أسيد فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحداً يعرف
قرابتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد [25] .
__________
(1) الشمائل المحمدية للترمذي [273] .
(2) ديل كارينجي [21] .
(3) بهجة المجالس لابن عبد البر [2/432] .
(4) رواه أحمد بإسناد جيد، المسند [5/256] .
(5) رواه مسلم [1/381] .
(6) رواه مسلم [2/581] .
(7) صحيح مسلم [2/694] .
(8) ديل كارينجي [220] .
(9) جامع بيان العلم وفضله [412] .
(10) جامع بيان العلم وفضله [421] .
(11) مسند أبي داود [4/ 253] .
(12) كيف تكسب الأصدقاء ديل كارينجي.
(13) كيف تكسب الأصدقاء ديل كارينجي.
(14) رواه مسلم [4/ 2004] .
(15) بلوغ المرام، صحيح مسلم [1/ 236] .
(16) فتاوى ابن إبراهيم [1/ 75] .
(17) كيف تكسب الأصدقاء [173] .
(18) رواه البخاري [3/6] .
(19) رواه الدرامي [المقدمة 29] .
(20) كيف تكسب الأصدقاء.
(21) مسند أحمد [5/279] ، الترمذي [البر/83] .
(22) مسند أبي داود [4/ 272] رياض الصالحين (442) قال النووي إسناده صحيح.
(23) كيف تكسب الأصدقاء [228] .
(24) كيف تكسب الأصدقاء [23] .
(25) التمهيد لابن عبد البر [2/245] .(69/25)
خواطر في الدعوة
مَنْ.. للمشاريع العلمية والدعوية؟
محمد العبدة
بعُد العهد بالمؤسسات، التي كانت من أقوى الأسباب في استمرار التعليم
الإسلامي والمدارس القائمة عليه، والتي استطاعت أن تمد المجتمع الإسلامي بطلبة
العلم والعلماء، حتى في عهود الانحدار السياسي، نسي الناس الأوقاف الإسلامية
التي كانت مؤسسة كبيرة ساعدت في الحفاظ على البعد الحضاري - الاجتماعي
للإسلام، وكان بإمكانها أن تستمر في أداء هذه المهمة لولا أن الدولة القُطْرية
الحديثة - وغالباً ما كانت عسكرية - ساءها أن يكون للمسلمين مثل هذا العمل
الاجتماعي فراحت تعيث فساداً بأوقاف المسلمين، ووجدتها فرصة لنهب الأراضي
والأموال وتلاشت الأوقاف شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لها أثر. كانت المدارس
والجامعات العريقة في العالم الإسلامي تستفيد من هذه الأوقاف فيتوافد الطلبة إليها
من جميع الأقطار، وعندما دعم المسلمون هذه المؤسسات الكبيرة، إنما كانوا
يعوِّضون بالتقصير الواقع من جانب الدول التي كانت غارقة في المنازعات
والتهارش على الدنيا، ومع ذلك فإن هذه الدول لم تتجرأ على نهب الأوقاف كما
تجرأت الدول الحديثة. وكانت هذه الأوقاف تمثل نوعاً من الحماية للمجتمع
الإسلامي، ولذلك مرت على المسلمين قرون كان العالم فيها متقدماً، وقابل ذلك
تدهور سياسي عجيب، واستمر تدريس العلوم الشرعية من غير أن يخضع للأهواء
والأمزجة.
لم يقتصر نفع هذه الأوقاف على التعليم، بل تعداه إلى أمور كثيرة تتصل
بحياة الناس ومعاشهم، ومن يقرأ عن مصارف هذه المؤسسات سيأخذه العجب من
المدى الذي وصل إليه المسلمون في تقديم الخدمات الإنسانية.
إننا اليوم أشد حاجة مما مضى إلى مثل هذه الأعمال ذات النفع الدائم بإذن الله
وذلك حماية للدعوة وتشجيعاً للعلم والبحث العلمي، ويجب أن نتذكر أن دعم التبشير
النصراني والمؤسسات العلمية في أوربا إنما كان وراءه جمعيات كثيرة جداً، وكان
من أثر هذه الجمعيات ظهور جامعاتهم المشهورة. إن هذا الحديث عن وقف المال
لمشاريع دعوية وعلمية، وإن كان موجهاً إلى كل المسلمين الغيورين إلا أنه موجه
بشكل أخص إلى الدعاة الذين يتحملون عبء إيجاد مثل هذه الأعمال، وحتى لا
تبقى الدعوة أسيرة لأشخاص يجودون أو يبخلون.(69/35)
الملف الأدبي
نجمة الاعتصام
تركي المالكي
(1)
رقصَ الحبلُ بالراقصينْ..
بعد (دبكتهم) نصف قرنٍ عليهْ
فانهمرْ، يا سلاْم!
«عارض ممطرٌ!»
وانتثرْ يا شررْ
يا سعادتهم بالمطرْ!
(2)
أصبح (البحرُ) كالخمرِ! عذبْ
بينما (الغيثُ) سامْ!
«دعْ (سفينةَ نوحٍ) وكنْ
(واقعياً) تُجيدُ الكلامْ!
وادَّرِعْ معنا نجمةً لا تُضامْ..!
نجمةً ودَهَاليزُها ستةٌ ...
نجمةً لاعتصامٍ! فموجُ التطرفِ هبْ!»
(3)
نصفَ قرنٍ! وهم ينهشونْ
مضغوك وكنت تِجارتَهمْ..
ثم ها هم يبيعون حتى العظامْ!
(4)
«مرحباً يا ابن جَدّيَ (سامْ) !
خذ فديتُكَ لا حجب القدسُ عني رضاكْ
أنا أنت ولكنني (الغمدُ) أنتَ الحُسام!
أنا أنت ولكنني (الذِّيلُ) ..
فاحقنْ سمومَك فيّ..
سوف أدفعُ عنك (لحى) الانتقامْ!
أنا أنت فصُغْ نزفَ قوميَ حبراً، وخُطَّ بهِ ...
هيكلاً للسلاْم!
ثم خذ من يدي بصمةً في الخِتَامْ
إنني (واقعٌّ!) وداعاً زمان القتال/الكلامْ!
ها أنا أتذوقُ صفع النعالْ!
من يديك (المعمَّدتين!) حلالْ!
وحلالٌ حلالٌ حلالْ..
فأنا عاقلٌ وذكيُّ..
وأفهمُ في (الاعتدالْ) !
وأنا أنت يا أسدي..
مُرْ فبين يديك الغزالْ!
وانغمدْ يا حسام!
(5)
جبلٌ من غبارْ! ..
مسجدٌ للضرارْ! .
مِزَقٌ من فمي ونُثارْ!
عطشٌ يملأ الأرض ملحاً وطينْ..
وعواصف رملٍ و (ريحَ) سلامْ!
يا (رياحُ) فهزّي جذوع غيوثِ اليقينْ
في دمائيَ رعدٌ وبرقٌ وتوقْ!
فاسقها أيها المُزنُ غيثاً..
ترى دربها بين هذا الحُطامْ!
اسقها (قبساً) فرعُهُ صاعدٌ..
والجذورُ توهَّجُ في العمقِ ثابتةً لا تُرامْ!
(6)
ها تضلَّعْتُ إني أرى - رغم هذا الظلامْ!
في عروقي دمَ الفاتحين..
يَتَدَفَّقُ بالطهرِ، كالورد، كالجمرِ..
يسقي جذوعَ الكلمْ!
هو ما بينها يضطرمْ!
وهْي تمنحهُ نبضهُ..
وتُهمِّش فيه العدمْ!
ثم تزرعُ من لونه الأرجوانيِّ شمسَ النهارِ..
وأفْقَ الحياةِ وشوقَ القممْ!
كلُّ قَطرة دَمْ..
نقَشتْ تَوقَها فوقَها:
(فيارب لا تجعلْ حياتي مهينةً
ولا ميتتي بين النساء النوائح
ولكن شهيداً تدرجُ الطيرُ حولهُ
وتأكل غربان الفلا من جوانحي)
ويا رب لا تجعل من القيد معصماً
أجرُّ به خزيي! وتُطوى مطامحي
ولكن لظىً يغلي ليدفنَ تحته
تواريخ من مدُّوا يداً نحو ذابحي!(69/38)
للموت مليون طريقة
عبير عبد الله الطنطاوي
البيت مليء بالصراخ والنحيب.. الكلمات اليائسة هي الحوار الرئيسي بين
الجارات في الداخل، ورائحة الموت التي تناقلتها النسوة في الحي إنها تدور حول
ابن عم أو خال أو صديق أو قريب مات تحت القصف المعادي، أو من الخوف،
أو.. أو.. وأنا مللت هذه الأحاديث، إنها تعاد مختلطة بتنهدات حارة، منتهية
بنحيب مقيت، وعبارات مذعورة خائفة من الموت غداً، إن للموت مليون طريقة
في هذا الجو البائس، المشحون بالقتل والتدمير.
بلدي يا زهرة في القلب عبيرها، ويا بسمة على الشفاه مرسمها، ويا أملاً في
الأحلام مرآته، ريا قُبلة على الوجنة نطبعها. لم أكن أعرف أني أحبك.. نعم
أحبك. وفي الأزمات نعرف معنى الحنين إلى الأحباب، ونكتشف مدى تعلقنا بهم.. نعم: ففي الأزمات تتكشف للإنسان مشاعر خفية وغامضة، وفيها يعرف ما استتر، أو ما حاول ستره. إنني غريبة في وطني قَدِمْتُ إلى ترابه وأنا طفلة، ووجدت
في أحضانه أحلى وأرقّ الأيام والذكريات.
- شجون، أنت هنا!
انتبهت على هذا الصوت الرخيم، التفت إلى الخلف راسمة ابتسامة انتزعتُها
انتزاعاً، وقلت:
- منتهى.. أهلاً.. هل كنت تبحثين عني؟
- بالطبع وهل لي صدر حنون كصدرك؟
ضممتها إلى صدري الحنون - كما قالت - ضمة أحسست فيها بحرارة
صادقة ومودة قديمة. قالت بعد أن أفلتت من بين ذراعي:
- فارس يا شجون فارس ...
- فارس حبيبي الصغير.. ماذا به؟
- الحليب..! !
-الحليب؟ !
قلت مستغربة، وأنا أنظر إلى صدرها الذي كان يعلو ويهبط، ثم أردفت:
- وحليب الأم أين هو؟ !
-ذهب منذ خبر استشهاد (وليد) ابن خالتي.
- والأسواق ألا يوجد فيها حليب؟
- الأسواق لا يوجد فيها طعام! فكيف سيكون فيها حليب لابن عشرين يوماً؟ !
- والعمل؟
- (دبريني) يا شجون..! !
وبدأت الدموع تتساقط من مقلتيها كأنها لآلئ تنحدر من صدفتين سوداوين..
ربَّتُّ على كتفها وقلت:
- الله معنا، ولن يخذلنا إن شاء الله.
قبلتني ودعت لي بالنجاح والستر، وأثنت عليّ، ثم غادرت المكان إلى بيتها
وطفلها، وجلست أنا. «تعتمد عليّ! ! من أين سأحصل على الحليب» ؟
نظرت إلى معصمي، وجدت فيه أساور ذهبية رفيعة، لازمت يدي منذ
صغري، كنت أكبر ويكبّرها لي أهلي، حتى لا تصير كالقيد يحز معصمي. أنا
أحب هذه القطعة الذهبية، لكنني أحب منتهى وفارس أكثر من الأساور.
دخلت إلى البيت، أخذت أسأل الموجودات عن حليب لصغير لم يتجاوز
العشرين يوماً.. جميعُهنَّ أجبْن بالنفي، متأسفات لعدم وجود. لبسْت ملابس
الخروج الشتوية، وقاومت عصف الرياح المختلط بهدير الطائرات وقصفها..
خرجت إلى جارنا البقال، سألته عيوني قبل لساني، ولكنه أبدى أسفه وهو حزين.
خرجت إلى الشوارع حزينة مرتعشة ألتمس طعاماً لذلك الثغر البسام الصغير
والجميع يتأسفون! . عدت إلى البيت أخيراً متجهمة الوجه، قابلتني أمي باللوم.
كيف أخرج في هذا الجو والطائرات تحوم حولنا و.. و! ! وما كادت تكمل تأنيبها
حتى أسكتت صوتها غارة جديدة. إن تشبثنا بالحياة يولد كلما شُنَّتْ غارة جديدة! .
وتكرر خروجي للبحث عن الحليب لفارس يوماً بعد يوم، وفي اليوم السابع
أخبرني جارنا البقال أنه يستطيع تأمين بعض الحليب بعد يومين.. أشرق الأمل من
جديد بعد أن كادت شمسه تذهب وتنيب، وولدت البسمة على شفتي بعد أن قتلها
اليأس.. عدت إلى البيت، وسألت عن منتهى وابنها، فأخبرتني أمي -كالعادة- بما
لا يسر: الطفل جائع، والعائلة فقيرة ولا تعرف من أين تؤمِّن معيشة الصغير..
منتهى تبكي..
يا إلهي اللآلئ تساقط.. وزوج منتهى لم يعد من الجبهة. وهي تسأل عني
باستمرار.. بأي وجه أقابلها وهي التي اعتمدت بعد الله عليّ! !
بعد يومين عدت إلى البقال، فوجدت دكانه مغلقاً، نظرت إلى الساعة في
معصمي إنها لا تزال السابعة صباحاً وهو بالتأكيد لم يعد بعدما ذهب لجلب الحليب.. بقيت في مكاني قرب الحانوت لا أتحرك رغم البرد الشديد الذي كان يحثني على
الحركة لأمنع دمي من التجمد، لكني كنت أغذي دمي بحرارة الأحلام، حيث
أتصور لآلئ منتهى قد جفت، والبسمة تعلو وجهها الشاحب، وطفلها يرضع
الحليب الذي لم آل جهداً في إحضاره! .
في الساعة الواحدة ظهراً عاد البقال، وعلى وجهه ابتسامة الأمل والفرح لأني
-كما قال - كنت حقاً أماً لمنتهى رغم إنني أصغر منها ببضعة أشهر.. وقدم لي
الحليب، وطلب مني ثمناً لم أكن أتوقعه، وحين استفسرت أخذ يشرح ويعيد ويزيد، فلم أجد بُداً من إسكاته، وجدت النقود ضئيلة جداً أمام المبلغ الذي طلبه، فقد
جلب لي حليبا دسماً، وبكميات كبيرة. فلم أتردد ساعتها في نزع الأساور،
وتقديمها لبائع الحليب قائلة:
- هذه تنفع؟
ضحك قليلاً ضحكة هزت جسمه، ثم قال:
- تنفع يا بنتي.. (زين) .. لكن هذه تساوي الآن ضعف المبلغ.
- وماذا نفعل؟ . قل بسرعة.
- سأعطيك الباقي.
- أعطاني النقود حتى يخلص ضميره - كما قال -.. لم ألتفت إليه، المهم
أني حصلت على بغيتي.. عدت إلى البيت، ثم ذهبت إلى بيت منتهى، فلم أجد
فيه أحداً، فاتجهت نحو بيتنا.
الفرح يصنع لي أجنحة بيضاً تحملني إلى الأرض التي فيها فارس ومنتهى
صديقتي ورفيقة دربي. دخلت حديقة المنزل وإذا بي أفاجأ بعينين كصدفتين ودموع
كأنها لآلئ، تنحدر على خدين أسيلين.
- منتهى! !
صرخت بصوت عال، والفرح باد على كل بقعة من جسدي.
- منتهى خذي، هذا حليب لفارس.
نظرتُ إليها ... ما هذا؟ حزن صامت وعينان فقدتا لمعانهما، وصارتا
باردتين كأنهما زجاج.
-منتهى.. الحليب! .
-قالت بكبرياء: لمن؟ !
كاد قلبي يقف، فقد توجست أمراً، غير أني تمالكت نفسي وقلت متعجبة:
- لمن؟ ! طبعاً لـ..
فَصَرَخَتْ: اسكتي يا شجون، اسكتي أرجوك..
صحت: ويلك أين فارس؟
وكان الجواب بكاءً يقطع نياط القلوب.. ندّت من قلبي صرخة موجعة باكية:
- لا.. الأطفال لا يمكن أن يموتوا بهذه السرعة من الجوع.. الجوع.. كم
أكرهها هذه الكلمة ... الجوع..
غرقت لحظة في بحار الحزن والألم، وسادت لحظات صمت، قطعتها
أصوات القنابل والصواريخ وصفارات الإنذار وصراخ الانفجارات.. نظرت إلى
منتهى وجدتها تدخل البيت.. تركتني وحيدة كما تركها فارس وحيدة.. نظرت إلى
أعلى.. إلى السماء وهتفت:
- يا رب ... يا أمان الخائفين!(69/43)
نصوص شعرية
المتحدة
علي بن موسى
هذي سراييفو تموتُ ولا نصيْر.
الطلُّ غادر صبحهُ
وانحاز للبارودِ
وانكفأ الشروقْ.
***
قلبي الطريدةُ
والجموع تُتابع الصيادَ
والصيادُ يقتنصُ الجموعُ! .
ها أنت يا " عثمانُ "..
تُلقى في الطريقِ..
مقطعَ الجسد الصغيرْ
ونحن نغطُّ في لغط القشورْ!
أنت تسبحُ في بحار الدمْ
أنت المستجُير ولا نصيْر!
ها أنت يا ليلى
فريسةُ ألفِ وحشٍ
ألفِ خنزيرٍ
ولا من يستجيبُ..
وكلُّنا غرقى ومركبنا هناكَ
لدى التتار!
***
هذي سراييفو
نواح لا يكفُّ!
وألفُ ألفِ قذيفةٍ زُرعتْ هنا ولا مغيثَ
سوى مزاعمهم عن الطير " النعامة "! .
***
النارُ تأتي تحتوينا
ونظنها في البعد نائيةً
لكنها في القلب تحرقُنا!
تُحاصُر أمننا.. تقتات أحلامَ الطفولةْ..
وتغلُّ أشجاَر الإيابْ! .
يا مجلس الأمن المصّممِ بالصليب وللصليب
يا مجلس الشيطانِ تقتلنُا وتمنعنا الرصاصة؟ !
وتُقضُّ مضجعَنا بأوهام الوكالات التي عبرتْ جسورَ عقولِنا..
وتربعَّت في سوحنا
يا مجلس الأعداءِ
تقتلنا وتقتلنا، وتَمنحُ خصمنا ليلاً من البارود يحرقُنا وقوفا! .
***
هذي سراييفو تدُّك سلامَها نار الصليب
ونحن نمضغ عجزنا!
عذراً.. فإنك ما انتفعتِ بأن أبوحْ
وما انتفعتِ بأن أُطِّير نحو وجهك..
ألف قافية تنوحْ! .
***
عذراً سراييفو وباقي، السربِ
إنك منذ جاؤوا صامدةْ
ونحن هناك نأكل خبزنا المعجونَ باللذات!
ونقول: ما فوق التراب ترابْ.
***
يا أمة الإسلامِ
هل مازال حاوي القومِ يُذهِلُنا..؟
فيخرِجُ من جراب الوهم آلافَ الطيورْ!
ونحن نعجب: كيف يأتي بالطيور ولا طيورْ؟ !
وكيف يزرعُ فوق أعيننا التلذذَ والحبورْ؟ !
ونحن نضحكُ مثلما الأطفالُ
والدنيا تدورْ!
***
عذراً سراييفو
سئمنا ليلَنا
لكننا - عذراً - سئمْنا أن نملَّ من السأمْ! .(69/48)
ملف السلام العربي / الإسرائيلي
حواشي على متن الاستسلام
د/ خالد الجابر
ويسأل السائل، ويلح في السؤال عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يتخذه
المسلمون قاطبة، حول ما يُسمى بمباحثات السلام مع العدو اليهودي. وخاصة
حول الاتفاقية الأخيرة (غزة وأريحا أولاً) .
والجواب واضح بيّن - بحمد الله تعالى- لمن آتاه الله العلم، والبصيرة،
وستراه هنا في جملة من المسلَّمات والحقائق التالية.
المسلَّمة الأولى:
إن من لوازم التوحيد، ومقتضيات الشهادتين: الانقياد المطلق والاستسلام
التام لله رب العالمين، والشريعة التي أنزلها على عبده ورسوله محمد -صلى الله
عليه وسلم-[ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ
الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: 36] فلا يعارض أمر الله وأمر رسوله بعقل، أو قياس، أو
هوى، أو عواطف، أو غير ذلك، بل يحذر كل الحذر من مخالفة أمره [فَلْيَحْذَرِ
الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] .
ألا وإن من مستلزمات هذا الكلام أنه إذا عرضت للمسلم حادثة، أو مسألة،
أو نازلة، فإنه قبل أن يصدر حكمه فيها، لا بد أن يعرضها على كتاب الله وسنة
رسوله كما فهمهما علماء الأمة، وأئمة الدين، فاذا عرف حكم الله في المسألة سار
بموجبه.
ومن هنا تعلم ضعف الحال الذي آلت إليه الأمة لما أعرضت عن علمائها
وفقهائها في كثير من البلدان، فصاروا لا يُستفتون في الأمور العظيمة الجليلة، بل
لعلهم آخر من يعلم! فإذا تم الأمر طلب منهم أن يصدروا ما يثبت صحة ذلك القرار! فإن أبوا وأفتوا بخلاف ذلك، أهملت فتواهم وبُحث عن غيرهم! .
ومن هنا تعلم أيضاً ضعف كلام من يبيح ما حرم الله بسبب العنت والمشقة
والآلام، ويذكرك ببكاء الصبية وترمل النساء، وتشرد الناس، وهدم بيوتهم ونحو
ذلك مما تحركه العاطفة، وتبعثه المعاناة. وهذه الأمور كلها إن كان لها اعتبار عند
الله، فإن المفتي لن يلغي قيمتها، بل ستكون من معالم الفتوى، وإن لم يجعل
الشارع لها اعتباراً فلا وزن لما أهمله الشارع وألغاه.
وخلاصة هذه المسلَّمة أنه لابد من عرض أي حادثة وأي مسألة على الشرع
قبل البت فيها، فإذا تبين حكم الله وحكم رسوله وجب الانقياد والاتباع.
المسلَّمة الثانية:
لا اعتبار شرعي ولا قيمة ولا وزن لما يعقد وعقد وسيعقد من عهود واتفاقيات
مع اليهود لأمر ظاهر بيّن، روضت الأمة على نسيانه والغفلة عنه، بل واستغشاء
الثياب، وصم الآذان عن سماعه ألا وهو أن هؤلاء المتنفذين على مصالح الأمة،
والمبرمين لمثل هذه الاتفاقيات لا يمثلونها ولا يعبرون بلسانها، ولا يصدرون عن
رأيها، [بل إنا نذهب إلى ما هو أشق قبولاً عند الظباء المروضة- وقد قاله بعض
العلماء- من أنه لا كبير فرق بين أن يسوس المسلمين مرتد علماني مفسد، أو كافر
أصلي، والواقع يشهد بذلك] .
فلا داعي إذن للاكتراث بما يفعلونه ويقررونه، فالأمة إذا استفاقت واستعصت
على المروّضين، وتمنعت على التنويم المغناطيسي، فإنها لن تعدو أن تحرق هذه
الأوراق! .
ثم إن ثوابت الملة، ومقررات الشريعة لا يستطيع أن يسقطها أو يعدل فيها
العلماء والفقهاء، فضلاً عن الجهلة بأساسيات الدين وقواعده أو المعرضين عنها
بالكلية، الجاعلين إياها خلف ظهورهم، ومن هذا أنه لا يحق لهم أن يحددوا معالم
علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، وقد بين الله ورسوله حدودها ومعالمها،
واكتملت أركانها بتطبيق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، هذا هو الأصل،
فإن ضعف المسلمون عن حماية بيضة دينهم أن تكسر، وحوزة مملكتهم أن تقتحم
وكانوا أذل من ذلك، واستباحهم الكفار (فلأهل الحل والعقد) فيهم أن يمنعوا هذا ...
بما تبيحه الشريعة من صلح أو عقد، على أن يكون مضروباً إلى أجل. أما أن
تباع أرض المسلمين فلا! إذ الأرض لله، ولا يجوز بيع ما لا تملك!
[وخلاصة المسلَّمة الثانية أن ما يبرم الآن من عهود باطل شرعاً؛ لان من
أبرمه فاقد الأهلية، فلا يقبل منه ذلك، كما أنه لا يقبل منه أن يحدد العلاقات مع
الآخرين، فقد بينها الله ورسوله] .
المسلَّمة الثالثة:
إن مصيبتنا في فلسطين، على فداحتها وعظمها، وشدة هولها، ليست إلا
عرضاً واحداً من الأعراض الكثيرة: لمرض الأمة الكبير، وليست هي المرض
ذاته! .
فكما أن مصيبتنا في فلسطين عرض، فمصائبنا في أفغانستان، والبوسنة
وكشمير، والحبشة، والفلبين، والهند، وطاجكستان، والأندلس، كلها من
أعراض مرض الأمة الكبير.
وإن كانت هذه أعراضاً ظاهرة، يراها كل أحد، فلمرض الأمة أعراض
أخرى لا يراها إلا طبيب. وهذه الأمة أمامك: قد كثر فيها الخبث الدائر بين الكفر
والشرك والكبائر وعطلت الشريعة وارتفعت رايات العلمنة، وهبت رياح التغريب، وعم الفساد حتى صار الموحِّد سابحاً ضد التيار، ومع هذا فقد ضعف التقي
وتخاذل المؤمن، وتفرق الأخيار، وهذه الأمة أمامك: حمى مستباح وباب مخلوع،
وسور قصير مهدَّم. قد بثت العيون على أطرافها، لا ليحذروها لكن لينبئوها بمقدم
الأوامر العليا، من طرف الأرض الآخر! قد تعلمت فنَّ الترجمة، واستدانت لذلك
قلماً.
فآلت الأمة إلى نبوءة الصادق المصدوق: غثاء كغثاء السيل، وصدق فيها
وصف عدوها لها أنها الرجل المريض. فمن ثمَّ، فالأمة من ضعفها في ذهول ومن
ذلتها وهوانها في شرود، ومن الضغوط التي عليها، والبلايا التي فيها، في حالة
من اللاوعي. فما تصدره من قرار، أو ترسمه من خطة، إنما هي حيلة العاجز
ووسيلة الغريب المضطر. وحين تعود لوعيها، ويزول عنها ذهولها، ستزُمُّ
الشفتين عجباً، مما فعلته في «زمن التيه» .
[وخلاصة هذه المسلَّمة: أنه لا يصح أن تصرفنا الآلام والأعراض إلى
تسكينها وتهدئتها، ونهمل المرض الأصل، ومهما سكَّنا الآلام، والمرض لم يعالج
فلن ننتفع بشيء] .
المسلَّمة الرابعة:
أما وقد استبان لك ما مضى، إن شاء الله، فلك أن تسأل الآن وتلح في
السؤال، لا عن الاتفاقية، وتفاصيلها السياسية، فهذا آخر ما ينبغي أن تفكر فيه.
نعم: إننا نحتاج ولا شك لمعرفة التفاصيل والخفايا، لكنها تكون كحجج أهل المنطق، لا لنثبت بها الدين، إنما لنرد بها على أهل الباطل. ولك أن تسأل الآن، وتلح في السؤال عن علاج مرض الأمة الكبير، وكيف يكون؟ فإنك إن سألت هذا السؤال تكون قد خطوت خطوتك الأولى في الطريق الصحيح، الطريق إلى الأقصى. ألا فاعلم أيها المبارك غير مجهَّل: أن داء أمتنا منها، وأنها مصابة بداء نقص المناعة الذاتي، فصارت تتلف نفسها، وتتأبى على أطبائها، والله قد أنبأنا عن الداء، فقال تعالى [ومَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ] [النساء: 79] قال عز وجل [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ثم وصف لفا الدواء [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ] [محمد: 7] ، وقال [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] [النور: 54، 55] .
إنه الطريق الذي سلكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الطريق الذي لا
يلقاه إلا الذين صبروا، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم.
ومن معالم هذا الطريق:
- صرف الجهود في تربية الجيل، وتزكيته، والسعي لرفع مستواه، بالدعوة
الدؤوبة، والمتابعة الدقيقة.
- ومنها نشر العلم الشرعي، المبني على الكتاب والسنة، وتعليمه الناس
وتقريبه لهم. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي
المفسدين، ومقارعة الظالمين، وفضح كيد الخائنين.
ومنها الاستفادة من كل الخبرات، والعلوم العصرية، والحرص على تعلمها
واتقانها والتفوق فيها.
- ومنها التعاون بين فئات الدعاة إلى الله تعالى وتنسيق الجهود، وترتيب
القدرات، والاجتماع والتآلف.
- ومع هذا كله فلا بد من الصبر، فالصبر ثم الصبر وهذا هو الطريق الذي
لا يمر عبر البيت الأبيض ولا غيره فضلاً عن أن يبدأ منه، إنما قبلته البيت العتيق.
هذا هو الطريق.. إنه الطريق إلى الأقصى.(69/52)
ملف السلام العربي /الإسرائيلي
من نبأ «السلام» في الصحافة العربية
- التحرير -
لا يبالغ أولئك الذين يؤكدون أن انكساراً حاداً في التاريخ السياسي العربي
المعاصر بدأ يُحدث فعله، من خلال ما يجري هذه الأيام. إننا أمام رحلة تيه أخرى، تُكرس فصولها، وتُرسم باسم واقعية مزعومة، تجعل من الاسترخاء فوق فراش
الهزيمة شجاعة لا تُدانيها شجاعات الزمن (الثوري) السابق! وتدفع بمن يبيعون كل
شيء -حتى آخر القطرات من ماء وجوههم- رموزاً للتعقل والاعتدال، تعرف -
وحدها- من أين تؤكل الكتف.
إننا نرى فصول الهزيمة الجديدة بكل حدتها، غير أننا ندرك مع ذلك أن
إفرازاتها القادمة ربما تجاوزت ظلام الهزائم العربية السابقة، وكانت أشد قتامة من
كل ما مضى في زمن المد الثوري البائد. وما اتفاق (غزة وأريحا أولاً) إلا الحجر
الذي كسر الباب، لتدخل من بعده عواصف الهيمنة الإسرائيلية فيتبع بعضها بعضاً. وقد حرصنا هنا أن ننقل للقارئ بعضاً مما كتب عن هذا الاتفاق في الصحافة
العربية، بعد أن قدمنا موقفنا منه - إجمالاً-، ورؤيتنا تجاهه في موضع آخر،
وسنكتفي هنا بذكر النص المنقول كما هو دون تعليق وفي الإشارة ما يغني من
العبارة.
-البيان-
بين قيادتين:
في الحالة الفلسطينية، القيادات المعنية، تعيش حالة تتجاوز ظاهرة اليأس. إنها تفتقد الرؤية التاريخية وتستسهل التعامل مع القضايا المصيرية، وتعتبر الدور (دورها) ، أهم من الحفاظ على القضية والهدف. إنها تقبل التوقيع على صيغة غامضة مجحفة، وتترك كل ما يتعلق بالمستقبل غامضاً عائماً، معلقاً برقبة جملة مُطلقة، لا معنى لها، يسمونها (الحل النهائي) إنهم لا يريدون منا التوقيع على
تسوية سياسية فقط؛ بل يريدون أن نغير عقلنا وفكرنا وتراثنا الثقافي وسيحصل. ... لماذا لا نسمع لحظة لصوت الخصم وهو يشرح الاتفاق في الكنيست؟
أليس هو شريكنا في الاتفاق؟ ليس هو شريكنا في المصالحة التاريخية، كما تقول
مقدمة الاتفاق؟ . استمعوا إليه جيداً: (ما هو الشيء الذي أصررنا عليه؟) يسأل
رابين ويجيب قائلاً:
(أولاً: هذا اتفاق ثنائي بيننا وبين الفلسطينيين، وليس مشروطاً بما قد
ننجزه مع لبنان أو سورية أو الأردن.
ثانياً: أصررنا على أن الاتفاق لا يشمل القدس، لا في إطار التسوية الجزئية، ولا في إطار التسوية الشاملة. القدس لن تكون مشمولة في أي مجال من
صلاحيات المجلس أو الهيئة التي ستدير شؤون الفلسطينيين في المناطق المحتلة.
القدس باقية تحت السيادة الإسرائيلية وكعاصمة لإسرائيل) . وقال إسحق رابين -
خصمنا وشريكنا في الاتفاق -: «لهذا الاتفاق تقسيم: الجزء الأول للتنفيذ هو
قطاع غزة، حيث المستوطنات ستبقى، والجيش الإسرائيلي سيبقى للدفاع عن
المستوطنات. أما أريحا فبشرط أن تكون المقر للهيئة التي ستدير بداية الحكم الذاتي. هذا هو الشرط لأريحا، الأفضل أن يكون المقر هناك في أريحا من أن يكون في
مكان قريب من القدس، يجب إبعاد المقر عن القدس. لقد وعدنا بأننا نذهب إلى
تسوية جزئية مع الفلسطينيين: دون المساس بالاستيطان اليهودي، دون المساس
بالأمن، دون الالتزام بصورة أو بشكل الاتفاق النهائي..
من مقال لبلال حسن - الشرق الأوسط 13/9/93م
إسرائيل الكبرى باتساع النفوذ:
» تعالوا نراجع كل التصريحات لرابين وبيريز، وكل من يتحدث في إسرائيل عن السلام، ليتضح التمسك بأن السلام معناه: إقامة كل العلاقات بين الدول العربية لإسرائيل. هذا الإصرار الذي يضغط في كل تصريح إسرائيلي على إقامة علاقات كاملة هو الدافع الحقيقي، الذي دفع رابين وحكومته وحزبه إلى عرض اتفاق غزة وأريحا. حلم رابين هو أن تستغل إسرائيل كل مجالات الخبرة والتفوق في تسريب نفوذها تحت ستار (تقديم المساعدات للدول العربية، وتقديم الخبرة) بحيث تصل في يوم من الأيام إلى السيطرة الفنية والتجارية والزراعية والصناعية في الدول العربية، وهكذا تقوم. (إسرائيل الكبرى) لا باتساع الأرض، بل باتساع النفوذ، والسيطرة على الاقتصاد والثقافة، وعلى كل حال فإن حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات عن طريق ضم كل هذه المساحات الشاسعة من الأرض، يقتضي توفر أعداد ضخمة جداً من اليهود ليقيموا في هذه الأرض، أما السيطرة الاقتصادية فلا تحتاج لهذا العدد، بالإضافة إلى أن ضم كل هذه الأرض يقتضي خوض إسرائيل حروباً بالغة الخطورة في زمن يكره العالم فيه قيام الحروب، بينما السيطرة الاقتصادية تتم بنعومة ولا تستشير النفوس كالحروب، فهي تسرب تحت ستار فضفاض كادعاء تبادل الخبرات، والتعاون من أجل الشعوب «.
أحمد أبو الفتح: الشرق الأوسط 3/4/1414هـ
محور إسرائيلي/فلسطيني:
» مرحلة جديدة فعلاً في تاريخ الشرق الأوسط تبدأ مع توقيع الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني في واشنطن ما هو الجديد فيها؟ قيام محور (فلسطيني/إسرائيلي) ، مدعو إلى صياغة تعايش (عربي/إسرائيلي) أولي
يشمل مختلف شؤون الحياة اليومية والاقتصادية العامة والسياسية، وعبارة (محور) في هذا المجال غير دقيقة لأن قوة أحد القطبين -أي القطب الإسرائيلي - تتجاوز
وزن القطب الآخر، وهي في أقصى الضعف. إن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات
اختار لفلسطيني الأرض المحتلة ارتباطاً استراتيجياً نهائياً بإسرائيل والعالم الغربي.
وهذا الواقع لن يتبدل في جوهره، مهما كانت صورة النظام الجديد، الذي قد ترسو
عليه التوازنات المقبلة في المنطقة، مهما حصل وانطلاقاً من أرض الواقع ذاته
ومن نصوص هذا الاتفاق - وهي استراتيجية مع أن الاتفاق مؤقت (وهذه إحدى
المفارقات) - سيظل المحور الإسرائيلي / الفلسطيني جسماً مرتبطاً بما يدعى
الشمال، ومنفصلاً استراتيجياً عن المنطقة الجنوبية. الخلاصة: أن الصراع
العربي/ الإسرائيلي مسألة انتهت وفق منطق هذا الاتفاق الإسرائيلي / الفلسطيني،
وهذا ما يؤكده محمود عباس (أبو مازن) أحد مهندسي هذا الاتفاق، وليس الأمر
بحاجة إلى تأكيد، في أي حال. وبديل الصراع العربي/الإسرائيلي مرحلة تعامل
جديد - على ما يبدو بين المحور الإسرائيلي/الفلسطيني الجديد، والأطراف العربية
الأخرى. وهنا اختلال آخر. المحور الجديد موحد ومدعوم من القوى العظمى في
حين أن الأطراف العربية الأخرى، هي أطراف لا تنسيق جدياً بينها، مع العلم أن
بعض هذه الأطراف - أي مصر- اختار الارتباط مبكراً بما يدعى الشمال وهذا هو
بالفعل المعنى الاستراتيجي الأساسي لاتفاق (كامب ديفيد) ، كما أراده
السادات.
ليس هناك أحد يدافع عن نص هذا الاتفاق بجرأة وصراحة، حتى أبرز
مهندسيه وعبارة (أولاً) في تعبير (غزة - أريحا أولاً) تتضمن اعترافاً بأن قيمة
هذا الاتفاق الأول المفترضة ليست فيه، بل بما قد يعقبه. هل تكون هذه الـ (أولاً) نواة كيان فلسطيني؟ أم أنها مرحلة أولى من حكم ذاتي فصل وفق الرغبات
الإسرائيلية وقد لا يتحقق حتى على بعض أجزاء من الضفة الغربية؟ . الوقائع
المادية المختلفة- بما فيها السياسية - ترجح أن ما يعقب (أولاً) سيكون أيضاً وفق
الرغبات الإسرائيلية. فليس لإسرائيل ما تخشاه حالياً إذا لم تقم وزناً لرغبات
الجانب العربي، أى لرغبات العرب عموماً، بمن فيهم أولئك الذين باتوا وفق نص
الاتفاق الأخير في العالم الاستراتيجي الثقافي الشمالي عبر القطب الآخر الذي هو
إسرائيل. أما إذا كان ما يدعى (التحول الإسرائيلي) الذي يتحدثون عنه قائماً فإن
مرحلة هدوء وسلام قد تبدأ. وإذا حصل المرجح -وفق المعادلة الراهنة وأبرز
عناصرها نصوص الاتفاق ذاته - فإن الفوضى هي ما ينتظرنا جميعاً في المنطقة،
لا السلام الذي يتحدث عنه أبو مازن بابتهاج تام في القاهرة. بعض هذه الفوضى
ينجم حكماً عن مصير ثلاثة ملايين فلسطيني، لن يفسح لهم المحور الإسرائيلي /
الفلسطيني الجديد مكاناً، وبعضها الأخر سينجم عن سؤال قد يطرح ولو تجاوزاً:
إذا تبين أن السلام المقبل إسرائيلي وحسب، على حساب حقوق العرب ولو بحدها
الأدنى، فما الذي يحول دون توليده لحروب عديدة بين القوى الرافضة حالياً
ومعظمها إسلامي وأكثر من حكومة في المنطقة؟ ! وفي أي حال لن يكون مستغرباً
طرح بعض الإسلاميين سؤالاً على بعض الحكومات وهو (لماذا تتقبلون إسرائيل
وتضيق صدركم بنا؟) خصوصاً إذا كان هؤلاء الإسلاميون من غير دعاة العنف
وممارسيه «.
الأسبوع العربي 13/9/93م
سياسة الإخفاء:
» لا توجد صفقة سرية بين شريك قوي للغاية، وآخر ضعيف للغاية،
إلا وتنطوي بالضرورة على تنازلات، يحرص الأخير - من فرط الارتباك - على إخفائها. إذ أنه لا تزال هناك تفاصيل كثيرة، مما يتعين التفاوض بشأنه، وهناك بالمثل أشياء عدة غير قابلة للوزن بدقة، بتعين إيضاحها، بل ثمة آمال إما أن تتحقق أو يتم القضاء عليها. وعلى رغم كل شيء فإن الصفقة التي بين يدينا تنبئ عن تعب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعزلتها، وعن دهاء إسرائيل، فكثير من الفلسطينيين يسألون أنفسهم: لماذا يتعين علينا بعد سنوات من التنازلات أن نتنازل مرة أخرى لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل وعود وتحسينات غامضة في ظروف الاحتلال، لن تحدث حتى إجراء محادثات الوضع النهائي بعد فترة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، بل ربما لا تحدث حتى ذلك الوقت؟ ! ولم نر حتى إقراراً واضحاً من جانب إسرائيل (التي لم تعترف بعد بأنها سلطة احتلال) بإنهاء الاحتلال، الذي تواكبه سلسلة من القوانين والأنظمة الجزائية
المعقدة، ولم يرد شيء عن الـ 13 ألف معتقل سياسي فلسطيني، الباقين في
السجون الإسرائيلية «.
إدوارد سعيد: الحياة 1/9/93م
رحلة في المجهول:
» لا يريد أحد أن يطرح السؤال الصعب: ما هي آثار الاتفاق على الشرق الأوسط؟ ؛ لأن سؤالاً كهذا يوقظ الجميع من سطوة الحلم، أو يفضح تفاهة الغنيمة. أخطر ما في الاتفاق الفلسطيني / الإسرائيلي أنه يرهن مستقبل المنطقة بأكملها بمستقبل كانتون صغير اسمه (أريحا - غزة) ويعطيه وظيفة الكلية الاصطناعية، التي يعاد فيها غسل كل مدخلات المنطقة ومخرجاتها.
إن الاتفاق الفلسطيني / الإسرائيلي مبني على أساس إنجاح جزء مرحلي، هو في حد ذاته جزء من مرحله انتقالية، هي في حد ذاتها تفتقد الوضوح في النهايات والأهداف! بمعنى أنها (رحلة في المجهول) المهم أن ليس هناك
ضمانات أبداً للانتقال من الحل الجزئي إلى الحل الانتقالي الشامل، أى من كانتون أريحا- غزة إلى كانتون الضفة الغربية، وبعد ذلك الدولة المستقلة كما يطمح الفلسطينيون. ثم كيف سيكون رد فعل الفلسطيني على (قمع) السلطة الفلسطينية له علماً بأن الوظيفة الموضوعية الوحيدة المرشحة لها سلطة الكانتون هي القمع (؟!) بمعنى: حماية إسرائيل من إمكانية الاعتداء الفلسطيني عليها، وعلى مستوطنيها، وإذا فشل رجال الشرطة الفلسطينية في الأمر، فسيعود الاحتلال، الذي انسحبت قواته إلى مسافة كيلو متر (!) خارج أريحا أو خارج قطاع غزة. إن إسرائيل ومعها أمريكا ودول أوروبا تريد تسويق حل كانتون (غزة - أريحا) كحل يبرر الانفتاح الاقتصادي الشرق أوسطى وقبل ذلك يبرر البحث عن مصادر تمويل. وبالفعل بدأت عطية استحلاب المعونات من الدول الصناعية، ومن الدول العربية الغنية، وكان حل كانتون غزة. أريحا هو الحل الشامل، وبذريعة إنجاح التجربة الفلسطينية دون وجود مخطط حقيقي وواضح لما يعنيه مشروع مارشال، سوى أنه فرصة أخرى لإيجاد مصادر تمويل، لبناء اقتصاد إسرائيل لمرحلة جديدة من
وجودها في المنطقة، وبدور جديد.
ثانيًا: اتجاه الإسراع في تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، بلغ
في بعض الأحيان درجة الدعوة إلى إلغاء الجامعة العربية، وليس فقط رفع
المقاطعة العربية عن إسرائيل لقد فتحت اتفاقية كامب ديفيد المنطقة على بحر
العواصف، لكنها لم تكن كافية للعصف بالمنطقة، فهل يكون كامب أريحا مركز
العاصفة الثانية؟ . حقائق الاقتصاد السياسي للحل المطروح لا تتجاوز إعادة ترتيب
ديمغرافية تخدم أهداف التنمية الاقتصادية الإسرائيلية في مرحلة انقلابها لعصر
جديد، عصر قيادة النظام الشرق الأوسطي. إن ما يفسر هذا هو طبيعة الحل
المرحلي المقترح والمطروح في غزة وأريحا أولاً. وليس صدفة أن يتم اختيار
المنطقتين حين تتم دراسة التوزيع الجغرافي للمناطق الصناعية في إسرائيل.
بالنسبة لمنطقة غزة وما تشكله من مخزون عمالي كثيف، وبمستوى معيشي متدن
أنشأت إسرائيل في العامين الماضيين أكبر منطقة صناعية تقع على الشرق من
قطاع غزة وتتصل بالمعابر الثلاثة، التي تصل القطاع بإسرائيل. سيكون هم
المشروع المعروف بمشروع مارشال في ما يخص الجانب الفلسطيني هو إعطاء
قطاع غزة كل الاحتياجات التي يتطلبها الحفاظ على هذا القطاع، كممول للأيدي
العاملة الرخيصة، وداخل نظام أمني يضبطه الفلسطيني قبل الإسرائيلي. وحين
يطالب شمعون بيريز بتمويل لمشروع الحكم الذاتي، لا ينسى أن للمشروع وجهاً
إسرائيلياً، هو إيجاد عمالة للعمل الفلسطينى، حيث أن قطاع غزة لا يكفي سكانه،
وهنا يتلخص المشروع بتحسين شروط الإسكان والمجاري في غزة، وتعمير بنايات
عالية في مخيمات اللاجئين، بدل غرف الصفيح بأرضيتها الرملية، وتغطية قوات
الإسالة، وتجفيف المستنقعات. لقد جربت إسرائيل ذلك خلال ما سمي بفترة
الحصار، وقبلها جربت استعمال البطاقات الممغنطة لضبط دخول عمال غزة إلى
إسرائيل، وخرجت بنتائج مشجعة. فهل يمنع ذلك من تطوير معاهد تعليمية
لتطوير مهارات الأيدي العاملة الفلسطينية، بما يتناسب وحاجة المصانع الإسرائيلية
في المنطقة الصناعية؟ . على الطريق من أريحا، وإلى القدس أقامت إسرائيل
منطقة صناعية جديدة في المكان الذي يعرف باسم (الخان الأحمر) ، أو بالعبرية
الفصحى (معاليه أدوميم) وفي غربه أقيمت مدينة استيطانية كبيرة تحمل الاسم
نفسه، وتشكل الحد الشرقي للقدس الكبرى. هذه المنطقة الصناعية بحاجة إلى
تمويل من مشروع مارشال، الأأأأذي يرعاه شمعون بيريز باتجاهين: تمويل
المنطقة الصناعية وحاجاتها، وتمويل إسكان الأيدي العاملة الفلسطينية في أريحا.
وهنا تصبح عودة اللاجئين ضرورية، بل وتلبي حاجة سياسية، وليس إلى مخيمات هذه المرة بل إلى مساكن عصرية. الأمن مضمون، منطقة مغلقة في الأغوار اسمها (أريحا) يحتشد فيها بفضل السلام، وبفضل اتفاق أريحا وغزة أولاً أكثر من 100 ألف لاجىء (عائد) ينطلقون صباحاً إلى الغرب لمسافة 10 كيلو مترات حيث (معاليه أدوميم) الصناعية، ويعودون في المساء إلى بيوتهم، أما إلى الغرب من ذلك - القدس - فممنوع «.
الحوادث 17/9/93م
هزيمة ثالثة للعرب:
» إن الاتفاق الإسرائيلي الأخير مع منظمة التحرير الفلسطينية بشأن الاعتراف المتبادل، وإعطاء المنظمة قريتين فلسطينيتين يعتبر في المقاييس السياسية والاستراتيجية هزيمة ثالثة للعرب في تاريخهم المعاصر. لم يقتصر الأمر على ... قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما هذا الاندفاع نحو مباركة الأنظمة العربية ... للاتفاق، وتسابق بعضها للسير على غرار اتفاق الهزيمة. وفيما يلي سنحاول رسم صورة انعكاسات ذلك الاتفاق / الهزيمة على الواقع العربي في المرحلة القادمة:
أولاً: إن هذا الاتفاق سينتج صراعاً فلسطينياً / فلسطينياً بسبب الاختلافات
السياسية والأيديولوجية للقوى الفلسطينية، كما أن ذلك الاتفاق سيفرض على قيادة
منظمة التحرر الفلسطينية قمع الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي التي منحت لها،
وفي الأراضي المحتلة الأخرى، يضاف إلى ذلك ستكون مهمتها ضبط المناوئين
والمعارضين للاتفاق.
ثانياً: إن غزة تقع على الحدود المصرية - الإسرائيلية وإن أريحا تقع على
الحدود الإسرائيلية الأردنية، وإن طبيعة المناطق الحدودية هي مجال صراع
حدودي دائم، ذلك يعني انتقال الصراع من حدود إسرائيل وداخلها وتحوله إلى
صراع حدود مصرى/فلسطيني من جهة، وأردني / فلسطيني من جهة أخرى.
ثالثاً: انتهاء المطالبة بتحرير فلسطين للأبد، وأن المسألة لا تعدو كونها
مسألة أراض عربية محتلة عام 1967.
رابعاً: تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية ويترتب على ذلك رفع المقاطعة
لإسرائيل، وعلاقات اقتصادية ودبلوماسية مع الدول العربية، تكون السيطرة فيها
للطرف القوي والمدعوم من قبل الغرب، وهو الطرف الإسرائيلي بدون أدنى شك.
خامساً: إن مثل هذه الحالة بين العرب وإسرائيل تخدم المصالح الغربية في
المنطقة، وتستطيع إسرائيل في المستقبل الاستغناء عن المساعدات الأمريكية
وغيرها باعتمادها على نفسها وعلى جيرانها العرب.
سادساً: أحد عناصر سيناريو الاتفاق وانعكاساته المستقبلية هو المتغير
التاريخي الذي قد يقلب كل الموازين ويغير الأحوال، ويصعب على أحد أن يتنبأ به، فما يجري اليوم ليس نهاية القضية، وما يسمى بالسلام على حساب العرب ليس
أمراً حتمياً، فقد علمنا التاريخ بمتغيرات تحول مجرى الأحداث التاريخية سلباً أو
إيجاباً «.
القبس 23/9/93م
الاتفاق معلوم إسرائيلياً مجهول فلسطينياً:
المستوطنات موجودة والجيش سيبقى موجوداً على مشارف المدن، وكذلك مرجعية الأمن بما في ذلك مرجعية الأمن الفلسطيني، هذه نصوص موجودة في الاتفاق أما حل الإدارة المدنية، فهذا لا يعني شيئاً لأن هذه الإدارة أوجدها الليكود عام 1982 ليحسن من صورة الاحتلال وفشله. نحن لا نعتبر أن الاحتلال في ضوء بنود الاتفاق قد رحل، لكننا نعتبر أن الاحتلال قد تكرس ولكن بصور أخرى وبأشكال أخرى» . «هذا الاتفاق، من الناحية السياسية دفع بالقضية الفلسطينية إلى المجهول، وهو في اعتقادي مجهول فلسطينياً، ومعلوم إسرائيلياً، ذلك لأنه أبقى السيادة على الأرض بيد إسرائيل، وكذلك مرجعية الأمن الداخلي والخارجي أيضاً، وعلق كل القضايا الخلافية إلى أمد غير معلوم، وبذلك يكون هذا الاتفاق قد أعطى الولاية الجغرافية لإسرائيل، ومنحها القدس ومستقبل الأرض. أما من الناحية الاقتصادية - وللأسف الشديد - يريد الاتفاق تحويل الفلسطيني إلى منصة انطلاق للاقتصاد الإسرائيلي للمنطقة العربية، عبر الفيدرالية الفلسطينية/ الإسرائيلية لمخاطبة الوضع العربي، علماً بأن الفلسطينيين كانوا وما زالوا حريصين عبر نضالهم الطويل للاستقلال على محيطهم العربي، ولكن هذا الاتفاق حوّلهم إلى حربة موجهة إلى المحيط العربي..
باختصار جاء الاتفاق لإعادة تنظيم وترتيب الاحتلال، بشكل مريح
للإسرائيليين، وكذلك توظيف السلطة الفلسطينية في المهمات التي تؤمن للاحتلال
الاستقرار والأمن الاقتصادي» .
عبد الرحيم ملوح (عضو الهيئة التنفيذية لمنظمة التحرير)
الوطن العربي 24/9/93م، الأسبوع العربي 20/9/93م
المنظمة في الموقع الجديد:
«اللعبة الحقيقية التي ستكون من نصيب منظمة التحرير هي اللعب على الصعيد المحلي المحدود مع سكان الضفة والقطاع فقط، وهو ما يتناسب مع حجم طموحات وأهداف ورغبات قيادة هذه المنظمة، وينسجم مع طموحات وأهداف ورغبات إسرائيل التي تلعب على نطاق حجم أكبر، هو نفسه حجم الوطن العربي. وتجد هذه اللعبة المحدودة أساسها الآن في الاهتمام بإقامة نقطة مراقبة عسكرية في أريحا وأخرى في غزة، تحتشد فيها شرطة منظمة التحرير للوفاء بتعهد السهر على راحة وأمن إسرائيل، وتجنيب الجندي والمستوطن الإسرائيلي آلام مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، إذ سيكون قمع الانتفاضة الفصل الأول من هذه اللعبة المحدودة.
الفصل الثاني: سيكون خوض صراعات السيطرة على مختارية هذه القرية أو تلك، وبلدية هذه المدينة أو تلك. وستكون خلفية المشهد هي الصراع على أموال المساعدات والمشاريع، التي سيقدمها المجتمع الدولي، والحصول على حصص فيها، تتحول إلى البنوك السويسرية فوراً. مثل هذه اللعبة المحدودة ستكون هي لعبة اللاعب الذي ألقى أوراقه كلها على طاولة الكيال، وانسحب ليقامر بالملاليم في أزمة القرى والمدن الفلسطينية. ولن ينسى في كل مناسبة أو شجار (طوشة) في قرية من هذه القرى أن يصرخ في وجوه المنافسين إنه
(الممثل الشرعي الوحيد) للشعب الفلسطيني!
وإذا لم يصدقوا، فسيفتش في جيوبه، ويخرج الشهادة الإسرائيلية، ويضعها أمام أعين المشككين (؟ !) أما الفلسطينيون على الساحل (800) ألف سيحمدون الله ألف مرة أنهم بعيدون عن قبضة (الممثل الشرعي الوحيد) الذي ستكون متاعبه كثيرة: حماية المستعمرات الإسرائيلية وحماية نفسه وحماية نفسه من
نفسه» .
الوطن 22/ 9/ 93م
العدو المشترك:
«من بين العوامل الرئيسية التي دفعت بكل من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية للتوصل إلى معاهدة السلام بينهما، عامل مثير حقاً للدهشة الشديدة. فلم يكن بوسع الطرفين التوصل إلى مثل هذا الاتفاق أبداً، لو لم يكونا مدفوعين له لمواجهة عدوهما المشترك، وهو (التطرف الإسلامي) . ويقول المحللون من كلا الجانبين: إن اتفاق السلام الذي تم توقيعه مؤخراً بين إسرائيل والمنظمة - وهو الاتفاق الذي ربما يجعل من العدوين السابقين حليفين - هذا الاتفاق جاء لأن كلاً من إسحق رابين وياسر عرفات بدأ يستشعر الخطر الداهم هذه المرة من المسلمين الراديكاليين، الذين يرفضون أية مهادنة مع اليهود. ويقول (داني روبنشتاين) المعلق الإسرائيلي في (الديلي ستار) الإسرائيلية: (إن خوف إسحق رابين من التطرف الإسلامي هو الذي دفعه لتغيير رأيه في منظمة التحرير، التي كان يصفها باستمرار بالإرهاب والرغبة في القضاء على إسرائيل) .. ويقول (زكريا القاق) المحلل السياسي الفلسطيني: هناك مصلحة مشتركة بين إسرائيل والمنظمة للوقوف في وجه التطرف الأصولي، الذي يرى عرفات وكل الزعماء
العرب أنه يشكل تهديداً لهم» .
(كريستيان ساينس مونيتور) .
نقلاً عن الوطن 27/ 9/ 93م
المصلحة أمريكية والتكاليف يدفعها العرب:
«تحدث خالد الحسن (عضو لجنة فتح المركزية ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس الوطني) في لقاء أجرته معه (الحوادث) عن الحياة الجديدة، التي تسعى السياسة الأمريكية إلى ضمانها لإسرائيل من خلال اتفاق السلام فقال: (السياسة الأمريكية الجديدة التي تحرك ما سماه بوش) النظام الدولي الجديد، في أداء شرطي العالم لا تستطيع لاستمرار في دعم الكيان الإسرائيلي بخسارة. فهذا - على مستوى المال - يكلف الخزينة الأمريكية نحو 15 مليار دولار. وأشار إلى تفاصيل هذه الفاتورة تقرير صادر عن أحد مراكز الأبحاث في واشنطن ونيويورك. ومن هنا كان ضرورياً إعطاء هدف جديد أو حياة جديدة لإسرائيل لتحقيق مصلحة أمريكية بمستوى التكاليف ووجدت واشنطن أن هذه المصلحة يمكن أن تتحقق بتكاليف يدفعها العرب، وهذا ظاهر في السعي إلى الإمساك بالمفاصل، وإدماج إسرائيل في الدورة الاقتصادية الإقليمية. وحين سألته الحوادث: (لماذا مقارعة المستحيل؟ الاتفاق قد يكون أفضل الممكن، ولعله خطوة تتبعها خطوات في مسار طويل وليس نهاية المطاف؟) أجاب قائلاً: أتمنى أن يكون الاتفاق خطوة تتلوها خطوات، لكن الملاحق قيدت الفلسطينيين في شكل يوصد أمامهم أبواب إنهاء الاحتلال، وتبعاً لمواد هذه الملاحق، وخصوصاً ما يتعلق منها بالأمن، فالسيطرة في يد إسرائيل.
إن الأمن الخارجي مثلاً في يدها. ما معنى ذلك؟ يقيني أن العرب لن يحاربوا إسرائيل، ولا أوروبا. الفدائي الفلسطيني هو الذي يحارب إسرائيل من الخارج، فضلاً عن الفدائي اللبناني. وهذا يعني أن لإسرائيل الحق في العودة بجيشها لحماية أمنها الخارجي ضد أي عمل وطني ونضالي، حتى ضمن غزة وأريحا. وهذا الحق تكرسه بنود في الملاحق، تقول: إن تل أبيب مسؤولة عن أمن المستوطنات والمستوطنين، ولها حرية استعمال الطرق في غزة وأريحا من أجل تحقيق أهدافها هذا لا يمكن أن يسمى انسحاباً، حتى في القانون الدولي، أو في المفهوم الأمريكي أو البريطاني، من حيث زوال الاحتلال. باقٍ حتى في حال شمول الحكم الذاتي كل الضفة الغربية وقطاع غزة» .
الحوادث 24/9/93م
أريحا تصبح معتقلاً:
«مشروع (غزة وأريحا أولاً) أنهى هذه الانتفاضة، وأرى أن اختيار أريحا بالذات هو هدف إسرائيلي، لكي تتحول أريحا إلى معتقل واسع، لكل من يتحرك في الضفة الغربية مقاوماً الاحتلال، على الطريقة التي كانت متبعة قبل إقرار هذا المشروع. يعني: غداً بدل أن تعتقل إسرائيل المناضلين من أبناء شعبنا، وتضعهم في سجونها، أو تطردهم إلى جنوب لبنان أو الأردن، الآن أصبح يوجد) شريط فلسطيني (سيتولى هو هذه المهمة باعتباره مرجعاً فلسطينياً، حكومته -إن جاز التعبير - أو قيادته متفقة مع إسرائيل على خط سياسي معين، أحد أهم أبعاده إبقاء الأمن بيد إسرائيل. إن الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات باتوا يشعرون بأنهم غير عائدين إلى فلسطين، وأن الخيارات المتبقية لهم إما التوطين حيث هم، أو التهجير إلى ما هو أكثر بعداً عن فلسطين، أي إلى استراليا وكندا وأمريكا، وغيرها من الدول، التي لاحظنا أنها بدأت تنتهج في المدة الأخيرة منهجاً جديداً في تخفيف شروط القبول بالهجرة إليها.
الصراع تحول من صراع فلسطيني/إسرائيلي إلى خلاف فلسطيني/فلسطيني.
فبدلاً - ويا للأسف - من إيجاد حل مشرف ومقبول لمشكلة شعبنا، نجد أنفسنا أننا
أوجدنا الحل لمشكلة إسرائيل وقضية الاحتلال. اليوم إسرائيل هي أمام الرأي
العالمي بلد متسامح أعطى وأعاد أرضاً وفرصة لحكم ذاتي، يفترض أن يتحول إلى
دولة مستقلة مستقبلاً، بينما هي في الواقع أوجدت السكة أو الطريق الموصل إلى
تفريغ الضفة الغربية، وإلى شطب قضية القدس، وإلى وأد الانتفاضة وإلى تحميل
الفلسطيني نفسه مسؤولية ما قد يترتب عليه مثل هذا الحل. أعود مرة أخرى لأقول
إننا كنا نبحث عن حل لمشكلة مستعصية، فإذا بنا نستخرج ونخترع مشاكل جديدة،
قد لا تكون أقل صعوبة من المشكلة الأساسية وقد تفرز عنفاً وعدم استقرار أكثر مما
شاهدناه في السنوات الأربعين الماضية. إن المنظمة لم تحقق سلاماً، بل استسلمت
لحل مفروض بالضغط، والقوة والتآمر، وما جرى الآن قد يفرض استقراراً بمعنى
قد يحول دون حروب جديدة في المنطقة. ولكن لنا في التاريخ عبراً كثيرة، هذا
الوضع لا يمكن أن يستمر إلا في ظل استمرار الهيمنة الأمريكية / الإسرائيلية،
وفي اللحظة التي تخف فيها هذه الهيمنة أو تضعف، فكل شيء في الشرق الأوسط
سيكون مهيئاً للانفجار الكبير لإزالة آثار هذه النكبة الجديدة.
الآن نحن أمام مجهول جديد سيفوز حتماً قوى جديدة مضادة لهذا المشروع
التصفوي للقضية الفلسطينية ولقضية القدس ومصير شعب فلسطين. وبوادر هذا
الأمر أن هناك تياراً أصوليا ينمو، وأعتقد أن الأجواء الجديدة ستفتح المجال أكثر
وأكثر إلى نهوض مثل هذا التيار» .
الدولية 15/9/93م
تحت راية إجهاض التطرف:
«ترفع الولايات المتحدة في سبيل إقناع الأطراف العربية بتقديم التنازل تلو الآخر راية التهديد بمن تسميهم المتطرفين والإرهابيين في البلدان العربية الذين يتربصون بالعملية السلمية الدوائر، ويخططون للانقضاض عليها إن فشلت، وتحت تلك الراية - راية إجهاض ما يسمى بالتطرف - تدفع الإدارة الأمريكية عجلة المسيرة السلمية وتزودها بالزخم اللازم. تتسع دوائر الاستفهام إزاء اللغز الأمريكي المتعلق بقضية الإرهاب وتعريفه، عندما تلاحق دوائر الأمن الأمريكية أي تصريح لشيخ هنا أو خطيب مسجد هناك تصفه بالإرهاب وتتهمه بالتحريض عليه. وقد عجز القضاء الأمريكي إلى الآن على سبيل المثال عن إثبات أية تهمة حقيقية ضد الشيخ عمر عبد الرحمن - أيا كان الموقف منه -، ولمم تتعد الاتهامات الحقيقية إطار ملاحظة دعوات التحريض في خطبه وتصريحاته، وهي التي لا تقارن مع دعوات جيش) كاهانا حي (لإبادة العرب والمسلمين حيث كانوا، فضلاً عن مقارنتها بممارسات ذلك الجيش ومعسكرات تدريبه الفعلية. ... عموماً، ليس من اليسير ولا من المتوقع فك سر هذا اللغز في تناقض الموقف والممارسة في هذه القضية إذا تمت المناقشة بشكل يفصلها عن مجمل السياسات الأمريكية العليا إزاء مختلف القضايا، بل يجب النظر إلى أن قضية (الإرهاب الدولي) والتصنيف بالإرهاب وغيره ليست سوى جزء مكمل من
تلك السياسات، ولا علاقة له بموضوع الإرهاب كموضوع مجرد لا من قريب ولا
من بعيد. والقرار بتصنيف هذا البلد أو ذاك أو تلك المنظمة أو غيرها هو قرار
سياسي أولاً وآخراً، له خلفيات ومعطيات ويرمي لتحقيق سياسات واضحة من
خلال الضغط أو التخويف أو الاحتواء أو التلويح بورقة التصنيف ضمن دول
الإرهاب الدولي. وما البلاغة اللفظية الظاهرية في صلابة الموقف إزاء الإرهاب
أو الحزم التمثيلي المرئي في توجيه الاتهام سوى نمط من أنماط أداء الكاوبوي
المتغطرس الهادف لإخفاء حقيقة المرامي والغايات» .
خالد الحروب، الحياة 23/9/93م
التدخل المباشر تحت شعار حقن الدماء:
«لابد من العودة قليلاً إلى رد الفعل الأمريكي على هذا الاتفاق، وهو كما نؤكد جميع الدلائل، رد فعل مؤيد، ومرحب، وبتجاوز ذلك إلى الاعتقاد بأن اتفاق (غزة أريحا) هو بمثابة الجزء المهم من الترتيبات الأمنية الشرق أوسطية التي تدعو إليها وتعمل من أجلها الولايات المتحدة. هذا الاعتقاد الذي يجزم المراقبون الأردنيون بصحته، يدفع إلى الاعتقاد أيضاً بأن واشنطن ستعمل بكل قوتها على محاربة أي توجه يسعى لإفشال (اتفاق غزة أريحا) مثلما أنها ستسعى بكل قوتها إلى توفير الترتيبات العسكرية اللازمة لإنجاز هذا الاتفاق، ولو بالقوة، كما أنها ستسعى إلى توفير التمويل اللازم لمختلف المشروعات، التي تشكل عناصر هذا الاتفاق ليصبح في يدها سلاحان اثنان: سلاح الترغيب الاقتصادي، والترهيب الأمني. كما ستسعى واشنطن للتدخل مباشرة إذا ما نشب أي نزاع بين الفلسطينيين أنفسهم، خاصة وأن التوقعات تشير إلى أن (حماس) لن تسكت، وسيكون التدخل الأمريكي ت حت شعار (حقن الدماء) (؟ !) ولكن بهدف تحجيم القوى الإسلامية الرافضة لاتفاق (غزة - أريحا) .
وستلعب الشرطة الفلسطينية دوراً بارزاً في تحجيم القوى الإسلامية وبخاصة عندما تشترك الشرطة الفلسطينية مع الشرطة الإسرائيلية في حفظ الأمن، انطلاقاً مما يدور من أحاديث حول تسيير دوريات شرطة مشتركة. كما سيلعب شعار
(مكافحة الإرهاب) دوراً بارزاً في قمع القوى الإسلامية والراديكالية اليسارية، التي ما تزال تصر على الرفض» .
الأسبوع العربي 13/9/93م
إسرائيل الاقتصادية الكبرى:
«إن إسرائيل لا تستعد لخوض معركة تصدير واستيراد من وإلى أسواق الدول العربية. فهذا النوع من التجارة ستمارسه إسرائيل لمجرد كونها تريد كسر حاجز الممانعة الشعبية العربية ضد وجودها أو انخراطها في المنطقة، على أن الهدف الاقتصادي الكبير لإسرائيل سيكون إعادة صياغة المنطقة اقتصادياً بطريقة تحتل فيها (تل أبيب) مكانة عاصمة المعلومات التكنولوجية في السوق الشرق أوسطي الذي لن تنتهي حدوده عند تخوم ما كان يعرف حتى الأمر القريب بحدود الاتحاد السوفيتي، بل هو لأول مرة في العهد الإسرائيلي سيجذب إليه - أي السوق - عالماً استهلاكياً وجغرافياً جديداً اسمه آسيا السوفيتية والهيمنة الإسرائيلية على حركة هذا السوق هي التي يقصدها شمعون بيريز حينما يقول بضرورة التخلي عن (إسرائيل الجغرافية الكبرى) لمصلحة قيام (إسرائيل الاقتصادية
الكبرى) . ولعل أخطر ما في هذه الفكرة المرعبة هو حقيقة أن عرفات يراهن على أن الأموال الدولية المرصودة لإنضاج إسرائيل الاقتصادية الكبرى، ستساعد في خلال تفاعل مساراتها على ولادة القزم الفلسطيني الشريك لإسرائيل والمقطوع الصلة بالعرب، لأن من شأن ذلك، حسب بيريز محو سلوك العداء العربي لإسرائيل الذي قد يستمر في المستقبل انطلاقاً من ذاكرة فلسطين» .
الشراع 9/93م
وبعد كل هذا (الاعتدال) ؟ ! :
«الواقع أن اشتداد الحملة العالمية في هذا الظرف على الإسلام كدين وكعقلية يوحي بالريبة والشك في دوافع القائمين بها.
ففي كل مكان حاكم مسلم، أو حكومة إسلامية، أو منظمة أو هيئة تدعو إلى التكيف مع النظام الدول الجديد (!) والتعاون معه ومع من هم على رأسه بكل روح طيبة، ولو كلف ذلك القسوة على الذات (!) والتسامح مع الآخرين من أهل الطمع بالأرض العربية وثرواتها، والتخلي عن كل وسيلة غير سلمية في حل الخلافات، بل تعريض النفس للخطر نتيجة مفاجأة المجتمعات التقليدية والشعوب العريقة المتجذرة في معتقداتها وأعرافها بضرورة مسالمة العدو والتفاهم معه على علاقة من نوع جديد. ومع ذلك، لا أثر في إعلام الغرب ومنتدياته السياسية والفكرية لأي تفهم حقيقي وتقدير حقيقي للانقلاب السلمي الذي يحدث في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي كله! الحكومات الغربية تقبل بمسالمة عدو مزروع بالأصل زرعاً على أرض لا يملكها، حباً منها (؟ !) بالتنسيق مع الأسرة الدولية والأصدقاء الدوليين، ومع ذلك تستمر الحملات عليها وكأنها تخوض الحرب ضد العالم وضد اليهودية وضد المسيحية الغربية. منظمة التحرير الفلسطينية تتخلى، بمبادرة تاريخية، عن السلاح وترضى بجزء بسيط من وطن شعبها دفعة على الحساب وتؤجل كل نقطة خلافية، ومع ذلك يبقى المسلمون في إعلام الغرب وعند ساسته متطرفين!» .
افتتاحية الحوادث 6/9/93م
لقطات إخبارية
«كان البيت الأبيض قد أعد ثلاث صور خلف منصة التوقيع، للعلم
الأمريكي يتوسط العلمين الفلسطيني والإسرائيلي. واعترض إسحق رابين وشمعون
بيريز لأن العلم يمثل دولة، وفي نظرهم أن فلسطين ليست دولة، على الأقل بعد،
وأن رفع علمها يمثل اعترافاً ضمنياً. وانضم قسم البروتوكول في البيت الابيض
للجانب الإسرائيلي، مُفتياً بأن رفع العلم الفلسطيني يشكل اعترافاً بوجود دولة
فلسطينية. وحل الإشكال بصرف النظر عن رفع الأعلام الثلاثة. ولم يكن مقرراً
تبادل المصافحة في أي مرحلة من مراحل الاحتفال، إلا أن ياسر عرفات - مدركاً
أن أنظار العالم كله تتابع ما يحدث في (الحديقة الجنوبية) بالبيت الأبيض! - مد
يده إلى رابين الذي أخذته المفاجأة وتردد لحظات ثم أدرك خطورة رفض اليد الممتدة
له، وصافح عرفات، ومن بعده صافح عرفات بيريز بشكل غير متوقع فمد يده
وانتظر 4 ثوان ليلتقط يد بيريز! . وكان الرئيس كلينتون قد أعد لحفل عشاء
رسمي في البيت الأبيض احتفالاً بالاتفاق، ووجهت الدعوات بالفعل إلى 150
شخصاً من نخبة السياسيين والدبلوماسيين في العاصمة الأمريكية. ويوم الاثنين
صباحاً، أبلغ رابين كلينتون أنه لن يستطيع حضور حفل العشاء لأنه يريد العودة
إلى إسرائيل في أقرب وقت ممكن بعد احتفال التوقع. وأسقط في يد البيت الأبيض
الذي لم يرغب في عقد حفل عشاء تكريماً لياسر عرفات ومحمود عباس وحدهما،
وألغي الحفل في اللحظة الأخيرة!» .
«نقلت إذاعة العدو الإسرائيلي عن مسؤول فلسطيني في منظمة التحرير
قوله بأن المنظمة ستعرف كيف تتعامل مع حركة حماس إذا سمح لها بإدخال قوات
شرطة كافية إلى الضفة والقطاع. ومن ناحية أخرى قالت صحيفة هارتس
الإسرائيلية: إن الحكومة الإسرائيلية قررت إعادة عدد من مبعدي حركة فتح،
وإطلاق سراح عدد من كبار زعماء فتح في السجون الإسرائيلية للوقوف في وجه
حماس في الفترة القادمة» .
المجتمع 10/9/1993م
موساد وشين بيت تحميان عرفات:
«ازدادت المخاوف من احتمالات تعرض ياسر عرفات إلى الاغتيال في أعقاب التهديدات التي تلقاها من جهات عديدة. وذكرت صحيفة الواشنطن بوست أمس في تقرير لها من تونس أن عرفات قد يتلقى حماية أمنية من جهازي الاستخبارات الإسرائيلية الخارجي (الموساد) والداخلي (الشين بيت) . ونسبت الصحيفة إلى مصادر رفيعة المستوى في منظمة التحرير قولها: إن بعض كبار المسؤولين عن أمن عرفات يخططون لعقد اجتماعات في أوروبا الأسبوع المقبل مع ممثلين عن الموساد والشين بيت» .
الوطن 25/3/1414هـ
المغرب الدور القديم/الجديد:
«ليس من غريب الصدف أن تكون الرباط أول محطة لرابين بعد توقيعه اتفاقية السلام مع الفلسطينيين. فبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979م، كانت الرباط أيضاً أول محطة عربية للرئيس أنور السادات، قبل 15 سنة، إذ جاء السادات هو الأخر ليشكر العاهل المغربي على الجهود التي بذلها من أجل الوصول إلى إبرام أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل. ذلك أن العاهل المغربي لعب دوراً كبيراً في ترتيب لقاءات سرية بين موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك ونائب الرئيس المصري حسن التهامي، وهي اللقاءات التي مهدت لزيارة السادات للقدس عام 1977 م.
المجلة 2/10/1993م
أول تحرك لسهى عرفات:
» أعلنت سهى الطويل قرينة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أنها ستعمل على تطبيق نصوص مجلة الأحوال الشخصية التونسية في منطقتي غزة وأريحا، لأن المجلة التونسية تعطي المرأة حقوقاً كبيرة! ! وطالبت السيدة سهى في تصريح أدلت به للصحفيين، النساءَ الفلسطينيات بمساندتها «.
الحوادث 14-24/9/1993م
صحيفة كويتية تنشر إعلاناً لشركة سياحة إسرائيلية:
» نشرت صحيفة (السياسة) الكويتية أمس إعلاناً كبيراً في الصفحة الأولى لصالح إحدى شركات السياحة الإسرائيلية، تدعو فيه السياح الكويتيين لزيارة المسجد الأقصى بالقدس ومقام نبي الله إبراهيم بمدينة الخليل. وذكر الخبراء الاقتصاديون بالكويت: أن الايام القادمة ستشهد نشاطاً مكثفا لشركات السياحة الإسرائيلية، للاستفادة من الانفراج النسبي في العلاقات العربية الإسرائيلية بعد اتفاق غزة - أريحا «.
الجمهورية 27/3/1414هـ
» تناقلت مصادر عديدة هنا في باريس أن الولايات المتحدة الأمريكية
والكيان الصهيوني قد وقعا اتفاقاً مريباً يقضي بتزويد حكومة رابين بقمر صناعي
جديد تتكفل واشنطن بإعداده لإطلاقه لنقل كل تفاصيل ومراقبة ما يدور في (غزة
وأريحا) على مدار 24 ساعة، بالإضافة إلى تزويد القوات الإسرائيلية بأجهزة
رادار متطورة وأسلحة تعمل بأشعة الليزر لضبط الأمن في (الكيان الجديد مع
التركيز على القوى الإسلامية وكل المعارضين للحلول الاستسلامية. من جهة
أخرى تقول نفس المصادر: إن مصر تعهدت بإقامة نقاط تفتيش إسرائيلية -
مصرية مشتركة للحيلولة دون عبور أي من الفلسطينيين من الأراضي المصرية من
خلال قطاع غزة. إن الصهاينة توصلوا إلى تحقيق أغراضهم بالحفاظ على أمن
إسرائيل عن طريق التأكد من استعداد الطرفين الفلسطيني [خط عرفات] المصري
إلى التعاون مع القوات الإسرائيلية لخنق المعارضة الإسلامية ومنعها من تسديد
ضربات قوية في قلب الكيان الصهيوني، بعد أن قام هذا الأخير بتأمين حدوده
الشمالية مع لبنان إثر الاجتياح الأخير للجنوب اللبناني) .
المجتمع 14/9/1993م
«قال السيد بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس معلقاً على اتفاقية (غزة -أريحا: إنه لم يفاجأ لأن عرفات قال عام 82 وأثناء حصاره في بيروت (إنني قررت
أن أركب القطار، الأمريكي ومن أراد أن يصعد معي فليتفضل) ..! ! أما مسؤول
فلسطيني آخر فقد بشّرنا بأن رئيسه لم يقرر السير في هذا الطريق منذ عام 82 بل
قبل 25 عاماً وأنه أجرى مباحثات سرية مع مسؤولين إسرائيليين والتقى موشى
ديان..»
الإصلاح 22/9/1993م
«تولت القاهرة منذ وقت مبكر تدريب 150 ضابطاً فلسطينياً على أعمال
حفظ الأمن وفك الشفرات واكتشاف المخططات الإرهابية قبل تنفيذها، فضلاً عن
سبل انتزاع الاعترافات من المتهمين. ويعتقد أن اللجنة الأمنية التي سيتم تشكيلها
بين مصر والإدارة الفلسطينية في غزة، سيكون لها الأولوية على غيرها من
اللجان» .
الأسبوع العربي 13/9/1993م
تعليقات قصيرة
الأسير يجر فلسطين معه:
«إن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، هو الآن مجرد أسير لدى إسرائيل، لكن بدلاً من أن يكون أسيراً منفرداً، جرّ معه فلسطين كلها وتاريخها إلى الأسر، وبدلاً من أن يكون أسيراً عاطلاً عن العمل، فهي أسير عامل كشرطي تماماً في خدمة الدولة الصهيونية
الشراع 9/93م
سوبر ماركت عرفات:» هذا الاتفاق هو ثمرة من ثمار كامب ديفيد.. وإني
أتساءل: هل الهدف هو أن أقيم (سوبر ماركت) لبيع المرطبات والحلوى في
غزة؟ ! .... . هل الهدف هو إقامة بعض المنشآت الاقتصادية، أم الهدف أكبر من ذلك وهو تحرير الأرض والإرادة؟ ! وأقول: إنه لا يحق لأي حكومة من الحكومات العربية أن تنتقد هذا الاتفاق، فكلهم متعاونون مع أمريكا وكلهم يريد إنهاء المشكلة على أي وضع فلا يحق لهم أن ينتقدوا! ! «
د. عبد الوهاب المسيري، المجتمع 10/9/1993م
إرهابي ما بعد السلام:
» إن الإرهابي حالياً هو كل من يقف في طريق اتفاقية (غزة - أريحا) . لقد أثبت احتفال توقيع الاتفاقية هزال تهمة الإرهاب التي أعلنت واشنطن أنها تحكم علاقاتها مع العديد من الدول والتنظيمات. آخر ما بحث عنه الأمريكيون (وقبلهم الإسرائيليون) في تعاملهم الأخير مع منظمة التحرير الفلسطينية كان هذا
(الإرهاب) الذي دوّت الاتهامات بشأنه على مدى حوالي ربع قرن من الزمن. إن ماضي المنظمة (الإرهابي) سقط كله خلال لحظات حين قرر ياسر عرفات القبول بالشروط الإسرائيلية - الأمريكية المتعلقة بصيغة (الحكم الذاتي المحدود) ، وفق رغبات تل أبيب وواشنطن، والاستنتاج المنطقي في هذه الحال: إن المطلوب هو سياسة معينة والإرهابي هو الذي لا يستجيب لها «.
الأسبوع العربي 20/9/1993م
» إذا سار هذا الاتفاق في طريق النجاح، وإذا بدأت المساعدات الاقتصادية
تنهال على الشعب الفلسطيني، فإن عرفات سيكون قد نجح في (رشوة) شعبه
لتأييد جهود المنظمة السلمية وزيادة شعبيتها وتكريسها كممثل شرعي وحيد للشعب
الفلسطيني، وفي نفس الوقت ستسلم إسرائيل لعرفات، الإدارة الأمنية لمنطقتي
غزة وأريحا، لأجل التعامل بنجاح مع موجة التطرف الأصولي في المنطقتين،
وبذلك يكون عرفات قد أدى خدمة كبيرة لإسرائيل وأراحها من أعدى أعدائها في
منطقة الحكم الذاتي، وهي حركة التطرف الأصولي التي ترفض التعامل أو
التفاوض مع اليهود لأن الإسلاميين يهدفون إلى تدمير إسرائيل عاجلاً أم آجلاً! «.
(صنداي إكسبريس) نقلاً عن الوطن 27/9/1993م
أيهما أصدق:؟
» أستطيع أن أقول للشعب الفلسطيني: إن لديه صديقاً كبيراً في البيت الأبيض.
ياسر عرفات، المجلة (711)
يقول الرئيس الأمريكي كلينتون: «أؤكد على أن القدس عاصمة موحدة أبدية
لدولة إسرائيل مع رفض كامل لإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع»
ساكن البيت الأبيض (كلينتون) القبس 23/9/1993م(69/58)
ملف السلام العربي/ الإسرائيلي
الشرق أوسطية عنوان مرحلة
ولماذا وقع الأردن؟
د/عبد الله عمر سلطان
الأردن يوقع اتفاق سلام مع إسرائيل ...
مصافحة تاريخية بين الحسن ورابين تنهي نصف قرن من الصراع ...
مولود جديد للسلام برعاية كلنتون ...
هل هي كرة الثلج تبدأ عادة بكتلة صغيرة من ذرات الماء المتجمدة ثم تقذف
بها عوامل خارجية إلى أسفل السفح فتتورم بإطراد وتكبر وهي تلقى مصيرها
المنحدر؟
«لم يكن الاتفاق الأردني / الإسرائيلي في المحصلة النهائية إلا انعكاساً
لوضع الذي يأخذ في التشكل هذه الأيام بعين اتفاق رابين / عرفات، ودليلاً آخر
على أن من يحدد إطار اللعبة وحدود العلاقة في المنطقة هو طرف مستفيد من
سقوط (قطع الدمينو العربية) واحدة بعد أخرى في سبيل ترسيخ النظام الشرق
أوسطي الجديد. بهذه العبارات حدد أحد كبار المحليين الفرنسيين الوضع الحالي في
المنطقة، وأضاف: (كل ما فعله الحضور المسرحي لبيريز وحسن - ولي العهد-
هو أنه أخرج الاتصالات الأردنية/الإسرائيلية من حيز السرية والظلام إلى السطح
والواجهة الإعلامية.. لقد حاول الملك حسين أن يخفي هذه الاتصالات التي كان
آخرها قبل يومين من توقيع الاتفاق حينما رتب مع بيريز لتفاصيل (الحفلة)
ونصوص وثيقة العلاقة القادمة ... لكن الجميع يعرف أن رائحة الصديق الإسرائيلي
كانت تفوح بشره في الأردن بعد كل لقاء حميم.
مهنته كملك ...
قبل أكثر من عقدين تحدث الملك الأردني لصحافي فرنسي عن شخصيته
وطموحاته وماذا ينتظر منه أن يقدم كملك للكيان الهاشمي ومشروعه القومي الذي
فجره جده الشريف حتتين تحت حراب رجال المخابرات البريطانية.
لقد كانت مخاوف الملك حسين منذ صعوده إلى السلطة وهو شاب لم يتجاوز
الثامنة عشرة أن يحافظ على هذا الكيان المسمى بشرق الأردن، وهذه المخاوف
تغذيها دوماً حقيقة مزعجة ظلت تلاحق جده الملك عبد الله تتمثل في أن هذا الكيان
(صُنع) على عين الإنجليز و (أقيم) في غرف وزارة المستعمرات البريطانية)
كبديل للوطن الفلسطيني الذي وُعد به الصهاينة داراً لحلمهم وموطناً لفكرتهم ... و، وكأي (ثائر) صُنع وبَزغ في مشرقنا التعس فقد سارع الملك عبد الله إلى تبني
مشروع المملكة الأردنية الهاشمية كمرحلة مؤقتة حتى يتحقق حلمه السلطوي لأكبر
بأن يكون ملكاً لسوريا وما تبقى من بلاد الشام، هذا الوطن البديل لفلسطين كان
ثمنه أن يقبل الملك عبد الله بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين ويعترف به سراً
وتجري الاتفاقات مع الإنجليز واليهود مقابل تثبيت ملكه في ضفة الأردن الشرقية
مع وعود مستقبلية بتوليته مقاليد سوريا مقابل حفظ أمن الكيان الصهيوني وضمان
سلامته.
وفي خضم الاتفاقيات وتنفيذها سقط الملك عبد الله برصاص الاغتيال على
بوابة الحرم المقدس وهو لم يهنأ بتحقيق حلمه الطموح وإن كان قد تولى ملك الضفة
الغربية ثمناً للمعركة الخاسرة التي أطلق عليها (النكبة) وهي في حقيقتها
(الصفقة) ال تي تاجر في سبيلها الشريف حسين وذريته بمقدرات ومقدسات وثوابت الأمة مقابل وهج السلطات وفي سبيل غرور الملك ...
ألم يكن من السخرية أن يرفض الخليفة العثماني (التركي) عبد الحميد أن يبيع
فلسطين لهرتزل وهو في أمس الحاجة للمال والدعم اليهودي والغربي، وأن يتنازل
الملك عبد الله (العربي) عن مسرى جده الهادي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وثّق
المعاهدات مع وايزمن وبن غوريون ... ؟ !
وإن كان حلم عبد الله كبيراً وجشعه مشهوراً فإن حفيده الذي تولى الملك بعد
أبيه المريض كان ولا يزال يدفع ثمن فكرة الوطن/البديل ويحاول أن يتمسك بشرق
الأردن في ظل تسارع الخطى نحو الحل النهائي الذي يقتبس فكرة خبراء وزارة
المستعمرات القديمة والقائلة بإزاحة أهل فلسطين عنها وأحلامهم شرق النهر بعد أن
عملوا على إقامة كيان وديع مسالم مستغرب يحكمه (هاشمي) لم يطلق رصاصة
واحدة في وجه اليهود مما دفع إسحاق رابين للقول:» إن وجود الملك حسين
ضروري لتحقيق السلام والأمن (أمن اليهود) حيث لم تشهد حدودنا حوادث إرهاب
أو شغب في ظل حكمة العاهل الأردني «.
هل عرفتم إذن ماذا يعني (جلالته) بمهنته كملك؟ ؟
تحديات أضخم من الإمكانات:
بالرغم من النعوت والصفات والمواهب الشخصية التي يتمتع بها الملك
الأردني فإن الصحافي البريطاني الشهير (دايفيد هرست) صديق الحسين لخص
الوضع في الأردن عشية عودة الحسين من رحلته العلاجية بالقول: إنه الملك الذي
شهد أعنف التحديات في ظل التحدي الناصري والقومي وواجه بحسم الثورة.
الفلسطينية التي صفيت في أيلول الأسود عام 1970م وفاقت شعبيته أي زعيم آخر
في المنطقة أيام حرب الخليج حين وقف في صف العراق ليصبح في خانة الثوريين
ولذا فقد أصبح يخاف من المستقبل حيث عوارض المرض الخبيث (السرطان) ،
وموجة الإسلام السياسي العاصفة، وأهم من ذلك وضع الأردن بعد السلام وهذا كله
يجعل من موقف الحسين موقفاً صعباً ... وما لم يقله صديقه البريطاني ما قاله
معلقون آخرون (إن الأردن أصبح مرتبطاً بوجود الحسين فبوجوده يبقى وبزواله
ربما يضمحل ... )
إن التحدي الحقيقي قد جاء من الجهة الأخرى من ضفة نهر الأردن حيث
يسعى اليهود الذين تربطهم بالعرش الهاشمي صلات سرية وثيقة أن يكون الأردن
هو البديل عن أرض الرسالات التي من المستحيل - في عرفهم - أن يحكمها
سواهم، وفي ظل الوضع العربي العاجز والانهيار الذي انتاب قيادة المنظمة
(العرفاتية) فلا يستبعد أن يحل (الناطور الفلسطيني) محل (العاهل الهاشمي على المدى المتوسط / البعيد ... ، وهكذا فقد يجد العاهل الأردني القادم أن (المملكة العربية) التي وعد ماكموهن جده بها قد انكمشت، وأن الوطن البديل قد أصبح فكرة قائمة وبعيدة عن حكم ذرية الحسين. التي أدت للمعسكر الغربي أكبر خدمتين في المنطقة خلال قرن: تصفية الخلافة الإسلامية العثمانية وتسليمها (مع غيرهم) فلسطين بقدسها لليهود.. وكل هذا يتم تحت لافتة ضخمة يحملها (شريف) من آل البيت ... !
الاتفاق الباهت!
في ظل السباق القائم بين عرفات والحسين بعد أن اتضح أن أمريكا وإسرائيل
قد قبلتا يد عرفات المدودة بخنوع وذلة؛ وقع ولي عهد الأردن مع بيريز (سفر
السلام) القادم حتى يضمن الأردن دوراً في النظام الشرق الأوسطي الجديد بالرغم
من أن أول من انتقد اتفاق السلام الفلسطيني اليهودي كان (جلالة الحسين) لكنه
سرعان ما ابتلع اعتراضاته وتهديداته وأصبح الاتفاق في نظره (خطوة شجاعة)
و (علامة جريئة) تستحق أن تحظى بكل الدعم، فالمرحلة المقبلة هي مرحلة
كسب الرضى الإسرائيلي، والأردن له سجل مشرف (في ظل قيادة الحسين) في حفظ أمن الدولة العبرية ...
ومع كل هذا يظل التحدي أكبر من مهارة الحسين ودبلوماسيته ومراوغته
السياسية، صحيح أن الحسين، كما قال هرست قد خاض بحر الظلمات العربية
وخرج سالماً حتى الآن، ولكن الصلح مع اليهود وعلاقة شرق الأردن بالدويلة
الفلسطينية الرمزية في غزة وجزء من القطاع تقتضي أن يدلف (الصانعون) للكيان
الأردني للموضوع دون رتوش أو مقدمات لأن المسألة تمس وجود الأردن ذاته الذي
وُضع منذ البداية كوطن بديل لفلسطين، الحسين في هذه المرحلة لا يواجه الأشقاء
العرب ... إنه يواجه السادة الذين سمحوا له بالوجود! وإن كانت الظروف تقتضي
(تأمير) وتمليك القميص الأردني للملك عبد الله وذريته في السابق؛ فإن الأردن
منذ البداية في الفكر الصهيوني / الصليبي هو الوطن الفلسطيني على المدى البعيد،
واذا كان هذا الهدف يتعارض معه بقاء الأسرة الهاشمية واحلالها بقبائل عرفات
ومنظمته فإن هذا الحل سيجد طريقه للواقع وهذه التضحية بحسن أو حسين ليست
غالبة حتماً.... مع ميل العواصم الغربية إلى تفضيل القيادة الأردنية الحالية
المتمرسة في قياد اللعبة بمهارة وحنكة، خصوصاً أن على اللائمة موضوعاً يثير
(مثلث السلام) الأردني/الفلسطيني/الإسرائيلي والمتمثل بتحجيم الحركة الإسلامية
على ضفتي النهر، وهنا فربما خرج الحسين رابحاً ومنفذاً لهذا الهدف الثالث الذي
يحلم الغرب بتحقيقه في مواجهته الحضارية الراهنة مع الإسلام، وتلك مهمة
تستحق أن يندمج فيها الممثلون حتى لا تعرف في النهاية الحسين من عرفات من
رابين ... !
أليست المرحلة تحمل عنوان (الشرق أوسطية) ؟ .(69/77)
شؤون العالم الإسلامي
طاجكستان
تدخل النفق الأفغاني
د. مالك إبراهيم الأحمد
توطئة:
مع دخول العام الثاني لاستيلاء الشيوعيين على الحكم في طاجكستان، وما
رافق ذلك من مأساة إنسانية بالغة، تدخل القضية الطاجكية النفق الأفغاني، حيث
أصبحت أفغانستان منطلقاً للمجاهدين الطاجيك، ومكان استقبال لآلاف من اللاجئين، وقد وقعت الحكومة الأفغانية الوليدة في حرج بالغ يشبه وضع (باكستان) سابقاً،
مع اختلاف طفيف وهو أن القضية الأفغانية كانت تمثل سابقاً ساحة صراع بين
الأمريكان والسوفييت؛ مما تطلب دعماً أمريكياً غير مباشر للأفغان كي يقفوا أمام
المد الشيوعي، أما في القضية الطاجكية فالتخوف من المد الإسلامي في
الجمهوريات هو هاجس الغرب والشرق على السواء. ونعرض هنا إلمامة
بتطورات الأحداث الأخيرة ومواقف الفرقاء حولها.
الموقف الروسي:
تعتبر روسيا نفسها وريثة الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فهي مسؤولة عن الدول
التي خرجت من المظلة السوفيتية، وعلى وجه الخصوص تلك الدول الفقيرة
والمتخلفة (الجمهوريات الإسلامية) ، وسبق للكثير من المسؤولين الروس الحديث
عن الأمن القومي الروسي، وارتباطه بأمن الجمهوريات الإسلامية، فمثلاً صرح
وزير الخارجية الروسي بقوله: «ظهرت بوادر عدم الاستقرار على طول الحدود
الروسية وبالتالي فإن صون السلام أصبح من مقومات أمن روسيا القومي واضطلاع
روسيا بمسؤوليتها الخاصة عن حفظ الاستقرار في أراضي الاتحاد السوفيتي
السابق ... » .
وبهذا المفهوم ينطلق التحرك الروسي بدءاً من الرئيس يلتسن بتصريحه
«ليعلم الجميع أن هذه الحدود- يقصد الطاجكية / الروسية- هي حدود روسية وليست طاجكية» .
ولقد أيده البرلمان رغم اختلافه في كثير من القضايا مع الرئيس يلتسن
والغريب أن الموقف الروسي واضح وصريح، بدءاً من التدخل المكشوف لإسقاط
الحكومة الائتلافية، ودعمه ثانياً للجبهة الشعبية الشيوعية حتى صعودها للحكم على
أشلاء المسلمين.
ويتحدث المسؤولون الروس عن القضية الطاجكية، وكأنها جزء لا يتجزأ من
روسيا، ويقول وزير الخارجية الروسي: «لا حوار مع المعارضة- الطاجكية- إلا
بالصواريخ» وكأنه يتحدث عن معارضة داخل روسيا - وللتدخل الروسي في
القضية الطاجكية مبررات لعل أهمها:
الخوف من الأفغنة:
فالتورط الروسي في أفغانستان سبب الكثير من المشكلات للروس، ولعلها من الأسباب الرئيسية لسقوط الاتحاد السوفيتي. وبالتالي فلا يريد الزعماء الروس أن تتحول طاجكستان إلى أفغانستان ثانية تكون مصدر قلاقل لهم مستقبلاً.
- الخوف من (المد الأصولي) لاشك أن الانبعاث الإسلامي في الجمهوريات
عموماً، وفي طاجكستان خصوصاً، يمثل تهديداً للنصرانية في الشمال وبالتالي فإن
قيام دولة إسلامية في طاجكستان سوف يشعل الفتيل في بقية الجمهوريات
وطاجكستان تمثل أضعف دولة في الجمهوريات، وفيها أقوى حركة إسلامية في
المنطقة، والمد الإسلامي لو استفحل في نظرهم قد يصل إلى روسيا نفسها حيث
يوجد فيها حوالي 50مليون مسلم مما يهدد بتفكك وسقوط الاتحاد الروسي نفسه.
الجانب الاقتصادي والثقافي:
كان الوضع الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي سابقاً مرتباً بطريقة خبيثة جداً
فالجمهوريات الإسلامية عموماً مصدر المواد الخام والجمهوريات النصرانية مناطق
الصناعة والمدنية، ولقد امتص الكثير من خيرات هذه الجمهوريات لصالح روسيا
وجاراتها، وطاجكستان إحدى هذه الأمثلة فالبلد متخلف جداً من النواحي المدنية
والصناعية، إنما هي فقط مصدر للمواد الخام لروسيا ففيها اليورانيوم والفضة
بكميات كبيرة فضلاً عن المعادن الأخرى، والسيطرة الروسية العسكرية على
المنطقة تضمن لها استمرار بقاء هذا الشريان خصوصاً أن روسيا هي مصدر الطاقة
لهذه الجمهورية وغيرها من الجمهوريات، فهي بالتالي تمسك بتلابيبها، وتنظر
روسيا إلى هذه الجمهوريات على أساس أنها متخلفة وغير متحضرة ولا تحسن
الديمقراطية ونظراً لكون روسيا دولة متقدمة وديمقراطية فإنها تشعر - كما تزعم -
بمسؤوليتها الأدبية تجاه هذه الجمهوريات.
الوجود الروسي:
يعيش في الجمهوريات الإسلامية- ومنها طاجكستان: ما يقرب من 30 مليون
روسي يسيطرون على الإدارة والصناعة والتجارة ويعملون في الاستسمارات
الروسية، ونظراً لشعور روسيا بمسؤوليتها تجاه مواطنيها فإنها لا بد أن تقف مع
الاستقرار في المنطقة خصوصاً مع نظرة الخوف والشك في حال وصول
الإسلاميين إلى سدة الحكم في روسيا.
الدور الأمريكي:
كان الحضور الأمريكي في منطقة الجمهوريات مبكراً، ولقد افتتحت الولايات
المتحدة لها مقار دبلوماسية لمتابعة أوضاع الجمهوريات، ومراقبة الوضع الأمني
خصوصاً مع اختلال الموقف الروسي عند سقوط الاتحاد السوفيتي ومع بداية
الأحداث شاركت القوات الأمريكية بصفة سرية للغاية ومحدودة في معاونة الجبهة
الشعبية لإسقاط الائتلاف الإسلامي الديمقراطي، وبعد استقرار الأوضاع دعمت -
صراحة - نظام (دوشانبه) الشيوعي وأيدت - بإطلاق - التدخل الروسي. وقد
ذكرت مصادر إعلامية وجود وثيقة سرية بين روسيا وأمريكا تخول فيها الثانية
للأولى التحرك بحرية في الجمهوريات للتصدي للأصولية الإسلامية هناك. رغم
مأساة اللاجئين الذين يقاربون المليون، والضحايا الذين سقطوا وهم يعدون بعشرات
الألوف - فإن الإنسانية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص غائبة تماماً عن
الساحة ولم يُقَدَّم إلا الفتات من بعض المنظمات الصليبية.
كذلك لعبت أمريكا بالورقة الأفغانية وحركت عملاءها في المنطقة لدعم
الفوضى السياسية في ذلك البلد، وإشغال هذا النظام الإسلامي الوليد بنفسه كي لا
تصبح أفغانستان بالنسبة للطاجيك كباكستان سابقاً بالنسبة لأفغان وذلك خوفاً من
امتداد المارد الإسلامي إلى وسط آسيا.
موقف دول الجوار:
بالنسبة للجمهوريات الثلاث (أوزبكستان - تركمانستان - كازخستان) فالحكم
فيها للشيوعيين، أما (قوقيزيا) فيحكمها العلمانيون لكنهم جميعاً يقفون صفاً واحداً
أمام الحركة الأصولية الإسلامية - كما يسمونها - وقد دعموا جميعاً نظام دوشانبه
خوفاً من امتداد الأمر إلى جمهورياتهم ولعل أوزبكستان أكثر الدول دعماً لنظام
دوشانبة فلقد شاركت منذ الأيام الأولى في الأحداث عسكرياً ومادياً وبشرياً.
وبالنسبة لإيران الرافضية ذات الوجهين فإن موقفها المتخاذل يماثل موقفها من
شيوعي أفغانستان فهي فقط تدعم طائفتها وتجهزهم للمستقبل والموقف المعلن هو
العمل على عدم اتساع رقعة الحرب.
أما تركيا العلمانية فإنها أيضاً دعمت الشيوعيين واستخدمت ورقة الأوزبك
ذوي الأصول التركية ودفعتهم - وهم لا يحتاجون إلى دفع - لمواجهة الإسلاميين،
ومن جانب آخر أيدت الموقف الروسي وتدخله المباشر في شؤون هذه الجمهورية.
دور الأمم المتحدة:
منذ أزمة الخليج دخلت الأمم المتحدة طرفاً مباشراً في الأزمات العالمية لكن
مع غياب شبه كامل لاستقلاليتها في اتخاذ القرارات، بل أصبحت أحياناً كثيرة
طرفاً في الصراعات كما هو حالها في الصومال والبوسنة.
وفي طاجكستان كان موقف الأمم المتحدة متناسباً مع توجهاتها الحالية من
المسلمين وقضاياهم فوسيطهم المكلف بالقضية كان دوره مؤيداً للحكومة الطاجكية
الشيوعية، وبدلاً من أن يكون وسيطاً نزيهاً في الأزمة، رفض مقابلة مندوب
الجبهة الرئيسية للمعارضة (حزب النهضة) وذلك أثناء زيارته لباكستان وزار
مخيمات اللاجئين وطلب منهم العودة حالاً إلى ديارهم رغم معرفته بظروف هروبهم
وأسبابها، من جهة أخرى نجده يمتدح تلك الحكومة العميلة ويثني على مواقفها في
حل الأزمة! ! .
وضع المجاهدين الطاجيك:
بعد سيطرة الشيوعيين على الحكم في (دوشانبه) وإعدام الكثيرين من اتباع
حزب النهضة هربت البقية الباقية منهم إلى الجبال وإلى أفغانستان المجاورة والتي
يمثل الطاجيك فيها نسبة كبيرة من السكان وخصوصاً في الشمال.
وقد بدأ حزب النهضة بعد ذلك بتكوين قوات عسكرية لمواجهة النظام
الدكتاتوري في طاجكستان مستخدمين أفغانستان منطلقاً لتحركاتهم لأسباب كثيرة من
أهمها الدعم الذي حصلوا عليه من إخوانهم الأفغان، وللحدود الطويلة المشتركة
(أكثر من ألف كيلو متر) مع طاجكستان.
كانت البداية عمليات اختبار وجس نبض للوضع الأمني على الحدود والذي
يسيطر عليه الروس بشكل أساسي، ولقد كانت ردة الفعل الروسية عنيفة منذ الأيام
الأولى لمحاولات الاختراق، فلقد قصفت القوات الروسية تجمعات المجاهدين
واللاجئين في الطاجيك أفغانستان، فضلاً عن التهديد الحكومي الروسي بالرد القاسي
مستقبلاً إزاء أي محاولة اختراق للحدود، وفي الجملة لم تبدأ العمليات الجهادية
الفعلية حتى الآن نظراً للظروف الصعبة التي يعيشها المجاهدون وإمكاناتهم المادية
المحدودة. ومن التحديات التي قد تواجه المجاهدين مستقبلاً ولعل بوادرها ظهرت
الآن حيال وضع بدخشتان المنطقة الجبلية - ذات الاستقلال الذاتي - والمتاخمة
للحدود وذات المساحة الشاسعة (45% من مساحة طاجكستان) والتي يقطنها
الإسماعيليون (الغلاة) - وإن كان عددهم محدوداً (180 ألف نسمة) - إلا أن
موقعهم الاستراتيجي بالنسبة للمجاهدين له حساسية فائقة فلقد شارك بعض منهم في
الوقوف أمام الحكومة وبالتالي هم مصنفون ضمن المعارضة لكن الحكومة تحاول
منذ مدة استمالتهم إلى جانبها وعرضت عليهم مشروعات لتطوير المنطقة، ولقد
ذكرت وسائل الإعلام استيلاءهم. على شاحنات للمجاهدين تحمل أدوية وأغذية إلى
إخوانهم في الداخل مما ينبئ بموقفهم الحقيقي حيث سيكونون شوكة في خاصرة
المجاهدين كما هو حال إخوانهم الرافضة في افغانستان.
مستقبل القضية:
لاشك أن من أسباب النصر كما بينها القرآن الكريم هو نصر المسلمين أنفسهم
لله أولاً [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ] وبذلهم الأسباب المادية ثانية [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] وانتصار المسلمين على أعدائهم ليس بغلبة المادة ولكن بتمسكهم
بالعقيدة الصحيحة واليقين بالله والالتزام بأوامره والانتهاء عن محارمه، أما
الشيوعيون فهم ساقطون لا محالة والزمن بإذن الله كفيل بهم، ولكن تعاضد أهل
الضلالة مع بعضهم يقوي شوكتهم ويطيل أمدهم.
والحكومة الشيوعية تعرف ضعفها وافتقارها للشعبية ولذلك تعتمد كلية على
الدعم الروسي والأوزبكي وقامت بعقد معاهدة أمنية مع روسيا في هذا العام، ورغم
محاولات الوساطة بين الرئيس رحمنوف والمعارضة (النهضة) إلا أن الرئيس
يرفضها ويتهم من يسميهم بالأصوليين بالإجرام والإرهاب وهو الوصف الذي
ينطبق عليه وعلى الجبهة الشعبية تماماً والذين أودوا بحياة عشرات الآلاف فضلاً
عن الجرحى وما يقارب المليون من المهاجرين، أما عن موقف المجاهدين،
فرئيس حزب النهضة من جانبه لا يعترف بالحكومة الحالية والتي نصبها الروس
والأوزبك وبالتالي فلا مجال - من وجهة نظره - للحوار معها.
***
الخاتمة
مع توالي الأحداث تبقى القضية الطاجكية مغيبة إعلامياً ولا تكاد تلمح إلا
إشارات قليلة هنا وهناك ورغم الوجود الإعلامي الغربي القوي في مناطق الأحداث
في العالم إلا أننا نرى إهمالاً إعلامياً متعمداً للقضية في وسائل الإعلام الغربية
والعربية من باب أولى؛ لأنها عالة على الوكالات الأجنبية. وفي الحقيقة تعتبر
القضية الطاجكية لعبة الدول الكبرى، وتجربة فريدة في مواجهة المد الأصولي
المزعوم. وفي مواجهة هذا الكيد تقوم حركة الجهاد بقيادة حزب النهضة الإسلامي
والذي يحمل إيجابية كبيرة- لعلها استفادت من التجربة الأفغانية- ألا وهي الوحدة،
فالتفرقة بين مجموعات الجهاد الأفغانية أدى إلى ضياع ثمرة الجهاد بعد سقوط الحكم
الشيوعي، وهناك مبشرات للجهاد الطاجيكي فقد سقطت قبل أيام مدينة طوس
(200 كم عن العاصمة) بأيدي المجاهدين ولعل انشغال الروس بقضاياهم المحلية
ولو مؤقتاً يكون فرصة لاندفاعة قوية لذلك الجهاد الذي يحتاج إلى الدعم من كل
المسلمين خصوصاً في هذه الأيام الحرجة قبل دخول الشتاء حيث تصبح الأمور
صعبة جداً. فالبدار البدار لنجدة إخواننا في العقيدة والدين.(69/83)
محاضرات إسلامية
الصحوة الإسلامية وأزمة المثقفين في ديار الإسلام
(2)
جمال سلطان
قدمنا في القسم الأول من هذه المحاضرة، الحديث عن أهم معالم
الإيجابية في الصحوة الإسلامية الجديدة، وهي أيضاً المعالم التي تكشف لنا أبعاداً من أزمة الثقافة في ديار الإسلام، تلك الثقافة التي تأسست في تاريخنا الحديث على فكر الاغتراب وأدب الاغتراب وقيم الاغتراب، وكانت في قسمها الأعظم - على عداء ظاهر أو مُستخف للإسلام، وتاريخه وشريعته وتراثه ورموزه. وهذه الحقائق التي أبرزناها في (حركة الثقافة) المعاصرة في ديار الإسلام، والتي تشرح لنا أسرار هذه اللوحة الساخرة من الأقوال والمواقف التي تصدر عن ثقافة العلمانية والاغتراب بكل تياراتها ومذاهبها، والتي نذكر منها بعض الشوارد على سبيل التمثيل للأزمة والتأسيس للقياس:
- طوال العقود الماضية، كانت الديمقراطية هي شعار الثقافة العلمانية، على
اختلاف مذاهبها، من أقصى اليسار (الماركسية) حتى أقصى اليمين (الليبرالية)
حتى إن أعتى منظري الديكتاتورية الناصرية وما شابهها، كانوا يرفعون شعار
الديمقراطية، وقد طغى هذا الشعار على الخطاب السياسي والفكري في السنوات
الأخيرة بشكل صارخ حتى وقعت واقعة الجزائر، وأجريت تجربة ديمقراطية حرة
نظمتها الحكومة، ورتبت دوائرها، واحتاطت لنفسها باعتقال قادة الإسلاميين
ومهدت لها بحملة إعلامية لتشويه صورتهم، ثم كانت النتيجة- كما نعلم - الفوز
الساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأعلن الشعب الجزائري المسلم بوضوح مذهل
وبحسم رائع، أنه لا يريد سوى هؤلاء يحكمونه ويقودون البلاد.
وهنا انقلبت تيارات الفكر العربي بزاوية مائة وثمانين درجة، لنرى دعاة
الديمقراطية بالأمس، ومن جعلوها ديناً، وقدساً مقدساً، أكثر الناس خوفاً منها،
وأول الدعاة للكفر بالديمقراطية، وأول المنادين بتأجيل (الخيار الديمقراطي) وما
ذلك إلا لأن (الإسلام) ومنهجه يوشك أن يحكم، وتحالف العلمانيون واليساريون
ودعاة التقدم، وتحرر المرأة، والليبراليون والقوميون والعرقيون تحالفوا مع
اللصوص والمفسدين والطغاة والجنرالات ومع الغرب الصليبي ليقفوا صفاً في وجه
الشعب وفي وجه الإسلام ودعاته ورجالاته، وأصبح الشعب الجزائري، بل
الشعوب العربية كلها: منذ ذلك الحين - متهمة في عقلها، وفي وعيها، وفي
قدرتها على الاختيار لا لشيء إلا لأنها اختارت الإسلام، ولم تختر الشيوعيين أو
اللصوص أو الملاحدة أو دعاة الفتنة العنصرية.
هذه الفضيحة التاريخية ما زالت أصداؤها تتردد، شاهدة على (خيانة) الثقافة
العلمانية والمغتربة للشعوب، ومجاملتها الصريحة للطغاة والمستبدين، بل كشفت
صراحة عن كون ثقافة العلمانية هي الحليف الطبيعي للاستبداد في بلاد المسلمين.
- الخلاف واضح - كما نعلم - بين الجبهة الإسلامية في السودان التي تدعم
الحكومة السودانية، وبين المعارضة السودانية علمانية وصليبية وشيوعية
وعنصرية وقد يكون محور الخلاف الأكبر الذي عبرت عنه المعارضة ذاتها، ربما
مغازلة للقوى الغربية المتوثبة على كل ما هو إسلامي، هو (تبني الحكومة
للمشروع الإسلامي) بغض النظر عن تفصيلات الأمر، ولا بأس من حيث
مقتضيات الخلاف السياسي بمفهومه العلماني في ذلك الخلاف والمعارضات، أما
الأمر الذي يخرج عن حدود الخلاف المشروع في أي ملة وأي مستوى ثقافي أو
حضاري، أن يتنادى مثقفون سودانيون وينادون بالتدخل الاستعماري في السودان
لإزالة الحكومة القائمة وإحلال المعارضة الوطنية (الشريفة) مكانها! ! لقد تحالف
المثقفون السودانيون العلمانيون والشيوعيون مع العنصري المرتزق - إسرائيلياً
وأمريكياً - جون قرنق بدعوى التحالف مع فصائل سودانية، فبأي منطق إذن
يتحالفون مع الصليبية العالمية والغرب الطافح حقداً على الإسلام والمسلمين، وهو
ما ينجلي الآن في البوسنة غيرها، ما معنى المشروعية في التحالف معه لضرب
أبناء وطني وديني بمن اختلف معهم، وبأي مسوغ أطالب بالقفز على كرسي الحكم
من فوق دبابات الاستعمار؟ ! .
- سمعنا- بلا شك - بالمأساة التي وقعت في تركيا مؤخراً، من ثورة غضب
شعبي عارم أدت إلى مقتل ما يقارب الأربعين شخصاً بخلاف الإصابات، وكان
سبب الموقعة أو (الفتنة) أن العلماني المخضرم (عزيز نسين) رأى أن ما يحيق
بالشعوب المسلمة أو المستضعفة ومنها الشعب التركي المسلم، ليس هو ما يحدث
في البلقان - منطقة الخطر الأولى تاريخياً على تركيا، وما يحدث في البوسنة
والصومال وأذربيجان وغيرها من ديار المسلمين، ولا هو الغارة العنصرية واسعة
النطاق التي تجتاح أوربا اليوم، ويروح ضحيتها- في ألمانيا خصوصاً- الأتراك
المسلمون.
المثقف المستنير (عزيز نسين) رأى أن ذلك كله (لعب صبيان) أما
الضرورة التاريخية الملحة، والمخرج من هذا الحصار الخطير، يكمن في ترجمة
رواية (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، وعقد ندوات حولها فننعم بسب دين الله،
وتحقير مقدسات المسلمين، وسب الشعب التركي ذاته، وأخيراً إشعال فتنة
أزهقت فيها الأرواح ودمرت فيها البلاد. لقد رأى المثقف العلماني - بغباء أو
تغابي أن الطريق إلى النهضة وتحريك الأمة وصد غارات المستكبرين، ليس إلا
طريقاً واحداً أو بوابة واحدة، هي بوابة الشيطان وآياته.
- الشيء نفسه أو قريب منه قام ويقوم به العلمانيون والشيوعيون في مصر
الآن، حيث أصدر العلماني النصراني (غالي شكري) ملفاً كاملاً في مجلة (القاهرة) أه م مجلة ثقافية مصرية الآن، أرش مجهولون) رئاسة تحريرها إلى نصراني علماني مشبوه، تاريخه حافل بروائح العفن الصحفي والسياسي والفكري، من أول اشتغاله بمجلة (حوار) التي كشف النقاب عن تمويلها مباشرةً من
(المخابرات الأمريكية) ، الصحفي وليد أبو ظهر في (الوطن العربي) [*] هذا
المشبوه، دون غيره من مثقفي مصر، يوكل إليه رئاسة أخطر مجلة حكومية ثقافية والرجل كان عند الظن به، فأصدر ملفاً في المجلة، عن (التنوير) جعله كله للدفاع عن سلمان رشدي، وعن نظير له محلي، يُدعى (نصر أبو زيد) وحاول المشبوه أن يقنع أسياده بأنه - هو والنصراني العلماني - ينور الشباب المسلم ويجذبهم إلى (الاستنارة والعقلانية) بعيداً عن التطرف الإسلامي والأصوليين.
- التحالف الشيوعي العلماني في مصر، يتوسد الآن معظم المنافذ الإعلامية
والثقافية الرسمية، وفي زفة مواجهة التطرف الديني، وضعوا خطة (للتنوير) كان
قوامها إعادة طبع ونشر كتابات (السلف العلمانيين) التي كتبت منذ مائة عام أو
يزيد لقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد لطفي السيد ورفاعة الطهطاوي
وعلي عبد الرازق وأيضاً (سلامة موسى) وكان الأمر ليس مثيراً للدهشة أن يوكل
أمر هداية الشباب المسلم إلى نصراني مصري فما بالك إذا كان من نمط سلامة
موسى، الذي يحمل كل احتقار ورفض لكل ما يمت إلى العرب والمسلمين بصلة؟
- في مصر الآن حركة غريبة ومفاجئة، بقدر ما هي مثيرة للفرح والبشر،
وتلك هي توبة نفر من الرموز الفنية الكبيرة والشهيرة - ولا سيما الفنانات -
ورفضهم التمثيل جملة وتفصيلاً، وإعلانهم البراءة من هذا الوسط المتعفن، والتزام
الفنانات منهن بالحجاب والطهر، واشتغال العديد منهم ومنهن بالدعوة إلى الله،
خاصة في أوساط الشرائح الاجتماعية المترفة وفي أوساط النساء، هذه الظاهرة
التي يفرح لها وبها كل مؤمن أثارت حقداً مريراً، وغيظاً طافحاً، في نفوس رموز
الثقافة العلمانية، ليس في مصر فقط، بل في أنحاء كثيرة من البلدان العربية، وقد
قاد التحالف (العلماني/الشيوعي) وأذناب الغرب، قادوا حملة تشويه بشعة ضد
هؤلاء التائبين وبخاصة التائبات، وقد روجوا إشاعات عديدة عنهن، منها
حصولهن على مبالغ مالية طائلة من بعض الأثرياء لكي يعتزلن الفن، ومنها الغمز
بأنهن مريضات وقد ضعفت نفوسهن أمام المرض، ومنها القول بأنهن تبن عن
(انحرافات شخصية) وليس عن التمثيل والوسط الفني، وكان الوسط الفني هو
المجال الطاهر والمطهر والنزيه الشريف الذي زاد طهراً ونقاء بخروج هؤلاء
المنحرفات عنه.
هذا بالرغم من أن رائحة العفن في هذا الوسط هي من الانتشار والذيوع إلى
الحد الذي يستحيل على عاقل إنكاره أو تجاهله، ولكن الثقافة العلمانية وأذناب
الغرب في ديارنا أَبوا إلا أن يقولوا ما قال المجرمون في الزمن القديم:
[أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] .
وعبثاً في هذا الخضم المظلم أن تسألهم عن الحرية الشخصية، وحقوق
الإنسان! .
- هذه الحادثة تذكرنا بما وقع في الأردن منذ أشهر قليلة، عندما هاج
العلمانيون وماجوا، وندبوا التحضر والاستنارة، لأن قراراً صدر بالفصل بين
الجنسين في حمامات السباحة حتى لا يرى الرجال والنساء بعضهم بعضاً عرايا،
واعتبروا ذلك ردة حضارية، وعودة إلى (القرون الوسطى) أي والله هكذا قالوا.
- هناك - أيضاً - قضية المجاهدين العرب في أفغانستان، وهي قصة من
أروع قصص الجهاد والبطولة في تاريخ العرب والمسلمين الحديث كله، فلما فتحت
ساحات الجهاد في أفغانستان، بعد أن سدّها (المغاوير) على حدود فلسطين،
واعتقلوا كل من تسول له نفسه المساس بأمن إسرائيل، لما فتحت ساحة الجهاد في
أفغانستان هرع الشباب المسلم من العرب وغير العرب يقاتلون في سبيل الله
ويدافعون عن أرض الإسلام، حتى منّ الله عليهم بالنصر المبين، والذي لا يقلل
من شأنه أبداً ما كان أو يكون بعد ذلك من خلاف وشقاق بين الأفغان أنفسهم. المهم
في القضية أن هؤلاء المجاهدين، في مجموعهم ساخطون على حكومات بلدانهم،
ومعارضون لسياساتها ونهجها، ومن جهة مقابلة، خافت بعض هذه الحكومات من
عودة هؤلاء المجاهدين، وقيامهم بأعمال عنف، وهم على كفاءة قتالية عالية،
فوقعت هذه الموجة العارمة من التحذير من هؤلاء (الأفغان) ، وركب العلمانيون
الموجة، وتوطنت ثقافة التخريب في جروح المجتمعات، لتعمق الجروح، وتعزز
الأوجاع، وتوسع نطاق الفتنة، إضافة إلى هذا الانحطاط العجيب في (الحديث عن
هؤلاء المجاهدين، بجعلهم عملاء لأمريكا، أو عملاء لباكستان أو مجرد مرتزقة،
وبعد أن كانت مثل هذه الشتائم وقفاً على الشيوعيين العرب العميل المعتمد للاتحاد
السوفيتي سابقاً، أصبح الأمر مشاعاً واجتذب سوق الشتائم السياسية ليبراليين
وقوميين ومحافظين وغيرهم.
إن الحقيقة التي سجلها التاريخ واعترافات الشرق والغرب بروعة هذه الملحمة
التي شهدتها أرض أفغانستان إنما تنطق بمعنى واحد لسياقنا الحالي وهو: أن شسع
نعل أحد هؤلاء المجاهدين العرب لو مسح بوجه علماني من هؤلاء الموتورين
لطهره، وما كنا لنتوقف عند هذه الترهات لثقافة العلمانية، لولا ضرورات السياق
لتسجيل مشاهد على أزمة المثقفين في ديار الإسلام.
- وأخيراً - نذكر- من مُلح مواقف وتصريحات المثقفين العلمانيين - ما
صرح به من سمي (الأمين العام لحزب التجمع الوحدوي التقدمي) المصري، وهو
أكاديمي ورمز شيوعي سابق تداولت الصحف اسمه في أعقاب فضيحة نشر وثائق
المخابرات السوفيتية فيما يتعلق بالرواتب التي كانت تدفعها الـ (كي جي بي)
للتقدميين المعروفين في العالم الثالث.
الرجل زار تونس منذ وقت ليس بالقصير، وقد أعلن عبر أجهزة الإعلام
التونسية أنه يطالب بجعل يوم تولي الرئيس (زين العابدين بن علي) للسلطة في
تونس (يوم عيد) ليس عيداً تونسياً وحسب، بل عيداً للعرب جميعاً.
وسبب ذلك أنه - في نظره - نجح في قمع الأصولية في بلاده! ..
__________
(*) لقد سبق الصحفي والكاتب المعروف (محمد جلال كشك) أن كشف هذا الأمر في مجلته السابقة الشعب والأرض) - البيان -.(69/91)
في دائرة الضوء
الأصالة والحداثة
قراءة في فكر د. زكي نجيب محمود
(1)
د.نعمان السامرائي
د. زكي نجيب محمود علم من أعلام العلمانية المعاصرة عرف بمنهجه القائم
على الفلسفة الوضعية المنطقية، التي تُهمش كل ما يتصل بعالم الغيب وعلى
ضوئها ألّف عدداً من الكتب من أشهرها: (خرافة الميتافيزيقا) وكان محل نقد كثير
من علماء مصر ومفكريها، لكنه بقي متمسكاً بمنهجه هذا وأعاد طبع كتابه دون
تغيير يذكر سوى تعديل العنوان إلى: (موقف من الميتافيزيقا) مع مقدمة تبريرية
جديدة. والحق يقال أنه بعد أن اطلع على التراث العربى تغير موقفه المهاجم إلى
موقف آخر أقل حدة، وأكثر مراوغة! ، وهذا ما وضّحه في كتابه: (تجديد الفكر
العربي المعاصر) الذي اعترف فيه بجهله بالتراث العربي ودعوته إلى الجمع بين
الأصالة والمعاصرة فالأصالة شكل والمعاصرة مضمون.
ويسرنا في هذه المجلة أن نقدم هذه الدراسة التقويمية لفكره بعد أن استغلت
وفاته من قبل الإعلام العلماني في تكريسه رمزا من رموز الفكر العرى المعاصر.
- البيان -
بعض الأفكار والاهتمامات تنقدح في الذهن ثم تختفي، والبعض يرسب في
أعماق النفس، بحيث تبقى (تلح) على صاحبها، وكأنها تذكر بنفسها ووجودها.
وأذكر- حتى هذا اليوم - تلك الساعات التي كنا نناقش فيها- ونحن في
مرحلة الدراسة المتوسطة- الأمم المتقدمة وغير المتقدمة، وحاولنا بسذاجة أن نحدد
(معايير) لذلك. ثم كرت الأعوام وكثرت وتنوعت الاهتمامات، ولكن موضوع
التقدم ومن هو المتقدم؟ لم أستطع دفعه، وقد حملني ذلك على قراءة كل بحث
أمكنني الوصول إليه، مستهدفاً التعرف على الموضوع، حتى تصورت في فترة
أن الجواب يمكن أن أجده في كتب التاريخ أو في (تفسير التاريخ) وحملني ذلك
على أن أكتب في هذا الميدان كتاباً، ثم تابعت ما يكتب عن التغير والتطور وعن
الثوابت وماهيتها.
الدكتور: زكي نجيب محمود ونظريته
قد قرأت أخيراً للدكتور زكي نجيب محمود، فوجدته يحمل هذا الاهتمام حتى
ليقول (1) ( ... إن قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا، ربما
كانت أهم ما تعرضت له من اهتمامات بالتفكير وبالكتابة، ثم ما هو أكثر من ذلك، فقد أصبحت. على يقين من أن هذه المسألة هي أم المسائل الثقافية فيه جميعاً ...
إذ هي حقاً القضية التي يصح أن نقول حيالها قولة (هاملت) في أزمته النفسية:
أن أكون أو لا أكون ذلك هو السؤال) .
يعترف بعد ذلك الرجل بصراحة بأنه في أول حياته العلمية، وحتى أواسط
الستينات من القرن الميلادي، لا يرى في الحياة القومية (2) (إلا صورة واحدة،
هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة هذا العصر ... ) .
فقد اتخذ من حضارة الغرب مقياساً يقيس به شعوب الأرض قاطبة، فكل من
اقترب من الغرب وحضارته فهو متقدم، ومن ابتعد فهو متأخر (3) (هكذا كان
الرأي عندي حتى لقد بلغت فيه حدوداً من التطرف، الذي لم يعرف لنفسه حيطة
وحذراً) . ثم يعقب على ذلك: بأن الأمر كان يبدو له وكأنه مجرد بدهية من
البدهيات، التي لا تحتاج حتى إلى البحث أو التأمل.
ثم يحاول طرح نظرية تزرع نوعاً من الوئام والسلام بين (الأصالة والحداثة)
وقد حمله هذا الاهتمام، لقراءة التراث، بعد أن وضع لنفسه منهجاً، وراح على
أساسه يقرأ التراث، وسيطرت عليه فكرة (التطور) سيطرة أفسدت عليه منهجه،
كما استحضر بعض قراءاته للفكر الاستشراقي الغربي، معتبراً بعض مقولاته
مسلّمات من مثل (4) (إن الثقافة تراثنا هي ثقافة صدق المقولة فهو يحاول البحث
لها عما يسندها فيقول: (5) (ثقافتنا الموروثة ثقافة مدارها (الكلمة) وثقافة عصرنا
مدارها (الجهاز) .... فبينما الكلمة الموروثة توحي إليه بشيء، تجئ (الأجهزة)
فتوصي إليه بنقيضه، وبين النقيضين يقع - أي الإنسان عندنا- فريسة سهلة) ثم
يردد مقولة المستشرقين ويضج أمامها (كيف) فيقول: (6) (كيف غلبت النظرة
العلمية على اليونان والغرب كله بعدهم - وغلبت النزعة الصوفية على الشرق
الأقصى) ؟ .
ولكنه وهو يحاول وضع منهج سلام بين (الأصالة والحداثة) ، يقول بأن
الثقافة العربية كان لها القدرة على الجمع بين النظر العلمي والوجدان الصوفي.
أسئلة لتحديد المراد:
يطرح سؤالين حول الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم هما: (7)
1- ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن الشخصية العربية
(الأصلية) وأعتقد أنها (الأصيلة) ؟ .
2- ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟ .
ويرى أن تحديد ذلك يساهم في صنع (المركب الواحد) وعن الشق الأول،
يرى أن هناك ذاتا إلهية خالقة، وعالم كائنات مخلوق لذات الله، وبينهما كائن ميزه
خالقه فجعله حاملى (أمانة) ذلك هو الإنسان، وهو (8) (كائن خلقي بمعنى أنه
مكلف بأن يحقق في سلوكه قيمة أخلاقية محددة معينة، أُمليت عليه ولم تكن من
اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، وأن يضيف إليها ما يناقضها) .
ثم يضيف الدكتور أن هذا (التكليف) الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا بالمسؤولية، وهي أخلاقية وشخصية، فلا يحملها أحد عن أحد. (9)
ثم يذكر أن الثقافات الأخرى لها مفاهيم مختلفة، فالبعض يرى الأخلاق
(واقعية) فما ثبت نفعه، التزمناه، وما ظهر ضرره تركناه، ونظراً لتبدل النفع
والضرر فإن المبادئ الأخلاقية (نسبية) وغير مطلقة، والبعض الآخر يرى أن
للإنسان مطلق الحرية أن يتخذ لنفسه ما يشاء من قرارات، بشرط واحد: هو أن
يكون مسؤولاً عن قراره، ولا أحد يمكنه أن يملي عليه مهما كان. ثم يقرر الدكتور
أن الوقفة العربية مختلفة عن كلا المذهبين.
لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا تعرضنا لخطر الجمود ولو سبحنا
أحراراً مع تيار الزمن وتغيراته، تعرضنا لانحلال الشخصية، وغاية ما أستطيع
قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة، فيها من السعة ما يمكننا من
التصرف قي إطارها بدرجة من الحرية، تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في
عصرنا. ومن مميزات الثقافة العربية كذلك تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن
يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة، لياذاً بما هو ثابت ودائم، فكل ما في الأرض
والسماء فان وزائل متغير أبداً يتحول أبداً، ففيم التمسك به، وهو عاجز عن
التماسك بذاته؟ أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء، والصيرورة والتغير
الدائب، من حال إلى حال؟ لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم....) ..
هذا الكلام وإن كان ظاهره جيد إلا أنه غير صاف تماماً من لونه المتطور ثم
إن الدكتور ينساه حين يتذكر التربية (العلمانية) والتعليم العلماني، الذي تغذاه منذ
صغره حتى كبره، ينسى كل ذلك حين يباشر الحديث عن (التقدم)
التقدم
يطرح الكاتب سؤالاً (10) (كيف ألتزمُ النظرة العلمية الصارمة، لأساير
عصري، وأن أظل مع ذلك تواقاً إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود
والدوام، لأظل محتفظاً بهذه السمة الغريبة في نظري؟) .
سؤال جيد، أحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أجاب عنه حين قرر: أن لا
تعارض بين العقل والنقل، فإذا وجد التعارض أخذنا بالقطعي منهما.
بعد هذا تطغى على الدكتور النزعة والتربية العلمانية فيقول (11) (إني
لأُرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان، بشرط ألا
نسمع لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر) .
هذه هي العلمانية (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ولنقرأ كذلك (12) (بغير
هذا الفصل الحاد بين العالمين يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر، وصوفية
الأصل الموروث) .
أنا لا ألوم الدكتور فتربيته وتعليمه جاءت علمانية، وقد أفسدت عليه رؤاه،
كما أفسدت منهجه، وإذا كان الغرب - لأسباب خاصة - تبنى العلمانية؛ فلا يعني
ذلك وجوب أن نتبناها، ذلك أن الإسلام غير النصرانية الكنسية، والشروط
الموضوعية غير متوفرة عندنا، وليس هنا مجال بحث العلمانية، وبشروطها
الموضوعية.
التقدم، المبادئ، التغير، الفردية
بعد هذا يحاول الدكتور التعريف بثقافة العصر، فيرى من المفيد دراسة
(التقدم) ، (المبادئ) ، (التغير) ، (الفردية) ، والهدف بيان أبعادها في الفكر المعاصر.
ويهمنا بحثه في (التقدم) الذي يرى فيه أنه أبرز ما يميز العصر الحديث كله، ومنذ ثلاثة قرون وحتى اليوم (13) .
وخطورة البحث أنه جاء منحازاً كلياً، وجنح الكاتب إلى الوصف الأدبي،
فلنقرأ (14) (إنك لكي تتقدم من حالة إلى حالة، لابد أن تعد الحالة الأولى متخلفة
بالنسبة للحالة الثانية، فالنقلة لا تكون تقدماً إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها
نقلة مما هو أسوأ، إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر،
فضلاً عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ، ومعنى ذلك أن (الماضي) دائماً، وفي كل الظروف، أقل صلاحية من الحاضر، ذلك إن زعمنا أن الحضارة (تقدم)
وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.
وههنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى، لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن
نشرب بروح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة
وكمال ... ) .
من اليونان إلى هيغل وماركس إلى د. زكي
الذي لا أشك فيه أن الدكتور زكي بحكم دراسته الفلسفة، قد اطلع على فكرة:
أن الحضارة في تقدم مطرد، حيث قال بذلك بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء هيغل
فجعل منها نظرية، فسر بها تاريخ الإنسانية، حيث اعتبره (صراع متناقضات) ،
كما قال بأن كل عهد يأتي يكون أرقى من سابقه، والحضارة التالية يجب أن تكون
أرقى من سابقتها، بل إن أوجه الحضارة في رقي دائم لا سبيل إلى مقاومتها، وقد
نقلت الماركسية ذلك عن معلمها (هيغل) حرفياً وسلمت به - وإن لم تكف عن
شتمه -.
ولكنّ مؤرخاً مثل توينبي يقول (15) (لقد ارتقى علمنا فبلغ درجة لم يسبق أن
بلغها، ومع ذلك فقد انتكسنا في نفس الوقت في الحروب الطبقية والقومية
والعنصرية، إلى أعماق قد لا يكون سمع بها أحد قبلنا، وهذه المشاعر السيئة،
تجد لها متنفساً في أعماق القسوة الغليظة المصممة علمياً) .
لقد تحمس الدكتور زكي فاندفع يؤيد (نظرياته) بأقوى من المنادين بها.
- يتبع -(69/98)
منتدى القراء
تعقيب على مقال
د. محمد آمحزون
عادل بن عمر المقرن
المكرم مدير تحرير مجلة البيان - سدّده الله -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فهذا تعقيب بسيط على مقال الدكتور الفاضل محمد آمحزون في البيان 66
تحت عنوان (الحركة العلمية في بلاد الحجاز في العهد الأموي) ، ويرتكز على
أمرين هما:
- أولاً: ورد في الصفحة (40) [فأول من تكلم في الإرجاء الحسن بن محمد
بن الحنفية الهاشمي المدني (ت سنة 99 هـ) ... ] ، فيلزم التنبيه هنا- حتى لا يحدث
لبس أو سوء فهم - على أن الإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن محمد بن الحنفية ليس
الإرجاء المتعلق بالإيمان والذي يعيبه أهل السنة، وإنما هو إرجاء أمر المشتركين
في الفتنة بعد خلافة الشيخين -رضي الله عنهما- إلى الله عز وجل. ويتضح لنا
ذلك من أن ابن حجر- رحمه الله - قد اطلّع على الكتاب الذي وضعه الحسن بن
محمد في الإرجاء، [فيقول ابن حجر: المراد بالإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن
محمد غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة: المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت
على كتاب محمد بن الحسن المذكور ... إلخ] [1]
فبالتالي الإرجاء المتعلق بالإيمان لم يعرّج عليه.
ثانياً: ورد في الصفحة (41) [الإرجاء الخاص بالصحابة....] .، والأحوط
حتى لا يحدث لبس في المعنى- فيظن ظان أن الصحابة رضوان الله عليهم قد وقع
بينهم الإرجاء- أن تكون العبارة " الإرجاء الخاص بأمر الصحابة " [2] .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/ 26-27 تحقيق د أحمد سعد حمدان نشر دار طيبة
- الرياض.
(2) من نسبة الفضل إلى أهله، أشار إلى هذه الملاحظة فضيلة الشيخ عبد العزيز قاري - عند مناقشة رسالة الدكتوراة لفضيلة الشيخ د سفر الحوالي.(69/105)
ردود قصيرة
يسعدنا تواصل القراء مع مجلة البيان وتعقيباتهم وتنبيهاتهم لما ينشر في هذه
المجلة ويسرنا. الإجابة على بعض ما وردنا مؤخراً بما يلي:
1 - تنبيه: الأستاذ حمد بن إبراهيم الحريقي - الرياض - السعودية، ومما
ذكره من أن الحديث المذكور في حاشية الصفحة 24 من العدد (67) " إنك إن
تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم ". بأنه ليس كما أشير إليه في
صحيح البخاري وبعد مراجعتنا الحديث تبين لنا أن (الحديث أخرجه الإمام أحمد في
المسند ج 6/ 4 وعند أبي داود في الأدب / باب النهي عن التجسس / بلفظ (إذا
ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم) . ورواه البيهقي في شعب الايمان وورد في
مشكاة المصابيح بتحقيق العلامة الألباني رقم 3709. والبغوي في شرح السنة 13/
106 وكذلك في جامع الأصول ج/4/83 ونحن بدورنا نشكر الأخ الكريم.
2- الأستاذ إبراهيم بن عبد الرحمن الخنفور اقتراحك جيد وقد أرسلت لك
رسالة خاصة.
3- الأخت عفاف الدريهمي/ يسعدنا تقديرك للمجلة والقائمين عليها والمجلة لا
تنشر المختارات. وننتظر منك مشاركات قادمة إن شاء الله.
4 - الأخوة الكرام/محمد سعيد الزهراني، أحمد السيف، زيد الرماني، أحمد
العجروش، عبد الله النمري، عزيزة النصار، محمد أبو عزام، مشاركتكم وصلت
وهي محل الدراسة.
5- الأخت ذات النطاقين مشاركتك وصلت ويلزم ذكر الاسم الصريح ولا
مانع من النشر بالاسم الرمزي بعد ذلك. وسنتطرق للرسائل الأخرى في الاعداد
القادمة بأذن الله.(69/107)
من أنشطة المنتدى الإسلامي الصيفية
(2)
ثانيا: المؤتمر الأول للدعاة في غرب إفريقيا (غانا)
انعقد هذا المؤتمر في الفترة من 13/8/1993 إلى 22/8/1993 في مدينة
ونيشي بغانا حيث يوجد مشروع (ونيشي التعليمي) التابع للمركز. وبهدف هذا
المؤتمر إلى جمع أكبر عدد من الدعاة في دولة غانا والدول المجاورة لتبادل الآراء
والخبرات الدعوية وعرض أهم العقبات التي تواجه الدعوة في كل دولة وحلها.
شارك في المؤتمر وفود تمثل الدول التالية:
غانا وهي الدولة المضيفة للمؤتمر وشارك منها 40 داعية، توجو وشارك
منها 24 داعية بوركينا فاسو وشارك منها 23 داعية، بنين وشارك منها25 داعية،
ساحل العاج وشارك منها 19 داعية.
وعقد المؤتمر تحت شعار [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] وكان
برنامج المؤتمر قسمين:
- المحاضرات في التوعية والتوجيه وألقاها الدعاة الضيوف على المؤتمر.
- كلمات موجزة بعد الصلوات وندوات وبحوث علمية شاركت فيها الوفود
المشاركة.
المحاضرات اليومية للمؤتمر كما يلي:
1- واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم.
2- منهج الاستدلال والتلقي عند أهل السنة.
3- العلمانية وأثارها الخطيرة في العالم الإسلامي.
4 - أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم.
5- مقاصد التشريع الإسلامي.
6- التوحيد مفتاح دعوة الرسل.
7- منزلة الصحابة وحكم القوم فيهم.
8- العلم الشرعي ضرورته وأهميته.
أهم البحوث والندوات التي تشارك بها وفيها الوفود:
1- الإيمان شروطه وآثاره ونواقضه.
2- تاريخ الدعوة السلفية في كل دولة.
3- سجود السهو وأحكامه.
4 - شروط كلمة التوحيد.
5 - الأخوة الإسلامية وثمراتها.
6- مشكلات الدعوة والدعاة والحلول المطروحة.
7- الفرق المنتمية للإسلام ونشاطها في كل دولة.
8- أنشطة الدعاة في دولهم والخطط المستقبلية.
9- تعليم العربية والإسلام في إفريقيا الواقع والحلول.
وفي آخر يومين من المؤتمر أجريت مسابقة في القرآن الكريم لإعداد البحوث
العلمية بين أعضاء الوفود المشاركة وفي اليوم الأخير وزعت جوائز على الفائزين
بأفضل البحوث وكانت الجوائز تذكرة عمرة للشخصية المثالية في المؤتمر وكفالة
داعية لمدة سنة فاز بها خمس دعاة واشتراك بمجلة البيان وفاز بها عشر دعاة مع
توزيع شهادات. التقدير على جميع المشاركين وبعض الهدايا المفيدة كالكتب
والرسائل والأشرطة المسجلة للمحاضرات الإسلامية القيمة.
ثالثاً: الدورة التدريبية للخريجين في مالي:
وقد نظمها المنتدى الإسلامي بالتعاون مع رابطة الدعاة بمالي في الفترة من
27/ 1/ 1414 إلى 6/2/1414هـ في المعهد الإسلامي وكان عدد المشاركين
خمسين مشاركاً من مختلف أقاليم (مالي) وبعد حفل الافتتاح ابتدأت الدورة التي
تضمنت العديد من المحاضرات ومن أهمها (صفات الداعية) ، و (غزوة أحد دروس
وعبر) و (تقسيم الحديث) و (مقاصد الشريعة) و (وواقع المسلمين وسبيل النهوض
بهم) . وعقدت ندوتان بالمؤتمر وهما:
1- دور الإعلام في العمل الإسلامي.
2- واقع المسلمين في مالي.
وقد تم تقسيم المشاركين في قاعتين دراسيتين وتخصيص صالة للأنشطة وكان
عدد المحاضرات في اليوم خمس محاضرات لمدة عشرة أيام متتالية.
رابعاً: - الدورة التدريبية للأئمة والدعاة في بنجلاديش
وقام المنتدى الإسلامي بهذه الدورة في الفترة من 15/11/1413 إلى 9/2/
1414هـ - وكان منهج هذه الدورة مملوءاً بالمواد الهامة في العقيدة والتفسير
والفقه والدعوة والقرآن وتجويده وقام بالتدريس نخبة من الأساتذة والدعاة، وكان
البرنامج اليومي للمتدربين يمتد خلال24 ساعة وقد جهز السكن والتغذية وقدمت
مكافآت رمزية للمتدربين وكان الحوار والمشاركات باللغة العربية.
خامساً: - الدورة الشرعية الأولى في مبماسا بكينيا:
عقدت في معهد الشيخ خليفة بن راشد في الفترة من 1/3/1414هـ إلى 10/
3/1414هـ بإشراف المنتدى الإسلامي بهدف تشخيص الداء في أوساط الدعاة إلى
الله ووصف الدواء المناسب لهم. وشارك في هذه الدورة العديد من الشباب
المتخرجين من الجامعات الإسلامية ممن يعملون في مجال الدعوة في كل من كينيا
وتنزانيا وأوغندا والصومال. وكان برنامج الدورة محتوياً على العديد من
المحاضرات والندوات المختلفة وقد تجاوزت أنشطة الدورة إلى المساجد بماسا وما
حولها حيث كان العلماء والدعاة المشاركون يلقون محاضراتهم وتترجم للسواحلية
من قبل الشباب المشاركين وقد طالب المشاركون بأن تعقد مثل هذه الدورة كل عام
لما وجدوا فيها من الفوائد وتنشيط الهمم والتعاون وتوحيد الكلمة. وقد أعدت جوائز
قيمة للمشاركين وهي تذكرة عمرة ومراجع قيمة.(69/109)
الورقة الأخيرة
تعالوا بنا نحدد الهدف
د.محمد بن ظافر الشهري
فيما ينتشر طبق الاستقبال (الدش) في بلاد المسلمين انتشار النار في الهشيم،
تحدث في أوربا - وفي ألمانيا بالتحديد- قصة لأحد المبتعثين العرب، وهذه القصة
جديرة بالوقوف عندها ملياً للتفكر والاعتبار.
لقد اشترى هذا العربي طبق استقبال (دش) بمائتين وخمسين ماركاً تقريباً،
مُعَللاً إقدامه على هذا الفعل بأنه (يحتاج) إلى التقاط محطات تتحدث الإنجليزية
لأن المحطات السِّت في ألمانيا تتحدث جميعاً الألمانية (الفصحى) ، وعندما أراد
صاحبنا من الشركة أن تركب الجهاز على المنزل الذي يسكن فيه (أمرته) الشركة
أن يحضر موافقة خطية من صاحب المنزل، فرضخ لأمرهم ولسان حاله يقول ...
(ودارهم ما دمت في دارهم) ، وظنّ الرجل أن موافقة صاحب المنزل (مضمونة)
وحمد الله الذي سلمنا - نحن المسلمين - من هذه الأمور (الشكلية) فنحن نبيع
ونشتري ونركب هذه الأطباق بمنتهى الحرية.
ونعود إلى صاحب المنزل الذي كان امتعاضه شديداً لدى علمه بهذا الأمر،
لأن (الألماني) يرى أنه (يجب) أن يستأذن قبل شراء الجهاز ولهذا فقد شدد على
وجوب الانتظار ثلاثة أشهر حتى يعرض الأمر على مجلس الحي (ليتشاوروا)
ويخرجوا في هذه (النازلة) بقول فصل، كما حذر من مغبة استخدام الجهاز ولو
في داخل غرف المنزل! .
وبعد ثلاثة أشهر قرر مجلس الحي أنه لا يمكن السماح بمثل هذا الفعل بأي
حال من الأحوال، وأكد المجلس أن هذا ليس تدخلاً في الحريات الشخصية ولا هو
من قبيل التراجع عن المبادئ (الديمقراطية) ولكنه حق من حقوق (ألمانيا) التي
جاءت بهذا العربي ليرجع بالفكر الألماني ولا شيء غير الفكر الألماني. وهناك
تبرير آخر أورده (المجلس) وهو أن السماح لهذا الغريب باستخدام طبق الاستقبال
ربما أدى إلى انتشار هذه العادة السيئة في أوساط الألمانيين في البلد وهذا أمر خطير
للغاية! !
لقد أصابتني الدهشة عندما علمت بأحداث هذه القصة فمن المؤكد أن الألمان لا
يرفضون انتشار الأطباق خوفاً من الإباحية فهم أربابها والسابقون إليها، كما أن
الرفض لم يكن لأسباب دينية أو اقتصادية (مباشرة،، ولكن السبب الحقيقي - بعد
التأمل - هو أن الألمان يحملون في صدورهم عقيدة) (ألمانيا قبل كل شيء) ، وقد
جعلوا من هذه العقيدة هدفاً يعملون من أجله ويتحمسون له بل ويقاتلون في سبيله.
إذا كان هؤلاء القوم حملوا هذا المبدأ الهزيل المتهافت، الذي هو عبادة
للتراب، ولكنهم اتفقوا على العمل من أجله فتحقق لهم من القوة المادية ما لا يخفى
على أحد اليوم، فكيف بمن يصدق في حمل عقيدة [قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي
ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]
[الأنعام: 162، 163] إن الأمة التي تحمل هذه العقيدة وتخلص في العمل من
أجلها وتجعلها همها الأول والأخير وتغرسها في قلب كل رجل وامرأة بل وفي قلب
كل طفل، لا يمكن إلا أن يمكن لها في الأرض وتتحقق لها القوة الروحية والمادية
وتقوم بالخلافة في الأرض على الوجه الأكمل الذي يرضاه الله تعالى معه
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ]
[الحج: 40، 41] .(69/111)
جمادى الآخر - 1414هـ
نوفمبر - 1993م
(السنة: 8)(70/)
كلمة صغيرة
قافلة طويلة من ورق المطابع أو من ورمها -إن شئت-! توازيها ساعات
إذاعية وتلفازية بالغةُ حدً الكآبة من الطول.. واكبت ما تمخض عنه جبل السلام
السرابي من فئران.. ليس آخرها أخبار انهيار جدار المقاطعة لإسرائيل على غير
ما صعيد.. تلك التي لم يمكن جوفها -قبل السلام- ليتسع لأكثر من 400 مليون
دولار من التعامل التجاري بين العرب وإسرائيل! ! حقاً إنه مبلغ ضئيل بالقياس
إلى ما يطمح إليه عبدة التلمود بعد اتفاقية الاستسلام وتداعياتها.
إن ذلك السيل الإعلامي الذي واكب الاتفاقية ارتبط في معظمه بالحدث
السياسي الآتي بينما الحاجة ماسة إلى طرح شمولي يحدد معالم المرحلة الجديدة من
الصراع ويتضمن رؤية مستقبلية تبرز بعضاً من القاع الذي ينتظر سفينة المنطقة
بعد أن انهكتها العواصف، ثم هاهي فئران السلام تقرض آخر البقايا للدفع بها إلى
الهاوية التي يحمل مدخلها لوحةً سوداء كتب عليها بأيدي المستأجرين (جنة التطبيع
الاقتصادية) ، وإن هي إلا جنة كجنة المسيح الدجال!
وبين الحج هذا الزيف! تأخذ المعالجة الشمولية العميقة بوصلة النجاة! وقد
حاولنا - من خلال جهد المقل - تقديم شيء من ذلك، وحسبنا أن نضرب في
الغنيمة بسهم! ..(70/1)
الافتتاحية
التركيع القادم
التحرير
رويداً رويداً يخف ضجيج التصفيق، الذي شهدته جنازة «فلسطين» في
الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، وقليلاً قليلاً يزول مفعول المخدر الناتج عن هول
الصدمة، وسرعة تصاعد الأحداث السابقة لحفلة التوقيع، وشيئاً فشيئاً يحس
المعنيون بقضية المسلمين الأولى في التاريخ المعاصر، أن وقع التهويل الإعلامي
والدعاية الإعلامية الفجة قد أخذ يخف لتطل الحقيقة الغليظة بقسماتها البشعة وقامتها
القصيرة وحدبة ظهرها؛ لتبرهن على أن الآلة الإعلامية الغربية وفروعها العربية، تستطيع أن تروّج للمُنتج السياسي المتمثل في الاتفاق الأعور «لبعض الوقت» ، لكن رداءة هذا المنتج تبقى أوضح بكثير وأبشع بمراحل من كل الرتوش
والمساحيق والأصباغ التي بُذلت لتجميل هذا المسخ الذي يُفرض على الأمة قبوله..
لا بل الإشادة به..
لقد عملت وسائل الإعلام لتحقيق هدف واحد بصورة متكررة ومن زوايا
مختلفة، هذا الهدف هو تصوير الاتفاق على أنه «اختراق تاريخي!» و «حدث
كوني» و «إنجاز خلاّق» في زعمهم وهو كما قالوا ورددوا، ولكن بالنسبة
للطرف المستفيد والأقوى في هذه الصفقة: إسرائيل وحلفاؤها الغربيون الذين
وجدوا في الاتفاق جسراً يؤدي إلى الخروج من المأزق الراهن، وأفقاً جديداً يساهم
في اختراق الجسم العربي الواهن أمام عوامل الضعف الذاتية والخارجية.
لقد رسمت إسرائيل منذ البداية أهدافاً واضحة، وخططاً مرحلية ترمي إلى
ترسيخ المشروع الصهيوني، ودمجه بكيانات عربية ضعيفة متداعية وساهم الفكر
العربي المستورد الذي أثبت عبر تجربته التاريخية الممتدة منذ الثورة العربية
الكبرى واتفاق «الملك عبد الله ماكماهون» وحتى اتفاقية «عرفات رابين» أن
المشروع العربي البعيد عن ثوابت الإسلام قابل للتشكيل والقولبة بحسب الظروف
الدولية التي استطاعت خلال خمسين عاماًِ أن تنخر في الثوابت وتعصف بالمسلمات، حتى تداخلت صيحات الرفض والتخوين بهتافات السلام والإشادة بالغاصب،
وهكذا تأكد أنه في ظل القيادات العلمانية العربية يصبح كل شيء قابلاً للنقاش، وأن
ما ترفضه اليوم ستقبله غداً بعد «تحريك الساحة» و «ترويض السلاحف» التي
سارت رويداً رويداً من الرفض واللاءات الثلاث الشهيرة وقمم الصمود والتصدي
وشعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة..» حتى المشهد الحالي الذي يعد
بالتطبيع والسلام المنكس رأسه والتعاون مع أعداء الله ونبذ العنف والتبرؤ من رفع
الحجر في وجه الغاصب أو تنظيم مسيرة تندد بالاحتلال.. إلا إذا كانت باللغة
العبرية لغة مرحلة السلام المفروض على المفلسين وتجار النضال سابقاً أو سماسرة
التطبيع القادم.
... ولعل في التأمل في قيادة المشروع الصهيوني مثالاً صارخاً جديراً بالتأمل
والتوقف، لقد قامت هذه القيادة «بتنفيذ» المشروع الصهيوني بحرفية شديدة
وأصولية مطرّدة.. وحينما تتأمل أهداف وأساليب بن غوريون أو وايزمن أو مائير.. تجدهم لا يقلون التزاماً بمشروعهم الصهيوني عن بيجن وشامير ورابين وبيريز. والفرق بين الجيل الأول والثاني فرق في الوسائل والأساليب ليس إلا.. صحيح
أن معطيات الحرب الباردة كانت تسمح بالتمدد العسكري، وحصد المكاسب على
الأرض، لكن المعطيات الدولية الراهنة بعد الانتهاء من تصفية الجسد الشيوعي «
وتصميم» العدو الإسلامي الجديد تقتضي أن ينتقل المشروع الصهيوني إلى
صورته الحالمة بالاندماج في كيانات متداعية والسيطرة عليها من خلال منطق القوة
الجديد الذي تتشابك فيه القوة التقنية بالعضلات الاقتصادية، وتختلط فيه الترسانة
العسكرية بأحدث أساليب التأثير الإعلامي الذي يكفل تكريس مفهوم التفوق اليهودي
والمرجعية «الإسرائيلية» لدول المنطقة أو ما تطلق عليه مراكز الأبحاث العبرية
والغربية «إسرائيل الكبرى» .. اليهود ومشروعهم الصهيوني يرى أن الجانب
الغربي قد استنزف تماماً من مقومات القوة والمقاومة والعافية، وأن الوقت قد حان
بعد طول انتظار لأن يأخذ المشروع الصهيوني مداه في التمدد والسيطرة والاختراق
والمرجعية في المنطقة.. والمشروع الصهيوني وقياداته يتكئون في هذا على تراكم
تاريخي هائل وتجربة ماضية ممتدة إلى هذه اللحظة تقول بصوت مدو: إن اليهود
والصهاينة لم يشكلوا في يوم ما كياناً مستقلاً في أي أرض أو في أي قطر منذ أكثر
من ألفي عام ... اليهود الجبناء لا يمكنهم أن يعيشوا مستقلين معتمدين على ذواتهم،
فتش عنهم في مراحل تاريخهم لتجدهم طفيليات تقوم على امتصاص عرق الآخرين
والاتجار بمصائبهم.. هكذا كانوا في أوروبا والغرب.. وهكذا عاشوا في عالمنا
الإسلامي حينما منحهم «حق الذمة» وحماهم من المجازر الجماعية المتتالية.. بل
إنهم في أعظم نجاحاتهم المعاصرة في أمريكا كانوا يمارسون السلوك نفسه..
الشعور بحريتهم وامتيازهم المزعوم كشعب الله المختار والتغلغل في تفاصيل الحياة
الأمريكية الحساسة كالاقتصاد والإعلام والمحاماة.. والسياسة..
إسرائيل ويهودها ينظرون إلى تجربة إخوانهم في أمريكا (الأرض الجديدة)
على أنها أنجح تجارب اليهود في تاريخهم، حيث حدث «الاختراق العظيم» ..
وهم يأملون أن يكرروا التجربة نفسها في الأرض القديمة.. أرض الرسالات
والملاحم والثروات التي يحكمها المشروع العلماني العربي المأزوم..
إن كانوا يزعمون أنهم شعب الله المختار.. فالعرب هم شعب الله المحتار،
وهم كذلك بما كسبت أيديهم وبما اختارته قيادات النضال الغابرالتي تحول فيها
المشروع الفاشل بين يوم وليلة إلى قصر رمال منهار، حيث أن المشروع العلماني
العربي كرس أدواء وعللاً ومظاهر، يبدو الحل السلمي الرخيص أحد أعراضها
فقط.. كما يظهر ضعفه أمام مشروع الصهاينة المنتصر وهم الذين ضربت عليهم
الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله..
أسباب فشل المشروع العلماني ورموزه عديدة تستحق وقفة أخرى لكن من
اللازم أن يذكر أنه مشروع «الأعداء» في مواجهة الإسلام، صِيغَ وقُدّم بلغة
عربية.. أما مشروع الصهاينة فقد انطلق من الذات وحكمة الدين عندهم بالرغم من
تحريفه وغذته توراتهم وتلمودهم اللذان كتبوهما بأيديهم.
مشروع الصهاينة المنتصر الآن حركته نفوس تقاتل لدين وعقيدة.. ومشروع
الثورة العربية الكبرى صاغه الجواسيس كلورانس والواجهات كالشريف وأولاده
وتمسك به تجار القضية العلمانيون.. وأغلب الظن أن الصهاينة سيحصدون مزيداً
من الانتصارات أمام شراذم العلمانية العربية التي وصلت إلى الدرك الأسفل من
العار حتى يأذن الله لهذه الأمة أن تنهض من رقادها.. وترفع مصاحفها في وجه
الزبد.. ترفعها قولاً وفعلاً.. وممارسة في وجه الحاكمين بغير ما أنزل الله ويومئذ
تتساقط الأصنام، وما ذلك على الله بعزيز..(70/4)
دروس في الدعوة
الجهر بكلمة الحق والصدع بها
عبد الله بن علي النمري
أعتقد أن من أهم الدروس التي ينبغي أن يعيها الدعاة المسلمون وعياً كاملاً
الجهر بكلمة الحق، والدعوة لهذا الدين بكل جرأة وشجاعة، وعدم التنازل أمام أي
أحد عن شيء منه، لأن هذا الدين الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده؛ وحدة متكاملة، لا تقبل أنصاف الحلول، فالله يريد أن يُطَبّق شرعه كاملاً غير منقوص.
لقد كان بعض المسلمين في المرحلة المكية وهي مرحلة استضعاف يجهر
بكلمة الحق، وهذا رد على الذين يحتجون بأن المرحلة التي يعيشها العالم الإسلامي
اليوم هي مرحلة استضعاف، وهذا يعني عندهم أنه ينبغي أن تكون الدعوة سرية
خالية من الصدع بكلمة الحق ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونحن نقول لهم: إننا نتفق معكم في أن المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم
هي مرحلة استضعاف، وأنها عظيمة الشبه بتلك المرحلة الأولى من دعوة النبي
عليه الصلاة والسلام، التي تسمى (المرحلة المكية) بسبب حكم الجاهلية المعاصرة
التي أقصت حكم الله عن الأرض في كثير من البلدان، وليس معنى ذلك أن ننكر
على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بكلمة الحق ومن تأمل سيرة
النبي -صلى الله عليه وسلم- عرف أن الحكمة هي الجهر بالدعوة، والصدع بكلمة
الحق.
وها أنا أسطركلمات أعجبتني للأستاذ محمد قطب حفظه الله يقول فيها: «لقد
أصبح كثير من الناس يتصورون أن الحكمة والموعظة الحسنة تعني التربيت على
أخطاء الناس وانحرافاتهم، وعدم مواجهتهم بها خشية أن ينفروا من الدعوة ولا
يستجيبوا لها! فمن أين جاءوا بهذا الفهم لهذا التوجيه الرباني الكريم؟ !
هل هناك من هو أكثر فهماً لهذا التوجيه الكريم من الرسل الذين وجه القول
إليهم؟
فكيف فهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر المنزل إليه من ربه أن
يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؟ وكيف فهم موسى وهارون عليهما
السلام توجيه الله لهما أن يقولا لفرعون قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى؟
فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد صدع بما أُمِرَ فقالت عنه قريش:
لقد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا، وكفر آباءنا وأجدادنا! !
وأما موسى وهارون عليهما السلام فقد بدآ بأن قالا: السلام على من اتبع
الهدى، ولم يقولا لفرعون: السلام عليك! وفي ذلك إشارة ملحوظة إلى أن فرعون
غير متبع للهدى، ثم ثنيا بأن قالا: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب
وتولى) ، وفي ذلك تهديد واضح لفرعون وقومه بالعذاب الذي ينتظرهم إن هم
كذبوهما، وتولوا عن الحق الذي يعرضانه عليهم.
وكان هذا هو القول اللين الذي أُمِرَا بتوجيهه إلى فرعون. إن التلطف واجب
ولكنه التلطف في إظهار الحق، وليس التلطف في إخفاء الحق.
فهذا الأخير هو الذي قال عنه تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-[ودوا لو
تدهن فيدهنون] . [1]
والآن نذكر بعض المواقف والأحداث التي مرت بالنبي -صلى الله عليه
وسلم- والتي تبين لنا كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قوالاً لكلمة الحق
جاهراً بها لايخاف في الله لومة لائم.
* موقفه -صلى الله عليه وسلم- عندما صعد إلى الصفا فجعل ينادي» يابني
فهر يابني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج
أرسل رسولاً لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب، فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً
بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم ماجربنا عليك إلا صدقاً!
قال:» إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد «فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم،
ألهذا جمعتنا؟ ! فنزلت [تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب] [2] .
* ومرة اجتمع أشراف قريش في الحجر فذكروا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا على أمر هذا الرجل قط، سفه أحلا منا،
وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ
عظيم فبيناهم في ذلك إذ طلع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل يمشي حتى
استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول: فعرف
ذلك في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه
بمثلها فعرف ذلك في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم مر بهم الثالثة
فغمزوه بمثلها.
فوقف ثم قال» أتسمعون يامعشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم
بالذبح «فأخذت القوم كلمته حتى مامنهم رجل إلا وكأنما على رأسه طائر واقع حتى
إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول:
انصرف يا أبا القاسم راشداً، فوالله ما كنت جهولاً.. إلخ القصة. [3]
ومن خلال هاتين القصتين نعرف مدى جهره عليه الصلاة والسلام بالحق ولم
يكن هذا فقط خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بل حتى أتباعه الصحابة رضي
الله عنهم أجمعين لهم مواقف رائعة عرضوا فيها إسلامهم وبلغوا دعوتهم بكل جرأة
وبكل صراحة، دون أن يحسبوا لأهل الشرك أي حساب، ومن تلك المواقف جهر
ابن مسعود رضي الله عنه بالقرآن [4] وقصة إعلان أبي ذر لإسلامه أخرجها
الطبراني، وأبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك [5] وغيرها من القصص
التي يطول ذكرها.
وفي الختام أسأل الله جل وعلا أن يهيء لهذه الأمة علماء ربانيين يقولون كلمة
الحق ويدافعون عنها ولايخافون في الله لومة لائم.
__________
(1) مقدمة كتاب مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب ص 13.
(2) صحيح البخاري (4492) ، مسلم (208) .
(3) السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص289 290 وإسنادها حسن البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص44 45.
(4) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 314.
(5) حياة الصحابة للكاند هلوي ج 1 ص 276.(70/8)
مصطلحات
النفاق
عثمان جمعة ضميرية
النون والفاء والقاف أصلان صحيحان في لغة العرب، يدل أحدهما على
انقطاع الشيء وذهابه، ويدل الآخر على إخفاء شيء وإغماضه، ومتى حصل
الكلام فيهما تقاربا.
ومن الأصل الثاني يقال: النّفَقُ وهو سَرَبٌ في الأرض له مخلص إلى مكان
آخر، والنافِقَاءُ: موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا آُتي من قبل القاصعاء
ضرب النافقاء برأسه، فانتفق وخرج، ومنه اشتقاق النفاق لأن صاحبه يكتم خلاف
ما يظهر، فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.
ويقال: نافق في الدين: ستر كفره، وأظهر إيمانه، وسمي المنافق منافقاً
لأنه يستر كفره ويغيبه، فشبه بالذي يدخل النفق، أو لأنه نافَقَ كاليربوع. [1] وقد
تكرر في القرآن الكريم والحديث الشريف ذكر «النفاق» ، وما تصرف منه اسماً
وفعلاً، وهو «اصطلاح شرعي» لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به وإن
كان أصله معروفاً في اللغة العربية.
وأما تعريف النفاق في الاصطلاح الشرعي: فهو أن يكون كافراً بقلبه ويظهر
للناس أنه مسلم بقوله أو بفعله.
قال ابن رجب رحمه الله: «النفاق الأكبر وهو: أن يظهر الإنسان الإيمان
بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو
بعضه» . [2]
فيطلق النفاق على الدخول في الدين، من باب أو بوجه التلفظ بالشهادتين مثلا
والخروج منه من باب أو بوجه آخر.
وعلى ذلك نبه الله تعالى عن المنافقين بقوله: [إن المنافقين هم الفاسقون] أي الخارجون من الدين والشرع. [3]
وهذا النفاق نوعان: نفاق أكبر وهو نفاق الاعتقاد، ونفاق أصغر وهو النفاق
العملي.
وفيما يلي بيان موجز لهذين النوعين:
النفاق الأكبر: (أو نفاق الاعتقاد)
وهو أن يظهر المرء للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر..، فيعصم بذلك دمه وماله وعرضه ويتخلص من القتل والعذاب العاجل،
ويصبح ظاهراً في عداد المسلمين، ويحسب على أنه منهم، وهو في حقيقة أمره،
منسلخ من الدين كله، مكذب به، لا يؤمن بالله، ولا بكلامه الذي أنزله على رسوله، فليس معه من الإيمان شيء، وهذا النفاق يوجب لصاحبه الخلود في النار، بل
هو في الدرك الأسفل منها، وهو أعظم كفراً من صاحب الكفر الواضح المستبين [4]
[إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاْ] . [5]
[إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار] . [6]
وليس من غرضنا هنا أن نقف عند ظهور حركة النفاق في المدينة في عهد
النبي -صلى الله عليه وسلم- دون مكة والأسباب التي أدت إلى ذلك، ولا بيان
مواقف المنافقين الكيدية ومؤامراتهم، ولكن حسبنا الإشارة إلى أن خطورتهم قد
بلغت غايتها وجاءت الآيات الكريمة، ترسم صورة واضحة لهم من خلال صفاتهم
ومواقفهم، ولا تكاد سورة في القرآن الكريم مما نزل بالمدينة تخلو من الإشارة إليهم
والحديث عنهم وفي زماننا هذا كثير ممن يقتفون أثر المنافقين، في سلوكهم وأقوالهم
واعتقادهم، ومن أبرز هذه النماذج المعاصرة: الباطنيون وأتباع الأحزاب
والمنظمات الجاهلية التي تنادي بتحكيم غير شريعة الله كالشيوعية، والقومية،
والعلمانية والملأ من أعوان الطواغيت الذين هم من كبار المسؤولين والمستشارين.
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة، فهل نستطيع اليوم أن نحكم على إنسان بعينه
بهذا النفاق؟
يقول الإمام الخطابي رحمه الله:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يواجه المنافقين بصريح القول،
ولا يسميهم بأسمائهم، وإنما يشير إليهم بالأمارة المعلومة على سبيل التورية، وكان
حذيفة رضي الله عنه يقول: إن النفاق إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وما كان بعد زمانه فهو كفر.. أو يقول: ولكنه «كفر بعد الإيمان» .
ومعنى هذا: أن المنافقين في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم
يكونوا أسلموا، إنما كانوا يظهرون الإسلام رياءً ونفاقاً، ويسرون الكفر عقداً
وضميراً، فأما اليوم وقد شاع الأمر وانتشر، فمن نافق منهم فهو مرتد؛ لأن نفاقه
كفر أحدثه بعد قبول الدين، وإنما كان المنافق في زمان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- مقيماً على كفره الأول فلم يتشابها.
وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم، ويقبل ما
أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ
به، ولا يترك لمصلحة التألف، لعدم الاحتياج إلى ذلك. [7]
النفاق الأصغر: (النفاق العملي)
وهو ترك المحافظة على أمور الدين سراً، ومراعاتها علناً.
قال ابن رجب:
«النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك» . [8]
وقد نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا النوع في أحاديث كثيرة كقوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . [9]
وقوله: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كان
فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد
غدر، وإذا خاصم فجر» . [10]
فهذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ولكنه ليس
على كفرهم اعتقاداً وباطناً.
وقد يجتمع نفاق العمل مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ
صاحبه عن الإسلام بالكلية. [11]
قال الإمام الذهبي عقب حديث «أربع من كن فيه» :
«وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب
ويزيد وينقص، فشعب النفاق كلها من الكذب والخيانة والجور والغدر والرياء
وطلب العلم ليقال، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى فمن
ارتكبها كلها وكان في قلبه غلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو حرج من قضاياه، أو يصوم غير محتسب أو يجوز أن دين النصارى أو اليهود دين مليح ويميل إليهم، فهذا لا تَرْتَبْ في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، فإن كان فيه
شعبة من نفاق الأعمال فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها» . [12]
وبعد أن بينّا معنى الكفر والشرك والنفاق، نشير إلى العلاقة بينهما بإيجاز
حيث يطلق الله تعالى على المشركين اسم الكفار ويصفهم بالكفر، كما يطلق على
الكفار من أهل الكتاب وغيرهم اسم الشرك ويصفهم به.
وباستقراء استعمال الكلمات الثلاث في القرآن الكريم: اسماً أو وصفا نجد أن
كل واحد من الألفاظ قد يرد مستقلاً في السياق، وقد يرد مقترناً باللفظين الآخرين،
فإذا اجتمعت هذه الألفاظ في سياق واحد دل كل منها على معنى غير المعنى الذي
يدل عليه الآخر، وإذا انفردت دخل في كل لفظ معنى الآخر.
فلفظ الكفر مفرداً يدخل فيه النفاق والشرك، ولفظ الشرك يدخل فيه الكفار من
أهل الكتاب وغيرهم، ثم قد يقرن لفظ الكفر بالنفاق، ويقرن لفظ المشركين بأهل
الكتاب، أو يقرن بالملل الأخرى، وعندئذ ينصرف لفظ المشرك إلى من ليس له
كتاب من المجوس والوثنيين، ولفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى
وهكذا يجتمع الكل في وصف الكفر ثم يخصهم التقسيم بأسماء معينة لكل
منهم. [13]
__________
(1) مقاييس اللغة: 5/454، ترتيب القاموس: 4/419، لسان العرب: 1 /358359، الصحاح للجوهري: 4/1560، غريب الحديث لأبي عبيد: 3/ 13، النهاية لابن الأثير: 5/98.
(2) جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/481.
(3) مفردات القرآن للراغب ص (50) ، الفروق اللغوية للعسكري ص (89) .
(4) انظر تفسير ابن كثير: 1/7273، أعلام الحديث للخطابي: 1/166، شرح السنة: 1/76.
(5) النساء، آية 14.
(6) النساء، آية 145.
(7) أنظر أعلام الحديث للخطابي: 1/166/168، فتح الباري لابن حجر: 13/74.
(8) جامع العلوم والحكم: 2/481.
(9) متفق عليه.
(10) متفق عليه.
(11) أعلام الحديث: 1/166، شرح السنة: 1/7677، كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 59.
(12) سير أعلام النبلاء: 11/362 باختصار.
(13) انظر مدخل لدراسة العقيدة ص (304308) عثمان جمعة ضميرية.(70/12)
أحكام التشهير..
محمد عبد العزيز الخضيري
إن مما يكثر فيه الخلط بين طلاب العلم حكم التشهير، وهل هو حرام بإطلاق
أم أن الأمر فيه تفصيل، ولذلك أحببت بيان هذه القضية بإيجاز، فأقول:
التشهير: هو إذاعة السوء عن شخص أو جهة كمجلة أو مدرسة أو دائرة أو
مكتبة أو غير ذلك.
أحكامه: يختلف حكم التشهير باختلاف من شُهر به، وإليك بيان ذلك على
وجه التفصيل:
1- الأصل أن تشهير الناس بعضهم ببعض بذكر العيوب والتنقص من
الأشخاص حرام.
أ - لأنه غيبة، والله يقول: [ولا يغتب بعضكم بعضْا] [1] ورسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يبين معنى الغيبة بقوله: «ذكرك أخاك بما يكره..» [2] ...
ب - ولأنه أذية، وقد قال الله عز وجل: [والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناْ وإثمْا مبيناْ] [3] قال ابن كثير:
«أي ينسبون إليهم ما هم بُرآء منه، لم يعملوه، ولم يفعلوه، يحكون عن المؤمنين
والمؤمنات ذلك على سبيل العيب والتنقص منهم، وقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-:» أربى الربى عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ [والذين
يؤذون المؤمنين والمؤمنات ... الآية] «. [4] وقد قيل في معنى قوله -صلى الله
عليه وسلم-» من سمّع سمّع الله به «:» أي من سمّع بعيوب الناس وأذاعها
أظهر الله عيوبه «.
ج- ولأنه إشاعة للفاحشة، وقد قال الله تقدس اسمه: [إن الذين يحبون أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا
تعلمون] . [5] وقد شنع الله تعالى على الذين رموا عائشة بالإفك كذباً وزوراً
وتوعدهم بالعذاب الأليم.
وسواء أكان التشهير بحديث المجالس أو نظم هجاء من الشعر قال ابن قدامة:
» ما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين والقدح في أعراضهم فهو محرم على
قائله «.
2- إن كان المشهّرُ به بريئاً مما يشاع عنه، فهذا هو الإفك والزور والبهتان
والإثم المبين، وأدلة تحريمه قد سبق بعضها.
3 -إذاكان المُشهّرُ به يتصف بما قيل فيه، لكنه لا يجاهر به ولا يقع به
ضرر على غيره، فالتشهير به محرم؛ لأنه غيبة وأذى وإشاعة للفاحشة، ومن
المقرر شرعاً: أن السّتر على المسلم واجب لمن ليس معروفاً بالفساد، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:» أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود «. [6]
وقال -صلى الله عليه وسلم-:» من ستر مسلماً ستره الله عز وجل يوم ...
القيامة «. [7] قال النووي في شرحه:» وهذا الستر في غير المشتهرين «، والواجب في مثل هذا نصحه لا فضحه.
4- يحرم تشهير الإنسان بنفسه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
» كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عز وجل، ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه «. [8] ومن أصاب فاحشة فليستر على نفسه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:» من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله «. [9]
5- من جاهر بالمعصية جاز التشهير بفسقه، لأنه لا يستنكف أن يذكر
بمعصيته، قال أحمد:» إذا كان الرجل معلناً بفسقه فليست له غيبة «.
6 -إذا كان التشهير على سبيل نصيحة المسلمين وتحذيرهم: كجرح الرواة
والشهود، والتشهير بمن لا يحسنون الفتيا، أو يكتبون فيما لا يعلمون أو المبتدعة،
أو ممن يتظاهرون بالعلم وهم فسقة أصحاب سوء وفتنة فهو واجب.
قال القرافي [10] :» أرباب البدع والتصانيف المضلة ينبغي أن يشهر في الناس فسادهم وعيبهم، وأنهم على غير الصواب ليحذرها الناس الضعفاء فلا يقعوا فيها ... بشرط أن لا يتعدى فيها الصدق، ولا يفترى على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه، بل يقتصر على ما فيهم من المنفرات خاصة، فلا يقال في المبتدع: إنه يشرب الخمر ولا أنه يزني ولا غير ذلك مما ليس فيه، ويجوز وضع الكتب في جرح المجروحين من الرواة.. بشرط أن تكون النية خالصة لله تعالى في نصيحة المسلمين في ضبط الشريعة، أما إذا كان لأجل عداوة أو تفكه بالأعراض وجرياً مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصلحة عند الرواة «، وفي مغني المحتاج [11] : ينكر على من تصدى للتدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله ويشهر أمره لئلا يغتر به» .
7 -يجب على الحاكم إشهار إقامة الحدود، قال تعالى: (وليشهد عذابهما
طائفة من المؤمنين «. [12] قال الكاساني [13] :» والنص وإن ورد في حد
الزنى لكن النص الوارد فيه يكون وارداً في سائر الحدود دلالة؛ لأن المقصود من
الحدود كلها واحد، وهو زجر العامة، وذلك لا يحصل إلا وأن تكون الإقامة على
رأس العامة؛ لأن الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة، والغائبون ينزجرون
بإخبار الحضور، فيحصل الزجر للكل «.
__________
(1) الحجرات، آية (12) .
(2) أخرجه أبو داوود والترمذي، وقال: هذا حديث صحيح.
(3) الأحزاب، آية (58) .
(4) رواه أحمد وأبو داوود.
(5) النور، آية (19) .
(6) رواه أحمد.
(7) رواه مسلم.
(8) رواه البخاري ومسلم.
(9) رواه مالك والبيهقي والحاكم وصححه.
(10) الفروق (4/206) .
(11) مغني المحتاج (4/211) .
(12) النور، آية (2) .
(13) بدائع الصنائع (7/60) .(70/18)