مقال
التطهير!
عبد القادر حامد
تتردد كلمة (التطهير) وصفاً لعمليات الإجلاء القسري الوحشية التي يقوم بها ... ...
الصرب الأرثوذكس الموتورون ضد مسلمي البوسنة والهرسك، فلماذا يلجأون إلى
هذا المصطلح، وما الأثر النفسي الذي يتركه في نفوس وعقول مستخدميه؟
يعتقد هؤلاء الأوغاد أن المسلمين طارئون على هذه المنطقة، وليسوا أصلاً
من سكانها، بل وفدوا مع ما يسمونه الغزو العثماني الذي أخضع البلقان للدولة
العثمانية قروناً، لذلك هم يريدون تطهير البلقان من كل وجود إسلامي، لأنه
يذكرهم بسيطرة المسلمين التي يقض مضاجعهم مجرد تذكرها. ولأن العنصرية
نبت أوروبي متحدر من تأثيرات وثنية جاهلية، يونانية ورومانية، ولا علاقة لهذه
النبتة برسالات الأنبياء - ومنها رسالة المسيح عيسى بن مريم؛ فإن هؤلاء
ينظرون إلى غيرهم من أهل الأديان الأخرى هذه النظرة العنصرية البغيضة
ويشوهون التاريخ، ويحرفون حوادثه حتى يُرضوا نزعة التعصب الخبيثة في
نفوسهم.
وقد سمعنا أصداء هذه النزعة مراراً تصدر من هؤلاء المسيحيين الذين يتبرأ
منهم عيسى -عليه السلام-، بل هم عار على كل منتسب للإنسانية يحترم الحياة
والأحياء. سمعناها في لبنان عندما قال بعض نصاراها: (فليرجع المسلمون إلى
مكة) ، مع أن التاريخ يثبت أن هؤلاء النصارى بعضهم يرجع في أصوله إلى الصليبيين، وبعضهم إلى عائلات مسلمة تنصرت وبعضهم وفد إلى لبنان من هنا
وهناك عندما أصبح لبنان مرتعاً للمبشرين ومكاناً للقوى الغربية المتصارعة على
الأسلاب الإسلامية. وحتى بعد أن فُصِّل لبنان ملجأً للمسيحيين في الشرق،
وحشدت الطوائف النصرانية بالحراب الأوربية لتؤلف أغلبية مهيمنة ظل المسلمون
أكثرية أمكن إخفاؤها فترة، لكن انكشف اللعبة وأصبح يعرفها أشد أطفال المسلمين
جهلاً بالسياسة، كاثوليك وأرثوذكس، شرقيون وغربيون، أرمن ورومان ولاتين،
وبروتستانت، يسوعيون ومعمدانيون وفرنسيسكان.. خليط عجيب يوهم أن الإسلام
ذهب إلى غير رجعة ولم تقم له قائمة، ومع كل هذا الغزو المنظم، والتجمع اليائس، فإن حقيقة عدد المسلمين لا تسر هؤلاء الصليبيين إلى الحد الذي يجعلهم لا ...
يوافقون على إجراء إحصاء للسكان.
ونسمع هذه النزعة أحياناً في مصر، فإن نفراً من الأقباط يعتقدون - يا
للجنون - أن هذه الملايين من المسلمين المصريين هم أحفاد عمرو بن العاص ومن
كان معه من الجيش الذي فتح مصر. وأنهم - أي الأقباط - فقط هم أهل البلاد
الأصليون، وأن المسلمين معتدون واغلون غرباء! وربما تحدث بعضَهم أحلامُهم
المريضة أنهم سيعيدون عجلة التاريخ إلى الوراء، وأن مصر ستدفع المسلمين عنها، كما دفعت الهكسوس واليونان والرومان والإنكليز.
إن النصارى قوم شأنهم شأن واحد أينما وجدوا وحيثما حلوا، فإذا كانوا
أكثرية لا يستطيعون العيش مع المسلمين أبداً، ولا يزالون يضيقون على المسلمين
حتى يفتنوا بعضاً، ومن استعصى على الفتنة فإما القتل وإما التشريد والتجريد من
كل شيء. وإذا كانوا أقلية لا يرضى لهم طموحهم وكراهيتهم للمسلمين بغير أن
يحكموهم صراحة فإن استعصى ذلك عليهم فيقنعون بلعب دورهم كاملاً ولكن من
وراء حجاب. وإن هذه الأعصار - التي هان المسلمون فيها وتسلط عليهم الأعداء
من الداخل والخارج - تعينهم على مقاصدهم، وهي الفترة الذهبية السانحة، فتراهم
لا يضيعون الوقت لاقتناصها.
ينبغي أن لا ننخدع بهذه الألفاظ المخدرة التي يسمونها الحضارة، والتطور،
والتسامح، وحقوق الإنسان، ومحاربة العنصرية، فهي ليست إلا قشرة رقيقة هشة
تستر وحشية الأوربيين العنصريين الذين لا يفهمون الدين تربية وتهذيباً وإنما حقداً
وعنصرية وتعالياً على الآخرين. وهذا ما يجب أن توضح فيه وتفهم على ضوئه
هذه الكلمة الخبيثة: (التطهير) . فهم لا ينظرون إلى المسلمين على أنهم وسخ
عادي يحتاج إلى تنظيف وإزالة فقط، وإنما على أنهم رجس ونجاسة تحتاج إلى
تطهير، فهناك فرق في النظرة إلى الوسخ والنظرة إلى النجاسة، فالأول يزال
والنفس حيادية تجاهه، والثاني يزال والنفس منه متقززة، والطبع منه نافر.
وقد يُظَن أن الإعلام الأوربي غير موافق على هذا المصطلح الخبيث، ويلوم
الصرب على استعماله، والحق أن هذا الإعلام المدخول ينقله ويشيعه كما لو أنه
يتحدث عن منطقة موبوءة يراد تطهيرها من عوامل المرض، بل يزيد تضليلاً
وتلبيساً وكذباً حين يصف هذا التطهير (بالعرقي) حتى لا يثير حمية المسلمين
الدينية، فالأمر ليس إلا صراع قوميات، وما دام الإسلام يضم أقواماً من مختلف
الأجناس فالقضية لا تخصهم ما دامت بين قوميات! لكن القائمون على هذا الإعلام
يعلمون أن الصرب والكروات والمسلمين كلهم يرجعون إلى أصول عرقية واحدة،
ولا يكاد الناظر إليهم يفرق بين فئة وفئة، فأشكالهم وألوانهم وملامحهم واحدة لكن
فرقتهم العقائد.
لكن الصرب المتعصبين لم يتركوا الأمر غامضاً، وأفصحوا عما في نفوسهم
تجاه الإسلام والمسلمين، فهم يصرحون أنهم يقاتلون من أجل تطهير أوربا من
المسلمين وإنقاذها من الإسلام، وأنهم هم حماة بوابة أوربا، وأنهم لا يزالون
يقاتلون المسلمين منذ خمس مئة سنة وأنهم يشعرون أنهم خلفاء البيزنطيين. وهذا
ليس شعور الصرب وحدهم؛ بل شعور كل من يشاركهم في العقيدة أو كراهية
الإسلام وإن غطت على هذا الشعور كثير من الادعاءات والأكاذيب التي يقصد منها
الخداع.
ينبغي على المسلمين في كل مكان أن يدركوا أنهم لم يكونوا - ولن يكونوا -
في حساب من وضعوا لوائح الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فلا مبادئ الثورة
الفرنسية يوم أعلنت عُني بها المسلمون؛ ولا ميثاق جنيف لحقوق الإنسان خطر
المسلمون على بال من أقروه. ولا هذه الـ (أل) الداخلة على كلمة (إنسان) هي
(أل) الجنس التي تفيد العموم في اللغة، وتشمل كل من يصدق عليه وصف إنسان
عند العقلاء؛ بل هي (أل) التي للعهد، والتي يقفز إلى الذهن عند ذكرها مع
مصحوبها الإنسان الأوربي أو الإنسان المسيحي، أو بصراحة ودون لف ودوران:
الإنسان ما لم يكن مسلماً! !
ولئن أصاب المسلمين نعيم حقوق الإنسان وتذوقوا حلاوتها فإنما ذلك يأتي تبعاً
غير مقصود، وذلك حين يعيش بعض المسلمين أقلية لا وزن لها في مجتمع من
المجتمعات المسيحية، لكن حين تصبه هذه الأقليات شيئاً يؤبه له يتغير كل شيء،
ويسحب منهم هذا الامتياز الذي يضفي عليهم صفة الإنسانية. وفي قولنا هذا شيء
من التجوز، فلا يسمح المسيحيون - ولن يسمحوا - أن تتحول الأقليات الإسلامية
التي تعيش بين ظهرانيهم إلى شيء ذي بال يؤبه له، هكذا يقول التاريخ القديم
والحديث.
لا بد أن يدرك المسلمون الخطر المحدق بهم، فإن الضغط عليهم لم يخف،
وما زال الغرب يضغط لشيوع المفاهيم النصرانية التي تزحم الإسلام وتدفع به إلى
زوايا النسيان، على الرغم من خواء هذا الغرب من الدين الصحيح، وإن التقدم
العلمي وسرعة الاتصال، الذي اختصر المسافات، بل يكاد يلغيها؛ يجعل رحيل
الاستعمار عن بلاد المسلمين أمراً يحيط به الشك ويكذبه الواقع.
ولا بد لنا في النهاية أن ندرك أن هوان الأقليات الإسلامية المحرومة من
الحقوق والمسلط عليها الفناء والاضمحلال هو نتيجة حتمية لهوان الأكثرية
الإسلامية في بلادها، وتفرق شملها، وذهاب ريحها، وعدم وعيها بالواقع المحيط
بها، والمخاطر التي تتهددها.(55/39)
أحوال
شعر:محمود مفلح
غداً أمضي وبعد غد أعودُ ... كأني لا أُرادُ ولا أُريد!
ويثقل في دروب النور خطوي ... وفي هذا الدجى بصري حديد
وما لي قد حنْيتُ اليوم ظهري ... وأزعُمُ أنني رجلٌ شديدُ
وأزعم أنَّ ملءَ السمع ذكري ... وذكري مثل صاحبه بليدُ!
وأزعمُ أنني ما زلتُ غضّاً ... وفوق الطوْق قد شبّ الحفيد! !
وأمضي كالكفيف إلى مصيري ... وأمضي لا أتيه ولا أحيدُ
وأعجب كيف لا اسطيعُ نُطقاً ... وتحتَ لساني الدرُّ النضيدُ! !
عتبتُ عليك يا زمنَ الأفاعي ... أتعبثُ في مصائرنا القرود؟
أتحكمنا النذالة والنفايا ... وترسمُ ما تشاء وما تُريد؟
عتبتُ عليك كيف تشل ساقي ... ويَخفقني بدرِّتك العبيدُ؟
تواريني التراب ولستُ ميتاً ... كما واريتني وأنا وليد
لماذا يا عدوَّ الله تبكي ... وقلبُك من فظاظته حديد؟ ؟
ألفناها دموعَ الذل حتى ... سئمنا ما نقولُ وما نُعيد
تجودُ وما علمتُ لديك شيئاً ... تجودُ به، فكيف إذن تَجود؟ ؟
وتعييني الإجابةُ يا صديقي ... فبحر الصمت ليس له حدود
كتبت على جدار الصبر شعري ... فلم يبق الجدارُ ولا القصيد!
وعبدّتُ الطريق فما مشينا ... وبيضتُ الهمومَ وهن سود
وكم أَرّخْتُ من عطشي فصولاً ... لتزهر في أكفكمُ الورودُ!
وكم أنذرتكم في الصبح جيشاً ... وقلت لكم لقد رجعت يهود!
وتزحف هذه الخمسون نحوي ... أَوَ عْدٌ يا جُهينةُ أم وَعيدُ؟ ؟
إليكَ إليكَ يا وطني المفدى ... وأدري أنه قُطع البريد
فلا الزيتون في عيني ذاو ... ولا عِنب الخليل به صدود
عشقتكِ يا جبال النار طفلاً ... ونارُ العشقَ ليس لها خمودُ
أمدّ عليك حين الحرّ جفني ... ويرعشُ حين أذكرك الوريدُ
وحاشا أن أخون العهد يوماً ... وحاشا أن يساورني الجحود
أنحيا كالقطيع ولا نبالي ... ونزعمُ أنه العيش الرغيد؟
وتنسلخ البلاد بساكنيها ... وتُنتهك الحدود فلا حدود
ونمضغ ذلَّنا والعارُ يمشي ... على أكتافنا وله جنودُ
وكيف ألمُّ يا أبتاه صوتي ... ويخرسُ فوق حنجرتي النشيدُ؟ ؟(55/44)
الحركة العلمية
في بلاد الحجاز في العصر الأموي
د. محمد آمحزون
لا يختلف الباحثون المنصفون على أن تاريخ الدولة الأموية في حاجة ملحة
إلى إعادة تقويم وتنقيح ودراسة موضوعية، إذ لا يغيب عن البال أن التاريخ
الأموي كتب في العصر العباسي. ودارس التاريخ لا يخفى عليه ما قام به
الأخباريون الشيعة بوضع كثير من الروايات التي تسيء إلى الأمويين، وما قام به
العباسيون كذلك في سبيل طمس مآثر الأمويين.
ومن أجل ذلك اختلف الباحثون في حكمهم على العصر الأموي بين مؤيد يعلي
من مكانتهم ويرفعهم إلى فوق ما يستحقون، ومعارض لا يرى لهم أي فضل أو
مكرمة، بل يرى في فترة حكمهم صفحة قاتمة في سجل التاريخ الإسلامي الحافل.
لكن باستعمال الميزان الشرعي الدقيق الذي ينزل الناس منازلهم التي يستحقونها
بالإنصاف والعدل، يمكن القول أن التاريخ الأموي كان مزيجاً من المزايا
والنواقص، والمحاسن والمساوئ تيسر لنا فهم التطور الإجمالي لهذا العصر. ففي
الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في باب: (كيف الأمر إذا لم تكن جماعة) ...
عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا
الخير من شر؟ قال: (نعم) ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، ...
وفيه دخن) . قلت وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم
وتنكر) [1] .
قال بعض العلماء مثل القاضي عياض والحافظ ابن حجر أن المراد بالشر
الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان - رضي الله عنه - والمراد بالذين تعرف منهم
وتنكر حكام وأمراء بني أمية [2] وهم بذلك خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
ومن هنا ينبغي إعادة قراءة التاريخ الأموي قراءة واعية منصفة تستند إلى
الموضوعية والاستقراء الدقيق؛ فبرغم ما في عصرهم من اضطراب سياسي
واجتماعي وظلم وجور، فإن الحكام والأمراء قد اعتنوا بدعم مسيرة الفتح الإسلامي، وتشجيع العلم، مما سبب تنافساً عظيماً بين العلماء في تحصيل العلوم ونشرها،
والتأليف في مختلف ميادين المعرفة.
التفسير:
عند دراسة الحياة العلمية في بلاد الحجاز في العصر الأموي يستطيع الباحث
أن يتتبع نشوء التفسير القرآني وتطوره في القرن الأول الهجري على نحو أوضح
من كل فروع المعرفة الأخرى. ويرجع ذلك إلى عناية المسلمين بدراسة كتاب الله
في المقام الأول.
وقد تولى الله -سبحانه وتعالى- حفظه بقوله: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] [3] . ومن معاني هذا الحفظ أن هيأ له عقولاً ثاقبة، وقلوباً واعية،
وجهوداً متضافرة عنيت بتفسيره، وإيضاح معانيه، وكشف أسراره، وبيان أحكامه. ويعتبر الصحابي عبد الله بن عباس (المتوفى سنة 68/687 م) شيخ المفسرين في
تلك الفترة. فقد كان بحق حَبْرَ الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير [4] . وتعده
الروايات الإسلامية أول المفسرين حتى وصف بأنه «ترجمان القرآن» [5] . ولا
غرابة في ذلك، إذ دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اللهم علمه
التأويل وفقهه في الدين» [6] .
وروى الفَسَوي في تاريخه بإسناد صحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -
قال: (لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل) . وكان يقول: (نعم
ترجمان القرآن ابن عباس) [7] . وذكر هذه الزيادة ابن سعد في الطبقات من
طريق آخر عن عبد الله بن مسعود [8] .
وروى الفَسَوي أيضاً بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: «قرأ ابن عباس
سورة النور، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت» [9] .
ولم يكن ابن عباس - رضي الله عنه - متضلعاً في علم التفسير فحسب، بل كان
ملماً بعلوم أخرى وهي الفقه والمغازي والشعر واللغة وأيام العرب. وكان يوزع أيام
الأسبوع على هذه العلوم حتى لا يحدث على باب بيته الزحام، ومعنى ذلك أنه عني
بها تدريساً وبحثاً.
وقد تتلمذ على يد ابن عباس - رضي الله عنه - جلة التابعين ومنهم: مجاهد
بن جبير، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولاه، وأبو العالية الرياحي، وطاووس بن
كيسان، وعطاء بن أبي رباح، والسدِّي صاحب التفسير، وأبو الزبير المكي
المقرئ، وغيرهم [11] . وذكر الحافظ المزي في التهذيب: أن الرواة عنه مئتان
سوى ثلاثة أنفس [12] .
وبلغ ابن عباس - رضي الله عنه - من مجد التعليم غايته، ذلك أن معاوية
بن أبي سفيان - رضي الله عنه - خرج حاجاً، وخرج ابن عباس حاجاً أيضاً،
ولم يكن له صولة ولا إمارة، فكان لمعاوية موكب من رجال دولته، وكان لابن
عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم [13] .
ومن الملاحظ أن تفسير القرآن لابن عباس كان أول دراسة في علم المفردات
عند المسلمين، إذ كان يتتبع منهجاً فريداً في شرح الكلمات الصعبة والكلمات
المعربة في القرآن الكريم بشواهد من الحديث الشريف [14] وآثار كبار
الصحابة [15] والشعر الجاهلي، حيث شرح المائتي الكلمة التي سأله عنها نافع بن الأزرق - أحد زعماء الخوارج - بشواهد من الشعر الجاهلي [16] . واعتمد من ناحية أخرى في شرح دلالات هذه الكلمات على أحد المخضرمين، وهو أبو الجلد جيلان بن فروة الذي يعد من قراء الكتب القديمة [17] كما ورد في المقتبسات الباقية التي ترجع إليه اسمان ليهوديين أسلما، هما كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وكانا على علم بالعهد القديم [18] .
وتحسن الإشارة إلى أن تفسير ابن عباس كان موضع تقدير العلماء، فقد قال
أحمد بن حنبل: (بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة (عن ابن
عباس) لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً) [19] . ومن آثار ابن
عباس -رضي الله عنه-:
* تفسيره الذي وصل إلينا كاملاً بين دفتي (جامع البيان في تأويل آي القرآن) للإمام الطبري.
* غريب القرآن: تهذيب تلميذه عطاء بن أبي رباح، ويوجد مخطوطاً في
مكتبة عاطف أفندي بتركيا [20] .
* مسائل نافع بن الأزرق (في التفسير) : توجد منه قطع في الظاهرية بدمشق، وفي دار الكتب المصرية بالقاهرة. كما وصلت قطع منه في كتاب الكامل للمبرد، وفي فضائل القرآن لأبي عبيد، وفي الوقف والابتداء لأبي بكر ابن الأنباري [21] .
* مسنده: وهو ألف وست مائة وستون حديثاً، وله من ذلك في الصحيحين
خمسة وسبعون [22] .
* فتاوى: قال ابن حزم في كتابه (الأحكام) : جمع أبو بكر محمد بن موسى
بن يعقوب بن المأمون أحد أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتاباً [23] .
وقد ترك ابن عباس عدداً من الطلاب كان لهم أثر كبير في نشر العلم، حيث
أنشأوا - كأستاذهم - عدة حلقات للدراسة كان الطابع الغالب عليها هو التفسير، ثم
سائر العلوم الأخرى كالحديث وأيام العرب والشعر. وكان كل واحد من هؤلاء
مدرسة متنقلة همها التفسير والحديث والفقه. وفي خضم هذا النشاط العلمي المكثف
برزت مدرسة مكة للتفسير التي كان عمادها أصحاب ابن عباس من أمثال سعيد بن
جبير، ومجاهد بن جبر، وطاووس بن كيسان اليماني، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة وغيرهم.
ومن أبرز علماء التفسير في تلك الفترة سعيد بن جبير (المتوفى سنة 95 هـ/ 714 م) . ويعدّ من أكثر التابعين علماً ومكانة، ومن أوائل مفسري القرآن الكريم.
روى ابن سعد والفَسَوي عن ميمون بن مهران قال: «قد مات سعيد بن جبير وما
على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، قال: أرى في التفسير» [24] .
حدّث عن ابن عباس فأكثر عنه، كما روى عن ابن عمر وعائشة وعدي بن
حاتم وأبي موسى الأشعري. وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وأيوب السختياني
والزهري وغيرهم [25] . وكان ابن جبير من طلاب ابن عباس النشيطين،
يحضر مجالسه ويستمع إلى أسئلة الحاضرين، فيدون أجوبته في الصحف التي كان
يحملها معه إذا ذهب إليه. وكان على علم بالحساب، ولذلك كان الناس يسألونه عن
الفرائض. وكان يجلس لطلاب العلم بعد صلاة الفجر وصلاة العصر يقرأ لهم
القرآن ويفسر لهم [26] .
ومن خلال الروايات التي سردها الإمام الطبري في (جامع البيان) يبدو أن
تفسيره صنفان: أحدهما لغوي [27] والآخر تاريخي [28] تناولا النص القرآني،
ويذكر أنه كان يتعهد تفسيره بالتعديل والتهذيب [29] . وقد اشتهر تفسير ابن جبير، ورواه عنه جماعة من الشيوخ منهم الضحاك بن مزاحم (المتوفى سنة 105هـ/
723 م) [30] .
ومن رواد التفسير في ذلك العصر مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي، شيخ
القراء والمفسرين [31] (المتوفى سنة 104 هـ/722 م) . كان أحد تلاميذ ابن عباس
المقربين إليه، روى عنه فأكثر، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه [32] . كما
روى عن أبي هريرة وعائشة وجابر بن عبد الله، وتتلمذ عليه ابن كثير المقرئ
وابن أبي نجيح والحكم بن عتيبة وغيرهم [33] .
لازم مجاهد ابن عباس وعرض عليه القرآن ثلاث عرضات من أوله إلى
آخره، يوقفه عند كل آية، فيسأله عنها وعن وقت نزولها وأسباب النزول، فيحفظ
ذلك ويكتبه، حتى تكون من ذلك تفسيره المأثور الذي اعتمد عليه الطبري في
تفسيره [34] . ولذلك أثنى عليه قتادة بن دعامة السدوسي بقوله: «أعلم من بقي
بالتفسير مجاهد» [35] . وقال عن نفسه: «استفرغ علمي القرآن» [36] . وقد
غلب على مجاهد الرأي في إصدار الأحكام، ولذلك كان من أوائل أتباع التفسير
العقلي للقرآن الكريم. وفي تفسيره كثير من المجاز وتعبيرات المشبهة، لكن يبدو
أنه أعرض عن ذلك فيما حكاه عنه الأعمش: (ما أدري أي النعمتين أعظم، أن
هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء) [37] ؛ يقصد المشبهة والقدرية ومذهب ...
الجهمية [38] .
وكان بعض تفسيره يؤخذ بتحفظ، وذلك لأنه كان يسأل كثيراً علماء النصارى
وأحبار اليهود، مما جعله ينقل أقوالاً وغرائب في التفسير تستنكر. فقد ذكر أبو
بكر بن عياش أنه استفسر الأعمش بقوله: ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال:
كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب [39] . أما تفسيره فقد وصل إلينا برواية عبد الله
بن أبي نجيح (المتوفى سنة 131 هـ/748 م) [40] .
ومن أوائل المفسرين عطاء بن أبي رباح (المتوفى سنة 114 هـ/732 م) ،
فهو مفتي مكة ومحدثها، ومن تلامذة ابن عباس المشهورين [41] . روى عن
جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو هريرة وعائشة [42] . وتخرج عليه
جماعة من أشهر الفقهاء والمفسرين والمحدثين أخذوا علمه ونشروه في الآفاق،
فكان منهم من نشره في الحجاز، ومنهم من نقله إلى اليمن، ومنهم من أصدره إلى
الشام والعراق، ومن هؤلاء الأوزاعي فقيه الشام، والزهري المحدث، وابن جريج
وأبو حنيفة النعمان وغيرهم [43] .
كما اشتهر في تلك الفترة من بين علماء التفسير محمد بن كعب القرظي
المدني (المتوفى سنة 118 هـ/736م) . وقد قيل إنه من أعلم الناس بالتأويل [44] ...
وكان مثل وهب بن مُنَبِّه قاصاً من القصاص يقص في المسجد [45] ، ولذلك غلب
عليه الطابع التاريخي. ويتضح من بعض الروايات التي ذكرها الإمام الطبري في
تاريخه أن ابن اسحاق استخدم كتاباً للقرظي ذا مضمون تاريخي [46] . ويبدو أنه
كتاب في التفسير يتضمن معلومات تاريخية، لأن الرجل اشتغل بعلم التفسير
والأخبار. وهكذا وجدت أقوال محمد بن كعب القرظي سبيلها إلى تاريخ الطبري
عن طريق سيرة ابن اسحاق وكان هذا الأخير يأخذ أخبار المغازي من رواة أهل
المدينة، فيتتبع غزوات النبي من أولاد اليهود الذين أسلموا، ومنهم القرظي. كما
كان يرجع في أخبار الأمم السالفة إلى أقوال من لهم علم بالكتاب الأول، وكان
القرظي أحدهم. أما الأخبار المروية عنه، فهي في سير الأنبياء والرسل، وفي
انتشار الديانة اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود في
الحجاز [48] . وقد كان القرظي من المقربين إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز
لمعرفته السابقة به حين كان عاملاً على المدينة. فلما ولى الخلافة كان يذهب إليه،
ويتحدث معه في الزهد وفي القصص وفي التفسير الذي اشتهر به [49] .
__________
(1) أخرجه البخاري فى الجامع الصحيح: كتاب الفتن 8/92.
(2) ابن حجر: فتح الباري 13/36.
(3) سورة الحجر 9.
(4) الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/331.
(5) ابن سعد: الطبقات 2/366.
(6) أخرجه أحمد في المسند 1/266، 316، وصححه الحاكم في مستدركه ووافقه الذهبي 3/534.
(7) الفَسَوي: المعرفة والتاريخ 1/495.
(8) ابن سعد: المصدر السابق 2/366.
(9) الفَسَوي: المصدر السابق 1/495.
(10) ابن الاثير: أسد الغابة 3/193.
(11) الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/333.
(12) الذهبي: المصدر نفسه 3/333.
(13) الذهبي: المصدر نفسه 3/351.
(14) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب التفسير 5/194.
(15) ابن حجر: الفتح 8/734.
(16) السيوطي: الاتقان في علوم القرآن 1/149-165.
(17) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (طبعة دار لمعارف 1/ 340، 342، 343.
(18) الطبري: المصدر نفسه، انظر مثلاً 11/143-150.
(19) السيوطي: المصدر السابق 2/223.
(20) سزكين: تاريخ التراث العربي 1/67.
(21) سزكين: المصدر نفسه 1/68.
(22) الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/358.
(23) ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام 5/92.
(24) ابن سعد: المصدر السابق 6/266، والفَسَوي: المصدر السابق 1/ 712.
(25) ابن حجر: تهذيب التهذيب 4/11.
(26) ابن سعد: المصدر السابق 6/259، وابن العماد: الذرات 1/108.
(27) الطبري: جامع البيان، انظر مثلاً 1/300.
(28) الطبري: المصدر نفسه، انظر مثلاً 1/282.
(29) ابن سعد: المصدر السابق 6/266.
(30) ابن سعد: المصدر السابق 6/301.
(31) الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/449.
(32) ابن سعد: المصدر السابق 5/466، والذهبي: سير أعلام النبلاء 4/ 450.
(33) ابن حجر: تهذيب التهذيب 10/42.
(34) أبو نعيم: حلية الأولياء 3/279، وابن عساكر: تاريخ دمشق الكبير 16/127.
(35) ابن عساكر: المصدر السابق 16/128.
(36) الفَسَوي: المصدر السابق 1/712.
(37) أبو نعيم: المصدر السابق 3/297.
(38) الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/455.
(39) ابن سعد: المصدر السابق 5/467.
(40) الطبري: جامع البيان 2/66، 114، 518.
(41) الفَسَ. وي: المصدر السابق 1/701.
(42) ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/199.
(43) الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/79-80.
(44) الذهبي: المصدر نفسه 5/68.
(45) ابن حجر: تهذيب التهذيب 9/421-422.
(46) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 1/216-217.
(47) ابن حجر: تهذيب التهذيب 9/45.
(48) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 1/138، 2/104.
(49) الطبري: المصدر نفسه 1/138.(55/47)
المسلمون والعالم
دماء ودموع البوسنة:
على من تعرض الصور؟
أحمد بن راشد بن سعيّد
حرب الإبادة التي يشنها الصليبيون الصرب على مسلمي البوسنة والهرسك
هي (هولوكوست) [1] حقيقي وليس مختلقاً، وكأن دماء المسلمين وأشلاءهم هي ...
التي دائماً تفضح الزيف وتبدد الخرافة من (لا إله والحياة مادة) إلى (أفران ...
ومعسكرات النازية) .
هكذا إذن! وتذكرني مذابح المسلمين التي لا يصدق أن إنساناًيمارسها ضد
إنسان في أواخر القرن العشرين، وفي قلب أوروبا المتحضرة الراقية (..)
تذكرني إلى حد ما بما فعله الصليبيون في بيت المقدس عندما ذبحوا مائة ألف مسلم
حتى خاضت الخيول إلى الركب في دماء المسلمين. وانتقد أحد القساوسة قومه
قائلاً إنهم أسرفوا في قتل المسلمين وسفك دمائهم..
وكما أجمع صليبيو القرن العشرين على تصفية المسلمين الفلسطينيين
وتشريدهم، يجمعون اليوم على ذبح مسلمي البوسنة والهرسك وتهجيرهم وإذلالهم.
وتنبعث من هنا وهناك أصوات غربية تستنكر هذه المذابح. وقد كتبت مجموعة من
النصارى في صحيفة الغارديان البريطانية رسالة تشجب فيها (سياسة التطهير ...
العرقي واضطهاد المسلمين بسبب دينهم وثقافتهم) [2] . ومعظم المنددين ... من النصارى واليهود يفعلون ذلك ليس حباً للمسلمين وإشفاقاً عليهم، بل خوفاً من تنامي الإسلام وظهوره في أوروبا بشكل أكبر، وهو ما عكسته مارغريت ثاتشر ... عندما ذكرت أن بقاء المسلمين في البوسنة أمر مطلوب للقضاء على فرص ... ... (تشددهم) الإسلامي، والذي سينتج حتماً عن سياسة تمزيقهم وإخضاعهم لحكم
أجنبي. وقرنت تاتشر بين الهجرة البوسنية والهجرة الفلسطينية قائلة إن يأس البوس نيين المسلمين قد يدفعهم إلى (الإرهاب) ، وعندئذ تكون أوروبا قد صنعت (قنبلة ... إسلامية موقوتة) [3] .
مجلة نيوزويك الأمريكية أكدت أن غالبية القتلى والمشردين والمعتقلين هم من
المسلمين، وأنهم بدون مساعدة من الغرب سيلجأون إلى إخوانهم في الإسلام [4] .
الصحافة الغربية تناقلت صوراً وأخباراً عما يتعرض له المسلمون من مذابح
وترويع واعتقال وتعذيب. أكثر من 120 معسكراً حشر فيه الصرب آلاف ...
المسلمين والمسلمات. معظم هؤلاء المعتقلين ليسوا «سجناء حرب» ، بل
اختطفوا من بيوتهم ليعذبوا ويجوعوا ويقتلوا. روي كوتمان مراسل صحيفة
نيوزدي النيويوركية نقل عن شاهد عيان قوله أن معسكر أومارسكا في شمال غرب
البوسنة يضم ألف معتقل، منهم كل النخبة السياسية والثقافية في مدينة بريجدور،
وأن الصرب يعدمون 10-15 شخصاً كل بضعة أيام [5] . إحدى النساء المعتقلات
في المعسكر قالت لمراسل شبكة أي. بي. سي الأمريكية وولتر رودجرز في غفلة
عن أعين الصرب: هذا معسكر متوحش، لا تصدق ما يقولون، هنا تجري مذابح، قتل في هذه المنطقة 800 طفل وامرأة، مئات من الرجال مفقودون. قال لها
المراسل تعالي وقولي هذا الكلام أمام الكاميرا، فأجابت وعيونها تنطق بالرعب
وهي تشير بأصبعها إلى حلقها على هيئة الذبح: لو فعلت ذلك لقتلوني الليلة [6] .
اليجا لوجينوفك وهو مسلم كان معتقلاًً في معسكر بركوعلى على ضفة نهر
سافا في شمال غرب البوسنة قال أن الصرب ذبحوا 1350 شخصاً من معتقلي
المعسكر بتقطيع حلوقهم بالسكاكين ثم ألقوهم عرايا في نهر سافا وهم يقولون (هذا
طعام الأسماك) . لوجينوفك قال أن الصرب ذبحوا مئات آخرين وأحرقوا جثثهم لإطعامها للحيوانات حتى طبق الدخان أجواء المعسكر. وذكر ليوجينوفك أن المسلمين لاقوا كل صنوف الإذلال والتعذيب الصربي من تدنيس المساجد إلى ذبح وتشويه السجناء الرجال، إلى الاغتصاب الجماعي للنساء، وأنه رأى بأم عينه عشرة رجال قطعت حلوقهم بالسكاكين، وجدعت أنوفهم، وقطعت أعضاؤهم التناسلية. كان الصرب في البداية يستعملون الرصاص ثم عدلوا إلى قطع الحلوق. يؤتى بالمسلم فيرقد على ضفة سافا ويوضع رأسه على حجر، ويهيأ بحيث ينسكب دمه في النهر. بعد شهر من عمليات الذبح هذه لتسعة أعشار المعتقلين، التفت الصرب إلى أهالي القرى الذين لم يعتقلوا فملأوا بهم المعسكر، ثم قاموا بذبحهم كما فعلوا بأسلافهم. لجنة الحكومة البوسنية لجرائم الحرب تقول أن ثلاثة آلاف شخص ذبحوا في المعسكر بين أوائل شهر مايو وأوائل يونيه [7] .
صحيفة الاندبندنت البريطانية نقلت عن شاهد عيان واسمه مرساد (أستاذ
جامعة) قصصاً عن التعذيب والقتل التي تعرض لها المعتقلون في معسكر بركو.
بعض المعتقلين ضربوا حتى الموت، وبعضهم سلطت عليهم كلاب مجوعة لم تذق
طعاماً لعدة أيام. الضحايا - كما يقول مرساد - ظلوا يصرخون ويبكون والكلاب
تنهشهم حتى قضى منهم عشرة من الجراح والآلام. الشاهد ذكر أيضاً أن خمسين
شخصاً كانوا يؤخذون يومياً من المعسكر ثم لا يعودون، وقدر عدد الذين قتلوا في
المعسكر بما في ذلك الذين قتلهم الصرب عند الاستيلاء على بلدة بركو بخمسة آلاف
شخص [8] .
الاندبندنت والغارديان نقلتا عن مرساد أن فتاة صربية ابنة لإحدى المومسات
تفننت في تعذيب المعتقلين، حيث كانت تقوم بكسر القوارير واستعمال شظايا
الزجاج لبقر البطون وسمل العيون وجدع الأنوف. يقول مرساد أن مظهر الفتاة لم
يكن يدل على هذه الوحشية والإجرام وقد ذهلنا من صنيعها. كانت تعذب المعتقلين
وهي تضحك. بالطبع كانت سعيدة بذلك. مرساد فرّ ليلاً من المعسكر وآخرون
عابرين نهر سافا وقد قتل الصرب بعضهم أثناء الفرار [9] .
الاندبندنت نشرت صورة مسلم ذبحه الصرب، وتوضح الصورة أن يديه
مقيدتان بالحديد وأن حلقه مقطوع بالسكين [10] . الغارديان نشرت صورة مسلم
قتيل ملقى في نهر درينا خارج مدينة غوارزدي وقد شوه وجهه تماماً وقطعت
أصابعه، كما نشرت صورة أخرى لجثث قتلى مسلمين طافية على سطح
النهر [11] .
صحيفة نيوزدي وصفت الوضع المأساوي لمعسكر بوسانكي ساماك الذي حشد
فيه الصرب بوسنيين وألبانيين مسلمين وكروات. سجين سابق روى للصحيفة كيف
يجلد المعتقلون بقضبان الحديد والعصي الغليظة حتى تنزف دماؤهم ويغشى عليهم،
وكيف يعذبون بحرمانهم من الماء وقضاء الحاجة وإعطائهم وجبة واحدة فقط خلال
24 ساعة هي عبارة عن قطعة خبز صغيرة مع شيء من المربى. وذكر الشاهد
أيضاً أن بعض المعتقلين يجبرون على أكل الرمل أو ازدراد غائطهم أو ممارسة
الفاحشة مع معتقل آخر. الشاهد روى كيف قام الصرب بتعذيب شاب ألباني بجرح
حلقه بالسكين وضربه ضرباً مبرحاً ثم قطع ذراعه، كما روى كيف صف الصرب
المعتقلين وقتلوا 15 منهم رمياً بالرصاص، ثم أمروا الشبان الصغار أن يحملوا
الجثث ويضعوها في شاحنة، وأمروا بقية المعتقلين بتنظيف الأرض من (بركة)
الدماء [12] .
الجمعية الدولية لحقوق الإنسان أكدت في تقرير مطول لها أن آلافاً أعدمهم
الصرب في معسكر لوكر وأن ثمانية آلاف أعدموا في مانياتشا، وأن قطع الحلوق
والتعذيب بالزجاجات المكسورة وتسميم الأطفال هي من الطرق الإرهابية الشائعة
التي يرتكبها الصرب [13] .
مجلة تايم أوردت تقريراً مفاده أن الصرب في مدرسة ابتدائية في براتوناك
استنزفوا دماء خمسمائة مسلم حتى الموت من أجل إمداد الصربيين الجرحى بالدم.
وفي بلدة فوكاسكا علق الصرب السجناء من أرجلهم، ثم استعملوا آلات حادة لسمل
عيونهم [14] . مراسل مجلة نيوستيتسمان سوسيتي البريطانية ذكر أنه عندما كان
في مدينة دوبرينجا واحتل الصرب حياً من المدينة، قاموا (بتطهيره) من المسلمين. يقول المراسل أن هذا (التطهير) يعني قطع حلوق أكثر الرجال أمام زوجاتهم وأطفالهم [15] . المجلة نقلت أيضاً عن ستيف وات (عامل إغاثة) قوله ... أن كل صربي يحصل على ما يعادل 300 جنيه استرليني مقابل كل طفل يقوم ...
بقتله [16] .
مراسلة الغارديان ماغي أوكين كتبت خبراً تحت عنوان (كابوس المسلمين
تحت شمس يوغسلافيا الطويلة الحارة) روت فيه مأساة أهالي القرى الإسلامية
ومعاناتهم على يد الصرب. عندما احتل الصرب قرية كوساراك فر بعض النساء
والشيوخ والأطفال، لكن الصرب طوقوهم وقالوا لهم: (أين الله الذي تعبدون الآن، سوف (نجامعكن) [*] جميعاً أيتها النساء المسلمات) . ماغي روت أيضاً كيف ...
حبست مجموعات كبيرة من المسلمين في عشر عربات قطار مخصصة للأبقار
وكيف حرموا من الطعام والشراب. الإيكونومست أيضاً روت الحادثة قائلة أن
الصرب حشروا أهالي إحدى عشر قرية إسلامية تحت تهديد السلاح في قرية واحدة
لثمانية عشر يوماً، ثم رحلوهم في عربات قطار مخصصة للأبقار ليس فيها ماء
ولا طعام. النساء كن يبكين والأطفال يصرخون والصيحات تتردد: ماء.. ماء..
نريد فقط كأساً من ماء! كان الطقس شديد الحرارة، والعربات مكشوفة لأشعة
الشمس، ولا توجد فيها حمامات. إحدى النساء قالت: (كان الواحد منا يغشى عليه ...
ثم يفيق، يغشى عليه ثم يفيق) . عند إحدى المحطات أخذ الصرب مجموعة من
الفتيات الصغار، ثم لم يرين بعد ذلك. مكث المسلمون داخل هذا الجحيم خمسة أيام
بلا ماء ولا طعام، وهم يصرخون ويضربون النوافذ بأيديهم، وقد توفي بعضهم.
في نهاية المطاف تم ترحيل النساء والأطفال إلى كرواتيا، وأخذ الرجال ليسجنوا
في ملعب بوسانكي نوفي الرياضي [17] .
أعراض تنتهك.. ولا معتصم
اعتقال المسلمات واغتصابهن، سيما صغيرات السن (13 سنة فما فوق) ،
أصبح ظاهرة مفزعة في المناطق التي يستولي عليها الصرب. الصحافة الغربية
روت قصصاً مطولة عن إذلال المسلمات واغتصابهن. الاندبندنت نقلت عن أربع
مسلمات في سراييفو أن البوسنيات يتعرضن لاغتصاب جماعي وسلب أمتعة وحلي
وأشكال مختلفة من الضرب والإذلال. ثلاث فتيات تتراوح أعمارهن بين الخمس
عشرة والعشرين قلن إنهن ومائة امرأة أخرى تعرضن لاغتصاب الصرب مراراً
خلال سبعة أيام بعد اعتقالهن في مدرسة في بلدة روجاتيكا. امرأة مسلمة قالت: (أنا أعرف الناس الذين أحرقوا بيتي وسرقوا أشيائي وأخذوني سجينة.. إنهم ...
أصدقائي وجيراني) . الصرب نقلوا هذه المرأة وابنتها ذات العشرين ربيعاً إلى سراييفو ومعهما قرابة 300 شخص حبسوا لأسبوع في المدرسة. الفتاة قالت: إن مسلحين أخذوها من المدرسة في ليلة الأول من أغسطس واقتادوها والسكين مشهرة على حلقها لثلاث ساعات إلى شقة جار صربي ذكرت اسمه. قالت الفتاة: (اغتصبني جاري أولاً، ثم تبعه الباقون، وظللت اغتصب أربعة ... ليال) . أم الفتاة (قتل زوجها في المعارك) قالت: (عندما جاء الصرب إلى المدرسة حاولت حماية ابنتي والبنات الأخريات، لكنهم ضربوني وركلوني ... بأحذيتهم.. لم يكن هناك ما أستطيع عمله) ، وأضافت أن كل الشابات المحبوسات ... في المدرسة (أكثر من مائة شابة) تعرضن للاغتصاب، وفيهن أمهات بأطفالهن، وأن ابنة عمها توفيت في المدرسة [18] .
فتاتان أخريان (أختان) وصلتا إلى سراييفو قالتا أن مجموعة صربية تناوبت
على اغتصابهما. إحداهما (15 عاماً) قالت أنها أخذت من المدرسة في الثلاثين من
يوليه إلى مقر قائد الميليشيات الصربية المحلي الذي أخذها إلى شقة واغتصبها، ثم
أعيدت إلى المدرسة حيث اغتصبها ثلاثة صرب. الأخرى (17 عاماً) قالت أنها
تعرضت لاغتصاب متعدد ثلاث مرات، مرتين على أرض المدرسة، ومرة في
شقة حيث اعتدى عليها خمسة صرب. قالت: (لقد ضربوني حين قاومت خلع
ملابسي، وقد صفوا صفاً واغتصبوني الواحد تلو الآخر.. أنا أعرف ثلاثة منهم
جيداً) [19] .
روي كوتمان مراسل نيوزدي ذكر أن ثلاثة جنود صرب اعتقلوا أربع فتيات
وأودعوهن سيارة شحن عسكرية. ثلاثة منهن أخذهن الصرب إلى بيت كان
لشخصية مسلمة بارزة، وهو الآن (بيت اغتصاب) ؛ وهناك سلموهن لاثني عشر
صربياً لينتهكوا أعراضهن، ثم قام الثلاثة باغتصاب الرابعة في السيارة
العسكرية [20] .
نيوزويك نقلت عن شاهد عيان بدت عليه آثار الذهول قوله أنه رأى ثلاث
بنات مسلمات قرب تزلا شرقي البوسنة. وقد أوثقهن الصرب بالحديد إلى حائط،
واغتصبهن من شاء منهم ثلاثة أيام، وبعد ذلك سكبوا عليهن (الجازولين) وأشعلوا
فيهن النار [21] .
فتاة مسلمة قالت في مقابلة مع تلفزيون بي. بي. سي، وقد أخفت وجهها
عن الكاميرا أنها و 23 امرأة أخرى اعتقلن في قبو واغتصبن أربعة أشهر وأن
الصرب يعتدون عليهن أحياناً وهم سكارى، وأن صديقة لها قاومت فقتلوها.
الطبيب الذي يعالج هذه الفتاة أخبر مراسل بي. بي. سي أنها حبلى، وأنها ليست
في وضع نفسي يؤهلها لسماع هذا الخبر [22] .
تقارير الاغتصاب لا يسعها الذكر هنا. روي كوتمان مراسل نيوزدي يقول
أن هذه التقارير كثيرة جداً إلى حد أن بعض المحللين يعتقدون أنه اغتصاب (منظم) .
سيفكو عمر باسك زعيم الجالية الإسلامية في كرواتيا وسلوفينيا صرح أنه
استنتج من خلال اتصالاته بمئات اللاجئين القادمين من البوسنة أن (كل النساء
الشابات قد اغتصبن) . كوتمان ذكر أن هناك تقارير كثيرة عن اغتصاب ... تناوبي لبنات صغيرات السن وأن (آلافاً ربما عشرات الآلاف من ضحايا الاغتصاب قد يبقين في معسكرات الاعتقال) [23] .
صليبية المذبحة:
حدد الصرب أهدافهم منذ البداية فأعلنوا أنهم يريدون القضاء على المسلمين
في البوسنة ومنع قيام دولة إسلامية في أوروبا. وقد لامست هذه الدعوة شغاف
الغربيين، فاستجابوا لها، رغم أنها دعوة صليبية متخلفة طالما زعم الغرب أنه لا
يتبناها. وقد أدت الجهود الصربية والغربية معاً إلى إقناع كرواتيا بهذا المفهوم،
ففي الثاني عشر من أغسطس 1992 هاجم الرئيس الكرواتي المنتخب فرانكو
توجمان (عناصر في الحكومة البوسنية تسعى لإقامة دولة مؤسسة على ... الأصولية الإسلامية) [24] . وفي مقابلة مع مجلة نيوزويك صرح وجمان أن الكروات (مهددون (برغبة) المسلمين في إقامة دولة إسلامية) ، واقترح أن تحل مشكلة البوسنة بأن تضم المناطق المأهولة بالصرب إلى صربيا ... والمناطق المأهولة بالكروات إلى كرواتيا، الأمر الذي يسمح (بوجود دولة ... إسلامية صغيرة في وسط البوسنة) . وأضاف: (إن ذلك سيضع حداً لأية مطالب أو محاولات لإنشاء دولة إسلامية كبيرة في قلب أوروبا) [25] . هذا الموقف يعتبر ... تحولاً حاداً في التحالف البوسني الكرواتي الهش، ويعني أن الصرب والكروات أصبحوا يداَ واحدة، وأن الكروات سيحتفظون بجمهوريتهم التي أعلنوا تأسيسها داخل الأراضي البوسنية تكريساً لواقع التقسيم.
وشواهد صليبية المذبحة كثيرة، فقد قام الصرب بذبح المسلمين ورسم
الصليب بالسكين على أجسادهم، كما قاموا بتدمير المساجد في كل بلدة يحتلونها.
مجلة الإيكونومست ذكرت أن الصرب نسفوا مساجد بلدة بوسانكي نوفي شمالي
البوسنة في إطار عملية تفريغها من المسلمين [26] . الغارديان ذكرت كيف قام
الصرب بنسف المساجد وإحراقها. ونقلت عن جندي صربي قوله أن المسلمين لن
يعودوا إذا دمرت المساجد [27] .
مجلة نيوستيتسمان سوسيتي نقلت عن بعض الصرب قولهم أن كل
المسلمين - في الأصل - (عرب قذرون يمسحون أدبارهم بأيديهم) [28] . مراسل شبكة اي. بي. سي الأمريكية والتر رودجرز ذكر (أن أكثر الصرب يقولون أن القتال في البوسنة أمر ضروري لمنع انتشار الإسلام في أوروبا) . أحد الجرحى الصرب أخبر رودجرز أن (سبب هذه الحرب أن المسلمين يريدون إقامة دولة إسلامية في بلادنا) [29] . مراسلة شبكة اي. بي. سي شيلا ماكفيكار قالت في تقرير لها من مدينة اليجا البوسنية أن القادة العسكريين الصرب يقولون أنهم (يشنون حرباً دينية، نصارى ضد مسلمين، نوع من الحرب الصليبية في القرن العشرين) القائد العسكري الصربي لاليجا توما كوفاش قال للمراسلة: (الذي تحاول الحكومة البوسنية عمله هو إقامة دولة إسلامية في أوروبا. نحن نعرف، نحن الصرب نقاتل المسلمين منذ خمسمائة عام) . أحد الصربيين الذين يقصفون سراييفو قال لشيلا: (أتمنى أنه لا يزال لي أصدقاء في سراييفو. ربما أصبحت الآن عدواً لهم) . وقبل أن يلوح لشيلا ويعود لممارسة القتل قال: (هذه نهاية حضارة) [30] . ...
العالم الغربي والأمم المتحدة: فضيحة (الحياد)
يتعاطف الغرب - كما قلت - مع النظرة الصربية الصليبية للمعركة، ويسعى
إلى أن يحقق الصرب أهدافهم في أقصر فترة ممكنة. ولذلك تنادت الدول الغربية
المهيمنة على مجلس الأمن (ولا يمكن فصل موقف العالم الغربي - لا سيما
أمريكا - عن موقف الأمم المتحدة بسبب هذه الهيمنة) ، تنادت لاستصدار قرار في بحظر السلاح عن جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي المنحل بما في ذلك البوسنة والهرسك التي تتعرض لحرب إبادة.
إن اعتراف هيئة الامم المتحدة بجمهورية البوسنة والهرسك يعنى - حسب
المادة السابعة من ميثاق هذه الهيئة - أن تهب لنجدتها متى تعرضت لعدوان. لكن
نجدتها كانت في حظر السلاح عنها. الحظر شمل صربيا ذراً للرماد في العيون،
فصربيا قد ورثت جميع ذخائر ومعدات الجيش اليوغسلافي، وجعلته تحت تصرف
عصاباتها الحاقدة. أما جمهورية البوسنة والهرسك فلا زالت (وليدة) وتحتاج إلى ...
السلاح من أجل الدفاع عن النفس. ولما انكشفت كذبة العقوبات على صربيا وتضح
أن المتضرر الرئيسي هم المسلمون وطالبت الحكومة البوسنية برفع الحظر عنها
لتمارس حقها الطبيعي والقانوني في الدفاع عن النفس، رفضت الدول الغربية ذلك
لأن (إعطاء الأسلحة لن يحل المشكلة، بل سيطيل أمد الحرب) هكذا فالمطلوب استسلام وبدون نقاش.
وما تزال الدول الغربية تصر على وصف المأساة بأنها (حرب أهلية) ، ...
وليست عدواناً على دولة مستقلة، وما تزال ترفض التدخل العسكري، حتى وإن
كان مقتصراً على استعمال الطائرات لإخراس المدافع الصربية، لأن المعركة -
كما تقول هذه الدول - (معقدة) وناتجة عن (كراهية تاريخية) ولأن التدخل ربما ...
يقود إلى (فيتنام أو أفغانستان أخرى) ، بل إلى (حرب عالمية ثالثة) ! ... ...
ثم لجأ الغرب إلى وسيلة نفاق أخرى، وهي إرسال المساعدات الغذائية ...
والطبية إلى سراييفو وسراييفو كما نعلم ليست إلا مدينة من مدن الجمهورية،
وهناك مئات الآلاف من المسلمين متوزعون في أنحاء البلاد لم تصل إليهم
المساعدات. وبعد ترتيبات وإجراءات طويلة وصلت قوات الأمم المتحدة، لكنها
كانت وبالاً وشراً، فقد ورد أنها قامت بقتل عدد من المسلمين، كما ثبت تورطها
في إخفاء معلومات عن مذابح اعتقالات جماعية للمسلمين. الجنرال لويس ماكينزي
قائد قوات الأمم المتحدة السابق في سراييفو (كندي) شدد في عدة مقابلات مع
المراسلين والصحفيين على إنه (محايد) وأنه يحمل كل الأطراف المسئولية، ...
وألقى باللوم عدة مرات على جانب المسلمين، وقد تعرض على حد قوله لتهديدات
عديدة بالقتل، لكنه لم يفصح عن مصدرها. وعندما اختتم مهمته ووصل إلى
الولايات المتحدة في أوائل أغسطس عقد مؤتمراً صحفياً في مبنى الأمم المتحدة قال
فيه أنه وجد في هذا القتال كراهية لم يشاهد لها مثيلاً في حياته، لكنه لم يبين
الطرف الذي تستبد به هذه الكراهية [31] . إنه (الحياد) الذي جعل ماكينزي ...
مكروهاً من مسلمي البوسنة. المصور الدانماركي جاركون هلديبراندت ذكر أن كل
شخص تحدث له في مدينة جورادزة الإسلامية (المحاصرة الآن من الصرب) يكره
ماكينزي ويعتبره رمزاً لكل الأخطاء [32] .
إن (الحياد) هر الذي دفع ماكينزي والأمم المتحدة إلى إخفاء المذابح والتستر
عليها قبل أن تكشفها تقارير وصور المراسلين في أواخر شهر يوليه. قوات الأمم
المتحدة في سراييفو علمت بالإعدامات العشوائية الجماعية للمسلمين في شهر مايو.
هذه المعلومات تؤكد أن الإعدامات جارية (لتطهير) المنطقة من المسلمين، وأن
المسلمين يتعرضون لحرق البيوت والإرهاب المنظم من قبل الجماعات المسلحة
الصربية، كما أنهم يرغمون على توقيع أوراق تقضي بالتنازل عن ممتلكاتهم مقابل
السماح لهم بالخروج أحياء من البوسنة والهرسك [33] . قوات الأمم المتحدة وقفت
ايضاً تتفرج في شهر يوليه الماضي على القوات الصربية وهي تجمع مدنيين
مسلمين عزلاً من السلاح في ملعب رياضي، ثم تفصل الرجال وترسلهم إلى
معسكرات الاعتقال. الأمم المتحدة بررت سياسة اللامبالاة والصمت هذه بأن لدى
قوات حفظ السلام أوامر بأن تبقى محايدة مهما يكن من أمر [34] . مندوب البوسنة
لدى الأمم المتحدة محمد ساكربي وصف عملية التستر هذه بأنها (خيانة) وانتقد هذا
(الحياد) المزعوم الذي يعني غض الطرف عن وحشية المعتدي ومعاناة المعتدي
عليه.
في الحادي عشر من أغسطس توج ماكينزي قائد قوات الأمم المتحدة (السابق)
حياده التاريخي ونزاهته النادرة بإخباره الحكومة الأمريكية أنه لا يؤيد التدخل
العسكري في البوسنة، حتى ولو لحماية القوافل الغذائية، وبرر (المحايد) ذلك بقوله:
(إن هذا التدخل سيشجع البوسنيين على الاستمرار في القتال بدلاً من التفاوض مع ...
الصرب) [35] .. أيها المستر ماكينزي لقد زاد إيماني بعظمة هذا الإسلام المطارد
وجدارته المطلقة بقيادة البشرية، مستر ماكينزي هذا الدين لا بد أن يقود العالم
ويستنقذه من قيم الصليب وعربدة ونفاق الصليبيين الذئاب، مستر ماكينزي والله
الذي لا إله إلا هو لن يبقى مدر ولا وبر في بلاد الغرب الأبيض (المتحضر) إلا
أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل..
وإضافة إلى الأمم المتحدة فإن منظمة الصليب الأحمر كانت (محايدة) أيضاً،
وأخفت معلومات عن انتهاكات لحقوق المسلمين وعن اعتقالات جماعية وعمليات
تعذيب واغتصاب منظمة، وبعد تسرب هذه الأخبار إلى الصحافة الغربية اعتذرت
المنظمة بأنها كانت تريد التريث والتحقق من صحة التقارير المفزعة التي لديها.
الجماعة الأوربية (EC) التزمت (الحياد) هي الأخرى، ولم تتخذ أي إجراء
ضد الفظائع التي جرت وتجري في معتقلات الصرب. محمد شاكر بي مندوب
البوسنة لدى الأمم المتحدة اتهم الجماعة الأوربية بتلقي معلومات مبكرة عن فظائع
المعتقلات وعدم المبالاة بها، وقال: (إن المرء ليتساءل ماذا علم اللورد كارينغتون
(عن هذه المعتقلات) ولماذا لم يعلن هذه المعلومات) [36] .
إن الدول الغربية ومنظماتها (الإنسانية) والسياسية لم تحرك ساكناً تجاه
ممارسات الصرب، بل شجعتهم في الخفاء، ومكنتهم من خلال حظر الأسلحة عن
البوسنة، وعمليات المساعدات الغذائية النفاقية، والتهديدات الجوفاء - مكنتهم من
الاستمرار في عمليات الذبح والطرد والتعذيب والاغتصاب. وحتى عندما أحرجت
أمريكا بتقارير (معسكرات الموت) أعلنت أنها تأكدت من وجود هذه المعسكرات،
لكنها (لا تخطط للاحتجاج على ذلك) [37] .
إن فضيحة القيم الغربية والمنظمات الدولية والقانون الدولي في كارثة البوسنة
والهرسك هي أوضح من الشمس في رابعة النهار. ما أكثر ما نادت حكومة البوسنة
دول العالم - أي دولة - بالتدخل العسكري لإنقاذها، لكن الدول أحجمت، مع أن
هذه الحكومة (شرعية) بالمنظور الغربي، أي أنها منتخبة وديموقراطية. ومرات
توسلت حكومة البوسنة للعالم أن يرفع عنها الحظر - على الأقل - لتدافع عن نفسها
هذا العدوان الشرس، لكن النظام العالمي الجديد سكر بصره وسمعه، لأنه لا مكان
لمسلم في حياة، فضلاً عن حياة كريمة وعيش مستقر في ظل هذا النظام الصليبي
المتوحش.
وحتى قرار الأمم المتحدة بشأن حماية المساعدات الإنسانية هو قرار جاهلي
جائر يفضح الرياء الغربي، حيث يسمح باستعمال القوة كحل أخير إذا هددت قوافل
الإغاثة فقط، وكأن إطعام الناس المحاصرين أولى وأهم من إسكات المدافع التي
تحرق منازلهم وتمزق أجسادهم ليل نهار. لقد بلغ عدد القتلى من المسلمين خمسين
ألفاً [38] ، وقرار الأمم المتحدة يعني إعطاء الضوء الأخضر للصرب ليستمروا في
عمليات الذبح ما دام أنهم يسمحون بمرور قوافل الإغاثة، أي أنه يقول للبوسنيين
المسلمين: موتوا وبطونكم ملأى. لقد صرح البوسنيون مراراً للصحفيين
والمراسلين: الطعام وحده لا يكفي، لا نريد أن نصبح عالة يتصدق علينا الناس
بالطعام، نريد سلاحاً لندفع عن أنفسنا هذا البلاء، ونذب عن ديننا وأعراضنا.
محمد شاكر بي مندوب البوسنة لدى الأمم المتحدة أخبر صحيفة الاندبندنت أن في
سراييفو وحدها خمسين ألف شخص مستعدون للقتال، لكن السلاح الموجود يكفي
خمسة آلاف فقط [39] .
مسلمو البوسنة هم ضحايا النظام العالمي الجديد، ضحايا الحقد الصليبي
و (الميكافيلية) والنفاق الغربي والغياب الفعلي للأمة الإسلامية عن مسرح الأحداث.
هم كما وصفتهم الصحافة الغربية (الفلسطينيون الجدد لأوروبا) . تقاسم الصرب
والكروات أرضهم. نسبتهم 45 في المائة من سكان البلاد، لكنهم يسيطرون الآن
على 5 في المائة منها فقط [40] . الصرب يقولون: فليذهب المسلمون إلى الجحيم. أكثرهم - كما تقول كاتبة الغارديان ماغي أوكين - في جحيم فعلاً، إما في
معسكرات اعتقال مكتظة، أو في قطارات إلى استقبال بارد في أوروبا [41] .
مليون وثلاثمائة ألف شخص أخرجوا من البوسنة معظمهم من المسلمين [42] . في
الحادي عشر من أغسطس أعلن الصرب بوقاحة (وهم واثقون بوقوف إخوانهم
الغربيين معهم) أنهم سيطردون 28000 مسلم، وأن على الأمم المتحدة أن تبحث
لهم عن مكان يأوون إليه [43] .
ماذا تعني قيم (العالم الحر) - كما أكدت هذه النكبة - غير تلبية مشاعر
التطرف الصليبي، ومصادرة حق الإنسان المسلم في العيش الحر الكريم في بيت له
وعلى ثرى وطنه. ربما قامت الأمم المتحدة قريباً بإقرار تقسيم البوسنة، أي نفس
الدور الذي قامت به عام 1947 عندما كرست الظلم وصوتت لتقسيم فلسطين.
مجلة الإيكومونست التي تمثل الخط اليميني السائد في بريطانيا اقترحت تكريس (الأمر الواقع) قائلة أن (أوروبا الغربية لا بد أن تدرك أن صربيا وكرواتيا ... ستصبحان أكبر مساحة من ذي قبل.. (و) إذا تم الاعتراف بذلك سريعاً انتهت
الحرب سريعاً) . المجلة ذات الشعور الإنساني الرقيق (..) أضافت: (في غضون ذلك أوروبا تستطيع أن تعمل أكثر لمساعدة الابرياء الذين يريدون الخروج
من (البوسنة) ، أي الترحيب باللاجئين) [44] . هكذا يستجيب العالم (المتحضر)
للعدوان: يكافئ المعتدي ويعطيه 95% من أراضي دولة مستقلة ومعترف بها،
ويغض الطرف أو يبارك سياسة (الفرز) الديني وتدمير المساجد وانتهاك الأعراض
وسحق الأطفال وإذلال كرامة الرجال الشرفاء وجز هاماتهم وإطعام أجسادهم
الكلاب. وحق للمرء أن يتساءل: (ماذا قال الرئيس بوش في عام 1990 ... عندما دخل العراق الكويت، (استعمال القوة يجب ألا يكافأ في أي مكان من
العالم) ؟ حسناً. سلوبودان ميلوسفش نال مكافأته) [45] . هذا هو الوجه البشع ... للنظام العالمي الجديد. تعالوا معي فتأملوه!
الدور الإسلامي
لقد أدى تشجيع الغرب لحرب الإبادة التي يشنها الصرب، وتفضيله تقسيم
البوسنة إلى ثلاث مناطق (كما هندس ذلك المفاوض الإنكليزي كارينغتون) وحظر
السلاح عن مسلمي البوسنة، كل ذلك أدى إلى إطلاق يد الصرب ليس فقط في
البوسنة والهرسك، بل في إقليم كوسوفو ذي الأغلبية الإسلامية المطلقة. لقد أكدت
الجمعية الدولية لحقوق الإنسان مؤخراً أن أهالي كوسوفو يتعرضون الآن لممارسات
قتل وتهجير وإذلال شبيهة بالتي تحدث في البوسنة والهرسك، وأن الصرب
يعمدون إلى تسميم جماعي واسع النطاق لأطفال الأقليم [46] .
هذه الأوضاع المحزنة تحتم على المسلمين التحرك على المستوى الشعبي
والرسمي لنصرة دينهم وإنقاذ إخوانهم. إن الغرب يقدم لنا (فلسطين) ثانية وهو
يضع اللمسات الأخيرة على نعش فلسطين الأولى. ماذا ينتظر المسلمون؟ لماذا هذا
البرود المخيف والصمت المطبق عما يجري في البوسنة والهرسك؟ إن هذه الأخبار
والصور تعرض على أمة معروفة بالنخوة والمروءة والانتصار للمظلوم والشعور
كالجسد الواحد، فأين ذلك كله؟ لمن تساق الأخبار؟ على من تعرض الصور؟ هل
تودع من أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ لقد آن أوان إعادة النظر في أشياء
مسلمة كعضوية الأمم المتحدة واستقلال الصليب الأحمر ونزاهة المنظمات الدولية
التي هي غربية الهوية والمنهج واللسان. ماذا لو كان أهل البوسنة المستهدفون
بالإبادة والطرد يهوداً أو نصارى؟ ماذا لو كان مرتكبو المذابح مسلمين؟ تصوروا
كيف سيكون الرد الغربي - بل ويا للأسف - رد الحكومات في عالمنا الإسلامي
المنكوب! إن المسلمين في عالم اليوم ليس لهم وزن ولا اعتبار ولا تمثيل.
إسرائيل تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل جثة يهودي متعفنة منذ حرب لبنان. أمريكا
تؤكد للرئيس الروسي يلسن أن إمداده بالمساعدات مشروط بالبحث عن عدد من
الأمريكيين يزعم أنهم ما زالوا موجودين في روسيا منذ حرب فيتنام. العالم كله
يحاصر دولة ويجوع شعبها من أجل الاشتباه بأن أثنين منها نسفا طائرة أمريكية.
أما مسلمو البوسنة فلا بواكي لهم، ولم ولن يشفع لهم أنهم أوربيون بيض البشرة
ومتسامحون، وصدق سبحانه: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ] . ترى هل سيكتفي المسلمون بنفث الآهات وذرف العبرات على أهل
البوسنة والهرسك، وهل سيتخذون نفس الموقف إذا ما احترقت كوسوفو وامتدت
ألسنة اللهيب إلى ألبانيا؟ هل سيبقون متفرجين على استئصال دينهم وانتهاك
أعراضهم وتلطيخ شرفهم؟ إن أقل ما يجب على المسلمين عمله هو تزويد أهل
البلقان جميعاً بالسلاح اللازم لكي يثبتوا ويدافعوا عن دينهم ووجودهم. لا بد من
البدار قبل أن يردد المسلمون عن البلقان ما قاله شوقي في رثاء أدرنة والتي احتلها
الصليبيون البلغار:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
طوي الهلال عن السماء فليتها ... طويت وعم العالمين ظلام
أيها المسلمون: لا تأبهوا للشرعية الدولية، فالإيمان بها شرك! ...
أيها المسلمون: دافعوا عن دينكم!
__________
(1) الهولوكوست كلمة إنجليزية معناها قتل عدد كبير من الآدميين حرقاً، واشتهرت بإطلاقها على ما يزعم أنها محرقة ومذبحة قام بها هتلر للقضاء على اليهود الأوربيين دولة اليهود في فلسطين تستمد (شرعيتها) كثيراً من هذا الحدث، الذي تؤكد عدد من البحوث والدراسات الغربية أنه لم يحصل (الهولوكوست) " أكثر الأحداث التاريخية الاجتماعية ذيوعاً وانتشاراً في القرن العشرين "، الذي صدر باللغة الإنجليزية وحدها عن هذا الحدث بعد إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 تجاوز 5000 كتاب، وآلاف المقالات والأفلام أقسام (دراسات الهولوكوست) انتشرت في الجامعات الكبيرة في أوروبا وأمريكا الشمالية محاضرات وندوات وحفلات عزاء تقام باستمرار في ذكرى هذا الحدث المزعوم لإبقائه حياً ادجار برونغمان رئيس الكونجرس اليهودي العالمي قال: " الهولوكوست لا يمكن أن ينتهي أبداً " إعلام (الهولوكوست) أصبح " تجارة " أو " صناعة كاملة " كما يقول الحبر اليهودي البريطاني جاكو بوفيتز (هـ ج سكتل، ميدل ايست انترناشيونال 8 يوليه 1988) .
(2) الغارديان، 8 اغسطس 1992.
(3) النيويورك تايمز والغارديان، 7 أغسطس 1992.
(4) نيويوريك، 10 أغسطس 1992.
(5) نيوزدي والغارديان، 5 أغسطس 1992 2.
(6) اي بي سي، الأخبار في برنامج (مباح الخير أمريكا) ، 10 أغسطس 1992.
(7) نيوزدي والغارديان، 5 أغسطس 1992.
(8) الاندبندنت، 7 أغسطس 1992.
(9) الاندبندنت والغارديان، 7 أغسطس 1992.
(10) الاندبندنت، 7 أغسطس 1992.
(11) الغارديان، 8 أغسطس 1992.
(12) نيوزداي والغارديان، 4 أغسطس 1992.
(13) أخبار الساعة الواحدة، تلفزيون بي بي سي 1، 11 أغسطس 1992.
(14) تايم، 17 أغسطس 1992.
(15) نيوستيتسمان سوسيتي، 31 يوليو 1992.
(16) نيوستبتسمان سوسيتي، 31 يوليو 1992.
(17) الغارديان، 29 يوليه 1992، الإيكومونست، 1 أغسطس 1992.
(*) كلمة (نجامعكن) وضعت هنا بديلاً عن الكلمة البذيئة التي استعملها الصرب ووردت في تقرير الغارديان.
(18) الاندبندنت، 10 أغسطس 1992 (أوردت الصحيفة اسم المرأة واسم ابنتها) .
(19) الاندبندنت، 10 أغسطس 1992 (أوردت الصحيفة اسمي الفتاتين) .
(20) نيوزدي والغارديان، 10 أغسطس 1992.
(21) نيوزويك، 10 أغسطس 1992.
(22) أخبار الساعة السادسة، بي بي سي 1، 10 أغسطس 1992.
(23) نيوزدي والغارديان، 10 أغسطس 1992.
(24) الخدمة العالمية لإذاعة بى بي سي، 12 أغسطس 1992.
(25) نيوزويك، 17 أغسطس 1992.
(26) الإيكونومست، 1 أغسطس 1992.
(27) الغارديان، 11 أغسطس 1992.
(28) نيوستيتسمان سوسيتي، 31 يوليه 1992.
(29) أخبار العالم الليلة، اي بي سي 14 أغسطس 1992.
(30) أخبار العالم الليلة، اي بى سي، أوائل يوليه 1992.
(31) شبكة سي ان ان، أوائل أغسطس 1992، بعض الآراء التي طرحها ماكينزي في مؤتمره الصحفي أدلى بها أيضاً إلى مجلة تايم الصادرة في 17 أغسطس 1992.
(32) الغارديان، 8 أغسطس 1992.
(33) الصحف ووكالات الأنباء، أوائل أغسطس 1992، انظر مثلاً الغارديان 8 أغسطس، والإيكونومست، 1 أغسطس.
(34) الاندبندنت، 7 أغسطس 1992.
(35) أخبار العالم الليلة اي بى سي، 11 أغسطس 1992 زعم ماكينزي أيضاً لمجلة تايم ان إحلال السلام في البوسنة والهرسك عملية كبيرة تتطلب مليون جندي (تايم، 17 أغسطس 1992) .
(36) الاندبندنت، 10 أغسطس 1992.
(37) شبكة سي ان ان، أوائل اغسطس 1992 الغارديان ذكرت أيضاً أن السفارة الامريكية في بلغراد علمت منذ أوائل يوليه على الأقل بوجود معسكرات الموت هذه، لكنها لم تتخذ أي إجراء (7 أغسطس 1992) .
(38) نيوزويك، 10 أغسطس 1992، الاندبندنت، 7 أغسطس 1992.
(39) الاندبندنت، 10 أغسطس 1992.
(40) الايكونومست، 1 أغسطس 1992.
(41) الغارديان، 10 أغسطس 1992.
(42) نيوزويك، 10 أغسطس 1992.
(43) الصحف ووكالات الأنباء، 11، 12 أغسطس 1992.
(44) الإيكونومست، 1 أغسطس 1992 الاستاذ سيد قطب -رحمه الله- قال في معرض حديثه عن مبادئ العالم الحر: والعالم الحر يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في إيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهم في هذه الارض المعذبة! " [وردت في (البيان) ، العدد 45، جمادى الاولى 1412، نقلاً عن مجلة الرسالة العدد 1018، 5/1/1953) .
(45) ماغي أوكين، الغارديان، 10 أغسطس 1992.
(46) أخبار الساعة الواحدة، بي بي سي 1، 11 أغسطس 1992.(55/58)
الرعب والخوف والدموع
في عمليات إجلاء المسلمين عن البوسنة
بقلم: ماجي أوكين [*]
ترجمة: عبد القادر حامد
روزالينا تركض في الطريق، معها جارها سالكونوفيتش يدفع العربة بأمه
المقعدة ذات التسعين عاماً، ووراءهما الجنود الصرب يصرخون ويكادون يمسكون
بهم، تتعثر العربة فتنقلب العجوز المسكينة منها على أرض الطريق، الجنود
يدركونهم صارخين، فيتقافزون فوق بعضهم يحاولون الهرب، الحقائب والأكياس
والأمتعة تناثرت على الطريق، الجنود الصرب المتنكرون بالأقنعة وبالقفازات
السوداء بدون أصابع يحيطون بهم قائلين: أين (الله) ربكم الآن؟ ! سوف (نفعل [1] ) بكن كلكن يا مسلمات! ! ثم تتابع روزالينا: يجب أن اعترف أنهم فعلوا الفاحشة
معنا، شعرت بالعار، كنا جميعاً ممدات على الطريق في الأقذار، دون أن نستطيع
فعل شيء! .
بعدئذ جاءت الشاحنات العسكرية، وحملتهم إلى معتقل (ترنبولي) لكنهم بعد ...
فترة أطلق سراحهم، وبقي بعض أصدقائهم في المعتقل. في أوائل شهر حزيران
(يونيو) أراد صليب خروستك - زوج روزالينا - أن يعود ليستطلع أخبار أصدقائه، فذهب إلى محطة القطار ليرى إن كان بإمكانه الوصول إلى ذلك المعتقل الذي يبعد
عن قريته ثلاثة أميال، والذي كان يوماً من الأيام مدرسة ابتدائية، فأصبح سجناً
للمسلمين والكروات الذين أصبحوا غير مرغوب فيهم في (جمهورية البوسنة
الصربية الجديدة) . ملعب المدرسة محاط بالأسلاك الشائكة ويضم (500) ... امرأة وطفل محتجزين هناك منذ (27) نيسان (أبريل) ولا يسمح لهيئة الصليب الأحمر بالدخول والاستفسار عن أحوال من بداخله.
إن معسكر (ترنبولي) ، هذا هو الأفضل من بين أربع معتقلات في هذه
المنطقة من البوسنة التي أصبح يسيطر عليها الصرب. ونزلاء هذا المعتقل
يُطْعَمون، والفلاحون المجاورون يجلبون لهم ما يحتاجون ويبيعونهم.
يقول صليب (خروستك) الذي وجد أن القطار يتجه إلى جهة أخرى: كان ...
القطار مؤلفاً من عشر قاطرات لنقل المواشي، آتياً من معتقل (ترنبولي) ، رأيت
وجوه بعض النساء فقط، وأيديهن ممدودة من نوافذ القاطرات ذوات القضبان
الحديدية، ويشير الضجيج المتصاعد أن هذه القاطرات مملوءة بالنساء. النساء
تبكي وتنتحب، والأطفال يتصارخون: ماء، كأس الماء فقط! كان يوماً حاراً
والقاطرات تحت الشمس، لا مراحيض هناك! بقوا هناك طوال الليل والأبواب
مقفلة عليهم طوال الوقت. ذهبت في الصباح وموظف المحطة يحاول إعطاء
قارورة ماء لهن، لكن الحارس الصربي المسلح قال له: هؤلاء متعصبات علي
عزة، ابتعد عنهن ودعهن يمتن من العطش.
بقيت القاطرات في المحطة حتى الساعة 11. 30 من تلك الليلة.
هناك عامل بالسكة طلب من جمعية (محمد) الإسلامية الخيرية في بانيالوكا
استقبال النساء والاطفال عند وصولهم البلدة. وحين وصلوا كانوا قد قضوا يومين
في القاطرات تحت شمس يوغسلافيا الحادة متكدسين فوق بعضهم، ولا زالوا على
حالهم يتصارخون، يمدون أيديهم من بين قضبان النوافذ الحديدية متوسلين: اثنان
من الاطفال ماتا، دعونا نخرج جثتيهما. دعونا نخرج، من فضلكم ماء. حاولت
الجمعية الخيرية إحضار بعض قوارير الماء إلى القاطرات. فقال لهم الشرطي:
أين تذهب بهذا، ارجع أدراجك.
وصلت الشاحنات إلى ضواحي زينيتسا في 15 حزيران، استغرقت الرحلة
خمسة أيام، فقد كانت تسير ليلاً فقط، كان الأموات من الركاب قد بلغ عددهم أحد
عشر، 7 أطفال، واثنان من الأمهات، وامرأتان.
هناك (14) ألف مسلم محتجزين في المعتقلات الأربعة الأخرى في الزاوية
العليا للبوسنة. في أقصى الجنوب في (براتوناتس) 2000 مسلم محتجزون في
ملعب كرة قدم، وقد أفاد أحد رجال الإغاثة الدولية أنه في ليلة السابع من نيسان
وثلاث ليالٍ تلت كان رجال يؤخذون خلف الملعب ويقتلون. وفي تلك الليالي كان
هناك إطلاق رصاص مستمر خلف الملعب، ولم يكن هناك رد على هذا الرصاص. كان الرجال يؤخذون إلى خلف الملعب ولا يعودون، وقال بأن المسؤولين عن
هذه المجازر هم الصرب العاملون تحت إمرة رضوان كاراجيش الذي كان الأسبوع
الماضي في لندن.
يؤتى بالرجال المحتجزين في المعتقلات والملاعب من بيوتهم الموجودة على
طول الطريق المؤدي إلى بلغراد، وهي بيوت يسكنها المسلمون والكروات الذين
عاشوا منذ أجيال قديمة في القرى والمدن في الممرات التي تربط صربيا بالمناطق
البوسنية التي يسيطر عليها الصرب الآن في غرب البوسنة.
في الأسبوعين الماضيين افتتح طريق آخر للباصات يربط بلغراد بهذه المنطقة، حيث يجلب الصرب من بلادهم إلى القرى والمدن التي طهرت من المسلمين.
أول تطهير لهذه المنطقة من المسلمين بدئ به في نيسان، لم يبق من بيوت
المسلمين إلا آثار القصف الشديد بالمدافع والدبابات، التي لا زالت في القرى
الإسلامية، وكأنها في حالة راحة الآن، مثلها مثل ذلك الجندي الذي يرتدي بدلة
سباحة ويتمشى الآن على الجسر ومعه الكلاشينكوف.
ويحدث الآن تطهير آخر لأماكن بعيدة في هذا الممر من المسلمين،
فالسيارات العسكرية الصربية تملأ الطريق جيئة وذهاباً. والصرب يجوسون خلال
البيوت ويفرغونها من المتاع قبل إشعال النار فيها. الصرب في الباصات صامتون، وعندما مررنا بتلك الأرض الخراب كانوا يطلون من النوافذ، أفواههم منفرجة
قليلاً، ينظرون إلينا بدهشة، ما أشد مهارتهم! ! كيف أنجزوا إفراغ وتخريب
وإحراق آلاف وآلاف من البيوت في هذه المسافة التي لا تقل عن 11 ساعة سفر
بالسيارة؟ ! يقول حارث خروستك - وعمره 17 سنة - والذي قضى أربعة أيام
في المعتقل قبل أن يساعده أبو صديقه الصربي - وكان شرطياً - على النجاة
وزوده بأوراق الصليب الأحمر: عوملنا معاملة حسنة في المعتقل، لم يضربونا،
بل وضعونا في الحقل فقط، كان هناك (5000) منا على مرحاض واحد. وفي
اليوم الثاني أخذوا الرجال إلى أومارسكا، بعض النساء اللاتي كن هناك ليحضرن
لهم بعض الطعام قلن: إن الرجال أصبحوا مرضى الآن بالتيفوئيد وتليُّف الكبد.
فهم هناك منذ شهرين بلا غطاء، ولا ظل، ولا ماء للغسيل، ولا مكان صالح للنوم
أو الراحة. لم تتمكن هيئة الصليب الأحمر الدولي من زيارة معتقل أومارسكا، لكن
سمح لهم بالدخول إلى (مانياشا) وهو معتقل في المنطقة خاص بالذكور. ...
منذ أسبوعين أطلق سراح (106) أطفال تحت سن (18) ، ورجال فوق
(60) سنة، وتركوا في حديقة مسجد في بلدة بانيالوكا.، هناك آواهم أهل البلدة
وأطعمتهم النساء. وقد كانوا في غاية الضعف والإعياء، حيث لم يأكلوا أكلاً طبيعياً
خلال شهرين حسب ما قالت إحدى النساء التي قالت: أنا أخذت رجلاً عجوزاً
وقلت له: أعطني قميصك أغسله لك في الغسالة، حاولت مساعدته كي يخلعه،
ورأيت آثار الضرب المبرح على بدنه، وكان القميص ملتصقاً بجسمه.
(بانيالوكا) الواقعة في شمال الجمهورية الصربية الجديدة - التي كانت سابقاً
البوسنة - تنتظر أن تطهر من المسلمين أيضاً، فالصرب في الجبهة لم يعودوا
يتكتمون على ما يخططون له، فقد صرح قائد صربي في منطقة «فوشا» : لقد
طهرنا (فوشا) و (فيشاغراد) من المسلمين والآن سنطهر (كور اجدة) .
المسلمون والكروات يعرفون ما هو قادم، فهنا في (بانيالوكا) البلدة
المتطورة ذات الحدائق والمطاعم، يبدأ منع التجول من الساعة العاشرة مساءً،
هذا مخزن مسلم بنوافذه المحطمة، وذاك منزل مسلم واجهته قد نخلها الرصاص
والقصف نخلاً، وهناك امرأة ظلت تعمل لمدة (26) عاماً في شركة للاستيراد
والتصدير إلى ما قبل شهر قالت: رجعت من الغذاء يوم الجمعة وإذا بهم
يسلمونني ورقة قائلين: أنت لم تعملي هنا أبداً! جميع المسلمين طردوا من العمل
في ذلك اليوم، وهكذا اصبحنا بحاجة إلى أوراق رسمية لنتجول في بلدتنا التي
ولدنا فيها! ! بعض المسلمين والكروات ينتظرون محاولين ترتيب مبادلة منازل
بينهم وبين صرب آخرين في أجزاء أخرى من يوغوسلافيا، بعض كبار السن
قالوا إنهم لن يذهبوا إلى أي مكان. وبعضهم تركوا وراءهم كل شيء، يغادرون في باصات تغادر ملعب (بورشيف) مرتين في الأسبوع، ولا مخرج آخر لهم إلا بذلك.
في الساعة التاسعة من صباح يوم الاثنين كان هناك خمس باصات منتظرة
خارج ملعب داخلها 350 فرد لا يحملون شيئاً، أعمار غالبهم بين العشرين
والخامسة والثلاثين كان حولهم مئات من الأقارب والأصدقاء، يلوحون ويشيرون
على أقربائهم أن يدخلوا الباصات باسمين، يغمزون ويشيرون بالإبهام إلى أعلى..
أنور المحامي مع زوجته وطفله الذى عمره خمسة أشهر قرروا أن يغادروا
عندما أوقفه شرطي على عتبة المحكمة وأخبره بأن المسلمين لن يسمح لهم بالدخول.
تحركت الباصات الخمسة ببطء. وانكشفت التمثيلية بوضوح، كل من في
الباص انفجر بالبكاء، الدموع تنهمر بصمت، الأمهات في الخارج مغطيات
وجوههن يهززن رؤوسهن بين أيديهن، الآباء المشهورون بشدة البأس يبكون مثل
الأطفال، يودعون أبناءهم الذين دفعوا أجرة نقلهم ومعهم أوراق من القيادة العسكرية
أنهم يغادرون برغبتهم، وعن طيب خاطر منهم!
عند الحدود أمرنا كلنا بالنزول من الباص، التعليمات واضحة: ممنوع حمل
أي أدوات كهربائية، وممنوع حمل ما يساوي أكثر من مئة جنيه من الأمتعة.
الجميع جلوس على الأرض، وجوه تصبب عرقاً، شعور تتناثر على جباه مجهدة
متعرقة، (350) لاجئاً لا يريدهم أحد يجلسون على حقائبهم ينتظرون أسماءهم
لينادى عليها. الحقائب تفتش ثم يقال لهم: اصعدوا إلى الباصات، كل على
دراجته.
الأمم المتحدة هناك في الجهة الاخرى من الجسر ترحب بهم، فريق من بورما
يفتش الباصات الخمسة عن الأسلحة فلا يجد شيئاً. مراقب من السوق الأوربية
يقول: (هؤلاء ليسوا لاجئين، كلهم عندهم أعمال في النمسا وألمانيا) .
روزاليا خروستك التي هربت من قريتها تدفع العربة بالعجوز، وتشق طريقها
نازلة على الرصيف، وتقول: لم يبق شيئاً في قريتنا، احترق كل شيء، النادي،
المحل، من فضلك [2] ، خذي هذه كتذكار يثبت أنه كانت هناك قرية اسمها
كوساراس، وأن أعمال هتلر لم تكن شيئاً بالمقارنة بما حصل هناك.
__________
(*) عن الغارديان ويكلي، الأسبوع المنتهي في 9/8/1992.
(1) كلمة بذيئة في النص الإنكليزي.
(2) تقول للصحفية.(55/75)
كيف يحمون أقلياتهم
إعداد:محمد صالح الصالحي
أحمد العبدة
ذكر الراديو الكرواتي: أن ماتي بوبان رئيس القومية الكرواتية في البوسنة
والهرسك وقع مع مجلس ممثلي اليهود البريطانيين في لندن اتفاقية بتاريخ 29/7/
92 وتقضي بالسماح لليهود في سراييفو وعوائلهم وأصدقائهم المقربين - الذين قد لا
يكونون بالضرورة يهوداً - بترك سراييفو آمنين.
وستتم عملية تنظيم خروج الطائفة اليهودية بين ممثليهم في سراييفو
والسلطات التي تتحكم في الطرق التي سيسلكونها عند خروجهم، وقد يحضر
مراقبون تابعون للأمم المتحدة إذا أمكن ذلك، وقد حدد تاريخ 5/8/92 لأول قافلة
تخرج من سراييفو ويتبعها بعد ذلك قوافل أخرى خلال أربعة عشر يوماً، وعلى
جميع الأطراف احترام وقف إطلاق النار خلال خروجهم من سراييفو، ويجب
توفير الأمان للقوافل المغادرة من داخل سراييفو إلى خارجها وحتى المناطق
المحيطة. وسيصدر بوبان، بصفته قائداً لقوات مجلس الدفاع الكرواتي الهرسك -
بوسنة، قراراً لجميع القوات التابعة له بتأمين الطريق للقافلة.
وعند مغادرتهم سراييفو ستتولى مؤسسات عالمية يهودية عملية إطعامهم
ومساعدتهم، ولم يذكر في الاتفاقية أسماء تلك الهيئات التي ستقوم بهذه المسؤولية.
وسيطلب المنظمون لهذه القوافل من الأمم المتحدة توفير مراقبين لمرافقتهم لمسافة
عشرة أميال بعيداً عن نقاط التسليم خارج سراييفو.
وتؤمن هذه الاتفاقية أيضاً، حق أي شخص يغادر سراييفو مع إحدى القوافل، في أن يعود ويبيع ممتلكاته، وستغلق بيوتهم وتحمى من الاحتلال أو العبث.
وبالرغم من أن المسلمين في البوسنة-الهرسك يتعرضون لإبادة جماعية
وحشية من قبل الصرب الهمجيين، ويشرد منهم الآلاف خارج أوطانهم، إلا أن
القوى العالمية، ومعها الأمم المتحدة تتظاهر بأنها لا تستطيع في الوقت الراهن أن
تضع حداً لهذه الإبادة. ودول العالم الإسلامي والعربي ليس لديها القدرة والشجاعة
للتحرك لإيقاف هذه الوحشية، أما اليهود فلهم قوة تدعمهم وتعقد لهم اتفاقيات
لإخراجهم من مناطق الحرب سالمين.(55/82)
أيام في أزبكستان
محمد عبد الغفور
عندما حزمنا حقائبنا للسفر إلى أزبكستان، كان ذلك بدافع حبنا لذلك الشعب
ولاستطلاع أحوال إخوان لنا هناك عتقوا من ربقة الشيوعية البغيضة، بعد ما
يقرب من سبعة عقود قضوها بالذل والمهانة، وبحرمانهم من أبسط حقوقهم المادية
والإنسانية.
ومن خلال رؤيتنا لتلك البلاد في الطائرة، بدت وكأنها بساط أخضر موزع
بشكل منظم إلى مزارع وإقطاعات. تتخللها الأنهار والقنوات. بلاد شاسعة خصيبة
تفصلها بعض السلاسل الجبلية المغطاة بالثلوج. وعلمنا فيما بعد بأنها من أغنى
الجمهوريات بالزراعة وخاصة القطن والفاكهة.
مساحة البلاد تقدر بـ 450. 000 كم2، يحدها من الجنوب أفغانستان ومن
الشرق طاجكستان، ومن الجنوب الغربى تركمنستان ومن الشمال كازخستان،
سكانها (23) مليون. ونسبة المسلمين السنة 90%، وقد دخل الإسلام تلك البلاد
في خلافة عثمان - رضي الله عنه - وكان في مقدمة الجيش الذي غزا تلك البلاد
والأحنف بن قيس - رضي الله عنه -، وفي عام 88 هـ استقر الإسلام هناك
بقيادة: قتيبة بن مسلم الباهلي.
عندما حطت بنا الطائرة في مطار (طشقند) عاصمة البلاد، بدا واضحاً ما
خلفه النظام البائد من تخلف مادي وحضاري. وصدق أحد الإخوة عندما كان
يحدثهم فقال: إن كان الغرب قد دمَّر الأخلاق والدين فإنه عمَّر الدنيا ووصل
برفاهية الإنسان إلى ما وصل، على عكس الشيوعية التي: خربت الدين والدنيا.
طشقند المدينة العريقة:
أهم المدن طشقند التي يزيد عدد سكانها على ثلاثة ملايين نسمة وتقع على
رافد لنهر سيحون بالقرب من حدود كازاخستان وتمتد خلف المرتفعات الجبلية
الالتوائية. ولها أهمية تاريخية كمركز للثقافة الإسلامية، فضلاً عن أنها ظلت لفترة
طويلة خلال العصور الوسطى محطة على طريق التجارة بين الصين والعالم
الغربي.
وفيها أماكن تاريخية إسلامية.. ومناظر طبيعية جميلة، ولاحظت بأن
المناطق القديمة تشبه إلى حد كبير المدن الإسلامية الأصيلة، كمدينة دمشق بأزقتها
ودروبها وحاراتها مع اختلاف في الطراز المعماري الذي يتناسب وطبيعة كل بلد
ومناخها. فهناك كثير من المعالم المهمة القديمة كالمعاهد والمدارس التي شيدت
بطريقة المباني العريقة في بلاد الشام والعراق. فمثلاً الصحن الداخلي والنافورة
والحديقة وحولها الغرف وفي صدرها المسجد ومن الأمام المدخل الرئيسي.
وفوجئنا بوجود العشرات من الطلبة والطالبات الذين يتلقون العلم بشغف
واهتمام شديدين، ومنهم أخ شرع بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأزبكية
ولم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. ومن خلال أسئلتي له عن بعض المعاني
تبين لي مدى تفهمه للآيات، وقد ربي هذا الشاب وأمثاله على يد بعض العلماء
وعلى نظام الحجرات [1] . وأيضاً فقد حفظ الله دينه في صدور الكثير منهم
بواسطة الحكومة الملحدة، حيث انشأت معهد الاستشراق لدراسة العلوم الإسلامية
والعربية. واستفاد الكثير من هذا، مثلهم كمثل موسى -عليه السلام- ربي في
حجر فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً.
صلاة الجمعة في مسجد (تخت باي)
يقع هذا المسجد في المدينة القديمة وطرازه المعماري فريد ورائع، ويتسع
لحوالي (2000) مصل، وأثناء الصلاة تمتلئ الساحات والأزقة حول المسجد وجلّ
الحضور من الشباب ولله الحمد وهذا ما أثلج صدورنا.
يبدأ القوم بالتوافد على المسجد قبل الصلاة بأكثر من ساعتين، ويجلسون
للقراءة ريثما يأتي الشيخ /عابد/ ولكل مسمىً من اسمه نصيب، فسمة الصلاح
والتقوى واضحة على الرجل ذي الأربعين عاماً وهو بحق علم من أعلام تلك البلاد
في العلم والأدب. وقف قبل الصلاة بساعة يلقي درساً يفسر فيه أوائل سورة
الصافات من كتاب /في ظلال القرآن/. والناس متفاعلون كأن على رؤوسهم الطير
ولو أننا لا نفهم ما يقول إلا قليلاً، ولكن يبدو على المصلين أثر الكلمات ووقعها
عليهم. فعندما يمر على موقف أو يذكر بحادثة من التاريخ الإسلامي المجيد يكبرون
حتى ترتج جنبات المسجد. ويبدو أن الرجل متفهم لواقعه مدرك لما يدور حوله،
ففي نهاية الدرس كان معه أقصوصات من الجرائد المحلية يفندها ويرد الشبه فيها.
وبعد انتهاء الدرس جاء دور الأسئلة فأجاب عنها أحد الإخوة ممن كان معنا والخطبة
بعدها باللغة العربية لا تتجاوز الثلاث دقائق فقط. وبعد الانتهاء من الصلاة تحلق
القوم حولنا، والكل يريد أن يصافح ويعانق بصفة أننا عرب مسلمون قدمنا من مهد
الإسلام. ويعتبر الشاب الذي يحظى بالسلام علينا قد أحرز سبقاً عظيماً وحظي
بشيء ثمين، ويجب أن يهدي لنا أي شيء معه أو أي خدمة يسديها لنا. ويا ليت
قومي يعلمون كيف يعامل المسلم في بعض بلاد الإسلام العربية التي ينظر إليه فيها
نظرة اشمئزاز ودونية. ولا يدرون بأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى
وبأن أكرمهم عند الله أتقاهم، وبأن الغنى غنى النفس وبأن المال والدولار والبترول
لا يرفع الوضيع كما أن فقدها لا يحط من قدر الكريم.
الأزبك من أكرم الناس
الأزبك كرماء جداً ويحبون الضيف. فما إن يدخل البيت يوضع الطعام أو
بالأحرى يكون موضوعاً على الطاولة في كل الأوقات، ولا يدعون شيئاً عندهم إلا
يضعونه أمام الضيف (المكسرات - الزبيب - الحلوى - المرق - الأرز البخاري
- الفاكهة ... ) . وعلى العموم فهم شعب كريم السجايا محب للخير. مضياف،
فخور بإسلامه، قوي الشكيمة.
وقد زرنا الشيخ /محمد خان / في مزرعته في إحدى ضواحي طشقند، وبعد
انتهائنا من الزيارة والغداء حمل كيس من الرز ليضعه في السيارة وأتى بحلوى
وعسل ليهدينا وبدا لنا أنه لو يستطيع إعطائنا كل شيء لفعل وهو متأثر ويذرف
الدموع. ورددنا طلبه برفق وأخذنا منه حمالات للمصاحف وأهديناه بعض
المصاحف.
إلى قوقاند
انطقنا إلى تلك المدينة التي تبعد عن العاصمة حوالي (300) كم عبر طريق
جبلي وعر وخطير وجميل جداً، يحاذينا نهر كبير يتدفق في وديان تلك السلسلة
الجبلية ليتجمع في الأسفل مشكلاً بحيرة طولها (20) كم. حتى وصلنا إلى ذروة
الجبال وكانت بارتفاع ثلاثة آلاف متر. وبعدها وصلنا إلى المدينة التي بدت لنا
أكثر محافظة من طشقند حيث الهوية الإسلامية واضحة على معالمها، وعلى سكانها.
المدرسة الكمالية
ذهبنا صباحاً مع الأخ صادق قارئ - وهو من حفظة كتاب الله ومن علماء
ذلك البلد مع صغر سنه - لزيارة المدرسة الكمالية وكانت هذه المدرسة معسكراً
للكشافة الشيوعيين واشتراها الإخوة منذ ثلاث سنوات بما يعدل ثلاثة الآف دولار
مع العلم بأن مساحتها حوالي 5000م2 وأدخلوا عليها بعض التحسينات. وتستوعب
حالياً (200) طالب بمختلف المراحل الابتدائية والإعدادية يدرسون علوم الشريعة
والعقيدة على منهاج أهل السنة، وفيها جناح للمنامة، وفيها مطعم كبير مستدير قد
حولوا جزء منه إلى مسجد مؤقت ريثما يتمكنوا من بناء مسجد في صدر المدرسة
وقد هيئوا له بعض مواد البناء. المدرسة أشبه بحديقة كبيرة فيها الأشجار المثمرة
وتحتاج إلي مساعدة لا بأس بها لزيادة سعتها للطلاب. وعدة طلاب طلبوا منا
الالتحاق بمعاهد عربية لإتمام تعليمهم العالي.
أخذنا الشيخ صادق إلى مدرسة أخرى سيكون هو مديرها قريباً عند تجهيزها
وفور إعدادها لاستقبال الطلاب. وهي أرض كبيرة كثيفة الأشجار فيها بعض
المباني ومسبح وصالات رياضية وقد كانت أيضاً معسكراً للشبيبة الشيوعيين
واشتراها الأخ بمبلغ 1. 550. 000 روبل ما يعادل عشرة آلاف دولار منذ عدة
شهور.
المسجد الكبير
أدينا صلاة الظهر في المسجد الكبير في المدينة وهو مسجد رائع التصميم قد
أنشئ في عام 1830 م على الطراز الهندي بأعمدته الخشبية المزخرفة الجميلة
وبساحته الواسعة المزدانة بالأشجار الكبيرة وبأجنحته الصيفية والشتوية وبغرفه
الكثيرة المتعددة النشاطات ويتسع لحوالي خمسة آلاف مصل.
وقد ألقيت فيهم موعظة على هيئة خطبة وكان يترجمها الشيخ محمد رجب
إمام المسجد، فكان ينقل الفكرة بأمانة واستيعاب، لاحظت هذا من خلال تأثر
المصلين وردود فعلهم وتكبيرهم. ومن جملة ما قلت لهم: إن آباءكم وسلفكم
الصالح قد حفظ الله بهم دينه في يوم من الأيام وقد خدموا هذا الإسلام العظيم ردحاً
من الزمن، فالبخاري والترمذي ومسلم وكبار علمائنا من هذه البلاد، فكونوا خير
خلف لخير سلف بعد أن منّ الله عليكم بانعتاقكم من ربقة الحكم الجائر الملحد الكافر
الذي قال عنه نبيهم لينين: سيأتي العام الألف الذي تحتفل فيه الأجيال بميلاد
الشيوعية؛ والحمد لله لم يأت العام الثمانون على نكبة الدين والدنيا (الشيوعية) .
وكنت قد سمعت عن أخبار تعصبهم المذهبي، فركزت في الكلمة على هذه
الناحية، فالمعركة يجب أن تكون مع أعداء الله وأولياء الشيطان، لا بين المسلمين
فكلنا إخوة فمن يجهر بآمين أو يسر بها، من يرفع يديه أو يخفضها، من يحرك
إصبعه أو يثبتها، كلنا إخوة وعلينا أن لا نترك المجال لأولئك الذين يحاولون أن
يبثوا الفرقة فيكم من خلال هذه الجزئيات التي ينفذون من خلالها ( ... ) والحمد لله
كان لهذه الكلمة أثر طيب في نفوسهم وطلبوا منا أن نزورهم باستمرار.
الشيخ تاج الدين:
تعرفنا على هذا الأخ الفاضل في العاصمة من خلال المسجد، يجيد اللغة
العربية ويعمل ليل نهار في الدعوة وتربية الشباب التربية الصحيحة وعلى مذهب
أهل السنة، ويطلق عليهم - شباب أهل السنة - ويقوم حالياً بترجمة معاني القرآن
الكريم إلى الأزبكية، والمشكلة عنده أنه يقابل التعصب المذهبي عند الآخرين
بتطرف في تطبيق السنة كأن يمسك بأعقاب أرجل المصلين لتسويتها للصلاة.
وطبعاً حاولنا إقناعه بعدم التشدد وبأن يفتح صدره للآخرين وليكون أسوة حسنة
ومثالاً يحتذى، ويصف دائرة الإفتاء بالطواغيت مع أنه يوجد بعض الخيرين فيها،
ورتبنا معه رحلة إلى الجبل علنا نستطيع أن نتغلب على بعض التصرفات التي
عنده لأنه يحتك بالشباب عن قرب، استأجرنا باصاً كبيراً وركب فيه سبعون شاباً
وركبنا مع أخينا أبي عبد الله ميممين شطر الجبل والنهر. وكان هناك ولله الحمد
برنامج للموعظة وللعلم وللرياضة وللسباحة وللمسابقات وتوزيع جوائز الفائزين،
وطبعاً الطعام (الرز البخاري) وكان يوماً لا ينسى والحمد لله. وكان لهذه الرحلة
أطيب الأثر في نفوسهم، فحين ودعناهم ذرفت دموعهم وتعلقوا بنا ووعدونا بألا
نأتي في المرة القادمة إلا وقد تعلموا اللغة العربية، حيث ركزنا في حديثنا على
أهمية تعلم اللغة لفهم كتاب الله وهذا في الحقيقة يجب أن يكون من أولويات الدعاة
هناك.
ترجمة القران:
* هناك بعض الجهود المشكورة في هذه المضمار، دكتور سوري مع زوجته
الروسية بدؤوا بمشروع جيد وهو الترجمة وقد انتهيا من ترجمة عشرين جزءاً وقد
جمع بعض المال من الإمارات لهذا المشروع. مع العلم أن الناس هناك بحاجة إلى
ترجمة كتب عن العقيدة، وعن طبيعة المذاهب، وعن حرمة الخمور والخنزير
ومضارها، وعن مؤامرات اليهود وعن زيف بعض الفرق الضالة.
* هناك جهد كبير يقوم به /حزب النهضة/ الذي يمتد إلى جميع الجمهوريات
وإلى روسيا نفسها ولكن البعض ينكر عليهم اهتمامهم بالتجميع قبل التعليم
وباستعجالهم لقطف الثمرة كما هو واقع الجماعات عندنا وبأنهم يستنفذون طاقاتهم
بالأمور الحزبية وهذا مثاله ما حدث في طاجكستان. وعندما التقينا مع الأخ /عبد
الله جان/ سكرتير حزب النهضة نفى هذا وهو مستبشر كثيراً حتى في طاجكستان
وقال بأنهم قتلوا كثيراً من الشيوعيين. وعلى العموم يجب أن تنصب الجهود على
شيء واحد هناك ألا وهو محاربة الجهل فهو العدو الأكبر للمسلمين من إنشاء
للمدارس وإرسال للدعاة وترجمة الكتب فالأرض خصبة والناس متعطشون للإسلام.
دور تركيا:
* تقوم تركيا بلعب دور خطير جداً في تلك البلاد ويبدو أنها في مهمة من
قطب النظام العالمي الجديد لتقطع الطريق - على حد زعمهم - على الأصولية
القادمة من أفغانستان والبلاد الأخرى. فالرئيس الحالي /كريموف/ يدعي على
التلفاز بأنه سيطبق الإسلام على طريقة/مصطفى أتاتورك/ وبأنه شخصية محببة إلى
نفسه ويدعي بأنه رئيس الأمة الإسلامية (بعد أن كان شيوعياً طبعاً) .
* قناة تلفزيونية تركية تبث سمومها ليل نهار وبشكل متواصل من أفلام خليعة
ماجنة أو أفكار خبيثة، بحيث لا توجد هذه العروض حتى في دول الكفر، وتبث
قناة أيضاً إلى روسيا بـ /أفلام جنسية/ وحتى أن التلفزيون المحلي يعتبر محافظاً
جداً أمام القناة التركية الخبيثة. كل هذا ليقولوا للناس: هذا هو الاسلام ولا حرج
فيه من هذا.
* هناك شركات أمريكية كثيرة تفتح باسم شركات وأسماء تركية لأن هذه
الشركات (التركية) لها ميزات كثيرة ويكفي المرء أن يثبت أنه تركي حتى يأخذ ما
يريد.
* واليهود يحاولون كسب الوقت لتثبيت أرجلهم اقتصادياً ويقومون بشراء
الأملاك العامة، والنصارى يوزعون أناجيلهم ويقرعون أجراسهم. والفرصة
الأخيرة للمسلمين الآن ليدخلوا البلد بقوة قبل أن يفوتهم القطار ويلحقوا بركب
غيرهم من البلاد التي تدعي الإسلام.
* الأسعار زهيدة والعروض كثيرة لإقامة مشاريع استثمارية جيدة بالإضافة
إلى ما لها من تأثير على الدعوة هناك..
* لم تمح بعد جميع آثار الشيوعية من البلد فما زالت صور الكاهن الأكبر
لينين في بعض الشوارع أو الميادين وما زال شعر المطرقة والمنجل منتشراً بين
الناس حتى إن بعض المصلين الذين حضروا لنا مواعظ كانوا يحملون على
صدورهم نياشين الشيوعية وشعارها. ولكن بزيادة الوعي بعونه تعالى ستكون هذه
الرموز إلى الزوال بشكل نهائي بعد مدة وبفضل الدعاة المخلصين إن شاء الله.
1- ورد تعريف لنظام الحجرات في العدد (51) بمقابلة مع الشيخ عبد الولي.
__________
(1) ورد تعريف لنظام الحجرات في العدد (51) بمقابلة مع الشيخ عبد الولي.(55/84)
منتدى القراء
فقط تغيرت الراية!
محمد أحمد عسيري
صراعنا الطويل والمرير الذي كتبه الله على أمتنا مع اليهود يتغير من زمن
لآخر، ويتبدل من مرحلة لأخرى. وهذا التغير من جهة الخصم يكون حسب ما
يراه أجدى لتحقيق مصالحه وآماله. والمرحلة التي تكابدها أمتنا اليوم مع الخصم
الخبيث المتقلب الألوان (الحرباء) كانت له رايتان متباينتان، الأولى منها كانت
راية الحرب المعلنة والعداوة الظاهرة لاغتصاب الأرض المقدسة مع غيرها
لاستكمال المخطط القديم والمرسوم كما ورد في التوراة المحرفة.
فتحت هذه الراية حققوا مكاسب كبيرة وعظيمة، فقد استطاعوا أن يحتلوا
القدس الشريف الذي طالما كانوا يحلمون في الوصول إليه ليكون عاصمة الدولة
اليهودية (أورشليم) ، ومن قبله وبعده الأراضي المتبقية من فلسطين وبعض
المساحات العربية، واستطاعوا كذلك التشبث بتراب هذه الأرض عن طريق نفوذهم
السياسي والديني في كثير من الدول الغربية في مواقف تلك الدول من الاحتلال ومن
الانتهاكات الإنسانية خلال حقبة من الزمن، وايضاً عن طريق عملية الاستيطان
التي استهدفت اجتذاب اليهود المشتتين في أنحاء المعمورة. فبهذا استطاعوا عبر
فترة ليست باليسيرة مسخ ما في رؤوس كثير من رموز السياسة العربية عن تاريخ
العرب الفلسطينيين أصحاب الأرض وتوليفهم على أن الوضع الطبيعي هو الوجود
اليهودي. إلى أن اقتنعت تلك الرموز بعدم جدوى التفكير في الرد على الاحتلال
فضلاً عن إخراجهم من الأرض الفلسطينية. ومما يزيد الطين بلة انشغال تلك
الرموز بمصالحها الشخصية خشية أن يصيبها طائف منهم.
عندئذ برزت الراية الثانية ألا وهي راية السلام الملطخة بالدماء. ولم يكن
أصحاب هذه الراية ليرفعوها بأنفسهم لأنهم أحسوا بأن لهم القوة ولهم الظفر في
المنطقة، وعندئذ رفعها ساسة الغرب على شكل دعوة منهم لكلا الطرفين
المتصارعين إلى إنهاء الصراع والعيش بسلام. وهذا ليس بمستغرب من الغرب
المسيحي فقد كانت لهم اليد الأولى في كل ما حققته إسرائيل من انتصارات سياسية
وإقليمية. فكانوا بالنسبة لإسرائيل يمثلون الجنود المخلصين والأوفياء الذين لا
يرون في طاعتها إلا بقاءهم وسعادتهم.
إن القضية لمن وعاها وأدرك فحواها ليست قضية سلام كما يزعمون. بل
هي عمل دؤوب ومتواصل لتحقيق الأحلام اليهودية التي أخذت شكلاً آخر ورفعت
راية أخرى لتغوي بها عقول السذج من العرب والمسلمين الذين يتطلعون إلى واقع
تجتمع فيه النقائض. ولكن هل ستدرك تلك الرموز أنها تمثل آراء شخصية نابعة
من خمود في العزيمة والهمة وإيثار للدعة والراحة وقبول بالذل والمهانة.
إن على تلك الرموز أن تتعظ بما يحدث في العالم من تغيرات نتيجة الاستبداد
بالآراء، وتطويع الشعوب بالحديد والنار لرغبات الأفراد.(55/93)
منتدى القراء
من هموم الدعوة
محمد عبد الله العتيق
تمثل إعادة الأمة إلى الصياغة الربانية المتمثلة في القرون الثلاثة الفاضلة
ملخصاً جامعاً لمهمة الدعوة التي يحملها الدعاة في عالمنا الحاضر. وتبدو أولى
خطوات هذه العملية الفاعلة على أنها بث روح المسئولية في مجموع الأمة، فرداً
فرداً وانتزاع روح الاتكالية وعدم المبالاة في نفسية أفرادها. بعد أن يتم النجاح في
تلك الخطوة، تبدأ مرحلة العمل المباشر لتنفيذ ذلك المشروع الذي نجح الدعاة في
زرعه في نفوس الأفراد وإنزاله إلى خير العمل الواقعي المحسوس، حتى يتحول
الفكر إلى عمل والأمنية إلى واقع ملموس.
وإن أهل الباطل لن يقابلوا ذلك المشروع بالسكون والركون لأنها بالنسبة إلى
الفريقين معركة وجود أو عدم سيادة أو تبعية، ومن هنا، زرعت الأشواك في
الطريق، وهذه سنة الله في خلقه ما بقي الحق والباطل يتصارعان.
على أن مؤيد هذه الدعوة وناصرها الله - عز وجل- لم يترك أحباءه ودعاته
مجردي السلاح في وجه تلك العوائق، فدلهم على ما يتقوون به في معركتهم وبين
لهم أسباب النصر في حربهم مع الباطل، وذلك ما يمكن أن نسميه زاد الداعية. إنه
زاد يماثل الزاد المادي الذي يتزود به الإنسان ومتى ما توقف عنه مات، وكذلك
الزاد المعنوي للداعية، إن تركه فسيموت حتماً، وموت الداعية إنما هو انتكاسة أو
فشل مشروع دعوته. ولسوف أقصر الكلام هنا عن زاد واحد فقط ذلك الزاد،
وأعنى به الصبر.
إن هذا الزاد لازمة من لوازم مسيرة الدعوة في جميع مراحلها فهو أولاً:
صبر عن شهوات النفس ورغباتها، ضعفها ونقصها ثم عجلتها ومللها.
وهو ثانياً صبر على شهوات الناس وشبهاتهم وضعفهم وجهلهم وغرورهم
وانحراف طبائعهم والتوائهم.
وهو صبر على انتفاش الباطل، ووقاحة الطغيان وخذلان أهل الحق للحق.
وهو صبر على قلة الناصر وضعف المعين ومحنة الغربة وطول الطريق.
وهو صبر على مرارة الجهاد وانفعالات الألم والضيق والحنق واليأس
والقنوط.
وأخيراً، هو صبر على ضبط النفس ساعة النصر وإبقاء الصلة مع الله،
ورد الأمر إليه في خشوع وخضوع.
ولئن هال الداعية هذا الحشد العريض من المشاق التي تستوجب الصبر، فإن
مما يعزيه ويشد على قلبه علمه بأن الله معه فهو تعالى مع الصابرين: يعينهم
ويؤيدهم، ويذيقهم من لذة الإيمان والاتصال به، ما يغسل هم الدعوة وآلامها من
القلب.
وإذا كان أهل الباطل يصبرون على باطلهم والدعوة إليه، بل الموت في
سبيله، فأهل الحق ودعاته أجدر وأحق بهذا الأمر [وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ] .(55/95)
منتدى القراء
الحكمة ما هي! ؟
د. محمد عابد باخطمه
من أسباب اختلاط المفاهيم أنه اختلط مفهوم الشجاعة بالتهور ومفهوم الجبن
بالتأني، الكرام بالتبذير، المداهنة والمجاملة والصراحة والوقاحة.. وسأتكلم هنا
عن مفهوم الحكمة.
فقد أصبح مفهوم الحكمة في أكثر الأحيان هو اتباع أسلوب اللين من كل أمر
ومسألة وعدم الاعتراض قولاً أو عملاً على أي خطأ، بل كثيراً ما يصبح هذا
المفهوم هو سايده الخطأ وهذا يعني أن الحكيم هو من يرضي الجميع. ولشرح
المعنى عملياً لنفترض أن حقيراً ما تهجم على صحابة -رضى الله عنهم- أو حشر
أنفه في أمر من الأمور الخلافية في الشريعة، وهو لا يفقه شيئاً فإن الحكمة - كما
يفهمها البعض - تقتضي عدم فتح جبهة معه حتى لا يظن أننا كمسلمين لا نقبل
الخلاف في الرأي.
والحكمة بالمفهوم الاصطلاحي العدل والعلم كما جاء في القاموس المحيط، أي
أن العرب لم تعرف الحكمة بمعنى اللين، ومجاراة الأمر الواقع.
أما الحكمة في القرآن الكريم فقد جاء في سورة [ص 20] ، قال تعالى عن
داود [وشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطَابِ] قال ابن كثير في تفسير هذه
الآية: قال مجاهد في معنى قوله تعالى آتيناه الحكمة يعني الفهم والعقل والفطنة.
وفي سورة النحل [125] : [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِين] . قال ابن كثير: «يقول تعالى آمراً رسوله أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة، قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة والموعظة الحسنة أي بما فيه من الزواجر والوقائع، ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى» وأقول إن الآية أمرت بالدعوة ولم تأمر بالسكوت ولم تقل أرضهم بالتي هي أحسن، بل قالت: جادلهم بالتي هي أحسن، أي إثبات مبدأ المقارعة بالحجة بالأسلوب المنهجي الرزين البعيد عن التشنج.
الحكمة من السنة النبوية:
عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا
من اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته من الحق وآخر آتاه الله حكمة فهو
يقضي بها ويعلمها) . قال ابن حجر: إن المراد بالحكمة القرآن كما في حديث ابن عمر، أو أعم من ذلك أو ضابطها ما منع من الجهل وزجر عن القبح. ومن كتاب
فضائل الصحابة، عن ابن عباس قال: «ضمنى النبي - صلى الله عليه وسلم -
إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة» .
ومن كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر، من حديث ابن كعب أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من الشعر كلمة» ، أي قولاً صادقاً
مطابقاً للحق وقيل أصل الحكمة المنع فالمعنى أن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من
السفه.
أمثلة من الحكماء:
1- الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
كان - صلى الله عليه وسلم - أحكم البشر وهو أرحمهم. انظر إليه وهو يأمر
من نقر صلاته أن يعيدها مرة واثنتين، وانظر إليه يترك الحسين يرتقي ظهره في
الصلاة ويزجره عن الأكل من تمر الصدقة، انظر إليه يوقع صلح الحديبية، ثم
انظر إليه يحل دم من هجا المسلمين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، انظر إليه وهو
يقول: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إذن فالحكمة لين في مكان
اللين وشدة في موضع الشدة.
وبعد، لعله أصبح من الواضح أن الحكمة لا تعني اللين في كل شيء وأن
مجرد استخدام الشدة لا يعني الخروج عن الحكمة. الحكمة هي وضع الأمر في
موضعه، والشدة لا تعني الضرب والقتل وسفك الدماء، الشدة هي الثبات على
الحق والدفاع عنه باللسان أو بالقلم أو حتى بالسيف إن لزم الأمر، والوقح الذي
يتطاول على أحكام الشريعة عندما لا يستجيب للنصح لا بد أن يوقف عند حده،
والحكمة ليست السكوت عليه ناهيك عن تشجيعه والتماس الأعذار له.
إن الضابط هو خشية الله -عز وجل-، فلا نستخدم الشدة في موضع اللين
فننفر، أو نستخدم اللين في موضع الشدة فيطغى الظالم.(55/97)
الدعاء وصلاح الأبناء
عبد الله بن سريِّع
إني رأيت الناس في مسألة طلب صلاح الأولاد مع فعل الأسباب التي تؤدي
بإذن الله وتوفيقه إلى ذلك، على طرفي نقيض، فتجد منهم من يفعل كثيراً من
الأسباب؛ ويقدم جهداً طيباً في طلب الهداية لأولاده؛ لكنه يهمل الدعاء لهم بالهداية
والتوفيق، وفي المقابل فإنك تجد منهم من يهمل جميع الأسباب المؤدية لهدايتهم -
بعد توفيق الله تعالى - ويقتصر على الدعاء لهم بالهداية، ومع أن الدعاء عامل مهم
جداً في هذه المسألة إلا أننا يجب أن نتذكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -
«اعقلها وتوكل» [1] ، فلا بد إذن من اعتبار أن الدعاء لهم من أسباب هدايتهم
دون الاقتصار عليه.
والعجيب في الأمر أنك قل ما تسمع أو تقرأ للذين يتحدثون أو يكتبون في
موضوع تربية الأبناء تركيزاً على مسألة الدعاء لهم بالهداية، ومعلوم أن الإسلام قد
أعطى جانب الدعاء للأولاد وصلاحهم اهتماماً خاصاً ورغّب في ذلك وحث عليه،
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر،
ودعوة الوالد لولده» [2] . فالدعاء - بشروطه - عامل مهم من عوامل صلاح
الأبناء وهدايتهم، وإن صلاح الأبناء ينفع الآباء في حياتهم وبعد مماتهم بإذن الله.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [3] .
__________
(1) انظر صحيح سنن الترمذي 2044 للألباني.
(2) انظر صحيح سنن ابن ماجه 3115 وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1797 كلاهما للألباني.
(3) رواه مسلم في كتاب الوصية 14.(55/99)
من المسؤول عن هذا الفساد؟
محمد الحمد أبو عزّام
كثرت المخالفات الشرعية والأخلاقية في شتى أنحاء العالم الإسلامي، هرم
عليها الكبير وشب عليها الصغير وهي تعد فساداً عريضاً ما يلبث أن ينمو شيئاً
فشيئاً تموله أيدٍ عميلة خبيثة، أكل الحقد والحسد قلوبها فأصبح عطاؤها خبيثاً.
ولو حاولنا معرفة هذا الفساد وتلمسه لنصف له العلاج لطال بنا المقام. وفي
مقدمة هذا الفساد والانحلال ما تمارسه أجهزة الإعلام على مختلف أنواعها من قلب
للحقائق وتصوير سفلة الأمة وأصحاب الأفكار الهدامة على أنهم المفكرون
والمرشدون للأمة! ! [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِباً]
فعلى أثر هذا نشأ جيل مشوه الأفكار، مطموس البصيرة، مما يجعل من
الفنانين والرياضيين قدوة يحاول كل جهده أن يحاكيهم في كل شيء! ! أما أسماؤهم
وأسماء آبائهم فقد حفظت في ذاكرته في حين لا يكاد يعرف من هم الخلفاء
الراشدون الأربعة! ؟ فهذا نموذج مما عمله الإعلام في الأمة فمسح عقول أبنائها من
الفضائل وأحل محلها الرذائل ...(55/101)
بريد القراء
* رسالة من المحرر:
يرسل إلينا الكثير من الإخوة القراء بمشاركات وخواطر ومقالات كي تنشر
في مجلة البيان، ونحن نحرص على تشجيع القراء قدر الإمكان، ونحثهم على
الاستمرار في الكتابة، ولكن كثيراً من هذه المحاولات والمشاركات قد لا تكون
بالمستوى المطلوب إما شكلاً وإما مضموناً وإما من الناحيتين، أما المناسب من ذلك
فننشره، وغير المناسب نستبعده، لذلك نرجو ممن يبعث إلينا بشيء من ذلك أن
ينتظر عدداً أو عددين فإن رأى بأن شيئاً قد أرسل به قد نشر؛ وإلا فعدم النشر
يعني أن ما أرسل به غير مناسب نشره، ونرجو أن لا يصده ذلك عن مواصلة
مراسلتنا وإعادة المحاولة.
* من الأخ أبي عبد المجيد جاءتنا هذه الكلمة:
«أناشد إخواني المسلمين في جميع أنحاء العالم أن لا يتركوا أطفالنا في
البوسنة-الهرسك بين أيدي النصارى، وأن يطالبوا بتربيتهم تربية إسلامية، ولدى
البلاد الإسلامية وإذا أمكن أن يوزعوا على المسلمين في جميع أنحاء العالم حتى
ينشأوا في بيئة إسلامية. وأن يفتح المجال لمن أراد أن يتكفل بيتيم أو أكثر. إنه
نداء لكل مسلم، يجب أن نبادر قبل أن يبادر النصارى لتنصيرهم في ألمانيا أو أي
دولة أخرى» .
* من الأخ جدوى عبد الكريم وصلتنا هذه الكلمة
«إن الاهتمام بالمسلمين وبقضاياهم الشائكة ليس مقصوراً على ما يجري لهم
ولا على الاهتمام بالجانب المعنوي، بل لا بد من الاهتمام بالجانب المادي، وليت
المسلمين في أنحاء المعمورة يعلمون أن هناك إخواناً لهم لا يجدون ما يأكلون أو
يلبسون ...
* الإخوة: ناجي ناصر سالم وشريف قاسم
نشكر لكم رسائلكم وما حوته من مشاعر رقيقة وملاحظات مفيدة.
* الأخ فهد العدل
أرسل توجيهات نافعة لخطيب الجمعة ومقالاً حول الصبر وعاقبته. وتسرنا
محاولاتك للكتابة، لكن حاول أن تعتمد على نفسك.
* الأخ عثمان الخنين
جزاك الله خيراً على كثرة رسائلك للمجلة وملاحظاتك المفيدة. أما بالنسبة
لمقاليك ففيهما الكثير من الفوائد.
* الأخ عبد الكريم الشريدة
نشكر لك رسالتك ومحاولاتك الكتابة وحاول أن تعتمد على نفسك وفقك الله لما
يحبه ويرضاه.
* الأخ أحمد الصقعوب
نشكر لك خواطرك الجميلة وروحك العالية وتقبلك لعدم نشر المقالة - في حال
عدم صلاحيتها للنشر - نفع الله بك وبإخوانك المسلمين.
* الأخت أم قتيبة
الموضوع الذي أرسلت قد كثر الكلام حوله والتأليف فيه، ولا نرى داعياً
لتكرار الكلام فيه وجزاك الله خيراً.
* تعقيب من الأخ الشاعر محمود مفلح
قرأت في العدد (51) مقالاً للأخ الأستاذ عبد الله محمد العسكر ص 41
بعنوانه» الأدب الذي نطمح إليه «واستشهد الأخ في ختام مقاله بتسعة أبيات من
الشعر مطلعها:
وقصائد مثل العرائس مهرها ... غال وأخرى ليس فيها مطمع
ولم يذكر اسم صاحب هذه الأبيات. والحقيقة أن هذه الأبيات لى من قصيدة
» هل يستوي «من ديواني (إنها الصحوة، إنها الصحوة) وشكراً لكم..
* من الأخ يوسف بن عبد الله وصلتنا قصيدة بعنوان (الداعية الصغير)
نختار منها هذه الأبيات:
رأيت صغيراً جوار الكتب ... جميل المحيا رفيع الأدب
دؤوب القراءة ظني به ... على الوقت يخشى قصور الطلب
فقلت: السلام على من أرى ... شموخ الأوائل منه اقترب
توقف ثم ببعض الكلام ... أفاد بقول شبيه الذهب
وقال: سلام إليك الكتاب ... إليك العلوم قبل العطب
فلا بد من أن نقود الأمم ... ونسعى لنيل أعالي الرتب
ونحمي العقيدة من مارق ... ونعلي الشريعة فوق الحسب
فقلت سريعاً وقد هالني ... نضيج العقول بحجم العلب
ألسنا دعاة إلى الجنة ... ألسنا هداة لخير القرب
أنخشى نخوض بدرب الجهاد ... غمار المنايا لنيل الأرب
فنغفل هذا يعيث فساداً ... وذلك يكيد لخلط النسب
فينسى الولاء ويبكي البراء ... ونمضي بشرع مجرد لقب
وتلغى الحدود ويعصى الإله ... ويبدو الفؤاد كبيت خرب
ويبقى الجهاد بدعوى السلام ... وزعم الوئام حبيس الكتب
فكيف نعد شباباً أبياً ... قوي العزيمة عند الخُطُب(55/102)
دور المنزل
في تربية الطفل المسلم
أم عمر التويجري
إننا ونحن بصدد البحث في هذا الموضوع لا بد لنا من الحديث عن الأساس
والنواة الأولى المسؤولة عن ذلك الطفل، ألا وهي الأسرة وتكوينها. إن من أراد
بناء أسرة إسلامية ينشأ عنها جيل صالح عليه أن يُعني قبل ذلك باختيار الزوجة
ذات الدين والخلق الكريم والمنبت الحسن حتى تسري إلى ذلك الجيل عناصر الخير
وصفات الكمال، قال - عليه الصلاة والسلام-: (تنكح المرأة لأربع لمالها، ...
ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك) متفق عليه. لذلك
فعلى الرجل أن لا يكون همه الاقتران بامرأة ذات جمال، درن مبالاة بدينها
وأخلاقها، فإن ذلك منغص للحياة هادم لها، مسبب للفراق.
وبالمقابل فإن الشريعة الغراء عندما دعت الرجل لاختيار الزوجة الصالحة
فإنها حثت الآباء على حسن اختيار الرجل الكفء لبناتهم صاحب الدين والخلق
القويم القادر على حمل الأمانة وصيانة المرأة.
لذلك فإن حسن اختيار الأم والأب ينشأ عنه صلاح ذلك الجيل الناشئ عن تلك
الأسرة، فكل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه،
كما ورد في الحديث.
* مرحلة الطفولة مرحلة إعداد وتدريب وتربية ومن أجل ذلك حثت الشريعة الغراء على أمور منها:
1- تعليم الأطفال كل ما يعود عليهم بالنفع في الدين والدنيا وتلقينهم الشهادتين.
2- غرس محبة الله ورسوله وصحابته في قلب الطفل.
3- تحفيظ القرآن سورة سورة وما تيسر من الحديث.
4- أمره بالصلاة عند بلوغه سبع سنين.
5- تعليمه الطهارة والوضوء، وتعويده على الصدق والأمانة والبر والصلة.
6- إبعاده عن مجالس السوء واللهو والمنكرات.
7- تعليمه الأدب الحسن (ما نحل والد ولده خير من أدب حسن) .
8- تجنيبه الخمر والمسكرات وما يفسد الدين والبدن والأخلاق.
9- تدريبه على الشجاعة والإقدام والاخلاص في العمل.
10- تدريسه حياة العظماء والصالحين والأبرار ليقتدي بهم.
* أخطاء نرتكبها في معاملة الأطفال:
1- سوء فهم نية الطفل، وتجاهل عواطفه، فكثيراً ما نقسو عليه ونعاقبه
بالضرب والازدراء والتحقير. كما أنه ليس كل مخالفة للوالدين يرتكبها الطفل
عنوان الشقاوة، بل هي على الأغلب عنوان نشاط وحيوية، ومظهر لنمو
الشخصية لديه.
2- من الأخطاء تخويفه بالغول والعفاريت ليهدأ أو لينام.
3- الاختلاط بين الجنسين، والتساهل في مشاهدة التمثيليات، وأفلام القتل
والجريمة، والانحراف، وتصفح المجلات الخليعة.
* بعض الأمور النافعة في تربية الطفل:
1- القدوة الحسنة: وذلك لأن الطفل يقلد من حوله لا سيما الأم والأب
والأقارب، لذا لا بد من إيجاد القدوة الحسنة الملتزمة بالخلق الرفيع والألفاظ الطيبة.
2- الرفق: معاملة الطفل لا بد لها من عطف ورحمة به كما قال -عليه
الصلاة والسلام- للأقرع بن جالس لما أخبر أنه لا يقبل أحداً حتى أولاده: «من لا
يرحم لا يُرحم» .
3- العدل: إن تفضيل الأبناء بعضهم على بعض يزرع العداوة والبغضاء،
وعلى الأبوين العدل بينهم في كل شيء، لأنه أدعى إلى المودة والتآلف.
* تعليم الطفل المسلم:
قال تعالى: [عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ، وقال تعالى: [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ
القُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ] .
وهذه بعض الأمور التي يجب مراعاتها في تعليم الطفل:
1- تعليم الطفل الأكل باليمين والتسمية عند الأكل والدخول والخروج.
2- تعليمه الاستعانة بالله وحده وتشجيعه على الصلاة مع الجماعة.
3- تعويده النظافة في الملبس والمسكن.
4- التفريق في اللباس بين الذكر والأنثى، وعدم تشبه كل منهما بالآخر.
5- تعليم البنت على الستر في الملبس منذ الصغر والحجاب عند البلوغ.
6- تعليم الولد الرماية والفروسية والسباحة.
7- الاهتمام بتنمية جانب الذكاء لدى الطفل بالبحث والمناظرة.
8- عدم إنهاكه بالتعليم النظري المتواصل حتى لا يمل ويتركه.
هذا وأرجو أن أكون قد وفقت في عرض سريع مختصر عن دور المنزل في
تربية الطفل المسلم حيث إن الموضوع لا يمكن الإلمام به من جميع جوانبه في مقالة
قصيرة كهذه.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
المراجع:
1- الطفل في الشريعة الإسلامية / د. محمد أحمد الصالح.
2- الطفل المثالي في الإسلام / عبد الغني الخطيب.
3- كيف نربي أولادنا / الشيخ محمد جميل زينو.(55/105)
النشاطات الصيفية للمنتدى الإسلامي
(1) الملتقى الثقافي الثالث عشر:
نظم المنتدى الإسلامي يومي السبت والأحد الموافق 2-3 صفر لعام 1413
هـ الملتقى الثقافي الثالث عشر، في مركز المؤتمرات التابع للمؤسسة الإسلامية
في مدينة ليستر.
شارك في الملتقى كل من:
* الدكتور جعفر شيخ إدريس - مركز الدراسات العربية والإسلامية بأمريكا.
* الشيخ عبد المجيد الشاذلي.
* الدكتور محمد مطر الزهراني - الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
* الدكتور محمد صلاح الصاوي - مركز بحوث تطبيق الشريعة في باكستان.
وقد تناول الملتقى الموضوعات التالية:
1- موقف الفرد المسلم من الحكومات المعاصرة.
2- التعاون بين المسلمين: تأصيل وترشيد.
3- الهوية الإسلامية: وظاهرة الاغتراب.
4- دور المرأة في العمل للإسلام.
وختم الملتقى بلقاء مفتوح بين الحضور والمحاضرين.
وشارك في الملتقى حوالي ثلاثمائة رجل وامرأة، وفدوا من أرجاء مختلفة من
بريطانيا وإيرلندا.
(2) الدورة الخامسة للعلوم الشرعية:
استمراراً لخطة المنتدى الثقافية، فقد أقام في مقره بلندن الدورة الخامسة
للعلوم الشرعية مساهمة في تأصيل ونشر منهج أهل السنة والجماعة بين الدعاة
وطلبة العلم وأئمة المساجد في الدول الأوربية، وذلك في الفترة 18-30 صفر
1413 هـ / 16-28 أغسطس 1992.
ولقد اشتملت الدورة على أكثر من سبعين درساً في المجالات الشرعية
والدعوية المختلفة، موزعة على مجموعتين، من أبرزها:
* أصول في التفسير ومناهج المفسرين.
* منهج ودراسة التاريخ الإسلامي.
* الضرورة الشرعية وضوابطها.
* طرق تخريج الأحاديث.
* حاضر العالم الإسلامي.
* أصول في الدعوة.
* الوجود الإسلامي في أوربا.
* أصول في دعوة غير المسلمين.
* أحكام المعاملات مع الكفار.
* لمحة عن تاريخ العرب الحديث.
* رأي أهل السنة في الدولتين الأموية والعباسية.
بالإضافة إلى دروس في مصطلح الحديث، وشرح العقيدة الطحاوية، وشرح
الآجرومية.
وقد شارك في هذه الدورة دعاة متخصصون منهم من خارج المنتدى الشيخ
أحمد أبو لبن والشيخ سعد الموسى والشيخ عثمان ضميرية والشيح محمد عبد الله
الدويش.
وقد بلغ عدد الدارسين في هذه الدورة سبعين دارساً، من أنحاء بريطانيا
وبعض الدول الأوربية كهولندا والدنمرك والنرويج.
والمنتدى الإسلامي يشكر جميع الإخوة المشاركين في هذه النشاطات، ويرجو
الله أن ينفع بها، وأن يعينه على الاستمرار في أداء هذه الرسالة.(55/109)
الورقة الأخيرة
قد بدت البغضاء من أفواههم
حسن عبد الغني
بعد أزمة الخليج بأشهر، زار المنطقة المستشرق الأمريكي /فرانك فوجل/
رئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة هارفارد ودعي لمحاضرة في المركز
الثقافي لمدينة الشارقة، وكان عنوانها (السياسة الشرعية في الإسلام) وكان جل
الحضور من الشباب المسلم لرغبتهم في السماع لعالم يتكلم عن الإسلام ولا يدين به.
بدأ الرجل حديثه بلغة عربية متمكنة، وبلهجة واثقة متأنية، وقدم له أحد
الوعاظ في مدينة الشارقة. تكلم عن سيرته الذاتية وعن دراسته للإسلام، وعن
إقامته في السعودية مدة خمس سنوات يجمع فيها معلوماته النظرية والتطبيقات
العملية في المحاكم الشرعية. وعن إقامته فى مصر لمدة سنتين ولنفس الغرض.
حتى كوّن لديه ذخيرة لا بأس بها عن هذا الدين.
تحدث بشكل مستفيض عن أن الإسلام دين ودولة، واستشهد لأقواله بكلام
السلف وبكتاب ابن تيمية «السياسة الشرعية» وأكد على تفرد هذا الدين بهذا العلم. ثم انتقل للحديث عن النظام الغربي وكيف توصلوا إلى قانون يحكمهم وسمّاه / قانون
الشعب/ يحصل في ظله كل فرد على حقوقه دون تمييز، وبأن هذا القانون مطبق
بشكل واسع في كثير من الدول المتقدمة. وبأنهم يحاولون جاهدين لتطبيقه في العالم
الثالث الذي تحكمه الدكتاتوريات، وبأن الغرب مشفق على شعوبهم.
وعقد مقارنة بين النظام الغربي والنظام الإسلامي وقرر فيه ما مجمله بأن
الزمن قد تجاوز الشريعة الإسلامية التي لم تطبق إلا في فترة محدودة، ليحل محلها
(قانون العالم الحر) وبأن العالم في النهاية سيدين له.
وطبعاً أدخل في ثنايا حديثه قضية المرأة التي أعطيت كامل حقوقها في ظل
قانونهم واستأذنت في المداخلة. ومما قلته له بأن الإسلام عندما طُبِّق في عالم الواقع
استطاع ذمي قبطي أن يقطع مئات الأميال من مصر إلى المدينة المنورة حيث
الفاروق ابن الخطاب - رضي الله عنه - ليشكو إليه ابن أمير مصر عمرو بن
العاص الذي ضربه بالسوط. وما كان من عمر إلا أن أحضر عمرو بن العاص
حاكم مصر وابنه ليقول له كلمته العظيمة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم
أمهاتهم أحراراً» قم يا هذا واضرب ابن الأكرمين.
ولا أظن بأن هذه الحادثة أو أدنى منها قد حصلت أو تحصل في بلادكم وتحت
سيادة قانونكم، وأنت تقول بأن الغرب يحاول أن يعطي العالم الثالث جرعات من
الديمقراطية ليصل في النهاية إلى ما أنتم عليه، وهذا غير صحيح وفيه مغالطة
كبيرة، لأنه لو قام أفراد أو جماعة في عالمنا الإسلامي يطالبون بحقهم في التعبير،
وبحقهم في المشاركة، وبحقهم في الحرية والإنسانية، لسحلوا بالمدرعات وبتشجيع
من حكوماتكم ومن ساستكم. دعونا نطبق ديمقراطيتكم ولو مرة واحدة لتروا بأن
الشعوب ستختار الإسلام وعندها يطبق في واقع الحياة وترونه بأم أعينكم، وعندها
سيدخل من شاء منكم في دين الله، ويدعو له بين أظهركم.
ولا ندري لماذا تحقدون على الإسلام وتخافون منه، وربما أخطأت بالتعميم
ولكن هذا ما نراه من خلال سياستكم المعلنة والمبطنة. ويبدو أنه مصداق قول ربنا: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] ، وقاطعني بكلامه
بأنه سوف ينقل هذه الرسالة إلى المسؤولين في بلاده، وقال: إنما جئت للمحاورة.
وطبعاً كان هذا اللقاء قبل انتخابات الجزائر وما تمخضت عنه من فضح لهم وتعرية
لأدوارهم في عالمنا الإسلامي. وفي نهاية المحاضرة توجه نحوي باحترام وأدب
مصطنع وقال: أوافقك على كل ما قلت، وأقولها بصراحة، نحن نعيش وأنتم زمن
الحقبة الأمريكية.(55/111)
ربيع الآخر - 1413هـ
أكتوبر - 1992م
(السنة: 7)(56/)
الافتتاحية
الحق والباطل
لا يستطيع كاتب يكتب في شأن من شؤون المسلمين أن يتجاوز المحنة التي
يعاني منها المسلمون في البوسنة والهرسك، هذه المحنة التي أقضت مضاجع
المخلصين الذين يتحرقون ألماً لما يجري هناك، فبذلوا ما في وسعهم من العون
المادي والمعنوي، ولكن أنىّ لهذه الجهود المتواضعة أن ترد عادية الصرب
الصليبيين، أو ترد مكر الغربيين الذين سكتوا عن الجرائم المروعة التي تمارس
ليل نهار على مسلمي البوسنة، وهم يرونها في وسائل إعلامهم، ولكن بما أن
الضحايا مسلمون فالخطب يسير!
تفتحت عبقرية الصرب العنصرية، وظهر الحقد الدفين المتراكم منذ أن
انتصر العثمانيون عليهم في معركة «كوسوفو» وحكموا هذه البلاد. وظهرت
أوربا على حقيقتها في تعاملها مع المسائل التي تمس المسلمين، وهي السياسة نفسها
التي كانت تسلكها مع ما يسمى بـ (المسألة الشرقية) وعادت المسألة الدينية واضحة
جلية عند اليونان والرومان والروس الذين يساعدون الصرب سراً وعلناً، بالأسلحة
وغير الأسلحة، وما ذلك إلا لاتحادهم في المذهب الأرثوذكسي. وتفتحت شهية
الغرب على إعادة رسم خريطة العالم الإسلامي وبمزيد من التفتيت، ولم يكفهم ما
فعلوه بعد الحربين العالميتين من تقسيم وتقطيع، وسيكون التفتيت في هذه الأيام
على أساس العرق أو التعصب الطائفي، فكانت فكرة المحميات في العراق،
ويتكلمون الآن عن جنوب السودان، ووضعت الصومال تحت حماية الأمم المتحدة، والمخطط ينفذ وليس من قوة تعترضه، والغرب الذي يشجع هذه العصبيات
يسعى هو إلى الوحدة بشتى صورها وأشكالها.
أنىّ للمسلمين في هذه الأيام مقاومة هذا التوحش الصربي وهذا المكر الأوربي
وهم مقهورون في ديارهم وأوطانهم، يعانون الخسف والهوان من أبناء جلدتهم
وممن يتكلمون بلغتهم، وهل يستطيع المسلم في تونس أو الجزائر تقديم العون
لأخيه في البوسنة وهو يعاني ما يعاني من ظلم تندك له الجبال، والإخوة في
أفغانستان لم يستقر لهم قرار، ودخل بعضهم في دهاليز السياسة والحسابات الدنيوية
والتحالفات المشبوهة مع (البرشميين) و (الخلقيين) و (الباطنية وفروخهم
الإسماعيليين) . ونخشى إذا استمر بهم هذا الحال من التفرق أن يذهب الأمر من
أيديهم - لا سمح الله-.
هذه الأوضاع المؤلمة التي تمنع المسلمين من مساعدة إخوان لهم في البوسنة
تفرض علينا سؤالاً ملحاً - وإن لم يكن جديداً -: إذا كان المسلمون على الحق
وغيرهم على الباطل، فما الذي دهاهم وأوصلهم إلى هذه الحال، حتى أصبحوا
طعمة لكل طامع ونهبة لكل ناهب، تتناوشهم المصائب من كل مكان، وتتعاورهم
المشاكل من كل جانب، هل فعلوا كل الأسباب الواجبة شرعاً ولكنهم لم يوفقوا؛ أم
أنهم مقصرون بل ومستهترون في الأخذ بهذه الأسباب، ولذلك لم تأت النتائج
المطلوبة؟ ! إن من سنن الله في الخلق أن للباطل جولة وللحق جولات، ولا يسلط
الله أعداءه على أوليائه [ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] [النساء:
141] ، وإذا تصارع الحق والباطل فالغلبة للأول قال تعالى: [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ]
[الرعد: 17] ، وقال أيضاً: [أَمْ نَجْعَلُ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الأَرْضِ] [ص: 28] ، وقال: [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ
زَاهِقٌ ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] [الأنبياء: 18] .
إن تسلط أوربا على العالم الإسلامي هذه الفترة الطويلة دليل على أن هذه
الأمة لم تأخذ بأسباب القوة والعزة والاستقلال، وقد أكثر القرآن الكريم من الحديث
عن سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول في الذين يظلمون وفي الذين يعدلون، وأن
العاقبة للتقوى، ولا يوجد كتاب في الدنيا تكلم عن السنن الاجتماعية مثلما تكلم
القرآن، ومع ذلك تجد المسلمين أقل الناس أخذاً بهذه السنن، بل وربما وصل الأمر
ببعضهم أنه إذا تكلم بهذا الموضوع وحاول إبرازه رُمي بالبعد عن الدين، وأنه
يتكلم في أشياء ليست من الإسلام أو أنه يقلد أفكار الآخرين.
هكذا وصل بنا الحال إلى أننا لا نستفيد من حكمة القرآن وإرشاده في صراعنا
مع الأمم الكافرة وفي تنظيم حياتنا الاجتماعية، ونفهم آيات البعد عن الدنيا فهماً
خاطئاً أخذناه عن الزهد الأعجمي الذي دخل علينا مبكراً فكان له الأثر السيئ في
عدم إذكاء جذوة الصراع مع الباطل، وأنه لابد من الاستعداد الدائم والتمكن في
الأرض حتى لا يروج سوق الباطل ويفسد في الأرض.
إن أحق من يفقه هذه السنة الربانية ويأخذ بها هم الدعاة والعلماء، الذين
يصعب الآن جمعهم على مائدة الحوار والتعاون أمام الباطل المنتفش [فَلَوْلا كَانَ
مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا
مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ] [هود: 116] .(56/4)
في إشراقة آية
[ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
د. عبد الكريم بكار
كان من جملة تسخير الله - تعالى - الكون لهذا الإنسان أن بثّ فيه سنناً تتسم
بالاطراد والثبات والشمول. وهذه السنن مبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات.
وإن وجود السنن رحمة من الله - تعالى - بنا؛ إذ أننا تمكنا بسببها من اختصار
كثير من الجهود التي كان علينا أن نبذلها لفهم ما حولنا والتعامل معه. ولنتصور أن
قانون إحراق النار، أو قانون الجاذبية، أو قانون تغير الحال إلى الأحسن أو الأسوأ
تبعاً لجهد الإنسان وسلوكه لم يكن ثابتاً ولا مطرداً فكيف ستكون الحال إذن؟ !
ومظهر آخر للرحمة في اطراد السنين هو أن التحول في أكثر الظواهر
الاجتماعية يتم ببطىء؛ وعمر الإنسان قصير إذا ما قيس بعمر الحضارات؛ مما
يجعله يبصر مقدمات الحدث دون نتائجه، ونتائجه دون مقدماته وأسبابه. وحينئذ
فإن من السهولة بمكان أن يصاب المرء بغبش الرؤية وضلال الأحكام.
والسنة بتجسيرها للعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل جعلت في إمكان
المسلم أن يعرف النتائج من خلال الوقوف على الأسباب، والمقدمات من خلال
رؤية نتائجها، أي جعلت الأزمنة كتلة واحدة، وهي بهذا الاعتبار تكون قد أمنّت
للمسلم نوعاً من التواصل عبر حقب الزمان المختلفة، فالماضي لم يغادرنا حتى
ترك في حاضرنا ثقافة عصرنا وصفات وراثية محددة وظروفاً تؤطر مساحات
حركتنا اليوم. إن الماضي سيظل يظهر في الحاضر بصورة ما، وإن الحاضر
سيظل يظهر في القابل بصورة ما، وإن فيزياء التقدم عبارة عن حديث الحاضر مع
الماضي عن المستقبل.
السُنَّة: إلتحام بكل الأبعاد..
إذا كانت السنة هي الناموس العام الذي يؤمن الاستقرار والانسجام بين
جزئيات الظاهر الواحدة إذا ما توفرت بعض الشروط الموضوعية فإن هذا يعني أن
المسلم مأمور بعبور الماضي ليفهم جذور حاضره، ومأمور بتجاوز الحاضر ليمد
النظر نحو المستقبل؛ كيما يفقه الخطوة المناسبة. ونجد نصوصاً كثيرة في هذا
الأمر، كقوله سبحانه: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران: 137] . وقوله سبحانه: [قُلْ سِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ] [العنكبوت: 20] . إنها دعوة للسير في الأرض والخروج من سجن المكان
المألوف لرؤية خلق الله وإبصار سننه فيه. وبما أن المكان يرث دائماً الزمان فإننا
سوف نبصر من خلال السير في الأمكنة الكثير من الأزمنة الماضية وما خلفته لنا
من آثار خلق الله تعالى.
وقد كانت هذه الأمة تحتل في يوم من الأيام مكان الصدارة بين الأمم؛ فإذا بها
تبحث عن مكان في الذيل، فلا تجد! والخطوة الأولى نحو استعادة بعض ما فات
تتمحور حول بحث الأسباب التاريخية التي أدت بنا إلى هذه الحالة المنكورة. وهذا
يعني أن علينا أن نثابر في قراءة التاريخ المرة تلو المرة حتى نقف على جذور
الواقع الذي نعيشه إذا ما كنا جادين في تغييره نحو الأحسن.
إن ظواهر كثيرة في حياتنا ستظل غير مفهومة ما لم نعد إلى جذورها العميقة
الضاربة في القدم؛ فإذا ما نظرنا - مثلاً - في ظاهرة «ذل المسلم وخضوعه» لم
نستطع أن نفهمها ما لم نعد إلى الماضي، فإذا عدنا رأينا ما يسوِّغ ذلك، فقد صُب
عليه من صنوف التعذيب النفسي والجسدي، ومن صنوف الإذلال والإهانة وسياسة
«اسحق الذبابة بالمطرقة» ما لا يفرز إلا مسلم اليوم!
ذلك باستمرار باسم المصلحة العامة وأمن الأمة والاستقرار العام! ! لكن لا
بد من القول إن انفتاح العالم على بعضه حتى تحول إلى «قرية إعلامية» - كما
يقولون - قد جعل فهم الواقع اليوم أكثر تعقيداً. والسبب أن جزءاً من هذا الواقع
هو الذي يمكن مسُّه، أما الباقي فجذوره وخيوطه ربما كانت خارج أرضي المسلمين
كلها! !
لكن مهما يكن من أمر فإن السنة ترسم لنا المسار العام إن لم تتحفنا بالتفاصيل.
السنة وعلوم المستقبل:
هناك اليوم حركة محمومة في الغرب لدراسة المستقبل، حتى صار لديهم علم
اسمه «علم المستقبل» . وهم يصنفون المستقبل إلى مباشر، وهو يغطي مساحة
زمنية قدرها عام، ومستقبل أقرب وهو يغطي مساحة قدرها خمسة أعوام،
ومستقبل قريب يغطي مساحة قدرها عشرون عاماً، ومستقبل بعيد يمتد إلى نحو
خمسين عاماً، ومستقبل أبعد يتجاوز الخمسين. وهم لخبرتهم الحسنة بالواقع
يستطيعون مد البصر نحو المستقبل في المجالات التقنية والتنموية المادية بصورة
خاصة. لكن لاعتقادهم أن العلم هو الذي يكيف سلوك البشر، وليس الدين فإن
كثيراً من توقعاتهم سوف تكون مخيبة للآمال. وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسالات
والشرائع وما تحدثه من دوائر الاستجابة وردود الفعل؛ وسيظل مستغلق الفهم على
من نظر إليه على غير ذلك.
وإذا كانت وظيفة الإنسان في الحياة هي الالتزام بشرع الله والقيام بإعمار
الأرض فإن القرآن الكريم يحدثنا أن هلاك الأمم الماضية لم يكن أبداً بسبب القصور
العمراني، وإنما بسبب التقصير في جانب العبودية لله تعالى والانحراف عن منهجه. وهذا ما لا يستطيع الغربيون اليوم فهمه؛ ومن ثم فإن كثيراً من دراسات المستقبل
لديهم سيظل جهاداً في غير عدو!
ونستطيع القول: إن الإسلام يربي المسلم على النظر دائماً نحو الأمام؛ فهو
منذ البلوغ إلى أن يلقى الله - تعالى - يرنو نحو المستقبل بالآخرة - بل يجعله
حكماً في حاضره بكل حركاته وسكناته. وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن
المستقبل، وهذه النصوص منها ما يقدم الإطار العام كقوله - سبحانه -: [إنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] . وكقوله - سبحانه -: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11)
ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً] [نوح: 10-12] .
ومنها ما يقدم بعض التفصيلات كإخباره -صلى الله عليه وسلم- عن أن الفنتة
ستأتي من قبل المشرق، وإخباره عن فشو الأمراض الغريبة في الذين تفشو فيهم
الفاحشة [1] إلخ.. وقد أوجدت معرفة السنن عند السلف حساً خاصاً بالتعامل مع
الواقع من خلال إفرازاته المستقبلية؛ فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - يقول:
«لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات» وهذا تعبير مركز ينمُّ عن رؤية الأشياء المادية ونهاياتها في لحظة واحدة! !
وهذا عمر - رضي الله عنه - يأتيه خبر فتح خراسان، فيقول للناس في
المدينة: «لا تبدلوا، ولا تغيروا، فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على
هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم» [2] . وهذا هو يؤتى إليه بغنائم «جلولاء» ،
فيرى ياقوته وجوهره، فيبكي، فيقول له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله
عنه -: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر؟! فيقول عمر: «والله ما ذاك
يبكيني، وتاالله ما أعصى الله هذا أقواماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا
ألقى الله بأسهم بينهم» [3] ! وقد كان ما خافه رحمه الله!
لماذا التعرف على السنن:
السنن ماضية قاهرة، ونحن لا نتعلمها من أجل تغييرها أو تحييدها، وإنما
من أجل الانسجام معها والعمل بمقتضاها وتلافي الاصطدام بها. والسنن مع
جبريتها لا تمنعنا من الحركة؛ إذ إن بين جبرية السنن ووسع المسلم وطوقه
مساحات واسعة تصلح للتحرك والعمل؛ فالقوانين الفيزيائية والكيميائية ثابتة، لكننا
من خلال فهمها استطعنا إيجاد الألوف من الصناعات الكيميائية والفيزيائية مستغلين
ما بينها من خلاف وتنوع.
ومشكلتنا في هذه القضية ذات رؤوس متعددة:
فهناك من هو غارق في الماضي غريب عن الحاضر، فهو يرى مقدمات
الأحداث وجذورها، دون أن يرى النتائج، فهو مغترب أبداً.
ومنا من غرق في الحاضر دون أن يعرف عن بدايات الخلق لأزماته
ومشكلاته شيئاً؛ فهو يدور في حلقة مفرغة لا يرى مخرجاً، ولا يهتدي سبيلاً.
ومنا من شهد جبرية السنن، ولم يشهد مساحات التكليف وإمكانات الحركة،
فوقف عاطلاً عن العمل هاجعاً في إجازة مفتوحة، لكنه أثرى أدب الشكوى من
الزمان والظروف وتواطؤ الأعداء بما لا مزيد عليه! !
ومنا من غرق في الأحلام الوردية؛ فهو لا يرى ما هو كائن لينطلق به إلى
ما ينبغي أن يكون؛ فهذا شاق، ويقتضي عملاً، فوجد أن التعامل مع ما حوله على
ما ينبغي أن يكون أسهل وأجمل فصار إليه!
ومنا من لم يسمع بالسنن فتفكيره إلى الخرافة أقرب، وعلمه بالإرادة الكونية
والإرادة الشرعية هباء، والحياة أمامه بعد واحد ينتهي بطريق مسدود!
واجبنا اليوم:
1 - التركيز في معارفنا العامة على الدراسات التاريخية والنفسية والتربوية
والاجتماعية؛ لنتمكن من استجلاء أكبر عدد ممكن من سنن الله تعالى في الأنفس
والمجتمعات.
2- بلورة مناهج للعمل الدعوي تتناسب مع تلك السنن في أساليبها وأدواتها.
3- تربية أبنائنا وطلابنا على التفكير السنني؛ ليحل محل الأوهام والخرافات
التي عششت في أذهان كثير منهم.
4 - محاولة القيام بتقويم سنني للأحداث الكبرى في تاريخنا والمعالم البارزة
في واقعنا المعاش.
5- القيام بدراسات علمية مستقبلية تعتمد على ما فقهناه من سنن الله تعالى في
حركة الفرد والمجتمع.
وإذا ما فعلنا ذلك فسوف نجد الخلاص من كثير من مشكلاتنا، كما سنجد
ساحات ودروباً للحركة والعطاء. وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) انظر هذه الأخبار وكثيراً نحوها في كتاب الفتن من صحيح البخاري.
(2) الطبري 4/173.
(3) السابق 4/30.(56/8)
البيان تحاور الدكتور
جعفر شيخ ادريس
«تكملة»
قلتم: إن الفكر الإسلامي لا يمثل تحدياً فكرياً، وعنيتم بالتحدي الفكري الذي
يحمل سياسة ويتجسد بقوة، أما الفكرة فلا قيمة لها إلا بآثارها، ومثلتم ذلك
بالشيوعية التي كانت تحدياً فكرياً للغرب، هذا التحدي الفكري يحمل فكرة ويحمل
نظاماً معيناً، نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.. فهل مثلت الفكرة الشيوعية
تحدياً للرأسمالية؟ أم هل تعني أنهم يرون فينا تجمعاً بشرياً مخيفاً فقط؟
يرون فينا - نحن المسلمين - أننا تجمع وأننا أناس رافضون للحضارة
الغربية، هذا معروف، حتى فوكوياما هذا الذي كتب كتاب «نهاية التاريخ» كان
فحوى كتابه أن كل العالم استسلم للمنهج الأمريكي في السياسة الليبرالية
والديمقراطية، وفي الاقتصاد الحر، واستثنى من ذلك العالم الإسلامي، لأنهم ما
زالوا يعتقدون أن عندهم بديلاً، لكن هل فوكوياما قرأ كتباً للمسلمين تشرح له ما
البديل الذي يرونه؟ ! هذا الذي أقصده بالفكرة، هل هنالك كتب يقرأها الغربيون
سواء بلغتهم، أو مترجمة عن اللغة العربية وشائعة بينهم كما كان الفكر الماركسي
له أنصار ليست لهم علاقة بالدولة الروسية، بل ينتقدون الشيوعية ويميزون بين
الفكر الماركسي والشيوعية، ومازال حتى بعد سقوط الشيوعية الكثير من الأفكار
الماركسية التي دخلت في الفكر الغربي: في علم الاجتماع، في علم الاقتصاد
والسياسة، وحتى في البلاد التي سقطت فيها الماركسية، لا تظنوا أن الفكر
الماركسي سيسقط كما سقط النظام الشيوعي، إنه ما زال يعيش في عقول الناس،
وهذا الذي تربوا عليه، فسيبقى عندهم وستبقى منه آثار كثيرة، وعندما كنا في
البوسنة والهرسك - قبل الحرب - قلت لإخواننا هناك: لا تخدعوا أنفسكم وتظنوا
أن سقوط الشيوعية معناه أن هذا الفكر خرج من رؤوس أبنائكم ورؤوسكم،
فالماركسية كانت تمثل تحدياً فكرياً لأنه ما من قضية من القضايا التي يناقشها
الغرب إلا لها فيها رأي مكتوب بتوسع ومعروف عند كثير من المفكرين الغربيين.
يعني كأنك ترى أن مشكلتنا أننا لسنا حاضرين حضوراً فكرياً في أذهانهم؟
نعم ولكننا حاضرون سياسياً، أناس يتجمعون، حركات أصولية..
ويخلطون بين الأصولي والقومي، لأن كل هؤلاء آتون من هذا الذي يسمونه
«الشرق الأوسط» العجيب والمعقد! إنهم ليسوا معجبين بنا، وأذكر أنه في أيام
حرب الخليج كتب أحدهم وقال: لماذا نحن مشغولون بهؤلاء الناس؟ ! إنهم لا
يستحقون منا كل هذه الانشغال، الديموقراطية تسري في العالم كله: الدول
الشيوعية، جنوب شرق آسيا، أفريقيا.. إلا هذا العالم الذي ليس فيه حاكم واحد
منتخب! وبعضهم يربط هذا بالإسلام. أنا لا أماري ولا أشكك في أنهم يخافون من
العالم الإسلامي من الناحية السياسية؛ ولكن الذي أقوله دائماً، وبعض الإخوة يختلط
عليهم الأمر أحيانا فيظنون أنني أقول إن الغرب لا يعادي الإسلام، ولا يعادي
المسلمين أو أنه صديق لهم، أنا لا أقصد ذلك، بل أعني أنه لا يعدنا تحدياً فكرياً -
وهذه مسألة أحزن لها - وأمثل لكم بمثال عندما أراد المركز الإسلامي في أكسفورد، وقد تعب بعضهم حتى وافقت الجامعة على إنشائه، فمن ضمن الأشياء التي
طرحت كاعتراض على فكرة إقامته: هل في العالم الإسلامي من يكتب بحوثاً في
مستوى أوكسفورد؟ ! وهذا لو كان في ذهنه أدنى شك ما قال هذا الكلام، والذين
أجابوا قالوا: طبعاً، هناك من يكتب، والمقصود بحوث باللغة الإنجليزية.
بما إنكم عشتم فترة طويلة في الغرب هل تتوقعون أن يسلم عدد كبير منهم
وخاصة المثقفين؟
أولاً: كما قلت لكم من الناحية الفكرية بدأت تحصل من العلوم نفسها
أشياء تزعزع الأساس الذي قام عليه الإلحاد الغربي.
ثانياً: هذه الأمراض التي انتشرت مثل الإيدز زعزعت بعض المسلَّمات عندهم، كان في الغرب شيء يسمى الحرية الجنسية، كانوا يعتقدون أن الإباحية وعدم التقيد بالزواج أمراً إنسانياً، وأنها حررت الإنسان من القيود التي قيده بها الدين ورجاله، وكانوا يعتقدون أن كل ما جاءت به الأديان هي قيود لا داعي لها، وأن
الإنسان يمكن أن يتحرر منها دون أن تعود عليه هذه الحرية بالضرر.
لكن انتشار الإيدز قضى على هذه الفكرة، حيث بدأ يعتقد كثير منهم أن
الإباحية ليست أمراً طبيعياً، وكذلك انتشار المخدرات التي ينظر إليها في أمريكا
والغرب على أنها عدوهم الأول، وأنها مع الإباحية والشذوذ الجنسي هي التي
ستقضي على حضارتهم، وليس قوى من الخارج، فكل هذا يزعزع ثقة الناس بهذه
الحضارة، فإذا جاءهم إنسان عنده بديل يحل هذه المشكلات، ويبقي لهم ما هو نافع، وما يفتخرون به من حضارتهم من تقدم علمي وتكنولوجيا، أظن أن هذا إن شاء
الله سيكون سبباً في إسلام عدد كبير منهم. المتعصبون لن يتغيروا (السياسيون) ،
لكن عامة الناس، عقول الناس ليست ملكاً لأحد، قد «يريد السياسيون شيئاً أما
عامة الناس الذين لا يعرفون عن خطر العالم الإسلامي شيئاً هم أفراد عاديون،
الإنسان منهم يريد أن ينقذ نفسه، ولو وجد من يدعوه إلى الدين الصحيح بعد أن
تزعزعت ثقته سيكون لذلك نتيجة طيبة.
ما رأيكم بالمراكز الفكرية والدعوية التي قامت في بلاد الغرب؟ وهل سيكون
لها أثر في الغرب أو في العالم الإسلامي؟
لا نحب أن نظلم هذه المراكز، لكن ليس لها دور من الناحية الفكرية، لأنها
نفسها ليست مشغولة بقضايا فكرية، وكثير من الناس فيها يعيشون هموم بلادهم،
وكثير من الجاليات الإسلامية في البلاد الأجنبية غير متمسكين بدينهم وإن كان هناك
بعض الأشياء عند المسلمين - مهما كانوا ضعفاء - تبهر الغربيين، أذكر أن تاتشر
قالت مرة إنها معجبة بالتماسك الأسري عند المسلمين، وهذا أمر يُعتز به بحمد الله، وعلى الرغم من الانحرافات الكثيرة عندنا فما زالت علاقتنا بالوالدين والأقارب
أحسن بكثير مما عندهم، وهذا قد يكون له أثر بينهم.
بما أن لكم تجربة طويلة في الدعوة في البلاد العربية هل ترون أن العمل
الإسلامي ومنذ بداية الحركة الإسلامية لم يحقق النتائج المتوقعة، هل هنالك خلل
أساسي لم ينتبه المسلمون له، أو أنهم عرفوه ولكن لم يستطيعوا إصلاحه؟
أولاً لا أقيس النجاح بالوصول إلى السلطة.
نعم ليس النجاح هو السلطة ولكن أن يكونوا قوة واضحة لها تأثيرها
وظهورها في المجتمع؟
طبعاً الحركة الإسلامية - بحمد الله - لها تأثير، وسبب جزء من هذا التأثير
جهود الإسلاميين، وجزء منه من تزعزع الغرب، مثلاً اليساريون شعروا أن
العصا التي يتكئون عليها انكسرت، فالعلمانية لم يعد لها بريق وليس لها قبول، أما
عن أخطاء الإسلاميين فقد تحدثنا عن جزء منها في الملتقى [*] ، وهي القضية التي أسميناها بقضية المنهج وأنه ليس واضحاً، كثير من الجماعات قامت على أشياء عامة من الإسلام، حتى أن الواحد منهم لا يعرف هل هو شيعي أم سني؟ وأنه لا فرق بين هذا وهذا! وهذه مسائل لا بد من الاهتمام بها، وقد كان يكفي في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي زمن الخلفاء الراشدين أن يقول الإنسان أنه مسلم لأن هذه الكلمة لها معنى واضح، لكن بعد أن اختلف المسلمون وظهرت الانحرافات لم يعد هذا كافياً، بل لا بد أن يحدد الإنسان أين هو في هذا البحر المتلاطم من الانحرافات والأخطاء القديمة والحديثة، وكثير من الجماعات لم يوضح هذا الأمر، وعدم وضوح التصور يؤدي إلى أخطاء في العمل.
كثير من الجماعات أيضاً موقفها حتى من ناحية التصور بالنسبة للحكام الذين
تواجههم أيضاً ليس واضحاً: هل هم مسلمون لا يجوز الخروج عليهم؟ هل هم
كفار يجب أن يخرج عليهم؟ هل حكمهم هو الكافر لكنهم بأشخاصهم مسلمون؟ !
هذه القضايا لم توضح التنظيمات ما موقعها، بعض الناس تصور تنظيماتهم كأنها
جماعة المسلمين والذي يخرج منها خرج على جماعة المسلمين، ليس هناك أهدافاً
محددة، هناك هدف عام فضفاض، وأخشى أنه حتى لو وصلت إلى الحكم - ولا
تلازم بين وضوح الأهداف وسلامتها وبين الوصول إلى الحكم فالبعثيون
والشيوعيون وصلوا إلى الحكم - فإن كثيراً من الناس سيصابون بخيبة الأمل بعد
أن يتعبوا ويصلوا إلى الحكم، ثم لا يجدون عندهم ما يقولونه للناس.
يلاحظ في السنوات الأخيرة أن شعار وحدة العمل ووحدة الصف الإسلامي
شعار مقبول من الجميع، ولكن لم يتحقق منه شيء، ما هو السبب برأيكم؟
ما المقصود بوحدة الصف؟ إذا كانت وحدة الصف معناها وحدة التنظيم فهذا
شيء متعذر وليس مفيداً أيضاً.
أن يكون هناك - على الأقل - تعاون وانسجام بدل الخلاف والتنابذ.
قال لي مرة رجل اعتبره من عقلاء الإسلاميين في العالم، وكان من جيل
المودودي، هذا الرجل كان مهتماً بالعمل الإسلامي على مستوى العالم: إن
الحركات العالمية كالشيوعية والصهيونية يجتمعون كل ثلاث أو أربع سنوات،
ويتذاكرون وينتقد بعضهم بعضاً، ويراجعون عملهم في تلك السنين، وينشرون
على الملأ الأخطاء التي وقعوا فيها، أما عندنا فيحصل خطأ في مصر، وبعد خمس
سنين يكرر في السودان، لأننا لا نعلم أنه خطأ وحدث في مصر، أتمنى أن يسعى
بعض إخواننا لمثل ذلك وقد اقترحنا هذا الاقتراح على كثير من إخواننا قبل أكثر
من عشر سنوات، وطلبنا منهم أن يجتمعوا اجتماعاً لا تصدر فيه قرارات
وتوصيات، ولا يكون من يحضره ممثلين رسميين لجماعتهم، ويحضر هذا الملتقى
أشخاص من كل جماعة يجتمعون ثلاثة أو أربعة أيام ويتذاكرون في هذه المسائل،
ويذكر كل منهم ملاحظاته على الآخر، لأن المؤمن مرآة أخيه.
وكذلك لو أن مجلتكم أو أي مجلة أخرى تتحول إلى منبر عام للمسلمين
يتساجلون فيه، ِلمَ لا يكون ذلك؟ وأن يكون هذا الخلاف فكرياً مفتوحاً لكل الناس
في الإطار الإسلامي السني، يتناقشون فيه ويقرأون كلام بعضهم.
إن ظروف الحرية الفكرية وحرية النشر قد تمنع من ذلك!
ليس من الضروري أن يدخل هذا الكلام البلاد العربية، بل ينشر في الخارج
ولا بد أن يرشح منه شيء إلى من يهتم به. وحتى لو بدأت هذه الفكرة متعثرة
فلتكن المجلة منبراً حراً ويكتب فيه كل واحد، وإن لم توزع في كل العالم الإسلامي؟ ففي بعضه، وفي البلاد الأجنبية، فهناك الآلاف من الشباب المسلم فيها.
للأسف فإننا نلاحظ قلة إقبال هذا الشباب على القراءة وبخاصة بالعربية إن
النخبة منهم يقرأون العربية أو جزء منها بالعربية وجزء بالإنجليزية، فلا بد للناس
أن يتناقشوا في القضايا المهمة.
ذكرتم أن هذا اللقاء والمنبر الحر لا بد أن يكون له إطار ما، هل ترون أنه
مما يسرع في وحدة الصف أو التعاون أن يكون هناك شيء واضح يجتمع عليه في
البداية مثلاً كالاتفاق على منهج أهل السنة والجماعة؟
هذا مما أراه في النهاية، لكن في البداية لا تجعل هذا شرطاً للكتابة في المجلة،
لأن المجلة هي نفسها وسيلة لنشر هذا الكلام ومناقشته، لأن التنظيمات الحركية
ليست جماعات فلسفية، فالجماعة الفلسفية يمكن أن يشترك فيها أناس متباينو الفكر، رغم أني لاحظت في الغرب أنه حتى في الجماعات الفلسفية هذا لا يحدث، لكن
أعني أن الجمعية الفلسفية أو الأدبية تتحمل هذا الخلاف، لأنها جامدة لا تتحرك.
لكن الجماعة التي تريد أن تتحرك لا بد لها من إطار موحد تتحرك فيه، وإلا
تقاذفتها الأمواج، ووجد الانتهازيون فرصة للفتك بها وتخريبها من الداخل خصوصاً
إذا صارت كبيرة وصار من وراءها نفع، ما أسهل على الجماعة غير محددة
الاتجاه أن لا تخترق فقط؛ بل تقاد إلى أهداف غير التي نشأت في البداية من أجلها. ولا يكفي لتحديد هذا الإطار أن يكون شيئاً كالدستور مكتوباً وينساه الناس؛ بل
لا بد أن يتربى عليه الناس حتى يستطيعوا أن يميزوا في أتباعهم المستقيم من
المنحرف، وبدون ذلك لن تكون النتائج بحجم الأهداف العظيمة التي نتحدث عنها
دائماً، كيف سنحقق تلك الأهداف إذا لم نكن على منهج محدد وواضح وصحيح؟ !
هناك من يرى أن الحركات الإسلامية في العصر الحديث، اهتمت بجانب
التجميع، ولم يكن لها تأثير اجتماعي هام: تأثير في تغيير شيء من ملامح هذا
المجتمع في مجال الصناعة أو الاستقلال الاقتصادي، ومشاركتها كانت مشاركة
المعترض على السلطة، المحتج الهارب، المسجون أو المختفي، أي تصرفات من
يعيش على هامش المجتمع.
هذا قد لا يكون ذنب الحركات الإسلامية، فالحركة إذا بدأت وضيِّق عليها
وعورضت لا تستطيع أن تؤثر خصوصاً في مسألة الصناعة التي ذكرتها، لكن في
بعض البلاد الحركة الإسلامية لها تأثير في بعض المؤسسات الاقتصادية التعليمية.
وأما أنها حتى عندما تجد الفرصة للتأثير تنشغل بالمعارضة؛ فهذا من العيوب وأنا
أفرق بين النقد وبين المعارضة، أما المعارض فينشغل طول الوقت بنقد أخطاء
الحاكم، وهذه من الأمور التي نكرر فيها الخطأ، وأفرق أيضاً بين النقد وبين
الحملة، أنت عندما تنتقد نقداً متواصلاً ولا تذكر للحاكم حسنة، هذه حملة، وقد
يتوقع أن عندك شيئاً وليس عندك شيء، كأنك تحشره وتدعوه لضربك، وهذا
حصل كثيراً في بعض البلاد ويحدث الآن، وأرى أن يضبط الناس أنفسهم في هذه
المسألة وهي صعبة جداً، لأن المعارضة سهلة ومغرية لمن يعتبرها باباً من أبواب
الجهاد، والإنسان بطبعه يحب التحدي، لكن لا بد من الموازنة بين المواجهة وفائدة
العمل على المستويات المختلفة الأخرى، لأن من الخطأ أن نظن أن مشكلة العالم
الإسلامي هي مشكلة الحكام فقط، إن المشكلة هي المجتمع بأسره، فهو المنبع لهذه
المشاكل، ولذلك فإن من السذاجة الاعتقاد بأن التخلص من حاكم هو الحل السحري
الذي سيخلص البلاد والعباد من الأزمات والعناء الذي يعانيه، ونسيان أن المجتمع
هو الرحم الفاسدة التي تحتاج إلى إصلاح، حيث لا تزال تدفع بمثل هذا الذي
نتمنى زواله. وما أشبه حالنا -من غير فخر- بالحال التي يصورها الشاعر العربي
الذي يفتخر بقومه:
وإني من القوم الذين هم همُ ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
إننا - مع مواجهتنا ونقدنا للسلطة - يجب أن نسعى سعياً حثيثاً لتغيير هذا
الواقع الذي يفرخ لنا هذه المصائب. كنت أظن وأنا شاب أن المشكلة هي فلان،
فذهب فلان وفلان ولم يتغير شيء، إذن المشكلة أبعد من فلان، المشكلة اجتماعية، وهذا ما يجب أن يربى عليه الشباب، حتى تتسع رؤيتهم، ولا يكون عملهم
محدوداً ضيق الأفق، وموجهاً إلى شخص معين فقط.
__________
(*) الملتقى الثقافي الذي يقيمه المنتدى كل ستة أشهر.(56/15)
الإخلاص
د. فضل إلهي
إن أهم ما يجب أن يتصف به الداعية الإخلاص. فلا يجعل دعوته حرفة
تكسب الأموال ولا ذريعة للتقرب إلى غير الله، ولا سلماً للوصول إلى الجاه
والسلطان، بل يبتغي بدعوته وجه الله الواحد الأحد، ولا يريد من أحد سواه جزاء
ولا شكوراً. وسنتحدث عن هذا الموضوع بعون الله تعالى تحت العنوانين التاليين:
أولاً: وجوه تبين ضرورة اتصاف الداعية بالإخلاص.
ثانياً: أمثلة من إخلاص الدعاة السابقين.
وجوه تبين ضرورة اتصاف الداعية بالإخلاص:
وتظهر ضرورة اتصاف الداعية بصفة الإخلاص من عدة وجوه منها:
1- يشترط الإخلاص لنيل الثواب على الدعوة:
مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها لكن
القائم بها لا يؤجر ولا يثاب عليها إلا إذا كان مخلصاً في دعوته. قال تعالى: [لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] [النساء 114]
يقول الفخر الرازي في تفسير الآية: (والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من
الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة، إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا
أتى بها لوجه الله ولطب مرضاته. فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية
فصارت من أعظم المفاسد. وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من
الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلوب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن
الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى) [1] .
وقد بيّن رسول الله أيضاً أن العمل يحبط إذا قصد مع الله أحد. فقد روى
الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً
أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) [2] .
وقد بين كثير من سلف هذه الأمة أيضاً ضرورة الإخلاص لقبول العمل فقد
قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل أيضاً
قول وعمل إلا بالنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقته السنة) [3] .
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى -: (إن العمل إذا كان صواباً ولم ...
يكن خالصاً لم يقبل.، إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، حتى يكون خالصاً
صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة) [4] .
2- الدعوة بغير الإخلاص ستجر صاحبها إلى النار:
ولا يقف ضرر الدعوة بغير الإخلاص عند حرمان صاحبها من الثواب بل
يتعدى إلى أنها ستجر الداعية إلى النار. فقد روى الإمام ابن ماجة عن جابر بن
عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي قال: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس [5] ، فمن فعل ذلك فالنار فالنار) [6] . وليس هذا فحسب بل إن الداعية لغير وجه الله تعالى سيكون أحد الثلاثة الذي
تسعر بهم النار يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد. فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها. قال: (فما عملت ... فيها؟) . قال: (قاتلت فيك حتى استشهدت) ، قال: (كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل) . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ... ... ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن. فأُتي به، فعرّفه نعمه فعرفها. قال: (فما عملت ... فيها؟) ، قال: (تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن) ، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارىء. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله. فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت بها، قال: (ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك) . قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل (. ثم أمر به فسحب على وجه ثم أُلقي في النار) [7] . ...
وفي رواية أخرى: قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ثم ضرب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- على ركبتي فقال: (يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة
أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة) [8] .
يقول الإمام النووي تعليقاً على رواية مسلم: (قوله -صلى الله عليه وسلم -
في الغازي والعالم والجواد، وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله وإدخالهم النار دليل
تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال
كما قال تعالى: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] . وفيه أن
العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصاً،
وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات كله محمول على من
فعل ذلك مخلصاً) [9] .
3- القاصد لغير وجه الله لا يقدر على نيل ما يرغب فيه:
إن من ابتغى غير وجه الله بدعوته فليسأل نفسه ماذا يريد من وراء دعوته؟
هل يطلب بدعوته متاع الدنيا وزينتها؟ أم يهدف إلى نيل السيادة والقيادة في
الأرض؟ أم يبتغي العزة بها؟ أم ينشد بها رضى الناس؟
إن كان قد أراد متاع الدنيا وزينتها بالدعوة فكيف يقدر على نيلها بغير إذن من
له الأرض والسموات وما بينهما وقد قال تعالى: [مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا
وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ..] [هود 15] ، وعليه أن يقرأ قوله تعالى: [قُل لِّمَنِ الأَرْضُ
ومَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ
السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ]
[المؤمنون 84-89] ، وكيف ينالها بغير حكم من له خزائن السموات والأرض [ولِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ] [سورة المنافقون 7] .
وإن كان قد رغب في الزعامة والقيادة في الأرض تحت ستار الدعوة فكيف
يصل إليها من غير أمر من هو مالك الملك؟ وعليه أن يتدبر قوله تعالى: [قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ
مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران 26] . وإن كان قد
قصد بالدعوة العزة فليعلم أن العزة من رب العباد وليست من العباد [مَن كَانَ يُرِيدُ
العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً] [فاطر10] . وإن كان قد نظر في دعوته إلى رضى الناس
فليفهم أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. ثم إن
القاصد لغير وجه الله تعالى لينتبه أن من فتح له المولى من رحمة فلا ممسك لها،
وما يمسك فلا مرسل له من بعده. قال سبحانه وتعالى: [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن
رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
[فاطر2] .
ومن أعطاه فلا مانع له، ومن منعه فلا معطي له كما كان الصادق المصدوق
بالوحي عليه الصلاة السلام يقول إذا انصرف من صلاته: (لا إله إلا الله وحده لا ...
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت
ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) [10] .
وعلى القاصد لغير وجه الله تعالى أن يتذكر دائماً أن من أهانه الله فلا معز له
ومن أكرمه فلا مهين له. قال تعالى: [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يَشَاءُ] [الحج 18] . وعليه أن يستحضر ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم-
الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أن يقوله في قنوت الوتر: (وإنه لا يذل من
واليت ولا يعز من عاديت) . [11] وعليه أن يحفظ أن من طلب رضى الله تعالى ...
كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضى الناس وكله الله إلى الناس. فقد روى
الإمام الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم - يقول: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس) [12] . فما أجهل وأخسر
من ترك ابتغاء وجه الله تعالى بالدعوة لأمور لا يقدر على نيلها إلا بأمر الله تعالى.
4- المخلص في دعوته لله تعالى لا يبقى محروماً من الدنيا:
من قصد بدعوته غير وجه الله تعالى فليفكر في هذا السؤال: هل سيحرم من
الدنيا إذا ابتغى بالدعوة مرضات الله سبحانه تعالى؟ للإجابة على هذا السؤال عليه
أن يستحضر الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت الآخرة همه جعل الله ...
غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه
جعل الله الفقر بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) [13] .
وعليه أن يعيد إلى ذاكرته تاريخ سلف هذه الأمة. إنهم أخلصوا النية في
دعوة الناس إلى رب الناس فلم يكن هذا الاخلاص حاجزا دون تدفق خيرات الدنيا
ونعيمها عليهم، خضعت لهم - بفضل الله تعالى - كبرى قوات العالم آنذاك،
ورفرفت أعلامهم من أسبانيا إلى كاشغر وبخارى، وكثرت الأموال حتى لم يكد
يوجد من يقبل الصدقات. وقد قال عنهم عدوهم:
(إننا لا نذكر أمة كالعرب حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثل
ما حققوه، وإن العرب أقاموا ديناً من أقوى الأديان التي سادت العالم، أقاموا ديناً لا
يزال تأثيره أشد حيوية مما لأي دين آخر، وإنهم أنشأوا دولة من أعظم الدول التي
عرفها التاريخ) [14] . إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إخلاص الدعاة السابقين:
قبل أن نختم هذا الموضوع نذكر فيما يلي بعض الشواهد التي يتجلى من
خلالها إخلاص الدعاة السابقين من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-
وإخلاص سيد الرسل وسلف هذه الأمة.
أ- إخلاص الأنبياء السابقين:
إن الدعوة إلى الله تعالى سبيل الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-،
وعلى السالك في هذا الطريق أن يسلك كما سلكوا، ويتزود كما تزودوا، ويتصف
بما اتصفوا به. إنهم أخلصوا لله الواحد ولم يطلبوا من أحد سوى الله تعالى أجراً.
أخبر الله تعالى في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم
الصلاة والسلام- أن كل واحد منهم قال لقومه: [ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ
أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ] [الشعراء 109، 127، 145، 164، 180] ،
وهكذا أعلن إمام الأنبياء وقائد المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-. يقول تعالى
مخاطباً إياه: [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ] [سبأ 47] . ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] [ص 86] ، ويقول تعالى أيضاً: [أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًاً فَهُم
مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ] [الطور 40] .
2- إخلاص سيد الرسل -صلى الله عليه وسلم-:
وقد أثبت إمام الدعاة وقدوتهم أيضاً بسيرته المطهرة أنه لايريد من وراء
دعوته مالاً ولا ملكاً. إنما يقصد الأجر من الله تعالى، ومن مواقفه الكثيرة الدالة
على ذلك موقفه من عروض قريش على لسان مندوبها عتبة بن ربيعة لما قال له:
أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضاً ... يا ابن أخي! إن كنت
تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،
وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً
ملكناك علينا. ولم يكن رده على هذه العروض إلا أن قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: (فاسمع مني) ، فقال: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم * ...
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ..] ،
قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى إلى السجدة منها فسجد ثم قال:
(قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك) [15] .
إخلاص سلف هذه الأمة:
وهكذا كان أصحابه البررة وأتباعه الصادقون، دعاة الحق وأئمة الهدى -
رضي الله تعالى عنهم- يعلنون في كل مكان أن طلبهم ليس الدنيا بل إنهم يريدون
إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن من دخل في الإسلام فماله
له، وملكه له. وما أكثر الشواهد الدالة على ذلك. فمن ذلك أن المغيرة بن شعبة -
رضي الله عنه- لما ذهب إلى رستم بناء على طلبه قبل بدء القتال في معركة
القادسية، قال له رستم: «إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم، ونكف الأذى عنكم،
فارجعوا إلى بلادكم، ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا» . فقال له
المغيرة -رضي الله عنه-: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد
بعث الله إلينا رسولاً، قال له: «إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني
فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا
يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز» . فقال له رستم: «فما
هو؟» ، فقال: «أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله» ، فقال: «ما أحسن
هذا! وأي شيء أيضا؟» ، قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: «وحسن أيضاً، وأي شيء أيضا؟» قال: «والناس بنو آدم، فهم
إخوة لأب وأم» ، قال: «وحسن أيضاً» ، ثم قال رستم: «أرأيت إن دخلنا في
دينكم أترجعون عن بلادنا؟» ، قال: «إي والله! ثم لا نقرب بلادكم إلا في
تجارة أو حاجة» . ولما خرج المغيرة -رضي الله عنه- من عنده ذاكر رستم
قومه في الإسلام، فأنفوا من ذلك، وأبوا أن يدخلوا فيه [16] .
ما أصرح كلام المغيرة -رضي الله عنه- لبيان موقف المسلمين من الملك
والمال وحرصهم على هداية الناس. ولم يكن هذا البيان الواضح الذي لا لبس فيه
ولا غموض على لسان المغيرة -رضي الله عنه- وحده بل هكذا كان على لسان كل
من أتيحت له الفرصة لتوضيح غاية المسلمين وهدفهم.
ونجد النعمان بن مقرن -رضي الله عنه- يخاطب ملك فارس يزدجرد وجهاً
لوجه بقوله: «.. ونحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين الإسلام، حسَّن الحسن، وقبّح
القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه جزاء، فإن أبيتم
فالمناجزة. وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه على أن تحكموا
بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم» [17] .
هكذا كان دعاة الحق في الجبهة الفارسية، وفي الجبهة الشامية يصرح معاذ
بن جبل -رضي الله عنه- في وجوه القادة الروميين والشاميين:
«إن أول ما ادعوكم إلى الله أن تؤمنوا بالله وحده، وأن تصلوا صلاتنا،
وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم
إخواننا في ديننا. لكم ما لنا وعليكم ما علينا» [18] .
وفي الجبهة المصرية نجد عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- يبين ترفع
المسلمين عن الدنيا للمقوقس بقوله:
«وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة دنيا ولا طلباً للاستكثار منها،
إلا أن الله قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له
قنطار ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها 0
جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن
كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما
كان في الدنيا، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء. إنما النعيم
والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة
أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء
ربه وجهاد عدوه» [19] .
وماذا كان تأثير كلام هذا الداعي المخلص الطالب لرضوان الله؟ فلنسمع -
محدثنا أبا القاسم ابن عبد الحكم بقوله:
«فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا
الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا
وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض. ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض
كلها» [20] .
وفي الجبهة الصينية لما قال ملك الصين لرئيس وفد المسلمين: قد رأيتم
عظيم ملكي، وإنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة
البيضة في كفي، فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف. فإني قد عرفت
حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه.
فأجابه هُبيرة بن المشَفْرج الكلابي رئيس وفد المسلمين بقوله: كيف يكون
قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون
حريصاً من خلّف الدنيا قادراً عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً
إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه « [21] .
فالسالك طريق الدعوة هو السالك سبيل الأنبياء والمرسلين، وسبيل سيد
الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه البررة -رضي الله عنهم-،
وعليه أن يخلص نيته كما أخلصوا.
__________
(1) التفسير الكبير 11/42 وانظر مختصر تفسير ابن كثير 1/440.
(2) صحيح مسلم، الحديث 2985, 4/2289.
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 76.
(4) المرجع السابق ص 66.
(5) ولا تخيروا به المجالس: لتختاروا به المجالس ذات الشهرة وتجلسوا في صدورها (انظر تعليق الدكتور محمود الطحان على (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) م1 /87.
(6) الألباني (انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/48) وفي رواية أخرى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار (سنن ابن ماجة، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، رقم الحديث 228، 1/46) وقال عنه الألباني: حسن انظر صحيح ابن ماجة 1/48) .
(7) صحيح مسلم , الحديث 1905.
(8) صحيح الترمذي، الحديث 1942, 2/282.
(9) شرح النووي 13/50-51.
(10) انظر صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
(11) انظر مختصر سنن أبي داود للمنذري، تفريع أبواب الوتر، باب القنوت في الوتر، رقم الحديث 378 1، 2 / 125.
(12) صحيح سنن الترمذي، الحديث 1976، 2/288.
(13) صحيح سنن الترمذي، الحديث 2005، 2/300.
(14) حضارة العرب، غوستاف لوبون 736.
(15) انظر سيرة ابن هشام 1/261.
(16) البداية والنهاية 7/39.
(17) البداية والنهاية 7/ 41.
(18) فتوح الشام للأزدي.
(19) فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص 99.
(20) المرجع السابق ص 99.
(21) انظر تاريخ الطبري 6/502.(56/23)
خواطر في الدعوة
في النقد الذاتي
محمد العبدة
من تأملات ابن خلدون في طبيعة الاجتماع الإنساني أن بعض الشعوب عندما
تجاور شعوباً أخرى فإنها تسرق من طباعها، وتتسرب إليها عاداتها وتقاليدها،
ويضرب ابن خلدون مثلاً على ذلك أن بني إسرائيل عندما خرجوا من مصر
وسكنوا بلاد الشام كانت هذه البلاد تعج بشتى القبائل والأقوام المختلفة المشارب
والمذاهب، ومع طول المجاورة تأثر بنو إسرائيل بهذا التفرق، ودبّ فيهم الخلاف
وضعفوا حتى جاءهم من أزالهم عن ملكهم.
هذه ملاحظة ذكية من مؤرخنا الاجتماعي تدل على تعمقه في دراسة أحوال
المجتمعات أو التجمعات، والمتأمل لحال الدعوة الإسلامية في هذا العصر يجد مثل
هذا التسرب قد دخل إليها من المحيط والبيئة التي تعيش فيها، سواء كانت بيئة
الدول الوطنية أو الأحزاب، وبيئة المجتمع المتخلف حضارياً والذي تبرز فيه
الدعوات الإقليمية أو القبلية، ففي الأحزاب والدول التي نعيش بين ظهرانيها يتسلق
إلى المناصب المداهنون والمتملقون الذين يتقنون فن الكلام، ويبعد أصحاب الرأي
الاستقلالي وأصحاب الشخصية القوية، وكأنهم يسيرون على القاعدة الاقتصادية
(العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) ويقع أحياناً مثل هذا في صفوف الدعوة.
ومن سنن الزعيم السياسي أن يكون من دونه شخصاً ضعيفاً حتى يستطيع
التصرف ولا يبرز أحد بجانبه، وتجد مثل هذا في الدعوات. وتمارس الدول
ضغوطاً اقتصادية على أصحاب الفكر والدعوة، سواء كان ذلك بالمنع أو العطاء،
وتعتبر هذا من المحافظة على كيانها، وتجد من بعض الفصائل الإسلامية من يفعل
مثل ذلك، ومن الوزراء من يجعل وزارته مزرعة لأقاربه وأصدقائه وأهل بلده،
ويقع مثل هذا أحياناً فيقرب أحدهم لصلة الصداقة أو القرابة، كل هذه السلبيات
موجودة، ولكنها داء خفي لا ينتبه له، وهو من عوامل فصم عرى الوحدة، وزرع
الإحن والبغضاء، وإبعاد الكفاءات، فهل تعالج هذه الأمور قبل استفحالها وقبل أن
تقضي على ما تبقى من حيوية الدعوة.
نحن لا ننكر أثر البيئة، ولكن المراجعة المستمرة للأخطاء وللأسباب المعيقة
للتقدم، والتعمق في فهم بعض الظواهر السلبية؛ كل هذا كفيل بأن يخفف كثيراً من
أثر البيئة. إن ابن خلدون يريد أن يقول: إن هذا من حتميات التجمع البشري،
ولا أعتقد ذلك.(56/34)
مسائل في التكفير
عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام
على خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
من المعلوم أن مسألة التكفير من المسائل الكبار، والقضايا الخطيرة، وقد
خاض فيها الكثير من بين غالٍ وجاف.. وهدى الله تعالى أهل السنة لما اختلفوا فيه
من الحق بإذنه، فقرروا هذه المسألة بعلم وعدل، وتوسطوا بين أهل الغلو
والإرجاء. وسأعرض في الصفحات التالية طرفاً من مباحث هذا الموضوع على
النحو الآتي:
1- أهمية هذه المسألة وخطورتها:
نبّه علماؤنا إلى خطورة هذه المسألة وعظم شأنها، وما يترتب عليها من نتائج
وتبعات سواء في الدنيا أو الآخرة، وإليك جملة من كلامهم في ذلك:
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق» هي من
مسائل «الأسماء والأحكام» التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة،
وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله
سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية
في كل وقت ومكان « [1] .
وقال ابن الوزير: (وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير
العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم
في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق
بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة،
ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح
الحق الصادق، وتجتمع عليه الكلمة) [2] .
إلى أن قال: (وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة، وذمت أقبح الذم على
تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله، وتعظيمهم لله تعالى
بتكفير عاصيه، فلا يأمن المكفّر أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل) [3] .
وقال الشوكاني:» اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين
الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا
ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من
طريق جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء
بها أحدهما.. « [4] .
وعندما يقرر هؤلاء الأعلام وغيرهم خطورة هذه المسألة، فلا يعني تمييعها
وإغلاق باب الردة بالحكم بإيمان من ظهر كفره بالدليل والبرهان، فهذا لا يقل
انحرافاً وخطراً عن تكفير مسلم وإخراجه من الملة، ولذا قال الشيخ عبد الله بن
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم
وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، ... فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدين» وقد استزل
الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت
نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم
الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم..) [5]
- 2 -
يتعين التنبيه على أن الحديث عن موضوع الكفر أو التكفير لا ينفك عن فهم
مقابله وهو الإيمان، ولذا فإن الانحراف في تعريف الإيمان، يورث انحرافاً في
تعريف الكفر، وقد أشار الشيخ العلامة عبد الليف بن عبد الرحمن بن حسن بن
محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله إلى قاعدة في ذلك فقال: «اعلم أن من تصوّر
حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرَف ماهيته بأوصافها الخاصة،
عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو
بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا
يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود والحقائق
من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة» [6] .
ومثال ذلك أن المرجئة لما أخطئوا وانحرفوا في فهم الإيمان، فحصروه في
مجرد التصديق، وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، أورثهم ذلك انحرافاً في فهم
الكفر، حيث حصروه في دائرة التكذيب فقط، وانكروا كفر العناد والاستكبار،
وكفر الإعراض ونحوهما من أنواع الكفر الأكبر [7] .
- 3 -
يجب أن يُعلم أن الكفر حكم شرعي، وأن الكافر هو من كفّره الله تعالى
ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فليس الكفر حقاً لأحد من الناس بل هو حق الله
تعالى. يقول ابن تيمية: «فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن
كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن
الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله
ورسوله» [8] .
ويقول القرافي: «كون أمر ما كفراً، أي أمر كان، ليس من الأمور العقلية
بل هو من الأمور الشرعية، فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك، سواءً
كان ذلك القول إنشاء أم إخباراً» [9] .
4- تعريف الكفر لغة واصطلاحاً:
الكفر لغة: التغطية، قال تعالى: [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ] فسمي
الفلاح كافراً لتغطيته الحب، وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء [10] .
وأما معناه اصطلاحاً، فنورد جملة من كلام أهل العلم في ذلك. يقول ابن
تيمية: «إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به،
أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود
ونحوهم» [11] .
ويقول ابن حزم في تعريف الكفر: «وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً
مما افترض الله تعالى الإيمان: بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون
لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج
بذلك عن اسم الإيمان» [12] .
ويقول ابن القيم في بيان معنى الكفر: «الكفر جحد [13] ما علم أن الرسول
جاء به، سواءً كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية، فمن جحد ما جاء
به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين
وصلبه» [14] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «وحد الكفر الجامع لجميع أجناسه،
وأنواعه، وأفراده هو جحد ما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان
اعتقاده ما جاء به الرسول والتزامه جملة وتفصيلاً، فالإيمان والكفر ضدان متى
ثبت أحدهما ثبوتاً كاملاً انتفى الآخر» [15] .
من خلال النصوص السابقة نوجز معنى الكفر - الذي لا يجامع الإيمان -
بأنه اعتقادات، وأقوال، وأفعال سماها الشارع كفراً منافياً للإيمان بالكلية- فإذا كان
الإيمان قولاً وعملاً، فكذا الكفر يكون قولاً وعملاً، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً
كالتكذيب، وقد يكون عملاً قلبياً كالبغض لما جاء به الرسول، وربما كان الكفر
قولاً باللسان كالاستهزاء بالله تعالى وآياته أو رسوله.. وتارة يكون عملاً بالجوارح
كالسجود لصنم ونحوه..
- 4 -
وإذا كان الإيمان ليس شعبة واحدة فحسب بل هو بضع وسبعون شعبة كما
أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- -في حديث شعب الإيمان-، فكذا
مقابله الكفر. يقول ابن القيم مقرراً ذلك: «الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب
الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من
شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر،
والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر،
والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر،
والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان» [16] .
وإذا ثبت أن الكفر شعب متعددة، وأن له مراتب، فمنه ما يخرج من الملة،
ومنه ما لا يخرج من الملة، فإنه يمكن أن يجتمع في الرجل كفر- غير ناقل من
الملة - وإيمان، وهذا أصل عظيم عند أهل السنة، قد دلّ عليه الكتاب والسنة
والإجماع، ولقد أخطأ المبتدعة - عموماً - في دعواهم أن الكفر خصلة واحدة،
بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، فلم يقولوا
بذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يخرج
من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان» [17] .
6- تكفير المطلق وتكفير المعين:
يفرِّق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعيّن، ففي الأول يطلق القول
بتكفير صاحبه - الذي تلبس بالكفر - فيقال: من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المعيّن الذي قاله أو فعله لا يحكم بكفره بإطلاق، بل لا بد من
اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
يقول ابن تيمية: «وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط،
حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك
عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة [18] .
ويقول أيضاً:» إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن
تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع،
يعين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر
من تكلم بهذا الكلام بعينه [19] .
ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين فيقول: «الأقوال
التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد
تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له
شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ؛ فإن
الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا
الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجماهير أئمة الإسلام» [20] .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «ومسألة تكفير المعيّن مسألة معروفة
إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن
الشخص المعيّن إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر
تاركها» [21] .
وإذا ظهر لنا الفرق بين التكفير المطلق، وتكفير المعيّن، فسندرك خطأ
فريقين من الناس، فهناك فريق قد غلا وتجاوز فادعى تكفير المعيّن بإطلاق، دون
الالتفات إلى مدى توافر الشروط وانتفاء الموانع عن ذلك المعيّن، وفي المقابل نرى
فريقاً من الناس قد امتنع عن تكفير المعين بإطلاق، وأوصد باب الارتداد.
7- قيام الحجة:
من بَلَغه هذا الدين فقد قامت عليه الحجة، وحكم الوعيد على الكفر لا يثبت
في حق المعيّن حتى تقوم عليه حجة الله تعالى التي بعث بها رسله، قال تعالى:
[لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ] ، وقال سبحانه: [ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] .
وأما شرط قيام الحجة على المكلفين: «فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم
كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي..» [22] .
ومما يجدر ذكره أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمان والأماكن
والأشخاص، كما قال ابن القيم: «إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة
والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له» [23] .
هذا ما تيسر عرضه لهذه المسألة، راجياً من الله تعالى حسن البيان، وسلامة
القصد، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) الفتاوى 12/ 468.
(2) إيثار الحق على الخلق ص 455.
(3) المصدر السابق ص 447.
(4) السيل الجرار 4 /578.
(5) الدرر السنية 8/217.
(6) منهاج التأسيس ص 12.
(7) انظر تفصيل ذلك: الفتاوى لابن تيمية، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1 /94.
(8) الرد على البكري ص 257.
(9) تهذيب الفروق 4/158-159.
(10) انظر لسان العرب 5/144 - 145 مادة كفر.
(11) الدرء 1/242.
(12) الإحكام 1/45.
(13) يطلق بعض السلف الصالح معنى الجحود ويراد به التكذيب المنافي للتصديق، كما يراد به الامتناع والرد والإباء، فليس الجحود محصوراً في تكذيب كما ظن المرجئة، انظر بيان ذلك في الفتاوى لابن تيمية 20/98، منهاج السنة النبوية 5/130، والصارم المسلول ص 521-522.
(14) مختصر الصواعق المرسلة 2/ 421.
(15) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 203.
(16) كتاب الصلاة ص 53.
(17) انظر تفصيل هذه المسألة في الفتاوى لابن تيمية 7/510-223.
(18) الفتاوى 12/ 466 (الكيلانية) .
(19) المصدر السابق 12/487 -488.
(20) الفتاوى 23/346، 348-349، والرد على البكري ص 259.
(21) الدرر السنية 8/244.
(22) الفتاوى لابن تيمية 20/59.
(23) طريق الهجرتين ص 414.(56/36)
جولة ثانية
في الهجوم على العمالقة
- 1 -
محمد عبد الله آل شاكر
أصبحت المختصرات الماسخة للأصول المطولات من تراثنا كثيرة كثرة
تستلفت النظر وتدعو للوقوف عندها. وأصل فكرة الاختصار هذه، وواقعها عند
أدعياء التيسير والتهذيب اليوم؛ محل نظر.
ويطول بنا الحديث لو رحنا نستقصي آثارها ومظاهرها «فحسبنا - إذن -
أن نشير إلى دراسة ممتعة في هذا، قدمها الشيخ عثمان عبد القار صافي، من
طرابلس الشام، بعنوان: (أخطار على المراجع العلمية لأئمة السلف) (طبع دار
الفاروق بالطائف) وهي دراسة تمهيدية تهدف إلى المحافظة على التراث العلمي
الإسلامي والتحذير من العبث به.
وكان للشيخ عثمان فضل السبق والريادة في ذلك، أقام كتابه هذا على دراسة
لبادرة الشيخ محمد علي الصابوني في كتابه» مختصر تفسير ابن كثير «
و» صفوة التفاسير «، وهي تصدق أيضاً على ما أصدره الشيخ بعد ذلك من
مختصرات، مثل» مختصر تفسير الطبري «و» مختصر روح البيان «
و» مختصر الأذكار «.. وكأنه تخصص في السلخ والمسخ والاختصار.
ومراجعة مختصر ابن كثير تقدم دليلاً على ذلك، ولديّ الكثير من الأمثلة
جمعتها عندما كنت أقوم بتدريس هذا الكتاب في بعض المدارس الشرعية، وكان
مقرراً في برامجها!
-2-
وأما العمل الذي لا أستطيع أن أجد له بابا أضعه فيه، ولا أعرف له وصفاً
جامعاً يناسبه أو يجمع كل ما ينبغي أن يقال فيه، فهو هذا العمل الجديد في كتاب
» رياض الصالحين «للإمام النووي -رحمه الله-، وهو بطبيعته المقصودة هذه قد أوفى على الغاية في جمال الإخراج، وجودة الطباعة، ورواء المنظر.
ولكن هذا الكتاب الذي كتب الله له القبول بين الناس منذ ثمانية قرون، هي ...
عمره منذ تأليفه، صدرت طبعته الجديدة عن (دار طيبة) بمكة المكرمة
و (المكتبة الإسلامية) في عمان بالأردن، (ومن حق الأخيرة أن تُقَدَّم لعلة يعرفها من يقرأ المقدمة) .» حققه وقدم له وهذبه وخرجه: حسان عبد المنَّان «و» راجع تخريجه والحكم على أحاديثه: شعيب الأرنؤوط «الطبعة الأولى 1412 هـ.
وآمل من القارئ الكريم أن يتابع معي هذه العبارات التي تتوسط غلاف
الكتاب:» تمتاز هذه الطبعة بضبط نصوصها، وتهذيبها، وتخريجها، والاقتصار
فيها على الصحيح، مع بيان الضعيف منها في فصل خاص، وترتيب أحاديثها في
الأبواب المناسبة لها، ووضع عناوين فرعية لها، وشرح غريبها، وما أشكل
منها «. (انتهى)
هذه ثماني مميزات لهذه الطبعة يمنّ بها علينا الشيخ» عبد المنان «، ولن
نعدو الصواب إذا قسمناها إلى قسمين، أحدهما: كذب، والآخر: جريمة واعتداء
على الإمام النووي ومسخ لكتابه، وإليك البيان:
أما» ضبط النصوص، وتخريجها، وشرح غريبها، وما أشكل منها «
فليس هذا ميزة خاصة بهذه الطبعة، فقد سبق لهذه الميزات طبعات كثيرة - مجتمعة
أو متفرقة - كتلك التي حققها وفهرسها وضبط وشرحها الدكتور صبحي الصالح
(رحمه الله) ، وكذلك طبعة الأرنؤوط، والدقّاق.. وغيرهم. وقد ذكر المحقق عدداً
منها في مقدمته.
وأما» تهذيب نصوصها «- ونصوص الكتاب كلها آيات وأحاديث - فلست
أدري والله - ما الذي يحتاج إلى» التهذيب «، أهذه النصوص الكريمة أم الذي قام
بتهذيبها نفسه؟ وما أدري - وما أخال عاقلاً يدري - من الذي أعطى هذا الحق
لصاحبنا المحقق المهذب أن يقوم بترتيب أحاديث الكتاب في الأبواب المناسبة لها
(بزعمه، وكأن النووي -رحمه الله- لم يدرس أصول الترتيب والتأليف على
المحقق! كان ينبغي أن يتعلم منه قبل أن يُخْلَق!) ، والاقتصار على الأحاديث
الصحيحة كذلك، مع بيان الضعيف منها في فصل خاص، وهو يطبع الكتاب
باسمه المعروف وباسم مؤلفه! وأنا أستحلف الأخ المحقق، فأقول له: بربك الذي
خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، قل لي: هل هذا هو» رياض
الصالحين «نفسه بنصه وفصه، كما وضعه المؤلف؟
وأقسم يمينا غير حانث: أنه ليس هو! ! فَلِمَ هذا التزوير والعبث والافتئات؟
وحرام على من يشتغل بعلوم السنة وتحقيق أحاديثها أن يكون هذا شأنه مع
نصوصها وكتبها وعلمائها.
ثم نأتي إلى قضية الأحاديث الضعيفة تلك التي حذفها من الأصل ورمى بها
إلى الملحق بذيل الكتاب في فصل خاص، والتي يهوّل بها أغيلمة التحقيق
والمتاجرون برياض الصالحين وغيره؛ يقول النووي -رحمه الله-:» فرأيت أن
أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة.. وألتزم فيه ألا أذكر إلا حديثاً صحيحاً من
الواضحات، مضافاً إلى الكتب الصحيحة والمشهورات.. «أفلا يمكن أن نقول:
إن ما رآه المحقق الفاضل ضعيفاً، أو حكم عليه بالضعف، هو صحيح بنظر
النووي على الأقل (بل بنظر البخاري ومسلم، فمن الأحاديث التي ضعفها المحقق
عدد من أحاديث الشيخين!) فيكون ذلك من باب اختلاف العلماء في التصحيح
والتضعيف (وقد دخل صاحبنا في زمرتهم) ؟ !
أَوَ لا يمكن أن نخفف من حدة الأمر والتهويل به؛ بأن هذا كله في أبواب
الترغيب والترهيب ونحوها، التي يتساهل العلماء في الرواية فيها بشروطهم،
حيث يقول الإمام أحمد وغيره: إذا روينا في الترغيب تساهلنا، وإذا روينا في
الأحكام أردنا هكذا - وقبض يده -؟ وإلا فهل كان البخاري عاجزاً عن انتقاء
أحاديث» الأدب المفرد «مثلاً من الصحاح بشرطه المعروف؟ وكذلك الذهبي في
كتابه» الكبائر «، والنووي في» الرياض «، بحيث لا يخالفهم الشيخ عبد المنان
في تصحيحها؟
أما هذا الترتيب لأحاديث الكتاب» في الأبواب المناسبة لها «- كما قال-
فهو تغيير يمسّ أصل الكتاب. وليس من حق المحقق أن يغير الكتاب بما يراه،
وإذا أراد ترتيباً معيناً فيمكن أن يكتب كتاباً يرتبه كما يشاء. والغريب أنه يفعل
فعلته تلك، وهو الذي لازم شيخه الأرنؤوط في البحث والتحقيق ست سنوات في
مكتب التحقيق بمؤسسة الرسالة، عندما كان يحقق أمهات كتب الحديث والتراجم
(صحيح ابن حبان، العواصم والقواصم، شرح مشكل الآثار.. شرح الطحاوية..
سير أعلام النبلاء) فهل كان عمل مكتب التحقيق بإشراف الشيخ الأرنؤوط هو
السطو على كتب الأئمة وتغيير ترتيبها؟ ولست أدري كيف فات هذا العمل في
الترتيب كلَّ من قام بتحقيق الكتاب وطبعه قبل الشيخ عبد المنَّان؟ لعل فيهم من لا
يعرف أهمية هذا العمل وخطورة الأحاديث الضعيفة؟ فماذا نقول إذن عن الشيخ
الألباني؟ !
فإذا غادرنا صفحة الغلاف إلى المقدمة نجد المحقق يقول معدَّداً ما امتاز به
عمله، فيذكر الأمر الأول، وهو:» تهذيب الكتاب واختصاره في صورة لا تخل
بمقصود الكتاب، بل تزيده دقة وفائدة (والحمد لله على التواضع والإنصاف، فقد
أشار إلى أن في الكتاب دقة وفائدة، ولكنهما بحاجة إلى زيادة) ويسهل تناوله أكثر
بين الناس، دون إنقاص فائدة من فوائده، وكانت الغاية من هذا التهذيب أن ينال
الكتاب بأقرب الصور، ويقرأ دون ملل في وقت قصير.. «.
أما أولاً: فإن كلام المحقق صريح في أنه اختصر الكتاب. فليكن إذن عنوان
المطبوع» مختصر رياض.. «وإلا فكيف ينسب للنووي كتاباً لم يضعه بهذه
الصورة؟
وثانياً: هذا» التهذيب «الذي يدندن حوله، فمرة أخرى أسائل القراء الكرام: من الذي يحتاج فعلاً إلى تهذيب (بل إلى تعزير وتأديب) ..؟
والتطاول على النووي - ثالثاً - صريح في تلك العبارة، وفي غيرها
صراحة أكثر، لأن مفهوم كلام صاحبنا أن الكتاب كان بحاجة إلى زيادة» دقة
وفائدة «فجاء التهذيب والاختصار تحقيقاً لذلك. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
وما إخال إنساناً سوياً، خلقه الله ووهبه عقلاً، يشكو صعوبة تناول كتاب
النووي، حتى جاء صاحبنا ليسِّهل له ذلك بالتهذيب كيما يناله بأقرب الطرق (حتى
ولو كانت مشروعة) . والغريب حقاً: أنه يفعل ذلك» ليقرأ الكتاب دون مللٍ في
وقت قصير «مع أن صفحاته الستمائة تقريباً تعادل حجم الأصل، ومن ذا الذي
سمعتموه - يا معشر القراء العقلاء - يشكو من طول الكتاب ومن الملل في قراءته؟
ورابعاً: زعم المحقق أنه اختصر الكتاب ليسهل تناوله» دون إنقاص فائدة
من فوائده «كيف يصح هذا، وهو الذي كتب في بيان عمله متبججاً أنه: حذف
الآيات المتكررة المعنى واللفظ، وحذف المكرر من الحديث، وحذف تخريجات
النووي، وحذف بعض الأبواب، وبعض الأحاديث الصحيحة (!) .. حتى بلغ
الحذف أحد عشر بنداً. فهل كان هذا المحذوف لا يخلّ بفائدة من فوائد الكتاب؟
وهل كان ذلك كله حشواً، فجاء هو لينزه الكتاب عنه؟ ولست أدري ما الذي تركه
للمحققين من بعده ليحذفوه في طبعات أخرى؟
ثم يبلغ التطاول حداً كبيراً يتجاوز السنة ويصل إلى القرآن الكريم، فهو
يحذف» الآيات المتكررة المعنى واللفظ إن كانت في باب واحد «. فما أدري -
والله - ماذا يقول علماؤنا في هذا؟ أين يجدون الآيات الكريمة المتكررة لفظاً
ومعنىً؟
وإن كنا قد فهمنا غرض المحقق من حذف الأحاديث الضعيفة، فكيف نفهم
غرضه من» حذف بعض الأحاديث الصحيحة من الكتاب إذا كانت هذه الأحاديث
مما ذَكَرْتُه (أي المحقق) في الباب نفسه في الحاشية «. فهل أصبح من مقاصد
الشريعة وغايات التحقيق أن نحذف من المتن لأجل الحاشية؟ فننزل بالأصل مكاناً
ومكانة، ونرتفع بالحاشية مكانة، فينقلب الأمر رأساً على عقب؟ !
-3-
فإذا وصلنا إلى البند الثاني من الميزات التي امتازت بها طبعة صاحبنا وجدناه
» بيان الأحاديث الضعيفة في الكتاب «كيف يكون هذا ميزة له، وهو يكتب بخط
يده» أن كثيراً من الطبعات أشارت إلى درجات الأحاديث صحة وضعفاً، وكان
أفضلها نسخة أستاذنا (أي أستاذه هو) المحدث شعيب الأرناؤوط، ونسخة الشيخ
المحدث محمد ناصر الدين الألباني، ونسخة الدكتور فاروق حمادة «؟ (وبالمناسبة
هذه طبعات لهم وليست نسخاً لهم) .
ولعل السبب في قوله ذاك: أنه - كما قال عنهم -:» قد فاتهم من بعض
الأحاديث الضعيفة فحسَّنوها أو صححوها..) فجاء هو ليستدرك عليهم بتواضعه
وأدبه الجم، ويلتمس لهم العذر في أنهم اعتمدوا «في الحكم على رواة تلك
الأحاديث على كتاب (التقريب) للحافظ ابن حجر (رحم الله ابن حجر، ماذا كان
سيفعل لو علم أن جيلاً قادماً سيقول في كتابه ما قال صاحبنا؟ لعله كان يسجر
التنور بأوراق كتابه ويكفي الناس همَّ النقد والتعب) . والكتاب كما لا يخفى على ذي
بصيرة قد جانب الإصابة في الحكم على عدد لا بأس به من رجاله، ووقع في
أخطاء واضحة.. (والنقط هذه من المحقق! !) وكان قد أنبهني إلى بعضها أستاذي
المحدث شعيب الأرناؤوط حفظه الله، فرسم لي الطريق وأفادني من علمه، ومشيت
في ركب البحث والتنقيب عنه حتى صار عندي منها الكثير، والنية متجهة إن شاء
الله لإكمال الشوط الذي بدأناه باشراف شيخنا ومعونته» .
وصاحبنا متواضع ومتثبت فيما يقول، فهو لا يلقي الكلام على عواهنه، ولا
يمنّ علينا فهو يقول: «.. وهذه الأحاديث التي ذكرتها فصَّلت القول فيها تفصيلاً
شافياً بإيجاز، مبيناً علَّتي في تضعيف الحديث» ، ولذا فهو لم يحذف هذه
الأحاديث الضعيفة من الكتاب، بل جعلها في فصل مستقل بآخره «ليأخذ منها
ويستفيد بها مَنْ لا يرى ضَعْفَ الأحاديث التي ذكرتُ (أي عبد المنان) لِعلم أصابه أو
شاهدٍ رآه يقّوي الحديث..» .
إذن، دَعْها في مكانها وأَرِحْ نفسك من عناء نقلها، وتغيير الكتاب، وتواضعْ
ثانية كما هي عادتك، فإن من القراء من لا يرى ضعفها فيستفيد منها في مكانها
وسياقها. ولا داعي للافتئات على النووي، ولا حاجة للعبث بكتابه وتقطيع أوصاله. (وبالمناسبة لشدة تواضعه، قد يميل إلى تضعيف حديث ضعّفه غيره أيضاً ولكنه
مع هذا المَيل لا يحذفه، ولا أدري لماذا خالف قاعدته؟) .
وبمناسبة التصحيح والتضعيف والتواضع: هل يتكرم المحقق الفاضل فيبين
لنا محل هذه الجملة من الإعراب عندما يقول: «وافقني عليه الشيخ الألباني»
والكل يعلم أن تحقيق الألباني على الأقل أسبق من تحقيقه هو بسنوات. فمن الذي
يوافق الآخر. ورحم الله أياماً كان الطلاب يوقرون أساتذتهم وشيوخهم ولا يتنفخون
عليهم! !
ومِنْ قبل ومن بعد: لِمَ هذا الازدراء والإهمال للعلماء السابقين الذين كان لهم
باع في التصحيح والتضعيف، ولهم مكانتهم، ولكلامهم وحكمهم وزن، لِمَ يعرض
عنهم صاحبنا، ويكتفي بموافقة شيخه له في تضعيفه للحديث أو حكمه عليه؟ حتى
تكررت هذه العبارة وكثرت كثرة ملفتة للنظر، فأصبحت ممجوجة. وإذا كان
فضيلة المحقق أميناً دقيقاً في عبارته حين يقول «وافقني الشيخ شعيب ترجيحاً» !
فلماذا لا يكون أميناً دقيقاً عند تحقيقه للكتاب، فيعبث به هذا العبث، ويخون الأمانة
ويجانب الدقة؟
ومما يتصل بالأمانة والدقة في التحقيق، ولكن صاحبنا يغفله، أنه يُدخِل
كلامه ضمن نصِّ الكتاب عند الإحالات الكثيرة عقب الأحاديث، كقوله: انظر
حديث كذا.. وحديث كذا.. بما قد يبلغ أسطراً عديدة، بل يتجاوز نصف الصفحة
بحرف صغير.
والنكتة البارعة الأخيرة، يطلقها صاحبنا فيقول في ص (507) : «وحرصاً
مني على إتمام الفائدة للعامة والخاصة أذكر هنا في هذا الفصل الأحاديث الضعيفة
في كتاب» رياض الصالحين «وقد بلغت عندي أكثر من مائة، وعقبت بعد كل
حديث بدليل ضعفه مع تخريجه بإيجاز.
صحيح أن العامة أمثالي (حقيقة لا تواضعاً، وعلى الأقل في مجال التحقيق)
يستفيدون من ذلك، ولكن ما حاجة الخاصة - طبعاً من علماء الحديث والمحققين
منهم - ما حاجتهم لهذا الفضل؟ ومساكين كم فاتهم من علم وفوائد قبل أن يمنّ الأخ
» عبد المنان «بإخراج هذا الكتاب.. ولا حول ولا قوة إلا بالله؟(56/45)
مصطلحات
العقل
عثمان علي حسن
العقل لغة مصدر عقل، يعقل، عقلاً، فهو معقول، وعاقل. وأصل معنى العقل المنع، يقال: عقل الدواء بطنه، أي أمسكه، وعقل البعير: إذا ثنى وظيفه إلى ذراعه، وشدهما بحبل؛ لمنعه من الهروب. وأطلق العقل على معان كثيرة، منها: الحجر والنهي، والدية؛ لأن القاتل يسوق الإبل إلى فناء المقتول ثم يعقلها هناك، ويطلق - أيضاً - على الملجأ والحصن، وكذلك القلب [1] ؛ ولذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً» [2] وما تقدم من إطلاقات فهي تدور حول المنع.
وفي الاصطلاح فالمختار هو أن يقال: العقل يقع بالاستعمال على أربعة
معان [3] : الغريزة المدركة، والعلوم الضرورية، والعلوم النظرية، والعمل بمقتضى العلم.
الأول: الغريزة التي في الإنسان، فيها يعلم ويعقل، وهي كقوة البصر في
العين، والذوق في اللسان، فهي شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط
التكليف، وبها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان.
الثاني: العلوم الضرورية وهي التي تشمل جميع العقلاء، كالعلم بالممكنات،
والواجبات، والممتنعات. والفلاسفة والمتكلمون عرفوا العقل بها، ومنهم -
كالباجي - من قسمها إلى قسمين: قسم يقع في الناس ابتداء، والآخر يحصل
بالاكتساب، وخصوا العقل بالقسم الاول.
الثالث: العلوم النظرية، وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال، وتفاوت
الناس وتفاضلهم فيها أمر جلي وواقع.
الرابع: الأعمال التي تكون بموجب العلم [4] ولهذا قال الأصمعي: «العقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن» [5] . وقيل لرجل
وصف نصرانياً بالعقل: «مه، إنما العاقل من وحَّد الله وعمل بطاعته» [6] ...
وقال أصحاب النار: [لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] [الملك.
10] . فتعريف بعض الناس العقل بذكر بعض هذه المعاني ليس بجامع، والصواب
ذكر معانيه مجتمعة.
وفي كل معاني العقل المتقدمة لا يوصف بأنه جوهر قائم بنفسه، خلافاً
للفلاسفة، ومن شايعهم من المتكلمين [7] ، بل العقل صفة أو عرض - عند من
يتكلم بالجوهر والعرض - يقوم بالعاقل، وكونه صفة يمنع كونه أول المخلوقات،
لأن الصفة لا تقوم بنفسها [8] .
التفاوت في العقول:
عرف الباجي العقل بأنه: «العلم الضروري، الذي يقع ابتداء ويعم العقلاء» ويلزم منه أن يكون الناس في عقولهم سواء، وهو مذهب المعتزلة، والأشاعرة،
ووافقهم ابن عقيل من الحنابلة، وهو ما ذهب إليه الفلاسفة [9] وعلى رأسهم ديكارت القائل بأن: «العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي..» إلى أن قال: «إن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض
الآخر..» [10] .
وحجة المتكلمين - في عدم - تفاوت العقول واختلافها - هي أن العقل حجة
عامة، يرجع إليها الناس عند اختلافهم، ولو تفاوتت العقول لما حصل ذلك، وهذا
مبني على مذهبهم في تعريف العقل، بأنه: بعض العلوم الضرورية والتي لا
يختلف الناس عليها، والصواب ما تقدم، وهو أن مسمى العقل يشمل العلوم
الضرورية، والنظرية، فالتحاكم إلى العلوم الضرورية يمنع النزاع
والاختلاف [11] ، والتحاكم إلى العلوم النظرية يحتمل النزاع والاختلاف، وهذا مشهور بين الناس ولا سيما المشتغلين بالعلوم العقلية من الفلاسفة والمتكلمين؛ حيث يكثر بينهم التنازع والاختلاف.
والحق أن يقال: إن العقول تتفاوت من شخص إلى شخص، بل قد يحصل
هذا التفاوت في الشخص الواحد، كما قال الشاطبي - رحمه الله -: «فالإنسان -
وإن زعم في الأمر أنه أدركه، وقتله علماً - لا يأتي عليه الزمان، إلا وقد عقل فيه
ما لم يكن عقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد ذلك من
نفسه عيانا، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم.. [12]
وحديث:» .. ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم
من إحداكن.. « [13] مما يمكن الاستدلال به على هذا التفاوت، إذ الحديث دل
بمنطوقه على النقصان، وبمفهومه على الزيادة وهو معنى التفاوت، بل هو دليل
على تفاوت العقل الغريزي أيضاً لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرر أن
جنس النساء فيه نقصان العقل، وهذا لا يكون إلا في الغريزة التي خلقن بها، ولأن
التفاوت في الجانب الكسبي فرع عن التفاوت في الجانب الغريزي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» الصحيح الذي عليه جماهير أهل السنة، وهو
ظاهر مذهب أحمد، وأصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه، أن العلم والعقل
ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان « [14] .
مكان العقل:
اختلف أهل العلم في مكان العقل من جسم الإنسان، فقالت الأحناف والحنابلة
وهو مذهب المعتزلة: إن العقل محله الدماغ، أي الرأس، ودليلهم: أنه إذا ضرب
الرأس ضربة قوية زلزل معها العقل، وقالوا - أيضاً -: إن العرب تقول للعاقل،
وافر الدماغ، ولضعيف العقل، خفيف الدماغ، وهو محل الإحساس.
وقالت المالكية والشافعية: محله القلب، وعليه بعض الحنابلة، ونسب إلى
الأطباء [15] ، وصححه الباجي ودليلهم قوله تعالى: [فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا] [الحج: 46] فأضاف منفعة كل عضو إليه؛ فمنفعة
القلب التعقل كما أن منفعة الأذن السمع؛ وقد تقدم كلام عمر ابن الخطاب في ابن
عباس - رضي الله عنهم -:» ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً، وقلباً
عقولاً «.
والتحقيق أن العقل له تعلق بالدماغ والقلب معاً، حيث يكون مبدأ الفكر
والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة والقصد في القلب، فالمريد لا يكون مريداً إلا بعد
تصور المراد، والتصور محله الدماغ [16] ، ولهذا يمكن أن يقال: إن القلب
موطن الهداية، والدماغ موطن الفكر؛ ولذا قد يوجد في الناس من فقد عقل الهداية
- الذي محله القلب - واكتسب عقل الفكر والنظير - الذي محله الدماغ - كما قد
توجد ضد هذه الحال.
__________
(1) انظر: لسان العرب 11/458 وما بعدها مادة: عقل، والقاموس المحيط وما بعدها مادة: عقل.
(2) رواه الحاكم في مستدركه 3/ 539 وقال عنه الذهبي: منقطع.
(3) انظر: إحياء علوم الدين لأبي حامد بن محمد الغزالي 1/85-86، ومجموع فتاوى ابن تيمية 9/287، 305، 16/336، ودرء تعارض العقل والنقل 1/89 والمسودة ص: 558-559، والذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص: 93 والفقيه والمتفقهه للخطيب البغدادي 2/20.
(4) وقد أشار ابن تيمية - رحمه الله - إلى هذا المعنى في أكثر من موضع من مصنفاته، وذلك لأهميته، إذ هو ثمرة العقل وفائدته، فلا عقل لمن لم يعمل بموجب ما هداه إليه عقله، والعقل السليم يدعو إلى الإيمان بالله ورسالاته، فمن خالف ما جاءت به الرسل فقد خالف عقله رغم ادعائه أنه من أرباب العقول، وأساطين الفهم، فالمشركون - مثلاً - عرفوا توحيد الربوبية، ولم يلتزموا بلازمه، الذي هو توحيد الألوهية، رغم التلازم العقلي الفطري بينهما، وأهل الكتابين أيضاً عرفوا صدق الرسالة، وصحة النبوة - كما يعرفون أبناءهم - ولكنهم لم ينقادوا إلى ذلك؛ فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
(5) كتاب المخصص لابن سيده: المجلد الأول - السفر الثالث ص: 16 المكتب التجاري - بيروت (بلا تاريخ) .
(6) الذريعة للراغب ص 96.
(7) انظر: (كتاب الحدود) لابن سينا ص: 12-13.
(8) انظر مجموع الفتاوى 18/338، وقد روى المتكلمون في ذلك حديثاً هذا نصه: أول ما خلق الله العقل، فقال له أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب انظر: الذريعة للراغب ص: 92، وهذا الحديث - كذب موضوع باتفاق أهل الحديث، ولا يوجد في الكتب المعروفة المعتمدة، والذي فيها - على علته - فهو بلفظ: أولَ ما خلق الله العقل، بفتح أول لا ضمه، أي أن الله (تعالى) قال ذلك في أول أوقات خلق العقل، لا أنه أول المخلوقات، لكن الفلاسفة، ومن شايعهم من باطنية الشيعة، والمتصوفة، والمتكلمة، أبوا إلا أن يرووه بالضم ليوافق هواهم.
(9) انظر: شرح الكوكب المنير لأبي البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي ص: 25.
(10) مقال عن المنهج - رينيه ديكارت - ترجمة: محمود محمد الخضيري ص: 3-4.
(11) مع أن كون العلم ضرورياً أو نظرياً هو من المسائل الإضافية النسبية، والتي يختلف فيها الناس، فقد يكون ضرورياً عند زيد ما هو نظري عند عمرو، فالعلم وإن كان ضرورياً في نفسه، فقد يصبح نظرياً من جهة تعلقه بشخص ما، لسبب ما.
(12) انظر الاعتصام 2/322.
(13) صحيح البخاري 1/405.
(14) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 10/721-722.
(15) انظر: شرح الكوكب المنير ص 24، وهم الأطباء المتقدمون، أما المعاصرون فلا أتصور موافقتهم على ذلك.
(16) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 9/304.(56/54)
الأفكار أساس التغيير
محمد محمد بدري
تنطلق أي أمة من الأمم في دربها الحضاري من مجموعة الأفكار التي على
أساسها تشيد الأمة صرح حضارتها، ويقدم الواقع شواهد عديدة على أن سلوك
الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعاً لنوعية الأفكار التي يعتنقها أفرادها
«فصحة المجتمعات أو مرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه» [1]
و «المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة الأولى في صدر الإسلام وتفوقها على مجتمعات الرومان والفرس وغيرها» [2] .
ومعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش
في صحراء مجدبة، حتى إذا جاءت أفكار الرسالة، تحول الرجال الذين لا يزالون
في بداوتهم والقبائل ذات الحياة الراكدة.. تحول هؤلاء إلى رجال يحملون للعالم
الحضارة ويقودون فيه التقدم والرقي. فماذا دخل حياة المجتمع العربي يومئذ؟ «لم
يدخل حياته عامل جديد ينقله تلك النقلة الهائلة في كل جانب من جوانب الحياة، إلا
ذلك التصور الاعتقادي الجديد.. ذلك التصور الذي جاء إلى عالم الإنسان بقدر من
الله، والذي انبثق منه ميلاد للإنسان جديد» [3] .
فهناك فكرة قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى
تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم! ! ولأن الأفكار بهذا القدر من
الأهمية، فإنه ومنذ أن تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء
الأمة الإسلامية يحرصون على تخريب الفكر الإسلامي وتشويه العقل المسلم من
ناحية، ومن ناحية أخرى يقومون برصد الأفكار الفعالة التي تحاول إحياء الأمة،
لكي يقضوا عليها في مهدها أو يحتووها قبل أن تصل إلى جماهير الأمة فتصحح
وجهتها أو تعدل انحرافات أفرادها، ولتبقى الجماهير إذا اجتمعت تجتمع على
أساس العاطفة وتحت سلطانها، وليس على أساس (الفكرة.. والمبدأ) ..
ومن هنا كانت مخططات أعداء الإسلام «لاحتواء وتدمير الأمة الإسلامية
تهدف دائماً إلى هزيمة الأمة (فكرياً) ، لأن هزيمة الأمة في أفكارها تجرّدها من
الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك
معتقداتها» [4] .
وإذن فالمعركة بين الأمة الإسلامية، وأعدائها.. ليست معركة واحدة في
ميدان الحرب، بل هي معركة في ميدانين.. ميدان الحرب، وميدان الفكر..
والأعداء حريصون في ميدان الفكر على (احتلال) عالم (الأفكار) في أمتنا،
وحريصون في نفس الوقت على توزيع (نفاياتهم) الفكرية من أفكار اللغو كأشعار
الغزل والقصص الجنسي والأدب العاري.. وما إلى ذلك، حريصون على توزيع
هذه النفايات إلى أمتنا، لأنهم يعلمون أن الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار الفاسدة
تصبح غثاء تدور به «الدوامات السياسية العالمية، ولا يملك نفسه عن الدوران ولا
يختار حتى المكان الذي يدور فيه، وهذا ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وحذر منه:» يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،
قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء
السيل « [5] .
إن أحاطة عدونا بنا، ووصولنا إلى مرحلة الشتات والفرقة، ودخول أمتنا
مرحلة (القصعة) .. كل ذلك» دليل على وجود خلل في البنية الفكرية والطروحات
العقيدية التي أثمرته، مهما كانت دعاوانا عريضة، وأصواتنا مرتفعة بالادعاء أننا
على النهج السليم « [6] ، ولذلك فإن العاملين في ميدان (إحياء) الأمة لا بد لهم من
التمييز بين (أسباب) مرض أمتنا و (أعراض) هذا المرض، فالأسباب في الحقيقة
(فكرية) أساسها المعتقدات والقيم والأفكار، أما الأعراض فهي سياسية واقتصادية
واجتماعية..، ومن هنا فإن بداية أي تغيير لا بد أن تحدث في الأفكار، وبقدر ما
تملك الأفكار رصيداً قوياً من الاستجابة لدى الأمة وتغييراً ملحوظاً في مجال
سلوكيات أفرادها وعلاقاتهم الاجتماعية، ستتحول هذه الأفكار ثقافة معطاءة يمكن
أن نقول إنها تشكل نقطة البدء في التغيير المنشود.
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين - د ماجد عرسان الكيلاني ص 247.
(2) إخراج الامة المسلمة - د ماجد الكيلاني ص 88.
(3) مقومات التصور الإسلامي - سيد قطب ص 22.
(4) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية-- عبد الله الشبانة ص 17.
(5) واقعنا المعاصر - محمد قطب ص 356.
(6) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي - عمر عبيد حسنة ص 25.(56/60)
عندما يئن العفاف
صرخة مسلمة من بلاد البوسنة والهرسك
شعر: عبد الرحمن العشماوي
أطرقت حتى ملَّني الإطراقُ ... وبكيت حتى احمرَّت الأحداقُ
سامرتُ نجم الليل حتى غاب عن ... عيني، وهدَّ عزيمتي الإرهاقُ
يأتي الظلام وتنجلي أطرافه ... عنا، وما للنوم فيه مذاقُ
سهرٌ يؤرقني ففي قلبي الأسى ... يغلي، وفي أهدابي الحُرَّاقُ
سيّان عندي ليلنا ونهارُنا ... فالموج في بحريهما صفَّاقُ
قتلٌ وتشريدٌ وهَتْكُ محارمٍ ... فينا، وكأس الحادثاتِ دهاقُ
أنا قصة صاغ الأنين حروفها ... ولها من الألم الدَّفين سياقُ
أنا أيها الأحباب مسلمةٌ لها ... قلبٌ إلى شرع الهدى توَّاقُ
دفن الشيوعيون نَبْعَ كرامتي ... دهراً، وطارت حولي الأطباقُ
حتى إذا انكشف الغطاء وغرَّدتْ ... آمالنا، وبدا لنا الإشراقُ
وقف الصليب على الطريق فلا تسل ... عما جناه القتلُ والإحراقُ
وحشيَّة يقف الخيالُ أمامها ... متضائلاً، وتمجُّها الأذواقُ
أطفالنا ناموا على أحلامهم ... وعلى لهيب القاذفات أفاقوا
يبكون، كلاَّ، بل بكت أعماقهم ... ولقد تجود بدمعها الأعماقُ
أطفالنا بيعوا، وأوربا التي ... تشري، ففيها راجت الأسواقٌ
أين النظام العالمي أما له ... أثرٌ، ألم تنعق به الأبواقُ
أين السلام العالمي لقد بدا ... كذبُ السلام، وزاغت الأحداقُ
يا «مجلس الخوف» الذي في ظله ... كُسِر الأمان، وضُيِّع الميثاقُ
أو ما يحركك الذي يجري لنا ... أوما يثيرك جرحنا الدّفاق؟ !
يُعفى عن الصرب الذين تجبروا ... وطغوا، ويُفْرَدُ بالعقاب عراقُ
هذا وربك شر ما سمعت به ... أذنٌ وما كُتبت به الأوراقُ
سرج العدالةِ مال فوق حصانها ... ولوى العِنانَ إلى الوراء نفاق
كُشِفَ الستار وبان كلُّ مُخبَّأٍ ... فإلى متى تتطامن الأعناقُ
أنا أيها الأحباب مسلمةً طوى ... أحلامَها الأوباش والفسّاقُ
أخذوا صغيري وهو يرفع صوتَه ... «أميِّ» وفي نظراته إشفاقُ
ولدي؛ ويصفعني الدعيُّ ويكتوي ... قلبي، ويُحْكِمُ بابيَ الإِغلاقُ
ولدي، وتبلغني بقايا صرخةٍ ... مخنوقةٍ، ويُقهقه الآفَّاقَ
ويجرُّني وغدٌ إلى سردابه ... قسراً، وتُظلم حولى الآفاقُ
ويئنُّ في صدري العَفَافُ ويشتكي ... طُهري، وتُغمض جفنَها الأخلاقُ
أنا لا أُريد طعامكم وشرابكم ... فدمي هنا يا مسلمون يُراقُ
عرضي يُدنَّس أين شيمتكم أما ... فيكم أبيٌّ قَلْبُه خفَّاقُ
أختاهُ، أمتنا التي تدعونها ... صارت على درب الخضوع تُساقُ
أودتْ بها قوميةٌ مشؤومة ... وسرى بها نحو الضَّياع رفاقُ
إن كُنْتِ تنتظرينها فسينتهي ... نَفَقٌ، وتأتي بعده أنفاقُ
مُدّي إلى الرحمن كفَّ تَضرُّعٍ ... فلسوف يرفع شأنَك الخلاَّقُ
لا تيأسي فأمام قدرة ربِّنا ... تتضاءَل الأْنسَابُ والأعراقُ(56/63)
الحركة العلمية في الحجاز في العصر الأموي
(2)
د. محمد آمحزون
يتابع الأخ الكاتب في هذه الحلقة الجهود العلمية في بلاد الحجاز في
العصر الأموي بعد أن استعرض في الحلقة السابقة موضوع التفسير.
الحديث:
وفي هذا العصر برز ما يسمى بعلم الجرح والتعديل أو علم الرجال. وهذا
العلم مما انفرد به المسلمون، ولا نظير له عند غيرهم من الأمم. والغرض منه
الكشف عن أحوال رواة السنة، وتمييز الصادق من الكاذب، والضابط من الواهم،
والموثوق بروايته من المطعون فيها. وقد كان السبب في إنشاء هذا العلم الجليل أنه
في أعقاب الفتن التي شهدها العصر الأموي [1] ظهرت الفرق ذات الآراء السياسية
المتعارضة والأهواء المذهبية المتعصبة، ففشا الكذب، وظهر الوضع، ولجأ أتباع
هذه الفرق إلى الوضع في الحديث والأخبار. وهذا ما جعل العلماء يؤكدون على
ضرورة التثبت في مصادر الرواية ويسألون عن الرجال الذين اشتركوا في نقلها.
وفي هذا الشأن يقول ابن سيرين (المتوفى سنة 110هـ) : «لم يكونوا يسألون
عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة [2] قالوا: سموا لنا رجالكم فلينظر إلى أهل السنة
فيؤخذ حديثهم؛ وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم» [3] . ومما يدل على
ذلك أيضاً قول ابن عباس - رضي الله عنه -: «إنا كنا نحدث عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول
تركنا الحديث عنه» [4] . فعبر هنا ابن عباس عن الفتن بقوله ركوب الناس
الصعب والذلول، ولذا كان لا يقبل إلا ما يعرف.
وقد تكلم عدد من التابعين في الجرح والتعديل مثل سعيد بن المسيب (المتوفى
سنة 94 هـ) ومحمد بن مسلم الزهري (المتوفى سنة 124هـ) وعامر الشعبي (المتوفى سنة 103هـ) . وكان كل منهم بمثابة نواة لنشأة مادة واسعة في علم الرجال يتداولها العلماء والنقاد في العصور التالية [5] .
وتميزت تلك الفترة بنشاط الرحلة في طلب العلم، وذلك لبروز عامل جديد
يحفز الطلاب إلى الرحلة، ذلك هو طلب الإسناد العالي؛ فهو أخصر طرق الحديث
المتصلة. فبدلاً من أن يأخذ التابعي عن تابعي يرغب بدوره أن يأخذ عن صحابي،
فيرحل إلى ذلك الصحابي فيروي عنه الحديث مباشرة، كما كان لظهور الوضع في
الحديث أثر في تنشيط هذه الرحلات العلمية طلباً للحديث من مظانه، وتدقيقاً
لمصادره، وبحثاً عن أصوله، وتحرياً عن رواته. وكان أغلب هؤلاء في المدينة
المنورة قلب المجتمع الإسلامي النابض، والتي طبعت بحكم مركزها بطابع خاص
في الحديث والرواية، وعرفت بالتدقيق والصرامة.
فهذا أبو قلابة عبد الله بن زيد البصري (المتوفى سنة 104هـ) يقيم في المدينة ثلاثة أيام ما له حاجة إلا رجل كانوا يتوقعون قدومه كان يروي حديثاً، فأقام حتى قدم وسأله عن الحديث [6] . وحدث عامر الشعبي رجلاً بحديث ثم قال له: «أعطيناكها بغير شيء، قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة» [7] . وعن أبي العالية الرياحي (المتوفى سنة 95هـ) قال: (كنا نسمع الرواية بالبصرة ... عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم) [8] . ولم تكن المدينة المنورة هي المعقل الوحيد للرواية، وإن كانت تحتل الصدارة في هذا الباب، بل قصد طلاب العلم بلداناً ومدناً أخرى مثل مكة والطائف واليمامة وصنعاء [9] ، وذلك بسبب انتشار الصحابة في الأمصار.
وفي الواقع، كان للرحلة أثر في شيوع علم السنة وتكثير طرق الحديث، كما
كان لها أثر في معرفة الرجال بصورة دقيقة، لأن المحدث يذهب إلى البلدة فيتعرف
على علمائها ويخالطهم ويسألهم. ولولا الرحلة في طلب العلم لوجد لكل مدينة
طابعها الخاص المميز لها، مما يسبب العزلة العلمية، ويذكي العصبية المحلية بين
العلماء باتساع الخلاف على الأحكام. ولكن الحيوية والروح العلمية التي تحلى بها
العلماء دفعتهم إلى جوب الآفاق وأخذ العلم من شتى المراكز الفكرية.
على أن أولئك المحدثين لم يهتموا - مع الأسف - بتدوين أخبار الرحلات
وأوصاف المدن التي شدوا الرحال إليها، ولو فعلوا ذلك لقدموا معلومات غزيرة
ومفيدة كتلك التي نجدها في كتب الرحلات المتأخرة مثل رحلة ابن جبير وابن
بطوطة.
ومن مميزات ذلك العصر من الناحية العلمية الاهتمام بكتابة الحديث النبوي
وتدوينه، وذلك خلافاً لما يعتقده بعض المستشرقين مثل جولد تسيهر وبلاشير اللذين
رفضا صحة الأخبار المتعلقة بكتابة الحديث وتدوينه في تلك الفترة المبكرة، فجعلا
زمن بداية جمع الحديث أواخر القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث
الهجري [10] .
ومعنى هذا الرأي أن العرب كانوا في حال من البداوة لا تسمح لهم بالانتباه
إلى التدوين والكتابة في فترة مبكرة مثل القرن الأول وسنرى من خلال عرض
تاريخ الكتابة والتدوين عند المسلمين أن الرأي الذي جرّد العرب في العصر الأموي
من التصنيف والكتابة، وجعل صدر الدولة العباسية مبدأ العلم والثقافة والتدوين عند
العرب هو رأي أملاه الهوى وعدم الموضوعية. وحتى إذا افترضنا أن أصحاب
هذا الرأي لهم نوايا حسنة، فإنهم حين يحاولون فهم التاريخ الإسلامي على غير
صورته فهم مخطئون فيما ذهبوا إليه.
لقد عرف المسلمون طرقاً متنوعة لتحمل أو تلقي العلم، وهذا الجانب بحد
ذاته سمة متميزة تنفرد بها الحضارة الإسلامية، ولا يعرف لها في الحضارات
الأخرى شبيه. وهذا سبب أساسي لما حدث من لبس وسوء فهم في الدراسات
الاستشراقية الحديثة. ففي كتب مصطلح الحديث يرد ذكر أصناف طرق تحمل العلم
وهي متنوعة منها: السماع والقراءة والإجازة والمناولة والكتابة والوصية والوجادة. وفي كل الحالات المذكورة ليس الحفظ أمراً ضرورياً إلا في الحالتين الأوليين
وهما السماع والقراءة.
فهذا أبو هريرة (المتوفى سنة 59هـ) رغم اشتهاره بقوة الذاكرة يبدو مع ذلك
أنه قد أعد للرواية بعض الصحف. روى تلميذه بشير بن نهيك عنه قال: كتبت
عن أبي هريرة كتاباً، فلما أردت أن أفارقه قلت: يا أبا هريرة! إني كتبت عنك
كتاباً، فأرويه عنك؟ قال: نعم اروه عني [11] . وكان عبد الله بن عمر بن
الخطاب (المتوفى سنة 74 هـ) يكتب الأحاديث النبوية في رسائله [12] وكانت
عنده كتب في العلم ينظر فيها. نقل إبراهيم الصائغ عن نافع أن ابن عمر كانت له كتب ينظر فيها، يعني في العلم [13] . أما أنس بن مالك (المتوفى سنة 94 هـ) فكان يحث أولاده على كتابة العلوم ويقول لهم: (يا بني قيدوا العلم بالكتاب « [14] ، حتى نقل عنه أنه كان لا يعد عالماً من لم يكتب علمه [15] .
وتخبرنا المصادر في مواضيع كثيرة عن كيفية التدوين وطريقة النسخ في ذلك
الوقت؛ قال سعيد بن جبير إنه كان يكتب عند عبد الله بن عباس على الألواح حتى
يملأها [16] . وروى أحد التابعين أنه رأى طلاب العلم في مجلس البراء بن عازب
الأنصاري (المتوفى سنة 72 هـ/691 م) وهم يكتبون على أكفهم بالقصب [17] .
وفي ضوء بعض الأمثلة في جيل التابعين يتضح بجلاء ما أبداه هؤلاء من
همة في الكتابة، وكيف أنها كانت عادة معروفة في زمنهم، عكس ما يتوهمه بعض
الباحثين من أن الاعتماد في النقل عند المحدثين مدى قرن ونصف كان على الذاكرة
فقط، وعلى المشافهة بالتحديث، حتى اتخذه أعداء السنة سُلَّماً للطعن فيها. لقد
كانت الكتابة عند التابعين إحدى طرق تلقي العلم المألوفة بجانب السماع والقراءة.
وفي هذا الصدد يروي أحمد ابن حنبل أن الحكم بن عتيبة (المتوفى سنة 113 هـ) أخذ عن مقسم بن بجرة (المتوفى سنة 101هـ) أربعة أحاديث سماعاً، أما سائر مروياته فقد أخذها كتابة [18] . وذكر ابن أبي حاتم أن أحاديث عبد الأعلى عن محمد ابن الحنيفة (المتوفى سنة 73 هـ) كانت من كتاب، ثم يؤكد ذلك بقوله:» قلت يعني أنها ليس بسماع « [19] .
وغالباً ما نجد في المصادر معلومات عن استعارة الكتب في ذلك الوقت!
حيث استعار حيدر الطويل كتب الحسن البصري (المتوفى سنة 110هـ) فنسخها وردها عليه [20] . كما استعار الليث بن أبي سليم كتاباً من حسن بن مسلم (المتوفى سنة 106هـ) ، وقال هِزْر أخو حسن بن مسلم لرجل: (إذا قدمت فعرِّج على ليث بن ألي سليم وقل له حتى يرد كتاب ابن حسن بن مسلم فإنه أخذه منه) [21] . وذكر معمر بن راشد أنه نسخ كراستين حول المغازي عن التابعي عثمان الجزري المشهور بعثمان المشاهد، استعيرا منه ولم يعودا 22 [.
وقد سعى بعض الحكام الأمويين إلى جمع الحديث وتدوينه، ويعد مروان بن ...
الحكم (المتوفى سنة 65هـ) أول وال أموي أراد أن يحفظ معارف مشاهير الصحابة ويصونها من الضياع. فيروى أنه استقدم زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عندما كان عاملاً على المدينة، وطرح عليه أسئلة والكتاب جالسون خلف ستر يدونون الإجابات] 23 [. وكتب ابنه عبد العزيز بن مروان عندما كان والياً على
مصر] 24 [إلى التابعي كُثَيِّر بن مُرّة الحضرمي (المتوفى سنة75 هـ) أن يكتب له ما سمعه من أحاديث الصحابة سوى أبي هريرة لأن حديثه كان مجموعاً عنده] 25 [. ثم جاء حفيده عمر بن عبد العزيز بن مروان إلى الخلافة، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم:» انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب
أهله «] 26 [.
وأراد منه أن يكتب ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية (المتوفاة سنة 98 هـ) والقاسم بن محمد (المتوفى سنة 120هـ) ] 27 [، لأنهما أعلم الناس بحديث عائشة.
لكن المحاولة الشاملة في الجمع والنسخ قام بها إمام جليل آخر هو محمد بن
شهاب الزهري المدني حيث استجاب لطلب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز،
وكان شغوفاً بجمع الحديث والسيرة، فجمع حديث المدينة وقدمه إلى عمر بن عبد
العزيز الذي بعث إلى كل أرض دفتراً من دفاتره] 28 [.
وكان لهذه الجهود أثر كبير في حفظ السنة ومنع التلاعب فيها، كما مهدت
الطريق للعلماء المصنفين في القرن الثاني للهجرة، حيث ازدهرت حركة التدوين
ودأب العلماء على ذلك. لكن الفضل في أقدم أشكال تدوين الحديث يرجع بالطبع
إلى مرحلة التأسيس في العصر الأموي.
__________
(1) خليفة: التاريخ ص 234، 236، 252، 254، 280 وابن الجوزي: الأحاديث الموضوعة 1/39.
(2) ربما يقصد بالفتنة حركة ابن الزبير عندما أعلن نفسه خليفة (انظر الموطأ كتاب الحج 99) وهذا التفسير قد يتفق مع عمر ابن سيرين الذي كانت ولادته سنة 33هـ/653م) مما يجعله عند حدوث فتنة ابن الزبير - رضي الله عنه - في حدود 72 هـ/ 691م بعمر يمكنه من الكلام بإدراك وإطلاع عما حدث في هذه الفترة.
(3) رواه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/84 والجوزجاني: أحوال الرجال، ص 35-36.
(4) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء 1/80.
(5) الحاكم: معرفة علوم الحديث ص 6.
(6) الدارمي: السنن 1/136.
(7) ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/94.
(8) الدارمي: المصدر السابق 1 /136.
(9) ابن سعد: المصدر السابق 5/443، 503، 523، 549.
(10) سزكين: المرجع السابق 1/122.
(11) الخطيب: تقييد العلم ص 101.
(12) أحمد: المسند 2/45 - 90.
(13) البخاري: التاريخ الكبير 1/325.
(14) الخطيب: المصدر السابق ص 96.
(15) الخطيب: المصدر السابق ص 96.
(16) أحمد: العلل 1/50.
(17) الدارمي: المصدر السابق 1/128، والخطيب: المصدر السابق 105.
(18) ابن حجر: تهذيب التهذيب 10/220.
(19) ابن حجر: المصدر نفسه 6/39.
(20) ابن سعد: المصدر السابق 3/39.
(21) ابن سعد: المصدر نفسه 5/479.
(22) أحمد: العلل 1/5.
(23) ابن سعد: المصدر السابق 2/ 361.
(24) وليها من سنة65 هـ إلى سنة85 هـ: انظر ابن كثير: البداية والنهاية 9/57.
(25) ابن سعد: المصدر السابق 7/448.
(26) الدارمي: المصدر السابق 1/126.
(27) ابن أبي حاتم: تقدمة المعرفة ص21.
(28) ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/76.(56/66)
مقال
بطرس غالي.. تاريخ وحقائق
أحمد عبد العزيز أبو عامر
تمهيد:
ينتسب د. بطرس غالي إلى الكنيسة القبطية التي يترأسها اليوم شنودة الثالث، ولقد استطاعت هذه الكنيسة في الأربعينات جذب جماهير المثقفين الأقباط حولها
واستطاعت أن تحقق نوعاً من الإحياء لدورها. وفي نهاية الخمسينات وبداية
الستينات استطاع النظام الناصري آنذاك ومن خلال مشروعه (القومي) جذب العديد
من أبناء الكنيسة القبطية لينخرطوا في صفه ولما كانت تلك الفئات المثقفة تنتمي
أصلا في بداية تعليمها غالباً إلى مدارس (الأحد) الكنسية حصل في هذا الجيل
اتجاهان:
الأول: من بقي مرتبطاً بالكنيسة أكثر من الدولة والحياة العامة (كشنودة
الثالث) .
الثاني: من ابتعد عن الكنيسة وارتبط بالدولة ومنهم الصفوة القبطية السياسية
والتكنوقراطية مثل (د. ميلاد حنا) .
وهناك اتجاه ثالث يحاول الربط بين الكنيسة والدولة في إطار فكري واحد مثل
(وليم سليمان قلادة) .
ودراسة المسيحية السياسية في مصر تعتمد على عدد محدود من الكتابات يُرى
فيها آراء متفرقة أكثر مما نجد رؤية فكرية متكاملة وشاملة ومن هذه الدراسات
القليلة كتابات الكاتب القبطي المعروف (د. رفيق حبيب في بعض كتبه ودراساته
المنشورة) [1] وله جهود جيدة في كشف حقيقة الكنيسة ورموزها و (شنودة) غير
راض عنه ولا عن والده. وأرجو أن أتناوله وفكره وموقف الكنيسة منه في دراسة
قادمة بإذن الله.
والذي يجب أن لا يغيب عن البال هو أن للكنيسة القبطية تنظيماً ونشاطاً
كبيراً في الداخل والخارج، ولها جهود كبيرة في كافة الأصعدة، وتشجع الدراسات
التي تبشر بدينهم، وتنقد الإسلام، بخاصة تظهر الغبن المزعوم لطائفتهم. وباباهم
الحالي يظهر عند المقابلة معه دبلوماسية وذكاءً كبيراً وتبرؤاً من كل جهد لهم أو
لمنتسبيهم بكل ما يعكر صفو الأمن أو يثير النزعات الطائفية. ولا يعرف له موقف
إيجابي ضد الكتب التي تهاجم الإسلام زوراً وبهتاناً مثل: (رسالة المجلس الملي
القبطي بالإسكندرية) والتي نقدها وكشف عوارها د. عبد الجليل عيسى، وكذلك
(الجريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة) لإيسذوروس وكتاب: (بيان الحق لياسين
منصور) والذي نقده وفضح مفترياته الأستاذ توفيق علي وهبة. في كتابه:
(افتراءات المفترين) وكتاب: (تاريخ الكنيسة القبطية) لمنسي يوحنا، وهو كتاب
يحوي تعصباً أعمى قال عنه مبشر، نصراني لبناني معروف هو (لويس شيخو
اليسوعي) بعدما ذكر أخطاءه في كثير من الوقائع والحقائق: إن مؤلف الكتاب كان
مدفوعاً في كتابه بعامل التعصب القومي.
ويعلم الجميع أن الصحوة الدينية الشاملة في السنين الأخيرة أيضاً شملت
النصارى، ولذا تم اجتماع مؤخراً في (استانبول) هو الأول من نوعه منذ قرابة
الألف سنة بين كبار أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوربا
للتصالح بينهم وبين بقية الطوائف المسيحية الأخرى وعلى رأسها كنيسة روما
الكاثوليكية، بعد انقطاع دام حوالي 938 سنة، وقد عبر الجميع عن تصميمهم على
إعطاء دور أكبر للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والتي عانت حسب زعمهم الكثير من
الاضطهاد على أيدي المسلمين مثلما عانت من نير الشيوعية..
هذه التداعيات المسيحية في النهضة الجديدة للكنيسة الأرثوذكسية ومشاركاتها
في كثير من الأنشطة الاجتماعية وصدور كثير من الكتب والنشرات والصحف
والمجلات في الداخل والخارج [2] . كل ذلك لا شك له أثره ودوره في تنمية
الوعي لدى أفرادها وبالتالي إثارة الحمية الدينية في نفوسهم مما ينعكس بالتالي على
شعور كل فرد منهم مهما كان توجهه علمانياً مثل د. بطرس بطرس غالي.
نبذة عن حياة بطرس غالي:
هو ابن لإحدى الأسر القبطية المشهورة والتي كان لها دورها في الحياة
السياسية المصرية واشتهرت بعميدها (بطرس غالي باشا (1847 - 1910) والذي
تولى رئاسة الوزارة في مصر في نوفمبر 1908 وحتى 1910 وقد اغتاله أحد
الشباب الوطنيين المصريين وهو (إبراهيم ناصف الورداني) والذي ثأر لبلده من
ميول المذكور للمستعمر الإنجليزي وعمله لمدّ امتياز القناة للإنجليز، وقد فشل
المشروع بعد اغتيال صاحبه. ووالد المقتول هو (غالي ناروز بك) كان من كبار
أقباط بني سويف ومن كبار أثرياء مصر في عصره، إذ كان أحد موظفي الدائرة
الخاصة للخديوي إسماعيل، مما أتاح لابنه (بطرس) أن يقضي جانباً من سنوات
تعليمه في المدرسة التي أنشأها (مصطفى فاضل) شقيق الخديوي لتعليم أبنائه ومنهم
بطرس الحالي حفيد بطرس غالي ناروز والذي ولد سنة 1922م في أحد قصور
حي (الفجالة) بالقاهرة.. وقد دخل كلية الحقوق وتخرج منها عام 1946م وحصل
على الدكتوراه من جامعة باريس عام 1949م ثم عاد إلى القاهرة للعمل أستاذاً
للقانون الدولي ثم رئيساً لقسم القانون الدولي بعد ذلك. ثم شارك في تأسيس كلية
الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة عام 1962م وأصبح فيما بعد رئيساً
لقسم العلوم السياسية بهذه الكلية منذ إنشائها. وفي عام 1977م تولى وزارة الدولة
للشؤون الخارجية. ومن أبرز أعماله في هذه الفترة مشاركته في الوفد الذي صاحب
أنور السادات في عقد الصلح مع العدو الصهيوني، إذ كان مسؤول الجانب السياسي
في مباحثات (كامب ديفيد) للسلام من سبتمبر 1978م إلى مارس 1979م (ومعلوم
أن زوجته يهودية) وبقي في هذا المنصب حتى أصبح نائباً لرئيس الوزراء
المصري في أوائل 1991م، ثم تم اختياره أخيراً أميناً عاماً لهيئة الأمم المتحدة.
ولا يغيب عن البال ترأسه لتحرير مجلة (السياسة الدولية) بدءاً من يوليو 1965
وحتى 1991م والتي تعتبر مرجعاً هاماً في العلوم السياسية دراسة وتحليلاً ومتابعة
من منظور علماني.
وكتب الكثير من الدراسات السياسية والقانونية في مجال تخصصه، ومن
أشهر مؤلفاته: (الحكومة العالمية) والذي صدر للمرة الأولى عام 1957م، وأعيد
طبعه مؤخراً هذه السنة 1992 م، والكتاب يدور حول فكرة (الحكومة العالمية) أو
إقامة تنظيم دولي لحفظ السلام والأمن في العالم. حيث قام بدراسة الموضوع من
الناحية النظرية في كتابات عدد من المفكرين في المدرسة الأوربية، والمدرسة
الأنجلوسكسونية، والمدرسة الإسلامية، وخلال هذه المتابعة التاريخية يرصد نمو
الوعي بضرورة وجود تنظيم دولي وبضرورة وجود نظام لتسوية الصراعات
والنزاعات بالطرق السلمية لأن الحرب كما نقل: (انتحار جماعي وضرب من
ضروب الجنون) . ثم ينتقل إلى دراسة لبعض التجارب السابقة في إقامة التنظيمات
الدولية بدءاً بالمؤتمر الدولي عام 1814م وانتهاءاً بهيئة الأمم المتحدة.
هذا التوجه الجميل في البحث عن حكومة عالمية تحكم العالم وتكفل السلام،
وتوفر الطمأنينة ماذا عمل (بطرس غالي) لتنفيذها حينما آلت إليه مقاليد هيئة الأمم؟ مما يؤسف له أن ذلك الكلام تبخر وصار أثراً بعد عين وظهرت ميول عجيبة
وغريبة لا يمكن بحال من الأحوال تفسيرها بغير (الميول الصليبية الكامنة في لا
شعوره) في مواقفه اللامبالية من مأساة (دولة البوسنة والهرسك) وعدوان الصرب
الهمجي عليهم والذي لم يعد يجهله أحد، وشكَّل أعنف عدوان إجرامي في العصور
الحديثة. لا سيما إذا عرفنا أن الرجل (أرثوذكسي) العقيدة، وإخوانه الصرب على
نفس المذهب، والموقف البارد الذي يعالج به هذه القضية كما سنرى لا يمكن
تفسيره بغير ما في ذكرته، فهو رجل سياسي عرف السياسة نظرياً وتطبيقياً. وله
أفكاره حيال معالجة الصراعات والأوضاع العالمية السابقة لكنه حيال هذه المأساة
عطلها وأعطى المعتدين الصرب الفرصة لاستئصال المسلمين هناك في وضح
النهار.
فمنذ بدأت جمهورية البوسنة والهرسك بالانفصال وإعلان استقلالها كان له
موقف سلبي حيالها لا سيما حينما بدأ الصرب الصليبيون مواقفهم العدوانية من تلك
الدولة الجديدة التي يرونها جزءاً لا يتجزأ من (صربيا الكبرى) وحصل من الفجائع
والمآسي للمسلمين هناك ما نقلته وكالات الأنباء، وأثار دهشة كل الناس للطرق
العدوانية التي يتعاملون بها. ومواقف (الأمين العام الجديد) تمثلت فيما يلي.
1 - استبعد أول الأمر إرسال قوات دولية لحفظ السلام في البوسنة والهرسك
حتى قبل أن يُقدَّم اقتراح بهذا الشأن، وبادر بإصدار تقرير متسرع مباشرة بعد
فرض العقوبات الدولية على (دولة صربيا) لإراقتها الدماء البريئة في البوسنة
والهرسك.
2- رفض بطرس غالي اتفاق لندن بشأن وضع الأسلحة الثقيلة بين الأطراف
المتناحرة تحت إشراف الأمم المتحدة مع العلم أن الأسلحة الثقيلة بيد الصرب،
والمسلمون ليس بأيديهم سوى أسلحة خفيفة مما أثار مشكلة مع (اللورد كارنجتون)
وسيط هيئة الأمم المتحدة الذي أشرف على إبرام الاتفاق حينما زعم بطرس أن
وقف إطلاق النار جرى التفاوض بشأنه بصورة متعجلة للغاية، وأنه يقضي بنشر
عدد من مراقبي هيئة الأمم المتحدة يزيد عما كان مخططاً له في الأصل، وقد
رفض (كارنجتون) الانتقادات البطرسية وقال: إن وقف إطلاق النار قد صدر عن
الأطراف المتحاربة نفسها وأنه فقط قام بنقل الاقتراح فيما بين الأطراف، وقال:
سيكون من الأفضل ممارسة ضغط أكبر على المتحاربين، إلى أن قال: إنه لا
يعتقد أنه بوسع المرء أن ينبذ بصورة كاملة وقف إطلاق النار الراهن.
3- معارضته في إرسال المزيد من القوات الدولية إلى البوسنة والهرسك
الأمر الذي أخر اتخاذ مجلس الأمن قراراً بشأن خطة المجموعة الأوربية التي
تقضي بنزع سلاح الأطراف المتحاربة. لكن بطرس اقترح أن تساهم منظمات
إقليمية أوربية في تمويل المهمة وتوفير المعدات والأفراد. بل ربما تتولى المهمة
برمتها متعللاً بنقص موارد هيئة الأمم المتحدة، وأهمية معالجة قضايا أفريقيا
كالصومال بنفس الاهتمام، ولا ندري كيف حصل هذا الاهتمام الجديد فجأة بقضية
الصومال التي مزقتها الحروب الأهلية منذ ما يقارب السنة ولم ينتبه الأمين العام لها
إلا يوم بدت الحاجة الماسة لإنقاذ مسلمي البوسنة والهرسك من الحرب الصليبية
التي يشنها عليهم الصرب بكل غطرسة وعنجهية. فهل القصد الاهتمام بالصومال
أم التساهل مع الصرب حتى يتم لهم ما يهدفون إليه من التطهير العرقي المزعوم.
والذي يقومون به على مسمع العالم وبصره.
4- وبعد تلك المواقف اللا إنسانية من هيئة الأمم المتحدة وأمينها العام شن
عدد من الصحف الغربية والبريطانية منها بخاصة هجوماً على بطرس غالي
وانتقدت تصرفاته غير المسؤولة، وأسلوبه في التعامل مع قرارات مجلس الأمن.
بل وتغيبه عن حضور جلسات مناقشة قضية البوسنة، ونقلت صحيفة اللوموند
(الفرنسية) أن أحد أعضاء مجلس الأمن علق قائلاً بأن (بطرس غالي) عارض منذ
تعيينه في منصبه أي تدخل إضافي للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك، وقال آخر: إن مزاج بطرس غالي متوعك تجاه هذه القضية التي تعتبر في غاية المأساوية،
وأنه في غاية الدهشة لهذا الموقف إزاء مأساة تدور أحداثها أمام أعيننا. وإزاء هذا
الهجوم عليه لا سيما من الصحف البريطانية استطاع (غالي) أن يلمز بريطانيا بعد
خلافه مع مندوبها (ديفيد هاناي) إذ قال في معرض شرحه لأسباب الهجوم عليه ربما
لانه دخيل مما أثار ضجة في الأوساط الإعلامية والسياسية الإنجليزية لأن المرادف
لكلمة (دخيل) كما استخدمها (غالي) لفظ جارح، وكان يستخدم سابقاً للإشارة إلى
مواطني الدول الآسيوية المستعمرة من قبل الإنجليز مما يجدد ذكريات مؤلمة عن
ذلك الاستعمار، مما دعا وزير خارجية بريطانيا (هيرد) في مقابلة مع (بي. بي.
سي) إلى الثناء على الأمين العام، وقال المراقبون في لندن: إن تصريح (هيرد)
هذا بمثابة اعتذار الغرض منه غلق هذا الملف.
إن ملف بطرس غالي وموقفه المشين من قضية العدوان الصربي على
المسلمين في البوسنة والهرسك سيظل مفتوحاً يظهر منه مدى الإهمال واللامبالاة من
وقف المعتدين عند حدهم. لو كان ما يحدث للمسلمين هناك حل بغيرهم من
المسيحيين أو غيرهم كاليهود مثلاً ماذا سيكون موقف الأمم المتحدة وأمينها العام يا
ترى؟ لا بد حينئذ أن تعلن الطوارئ وتقوم هيئات حقوق الإنسان بإعلاناتها
المتشنجة حيال وأد حقوق أولئك المعتدى عليهم أما وأن الضحايا مسلمون فلا حياة
لمن تنادي.
ولقد قال مفتي البوسنة والهرسك حيال المواقف المشينة للأمين العام للأمم
المتحدة من قضية بلاده: إن موقف الأمين العام بطرس غالي من قضية شعبي
غريب ومدهش. فأولاً: بلادي دولة مستقلة معترف بها دولياً، وثانياً: إن ما حدث
من الصرب اعتداء واضح وصريح على الشرعية الدولية وتدخل في شؤون دولة
أخرى، وثالثاً: إن ما يقوم به الصرب ليس اعتداءً على شعبي وبلادي فقط ولكنه
اعتداء بشع على الإنسانية جمعاء، وأنهم طالبوا بقوات دولية لحفظ السلام،
والضغط دولياً من خلال المنظمة الدولية على صربيا ولكن للأسف فوجئوا بموقف
الأمين العام السلبي، وتساءل: كيف يكون للأمم المتحدة دور في الحماية ومنع
التدخل كما حصل في بعض المواقع الملتهبة وتمتنع عن اتخاذ إجراءات ناجعة
حينما وقع الاعتداء على شعبه؟ ! وما زال مجلس الأمن يناقش مدى إمكانية إرسال
قوة عسكرية لحماية المعونات الإنسانية ولم يتفقوا بعد، أما حماية البشر فهذا بعيد
فيما يظهر.
ثانياً: ليس هذا هو الموقف السلبي الوحيد لبطرس غالي من قضايا المسلمين، فموقفه من قضية المسلمين في قبرص لا يقل غرابة، فالمسلمون هناك كانوا
الأكثرية في الجزيرة ولكن ببركات بريطانيا والتي فتحت أبواب الجزيرة لليونانيين
حتى صار المسلمون أقلية.. وتعرضوا لحرب إبادة من أولئك الطارئين وكان
لزعيمهم الهالك (المطران مكاريوس) دور في حرب الإبادة ضد مسلمي الجزيرة.
ويتماسك المسلمون تحت قيادة الأستاذ (رؤوف دنكطاش) ولم يحمهم بعد الله من
استئصال عصابات النصارى إلا تدخل الجيش التركي عام 1973م حينما كان نجم
الدين أربكان نائباً لرئيس الوزراء التركي، حينها استصدر أمراً باجتياح شمال
قبرص لحماية المسلمين القبارصة وبهذا المنطلق الذي لا يعرف الأعداء سواه قامت
دولتهم شمال قبرص والتي لم تحظَ بعد باعتراف دولي سوى من تركيا نفسها، نجد
(بطرس غالي) يطالب الزعيم المسلم بالتخلي عن الجزء القائم باسم المسلمين -
ويشكل (1/4) الجزيرة - لصالح اليونانيين. وحاول أن يمارس ضغوطاً قوية في
سبيل تنفيذ ذلك، فدعا الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى دعم المساعي
الرامية إلى الخروج مما أسماه (الطريق المسدود) الذي وصلت إليه المفاوضات
حالياً لحل المشكلة القبرصية. بينما الحكومة القبرصية الصليبية تحظى بتأييد دول
العالم قاطبة ودعمها، وهي أبعد ما تكون إنصافاً وعدلاً مع قطاع كبير من الشعب
القبرصي المسلم. فبماذا نعلل هذا الموقف من (بطرس غالي) حيال مسلمي قبرص؟ ولماذا لا يكون الحل الجذري للجميع لينال المظلومون حقوقهم، لكن العجب يزول
إذا عرفنا أن نصارى اليونان وقبرص كلهم من الأرثوذكس وإذا عرف السبب بطل
العجب.
ثالثاً: الموقف المتناقض من القرار 242 حول قضية الشعب الفلسطيني
المسلم. ونحن بادئ ذي بدء نرفض عملية السلام مع العدو الصهيوني لما يترتب
على السلام معهم من أخطار عقدية وسياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية لا
يتسع المجال لذكرها، ويمكن الرجوع إلى كتيب (لماذا نرفض السلام مع اليهود)
للأستاذ محسن عنبتاوي لكن ما يثير العجب أن القرار 242 الذي قبلته الدول
العربية بعد نكسة 1967 كان لبطرس غالي رأيه المتشدد في إلزاميته لليهود في
دراسة علمية له نشرها في مجلة (السياسة الدولية) العدد (42) وهي دراسة تستحق
أن تكون أساساً للرد على أي دعوى ترى عدم إلزامية ذلك القرار، لكننا فوجئنا
بتغيير رأيه في مدى إلزامية القرار للعدو في مؤتمر للأمين العام في 20 مارس
الماضي والذي عكس فيه رأيه رأساً على عقب داعياً إلى أن القرار غير ملزم للعدو
الصهيوني.
رابعاً: وحيال مأساة المسلمين في بورما والتي تمثل نموذجاً للمآسي التاريخية
في عصر (النظام العالمي الجديد) لما عانوه من قتل وتشريد واضطهاد، حيث
هرب مئات الألوف من بورما إلى دولة فقيرة هي بنجلادش. ولم يتخذ حيال
العصابة الشيوعية الحاكمة في (رانجون) أي موقف صارم يوقفها عند حدها لا
لشيء إلا لأنهم مسلمون، إنها مأساة شعب يشكو إلى الله غفلة إخوانه المسلمين
ومؤامرة الدول الكبرى وبخاصة صناع النظام العالمي الجديد.
المراجع:
1- المسيحية السياسية في مصر، د. رفيق حبيب.
2- ومن أهم صحفهم في مصر (الكرازة) دينية الطابع و (وطني) ذات طابع
سياسي.
3- الحكومة العالمية، د. بطرس غالي.
4- المجتمع العدد 996 والعدد 1010.
5- الشرق الأوسط 4985، 4999.
6- الدعوة العدد 1351.
7- السياسة الدولية العدد 108.(56/74)
مقابلة مع: الشيخ أحمد قاضي
والشيخ محمد حاج
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي قام المسلمون في كافة الجمهوريات الوليدة
بالسعي لاستعادة هويتهم، وانبرى الدعاة والعلماء لأخذ دورهم الهام في إعادة الناس
إلى استئناف الحياة الإسلامية التي فصلوا عنها زماناً طويلاً، ومن جهود العلماء
المسلمين في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) تأسيس حزب النهضة الإسلامي، الذي يعد
أكبر تجمع للمسلمين. ونلتقي في هذه المناسبة برئيس الحزب الدكتور أحمد قاضي، ... ونائبه للعلاقات الخارجية الشيخ محمد حاج ليحدثونا عن الحزب خصوصاً، ...
وأوضاع المسلمين هناك عموماً.
حبذا لو تحدثونا عن إرهاصات إنشاء الحزب؟
مرت بالمسلمين - كما لا يخفى عليكم - أيام سوداء قاتمة زمن الشيوعية ...
اضطررنا خلالها للعمل السري للمحافظة على كياننا الإسلامي، وكان في مناطق
المسلمين أربع إدارات دينية للإشراف على شؤون المسلمين - زعموا - تحت
توجيه وإشراف المخابرات، وكان لكل إدارة مفتٍ منصّب (شيوعي) .
وعندما تحسنت الأوضاع - أيام البيروسترويكا - تحرك المسلمون ضد هذه
الدمى وأطاحوا بمفتي آسيا الوسطى شمس الدين بابا خان وكذلك مفتي داغستان
محمود حقي.
ثم تحرك الجميع لإنشاء الأحزاب القومية والعلمانية، وكذا أحزاب النصارى، مما دعا المسلمين إلى التداعي لإنشاء حزب يضم المسلمين ويخدم قضاياهم. فهب
العلماء والدعاة إلى الاجتماع في منتصف 1990 وحضر 220 مندوب من مناطق
المسلمين كافة، وقرروا إنشاء حزب النهضة الإسلامي في جميع أنحاء الاتحاد
السوفييتي (قبل تفككه) ، وتألف مجلس شورى من العلماء (17 عالماً) ولجنة تنسيق
(7 أعضاء من مختلف المناطق) .
ما هي أهداف وبرامج الحزب؟ ...
الحزب إسلامي، وأهدافه نبيلة وتشمل أساساً توحيد المسلمين من كافة
مناطقهم، وكذلك تربيتهم على الأصول الإسلامية من الكتاب والسنة، والدعوة إلى
الالتزام بأوامر الدين واجتناب نواهيه. ومن ناحية أخرى العمل على رعاية حقوق
المسلمين السياسية والاجتماعية في المناطق التي يكونون فيها أقلية.
كيف تطورت أوضاع الحزب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟ ... ...
في البدء كان لنا فروع في (9) جمهوريات أكبرها طاجيكستان وأزبكستان،
واستطعنا إنشاء صحف في مختلف الجمهوريات مثل: (الدعوة) و (النجاة) ...
في أزبكستان و «بيان الحق» و «الوحدة» وغيرها في المناطق الأخرى.
وكذلك قمنا بتوزيع الكثير من النشرات الإسلامية. وبعد انهيار الاتحاد
السوفييتي، أصبحت الأحزاب ذات الصبغة العامة غير معترف بها، وبالتالي قمنا
بتسجيل الحزب في مختلف الجمهوريات تحت الاسم نفسه وتجمعها رابطة النهضة
الإسلامية، حيث سجل فيها (70) ألف عضو من كافة مناطق الاتحاد السوفييتي
(سابقاً) .
هل للحزب أدوار سياسية؟ ...
قبل سقوط الاتحاد السوفييتي شارك الحزب في الانتخابات، وفي طاجكستان
شارك الحزب مع المعارضة القومية في الضغط على الحكومة ورئيسها (الشيوعي)
عن طريق الاضرابات والاعتصام حتى قدم الرئيس الكثير من التنازلات. وتعتقد
قيادة الحزب أن الوقت الآن للتربية وتوجيه الناس وانتشالهم من الجهل الذي يعانونه، أما الجانب السياسي فقادم في المستقبل إن شاء الله.
هل لكم أن تعطونا فكرة عن عدد أعضاء الحزب الآن، وواقعه؟ ...
لعلمكم فإن روسيا وعدد سكانها ما يقارب 150 مليون تحوي ما يقارب 26
مليون مسلم يتركز بعضهم في مناطق تتميز بالحكم الذاتي - مثل داغستان التي
ننتمي إليها - ويتوزع الآخرون في روسيا نفسها، وعدد أعضاء الحزب في
داغستان فقط ثلاثة آلاف عضو، يجمعهم مجلس شورى من تسعة عشر عضواً،
وهم يمثلون مليوني نسمة من أهالي داغستان. ويعاني الحزب من آثار الشيوعية
الباغية حيث كل المساجد والمدارس مدمرة، ولك أن تتصور أن داغستان أيام
القيصرية كانت تحتوي 2700 مسجد و800 مدرسة فضلاً عن آلاف العلماء الذين
قتلوا أو هربوا.
هل هناك أحزاب إسلامية أخرى؟
نعم يوجد حزب ديمقراطي إسلامي! ! وهو صوفي النزعة ويستخدمه
القوميون مطية لهم، وكذلك «جماعة المسلمين» وهم شافعية ملتزمون بالكتب
المذهبية ويصفون من يخالفهم - ممن يستفيدون من جهود الآخرين وبالأخص
المعاصرين - بأنهم وهابيون، وقد كان لهم جهود طيبة سابقاً في محاربة الشيوعية.
ما أخطر المشكلات التي تواجه الحزب الآن؟
في الحقيقة تعتبر اللغة مشكلة كبيرة، وعائقاً أمام أعمال الدعوة ولك أن
تتصور مليوني نسمة (في داغستان) يتكلمون (33) لغة وبالتالي فاللغة الروسية هي
السائدة، أما العربية - التي كانت رسمية قبل أيام القياصرة - فإنها تستعيد دروها
تدريجياً، والإقبال على تعلمها كبير رغم قلة المعلمين والكتب الدراسية.
من ناحية أخرى تمثل العلمانية خطراً داهماً على المسلمين، وذلك بسبب
جهل العامة بالإسلام رغم حبهم وعاطفتهم تجاه هذا الدين أما طبقة المثقفين (أغلبهم
كانوا شيوعيين في السابق بسبب المصالح الدنيوية) فإنهم لا يعادون الدين، وفي
الوقت نفسه لا يعادون العلمانية لجهلهم بمقاصدها ومراميها وتبقي النخبة الباقية التي
يغلب عليها التوجه العلماني ومضادة الدين، والمدعومة من تركيا العلمانية بالخبراء
والمستثارين. وهذا مع قلة علماء الشريعة والدعاة المصلحين.
يعاني المسلمون - في عموم الجمهوريات الإسلامية - بعد سقوط الاتحاد السوفييتي مشاكل عديدة، هل لكم أن تلخصوا لنا أبرزها؟ ...
تعلمون أن المسلمين هم أكبر المتضررين في الوقت الحاضر فالمشاكل
الاقتصادية تعصف بهم من غلاء معيشة، وفقر ومرض، وكذلك المشكلات
الاجتماعية من خمور ومخدرات وملاه ومنكرات تملأ المجتمعات، وفي جانب
التعليم: الروسية هي اللغة التعليمية وهي إلزامية في المدارس، وفي الجانب
العسكري فإن الجمهوريات الإسلامية تعاني من قلة السلاح الذي ذهب كله إلى
روسيا وأوكرانيا، وما عدا كازخستان، وهي مجبرة على التخلص من أسلحتها
النووية، أما في الجانب السياسي فالمسلمون بين فكي كماشة؛ فمن جهة إيران
تتربص وتتتحين الفرص لنشر مذهبها؛ ومن جهة أخرى تركيا العلمانية التي تسعى
لنشر مبادئ أتاتورك - بتوجيه أمريكي غربي -، واليهود الذين استفادوا كثيراً من
الوضع المتردي والسيطرة على الكثير من المؤسسات الاقتصادية. والدول الغربية
تعمل بجد على نشر الإنجيل والتوراة في أوساط المسلمين - رغم علمهم بأن
بضاعتهم كاسدة - فنجد الترجمات بكافة اللغات المحلية والنشر على أوسع نطاق،
فضلاً عن المحاضرات والندوات.
الطوائف المرتدة عن الدين مثل البهائية والقاديانية تندّس وتزدهر في أوساط الجهل، فهل لهذه الطوائف وجود في بلادكم؟ ...
بالطبع، فالبهائية لها نشاط قوي ملموس وخصوصاً في موسكو وهم أكثر من
1000 فرد، أما القاديانية فلهم دُور خير في روسيا وسيبريا ولاتفيا وروسيا
البيضاء، وهم يذهبون لجهلة المسلمين حيث يبنون لهم المساجد ويأتون لهم بالأئمة
من باكستان وانجلترا وبالتالي يجدون لمذهبهم رواجاً، وهذا يحمّل المسلمين
المخلصين المسؤولية، وبالأخص المقتدرين منهم، وأعتقد أن نشر الكتب باللغات
المحلية وكذا بالروسية (التي يتقنها أكثر المسلمين) سوف ينفع كثيراً في هذا المجال.
ختاماً نشكر الأخوين على المعلومات المفيدة التي عرضاها، ونضع الأمر بين
يدي المعنيين ليقوموا بدورهم في هذا المجال، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه،
والحمد لله رب العالمين.(56/85)
محنة الشعب الصومالي
محمد عثمان عقال
بعد مرور عام ونصف على سقوط الطاغية سياد بري لا زالت الأحوال في
الصومال تتردى من سيئ إلى أسوأ، حيث يذوق هذا الشعب الجريح القتل الجماعي
والمجاعة بأيدي الجهات القبلية التي مزقت أرض الصومال، وقسمت الشعب المسلم
إلى قبائل متناحرة متقاتلة، كل هذا رغم مقومات الوحدة لهذا الشعب. فهو شعب
مسلم بالكامل وجنس واحد، كما أن أصول الناس ولغتهم وتاريخهم تعتبر شيئاً واحداً.
إن ما يحدث في الصومال، وإن كان بأيدي هذه القبائل المتناحرة؛ إلا أن
المؤامرة ليست بعيدة عنه لإضعافه وتشريد شعبه.
لقد قسمت الصومال ومزقت من قبل على أيدي المستعمر الغربي، ففي مؤتمر
برلين قسمت الصومال بين بريطانيا، التي استولت على الجزء الشمالي المشرف
على خليج عدن، وأسمته: المحمية الصومالية، واحتلت إيطاليا الجزء الجنوبي،
وأخذت فرنسا ما سمته الصومال الفرنسي (جيبوتي الآن) .
واقتطعت بريطانيا جزءاً آخر هو الذي ألحقته بكينيا لدى نيلها الاستقلال عام
1963م والمسمى (NFD) ، وأخيراً احتلت الحبشة نصيبها المسمى بإقليم اوغادين
عام 1954م بعد انسحاب بريطانيا إثر اتفاقية سرية مع الحبشة. والصومال الحالي
هو عبارة عن الجزء الإيطالي والمحمية الصومالية.
ومخطط الاستعمار الغربي ينفذ اليوم على أيدي العلمانيين والمجرمين الذين
يقودون الجبهات القبلية التي ذاق الشعب الصومالي على أيديها كل أنواع القتل
والنهب والاغتصاب. لقد استفادت هذه الجبهات من النظام الاجتماعي القبلي لهذا
الشعب، مع أن هذا النظام كان مبنياً على التعاون والإخاء ونصرة المظلوم والتكافل
حتى وصل الأمر إلى المثل المعروف وهو أن القبيلة الطيبة لا يوجد فيها أحد جائع.
لا شك أن سياد بري خلال إحدى وعشرين سنه من الظلم والاستبداد والتعذيب
والتحريش كان بمثابة رأس الفتنة، ثم أجهزت الجهات القبلية على الباقي حتى
أصبح الشعب الصومالى شعباً مشرداً لاجئاً في جميع أنحاء العالم.
الجبهات وتوجهها:
1- جبهة الإنقاذ SSDF أسسها في كينيا العقيد عبد الله يوسف عام 1978م
وهي أول جبهة مسلحة حاربت نظام سياد بري إثر قمعه القبائل في الشمال الشرقي
والمنطقة الوسطى، وهي تسيطر الآن على شمال شرق الصومال والمنطقة
الوسطى، ويرأس هذه الجبهة الآن محمد أبشر موسى.
2- جبهة التحرير الوطني SNM، أسست عام 1982 في بريطانيا،
وقاومت نظام سياد بري في الأجزاء الشمالية من البلاد. وبعد سقوط بري أعلنت
هذه الجبهة انفصال الجزء الشمالي عن بقية البلاد كحكومة مستقلة سمتها «أرض
الصومال» . ويرأسها الآن عبد الرحمن محمد علي.
3- جبهة منظمة المؤتمر الصومالي UCS، والتي سيطرت على العاصمة
والمناطق المجاورة بعد سقوط النظام الفاسد ولكن ما لبثت قليلاً حتى انقسمت إلى
قسمين متناحرين اندلعت حرب دامية بينهما في العاصمة قتل على أثرها الآلاف.
والجنرال محمد فارح عيديد يرأس قسماً والقسم الآخر يرأسه علي مهدي محمد
الرئيس المؤقت للبلاد والذي يمثل الجماعة الموالية للغرب والمدعومة من قبل
أمريكا.
وقف الفتنة:
لقد قام نفر من الدعاة بنشر الدعوة الإسلامية في أرجاء البلاد، حتى وصل
أمر الناس إلى مرحلة محمودة هن الالتزام الطيب بالإسلام، وكان الاتحاد الإسلامي
- وهو أكبر تجمع إسلامي في البلاد - طليعة الشعب الصومالي في محاولة وقف
الفتنة منذ عهد سياد بري. حيث تصدى لمحاولاته التفريقية لهذا الشعب إلى قبائل
متناحرة متبعاً بذلك قاعدة: فرق تسد.
وبعد سقوط نظام سياد بري بذل الاتحاد جهوداً جبارة للتوسط بين الجبهات
المتقاتلة، كما بذلوا جهوداً لحماية المصالح العامة مثل: الموانئ والمستشفيات
ومواد الإغاثة، وتوزيعها على الفقراء والمساكين وضحايا الحرب، وأكبر مثال في
هذا هو «بوصاصو» في شمال شرق الصومال و «مركا» في جنوب البلاد.
إن على المسلمين الصوماليين نبذ العصبية القبلية، والتوبة إلى الله، وإنقاذ
هذا الشعب من الدمار والهلاك الذي لحقه بسبب سياد بري وبسبب الجهات العلمانية
القبلية، وعلى الإخوة أتباع الحركات الإسلامية في الصومال توحيد صفوفهم ونبذ
الحزبية والفرقة لمواجهة التنصير الغربي في معسكرات اللاجئين سواء في كينيا
والحبشة، أو في داخل البلاد.
وإن على المحسنين المسلمين الميسورين أن يدعموا الدعاة المسلمين في
الصومال حتى يتمكنوا من أداء واجبهم تجاه تحرير الصومال وتضميد جراح هذا
الشعب المسلم.(56/91)
بيان هام
من الاتحاد الإسلامي في أوجادين
من المعلوم أن منطقة «أوجادين» المحتلة من قبل أثيوبيا هي المحور
الأساسي المتمثل في الصراع بين المسجد والكنيسة منذ الحروب الصليبية في القرن
الخامس عشر الميلادي.
وقد قامت عدة حروب لتخليص المنطقة من الاستعمار الحبشي وكانت الحرب
سجالاً، إلى أن جاء الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي فلقن الاستعمار الحبشي درساً لم
ينسه بعد، مما استدعى تدخل الدول الغربية وفي طليعتها «البرتغال» لحماية
المسيحية في أفريقيا، وما زالوا يدفعون في سبيل الحفاظ عليها وإخضاع الشعوب
الإسلامية للأقلية المسيحية الغالي والنفيس.
وبعد انهيار حكومة «منغيستو» الشيوعية تسلمت مقاليد الحكم الجبهة
الشعبية «النجراوية» بتدبير من الصليبية والصهيونية العالمية ونتيجة لضعفها
وعدم قدرتها للسيطرة على جميع القوميات نادت بالديمقراطية ووعدت بمنح تقرير
المصير للقوميات المختلفة بعد سنتين، إلا أن هذا الوعد لم يكن إلا مطية لتقوية
وتعزيز قدرتهم العسكرية والاقتصادية، ومن ثم القضاء على أي قوة مناهضة.
ويعتبر الاتحاد الإسلامي في أوجادين حزباً معترفاً به، وله نشاطه الدعوي
على منهج السلف الصالح، وقد قام بفتح مكاتب سياسية في جميع المدن والقرى،
كما أنه أسس معسكرات لتدريب الشباب عملاً بقوله تعالى: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ] [الأنفال: 60]
وعندئذ تفجر الحقد الصليبي فقامت الحكومة الأثيوبية (تجراي) بتحريض من القوى
الصليبية العالمية بهجوم واسع النطاق بقوات قوامها ألفا مقاتل تقريباً على معسكر
طارق بن زياد التابع للاتحاد الإسلامي في أوجادين وذلك بتاريخ 11/8/1992م
واستمرت المعركة ثمانية ساعات متتالية، وسفرت بحول الله وقوته عن هزيمة
القوات المسيحية هزيمة نكراء، حيث قتل منهم ما يزيد على مائة جندي، ومن
بينهم قائد الجيش، وجرح منهم حوالي سبعين رجلاً، بينما تاه في الغابات كثير من
قواتهم ولا يعرف لهم مصير.
[ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]
[آل عمران: 169] ، كما جرح من المجاهدين تسعة منهم نسأل الله أن يجعل ذلك
في ميزان حسناتهم ويسكنهم الفردوس الأعلى.
ومنذ تلك المعركة التي نقضت فيها حكومة الحبشة جميع العهود والمواثيق
تهدمت دعوى الديمقراطية المزعومة التي كانت تتستر بها، وانكشف الغطاء عن
الحقد الصليبي والذي لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.
... ... ... ... ... ... مكتب العلاقات الخارجية والإعلام(56/95)
هل يخون الغرب نفسه؟ [*]
مقابلة مع علي عزت بيكوفيتش
ترجمة: أحمد العبدة
هل تعتقد أن شيئاً قد تحقق في مؤتمر لندن الأخير؟
أقل مما توقعنا وما تمنياه. ولكن تحقق بعض التقدم.
هل لديك شك في عزم الغرب على تنفيذ الاتفاقية التي أقرت هنا؟
نعم، لقد فوجئنا بنقص رغبة الغرب السياسية في الحل وأحزننا ذلك.
هل تشعر أنك قد خذلت من قبل الغرب؟
إلى حد ما، نعم. إنه ليس خذلاناً لأمانينا بقدر ما هو خذلان للغرب نفسه.
لقد خذل الغرب مبادئه. إن من حسن حظ الغرب أنه لم يتردد في بداية الحرب
العالمية الثانية كتردده الآن. لو أنهم ترددوا حينئذ لما دخلوا الحرب. ولكنا لا زلنا
نعيش تحت الحكم النازي إلى يومنا هذا.
إن الصرب يسيطرون على 70% من أراضي البوسنة، ألا تعتقد أنك ... ستكون مفاوضاً من موقف ضعيف جداً في المحادثات القادمة في جنيف؟ ...
أولاً: إنهم لا يسيطرون على 70%، إنهم يسيطرون على حوالي 50%.
ثانياً: صحيح أننا في موقف صعب؛ لكنهم هم أيضاً في موقف صعب، لقد تعبوا من الحرب، خسروا الحرب السياسية في الداخل والخارج، وخسروا من الناحية المعنوية لأنهم ارتكبوا كثيراً من الجرائم. جرائم بشعة. من الناحية العسكرية نحن مشلولون من ناحية التسليح، لكنهم مشلولون نفسياً.
إذا انتهت الحرب، وعادت البوسنة إلى حدودها قبل الحرب، كيف يمكن ... التعايش بين الصرب والكروات والمسلمين في أرض يقتل فيها الجار جاره؟ ...
كان الهدف الأساسي لكاراديتش قائد الصرب في البوسنة تحطيم الحياة
المشتركة في البوسنة. لقد عشنا جميعاً مئات السنين في البوسنة والهرسك. أكثر
من 80% من أراضينا تقطنها جماعات مختلطة، مسلمون، صرب، كروات،
وغيرهم. لقد اعتقدنا دائماً أن هذا ميزة مهمة لنا. وسنبقى حاملين هذه الفكرة ما
دمنا ننظر للموضوع من منظار القرن الحادي والعشرين، ولكن الأمر غير ذلك
بالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون بعقلية القرون الهمجية. لهذا قاموا بهذه العملية التي
سموها التطهير العرقي، فبذروا الكراهية، وقتلوا الناس، محاولين التفريق
والشرذمة وإقناع الجميع بأن الحياة المشتركة أصبحت مستحيلة.
هل نجحوا في ذلك؟
للأسف، لقد نجحوا جزئياً، حيث يتساءل الطيبون بينهم وبين أنفسهم ما إذا
كان التعايش لا زال ممكناً. لكن هناك فرق بين قاطني الأرياف وسكان المدن، ففي
مدننا ما زال الاعتقاد شائعاً أن التعايش ممكن، ولا غرابة في ذلك حيث الناس
متعلمون أكثر، وهذا يمثل الأمل للتعايش المستقبلي.
ما هي مصادر أسلحتكم؟
نحن نشتريها من أي عارض لنا، هذا ما أستطيع أن أقوله.
هناك تقارير عن مساعدات من دول إسلامية، تشتمل على المال والسلاح بل حتى مقاتلين، هل هذا صحيح؟
هذه إشاعات، لكننا نقبل المساعدات من أي جهة، فلماذا إذن لا نقبلها من
الدول الإسلامية؟ ! لكن لم يصلنا من الدول الإسلامية إلا مساعدات إنسانية.
هل المجموعة الأوربية صديق للبوسنة؟
أعتقد أن أوربا فوجئت لما يحصل في البوسنة والهرسك. بتسلط صربيا،
ولكن أريد أن أؤكد على إن الإجرام الذي نتعرض له هو نتاج أوربي إلى حد ما.
إنه خليط مؤسف من الفاشية والاشتراكية اللتين ولدتا في أوربا.
ما نوع صداقة الولايات المتحدة لكم؟
المشكلة أن منطقتنا ليست ذات أولوية للولايات المتحدة، أولوياتهم هي:
الشرق الأوسط، الشرق الأقصى، أميركا اللاتينية، وليس بلدنا. وهذا هو سبب
المأساة الحالية التي كان يمكن أن لا تحدث لو تدخلت الولايات المتحدة في وقت
مبكر.
هل تعتقد أن حرب عصابات موسعة من قبل البوسنة ستعيدها إلى حدودها ...
الأصلية؟
لماذا تسميها حرب عصابات. نحن نحاول تشكيل جيش نظامي، فحوالي
نصف السكان موالون لنا، لأن أراضينا أكثر نظاماً وأمناً من مناطقهم. والمناطق
التي على ضفاف نهر البوسنة هي من أكثر المناطق تطوراً من الناحية الصناعية.
ولدينا الفرصة لتشكيل جيش نظامي.
هل الوقت متأخر لمنع انتشار هذه الحرب؟
لا، الوقت ليس متأخراً، لا أظن أن هذه الحرب ستتسع، خصوصاً إذا
طبقت القرارات التي اتفق عليها أمس (أي في مؤتمر لندن) .
هل بالإمكان تطبيق القرارات بدون التهديد بالقوة العسكرية؟ ...
عندي شك عميق في ذلك، ولكن في رأيي إن المجتمع الدولي لم يقل كلمته
الأخيرة في هذه المشكلة. ولم يستبعد الخيار العسكري قطعياً. أعتقد أن المجتمع
الدولي من خلال قراراته بالأمس قد قام بخطوة أخيرة لمنع انهيار الوضع، ولم
يستبعد - في حالة عدم التطبيق - حتى الخيار العسكري.
__________
(*) عن نيوزويك، عدد أيلول 7 (سبتمبر) 1992.(56/97)
في دائرة الضوء
وشهد شاهد من أهلها
سعد بن محمد آل عبد اللطيف
كثيراً ما يتهم الشباب الصالح الملتزم بدينه في البلاد العربية والإسلامية بأنهم
شباب يغلب عليهم (الدروشة) ويمتازون بالسلبية، أو أنهم أناس يستترون بالدين
ويسعون إلى تحقيق مآربهم ومطامعهم الشخصية، أو أنهم اعتزلوا المجتمع وفسقوه
وكفروه ونابذوه العداء.. إلى آخر القائمة التي لا تنتهي.
ولعل خير ما يبطل هذه التهم ويوضح مدى تفاهتها ما نشر في مجلة صباح
الخير [15/1/1413هـ]- والمعروفة بعدائها السافر للإسلام وأهله - من تنامي نشاط الجماعات الإسلامية وكيف أنهم كسبوا قلوب الأهالي في قرى الصعيد بمصر، وكان عنوان المقال أو التقرير «كيف توغل الإرهاب في قرى ومدن الصعيد» .
حيث يذكر التقرير بعض أوجه النشاط الخيري والتى استطاعوا من خلالها
كسب ود الأهالي والوصول إلى قلوبهم ونشر الوعي بينهم، وذكرت المجلة التالي:
1- مجال وسائل المواصلات: وندرك أهمية هذا المجال إذا عرفنا شدة
حاجة الناس إليها - أي وسائل المواصلات - لأداء أعمالهم وتحصيل مصالحهم في
المقابل لا تتوفر بسهولة هذه المواصلات، فما كان من الإسلاميين هناك إلا أن
قاموا بتنظيم دورات توصيل الركاب مقابل أجور ثابتة لا تقبل الزيادة ومع فصل
الرجال عن النساء ومنع الاختلاط.
2- مجال الصحة: أقام الدعاة هناك المستوصفات الأهلية بجوار المساجد
ويشرف عليها ويعمل فيها بعض الأطباء الصالحين ويقومون بالكشف وتقديم الدواء
بسعر رمزي وربما مجاناً.
أما مجال الطب البيطري فتزيد أهميته إذا أدركنا أهمية المواشي في مثل هذه
المجتمعات الريفية، حيث يقوم أحد الأطباء البيطريين بتفقد حالات الماشية
المريضة والإشراف على علاجها بأسعار زهيدة.
3- مجال التموين: قام الإسلاميون بمساعدة العوائل الفقيرة عن طريق إقامة
مشروعات اقتصادية صغيرة وإشراك تلك العوائل في المساهمة فيها مما يساهم في
زيادة الدخل عند تلك العوائل ويخفف عنها عبء المعيشة، ومن تلك المشروعات:
مناحل العسل، مزارع الدواجن، مشروعات التسمين، إنتاج الألبان وصناعة
المربى والمخللات وأعمال الخياطة والتطريز، بالإضافة إلى الإشراف على
المخابز وتنظيم عملية بيع الخبز.
4- في مجال العمل الاجتماعي: كان للإسلاميين دور فعال في إصلاح ذات
البين وفض الخصومات والمنازعات، ومن أهمها قضية الثأر بل حتى الخلافات
الزوجية بالإضافة إلى زيارة المرضى وجمع الزكاة.. إلخ.
بالإضافة أيضاً إلى منع ومحاربة المنكرات والبدع، مثل منكرات الأفراح من
الغناء وغيره، مثل بدع العزاء من إقامة السرادقات وتلاوة القرآن.. إلخ.
5- في مجال التعليم: يقوم الإسلاميون بإقامة حلقات تحفيظ القرآن الكريم في
المساجد، وتقديم الدروس الخصوصية لطلبة المدارس وفي المساجد أيضاً، مع
بعض التوجيه والإرشاد وأداء الصلوات، بالإضافة إلى الأنشطة الرياضية المختلفة.
ونقول أخيراً: وشهد شاهد من أهلها.. ولكن التقرير يقول في آخره محرضاً
ومشوهاً دوافع هذه الأعمال: «وهكذا تجيد الجماعات وأمراؤها فنون تسويق
الإرهاب بحنكة واقتدار في مجتمع الغليان والنسيان هنا» .
وتعليقا على ذلك أن الحق لا بد أن يظهر، وأن التشويه والتحريض قد يخدم
هؤلاء إلى أمد، وأن المسلم عليه أن يحصر جهوده بالعمل والإنتاج والبعد عن القيل
والقال ومهاترة السفهاء، وبذلك تكون له العاقبة إن شاء الله.(56/101)
شذرات.. وقطوف..
أصناف الناس
«الناس ثلاثة: خيّر، وشرير، ومهين. فالخيّر هو الذي إذا أقصيته قبض
نفسه عنك ولسانه من سوء الذكر لك وذكر حسناً إن كان تقدم منك، والشرير يقبض
نفسه عنك ويطلق لسانه في ذكر معايبك.، وربما تعدى إلى الكذب عليك، والمهين
لا يقبض نفسه عنك، ولا يزال متضرعاً لعفوك، ومودة هذا مقرونة باستقامة حالك
وصلاح أمورك فإن انتقلا انتقل بمودته» .
... ... ... ... ... ... ... ... ... أسامة بن منقذ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... لباب الآداب
... ... ... ... ... ****
الفرج بعد الشدة
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد ... تقطّع قلبي إثرهم حسرات
فيا نفسُ طيبي، ثم يا نفس أبشري ... فغير بعيد كل ما هو آت
ولا تجزعي من دولة الجور إنني ... كأني بها قد آذنت بشتات
عسى الله أن يرتاح للخلق إنه ... إلى كل حيّ دائم اللّحظات
... ... ... ... ... ****
القول والفعل
«ولن يبلغ ألف رجل من إصلاح رجل واحد بحسن القول دون حسن العمل؛ ما يبلغ رجل واحد في إصلاح ألف رجل في تصديق القول بالفعل» .
... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو الحسن العامري
... ... ... ... ... ****
المدينة والريف
«.. لكن اليوم تمتص المدينة العملاقة الريف حتى الجفاف، تلتهم كل يوم
كتلاً جديدة من البشر حتى يعتريها الوهن وتموت في وسط قفر بوار من الريف،
وخال من السكان» .
... ... ... ... ... ... شبنجلر: سقوط الحضارة الغربية(56/104)
منتدى القراء
لماذا لا نبكي من خشية الله؟
محمد بن حمد أبو عزام
كثير منا من يقرأ القرآن ويداوم على الصلاة ويحافظ على السنن، ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر وقد يصوم بعضنا الأيام المستحب صيامها، وكل هذه
أعمال عظيمة ولله الحمد.
رغم هذا فإنه يتبادر إلى ذهني سؤال يحيرني ويزعجني وهو: لماذا لا أبكي
من خشية الله؟ كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يبكون عند أدنى شيء
يذكرهم بالله جل وعلا. فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما قرأ في
صلاة الفجر قوله تعالى: [فَإذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] شهق شهقة قوية، فسقط فجلس
يعاد في بيته وهو على فراشه أسبوعاً كاملاً.
وهذه قصة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- عندما جاء بيته وجلس
على فراشه وهو يبكي، فجاءت زوجه فاطمة فبكت لبكائه، وبكى الخدم لبكائهما،
وعندما سكت قالت له: بأبي وأمي ما يبكيك، قال: تذكرت موقفي يوم العرض.
وغيرها كثيرة معلومة. وقد يكون السبب في ذلك والله أعلم:
1- عدم حضور القلب حضوراً تاماً في الصلاة، والتلذذ فيها هي أو غيرها
من العبادات، والغفلة عن تلاوة القرآن وتدبره. يقول ابن القيم -رحمه الله-: إذا
أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر
حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان
رسوله. قال تعالى: [إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ
شَهِيدٌ] [ق: 37] .
2- ما يعتري القلب من أمراض معنوية كالحسد وجب الرئاسة وإظهار النفس
وحب المال والكبر وغيرها.
3- الاهتمام بجانب واحد وإهمال الجانب أو الجوانب الأخرى، كمن يهتم
بتلاوة القرآن ولا يترك فضول الكلام، فهنا لن تحصل تمام الخشية والإنابة على
الوجه المطلوب.
4- العكوف والإصرار على المعصية مما يجعل القلب يقسو وينكت فيه نكتة
سوداء. والركون إلى شيء من حطام الدنيا الزائل.(56/106)
عندما رد مقالي! !
هدى السيف
لم نتعود بعد على فن المقالة والمشاركة بالكتابات في المجلات والصحف،
وبالتالي لم نتعود أن ترد مقالاتنا التي نرسلها.
كم يفخر الإنسان بأن ينشر مقاله في مجلة راقية قوية المنهج، صادقة اللهجة
كمجلة البيان التي أرسلت إليها مقالاً ولكنه رُدّ، حقاً كم هو قاسٍ على نفسي أن يرد
مقالي، بعد أن أودعته بنظري القاصر من كنوز المعاني، وعندما أفقت من صدمتي
ورجع إلي عقلي سألت نفسي: هل هم مخطئون أم أنه العجب بنفسي، هل التزمت
بشروطهم للنشر أو الجدة من حيث المنهج أو اللغة، أو الجدة في الموضوع أو التوثيق
العلمي وأجبت: لا. قلت: إذن فلماذا الغضب حيث ترد مقالاتنا ولا تنشر. ألم أقل
إننا لم نتعود على فن الكتابة الصحفية..(56/107)
بريد القراء
الأخ سالم عقيل باصلاح
أرسل لنا كلمة قصيرة حول طموح الشاب المسلم لخدمة دينه وطموح الشاب
الذي أكبر همه امتلاك سيارة وهما صنفان لا يستويان.
البيان: شكراً للأخ سالم وننصح بكثرة القراءة.
الأخ عبد الله عياد
أرسل كلمة قصيرة حول تميز الشخصية الإسلامية، والرجوع إلى هويتنا
وثقافتنا.
البيان: شكراً للأخ عبد الله ونتمنى لك التوفيق.
الأخ محمد الشبيثي
أرسل مثنياً على البيان ومقترحاً إيجاد زاوية لحل مشاكل الشباب، ويرى
مضاعفة التوزيع في كل مكان حتى يتعرف عليها القراء.
الأخ مقبل
أرسل قصة قصيرة بعنوان (عتاب) .
البيان: نشكر الأخ مقبل وننصحه بكثرة القراءة وإعادة المحاولة.
الأخ أحمد سعود الطيار
أرسل مثنياً على البيان ومستفسراً عن تعلم الإنكليزية عن طريق المنتدى.
البيان: لا يوجد الآن في المنتدى دورات لتعلم الإنكليزية ولكن يمكن للمنتدى
أن يساعد الأخ القادم في التعرف على المعاهد أو الدورات التأهيلية.
الأخ عبد الإله الزعير
نشكر لك محاولتك «استشعار لذة العبادة» والموضوع يحتاج - كما بينت -
لكاتب مقتدر حتى يشمل الموضوع ويعتني به، ونرحب بك في محاولات أخرى.
الأخ نجم الدين عبد الله المعروف
نشكر لك على مقالك «المساواة بين الرجل والمرأة كما يراها الإسلام
» والفكرة جيدة لكن الموضوع يحتاج استقصاء أكثر مما عرض وحبذا الاستفادة من الكتب الكثيرة في هذا المجال وأهمها «عودة الحجاب القسم الثاني» للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل.
الأخ فائز سعيد الزهراني
أرسل لنا كلمة قصيرة يحث فيها المسلمين على العمل والصبر واستنفاد. كل
الطاقات التي يملكونها حتى تعود إليهم العزة والكرامة.
الأخ يوسف بن عياد الحنيني
أرسل لنا كلمة قصيرة عن العالم المجاهد عبد الله بن مبارك.
البيان: جزاك الله خيراً يا أخ يوسف وقد نشرت البيان في أعدادها السابقة
ترجمة لهذا الإمام العالم.(56/108)
قديم جديد
الحرب الصليبية في البلقان [*]
قد عرف كل قارئ وكاتب وواع وسامع حقيقة ما تسميه أوربا (المسألة
الشرقية) وهو إزالة دولة الإسلام من الشرق - وبعبارة أخرى من الأرض -وجعلها
قسمة بين الدول الغربية- وبعبارة أخرى المسيحية - وأول ما يهمهم من بلاد
المسلمين ما كان منها في أوربا فإن من طباع الأوربيين وغرائزهم الموروثة شدة
العصبية على من لم يكن منهم وعدم احتمال وجوده بينهم. بل كانوا لا يحتمل
بعضهم من بعض مخالفة في دين ولا مذهب، ولذلك أبادوا الوثنيين من أوربا لما
صار أكثرهم نصارى، وأبادوا المسلمين في غربي (الأندلس) ولا يزالون يعملون
لإبادتهم من شرقيها (تركية أوربة) .
... كانت الدولة العثمانية أقوى من جميع الدول الأوربية بأساً، ولكنها لم
تكن قط أقوى عقلاً ورأياً، فكانوا يستفيدون من قوتها بحسب دهائهم، حتى صاروا
بارتقاء العلوم والفنون وما يترتب عليها من الصناعات أقوى منها. حينئذ طفقوا
ينتقصون بلادها من أطرافها، فأزالوا سلطانها عن بلاد اليونان والرومان والبلغار،
وأسسوا من البلاد التي كانت لها عدة إمارات وممالك بجوارها تأسيساً تدريجياً،
وأخذوا على عاتقهم حمايتها منها، فإذا أغارت إحدى هذه الإمارات أو الممالك على
شيء من بلاد الدولة حتى عندما كانت تحت سيادتها ساعدتها أوربا على امتلاك ما
أغارت عليه، وإذا وقعت حرب انتصرت فيها العثمانية وأخذت شيئاً من بلاد إحدى
هذه الممالك ردته أوربا إليها ولم تسمح للعثمانية بأن تستفيد من انتصارها شيئا.
والأصل في ذلك القاعدة المتفقة (كذا، والصحيح المتفق) عليها بين دول أوربا كافة، ونقل عن اللورد سالسبوري التصريح بها وهي «ما أخذه الصليب من الهلال لا
يعود إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب» .
... وقد صرح بعض ملوك التحالف البلقاني ووزراؤه بأن هذه الحرب
صليبية محضة المراد منها إنقاذ المسيحيين من سلطة «الترك الكافرين»
وصرحت الدول العظمى في أول الأمر عندما كن يعتقدن أن الدولة العثمانية أقوى
من البلقانيين ويرجى أن تنتصر عليهم بأنهن لا يسمحن للغالب في هذه الحرب بأن
يأخذ شيئاً من ملك المغلوب، بل يجب أن تبقى البلاد كلها على حالتها الحاضرة
التي تواثقت الدول كلها على حفظها. فلما ظهرت بوادر الغلبة للبلقانيين على الترك
بدا لهم، ولم تخجل دولة ولا جريدة لدولة من التصريح بأنه لا يمكن حرمان دول
البلقان من ثمرة انتصارها.
هذا قول إجمالي وجيز في تصرف أوربا في الدولة العثمانية إلى هذا اليوم،
وهو تصرف العاقل الحكيم في القاصر الجاهل. وإنني أعتقد أن أوربا لم تكن في
الماضي ولا في الحاضر شراً علينا من أنفسنا، ولو وجد في الدولة عقلاء مصلحون
لتيسر لهم النهوض بها بمساعدة أوربا نفسها، ومن لا يصلح نفسه لا يصلحه غيره. والدولة تعرف في الجملة ما هي أوربا وهي الآن منها كالمريض بين يدي
ممرضه الذي يعالجه عند شدة الألم بالمورفين الذي يسكن آلامه في الحال، ليسلبه
الحياة في الاستقبال، ولكنه لا يرى نفسه في غنى عنه، فهي تلقي نفسها بين يدي
أوربا، وتقول لها: تصرفي كيف شئت ولكن تكرمي بالرفق واللين.
البيان: هذه هي سياسة أوربا الآن لم تتغير ولن تتغير أبداً، فكل ما يأخذه
الصرب من المسلمين في البوسنة فهو حلال، ولو انتصر المسلمون لأوقفوا القتال
بحجة عدم اعتداء دولة على دولة.
__________
(*) المنار مجلد 15/جزء 11 ص 817-818.(56/110)
الصفحة الأخيرة
مفكرو الشوروقراطية!
جمال سلطان
نبتت في زماننا هذا، نابتة من هذه الأمة، لا تتكلم في شيء من أمر دينها أو
دنياها إلا بالقياس إلى الآخرين، والآخرون هم الغرب تحديداً، وبالتالي؛ فإن أية
نظرة إليهم في فقه الإسلام، أو مقتضيات شريعة؛ لا يمكن أن تفهم فهماً أصيلاً
ذاتياً منبثقاً من هدي كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومسترشداً
بالتجربة الفكرية والعملية التي مرت بها الأمة في قرونها السابقة، ولا سيما قرون
الرشاد والاستقامة والقوة.
فإذا أراد أحدهم أن يفهم «حقوق الإنسان» في دين الله، تراه يكتب حاشية
أو تذييلاً على «المتن الأوربي» لمقررات حقوق الإنسان، ثم يوشي هذا المتن
بآية أو حديث، لكي يضمن إضفاء وصف «إسلامي» على مؤلفه، ولا بأس -
لكي يرفع من شأن الإسلام أمام الحضارة المعاصرة! - أن يلوي أعناق النصوص، ويتلاعب ببعضها، ويرفض ما شاء من سنة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم -
لكي يضمن موافقة الإسلام و «توقيعه» على الوثائق الأوربية في هذا الشأن.
ومن طرائف هذا الفريق، ما ذهب إليه بعض «المغاربة» عندما أراد أن
يضع توقيع «الإسلام» على الديمقراطية الغربية، فرأى أن (الشورى) كمفهوم
إسلامي هو المكافئ «للديمقراطية» الغربية، مع بعض «التهذيبات» التي
نضعها هنا أو هناك لكي نزاوج بين الطرفين، وقد ولّد هؤلاء النفر مصطلحاً جديداً
ليعبر عن هذه «المزاوجة» بين الإسلام والغرب، وسموه «الشوروقراطية» .
هذا المصطلح في - تقديري - يصلح أن يكون علماً على منحى «السقوط»
و «التبعية» الفكرية لدى قطاع من المنتسبين إلى «الفكر المستنير، فعلى الرغم من
كثرة ضجيجهم حول الأصالة، والتجديد، والاجتهاد، والإبداع، إلا أن منطلقاتهم
الفكرية، ووعيهم المنهجي، ما زال يحيا في» مناخ المهزومين «، وعبودية
» الأتباع «، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يكونوا أداة بعث حضاري جديد، ولا ممثلين عدولاً لدين الله الحق، بل لا نغالي إن قلنا أنهم يعطلون مسيرة النهضة الإسلامية الجديدة، ويفتتون قواها بمثل ذلك التمييع الفكري، والارتباك المنهجي، والخواء النفسي.(56/112)
جمادى الأولى - 1413هـ
نوفمبر - 1992م
(السنة: 7)(57/)
كلمة صغيرة
إن مجلة البيان مجلة لها منهج، ونحرص أن تكون تعبيراً عن هذا المنهج،
ومن منهجها أن تسد مقالاتها والفكر الذي ينشر فيها زاوية في واقع المسلمين، ونحاول
الوفاء بذلك قدر ما تسمح لنا الظروف المحيطة بنا، ورأس المال الذي نعتز به ونلجأ
إليه دائماً هو قراؤنا الذين يحملون هذا العبء معنا، ولنا في مشاركتهم وتشجيعهم
وتقديرهم لقدراتنا وإنصافهم وعذرهم ما يهوِّن علينا الصعوبات، ويمدنا بالعزم وقوة
الإرادة. وعندما تقوى هذه الصلة بين المجلة وبين قرائها نكون قد حققنا شيئاً من
النجاح وتذوقنا لذته.
المحرر(57/1)
الافتتاحية
الحذرَ الحذرَ
من أعداء الإسلام
عبد القادر حامد
ظنَّ كثير من أعداء الله أن المسلمين لن تقوم لهم قائمة بعد نشوة الانتصار
التي حققها الغربيون على المسلمين، فأزالوا تأثيرهم السياسي من الوجود، وقضوا
على آخر طلل من أطلال قوتهم - وهو الدولة العثمانية - وبينما ينظر هؤلاء
بالنظر البشري القاصر؛ ويزنون الأمر بميزان اللحظة العابرة؛ فإن المسلم له
ميزان آخر وتقويم مختلف، وهذا الميزان وذاك التقويم مستمد من عقيدته التي
يستقيها من قرآن ربه وحكمة نبيه، فهو يعتمد أن الأيام دول، وأن الحق غالب إن
حمله من يؤمن به ويثبت عليه، وأن الله ناصر دينه بعز عزيز أو بذل ذليل، وأنه
تعالى [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ومِمَّا
يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
وبعد أن ظن أعداء الإسلام أن الارض قد خلصت لهم؛ وأن لا أمل من عودة
الروح إلى جثة هذا الجبار المجندل الذي يسمونه - علي مضض - «العالم
الإسلامي» ؛ يفاجئون بأن ما حسبوه قد أصبح جثة هامدة لم يمت حقيقة،
وعلامات حياته تشاهد في كل مكان.
ومن أظهر هذه العلامات ما شهده العالم على أرض أفغانستان، حيث عجز
جبروت الشيوعية أن يخضع هذا الشعب الفقير - إلا من العزة الإيمانية - فخرج
الروس وأذنابهم يجررون أذيال الهزيمة والخيبة، بل ولم تقم لهم قائمة لا في
أفغانستان وحدها؛ بل على المسرح العالمي بأسره.
بعض المرجفين من أنصار الشيوعية في بلادنا، وإخوانهم من العلمانيين
وأعداء الإسلام، على كافة ألوانهم؛ يتمضَّغون بكلمات تهوينية، وإشاعات تخذيلية، من أن الأفغان لم ينتصروا إلا بالسلاح الغربي الذي أمدتهم به أميركا، ليخلصوا
إلى نتيجة تقول: إن الغرب وأميركا والرأسمالية هي التي انتصرت على الشيوعية، وليس الإسلام.
وهذه دعوى عملاء الغرب في بلادنا!
أو أن الإسلام كان وما زال عميلاً لأميركا، وهذه دعوى أيتام الشيوعية في
بلادنا!
ونحن نقول: إن بلاد المسلمين بمصادرها وثرواتها أصبحت مجالاً حيوياً
يستغله غير المسلمين لمصالحهم، وعندما نقول «ثروات» لا نعني البترول
والمعادن والثروات الاقتصادية وطرق المواصلات فحسب؛ بل نعني كل ما تذخره
هذه الأرض الإسلامية من أفكار وعقائد وأموال. إن الغربيين يسخِّرون كل شيء
ليجنوا من ورائه الأرباح المادية، فيصنعون الأفكار ويعيدون تعليبها كما يعلِّبون
الفواكه والخضار والأدوية، ويستثمرون العادات ويتاجرون بالمآسي والكوارث كما
يتاجرون بالمواشي والمواد الخام ولذلك فلا يستغرب المسلم الحصيف استغلال
هؤلاء لكل شيء، حتى الإسلام، كعقيدة ودين، والمسلمين، كبشر من لحم ودم
وعواطف ومشاعر.
وإذاً؛ فلا يجادل المسلم العاقل في حرص القوى الخارجية على استثمار
الأزمات والكوارث التي تحل بالمسلمين، بل لا يجادل في أن أكثر هذه الأزمات
والكوارث هي من صنع هؤلاء ومن اختراعهم، ولكنه يعترض على أن يُجَرَّدَ من
كل جهد نافع، وتغتصب منه تضحياته، وتسرق منه نتائج جهاده بهذه الأساليب
الخبيثة، إن السلاح عنصر مهم في معادلات النصر والهزيمة، ولكنه في النهاية
ليس هو الذي يحسم، بل الحاسم هو الإنسان الذي يستعمله. والذين يشيعون أن
السلاح هو كل شيء يمهدون الطريق لهمينة صانعي السلاح، ويقتلون الإرادة
الإنسانية والعزيمة الجهادية في صدور المسلمين، فيسلس قيادهم لكل طامع،
ويضيفون - إلى إيمانهم بالحق الأزلي - إيماناً باطلاً بديمومة الباطل.
وأما أن المسلمين عملاء لأميركا فهذه فِرية ساقطة، لا لسقوط أصحابها
فحسب؛ بل لما يشاهده الناس من تحامل أميركا على المسلمين، وخذلانها قضاياهم
المصيرية الحقيقية في كل مكان: في فلسطين، وفي أفغانستان نفسها، وفي
البوسنة والهرسك.. وأما ما يشاهده المتابع للأحداث مما يحدث في أفغانستان، من
خلافات ومعارك بين فئات الأفغان فهذا أيضاً من دلائل هذا الدين وعلامات صدق
محمد عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الخلاف الذي يقع
في أمتي من السنن الكونية، ففي صحيح مسلم، عن سعد بن أبي وقاص أن رسول
الله قال: «سألت ربي ثلاثاً، أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا
يهلك أمتي بالسنة [1] فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» [2] .
وعلى هذا فنفي الخلاف بين المسلمين أو تجاهله مكابرة، ولكن من الظلم أيضاً
تضخيم هذا الخلاف، وجعله علامة فارقة للمسلمين، وشيئا ميؤوساً من علاجه
وتخفيف آثاره، وكلما ابتعد الناس عن تعاليم النبوة، وحكموا بينهم الأهواء
والعصبيات والشهوات، تظالموا واعتدى بعضهم على بعض، وكلما ثابوا إلى نور
النبوة، واهتدوا بهدي الإسلام الصحيح ضاقت بينهم شقة الخلافات، واتجهت
طاقاتهم إلى دحر الكفر وأعوانه، ونصر الحق وتثبيت أركانه.
هذه من جهة، ومن جهة ثانية فلو ترك الأفغان دون تدخل خارجي لضاقت
شقة الخلافات بينهم، ولكن أصحاب مصالح كبار يتجاذبونهم، فأمريكا من جهة،
وباكستان من جهة، وإيران من جهة، وروسيا من جهة، وزيد من جهة، وعبيد
من جهة! كل يريد أن يكون له حظ من هذه الفريسة التي لا يمكن أن تشبع الجميع.
إن كل هذا التشويش والشغب في وجه المسلمين لا يقصد منه إلا أن لا يفكروا
في شيء اسمه: «جهاد» وأن يرضوا بواقعهم، ولا يطمحوا إلى التغيير
والتحسين، ولماذا يُعَنُّون أنفسهم هذا العناء؛ وغيرهم يصنع لهم، ويزرع لهم،
ويجاهد لهم، ويفكر عنهم ولهم؟ ! إن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- قال:
«بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي
تحت ظل رمحي، وجُعِلَ الذل والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم
فهو منهم» [3] .
ماذا يفعل المسلمون بهذا الحديث؟ هل نسخ العمل به؟ ما الناسخ له؟ هل
يفكرون في مضمونه ويعرضون واقعهم عليه؟ وهل ينظرون إلى الأمم التي يتحدر
منها هؤلاء المرجفون وأعوانهم؛ أليس سلوكهم وأعمالهم على المسرح العالمي
تطبيقاً لهذا الحديث؟ !
هذه هي الولايات المتحدة ودول أوربا تقيم من القواعد العسكرية لحراسة
مصالحها = أي سلب الشعوب حقوقها المادية والمعنوية؛ وتحرك أساطيلها وجيوشها
عندما تشعر بأدنى تهديد لهذه المصالح المدَّعاة، ونحن - المسلمين - نُتَخَطَّفُ من
أرضنا، بل وتسحب هذه الأرض من تحت أقدام أولادنا وبناتنا ونسائنا، ويطلب
منا أن: دعوا الاعتراض، وإياكم وما يسمى بالجهاد، بل دعوا مجرد التفكير فيه!
ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه
مات على شعبة من نفاق» [4] ، ويقول أيضاً: «ستفتح عليكم أَرَضون، ويكفيكم
الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» انظر إليه -صلى الله عليه وسلم- كيف
يحض المسلمين أن يلهوا ويلعبوا وقت السلم بأدوات الحرب، حتى لا ينسوا الجهاد
ويخلدوا إلى الدنيا، فتضعف همتهم، ويكونوا لقمة سائغة للضواري من البشر.
إن أوضاع المسلمين اليوم من الحساسية بقدر لا تسمح لعرض هذه الأفكار
على الناس، ويجد كثير من المتخوفين فيها سبباً لكتمان الحق وتضليل المسلمين،
وإننا لسنا من المتعجلين ودعاة الفوضى، الذين يتجاهلون الأخذ بالأسباب الصحيحة
لتغيير واقع الأمة، وطموحنا إشاعة الفكر الجهادي المضبوط بالعلم الصحيح والرأي
السديد بين الأفراد والجماعات وإن إشاعة هذا الفكر سيكون دواء لكثير من
الأمراض الاجتماعية المتفشية، كما ستكون خيراً للمسلمين على كل حال، في
الشدة والرخاء، وفي دنياهم وآخرتهم. وإذا كان من الصعوبة بمكان تنفيذ الجهاد
بمعناه المتبادر - وهو جهاد الكفر وأعوانه بالسلاح - لما لا يخفى من فقدان
الأسباب لذلك - وأهمها الإرادة والعزيمة - فإن أمامنا أبواباً كثيرة تمهد لذلك، وقد
لا تقل عنه أثراً مثل: الجهاد بالمال، وإعانة المسلمين الذين يلاقون العسف
والجور، وتفرض عليهم الفتنة في دينهم فرضاً، ويدفعون عن بلادهم، ويجردون
من أموالهم، وكذلك الجهاد في نشر العلم، والوعي في صفوف المسلمين،
وتجميعهم على دين الله، وإقامة المؤسسات القوية الدائمة التي تخدم ذلك. وإن
أضعف. الإيمان أن نحدث أنفسنا بالغزو، فمن يدري ماذا يخبئ لنا الغد، إن ما
حولنا من أحداث يجعل هذا من أوجب الواجبات، وتجاهله والسكون إلى الراحة
والحياة السهلة انتحار ما بعده انتحار.
إن هؤلاء الصرب الصليبيين المتوحشين كانوا يُعِدُّون لهذه الأفاعيل التي
فعلوها بالمسلمين منذ زمن بعيد، وكان في أحداث تاريخهم القريب عبرة وأي عبرة
للمسلمين، ولكن - يا للأسف - إن المسلمين يعيشون دائماً ضحية الساعة التي هم
فيها، وتفكيرهم بالماضي ليحتاطوا من أحداثه للمستقبل قليل، وإن كثيراً من أبناء
جلدتنا ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يعتقد (ولا يظن) أن أوربا
قد ودعت الهمجية منذ قرون وتحضرت، بل هي الآن تعلَّم العالمين الحضارة! بل
إذا ضربت له مَثَلَ الصرب لوى شدقه وقال: الصرب وليس باقي الشعوب
الأوربية، وماذا يشكل الصرب بالنسبة لأوربا؟ ولو فكر قليلاً لعلم أن الذي يرى
المذابح والكوارث أمام عينيه ولا يهتز لها ويهب لمنعها - وهو قادر - أشد وحشية
وأَمْوَتُ [5] قلباً ممن يرتكبها!
لا نريد الاسترسال في وصف حدث من أحداث الساعة تتحدث عنه وسائل
الإعلام كل يوم؛ وإنما نقول للمسلمين في كل مكان: في الأقاليم الرخية، وفي
الأقاليم المنكوبة، في المناطق التي هم فيها أغلبية، والأخرى التي هم فيها أقلية.
حيث يسوسون أمورهم ويستقلون بشؤونهم - ولو افتراضياً - وحيث يساسون من
قبل غيرهم بسياسة العصا الغليظة، ويضربون ضرب غرائب الإبل [6] .
إياكم ونسيان أن العدو متربص بكم من كل جانب، بل كونوا على ذكر أنكم
مخترقون من داخلكم، وتُصِمُّ لأسماعَكم أصواتُ النفاق والمنافقين، ويزيدكم ضعفاً
إلى ضعفكم إرجاف العلمانيين الحاقدين. حدثوا أنفسكم بالغزو والجهاد، فلعل الله
ينظر لكم، ويرحمكم بما يرحم به عباده، حيث يختار لهم ما قد لا يمر لهم ببال.
من كان يظن أن الله سيمحو الشيوعية ويفكك دولتها دون أو يُوجَفَ عليها خيل ولا
ركاب؟ ! ولو توقع ذلك المسلمون - من كانوا تحت نير الشيوعية ومن كانوا غير
ذلك - وأعدوا له عدته؛ أما كان حالهم سيكون أفضل وأحسن؟ ! الحمد لله على كل
حال، يحفظ دينه، ويؤيده بعز عزيز أو بذل ذليل، نسأله أن يعز دينه، وينصر
عباده، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
__________
(1) القحط.
(2) الحديث مروي بألفاظ متقاربة عن: معاذ، وثوبان، وخالد الخزاعي، وخباب بن الأرتّ، وابن عمر ولتخريجه راجع: منهاج السنة 6/230 تحقيق محمد رشاد سالم ومسند أحمد (ط الحلبي) 5/247، (ط المعارف) 3/60-61، 86، صحيح مسلم 4/2215-2216، صحيح الجامع الصغير 2/ 309-310، سنن الترمذي 3 /319-320 تفسير ابن كثير، سورة الأنعام، آية: 65، فقد استقصى رواياته كلها تقريباً.
(3) الحديث مخرج في: إرواء العليل في تخريج أحاديث منار السبيل رقم 1269.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 13/56، وقال النووي: إن ترك الجهاد أحد شعب النفاق، وفي هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوِها.
(5) لا يصاغ اسم التفضيل وفعل التعجب من الفعل: (مات) لأنه غير قابل للتفضيل والتفاوت، لأن الموت واحد، وإنما تختلف أسبابه إلا إذا أريد بالموت الضعف أو البلادة وقلة الحسّ مجازاً كمثلنا هنا فيجوز أن نقول: فلان أموت قلباً من فلان، وما أموت قلبه! .
(6) مأخوذ من قول الحجاج: (ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل) قال ابن الأثير: هذا مثل ضربه لنفسه مع رعيته، يهددهم، وذلك أن الإبل إذا وردت الماء؛ فدخلت عليها غريبة من غيرها، ضربت وطردت، حتى تخرج عنها (لسان العرب) .(57/4)
فطر الله الخلق على الحق
عثمان علي حسين
معنى الفطرة في اللغة [1] :
الفطرة من فطر الشيء، يفطره فطراً، فانفطر، وفطره، أي شقه، وتفطر: تشقق، فالفطر: الشق. وجمعه: فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا طلع،
وفي التنزيل قوله (تعالى) : [إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ] [الانفطار: 1] ، أي انشقت،
وفي الحديث: عن عائشة (رضي الله عنها) : «أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ... » [2] .
وفطر الله الخلق، يفطرهم: خلقهم وبدأهم، فالفطر - أيضاً -: الابتداء
والاختراع، كما قال تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [فاطر: 1]
أي خالقهما ومبتدئهما [3] ، وكما قال ابن عباس (رضى الله عنهما) : «كنت لا
أدري ما [فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر،
فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا بدأتها» [4] .
والفطرة - أيضاً -: الخلقة، أنشد ثعلب:
هون عليك: فقد نال الغنى رجل ... في فطرة الكلب، لا بالدين والحسب
أي في خلقة الكلب.
فأصل كلمة «فطر» يرجع إلى التشقق، والابتداء، والخلق، والمعنيان
الأخيران (الابتداء والخلق) يناسبان المعنى الاصطلاحي، كما سيتبين ذلك.
معنى الفطرة في الاصطلاح:
وردت لفظة «الفطرة» مصدراً في القرآن الكريم في آية واحدة هي قوله
(تعالى) : [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] ، وإن كان أصل
الكلمة قد ورد بصيغ أخرى - غير صيغة المصدر - في آيات كثيرة، ترجع
معانيها إلى الخلق والابتداء والتشقق، وهي معانيها اللغوية - كما تقدم -.
أما السنة، فقد ورد لفظ «الفطرة» مصدراً في أحاديث كثيرة، أشهرها
حديث أي هريرة (رضي الله عنه) قال: «قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كل
مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة
تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء» [5] وفي رواية قال أبو هريرة (رضي الله
عنه) في آخر الحديث: «اقرؤوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] [الروم: 30] [6] .
وقد اختلف أهل العلم في المراد بالفطرة المذكورة في الآية، وفي حديث أبي
هريرة خاصة [7] على مذاهب، أذكر الصحيح الذي تسنده الأدلة: وهو أن الفطرة
الإسلام، وهو أشهر الأقوال وأصحها وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم
بالتأويل [8] . واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1- قوله (تعالى) : [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ]
[الروم:30] ، قال الحافظ ابن كثير في معناها:» فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية، ملة إبراهيم، التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فالله (تعالى) فطهر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره « [9] .
وقال الضحاك في معنى حنفاء:» أي حجاجاً «وقال الحسن:» الحنيفية:
حج البيت «وقال مجاهد:» مسلمين متبعين «، قال أبو عمر:» وهذا كله يدل
على أن الحنيفية الإسلام «واستدل بقوله تعالى: [ولَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً]
[آل عمران: 67] ، وقول الشاعر (وهو الراعي النميري) :
أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلاً
عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلاً تنزيلاً [10]
وقال أبو عمر:» الحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة
أكثر من الإسلام « [11] .
و» فطرة «منصوبة بفعل مقدر، أي اتبع فطرة الله، وقيل منصوبة على
المصدرية التي دل عليها الفعل الأول (أقم) ومعناها: فطر الله الناس على ذلك
فطرة، وعلى كل تقدير تكون إقامة الوجه حنيفاً وهو فطرة الله التي فطر الناس
عليها، وأن ذلك مأمور باتباعه إما صراحة، أو تلميحاً، لأنه جاء في صيغة مدح.
قوله: [لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] ذكر ابن كثير (رحمه الله) أن للعلماء في تأويلها
قولين:
الأول: أنها خبر بمعنى الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله، فتغيروا الناس عن
فطرتهم، ثم قال الحافظ:» وهو معنى صحيح «.
الثاني: أنها خبر على بابه، وهو أنه (تعالى) ساوى بين خلقه كلهم في
الفطرة على الجبلَّة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك، وهذا هو ظاهر النص [12] .
وعقد الإمام البخاري (رحمه الله) في صحيحه: باب: لا تبديل لخلق الله:
لدين الله، (خلق الأولين) : دين الأولين، والفطرة الإسلام، ثم روى حديث أبي
هريرة - بعد الترجمة - ما من مولود إلا يولد على الفطرة.. إلخ [13] . وصنيع
البخاري - هذا - يدل على أن الفطرة عنده الإسلام، في الآية والحديث جميعاً.
وقال ابن عباس والنخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة وقتادة،
والضحاك، وابن زيد في قوله تعالى: [لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] أي لدين الله [14] .
وقوله تعالى: [ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] قال ابن كثير:» أي التمسك بالشريعة
والفطرة المستقيمة، هو الدين القيم المستقيم « [15] .
2- حديث أبي هريرة:» كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو
ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء «،
وفي رواية:» تنتج بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء «، ثم يقول أبو
هريرة:» اقرؤوا إن شئتم [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ] . وفي رواية سألوه
عن أطفال المشركين، أي من يموت منهم صغيراً، فقال: «الله أعلم بما كانوا
عاملين» .
ودلالة هذا الحديث على أن الفطرة الإسلام من وجوه:
الأول: الروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني، مما يجعل بعضها مفسراً
لبعض، مثل: «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة» [16] ، وفي أخرى: «إلا على هذه الملة» [17] .
الثاني: قول أبي هريرة في آخر الحديث: «اقرؤوا إن شئتم [فِطْرَتَ اللهِ
الَتِي فَطَرَ النَّاسَ] مما يبين أنه فسر الحديث بالآية، وقد أجمع العلماء على أن
المراد بالفطرة في الآية الإسلام [18] ، وتفسير الراوي له قيمته في هذا المقام؛
لأنه أعلم بما سمع.
الثالث: سؤال أبو هريرة عن رجل عليه رقبة مؤمنة، أيجزىء عنه الصبي
أن يعتقه وهو رضيع، فقال:» نعم، لأنه ولد على الفطرة «يعني الإسلام [19] .
الرابع: قال ابن شهاب الزهري:» يصلى على كل مولود متوفى وإن كان
لِغِيَّةٍ؛ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام « [20] وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة
مؤمنة أن يعتق رضيعاً، لأنه ولد على الفطرة [21] .
الخامس: قال الإمام أحمد (رحمه الله) :» من مات أبواه وهما كافران حكم
بإسلامه «واستدل بحديث:» كل مولود يولد على الفطرة.. «فدل على أنه فسر
الفطرة بالإسلام [22] .
السادس: ذكر الحديث التغيير لملل الكفر دون ملة الإسلام، فعلم أنه يتحول
عن الإسلام إلى غيره، بفعل الأبوين، أو غيره.
السابع: قوله في الحديث:» هل تحسون فيها من جدعاء «. أي أن البهيمة
خلقت سليمة، ثم جدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر؛ مؤمناً مسلماً، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن، يقابله العيب الذي
طرأ على الدين، وهو الكفر.
الثامن: لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام، لما سألوا عقب ذلك عمن يموت
من أطفال المشركين وهو صغير؛ لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما
سألوه، والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير.
3- حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما
يرويه عن ربه وفيه:» وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين
فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأَمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطاناً.. « [23] وتقدم تفسير الحنيف بالمستقيم المخلص، وأنه لا
استقامة أكثر من السلام.
4 - الفطرة الإسلام، وهو قول عكرمة، ومجاهد، والحسن، والنخعي،
والضحاك وقتادة [24] .
المعترضون على تفسير الفطرة بالإسلام:
لخص أبو عمر اعتراض المنكرين على تفسير الفطرة بالإسلام، في أن
الإسلام والإيمان: قول، واعتقاد، وعمل، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك
ذو عقل [25] .
والجواب: مما ينبغي علمه أنه إذا قيل كل مولود يولد على الفطرة، أو على
الإسلام، أو على هذه الملة، أو إنه خلق حنيفاً، فليس المراد به أنه حين خرج من
بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله تعالى يقول: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ... ] [النحل: 78] ، ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين
الإسلام، ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه، ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً، بحسب كمال الفطرة،
واستعدادها، وسلامتها من المعارض؛ فكل مولود يولد على الإقرار بفاطره،
ومحبته والإذعان له بالعبودية، فلو خُلَّيَ وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى
غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال تعالى: [الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] [طه: 50] ، فهو سبحانه خلق الحيوان
مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجَلْبه، وبغض ما يضره ودفعه، ثم هذا الحب والبغض
يحصل فيه شيئاً فشيئاً، بحسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يفسد ما
ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة، وهكذا ما ولد عليه من الفطرة،
ولهذا شبهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا؛ وذلك لما عرض على
النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له:
» أصبت الفطرة، أو هديت الفطرة « [26] ، فمناسبة اللبن لبدنه، وصلاحه عليه، دون غيره، كمناسبة الفطرة لقلبه، وصلاحه بها دون غيرها [27] .
__________
(1) انظر لسان العرب 5/55-56، مادة فطر.
(2) رواه البخاري في صحيحه 8/584، رقم 4873.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن - القرطبي 14 /319.
(4) تفسير ابن كثير 6/519ط الشعب.
(5) رواه البخاري في صحيحه 3/245-246، رقم 1385.
(6) صحيح مسلم 4/2047 رقم 2658.
(7) لأن هناك أحاديث ذكرت فيها الفطرة، ولم يختلفوا في أن المراد بها الإسلام، مثل حديث: الفطرة خمس (أو خمس من الفطرة) : الختان والاستحداد، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقص الشارب رواه مسلم في صحيحه 1/ 221 رقم 257.
(8) انظر: تجريد التمهيد: ص 297، ودرء تعارض العقل والنقل 8/ 410، وشفاء العليل ص 383 وما بعدها.
(9) تفسير القرآن العظيم 6/320 (طبعة الشعب) .
(10) انظر: تجريد التمهيد ص: 299.
(11) انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/369، 370.
(12) انظر: تفسير القرآن العظيم 6/430 (مطبعة الشعب) .
(13) صحيح البخاري 8/512، حديث رقم: 4775.
(14) انظر: تفسير ابن كثير 6/322 (طبعة الشعب) .
(15) انظر: تفسير ابن كثير 6/322 (طبعة الشعب) .
(16) صحيح مسلم 4/2038، رقم 2658.
(17) صحيح مسلم 4/2038، رقم 2658.
(18) حكاه أبو عمر في تجريد التمهيد ص: 297.
(19) انظر: تجريد التمهيد ص: 300.
(20) رواه البخاري في صحيحه 3/219 رقم 1358 وإن كان لغية، أي من ولد الزنا.
(21) انظر: تجريد التمهيد ص: 300.
(22) انظر: فتح الباري 3/248.
(23) مسلم 4/2197، 2198، رقم 2865.
(24) انظر: تجريد التمهيد ص: 298.
(25) انظر المرجع السابق ص: 300.
(26) صحيح البخاري 6/476 رقم 3437.
(27) انظر: درء تعارض العقل 8/383-384.(57/11)
تربية
الحركة التعليمية في فلسطين
والسقوط في فم الأفعى
سليم عبد الرحمن الزغل
قبل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م كانت. هذه
المناطق تخضع للحكم الأردني والحكم المصري؛ فكانت غزة تتبع الحكم المصري
تعليمياً، وكانت الضفة الغربية تتبع الحكم الأردني تعليمياً كذلك؛ وكانت الجهة
صاحبة الشأن في ذلك في الضفة الغربية مثلاً - هي وزارة التربية والتعليم؛ هكذا
سميت دائماً، ولو أنه كان يطلق عليها (وزارة المعارف) في بواكير الحركة
التعليمية في الأردن وفلسطين؛ إذن التربية قبل التعليم؛ هكذا استمر الشعار
مرفوعاً من الجميع؛ لأنه مطلب ينسجم مع الفطرة ويتلائم تماماً مع معايير العقول
مهما اختلفت توجهاتها وتباينت مشاربها، إذ ما قيمة العلم والعلماء إذا ما انحطت
الأخلاق وديست القيم وتبددت المروءات، فهذا هو المربي الأول وأستاذ الأمم
وكأني بصوته لا زال يدوي في سمع الزمن (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، ولقد
زكاه ربه مادحاً له بقوله [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ، عليه الصلاة والسلام.
من أجل ذلك كانت التربية أولاً ثم يأتي التعليم، وبهذا المفهوم تخرجت
الأجيال من مدراس فلسطين، حيث كان الرجل منهم أستاذاً في مكارم الأخلاق قبل
أن يكون عالماً متخصصاً، وتمضي السنون ويأتي عام 1967م وينتكس العرب -
وما أكثر انتكاساتهم - وتدخل البلاد في فم الأفعى ويبدأ التخطيط الصهيوني
الماسوني بجعل (قلاع التربية والتعليم) أوكاراً خاوية من كل المعاني التي لا تصنع
الرجولة والرجال، وجندوا لذلك كل الطاقات وسخروا له كل مكرهم وخبثهم، وبدأ
الصرح يهوي ويتردى.. ولا زال يهوي، ولكن لدينا إيمان راسخ لا يتزعزع
كالشم الرواسي بأنه لابد أن يعود أقوى مما كان رغم السدود.. رغم العواصف
والقيود.
أهم الأسباب.. التي أدت إلى دخول التعليم في المناطق المحتلة في نفق مظلم:
1 - ربط أركان العملية التعليمية برمتها بالمخابرات الإسرائيلية (الشين بيت) ، لأنها مسألة تتعلق بتربية النشء وتنشئة الجيل، لذلك حرص الحكم الإسرائيلي
على الإمساك بكل خيوطها منذ البداية، ليوجه النشء حسبما يريد وكيفما يشاء،
فالمسؤول عن التعليم ضابط عسكري، والجهة صاحبة الاختصاص هي (إدارة
شؤون التعليم) وهي إدارة عسكرية كل أقطابها من الضباط العسكريين.
2- تعديل المناهج الدراسية واستحداثها وفق خطة صهيونية خبيثة ترمي إلى:
تشويه التاريخ الإسلامي.
النيل من عظماء الأمة وروادها وصانعي مجدها وعزتها بتجاهلهم أو بتشويه
شخصياتهم بصورة خفية - في أذهان النشء.
المبادرة إلى حذف الآيات القرآنية في مختلف المناهج التي تتطرق إلى
الحديث عن اليهود وكشف عقيدتهم وبيان مواقفهم والتنديد بها.
العبث بالخرائط المنهجية بطريقة تخدم الرؤية الصهيونية، فقد استبدل اسم
إسرائيل باسم (فلسطين) وتم إطلاق أسماء يهودية على مناطقها - تكون بديلة
للعربية - مثل يهودا والسامرة، وكذلك استبدال أسماء مدن فمثلاً القدس أصبحت
(أورشليم) ونابلس (شكيم) والخليل (حبرون) وطولكرم (كفار شالوم) وأريحا
(أريحو) على غرار مناطق احتلال عام 1948م فقد اسقطت الأسماء العربية برمتها
هناك، حتى إن الجيل الناشئ هناك لا يكاد يعرف شيئاً عن أسمائها العربية إلا
النزر اليسير، كما تم العبث بحدود دول المنطقة في تلك الخرائط.
مسخ المناهج التي تدرس التربية الإسلامية لطلاب المدارس بصورة غثة لا
تسمن ولا تغني من جوع، ولا تحقق المستوى الأدنى من المعرفة لطالب ينتمي
للإسلام، فيتخرج طالب المرحلة الثانوية وهو أمي من الناحية الدينية! ؟
3- انتشار التصرفات الفوضوية وغياب قواعد الأخلاق من المدارس
وساحات الدرس، الأمر الذي أدى إلى غياب الاحترام والتقدير والتبجيل التي كان
يحظى بها المعلم فيما مضى، فمع قدوم الاحتلال إلى البلاد أشيع فيما أشيع من
الأمور أن التأديب المتمثل بالضرب (غير المبرح) وتخويف الطالب أياً كان نوعه
ممنوع بل يعتبرونه جريمة نكراء وكذلك (تأنيب الطالب وزجره وتقويمه) يعتبر من
الممنوعات والمحظورات، فأدى كل ذلك إلى بدء تطاول الطالب على المعلم وتحديه
في ساحات الدرس وخارجها! وكم من معلم ضُرب واعتدي عليه في داخل المدرسة
أو خارجها، فغابت هيئة المعلم أو كادت، الأمر الذي نجم عنه انحطاط وتقويض
أسس التربية وقواعد الأخلاق التي كان يتميز بها شعب فلسطين منذ القدم، وصار
من الأمور البديهية أن يمثل المعلم أمام القضاء المتعفن لأن الطالب قد شكاه ومرد
كل ذلك إلى التحريض الخفي والمبطن الذي يمارسه الإعلام اليهودي من خلال
وسائله المختلفة، والإعلام العربي المحلي المهزوم.
4- بروز ظاهرة العمالة الطلابية في المصانع والمعامل والمزارع والمنشآت
اليهودية، فمع قدوم الاحتلال بدأ الترويج لفكرة العمل في المنشآت داخل الخط
الأخضر، ولما كان الناس في أحرج الظروف وأقساها في المخيمات وغيرها، ولا
يجدون أمامهم إلا مصانع إسرائيل ومزارعها، بدأت قوافل العمال تُغِذُّ السير إلى
العمل هناك في كل صباح، وجرفت الموجة كثيراً من طلبة المدارس حيث عمدوا
إلى ترك مقاعد الدرس ويممّوا داخل الخط الأخضر، فبريق العمل هناك كان له
لون آخر! نسبة كبيرة من الطلاب كانت تذهب للعمل ليلاً، بعد الدوام المدرسي
إلى ما بعد منتصف الليل، حتى إذا عاد الى بيته استغرق في النوم بقية الليل
ونصف النهار الآتي وبهذا يكون كالقسم الأول من النتيجة، ناهيك عن الانحراف
والضياع الذي ينتظر أولئك الأغرار في المصانع والمنشآت، حيث العمل للجنسين
جنباً إلى جنب.
5- تفشي ظاهرة وهي لا تقل خطورة عن سابقتها - وهي انضمام كثير من
المعلمين إلى قوافل العمل الليلي في المصانع والمنشآت الإسرائيلية، وذلك لأن
راتب المعلم غالباً لا يكفي لإعاشته وأسرته - وهي سياسة إسرائيلية لخلق القلق في
نفس المعلم وغيره من طبقات الأمة - فما كان من كثير منهم إلا أن ركب الموجة
والتحق بالعمل الليلي تحت ضغط الحاجة، الأمر الذي أدى إلى انحطاط خطير في
مستويات التعليم المدرسي، فالمعلم الذي يعمل في الليل لا بد له أن ينام في النهار،
وكذلك الطالب وغالباً ما يكون ذلك على طاولة الفصل، - فصار المرسل
والمستقِبل في حالة عطب - وأشد خطورة من هذا وذاك - زمالة العمل التي
صارت تربط بين المعلم والطالب في مواقع العمل، وما نتج عنها من رفع التكليف
بينهما ورفع الحواجز النفسية التي كان وجودها ضرورياً، فصار زميل العمل في
الليل هو المعلم في النهار، وبذلك قلّت هيبة المعلم في نفس الطالب وزهد فيه.
6- عدم إسناد الوظائف الإدارية الهامة إلا لمن يرتبط بعلاقات وثيقة مع
الحكم العسكري والمخابرات (الشين بيت) أو لمن يثبتون ولاءهم المطلق لتلك
الجهات على أرض الواقع، كوظيفة (مدير تعليم) أو (مدير مدرسة) أو (موجه
إدارة) أو عن طريق جهات لها نفس الصلات بالحكم العسكري، وتقوم بخدمته وفق
ما يطلب ويتمنى، وبهذا الإجراء المخابراتي المدروس ضمن الحكم العسكري
أوضاع المدارس والمعاهد العلمية في حدود سياساته المرسومة والمبرمجة،
فالتقارير والوشايات وتلفيق التهم والكيد للشرفاء والأحرار تتواصل تباعاً حول
مجريات الأمور في كل وقت وحين، كما يتم بواسطة هؤلاء وأمثالهم الإبلاغ عن
كل كبيرة وصغيرة تتعلق بقضايا الاحتلال الأمنية والسياسية والعسكرية وبكل
صراحة ووضوح، إلى حد التبليغ عن أسماء التلاميذ الذين يخرجون في مظاهرات! وباختصار: يقوم هؤلاء المرتزقة بتنفيذ السياسة التعليمية التي يريدها الحكم
العسكري بكل دقة وانتباه.
7- تعمد المخابرات العسكرية بالتعاون مع الحكم العسكري وضباط الإدارة
الرسمية لشؤون التعليم بالمناطق المحتلة، إلى الإيقاع بعدد كبير من المعلمين في
حبائل المخابرات (الشين بيت) وعملائها ويتم برمجتهم كشبكة معلومات واسعة
الانتشار لتجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات المختلفة عن المعلمين والطلاب في
كافة المناطق، وهذا يضمن للحاكم العسكري أكبر قدر ممكن من الاختراق السهل
واليسير للعملية التعليمية في المناطق المحتلة، فيقوم الواحد من هؤلاء المرتزقة
بتسجيل حركات وسكنات كل واحد من زملائه المعلمين على مدار العام، وعلى
ضوء ذلك يتم التعامل مع المعلمين كل حسب نشاطه وانتمائه، حيث يتم في نهاية
الأمر معاقبة مجموعات كبيرة إما بالفصل (الوقف عن العمل) أو الإحالة على
التقاعد قبل حلول الموعد المحدد لذلك بسنوات، أو النقل إلى جهات نائية جداً
بحيث يضطر المعلم إلى صرف كل راتبه على وسائل المواصلات أو المحاكمات
العسكرية الصورية، ومن هؤلاء المعلمين من هم في سن الشيخوخة رجال أفاضل
أفنوا أعمارهم في تربية الأجيال وتهذيب النشء، فيكون مصيرهم أن توكل أمورهم
إلى هؤلاء الأشرار من العملاء أعداء الأمة لنيل الخطوة والمدح والثناء عند الحاكم
العسكري!
8- أما ثالثة (الأثافي) وكارثة الكوارث فهي أن تقوم أجهزة المخابرات
باصطياد الكثير من الطلاب صغار السن وتجنيدهم عملاء لها وذلك عن طريق
إغوائهم وإغرائهم بالمال وغيره وذلك بنقل ما تيسر لهم من المعلومات والأخبار عن
الطلاب من الطلاب، والمعلمين وعن أحوال مدارسهم أولاً بأول، ووصلت الوقاحة
ببعض هؤلاء الأغرار أن يقوم بتهديد معلميه بضباط المخابرات علناً وأمام التلاميذ!!
9- قيام سلطات الاحتلال بفصل مجموعات من المعلمين النشطين فصلاً
تعسفياً كمحاولة منها لقطع أرزاقهم، وما يجدر ذكره أن السواد الأعظم من المعلمين
الموقوفين عن العمل هم من الحركة الإسلامية وأصحاب الاتجاه الإسلامي وذلك
بقصد حرمان الجيل من التربية الإسلامية وإبقائه يتخبط في بحور الظلام،
وبموجب قرار الفصل يتم حرمان المعلم من كافة حقوقه وامتيازاته الوظيفية..
10 - رواتب المعلمين الفلسطينيين المتدنية والتي لا تؤمن الحد الأدنى من
الحياة الكريمة للمعلم وأسرته بعكس المعلم الإسرائيلي الذي يتقاضى أضعاف ما
يتقاضاه نظيره الفلسطيني، ويكون راتبه مربوطاً بجدول غلاء المعيشة بشكل كامل، مع تأمين كافة خدمات أسرته الصحية والتعليمية وغيرها. والتهاون بحقوق
المعلمين الوظيفية والمدنية فمثلاً لقد تم وقف صرف رواتبهم لفترات طويلة أيام
الانتفاضة بحجة انقطاع الطلاب عن الدوام المدرسي علماً بأن المعلم كان يداوم
يومياً وبلا انقطاع!
11- نصاب المدارس من المعلمين والموظفين لم يكتمل في يوم من الأيام،
فتكاد لا تجد مدرسة إلا ويعتريها النقص في عدد المعلمين قد يصل إلى خمسة
معلمين أو أكثر في المدرسة الواحدة أحياناً، لأن من مصلحة الاحتلال التوفير في
هذا المجال، ولأن التعليم بحد ذاته ليس غاية يسعى إليها، كما وإن المعلم الموقوف
عن العمل لا يتم تغطية مكانه الشاغر وإنما يبقى كذلك حتى نهاية العام.
12- زيادة أسعار الكتب بشكل كبير، وكذلك الرسوم المدرسية التي يدفعها
الطالب في مستهل العام الدراسي الأمر الذي يشكل عبئاً كبيراً على ولي أمره الفقير
أو متوسط الحال.
13 - وضع المباني المدرسية المزري، وعدم القيام بصيانتها أو ترميمها،
فترى كثيراً منها في وضع سيئ ومهلهلة وتحتاج إلى إعادة النظر في مرافقها،
ولكن أمراً كهذا لا يدخل في دائرة اهتمام السلطات هناك.
14- قضية التعيين: إن التعيين في سلك التربية والتعليم في الأراضي
المحتلة لا يعتمد على المؤهل أو التقدير بقدر ما يعتمد على الجهة المخولة بالبت في
هذا الموضوع، فيتم تعيين ما نسبته 95% من الاحتياج عن طريق المخابرات،
أما الـ 5% المتبقية فيتم تعيينهم عن طريق إدارات التربية والتعليم التي لا تبتعد
كثيراً عن الاتجاه نفسه! فقد حدث أن أوقفت فتاتان عن العمل ليحل محلهما غيرهما
بناءً على طلب ذويهما، حيث إنهما من عملاء الحكم العسكري! ! ؟
15- ما قيل عن الأوضاع في المدارس يمكن أن يقال عن الأوضاع في
الجامعات الفلسطينية والمعاهد والكليات المتوسطة ما عدا قضية المناهج التي تتحكم
فيها مؤسسات الجامعات دون تدخل من أحد (هذا فيما يشر لنا) أما بالنسبة لتأسيس
هذه الجامعات فهذه قضية بادرت إليها بعض العائلات الظاهرة في المجتمع
الفلسطيني فمثلاً (آل المصري) في (نابلس) هم أصحاب النفوذ في تأسيس جامعة
النجاح الوطنية، و (آل ناصر) في (رام الله) هم أصحاب النفوذ في تأسيس جامعة
بير زيت و (آل الجعبري) في (الخليل) هم أصحاب النفوذ في تأسيس جامعة الخليل، وهكذا دواليك، وتتصرف كل من هذه العائلات في أمور الجامعة، كملكية خاصة
كيفما تشاء وتشتهي وبشكل لا يغضب الحكم العسكري بالتعاون مع مجلس الجامعة
المعين من قبل تلك العائلة وغيرها.
16- إحداث ظاهرة الفصول المختلطة (طلاب وطالبات) في مختلف المراحل
الدراسية، وكذلك إحداث ظاهرة وضع نسبة من المعلمين ليقوموا بأعمال التدريس
بمدراس البنات الأمر الذي أثر سلباً على العملية التعليمية لكونه يتنافى مع عادات
وعقيدة الشعب الفلسطيني!
وكذلك اعتماد أسلوب التشريد الوظيفي والبعثرة المهنية، فأبناء الجنوب
يعينون في الشمال والعكس هو الصحيح بحيث يتوجب على الواحد منهم الاستيقاظ
قبل الفجر بساعات ليتمكن من اللحاق بدوامه المدرسي ولا يعود إلى بيته إلا عند
الغروب، الأمر الذي يجعله في حالة استنفار طوال اليوم! !
موقف منظمة التحرير الفلسطينية.. إزاء المعلمين الموقوفين عن العمل في الأراضي المحتلة:
لا بد من الإشارة في هذا المقام إلى العنصرية البغيضة والعقلية الحزبية التي
تتصف بها منظمة التحرير في التعامل مع الناس في شتى الأمور والقضايا، فقد
كان هناك توجه لدى منظمة التحرير بصرف رواتب للمعلمين الذين يتم وقفهم عن
العمل ورعايتهم باستثناء المعلمين من الحركة الإسلامية وأصحاب الاتجاه الإسلامي!
ولا زلت أذكر أنه عندما تم وقفنا عن العمل قامت المؤسسات العاملة بالأردن، التابعة لمنظمة التحرير باعتماد صرف رواتب للمعلمين الموقوفين عن العمل، مع
استثناء معلمي الاتجاه الإسلامي وعدم الالتفات إليهم نهائياً. وهذه كلمة نقدمها
للتاريخ، فقد كنا سعداء لأننا كنا نحتسب ذلك عند الله وليس عند فلان أو فلان،
وإن دعوتنا وتصدينا للباطل لم تكن سلعة نتاجر بها [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ
إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى- كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ، ولكن كان لا بد من تسطير
هذه الملاحظة حتى يعلم الناس من هم أولئك الذي يدّعون أنهم يمثلون شعب فلسطين، ويتبنون المتاجرة بالشعارات المحروقة أسلوباً لهم!
محاولة امتهان كرامة المعلم من قِبَل سلطات الاحتلال وأعوانها:
في منتصف الثمانينات وعلى وجه التقريب وجهت دعوة رسمية لكل معلم
بمنطقة طولكرم بحضور حفل افتتاح (مدرسة السلام) بمدينة قلقيلية تحت رعاية
الحكم العسكري، وأقيم الحفل وأقيمت منصة كبرى جلس عليها الضباط من اليهود، وعناصر روابط القرى العميلة، ومدير التربية والتعليم، بينما جلس آلاف
المعلمين في الساحات السفلى بكراسي متراصة وكان الفصل شتاءً والبرد قارصاً،
وما هي إلا دقائق حتى انهمر المطر غزيراً ومدراراً، وغرق المعلمون في ثيابهم،
ولم يستطيع أي منهم التحرك لا يميناً ولا يساراً بينما جلس أصحاب المنصة
يحتسون المشروبات المختلفة بكل نشوة وسرور تحت مظلة كبرى أعدت لهم! !
إنه امتهان لكرامة الإنسان مع سبق الإصرار والترصد.
إن ما ذكر ليس كل شيء بالنسبة لقضايا التعليم في الأرض المحتلة؛ بل ما
هو إلا غيضاً من فيض، وإنه مع بروز ظاهرة الصحوة الإسلامية المباركة هناك
أخذت الأمور تعود إلى سابق عهدها شيئاً فشيئاً، وكذلك فإن الانتفاضة التي انطلقت
من مرابض الحركة الإسلامية ومساجد فلسطين ساهمت إلى حد كبير في نسف
وتبديد ظاهرة الركوع والانحناء لمخططات اليهود وأعوانهم.(57/19)
خواطر في الدعوة
الهمة العالية
محمد العبدة
من أشد ما تصاب يه أمة من الأمم أن يكون أفرادها ذوي همم ضعيفة،
وعزائم واهنة وتطلعات قاصرة، يرى أحدهم نفسه قزماً أمام المتغيرات الكبيرة،
والتحولات التاريخية، فلا يفكر في التغيير، ولا البدء في مشاريع مستقبلية، ومَنْ
هذا وصغه كيف يرجى له الشفاء إذا كان اعتقاده أنه لا يشفى، ذلك أنه أسير تربية
ذليلة، لم يقم يوماً يعمل مستقل أو بعمل تعاوني كبير، لم يتدرب يوماً على القيادة،
فإذا فجأة أمر تقوقع وانزوى لأنه لا يملك الخبرة لإدارته.
إن عدم الثقة بالنفس مرض يفتك بالدعوة ورجالها، فتعيش دهراً وهي لم
تفعل شيئاً ذا بال، وحتى إذا ما واتتها الظروف التي يهيئها الله سبحانه وتعالى
رحمة بعباده المؤمنين فإنها لا تقدم على اهتبالها، وذلك كله لعدم الثقة بالنفس، بل
تصاب بالدوار إذا نظرت إلى ما هو مطلوب منها أو ما ينتظره الناس منها، ومن
العجيب - والعجائب جمة - أن تتاح الفرصة أمام الدعوة فلا تقتنص، ثم لا يأتي
مثلها إلا بعد دهر.
إن الخروج من المأزق له منافذ، ومنها أن أرض الله واسعة لمن يريد
الانطلاق، ولمن يريد تأسيس أعمال كبيرة، والطاقات متوافرة ولكنها بحاجة إلى
عزمة أكيدة وثقة بوعد الله، ولقد بعث الله موسى عليه السلام ليخرج قومه من الذل
والاستعباد، إلى التمكين في الأرض، والاسترواح بشرع الله، ولكن نفوسهم كانت
ضعيفة صغيرة، لا تستطيع حمل مثل هذا العمل العظيم، وذلك لما أنسوه من
العبودية لفرعون وملئه، فتصاغرت نفوسهم وهانت عليهم حتى لم يعودوا يرون
أنها جديرة بمرتبة الاستخلاف في الأرض.
بينما نجد أن العربي الذي تلقى من التربية النبوية المباشرة، والذي لم يتلوث
بهاتيك المفاسد يحمل بين جوانحه من الآمال والطموحات ما يغريه على اقتحام
الأهوال وجوب البحار لتبليغ هذا الدين.
لا بد أن ينعتق الفرد المسلم من مثل هذه الأجواء التي تقيده وتشعره بضالته
وتشعره بأنه جزء صغير من آلة ضخمة، ومن عجلة تدور لا يستطيع الفكاك منها، لا بد أن يقتنع الفرد المسلم بأن عنده طاقات وقدرات يستطيع فيها القيام بأعمال
كبيرة.(57/30)
نحو مفهوم موضوعي وإنساني للتنمية
جمال حسن الحمصي
بعيداً عن ضباب الإعلام الاستهلاكي ووهج الألفاظ الرنانة ونزعة التبسيط المخُل، يهدف هذا البحث القصير إلى مواجهة إشكالية مفهوم «التنمية» . فما هو المقصود بهذا المصطلح السعري؟ وهل يستطيع الفكر العلماني المعاصر أن يعرّفه بطريقة موضوعية محايدة؟ أم تراه مفهوم أخلاقي معياري فلسفي غير قابل للتعريف الموضوعي غير الشخصي؟ هل الربط بين «التنمية» وبين زيادة الدخل أو الإنتاج أمر مبرر منطقياً؟ أم تراه يُعبر عن أيديولوجية مادية متحيزة؟ وما هو السبيل لتقديم تعريف موضوعي/ عقلاني يتجاوز هذا المفهوم المتحيز؟ هذه هي الأسئلة التي تشكل محور هذا البحث.
يمكن القول بأن مصطلح «التنمية» أو «التنمية الشاملة» جاء ليعبّر عن
رغبة الإنسان الملحة في تحسين أوضاعه المعيشية، وتوقه الدائم لزيادة رفاهيته
وسعادته. ولكن ماذا نعني بالضبط بكلمة «التنمية» ؟ معظم العاقلين سيقبلون
الادعاء بأن التنمية - كمدخل عام - هي: «تغير إنساني مرغوب» .
إن العنصر أو المكون الأخير للتعريف السابق يوقعنا في معضلة أو إشكالية
فلسفية أو أخلاقية، ذلك أن ما يُعتبر تغييراً إنسانياً «مرغوباً» من وجهة نظر فرد
أو جماعة أو مجتمع أو حضارة ما؛ يمكن أن يصبح عكس ذلك من وجهة نظر فرد
أو جماعة أو مجتمع أو حضارة أخرى. إن المشكلة الأساسية في التعريف المذكور
تتمثل في أن تحديد القيمة الاجتماعية لأي تغير هي قضية ترتبط بفلسفة الأخلاق
(Marshall, (p17 أكثر بكثير من ارتباطها بالعلم والتجريب.
قد يقول قائل: إن التغير الإنساني الذي يزيد من الرفاهية أو السعادة الإنسانية
هو تغير «مرغوب» بشكل موضوعي لا خلاف فيه (ومن يرفض السعادة كهدف
أسمى؟) وعليه فإن المنطق السوي يقتضي القول بأن «التنمية» هي: «تغير
إنساني يهدف إلى زيادة الرفاهية أو السعادة الإنسانية» .
قد يعتقد البعض أن الحيلة الأخيرة قد حلت بشكل كامل المشكلة الفلسفية
المرتبطة بتوفير تعريف موضوعي لمصطلح «التنمية» ، وذلك من خلال جعل
الرفاهية أو السعادة الإنسانية بمثابة الخير أو الهدف الأسمى للبشرية، ولكنها
للأسف لم تفعل ذلك. وهذا يعود إلى قصورنا في تحديد وقياس مفهوم الرفاهية
الإنسانية [1] . فالقول بأن التغير الإنساني «س» قد زاد من الرفاهية الإنسانية
هو حكم شخصي من الصعب اختباره بشكل علمي موضوعي محايد. إن الرفاهية،
وكما تؤكد الغالبية العظمى من منظري اقتصاديات الرفاه Welfare
Economics، هي متغير غير قابل للقياس أو. المقارنة الموضوعية (انظر
على سبيل المثال: Graff, p. 2-3) .
تعريفات للتنمية:
إن المقدمة السابقة تشكل منطقاً جيداً لتقويم التعريف العلماني الدارج للتنمية
في وقتنا الحاضر، ذلك التعريف الذي يركز على البعد الاقتصادي أو المادي
للرفاهية أو التنمية. فمن خلال إلقاء نظرة متفحصة على أدبيات التنمية في العلوم
الاجتماعية (وبالذات علم الاقتصاد وعلم الاجتماع) ، يستطيع المرء أن يستنتج
تعريفين رئيسيين لمصطلح «التنمية» : الأول هو تعريف إجرائي
Operational ولكنه غير موضوعي بتاتاً وذلك هو التعريف الاقتصادي للتنمية
والذي ينظر إلى «التنمية» بوصفها: «عملية طويلة الأجل تهدف إلى زيادة
متوسط الدخل الفردي الحقيقي» . أما التعريف الثاني والأكثر حداثة فهو موضوعي
إلى حد كبير ولكنه غير إجرائي، وهو ينظر إلى التنمية بوصفها: «عملية طويلة
الأجل تهدف إلى زيادة الرفاهية أو السعادة الإنسانية» .
التعريف الأول هو إجرائي بلا شك لأنه يمكن توفير سلاسل زمنية إحصائية
تتابع حركة الدخل القومي، ولكنه غير موضوعي (علمى) لأن الدخل الفردي
الحقيقي Real Par Capita Income هو مؤشر ضعيف للرفاهية الاقتصادية،
فكيف نجعله مقياساً أو حتى مؤشراً للرفاهية الإنسانية والتي تضم - إضافة إلى
الرفاهية الاقتصادية - كلاً من الرفاهية الأسرية والرفاهية السياسية والرفاهية
الاجتماعية والرفاهية البيئية والرفاهية الروحية والرفاهية النفسية [2] .
هل يمكننا تقديم تفسير لهذا التحيز الأيديولوجي في جعل الدخل القومي مقياساً
أو مؤشراً لجودة الحياة و «مستوى المعيشة» والرفاهية الإنسانية؛ يقول أحد
المتخصصين:
«بالرغم من أنه قد عُلم بأن الدخل القومي لا يعكس كل الحاجات الإنسانية؛
إلا أنه قد افترض بأن أي مؤشر بديل أكثر شمولاً سوف يكون مرتبطاً بشكل كاف
مع الدخل القومي، بحيث أن التغيرات في أحدهما يمكن معرفتها عن طريق دراسة
التغيرات في الآخر» (Nissel, p16) . وهكذا فقد حُلّت أهم مسألة تواجه
البشرية، ألا وهي مسألة تحديد ماهية الخير الأسمى Summun Bonum
للإنسان عن طريق التعميم والغموض.
المشكلة في التعريف الاقتصادي للتنمية أنه يجعل النمو الاقتصادي والتصنيع
بمثابة «الهدف الأسمى» الذي يطمح الإنسان إلى التوصل إليه، فحسب هذا
التعريف فإن أي تغيّر إنساني يزيد من الدخل القومي هو تغيّر «مرغوب» . حتى
وإن أدى إلى تدهور الرفاهية غير الاقتصادية. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة، فإن
المؤمنين بالنظرية الاقتصادية للتنمية (وهم في تناقص مستمر) يستبعدون وجود
مسببات أخرى للرفاه غير المسببات الاقتصادية أو يفترضون أن هذه المسببات
الأخرى تنمو تلقائياً مع زيادة الدخل القومي ولا تتأثر سلبياً بالتغيرات الاقتصادية،
وكلا الأمرين تبسيط مخل وغير موضوعي.
إن القول بأن أي تغير إنساني يزيد من الناتج القومي الإجمالي GNP (الدخل
القومي) هو تغير «مرغوب» لا يمكن إثباته أو تبريره بطريقة موضوعية/عقلانية
ويمكن تقديم الكثير من المنطق والجدل لرده.
فمجمل الناتج القومي ليس فقط قاصراً عن الدلالة على الحياة ورفاهيتها
بصورة ملائمة، وإنما لا يعتبر أيضاً مؤشراً جيداً للإنجاز الاقتصادي [3]
(Nissel) p,16. ويؤكد K. Helleiner في مقالته «شروط أخلاقية للنمو
الاقتصادي» على ضرورة توفر شرطين على الأقل ليؤدي النمو الاقتصادي إلى
زيادة الرفاهية، أو بالأحرى الرفاهية الاقتصادية، وهما:
1- يجب أن تكون رغبات وتفضيلات الإنسان التي يعمل النمو الاقتصادي
على إشباعها ذات طبيعة «مفيدة» أو «غير هدامة» أو بتعبير آخر «جيدة» .
وإلا فإن النمو الاقتصادي هو وسيلة الإنسان للتعاسة! إذ ما الفائدة من وراء
استهلاك الخمر و «الخدمات الجنسية» ، على سبيل المثال، سوى تدهور الصحة
وتزايد معدلات الطلاق وحوادث السير، وانتشار الأمراض الجنسية؟
2- يجب أن لا تنمو كثافة وعدد رغبات الإنسان بمعدل أسرع من القدرة على
إشباعها (p. 390) .
أما أرثر لويس A. Lewis ففي إجابته على التساؤل: «هل النمو
الاقتصادي أمر مرغوب؟» يؤكد على أن الثروة لا تجلب أو تزيد من السعادة إذا
ما زادت الرغبات بشكل أكبر من زيادة الموارد (1965,p. 420) وهذا بالفعل ما
يحدث على أرض الواقع، إذ أن تزايد دخول وثروات الناس عادة ما يزيد من
تطلعاتهم ورغباتهم، خصوصاً إذا كانوا يفتقدون التطلعات الروحية والدينية.
ويقول المؤرخ الشهير أرنولد توينبي A. Toynbee في هذا المجال:
«يجب أن نهدف ليس إلى [زيادة] الناتج القومي الإجمالي وإنما إلى [زيادة] ، الرفاهية
القومية الإجمالية. إن مدى اختباري للرفاه هو كما يلي: مدى الانسجام والتعاطف
المشترك بين أفراد المجتمع والرفاهية الروحية المتوسطة لكل فرد والتي تحدد
بدورها مدى الانسجام والتعاطف» (Mayor, p. 212) .
وكما أشار «جوارتني وستروب Gwartney and Stroup» في كتابهما
«عالم الاقتصاد الكلي» فإن «الناتج القومي الإجمالي لا يقيس الرفاه أو السعادة
أو حتى التقدم الاجتماعي، فهذه المفاهيم الشخصية [غير الموضوعية] تتأثر بعوامل
عديدة أخرى. ما يزال الرأي العام يربط بين زيادة الناتج القومي الإجمالي وبين
التقدم والتحسن في نوعية الحياة وهذا أمر يؤسف له، لأن الناتج القومي الإجمالي
لم يُقصد به بتاتاً أن يكون مقياساً للتقدم الاجتماعي.. [إنه مجرد] مؤشر للتغيرات
قصيرة الأجل في النشاط الاقتصادي» (p. 127) .
أما التعريف الثاني للتنمية فهو تعريف موضوعي إلى حد كبير ولكنه ضمن
النظرية العلمانية للمعرفة - غير إجرائي. وهو ينظر إلى التنمية بصفتها عملية
تهدف إلى زيادة الرفاهية الإنسانية بمكوناتها وأسبابها المتعددة، الاقتصادية منها
والاجتماعية والسياسية والروحية والأسرية، البيئية والنفسية. إنه تعريف
موضوعي لأن قليلاً من الناس من يرفض رفاهية أو سعادة البشر كهدف أسمى،
ولكنه غير إجرائي لأننا كبشر لا نعلم - من خلال العلم أو العقل أو الأدلة التجريبية
- ماهية العوامل أو القيم أو الأوضاع التي تزيد من الرفاهية، لأن المسألة فلسفية
جدلية، وحتى إذا استطعنا تعداد أو حصر مجمل مسببات الرفاهية - كما فعل
الكاتب - فإن هذا لا يحل مشكلة تحديد الأهمية النسبية لهذه المسببات، كما أن هذه
الخطوة الأولية لا تحل مشكلة كيفية تحقيق مختلف مسببات أو مكونات الرفاه، وما
هو مقياس التحسن أو التردي في كل منها، هل هو تفضيلات الأفراد، أم
تفضيلات «الحكومة» ، أم تفضيلات دكتاتور، أم العادات والتقاليد، أم تفضيلات
الأغلبية، أم تفضيلات النخبة (المخططين مثلاً) أم ماذا؟ وما هو مدى
«موضوعية» هذا المقياس؟
مما سبق نستنتج أن «التنمية» مفهوم إشكالي إلى حد كبير من الناحية
الفلسفية أو الجوهرية (Wallman, p1-2) فهي من المفاهيم الخلافية بالضرورة
Essentially Contested Concepts. والاعتماد على العقل أو العلم أو
المعرفة التجريبية للتوصل إلى التعريف «الحقيقي» أو «الموضوعي» لهذا
المفهوم أمر عسير، لأن التنمية مصطلح أخلاقي أو معياري (Seers,p. 22)
Normative Concept، أي مفهوم يتعلق بما «يجب» أن يكون عليه الوضع
الإنساني وبالتالي فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأحكام القيمية Value
Judgements أو المسلمات الأخلاقية Ethical Premises المتعلقة بما هو
مفضّل أو مرغوب من الأوضاع أو الأهداف (Lewis, 1975, p. 119-120)
(Colman and Nixon,p. 2) ، ولكي نتمكن من تحديد المضمون
«الموضوعي» للتنمية أو معرفة أهدافها «الحقيقية» لا بد لنا من معيار خارجي موضوعي ومستقل عن التفضيلات الشخصية أو الثقافية لبني البشر، وهذا بدوره يستلزم التوصل إلى نظرية موضوعية للمعرفة الأخلاقية Objective Epistemology الأمر الذي فشلت الفلسفة العلمانية المعاصرة في تحقيقه [4] .
مضامين ونتائج:
لهذا البحث القصير العديد من المضامين والنتائج المرتبطة بالسياسة العامة،
لعل أهمها:
1 - ضرورة الاهتمام بالجوهر والمضمون عند القيام باتخاذ سياسات أو
برامج أو خطط تنموية. فعلى سبيل المثال هناك تجاهل غير مقبول تماماً من قبل
معظم دول العالم للرفاهية غير الاقتصادية وقد أثر هذا التحيز الأيديولوجي في
نوعية الحياة بشكل أفقد الحياة معناها ورونقها. فبرامج «التنمية» وخططها يجب
أن لا تهدف فقط إلى زيادة معدلات الإنتاج أو رفع معدلات النمو الاقتصادي أو
تقليل التفاوت في مستويات الدخول أو القضاء على البطالة والفقر، أو حتى رفع
كفاءة العاملين أو تنمية الموارد البشرية فحسب، بل يجب أن تتضمن كذلك -
وبشكل واع وصريح - أهدافاً وسياسات وبرامج للحد من المشكلات الأسرية وحماية
مؤسسة الزواج والأسرة (الرفاهية الأسرية) وتحسين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان
وتخفيض معدلات الجرائم والانحراف السلوكي (الرفاهية الاجتماعية) ، وإعطاء
القيم الروحية مكانة عالية وتخفيض معدلات الانتحار والإدمان والأمراض النفسية
(الرفاهية الروحية والنفسية) والتركيز على الاهتمام بالرفاهية البيئية.
إن من المؤسف له أن تُعطى «الرفاهية الاقتصادية» في معظم دول العالم
أكثر من ثماني وزارات أو دوائر حكومية رئيسية (المالية والبنك المركزي والتموين
والصناعة والإسكان والتجارة والطاقة والثروة المعدنية..) في حين لا تكاد تُعطى
الرفاهية الأسرية سوى اهتمام جزء من وزارة، مع أن الشرع الإسلامي - الذي
يقدم لنا نظرية موضوعية للمعرفة الأخلاقية - يجعل مقصد «حفظ النسل» مقدماً
من حيث الأهمية على مقصد «حفظ المال، كما يؤكد ذلك علماء أصول الفقه.
2- من القراءة المتبصرة لهذا المقال يتبين لنا مقدار التحيز واللاموضوعية
التي وصل إليها دعاة التحديث Modernization والتغريب Westernization
(تقليد نمط الحياة الغربية) . فهؤلاء اعتبروا أن طريقة الحياة الغربية تعبّر عن
التنمية والتطور والتحديث والتقدم. بل ويصر بعضهم على أن النموذج الغربي
للتنمية هو النموذج الوحيد أو» الأمثل «وأن المفهوم الغربي العلماني للتنمية هو
مفهوم» عقلاني «أو» موضوعي «إن هؤلاء ببساطة يعانون من وعي زائف
مزمن. [5]
3- ضرورة زيادة الاهتمام الرسمي والشعبي لتكوين وبلورة نظرية إسلامية
للتنمية تنطلق من المسلمات الأخلاقية الإسلامية وتضع البرامج العلمية الكفيلة
بتحقيق المنظور الإسلامي للتنمية. إن هذا الأمر ليس مجرد ترف فكري أو من
قبيل الاهتمام بالأصالة و» التراث «فحسب، إنه في واقع الأمر السبيل الوحيد
لإيجاد حقيقة موضوعية. فكما أكدنا سابقاً فإن النموذج العلماني للتنمية غير مؤهل
لتقديم تعريف موضوعي/عقلاني للتنمية، كما أن النموذج السابق قد فشل فشلاً
ذريعاً على أرض الواقع في حل مشاكل المجتمع المعقدة. إن العقل والعلم - معبودا
العلمانية - غير مؤهلين للتوصل إلى تعريف موضوعي للتنمية فهذا ليس نطاق
عملهما. إنهما مجرد وسيلة لتحقيق الهدف، ولكنهما لا يملكان القدرة على تحديد
ماهية هدف» التنمية «أو مضمونها الموضوعي. وعليه لا بد لنا من الاستعانة
بالقيم الإسلامية لاستنباط أو بلورة نظرية معيارية موضوعية للتنمية.
إن الذي حفزني لكتابة هذا المقال تناقض جوهري يسري في حياتنا المعاصرة. يتمثل في الحديث المجرد، وربما الساذج، عن» التنمية «و» التقدم «
و» البناء «و» التطور «و» الرقي «و» التحديث «و» عقلنة المجتمع «..
وما شئت من مصطلحات، في الوقت الذي يغرق فيه الفرد - أي فرد سواء كان في
الدول العلمانية النامية أو العلمانية الصناعية - في مستنقع من الضجر والملل
وفقدان الحياة والجمود والترويض والاضطراب النفسي، وفي الوقت الذي تعاني
فيه كافة المجتمعات العلمانية المعاصرة من عشرات المشكلات الأسرية والاجتماعية
والاقتصادية والبيئية. [6] وكما يقول أحد علماء النفس التحليلي:» نحن نعيش
عصراً حلّت فيه سيكولوجيا انتحارية محل الاستقرار الداخلي، وتخلت الماهية عن
مكانها إلى جميع المظاهر السطحية «.
ألم يقل الله عز وجل في كتابه الكريم: [ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكاً] [طه: 124] . هذه هي خرافة» التنمية «في الدولة العلمانية،
فإلى متى ننمي هذه الخرافة؟
__________
(1) حول عدم إمكانية تحييد القيم أو الأحكام القيمية - غير القابلة للاختبار العلمي - في مجال قياس الرفاهية الإنسانية، انظر (Drewnowski,p 85) .
(2) إذا أراد القارئ التعرف على تعريفات دقيقة ومقترحة للرفاهية الاقتصادية والأسرية والاجتماعية والروحية والسياسية والنفسية والبيئية فإن عليه الرجوع إلى أطروحة الكاتب (الكفاءة والعدالة في الاقتصاد الإسلامي: مدخل إسلامي لاقتصاديات الرفاه) ، ص 14 -15، الجامعة الأردنية.
(3) للتعرف على عيوب الناتج القومي الإجمالي باعتباره مؤشراً للإنجاز أو الرفاهية الاقتصادية، انظر رسالتنا الجامعية (الكفاءة والعدالة في الاقتصاد الإسلامي: مدخل إسلامي لاقتصاديات الرفاه) ، ص 193-195، حيث تم تعداد (10) عيوب لهذا المؤشر، بدءاً من السلع التي لا تتداول في السوق ووقت الفراع، مروراً بمسألة توزيع الدخل وجودة السلع المنتجة وتركيبتها، وانتهاءاً بماء يرافق النمو الاقتصادي من التلوث والضجيج وحوادث العمل والتكاليف الاجتماعية الأخرى ولمزيد من التفاصيل حول تكاليف النمو الاقتصادي انظر (Mishan,1973) .
(4) يشير F Utsunomiya في كتابه علم سياسة التنمية والبيئة: نحو حضارة جديدة، إلى أن التنمية هي مفهوم معياري وبالتالي فهى تشكل موضوعاً ملائماً للنظرية الأخلاقية والفلسفة، فنحن نحتاج - حسب قوله -إلى فلسفة للتنمية الإنسانية ثم يستمر ليؤكد عجز الفلسفة المعاصرة عن تكوين نظرية معيارية للتنمية حيث يقول: من الطبيعي أنه ليس هناك رموز، كلمات إرشادات أو بناء معرفي للنظرية المعيارية إن جميع المنظرين المعياريين Normative Theorists يتفقون على أن التنمية يجب أن تؤسس على المذهب الانساني Humanism، ولكن من الصعوبة التعرّف على أي اتفاق على التعريف المعياري للتنمية إن هؤلاء المنظرين المعياريين لا يمكن أن يتجنبوا الانتقادات القائلة بأن مفاهيم القيم هي مفاهيم شخصية بحتة (p61-62) إن الفلسفة الغربية المعاصرة ترتكز على مذهب الشك الأخلاقي Moral Skepticism، بمعنى الشك في إمكانية التوصل - من خلال الأدلة العقلية أو العلمية - إلى معرفة أخلاقية موضوعية مستقلة عن تفضيلات (أو رغبات) الأفراد أو جماعات المصالح الخاصة، وبالتالي فهذه الفلسفة العلمانية تستند بشكل رئيسي على نظرية شخصية للمعرفة الأخلاقية Subjective Epistemology، وهي نظرية قوامها جعل الانسان ورغباته المقياس الوحيد للقيمة والفضيلة.
(5) من الكتب الحديثة التي تتعرض بالانتقاد لنمط الحياة الغريبة من منظور تنموي شامل، كتاب فقر التقدم: تغيير أنماط الحياة في المجتمعات الصناعية، (1982) ، حيث يؤكد هذا الكتاب على ظاهرة سوء تنمية) Maldevelopment المجتمعات العلمانية الغريبة المعاصرة من حيث التركيز على النمو الاقتصادي أو المادي وإهمال الجوانب الاجتماعية والأسرية والبيئية كما ينادي مؤلف الكتاب إلى تطوير أساليب بديلة للحياة تحل محل أساليب الحياة المسيطرة في هذه المجتمعات، والتي تتميز بالتفكك الأسري وانعدام الثقة والعواطف الإنسانية وتزايد معدلات الجريمة والعنف، بالرغم من مظلة النمو الاقتصادي والتطور الديمقراطي الذي يعيشونه انظر (Miles and Irvine, 1982) .
(6) في المجال الأسري تعاني الدول العلمانية المعاصرة من مشاكل الطلاق، العنوسة (العزوبية) والهجران الزوجي والأمراض الجنسية وآخرها الإيدز، والبغاء والشذوذ الجنسي والاجهاض، والاغتصاب والخيانة الزوجية والأطفال غير الشرعيين والعنف الأسري والتحرشات بالمرأة العاملة في سوق العمل وهتك العرض وما شابه ذلك وفي الميدان الاجتماعي تعاني دول العالم المعاصر من مشاكل الإجرام سواء كان ضد الملكية أو النفس، والتشرد وحوادث الطرق وانحراف الأحداث والعنف وانخفاض معدلات نمو السكان (في الدول الغربية) وظاهرة المجتمع الشائخ، والانحراف السلوكي والانتحار، والإدمان على الكحول والتبغ والمهدئات والمنومات والمنشطات والمخدرات والمسكنات، ومشاكل التمييز العنصري والأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية والعصابية، والفساد الإداري والجرائم الاقتصادية والمشاكل العاطفية بين المرأة والرجل والرشوة وفي الميدان الاقتصادي تشكو المجتمعات العلمانية المعاصرة من التضخم (ارتفاع الأسعار) والبطالة والدورات الاقتصادية والفقر وسوء توزيع الدخل والثروة وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، والعجز في الموازنة العامة وميزان المدفوعات، والديون الخارجية (لدى دول العالم الثالث) ، وسوء تخصيص الموارد واستنفاد الموارد الطبيعية وفي المجال البيئي هناك مشاكل تلوث البيئة (الهواء والماء والبحار والمحيطات) والضجيج وتضرر طبقة الأوزون، والتصحر والتعرية وانقراض بعض الأنواع بفعل الصيد الجائر والارتفاع العالمي في درجات الحرارة وغيرها.(57/32)
التوجيه الإسلامي الشامل
محمد محمد بدري
أصبح الإعلام من أقوى (الأسلحة) التي تحرص الأمم على امتلاكها.
وتتسابق في ميدانها ووُظِّفَت دراسات علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم
في خدمة الإعلام، حتى أصبح قادراً على (صناعة) اهتمامات الفرد، و (صياغة)
أفكاره، و (تغيير) سلوكه بما يتفق مع التغيير الاجتماعي المنشود.
ولقد قطع الإعلام الجاهلي المعاصر خطوات كبيرة نحو (الإنسان) المسلم حتى
أوقعه في أسره.. وكانت الخطوة التالية لـ (الأسر) هي محاولة دفع هذا المسلم في
طريق التنكر للإسلام عقيدةً وشريعةً وسلوكاً وحضارة! ! وقد توسل الإعلام
الجاهلي لذلك بوسائل كثيرة:
فأما حقائق الإسلام، فقد كانت طريقته في عرضها هي (العرض اللاهوتي)
أو التراثي المتخفي، حتى أصبح أكثر المسلمين لا يفهم من كلمة الإسلام إلا ما
يفهمه الأوربي من كلمة Religion إذا ذكرت أمامه، فلا يزيد الإسلام في حسه
عن بضعة طقوس وشعائر لا علاقة لها بشأن من شئون الحياة! !
وأما الأفكار التي يقوم بنشرها، فلا تجد بينها غذاءً فكرياً جيداً، بل أكثرها
من نوعية الأفكار التي يمكن أن نطلق عليها (العَلَف الفكري) ، فهي أفكار «تدعو
الفرد المسلم، إمّا إلى الانصراف إلى قضاياه اليومية الخاصة التي تدور حول الغذاء
والكساء والمأوى، وإما إلى الاغتراب الحضاري والجغرافي، والهجرة إلى خارج
الوطن الأم والانضمام - بإعجاب وولاء - إلى المجتمعات (الاستعمارية) .. وإما
إلى الانحلال الاجتماعي والانحراف والانغماس في تيار الجنوح والانحراف» [1] .
وأما الأخلاق التي ينشرها الإعلام الجاهلي فهي أخلاق (الفضائح الاجتماعية) ، «فمن إدمان للخمر، إلى نوادي القمار، إلى دور البغاء العلني والسري، إلى
الخلاعة على شواطئ البحار والأنهار وأحواض السباحة والاستعراضات الرياضية
المختلطة، إلى تسهيل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورها ومحلاتها وصحفها
وحفلات عرضها.. إلى آخر تلك الفضائح الأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة
والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدى الأجيال المسلمة..» [2] .
وأما في نطاق قدرة الفرد على التغيير ومجابهة التحديات، فقد أكد هذا الإعلام
على ترسيخ اعتقاد المسلم بأنه غير قادر على فعل أي شيء في مواجهة الواقع،
وأن الاستسلام لما هو كائن هو (التصرف الواقعي) !
ولا شك أن العمل الإسلامي لا يملك في مواجهة هذا الإعلام إلا سلاح الدعوة
والبيان، ولكن شمول الخلل الذي أحدثه الإعلام الجاهلي في الأمة يحتم على العمل
الإسلامي أمرين:
الأول: «لم يعد يكفي الاعتماد على الجانب العقدي وحده أو التشريعي وحده
أو السلوكي وحده، لمجابهة الأزمات الحضارية والانتكاسات الفردية والاجتماعية
التي يمر بها المجتمع الإسلامي. بل لا بد أن تمشي الخطوط الثلاثة متكاملة
متوازنة متعانقة لمعالجة السقوط العقائدي والاجتماعي والأخلاقي فيه، تمهيداً
لإحداث التغيير الإسلامي المنتظر» [3] ، وهذا يعني أن يكون (الخطاب
الإسلامي) [4] خطاباً شاملاً، يكشف الحق الملتبس، ويبينه للأمة في صورة بلاغ
مبين، ثم ينتقل بالدعوة من مرحلة المبادئ إلى مرحلة البرامج، فيقدم (المشروع
الحضاري الإسلامي) الذي يكون بديلاً للمشروع العلماني.
الثاني: لا بد من تجنب الإسراف في استخدام الكلمة والبيان، بحيث لا تكون
الكلمة مجرد صورة بيانية ترف في الهواء، أو مجرد كمية من المداد على صفحة
من الورق، بل لا بد أن تكون الكلمة (فعالة) تبث أفكاراً لها كثافة الواقع ووزنه،
بما تدفع إليه من نشاط وحركة في طريق التغيير [5] .
وأما في موضوع الأخلاق والقيم، فإن التوجيه الإسلامي لا يقدمها كعدد من
الفضائل المبعثرة، كل على حدة، كالصدق والأمانة والعفة والوفاء.. الخ.. إنما
يقدمها كما هي على الحقيقة «نظام متكامل لحياة شاملة، نظام يوجه ويضبط كل
النشاط الإنساني في شتى جوانب الحياة،.. فالصدق خلق، ومثله الجهاد في سبيل
الله لتحرير البشر من العبودية لسواه. والأمانة خلق، ومثلها عمارة الأرض وتنمية
الحياة وترقيتها في حدود ما شرع الله، ابتغاء رضوان الله، والعفة خلق، ومثلها
تطهير عقول الناس من الوهم والخرافة والضلال، والوفاء خلق، ومثله القيام على
حدود الله، والإيجابية وعدم السلبية في حياة الجماعة ... » [6] .
وهكذا.. لا يهتم التوجيه الإسلامي بالأخلاق من الناحية الفلسفية، بل من
الناحية الاجتماعية، ومدى مساهمة الخلق في إيجاد (قوة التماسك) اللازمة في أمة
تريد إقامة حضارة على أساس من الإسلام الحق.. الإسلام المتحرك في العقول،
والسلوك، والمنبعث في صورة (إسلام اجتماعي) .
وأما الأفكار، فإن التوجيه الإسلامي الشامل يركز على أن فقدان (الرسالة)
التي قامت عليها الأمة، وضياع (الغاية) التي بُعِثت من أجلها يؤديان إلى انهيار
الأمة وهلاكها «وأن أمانة (الرسالة) تفرض على المسلمين أن يكون كل منهم على
ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبله، وأما القاعدون من المسلمين الذين يظنون
أنهم بأخلاقهم وصلاتهم وصيامهم يؤدون واجبهم تجاه أمتهم ويحملون رسالتها،
فليعلموا أنه لا يصلح لهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه، وأنه لن ينتصر
آخر هذه الأمة إلا بما انتصر به أولها أي بالإيمان والجهاد والتضحية والثبات» [7] .
وأما قدرة الفرد على التغيير، فإن التوجيه الإسلامي الشامل يقوم على تعميق
الإحساس بضرورة التغيير مع بث الثقة في أفراد الأمة وقدراتهم وإمكاناتهم التي
تؤهلهم لحمل مسئولية التغيير، وذلك عبر إشعار جماهير الأمة بالوضع السيئ الذي
تعيشه أمتهم، وإثارة تطلعاتهم إلى تغيير الواقع الذي يستهدف حريتهم، وحضارتهم، بل ولقمة عيشهم! ! ومن ثم حشد طاقات جماهير الأمة جميعاً لتصب في حركة
تغييرية تسير بصورة تدريجية وتصاعدية حتى تبلغ ذروة أهدافها بإخراج جماهير
الأمة من العبودية التي تؤلمها وتحز في صدورها، إلى الحرية التي لا تتحقق في
ظل منهج من المناهج كما تتحقق في ظل الإسلام.
وهكذا هو التوجيه الإسلامي الشامل.. يطرح الإسلام كمعادلة فكرية وسياسية
واقتصادية وأخلاقية، وذلك في مواجهة المعادلة العلمانية التي تريد إبعاد الأمة
الإسلامية عن خط الإسلام لتقربها إلى خط الكفر!
إن الكثير من المسلمين يبحثون عن الطريق إلى الخروج من التبعية الذليلة،
ومن هنا فلا بد أن يقدّم لهم التوجيه الإسلامي البديل النظري والواقعي للخروج من
هذه التبعية، ويزيل من أنفسهم أسباب العجز والتخلف، ويبعث فيها روح الأمل
والثقة في القدرة على التغيير والخروج من التبعية إلى الريادة.
إن في الأمة الإسلامية «طاقات وقوى لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وهناك ملايين من السواعد والعقول المفكرة صالحة لأن تشارك في التغيير،
والمهم هو أن نعرف كيف ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد
والعقول» [8] لإحداث التغيير المنشود. ولا شك أنه لا سبيل لنا إلى ذلك إلا
بالتوجيه الإسلامي الذي ينشر الفكرة الإسلامية بين أفراد الأمة، وبقدر شمولية هذه
الفكرة سيكون اكتساحها للأفكار الجاهلية المثبطة للعزائم.. وبقدر فعالية الأمة في
حمل هذه الفكرة ستكون وقفتها القوية في وجه أعدائها، وسيكون التغيير.
__________
(1) هكذا ظهر حيل صلاح الدين - د ماجد عرسان الكيلاني ص 303.
(2) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري - د محسن عبد الحميد ص 33.
(3) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري - د محسن عبد الحميد ص 99.
(4) تطلق كلمة (خطاب) في علم النفس الاجتماعي على كل نطق أو كتابة تحمل وجهة نظر محددة من المتكلم أو الكاتب، وتهدف إلى التأثير على المستمع أو القارئ.
(5) مستفاد من كتاب: مشكلة الثقافة - مالك بن نبي ص 109.
(6) مقومات التصور الإسلامي - سيد قطب ص 289.
(7) المعاصرة في إطار الأصالة - أنور الجندي ص 53.
(8) مستفاد من كتاب: مشكلة الثقافة - مالك بن نبي ص 64-65.(57/42)
الفلاح المصري كما يراه اليهود
د. أحمد إبراهيم خضر
كل فلاح مصري يغادر قريته متجهاً إلى المدينة للدراسة أو للعمل أو للزيارة
يشكل خطراً على اليهود. وتتفاوت درجات هذا الخطر تعظم إذا سافر إلى القاهرة
بالذات، وتخف قليلاً إذا ذهب إلى عاصمة محافظته، أو إلى مدينة من المدن التي
تبعد عن قريته، وإذا عاد إلى قريته بعد انتهاء مهمته في المدينة فهو مصدر خطر
أيضاً.
الفلاح المصري كما تقول دراسات الباحثين اليهود، متميز عن أي فلاح آخر
في بلاد ما يسمونه (بالشرق الأوسط) أو (الهلال الخصيب) بمواظبته على الصلاة
في المسجد، ولا تكاد تخلو قرية من قرى مصر من وجود مسجد بها يذهب
الفلاحون إليه للصلاة.
القرية المصرية كانت لقرون عديدة تدفع بأبنائها إلى القاهرة لدراسة الدين في
الأزهر. وكان الأزهر إلى عهد قريب الطريق الأكثر تميزاً في تحقيق نقلة
اجتماعية ذات قيمة لأبناء القرى. إن العديد من العلماء بل إن أكثر من نصف
شيوخ الأزهر ينحدرون من أصول ريفية. كان الأزهر في الماضي قلعة الدفاع عن
الدين، وموقع مختلف الأنشطة الدينية، أما اليوم فإنه تحت قبضة الحكومة ويخضع
لإشراف وضبطٍ قوي من جانبها، فتحول إلى موقع مسالم يندر أن يجد فيه أي
نشاط معاد للحكومة فرصة للظهور [1] .
إذا تعلم الفلاح المصري فسيصبح يوماً ما خطراً على اليهود، لأنه قد يصبح
عضواً في جماعة إسلامية. وإذا ذهب الفلاح المصري إلى القاهرة فأين سيقيم: في
الجمالية، أو في الدرب الأحمر، أو في الحسينية، أو في منطقة حزام الفقر
القاهري، أم سيقيم في الحلمية الجديدة أو القصر العيني؟ وكل هذه المناطق لها
دلالاتها عند اليهود.
أما إذا ذهب إلى المدن الكبرى في المحافظات فإن الخطر على اليهود قائم.
هناك الجامعات الإقليمية، وهناك فرص العمل، ووسائل الراحة، وهناك
الجماعات الإسلامية أيضاً. أينما ذهب فإنها هناك سواء ذهب إلى الإسكندرية أو
بور سعيد أو الزقازيق، أو ذهب إلى طنطا، أو نجع حمادي، أو غيرها من مدن
المحافظات التي لم يكن لها ذكر في الماضي على خريطة مصر السياسية.
إذا ذهب الفلاح المصري إلى الصلاة في المسجد أو في المدينة، أو استمع
إلى حلقات الدروس التي يتعلم فيها أصول دينه، أو اشترك في جمعيات إسلامية
خيرية فإن الخطر على اليهود قائم أيضاً.
من الخير للفلاح المصري - كما يرى الباحثون اليهود - أن يقرأ جريدة
(اللواء الإسلامي) لأنها الجريدة التي أنشأتها الحكومة بغرض محاربة ما يسمى
(بالنمو الخطر للأصولية) [2] .
لا ضرر من أن يستمع الفلاح المصري إلى إذاعة القرآن الكريم، أو إلى
البرامج الدينية في الراديو والتلفزيون، لكنهم يحذرون من دروس الشيخ الشعراوي
الذي كانوا يرونه يوماً هذا الوزير الذي دفعته السلطات للدفاع عن الخط العصري،
ثم عادوا يعتبرونه اليوم أحد الأصوليين. على الفلاح المصري ألا يقرأ كتابات
الشيخ كشك التي تذكرهم بكتابات الإمام حسن البنا، ولا أن ينظر في مؤلفات سيد
قطب. لا ضرر من انضمام الفلاح المصري لحلقات الصوفية، مع الحذر من أن
تكون هذه الحلقات معبراً إلى الجماعات الإسلامية.
(القرية النوبية) قنبلة زمنية موقوتة يحسب لها اليهود حساباً دقيقاً، كما كان
النصارى يفعلون من قبل، فسلطوا عليها مركز بحوث الجامعة الأمريكية بالقاهرة
لدراسة ما يسمى بالسلوك الديني للقروي النوبي. اليهود قلقون من البعث الديني في
قرى النوبة ذات المستوى التعليمي المرتفع، وقلقون من اتجاه نساء النوبة نحو
الإسلام الصحيح، لكنهم مطمئنون إلى أنها لا زالت بعيدة عن مرمى الجماعات
الإسلامية.
لقد فشلت الحركات الإسلامية - كما يرى الباحثون اليهود - في تجنيد أتباع
لها في القرى المصرية، لكن الحقيقة المفزعة هي أن القرية المصرية هي التي
ولدت (حسن البنا) في المحمودية في عام 1906. وأكد اليهود (لروبرت ميتشيل)
أن (المحمودية) قرية وليست مدينة كما كان يتصور وهو يكتب عن تنظيم الإخوان
المسلمين. (حسن الهضيبي) - خليفة البنا - ولد في قرية (عرب الصوالحة) في
منطقة شبين عام 1890. (سيد قطب) المحرك الأساسي للفكر (الأصولي) - كما
يرى اليهود - ولد في قرية (موشا) بالقرب من أسيوط.
إن مدناً مثل طنطا وأبو تيج والأقصر مثلاً كانت في الماضي مجرد مراكز
تجارية إقليمية، وأماكن للأضرحة والقباب والاحتفالات بالموالد، تجذب إليها
الكثير من الفلاحين المصريين، لكنها اليوم - إلى جانب ذلك - تشكل مركز إمداد
بما يسمى (بالفكر الأصولي) و (الجماعات الأصولية) . إن الفلاحين يرسلون
أبناءهم إلى هذه المدن للدراسة. الموظفون يفضلون أداء صلاة الجمعة بها. إن
مدن المحافظات تعتبر مراكز لنشر سلوكيات الإسلام الصحيح، وهناك يتعرض
الفلاحون لهذا (الفكر الأصولي) كما ظهر من تبني الطلاب من ذوي الأصول
الريفية لهذا الفكر.
اهتمامات الباحثين اليهود بما يجري على الساحة المصرية لا حد لها، ففي
الوقت الذي انشغل فيه المراقبون بتطورات حركة الصحوة الإسلامية بما يسمونه
بالمظاهر العنيفة لهذه الصحوة، ودوافع قادتها، كان الباحثون اليهود مشغولين
بدراسة الأبعاد العميقة لهذه الصحوة، وعلى الساحة المصرية بالذات.
انطلق الباحثون اليهود من مقدمتين أساسيتين بنوا عليهما نتائج دراستهم،
تقول المقدمة الأولى عندهم إن للإسلام مظهرين: أولهما هو الإسلام الصحيح (الذي
يعتمد على الأصول) وهو مصدر الخطر الحقيقي عليهم، لأنه يجمع حوله ما
يسمونه بوقود التيار الأصولي والجماعات الإسلامية، وخاصة المسلحة منها. أما
الثاني فيسميه اليهود بالإسلام الشعبي، وهو عبارة عن ممارسات للإسلام ذات
جذور لا إسلامية بعضها فرعوني، مثل الاحتفال بعروس النيل واحتفالات الزار،
والموالد، وعبادة الأضرحة، واستخدام التعاويذ والتمائم، وأخذ العهد، والحلقات
الصوفية، وكذلك كل ما يسلكه الناس في حياتهم اليومية على اعتبار أنه من الدين،
وهو في حقيقته عادات موروثة موغلة في القدم تعتبر من أقدم عادات الأمم في العالم.
أما المقدمة الثانية فتقول: إن السلوك الديني الشعبي ذا الجذور الإسلامية
ينتشر في القرية المصرية، أما سلوكيات الإسلام الصحيح فإنها ترتبط بسكان
الحضر المتعلمين. لكن هذه الارتباطات ليست حادة ولا قاطعة، حيث يمكن أن
يختلط الإسلام ذو المظهر الشعبي بالإسلام الصحيح في القرية. ويمكن أن توجد
مظاهر عديدة لسلوكيات غير صحيحة للإسلام بين سكان المدن.
من هاتين المقدمتين انطلقت دراسات الباحثين اليهود فانكبوا على دراسة كل
ما توافر لديهم من مصادر ومراجع قديمة وحديثة، لعلها تفيدهم في فهم أبعاد
الصحوة في مصر، والتخطيط لمواجهتها بما يرونه مناسباً. انشغل الباحثون اليهود
بمحاولة الإجابة على سؤالين هامين:
الأول: إلى أين تتجه الوفود المهاجرة من الريف المصري إلى المدينة: إلى
الإسلام الصحيح، أم إلى مظاهره غير الصحيحة التي تربت عليها؟
الثاني: هل تفهم الحكومة المصرية وتعي جيداً هذه القضية، وماذا أعدت
لمواجهتها ومدى قوة وفاعلية هذه المواجهة؟
تابع اليهود بدايات الصدام بين دعاة الإسلام الصحيح، ومظاهر السلوك
الديني غير الصحيح منذ بداية القرن التاسع عشر. تركز هذا الصدام على شعائر
الوفاة وزيارات الأضرحة واحتفالات الزار والحلقات الصوفية، وقاده في بعض
الأحيان الشباب العائد من القاهرة بعد دراسته في الأزهر، وساعد على توقده تحسن
وسائل الاتصال والمواصلات بين القرية والمدينة.
اليهود مطمئنون إلى أن مظاهر السلوك الديني غير الإسلامي لا زالت قائمة
ومنتشرة ومستمرة، بل إن جانباً منها قد كسي بغطاء إسلامي. إنهم مطمئنون أيضاً
إلى أن دعاة الإسلام الصحيح لم يتمكنوا بعد من القضاء تماماً على هذه المظاهر.
قارن اليهود قائمة الاحتفالات بالموالد والأولياء في القرن التاسع عشر بتلك القائمة
الحديثة التي أعدها باحثون مثل (ماكفرسون) في الأربعينيات و (بانيرث ودي
جونج) في الستينيات والسبعينيات. توصل اليهود إلى أن هناك انخفاضاً في كم
الاحتفالات بها، لكن الشعبية الكبيرة لأضرحة الحسين، والسيدة زينب، والإمام
الشافعي طمأنتهم.
عاد اليهود إلى موقف الأزهر من هذه القضية تاريخياً، فتوصلوا إلى أن
صلابة موقف الأزهر في الدفاع عن الإسلام الصحيح أصبحت في ذمة التاريخ.
إنهم اليوم مطمئنون لنجاح الأزهر البالغ في تجنب الجدل الديني حول هذه القضية،
وقدرته على الدفاع عن هذه التركيبة التي تجمع بين الإسلام الصحيح ومظاهره
الشعبية، والفتاوى التي تصدر دفاعاً عن هذا الجانب أو ذاك.
ليست للمسلمين العصريين أية جذور عميقة في تربة الشعب المصري - كما
يرى الباحثون اليهود - إنهم كحركة ظهرت بين الصفوة التابعة للفكر الغربي -
قابعون بأفكارهم في دوائر الحكومة ويكتبون في صحفها. ويدخل الأزهريون الذين
يعملون لصالح الحكومة ضمن فئة هؤلاء المسلمين العصريين، وإن كانت الصحوة
الإسلامية قد أوقعتهم في ورطة شديدة.
التغيرات الدينية في القرية المصرية بطيئة و (الفكر الأصولي) أقل انتشاراً
في قرى مصر من مدنها. هذا شيء مطمئن، لكن دخول هذا الفكر إلى القرية في
صورة مواد مطبوعة، أو عن طريق الزيارات المتكررة لباعة الكتب المتجولين؛
ووجود هذا الفكر بين صفحات الكتب التي يحتفظ بها معلمو المدارس في مكتباتهم
المتواضعة بمنازلهم شيء لا يطمئن. الطبيعة المحافظة للقرية المصرية حالت في
نظر اليهود دون انضمام القرويين إلى تنظيم الإخوان المسلمين. لم يكن الفلاحون
قادرين على وصل الهوة بين ما توارثوه وبين فكر الإخوان. هذا شيء طيب، لكن
الذي ليس بطيب هو أن الفلاحين المقيمين في المدن هم الذين انضموا لتنظيم
الإخوان.
الذي يجري في القرية النوبية لا يطمئن اليهود. صحيح أن الحركات
الإسلامية المسلحة لم تنجح في جذب شباب النوبة؛ لكن النوبيين بعد استيطانهم
الجديد، وبعد تغير قياداتهم التقليدية، قد تخلصوا من الكثير من الشعائر ذات
الأصل الوثني، واعتدلت حفلاتهم الدينية، وتقلصت حفلات الذكر والزار. ويرجع
الباحثون اليهود هذا التفكير الديني إلى حركة الذهاب والعودة المتكررة لأبناء النوبة
إلى القاهرة من قرى النوبة، فيعودون إلى أهليهم بأفكار صحيحة عن الإسلام.
انزعج اليهود من مسألة التعليم الرسمي في مصر، لقد خطط منذ عشرات
السنين أن يؤدي التعليم إلى علمنة البلاد، لكن الذي حدث بالفعل قد خيّب الآمال،
لقد أدى التعليم إلى تغيير الأنماط الاجتماعية الدينية في مصر لصالح (الفكر
الأصولي) كما يسميه اليهود. لم يعد يخفى على أحد ارتفاع المستوى التعليمي
لشباب الجماعات الإسلامية، إن نصف هؤلاء الشباب هم طلاب جامعات، والعديد
منهم خريجون مهنيون متعلمون، وذلك على العكس تماماً من الحالة التعليمية
لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين في الأربعينيات والخمسينيات. إن هذا الشباب قد
درس العلم والتكنولوجيا، وهم مؤهلون الآن لما يسميه اليهود بمرحلة (ما بعد
العصر) وهي مرحلة تطهر الإسلام من شرور السيطرة الغربية وعادات الاستهلاك
الترفي، والعودة بالأخلاق إلى أحضان الإسلام. سيمكن هذا التعليم الشباب من فهم
فكر سيد قطب الذي يحتاج إلى درجة عالية من التجريد، كما حدث ويحدث مع
رسائل حسن البنا. وتساهم شرائط الفيديو والكاسيت بدور ملحوظ في هذا المجال.
ارتفاع المستوى التعليمي بين الرجال وانتشار أفكار الإسلام الصحيح ساعدهم
على معارضة انغماس نسائهم في مظاهر السلوك الديني الخاطئ، والمشاركة في
حفلات الزار. وامتد الأمر إلى مطالبة النساء بتخصيص أماكن لهن في المساجد
للصلاة وللاستماع إلى الدروس الدينية. لقد حدث ذلك في القرى كما حدث في
المدن. حتى المناطق البدوية في مصر اتجهت إلى الإسلام الصحيح فبنت المساجد
واستعانت بأئمة لها من الحضر.
إن لإذاعة القرآن الكريم والبرامج الدينية في التلفزيون المصري شعبية كبيرة
بين الفلاحين. لكن هذه الشعبية لا تقلق اليهود فهي شعبية ناتجة عن إشباع لحاجة
(عاطفية) وليست (أيديولوجية) 0 الذي يزعجهم هو أن يبدأ الفلاحون في فهم معاني
الآيات التي يستمعون إليها فهماً صحيحاً. هنا سيتجاوز الاستماع حد النشوة والتأثر
الروحي بصوت المقرئ إلى حد التفكر والعمل بها، وهذا ما يحسب له اليهود ألف
حساب.
القاهرة بالنسبة للباحثين اليهود هي المنطقة الوحيدة للأنشطة التي تمثل خطراً
حقيقياً على الحكومة وعلى اليهود معاً. القاهرة (إحصائياً) هي المستقبل البشري
الأعظم للحركات الأصولية. (تاريخياً) انتقل حسن البنا من الإسماعيلية إلى القاهرة
في عام 1932م. وكسب حافظ سلامة شهرته بجد أن رحل إليها من السويس.
تتفاوت أحياء القاهرة في خطورتها. يصعب على الجماعات الإسلامية - كما
يرى الباحثون اليهود - أن تنشر أفكارها في أحياء الجمالية والدرب الأحمر
والحسينية، فهذه الأحياء تقليدية نسبياً، وتحتوي على أضرحة وقبور كثيرة، لكن
هذه الجماعات يمكن أن تجد لها أتباعاً في أحياء ما يسميه اليهود - بحزام الفقر
القاهري - قد تجد هذه الجماعات صعوبة في التغلغل إلى الأحياء المركزية الوسطى
بالقاهرة، كما قد يصعب عليها نشر أفكارها بين أفراد الطبقات العليا - الوسطى،
كما حدث لجمعية الشبان المسلمين التي خسف دورها بسبب مخاطبتها لجماعة عالية
المستوى اجتماعياً وسياسياً وتعليمياً. لكن القادة الدينيين قد ينجحون في ممارسة
دور أكبر في التأثير على أفراد الطبقة الدنيا الوسطى، كما حدث مع الشيخين عبد
الحميد كشك وحافظ سلامة، وقد ينجحون أيضاً في نشر أفكارهم في أحياء منفتحة
على الفكر العصري والفكر الأصولي معاً، مثلما حصل مع الشيخ حسن البنا في
حي الحلمية الجديدة.
الحكومة نفسها - في نظر الباحثين اليهود - قد تخدم هذا الفكر (الأصولي)
عن غير قصد [*] . إنها وهي تحاول استخدام الإسلام لصالحها تغذي السلوك
الأصولي والتمسك بالإسلام بين أفراد الطبقات الدنيا من السكان، كما حدث إبان
فترة حكم السادات، حيث ركزت الحكومة على المظاهر الخارجية للشعائر
الإسلامية، وحينما استعانت بعض الأحزاب السياسية ببعض المشايخ للمشاركة في
برامجها السياسية التي بدأتها بتلاوة القرآن الكريم، وقدمت تقاويم الصوم في شهر
رمضان كهدايا.
لا زالت تجربة الإخوان وغيرهم من الإسلاميين في تقديم البرامج الثقافية
الفصول المسائية لمساعدة الناس على فهم أمور دينهم عالقة في أذهان اليهود، لذلك
فإنهم يحذرون من هذه الجمعيات التي تعطي دروساً في القرآن والدين في الأحياء
المختلفة. إنها ستجذب بلا شك أعداداً من المهاجرين من الريف، وكذلك الجمعيات
الخيرية والمساجد كلها مراكز تجنيد جاهزة يمكن أن تستغلها الجماعات الإسلامية.
أما كيف يستقبل القرويون المهاجرون إلى المدن الأفكار (الأصولية) والأفكار
(القرآنية) بالذات فهي منطقة لا تزال تحت أعين الباحثين اليهود، كما أن أعينهم
تركز عليهم وتراقبهم في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن. هل سيسلكون
الطريق إلى الإسلام الصحيح أم سيحافظون على عاداتهم التي قدموا بها من الريف؟
ما عرضناه هو جانب من جوانب اهتمامات الباحثين اليهود. كتبوه ونشروه
دون أدنى اعتبار لإمكانية استفادتنا منه لأنهم واثقون من مقالة (موشي دايان) :
«إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون» .
__________
(*) يلتقي تحليل اليهود هنا مع تحليل كثير من العلمانيين وفلول الشيوعيين الذين خفتت أصواتهم، ويعاد النفخ فيها من جديد لموازنة ثقل الإسلاميين - البيان -.
(1) انظر: Uri Kupferschmidt, Reformist and Militant Islam in Rural and Urban Egypt, Middle Eastern Studies, Vol: 23, 4, Oct 1987 pp 403-418 بالرغم من أن هذه الدراسة ظهرت كاملة في عام 1987 فإن مسودتها قد قدمت إلى حلقة (دراسة الإسلام بين الريف والحضر في منطقة غرب أفريقيا) التي عقدتها الجامعة العبرية بالقدس في يونيو 1983.
(2) يقول إيمانويل سيفان) عضو معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، وأستاذ للتاريخ الأوربي الحديث وتاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية بالقدس، ورئيس تحرير مجلة (جيروزاليم كوارترلي) : ربما كانت قصة جريدة اللواء الإسلامي من أعظم قصص النجاح العربي الملحوظ في الأعوام الأخيرة ظهرت الجريدة في عام 1981 كملحق ديني لجريدة الحزب الحاكم (مايو) وتحولت في عام 1982 إلى جريدة أسبوعية مستقلة تصدرها مطابع الحزب الحاكم إن العالم الذي تتعامل معه الجريدة هو عالم الأشباح والموتى والجن الضار وغير الضار عالم مليء بغواية الشيطان وأتباعه وعلى المؤمن أن يتجه إلى أحد الرجال المقدسين أو إلى المعجزات إذا دعت الحاجة عالم يتصل فيه المؤمن بالموتى وخاصة من الأقارب يومياً الموت والآخرة والخطيئة التي يستحق عليها العقاب مظاهر دائمة الحضور في الجريدة، إنه عالم القرون الوسطى إن نوع التدين الذي تقدمه الجريدة لا ينفصل عن النوع الذي يقدمه المسلمون والعصريون الذين يعطون تفسيرات نفسية للأرواح الشريرة والشيطان ويعطون المعجزات أهمية رمزية انظر: Emmanuel Sivan, The Two Faces of Fundamentalism, The Jerusalem Q , 27 , Spring, 1983 , pp 127-144.(57/47)
شعر
البشناق.. والنظام الجديد! !
د. محمد بن ظافر الشهري
سمعت من مصادرٍ قريبةْ ...
وثيقة الصلهْ ...
" صدىً " لما يقال من بعيد ...
بأنَّ حلِ كل معضلهْ ...
نظام عالَمٍ جديد ...
* * *
أَمِرِكَا.. وهيئةُ الأممْ ...
كلاهما لغةْ ...
طالبتا بعودة السلام! ...
أيدتا حرية البشرْ! ...
نددتا بالقهر للشعوبْ! ...
وفكرة السادة والعبيدْ ...
قررتا أن يحكم " النُّظُمْ " ...
نظامُ عالَمٍ جديدْ ...
* **
وأعلنت أّمِرِكا ...
في ثوبها الجديدْ ...
بأنها قد كفرت ...
بالنار والحديد! ...
وأنها قد فتحت ...
فؤادَها الكبيرْ! ...
وأنها قد سَخّرتْ ...
ذراعها " القصيرْ "! ...
لنصرة الضعيفْ ...
ونجدة الفقيرْ ...
وقد أشيع أنها ...
تريد أن تتوبْ ...
من كل ما جنتهُ ...
من " صغائر " الذنوبْ ...
فما جرى لدولة اليابانِ ...
من قديمْ ...
وما جرى لكوريا ...
وحرب فِيتِنَامْ ...
وكل من أُذِلَّ ...
بل وكل من أُبيدْ ...
فذاك ذنب واحدٌ ...
يمحوه أو يزيدْ ...
نظام عالمٍ جديدْ ...
* * *
وأنكرت أَمِرِكا جريمةَ العراقْ ...
في غزوه الكويتْ ...
وأجلبت بالغيدِ والرجالْ ...
فعادت الكويتْ ...
وبدأت كارثة البشناقْ ...
فانتظر الَعَربْ ...
فخامة " اللورنسِ " أن يجيبْ ...
وعندما تأخر الجوابْ ...
وطفقت تُقَطَّعُ الرقابْ ...
وأُتْخِمَ النسور والكلابْ ...
تكرر النداءْ ...
فقرر " اللورنسُ " أن يجيب ...
واستنكر التمثيل بالقتيل ...
وطلب " الأمانْ " ...
كي يرسل " الفستق والحليبْ " ...
فصفق الجميعْ ...
وأعلنوا التأييدْ ...
لكل ما يقرهُ ...
نظام عالَمٍ جديدْ ...
* * *
وصرحت أَمِرِكا ...
سادنة الصليبْ ...
بأنها قد سئمت ...
من خوضها الحروب ...
فمحنة البشناق لا تقاس بالكويتْ ...
فلم تكن دماؤهمْ ...
مَشُوبَةً بزيتْ ...
ولم تكن بلادهم ...
واضحة الحدودْ ...
ولم يُصَبْ " شيوخهم " ...
فالقتل للشبابْ ...
والحل أن يستبدل " السلام بالتراب " ...
وخير ما يدعم هذا الطلبَ السديدْ ...
نظام عالم جديد ...
* * *
أيتها المصادر " القريبةْ " ...
أما ترين الفجرَ من بعيدْ: ...
" والمارد " القديم قد أفاقْ ...
من نومه الطويلْ ...
ولن يفيد " القمعُ والوفاق " ...
فعزمه أكيدْ ...
يريد أن يُحَكِّم الكتابْ ...
وينشرَ السنةَ والحجابْ ...
ولن يحول بينهْ ...
وبين ما يريد ...
نظام عالَمٍ جديدْ. ...(57/57)
المسلمون والعالم
المسلمون في رومانيا
محمد عبد الغفور
رومانيا إحدى دول أوربا الشرقية وتقع في شمال شبه جزيرة البلقان، ويحدها
الاتحاد السوفييتي (سابقاً) من الشمال وبلغاريا من الجنوب، والمجر من الغرب،
ويوغسلافيا من الجنوب الغربي والبحر الأسود من الشرق.
تبلغ مساحتها (237500) كم2، ويزيد عدد سكانها على ثلاثة وعشرين
مليون نسمة. أما العاصمة فهي (بوخارست) التي يصل عدد سكانها إلى مليون
ونصف، ومن المدن الشهيرة - كلوج - قنسطانطة - براسوف. وتعتبر قنسطانطة
مركز تجمع للمسلمين على البحر الأسود.
تقدر المصادر الرسمية عدد المسلمين بمائة ألف نسمة لكن عددهم أكبر من
هذا. والمسلمون ينحدرون من قوميتين رئيستين هما: التتر والأتراك إضافة إلى
أقلية من الرومان.
تاريخ الإسلام في رومانيا:
دخل الإسلام رومانيا بواسطة أفواج من الدعاة الأتراك التي كانت تجوب
سواحل البحر الأسود، وبقيت الدعوة قائمة على جهود هؤلاء قرنين من الزمن،
حتى فتح العثمانيون هذه البلاد على مراحل منذ عام (814 هـ - 1411م) وحتى
(819 هـ -1416م) وأمام تساهل المسلمين مع سكان البلاد فقد فضلوهم على
تعصب النصارى المتمثل في أسرة - بسبورج - وقد شهد بهذا الأمر (بطريق
أنطاكية) وهو يصف الفظائع التي أوقعها سكان بولندا من النصارى الكاثوليك
بالنصارى الأرثوذكس. حيث يقول: «إن ضحايا هذه الأحداث كانوا ثمانين ألفاً،
وختم شهادته بقوله:» أدام الله بقاء دولة الترك، فهم يأخذون الجزية التي فرضوها
ولا شأن لهم بالأديان «.
ولقد أثمرت دعوة التسامح الديني هذه ودفعت بالكثير من سكان رومانيا إلى
الدخول في الإسلام، وخاصة في المنطقة الشرقية التي حافظت على إسلامها بالرغم
من كل الاضطهاد الذي وقع للمسلمين بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين
أمام القوى المحلية في المنطقة. والتي اضطرت آلاف المسلمين الرومان إلى
الهجرة والفرار إلى تركيا هرباً من الاضطهاد حيث كان عددهم مليوناً ونصفاً
وتراجع إلى مائتين وعشرين ألف عام 1927، ثم واصل المؤشر السكاني التراجع
بعد سيطرة الشيوعيين على الحكم.
المساجد في رومانيا:
يبلغ عدد المساجد الأصلية في رومانيا 62 مسجداً حول الشيوعيون أعداداً
كبيرة منها إلى مستودعات أو قاعات رقص وملاه أو فلل للسكن أو زرائب. وقد
شاهدت بأم عيني - أثناء استطلاعي في مدينة قنسطانطة - مسجداً حولوه إلى ملهى. ومنارته ما زالت موجودة إلا جزأها العلوي والمحراب لا زال كما هو، وقد
التقطنا له بعض الصور. وقد شاهدنا مسجداً آخر بكامل هيئته قد حوّل إلى فيلا
سكنية للإيجار حيث إن المنطقة سياحية على شاطئ البحر.
ولم يبق من المساجد إلا 38 مسجداً موزعة على مدينة (المجيدية، قنسطانطة، كوستانجا، منفاليا، تولسيه، بخارست، باباراغ) ، وأغلب المساجد مغلقة
الأبواب لعدم وجود أئمة متفرغين ولتدني رواتبهم. ولعدم توفر الدعاة المخلصين
الذين يتولون إحياء هذه المساجد وإعادتها إلى ما كانت عليه، ولا نقلل هنا من تأثير
الجانب المادي في هذا المضمار من ناحية الصيانة ومن ناحية تفرغ الدعاة
والمدرسين.
المدرسة المجيدية:
يعتبر جميع الأئمة وأصحاب العلم الشرعي في رومانيا من خريجي المدرسة
المجيدية المشهورة التي أغلقت أبوابها منذ عشرين عاماً عندما حولها الطاغية
شاوشيسكو إلى جمعية تعاونية زراعية، وقد عادت المدرسة إلى المسلمين أطلالاً
بعد هلاكه أخيراً، وتنتظر من المسلمين الغيورين وأصحاب النخوة من أغنيائهم أن
يمدواً يد العون من أجل إعادة المدرسة لتكون منارة علم لمسلمي رومانيا الذين
يعقدون عليها الآمال العريضة. مع العلم بأن المدرسة كانت إحدى ثلاث مدراس
شهيرة في أوربا الشرقية. الأولى مدرسة الغازي خسروبيك في سراييفو، والثانية
مدرسة ذا النواب في (شومن) ، والثالثة المدرسة المجيدية هذه. وتقع في مدينة
المجيدية على الطريق الرئيسي الذي يربط بوخارست بالبحر الأسود - قنسطانطة.
الدين المعاملة:
كان المسلمون مضرب المثل في الصدق والأمانة بتعاملهم مع الآخرين،
وكان الرومان يضربون بهم المثل فيقولون (صادق كالمسلمين) هذا ما قاله المفتي محمد يعقوب والداعية الروماني (سليم صباح الدين) .
أما اليوم وللأسف الشديد فيوجد أكثر من خمسة آلاف طالب عربي في
جامعات رومانيا ومعظمهم ينسى دينه وإسلامه ويذوب في المجتمع الكافر، ويعطي
صورة سيئة غير مشرفة، عن دينه وعقيدته وبلاده.
ماذا يطلب المسلمون هناك من إخوانهم:
ويطالب هؤلاء الإخوة بمراكز إسلامية ترعى شؤونهم وتسعى لتأصيل الإسلام
في نفوسهم. ويطالب الأخ سليم صباح الدين لمسلمي رومانيا بدعم مادي لترميم
وبناء المساجد والمدارس وبإرسال مدرسين ودعاة وبإيجاد منح دراسية لأبنائهم في
بلاد المسلمين. كما يحتاجون إلى مصاحف وكتب مترجمة وأشرطة وغيرها تساعد
على فهم العقيدة بمفهومها الصحيح.
وللأسف الشديد فإنه بعد انحسار الشيوعية يتطلع الناس جميعاً في أوربا
الشرقية لدراسة الأديان عامة. ولذلك فقد استغلت الكنيسة هذه الفرصة الذهبية
ووزعت خمسين مليون نسخة من الإنجيل في أوربا الشرقية وبلغاتهم المحلية، بينما
يعجز المسلمون في كثير من البلدان عن طباعة القرآن الكريم، ناهيك عن ترجمته.
والحزب الشيوعي كان قد قام بإبادة أي صلات ثقافية بين المسلمين الرومان
وبين الإسلام. ولم يبق هناك أي نشرة أو كتاب باللغة الرومانية أو التركية تتحدث
عن الإسلام.
وقد لاحظت وجود دعاة إيرانيين نشطين وأغلبهم طبعاً من الطلاب ومنظمين
بشكل ملفت للنظر، وعندهم إمكانات كبيرة، ويحاولون التأثير على الطلاب العرب
بنشر مذهبهم بينهم، مع العلم أنهم في البداية يبتعدون قدر الإمكان عن إثارة
الخلافات بين مذهب السنة والشيعة ليتمكنوا من البعض بحسن المعاملة ثم يكشفون
عن أنفسهم وحقيقة تعصبهم وعدائهم لكل ما هو غير شيعي.
دور الدعاة:
ولا نغفل في هذا المضمار دور الدعاة المخلصين في نشر الإسلام. حيث
يحكي لنا التاريخ عن داعية اسمه:» سامي سالينك «أول داعية مسلم تركي أدخل
الإسلام إلى رومانيا قبل دخول العثمانيين بقرنين من الزمن.(57/65)
ما هذا العداء للإسلام
في تونس؟ !
مؤمن الشاهد
توقع بعض المسلمين أن يكون العهد الجديد في تونس أفضل من العهد
البورقيبي. لقد كان الحبيب بورقيبة واضحاً في حربه للإسلام، وكان لا يتورع في
معظم أحاديثه وخطبه أن يصف الإسلام بالتخلف والجمود، وأن يسيء إلى الشعائر
الإسلامية، ويحرض الناس على عدم الصيام حتى يتمكنوا من (العمل) وحتى تتقدم
تونس! .
وفعلاً.. تقدمت تونس في عهد الحبيب كثيراً.. لكن إلى الخلف! لقد نجحت
في صناعة أفخر أنواع (الزلابيا) وأشهى أنواع (الكسكسي) وأجمل أماكن الترويح
السياحي الحلال.. وغير الحلال! !
وعندما جاء العهد الجديد على أنقاض العهد البورقيبي ظن الناس أن موقفه من
الإسلام قد تغير، وقد قدم بعض التنازلات التي يعلم أنها تهدهد المشاعر الإسلامية..
فبينما كان المخطط البورقيبي الموجه مباشرة من حصون العلمنة الكنسية
الفرنسية يتجه إلى تهميش جامعة الزيتونة وتحويلها إلى كلية هزيلة، ومراقبة كل
أجهزتها مراقبة دقيقة لضمان عدم الحركة في الاتجاه الإسلامي الموضوعي الإيجابي.. جاء النظام الجديد يلعب على هذا الوتر، فيتظاهر بإعادة مجد الزيتونة ويسمح
لها ببعض الانتعاش، ويأمر رجاله في الإعلام بالتركيز على هذه المنحة الكريمة!! كما يسمح النظام بإذاعة الأذان في التلفزيون عند كل صلاة.. وإذاعة بعض
الآيات القرآنية الكريمة! !
ومضت شهور التخدير.. وبدأت الحقائق تتكشف ...
إن النظام يمنح المسلمين هدايا شكلية، لكنه يمضي في مخطط هائل يعتمد
على القوة والسرعة والذكاء والصمت للقضاء على كل المضامين الإسلامية الحقيقية..
لقد أفرج عن المسلمين المحكوم عليهم، ليصادر كل حقوقهم في الحياة في
ظلال دينهم.. لقد أعطاهم الدنيا ليعطوه الدين، فلما تبين له أن الناس لا يقبلون
هذه الصفقة الخاسرة، صادر - فوراً - كل حقوقهم في الحركة والعمل والحوار،
مستخدماً شعارات كاذبة يرفضها أنصاف المثقفين، فضلاً عن روح العصر
الديمقراطية.. وقد باءت كل محاولات الإسلاميين للحوار مع النظام بالفشل؛ لأن
النظام كان يريد موقفاً واحداً محدداً، وهو ترك الهوية الإسلامية، وعدم الإلحاح
على التعليم العربي أو التربية الإسلامية.
إن الصفقة التي كانت قد أبرمت مع العهد الجديد فيما يبدو كانت صارمة من
هذا الجانب، وهي لم تسمح بأية ثغرات ينفذ منها العمل الإسلامي، ومن هنا روَّج
النظام لشعار (تجفيف المنابع الإسلامية) أي استئصال كل فكر يحقق الانتماء
الإسلامي.. أو يحافظ على الهوية الإسلامية أو الشعور الإسلامي الحيّ الدافق! !
وفي مقالة الأهرام القاهرية الصادرة بتاريخ 5/8/1992 يتحدث «غالي
شكري» عن مذبحة الكتاب العربي في معرض الكتاب بتونس [وغالي شكري -
بالمناسبة - كاتب لا يمكن وصفه بالتحيز للإسلام أو الدفاع عن قضاياه أو التطرف
له] [1] فيأسف «شكري» لأن السلطات التونسية رفضت أن يعرض في معرض
الكتاب العربي الذي عقد بتونس أي كتاب إسلامي سواء كان الكتاب للشهيد «سيد
قطب» أو للشيخ «محمد الغزالي» أو للشيخ «محمد متولي الشعراوي» على
اختلاف مستويات التعبير عند هؤلاء! !
بل إن هذه السلطات قد ارتكبت جريمة كبرى في حق العروبة والإسلام
وحرية الفكر، حين منعت الإنتاج العلمي لمؤلفين إسلاميين وعرب بالجملة.. فليس
الأمر مصادرة لفكر معين، ولا لكتاب واحد، بل هو مصادرة للفكر الإسلامي
بالجملة.
وما يقوله «غالي شكري» صحيح، لكن «غالي شكري» لم يتطرق
لتفسير ذلك، واكتفى بالأسف من هذا الأسلوب المتخلف المناهض للفكرة القومية
القائمة على تواصل الفكر.. والحقيقة أن النظام التونسي الحاكم لا يؤمن بتواصل
الفكر لا على أساس العروبة.. ولا على أساس الإسلام، بل يؤمن به على أساس
فكر آخر لا يمت للإسلام ولا للعروبة بصلة، وهذا ما تؤكده مسيرة هذا النظام منذ
ثبتت قواعده، وعبر حواجز البورقيبية، وضمن السيطرة على الأمور.. ونزيد
الأمر إيضاحاً في السطور التالية..
لئن كان النظام قد أعطى الشعب التونسي المسلم بعض المظاهر الشكلية
الإسلامية التي داعبت وجدانه وألهبت خياله بآمال عريضة، بعد أن عاش أكثر من
ثلاثة عقود تحت القهر البورقيبي العلماني: فإنه - في مجال الفعالية الحقيقية - قد
أعطى الشيوعيين والعلمانيين والمتفرنسين المواقع التربوية والإعلامية والحزبية..
فالأستاذ محمد الشرفي (أحد كبار الماركسيين) عين كاتباً للدولة لشئون التربية
(وزير التربية) وهو منذ احتل موقعه الوزاري يمشي بخطوات سريعة وقوية في
سبيل علمنة المناهج وإزالة أية بصمات عربية أو إسلامية منها [2] ، وقد جعل
المادة الدينية هامشية للغاية، وكيفّت المادة لتصبح معبرة عن الفكر اليساري التقدمي، مثلما كانت المادة تكيف في البلاد الشيوعية أيام سيطرة الفكر الشيوعي.
كما شكل الوزير لجاناً تعمل بتوجيهه المباشر لتنقية كتب الأدب والمطالعة
والإنشاء والنحو والتاريخ والجغرافيا من التأثيرات الإسلامية. والأستاذ (محمد
الشرفي) [وزير التربية] عرف بتطرفه الشيوعي منذ العهد البورقيبي، وقد سجنه
الرئيس (بورقيبة) لفترات طويلة، ومن الغريب أنه في عهد الزوال العالمي
للشيوعية يقع عليه الاختيار من قبل النظام التونسي ليصبح وزيراً لأخطر وزارة
(وهي وزارة التربية) في بلد حاول نظامه أن يتظاهر بالإسلام لعدد من الشهور! !
والملاحظ أن العهد الجديد (عهد الرئيس بن علي) يستعين بالشيوعيين في
مواقع كثيرة، على أساس أنهم الأنكى والأقدر على استئصال البصمات الإسلامية،
وأيضاً لكي يثير الإسلاميين ويغيظهم، فيندفع بعض الأحداث ممن لا يعرفون
الخطة التي يهدف إليها النظام، فيقعون في بعض الأخطاء، فيعطون الحكم الفرصة
الذهبية للإجهاز عليهم! ! ومع ذلك فالنظام قد لا يحتاج كثيراً لهذه الأخطاء، فقد
تعلم من بعض النظم المتخصصة في حرب الإسلام وسائل تلفيق التهم، والاعتماد
على هذا التلفيق لضرب الجميع وتشويه الإسلام، وتحريض الغوغاء ضد
الجماعات الإسلامية المسكينة!
وبما أن النظام التونسي يتعرض لضغوط علمانية كثيرة ذات صلة قوية به،
فإنه لم يتحمل الصبر كثيراً على تمثيله (إنقاذ الزيتونة) وإعادة غابر مجدها، حتى
تصبح - كما كانت - صنْو الأزهر أو قريبة منه.. ولهذا لم يلبث أن انقلب على
الزيتونة فشلَّ حركتها، ولم يمنحها - من الناحية العملية - إلا الوعود المعسولة..
وفي ضوء هذا فإن مديريْ الزيتونة اللذين تناوبا عليها وهما «الدكتور التهامي
نجرة» و «الدكتور أبو لبابة حسين» لم يستطيعا أن يفعلا شيئاً يذكر، بل أقيل
الأخير إقالة غير كريمة، مع أنه كان حريصاً على دفع عجلة الإصلاح بهدوء
ورفق! !
وقد أصبحت الزيتونة الآن تحت التوجيه المباشر لرجل الدولة القوي الدكتور
علي الشابي (كاتب الدولة للشئون الدينية) الذي يشبه - تماماً - وزير الأوقاف
المصري الدكتور محمد علي محجوب (إنه وزير التطرف وكفى) !!
وقد مكن الدكتور الشابي لابن أخته (أنس الشابي) الذي تخرج على يديه في
فرع الشريعة بالزيتونة، مع أنه يناوئ الشريعة ويصفها بنعوت لا تليق، وهو
يتحرك في الزيتونة على أساس صلته بخاله (علي الشابي) ، ويفعل ما يشاء! !
وقد صدر توجيه بتقليص عدد الطلاب الملتحقين بجامعة الزيتونة، وفي العام
1991م لم يدخل الجامعة أكثر من (220 طالباً) موزعين على الكليات الإسلامية
الثلاث: الشريعة وأصول الدين واللغة العربية والعلوم الإنسانية، وقد عطل مسار
الرسائل الجامعية للماجستير (دكتوراه الدرجة الثالثة) والدكتوراه (دكتوراه الدولة)
فأرغم الطلاب الممتازون والأساتذة الأكفاء في الزيتونة للبحث عن العلم في معاهد
وكليات باريس، وكان هذا هو المقصود، كما هاجر بعضهم للعمل في الجزائر
والسعودية وغيرهما، وقد ضيق على الأساتذة الأكفاء المعتدلين وأقصوا عن
المجالس العلمية (المنتخبة) ووضع بدلاً منهم بالتعيين الجبري بعض تلامذتهم
ومساعديهم من الرتب الإدارية السفلى! !
ولم يكن هذا كل ما أصاب الزيتونة في العهد الجديد الذي كان يعتبر اهتمامه
بالزيتونة مفخرته التي يدل بها على الشعب التونسي المقهور؛ بل تمادى النظام في
غيِّه، فقد قام بإضعاف البرامج وتهميش الجوانب الأصيلة فيها، وتمييع حقائقها
الإسلامية لتواكب الفكر العلماني المهيمن، وقد وكل إلى تلامذة الدكتور (علي
الشابي) مسئولية وضع برامج من وجهة نظر أحادية، وكان له شخصياً الكلمة
الأولى والأخيرة في هذه البرامج.
وليضمن الدكتور الشابي (وهو كاتب الدولة للشئون الدينية ولا علاقة له عملياً
بجامعة الزيتونة) تنفيذ سياسة الدولة التي فوض في فرضها على الزيتونة، فإنه
وضع تلامذته وأصدقاءه على رأس الكليات الزيتونية الثلاث، فعلى رأس الشريعة: (حمودة السَّعفي) وعلى رأس أصول الدين (جلول الجريبي) وعلى رأس العلوم
العربية والاجتماعية (محسن العابد) .. أما رئيس الجامعة بعد إقالة الدكتور أبو لبابة
حسين (بطريقة غير كريمة) ، فكانت من نصيب تلميذ الشابي (عبد المجيد بن
حمدة) ... ! !
وهكذا عادت الزيتونة سيرتها الأولى في العهد البورقيبي، لينشغل أساتذتها
وطلابها المساكين بصراعات القوى المتطاحنة، وليخاف الجميع من الجميع،
وتنكسر نفوس الجميع، وينكمش الجميع منتظرين الفرج القريب! !
ومن الغرائب أن جامعة الزيتونة (الإسلامية) يفرض فيها الاختلاط، ويروج
للعري الفاضح بين الطالبات والموظفات، وتمنع فيها الصلوات الجماعية، وأصبح
مسجدها خالياً من المصلين.. وقد برمجت الدراسة في الزيتونة بطريقة غريبة تدل
على المؤامرة الماكرة، فالدراسة لا تزيد عن أربع ساعات فقط، [بالضبط لا تزيد
الدراسة عن مائتين وأربعين دقيقة من الساعة الثامنة حتى الساعة الثانية عشرة] ،
وبعد ذلك ينصرف الجميع حتى لا يجتمعوا لا في صلاة، ولا يألفوا الصلاة جماعة، ولا يظهروا الزيتونة بمظهر إسلامي نشاز عن السمفونية العلمانية العامة
المفروضة على كل معاهد التعليم ومدارسه في تونس المسكينة (الأندلس الجديدة) ! !
نعم: هذه الجامعة الإسلامية العريقة لا يسمح بطلب العلم فيها إلا أربع
ساعات فقط في اليوم! ! ثم تغلق أبوابها لتبقى أفريقيا شمالاً وشرقاً ووسطاً وجنوباً
مهيأة لمدارس التنصير وكليات التنصير! !
والحذار الحذار من أي معروف أو نهي عن منكر في الزيتونة فإن رجال
البوليس السري مندسّون في كل مكان يحافظون على الفساد، ويعتقلون كل من
تسول له نفسه (التطرف) بمقاومة المنكر حتى ولو بالكلمة الهادئة الحكيمة! وحتى
ولو في داخل واحدة من أقدم الجامعات الإسلامية الثلاث العريقة في العالم الإسلامي!
والويل لمن يشتبه في تعاطفه مع الإسلام من الأساتذة في الزيتونة أو في أي
جامعة تونسية.. إنه ينحى عن كل اللجان وعن الخطط والمسئوليات، وعن
التكليف بمهمات، ويوضع تحت الرقابة المباشرة وغير المباشرة!
فإذا تركنا الزيتونة وحالها المبكي وانتقلنا إلى الحياة الاجتماعية وجدنا فرض
التفسّخ والعري، والزنا والسماح (الرسمي) بالمواخير التي تشرف عليها وزارات
السياحة والصحة.. وقد أصبح ممنوعاً رسمياً توظيف المحجبة، وقد وضع رجال
الفكر الحرّ والمتدينون تحت أجهزة الرصد والتنصت، وأصبحوا يعيشون في خوف
من الملاحقة والتهديد بالطرد والإيقاف. وقد نجح الشيوعيون الذين قربهم النظام
ليضرب بهم الصحوة الإسلامية- - في الإيقاع بين النظام والشعب، فبعد أن كان
النظام يحظى بعطفٍ شديد بعد طرده لعدو الإسلام الحبيب بورقيبة - أصبح الآن
بعيداً عن كل صور الحب والعطف، وأصبح الناس يعيشون معه مثلما يعيشون
تحت قبضة أي نظام قمعي شمولي يكره الإسلام ويتذرع بكل الوسائل والمغالطات
من أجل تشويهه ومنع الناس من الحياة في ظلاله! !
إن الشعب يقرأ الصحفة فلا يجد فيها أثراً للإيمان، بل كل من فيها هم من
الشيوعيين واليساريين والعلمانيين من أمثال زكريا كريشان، ومحمد الطرودي،
وأنس الشابي، ومنظر الرويثي (وزير الثقافة المعزول) وحمد النيفر صاحب مجلة
(15/ 21) الأسبوعية اليسارية.
ولا توجد مجلة إسلامية في تونس إلا مجلة دار الإفتاء الدورية التي تقدم
بحوثاً أكاديمية ميّتة أو ردوداً على استفتاءات ولا علاقة لها بمأساة الشعب التونسي
المسلم، ولا بالمؤامرة التي تمضي في صمت لاستئصال الإسلام والعروبة في
تونس، ويساعد على نجاحها كتابة الدولة للشئون الدينية، وبعض رجال الزيتونة!!.
أما كتابة الدولة للعدل فهي مستعدة للوقوف ضد كل بادرة إسلام، وضمان
الحكم بأسوأ الأحكام، والمساعدة على تلفيق التهم وإحضار شهود الزور.. وعلى
رأسها رجل ذو تاريخ مشبوه معروف، وسمعته الوظيفية والأخلاقية ملوثة.
بقي أن نذكر أن مفهوم (التطرف) يختلف في تونس عن مفهومه في مصر أو
الجزائر أو في أي بلد عربي أو إسلامي، ولا حتى أمريكي أو أوربي.
إن مقاومة التطرف تعني عند هؤلاء جميعاً: الوقوف ضد الإسلام الحضاري
والسياسي، وحصار الإسلام في نطاق العقيدة والعبادات من صلاة وصيام رمضان
وأداء الزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ...
فلا مانع لدى أمريكا وأوربا من الصلاة والصيام والحج، وكذلك لدى كل
النظم العلمانية الموجودة.. ويأتي (التطرف) عندما يحاول المسلمون إصلاح الدنيا
بالدين، أو الحكم على الدولة وقياس أعمالها بمبادئ الإسلام.
لكن التطرف في (تونس) مختلف تماماً عن (التطرف) عند كل هؤلاء.. إنه
تطرف تقدم خطوة كبيرة، فحصر الإسلام في دائرة العقيدة القلبية، وضم العبادات
إلى قائمة (التطرف) .. وعلى ضوء هذا فإن كل من يصلي، ولا سيما إذا كان
شاباً أو شابة أو مسئولاً أو موظفاً أو رجل شرطة أو جيش هو (متطرف) ويجب
تنحيته.. وقد يُتجوّز مع صلاة الجمعة لصعوبة حصار الناس ومراقبتهم فيها، أما
في غيرها من الصلوات فإن أداءها في المساجد (وحتى لو اكتشفت في البيوت)
يعتبر تطرفاً.. ولهذا لا تفتح المساجد إلا في أضيق الحدود! وكذلك لا يسمح
بدروس، ولا يوجد مساجد في المؤسسات حتى مسجد دار الإفتاء تم إغلاقه! ومن
باب أولى لا توجد مساجد في الجامعات ولا الكليات.. وقد وقع الرجوع إلى قانون
(108) الذي يمنع الفتيات من الحجاب في المدارس الإعدادية والثانوية والكليات..
لأن الحجاب - كذلك - مظهر من مظاهر التطرف! !
أما العري والاختلاط والخمور التي تباع في أصغر الحوانيت، وصور التبذُّل
الرسمي الحرام تحت بند السياحة والترويح، فهي اعتدال وتقدمية. ومصدر خير
للبلاد والعباد! .
أيها المسلمون.. في أنحاء الكرة الأرضية: في تونس القيروان في تونس
عقبة وحسان.. هناك بوسنة وهرسك أخرى يذبح فيها الإسلام والمسلمون بطريقة
صامتة، وقد تولولون عليها يوماً وتبكون دماً وتحتجون بجهلكم وغفلتكم.. ألا هل
بلغت ... اللهم فاشهد.
__________
(1) غالى شكري قبطي، ومن تلاميذ لويس عوض، يحمل قلم الدفاع عن الأقباط واتجاهات اليسار
-البيان -.
(2) الشيوعيون في بلادنا أبداً عملاء لكل معاد للإسلام يستخدمهم لموازنة ما هو شائع، من مبدأ: لا يفل الحديد إلا الحديد.(57/70)
مقتل الدكتور علي مظفريان
مبارك المبارك
قتل قبل مدة وجيزة الداعية الفاضل الدكتور علي مظفريان وهو من أبناء
الشيعة في شيراز، ومن الذين هداهم الله إلى الحق وترك الابتداع، فبعد أن منّ الله
عليه بالهداية قام داعية إلى مذهب أهل السنة في بلده - شيراز - وذلك أيام دراسته
في الجامعة.
وكان حجر عثرة أمام الجامعة وقيادات الرافضة في ذلك البلد، وقد هدى الله
على يديه خلقاً من الناس، والتف حوله أهل السنة في بلده، وأصبح موجهاً لهم
وداعماً، وثبت وصبر رغم المضايقات الشديدة التي تعرض لها بسبب جهره
بالدعوة إلى الحق في وسط أهل البدعة والرفض، مما حدا بالسلطات أخيراً إلى
اعتقاله قبل أشهر ثم إعدامه أخيراً بعد إلصاق التهم به ومنها الوهابية والجاسوسية
وغيرها.
وقد حاولت السلطات إرغامه كي يخط بيده اعتذاراً أو تراجعاً، لكنه أبى وقد
زورت السلطات شريطاً -يتضمن اعترافات مزعومة (لشخص آخر قام بتمثيل
دوره) لكن الأمر انكشف للناس.
ويعتبر الدكتور علي ثالث ثلاثة من قيادات أهل السنة الذين أعدموا مؤخراً
وهم: ناصر سبحاني (من كردستان) ، والثاني قدرة الله جعفري الخراساني.(57/79)
مقال
الانتخابات الأمريكية:
المطلوب استعمار استثماري
د. عبد الله عمر سلطان
«تعيش أمريكا حالة إجهاد شامل مصحوب بكثير من القلق والتوتر؛
وتتساءل عن المستقبل الذي يبدو ملبداً بالتحديات والمخاطر.. لقد جاء ريغان إلى
سدة الرئاسة وهو يمثل الأمل بالنسبة للناخب الأمريكي.. الأمل من حالة يأس
مشابهة عاشها الشعب الأمريكي في نهاية السبعينات، حينما بدا النظام السياسي
والرئاسي عاجزاً عن تخطي حواجز الواقع المكفهر.. لكن الفرق بين المصير القاتم
والتاريخ القريب أننا اليوم نعيش تحديات أكبر وواقعاً أكثر صعوبة وتجربة مرة كان
أكبر من صنعها فريق ريغان - بوش وتيارهم اليميني المتطرف» . هذه الشهادة
للكاتب والمفكر الأمريكي «ديولي» تلقي الضوء على الواقع الذي تواجهه الجموع
الأمريكية وهي تجتاز المرحلة الحاضرة التي ترافقها انتخابات الرئاسة لعام
1992، جزء من هذا الواقع الصعب كان نتيجة للفراغ الهائل الذي لخصه
«ليستر ثورو» بروفسور العلوم الاقتصادية في جامعة هارفارد في كتابه الجديد «
رأساً لرأس» بقوله: «عندما وقف رونالد ريغان خلال حملته الانتخابية رافعاً
شعار إنهاء الحظر السوفييتي شبهه بدب في الغابة بعض الناس يرونه شاخصاً
أمامهم، وآخرون لا يرونه لكنهم يقولون: إنه دب لطيف.. نحن نراه ونعرف أنه
دب خطر متوحش.. السؤال هو: ألا يجب أن نكون حذرين؟ .. هذه الصيحة
التحذيرية أوجدت دوياً هائلاً في ذلك الوقت لكن من يستطيع أن يحفز الأمريكي
على مواجهة مماثلة بعد موت الدب فجأة حيث غدت الغابة آمنة..!» نعم لقد
وجدت أمريكا نفسها تعيش في حالة غريبة كانت تحلم بتحقيقها وفجأة حينما تم لها
الانتصار على الخطر الشيوعي وجدت عالماً مختلفاً عن ذلك العالم الذي تمحورت
حوله السياسة الخارجية الأمريكية في الأربعين عاماً الماضية وانعكاسات ذلك على
الصعيد الداخلي..، وهكذا كان على أمريكا أن تواجه استحقاقات وثمن المواجهة
الباهظة: استنزاف هائل للثروة من أجل إقامة ترسانة عسكرية هائلة ورهيبة لم
يعرف لها الكون مثيلاً، مما أثر على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية
من جهة الإنفاق والاهتمام، وتفضيل للشركات الضخمة المتحالفة مع الحكومات
اليمينية المتعاقبة في مجال الضرائب، مما أفرز زيادة ضخمة في ثروات رجال
الأعمال الأغنياء أصلاً، وزيادة الفقر والحرمان في المجتمع الفردي التوجه إلى حد
الأنانية، وتكريس للمصطلحات والطروحات اليمينية التي جلبها الجمهوريون
كغطاء عقدي في مواجهتهم الشرسة للعصر الليبرالي الذي ساد أمريكا قبل صعودهم
للسلطة، وإدراك قوي لدى قادة الرأي والمفكرين بتقلص القدرة الأمريكية على
منافسة القوى الدولية الصاعدة كأوربا واليابان اللتين تسعيان حثيثاً إلى تقليص النفوذ
والسيطرة الأمريكتين، وتوجه متسارع من قبل اليمين الأمريكي لاقتناص الفرصة
والدخول في معارك ساحتها العالم الثالث للاستحواذ على الثروات والأسواق
وتصدير الثقافة كما تفعل الإمبراطوريات المادية النهمة كلما شعرت أن عصرها
يوشك على الأفول، وأن القوة العسكرية التي صنعتها تراكمياً لعقود هي الميزة
الوحيدة الباقية لابتزاز وإخضاع القوى الضعيفة، لا سيما تلك التي تحمل نحوها
كرهاً حضارياً وتاريخياً.
دلالات الانتخابات الأمريكية:
لم يبلغ حجم العزوف عن المشاركة الانتخابية هذا المستوى من الكثافة منذ
عام 1924م. ففي انتخابات عام 1988م أبدى أكثر من 66% من الناخبين عدم
رضاهم عن المرشحين: دوكاكس وبوش، وهي أعلى نسبة منذ إنشاء الولايات
المتحدة، كذلك أوضح أكثر من 50% من الناخبين عدم رضاهم عن الحملة
الانتخابية وأنها كانت شخصية تركز على الجانب السلبي لدى الخصم، دون
الحديث عن المواضيع الهامة التي تهم الناخب.. «إنها حملة شخصية بحتة.. ولا
علاقة لها بالمخاطر التي تجتاحنا» ، كانت هذه العبارة لناخبة أمريكية تربط بين
الحملة السابقة والحالية! وأضافت: «يبدو أن فريق الجمهوريين الذي ساعد بوش
في الوصول إلى السلطة يريد أن يعيد تشغيل الشريط مرة أخرى، فنحن الآن ندين
بالفضل لهم حيث أصبحنا نعرف بالتفصيل تاريخ كلنتون المخزي.. ومع من خان
زوجته؟ وكيف هرب من الجيش بواسطة نفوذ عائلته، وكم مرة تهرب من دفع
الضرائب.. ولكن هل بوش أكثر نزاهة منه، وهو الذي حارب أمثالي من الأسر
المتوسطة ورفع من تكاليف الحياة اليومية لملايين من أمثالي في الوقت الذي يسرق
أبناؤه ملايين الدولارات بلا رقيب.. هل هذه هي القيم الأسرية التي تنادي
بها؟ ؟» [1] ! هذه المرارة وذلك النقد الذاتي هما المعزوفة المنتشرة بين الناخبين اليوم.. لا سيما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي الذي يراهن عليه المرشح الديمقراطي للوصول إلى السلطة، والملاحظ أن العديد من الأمريكيين يعرفون مقدماً أن كلينتون لن يكون سوى جيمي كارتر آخر.. لكنهم مستعدون للمخاطرة والرهان عليه فربما تخطى بهم ساحل التردي الذي خيم على مشاعر وتصورات الأمريكيين الذين رأوا في رئاسة بوش تعاسة ممزوجة بالانتهازية.. «لقد فقدنا الزعامة الفذة التي تنظر إلى الأمور بتوازن.. بل حتى اللمسة الشخصية التي كان يتركها ريغان لدى الفرد الأمريكي حينما يخاطبه تبخرت هي الأخرى ولم يبق سوى وجه بوش الممل وخطاباته الفاترة.. أو صوت كلينتون الباعث على النعاس والخمول. أليس من المأساة أن يختار أكثر المنعطفات الحالية خطورة في ظل غياب
العمالقة؟» [2] .
هذه الشهادات والمشاعر تصب في خانة اليأس والقنوط في الواقع القائم
والمطالبة بالتغيير والبحث عن بديل.. هنا لا يجد الناخب الأمريكي غضاضة من
إبراز «روس بيرو» كمرشح للرئاسة وهو بليونير لا يملك أي برنامج سياسي
واضح ما عدا كلمة واحدة: التغيير.. لكن دون تحديد الوجهة أو الطريقة.. من
هنا انسحب «بيرو» من سباق الرئاسة في مرحلة سابقة، ثم ما لبث أن عاد إلى
حلبة السباق حيث هناك فراغ هائل أكبر من قامة كلا المرشحين.. أو بعبارة مجلة
فورين أفيرز: «تراكم قوة الرغبة في محاربة الواقع القائم من قبل الناخبين مقروناً
بمشاعر متدفقة من القلق والتشاؤم والتصميم على قلب الوضع القائم في واشنطن» .. ربما يقول البعض إن السبب لبروز هذه المشاعر هو الكساد القائم لكن في هذا
الطرح تبسيطاً للعلاقة وطرحاً فجاً لنظرية السبب والنتيجة، لقد عاش الشعب
الأمريكي كساداً أفظع خلال عامي 1981-1982 لكن مشاعر الحنق أعلى الآن من
مثيلاتها قبل عقد مضى.. ويبدو أن الرئيس حينما يراجع سبب تراجعه في
الإحصاءات إلى العامل الاقتصادي وحده يغالط نفسه وجمهوره.. إن الاقتصاد أحد
أعراض مرض أمريكا الحالي والمتفشي دون محاولة جادة من قبل المسؤولين لتقديم
العلاج، وإن عدم الاستجابة ذاتها يجعل الأمريكان يشعرون بالعجز والخجل من
أمريكا التي تقدم نصائحها للعالم، بينما تتناسى العار الذي اكتنفها «.. وهكذا فإن
شعارات كانت مستهجنة أصبحت مقبولة فباتريك بوكانون مثلاً تقدم للترشيح عن
الحزب الجمهوري رافعاً شعار:» أمريكا أولاً وثانياً وثالثاً «بصورة انعزالية
تدعو إلى انكفاء أمريكا على مشاكلها وترك العالم الخارجي وشأنه، ومع أن هذا
الشعار كان مطروحاً قبل بروز أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلا أن
رواج هذه المقولة في هذه الحملة وحصول بوكانون على ما يقارب من 20-25%
من أصوات الناخبين يبرز الرغبة الملحة للتغيير لدى الناخب الأمريكي، والمطالبة
بتغيير سلم الأولويات وربما السياسات التي كانت متبعة خلال نصف قرن.. وهكذا
فإن المرحلة المقبلة ستكون بداية تشكل طروحات جديدة تعالج الدور الأمريكي على
الساحة الدولية والموقف من التحديات الداخلية وموقع المنافسة في ظل نظام متغير
ومنافسين جدد..
ومن الطريف أن السياسة الأمريكية وطروحات بوش واليمين الأمريكي
المطالبة بتصفية مخلفات الحرب الباردة ووجوهها في العالم الثالث، لتحقيق هيمنة
أكبر ونصر ساحق في عصر الاجتياح الأمريكي قد يطبق على رموز الحرب
الباردة وزعمائها في أمريكا وبواسطة الناخب الأمريكي.. وإذا حصل هذا فإن أفكار
اليمين المتطرف وزعامة الرئيس الأمريكي ستكون أول الضحايا ومقدمة الرموز
التي ستسقط في هذا السياق.
الخروج من الشرنقة:
من المناحي البارزة في الحملة الانتخابية الحالية أنها تعالج - كما فعلت
الحملات السابقة - مآزق الماضي وطروحات الستينات الميلادية. إن بداية سقوط
الإمبراطوريات العظمى يرافقه ميل إلى الانكفاء نحو الماضي الرامي إلى تصفية
حسابات القوى السياسية، حتى يصبح الحاضر والمستقبل القريب والبعيد رهائن
دائمة للطروحات السالفة، دون استشعار لتغير الزمن وتبدل التحديات.. ويبدي
بعض المفكرين الأمريكيين قلقهم من هذه الظاهرة وصعوبة المرحلة التي تواجه
العصر بعقلية التصفية والتصفية المضادة بين النخب المؤثرة، في الوقت الذي
تسبق الجموع والجماهير النخب في استشعار الخطر وتلمس المصاعب..» الفرد
أصبح مهدداً في أعز ما يملك.. حلمه الأمريكي في حياة مرهفة..! إنه يفقد
وظيفته ليطير إلى بلدان أخرى كالمكسيك، وهو يرى تراجع مستوى المعيشة
والرخاء في الولايات المتحدة، وهو يشاهد عدم استطاعته دفع مصاريف العلاج
وصرف غائلة المرض.. ثم يتراءى المأزق شاخصاً في أحداث لوس أنجلوس التي
كشفت عن وجوه أمريكا البشعة.. ثم يترتب أن تفعل المؤسسات الحاكمة شيئاً
لتغيير هذه الصورة القاتمة فلا يرى سوى اهتمام من النخبة الحاكمة - حكومة
وشركات - بمصالحها الخاصة والشخصية..! إن هذه اللامبالاة على مستوى
القيادات هي التي تحرك الغضب الشعبي وترفع من حرارة مشاعر الناخبين، وربما
أدى هذا إلى كارثة هائلة تتمثل في مأزق شرعية الوضع الراهن! ! [3] هذا
المقطع يطرح مأزق الدائرة المفرغة التي تدور حولها معركة الانتخابات «التي
تدور حول شعارات رنانة دون وجود مادة خلفها» [4] كما يقول النائب بيتر
دوفنشي. لقد استنفد الليبراليون والمحافظون طروحاتهم حول المشكلات ذاتها،
وأصبحت السنوات الثلاثون الماضية فصلاً في الردود والردود المضادة،
فالجمهوريون في هذه الانتخابات طرحوا شعار القيم العائلية، مقابل طرح الحرية
الشخصية لليبراليين، ويتفرع عنها قضية الاجهاض التي نجحت القوى الليبرالية
قبل 30 عاماً في إجازته قانونياً، وأصبح تحريمه برنامج عمل مكثف لليمين خلال
الثمانينات.. وكما كانت قضية الأقليات وحقوقها مادة النزاع الأهلي في الستينات
حينما نال السود بعض الحقوق النظرية كانت فترة حكم الجمهوريين مرحلة تجميد
لهذه الحقوق عملياً وتركيز على هيمنة الرجل البروتستانتي الأبيض كما تكشف
أحداث الشغب في المدن الأمريكية عن حالة من الغضب من الغبن العنصري الذي
أتى به ريغان ومن بعده بوش.
أما السياسة الخارجية لأمريكا - بعد انقشاع الحرب الباردة - فقد ظلت أسيرة
حرب فيتنام التي جرت في العقد السادس، ويرى العديد من المراقبين أن جزءاً
هاماً من دوافع التدخل الأمريكي في الخليج ينطلق من شعار الرئيس الأمريكي: «لا فيتنام أخرى بعد الآن No more Vietnam» والذي يؤكد طرح اليمين
الأمريكي بأن التدخل والتوسع على الساحة الدولية ضروري للقيام بالدور
الاستعماري الكفيل بتنشيط الاقتصاد والثقافة الأمريكتين، ولو تم ذلك بصورة
مباشرة ومكشوفة، وهذا ما يعارضه قطاع من الليبراليين. إن حرب الخليج شاهد
على التخلص من عقدة فيتنام إلى الأبد، ومؤشر على ضرورة التدخل في المناطق
التي تشكل جزءاً هاماً من مناطق النفوذ والأمن الأمريكي في العالم، أما قضية
إصلاح الاقتصاد الأمريكي المتعثر فإنها تظل حبيسة الطروحات القديمة والمتمثلة
في رفع أو خفض الضرائب والإنفاق الحكومي، مما يؤكد شعور الناخب والمراقب
الأمريكي أن ما يعرض عليه من قضايا لا يعدو أن يكون تكراراً مملاً لتحديات
الستينات.. مرحلة الفورة والبريق المفقود، وإن السياسيين في كلا الحزبين
يصرون على عدم الخروج من شرنقة الماضي وطروحاته، عاجزين عن التصدي
لتحديات اللحظة.
ما هو البديل؟
إذا كان المرشحون الحاليون لا يملؤون الفراغ الذي يحس به الناخب
الأمريكي، فما الذي سيملأ هذا الفراغ وذلك الفضاء المتسع؟
ابتداءً يجب التأكيد على نقطة هامة وجوهرية وهي أن هذا الخليط العجيب من
الأعراق والديانات يجمعه هاجس «الفكرة الأمريكية» التي تقوم على عبادة
الدولار والحرية الشخصية.. في مجال الحرية الشخصية يتمتع الفرد الأمريكي
بهامش كبير منها ما دامت لا تتطور إلى «فكرة متحركة» تهدد الوضع القائم على
الهيمنة البيضاء بشقيها المتحرر والمحافظ وثقافتها المسيحية/اليهودية، كما يجمع
المرشحان الحاليان بوش وكلنتون.. إن مرحلة تسييس الفرد الأمريكي التي مرت
بسرعة خلال العقدين السادس والسابع حالة طارئة، استنفرت المؤسسة الحاكمة
جناحيها المحافظ والمتحرر لكبحها، بالرغم من أنها تستمد جذورها الأصيلة من
القيم الأمريكية، ولذا فإننا نرى أن الفرد الأمريكي هو الأقل تسييساً ومشاركة في
القرار مقارنة بالدول الصناعية الأخرى، وهذا ما يفسر جزئياً انحصار العملية
السياسية فعلياً في حزبين فقط يتقاربان كثيراً في مسألة إبعاد الجماهير عن السياسة
وإطلاق الحريات الضرورية ما دامت في خانة الآحاد المبعثرة..
أما الدولار - المعبود الأمريكي الأول - فإنه يعبر عنه بتعبيرات أكثر لباقة
فهو أحياناً يسمى «الاقتصاد» وأخرى «المصالح» وثالثة «بالعمل» ورابعة
«بالأمن القومي» وخامسة «بالمناطق الاستراتيجية» ولكن كل هذه التعبيرات
والمصطلحات تجمع على عبادة المال وتقديسه، وهو ما يلخصه بعض المفكرين
الأمريكيين «بالحلم الأمريكي» حيث الحرية الفردية الممتزجة بالراتب الوفير،
والسيارة الفارهة، والبيت المملوك، والمتاع المتوفر.. هذه هي أمريكا حتى
بالنسبة للحالمين بالهجرة إليها: فرصة جديدة. لتحسين الدخل ... ولذا فإن العديد
من الناخبين الأمريكيين يرون في الدولار الهارب أزمة الأزمات وأخطر المخاطر
التي يواجهونها؛ لقد تعود جيل الطفرة الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية أن يجد
عملاً مستمراً، وأن راتبه يزيد سنوياً وأن يتمتع بالمال المدخر الذي ينمو باستمرار
.. وفجأة وجد أن هذه المسلَّمات قابلة للنقص.. وهكذا «يتعلق الأمريكان بالاقتصاد
والمال بلهفة حتى المسائل الاجتماعية تجد جذورها المادية/الاقتصادية، فمشاكل
العلاج الصحي والتعليم، والجريمة والمخدرات ينظر إليها من منظور فردي مادي، حيث يشعر الناس أنهم مهددون بالطرد من العمل، وعندها لن يجدوا العلاج
المجاني، وهذا ينسحب على التعليم حيث أن 88% من الأمريكان يؤمنون أن
التعليم الجماعي ضرورة لحياة كريمة، ولكنهم يرون أن أقساط الجامعات تتعدى
معدل الدخل والتضخم، ويقلقون بالتالي على مصير أطفالهم وكم سيدفعون لضمان
تعليمهم.. وغالبية الجموع ترى أن المخدرات والجريمة من نتاج الفقر وتراجع
الاقتصاد.. حتى السياسة الخارجية التي يؤمن أكثر من 71% من الأمريكان
بضرورة الاستمرار في تسيير دفتها العالية تصبغ برداء المادة والمصالح الاقتصادية
بعيداً عن نظريات الحرب الباردة ومحاربة الشيوعية وموازنة القوى.. يجب
إعطاء الجانب الاقتصادي أهمية بالغة في قدر وحجم التدخل الخارجي مستقبلاً بما
يضمن استمرار الرفاهية والترف المعيشي.. أما المناطق الأقل اجتذاباً وفقراً فيرى
الأمريكي أن رداً جماعياً تقوم به الأمم المتحدة ربما يرفع الحرج عن الرد الأمريكي
المطلوب تجاه هذه المعضلات» [5] .
إذن فالبوسنة تذبح لسنوات.. لا تعني الفرد الأمريكي لأن البترول غير
متوفر هناك.. وبما أن الضحايا في عصر الارتداد إلى الماضي - زمن الشحوب
الحضاري - لا يمثلون امتداداً حضارياً (يهودياً مسيحياً) لهذه الأمة.. والمحصلة
النهائية مخزون هائل قائم على الماضي بأعدائه ورموزه وشخوصه يقف المسلمون
في مقدمة القائمة المستهدفة، ورغبة دفينة في الحصول على الموارد والمواد الأولية
والاستثمار في اقتصاد قائم على توظيف الأموال الأجنبية وجنوح نحو غسل عار
فيتنام. كل هذا لا يتم على مستوى النخب الحاكمة التي لها سجل طويل مخز في
صنع المخاطر والتلاعب بتوجهات الجماهير إنما.. يأتي هذا الشعور المتنامي من
القاعدة اللاهثة للمال والدولار والمغامرات الخارجية التي وصفها شوارزكوف في
مذكراته بقوله: «هناك في واشنطن يقف صانعوا القرار الذين أدمنوا مشاهدة أفلام
البطولات الأمريكية السينمائية يمتلئ صدر الواحد منهم ببطولات رامبو الأمريكي
الذي يسحق الآخرين الأشرار في الوقت الذي لم يطلق أحدهم رصاصة في حياته إلا
أنه يشعر أن بإمكانه اتخاذ قرار الحرب الشاملة بكل برود..» نعم بكل برود ما
دامت الأوصاف التي يطالب بها الناخب الأمريكي اليوم هي الاستعمار البشع
المكشوف، وما دام الضحايا الذين تنطبق عليهم شروط الذبح الأمريكية منطقة
واحدة محددة: العالم الإسلامي.
بالأمس كانت النخب المسيطرة والحاكمة في الولايات المتحدة تبرز مخزونها
العنصري، لا سيما حينما بدت الحرب الباردة تضع أوزارها.. حينها بدأت
الهتافات الحارة والدعاوي المزيفة تستنفر الغزو الأمريكي بشعارات مثل: المسلمون
قادمون الخطر الأخضر، المارد الأصولي يتململ، محاربة التطرف الإسلامي،
وأد الإرهاب المحمدي.. وغيرها من الشعارات التي تفنن اليمين الديني الأمريكي
في الدعاية لها والدعوة إليها.. أما اليوم فإن الفرد الأمريكي البسيط يرى في
معركته المحتمة مع مناطق الاكتناز الاقتصادي مصيراً لتحسن مستوى دخله دون أن
تدفعه قوة عقائدية أو راية صليبية.. وإن كانت ضرورية حين تشن الحرب المقدسة
لعوامل عدة أبرزها إضفاء الشرعية على التحركات الشريرة المقبلة ...
الجديد في الطرح الأمريكي هو قوة الدفع الشعبي المنطلق من عقيدة عبادة
الترف والذات لتلتقي في نقطة ما مع ما يدعو إليه غلاة اليمين الديني الجديد..
__________
(1) ABC 12/9/1992.
(2) CBS شالنجر 7/8/1992.
(3) بتصرف دانيال يانكلوفتش، فورين أفيرز خريف 1992م.
(4) ديوني: لماذا يكره الأمريكان السياسة ص 10.
(5) فورين أفيرز خريف 1992.(57/80)
طب
أطباء الغرب..
يحذرون من شرب الخمر
د. حسان شمسي باشا
الإدمان على المسكرات مشكلة يعاني منها الغرب، ويعاني منها البعض في
بلادنا العربية والإسلامية. وإن ما يدعو إلى الأسف الشديد أن نشاهد ازدياداً في
شرب الخمر في بلادنا الإسلامية، في الوقت الذي يدعو فيه الغرب إلى الابتعاد عن
المسكرات.
تقول دائرة معارف جامعة كاليفورنيا للصحة (طبعة 1991) : «يعتبر الخمر
حالياً القاتل الثاني - بعد التدخين - في الولايات المتحدة. فشرب المسكرات في
أمريكا سبب موت أكثر من 100. 000 شخص سنوياً هناك. والخمر وحده
مسؤول عن أكثر من نصف الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق في أمريكا (والبالغة
50. 000شخص سنوياً) .
وليس هذا فحسب، بل إن الخمر مسؤول عن إصابة أكثر من نصف مليون
شخص بحوادث السيارات في أمريكا في العام الواحد. وأما في البيت، فالمسكرات
مسؤولة عن كثير من حرائق البيت، وسقوط شاربي الخمر على الأرض، أو
غرقهم أثناء السباحة» .
وتتابع دائرة معارف جامعة كاليفورنيا القول: «والمسكرات لا تسبب
المشاكل في البيت.. أو على الطرقات فحسب، بل إن خسائر أمريكا من نقص
الإنتاج وفقدان العمل نتيجة شرب الخمر تزيد عن 71 بليون دولار سنوياً. ناهيك
عن الخسائر التي لا تقدر بثمن من مشاكل نفسية وعائلية واجتماعية. ويحثُّ
الكتَّاب في الجرائد والمجلات الأمريكية الناس على عدم تقديم المسكرات قبل العشاء
- أثناء حفلاتهم - وعلى أن يصادروا مفاتيح السيارات من المفرطين في شرت
الخمر، حتى لا يقودوا أنفسهم إلى الموت! !» .
تذكر موسوعة جامعة كاليفورنيا في مكان آخر: «أن ثلث اليافعين في أمريكا
يشرب المسكرات بدرجة تعيق نشاطه الدراسي في المدرسة، أو توقعه في مشاكل
مع القانون..! وقد بدأ معظم هؤلاء الشباب شرب المسكرات قبل سن الثالثة عشرة
من العمر» .
ويقول البروفسور «شوكيت» وهو بروفسور الأمراض النفسية في جامعة
كاليفورنيا ومدير مركز الأبحاث المتعلقة بالإدمان على الكحول: «إن 90 % من
الناس في الولايات المتحدة يشربون الخمر، وأن 40 - 50% من الرجال هناك
يصابون بمشاكل عابرة ناجمة عن المسكرات. وأن 10 % من الرجال و 3-5 %
من النساء مصابون بالإدمان على الكحول» [1] .
ويقدّر خبراء جامعة كاليفورنيا أن 15 مليون أمريكي يشرب أكثر من كأسين
من البيرة - أو ما يعادلها من أنواع الخمر الأخرى - يومياً. واستناداً إلى المعهد
الوطني الأمريكي للإدمان على الخمر، فإن من يشرب مثل تلك الكمية يعتبر «
مفرطاً في شرب المسكرات» «Heavy Drinker» ، وأن 18 % من هؤلاء
يشرب أكثر من 4 كؤوس من البيرة - أو ما يعادلها - يومياً، وهذه الفئة مهددة
بالإدمان الخطير على الكحول.
هذا ما يجري في أمريكا، فماذا يحدث على الجانب الآخر من الأطلنطي -
وبالخصوص بريطانيا؟ تقول مجلة «لانست» البريطانية الشهيرة: «إن مئتي
ألف شخص يموتون سنوياً في بريطانيا بسبب المسكرات» . وذكرت المجلة
البريطانية للإدمان «British Journal of Addiction» أن الخسائر الناجمة
عن مشاكل الكحول الطبية بلغت 640 مليون جنيه استرليني في العام الواحد. إن
الخسارة الإجمالية الناجمة عن شرب المسكرات تقدر بـ 2000 مليون جنيه
استرليني في العام الواحد. وذكرت هذه المجلة أيضاً أن 12 % من المرضى الذين
يدخلون المستشفيات في بريطانيا، يدخلون بسبب مشاكل ناجمة عن المسكرات.
وعودة إلى أمريكا.. فحسب ما جاء في كتاب «Cecil» الطبي الشهير -
طبعة 1992 - فإن الخسائر الكلية الناجمة عن مشاكل المسكرات في أمريكا بلغت
ما قيمته 136 بليون دولار في العام الواحد. ويقدِّر الخبراء أن ربع الحالات التي
تدخل المستشفيات الأمريكية سببها أمراض ناجمة عن شرب المسكرات «.
فحذار.. حذار أيها المسلمون، قبل أن يستشري فينا الداء الذي يريده لنا
الغرب. فالأفلام والمجلات الخليعة تدعو الناس صباح مساء في بلادنا العربية إلى
شرب المسكرات عن طريق إبراز الفنانين والممثلين، وفي أيديهم كأس من
المسكرات، أو عن طريق الدعايات والمقالات.
ويظن بعض الناس أن شرب قليل من المسكرات أمر لا بأس فيه. ولكن هذا
غير صحيح. وقد نبَّهت على خطورته مجلة» لانست «الطبية، فتقول في عدد
صادر لها عام 1987:» لقد تبين أخيراً أن معظم الوفيات والاختلاطات الناجمة
عن الكحول تحدث عند الذين يظنون أنهم لا يشربون الكثير من الخمر، وعند
أولئك الذين كان يظن أطباؤهم أن ما يتناولونه من المسكرات ما هو بالكثير، بل
هو في حكم المقبول في عرف المجتمعات الأمريكية والأوربية «.
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ليغفل عن ذلك، فقال حديثه
المشهور:» ما أسكر كثيره فقليله حرام « [2] .
المسكرات.. والقلب:
زعم البعض من الأطباء أن القليل من الخمر قد ينقص نسبة الوفيات من
جلطة القلب. ولكن مقالة رئيسية في مجلة» لانست «البريطانية (صدرت عام
1987) فنِّدت هذه المزاعم، يقول كاتب المقال:» إن ما يدعيه بعض الأطباء من
أن الكحول قد يكون مفيداً إذا ما أخذ بجرعات صغيرة إنما هو محض كذب
وافتراء «. وتقول المقالة أيضا:» إن الدراسة التي يستند إليها هؤلاء دراسة غير موثوقة ولا يعتد بها «. ويتابع كاتب المقال القول:» وخلاصة القول أن على الأطباء أن يبلغوا الناس رسالة واحدة فقط وهي: أن الكحول ضار بالصحة «.
ويقول البروفسور» شوكيت «:» إن شرب ثلاث أو أربع كؤوس من
البيرة يومياً يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، ولهذا يعتبر الخمر حالياً سبباً هاماً من
أسباب ارتفاع ضغط الدم. ويؤدي شرب الخمر إلى «اعتلال العضلة القلبية» ،
وما ينجم عنها من توسع في حجرات القلب وقصور (فشل) القلب. فيصاب
المريض بضيق نفس لدى القيام بأي مجهود. وقد تتشكل جلطات في الجهة اليسرى
من القلب. وهناك بلا شك علاقة وثيقة بين حدوث السكتة الدماغية Stroke،
وبين شرب المسكرات. ويسبب الكحول اضطراباً في ضربات القلب، مما يسبب
تسرعاً شديداً في القلب. وقد يحدث ذلك عقب شرب الخمر مرة واحدة فقط «.
المسكرات والسرطان:
يعتبر السرطان حالياً القاتل الثاني عند شاربي الخمر (بعد جلطة القلب) ،
فنسبة حدوث السرطان عند شاربي الخمر تفوق بعشرة أضعاف ما هي عليه عند
الآخرين. والأعضاء التي يزداد فيها حدوث السرطان - حسب أحدث الإحصائيات
- هي: سرطان الرأس والرقبة، والمريء، والمعدة، والكبد، والبنكرياس،
والثدي.
المسكرات والغذاء:
يعطي الغرام الواحد من الكحول سبع سعرات حرارية، وهكذا فإن شرب 8-
10 كؤوس من أحد المشروبات الكحولية يمكن. أن يعطي 1000 سعراً حرارياً في
اليوم. ولكن يجب الانتباه أن هذه الحراريات خالية (Empty) من أي عناصر
غذائية كالبروتين أو المعادن أو الفيتامينات.
وجاء في كتاب» هاريسون «:
(فكل الفيتامينات يعاق امتصاصها في الأمعاء عند شاربي الخمر، وتسجل
ذلك نقصاً في الفيتامين ب1، ب2، حمض الفوليك، والفيتامين (أ) . ويحدث عند
شاربي الخمر نقص في البوتاسيوم.. يمكن أن يؤدي إلى شلل دوري في العضلات
وانعدام المنعكسات. ونقص المغنزيوم.. يمكن أن يسبب اضطراباً في الإدراك
وأعراضاً عصبية أخرى. ونقص الكالسيوم.. يؤدي إلى تكزز وضعف عام.
ونقص الزنك.. قد يسبب اضطراباً في الأعضاء الجنسية ونقصاً في الشهية،
وضعفاً في مناعة الجسم. ونقص الفوسفات.. يمكن أن يجعل فشل القلب يتفاقم،
ويسبب اضطرابات في الدماغ.. وضعفاً في العضلات) .
المسكرات.. والجنس:
يقول البروفسور» شوكيت «: قد يلاحظ بعض شاربي المسكرات ازدياداً
في الشعور الجنسي لدى تناول كأس أو كأسين من المسكرات. ولكن ينسى هؤلاء
أن ذلك يمكن أن يسبب العُنَّة عند الرجال (ضعف القدرة الجنسية) . وينسى هؤلاء
أيضاً أن شرب المسكرات قد يؤدي إلى ضمور الخصيتين، وفقدان النُّطَف.
كما أن شرب المسكرات عند النساء يمكن أن يؤدي إلى انقطاع الطمث،
ونقص في حجم المبايض، وما يتبع ذلك من عقم، أو إجهاض تلقائي.
وشرب المسكرات أثناء الحمل يؤدي إلى مرض يسمى (تناذر الجنين
الكحولي) » Fetal Alcohol Syndrome «. ويصاب الجنين فيه بآفات
خلقية في القلب، وتشوهات في الوجه، واضطراب في المفاصل، وتخلف عقلي
شديد. ولا تعرف كمية المسكرات ولا الوقت الذي تكون الحامل فيه عرضة
لإصابة الجنين بهذا المرض. ولهذا يصر الباحثون على أن تمتنع الحامل عن
المسكرات امتناعاً تاماً» .
المسكرات.. والدماغ:
إن سهرة يقضيها شارب الخمر في شرب المسكرات يتبعها فقدان وعي
«Blackout» في كثير من الحالات. ويذكر البروفسور «شوكيت» أن هذه الظاهرة قد أصيب بها 30-40% من الرجال في سن العشرينات في أمريكا خلال فترة من الفترات. ويسبب الإدمان على المسكرات اعتلالاً في الأعصاب المحبطية عند 5-15% من شاربي الخمر. ويشكو فيها المرضى من الخدر والتنميل في الأطراف. أو قد يصاب المدمنون على المسكرات بتناذر كورساكوف وفيه يصبح الإنسان غير قادر على أن يتعلم الأشياء الجديدة، ويفقد الذاكرة، ويختلق فيها المريض قصصاً وأحداثاً وهمية لم تقع من قبل. وتحدث علامات ضمور الدماغ عند 50% من المدمنين على الكحول. ويقدر الباحثون أن 20% من المصابين بالخرف كانوا من المدمنين على الخمر.
المسكرات.. وجهاز الهضم:
كثيراً ما يصاب شاربو الخمور بالتهاب في المريء أو التهاب في المعدة.
ويعتبر التهاب المعدة أكثر الأسباب شيوعاً لنزيف المعدة عند شاربي المسكرات،
وقد يحدث النزف الهضمي نتيجة دوالي المريء (بسبب تشمع الكبد) .
والمسكرات سبب شائع لالتهاب البنكرياس. كما أن الكبد يصاب بالالتهاب..
أو بالتشحم.. أو بالتشمع (Cirrhosis) ، وهو مرض خطير غير قابل للتراجع.
أنعجب بعد هذا كله من تحريم الإسلام للمسكرات؟ ! حتى للقليل منها! ؟ ألم
يقل رسول الإنسانية عليه صلوات الله وسلامه: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه
الفَرْقُ فملءُ الكف منه حرام» [3] .
ثم ألم يحذِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجلوس على موائد الخمر
لأن ذلك قد يعرض صاحبها لمسايرة الجالسين، فربما ذاقها للمرة الأولى ثم تبعها
جلسات وسكرات. «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس على
مائدة يشرب عليها الخمر» [4] .
[إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ]
__________
(1) عن كتاب هاريسون الطبي طبعة 1991.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (صحيح الجامع الصغير 5530) .
(3) رواه داود والترمذي (صحيح الجامع الصغير 4552) .
(4) رواه أبو وداود والترمذي (صحيح الجامع الصغير 6874) .(57/91)
بين المطرقة والسندان
أحمد أبو لبن
إن رحلة الحياة حلقات متصلة من الحوادث والمواقف، والأفراح والأتراح،
والإنجازات والإخفاقات، تمر كشريط متتابع المشاهد، يعتصر العاقل الفطن منها
الحكمة والعبرة.
زارني - في هذه المرحلة من الحياة - أخ حبيب في بلاد الغربة، قادم من
بلاد المسلمين، جمعتنا جلسة على مقاعد للنزهة على ضفاف إحدى بحيرات
(كوبنهاغن) ، وتبادلنا أطراف الحديث دون سابق إعداد أو تخطيط،. بادرني قائلاً: الآن بعد أن قضيت عقداً من السنين في مهد الحضارة الغربية، وراقبت الأحداث
تتلاحق على أمتنا وهي لا زالت في عنائها وبلائها؛ ما هي خبرتك الجديدة، وكيف
ترى هذه المرحلة التي نعيشها؟ فأنت هنا في مأمن بعيد عن دوامة الصراع،
قريب من مصادر الإعلام، فنحن نغبطكم على هذه الفرصة.
أجبته مداعباً - كعادتي معه - أتأذن لي بالإجابة مع التفصيل الممل؟ !
فأجاب مداعباً: خذ راحتك، فعلام العجلة؟ لقد تخطينا سن الشباب!
فقلت: نبدأ بذكر الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم - فنحن هنا في
بلاد الغفلة والإلحاد، والجو شيطاني يعج بالشهوات والمعاصي - وللإجابة على
سؤالك نقسم تاريخ أمتنا إلى مراحل، لكل منها عنوان أو شعار حتى نصل إلى
الجواب. ولنبدأ بالمرحلة الأولى للدعوة الإسلامية في مكة وفي موقف النبي -صلى
الله عليه وسلم- من إغراءات قريش حتى يتخلى عن ما جاء به، وكيف أنه لم يثنه
ترغيب ولا ترهيب عن دعوة التوحيد والثبات عليها. وبعد بناء الحضارة الإيمانية
على أسس راسخة يحسن بنا أن نقتطف، شعاراً من خطبة حجة الوداع عنواناً
لاكتمال تأسيس الدولة في المدينة المنورة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام» .
تجاوب مستمراً في حواره: شعار جميل، دقيق جداً، لكن يا حسرتاه! أين
نحن منه اليوم؟ أموال المسلمين وأرضهم نهب مستباح، أو تسخر لسفك دمائهم
واستباحة أعراضهم، لقد بلغت المأساة الذروة، وتجاوزت حدود الخيال.
ثم أكملت: أما مرحلة الصديق فإن شعارها هو شعار الإصرار على الحق
وقت الشدة الذي يلخصه موقفه يوم الردة: «والله لا أزال أقاتلهم حتى تنفرد سالفتي» .
قال صاحبي: تعني إصراره على تسيير الجيوش لحرب المرتدين، وأن
الخلافة الراشدة هي اتباع لمنهاج النبوة دون تنازلات، قلت: نعم هو كذلك.
ثم مرحلة خلافة عمر - رضي الله عنه - الذي جعل نقش خاتمه: «كفى
بالموت واعظاً يا عمر» حيث الأمن مستتب، والعدالة قائمة، والأمة عزيزة
الجانب، وهذا الشعار يناسب حالة الحاكم الحذر من أن يفتتن بنفسه.
إننا حينما نتذكر هذه المواقف المجيدة وأمثالها من تاريخنا المجيد نبرأ ونعتذر، كما فعل الصحابي الجليل أنس بن النضر في غزوة أحد، حينما رأى المسلمين
يتراجعون، والمشركين مستبسلين من أجل باطلهم، فقال: اللهم إني أعتذر إليك
مما صنع هؤلاء (أي المسلمين) وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (أي المشركين) .
إن هذا هو التعبير الصادق عن تراجع وارتباك مشروعنا الإسلامي في كل
مجال ومكان، الذي نعتذر إلى المولى منه، وتكالب وشراسة قوى الباطل بمكرها
ونذالتها، الذي نتبرأ إلى الله منه.
فقال: تعني أن الظروف المحيطة بنا تتلخص في: تفوق الكافرين، وعجز
المسلمين.
قلت: نعم، فنحن في بلاد المسلمين نعاني مشكلة واحدة ونحمل هماً واحداً
هو تخلف الأمة أفراداً ومؤسسات بسبب انحرافها عن منهج الإسلام، وهذه هي
«المطرقة» التي يجب على المسلمين في بلادهم الصبر على آلامها، ونحن هنا في بلاد الغرب والغربة - أعني المسلمين المهاجرين - نعاني من آثار هذه الحضارة المادية المتعدية لحدود الله، الجاحدة لوجوده. فغرورها وتعاليها هو «السندان» الذي يضاعف الأمم المطرقة على رؤوسنا في بلاد الغربة. وما ندري: هل نشتكي ونعتذر عن المشروع الإسلامي الذي يتعرض للإجهاض مرة بعد مرة، أم عن الجاليات الإسلامية التي وفدت بكل مشكلاتها وتشرذمها؟ أم نتبرأ من حضارة مادية كافرة تمول البحوث، وتنجز المخترعات، وتخطط وتحافظ على مصالح شعوبها وتحترم حرية الرأي لمواطنيها؟ ! .
قال: على الرغم من المعاناة والمكابدة فإن التشاؤم مذموم العواقب، والمسلم
لا ينبغي له أن ييأس، فمهما ذاق المسلمون الآلام بين المطرقة والسندان؛ فإن ذلك
يجب أن لا يثنيهم عن العمل والثبات على ما هم فيه من الحق.
إنني أرى تباشير الفجر وعلامات النصر تلوح في الأفق فهيا بنا لأشتري
خاتماً من فضة، لا لننقش عليه عبارة: «أبرأ وأعتذر» ولكن لننقش عليه شعار
المستقبل: (جاء الحق وزهق الباطل) .(57/99)
مكتبة البيان
إعداد: سليمان الميداني
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم
للإمام ابن الوزير:
قام بتحقيقه تحقيقاً علمياً دقيقاً الأستاذ الفاضل الشيخ شعيب الأرناؤوط بتسعة
مجلدات.
طبع ونشر مؤسسة الرسالة بيروت، وهو كتب نافع ومفيد في بابه.
معالم التنزيل (تفسير البغوي)
لأبي محمد الحسين بن مسعودالبغوي:
قام بتحقيقه: عثمان جمعة ضميرية - محمد عبد الله النمر - سليمان مسلّم
الحرش.
وقد سلك فيه مصنفه منهج التفسير بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم
وصحابته الكرام.
والكتاب من ثمانية مجلدات من الحجم الكبير.
التدليس في الحديث: حقيقته - أقسامه - أحكامه - مراتبه
والموصوفون به:
تأليف الدكتور مسفر بن غرم الله الدميني الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية بالرياض.
كتاب النظائر للشيخ بكر أبو زيد:
وهو دراسة مفيدة قيمة لموضوعات عديدة حري بطالب االعلم الوقوف عليها
وهي:
1- التحول المذهبي.
2- العلماء العزاب.
3- التراجم الذاتية.
4- لطائف الكلم.
وهو من طبع دار العاصمة بالرياض.
الموطأ للإمام مالك:
برواية أبي مصعب الزهري المدني تحقيق بشار عواد معروف ومحمود محمد
خليل.
الكتاب من جزئين طبع مؤسسة الرسالة بيروت.(57/102)
منتدى القراء
أختاه.. فلتحذري
بقلم: أم سلمان
إلى كل حرة أبية، تأبى الضيم وترفض أن تكون تابعة للعبيد وأداة لتحطيم
الأمة.. أتوجه بهذا النداء ...
أختاه.. أناديك هل تسمعينني؟ أصرخ إليك، هل يصل إليك صوتي؟
إن القوم يأتمرون بك، بل إن العالم يتآمر عليك، اليهودية المفسدة، العلمانية
الكافرة، الكل قد حشد الحشود لفتنتك، الكل قد جمع العقول لإغوائك، الكل
يطاردك، يريد الذل لنفسك، إنه حزب الشيطان يريد لينزع عنك لباسك لتتبدى
سوأتك وعوراتك، ويدعك خلقاً مشوهاً ممسوخاً فتضلي في نفسك وتكوني لمن
خلفك فتنة، وينهدم صرح الأمة، وتشيع الفحشاء ويتميع في إثرك الرجال،
وتغوص الأمة في بحر الشهوات.. فهم [ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ
سَوَاءً] .
ها هم يهود يقفون وراء بيوتات الأزياء والموضات يزينون من خلالها الفجور
والعري فتفسد الأمم، وتصب في جيوبهم الأموال.. ها هم يزينون الفحشاء.. في
الأزياء العارية، والأفلام الساقطة والمسرحيات الهزلية الفاجرة، في المجلات
الدنسة والصحف العميلة، في المقالات العارية من كل حياء، في القصة اللئيمة،
في المسلسلات والبرامج الهابطة..
فهل تنتصرين لنفسك وتثأرين لدينك، هل تفيقين وترتفعين فن تلك الهوة
السحيقة التي زينها لك الماكرون؟ فقط أذكرك بحديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- الذي يقول فيه: «صنفان من أهل النار لم أرهما:.. ونساء كاسيات
عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا
يجدن ريحها ... الحديث» . فهل ترضين لنفسك هذه الحال؟ ! أم تنتصرين لدينك
ولإنسانيتك التي كرمها الله، فتعود الصورة الوضيئة للمرأة المسلمة العفيفة الطاهرة
النقية المتوضئة الراكعة الساجدة.. صورة الأم في نضارتها ومكانتها، صورة
الحرة لا الأَمة المستعبدة لكل الأهواء..
أتمنى أختاه.. أن تعودي، فنحن هنا في انتظارك في شوق على باب الإسلام
الكريم.(57/104)
كلا لا نعود
إبراهيم كامل
بين طيات الزمن نعيش، نعيش حياة بسرورها وحزنها وفرحها وغضبها،
بمشكلاتها واضطراباتها.. نعيشها إحساساً ومشاعر، وعواطف - وهواجس،
انحرافاً واستقامة، نسياناً وتذكراً، قوة وضعفاً..
هذا ويوم القيامة تتضاءل من حسنا هذه الليالي والأيام تمر وكأنها لحظة من
نار فلا بقي من كرب مكروب، أو فرح مبتهج، أو فقر فقير، أو غنى غني، فمن
تلذذ بلذة فقد التذها وانقضى، ومن نصب ومن صبر فقد انتهى تعبه ونصبه وصبره، فأشد الناس عناء بانتهاء عنائه لم يبق له من العناء شيئاً، وأشدهم رغداً وابتهاجاً
بزوال رغده عنه لم يبق له من الرغد شيئاً.
هذا وإنها الآن لكلمات ولسوف نذكر هناك عملنا اليوم، سوف نذكر اهتماماتنا
اليوم، سوف نذكر ما يقعدنا من شهوات ورغائب، سوف نذكر ما يلهينا من
صغائر، ولكم سنندم، ولكم سنأسى، ولكن ترى هل سينفع الندم؟ هل سينقشع
العذاب؟
تخيل.. أنت الآن هناك تقف بين يدي ندم وأسى على ما فرطت وحيرة
واضطراب هل من مرد؟ ! أنت الآن هناك تقف بين يدي ربك فيسيل جلدك على
جانبيك ولحم وجهك من الخزي..
يومها نود أن نرجع.. أن نعود.. نعود فنكفر بالذين يبدلون دين الله يحلون
حرامه ويحرمون حلاله، نعود فنفزع لتلك الدماء تسيل من الأمة الأمة التي تذبح
ليل نهار مرات ومرات، على مذابح الوطنية تارة، والقومية تارات، على مذابح
الاشتراكية تارة، والديمقراطية والعلمانية تارات، وغير ذلك من المذابح كثير.
نتمنى يومها أن نعود.. وأنى لنا أن نعود، وقد أخبرنا أنها إذا ولت لا تعود.
نعود! وقد كنا نضحك ملء الأفواه والله سبحانه وتعالى غضبان.
نعود! والله سبحانه وتعالى يغار على محارمه وسلطانه المغصوب! وكنا لا
نغار.
نعود! والأرض كانت تئن، والسماوات يبكين والجبال تكاد تنهار من ظلم
الإنسان، وجوره على ربه العزيز الجبار.
نعود! والقدس القابع خلف القضبان يبكي أمة قد كان لها مجد فأبت إلا
الخذلان..
نعود! وقد كانت حرمات الله تصرخ فينا.. تصرخ أن كفوا بأس الطغيان.
نعود! كلا..! يأبى عدل الرحمن.
نداء.. نداء إلى الذين يتضاغون لغربة الإسلام.. أن اصبروا واثبتوا ... فإن
لقاء الله قريب.
ونداء إلى الذين يهملون ويضعفون ويميلون إلى خيانة الطريق، أيضاً إن لقاء
الله قريب.
ونداء أخير إلى الذين استحبوا الحياة الدنيا ورضوا واطمئنوا بها، أيضاً إن
لقاء الله قريب.
وإن أجل الله لآت وما أنتم بمعجزين، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن
زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.(57/105)
وعاودني الحنين..! !
عزيزة بنت عبد الرحمن النصار
كان مشهداً رائعاً من مشاهد الشتاء، فالسماء ملبدة بالغيوم، ووابل المطر
يرسم على لوحة الأرض جداول تتدفق في أنهار المدينة، وحفيف الأشجار يملأ
الكون بترانيم عذبة، آه..!! ما أروعك من مشهد! ! .. قالها - باسل - وهو
يتنهد من فرط الحزن، فقد نكأ ذلك المشهد - جرحاً قد اندمل منذ مدة - رضاء
بقضاء الله وقدره.
ثم تابع يقول: رباه! ! أَوَ أُحرم أن أرى مثل هذا المشهد في قدسي؟ في
خليلي؟ في منبع طفولتي، ومهد أدراجي؟ إنَّ لهيب الشوق يتأجج فيَّ، كلما
طويت شريط ذكرياتي، لأنعش ذاكرتي بمنظر سماء أرضي الصافية، وأرضها
التي كساها المطر حُلة خضراء وأشجارها المصطفة على جوانب الطرقات، وعلى
سفوح الجبال والهضاب، كم تاقت مسامعي لسماع حفيفها عند هبوب الرياح، وشمَّ
رائحتها مع نسيم الصباح، والجلوس تحت ظلها بعد العناء.
توقف قليلاً ثم أردف يقول: رباه! ! دخان التشرد يخنقني، ومعول الغربة
يقصمني، رباه إ! إلى متى سأظل هكذا؟ ! مدحوراً عني وطني؟ منبوذاً عن
أرضي؟ بعيداً عن أهلي؟ تلاحقني الويلات في كل مكان، وتعاودني الأنات في
زمن الأحزان.
تعالت على وجهه علامات الثورة والغضب؛ حين قال: إن إسلامي في
أرضي يختفي - رويداً وريداً - خلف أستار العذاب والتشرد والضياع، فيخرج
على مسرح بلادي أحفاد القردة والخنازير، ليمثلوا دور البائس الفقير، الذي لا
يملك المأوى وما له من ظهير، فيثيرون بمكرهم وخداعهم قلوب أناس مغفلين..
بيد أني أنتظر اليوم الذي ترفع فيه الراية على تلال فلسطين، فنعيد ذكرى
حطين، ونكون - فعلاً - أحفاداً لعمر وصلاح الدين.
فلسطين: إن حروفك تملأ الكون بصداها، فيسمعها الكون كله؛ لكن! !
.. لا مجيب.(57/107)
بريد القراء
الأخ عبد الله الحمد
أرسل توجيهاً للدعاة باكتشاف الطاقات وتوجيهها بما يلائم قدراتها إلى نفع
المجتمعات الإسلامية.
الأخ فهد العدل
أرسل توجيهات حول البدع وتقليد اليهود والنصارى في بعض عاداتهم.
البيان: نشكر للأخ خواطره في الموضوع.
الأخ حمد على عبد الحميد
نشكر لك ملاحظاتك القيمة وسوف نستفيد منها إن شاء الله تعالى.
الأخ محمد صالح المحييد
أرسل توجيهات يؤكد فيها على دور الإعلاميين في معالجة قضايا المسلمين.
الأخ عبد الله التويجري
وصلتنا ملاحظاتك وهي محل عنايتنا.
الأخ سليمان العبيد
قصيدتك - لا تغيبي - غير ملائمة للنشر.
الأخ سعيد الأسمري
نعتذر عن نشر قصيدتك - لما غاب الحسام - لكثرة ما لدينا من الشعر وطول
فترة انتظار النشر.
الأخ محمد الفايز
وصل ما أرسلته لنا وشكراً على حرصك وثقتك.
الأخ أبو عبد الرحمن أرسل مقترحاً:
- تخصيص صفحة للفتاوى الفقهية وخاصة التي تخص الدعاة وطلبة العلم.
- تخصيص موضوع عن طلب العلم والقراءات النافعة.
- الكتابة عن الصحوة الإسلامية في مصر.
الأخ سحمي بن محمد العاصمي
كتب لنا عن أثر الإيمان الباطن في عمل الجوارح، لأن كل إناء بما فيه
ينضح، فمن الناس من يحفظ أنواع الرياضة وألفاظها التشجيعية وشعاراتها، وهذا
كل همه، وبعضهم يحفظ أسماء الغناء والمغنين، والشاب المسلم يجب أن يكون
جاداً يحمل هموم الأمة.
الأخ أبو سليمان
أرسل منتقداً على الأخ فهد أبو عمرو في مقاله (الطريق إلى الله) عدم ذكر
مصدر ما كتبه وهو كتاب الشيخ محمد قطب (في النفس والمجتمع) .
الأخ خليل بن محمد الربدي
أرسل مقالاً قصيراً بعنوان (العاطفة وحدها لا تكفي) يقول فيها: «هل يقف
دور المسلم عند سماع أخبار إخوانه بالحزن والإشفاق، أم أن الواجب هو أن يدفعه
هذا الحزن وذلك الإشفاق إلى العمل والحركة لنجدة إخوانه بكل ما يستطيع من جهد
ومال ووقت؟ .(57/109)
الصفحة الأخيرة
الخير في الأمة الإسلامية
لا ينقطع
عبد القادر حامد
قرأت عبارة أثلجت صدري، وحركت مشاعر الفخر في نفسي عن التحديات
التي تواجه المسيحية في العصر الحديث، وأن انتشار الإسلام يأتي على رأسها،
وقلت: الحمد لله الذي تكفل بحفظ دينه، يخرج من الضعف قوة، ويرد كيد الباطل
على الرغم من اجتهاد أهله في نشره وتمكينه.
إن الناظر في هذه الجيوش الجرارة من المبشرين والمتطوعين الرسميين
وغير الرسميين لنشر المسيحية المحرفة في العالم الفقير، والبلاد المنكوبة ليروعه؛ - أول وهلة - حرص هؤلاء وتصميمهم، حيث يستغلون كل شيء في سبيل
عقائدهم، ويستثمرون الكوارث والنكبات، ويتاجرون بمآسي الشعوب ليفتنوهم،
فيصاب المتأمل المتابع جهود التبشير تحت اسم منظمات الإغاثة وغيرها من
المنظمات التي تمهد أمامها الطرق، وتفتح في وجهها الأبواب المغلقة، وتسند من
السفارات والشركات، والمتمولين النافذين.. يصاب بالرعب، وقد يلفه اليأس
وينفض يديه من كل جهد، اعتقاداً منه أن لن ينفع شيء أمام قوة المال المتدفق
والنفوذ العاتي، والأفواه المفتوحة التي تنشد البقاء، والبقاء فقط.
هذا جانب من جوانب الصورة القاتمة التي طالما ألحت على عقول المفكرين
المسلمين في العصر الحديث، وتكاد الكتابات الإسلامية تطرقها يومياً وتتناولها
بالندب والعويل.
ومع أن حقيقة الجهود المضاعفة للقضاء على الإسلام أو تشويهه في قلوب
وعقول أهله قائمة ومستمرة ولم تتوقف أبداً؛ بل تشتد يوماً بعد يوم؛ لكن هناك
حقيقة أخرى أيضاً، لا يحسن أن نغفل عنها، ويشغلنا الندب والبكاء عنها، وهي
أن الإسلام - بحمد الله - يتقدم وينتشر، ويكتسب خبرة وتجربة، وأن جهوداً تبذل، وهي على قلتها - مقارنة بجهود الكفر المعلنة والخفية والناعمة، والقاسية الغليظة
- يبارك الله فيها، وترسم الطريق لليائسين والقانطين، وتدعو الضعفاء والمشككين
أن: دعوا اليأس والقنوط، واخلعوا عنكم ثوب البكاء والتأسف، وضرب الكف
على الكف، فالطريق سالكة ومسلوكة، والساحة الإسلامية - بل والعالمية -
تستنجزكم الهبَّة ونفضَ النعاس عن عيونكم، والخدرَ عن عقولكم، والمسلمون
خيرهم لا ينقطع، وتتفجر البركة من بين أيديهم ومن خلفهم، من حيث لا يحتسبون، ولا ينقصهم إلا شخصيات تكون موضع الثقة، وجهات مؤتَمَنة تقوم بعمل الرائد
الذي لا يكذب أهله.
فلنعمل جميعاً على البحث عن هذه الشخصيات، وإقامة تلك الجهات،
ولنستمد العون على ذلك من الله، من الله وحده.(57/111)
جمادى الآخرة - 1413هـ
ديسمبر - 1992م
(السنة: 7)(58/)
كلمة صغيرة
من الأماني التي تراودنا أن يسد ما ينشر فى مجلة البيان ثغرة في ثقافة الفرد
المسلم في هذا العصر، وأن تلبي الموضوعات حاجات المسلمين على اختلاف
مستوياتهم. ونعمل جاهدين على إخراج هذه الأماني إلى مجال التطبيق والواقع.
ولكننا نرى أيضاً أن عجزنا البشري والظروف المحيطة بنا قد تعيقنا عن ذلك. ونحب
من قراء البيان أن يضعوا في حسابهم هذه الناحية عندما يكتبون لنا، وهي أن يطرحوا
على أنفسهم هذا السؤال: ما مدى أهمية ما أكتب؟ وهل عندي فكرة جديدة أقدمها
للقراء، أو طريقة جديدة للاستفادة والإفادة في مجالات الثقافة الإسلامية؟ وليكن
القارئ هو الهدف من الكتابة، وليس نفس الكاتب أو إرضاء حاجة من حاجات النفس
أو تطلعاتها. وبذلك يكون للكتابة معنى وثمرة.
المحرر(58/1)
الافتتاحية
الزلزال
كثرت الزلازل في هذا العصر، وهذا تأكيد وتصديق لما جاء في الحديث:
«لا تقوم الساعة حتى يقبض العالم وتكثر الزلازل…) [1] ، والحديث عن الزلازل لا
بد أن يقودنا إلى الحديث عن إحساس المسلم تجاه هذه الظواهر الكونية التي يخوَّف
الله بها عباده، أو عقوبات لما تعج به الأرض من المحادة لله ورسوله، ومن
الموبقات المهلكات، لقد تبلَّد شعور كثير من الناس تجاه هذه الظواهر فلا يرتدعون، ولا يتراجعون حتى يروا العذاب الأليم، والأصل في المؤمن أن يكون مرهف
الحساسية لمثل هذه الأمور المخيفة، فقد جاء في الحديث:» كانت الريح الشديدة
إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- « [2] ، وكأنه يخشى -
صلى الله عليه وسلم- أن تكون مقدمات يوم الفزع الأكبر.
إن الزلزال الذي وقع في مصر هذه الأيام كان مفاجئاً لم يتوقعه أصحاب
الاختصاص في علم باطن الأرض، فلم يعرف عن مصر أنها بلد زلازل كما في
بعض البلدان الأخرى، وما ذلك إلا دليل على أنه من المنذرات حتى تعود هذه
الأمة - وليس شعب مصر فقط - حتى تعود إلى باريها، وتستغفره من ذنوبها،
ويرجع لها الإحساس بما هي عليه من الضعف والانحطاط في كل شيء، مما جعلها
في مؤخرة الأمم، قال تعالى: [فَلَوْلا إذْ جَاءهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام: 43] ، وقال تعالى: [ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا
يَزِيدُهُمْ إلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً] [الإسراء: 60] ، وقال تعالى: [أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن
يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ
يَلْعَبُونَ] [الأعراف: 97-98] . إن في الشعوب الإسلامية من يعتبر بهذه الآيات
الكونية، ويتذكر ويؤوب، أما الذين في قلوبهم مرض، وأما القاسية قلوبهم الذين
استمرؤوا الطغيان، والذين أشربوا في قلوبهم التغريب والعلمانية فسوف لن يعتبروا
بل يزيدهم ضلالاً، وهذا ما كنا نتوقعه من أمثال هؤلاء لأنه من السنن الربانية.
ولكن الذي فوجئنا به مقابلتهم هذه الآيات التخويفية بإعلان الحرب على
الإسلام، حرباً صريحة مكشوفة لا مواربة فيها ولا خجل، فقد نشرت إحدى
الصحف اليومية في صفحتها الأولى:» القمة المغاربية تقرر التنسيق في مواجهة
الظاهرة الأصولية «وبدأت الحملة على ما يسمونه (التطرف والأصولية) تشتد أكثر
من ذي قبل، ويصرح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بأنه يجب أن يقضي على
منظمة» حماس «الإسلامية.
لقد ظهر المخبوء، وتبين أن الزلزال الذي يخافونه ليس هو الزلزال الكوني،
فهذا يمكن تعليله عندهم بأي تفسير جيولوجي، ولكنه الزلزال الإسلامي، فهي إذن
الحرب على الإسلام وليست على الأصولية كما يزعمون، فهل يا ترى يقدر هؤلاء
على حرب الإسلام، وهل يتوهمون أن بإمكانهم القضاء على الإسلام؟ !
ألم يجرب غيرهم هذا الطريق، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر عدداً وعدة
ففشلوا ورجع الإسلام قوياً بحمد الله، وهل استطاع الروس الشيوعيون بخيلهم
ورجلهم القضاء على الإسلام في بخارى وسمرقند؟ إن الناس في كل مكان يعودون
إلى الله أفواجاً فكيف يتصور هؤلاء الصغار أن بمقدورهم الحد من انتشار الإسلام.
إن المرء ليشفق على هؤلاء - وإن كانوا لا يستحقون الشفقة - وهو يراهم
في تدبيرهم، وعقولهم الصغيرة، يتداولون الرأي بالنيابة عن غيرهم للحد من
(الأصولية) وكل هذا لقاء ثمن بخس، باعوا به دينهم ودنياهم.
وإذا كان المسلمون قد أخطأوا ويخطئون في بعض أساليب الدعوة إلى الله، أو
في فهمهم الإسلام وتطبيقاته في العصر الحديث، وخاصة في بعض البلدان؛ فهل
هذه الأخطاء مسوَّغ كافٍ لضرب الإسلام. وإذا كانوا يحاربون العنف كما يدعون،
فلماذا يشجعون التيارات العلمانية والإلحادية وكل عدو للإسلام؟ ولماذا يشجعون كل
أنواع المحرمات مثل الربا والزنا والخمر؟ وإذا كانوا يحاربون التطرف فقط فلماذا
لا يطبقون الاعتدال؟
ليعلم هؤلاء أن الإسلام قوي - والحمد لله - رغم ما يكاد له من هنا وهناك،
ألم يأتهم نبأ الجمهوريات الإسلامية التي تشكل ثقلاً كبيراً سواء من حيث عدد
السكان أو المساحة أو القوة الاقتصادية، وقد بدأت شعوبها ترجع إلى دينها، فهل
سيحاربون هذه الشعوب أيضاً نيابة عن الغرب؟ وهل سيحاربون الصحوة
الإسلامية في ماليزيا وأندونيسيا، وفي شتى بقاع الأرض؟ إن الأمر ليد الله،
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، والأمر أكبر مما يتصورون.
وشيء آخر، فهم يقولون إن إيران لها أطماع، وهي تحرض من يقع في
أحابيلها، ونحن نعلم أن إيران لها أطماع فعلاً، ونعلم خطورة هذه الأطماع، ولكن
هل تُحد بمحاربة الله ورسوله وضرب العمل الإسلامي، وتشريد الشباب الإسلامي؛ أم أنها تواجه بالإسلام الحقيقي؟ !
إن ما ينفقونه لمحاربة الإسلام سيكون حسرة عليهم وندامة وخزياً في الدنيا
قبل الآخرة، والعاقبة للمتقين.
رئيس التحرير
__________
(1) فتح الباري 2/521.
(2) فتح الباري 2/ 520.(58/4)
منزلة الحكم
بما أنزل الله من الدين
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
لا شك أن تنحية شرع الله تعالى، وعدم التحاكم إليه في شئون الحياة من ...
أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين، ولقد كانت عواقب الحكم
بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين ما حلَّ بهم من أنواع الفساد وصنوف الظلم
والذل والمحق. ونظراً لأهمية وخطورة هذه المسألة من جانب، وكثرة اللبس فيها
من جانب آخر، فسيكون موضوع هذه المقالة عن منزلة الحكم بما أنزل الله من
الدين، وضرورة التحاكم إلى شرع الله.
فرض الله تعالى الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من
تنزيل الكتاب. فقال سبحانه: [وأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ] [البقرة: 213] ، وقال تعالى: [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ] [النساء: 105] .
وبيّن سبحانه اختصاصه وتفرده بالحكم، فقال تعالى: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ
يَقُصُّ الحَقَّ وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] [الأنعام: 57] ، وقال سبحانه: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ
لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] ، وقال عز وجل: [لَهُ الحَمْدُ فِي
الأُولَى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ] [القصص: 70] ، وقال سبحانه: [ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى: 10] .
وجاءت الآيات القرآنية مؤكدة على أن الحكم بما أنزل الله من صفات
المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير ما أنزل الله (وهو حكم الطاغوت والجاهلية) من
صفات المنافقين.
قال سبحانه: [ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ
بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وإن يَكُن لَّهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ
ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ورَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] [النور: 47-51] .
وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ
ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ
ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وإلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَاناً وتَوْفِيقاً] [النساء 59- 62] .
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: «ذم الله عز وجل المدعين الإيمان بالكتب
كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت
المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدعي الإسلام وينتحله في
تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك
الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك [1] وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا
إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً، وإذا أصابتهم مصيبة في
عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات، أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على
نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية
والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات» [2] .
ويقول أيضا: «ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما
شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا
حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً [3] .
ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى: [وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى
مَا أَنزَلَ اللَّهُ …] الآية:» والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله
ورسوله عمداً ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعمد بما
يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام « [4] .
ويمكن أن نحدد أهمية إفراد الله تعالى بالحكم، وبيان منزلة الحكم بما أنزل
الله من خلال العناصر التالية:
1- منزلته من توحيد العبادة:
إن الحكم بما أنزل الله تعالى وحده هو إفراد الله تعالى بالطاعة، والطاعة نوع
من أنواع العبادة، فلا تصرف إلا لله وحده لا شريك له، قال تعالى: [إنِ الحُكْمُ
إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [يوسف: 40] ، وقال سبحانه: [وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ]
[القصص: 70] ، فعبادة الله تعالى تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم،
حيث قال سبحانه: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]
[التوبة: 31] .
وتحقيق هذه الطاعة، وإفراد الله تعالى بالحكم والانقياد لشرعه هو حقيقة
الإسلام، وكما قال ابن تيمية:» فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم
له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به
والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته
دونه « [5] .
ويقول ابن القيم:» وأما الرضا بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى،
رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليماً، ولو كان
مخالفاً لمراد نفسه، أو هواه، أو قول مقلده وشيخه وطائفته « [6] .
وفي المقابل فإن من أشرك مع الله في حكمه، فهو كالمشرك في عبادته، لا
فرق بينهما، كما قال الشنقيطي:» الإشراك بالله في حكمه، والإشراك في عبادته
كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً
غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، لا فرق بينهما البتة بوجه من
الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله [7] «.
ويقول أيضاً:» ويفهم من هذه الآية [ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً…] أن
متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء
مبيناً في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها
ذبيحة الله [ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ
إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] فصرح بأنهم مشركون
بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى، هو المراد بعبارة الشيطان في قوله تعالى: [أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ
تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ] ، وقوله
تعالى عن نبيه إبراهيم: [يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
عَصِياً] [8] .
وتحقيقاً لوحدة العبادة القائم على نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، وإثباتها لله
تعالى وحده، فإنه يجب الكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: [فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا] [البقرة: 256] .
وقد سمى الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتاً، حيث قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ
إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا
إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً]
[النساء: 60] ، والطاغوت عام، فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من
معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت [9] .
2- منزلته من التوحيد العلمي الخبري:
الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو
مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما
أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم، فقال سبحانه: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً
مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [التوبة: 31] [10] .
وكما يقول محمد رشيد رضا - في بيان معنى الشرك في الربوبية -: «هو
إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله
تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عن
رسله [11] .
ويقول ابن حزم - عن قوله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ... ] الآية -:
» لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون
ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله
تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا
خلاف « [12] .
ويقول ابن تيمية - في هذا الشأن -:
» قد قال تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] .
وفي حديث عدي بن حاتم - وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما
- وكان قد قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه
الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه،
ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم، وكذلك قال
أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما
أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الأمة حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم
فكانت تلك الربوبية ...
فقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل
الحرام، وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله،
فهذه عبادة الرجال، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: [لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ] [13] . كما أن حقيقة الرضا بالله رباً توجب إفراد الله تعالى بالحكم،
واختصاصه تعالى بالخلق لأمر، حيث قال سبحانه: [أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ]
[الأعراف: 54] ، وقال سبحانه: [قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] آل عمران: 154 [،
فالأمر كله لله تعالى وحده، سواءً كان. هذا الأمر أمراً كونياً قدرياً، أو شرعياً
دينياً] 14 [.
يقول العز بن عبد السلام: «وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء
والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من
ضير إلا هو سالبه.. وكذلك لا حكم إلاّ له» ] 15 [.
ويقول عبد الرحمن السعدي: «فإن الرب، والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له،
ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعاً لطاعته» ] 16 [.
إضافة إلى ذلك، فإن «الحكم» من أسماء الله تعالى الحسنى، فقد قال -
صلى الله عليه وسلم-: إن الله هو الحَكَم وإليه الحكم «] 17 [.
وقال تعالى:] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [] الأنعام: 114 [، وقال سبحانه:
] فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ [] الأعراف: 87 [، وقال عز
وجل:] أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ [] التين: 8 [.
وإن الإيمان بهذا الاسم يوجب التحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له، كما
قال تعالى:] ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [] الكهف: 26 [، وقال سبحانه:] ومَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ [] الشورى: 10 [.
وقد بين الله تعالى - في آيات كثيرة - صفات من يستحق أن يكون الحكم له.. وكما قال الشنقيطي مبيناً ذلك:» فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى
صفات من له الحكم والتشريع، قوله تعالى:] ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى
اللَّهِ [، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم:] ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ
* فَاطِرُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ومِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ ويَقْدِرُ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [] الشورى: 10-12 [.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف
بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض
أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر
أزواجاً..؟ فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:] لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَبْصِرْ
بِهِ وأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [] الكهف: 26 [،
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل
شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن
يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومنها قوله تعالى:] إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ [،
فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟
ومنها قوله تعالى:] قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [] يونس: 59 [، فهل في أولئك
المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا
يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه، لأن من الضروري أن من خلق الرزق
وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟ سبحانه جل وعلا أن يكون له
شريك في التحليل والتحريم «] 18 [.
3 - منزلته من توحيد الاتِّباع:
والمقصود بتوحيد الاتباع تحقيق المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فتوحيد الاتِّباع هو توحيد الرسول بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان] 19 [، وإذا
كان الأمر كذلك فلا شك أن الحكم بما أنزل الله هو توحيد الاتِّباع.
قال الله تعالى:] فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [] النساء: 65 [.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:» يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه
لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فما حكم
به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهراً وباطناً «] 20 [.
ويقول ابن القيم عن هذه الآية:» أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً
بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من
الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا
التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل
الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه
مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة
والاعتراض.. «] 21 [.
كما أن الحكم بما أنزل الله هو تحقيق للرضى بمحمد -صلى الله عليه وسلم-
رسولاً ونبياً، ولذا يقول ابن القيم:» وأما الرضى بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال
الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى
إلا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم
غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق
حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في
ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه «] 22 [.
بل إن الحكم بما أنزل الله تعالى هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، وكما
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:» ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما
أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى وزجر، وأن لا يعبد إلا بما
شرع «] 23 [.
ولذا يقرر الشيخ محمد بن إبراهيم أن تحكيم شرع الله تعالى وحده هو معنى
شهادة أن محمداً رسول الله بقوله:» وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق
عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده
لا شريك له، وأن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المتبّع المحكّم ما
جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاً
وتحكيماً عند النزاع «] 24 [.
4- منزلته من الإيمان:
يقول الله تعالى:] يا أيها الذين امنوا يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [] النساء: 59 [.
من خلال هذه الآيات الكريمات ندرك منزلة تحكيم شرع الله تعالى من الإيمان، فلقد عدّ الشارع هذا التحكيم إيماناً كما قال تعالى:] فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [
] النساء: 65 [.
يقول ابن حزم:» فسمى الله تعالى تحكيم النبي -صلى الله عليه وسلم- إيماناً، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، مع أنه لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقيناً أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع
القول، ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد «] 25 [.
ويقول ابن تيمية:» فكل من خرج عن سنة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم
رسول الله في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا، وحتى لا يبقى في
قلوبهم حرج من حكمه «] 26 [.
وتحكيم شرع الله ورد النزاع إلى نصوص الوحيين شرط في الإيمان، كما
قال الله تعالى:] فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [] النساء: 59 [.
ولذا يقول ابن القيم:» إن قوله] فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ.. [نكرة في
سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين: دِقِّه وجُلِّه، جليه
وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله وبيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن
كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا
يوجد عنده فصل النزاع. ومنها أن جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه،
فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سميا
التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم
أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة «] 27 [.
ويقول ابن كثير:» فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة
فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى:] إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ [أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله
فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى
الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر «] 28 [.
وإذا كان التحاكم إلى شرع الله تعالى شرطاً في الإيمان، فإن التحاكم إلى غير
هذا الشرع - وهو حكم الطاغوت والجاهلية.. - ينافي الإيمان، وهو من علامات
النفاق، وقد سبق أن أوردنا كلام محمد رشيد رضا حيث يقول عند قوله تعالى:
] أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ ... [] النساء: 60 [:» والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما زعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام «] 29 [. ويقول الشيخ السعدي في هذا الصدد:» الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية:] أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ ... [الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك.. «] 30 [.
ومما كتبه الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا المقام قوله:
» إن قوله تعالى (يزعمون) تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا
يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الإيمان في قلب
عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة
الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد حكم
بالطاغوت وحاكم إليه «] 31 [.
إضافة إلى ذلك فإن الإيمان قول وعمل، فهو يتضمن تصديقاً وانقياداً، فكما
يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم
فيما أمروا كما قال تعالى:] ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ [
] النساء: 64 [.
ولذا يقول محمد بن نصر المروزي في تعريف الإيمان:» الإيمان بالله: أن
توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له، ولأمره، بإعطاء العزم للأداء
لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه.
- إلى أن قال: وإيمانك بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إقرارك به،
وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديتَ الفرائض،
وأحللتَ الحلال، وحرّمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في
الخيرات «] 32 [.
ولا شك أن تحكيم الشريعة انقياد وخضوع لدين الله تعالى، وإذا كان كذلك
فإن عدم تحكيم هذه الشريعة كفر إباء ورد امتناع، وإن كان مصدقاً بها، فالكفر لا
يختص بالتكذيب فحسب كما زعمت المرجئة، يقول ابن تيمية:» فمن الممتنع أن
يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة،
والصيام، والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا
يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في
القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود
الكفار، كقوله تعالى:] يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ويُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ
(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وهُمْ سَالِمُونَ [
] القلم: 42-43 [] 33 [. ويقول ابن عبد البر: «قد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً
أنزله الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر» ] 34 [.
وفي ختام هذا المقال نشير إلى أن تحكيم الشريعة استجابة لله تعالى،
ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ففيه الحياة والصلاح والخير، كما قال تعالى:
] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [] الأنفال: 24 [.
يقول الشيخ السعدي: «قوله] إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [وصف ملازم، لكل
ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلوب والروح،
بعبودية الله تعالى، ولزوم طاعته، وطاعة رسوله، على الدوام» ] 35 [..
وإن رفض هذه الشريعة وعدم الاستجابة لها اتباع للهوى، فهو ضلال شنيع
في الدنيا، وعذاب شديد في الأخرى، ويقول تعالى:] فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [
] القصص: 50 [، ويقول سبحانه:] يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [] ص: 26 [.
ويقول عز وجل:] وَمَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً
فِيهَا ولَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [] النساء: 14 [، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي
لكونه غيّر ما حكم الله به، وضادّ الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا
بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم» ] 36 [.
ولقد جاءت نصوص الوحيين محذِّرة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى:
فقال سبحانه:] وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أَن
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [] المائدة: 49 [.
يقول إسماعيل إبراهيم الأزهري: «فأمر الله عز وجل نبيه -صلى الله عليه
وسلم- بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله فيه، ونهاه عن اتباع أهوائهم لما فيه
من مخالفة المنزل إليه وحذره أن يفتنوه فيحولوا بينه وبين بعض ما أنزل عليه،
وأعلمه أنهم إن تولوا عن الحكم الذي أنزله الله إليه فإنما يريد أن يصيبهم ويبتليهم
بسبب بعض ذنوبهم. فعلم منه أن التولي عن حكم الله وحكم رسوله إلى حكم
الأهواء سبب لإصابة الله بالمصائب» ] 37 [.
ويحكي ابن القيم شيئاً من عواقب تنحية حكم الله تعالى فقال:
«لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليها، واعتقدوا
عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان، وأقوال الشيوخ،
عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق
في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى رُبي فيها الصغير، وهرم
عليها الكبير..» ] 38 [.
وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا معشر المهاجرين:
خصال خمس إن ابتليتم بهن، ونزلن بكم - وذكر منها: وما لم تحكم أئمتهم بكتاب
الله إلا جعل بأسهم بينهم» ] 39 [، وفي رواية «وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا
فشا فيهم الفقر» ] 40 [.
وفي هذا يقول ابن تيمية: «وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا] حكم الكتاب
والسنة [فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم، قال -صلى الله عليه
وسلم-:» ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم «. وهذا من أعظم
أسباب تغيير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا،
ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيّده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه» ] 41 [.
وصدق الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن الناظر إلى واقع بلاد
المسلمين - الآن - يرى ما وقع في تلك البلاد من المصائب، وأنواع الفرقة
والعداوة بينهم، وكذا التقاتل والتناحر، كما ظهر الفقر والتدهور الاقتصادي، مع
أن في بلاد المسلمين - كما هو معلوم - أعظم الثروات وبمختلف الأنواع، وأعظم
سبب في ذلك هو تنحية شرع الله والتحاكم إلى الطاغوت والله المستعان.
__________
(1) يقصد التتر.
(2) الفتاوى 12/339-340، بتصرف يسير.
(3) الفتاوى 7/37-38.
(4) تفسير المنار 5/227.
(5) الفتاوى 3/ 91، وانظر النبوات ص 69- 70.
(6) مدارج السالكين 2/118.
(7) الحاكمية في تفسير أضواء البيان، لعبد الرحمن السديس، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 7/162.
(8) أضواء البيان 4/83 و 3/440.
(9) انظر أعلام الموقعين 1/49 - 50، وانظر رسالة معنى الطاغوت لمحمد بن عبد الوهاب (مجموعة التوحيد) ص 260.
(10) انظر المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/33.
(11) تفسير المنار 2/55، و 3/326.
(12) فصل 3/266.
(13) الفتاوى 7 / 67.
(14) وانظر تحكيم الشريعة لصلاح الصاوي ص 18- 21، ورسالة ضوابط التكفير ص 116.
(15) قواعد الأحكام 2/134 -135.
(16) القول السديد ص 102.
(17) رواه أبو داود 4955، والنسائي 8/226.
(18) أضواء البيان 7/173 -168، باختصار.
(19) انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/228.
(20) تفسير ابن كثير 3/ 211.
(21) البيان في أقسام القرآن ص 270.
(22) مدارج السالكين 2/172-173.
(23) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/190، وانظر تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص 554-555.
(24) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/251، (رسالة تحكيم القوانين) .
(25) الدرة ص 238.
(26) الفتاوى 28/471، و35/336، 407.
(27) أعلام الموقعين 1/49-50.
(28) تفسير ابن كثير 3/209.
(29) تفسير المنار 5/277.
(30) تفسير السعدي 2/90، باختصار.
(31) تعظيم قدر الصلاة 1/392/393.
(32) رسالة تحكيم القوانين.
(33) الفتاوى 7/611، وانظر كتاب الصلاة لابن القيّم ص 54.
(34) التمهيد 4 /226.
(35) تفسير السعدي 3/156.
(36) عمدة التفسير 3/125.
(37) تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن ص40، وانظر ص 22.
(38) الفوائد ص 42 -43.
(39) رواه البيهقي وصححه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/ 321.
(40) رواه الطبراني فى الكبير وحسنّه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/321.
(41) الفتاوى 35/387.(58/8)
دعوة
الأطباء والدعوة الإسلامية
د. حسن علي الزهراني
لا شك أن العاقل البصير - أيا كان تخصصه أو موقعه - يعلم بأن العمر
قصير، والأنفاس معدودة، والموت قد يأتي بغتة، والأطباء - بصفة خاصة -
أكثر الناس معايشة لهذه المفاهيم، لأنهم يحسون بها كل يوم، بل في اليوم أكثر من
مرة أحياناً.. يشاهدون لحظات الموت حية أمام نواظرهم.. يتابعون الاحتضار
لحظة بلحظة.. كما أنهم يعايشون أحاسيس أهل المريض عند موته، لذا كان من
الطبيعي أن يكونوا أكثر معرفة بالله وخوفاً منه، إن قورنوا بعامة الناس، ولكن -
للأسف الشديد - فإن القليل منهم في هذا الزمان يعي أهمية دوره كطبيب في الدعوة
إلى الله. وهذه العجالة ليس القصد منها تنبيه أولئك الغافلين الذين يحتاجون إلى
النصح والوعظ المدروس الذي قد يستنفد جهداً كبيراً؛ ولكنها موجهة إلى أصحاب
الوجوه النيرة، ممن أحبوا الله ورسوله، فظهر ذلك على مظهرهم وسمتهم،
رسالتي إليهم تتلخص في مجموعة أسئلة وملاحظات أحب منهم أن يقفوا عندها
بتجرد وإخلاص، ويراجعوا أنفسهم، لعل الله يحقق لنا ما نصبو إليه من عز الدنيا
وثواب الآخرة، خاصة وأنهم يقضون أكثر من 70% من وقتهم داخل أروقة
المستشفيات.
ماذا قدم الطبيب لنفسه ...
وأقصد بهذا دعوة الطبيب نفسه. ونفوس الأطباء من أيسر النفوس لتقبل
الدعوة، كما هو مشاهد في كليات الطب من كثرة الصالحين عند مقارنته على سبيل
المثال بكليات أخرى مثل الآداب أو الاقتصاد أو غيرها، فالطب وعلومه يدعو إلى
التأمل في خلق الإنسان: مرضه وصحته، حياته موته.. كما أنهم - أي الأطباء -
أعلم الناس بقدرة الله على تحريك أي خلية تسبب مرضاً سرطانياً، أو انقباضاً
شريانياً يودي بحياة الإنسان، أو فيروساً يضع المريض في موقف القائل:
وحسب المنايا أن يكن أمانيا ... كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً
ومع ذلك لا بد من تذكيرهم بالأمور التالية:
1- الإخلاص وابتغاء ما عند الله:
ففتن الطب كثيرة.. من مركز، وجاه، وعجب، وطلب الثناء من الناس،
لا يعصم من ذلك كله إلا مراقبة الله، وطلب ما عنده من الثواب [والآخِرَةُ خَيْرٌ
وأَبْقَى] .
2- الزهد في الدنيا بمفهومه الصحيح:
وهو أن يستوي عند الطبيب بقاؤه في منصبه أو وظيفته وعدمه إن تعارضت
مع طاعة الله.
3- المحافظة على الفرائض:
وهي أقل الزاد وأعظمه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث
القدسي: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» ، ولا يعذر
الإنسان في التقصير في تلك الفرائض مهما كانت انشغالاته.
4 - المحافظة على النوافل والأذكار وقراءة القرآن، وكل ما يبعث في النفس الحماس والنشاط للعبادة، وكل إنسان أدرى بنفسه.
5- استشعار نعمة الله وواجب شكرها:
وبالذات فيما يتعلق بنعمة الصحة خاصة عندما يشاهد الطبيب الأمراض
الفتاكة والحالات المستعصية كقول: «الحمد لله للذي عافاني مما ابتلاك به،
وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً» أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
دعوة الطبيب لزملائه:
وهي من أوجب الواجبات لقول النبي: «الدين النصيحة» وهم أولى الناس
بها لأنهم زملاء العمل ورفاق المهنة، يعيش الإنسان بينهم أكثر مما يعيش مع أهله
أو أقاربه، ومن الغريب أن تجد بعض الصالحين من الأطباء شعلة من النشاط مع
عامة الناس خارج المستشفى وفي ذات الوقت ليس عندهم ما يقدمونه داخل ...
المستشفى، فتظهر الازدواجية بكل معانيها وما يترتب عليها من سلبيات.
كما أن في دعوة هؤلاء الزملاء إقامة للحجة، كما قال الله عز وجل: [وإذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى
رَبِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] .
ولا شك أن في التعاون على البر والتقوى مع هؤلاء الزملاء خيراً كبيراً في
نشر المعروف وإزالة المنكرات التي تعج بها المستشفيات.
والسؤال الذي يطرح نفسه.. كيف يتم ذلك؟
من الواجب أن يخصص الطبيب المسلم لهؤلاء وقتاً يجلس لهم فيه، يراعي
فيه أن يكون مناسباً للجميع، ولا يتعارض مع وقت العمل، حتى لا يكون هناك
تضييع لحق المرضى، وكلمة - يخصص - فيها من الجدية الشيء الكثير.
- السعي في حاجاتهم الدنيوية:
من مساعدة في العمل، وبالذات ما يتعلق بالمناوبات وحل للمشاكل، وعطف
ومشاركة في الهموم وقد قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ.
- القدوة الحسنة في أمور الدنيا والدين.
- الزيارة المنزلية لما فيها من التحبب ورفع الكلفة.
- الهدايا الحسية مثل: الأشرطة والكتيبات بل قد تكون كتباً طبية أو حتى
قلماً إلخ..
- الهدايا المعنوية: من ذكرهم بالخير، والإشادة بالمبرزين في حقول
اختصاصهم بالحق.
- الاحترام، الابتعاد عن التفاهات، الترفع عن التكالب على أمور المعاش،
الابتعاد عن تصيد الأخطاء.. هذه وغيرها أمور ينبغي أن يتحلى بها الداعية عند
دعوته لزملائه.
دعوة المرضى:
وقد وظف المنصرون هذا الأمر لنشر دينهم الفاسد خير توظيف، ولا شك
بأننا أولى بهذا منهم فليس عجائز بريطانيا مثل: تيريزا وغيرها من الآلاف الذين
يجوبون أصقاع المعمورة بخير من حملة التوحيد من الأطباء المسلمين، وهنا أركز
على النقاط التالية:
- احتساب الأجر عند الله وحده عند علاجهم لقول الله تعالى: [ومَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من فرج عن مؤمن
كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» .
- الصبر عليهم عند علاجهم: وبالذات على كبار السن توقيراً لهم، وعلى
الأطفال رحمة بهم، وعلى الملهوفين في الحالات الطارئة، لقوله -صلى الله عليه
وسلم-: «في كل ذات كبد رطبة أجر» .
- طلب الدعاء منهم: وبالذات من الضعفاء منهم الذين لا يملكون إلا الدعاء،
وقد يكون فيهم من لو أقسم على الله لأبره.
- نصحهم: وبالذات في قضايا العقيدة من رقى وتمائم وأحجبة وغيرها،
والمريض يكون عادة في حالة من الضعف يتقبل فيها ما يشير عليه الطبيب، ثم
حضهم على الصلاة والحجاب وغير ذلك.
- تذكيرهم بالله، وذلك عن طريق رد النتائج إلى الله عز وجل، وأن الطبيب
ما هو إلا أحد الأسباب التي تجري عليها أقدار الله.
- السؤال عن أحوالهم في البيت وعن أولادهم أو آبائهم، والتلطف معهم مما
يؤدي إلى تكوين علاقة شخصية ودية ليس فيها طابع الرسمية، بشرط البعد عن
المبالغة في رفع الكلفة، الأمر الذي قد يؤدي إلى الابتذال المذموم.
- إعداد بعض الأشرطة أو الكتيبات وإهدائها إلى هؤلاء المرضى.
دعوة أقارب المريض:
وينطبق عليهم ما ذكر آنفاً، إضافة إلى وجوب حرص الطبيب على الجلوس
معهم ومقابلتهم لشرح حالة المريض لهم، وبالتالي التأثير عليهم من خلال
مناصحتهم.
دعوة العاملين في المستشفى:
والمقصود غير الأطباء من ممرضين وفنيين وإداريين وسائقين وغيرهم،
وهناك أمور منها:
* مراعاة التركيز على كل الطبقات، فلا ينبغي استصغار أحد لجنسه أو
وظيفته أو غير ذلك.
* الاهتمام برؤساء الأقسام ممن فيهم سيما الصلاح، لأنهم أهل الحل والربط، وقد ينفع الله بهم من خلال تعميم لا يكلف بضع دقائق مما يوفر الجهد والوقت.
* الاهتمام بغير المسلمين بدعوتهم وتقديم الكتب والأشرطة إليهم، ومعاملتهم
معاملة تقربهم إلى الإسلام، ولا تنفرهم منه بضوابطها الشرعية، وقد أثمرت هذه
الجهود في كثير من المستشفيات، ورأينا أن الكثير من هؤلاء العاملين قد دخلوا في
الدين الله أفواجاً، ويكفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لأن يهدي الله بك
رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» .
* الحذر عند التعامل مع النساء - من المبالغة في التحادث بحجة الدعوة أو
حتى العمل الطبي، مما قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من معاصٍ وفتن أو سوء فهم.
دعوة الإدارة:
وهم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع
بالقرآن» وبيدهم - بعد الله - الإصلاح أو التسبب في الفساد العريض، لذا كان
من الواجب الاهتمام بدعوتهم من خلال الكتابة لهم ونصحهم مع استخدام أسلوب
مناسب مع المترددين منهم، وينبغي أن يشارك في هذا الأمر كل غيور على دينه
حريص على دنياه وآخرته، مع استخدام أسلوب التخويف بالله والترغيب فيما عنده، أما الصالحون من الإداريين فينبغي التحبب إليهم ومساعدتهم والوقوف بجانبهم
ودعمهم معنوياً.
وأخيراً هناك ملاحظات عامة ينبغي ذكرها لعموم البلوى بها منها:
عدم ترتيب الأولويات في الدعوة، فمثلاً قد يبدأ الطبيب بِحَثِّ المريض على
عدم التدخين على الرغم من مقارفة المريض لشركيات وكبائر ينبغي البدء بها أولاً.
سوء الخلق عند بعض الأطباء، فمهما كانت المبررات ليتذكر المرء قوله -
صلى الله عليه وسلم-: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» .
التحاسد في أمور الدنيا، وأمره شنيع إن كان بين الأخوة المتحابين في الله.
عدم مشاورة الأخيار من الأطباء، اتباعاً لشهوة أو كبراً أو غروراً، مع أن
الله عز وجل أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالشورى فقال: [وشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ] ، مما يؤدي إلى بعض الاجتهادات الخاطئة التي قد تفسد ما بناه الآخرون.
ضعف العلم الشرعي بصفة عامة، وبالذات ما يتعلق بمجال الطب، والحل
هو التزود من العلم بسؤال العلماء ومراجعة أهل الخبرة من الصالحين خاصة في
بدء حياته العلمية.
ظاهرة الاستغراق في العمل: فيصحو الإنسان وينام وهو يفكر في دنياه،
وينسى أن الله قد خلقه لغير هذا، حتى ينحصر اهتمام الشخص بين البيت
والمستشفى وما تبقى ففي المسجد.
المبالغة في تقدير مصلحة الدعوة: مما يؤدي إلى السكوت عن المنكرات، بل
استمرائها، ومن ثم الانحراف والنكوص على الأعقاب لا سمح الله. وختاماً.. هذا
غيض من فيض، لكن؛ ليتذكر كل طبيب أن الله قد خلقه لعبادته، وأن الحياة
ليست عبثاً ولا معطفاً أبيض وسماعة فحسب؛ بل هي جهاد واحتساب حتى يأتي
الله بأمره، وأن الأمة تنتظر منه أن يحمل هم الدين عنها - في مجاله على الأقل -
في عصر اجتمعت فيه أمم الكفر على ضرب الإسلام عن قوس واحدة، ولا ينسى
أنه قد قطع من العهود والمواثيق بينه وبين الله أثناء دراسته على مقاعد الكلية أن
يقوم بأداء مهمته خير قيام حال تخرجه، قال تعالى: [ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ
وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا
وعَدُوهُ وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] [التوبة75-77] نعوذ بالله من سخطه وأليم عقابه.(58/23)
فكر
حوار في الديمقراطية
جمال سلطان
نشر الأستاذ فهمي هويدي في منبره الأسبوعي بجريدة الأهرام المصرية فتوى
مثيرة للشيخ القرضاوي حول مسألة (الديمقراطية) ، أراد منها الشيخ القرضاوي -
وفقه الله وإيانا - أن يكشف للإسلاميين عن حقيقة الموقف الإسلامي الشرعي من
(الديمقراطية) أو كما يعبر الأستاذ فهمي هويدي بقوله: (إن الشيخ القرضاوي أراد
أن يحسم في فتوى مفصلة تلك العلاقة المتوترة بين بعض الإسلاميين والديمقراطية، وأن يؤصل من منطق شرعي موقف الإسلام من مختلف القيم التي تقوم عليها
الديمقراطية) .
القضية على جانب كبير من الأهمية، وعندما يدلي فيها بدلوه فقيه في موقع
يوسف القرضاوي، فإن الأمر يزداد خطورة وأهمية، وإذا أضفت إلى ذلك المنبر
أن الذي نشرت من خلاله الفتوى يظفر بقراءة ما لا يقل عن مليون ناطق بالعربية؛
فإن الخطر - ولا شك - يتعاظم، ويفرض نفسه على كل صاحب قلم وحامل فكر.
والفتوى - في صورتها التي نشرت بها - غير ذات موضوع أصلاً، وشبه
معدومة القيمة، وحسبك أن تكون أمام كلام لا تستطيع أن تقول عنه إنه صواب،
ولا تستطيع أن تقول إنه خطأ، وإنما ثمة التباس غريب، وحقائق موضوعية
وتاريخية غابت عن الشيخ أدت إلى خلل في حديثه، يستدعي مني وقفة غير
قصيرة أناقش فيها (حيثيات) الفتوى، مطمئناً إلى سعة صدر صاحبها، لما نعلمه
عنه من حرصه على استبانة الحق حيثما كان، وهمه المخلص -إن شاء الله-
بالقضايا الكبرى التي تشغل الشباب المسلم في هذا العصر
سؤال الفتوى -كما أثبته الأستاذ فهمي- هو: هل الديمقراطية كفر حقاً؟
فافتتح الشيخ حديثه بالقول: (إن جوهر الديمقراطية أن يختار الناس من
يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه،
وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق
الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها، ولا يرضون عنها. هذا هو جوهر الديمقراطية) .
ثم يضيف الشيخ معقباً: (الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه
من صميم الإسلام) وهذا المدخل هو الخطأ الأول والجوهري، الذي ترتب عليه
خطأ الفتوى برمتها.
لقد قرر الشيخ أن جوهر الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم.. الخ،
وهذا هو ناتج أساسي من نواتج الديمقراطية، أو مظهر بارز من مظاهرها، وإنما
الديمقراطية هي - في جوهرها - رفض (الثيوقراطية) أي سلطة الدين والحكم باسم
الله في الأرض، والميلاد التاريخي للديمقراطية كان نتيجة صراع الدولة ضد
الكنيسة، الحكم المدني ضد الحكم الديني، الحكم باسم الشعب والبشر ضد الحكم
باسم الله والدين، وبوجه آخر نقول: إن الديمقراطية هي وجه العملة الآخر
للعلمانية، وكان من مترتبات ذلك أن ترفع وصاية أي بشر مهما كان جبروته
وسلطانه، عن كاهل الشعب، لأننا إذا رفعنا وصاية الدين والإله، من أجل الشعب، فكل وصاية دونها على الشعوب تكون مرفوضة بطريقة الحتم والمنطق، ومن هنا
تولدت الوسائل والنظم التي تحكم إرادة الشعوب لمجتمعاتها بحيث. تحول دون
ظهور القهر والتسلط والاستبداد أو بأي وجه يكون، وذلك بعد أن حققت (الدولة
المدنية) بمفكريها ورجالاتها النصر النهائي على الكنيسة ورجال الدين، وانتزعت
السيادة منهم على النحو الذي يعرفه ببساطة أي دارس للتاريخ الأوربي الحديث.
وكان من مترتبات هذا النصر النهائي للحركة الديمقراطية، أن نزعت صفة
القداسة عن أي وضع وأية قضية وأي معنى، ما لم يقرر الشعب أنه مقدس،
والحرام هو ما غلب رأي الناس أنه حرام، والحلال هو ما غلب رأي الناس أنه
حلال، بغض النظر عن أي مرجعية أخرى، دينية أو غيرها، لأنه إذا قررت أن
ثمة مرجعية تشريعية هي فوق البشر أو قبل رأي الشعب، فأنت بذلك قد نقضت
أصل الديمقراطية، لأنك إذا قلت مثلاً: إن هذا الأمر لا يجوز للناس العمل به
بنص القرآن، فأنت بذلك جعلت الحكم لله، وليس للشعب، وطالما سحب الحكم
والتشريع من الشعب، فقد انتهت القصة (الديمقراطية) .
هذه هي قصة الديمقراطية - باختصار - وهذا هو جوهرها، الذي يعلمه علم
اليقين الأستاذ فهمي هويدي وتياره الفكري، فهل يا ترى نستطيع أن نقول مع
الشيخ: (إن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام؟ !) ، أو
أن نقول معه أيضاً: (إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم
عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم،
ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم) الواضح تماماً من فتوى الشيخ، أنه تصور
الديمقراطية على صورة معينة يأملها ويتمناها ثم أصدر فتواه مفصلة على هذا
(الخيال) الذي داعب أمانيه، لا على الحقيقة التاريخية والموضوعية التي صاغت
مصطلح (الديمقراطية) في الفكر الإنساني الحديث.
ولعله من أبين ما يدلك على ذلك، قول الشيخ في فتواه: (وقول القائل إن
الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل إن الحاكمية
لله، قول غير مسلم فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر
فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هكذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه
ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر
الشعوب، من سلاطين الجور والجبروت) ا. هـ.
وأنا - في الحقيقة - لم أستوعب قول الشيخ إن (الذين ينادون بالديمقراطية لا
يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو ... ) هل أجرى الشيخ
إحصاءاً أنتج له هذه الحقيقة؟ وإذا قال مخالفه: (إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية
هذا ما يدور ببالهم) ما الذي يرجح قول أحدهم على صاحبه؟
إن الفتوى الشرعية تحتاج إلى ضبط في الكلام بصورة أكثر دقة وإحكاماً من
مثل هذه العبارات العاطفية الفضفاضة، وإني لأعذر الشيخ في حماسته هذه في
الدفاع عن قيم العدل والحرية وحفظ حقوق الإنسان وكرامته، فمثله ومثلي، يعرف
كم هي قاسية سياط الجلادين، وكم هي موحشة سجون المستبدين، بيد أن حديث
العدالة والحرية وحقوق الإنسان شيء، وضبط مصطلح فكري سياسي لإجراء حكم
شرعي عليه شيء آخر، كما أن الواقع يبقى دائماً ما كان لا ما ينبغي في تقديري
أن يكون، ولنتأمل قول الشيخ: (والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو
إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسي في اختيار الحاكم،
وإقرار الشورى والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور،
ورفض المعصية، وخصوصاً إذا وصلت إلى كفر بواح، فيه من الله برهان) اهـ.
وأنا هنا أوافق الشيخ تماماً على ما حدده من منهج للحكم الإسلامي، ولكن ما
الذي يدعوك - يا سيدي - لكي تضع خاتم الديمقراطية على هذا الحديث وذاك
المنهج؟ ! ما هي بالضبط القداسة التي يحملها مصطلح غربي التكوين والنشأة
والتاريخ والصراع والدلالة، لكي تستميت في الدفاع عنه وتحسين صورته أمام
المسلمين، بالقدر الذي يذكرنا بالهوس الذي طاف بعقول بعض المسلمين في
الخمسينات والستينات حول مصطلح (الاشتراكية) حتى جعلوها والإسلام وجهين
لعملة واحدة! وها هي التجربة تعود مرة أخرى مع مصطلح (الديمقراطية) .
إن الديمقراطية ليست ما تفصله أنت على مقاسك، أو يفصله غيرك،
الديمقراطية منهج كامل لصياغة البناء الاجتماعي، إما أن تقبله وإما أن ترفضه
وتبحث لك عن منهج آخر يولد لك مصطلحات أخرى تناسب عقيدتك ودينك
وتاريخك وإنسانك.
وإذا جاز أن نقبل المصطلح مع إجراء بعض التعديل عليه ليناسب بيئتنا، فما
قولك في مصطلح (الثيوقراطية) ، وهو (الحكم الإلهي) فقط سنستبعد منه احتكار
رجال الدين للحكم باسم وصاية السماء على ما عرفه التاريخ الكنسي الأوربي ويبقى
لنا أنها تعني جعل حكم الله هو المهيمن على البشر والمحدد لشريعة المجتمع، هل
نستطيع أن نقول حينئذ أن جوهر الديمقراطية (حكم الله) هو الإسلام؟ !
إنه بالقدر الذي تقول به: إن الديمقراطية من الإسلام، يصح القول إن
الثيوقراطية من الإسلام! ! أما نحن فنقول: إن الديمقراطية والثيوقراطية كلاهما
مصطلح أوربي النشأة والتكوين والتاريخ والدلالة، ولا يعنينا أمرها كمسلمين لأن
الإسلام لم يعرف حكم طبقة رجال الدين كما لم يعرف يوماً (صكوك الغفران) كما لم
يعرف الصراع بين الدولة المدنية والكنيسة أو بين الدين والدولة إجمالاً لأن الإسلام
كدين وتاريخ وحضارة يختلف عن المسيحية كدين وتاريخ وحضارة، مما يعزز لنا
-بالبديهية المحضة- اختلاف المصطلحات الفكرية والسياسية والمنهجية بين كلا
المنظومتين.
القضية هنا، أن بعض المسلمين يتخيل أن حقوق الإنسان والعدالة والحرية
وحق تداول السلطة ومنع التجبر في الأرض هي أمور حكر على التنظيم
الديمقراطي للمجتمع، بحيث لا يمكن لهم تصور هذه المبادئ تتحقق تحت أي مظلة
أخرى مصطلحية في الإسلام، وهذا خلل خطير، إن هذه الحقوق والمبادئ
الإنسانية مجرد ناتج لميلاد العلمانية/الديمقراطية في المجتمع الأوربي، ولكنها أيضاً
يمكن إنتاجها وحمايتها وفرضها في المجتمعات الأخرى عن غير طريق
العلمانية/الديمقراطية.
ولكن الهيمنة الفكرية الغربية على تيارات الفكر والسياسة في المجتمع
المعاصر، والجبروت الذي تمارسه المركزية الأوربية على عقول ونفوس أبناء
العالم الثالث - ومنهم كثير من المسلمين - لم تدع فرصة للعقل غير الأوربي أن
يفكر بأصالة، أو يتخيل نتاجاً فكرياً ومنهجياً لا يجذب إلى (القطب الأوربي)
ومنهاجه ومصطلحاته، فكانت معظم الجهود (العالمثالثيه) في مجال الأفكار والمناهج
والمصطلحات - ومنه هذه الفتوى - مجرد تذييلات وهوامش على المتن الأوربي،
بيد أننا في الحالة الإسلامية يأبى الضمير الإسلامي إلا أن يسجل تحفظاته الخجلى
على الديمقراطية، ويتجاهل أن هذه التحفظات تعني في الواقع الموضوعي رفض
الديمقراطية ولكننا نصر على الاحتفاظ بالمصطلح والدفاع عنه رغم أننا -
موضوعياً - أبطلناه.
إن حزب الفراشة الإيطالي - حزب المومسات - فرض نفسه على الساحة
الحزبية، ودخلت بعض أعضائه إلى البرلمان الإيطالي لكي يكون (صوت المومس)
كافياً لتشريع أي قانون جديد في المجتمع إذا تساوت الأصوات، الذي لا يريد أن
يعترف به الشيخ القرضاوي أن حزب الفراشة يمارس حق الديمقراطية، وأنك إذا
رفضت وجوده أو رفضت دخوله البرلمان، أو رفضت الاعتداد بأصوات أعضائه، فأنت غير ديمقراطي، وهذا فعل ضد الديمقراطية، هذه حقيقة موضوعية لا حيلة
لك فيها، ولا مهرب لك من الإقرار بها.
صحيح أنك ترفض ذلك وأنا كذلك أرفضه، ولكن معنى ذلك أننا نرفض
الديمقراطية كإطار منهجي للحكم في بلاد الإسلام، ويبقى أن نبحث أنا وأنت عن
مصطلح جديد ومنهج جديد، يربط بين الدين والدنيا، الشريعة والمجتمع، العدالة
والأخلاق، الحرية والقيم، حق الله وحق العباد، وهي كلها جوانب لا صلة
للديمقراطية بها ابتداءاً، ولا يؤرقك يا سيدي أن يرفض الغرب الاعتراف
بمصطلحك الجديد ومنهجك الجديد، فهو يرفض دينك من حيث الأصل [1] ، كما
أن المنطق الذاتي للديمقراطية التي تحكم حياته يلزمه بقبول وضعية التعددية، هذا
إذا أحسنا الظن بالتزامهم أي مبدأ لا سيما العلاقات الدولية.
في فتوى الشيخ يوسف القرضاوي عن الديمقراطية، هناك خلل آخر في
محاولته تحليل مشروعية بعض الجوانب الإجرائية في الممارسة الديمقراطية،
حيث حمل على فهم بعض الإسلاميين لها، وأنا أترك نص الحديث له ثم يكون
تعقيبنا:
يقول الشيخ: ومن الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين على أن الديمقراطية
مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام، أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها
صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور
المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع فأي رأي ظفر
بالأغلبية المطلقة أو المقيدة في بعض الأحيان فهو الرأي النافذ وربما كان خطأ أو
باطلاً.
هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره لموافقة
الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته أهو صواب أم خطأ، فإن كان صواباً نفذ،
وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن
كان معه (99) من ال (100) ! !
بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائماً في صف الباطل وفي
جانب الطاغوت كما في مثل قوله تعالى: [وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [الأنعام: 116] ، [ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ]
[يوسف: 103] ، وتكرر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية [ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ] [الأعراف: 187] .
ثم يضيف الشيخ معقباً على ذلك بقوله: وهذا الكلام مردود على قائله وهو
قائم على الغلط والمغالطة. فالمفروض أن نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم
أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين
أو الضالين عن سبيل الله.
ثم إن هناك أموراً لا تدخل في مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الصوت
عليها، لأنها من الثوابت لا تقبل التغيير إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.
فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه
بالضرورة إنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي،
ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، إذا اختلفت الآراء في هذه القضايا فهل تترك
معلقة أو تحسم؟ هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أم لابد من مرجح؟
إن منطق العقل والشرع والواقع يقول لا بد من مرجح، والمرجح في حالة
الاختلاف هو الكثرة العددية فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد
وفي الحديث: «إن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد» ، وقد ثبت أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما على مشورة ما
خالفتكما» أ. هـ..
وهذا الكلام يحتاج إلى بعض التفصيل لما فيه من أوهام ومغيبات وبداية أنا
أتعجب من كون الشيخ وضع رأي مخالفيه الذين يرى بطلان قولهم وصدره بأنهم
يرون أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام، فهل يرى الشيخ
القرضاوي - يا ترى - أن الديمقراطية مبدأ غير مستورد، وأنه مبدأ أصيل نشأ
وتولد وترعرع في حنايا التاريخ الإسلامي وتحولاته الحضارية والمنهجية والدينية
والسياسية؟ ! فمتى إذا حدث ذلك؟ وفي أي زمن منذ بعثة النبي -صلى الله عليه
وسلم- حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟ ! ومتى استوردت أوربا
الديمقراطية من المسلمين؟ ! وما ملابسات ذلك الحدث التاريخي الفذ والمثير الذي
خفي على العالمين هذه القرون الطويلة؟
أظن إنه ما كان يليق بالشيخ أن يصدر حديثاً بتلك العبارة وذلك أنه أو أي
مسلم آخر لا يستطيع الادعاء بأن الديمقراطية مبدأ غير مستورد من المنظومة
الأوربية، وإنما الخلاف هو في موقف الإسلام منها، هذه واحدة، أما قول الشيخ
في رده (المفروض أن نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع الجاحدين أو الضالين عن
سبيل الله) ، فهذا فساد موضوعي ظاهر، فالديمقراطية لا تعني بهوية الإنسان
وإيمانه وكفره، نوعية القيم التي يحملها، فالكل سواء، عالم الدين والبغي والمسلم
والنصراني، أما إذا قلت بأن حق الممارسة الديمقراطية في المجتمع المسلم موقوف
على المسلم المتدين ولا يدخل فيه غير المتدين، أو الشاذ جنسياً أو النصراني أو
اليهودي أو الملحد، فأنت بذلك تتحدث عن نظام آخر، ومنهج آخر، سمه ما شئت، إلا أنه - على وجه القطع - ليس الديمقراطية، وكذلك قول الشيخ (ثم إن هناك
أموراً لا تدخل مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها لأنها من الثوابت
التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.
والمفارقة التي يستغربها الشيخ هنا أن المجتمع إذا تغير ولم يعد مسلماً أمكن
له أن يكون ديمقراطياً، أما إذا ظل مجتمعاً مسلماً فقطعاً لن يكون ديمقراطياً، لأنه
يملك منظومة أخرى من الثوابت والعقائد والقيم التي يستحيل إخضاعها لرأي البشر.
وهنا نعود إلى أصل الخلل في تصور الشيخ لماهية الديمقراطية وجوهرها،
ففي الديمقراطية الشعب هو المرجع، وهو الحاكم، وهو المشرع، وهو الثابت
الوحيد، فإذا قلت: إن هناك أموراً لا تخضع للتصويت أو لا تدخل في مجال
التصويت، فأنت بذلك غير ديمقراطي قطعاً، وإذا قلت: إن هناك ثوابت فكرية أو
دينية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية لا تقبل التغيير فأنت بذلك غير ديمقراطي،
وكذلك قول الشيخ (فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع) قول غير ديمقراطي،
لأن تقريرك أن هناك شرعاً يحكم فوق إرادة البشر فهذا طعن في صلب الديمقراطية
وجوهرها.
هل اتضحت الصورة الآن أمام الشيخ وهويدي وتياره؟ إنني أوافقهم تماماً
على كل الضوابط والحدود والأطر التي وضعوها لسياسة المجتمع المسلم، ولكن
الخلل الأساسي أنهم يأبون - ولا أدري لماذا - إلا أن يضعوا شعار الديمقراطية
على منهج الله ونظام الإسلام السياسي، هل يظنون أنهم يجملون الإسلام ومنهجه
بوضعهم هذه اللافتة المستوردة عليه؟ إن الإسلام - يا أصحابي - أجمل وأعلى
وأطهر وأعدل من الديمقراطية ومن كل تصور بشري وضع لسياسة المجتمع، لا
أقول ذلك مجرد انتصار للدين، أو حماسة إيمانية مجردة وإنما هي قناعة راسخة
من تجوال البحث والنظر والتأمل في تحولات التاريخ الإنساني القديم والحديث
ومآلات الأوضاع في العالم الإنساني المعاصر.
يا إخواني: إنكم بذلك تثيرون الارتباك والحيرة والتشتت الذهني في عقول
وضمائر شباب الصحوة الإسلامية، الذي تأمل من الأمة تحقيق نهضتها المرتجاة.
لماذا لا تبحثون عن فكرة أصيلة بناءة، تصوغون بها مشروعاً إسلامياً أصيلاً
للنهضة لتنظيم الفعل الاجتماعي الإسلام الجديد؟ هل أصبحت وظيفة الفقيه المسلم
أو المفكر الآن أن ينتظر البضاعة الغربية فكرية أو مادية لكي يضع عليها الشعار
التقليدي: (مذبوح على الطريقة الإسلامية) ؟ .
يا إخواني: ألم يعرف الإسلام نظاماً ومجتمعاً وحضارة ونظريات سياسية
وأنماط إدارية قبل ظهور الديمقراطية؟ ألم يعرف الإسلام ومجتمعه عدلاً ورحمة
وحرية واستنارة وتحضراً وشورى وتعددية فكرية ومذهبية وغير ذلك قبل ظهور
الديمقراطية؟ !
إذا كان الإسلام يعرف ذلك فحدثونا عنه، وأعيدوا صياغته، وطوروا آلياته
ومؤسساته، ودققوا في تنظيماته ووسائل تحقيقه، وولدوا ما تحتاجون إليه من
مصطلحات أصيلة وشعارات مسلمة تعبر عن خصوصية منهج الإسلام في الحكم
بدلاً من هذا التسول الفكري والمذهب الاصطلاحي المزري والمهين عند أعتاب
الفكر الأوربي الحديث.
فضيلة الشيخ يوسف، الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة أوربية واحدة،
ومن قال لك غير ذلك فقد كذبك، وكلاهما مرفوض إسلامياً، ولكن ليس معنى
رفضهما أننا - بالحتم - نرفض بعض النتاجات التي تولدت عنها والتي تتشابه مع
بعض القيم الإسلامية، فحق الأمة في اختيار الحاكم وحق عزله إذا انحرف أو
محاسبته إذا أخطأ، وحرية الرأي وحق الاختلاف، وحفظ كرامة الإنسان وآدميته،
وحق تداول السلطة، واحترام حقوق الأقليات ونحو ذلك كل هذه أركان أصيلة في
منهج الإسلام في الحكم بنص كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-،
ولكنها أركان تقوم على أسس تصورية وعقيدية، وتحكمها ضوابط وأطر منهجية،
تختلف تماماً عن الأسس والضوابط التي تمثلها (الديمقراطية) كمنهجية لسياسة
المجتمع البشري.
يا فضيلة الشيخ، ليس هذا دورك، ولا تلك قضيتك، وإنما هذه تهويمات
أدعياء الاستنارة والمترفين فكرياً، والذين لا يحملون هموم الأمة ونهضتها ولا
يعرفون قدر دينهم ومعنى أنهم يحملون رسالة الإسلام للعالمين.
يا فضيلة الشيخ، لقد سارت فتواك في الناس، واطلع عليها الجمع الغفير من
مثقفي الأمة، إني أسألك بحق العهد والميثاق الذي تحملونه (لتبينه للناس ولا
تكتمونه) أن تعيد النظر وتجيله فيما أثبته في هذا الحوار، لعل الله يهدينا لأقرب من
هذا رشداً، والحمد لله أولاً وآخراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) بل يرفض الديمقراطية نفسها إذا أحس أن المسلمين سينتفعون منها، كما هو حاصل في أكثر من مكان في العالم الإسلامي
- التحرير -.(58/31)
خواطر في الدعوة
[ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ]
محمد العبدة
جاءتني رسالة من طلبة مسلمين يدرسون في أقصى المشرق، يقولون فيها
أنهم متحيرون بما تعج به الساحة الإسلامية من القيل والقال عن فلان الداعية أو
الجماعة الفلانية، فنسمع من القدح ما يصل إلى درجة التضليل والانحراف،
والأسماء كثيرة ومتنوعة، ونحن نبحث عن الحق وعن المنهج الذي يجب على
المسلم الالتزام به تجاه ما يدور حوله.
إن تساؤلات هؤلاء الإخوة ليست قاصرة عليهم، بل ربما سمع كثير من
الشباب المسلم بمثل ما سمعوا، ووقفوا متحيرين متسائلين عن وجه الحق في غمرة
هذا التفرق والتشرذم، ونحن نعذر بعض العذر هؤلاء الإخوة لكثرة ما يقال ويكتب
في أمور تشوش الذهن وتكدر الخاطر، وليس فيها مصلحة للدعوة. ونقول بعض
العذر لأن المسلم المتعلم أمثالهم يجب أن يملك الميزان لمعرفة واقع الدعوات والدعاة، ومن أَوْلى الموازين في ذلك قوله تعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] وكثير
مما يقال هو بالتأكيد أقوال بلا علم، أغلبها روايات تنشر تعتمد على الحزبية،
والقراءات ضعيفة والتحقيق يتعبهم، وعندئذ يلقى القول على عواهنه.
ومن الموازين أن منهج أهل السنة والجماعة - وهم خير القرون - هو
الأصل في هذا، ومنهجهم في الفهم والاستدلال من الكتاب والسنة، وكل من كان
أقرب إلى هذا المنهج فهو الأقرب إلى الحق، ويجب على المسلم مؤازرته
ومناصحته، وهذا المنهج ليس كلمة تقال في المحافل بل تطبيق علمي وعملي
لقواعده، واحترام لعلمائه ودعاته، ومن تطبيقات هذا المنهج الإنصاف في الحكم
ولو على الأعداء وعدم الخوض في أعراض المسلمين إلا أن يكون داعي بدعة أو
ضلالة. والفرق المنحرفة لا تملك هذه الأخلاق، فتراهم يَدَعون أهل الجَوْر والفسق
والفجور، ويلاحقون الدعاة بالنقد والتجريح، وهذه طريقة الخوارج بعينها كما
وصفوا بأنهم يدعون أهل الأوثان ويقتلون أهل الإيمان.
ومن الموازين أن أصحاب المنهج السليم يهيئ الله لهم القبول في الأرض،
فتكون طريقتهم مرضية، ويوفقون في مسائل العلم التي يطرحونها، وفي عرض
الإسلام للناس ودعوتهم إليه، وأهل البدع ليسوا كذلك، وهذا مما يزيدهم حنقاً
وحقداً فتكثر اتهاماتهم ويكثر لغطهم، ويكون هذا من الابتلاء وزيادة الأجر لمن
يتكلم فيه الناس، وشيء آخر وهو أن الأمور بخواتيمها، ومن ثمراتهم تعرفونهم،
فانظر أيها السائل في الساحة الإسلامية؛ من الذي يقدم العطاء؟ ومَنْ الذي لا يقدم، وقد قال السلف: إذا رأيتم من يذكر الإمام مالك بسوء فاعلموا أنه مبتدع.(58/42)
مصطلحات وتعريفات
عثمان جمعة ضميرية
يتردد في كتب العقيدة الإسلامية، بعض الألفاظ والمصطلحات، ينبغي أن
نحدد معناها، وأن نتعرف عليها، لأن ذلك أمر ضروري، منعاً للالتباس واختلاط
المفاهيم، وسنشير فيما يلي إلى ثلاثة مصطلحات هي: أهل السنة والجماعة،
والسلف، وأهل الحديث.
1 - أهل السنة والجماعة:
ويجمع هذا المصطلح وصفين اثنين لأصحابه، وهما: السنة والجماعة. قد
تقدم فيما سبق شرح معنى السنة في اللغة العربية وفي الاصطلاح الشرعي العام،
وفيما يراد بها في كتب العقيدة. ولذا نشير هنا إلى معنى الجماعة، ومن ثم نجمع
بين هذين الوصفين فيتضح لنا عندئذ معنى هذا المصطلح المركب منهما.
الجماعة في اللغة: مأخوذة من الجمع، وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من
بعض. يقال: جمعته فاجتمع [1] .
قال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» [2] :
«الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضامّ الشيء. يقال: جمعت
الشيء جمعاً: والجُمَّاع: الأُشابة من قبائل شتى.. وقدر جماع وجامعة، وهي
القدر العظيمة..» .
والجميع: ضد المتفرق، والمجموع: الذي جمع من هنا وهنا، وإن لم يجعل
كالشيء الواحد.
وفلاة مجمعة: يجتمع القوم فيها ولا يتفرقون، خوف الضلال ونحوه، كأنها
هي التي جمعتهم. وكلمة جامعة: كثيرة المعاني على إيجازها، وجمعها: جوامع،
كما في الحديث: «أوتيت جوامع الكلم» [3] .
والجماعة: العدد الكبير من الناس.. وهي أيضاً طائفة من الناس يجمعها
غرض واحد [4] .
والجماعة هي الاجتماع، وضدها: الفرقة.. وصار لفظ الجماعة اسماً لنفس
القوم المجتمعين [5] .
ومن هذه النصوص اللغوية وأمثالها نلاحظ أن الجماعة تتكون من جملة
عناصر هي: الضم والتقريب بين أناس من هنا وهناك، أي من جماعات شتى،
وفيها معنى العظمة والكثرة، وأن الاجتماع وعدم التفرق يهدف إلى عدم الضلال
والضياع، وللجماعة الكثيرة هذه هدف وغرض واحد تلتقي عليه، فهي تسير على
منهج واحد لتصل إلى غرضها وغايتها. ولعل هذه الصفات والأمور كلها لا تخرج
عن المفهوم العام والمعنى الذي يريده العلماء من هذا المصطلح «أهل السنة
والجماعة» .
وقد أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة،
والاختلاف فقال: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] ، [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] .
وتواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بملازمة الجماعة
والتحذير من مفارقتها، كقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة -
رضي الله عنه-: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة
جاهلية» [6] .
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد،
وهو من الاثنين أبعد» [7] .
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب» [8] 00 الخ.
واختلف العلماء في المراد بهذه الجماعة التي أمر النبي -صلى الله عليه
وسلم- في هذه الأحاديث وما في معناها - بملازمتها.
وقد أجمل الشاطبي - رحمه الله - ذلك في خمسة أقوال:
1 - أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، فالسواد الأعظم هم الناجون من
الفرق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية
سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق.
2- أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات
ميتة جاهلية، لأن جماعة الله هي العلماء، جعلهم الله حجة على العالمين، وهم
المعنيون بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لن يجمع أمتي على
ضلالة» [9] ، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع عند النوازل، وهي تبع لها. فمعنى قوله «لن تجتمع أمتي» : لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة.
فعلى هذا القول: لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد، لأنه داخل في
أهل التقليد، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية. ولا يدخل
أيضاً أحد من المبتدعين.
3- أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين
وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، وقد يقع من سواهم فيها. ألا ترى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس [10] .
4 - أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا اجتمعوا على أمر، فواجب
على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام
أن لا يجمعهم على ضلالة، فإن وقع بينهم اختلاف، فواجبٌ تعرُّف الصواب فيما
اختلفوا فيه.
قال الشافعي: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله وسنةٍ ولا قياسٍ، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة.
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني، وهو يقتضي أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع
إلى القول الأول وهو الأظهر.
وفيه من المعنى ما في الأول: من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم، وعند
ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلاً، فهم - إذاً - الفرقة الناجية.
5- ما اختاره الإمام الطبري من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا
على أمير. فأمرَ عليه الصلاة والسلام بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا
عليه من تقديمه عليهم.
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-:» من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم
فاضربوا عنقه كائناً من كان « [11] .
وحاصله: أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام والموافق للكتاب
والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنَّةٍ خارج عن معنى الجماعة
المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم [12] .
وما ننتهي إليه في معنى أهل السنة والجماعة: أنها الفرقة التي وعدها النبي
-صلى الله عليه وسلم- بالنجاة من بين سائر الفرق. ومدار هذا الوصف على اتباع
سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وموافقة ما جاء به من الاعتقاد والعبادة والهدي
والسلوك، وملازمة جماعة المسلمين، وهو الحق الذي ينبغي التمسك به.
فعن عمرو بن ميمون قال: قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فوقع حبه في قلبي، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام،
ثم لزمت أفقه الناس بعده: عبد الله بن مسعود، فذكر يوماً عنده تأخير الصلاة عن
وقتها، فقال: صلُّوها في بيوتكم واجعلوا صلاتكم معهم سُبْحة. قال عمرو بن
ميمون: فقيل لعبد الله بن مسعود: وكيف لنا بالجماعة؟ فقال لي: يا عمرو بن
ميمون، إن جمهور الجماعة هي التي تفارق الجماعة. إنما الجماعة ما وافق طاعة
الله وإن كنت وحدك [13] .
وقد سُمِّيَتْ بأهل السنة والجماعة لتمسكهم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والعمل بها، واتباعهم لما جاء به؟ ولأنهم يعتصمون بالحق وما عليه جماعة
المسلمين فلا يفترقون في الدين، وبذلك يكونون على الصراط المستقيم الذي هو
دين الإسلام المحض الخالص، وهو ما في كتاب الله تعالى، فهو السنة والجماعة،
فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض [14] .
وأهل السنة والجماعة ليسوا محصورين في جماعة معينة أو فئة أو بلد أو
زمن دون الآخر، إذ كل من اتصف بسمات أهل السنة وكان على منهجهم فهو
داخل في دائرة أهل السنة والجماعة. وبهذا يلتقي مفهوم أهل السنة مع مفهوم
السلف -الأتي-.
-يتبع -
__________
(1) مفردات القرآن للراغب ص (96) .
(2) 1 /479.
(3) الصحاح للجوهري: 3/1199 - 1200، وانظر: لسان العرب، القاموس المحيط مادة جمع.
(4) المعجم الوسيط: 1/135.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية: 3/157.
(6) رواه مسلم في الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين برقم 1848: 3/1476.
(7) أخرجه الترمذي في الفتن، باب في لزوم الجماعة: 6/185، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه، وصححه الحاكم: 1/114.
(8) أخرجه الإمام أحمد: 4/278، وذكره الألباني في الصحيحة: 2/276.
(9) روى هذا الحديث من طرقٍ، عن أبي مالك الأشعري وابن عمر وابن عباس وأنس وسمرة وأبي نضرة وأبي أمامة وأبي مسعود، بألفاظ كثيرة، عند أبي داود والترمذي والحاكم وابن أبي عاصم في السنة قال الزركشي بعد أن ساق رواياته كلها وطرقه: واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا يخلو من علة وإنما أوردت منها ذلك ليتقوى بعضها ببعض، ومن شواهده ما في الصحيحين عن أنس: قال مُرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت ثم مُرَّ بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت فقيل: يا رسول الله: لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: شهادة القوم، والمؤمنون شهداء الله الأرض وفي لفظ مسلم من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض -ثلاثاً- انظر المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر للإمام بدر الدين الزركشي ص (57- 62) بتحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي.
(10) أخرجه مسلم في الفتن، باب قرب الساعة برقم (2949) : 4/2268.
(11) انظر صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 3/1480.
(12) الاعتصام للشاطبى: 3/ 260 - 265 باختصار يسير، وانظر: فتح الباري: 13 /37.
(13) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 13/179، شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 1/108 -109.
(14) انظر الفَرْق لين الفِرَق للبغدادي ص (318- 361) .(58/44)
البيان الأدبي
رؤية في تأسيس الأدب على الدين
د. مصطفى السيد
إذا كانت وثنية اليونان بما فيها من أرباب متفرقين إحدى أهم ينابيع الرؤيا
للأدب والفلسفة في تلك الأمة؛ وإذا كان [الكتاب المقدّس العمود الفقري للآداب
الغربية في شتى صورها] [1] فهل يكون بدعاً من القول، ومستهجناً من الرأي أن
يدعو المسلم الأدباء الذين أشربوا في قلوبهم الإيمان لتأسيس رسالة الأدب تأسيساً لا
يناقض روح النص الإسلامي المتمثل (بفَقَار العربية) [2] القرآن الكريم والحديث
الشريف؟
لا أعتقد أن مثل هذه الدعوة ستنبذ من قبل أمة تعتز بصبغة الله [3] [ومَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: 138] . بل إن مثل هذه الأمة
لن تجد غضاضة فى أن ترتد في الحافرة [4] ، لتأطر [5] الإبداع الأدبي والدرس
النقدي بقوة إلى العودة إلى فضاء التصور الإسلامي، ولكنها ليست أوبة يكون
عمادها الاسترجاع الآلى أو المحاكاة الشكلية للدور المفقود، بل هي أوبة واعية
للذات والموضوع، ترعى رسالتها وتراعي المستجدات، تملك التراث ولا يملكها،
وتمسك بالحاضر ولا يمسكها، وتستشرف المستقبل دون أن يستقر فيها فيقطعها عن
ماضيها وحاضرها أو يغرقها في بحاره، ويسجنها في إساره [6] .
إن الدرس الأدبي الأول الذي اتخذ القرآن الكريم محوراً، هو الذي وضع
المعالم الأساس والبذور الأولى لنظرية (لغة الأدب) وهو الذي كشف عن أدبية
النص وليس الشكلانيين الروس كما هو مستقر حالياً في المصادر الأوربية المختلفة. ذلكم الدرس الأدبي الأول الذي تمحور حول اللغة في القرآن الكريم، وأنتج
التآليف التي قامت على رصد مظاهر الانحراف في العبارة الأدبية بالقياس إلى اللغة
في مستواها المثالي، وهذا في الواقع هو المبرر الحقيقي لكي نسجّل للنحاة العرب
والقائمين على الدراسة اللغوية للنص القرآني، أوليتهم في البحث البلاغي، وذلك
عندما صنعوا ما سار عليه المحدثون من أصحاب النحو التحويلي من تفريقهم بين
ما أطلقوا عليه: البنية السطحية وما أطلقوا عليه البنية العميقة [7] .
إن المحاولات الدؤوب لجمع ما تناثر عن إعجاز القران الكريم في القرن
الأول والثاني الهجريين وتأطيره تمهيداً لتنظيره بمنظومة معرفية متكاملة، هذه
المحاولات كانت خيراً عميماً لكل الأطراف - الدارس/الموضوع /القارئ - انتقل
معها وبها العقل العربي المسلم من الجزئي إلى الكلي، ومن الظاهرة إلى النظرية،
ومن الملاحظات المتناثرة إلى العلوم المتماسكة والثقافة المتآزرة. كما كانت قيمتها
الأخلاقية ودلالاتها الجمالية ملتحمتين متوحدتين تأخذان بجماع عقل القارئ وتسدّان
عليه أبواب الملل والسأم.
إن ذلك حصل كله بفضل الله ثم بما (كان لإعجاز القرآن من تأثير في تحريك
الفكر اللغوي والأدبي والبلاغي والكلامي على حد سواء. فقد كان الانشغال بظاهرة
إعجاز القرآن أكبر حافز للفكر العربي يومئذ على ارتياد مسالك الدرس اللغوي
والأدبي. إذ بقدر ما كان لإعجاز القرآن من الوقع في نفوس الذين سمعوه أول مرة، وانبهروا ببيانه، واعتبروه دليلاً لا يرد على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-
بقدر ما ظل هذا الإعجاز يحتل حيزاً كبيراً من اهتمامات العلماء والدارسين على مر
الأجيال، فلم يتوقف الفكر عبر العصور الماضية عن البحث في وجوه إعجازه،
سواء كان ذلك بدافع الحاجة المتجددة إلى الدفاع عن هذا الإعجاز، أو كان بدافع
تبيين وجوهه، وتأسيس العلوم المتفرعة عنه، أو المقعِّدة لقواعده. فكان القرآن
منطلق النظر في كل القضايا اللغوية والأدبية التي انشغل بها البحث فيما بعد) [8] .
إن تلك المدارسة للقرآن الكريم أنجبت للعربية بل للدراسات الجمالية في العالم
كله مجرّة من العبقريات الإسلامية، أذكر منها على سبيل المثال لا الإحصاء: عبد
القاهر الجرجاني (471- أو 474 هـ) ذلك العالم الذي أعطى علم البلاغة (هويته الكاملة) كما يقول الدكتور شكري عيّاد [9] وسبق بدراساته لأساليب القرآن الكريم أحدث ما وصل إليه عالم اللغة السويسري (دي سوسير) كما يقول الدكتور محمد مندور [10] وهو النقاد الأول الذي اكتنه الطبيعة البنيوية للصورة كما يقول الدكتور كمال أبو ديب [11] .
وهكذا فإن الإبداع في التراث العربي كان ينظر إليه دائماً وعلى مر العصور
بأنه مرتبط بالدين، لا نستطيع أن نتحدث عن إبداع عربي دون أن ندخل في
الاعتبار العامل الأساسي وهو الرؤية الإسلامية إضافة إلى ما تمتاز به الحضارة
العربية من مقومات كثيرة، لكن هناك جانباً هاماً في تراثنا هو الجانب
الإسلامي [12] .
إن تأسيس الإبداع أدباً ونقداً على الاقتباس من النص الإسلامي علاوة على ما
يمنحه للأدباء من قراءة واعية للقرآن الكريم والحديث الشريف، فإن هذا التأسيس
يشكل حصناً منيعاً أمام محاولات وغارات الاجتياح الثقافي والروحي للأمة، ولكم
دفع المسلمون ثمناً باهظاً للتضاد القائم بين خطابهم الأدبي ورسالتهم العقدية.
ثم لمصلحة من يغيب أو يغيّب إسلامنا عن أدبنا؟ حتى بلغ الأمر أحياناً إذا
ذكر الدين في معرض الحديث عن الأدب، اشمأزت قلوب كثيرة، وإذا ذكر ما
دونه أو من دونه إذا هم يستبشرون.
ثم أليس في تأسيس الأدب على الدين عود بالأمر إلى ينبوع الرؤية الأولى في
هذا الكون، إذ أن (الآداب العالمية إنما نشأت نشأة دينية [12] ، ويرى ويليام بليك
(أن العهد القديم والجديد هما شريعة الفن العظيمة) [13] ، ويقول تومارس هاردي:
(إن الأدب الصرف يشمل الدين لأن الشعر والدين يتماسان) [14] .
ولم يكن إيماني بهذا الأمر ليتوقف على مقالات الغربيين، ولكن عندما يرى
المرء أن التغرب أوشك أن يصادر بعض العقول في بلادنا أحببت أن أذكِّر بأن
الاحتفاء بالفكر الغربي يسع الجانب الإيجابي من هذا الفكر أيضاً.
إن (الإنسان منذ مولده قد استودع فطرة باطنة، بعيدة الغور في أعماقه توزعه
- تلهمه وتحركه - أن يتوجه إلى عبادة رب يدرك إدراكاً مبهماً أنه خالقه وحافظه
ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكل ما يلبي حاجة هذه الفطرة الخفية الكامنة في
أغواره، وكل ما يلبي هذه الحاجة هو الذي هدى الله عباده أن يسموه «الدين» ولا
سبيل البتة أن يكون شيء من ذلك واضحاً في عقل الإنسان إلا عن طريق «اللغة» والدين واللغة - منذ النشأة الأولى - متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل، ومن
أغفل هذه الحقيقة ضل الطريق، وأوغل في طريق الأوهام، هذا شأن كل البشر
على اختلاف مللهم وألوانهم) [15] ، ويقول العلامة محمود محمد شاكر أيضاً في
سفره الرائع -أباطيل وأسمار- درة الأدب الإسلامي اليتيمة:
«إنه لأمر مفروغ منه ارتباط الآداب بتاريخ الأمة وعاداتها وأخلاقها
ودياناتها، وما شئت من شيء تعدّ به الأمة ذات كيان قائم متميز، ودارس الآداب
إذا لم يكن مطيقاً لذلك كله، بصيراً به، حسن التصرف في جليله ودقيقه، جيد
الفهم لغوامضه ومبهماته، فهو حري أن يشوه الصورة عند تركيبها، تشويهاً فيه من
الشناعة ما يجعل دراسته مُثْلَة بمن يدرسه، كما يمثل المحارب المحترق بجثة عدوه، وقد أطارت لبه حدّة العداوة والحقد، واتقان دراسة هذه المادة كلها تعد دراسة أدبية
محضة، فلا يستطيع دارس أن يقول للناس: إنها ليست من صميم اختصاصي! !
فإذا قالها، فذلك إيذان منه بأنه فقد التمييز، وجهل أساس كل منهج، واستحق
أن يطرح الناس ما يقوله، إذا هو لم يجد عند نفسه القدرة على أن يستحي فيستر ما
يكتب، ويغيبه في التراب عن أعين الناس. وظني أن هذا الذي قلته عن المنهج
كاف في تمثل التبعة التي يتحملها دارس الآداب، وفي إدراك التبعة التي يحملها
القارئ حين يعرض عليه دارس ما درس، فالأمر من أي نواحيه أخذته إذن جد لا
هزل فيه) [16] .
وفي ارتكاز الأدب على الدين مورداً ومصدراً إبداعاً ونقداً يرد البشرية
المعاصرة إلى نقطة البداية في قصة الوجود الأولى، وذلك عندما أهبط أبو البشرية
آدم إلى الأرض، بعد أن كرمه الله سبحانه بإسجاد الملائكة فيتذكر الأبناء تكريم
الأب، ويتذاكرون سيرته وعقيدته /التوحيد /ودينه /الإسلام / فيؤول من وفق منهم
إلى الأصل ليأوي إلى ركن شديد، بعلو النسب الأبوي والعقدي، ويدرك الأبناء أن
عدوهم اليوم هو عدو أبيهم بالأمس، وأن هذه العداوة دائمة وقائمة إلى ما شاء الله
أن تبقى، لا كما صوره عمل يعد من أعظم المنجزات الأدبية في الغرب وهو
مسرحية (فاوست) للشاعر الألماني جوته (ت 1832م) أن مختلف القراءات ...
المسرحية تعطي للشيطان دوراً جديداً في عالم ألغى الدين، ولم يدع منه إلا معالم
باطلة، وأعدل هذه القراءات طريقة وهي التي ترى أن (هذه المسرحية تعد
تشخيصاً لانتقال الإنسان من الإيمان بالغيب وطلب المعرفة عن طريق
الأرض [17] إن هذه القراءة مرفوضة في التصور الإسلامي مقدمات ونتائج. إن الإسلام بوصفه ديناً إلهي المصدر، عالمي الهدف إذا ما استند النص الأدبي إلى هاتين الحقيقتين فيما يعالج من قضايا. فمن المرجح - بفضل الله - ألا تغادر نصوص مثل هذا الأدب عقل المتلقي دون أن تظفر باستجابة عاجلة أو آجلة كبيرة أو صغيرة ولا سيما المتلقى الكتابي، الذي يقرأ في إنجيل متى قول المسيح عليه السلام: (لا تظنوا أني جئت لأنقض ناموس الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل) [18] ، وصدق الله العظيم القائل: [وإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] [الصف: 6] .
ولا يظن الكاتب أن جهوده ستكون هباءً منثوراً، أو تلقي بها الريح في مكان
سحيق، فإن الخطاب الوثني المعاصر قد آتى أكله، وزرع سمومه في الكثير من
عقول المسلمين ومناهجهم وآدابهم وبات تقليده ومحاكاته من مقومات المعاصرة عند
الكثيرين [19] . وعلى العكس من ذلك فإن المسلمين - يمكن أن يكونوا - بخطابهم
المتوازي مع عقيدتهم - غازين لا مغزوين - مبادرين لا متفرجين، أصحاب رسالة
عالمية لا منفذي أوامر مشبوهة.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شن حرب الكلمة، قبل أن يبدأ
حرب الأسلحة، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فقد بعث
إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه إلى التوحيد واتباعه، وذلك قبيل مغيب
شمس الدولة الرومانية في المشرق، وأوشك هذا الجواب أن يغير سير التاريخ، إذ
استقبله هرقل بقبول حسن وكان آخر كلامه بعد حواره مع أبي سفيان - قبل أن
يسلم - (قد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص
إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدمه) [20] .
وهكذا فإن أكثر أهل الكتاب لم يكونوا غائبين عن مسيرة دعوة نبينا محمد
عليه وعلى آبائه من الأنبياء الصلاة والسلام، ولقد تجاوز بعضهم مرحلة الأمنية
التي تمناها هرقل (فلو أني أعلم أني أخلص إليه..) خلصوا إليه وأسلموا، كسلمان
-رضي الله عنه- الذي طوّف الآفاق وجاب القفار حتى استقرت به النوى بين يدي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، وكعبد الله بن سلام، الذي قطع صلته
باليهودية وعاد إلى ملة أبيه إبراهيم المتمثلة بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم-
وسائر إخوانه الأنبياء [الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد] [21]
وصدق الله العظيم القائل: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ
وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسَى ومَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ
مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] [البقرة: 136] .
ولقد تحسر ورقة بن نوفل ألا يكون حياً إذ يخرج الرسولَ قومُه، كما أنه لم
يكتم - بالرغم من تنصره - نسبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى دوحة النبوة
المباركة: فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أتت به خديجة -رضي الله
عنها- إليه:» هذا الناموس الذي نزل الله على موسى «مبدياً استعداده لنصرته
إن مد الله بعمره» وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً « [22] .
وإذا كان من [أولى المسلمات أن وظيفة العمل الأدبي على اختلاف لغته
وأشكاله هي ربط الأنا بالغير] [23] فإن الكلمة تظل جسراً أساساً ومعبراً ضرورياً
إلى عقول الآخرين. ومن أولى من الأدباء المؤهلين بما استوعبوه من فهم للإسلام
وما أوتوه من موهبة أدبية وجمالية، من أولى منهم باستشراف هذا الدور وأداء هذه
الرسالة؟ وإذا كان مستقبل الإسلام يشغلنا جميعاً فإن السؤال القمين بالإجابة: ما
دور الأديب المسلم في تحقيق هذا المستقبل؟
__________
مكتبة البحث:
(1) البحث عن معنى - دراسات نقدية، ص 85/66، د عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت.
(2) معاني القرآن للأخفش 1/6، عالم الكتب بيروت الطبعة الأولى 1405- 1985، وفي المعجم الوسيط 2/697، الفَقَار: جمع فقارة واحدة من عظام السلسلة العظمية.
(3) صِبغة بالكسر: الملة والدين وصبغة الله: فِطرةَ الله، القاموس.
(4) الحافرة: الخلقة الأولى والعودة في الشيء حتى يرد آخره على أوله، القاموس.
(5) في لسان العرب، الأطر: عطف الشيء، تقبض على أحد طرفيه فتعوِّجه.
(6) الإسار: ما يقيد به الأسير، المعجم الوسيط.
(7) النقد العربي، مداخل تاريخية حول اتجاهاته الأساسية ص 16، عبد المنعم تليمة - عبد الحكيم راضي، دار الثقافة والنشر والتوزيع القاهرة 1985.
(8) قراءة جديدة لتراثنا النقدي 1/428، والكتاب طبع نادي جدة الأدبي - أبحاث ومناقشات الندوة التي أقيمت فى نادي جدة الأدبي في الفترة من 9 إلى 15/4 /1409هـ.
(9) المرجع السابق رقم 9 2/ 830.
(10) النقد المنهجي عند العرب، د محمد مندور ص 326.
(11) جدلية الخفاء والتجلي، دراسة بنيوية في الشعر، ص 22، دار كمال أبو ديب، دار العلم للملايين بيروت الطبعة الثالثة 1984.
(12) الصورة في الشعر العربي ص 7، د علي البطل، دار الأندلس بيروت.
(13) الأسطورة والرمز ص 20، جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
(14) الأديب وصناعته، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، ص231، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت.
(15) المتنبي، رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا، محمود محمد شاكر، الناشر دار المدني بجدة، مكتبة الخانجي بمصر 1407 -1987.
(16) أباطيل وأسمار ص 26-27.
(17) حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث، ص 134، د خالدة سعيد، دار العودة بيروت، الطبعة الثانية، 1982.
(18) إنجيل متى 5/17.
(19) راجع للوقوف على مصداق هذه المقولة كتاب: أدب الردة قصة الشعر العربي الحديث، جمال سلطان، مركز الدراسات الإسلامية، برمنجهام، بريطانيا.
(20) فتح الباري: شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 1/31- 33، رقم الحديث: 7.
(21) المصدر السابق، 6/478، رقم الحديث 3443، العلات: الضرائر، وأولاد لعلات: الإخوة من أب وأمهاتهم شتى.
(22) المصدر السابق، 1 /3، رقم الحديث 3.
(23) الكلام للدكتور شكري عناد، مجلة فصول، مجلد 2 عدد 4، 1982.(58/51)
شاعرٌ جدير بأن يُعرف
محمود مفلح
أحن إلى تلك العصافير في الضحى ... لها بين أغصان الشجيرات ملعبُ
إلى نهرها ينساب بين سهولها ... يتيه دلالاً حيثما يتشعب
إلى البلبل الظمآن للنور والندى ... ورغم جفاء القفر يشدو ويطرب
لقد بسطت أسماء شعرية محددة نفوذها على القارئ، حتى أصبح لا يعرف
سواها، ولعبت وسائل الإعلام المختلفة دوراً غير مسئول ولا منصف في تلميع
أسماء ما كان لها أن تُلّمع، والتعتيم على أسماء أخرى كان من حقها أن تتوهج.
ولا أريد أن أتحدث عن أساليب الحصار والتجاهل والإنكار التي تمارس عمداً
ومع سبق الإصرار على الأدب الإسلامي المعاصر ورموزه حتى أصبح القارئ -
للأسف - يجهل الكثير عن هذه الرموز.
ولكن النبع مهما ألقيت فوقه من حجارة، لا بد أن يتفجر، في أي أرض
كانت.. مهما طال الزمن. ومن هؤلاء الشعراء الذين لم ينالوا حقهم من الشهرة
والذيوع الشاعر خالد البيطار الذي ولد في مدينة حمص السورية عام 1942م،
والذي صدر له حتى الآن ديوانان، الأول: عنوانه «أجل سيأتي الربيع» ،
والثاني «أشواق وأحلام» صدر عن دار البشير بعمان عام 1988.
والشاعر خالد البيطار له إسهامات واضحة وعميقة في ميدان التاريخ
الإسلامي فقد كتب عن غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الخلفاء
الأربعة والصحابة الكرام كتباً ذاعت وانتشرت نظراً لسلاسة أسلوبها وحسن تناولها
وملاءمتها لروح العصر. ولا غرو في ذلك فالشاعر تخرج من كلية الشريعة في
جامعة دمشق عام 1967م.
إلا أن القليل من القراء يعرف أن خالداً شاعر مجيد، وأن له مكاناً مرموقاً في
عالم الشعر، إذا ما تابع مسيرته الأدبية وغذى نتاجه بقراءات متنوعة ومستمرة.
وشعر خالد يتسم بالعفوية المتناهية والعذوبة التي ترطب الشفاه وتنساب من خلال
الكلمات لتتسلل إلى القلب دون استئذان. بالإضافة إلى الصدق الشعوري الذي
يفرض نفسه لدى قراءة النص.
ولعل تجربة غربة الشاعر لسنوات امتدت أكثر من عشر، بعيداً عن أهله
وبيته ومسجده، كان لها أثرٌ واضح في هذا الصدق وفي هذه العذوبة، وفي البعد
كذلك عن الألغاز والطلاسم التي يختبئ خلفها شعراء اليوم ليواروا عجزهم
وضحالتهم.
نأيت وقلبي لا يُصدّق أنني ... نأيت ولا يدري إلى أين يذهب
وليس له من حيلة غير أنه ... رأى من وراء الأفق ما هو أرحب
ثم تتوغل القصيدة في عالم من التفصيلات الصغيرة المحببة التي تشكل
عناصر النص لتشع من خلاله وتمنحه هذه الشفافية وهذه البساطة وهو يتذكر ما
كان من مواقف.
أطوف على الأحياء أرنو بلهفةٍ ... هنا كنت أمشي هاهنا كنت ألعب
أزور أخي، أحكي له ما أصابني ... فيأسو جراحي وهي حمراء تتعب
وأمضي إلى جاري وأطرق بابه ... وأبدي له شوقي وحبي وأُعرب
ثم:
أمرّ على بيتي وأفتح بابه ... وتعرف زوجي مقدمي فترحب
انظر إلى الدقة في اختيار اللفظة في البيت الثالث «أطرق» والبيت الرابع
«أفتح» . صحيح أن النص يخلو من الرمز والغموض والصورة الشعرية التي
يتعلق بها الشعر الحديث، إلا أن دقة رسم المشهد والتركيز على هذه العلامات
الإنسانية الحميمة، وانسياب التراكيب، كل ذلك شفع للشاعر وارتقى بمستوى
النص إلى أفق الشعر المؤثر الرقيق، بالإضافة إلى عنصر التشويق الذي توفر في
كل بيت من أبيات القصيدة. لقد افتقدنا مثل هذه العفوية في الشعر المعاصر،
وأصبح لا بد للواحد منا من أن يستنفر قواه العقلية والنفسية وذاكرته التاريخية أيضاً
كي يواجه النص ويستبطن عوالمه، وبهذا تعددت الرؤى واختلفت المعايير.
إلا أن هذا لا يعني أن الشاعر أهمل الصورة الفنية في كثير من أبياته فها
هوذا يصف بعض الناس ممن قست قلوبهم في صورة حركية موفقة.
وحولي أناس قساة القلو ... ب جفاة إذا ضحكوا أفزعوا
ولقد اختصر الشاعر في كلمتيه: «ضحكوا أفزعوا» معاني كثيرة، ولعل
هذا أبلغ -في نظري -من قول ابن الرومي:
وظننت حين رأيته متحدثاً ... قرداً يقهقه أو عجوزاً تلطم
وحين يتعرض الشاعر لوصف ألوان القمع وصنوف العذاب يشتد شعره
وتحمر كلماته حتى تصبح جمراً.
تلك السجون فلا تعجب إذا صرخت ... فالهول في جوفها حقدٌ ونيران
لانت حجارتها من طول ما رويت ... من الدماء ورقت وهو صوان
أما السمة التي تفرد بها الشاعر خالد البيطار في رأي فهي براعته في وصف
الطفولة والعلاقات الأسرية، هذا الجانب الذي غفل عنه كثير من شعرائنا رغم
أهميته وخصوبته، فاستمع إليه وهو يصف حركات طفلته (عائشة) ذات السنوات
الثلاث:
كثيرة القفز والتصخاب واللعب ... ولا تحس بأعياء ولا تعب
تمشي على أربع حيناً لتضحكنا ... مثل الخروف وأحياناً على الركب
وكم تحملق [1] عينيها لتفزعنا ... فنستعد ونمشي بُغية الهرب
ويستمر الشاعر في تصوير حركات ابنته المضحكة برشاقة لا تقل عن رشاقة
هذه الطفلة الذكية المحببة.
كم ذا تقلد عند السير جدتها ... تخطو وتبطئ بعد الخطو والخبب
وتنحني ويداها خلفها ولها ... صوت يئن كمن يرقى على صبب!
أما ألعاب عائشة التى تحرص عليها:
ألعابها طفلة في المهد نائمة ... قد أسدلت فوقها ثوباً من القصب
وبلبل وقطارٌ صوته خشن ... وقِطةٌ وخروفٌ وافرُ اللبب
وجعبة حشرت فيها بضاعتها ... بعض الوريقات والعيدان والعلب
عالم الطفولة البريئة هذا عالم لا يستطيع أن ينفعل به، ويجيد الحديث عنه
إلا شاعر رقّ إحساسه ولان قلبه وصفت شاعريته وهذّب طبعه الإسلام. ولا يُنقص
من قيمة هذا النص تأثره بقصيدة «أب» الذائعة للشاعر الراحل الأميري يرحمه
الله.
ومن قصائد شاعرنا المتميزة في ديوانه «أشواق وأحلام» والتي تكشف عن
هذا الجانب، أعني الجانب الأسري؛ قصيدته في وصف مشاكسات الأطفال
ومداعباتهم من الصور اليومية التي لا يخلو منها بيت من بيوتنا والتي تمنح حياتنا
طعماً وحيوية ولولاها لأصبحت البيوت قبوراً:
هذا يصيح أنا الكبير فمن يغا ... لبني فيأتيه صغير الجحفل!
يتعاركان فلا البساط بصبره ... يبقى بساطاً تحت ضغط الأرجل
حتى الوسائد والستائر أيقنت ... أن لن تكون عن العراك بمعزل
وأنا أنادي يا بني ألا اهدأوا ... وأقوم أضرب بعد طول تحمل
وبعد أن ينتهي العراك:
يأتونني وخلافهم في قشةٍ ... فأعيدها للمالك المتوسل
فيقوم صاحبه فيضرب رأسه ... بالباب بالجدران إذ لم أعدل!
ويقول لي أعطيته وحرمتني ... إني له، سأميته بالفلفل
أية متعة وراء هذه المتعة؟ بعد قراءة النص كله، وكم نحن بحاجة إلى أن
يتوقف شعراؤنا عند هذا الجانب الإنساني في حياتنا وأن يعطروا أقلامهم بعبير
الطفولة، فعالم الطفولة خصب ومثير ولا يليق وأن يسبقنا الغرب فيه خطوات
وخطوات.
ولئن أجاد الشاعر في هذا اللون العاطفي الاجتماعي من الشعر، فإنه أجاد
كذلك في لون آخر وهو التنديد بالظلم والظالمين:
أيها الظالم فاصنع ما ترى ... وتجبّر وضع القيد ثقيلاً
واغضض الطرف عن القوم الألى ... رسخوا في الأرض وازدادوا قبيلا
ولشاعرنا كذلك قصائد رقيقة رشيقة، فيها دعابة يصور فيها أيام «الجندية»
وغيرها في أيام الشباب. وقصائد أخرى جادة وباكية أحياناً خاصة قصيدة «المعلم» الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو خارج من الفصل.
فحديقة شاعرنا متنوعة فيها الأشجار الباسقة والزهور العطرة والأعشاب
الندية ولكل قصيدة نكهتها. والشعر لدى خالد البيطار ليس ترفاً وإنما هو مسئولية،
وقناة من قنوات الوعي والفكر.
وأستطيع أن أقول مطمئناً: إن خالد البيطار شاعر الطبع السليم، والعذوبة،
والنقاء، والأسرة، والألفة، والحب، الحب الذي يصقل الطباع، ويرتقي بالإنسان. وما أجدر الشاعر أن يتابع خطواته الشعرية الرصينة، وما أجدر القارئ بأن
يتعرف على هذا الصوت الشعري الذي لم ينل حظه من الشهرة والذيوع بعد.
__________
(1) استعمل الشاعر الفعل حملق متعدياً، وهو لا تستعمله العرب إلا لازماً، وكذلك استعماله كلمة صبب بمعنى مرتفع بينما هي تعني: منحدر! - التحرير -.(58/60)
شعر
جولة السكين
على أعناق المسلمين
فيصل محمد الحجي
بيني وبينك أيها السكينُ ... بحر الدماء وذكرياتُ جونُ
بيني وبينك جثَّة مطروحةٌ ... بل ألف مذبوجٍ.. بل المليون
أسرفت في دمنا البريء وما لنا ... ذنبٌ نُلامُ عليه.. إلا الدين
يا عصرنا العاتي.. كأنك غابةٌ ... قد مات فيها العدلُ والقانونُ
أضحى قُضاتُكَ كالذئاب شراهةً ... وكأنَّنا صيدٌ لهنَّ ثمين ...
حتَّامَ تكرعُ من دماءِ شعوبنا ... كرعاً شُغِفْتَ به.. كأنّك نون [1]
لو فاض بحرُ دمائِنا لشربتَهُ ... ولَعِقْتَ شاطئهُ.. وأنت قمين
أتصونُ للإنسان كلَّ حقوقهِ ... دوماً.. وحقَّ المسلمين تخون؟
كلُّ الشعوب حميتَها.. ومنحتَها ... فرحاً.. وشعبي خائفٌ وحزين
أنظرتَ للطفل الذبيح مضرجاً ... ودمٌ على (غمَّازتيه) وطين؟ (1)
أنظرتَ للشيخ القتيل وعينُهُ ... شَخَصَتْ.. ولم تذرف عليه عيون؟
أرأيتَ أكوامَ الرؤوس.. كأنَّها ... هَرَمٌ.. بناه الكافر الملعون؟
أرأيتَ أشلاءَ الضحايا بُعْثِرَتْ ... فهُنا يدٌ.. وهناك لاح جبين؟
أرأيتَ أسرابَ النساء تشرَّدتْ ... هلعاً.. يطاردها خَناً ومُجُونُ؟
أنظرتَ للمسجون مُختنِقَ اللَّها ... لماَّ تضيقُ على الحشود سُجُونُ؟ [2]
لو كان قلبُك صخرةً لتفطَّرَتْ ... لكنَّ قلبك ما اعتراه اللِّينُ
فَمَنِ الذي يُسدي لنا إشفاقةً ... غاليْ (الرخيصُ) وبوشُ؟ أو رابينُ؟
المجلس الأمنِ (الُمسيَّرِ) فَوَّضوا ... أَمْنَ الشعوبِ.. وليس فيه أمين؟
تتراقص السكين فوق رقابنا ... رَقْصَ التشفِّي.. والجنون فُنُونُ
هذي حضارتُكم.. وذاك حصادها ... والإيدز والإجرام والأفيون..
سقط الطِّلاءُ.. فكشَّرتْ عوراتُها ... لمَّا تعرَّى وجهها المدهون..
فإذا الجمال هو البشاعةُ نفسها ... حتى تساوى الصِّرْب والصُّرْبُونُ [3]
يا عصرَنا يا من تمارس عصرَنا ... بالنائباتِ.. كأننا ليمون..
يا عصرَنا يالؤمُ يا بغضاءُ يا ... حقدَ لصليبيِّين.. يا مأفون
آتونَ نحن.. ولن يجيئَكَ غيرُنا ... آتون.. مهما أُضْرِمَ الأَتُّونُ..
نحن اشترينا الحُسْنَيَيِنْ وعَقْدُنا ... ماضٍ.. وسيلُ دمائِنا عُرْبُونُ
أحفادُ (عقبةَ) لم تَزَلْ بصماتُهم ... تَسِمُ الزمانَ.. فينتشي المحزونُ [5]
بيني وبينك موعدٌ للقائِنا ... ويكون ثالثَ جَمْعِنا (حِطِّينُ)
ويكون قاضينا (صلاحَ الدينِ) في ... حَزْمٍ به (أرناطُكُمْ) مرهونُ..
سنعيد (خيبرَ) جَذْعةً حتى ترى ... ويرى سواك الثأرَ كيف يكون
سنقول للسكين: حزِّي واقطعي ... فتجيب: لَبَّيكمْ أنا السكينُ..
لا تعذلُنِّي.. واعذلُوا من أطْبَقَتْ ... يَدُهُ عليَّ.. وحقدُهُ مجنون..
أو من جفاني مطمئناً للعدا ... ويَظُنُّ أنَّ الأُفْعُوَانَ حَنُونُ..
مَنْ شدَّني بيد الجَسُورِ أطعتُهُ ... ومَنِ ارتختْ يَدُهُ.. فذا المسكينُ
__________
(1) النون: الحوت.
(2) الغمازتان: جانبا الفم.
(3) اللها: جمع اللهاة وهي قطعة اللحم المطبقة في آخر الفم.
(4) الصوربون أو السوربون: من أشهر جامعات فرنسا.
(5) عتبة بن نافع.(58/66)
بيت القصيد
والنظام العالمي الجديد
مروان كجك
تولَّى الزمانُ الكسُولُ البَليدْ ... وجاءَ النظامُ القديمُ الجديدْ
فَحِدُّوا الشِّفارَ وخُوضوا الغِما ... رَ ولا يفتِنَنْكُم صُعودُ اليهودْ
سنهوي بهم في مَتاهٍ سَحي ... قٍ ونَخْطِمُ آنافَهم بالحديدْ
ولو حالفتهم شعوبُ الضلا ... لِ وصالَتْ خنازيرهُم والقُرودْ
ولو قيلَ في كلِّ أرضٍ لهمْ ... صديقٌ حميمٌ، ورأسٌ وَدُودْ
ونَهْيٌ وأمرٌ وماءٌ وجم ... رٌ وأنهارُ خمرٍ، وجيشُ عبيدْ
وخَسْفٌ وظلمٌ، وجَوْرٌ وقه ... رٌ وسجنٌ رهيبٌ، وقصرٌ مَشِيدْ
وسلطانُ عَسْفٍ يُذِلُّ النفو ... سَ بكأسٍ وفَلْسٍ وثغرٍ وجِيدْ
تولَّى الزمانُ الذي لَوَّثو ... هُ وجاؤوا لتلويثِ عصرٍ وليدْ
وهبُّوا لنجدةِ ظُلمٍ تَمادى ... فيا ليت شِعري متى نستفيدْ؟
فماذا يُريدونَ منّا وما ... ذا يؤرِّقهم إنْ حَفِظْنا العُهودْ
وصُنَّا الديارَ مِنَ المعتدي ... نَ ورفَّتْ لنا في السماءِ البُنُودْ
وعُدْنا لدينِ الإلهِ سِرا ... عاً وسِرْنا على نهجِ جيلٍ رشيدْ
أقامَ الصلاةَ وآتى الزكا ... ةَ وذلَّ لربٍّ عزيزٍ حميدْ
تولَّى الزمانُ الذي أفسدو ... هُ وهبُّوا لإفسادِ «بيتِ القصيدْ»
فقد أرْعَبَتْهُم جنودٌ شِدا ... دٌ وفَجرٌ يلوحُ، ورأيٌ سَديدْ
وصوتٌ ينافِحُ عن كلِّ حُر ... رٍ وزُلْفى لربٍّ عظيمٍ مجيدْ
وجيلٌ تداعَى لحقٍّ وطُهْ ... رٍ ومِيلادُ نورٍ، وعَزْمٌ أكيدْ
وفِتيانُ صِدْقٍ جهاداً وعِلماً ... وأُنثى خَجُولٌ، وطِفلُ شهيدْ
وميراثُ قومٍ لَهم في الزما ... نِ مفاتيحُ عَزْمٍ تفكُّ القيودْ
فَقُل للذين أدارُوا علينا ... حُروباً لظاهاً يذيبُ الحديدْ
سنبقى وتمضُونَ عنّا بعي ... داً وتتبعُكم لعنةٌ يا يَهودْ(58/69)
المسلمون والعالم
حتى تبقى جذوة الأمل
د. يوسف الصغيّر
إن من أكبر خصائص الجهاد في أفغانستان بروز الهدف النهائي للجهاد، ألا
وهو إقامة دولة إسلامية في أفغانستان، بل تعدى ذلك إلى الحديث عن استمرار
الجهاد لتحرير بقية بلاد المسلمين، وهذا يعود لعدة أسباب، منها الخاص بطبيعة
الشعب الأفغاني وتدينه، ومنها ما هو خاص بنشوء حركة الجهاد على أيدي أبناء
الصحوة الإسلامية في عهد محمد داود، ثم تحول الجهاد إلى حالة عامة بعد
الانقلاب الشيوعي والتدخل الروسي الذي تلاه، مع استمرار رموز الحركة
الإسلامية في قيادة الجهاد، وهذا يمثل تغييراً في هيكل القيادة التقليدي، حيث إن
سيطرة الدافع الإسلامي للجهاد مكن رموز التوجه الإسلامي من قيادة المعارضة،
فأصبح القادة إما علماء دين؛ أو دعاة مرتبطين بالحركة الإسلامية، أو قادة من
العلماء المرتبطين بالحركة الإسلامية.
وكانت بداية الجهاد صعبة وقاسية، ولم يكن القضاء على الشيوعية في ذلك
الوقت إلا حلماً بعيد المنال عند البعض، وبالتالي يكون الجهاد بالنسبة إليهم ورقة
ضغط تقوي موقف المجاهدين عند إجراء المفاوضات من أجل الوصول إلى حل
سياسي للأزمة، أو إلى حل وسط بين نظام شيوعي متسلط ونظام إسلامي متميز،
أما عند البعض الآخر فكان القضاء على النظام الشيوعي أملاً وهدفاً لا يمكن تحقيقه
إلا بالجهاد المسلح ولو طالت المدة وكثرة التضحيات، وهنا لا بد من الخلاف بين
الطرفين عند أول مصيبة تحل بالمجاهدين، وهذا ما حصل فعلاً، فما إن تمكنت
الحكومة من إلحاق هزيمة كبرى بالمجاهدين قتل فيها عدد كبير من شباب الحركة،
حتى دب الخلاف بين رباني الذي يرى عدم الاستمرار في العمليات، وحكمتيار
الذي أصر على استمرار الجهاد مهما كانت التضحيات، ومنذ ذلك اليوم وجدت
الجمعية الإسلامية (رباني) والحزب الإسلامي (حكمتيار) الذي التف حوله شباب
الحركة المتحمسون للجهاد وكان التدخل الروسي نقطة تحول بالنسبة للمجاهدين،
فقد أقبل الناس على الجهاد، وتحولت الجمعية والحزب إلى أحزاب كبيرة ينضوي
تحتها عشرات الألوف من المجاهدين، ومع مرور الوقت بدأت تتضح الفروق بين
الجمعية والحزب، فبينما كانت هياكل الحزب وقياداته تتمحور حول حكمتيار ذي
الشخصية القوية، كان رباني يمثل قيادة اسمية لبعض قادة الجمعية «مثل أحمد شاه
مسعود» ، وهذه العلاقة بينهما تحقق مصالح مشتركة فمن جهة رباني يمثل مسعود
له القوة الكبيرة التي تعطيه وزناً كبيراً بين القادة في بشاور، أما مسعود فإن رباني
والجمعية تمثل له غطاءً تنظيمياً يحصل من خلاله على المساعدات القادمة من
بشاور.
وأثناء الجهاد تكونت أحزاب عديدة بعضها ناتج عن خروج بعض القادة من
أحد حزبي المجاهدين، والبعض الآخر قام على أسس الانتماء القبلي، أو الزعامة
الصوفية، أو تجمع يضم القوى القديمة التي أزاحها النظام الشيوعي من السلطة.
وعلى رغم التباين في الأهداف فإن جميع الأحزاب اضطرت إلى رفع راية
الإسلام حتى التي لا تهدف إلى إقامة دولة إسلامية، بل حتى التي تقاوم وصول
الإسلاميين إلى الحكم، وأصبحت أفغانستان مقسمة إلى مناطق نفوذ بين الأحزاب
المختلفة، وأدى انتشار الحزب الإسلامي في جميع أنحاء أفغانستان إلى أن يكون
طرفاً في كثير من الاحتكاكات الناتجة من عمليات تحديد مناطق النفوذ، وكان
اصطدام الحزب مع أحمد شاه مسعود في مناطق الشمال نتيجة لمحاولة مسعود
تصفية القوى الأخرى في المنطقة وتشبث الحزب بمناطقه.
وعلى الرغم من الخلافات فإن الجهاد مضى بقوة في سبيل طرد الروس
وإسقاط النظام الشيوعي، وما إن انسحب الروس حتى بدأت بعض الأحزاب
تحسب حسابات أخرى بالنظر لمستقبل أفغانستان، وذلك بتأثير خلافات مؤجلة
وتدخلات خارجية تحاول فرض واقع معين في أفغانستان والاطمئنان إلى صيغة
مناسبة لتركيبة النظام الجديد والمتتبع للأحداث الأخيرة يجد الظواهر التالية:
1- تجمع بقايا الشيوعيين والمليشيات والإسماعيلية في تحالف ضمهم مع
أحمد شاه مسعود حتى يُعْطوا وجودهم وتجمعهم صبغة إسلامية.
2- استمرار الرافضة في لعبة تبادل الأدوار التي يجيدونها، فهناك حزب
الوحدة الذي لا يخفي ارتباطه بطهران، واستغل الأحداث الأخيرة حتى يدفع بأعداد
كبيرة من مناصريه إلى داخل كابل، ويظهر الحزب الآن تحالفه مع حكومة رباني، وأسندت إليه 3 حقائب وزارية رشح لأحدها عبد الواحد سرابي نائب رئيس
الجمهورية في عهد نجيب، وهناك اتجاه آخر يقوده آية الله آصف محسني الذي
يمثل دور التقارب مع أحزاب المجاهدين السنة.
3- العمل على إبراز بعض القادة الميدانيين ومحاولة جرهم لاتخاذ مواقف
سياسية تخالف توجهات أحزابهم المعلنة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك أحمد شاه
مسعود الذي نجح الروس في عقد سلسلة معاهدات للهدنة معه، وتمّ بنجاح إقناعه
بأن يكوّن الغطاء الشرعي للمليشيات وبقايا الشيوعيين والباطنيين، ويرفع كل
هؤلاء علماً كتب عليه «لا إله إلا الله والله أكبر» .
4- محاولة إقناع زعماء المجاهدين بعدم دعم حكمتيار، وقد تحدث المدير
السابق لعمليات الاستخبارات الباكستانية العميد محمد يوسف أن الولايات المتحدة
وزعت أموالاً طائلة على بعض الأحزاب والقادة الميدانيين من أجل إقناعهم بعدم
الوقوف مع حكمتيار. ومن لا ينفع معه المال تستغل خلافاته القديمة مع حكمتيار
في إقناعه، بل والإيحاء بأن سياسات حكمتيار ستقود إلى تقسيم أفغانستان. وكل
هذا مصحوب بحملة إعلامية عالمية ضد الحزب الإسلامي.
5- التركيز على التعدد العرقي وتكرار ذكر انتماء القادة العرقي بمناسبة
ودون مناسبة.
6- الحرص الشديد على عرقلة أي بادرة لإصلاح ذات البين بين المجاهدين، وخاصة بين مسعود وحكمتيار، أو حكمتيار ورباني، ويلاحظ مشاركة المليشيات
وحزب الوحدة الرافضي في هذا الخطط بصورة رئيسية.
7- عدم وجود الزعامة القوية التي تجتمع عليها القلوب ويدين لها الجميع
بالولاء، وبالتالي كان التنافس هو العامل الأكبر في اختيار أي زعيم مؤقت،
وتكون النتيجة الاتفاق بالإجماع أو الأغلبية على زعيم ضعيف تكون بالطبع زعامته
اسمية أو يكون واجهة لبعض الأقوياء، وهذا عامل كبير من عوامل زيادة الفرقة
والاختلاف، وظاهرة خطيرة جرت على المجاهدين المصائب في السابق.
إن ترتيب الأمور يجري بدهاء شديد لدفع زعماء أفغانستان لقبول حل وسط
يؤدي بمشروع الدولة الإسلامية أو خطر تقسيم أفغانستان على أساس عرقي بالنسبة
للسنة (باشتون، طاجيك، أوزبك) إضافة إلى الأساس الطائفي (سنة، شيعة) .
إن اجتماع قادة المجاهدين وخاصة حكمتيار ومسعود كان كفيلاً بفرض الدولة
الإسلامية، وحيث إن هذا كان مستبعداً فقد استغلت جميع ظروف التباين في سبيل
منع حكمتيار من إحكام قبضته على كابل، وتم إدخال الجمعية في مخطط يهدف إلى
إجهاض المشروع الإسلامي، ومن الواضح أن رباني قد ساير مسعود حتى وصل
إلى طريق مسدود، اضطر معه أن يكرر مقولات سلفه مجددي، فعلى الرغم من
وقوفه في وجه طلب مجددي تمديد مدته إلى سنتين، نراه يطلب تمديد مدته إلى
سنتين، وبالطبع لم يحصل له ما أراد مع فارق أن مجددي أجبر على التنحي، أما
رباني فقد نجح في تمديد ولايته 45 يوماً من أجل عقد مؤتمر لأهل الحل والعقد
لاختيار رئيس لأفغانستان.
وتتحدث الأخبار عن أن أكثر الزعماء حظاً هما محمد بن نبي محمدي وأحمد
جيلاني. وبالطبع طرح جيلاني يقصد به قبول محمد نبي محمدي على أنه أفضل
المرشحين.
نسأل الله أن يلهم قادة المجاهدين المخلصين الصواب، فما أحوجهم إلى وقفة
صادقة يتناسون فيها خلافاتهم ويقفون وقفة خالصة لله ليس فيها نظر إلى رضى
مخلوق أو عصبية، وليس فيها مصلحة شخص أو هيئة، فإن الأمر جد خطير،
والأمة الآن على مفترق طريق: إما أن يصان فيها حق الشهداء الذين ماتوا دفاعاً
عن العقيدة، أو تباع هذه الدماء كلها بثمن بخس.
إن الذي لم يقم بالجهاد والدفاع عن الأمة في حالة الكرب ليس أميناً عليها في
حالة الرخاء، ومن هدم البناء لا نتوقع أن يقوم ببنائه، فهل نرضى أن يؤتمن
الخؤون (المليشيات والرافضة، والإسماعيلية والشيوعيون وغيرهم) ويخوَّن الأمين
من المجاهدين. هل من وقفة صادقة حتى تبقى جذوة الأمل؟ !(58/72)
جذور الصراع:
الصليب الأرثوذكسي، الغرب المتحضر،
المسلمون «الهمج» [*] !
د. عبد الله عمر سلطان
عندما ألقى جورج بوش خطابه الانتخابي الشهير في مدينة هيوستن الأمريكية ركز على نقطة جوهرية تمثل برنامجه العريض للسنوات الأربعة المقبلة (في حالة انتخابه) .. كانت هذه النقطة الرئيسية تدعو إلى الحفاظ على القيم الأخلاقية التي تكفل بقاء أمريكا قوية ورائدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لقد قضى الأمريكيون على عدوهم الشيوعي، وبدأت معالم نظام عالمي جديد تبرز وتزداد وضوحاً.. وعلى المنتصر أن يركز على تقوية الجانب العقائدي/الأخلاقي ليضمن البقاء في القمة، وحصر الرئيس الأمريكي هذه المبادئ في العقيدة (اليهودية/المسيحية) .. وليؤكد على هذا المفهوم هاجم منافسيه الديمقراطيين الذين نسوا الله في حملتهم الانتخابية. وأكد مرة أخرى خلال استقباله لزعماء اليمين الديني على حقيقة هامة وهي: «أننا شعب متدين بفطرته، وأننا ندين بتفوقنا للمبادئ اليهودية/النصرانية» .. لا أدرى لماذا تراءى أمامي سلوبودان ميلوسوفيتش الزعيم الصربي وهو يخطب في المليشيات الصربية متفوهاً بعبارات مشابهة تتحدث عن المبادئ و «الرسالة» التي كان على الصرب القيام بها لحماية رسالة يسوع في الوقت الذي يقوم الدليل الساطع على التعاون اليهودي /الصليبي لإنجاز مهمة «جنود الرب» في البوسنة والهرسك. .
صعود اليمين الصليبي إلى موقع القرار في الغرب أمر لا يناقش في تفشيه
وظهوره إلا جاهل أو مكابر، وهو يستخدم ذات المفردات ونفس الرسالة مع
اختلاف في التفاصيل والوقائع، أما علاقة هذا اليمين بالصهيونية واليهود فهي مادة
دسمة لكثير من البحوث والكتب التي صدرت خلال العقد المنصرم.
إن إلقاء الضوء على صعود اليمين الأرثوذكسي وعلاقته العضوية بالصهيونية
موضوع حيوي يفهم الخط البياني والجذور الراسخة التي أفرزت المذبحة القائمة
على قدم وساق في البلقان.. ومن هذا الاستعراض سيتبين لنا خطوط متشابكة
وملامح شبيهة بصعود التيار الصليبي الأصولي في أمريكا والغرب عموماً، ثم
بالعلاقة الوثيقة لهذا التيار باليهود الصهاينة، حيث إن الجميع يلتقون على حرب
الإسلام ومعتنقيه، وهو العدو القديم/الجديد الذي يأبى أن يلبس قيود الذل أو يسلم
الرقاب للجزر والصلب..، لقد حملت مأساة البوسنة والهرسك. دروساً كثيرة
وإضاءات هامة للفرد المسلم اليوم لمجتمعات العالم الإسلامي، لكن أبرزها على
الإطلاق هي تلك التي تكشف في حقيقة الصراع الدائر المكشوف على امتداد الساحة
الإسلامية دون مواربة أو شك، حيث إن المذابح والحروب والكوارث منكبة بعد
تصفية الحساب الغربي/الشيوعي على هذا الكائن المسلم رغم وحشية وبشاعة
ووقاحة المجرمين، وتنظر فترى حقد الصليبيين واليهود واضحاً في مأساة البوسنة
أيما وضوح، حتى إن الصحف الغربية - على ما تحمه له من سوءات - شهدت
ضد مجتمعاتها وقادتها ورموزها، وسجلت جزءاً من المأساة حيث إن المسلمين
قصروا في عصر التهميش والتبعية حتى عن وصف المجزرة التي تستهدفهم فرداً
فرداً..، إن توالي الصور المأساوية، ومعسكرات الاعتقال، والتمثيل بالجثث،
وحرمان الفرد من آدميته، وتشريد الملايين، وزرع الخوف في صدور الأطفال
وعيونهم، واغتصاب المسلمات أصبحت حديثاً عادياً لا يثير في المسلمين - فضلاً
عن غيرهم - موضع ألم أو لحظة غيرة عابرة..، ها هم المتحضرون البيض
والشعوب الراقية في أوربا التي تلهث لأنات الكلاب والقطط، وتذرف دموع
التماسيح حزناً على مصير الدببة في أقاصي القطب الشمالي؛ ترى بشراً يعيشون
محرقة إنسانية مكتملة الفصول.. دون أن تخرج مظاهرة احتجاج - وما أكثرها
عندهم - أو يتحرك قطاع شعبي يسعى فعلاً لإنهاء المأساة الإنسانية، والإنسانية
فقط ... ، لقد أتت قصة البوسنة الحزينة في الوقت الذي كشف الغرب بعد انتصاره
على الشيوعية أن شرعيته ومنطلقاته تحمل سمات دينية/صليبية لا يمكن تجاهلها أو
إنكارها، كما أكدت الأحداث المتوالية أن الحلف الغربي/اليهودي في المنطقة مستمر
لأنه حلف حضاري قائم على أسس ومبادئ وثقافة مشتركة.. وكأننا كنا بحاجة إلى
مشهد كهذا لينقل لنا دليلاً مادياً قوياً وليؤكد هذه الحقيقة ثم ليزيل الغشاوة عن بعض
أبناء أمتنا الذين جَهِلوا أو جُهلَّوا.. أو تجاهلوا..
نقلت مجلة أمريكية دون تعليق التآمر الصليبي غير المبرر منذ اشتداد
الأحداث فقالت: «التصرف غير المبال للولايات المتحدة زاد من لهيب النار
المشتعلة وبدا وكأنه جزء من سلسلة متصلة قوامها السلبية المتعمدة، فعندما أرسل
سايروس فانس وزير الخارجية الأمريكي السابق كوسيط للأمم المتحدة في النزاع
الجاري قال إنه لا داعي لإرسال قوة أجنبية لإجهاض الحرب التي كانت بوادرها
في الأفق، لقد كان الصرب بحاجة لتصريحات كهذه من قبل أجانب» يزورون
سراييفو حتى يشعر سلوبودان ميلوسوفيتش وزعيم صرب البوسنة رادوفان
كاراديتش بأن القوى الغربية ولا سيما الأم المتحدة لن تقف في طريقهم..، كما
كانت إشارات جيمس بيكر للحفاظ على الاتحاد اليوغسلافي وعدم تطبيق العقوبات
على بلغراد مؤشراً سيئاً آخر..، وكذلك إن زيارة ميتران في بداية الصيف
المنصرف لم تكن أكثر من زيارة دعائية حين أبدى تعاطفه مع إطعام المدنيين
المحاصرين، واعقب هذه الزيارة زيارة مماثلة لوزير الخارجية البريطاني الذي
طمأن الصرب بأنه لا يوجد دولة تتبنى التدخل العسكري لإنهاء الوضع الراهن [1] ..
أما أكثر التصريحات إثارة فقد جاءت على لسان رئيس قوة الأم المتحدة
الجنرال ماكنزي الكندي الجنسية حينما ساوى بين الجلاد الصربي والضحية
البوسني، وهدد بأنه إذا لم يوقف الجانب المحاصر طلقات الرصاص فإن المعونات
الإنسانية لن تجد طريقها للمدنيين، وفي الوقت الذي كان فيه الصرب يحصلون فيه
على الإمدادات الضرورية عن طريق الحدود المفتوحة على جمهورية يوغسلافيا؛
فإن المسلمين كانوا يعانون المجاعة التي كان الصرب يحرصون على انتشارها
وذلك بأن يخرقوا كل وقف إطلاق نار حتى لا تتمكن فرق الإغاثة في إتمام مهامها.. لكن أكثر المسؤولين الغربيين تخليطاً كان وزير الدفاع الأمريكي الذي سأل
المراسلين بدل أن يسألوه «من هو العدو؟ كيف سنحدد (رسالة) تدخلنا العسكري،
من نحارب؟ البوسنيون؟ الصرب؟ نحن لا ندري! ! [2] وحينما سأل مارلين
فيتزواتر الناطق باسم البيت الأبيض عن موقف سيده أكدت إجاباته أن الإدارة
الأمريكية ليست حاضرة أو جاهزة حينما يطرح اسم البوسنة! ! بيل كلنتون ونائبه
في انتخابات الرئاسة آل غور طرحا مشروعاً لضرب المواقع الصربية بالطائرات
لتأمين وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين الأبرياء.. هذا المشروع وصفه
المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض بأنه مهتز، ولا ينم عن وعي سياسي خارجي
لدى المرشحين المذكورين، لكنه ما لبث أن سحب هجومه العلني حينما أُخبر أن
معظم القيادات الرئاسية تتبنى طرحاً شبيهاً بطرح كلنتون، مع استثناء الجاهل دك
تشيني وزير الدفاع! ! [3]
وكلما زادت الأزمة ظلمة كان الزعماء الغربيون يكتفون بالشجب والكلمات
البراقة، والقذائف تدك ما بقي من أجساد ومشاعر البوسنيين» حينما واجهنا واقع
معسكرات الموت الجماعي والقطارات المملؤة باللاجئين المبعدين لم نفعل شيئاً «
هكذا قال وزير الخارجية البريطاني السابق اللورد أوين لمجلة التايم:» نبدو أننا
قررنا أن نعيد مأساة قتل اليهود في الحرب المنصرمة.. لكننا اليوم بإمكاننا أن نحدد
بدقة متناهية عبر أدوات التجسس والأقمار الصناعية مناطق المدفعية الصربية
وندكها سواء من خلال الطائرات المنطلقة من قواعد حلف الأطلنطي أو حاملات
الطائرات، هذا يمكن تنفيذه خلال ساعات وليس أياماً.. بمجرد أن يصدر قرار
حازم من مجلس الأمن «. هذه المواقف الغربية المتراكمة والمتعددة ليست إلا دليلاً
إضافياً، فحينما سئل بوش عشية قمة ميونيخ عن سبب إحجامه عن التحرك في ظل
الوضع المتردي أجاب قائلاً: إنه ليس مستعداً لأن يرسل» الأولاد الأمريكيين «
في مهمة كهذه.. وتعلق لاسلي غليب في النيويورك تايمز قائلة: إن الغرب ما كان
ليتخذ هذا الموقف اللامبالي لو كان ضحايا المجزرة من النصارى.. ولو كانوا كذلك
إذن لانتفض العالم الغربي وتحرك الضمير النائم وترجمه ذلك إلى تحرك عسكري
واقتصادي وسياسي بدلاً من حالة النعاس الثقيل التي يغط فيها المجتمع الدولي» !
أما فرانسوا هيسبورغ رئيس معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن والذي
يحظى بسمعة دولية فقد لخص القضية بقوله: يوماً بعد يوم يتأكد لكل المراقبين أن
الحل العسكري هو الحل الوحيد لهذه المشكلة ولا سيما في ظل أجواء التقاعس
الراهنة، وأبرز الوسائل هو إعطاء السلاح للبوسنيين حتى يدافعوا عن/أنفسهم مع
توفير قوات أرضية دولية لتكوين قاعدة انطلاق للجيش البوسني.. « [4] . لكن
السؤال الذي يطرحه توم بونت مراسل مجلة النيوزويك:» من لديه الاستعداد
والعزم للقيام بذلك؟ إن الرئيس الفرنسي الذي زار سراييفو في تحرك مسرحي
يقول إن الحل العسكري مستبعد.. لأن المعضلة من سيقدم الجنود المطلوبين..
بالتأكيد ليسوا البريطانيين «.. ويتساءل الآن كلارك وزير الدفاع البريطاني السبق:» كيف نستطيع أن نبرر لعوائل الجنود المقتولين أن أبناءهم لم يموتوا في سبيل
الملكة أو الوطن بل لمنع الصرب من قتل المسلمين «.. إنه الكشف عن المخبوء
في الصدر بكل وضوح.. فالبريطاني الصليبي لن يقبل أبداً أن يفقد الجيش الملكي
ضحية في سبيل هدف لا يتصور.. منع قتل المسلمين هكذا بكل وضوح.. بل
بكل وقاحة بعد إزالة غشاء الإنسانية والشرعية والعدالة التي يرفعونها متى ما أرادوا..!
العديد من الغربيين شهدوا من منطلق إنساني بحت على أن الغرب المنافق
يكتفي بإطلاق التصريحات المعسولة، وهو عازم على إزالة المسلمين في البوسنة
من الخريطة الجغرافية كما قالت مجلة الإيكونمست البريطانية:» وداعاً.. وداعاً
البوسنة «.. شارلز لان أضاف:» إن النفاق الغربي وإغراق العالم وتضليله ليس
وقفاً على السياسيين إنه يشمل رجال الإعلام بل الناخبين.. إنه موقف عنصري هذا
الموقف من أحداث البوسنة والصومال.. إن الحضارة الغربية قالت بصوت مرتفع: «يستحيل أن يحدث ذلك مرة أخرى» حينما انتهت الحرب الكونية الثانية
وكشفت فظائع النازي بحق اليهود.. لكن يبدو أن معسكرات اعتقال اليهود تختلف
عن تلك التي نراها في البوسنة.. لكن هذا مخجل حقاً.. مخجل بحق الغرب
وزعامة جورج بوش الذي سيجد نفسه مضطراً لعمل شيء ما في المستقبل
القريب « [5] .. هذا التخاذل والموقف الخافت الصادر من بعض الأصوات ففي الغرب تتساءل كيف تختلف جريمة متماثلة حسب هوية المذبوح، لكن الجواب بسيط وجوهري حيث إشارة الرئيس الأمريكي عن جذور الثقافة الغربية الراهنة وشقيها النصراني واليهودي، أما المسلمون فموقعهم معروف مسبقاً بالنسبة لهذه الثقافة/العقيدة ...
ولعل أقوى المواقف الصادرة عن هؤلاء القلة من الغربيين الذين لم يتحملوا
هذا الإجرام الغربي، كان موقف جورج كيني المسؤول عن يوغسلافيا في وزارة
الخارجية الأمريكية، فقد استقال من منصبه احتجاجاً على موقف واشنطن المتخاذل
من القضية اليوغسلافية، ولم يكتفِ كيني بذلك، بل قام بفضح الدور الغربي عموماً
والأمريكي خصوصاَ، وذلك بالكتابة في افتتاحيات الصحف، وإجراء مقابلات
متعددة هاجم فيها المؤتمرات التآمرية التي ترعاها القوى الغربية لتصفية المسلمين
في البوسنة باستخدام العبارات والآليات الدبلوماسية، ومنها مؤتمر لندن..
» الحقيقة المجردة هي أن مؤتمر لندن لحل القضية اليوغسلافية قد أعطى الضوء الأخضر للصرب لإنهاء ما بدأوه، والحل الحقيقي والسهل يعرفه الجميع ويدركونه وهو تسليح البوسنيين ليدافعوا عن أنفسهم، ثم عن قطعة الأرض التي يقفون عليها، ومن ثم تحرير الأراضي التي سلبت منهم ... «.
هذه بعض الدلائل التي تجمع على نتيجة واحدة ومحصلة نهائية: حقيقة
المعركة وجوهر المشكلة في جانبها العقائدي بين المسلمين والنصارى..
أما اليهود فقد كان دورهم في يوغسلافيا السابقة والحالية يحمل جذوراً مشتركة
كما يقول محمد خليفة:» في نهاية القرن المنصرم كانت صربياً جزءاً من الدولة
العثمانية وكذلك كانت فلسطين، وكانت الحركة القومية الصربية الوليدة تكافح لبناء
دولتها تحت شعار «إحياء مملكة دوشان أو صربيا الكبرى» وكانت الحركة
الصهيونية ترفع شعار إحياء مملكة داود أو إسرائيل الكبرى، وبقدر ما كانت الفكرة
الصهيونية أسطورية وعدوانية ولا ترتكز على أساس شرعي، بقدر ما كانت الفكرة
الصربية لا تقل عنها عدوانية.
لقد تميزت الحركتان بخصائص عرقية وتاريخية وسياسية متقاربة، كما
تميزتا بعدائها الشديد للإسلام والمسلمين لا سيما أنهما كانتا تكافحان ضد الدولة
العثمانية التي فضلاً عن أن الطرفين يعتبران أن المسلمين هنا وهناك، يحتلان كل
أو بعض أراضي الوطن القومي المزعومة، فالصرب يعتبرون الألبان المسلمين في
كوسوفو محتلين وافدين على المنطقة التي يسكنونها، وكذلك يعتبرون المسلمين
السلاف في البوسنة والهرسك صرباً تمت أسلمتهم بالقوة من جانب الأتراك، ولا
يمكن الاعتراف بما نتج من هذا التحول القسري خصوصاً من ناحية هوية الأرض
التي يسكنونها، وكان اليهود يعتبرون الفلسطينيين (المسلمين) وافدين ومحتلين
لأرض الميعاد والتوراة.. «وحينما قامت المملكة الصربية الكرواتية وأسند الملك
فيها إلى أسرة قره جورجوفيتش الأرثوذكسية المتعصبة كان اليهود هم أقوى الأقليات
فيها، كما هو الحال في أمريكا الآن» وحين أعلنت لندن وعد بلفور عام 1917م
كانت بلغراد أول دولة ترحب به وتطالب بتنفيذه وجعلته بنداً رئيسياً في سياستها
الخارجية «.. لقد تجلى هذا التعاون التاريخي في عالم اليوم حيث إن إسرائيل تمد
الصرب بالسلاح والعتاد للقيام بالطور الأخير من مذبحة المسلمين في البوسنة الذي
أصبحوا فلسطيني أوربا، مع ما عرف من تغلغل يهودي /إسرائيلي في جسد الدولة
اليوغسلافية الحديثة وتعاون مع الجيش اليوغسلافي الاتحادي ظهرت نتائجه في
المجزرة الحالية التي تراقبها دولة الصهاينة بارتياح شديد…
إن الدور الصليبى الصهيوني يعي حقيقة المعركة وامتداداتها الحاضرة
والماضية والمستقبلية، كما أنه يدرك تماماً أن المعركة الدائرة وهي مع الإسلام
كدين وهوية، فالمسلم البوسني غريب منسلخ عن كثير من أسس الإسلام ومبادئه
بفعل عوامل تاريخية وواقعية متشابكة، والمشاهد التي تعرض على العالم كل
صباح ومساء تثبت أن مواصفات الأصولية وملامح» التطرف «لا تنطبق على
مسلمي البوسنة كما يفهمها الغرب، فالرجال أوربيو الملامح ولا تظهر لحاهم الكثة
» الشهيرة «أو جلابيبهم البيضاء جلية.. ولا يسيرون وهم يحملون المصحف أو
وهم يرددون: الله أكبر..، إنهم أبعد ما يكونون الآن عن ذلك بعد عقود من
الغسيل الفكري والغربة العقدية.. أما النساء فلا يبرز الحجاب يغطي رؤوسهن حتى
يشن الغربيون هذه الحرب عليهن، ولا يكترث بحملة الاغتصاب المنظمة التي
تحطم كل ذرة إنسانية في صدورهن..، المسلمون في يوغسلافيا لا تنطبق عليهم
» المواصفات والمقاييس «الصليبية أو مشتقاتها العلمانية في عالمنا الإسلامي..
مجلة النيوزويك الأمريكية تؤكد ذلك حيث تقول:» الرجال يشربون الخمر..
والنساء لا يرتدين الشادور أو الحجاب.. «، الإيكونومست المتعصبة تقول:» لا
يمكن إطلاق لفظ أصوليون على هؤلاء الآن، إنهم أقرب إلى العلمانية منهم إلى
الإسلام «.. ومع هذا يظل البعض يتغاضى عن حقيقة موقف الغرب المتغطرس
مع من تحمل خلاياه جذوراً إسلامية أو صفات وراثية تربطه إلى هذا الدين، أنت
متهم على أي حال وحيث ما اخترت أن تقف أو تنحاز.. إذا كنت مؤمناً بالإسلام
منهجاً ودستور حياة.. فأنت بالتأكيد أصولي» عفن «! ! وإذا اخترت أن تؤدي
الشعائر دون أن تحمل لوناً أو طعماً أو رائحة تَمًتُّ للإسلام، فأنت غير متحضر أو
قابل للاندماج الحضاري، إذا قررت أن تتأمرك أو تتغرب، أو تصبح علمانياً
متشنجاً، فستظل قابلاً للانحراف عن هذه المبادئ، ودخيلاً على الفكر الغربي الذي
طوّر هذا الطرح، والذي ينظر بازدراء حتى لأولئك المتشبتين بركابه، المتمسحين
بقداسته، أنت في أحسن الأحوال» ذنب مرحلي «أنت مسلم.. إذن أنت عدو
مهما انسلخت أو توددت أو ابتذلت.. هذه نظرة الغرب ونظرة مفكريه وقادته.. بل
أفراده البسطاء.. أنت» الآخر «الذي لا يمكن أن يكون الأصل..
هذا ما يفسر الحملة الوحشية البشعة في البوسنة، أو في أرض إسلامية أخرى، حيث ينظر الغرب إلى القضية من منطلق صراع الحضارات والأجيال، ويتغافل
منظرو اللحظة الآنية والحدث اللاهث عن هذه المنطلقات، فضلاً عن المضللين
والمنافقين والمأجورين..
هذا المنظور الغربي المزدوج تؤكده أكوام التصريحات والمواقف الغربية منذ
انفجار المأساة حتى الآن، حقد صليبي يهودي على الإسلام بغض النظر عن تخاذل
أبنائه وتميُّع معتنقيه، فربما انتفض الأطفال والشباب وهزهم تيار الصحوة
الإسلامية الذي لا يعرف حدوداً أو حواجز، إنهما خطان متشابكان ورافدان
أساسيان..» الغرب المتحضر «بكل تراثه ومصطلحاته وعقائده وتفوقه وأسلحته ومصالحه، أمام المسلمين الهمج الذين يريدون أن يعيدوا عجلة التاريخ إلى الخلف، ويصبغوا القرن الحادي والعشرين بمخلفات عصور الظلام وأساليب القرون الوسطى، كما يدعون ويروجون. ومهما حاول هؤلاء إسقاط دبلوماسيتهم وأساليبهم الماكرة.. فالكلمات والشهادات تخرج قسراً من أفواههم لتؤكد هذا المفهوم المتشابك بين الحفاظ على المكتسبات وإذلال» الآخر «أي المسلم الذي لا زال يبحث عن هويته وذاته.. إنها بعض الشهادات:
» خلال الحرب العالمية الثانية كان الهدف دك المنشآت الاستراتيجية التي
تؤثر على مسيرة الحرب.. أما في هذه المجزرة فإن المستهدفين ابتداءً هم المدنيون، إنه الإنسان «ونضيف إنه الإنسان المسلم» [6] .
«لقد هيأ التلفزيون اليوغسلافي الصرب للقيام بهذه المجازر حينما بدأ العام
الماضي عرض أفلام مهيجة مشيراً إلى المسلمين بالأصوليين والمتعصبين
والخمينيين وأنهم وراء كل أعمال الإرهاب في العالم، وأنهم يقومون بذبح أطفال
الصرب ليقدموهم طعاماً للحيوانات الجائعة في حديقة حيوانات سراييفو!» [7] .
«أخشى أن تثمر جهود حكومة البوسنة عن قيام دولة إسلامية في وسط
أوربا ونحن الكروات (الكاثوليك) لا نرضى بهذا..» رئيس كرواتيا الحالي [8] .
«كل المسلمون - بمن فيهم الضحايا البوسنيون - عرب قذرون يمسحون
أدبارهم بأيديهم» [9] نقلاً عن مسؤول صربي.
«معلومات متواترة مصدرها واشنطن تؤكد على أن القوات اللبنانية بزعامة
سمير جعجع قد أرسلت 3 شحنات من الأسلحة إلى القوات الصربية التي تحارب
المسلمين في البوسنة والهرسك، وأن قيمة هذه الأسلحة تزيد على 30 مليون دولار
وتضم أسلحة خفيفة ومتوسطة ودبابات وقطع مدفعية من عيار 120 ملم، وأنها تجد
طريقها إلى قوات الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش وإلى المليشيات الصربية
في البوسنة» [10] ... هذا هو دور إخوننا في العروبة كما يقولون، دور يلعبه
بطرس بدبلوماسية وآخر يمارسه تلاميذ آل جميّل ببشاعة وغلاظة المليشيات
الكتائبية ...
إن أسلوب تعامل الولايات المتحدة مع القضية البوسنية اتسم باللامبالاة منذ
الإشارة الأولى لاندلاع النزاع، لقد أعطت أمريكا الضوء الأخضر لصربيا للقيام
بحملتها العرقية عن طريق الإبادة، بينما تكتفي بالتحرك الدبلوماسي الهزيل، لقد
اكتفت الإدارة الأمريكية برعاية جولات عن المفاوضات العقيمة، ولا زالت تحاول
أن تظهر بصورة الحكم العادل حيث تلقي باللوم على جميع الأطراف بما فيهم
الضحايا المسلمون، إنها في الحقيقة تضغط على الحكومة البوسنية لكي تجلس على
مائدة المفاوضات مع الصرب الذين يجب أن يحاكموا كمجرمي حرب وذلك للقبول
بالأمر الواقع المؤلم.. «وهذه الشهادة لجورج كيني الذي أشرنا إلى استقالته من
وزارة الخارجية الأمريكية احتجاجاً على النفاق الأمريكي [11] .
إن الغرب يسعى للضغط على تركيا العلمانية للقيام بجهد إنساني بينما ترى
تركيا أن تجاهل حقيقة الوضع والمأساة ويؤدي إلى شعور المسلمين بأن الحرب
حرب صليبية جديدة، ويمكن أن يفضي إلى حروب دينية مشتعلة.. أي بمعنى آخر
أن المسلمين سيكتشفون حقيقة المجابهة ... [12] .
» لقد أثبت المجاهدون العرب شجاعة فائقة، إنهم هنا من أجل وقف ذبح
إخوانهم المسلمين كالشاة كما يقول أحدهم، والجنود المحليون يبدون إعجابهم بهؤلاء
لإقدامهم وقدرتهم على إلقاء الرعب في قلب الصرب الذين ينكمشون حينما يسمعون
صرخة المجاهدين حينما يستغيثون بالله « [13] .
» على المسلمين أن يقبلوا بالتعايش الكونفدرالي مع كانتونات الصرب
والكروات حتى لا تقوم دولة إسلامية كبرى تهدد استقرار أوربا.. « [14] .
» نحن نقاتل من أجلكم.. نحن خط الحماية الأول أمام المسلمين المتخافين
الذين يشكلون عدواً مشتركاً لكم.. كما لنا « [15] .
هل تكفي هذه الشهادات؟ أم نحن بحاجة إلى برنارد لويس المستشرق
اليهودي الحاقد وتلامذته من أمثال فؤاد عجمي الذين تورمت أكتافهم من الأجر
الحرام وهم يتحدثون ويسهبون وينظرون ويسقطون.. حول همجية المسلمين
وتعصب العرب؟ .. لقد صمتوا تماماً عن» حضارة الصرب «و» رقي الغرب «وشجاعة اليهود والنصارى في تحمل صور ومشاهد الهلع المعروضة لأشهر..
وهنا لا مانع من نقل مقطع وجيز لذئب صغير يحاول أن يشتهر حينما يؤكد
انضمامه إلى قافلة لويس /عجمي. هذا النكرة الذي أبتليت عيوننا به يفند الرأي
الساذج الذي يرى المعركة معركة دين، وقتال عقيدة، فيقول:» أفتى أحد الزملاء
بأن لإسرائيل ضلعاً في الحرب على مسلمي البوسنة والهرسك وهذا لا يكون
صحيحاً لتكتمل عناصر الصورة المرسومة في رؤوسنا: نحن المسلمين في جانب
والعالم الغربي الصليبي في جانب آخر، وما دامت إسرائيل هي همزة الوصل
العدوانية التي تربط الغرب بنا فهذا ما يملك إلا أن يوجد لها دور في حرب
البوسنة « [16] .
والغريب أن شواهد المعركة، بل تورط القوى الغربية العقدي والعملي
مصاحباً بالدور الإسرائيلي هو حديث الأعداء أنفسهم الذين وجدوا في هذه المنابر
المشبوهة والصحف الراقصة على جراح المأساة، كتاباً لا يملكون من الشجاعة ذرة، أو من الاطلاع نصيباً، أو من الموضوعية حرفاً.. هم وحدهم القادرين على فهم
المعضلات وتحليل المشكلات والتصدي للقيام بدور ابن العلقمي بصورة يخجل منها
برنار لويس، ويسقط عن عرشه الاستخباراتي/الاستشراقي، الأراجوز الأكاديمي:
فؤاد عجمي..
إن هذا التلاعب بالألفاظ والأفكار لا يصب إلا في خانة واحدة ترمي إلى
تجريد الصراع من بعده الديني الذي تؤكد الحقائق المتراكمة جذوره ومنطلقاته والتي
تحاول أن تصبغ القضية بمزيج من العرقية المجردة النهمة، أو التجاوزات
والطموحات القيادية التي لا تعرف انضباطاً أو كبحاً للتجاوزات..
لقد لحظت مواطنة أمريكية قواعد اللعبة التي تسير الصراع وما يحكمها من
قوانين عقدية تجتمع فيها الصليبية واليهودية ولا سيما في صورة رأسي الملتين
المنحرفتين: أمريكا وإسرائيل. كتبت روما كروكر إلى مجلة الواشنطن ريبورت
في عدد اكتوبر 1992 قائلة:» حقاً إن الصرب يعتقدون أنهم يكسبون احترام
الولايات المتحدة حينما يمارسون القتل الوحشي باسم «التطهير العرقي» ..
والسبب هو أن قتل شعب مسالم وتشريده وإفناءه واستبداله بمهاجرين، غرباء هو
نفس الأسلوب الذي أوجد الولايات المتحدة وكونها، لكن المجرمين الذين قاموا بهذه
الجريمة كانوا ولا زالوا ينادون باسم «الرواد» .. وهذا هو نفس السبب الذي
يجعل دولة كأمريكا تتعاطف مع شعب قام بنفس الأسلوب هو الشعب الإسرائيلي
الذي لا يزال يقال عنه أنه الشعب الذي استصلح الأرض،.. غداً سيطالبنا
الصرب بمبلغ 10 بلايين دولار ضمانات للقروض من أجل مشاريع توطينية في
الأراضي التي يحتلونها اليوم «.. إنه المثلث الذي قام واشتهر ضلعاه الشريران
أمريكا وإسرائيل.. أما الضلع الثالث فهو كل قوة أو تيار يسعى لحرب الإسلام
وأهله، صرباً كانوا أو كرواتاً أو روساً أو هندوساً، مهما حاولوا أن ينافقوا أو
يتملقوا أو يعبثوا فالحقائق أصعب من أن تحجب بمنخل..، والوقائع أكبر من أن
يتلاعب بها كاتب مبتدئ أو صحيفة تطعن من الخلف، أو متشرق ملأ الشر صدره
فبدت الضغينة في فيه وما يخفي صدره أعظم.. وأعظم ...
__________
(*) هذا العنوان يرمز إلى حقيقة فهم الغرب الصليبي لأحداث البوسنة ومن ثم تغطيتها إعلامياً في الوقت الذي نأخذ نحن المسلمين منهم تفاصيل المأساة التي لم نحسن حتى متابعتها وكتابة فصولها الحزينة.
(1) نيوزويك سبتمبر 1992.
(2) واشنطن بوست سبتمبر 1992.
(3) واشنطن بوست سبتمبر 1992.
(4) نيوزويك 7 سبتمبر 1912.
(5) نيوزويك أكتوبر 1992.
(6) مجلة تايم 20/7/1992.
(7) نيوزويك 24/8/1992.
(8) BBC 12/8/1992.
(9) نيو ستيتمان سوسيتي 31/7/1992.
(10) ونشر هذا في أكثر من مصدر انظر مثلاً الوسط 26/10/1992.
(11) نشرت في 30/8/1992 في الواشنطن بوست.
(12) ملليت التركية 12/8.
(13) نيوزويك 5/10/1992.
(14) بات روبتسون - مرشح الرئاسة الأمريكي السابق - 18/9/1992.
(15) مقاتل صربي ABC News 22/8/1992.
(16) المقال لحازم صاغية الكاتب العبثي الملفوظ أسلوبياً والعجمي اللويسي فكراً وكيف لا يكتب بهذا الأسلوب وهو أرثوذكسي حاقد؟ ! .(58/78)
مقال
فرنسا والنزعة العنصرية
في توجهاتها إلى متى؟
أحمد عبد العزيز أبو عامر
تمهيد:
كان للمفكرين الفرنسيين الكبار أمثال (مونتسيكيو) صاحب (روح القوانين)
وجان جاك روسو صاحب (العقد الاجتماعي) وديدرو وغيرهم - مع التحفظ على
توجهاتهم - كان لهؤلاء المفكرين دورهم الكبير في إيقاظ شعلة الثورة الفرنسية عام
1789م والتي أصبحت أبرز معالم التاريخ الأوربي المعاصر، والتي بواسطتها تم
التخلص من جبروت الكنيسة وظلم الإقطاع. والتي كان هتافها (الحرية والمساواة
والإخاء) وعنها صدر ما يسمى بحقوق الإنسان لأول مرة في التاريخ المعاصر.
إن ما تعيشه فرنسا اليوم من التوجهات العنصرية حيال الوافدين عليها لم يعد
مجهولاً بعد أن صار مكشوفاً بما كتب عنه من أبحاث ودراسات وكتابات صحفية
متوالية كما سنرى.
والحقيقة أن ما جاء في المثل والقيم الفرنسية التي جاءت بها ثورتهم
وتضمنتها قوانينهم لا تتفق وما نتج من ظلم طيلة سنوات استعمارهم لكثير من
البلدان الإسلامية حين امتصت خيراتها، وابعدت الحكم بشريعتها، وحاولت بشتى
الطرق إشاعة لغتها وفكرها، واصطنعت أطراً فرانكفونية لتخلفها في سياستها
وإشاعة ثقافتها من بعدها والتي ما زالت أمينة على رسالتها وما برحت تتقدم
للانتخابات في بلدانها بتوجيهاتها الفرانكفونية.
وخرجت أوربا منهكة القوى بعد الحرب العالمية الثانية وتقلص نفوذها لحساب
القوتين العظميين (أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق) لكن سوء الأحوال في كثير
من البلدان العربية وبخاصة دول شمالي أفريقيا ومظاهر الوفرة والازدهار
الاقتصادي والتي عرفتها دول أوربا منذ الستينات دعا كثيراً من سكان تلك الدول
إلى النزوح إلى دول غرب أوربا، وبخاصة فرنسا، حتى وصل عددهم إلى ما
يزيد على مليون نسمة في غالبيتهم العظمى من المسلمين.
وهناك فئة سبقتهم للنزوح إلى فرنسا ممن شاركوا في الجيش الفرنسي - جهلاً
منهم أو ربما رغماً عنهم - أبان الحرب العالمية الأولى. وهذا التجمع الإسلامي
الكبير في السنوات الأخيرة وبعد مد الصحوة الإسلامية نتج عنه وجود أكثر من ألف
مسجد وأكثر من 600 جمعية إسلامية تظهر طابعها الإسلامي ويؤذن للصلاة خمس
مرات في اليوم في باريس بواسطة راديو محلي. بينما لم يكن في بدايات
السبعينات أكثر من عشرة مساجد والقليل من الجمعيات المحدودة إذ أن كل الوافدين
للعمل هناك في ضياع وعدم التزام بالإسلام.
لكن هؤلاء الوافدين المسلمين يعانون في السنوات الأخيرة أشد المعاناة من
النظرة الدونية لهم لا سيما بعد ظهور التوجه الإسلامي فيما بينهم. وبعد ظهور
اتجاهات عنصرية يؤججها حزب رسمي هو (حزب الجبهة الوطنية) بزعامة جان
ماري لوبان والذي دخل الانتخابات الفرنسية الأخيرة وحصل على نسبة 14% من
أصوات الناخبين ومن أبرز طروحاته طرد كل الوافدين وسحب الجنسية ممن نالها
منهم..
المظاهر العنصرية حيال المسلمين في فرنسا:
بعد ظهور ذلك الحزب العنصري يلمس المتابعون كثيراً من المظاهر
العنصرية حيال المسلمين تتمثل فيما يلي:
1- ما تنشره الصحف اليمينية من تحقير للأجانب وتخويف وإثارة للرعب
من المسلمين الذين يصورون زوراً بأنهم إرهابيين ومعادين للديمقراطية.
2- التخويف من تزايد المسلمين الذين ستؤدي زيادتهم في زعمهم إلى أسلمة
أوروبا عبر تزايد هجراتهم، يقول (لوبان) : إننا لا نريد أن نعيش في المستقبل
الذي نرى فيه الفرنسي يشحذ على أبواب المساجد الفرنسية يوم الجمعة.
3- إصدار قوانين تحد الهجرة! ويقصد بها في المقام الأول المسلمون.
بالإضافة إلى ظهور القيود التي تعوق الإقامة هناك.
4 - الغلظة التي يعامل بها الوافدون في المطارات والموانئ والتي بلغت إلى
حد إقامة سجون خاصة للوافدين.
5- المضايقة للملتزمين من المسلمين عند ظهور السمات الإسلامية عليهم،
ولا يغيب عن البال معاناة الطفلتين المسلمتين وطردهما من المدرسة حينما لبستا
اللباس المحتشم حتى وصلت مسألتهما إلى المحاكم الفرنسية، بينما لا يتخذ نفس
الإجراء ضد (الراهبات) اللاتي يلبسن نفس اللباس تقريباً.
6- تعريض المهاجرين المسلمين للقتل والاغتيال بصورة بربرية لا يمكن
بحال من الأحوال قبولها لتنافيها مع أبسط القوانين السائدة، ومنها إلقاء أحد العمال
من القطار وهو يسير بسرعة وقد حولت قصته إلى فيلم سينمائي أظهر همجية هذا
التصرف.
7- طرد العمال العرب المسلمين من المصانع والاستغناء عنهم واستبدالهم
بعمال وافدين من أوربا الشرقية.
لم يقتصر هذا التوجه العنصري على حزب لوبان فقط؛ وإنما تعداه إلى
بعض المسؤولين الكبار حينما وصل الأمر برئيس الوزراء السابق (جاك شيراك)
إلى الحديث عن المهاجرين العرب المسلمين بأسلوب فج وقبيح حينما اعترض على
نمط حياتهم كتعدد الزوجات وكثرة الأطفال وما زعمه من روائح الأطعمة! !
والحقيقة أن هذا التصريح لا يعود لتلك الأسباب فقط، وإنما يعود للطعن في الدين
الذين ينتمون له. وهذا غيض من فيض، وما تخفي صدورهم أكبر.
أسباب ظهور النزعة العنصرية:
لدارسي هذه الظاهرة عدة توجهات في تعليلها ومنها:
1- ما يعود لخوف أوربا من التزايد المتصاعد في نسبة العرب بالنسبة لأوربا
فأوربا حالياً بها 340 مليون نسمة، في حين يبلغ سكان العالم العربي 225 مليون
نسمة وإذا استمرت الحال على ما هي عليه فإن عدد سكان العالم العربي سيفوق
سكان أوربا عام 2015 وهذا يشكل عامل يقلق الأوربيين لعدة أسباب أظهرها
الانفجار السكاني في الدول الواقعة جنوبي البحر الأبيض المتوسط والظروف
الاقتصادية والسياسية التي تشجع على هجرة أعداد لا طاقة ولا رغبة لأوربا في
استيعابها مما يوجد نفوراً شعبياً بينهما.
2- الزيادة المضطردة للوجود غير الفرنسي في فرنسا والذي يرونه يهدد
بتغيير الملامح الأساسية لمجتمعهم وكذلك الأسس الثقافية والحضارية التي تقوم
عليها فرنسا منذ قرون.
3- ظهور العمال العرب والمسلمين وغالبيتهم من شمال أفريقيا في
الاضطرابات التي حصلت في السنوات الأخيرة، وكانت نقابات العمال الفرنسية
تدفع بالعرب لرئاسة لجان الإضراب فيبدون أمام الرأي العام الفرنسي وكأنهم جاؤوا
إلى فرنسا لكي يخربوا ويدمروا اقتصادها.
4- شعور الفرنسيين بأن وجود هذه الألوف المؤلفة من العمال الأجانب
يستأثر بفرص العمل دونهم.
5- التكلفة التي تترتب على وجود العمال الأجانب على الخزينة الفرنسية
لصرفها أموالاً لهم للضمان الاجتماعي والصحي والتقاعد تقدرها القوى العنصرية
210 مليار فرنك فرنسي أي حوالي (40 مليار دولار) مع العلم أن هذه التكلفة
يدفعها العمال الأجانب خلال الضرائب المقتطعة من رواتبهم الشهرية.
6- بعد ظهور الصحوة الإسلامية بين العمال المهاجرين وتشبثهم بهويتهم
الإسلامية، ورغبتهم في الحصول على الوسائل التي تسمح لهم بممارسة شعائرهم
وأهمية احترامها، ما يرونه يعطل العمل في زعمهم.
7- ظهور بعض الجرائم التي قد يرتكبها بعض الأجانب هناك ثم هناك عامل
الضوضاء فالحياة العربية الإسلامية لها تقاليدها في التواصل الاجتماعي بعكس
الحياة الفرنسية المغلقة مما يضايق الفرنسيين. وبالرغم من كون هذا العامل ثانوياً
إلا أنه لعب على أرضية الواقع الفرنسي دوراً مهماً في تصعيد المد العنصري ضد
العمال العرب.
8- يحمّل كثير من الفرنسيين مسألة تدهور جهات التعليم عندهم لوجود أبناء
الأجانب في المدارس الابتدائية ومعظمهم لا يجيدون الفرنسية.
نعم فرنسا عنصرية:
يحاول بعض الباحثين بادعاء الموضوعية والظهور بمظهر الليبرالية الكاذبة
بأن فرنسا ليست عنصرية كما جاء في كتاب (هل فرنسا عنصرية؟) للأستاذ
شريف الشوباشي. والذي لم يجرؤ على القول بهذه الحقيقة وراح يبعد عن الواقع
بفلسفة لا مبرر لها. فهو يقول: إن الإجابة بلا فقط أو نعم فقط يظل ناقصاً وغير
صحيح. وحينما سأل هل فرنسا عنصرية قال: الإجابة على السؤال لا اعتقد أنها
بسيطة لكن إذا نظرنا إلى فرنسا اليوم وخصوصاً في السنوات الثمان أو العشر
الأخيرة نجد أن هناك اتجاهاً عنصرياً قوياً. وإن هذا الاتجاه يزيد ويستشري وقد
يتبلور في حزب سياسي على الساحة - حزب الجبهة الوطنية - إلى أن قال: إن
الذين صوتوا للوبان بنسبة 14% ليسوا كلهم من العنصريين ومن الظلم أن نقول إن
المجتمع الفرنسي هو مجتمع عنصري لأن هذه النزعة إنما هي وليدة شبح الأزمة
الاقتصادية فهي السبب وراء هذه الظاهرة.
إن الأستاذ الشوباشي في رده لم يكن جريئاً ولم يقل الحقيقة، فإن ما أوردته
من مظاهر عنصرية ضد العمال العرب كالشمس في رابعة النهار وإقرار حزب
عنصري من الدولة الفرنسية يتقدم للانتخابات الرسمية هو تكريس بهذا المبدأ.
والجهود الكبرى من الحكومة والشعب الفرنسي لتمويل آلاف المبشرين الذين زرعوا
في كثير من الدول الإسلامية للتبشير بالنصرانية بين المسلمين لا يحتاج إلى دليل،
كل هذه التوجهات العنصرية تسود في الوقت الذي وضعت الدولة الفرنسية نفسها
من النظم والقوانين ما يحارب العنصرية ويجرمها والعاملين بها، كما أورد ذلك
الأستاذ الشوباشي في أحد فصول الكتاب آنف الذكر.
وحتى نؤكد هذا للقارئ الكريم أورد ما كتبه الباحث الفرنسي (ميشال
فيفيوركا) في كتابه (فرنسا العنصرية) وهو حصيلة بحوث ميدانية أجراها الباحث
المذكور مع فريق عمل مؤلف من ستة باحثين حول المشاكل التي يواجهها المجتمع
الفرنسي اليوم خصوصاً على المستويين الاجتماعي والثقافي حيث أوضح الكتاب
نزوع المجتمع الفرنسي نحو العنصرية ليس على ضوء نتيجة حزب الجبهة الوطنية
العنصري فقط وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يغوص في الأسباب والدوافع من
خلال رصده لبعض أوجه الحياة الاجتماعية الفرنسية السائدة في مناطق فرنسية
توجد فيها نسبة مهمة من المهاجرين حيث تطفو ملامح الأزمة العنصرية أكثر من
أي مكان آخر، وهذا ما تعبر عنه آراء العديد من الفرنسيين الذين ألتقى الباحث
وزملاؤه بهم، ومن المناطق الساخنة التي تشهد تعاظم الصراع بين الفرنسيين
والأجانب على سبيل المثال كلاً من (روبيه وموروس ومارسيليا ومونفرماي
وسيريجي) . وبعد أن أرجع أسباب ظهور النزعة العنصرية إلى أسباب اقتصادية
وسياسية واجتماعية قال بأنها دفعت إلى الصراع الداخلي الذي تعيشه فرنسا حالياً،
ويتمثل في النزعة العنصرية من الفرنسيين ضد المهاجرين وبالتحديد حيال القادمين
من دول المغرب العربي ومن دول أفريقيا الأخرى. ثم تحدث عن وجود العنصرية
اللفظية والتي أذكر منها أقوال الفرنسيين التالية: (يجب أن لا ندخل الأمكنة التي
يوجد بها مغاربة!) ، (وإنهم كالحيوانات لا يتغيرون!) ، (عاداتهم غريبة
ومتوحشة) ! مما يعكس مدى الحقد على الآخر. ودعوتهم للتخلص من الأجنبي بأي
ثمن لا سيما وأنهم يرون أن الأجانب هم الذين وراء الأزمات الاقتصادية وتزايد
العاطلين. ومما يجدر ذكره أنه سبق أن صدر للمؤلف (فيفيوركا) كتاب سابق
بعنوان (فضاء العنصرية) ويعتبر كالجانب النظري لكتاب (فرنسا العنصرية)
والكتابان يعكسان اهتمام المثقفين الفرنسيين بمعالجة هذه المشكلة، وينطويان ولا
شك على إدانة لمختلف أشكال العنصرية التي يعتبرها المؤلف مرضاً يهدد
المجتمعات ومدى قدرتها على الاستمرار.
المراجع:
1- هل فرنسا عنصرية لشريف الشوباشي.
2- دراسة الإسلام المهاجر في الدولة القومية (الحياة من 10700-10702) .
3- الشرق الأوسط 4982، 4933.
4- مجلة الشروق العدد 16.(58/92)
مقال
من الرجعية إلى الأصولية
(1)
محمد بن حامد الأحمري
يهتم العالم الغربي في هذه الأيام بالظاهرة الإسلامية - التي يسمونها:
الأصولية - اهتماماً لم يسبق له مثيل، وقد كان مؤتمر المتخصصين في دراسات
الشرق الأوسط الذي عقد في مدينة بورتلاند، ولاية أوريجون في الغرب الأمريكي
لمدة أربعة أيام بدأت يوم 2 جمادى الأولى 1413هـ (28 أكتوبر 1992م) ينبئ
عن تحكم هاجس الإسلام بالعقول الغربية، إذ أصبح اهتماماً شاملاً للمتخصصين،
وخطراً قادماً يجب وعيه والاهتمام به لاستدراجه، أو كبته، أو تدميره، أو التفاهم
معه إذا أمكن ذلك.
وقد حضر المؤتمر أكثر من ألف وأربعمائة متخصص من المهتمين بالعالم
الإسلامي والمشرق العربي، وحضره بعض السفراء والمثقفين العرب. وكان أهم
أعمال المؤتمر ما يزيد عن مائة ندوة شارك فيها قرابة خمس مائة متحدث،
ومحاضرات، وعرض للكتب. وكان أهم ما اهتم به المؤتمر من الموضوعات:
موضوع العصرانية وتحديث المجتمعات الإسلامية، وقضايا المرأة المسلمة حيث
حظي هذا الموضوع باهتمام كبير، وشارك فيه نساء عربيات من مختلف الأقطار
العربية، وكذلك موضوع الوحدة اليمنية كان محل اهتمام المؤتمر.
وبرز في المؤتمر الجانب السياسي كقضية هي هم وعمل معظم الدارسين
للمنطقة، حيث لم يعد الاستشراق كتخصص معرفي موجوداً اليوم، وإن وجد فإنه
في الحقيقة يأتي على هامش العمل السياسي الاستعماري لهؤلاء الدارسين، وهو
أمر ليس هذا موضع الحديث عنه. وإنما المهم أن هذا الانتباه والخوف الشامل من
الإسلام أخرج عدداً من الكتب التي اهتمت بدراسة الإسلام وبوعي التيارات التي
تحرك الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، وتدرس عوامل
نجاحها أو فشلها وأسباب قيامها وأثرها اليوم في الحياة المعاصرة.
وكان الكاتب «جيل كيبل» من الذين أبدوا اهتماماً بارزاً بهذا الموضوع منذ
كتابه الأول «النبي والفرعون» إلى كتابه الأخير «يوم الله» عن الحركات
الأصولية والمعاصرة في الديانات الثلاث [1] ..
يذكر «كيبل» أسباب العودة إلى الدين في الديانات الثلاث: الإسلام
والنصرانية بشقيها: الكاثوليكية، والبروتستانتية، والديانة اليهودية، ويعيد سبب
هذه الأصوليات إلى فشل المشروع التحديثي العلماني [2] . «إذ هذه الحداثة لم تؤد
إلى إنكار أو تحطيم كل الحضارات الأخرى فحسب، بل أدت أيضاً إلى إفقار
الحضارة الغربية ذاتها حين تركت بُعد المجتمع يصاب بالضمور باسم فرديتها،
وتركت بعد الإنسان المتعالي يضمر باسم وضعيتها.. وهذا التصور للعلمانية قد
أدى إلى هزيمة الغرب أخلاقياً [3] . ثم يلاحظ» كيبل «وجود تشابه في بعض
هذه التوجهات عند المتدينين، ويرى أن أهم ملامح هذا التشابه:» أن هذه
الحركات الدينية هي على العموم حركات تعارض الخطاب الغالب في الدين الرسمي
وتخرج عليه وتسرع إلى تجريمه.. وتأخذ هذه الحركات بكافة على المجتمع تفتته،
وفوضاه وبعده عن الجادة وافتقاره لمشروع متكامل يؤمن به وينتسب إليه.. وتعتبر
أن حداثة ينتجها عقل بدون الله هي حداثة لم تستطع في النهاية أن تولد قيماً [4] ..
وتمتلك هذه الحركات قدرة خاصة على الإشارة إلى اختلالات المجتمع [5] ، وفي
الديانات الثلاث هناك مجموعات لا تحاول الاستيلاء على السلطة، ولا تفكر بها،
وتكتفي بجانب التقوى كمجموعة الهبة اللدنية في الكاثوليكية والبروتستانتية،
وجماعة اللوبافيتش اليهودية، وجماعة التبليغ عند المسلمين، فهذه جماعات تدعو
إلى التقوى والتجربة الدينية الشخصية [6] ولا تهتم بأبعد من ذلك.
يقابل ذلك التيارات التي تحمل برنامجاً بديلاً كالحركة الإنجيلية والأصولية
الأمريكية التي كان أول رجالها المعمداني جيمي كارتر، والذي جاءت به الكنيسة
إلى الحكم ليكفر عن خطيئة ووترجيت. ثم تلاه ريغان، الذي هاجم نظرية داروين
المدمرة للأخلاق، وهاجم نظام التعليم العلماني، وطالب بتدريس وجهة النظر
الكنسية في قصة الخلق بديلاً، وزعم بأن الله اختار أمريكا واختار مكانها البعيد
لتكون مكاناً للإيمان والحرية يهفو إليه من يحب الإيمان والحرية، وقال أمام جمعية
الإنجيليين القومية إنه سيجعل من عام 1983م عام الكتاب المقدس [7] .
ثم تلاه بوش على نفس القاعدة المتطرفة دينياً وله تاريخه المعروف في
هذا [8] ، وليلة سقوط بوش فى الانتخابات صرح أحد أنصاره بخطر قيام حرب أهلية بسبب فوز الديمقراطيين، حرب بين المتدينين المحافظين ومخالفيهم. ومع أن هذا التصريح مبالغة ولكنها إشارة ذات معنى. ويعرض أمثلة من إيطاليا وغيرها عن الحركات الدينية السياسية في العالم الكاثوليكي ولكنه يقف طويلاً عند حركة
«التضامن» البولندية وأثرها في إسقاط الحكم الشيوعي في بولندا، وأثر البابا يوحنا في هذه القضية مشهور، وأيضاً تلك الحركات الدينية التي كانت تعمل في روسيا وأوربا الشرقية، وساعدت على نهاية روسيا.
ومن الحركات اليهودية السياسية المهمة حركة غوش أمونيم التي تأسست عام
1974م إثر استعادة مصر لأجزاء من سيناء، وهذه الحركة مع حركات وأحزاب
دينية صغيرة لعبت دوراً مهماً في تشكيل الحكومات اليهودية، وكانت هذه الأحزاب
الدينية موازناً مهماً بين المتنافسين، كل منهم يسعى لرضاها وينفذ برنامجها حتى
يكسب أصواتها، مما أهلها لتأثير ديني في المجتمع اليهودي أكبر من حجمها
الواقعي.
ويرى أن بعض القضايا أضعفت مواقع العلماء في باقي أرجاء العالم الإسلامي
السني مثل قضايا عدم استقلال الأوقاف والحبوس وقضية إصلاح التعليم الذي
تحول بالأزهر إلى أن أصبح آلة دعائية للحكم القائم أو مسألة وسطية العلماء في
المواقف من تهدئة الأمة ونصح الأئمة والتحذير من الفوضى والفتنة، وظاهرة مهمة
أخرى وهي ظاهرة الانفصال بين العلماء وشباب الدعوة [9] .
مصطلح الأصولية:
ومن القضايا التي تستحق الاهتمام هنا الإشارة إلى أن المصطلحات المستعملة
في الحديث عن النهضة الدينية في العالم الإسلامي، قد نُظر إليها من خلال منظار
غربي خالص يبدأ باستعمال المصطلحات والألقاب الغربية التي سميت بها حركات
دينية نصرانية، فيسمى المسلمون بنفس التسميات، وهذه عملية مغالطة شنيعة في
رأي الكاتب، إذ إطلاق كلمة أصولية على الوعي الإسلامي المعاصر زيادة في
التشويش وعدم الإدراك للمطلوب فهمه، إذ أن النظرات الغربية أو القوالب الغربية
الجاهزة التي يوضع فيها العالم الإسلامي لا تمكن الغربيين من فهم ما يحدث فيه.
وإطلاق كلمة أصولية ذات المعنى المحدد في الذهن الغربي على أصحاب
الفكر الإسلامي لا يدعو إلى فهم ما يحدث في العالم الإسلامي. وهو يطالب بعدم
استعمال المصطلح الغربي نفسه حتى لا يلقي الواقع الديني النصراني بظله فوق
موضوع الدراسة «الإسلام» . وفي الحق؛ إن مما يثير الاستهجان استعمال هذه
الكلمة ذات الدلالة المحددة في الإنجليزية ابتداءً وفي الفرنسية وغيرها من اللغات
الأوربية في وصف حالة أخرى مغايرة هي العالم الإسلامي. ولكن الذي يجب وعيه
هنا أن الحركة المضادة للإسلام غير قادرة حتى على إيجاد مصطلحات تصنف بها
ما يحدث على أرضها، فهي لا بد أن تترجم بحرفية ساذجة ذلك المصطلح الغريب
الذي لا يعني في لغتها وثقافتها شيئاً محدداً؛ بل لا يعني بأي طريق المعنى الذي
يراد إلصاقه أو لمز المسلمين به، فهل يعني عندنا النسبة لأصول الفقه، أم لأصول
الإسلام، أم ماذا؟ !
يحدثنا الكاتب عن جذور هذا المصطلح فيقول: «يؤرخ للظهور العمومي
لمصطلح سلفية [10] أصولية Fundamentalism على وجه العموم
بسنوات [11] العشرين، وقد ظهر على أثر نشر سلسلة من 12 مجلداً انطلاقاً من عام 1910 في الولايات المتحدة تحت عنوان الأصول، تضم تسعين مقالة، حررها مختلف اللاهوتيين البروتستانت المعارضين لكل تسوية أو حل وسط مع الحداثة المخيّمة، وقد نشرت هذه السلسلة التي مولها شقيقان كلاهما من رجال الأعمال ووزعا منها ثلاثة ملايين نسخة مجاناً. غير أن ما أدخل سلفية
» أصولية «في المصطلحات الأمريكية الجارية وأعطاها في ذات الحين دلالة مختلفة عليها هي قضية» سكوبس «فقد كان جان ت. سكوبس أستاذ علم حياة شاباً يعمل في ثانوية حكومية في ولاية تينيسي، واستخدم في التدريس كتاباً يرجع ويميل إلى تطورية الأجناس. وهو أمر كان ينتهك قوانين الولاية التي كانت تحظر تعليم كل نظرية تنكر رواية الخلق الإلهي للإنسان [12] ، وقدم الأستاذ إلى المحاكمة عام 1925م.
لكن قضيته أصبحت قضية عالم الثقافة الأصولية الأمريكية [13] . واشتد الصراع
فيما بين أنصار الداروينية أو أهل الحداثة أو التحرر وبين البروتستانت الذين يرون
عصمة الكتب المقدس، وانقسم المجتمع الأمريكي في فترة ما بين الحربين
العالميتين إلى معسكرين متناحرين: قسم محارب للدين، وآخر محارب للحداثة.
كان التحديثيون في الشمال الصناعي، وكان المتدينون في الجنوب الزراعي،
وكانت الجولات الأولى سجال كسب فيها المتدينون وحرموا الخمور ابتداء من عام
1919م إلى عام 1933م، ثم خسروا في مراحل بعد ذلك، إلى أن جاء كارتر
وريغان» الذي نادى في زمنه بأن تكون مبادئ الكتاب المقدس شريعة
المجتمع « [14] ثم بوش صاحب النظرية الدينية في الاهتمام بالعائلة والفرد وإصلاحه وخلاصه من الخطيئة الأولى، وهذا التفكير النصراني يحل له مشكلة الضعف القيادي والمشكلة الاقتصادية، ولم يشفع له كل ندائه البروتستانتي ولا كل القساوسة الذين جمعهم حوله. فهل هذه نهاية مؤقتة للحركة الإنجيلية هنا؟ لا يبدو ذلك الآن على الأقل، فإن المتدينين يزيدون، والعلاج العجائبي بالرموز والتهويمات» سحرة متدينون، كهان «يزيد بالكتاب المقدس.
والجامعات الدينية المتخصصة تفتتح، وبرامج التلفزيون والإذاعة تتزايد،
وفي عام 1985 كان للكنيسة 18 ألف مدرسة تضم مليونين ونصف مليون طالب.
وتعلن الكنيسة عن مشاريع سنوية، تطالب في كل سنة بإنقاذ مليون روح لصالح
الكتاب المقدس، أي دفع هذا الرقم إلى حظيرة الكنيسة.
ويعقب الكاتب بأن ما تملكه الكنيسة الإنجيلية الأمريكية من أجل نجاح مشروع
الدعوة الدينية في أمريكا أعظم بما لا يقاس من وسائل الآخرين - المسلمين
والكاثوليك واليهود - لأنها تمتد من أقنية التلفزيون إلى الجامعات [15] .
من الرجعية إلى الأصولية:
تلك كانت قصة المصطلح:» أصولية «، مصطلح أمريكي خالص، وهذه
حقيقة تاريخية لحياة الفكر المهزوم والمنهار والذي لا يصنع كلماته بل يستعملها كما
لُقِّنها أو ترجمت له، فهو ليس قادراً على إبداع شكليات ثقافة خاصة به. وحين
كانت الحركة الشيوعية وأدعياء اليسار تعيث في العالم الإسلامي كان لا بد من
استخدام مصطلحات الرجعية والتآمر تعريضاً بالإسلام ورسوله وكتابه وموافقة
لماركس وحواشيه في العالم كله. وباسم الرجعية ومحاربتها حوربت الحريات
والمقدسات، وغيبت الأمة عن حقوقها وثقافتها، وعاشت نهباً لكل الصرعات
اليسارية التي ما أثمرت إلا هزائم وويلات ومجاعات وحروباً خاسرة ومجتمعات
تخلفت وزادت تبعيتها باسم الاستقلال والتقدمية.
فهل يراد باستخدام مصطلح: الأصولية هتك حريات الشعوب وكرامتها
وإذلالها ومحاربة إسلامها أغلى ما تملك؟ الذي يلوح في الأفق أن المصطلح الذي
تنفخ فيه أجهزة الإعلام وتهِّول به في العالم ربما يؤدي إلى مواجهة شاملة مع
الإسلام يخسر فيها أعداء الله بإذن الله.
وعقدة المشنعين على الإسلام باسم الأصولية تنطلق من مبدأ السيادة السياسية
لدولة كبرى، فإنها في حال قوتها لا ترضى بفكرة تخالف فكرتها السائدة فالمحارب
للإسلام بإضفاء صفة الأصولية على العاملين له إما أن يكون حاملاً لفكرة تحارب
الإسلام وتضاده مباشرة؛ أو أن يكون ممثلاً ووكيلاً للفكرة السائدة، وهو في الحالة
الثانية أخطر، لأنه ليس أصيلاً في تفكيره، وليس عاقلاً في تعامله، فهو يفهم
دوره أنه لا بد أن ينفذ المطلوب كما يريد السيد، بلا وعي، ذلك أنه لا خيار عنده، إما الغرب؛ أو الأصولية. وبهذا ندرك الهوس الذي يلف عالم اليوم ومؤتمرات
المستشرقين: إما الغرب أو الإسلام، لا أنصاف حلول.
وقد جاء كتاب جون إسبوستيو:» التهديد الإسلامي أسطورة أم
حقيقة « [16] موضحاً القلق الأمركي تجاه الإسلام خاصة، والذي بدأ بالإعلان إثر سقوط روسيا عن عدو جديد أشد خطراً من الشيوعية ألا هو الإسلام، وسيكون هذا الكتاب وكتاب جارودي في الأصولية المعاصرة وأسبابها موضوع حلقة قادمة بإذن الله ...
__________
(1) ترجمة نصير مروة دار قرطبة، قبرص 1992.
(2) يوم الله، ص 11.
(3) جارودي، الأصولية، ص 23.
(4) المصدر السابق، ص 12.
(5) المصدر السابق ص 13.
(6) المصدر السابق ص 13.
(7) المصدر السابق، ص 132-133.
(8) كتاب God in the white house الإله في البيت الأبيض تحدث عنه بتفصيل كتاب Under God, Relegion and American Politics تحت الإله والدين والسياسة الأمريكية وكتاب النبؤة والسياسة وكتاب البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني لـ د يوسف حسن وله أيضاً كتاب أوراق واشنطن.
(9) ص 40-41.
(10) لعل كلمة سلفية من المترجم عن الفرنسية؟ .
(11) يعني عقد هنا.
(12) يعني كان القانون حرم تدريس نظرية داروين.
(13) المصدر السابق ص 118-119، و 136.
(14) المصدر السابق ص 118-119، و 136.
(15) المصدر السابق ص 145.
(16) The Islamic Threat Myth or Reality.(58/100)
منتدى القراء
ولكنكم تستعجلون
فايز سعيد
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الارتّ -رضي الله عنه-
قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدّ ببرد له في ظل
الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ
الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه
فيجعله نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن
دينه ... والله ليتمنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى
حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.. ولكنكم تستعجلون) .
(لكنكم تستعجلون) ما أحسن الكلمة، وما أجمل العبارة، وما أروع هذا
البيان.. لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان.
(لكنكم تستعجلون) استدراك عجيب منه -صلى الله عليه وسلم- ليخبر
الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم
الطويل الصعب، الشاق الوعر.. ذاك الطريق - الاستقامة على شرع الله والدعوة
إليها - المليء بالأشواك والعقبات.
أخبرهم - عليه الصلاة والسلام - أن النصر والفتح وهداية الناس بيد الله
وحده، وانتظارهما من قبل الجماعة المسلمة ليس صحيحاً، وليس من الطموح
والهمم العالية، بل هو من الاستعجال.. الاستعجال الذي هو أكبر خطأ يقع فيه
المستقيمون والمصلحون، أياً كانوا.. حيثما وُجدوا.
وذكرهم - عليه الصلاة والسلام - بمن سبقهم من المستضعفين، ليكون لهم
زاداً في طريقهم المتُعب، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم،
وبشرهم ووعدهم حتى لا ييأسوا من العاقبة ... والعاقبة للمتقين.
والله عز وجل لم يعد الجماعة المسلمة في العهد المكي بالنصرة وحسن العاقبة، حتى يتربّوا تربية إسلامية فدائية فذّة، تلك التربية التي مضمونها التضحية
والتفاني في سبيل الله وحده والتجرد من أهداف الدنيا، والتطلع إلى ما هو أعلى من
ذلك.. إلى ما عند الله [ومَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ] .
يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «إنه من واجب الدعاة أن يمضوا
ولا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله ورحمته.. هذا هو الهدف الحقيقي، وهذه هي
الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم، وأما ما يكتبه الله لهم بعد
ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو دعوة الله التي يحملونها» .
ولنا في أنبياء الله - عليهم الصلاة والسلام - أسوة حسنة ونماذج خيرة..
فهذا نبي الله نوح - عليه السلام - لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، طوال
هذه السنين وهو يدعو قومه ليقولوا: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ، وفي
النهاية [ومَا آمَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ] قيل: اثنا عشر رجلاً وامرأتان فقط!
فعلى الصالحين والدعاة والمصلحين أن يصبروا، ويواصلوا مسيرتهم الربانية
دون فتور وكسل، ودون خمول واتكالية، وأن يستمدوا غذاء دعوتهم من كتاب الله
وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
قال تعالى: [وبشر الصابرين الذين إذا وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ورَحْمَةٌ
وأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على
محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...(58/109)
الصفحة الأخيرة
كيد الشيطان
عبد القادر حامد
الناظر إلى الجهود التي تبذل من أجل وقف المد الإسلامي، وكبت إحساس
المسلمين بذاتهم - وبخاصة جيل الشباب الذين هم أجيال المستقبل - يُخَيِّل له أنه
أمام سيل جارف يحاول بعض الناس المذعورين وقفه ببناء سد هنا، وسد هناك،
أمامه، أو بمحاولة تحويله إلى حيث ينجون ومن يعولون من مدِّه. وهم في جهودهم
المضاعفة اليائسة، والتي لا تخلو من مهارة وقوة وحسن تصرف عند مداهمة
الخطر؛ يغيِّرون ويبدلون من خططهم، ويجربون هذا الأسلوب، بعد أن فشلت
الأساليب قبله، ويستعينون بالخبرات المتراكمة عبر التاريخ عند هذه الأمة أو تلك،
وعند هذا الطاغية العاتي؛ أو ذلك العتل الجبار.. ومع كل ذلك يكسح السيل
الجارف ما يوضع في طريقه، فما إن تسد ثغرة إلا وتنفتح ثغرات، وما إن يقام
رَدْمٌ إلا وتنهدم رُدوم.
يجب أن نعترف بمواهب وصبر المذعورين من المد الإسلامي. وقدرتهم
على الاستنفار في ساعات الفزع، مع اعترافنا أيضاً بما لهم من مدد ومساندة تأتيهم
من أولياء الشيطان، ولكن حريٌّ بالمسلم أن لا ينسى حقيقة بسيطة هي من صلب
عقيدته، وهي ضعف الباطل مهما علا، وهشاشته مهما تضخّم، [إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ
كَانَ ضَعِيفاً] .
متى تتساند جهود العرب المسلمين كي لا يظل مناخ بلادهم الاجتماعي يشبه
مناخ بلاد البنغال الطبيعي، حيث قضي على الناس هناك أن يُقَطِّعوا أعمارهم بين
إصلاح وترميم آثار جائحة سابقة؛ وترقب هجوم وحلول جائحة لاحقة؟ !(58/112)
رجب - 1413هـ
يناير - 1993م
(السنة: 7)(59/)
شعر
برقية استنجاد
أحمد بن عايش المزني
أنا من ليه؟ أنا من ليه؟ من للنفوس الزاكية؟ ...
من للغواني والشيوخ وللعيون الباكية؟ ...
من للأرامل واليتامى والدموع الجارية؟ ...
من للثكالى؟ والضياعُ يطوف أرض الغالية ...
من للحوامل؟ بُقّرت أرحامهن بأرضيه! ! ...
من للعرايا؟ ألبسوهنّ الثياب البالية ...
من للحدائق والمروج وللبلابل شادية؟ ...
من للجبال الشامخات وللقصور العالية؟ ...
أنا من ليه؟ يا أمة الإسلام قولي: من ليه؟ ! ...
أَلِيَ القرارات التي فاحت وعوداً خاوية؟ ! ...
أَلِيَ الكلام منمقاً خُطَبٌ تَرَدَّدُ راغية؟ ! ...
أَلِيَ القصائد؟ أحسن الشعراء فيّ القافية ...
أَلِيَ الدموع المسبَلات من العيون الصافية؟ ! ...
يا أمتي أنا لا أريد قصائداً متناجية ...
يا أمتي أنا لا أريد العين تمسي باكية ...
يا أمتي أهوى الجحافل زاحفات عاتية ...
يا أمتي أهوى الجيوش تسير نحوي غازية ...
أهوى الشباب مجاهداً في ظل حرب دامية ...
أهوى شباباً عزمه دكَّ الجبال الراسية ...
أهوى شباباً ليس يعكف حول كأس الغانية ...
كلا ولا يقضي الليالي عند ثغر الشادية ...
أهواه يحرس جنده في ليلة ما شاتية ...
يا أمتي طال النفاق بأرضك المترامية ...
أكثرت من عقد المجالس والنتائج ماهية؟ ...
يا أمتي أنا «بوسنةٌ» أشكو فقولي: من ليه؟ ...
أين الرجال إذا دُعوا هبوا لخوض الغاشية؟ ...
أين بن مَعْدْي؟ أين خالد؟ أين راح معاوية؟ ...
أين الأُلى؟ ملؤوا البلاد عدالة ورفاهية ...
أنا من ليه؟ يا أمة الإسلام قولي: من ليه؟ ! ...
فلتُقدِمي بجحافلٍ صيحاتها متعالية.. ...
فلتسرعي يا أمتي، أو فابعثي بالتعزية! . ...(59/56)
كلمة صغيرة
بعض الناس يهجمون على ما لا يحسنون، فيخرج عملهم غير ناضج وغير
مقنع، وذلك أنهم يرون بعض الناس يكتبون، فتدفعهم الغيرة على الكتابة، دون أن
يأخذوا لهذا الأمر عدته. وعدة الكتابة الفكرة والأسلوب، فالفكرة ينبغي أن تكون
واضحة محددة في نفس صاحبها أولاً، ثم بعد ذلك يأتي الحرص على نقلها إلى
الآخرين، وهذا لا يكون إلا بامتلاك الأسلوب الواضح المؤثر الذي هو خليط من
الموهبة والتعلم والقراءة الكثيرة.
إننا نطمح أن يكون كل ما ينشر في «البيان» قد استجمع هذه الحقائق البسيطة
والمهمة، وندرك أيضاً أن هناك مسافة بين واقعنا والطموح. والأمل في قراء البيان
وجمهورها كبير والحمد لله.
المحرر(59/1)
الافتتاحية
الحق والقوة
رئيس التحرير
«الهندوس يهدمون المسجد البابري» ...
«الصومال والاحتلال الأمريكي» ...
«البوسنة تحترق» ...
أخبار يرتاع لها قلب المسلم وتأخذ بمجامع قلبه وعقله، وتجعله يفكر طويلاً
بهذه الأحداث، ولماذا بلغ الهوان بالمسلمين إلى هذا الحد؟ وما هي أسباب هذا
الضعف المزري؟ هل هانوا على ربهم فهانوا على أعداء الله حتى أصبحوا يسامون
الذل والخسف في كل مكان، وحتى طمح بهم عباد البقر وعباد الصليب؟
إن قيام الطائفة الهندوسية المتعصبة بهدم المسجد البابري في شمال الهند،
واحتلال الصومال من قبل (المارينز) تحت اسم المساعدات الإنسانية و (عودة
الأمل) وما يفعل في البوسنة من تدمير وتهجير وقتل وتحريق..؛ كل هذا إنما يدل
على شيء واحد وهو أن المسلمين في هذه الأزمان الأخيرة ليس لهم وزن يحسب
حسابه، ولا يكيل بمكيالهم أحد، وأنهم لا يأمرون ولا يُستأمرون، ولا يشهدون ولا
يُستشهدون.
إن ما حدث في الهند لا يقتصر على هدم المسجد البابري وبناء معبد هندوسي
مكانه، بل إن الأمر يتعدى ذلك، إنها بداية لطمس الهوية الإسلامية وبداية
(للتطهير الديني) كما يفعل إخوانهم الصرب، فهؤلاء الهندوس قد أكل الحقد أكبادهم
من يوم أن فتح بلادهم المجاهد الكبير محمود الغزنوي واستمر حكم المسلمين لهم
عدة قرون، حتى جاء الاستعمار الإنكليزي وساعد الهندوس على إزاحة المسلمين
عن الحكم، هؤلاء الهنادكة استضعفوا المسلمين عندما رأوهم كالأيتام على مائدة
اللئام، فهم يذبحون في البوسنة ولا من مغيث يمنع عدوان الصرب عنهم
ومشروعهم لهدم المسجد قديم ولكنهم تجرأوا في هذه الأيام.
وإن مجيء أمريكا باسم الإغاثة إن هو إلا احتلال مبطن للصومال والهيمنة
على القرن الأفريقي وإقامة دولة علمانية في الصومال، بل إن أهدافها لتشمل
المنطقة العربية والإسلامية بأسرها. وقد استنكر بعض الساسة وبعض الصحف -
ولو ظاهرياً - هذا الأسلوب المفضوح من استخدام الإغاثة وسيلة للاحتلال.
لا نريد أن نضع اللوم كله على أعداء الإسلام ونترك أنفسنا، فبرغم تعصب
الهندوس إلا أن اللوم الأكبر يقع على عاتق المسلمين هناك، وهم ليسوا في قلة من
العدد، فلماذا لم يأخذوا بأسباب القوة المادية والمعنوية، وأولها: بث الوعي الديني
بين صفوف عامة المسلمين، والبعد بهم عن الخرافات والبدع، وإحياء الشخصية
الإسلامية المتميزة، والترقي بالعلم النافع الذي يزيدهم قوة إضافة إلى قوة الإسلام
الذاتية. وما أحرى مسلمي الهند بقول الشاعر العربي:
لا أتقي حسك الضغائن بالرُّقَى ... فعلَ الذليل ولو بقيتُ وحيداً
لكن أجردُ للضغائن مثلَها ... حتى تموتَ وللحُقودِ حقودا
إن ما جرى ويجري في الهند والبوسنة وغيرها من بلاد المسلمين إن هو إلا
نتيجة الابتعاد عن الله، وعن معرفة سننه في الاجتماع البشري، وسننه في التغيير
والارتقاء وفي الصراع والتمكين في الأرض، وأن الحق لا بد له من قوة تحميه
حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا تكون يد المسلم دائماً هي السفلى.
ومن أعظم سننه في الصراع أن يتخلص المسلمون من الاستبداد الذي جثم
على صدورهم أحقاباً فأضاع شخصيتهم، وأضاع علمهم وثروتهم وأخلاقهم.
ومن أسباب التغيير الدعوة إلى الوحدة والائتلاف الذي يعد من أعظم نعم الله
[واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا] [آل عمران 103] وإن من أشد الأضرار على المسلمين تفرقهم واختلافهم على
النقير والقطمير، وما ذلك إلا دليل على عدم إحاطتهم بمقاصد الإسلام، وعلى
ضعف عقولهم ومعرفة قاعدة المصالح والمفاسد.
وما يقع الآن في أفغانستان هو مصداق لأضرار التفرق بين فصائل المجاهدين
الذين استعان بعضهم بالمرتزقة والأحزاب الباطنية لقتال إخوانهم وصدهم عن
المشاركة في حكم أفغانستان حكماً إسلامياً، ودارت الدائرة فإذا بهؤلاء المرتزقة
يقاتلون الذين استعانوا بهم، فهم كما قال الشاعر:
ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده ... تصيده الضرغام فيما تصيدا
إن الأمم لا تستيقظ إلا بقيام نفر منها يدعونها إلى الوحدة والاعتصام بالعروة
الوثقى، وينفخون فيها روح العزيمة، ويصلحون منها ما أفسدته روح التخلف،
وما أفسده تجار الدين والمفتونون بالدنيا.
إن ما جرى ويجري في ديار المسلمين إنما يدل على أنه ما لم تقم للمسلمين
دولة تحميهم وتدافع عنهم، وتطالب بحقوقهم، فسيبقون مستضعفين في الأرض.
ولعلّ هذه التحديات الكبيرة التي تواجههم في هذه الأيام تكون باعثاً على استنهاض
الهمم واستنفار الطاقات وتفهم ما يدور حولهم. فإن سنة الله في الصراع بين الأمم
من سنن الله الكونية، وقد يُبتلى المسلمون بالهنادكة وأمثالهم حتى يخرجوا عن
ضعفهم وركودهم وشتاتهم. وإن أزمة المسلمين أكبر من أن تحل بحماسة مؤقتة،
إن الأمر جد لا لهو فيه، وإلا فهو الذبح.(59/4)
الاستطراد عند ابن تيمية
عبد القادر حامد
أكثر من ترجم لابن تيمية أو كتب عنه تعرض للحديث عن مؤلفاته
وخصائص أسلوبه ومنهج تفكيره، لذلك لن أعيد ما قالوه، وإنما أشير إلى قضية
الاستطراد والتشعب التي اتصفت بها كتاباته التي وصلتنا، وإلى نكتة لحظتها من
خلال تكرار النظر فيما ترك لنا من مؤلفات وكتابات.
أما الاستطراد، فنعم، هذه صفة واضحة في مؤلفاته، اشتكى منها محبوه
وشانئوه، وليس الاعتذار لشانئيه عن استطراده برادهم عن هذا الشنآن، وصارفهم
عن هذا التحامل، ومعيدهم من دائرة الفجور في الخصومة إلى دائرة الإنصاف.
وذلك لأن منشأ بغضهم وتحاملهم أمور أخرى غير صعوبة التذوق وعسر الهضم؛
فقد تقدم طعاماً أو دواء لمن لا يتذوقه ولم يعتده، ولكنه مؤمن بفائدته، ومقتنع
بقيمته. وليس هذا حال كارهي ابن تيمية والمتحاملين عليه، فأكثر مواقف هؤلاء
العدوانية مبنية على الوصف والتقليد، أو الهوى. وهذا الهوى الغالب هو الذي
يدفع رؤوسهم إلى تحذير أتباعهم من قراءة آثاره، والاقتراب من حِماه، والتواصي
بمقاطعة من يفعل ذلك ممن يخرج عن عبودية الفكر وأسر الشعوذة.
يستطرد ابن تيمية نعم، ويتعب قارئه نعم، ويأخذ به - بجد وهمة عجيبين -
في شعاب ووهاد بكر لم تطرق من قبل، ويقوده - صاحباً أميناً وحارساً يقظاً -
إلى حيث الدهشة التي يُعَبَّر عنها أحياناً كثيرة بإيقاف النَّفَس برهة، ووضع الكتاب
جانباً، وتسريح الفكر وراء خاطر جانبي: كيف اهتدى الرجل إلى هذه الفكرة،
وكيف سطر قلمه هذه الآبدة؟ ! هذا شأنه في أغلب ما خلف من كتابات، كما كان
شأنه في دروسه التي يصفها شاهدُ عيانٍ من تلاميذه فيقول:
(وأما ذكر دروسه؛ فقد كنت - في حال إقامتي بدمشق - لا أُفَوِّتُها. وكان ...
لا يهيئ شيئاً من العلم ليُلقِيَهُ ويورِدَه؛ بل يجلسُ - بعد أن يصلي ركعتين - فيحمدُ
الله ويثني عليه، ويصلي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على صفة
مستحسنة مستعذبة، لم أسمعها من غيره - ثم يشرع ... فيفتح الله عليه إيرادَ علومٍ، وغوامضَ، ولطائفَ، ودقائقَ، وفنونٍ، ونقولٍ، واستدلالات بآياتٍ، وأحاديثَ، وأقوالِ العلماء، ونصر بعضها وتبيين صحته، أو تزييف بعضها وإيضاح حجته، واستشهاد بأشعار العرب، وربما ذكر اسم ناظمها ... وهو - مع ذلك - يجري
كما يجري السيل، ويَفيض كما يَفِيضُ البحر، ويصير - منذ يتكلم؛ إلى أن يفرغ
- كالغائب عن الحاضرين؛ مغمضاً عينيه، وذلك كله مع عدم فكر فيه، أو رويةٍ،
من غير تَعَجْرُفٍ، ولا توقفٍ، ولا لَحْنٍ، بل فيضٌ إلهي، حتى يَبْهَرَ كلَّ سامع
وناظر، فلا يزال كذلك إلى أن يَصْمُتَ. وكنت أراه - حينئذ - كأنه قد صار
بحضرة من يَشْغَلُهُ عن غيره، ويقعُ عليه - إذ ذاك - من المهابةِ ما يُرْعِد القلوبَ،
ويحيّرُ الأبصارَ والعقول.) [1] .
وأمر آخر ينبغي أن لا يُغْفَلَ عنه - عند النظر إلى استطراد ابن تيمية - وهو
أنه - في كل ما كتب - كان صاحب منهج، ومن منهجه انطلاقه من مجتمعه
وظروفه، وتفاعله الكامل مع مشاكل المسلمين في عصره، فقد اصطبغت نفسه
وقلبه بالإسلام عقيدةً وسلوكاً من جهة، واكتوى بما شاهد وعرف من الأمراض التي
حلت بالعالم الإسلامي، ونفذ - ببصيرته الثاقبة - إلى الأسباب الحقيقية التي آلت
بالمسلمين إلى تلك الحال، فمثله كمثل طبيب حَذِق علم الطب، وهو- مع هذا -
صاحب قلب مفعم بالرحمة، وشخصية تفيض غيرة وحرصاً على مرضاه، إذا
عالج مريضاً يصف له أكثر الأدوية فائدة، وأقرب طرق الاستعمال مأخذاً. مع
التحذير الشديد من أسباب المرض، والشرح المفصل لكل الظروف والمداخل التي
يمكن أن تتسرب منها الجراثيم. فيجمع بين الطب والوقائي والطب العلاجي، ولا
يقتصر على كتابة الوصفة ببرود غير المتفاعل وغير المخلص. ولعله - هو نفسه
- خير من يبين لنا طريقته في البحث والكتابة حيث يبين لنا الأدلة وطريقة
عرضها، وإلى أي طريقة يميل فيقول:
(ومما ينبغي أن يعرف أن الأدلة نوعان:
نوع: يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه.
ونوع: يحض مع ذلك على الرغبة فيه، أو الرهبة منه.
فالأول: من جنس الخبر المجرد.
والثاني من جنس الحث، والطلب، والأمر، والإرادة، والأمر بالشيء،
والنهي عنه.
وذلك كمن علم أن في المكان الفلاني جمادات وحيوانات، أو نبات ليس له
فيها غرض؛ لا حب، ولا بغض، فليس هو بمنزلة من علم أن في المكان الفلاني
صديقه، وولده، ومحبوبه، وماله، وأهله، وأهل دينه. وفي المكان الفلاني
عدوه، ومبغضه، ومن يقطع عليه الطريق، ويقتله، ويأخذ ماله. فكذلك دلائل
النبوة، هي - كلها - تدل على صدق النبي، ثم يعلم ما يخبر به النبي من الأمر،
والنهي، والوعد، والوعيد، لأنه أخبر عن الله بذلك، وهو صادق فيما يخبر به.
فهذا طريق عام. وأما إثبات نبوة الأنبياء - بما فعله بهم وبأتباعم من النجاة،
والسعادة والنصرة، وحسن العاقبة، وما جعله لهم من لسان الصدق، وما فعله
بمكذبيه ومخالفيه من الهلاك، والعذاب وسوء العاقبة، وإتباعهم اللعنة في الدنيا،
مع عذاب الآخرة - فهذا يدل - مع صدق الأنبياء - على الرغبة في اتباعهم،
والرهبة من مخالفتهم. ففيه:
العلم بصدقهم، والموعظة للخلق.
والوعظ هو أمر ونهي، بترغيب وترهيب، قال تعالى: [ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً *
ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] [النساء 66-68] ، أي: لو أنهم فعلوا ما يوعظون به، وما يؤمرون به. وقال: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
[النور 17] ، أي ينهاكم الله أن تعودوا لمثله. وهذه الطريقة أكمل وأبلغ في حصول
المقصود، فإنها تفيد: العلم بصدقهم؛ والرغبة في اتباعهم، والرهبة من خلافهم.
وتفيد: ثبوت صحة الدين الذي دعوا إليه، وسادة أهله، وفساد الدين المخالف
لدينهم، وشقاوة أهله) [2]
وواضح من هذا الاقتباس الطويل أنه يفضل النوع الثاني، وهو طريقة
الأنبياء، وطريقة القرآن الكريم، مع الوضع في الاعتبار الظروف السياسية
والفكرية التي واجهها ابن تيمية، وتنوع الأخطار التي أصبحت تهدد الإسلام كنظام
حياة، والمسلمين كأناس لهم هويتهم وخصوصيتهم الثقافية، فالتتار من الشرق،
والصليبيون من الغرب، والفرق الضالة من القلب، والبدع الاعتقادية والعبادية
تنتشر، والسياسة الدنيوية تخلف آثارها السلبية - التي يصعب اقتلاعها وعلاجها -
وتتسلح بالترغيب والترهيب، فتُطمِع وتفزع، أو تمنح وتمنع [3] .. كل هذا
وأكثر منه كان ماثلاً في عقل ابن تيمية في كل ما كتب تقريباً، فقضاياه التي اهتم
لها، وصب فيها قوة نفسه، وحرارة قلمه كلها تدور حول: ما الذي انتقل
بالمسلمين من حالة المد إلى حالة الجذر، وما الذي يخرجهم من صعوبات اللحظة
الحاضرة إلى أفق أرحب، ومستقبل أفضل؟ يستطرد، لكنه لا ينظر إلى إمتاع
قارئه، وهدهدته والتسرية عنه - كما ينحو بعض الكتاب؛ يحرص على أن يظل
قارئه معه مستجمعاً نفسه، لا يَنِدُّ عنه وعيه لحظة، لأن الأمر جد، لا بد فيه من
التشمير وأخذ العدة. وهو ليس من صنف أولئك الذين يعتبرون العلم ترفاً فكرياً،
أو أمراً تكميلياً يزينون به صورهم عند الناس، ولا من الذين طلبوا العلم لمنصب أو
رتبة أو رجاء تزود من الدنيا وتكثر من الامتيازات وتجمل، وعندهم من الفراغ ما
يجعلهم ينتحون ركناً هادئاً يبعث على التأمل، بعيداً عن الناس وصخب الحياة،
حولهم المراجع والمصادر، يرتبون ويجمِّلون ويصقلون ويعيدون النظر فيما يكتبون
ويؤلفون - شأن أصحاب الحوليات - لا، لم تكن حياة ابن تيمية العاصفة تسمح له
بهذا، ولم يدعه خصومه لمثل هذا الهدوء والاستقرار الذي يتطلع إليه الكثير من
أهل العلم والفكر، يتصدى للمشكلة، فيبدأ بتحليلها، فتنفجر المعلومات بين يديه.
أتخيله كحامل فأساً يريد أن يحفر في الأرض باحثاً عن الماء، يضرب ضربة أو
ضربتين فتنفجر الأرض تحت قدميه بالماء الثر الغزير، فيبدأ بالتقنية [4] له حتى
يوجهه الوجهة التي يستفاد منه فيها، فيزداد الماء ويطغى حتى يغلب أطراف القناة
الأولى، فيتوزع جهد الشيخ بين تقوية ضفاف تلك القناة والبدء في قناة ثانية تخفف
الضغط عن الأولى، فيصيب الثانية ما أصاب الأولى، فيقويها ويفتح ثالثة ورابعة.. ثم يعود ليذكرك بأن عليه - بعد أن قوى الثانية والثالثة - أن لا ينسى أنه بدأ
بالأولى وغلبه انفجار الماء عن إكمالها إلى غايتها، فيمشي معها خطوة خطوة يغالبه
الماء عليها فيكاد يغلبه، فيفتح له مسرباً يخفف من ضغطه وعنفوانه، ثم يهيمن
أخيراً على التيار، ويصل بك إلى الغاية بعد أن كانت النية أن يكشف نبعاً ويُجري
قناة؛ فإذا بالنبع يقذف بالسيل الدُّفَّاع [5] ، لا تكفيه قناة واحدة ما لم تسيِّرْ عن
يمينها وشمالها أقنية تبث الحياة في الأرض التي كانت هامدة منذ قليل! وإذا بها
تستحيل غرْباً، ويَرْوَى الناس، ويضربون بِعَطَن [6] .
أما النكتة التي لحظتها فهي أن كثيراً مما قاله ابن تيمية كتبه تلاميذه، إما في
دروسه العامة، وإما في مناظراته الكثيرة، ولا بد من وجود فرق واضح بين
الأسلوب المرتجل، والآخر الذي يأتي نتيجة الانفراد للتأليف والتهيؤ له. ونستطيع
أن نميز هذين الأسلوبين إذا نحن درسنا مؤلفات ابن تيمية دراسة داخلية، وحللنا
السياق في كلٍ، وألقينا الضوء على الظرف المحيط بكل أثر من آثاره. وسنلحظ
أن درجة الانفعال ترتفع وتشتد في الموضوعات التي كان يرتجلها إجابة على فتوى
أو مسألة، أو اشتراكاً في مناظرة على مسمع من الناس، وقد يصل الانفعال إلى
درجة الحدة التي أخذت عليه واعتبرها أعداؤه مدخلاً يدخلون منها وبها إلى القدح
فيه والتنفير منه.
سيبدو لنا ابن تيمية في حالتين:
الحالة الأولى وكأنه يتكلم قائماً مندفعاً فيما هو فيه من توضيح ورد وحض
وتحذير، أو ماشياً عجلاً حوله تلاميذه، كل يريد لو ظفر منه بإجابة على ما عنده،
فيحاول أن يلبي رغبة الجميع، فيجيب بأجوبة قصيرة لكسب الوقت، ولكنها كافية
ووافية بالمقام.
والحالة الثانية قد فرغ لنفسه، واستغرقته قضية، فبدأ بالكتابة فيها، محدداً
ومحرراً ومستقصياً، ومستبعداً مواطن الاشتباه والاشتباك، ومحللاً ومعقباً على
أسباب ذلك، وهو في كل ذلك لا يخطو خطوة بدون دليل، بل أدلة، وينحدر بعد
ذلك انحدار السيل - بوصفه الذي سقناه عن أحد تلاميذه آنفاً - تصادفه أرض
مستوية فيفيض ويتشعب، ثم يعود فيستجمع قوته حين تعترضه مضايق وحزون،
فمنخفضات وانهدامات، هادراً يرمي بالجلاميد ويقذف بالزبد، حتى يصل إلى
قراره.
__________
(1) الأعلام العلية للبزار 27-28.
(2) الجواب الصحيح 4/274.
(3) كما قال سيء الذكر أنور السادات.
(4) التقنية: حفر القناة.
(5) الدفَّاع: السيل العظيم الذي يدفع بعضه بعضاً، قال المعري يصف سفينة نهرية:
... سارت فزارت بنا الأنبار سالمةً ... تُزجي وتُدفَع في موجٍ ودُفَّاع.
(6) تضمين مأخوذ من الحديث رقم 3682 في صحيح البخاري، فضائل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- راجح شرحه في فتح الباري 7/19.(59/8)
آية من كتاب الله [*]
[شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَالعَزِيزُ الحَكِيمُ]
[آل عمران 17 -18]
قال ابن تيمية في تفسير هذه الآية:
- 1 -
أقوال المفسرين في معنى: شهد
قد تنوعت عبارات المفسرين في لفظ (شهد) ، فقالت طائفة منهم مجاهد
والفراء وأبو عبيدة: أي حكم وقضى.
وقالت طائفة منهم ثعلب والزجاج: أي بينّ.
وقالت طائفة: أي أعلم.
وكذلك قالت طائفة: معنى شهادة الله: الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة
الملائكة والمؤمنين: الإقرار.
وعن ابن عباس أنه: شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان، ولم
يكن سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، فقال: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ] .
وكل هذه الأقوال - وما في معناها - صحيحة، وذلك أن الشهادة تتضمن:
كلام الشاهد، وقوله وخبره عما شهد به، وهذا قد يكون، مع أن الشاهد نفسه يتكلم
بذلك ويقوله ويذكره، وإن لم يكن معلماً به لغيره، ولا مخبراً به لسواه [1] . فهذه
أولى مراتب الشهادة.
ثم قد يخبره ويعلمه بذلك، فتكون الشهادة إعلاماً لغيره وإخباراً له، ومن
أخبر غيره بشيء فقد شهد به. سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن (....) .
فالشهادة تضمنت مرتبتين:
إحداهما: تكلم الشاهد وقوله، وذكره لما شهد في نفسه به.
والثانية: إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به، فمن قال من المفسرين: حكم
وقضى؛ فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر.
ولكن الكلام في دلالة لفظ الشهادة على ذلك، وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا
هو؛ فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله، فلا يعبد، وأنه وحده الإله الذي
يستحق العبادة، وهذا يتضمن الأمر بعبادته؛ والنهي عن عبادة سواه، فإن النفي
والإثبات في مثل هذا يتضمن الأمر والنهي، كما إذا استقتى شخص شخصاً فقال له
قائل: هذا ليس بمفتٍ؛ هذا هو المفتي، ففيه: نفي عن استفتاء الأول؛ وأمر
وإرشاد إلى استفتاء الثاني. وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم، أو طلب شيئاً من غير
ولي الأمر، فقيل له: ليس هذا حاكماً، ولا هذا سلطاناً، هذا هو الحاكم، وهذا هو
السلطان، فهذا النفي والإثبات يتضمن الأمر والنهي، وذلك أن الطالب إنما يطلب
ممن عنده مراده ومقصوده، فإذا ظنه شخصاً فقيل له: ليس مرادك عنده وإنما
مرادك عند هذا كان أمراً له بطلب مراده عند هذا دون ذاك.
والعابدون مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة، فإذا قيل لهم: كل
ما سوى الله ليس بإله؛ إنما الإله هو الله وحده؛ كان هذا نهياً لهم عن عبادة ما
سواه، وأمراً بعبادته.
وأيضاً؛ فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضي أنه يستحق العبادة،
فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمراً بما يستحقه.
وليس المراد هنا (بالإله) من عبده عابد بلا استحقاق؛ فإن هذه الآلهة كثيرة، ول كن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل، كما قال تعالى: [إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ] [النجم 23] ، وقال: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ] [لقمان 30] .
فالآلهة التي جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة، لكن هي لا تستحق العبادة
فليست بآلهة، كمن جعل غيره شاهداً أو حاكماً أو مفتياً أو أميراً وهو لا يحسن شيئاً
من ذلك.
ولا بد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده (تعس عبدُ الدينار وعبدُ الدرهم) [2] ...
فإن بعض الناس قد ألّه ذلك محبة وذلاً وتعظيماً.
فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو فقد حكم وقضى بأن لا يعبد إلا إياه.
وأيضاً فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية، فيقال للجمل الخبرية: قضية، ويقال: قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى، وكل شاهد
ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار، قد حكم بثبوت ما أثبته، ونفي ما نفاه حكماً خبرياً، ...
قد يتضمن حكماً طلبياً.
- 2 -
وشهادة الرب وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة، وبفعله تارة.
فالقول هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وأوحاه إلى عباده كما قال:
[يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ
أَنَا فَاتَّقُونِ] [النحل 2] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد علم بالتواتر والاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد ويشهد
أن لا إله إلا هو بقوله وكلامه؛ وهذا معلوم من جهة كل من بلغ عنه كلامه، ولهذا
قال الله تعالى: [أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وذِكْرُ
مَن قَبْلِي] [الأنبياء 24] .
وأما شهادته بفعله فهو: ما نصبه من الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم
دلالتها بالعقل، وإن لم يكن هناك خبر عن الله، وهذا يستعمل فيه لفظ الشهادة
والدلالة والإرشاد، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره، فهو بمنزلة المخبر به،
الشاهد به، كما قيل: سل الأرض من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج
ثمارها، وأحيا نباتها، وأغطش ليلها، وأوضح نهارها. فإن لم تجبك حواراً؛
أجابتك اعتباراً.
وهو سبحانه شهد بما جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هي بخلقه لها، فإذا
كانت المخلوقات دالة على أنه لا إله إلا هو سبحانه، وبين ذلك، فهو الشاهد المبين
بها أنه لا إله إلا هو وهذه الشهادة الفعلية ذكرها طائفة، قال ابن كيسان: شهد الله
- بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه - أنه لا إله إلا هو.
- 3 -
وقوله: [قائماً بالقسط] هو نصب على الحال، وفيه وجهان:
قيل: هو حال من (شهد) : أي شهد قائماً بالقسط.
وقيل: (حال) من (هو) أي: لا إله إلا هو قائماً بالقسط، كما يقال: لا إله
إلا هو وحده. وكلا المعنيين صحيح.
وقوله: [قَائِماً بِالْقِسْطِ] يجوز أن يعمل فيه كلا العاملين على مذهب
الكوفيين، في أن المعمول الواحد قد يعمل فيه عاملان، كما قالوا في قوله: [هَاؤُمُ
اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ] ، و [آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً] ، و [عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ] ونحو ذلك.
وسيبويه وأصحابه يجعلون لكل عامل معمولاً، ويقولون حذف أحدهما لدلالة
الآخر عليه. وقول الكوفيين أرجح.
وعلى المذهبين فقوله: [بِالْقِسْطِ] يُخرَّج على هذا، إما كونه يشهد قائماً
بالقسط، فإن القائم بالقسط هو القائم بالعدل، كما في قوله [كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ]
[النساء 135] ، فالقيام بالقسط يكون في القول، وهو القول بالعدل، ويكون في
الفعل، فإذا قيل: شهد (قائماً بالقسط) ، أي: متكلماً بالعدل، مخبراً به، آمراً به؛
كان هذا تحقيقاً لكون الشهادة شهادة عدل وقسط، وهي أعدل من كل شهادة، كما أن
الشرك أظلم من كل ظلم، وهذه الشهادة أعظم الشهادات.
ولفظ القيام بالقسط كما يتناول القول يتناول العمل، فيكون التقدير: يشهد
وهو قائل بالقسط عامل به لا بالظلم، فإن هذه الشهادة تضمنت قولاً وعملاً، فإنها
تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده فيعبد، وأن غيره لا يستحق العبادة، وأن
الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء، وأن المشركين به في النار، فإذا شهد
قائماً بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة، وجزاء المشركين بالنار؛ كان هذا
من تمام تحقيق موجب هذه الشهادة، وكان قوله: قائماً بالقسط تنبيها على جزاء
المخلصين والمشركين، كما في قوله: [أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ]
[الرعد 33] .
قال طائفة من المفسرين منهم البغوي نظم الآية: (شهد الله قائماً بالقسط)
ومعنى قوله: قائماً بالقسط أي بتدبير الخلق، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي
يدبره ويتعاهد أسبابه، وقائم بحق فلان، أي مُجازٍ له، فالله تعالى مدبر رزاق
مجاز بالأعمال.
وإذا اعتبر القسط في الإلهية كان المعنى: (لا إله إلا هو قائماً بالقسط) أي
هو وحده الإله، قائماً بالقسط، فيكون وحده مستحقاً للعبادة، مع كونه قائماً بالقسط، كما يقال: أشهد أن لا إله إلا الله واحداً أحداً صمداً، وهذا الوجه أرجح، فإنه
يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له، على أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم
بالقسط.
والوجه الأول لا يدل على هذا، ولأن كونه قائماً بالقسط كما شهد به أبلغ من
كونه حال الشاهد، وقيامه بالقسط يتضمن أن يقول الصدق، ويعمل بالعدل، كما
قال: [وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً] [الأنعام 115] ، وقال هود: [إنَّ رَبِّي
عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [هود 56] ، فأخبر أن الله على صراط مستقيم وهو العدل الذي لا عوج فيه.
والاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيماً،
ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط، ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نسأله
أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من: النبيين، والصديقين،
والشهداء الصالحين. صراطهم هو العدل والميزان، ليقوم الناس بالقسط،
والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، فالمعاصي كلها ظلم مناقض
للعدل، مخالف للقيام بالقسط والعدل.
ثم قال تعالى:، ذكر عن جعفر بن محمد أنه قال: [لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم. أي قوله: [لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] .. معنى الأولى هو ذِكْرُ أن الله شهد بها، فقال: [شهد أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ] والتالي للقرآن إنما يذكر أن الله شهد بها هو والملائكة وأولو العلم، وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه بها، فذكرها الله مجردة ليقولها التالي. فيكون التالي قد شهد بها أنه لا إله إلا هو. فالأولى خبر عن الله بالتوحيد لنفسه، وهذه [3] ... خبر عن الله بالتوحيد.
وختمها بقوله: [الَعَزِيزُ الحَكِيمُ] والعزة تتضمن القدرة والشدة والامتناع
والغلبة. تقول العرب: عزَّ يعَزُّ بفتح العين إذا صلُب. وعزَّ يعِزُّ بكسرها إذا امتنع. وعزَّ يعُزُّ بضمها إذا غلب. فهو سبحانه في نفسه قوي متين، وهو منيع لا ينال. وهو غالب لا يغلب.
والحكيم يتضمن: حكمه وعلمه وحكمته فيما يقوله ويفعله، فإذا أمر بأمر كان
حسناً، وإذا أخبر بخبر كان صادقاً، وإذا أراد خلق شيء كان صواباً، فهو حكيم
في إرادته وأفعاله وأقواله.
-4 -
الأصول التي تضمنتها الآية:
وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أصول: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه قائم
بالقسط، وأنه العزيز الحكيم. فتضمنت: وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي
للظلم، وعزته وحكمته المنافية للذل والسفه، وتنزيهه عن الشرك والظلم والسفه،
ففيها إثبات التوحيد، وإثبات العدل، وإثبات الحكمة، وإثبات القدرة.
[استطراد في الرد على: المعتزلة، والجهمية، والجبرية، ودعاة توحيد
الوجود] .
-5 -
وإذا كانت شهادة الله تتضمن بيانه للعباد، ودلالته لهم، وتعريفهم بما شهد
لنفسه؛ فلا بد أن يعرفهم أنه شهد، فإن هذه الشهادة أعظم الشهادات، وإلا فلو شهد
شهادة لم يتمكن من العلم بها لم ينتفع بذلك، ولم تقم عليهم حجة بتلك الشهادة - كما
أن المخلوق إذا كانت عنده شهادة لم يبينها بل كتمها لم ينتفع أحد بها، ولم تقم بها
حجة -.
شروط الشهادة:
والشهادة لا بد فيها من: علم الشاهد، وصدقه، وبيانه. لا يحصل مقصود
الشهادة إلا بهذه الأمور، ولهذا ذم من يكتم ويحرف، فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ
غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] [النساء 135] .
وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... (البِّيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذّبا ...
وكتما محقت بركة بيعهما) [4] .
وإذا كان لا بد من بيان شهادته للعباد، ليعلموا أنه قد شهد فهو قد بينها
بالطريقين: بالسمع والبصر.
أ- فالسميع يسمع آيات الله المتلوة المنزلة، والبصير يعاين آياته المخلوقة
الفعلية، وذلك أن شهادته تتضمن بيانه، ودلالته للعباد وتعريفهم ذلك حاصل بآياته، فإن آياته هي دلالاته وبراهينه التي بها يعرف العباد خبره وشهادته، كما عرفهم
بها أمره ونهيه، وهو عليم حكيم، فخبره يتضمن أمره ونهيه، وفعله بين حكمته.
فالأنبياء إذا أخبروا عنه بكلامه عرف بذلك شهادته وآياته القولية، ولا بد أن
يعرف صدق الأنبياء فيما أخبروا عنه، وذلك قد عُرِفَ بآياته التي أيد بها الأنبياء،
ودلّ بها على صدقهم، فإنه لم يبعث نبياً إلا بآية تبين صدقه، إذ تصديقه بما لا
يدل على صدقه غير جائز، كما قال: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ] [الحديد 25] ، أي بالآيات البينات.
وقال: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن
كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ والزُّبُرِ وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ
ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل 44] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما ... آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) [5] .
فالآيات والبراهين التي أرسل بها الرسل دلالات الله على صدقهم دلّ بها
العباد. وهي شهادة الله بصدقهم فيما بلغوا عنه، والذي بلغوه فيه شهادته لنفسه فيما
أخبر به.
وهو سبحانه اسمه المؤمن، وهو - في أحد التفسيرين - المصدِّق، الذي
يصدق أنبياءه فيما أخبروا عنه بالدلائل التي دل بها على صدقه.
ب- وأما الطريق العياني، فهو: أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية
ما يبين لهم أن الوحي - الذي بلغته الرسل عن الله - حق كما قال تعالى:
[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [فصلت 53] ، أي أو لم يكف بشهادته الخبرة بما علمه، وهو الوحي الذي أخبر به الرسول، فإن الله على كل شيء شهيد وعليم به، فإذا أخبر به وشهد كان ذلك كافياً؛ وإن لم ير المشهود به، وشهادته قد علمت بالآيات التي دلّ بها على صدق الرسول، فالعالم بهذه الطريق لا يحتاج أن ينظر الآيات المشاهدة التي تدلّ على أن القرآن حق، بل قد يعلم ذلك بما عُلِمَ به أن الرسول صادق فيما أخبر به عن شهادة الله تعالى وكلامه.
وكذلك ذكر الكتاب المنزل، فقال: [بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَذِينَ
أُوتُوا العِلْمَ ومَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلاَّ الظَّالِمُونَ] [العنكبوت 49] ، فبين أن القرآن آيات
بينات في صدور الذين أوتوا العلم، فإنه من أعظم الآيات البينة الدالة على صدق
من جاء به، وقد اجتمع فيه من الآيات ما لم يجتمع في غيره، فإنه هو الدعوة
والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، والحكم، وهو الدعوى، وهو البينة على
الدعوى، وهو الشاهد والمشهود به.
وأما كون سبحانه صادقاً؛ فهذا معلوم بالفطرة الضرورية لكل أحد، فإن
الكذب من أبغض الصفات عند بني آدم، فهو سبحانه منزه عن ذلك، وكل إنسان
محمود يتنزه عن ذلك، فإن كل أحد يذم الكذب، فهو وصف ذم على الإطلاق.
وأما عدم علم الإنسان ببعض الأشياء، فهذا من لوازم المخلوق، ولا يحيط
علماً بكل شيء إلا الله، فلم يكن عدم العلم عند الناس نقصاً كالكذب.
فلهذا بين الرب علمه بما يشهد به، وأنه أصدق حديثاً من كل أحد [وَلَهُ
المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [الروم 27] ، وهو يقول الحق، وهو يهدي
السبيل، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته.
ومن عنده علم الكتاب، وهم أهل الكتاب، فهم يشهدون بما جاءت به الأنبياء
قبل محمد، فيشهدون أنهم أتوا بمثل ما أتى به، كالأمر بعبادة الله وحده، والنهي
عن الشرك، والإخبار بيوم القيامة، والشرائع الكلية، ويشهدون أيضاً بما في كتبهم
من ذكر صفاته، ورسالته وكتابه، وهذان الطريقان بهما تثبت نبوة النبي - صلى
الله عليه وسلم -، وهي: الآيات والبراهين الدالة على صدقه، وشهادة نبي آخر -
قد علم صدقه - له بالنبوة.
فذكر هذين النوعين بقوله: [قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الكِتَابِ] [الرعد 43] ، فتلك يعلم بها صدقه بالنظر العقلي في آياته وبراهينه،
وهذه يعلم بها صدقه بالخبر السمعي المنقول عن الأنبياء قبله.
وكذلك قوله: [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ] [الأنعام
19] ، فقوله: قل الله؛ فيها وجهان:
قيل: هو جواب السائل، وقوله: شهيد؛ خبر مبتدأ، أي: هو شهيد.
وقيل: هو مبتدأ، وقوله: شهيد؛ خبره، فأغنى ذلك عن جواب الاستفهام.
و (الأول) على قراءة من يقف على قوله: قل الله.
و (الثاني) على قراءة من لا يقف، وكلاهما صحيح: لكن الثاني أحسن
وهو أتمّ.
وكل أحد يعلم أن الله أكبر شهادة، فلما قال: [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً] ؟
عُلِمَ أن الله أكبر شهادة من كل شيء، فقيل له: [قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ] ،
ولما قال: [اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ] كان في هذا ما يغني عن قوله: إن الله أكبر
شهادة. وذلك أن كون الله أكبر شهادة هو معلوم، ولا يثبت بمجرد قوله [أَكْبَرُ
شَهَادَةً] بخلاف كونه شهيداً بينه وبينهم؛ فإن هذا مما يعلم بالنص والاستدلال،
فينظر: هل شهد الله بصدقه وكذبهم في تكذيبه؟ أم شهد بكذبه وصدقهم في تكذيبه؟
وإذا نظر في ذلك؛ علم أن الله شهد بصدقه وكذبهم بالنوعين من الآيات: بكلامه
الذي أنزله؛ وبما بين أنه رسول صادق.
ولهذا أعقبه بقوله: [وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القرآن لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ] [الأنعام
19] ، فإن هذا القرآن فيه الإنذار، وهو آية شهد بها أنه صادق، وبالآيات التي
يظهرها في الآفاق وفي الأنفس، حتى يتبين لهم أن القرآن حق.
وفي هذه الآية: [قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ] ونظائرها ذكر سبحانه أنه
شهيد بيني وبينهم، ولم يقل: شاهد علينا، ولا شاهد علي، لأنه ضمن الشهادة
الحكم، فهو شهيد يحكم بشهادته بيني وبينكم، والحكم قدر زائد على مجرد الشهادة، فإن الشاهد قد يؤدي الشهادة، وأما الحاكم فإنه يحكم بالحق للمحق على المبطل
ويأخذ حقه منه، ويعامل المحق بما يستحقه، والمبطل بما يستحقه.
وهكذا شهادة الله بين الرسول ومتبعيه، وبين مكذبيه، فإنها تتضمن:
أ- حكم الله للرسول وأتباعه، يحكم بما يظهره من الآيات الدالة على صدق
الرسول على أنها الحق، وتلك الآيات أنواع متعددة.
ب- ويحكم له أيضاً بالنجاة والنصر، والتأييد، وسعادة الدنيا والآخرة،
ولمكذبيه بالهلاك والعذاب، وشقاء الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: [هُوَ الَذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] [الفتح 28] ، فيظهره
بالدلائل والآيات العلمية التي تبين أنه حق؛ ويظهره أيضاً بنصره وتأييده على
مخالفيه، ويكون منصوراً، كما قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا
مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ] [الحديد
25] ، فهذه شهادة حكم كما قدمنا ذلك في قوله: [شْهِدُ اللَّهَ] .
قال مجاهد والفراء وأبو عبيدة: شهد الله؛ أي حكم وقضى، لكن الحكم في
قوله: بيني وبينكم؛ أظهر، وقد يقول الإنسان لآخر. فلان شاهد بيني وبينك، أي
يتحمل الشهادة بما بيننا، فالله يشهد بما أنزله ويقوله، وهذا مثل الشهادة على أعمال
العباد، ولكن المكذبين ما كانوا ينكرون التكذيب، ولا كانوا يتهمون الرسول بأنه
ينكر دعوى الرسالة، فيكون الشهيد بتضمن الحكم أثبت وأشبه بالقرآن. والله أعلم.
وكذلك قوله: [لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ
وكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً] [النساء 66] ، فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله
أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه، فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله ليس خبراً
عمن دونه، وهذا كقوله: [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ] [هود 14] ، وليس معنى كونه أنزله مجرد أنه هو معلوم له - فإن جميع الأشياء
معلومة له، وليس في ذلك ما يدل على أنها حق - لكن المعنى: الذي أنزله فيه
علمه، كما يقال: فلان يتكلم بعلم، ويقول بعلم، فهو سبحانه أنزله بعلمه، كما قال: [قُلْ أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [الفرقان 6] ، ولم يقل: تكلم
به بعلمه، لأن ذلك لا يتضمن نزوله إلى الأرض. فإذا قال: [أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ]
تضمن أن القرآن المنزل إلى الأرض فيه علم الله، كما قال: [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ] [آل عمران 61] ، وذلك يتضمن أنه كلام الله نفسه، منه
نزل ولم ينزل من عند غيره، لأن غير الله لا يعلم ما في نفس الله من العلم -
ونفسه هي ذاته المقدسة - إلا أن يعلمه الله بذلك، كما قال المسيح -عليه السلام-:
[تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ] [المائدة 116] .
وقال: [فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ] [الجن
26] ، فغيبه الذي اختص به لا يُظْهِرُ على أحداً إلا من ارتضى من رسول،
والملائكة لا يعلمون غيب الرب الذي اختص به.
وكذلك قال في [سورة هود] : [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن
دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [الطور 13] ، لما تحداهم بالإتيان بمثله في قوله:
[فليأتوا بحديث مثله] [الطور 34] ، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ... فعجزوا عن ذا وذاك، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا، فإن الخلائق لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا بسورة مثله، وإذا كان الخلق كلهم عاجزين عن الإتيان بسورة مثله ومحمد منهم علم أنه منزل من الله، نزله بعلمه، لم ينزل بعلم مخلوق، فما فيه من الخبر فهو خبر عن علم الله.
وقوله: [قُلْ أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [الفرقان 16] ،
لأن فيه (من) الأسرار التي لا يعلمها إلا الله ما يدل على أن الله أنزله، فذكره ذلك
يستدل به تارة على أنه حق منزل من الله، لكن تضمن من الإخبار عن أسرار
السموات والأرض والدنيا والأولين والآخرين وسر الغيب مالا يعلمه إلا الله، فمن
هنا نستدل بعلمنا بصدق أخباره أنه من الله.
وإذا ثبت أنه أنزله بعلمه تعالى استدللنا بذلك على أن خبره حق، وإذا كان
خبراً بعلم الله فما فيه من الخبر يستدل به عن الأنبياء وأممهم، وتارة عن يوم
القيامة وما فيها، والخبر الذي يستدل به لا بد أن نعلم صحته من غير جهته وذلك
كإخباره بالمستقبلات فوقعت كما أخبر، وكإخباره بالأمم الماضية بما يوافق ما عند
أهل الكتاب من غير تعلم منهم، وإخباره بأمور هي سر عند أصحابها كما قال: [وإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً] إلى قوله: [نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ]
فقوله: [أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] استدلال بأخباره، ولهذا ذكره تكذيباً لمن قال: هو [إفْكٌ افْتَرَاهُ وأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ] [التحريم 3] ، وقوله: [أَنزَلَهُ] استدلال على أنه حق، وأن الخبر الذي فيه عن الله حق، ولهذا ذكر ذلك بعد ثبوت التحدي، وظهور عجر الخلق عن الإتيان بمثله.
ومن شهادته ما يجعله في القلوب من العلم، وما تنطق به الألسن ن من ذلك،
كما في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها
خيراً، فقال: (وجبت، وجبت) ومُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً، فقال: (وجبت، وجبت) قالوا: يا رسول الله؟ ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: ... (هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض) [6] فأضافهم إلى الله تعالى.
والشهادة تضاف تارة إلى من يشهد له. وإلى من يشهد عنده، فتقبل شهادته،
كما يقال: شهود القاضي، وشهود السلطان، ونحو ذلك من الذين تقبل شهادتهم،
وقد يدخل في ذلك من يشهد عليه بما تحَمَّلَه من الشهادة، ليؤديها عند غيره، كالذين
يشهد الناس عليهم بعقودهم أو أقاريرهم [7] .
فشهداء الله الذين يشهدون له بما جعله وفعله، ويؤدون الشهادة عنه، فإنهم إذا
رأوا من جعله الله براً تقياً يشهدون أن الله جعله كذلك، ويؤدون عنه الشهادة، فهم
شهداء الله في الأرض، وهو سبحانه الذي أشهدهم بأن جعلهم يعلمون ما يشهدون به، وينطقون به، وإعلامه لهم بذلك هو شهادة منه بذلك، فهذا أيضاً من شهادته.
وقد قال تعالى: [لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ] [يونس 64] ،
وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - البشرى بالرؤيا الصالحة، وفسرها بثناء
الناس وحمدهم، والبشرى خبر بما يسر، والخبر شهادة بالبشرى من شهادة الله
تعالى. والله سبحانه أعلم.
__________
(*) اخترنا هذا الموضوع نموذجاً لأسلوب ابن تيمية في التفسير، وقد تصرفنا قليلاً بحذف بعض الجمل المكررة، وبعض الفقرات، حتى يكون الموضوع أقرب إلى طبيعة المقال وقد حرصنا على نشره في حلقة واحدة مع طوله لأنه وحدة معنوية واحدة في معنى الشهادة ومن أراد الرجوع إليه كاملاً فهو في مجموع الفتاوى 14/168.
(1) مجمل معنى هذه الفقرة أن من معاني الشهادة أن يشهد الشاهد لنفسه دون طلب ذلك منه، ودون إعلان منه لشهادته أمام غيره.
(2) أورده البخاري في (كتاب الجهاد) 4/41.
(3) أي الثانية.
(4) البخاري 3/76 (كتاب البيوع، باب إذا بين الببعان ولم يكتما) ، ومسلم في 1/664 (كتاب البيوع، باب الصدق في البيع) .
(5) البخاري 6/224 (كتاب فضائل القرآن) ومسلم (كتاب الإيمان) .
(6) البخاري 2/121 (كتاب الجنائز) ، ومسلم في (كتاب الجنائز) 1/379.
(7) جمع إقرار.(59/15)
مصطلحات وتعريفات
(2)
عثمان جمعة ضميرية
2- السلف:
* قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) [1] :
(سلف، السين واللام والفاء، أصل يدل على تقدُّم وسَبْق. من ذلك السلف، الذين مضوا، والقوم السُّلاف: المتقدمون. والسلاف: السائل من عصير العنب ...
قبل أن يعصر، والسلفة: المعجّل من الطعام قبل الغداء..)
وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات) [2] :
(السلف: المتقدم، قال تعالى: [فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً ومَثَلاً لِّلآخِرِينَ] [الزخرف ...
56] ، أي: معتبراً متقدماً، وقال تعالى: [فَلَهُ مَا سَلَفَ] [البقرة 275] ، أي
يتجافى عما تقدم من ذنبه.. ولفلان سلَفٌ كريم: أي آباء متقدمون، جمعه أسلاف
وسلوف..) .
وقال الدامغاني في (الوجوه والنظائر لألفاظ القرآن) :
(السلف في القرآن على وجهين: فوجه منهما، السلف: العبرة ... والعظة، كقوله تعالى [فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً] [الزخرف 56] ، يعني عظة لمن يأتي بعدهم.
والوجه الثاني، السلف: ما تقدم من الزمن الأول، كقوله تعالى [وأَن
تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ] [النساء 23] ، أي: مضى من الزمن الأول) . ...
* وفي الاصطلاح الشرعي: تطلق كلمة السلف بإطلاقين أحدهما خاص
والآخر عام.
ففي الإطلاق الخاص عرَّفه كل طائفة من العلماء بحسب مذهبهم، فقال علماء
الحنفية: السلف من أبي حنيفة إلى محمد بن الحسن (189هـ) ، ويقابله الخلف: من محمد بن الحسن إلى شمس الأئمة الحلواني (448 هـ) .
ومن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل يقول: السلف: الإمام أحمد بن
حنبل، ومَنْ تقدَّمه من الصحابة والتابعين.
وعلماء الشافعية والمالكية وعلماء الكلام، يقولون: السلف ما كان قبل
الأربعمائة، والخلف ما كان بعد الأربعمائة [3] .
* وفي الإطلاق الشرعي العام، يراد بالمسلف: كل من يُقلَّد مذهبه في الدين
ويُقْتَفى أثره فيه، كالصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين [4] .
ثم أصبح مع التطور التاريخي لظهور الفرق الإسلامية منحصراً في المدرسة
السلفية التي حافظت على العقيدة والمنهج الإسلامي طبقاً لفهم الأوائل الذين تلقَّوه
جيلاً بعد جيل، وأبرز سماتهم التمسك بمنهج النقل؛ ولهذا عرفوا في البداية بأنهم (أهل الحديث) للتمييز بينهم وبين من انسلخ عن هذا المنهج من الشيعة ... والمعتزلة والخوارج وغيرهم. كما أنهم يعرفون أيضاً بأنهم (أهل الأثر) . وهذ هـ النسبة إلى الأثر، تعني: الحديث وطلبه وأتباعه [5] .
* ومن هذه الإطلاقات لكلمة السلف نخلص إلى أن هذا اللفظ يشمل:
الصحابة والتابعين، وتابعيهم من الأئمة الذين يقتدى بهم، كالأئمة الأربعة: أبي
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وحماد بن
سلمة، وحماد بن زيد، وابن أبي شيبة، والبخاري ومسلم، وأصحاب السنن
الأربعة.. وغيرهم من الأئمة الأجلاء الأعلام الذين شُهِد لهم بالإمامة في الدين
والورع والتقوى ظاهراً وباطناً، وتلقى الناس كلامهم بالقبول والعمل به خلفاً عن
سلف [6] دون اعتبار لزمن معين. وعندئذ يتحدد مذهب السلف بما كان عليه
الصحابة الكرام والتابعون وتابعوهم من الأئمة المذكورين [7] .
* ويخرج عن السلف كل من رُمِيَ ببدعة أو اشتهر بلقبٍ غير مرضيّ من
الفرق المخالفة للسنة ولمذهب الصحابة وما كانوا عليه، مثل: الروافض،
والخوارج، والقَدَرية، والمرجئة، والجبرية، والمعتزلة، والمشبهة أو المجسِّمة
وسائر الفرق الضالة، فهؤلاء ليسوا على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه
وسلم -، بل هم مخالفون لهم، ومخالفون لأهل السنة والجماعة من فقهاء الأمة وعلمائها الذين يقتدى بهم في الدين [8] .
وكذلك: ليس من مذهب السلف - رحمهم الله - حمل الناس على اعتقادٍ لم
يعتقده الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا امتحان الناس بما لم
يمتحنهم الله تعالى به، والعمل على الفتنة وتفريق صفوف الأمة.
وليس من مذهب السلف - وإن ادّعاه قوم - أن يُطلِق إنسانٌ لسانه بالطعن
والشتم على الأئمة المتقدمين، ولا سيما الأئمة الأربعة، ويحط من قدرهم بنسبتهم
إلى الجهل أو الخطأ أو تعمد التغيير في الأحكام، ويستدل على مُدَّعاه بآية يأخذها
على ظاهرها دون أن يفقه معناها، أو يستدل بحديث لا يدري قول الأئمة فيه،
ويدعو الناس والعوام إلى الأخذ من القرآن أو الحديث من غير اتباع لقول أحد من
الأئمة، ويقول: هذا كتاب الله وسنة رسول الله بين أيدينا، فأي حاجة بنا إلى تقليد
فلان أو فلان، وهم رجال ونحن رجال!
هذا القول ليس بحق، أو هو حق أريد به باطل، بل هو محض باطل أراد
به صاحبه تشكيك الناس، أو الوصول إلى الشهرة بينهم، إذ ليس بوسع كل أحد أن
يأخذ أي حكم يريده من القرآن أو السنة إلا بمراجعة ما ورد من الأئمة في ذلك
الحكم، فهم أقرب عهداً بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر علماً وإحاطة
بما جاء عنه، وفي الآيات والأحاديث ما هو منسوخ، وما هو مقيد، وما هو
محمول على غيره، كما هو مذكور في علم الأصول.
وليس من مذهب السلف أيضاً: تأويل القرآن الكريم بالرأي الفاسد، دون
النظر إلى ما ورد عن أئمة اللغة وما فسر به الصحابة وما ورد فيه من آيات
وأحاديث، وإلا فإنه يأخذ بعض الآيات والأحاديث، يضرب بعضها ببعض، أو
يأخذ بعض الأدلة ويترك سائرها، أو يترك المحكم من النصوص في القرآن والسنة، فيأخذ ما يتفق وعقله وينبذ ما لا يتفق معه أو لا يعرف وجهه ومعناه، أو يحمل
نصوص الشرع على وفق هواه ومذهبه الذي ينتحله باطلاً [9] .
3- أهل الحديث:
* الحديث في اللغة: ضد القديم، ويستعمل في كثير من الكلام وقليله، وهو
اسم من التحديث بمعنى الإخبار. ثم سمي كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خَلْقي أو خُلُقي.
وبعض العلماء يضيف إلى ذلك: ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي أو ما
صدر عنهما. وعندئذ تصبح كلمة الحديث مرادفة للخبر عند علماء الحديث. وهو
مرادف كذلك لكلمة (الأثر) عند بعض العلماء [10] .
وتقدم - فيما سبق - أن الفرق بين السنة والحديث: أن الحديث كل واقعة
نسبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان فَعَلَها مرة واحدة في حياته
الشريفة، أو رواها عنه شخص واحد.
* وأما السنة: فهي الطريقة المتواترة للعمل بالحديث بل القرآن أيضاً. فقد
ورد - مثلاً - في القرآن الكريم: الأمر بإقامة الصلاة، وبين فيه بعض تفاصيلها
أيضاً، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بموجب ذلك قال: (صلُّوا كما رأيتموني
أصلي) [11] . واستمر على تلك الكيفية وكذلك الصحابة والتابعون وسائر
المسلمين. وهكذا الأمر في الصيام والزكاة والحج وسائر الأوامر القرآنية.
فالصورة العلمية التي رسمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لألفاظ القرآن
هي السنة، وهي في الحقيقة تفسير عملي للقرآن [12] .
* فإذا تعرفنا على معنى الحديث، فإننا نستطيع أن نتعرف على: (أهل ...
الحديث) ؛ وهم الذين سلكوا طريق الصالحين واتبعوا آثار السلف من ... الماضين، وكان لهم عناية خاصة بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: جمعاً وحفظاً ورواية وفهماً وعملاً في الظاهر والباطن، فكانوا بذلك ألزم الناس لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقدِّمون بين يديه، ولا يرفعون صوتهم فوق صوته بتقديم رأي أو هوى أو استحداث بدعة.
ومنهم: كلُّ عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص
بفضيلة، وقارئ متقن وخطيب مُحْسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل
المستقيم، لأنهم أخذوا دينهم وهديهم من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم ذلك
اتفاقاً في الدين وائتلافاً، رغم بعد ديارهم واختلاف أزمانهم [13] .
* وكان المتقدمون يطلقون مصطلح (أهل الحديث) على المدرسة التي تقابل ...
أهل الكلام، أي مقابل علماء الكلام الذين عابهم السلف لما أدخلوا في الاعتقاد من
مصطلحات وأفكار غريبة عن المنهج الإسلامي، ولذلك اشتد النكير عليهم من
علماء السنة. وهم أنفسهم - أي علماء الكلام - كان يطلق عليهم (أهل ... الرأي) [14] . لأنهم يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة، ويعطون عقولهم سلطة ... الحكم على النصوص الشرعية. وهؤلاء هم من أعداء السنن حقيقة كما جاء وصفهم عن عمر -رضي الله عنه-.
* ثم أصبحت كلمة (أهل الحديث) تطلق بمعنى أخص على فئة معينة ممن ...
يعنون بدراسة الحديث النبوي رواية ودراية، أو رواية فحسب، أو ممن ينتسبون
إلى هذا الأمر ويجتمعون عليه نظراً، ولو لم يكن لهم نصيب يذكر من العلم
بالحديث النبوي الشريف.
وينبغي التنبيه إلى تغير المصطلحات بمرور الأزمنة، واختلاف مدلولاتها
بين عصر وآخر عند كثير من الناس.
وإذا كان الأئمة - يرحمهم الله - يطلقون على أهل الحديث - في الماضي
- أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فإن اصطلاح أهل الحديث قد ضاقت
دائرته عند الكثيرين حتى صار عَلَماً على فئات تكون من أهل الحديث، ولكنها
ليست أهل الحديث.
ولذلك لا يحسن إطلاق (الفرقة الناجية) على فئات محددة تتسمى بأهل
الحديث، وإن كانت هي - فعلاً - من أهل الحديث، بل ينبغي إعادة هذا الاصطلاح إلى مفهومه الموسع الصحيح [15] .
* وإذا لاحظنا فيما سبق أن مفهوم (أهل السنة والجماعة) يلتقي مع مفهوم ...
(السلف) ، فإن مفهوم (أهل الحديث) أو (أهل الأثر) بالمعنى الواسع لا يخرج عنهما كذلك، ولذلك لم يكن مذهب السلف أو أهل السنة مذهباً جديداً مبتدعاً، بل هو المنهج الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، وكذلك سائر الأئمة، وإنما تميزوا - فيما بعد - بهذا اللقب أو التسمية في مقابل أهل البدع والأهواء والفرق المخالفة، ومن هنا جاء الحديث عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
فإذا لم يكن ما يدعو للمقابلة والتميز لعدم وجود ما يناهضها، يعود الحديث
عندئذ عن العقيدة الإسلامية، هكذا بعامة، والله الموفق.
__________
(1) 3/95.
(2) ص 239.
(3) نموذج من الأعمال الخيرية، لمحمد منير الدمشقي ص (10-11) ، وانظر: الكليات لأبي البقاء 3/34.
(4) انظر: كشاف اصطلاحات الفنون: 4/15، الكليات: 3/34.
(5) قواعد المنهج السلفي، للدكتور مصطفى حلمي ص (23) .
(6) انظر: لوامع الأنوار البهِيَّة: 1/20، ونموذج من الأعمال الخيرية، ص (11 - 12) ، الحجة في بيان المحجة 2/473-476.
(7) المراجع السابقة، وانظر: السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص (10-11) ، أهل السنة والجماعة، معالم الإنطلاقة الكبرى ص (51-52) .
(8) المراجع السابقة، والفرق بين الفِرَق للبغدادي ص (318-322) .
(9) انظر في هذه المعاني السابقة: نموذج من الأعمال الخيرية ص (12- 17) ، الوصية الكبرى لابن تيمية ص (63-64) ، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: 3/162-163، الاعتصام للشاطبي: 1/220، ما بعدها.
(10) انظر: الباعث الحثيث لابن كثير ص (17) .
(11) اخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث، كتاب الأذان: 2/111 وفي الأدب: 10/438.
(12) تحقيق معنى السنة للسيد سليمان الندوي ص 20-22.
(13) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم ص 2-4، الحجة في بيان المحجة للأصفهاني: 2/220-236، شرف أصحاب الخطيب للبغدادي ص 8-11، فتاوى شيخ الإسلام: 4/91-95، قواعد الحديث للقاسمي ص 60.
(14) وإن كانت تطلق أيضاً على مدرسة الكوفة الفقهية، التي يمثلها الحنفية فيما بعد ولكن ليس المراد بهم عند المقابلة بأهل الحديث فقهاء الحنفية، وأنما يراد بهم المعتزلة وأهل الكلام ويؤيد هذا أن مدرسة الكوفة والحجاز كلتاهما (الحنفية وأهل الحديث) تعتمدان على القرآن والحديث، وكذلك يقولون بالرأي بدرجة متقاربة وصور متشابهة، ويشهد له أيضاً: أن ابن قتيبة -رحمه الله-، وهو صاحب الهجوم الشديد على أهل الرأي، عد منهم - في كتابه: المعارف - الأوزاعي، وسفيان الثوري، والإمام مالكاً، وهؤلاء ليسوا من مدرسة الحنفية أو الرأي على ما هو مشهور انظر: الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث للدكتور عبد المجيد محمود ص 21 وما بعدها، المعارف لابن قتيبة ص 494-499.
(15) صفة الغرباء، للشيخ سليمان العودة ص 118.(59/29)
كيف ننمي الملكة الفقهية (الاستنباط) ؟
ستر الجعيد
تمهيد:
الفقه في الدين أمر مهم جداً، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وبه دعا
النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس. وحصوله ليس بالأمر الهين، بل
يحتاج إلى جهد وصبر ومعاناة، مع توفيق الله للعبد أولاً وأخيراً.
لكن الفقه يبدأ قليلاً فينمو وتكبر شجرته حتى تؤتى ثمارها في كل حين بإذن
الله ولما حان الفقه قوياً وفتياً كانت الأمة في قمة مجدها، لكنها نزلت إلى الحضيض
بقدر ما فقدت من الفقه في الدين ومعالجة ما يعترضها من مشكلات على ضوء
كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وحاجتنا ماسة إلى تنمية الملكة الفقهية والاستنباط لأنها تنقدح وتنمو،
فالإنسان لا يولد فقيهاً فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلُّم. وقد بذل العلماء في هذا الشأن
جهوداً موفقة ما بين علماء للفقه فرعوا الفروع من الأدلة، وافترضوا المسائل،
وأودعوها الكتب، وحاولوا أن يستنبطوا لكل مسألة يتصورون وقوعها، أو هي
واقعة حكماً، حتى حققوا آثاراً تبعث على الفرح والارتياح؟
وأقبل فريق منهم على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلوه
عمدتهم يتحرون ثبوته بل ينتقون أعلاه، ثم يستنبطون منه ما يوفقهم الله لفهمه،
وكلا الفريقين على خير، لكن الفريق الثاني كان إلى الاحتياط أقرب وإلى قوة
المصدر كذلك وإعمال الذهن في كلام المعصوم. فهم يحققون بطريقتهم تلك آثاراً
تنعكس على الفقيه والمستنبط وإن كان كلاهما مجتهد مصيب له أجران، أو مخطئ
له أجر واحد.
وسنسلك في هذه المقالات مسلك الفريق الذي عول على الأحاديث الصحيحة
فأعمل ذهنه للاستنباط منها لحاجتنا الماسة إلى الفقه في الدين بهذه الطريقة، وكم
نرى من الآثار السيئة نتيجة لفقدان الفقه الصحيح بنوعيه في أمورنا كلها.
هدف هذه المقالات:
وليس من هدف هذه المقالات بيان المسألة من حيث الرجحان أو ضده، فتلك
لها مشرب آخر وهو استعراض الأدلة والمقارنة بينها، وهو مقصد لا شك مهم
ويكون سبباً لنمو الاستنباط لكنه ربما جعل الإنسان يتحير في خضم الأدلة
والمعارضات بين الأقوال، فيضعف تمييزه بل ربما ألمّ به شيء من الملل.
أما الطريقة التي نتبعها في هذه المقالات فهي أقرب إلى التشويق منها إلى
الملل، حيث تعتمد على إيراد بعض الأدلة الصحيحة من أعلى مصادر الصحيح،
ثم التعقيب عليها بما فيها من فوائد فقهية وتوجيهات تربوية بصورة مختصرة.
وهذه الطريقة ليست جديدة فقد استخدمها كثير من العلماء، ولا سيما أئمة الحديث،
وليست الفوائد مرتبة حسب سياق الدليل بل فيها نوع من التقدم والتأخير.
أ- نص الحديث:
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن أناساً من عبد القيس
قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا:
- يا نبي الله: إنا حي من ربيعة، وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نقدر عليك
إلا في أشهر الحرم، فمرنا بأمرٍ نأمر به من وراءنا، وندخل به الجنة إذا نحن
أخذنا به.
- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمركم بأربع، وأنهاكم عن
أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا
رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم. وأنهاكم عن أربع: عن الدُّبَّاء والحَنْتَم
والمُزَفّت والنَّقير. قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنقير؟ قال: بلى، جذع تنقرونه
فتقذفون فيه من القُطَيعاء - قال سعيد: أو قال: من التمر، ثم تصبون فيه من
الماء، حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى إن أحدكم أو إن أحدهم ليضرب ابن عمه
بالسيف، قال وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك قال: وكنت أخبؤها حياءً من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقلت: فيم نشرب يا رسول الله، قال: في أسقية الأَدَم التي يلاث على
أفواهها، قالوا: يا رسول الله: إن أرضنا كثيرة الجرذان ولا تبقى فيها أسقية الأَدَم. فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها
الجرذان، وإن أكلتها الجرذان. قال: وقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -
لأشجِّ عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة [1] .
ب - فيه فوائد:
- بدء الوصايا بالتوحيد.
- الإخبار بالقدرات والإمكانات المعينة على الخير والموانع منه.
- الحرص على البحث عن طريق الجنة مع كثرة المعوقات فكيف عند زوالها
وخفتها؟
- أسلوب الحصر ليفهم المتلقي.
- إيراد الحجة على الأمور الواضحة.
- ضرورة فهم الواقع لتنزيل الفتوى عليه ولمقاصد أخرى.
- التربية بقدر حاجة المتلقي.
- التربية بالمدح وصيغته وصيغة المرغب فيها.
- من الأوصاف ما التصق بالموصوف فلا يعني ذكرها المشروعية.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، مسلم بشرح النووي 1/189-192، ط دار إحياء التراث العربي.(59/37)
مراجعات في عالم الكتب
السيرة النبوية
كما جاءت في الأحاديث الصحيحة
- قراءة جديدة [*]-
تأليف: محمد الصوياني
عرض:د.مالك الأحمد
حقاً، إنها قراءة جديدة للسيرة النبوية، إنها ليست أحداثاً فحسب إنها قصة
ممتعة تجذبك من أولها إلى آخرها إنها [قصة طفل طهور كالبَرَد، ولد يتيماً،
واستمر اليتم يلاحقه ويلاحق طفولته في طرقات مكة ودروبها.. يذيقه المرارة..
يفجعه بأهله وأحبابه..] .
يصور لك الكتاب أحداث السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث النبوية
الصحيحة - بطريقة أدبية مشوقة، ويربط بين أحداثها بعباراته اللطيفة الحنونة.
فتعيش معها كأنك في ذلك العهد وكأنك من أفراد ذلك المجتمع. إنها [سيرة لم تكن
أبداً ماضياً أبداً بل شعلة توقد شموس الحياة ودماء تتدفق في عروق المستقبل
والأجيال] .
أما عن طريقته الجديدة فيقول: [أحاول في هذه القصة - السيرة - أن أبسط
ما أمكن.. أن أجعل هذه الأحداث سهلة في متناول الجميع خاصة من لا يبحثون
عن التعقيد أو التفريع، لذلك صغتها وربطت بين أحاديثها الصحيحة لتكون قصة لا
روايات أحداث متفرقة فقط] . وقد وفق الكاتب في طريقته المشوقة وسنمر سريعاً
على بعض فصول الكتاب.
بدأ الكاتب في أحداث السيرة من عبد المطلب جد الرسول - صلى الله عليه
وسلم - واستعرض سريعاً في تلك الفترة المبكرة قصة إبراهيم الخليل وولده
إسماعيل عند الحديث عن عبد المطلب وكشفه لزمزم، ثم يحدثنا عن ولد عبد
المطلب عبد الله [تربى عبد الله ذلك الطفل الوديع في قلب عبد المطلب وتربع فيه، وبلغ مبلغ الرجال دون أن يعرفه قومه بطيش أو سفه، كأني به هادئ كثير
الصمت والتأمل ملىء بالانتظار، ليس في حياته ما يثير، كأنه كالعالم من حوله
ينتظر وينتظر، ويبحث عن زوجة له في بيوتات مكة ويسأل، فكانت آمنة بنت
وهب بن عبد مناف هي الحبيبة وهي الإجابة] .
ثم يحدثنا الكاتب عن وفاة عبد الله بألم وحرقة وحزن آمنة المفجوعة بزوجها
الذي قبض بعيداً عنها وكانت تتحرق لعودته محملاً بالحب والهدايا وحكايات السفر.
وهكذا تمضي الأحداث ويولد سيد البشر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه
وسلم - ويرد الكاتب على المغفلين والأغبياء الذين أنشأوا حول مولده الأساطير
والخرافات، ويشير بعجالة إلى هذه الأكاذيب ويحقق ما جاء من روايات صحيحة
في ذلك.
ثم يمضي الكاتب في رحلة السيرة من تسميته إلى رضاعته ونشأته، ونقف
عند وفاة أمه حيث لا يسعك إلا أن تذرف الدمع عند قراءة ذلك الحدث كما يصوره
الكاتب (ورجعت آمنة بصغيرها إلى مكة، وفي مكان يقال له الأبواء بين مكة
والمدينة توقفت المطايا، ونزلت آمنة عن ظهر الراحلة، ونزل صغيرها وقد
تعلقت بها عيناه وهي تتوجع وتئن أمامه، فلا يستطيع منحها ما يخفف ألمها سوى
نظرات حائرة خائفة، وتزيد آلامها ويزيد أنينها وتموت آمنة وتدفن أمام عينيه،
بعيداً عن مكة، بعيداً عن عبد المطلب، بعيداً عن أعمامه، تؤخذ آمنة منه وتوارى
تحت أكوام التراب، ويعود باكياً وحيداً حزيناً وقد تيتم مرة ثانية) . ويصور لك ...
الكاتب وقع الموت على قلب ذلك الصبي وذكراها في نفسه، ثم ينقلك سنوات بعد
ذلك: [لقد تعلق بها رغم أنه لم يحظ بقربها إلا سنوات قليلة، مر ذات يوم بقبرها
فرؤي له بكاء لم يبكه من قبل، يقول بريدة -رضي الله عنه-: (انتهى النبي -
صلى الله عليه وسلم - إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله فجعل يحرك رأسه
كالمخاطب ثم بكى، فاستقبله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا رسول
الله ما يبكيك؟ فقال: هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها،
فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى، وأدركتني رقتها فبكيت، فما رؤي
ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة) ] .
ثم يعرج بالتفصيل على أحداث نشأة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
زواجه ومبعثه بأسلوب شجي يخاطب العقل والقلب ويثير المشاعر والأحاسيس
مورداً الروايات الصحيحة ضارباً صفحاً عبر الروايات الضعيفة فضلاً عن
الموضوعة. ثم يبين موقف قريش من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
[ماذا تتوقعون من جيوش من الأصنام: أصنام العادات والتقاليد وشرف الآباء
والأجداد، والثارات، وأصنام الحجارة المرصوفة على الأرفف وفي مداخل البيوت، وحتى في خرج المسافر. وقبل ذلك فوق الكعبة ويحلف بها وتستشار ويصلى لها
ويذاد عنها بالمال والبنين وزينة الحياة كلها] .
ويفصل في تعذيب قريش للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وتحت عنوان أول الشهداء يقول الكاتب [إنها امرأة: أول المسلمين كان امرأة،
أول اعتداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بيد امرأة وكذلك أول
شهيد في الإسلام امرأة طاعنة في السن، اقتادها رجل شرس يقال له أبو جهل فاق
أبا لهب قسوة وغلظة، تبقى المسكينة ترسف في قيودها نحو بطحاء مكة، ثم
يطعنها برمحه أمام زوجها وابنها] و [وسمية الراحلة، لها رفاق صامدون
شامخون كأطواد مكة أرادتهم قريش عبيداً، فانتزعوا حريتهم بأيديهم، عذبوهم
لكنهم رفضوا الخنوع لسياط الشرك فعاشوا يتنفسون هواء الحرية الرحب حتى
ماتوا..] .
ثم يتابع الكاتب أخبار من أسلموا، وهجرتي الحبشة وما لاقاه المسلمون هناك، ومعاناة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قريش. والكاتب دوماً يفصل بين كلامه والروايات المسندة كي لا يختلط كلامه بالروايات المخرجة في الحاشية والتي يحكم عليها الكاتب بما يراه من حسن أو صحة.
وتتوالى الأحداث سراعاً من المجاعة في مكة، إلى حصار الشعب، فعام
الحزن، فرحلة الطائف فالإسراء والمعراج، فبيعتي العقبة، ثم الهجرة إلى المدينة، مفصلاً أحداثها ساعة بساعة، واصفاً حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وصاحبه وما لاقاه في طريق الهجرة حتى وصولهما إلى المدينة.
رغم الجهد الكبير والطيب الذي بذله الكاتب في إخراج السيرة بهذه الصورة
الرائعة، فإن الكتاب لا يخلو من هفوات نشير إليها بعجالة.
بالنسبة لتخريج الروايات، فالكاتب - رغم أنه بذل الوسع في الحكم عليها -
فقد كان متساهلاً في كثير من المواضع في تحسين الروايات رغم ضعفها عند أهل
الاختصاص (انظر على سبيل المثال تفاصيل الطائف ولقاء عداس، وإسلام عمر،
وقصة أم معبد، ويمكن الرجوع في تفاصيل الروايات والحكم عليها إلى كتاب
(السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري) .
من جانب آخر حاول الكاتب أن يقحم نفسه - في مواضع قليلة - في نقد
أوضاع بعض الدعاة في زماننا، رغم أن المحل غير ملائم لمثل هذا الحديث،
فمثلاً عقب الحديث عن طلب قريش من النبي - صلى الله عليه وسلم - التنازل،
يقول: [فمن المتحمسين من يحمل بضعة أحاديث يغلفها بسوء ظن ويرصد من
حوله ليرميه بالكفر والمروق أو الفسق والانحلال] [ويصنف الناس إلى ملتزمين
وغير ملتزمين وينسى أثناء تصنيفه ما هو أهم، ينسى أخوة الإسلام..] .
والكاتب في ظني لم يوفق في إيحاءاته، وليس المجال ملائماً لبحث مثل هذه
الظواهر، وكان الأجدر به أن يستمر في حديثه في السيرة على منهجه الذي ارتآه،
وليس مقصودي أن سرد الدروس المستفاة من السيرة غير مهم - بل هو الأهم -
لكن هذا الأمر ليس مستهدفاً لدى الكاتب، ولم يتبين هذا النهج، بل منهجه كما
أسلفنا عرض السيرة النبوية في قالب قصصي.
__________
(*) الكتاب صدر عام (1412) عن مكتبة الصفحات الذهبية، الرياض في 216 صفحة.(59/41)
خواطر في الدعوة
الحزبية
محمد العبدة
ليس هناك أضر على الدعوة الإسلامية المعاصرة من الحزبية المنغلقة الضيقة، إنها داء وبيل يفتك بالإخوة الإسلامية، فيقطع أواصرها ويجعل صفوهاً كدراً.
هل يجوز للمسلم أن يكون وجهه الطلق؛ وابتسامته العريضة، وسلامه الحار
لمن هو من حزبه أو جماعته؛ ولغيره العبوس والسلام البارد؟ ! وهل يجوز
للمسلم أن يغض الطرف عن أخطاء أصحابه؛ وإذا وقع غيره في الأخطاء نفسها
شهّر به وتكلم عليه؟ ! وإذا ذكرت له انحرافاً في الفكر أو التصور وقع به واحد
منهم أتى بالمبررات وقال: هذه أخطاء؛ ولكنها لا تخدش في أصل المنهج!
وبسبب هذه الحزبية تراه لا يطَّلع ولا يقرأ ولا يستقي إلا من طرف واحد، من
كتب أصحابه وممن يوصى أن لا يقرأ إلا لهم، فيتخرج ضيّق الأفق، مشوه
الشخصية الثقافية، لا ينظر إلا من زاوية واحدة ولا يعرف إلا الفكر الأحادي.
كيف تغلغلت هذه الحزبية إلى صفوف الدعوة؟ ومن الذي يمدها حتى تستمر؟ لا شك أنها التربية السيئة التي تمارس على الفرد فيقال له: نحن الأفضل،
وغيرنا فيه نقص كذا ونقص كذا، وكل هذا حباً في التكثير والتجميع، فلا بد أن
يشوه الطرف الآخر حتى لا يذهب الفرد إليهم، وكأننا أحزاب تتنافس على
الانتخابات فهي تشتري الأصوات بالدعاية والمال.
ومن هذه التربية أن يحال بين الفرد في أول عهده بالدعوة وتلقي العلم، وبين
الجلوس إلى العلماء أو من عندهم علم وخبرة، فيربونه بأدبهم وسمتهم وتجربتهم،
وإذا حيل بينه وبين هذا فهو يتلقى ممن يباشر عملية التربية، فإذا كان ديناً وعنده
علم وليس فيه حب الزعامة كانت التربية أقرب للصواب، وإذا كان ممن يحب
الزعامة أو فيه شيء من زغل العلم فعندئذ يتخرج من تحت عباءته شباب متحزبون
مشوهون. ولا ينجو من هذا الداء إلا من تنبه له من البداية، وعرف أن أنواعاً من
التربية ستؤدي حتماً إلى الحزبية، فخاف واحتاط لنفسه، فهو يحاسب نفسه ويلتفت
وراءه ويجدد ويتجدد بين كل فترة وأخرى، حتى لا يقع في هذا الداء الذي تطاير
شرره وعم بلاؤه.(59/46)
البيان الأدبي
إسلامية الأدب
د. عبد الرحمن العشماوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد ... فإن سؤالاً واحداً يلاحقني في
كل أمسية شعرية، أو ندوة أو لقاء بعشاق الأدب من الشباب، وهو.. كيف تتحقق
الإسلامية في الأدب؟ ؟
ويتبع هذا السؤال - غالباً - عدد من الشبهات التي ما تزال تثار حول
مصطلح الأدب الإسلامي، ويمكن أن أحصر تلك الشبهات فيما يلي:
1- عندما نقول (الأدب الإسلامي) فإننا نُلغي بذلك الأدب العربي. ...
2- الأدب الإسلامي يتعارض مع الجانب الفني للأدب، لأنه يحصر الأدب
في زوايا الوعظ والإرشاد فقط، وهذا إخلال بفنية الأدب لا يمكن أن يُقبل.
3- الأدب الإسلامي أدب واضح مباشر لا تتحقق به المتعة الفنية.
4- عندما نقول في ظلِّ التصوُّر الإسلامي للأدب: (هذا أديب غير إسلامي)
فإنَّ هذا يجرُّنا إلى تكفير الأديب المسلم الذي لا يدخل في دائرة هذا التصوُّر ونحن
منهيون - شرعاً - أن نكفِّر مسلماً بهذه الطريقة.
5- إن مصطلح الأدب الإسلامي بدعةٌ معاصرة، لم يقل بها أحدٌ من سلف
هذه الأمة، فهل نحن أحرص على الإسلام من أولئك؟ !
6- إن الأدب الإسلامي يدعو إلى التميُّز. ونحن نعيش عصر النظام العالمي
الجديد الذي ينادي بثقافة عالمية موحدة.
هذه هي - على وجه التقريب الشُّبه التي تُثار هذه الأيام حول مصطلح الأدب
الإسلامي، وربما توجه إليه شُبَهٌ أخرى، ولكنها لا تكاد تخرج عما ذكرتُه هنا.
وأقول: من المؤكد لدينا أنَّه ما من فكرة تطرح، أو مصطلح علمي أو أدبي يوضع إلا وتكون في جداره ثغرات، وتحدث أمامه وقفات نقدية وتثار حوله شبهاتٌ، بل لعل تلك النقدات الموجهة، وهذه الشبهات المثارة هي التي تتكفل بسدِّ ثغرات
المصطلح وتصحيح ما قد يحدث في دلالاته من أخطاء.
ولا بد من اتساع صدور أصحاب المصطلح لما يوجَّه إلى مصطلحهم من نقد
مهما كانت الدوافع وراء ذلك النقد.
ولعلَّ من المفيد هنا أن أذكِّر الإخوة القراء بأهمية فهم المصطلح فهماً واعياً
من قبل الناقد له حتى يبني أحكامه على قاعدة صحيحة. ولو راعى كل ناقدٍ هذا
الجانب لسلم الأدب من شرِّ كثير من (المناقشات الجدلية) التي لا فائدة منها. ...
وأعود إلى موضوع الأدب الإسلامي فأقول: إنَّ هذا المصطلح يقوم على
قاعدةٍ راسخة من التصور الإسلامي الصافي للكون والحياة والإنسان، وهو كما نعلم
تصوُّر شامل فسيح، لا يترك جانباً من جوانب الحياة دون تأمُّل وتفكُّر، كما أنه
تصوُّر سليم من آفات الأفكار والمذاهب والمعتقدات البشرية المحرًّفة القائمة على ... (قرارات طائشة) يصدرها العقل البشري العاجز عجزاً ظاهراً أمام كثير من جوانب ... ...
الكون الخفية (وفوق كل ذي علم عليم) .
ونعني بالتصور الإسلامي، تلك الرؤيا الشاملة التي تمكِّن الأديب المسلم من
رؤية ما يجري في هذا الوجود بصفاء، بل هي - الرؤية - التي تفتح أمام الأديب
نوافذ الحياة الدنيا، والآخرة، من خلال تلك الروح المسلمة التي تتميز (بشفافية) ...
لا نظير لها [1] .
وهذا التصور الإسلامي لا يتأتى للنفوس والعقول المريضة التي فتحت أبوابها
لجراثيم الأفكار والتصورات المنحرفة عن منهج الإسلام. كما أنه لا يحول دون
التأمل الشامل لكل ما يدور في هذا الوجود، بل إنه يحقق هذا التأمل وما هو أبعد
منه مما ينتظر الإنسان في الآخرة.. ولهذا كان الأديب الإسلامي متميزاً عن غيره
من أصحاب الاتجاهات الأخرى بإمكانية التصوير الأدبي لما يختلج في نفسه من
شوق إلى الآخرة بما فيها من نعيم مقيم، وبما فيها من عذاب أليم - نسأل الله
السلامة -[2] .
بل إن ما ورد عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن في الجنة ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يعطي الأديب الإسلامي مساحات شاسعة
رائعة من الخيال الواعي لتصوير خلجات قلبه نحو ذلك النعيم العظيم.
وما كنت أظنُّ مسلماً سيقف متردداً أمام هذا المصطلح من حيث صلاحيته
للوجود والبقاء، وقد عجبت كلَّ العجب لأحدهم عندما قال في مهرجان شعري عقد
في الرياض: إذا قلنا الأدب الإسلامي، فكيف نعبِّر عن الوردة الجميلة والمنظر
الطبيعي الخلاب؟ ؟ عجبت له وأشفقت عليه من هذا التصور الناقص والفهم
الكسيح لمعنى اصطلاح الأدب الإسلامي.
ولا شك أن هذا القائل وأمثاله يبنون على هذا الفهم القاصر مواقفهم الرافضة
لهذا المصطلح، ولو أعطى هذا القائل لنفسه فرصة التأمل والتفكير لعرف مدى
النقص الكبير لديه في الاستيعاب. وإلا فإن نظرة عاجلة إلى كتاب الله الكريم،
وسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، تؤكد أن التأمل الواعي، والشمولية في
النظرة من أهم سمات المنهج الإسلامي.
وأعتذر إلى القارئ الكريم من الإطالة في هذه التوطئة وأنتقل إلى مناقشة
الشبهات التي ذكرتها من قبل.
الشبهة الأولى:
يعترض البعض على مصطلح الأدب الإسلامي بقوله: إننا بهذه التسمية نلغي
الأدب العربي، ويرى أنَّ هذا جناية على الأدب العربي الذي أعطى على مدى
قرون طويلة وما يزال، ونجيب عن هذا بما يلي:
1- لا يعني مصطلح الأدب الإسلامي إلغاء الأدب العربي، وهذا الربط بين
الأمرين ناتج - في نظري - من تلك الرؤية الناقصة والفهم الكسيح لهذا المصطلح، وإن المراجعة السريعة لما كتبه نقاد الأدب الإسلامي تثبت خطأ هذا الزعم، فما
من واحد من النقاد الإسلاميين قال بالغاء الأدب العربي على الإطلاق، ويمكن أن
تراجع الكتب التي نشرت في هذا المجال لكتّاب مقتدرين أمثال د. عبد الرحمن
رأفت الباشا في كتابه (نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد) ، ود. عبد الباسط ...
بدر في كتابيه (مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي) و (مذاهب الأدب الغربي - رؤ ية إسلامية) ود. عماد الدين خليل في كتابيه (في النقد الإسلامي المعاصر) وغيرها من الكتب التي نشرتها رابطة الأدب الإسلامي.
2- قلنا إن الأدب الإسلامي هو (التعبير الفني الهادف عن وقع الحياة الكون ...
والإنسان على وجدان الأديب من خلال التصور الإسلامي) . فالتصور الإسلامي
هو القاعدة التي يقوم عليها هذا الأدب، ولهذا فإن بين الأدب الإسلامي والأدب
العربي عموماً وخصوصاً.
فالأدب الإسلامي أعم من حيث شموليته لكل أدب انبثق من التصور الإسلامي
سواء أكان أدباً مكتوباً بالعربية أم بغيرها من اللغات الأخرى التي يتكلم بها
المسلمون في العالم، وهو أخصُّ لأنه لا يطلق إلا على الأدب المنبثق من التصور
الإسلامي، والأدب العربي أعم من حيث أنه يشمل كلَّ ما كتب باللغة العربية على
اختلاف المناهج والأفكار فهو يطلق على الأدب الاشتراكي والوجودي، واليساري،
والقومي والإسلامي، ما دام مكتوباً بالعربية، كما أنه أخصُّ لأنه لا يشمل الأدب
المكتوب باللغات الأخرى فإذا كانت قصيدة بالأوردية مثلاً وكانت من خلال تصور
إسلامي كقصائد محمد إقبال، فإني أسميها أدباً إسلامياً، ولا يصح أن أسميها أدباً
عربياً وهكذا.
وبناءً على هذا التصور الإسلامي، فما كان من الأدب العربي منبثقاً من
الرؤية الإسلامية أو متفقاً معها فهو أدب إسلامي، وما كان خارجاً عنها فهو أدب
غير إسلامي، بل إن النصوص الأدبية التي لا تنبثق من التصور الإسلامي أساساً،
ولكنها لا تتعارض معه تكون مقبولة في الأدب الإسلامي.
إن محمد إقبال شاعر إسلامي، وهو باكستاني، وإن محمد محمود الزبيري
شاعر إسلامي وهو عربي يمني، ولكن صلاح عبد الصبور ليس شاعراً إسلامياً
وهو عربي مصري وهكذا.. ولا يستطيع عاقل منصف أن يقول إن أدب اليسار
العربي أدب إسلامي. أو يقول إن أدب القومية العربية بمفهومها الضيق أدب
إسلامي، بحجة أنه كتب بالعربية.
ومن هنا كانت شبهة (إلغاء الأدب العربي) باطلة من أساسها، وإنما يروِّج
لها جاهل أو مغرض، بل إن صدور كلمة إلغاء في مقام الأدب دليل على عدم
الوعي، فإنه لا يمكن لأحد أن يلغي اتجاهاً أدبياً مهما كان انحرافه، والأدب
الإسلامي لا يملك قرار مصادرة الآداب الأخرى، وليس هنالك من يملك هذا الأمر
من البشر، وإنما هو منهج واضح، يرسم أمام الأجيال المسلمة طريقاً أدبياً سليماً
حتى لا يتخبطوا في طرق الآداب المنحرفة عن منهج الإسلام، وشتان بين هذا
وبين دعوى (الإلغاء) وهناك فرق كبير بين من يرفض أمراً لأنه يتعارض مع ما
يؤمن به، وبين من يلغي ذلك الأمر، إن الأدب الإسلامي يرفض الآداب التي
تخالف تصوره الشامل، ولكنه لا يلغيها.
إنه يرفض أدب محمود درويش مثلاً لأنه لا ينبثق من التصور الإسلامي،
وإنما ينبثق من التصور اليساري، ولكن الأدب الإسلامي لا يلغي شعر محمود
درويش، إن مدلول كلمة الإلغاء هو (الشطب الكامل والمصادرة) وهذا لا يتأتى
لبشر، وأكبر دليل على ذلك ما بذله أصحاب الاتجاه اليساري (التقدمي) في عالمنا
العربي من جهود كبيرة لمصادرة الأدب الإسلامي وإلغائه بحجبه عن الناس
وممارسة الإرهاب الثقافي ضده في الملاحق والصحف الأدبية، ولكنهم لم يستطيعوا
ولن يستطيعوا - بإذن الله -، وأضرب مثلاً بالكاتب الروائي والمسرحي الإسلامي
علي أحمد باكثير - رحمه الله - فقد حورب حرباً شعواء من قبل اليساريين وحالوا
دون أعماله ودون النشر! لا في نطاق ضيق يكون خارجاً عن إرادتهم، ومع ذلك
فها هو باكثير حي في عالمنا الإسلامي بأدبه، وها هي أعماله تطبع من جديد
ويتلقفها القارئ بلهفة وشوق، ومثل هذا يقال عن محاولات أصحاب (الاتجاه
العلماني) في الأدب الرامية إلى إلغاء الأصوات الإسلامية ومع ذلك فإنهم عاجزون، لأن فكرة الإلغاء غير واردة أصلاً في مجال الأدب والثقافة.
إذن فالأدب الإسلامي مظلة كبيرة يستظل بها أصحاب التصور الإسلامي،
وهي قادرة على إيواء كل أدب يتفق مع هذا التصور، ولكنها ترفض ما يصادم
تصورها وفرق كبير بين الرفض والإلغاء [3] .
__________
(1) انظر كتاب " الإنسان في الأدب الاسلامي للدكتور محمد عادل الهاشمي ص 9 وما بعدها ".
(2) انظر كتاب " منهج الفن الإسلامي للأستاذ محمد قطب، ص 52 وما بعدها ".
(3) راجع ما كتبه د عبد الباسط بدر في كتابه القيم " مقدمة النظرية الأدب الاسلامي ص: 84 ".(59/49)
شعر
الحريق في البوسنة
عوض هاشم
شب حريقٌ في البوسنة، ...
والتهب الهرسكْ. ...
واضطرمت نيرانٌ ملعونة.. ...
وانتشرت أحقاد.. مدفونة.. ...
باركها " بطرسْ ": ...
وتغامض عنها يضحكْ ...
عم الدنيا " سام ". ...
شب حريقٌ في البوسنة ...
يا عرباً.. يا أهلَ الدارْ.. ...
يا مليارْ.. ...
قطرةُ ماءٍ من واحدكم ...
تكفي كي تذوى النار ...
كم أُخفي خَجلي كالمرأةْ ...
حين تداهمُني الأخبارُ السودْ ... ...
لا عذرَ يْبرِّئني من عار العجزْ ...
لا يستر ضعفي " إنفاقٌ " أو " جودْ " ...
فالجرحُ عميق.. لا تسعفُه أَرغفةُ الخبزْ.. ...
الكمدُ القاتلُ يحرقْني ...
أتساءَلْ: أتجادلْ! ! ...
هاتوا يا صحبي أجوبة تعقلْ! ! ...
كيف يصيرُ الباطلُ حقاً؟ ؟ ...
كيف تميلُ الكفةُ كل الميْل؟ ؟ ...
والأمةُ تُغمض أَعينَها.. ذُلاً.. ...
هل صِرنا حَقاً كغُثاءِ السَّيل؟ ؟ ...
عذراً.. يا " علي عزتْ ".. ليس معي " جيش ": ...
صفحاً يا " بيجوفيتش ".. ...
يا وطناً مسفوح الإنسانْ.. ...
إني مثلك.. تقصفني " الجُرذان " ...
أَشهد أني قد أوصلتُ الأنباءْ.. ...
وأَنِّي قد ردَّدتُ مآسيكمْ كل مساءْ.. ...
وأن نداءَ الغوثِ الصادرِ من " سراييفو " ...
داستْه الأهواءْ ...
صبراً.. يا نسل " الفاتح ".. ...
لا تركَنْ إلا لله الفردْ.. ...
ما من خوْضِ المعركةِ الكُبرى بُدْ ...
فالصربُ ذراعٌ للشيطانِ الوغْدْ ...
ما هم إلا بعضُ أصابعْ ...
من أصل اليدْ ... ...
إنْ همْ إلا واجهةٌ، ...
والحقدُ الأسودُ ممتدْ.. ...
ينتشرُ سريعاً " كالسرطان ".. يمتدْ ...
يمتدْ ... ...
ما لم تصْحُ الأمة فوراً ... ...
ما لم تُشرق فيها شمس ... ...
ما لم ينْبُتْ فيها مغزىً للغدْ.. ...
ما لم تَبلٌغْ سِنَّ الرُّشْدْ.. ...
لنْ يوقف هذا الخَطر القادم.. أعلى سدْ. ...(59/56)
المسلمون والعالم
(ملف الصومال)
ماذا يجري في الصومال؟
مندوب البيان في الصومال
تقع الصومال على رأس القرن الأفريقي في منطقة استراتيجية تشرف على
شرق القارة الأفريقية، وتسيطر على مضيق باب المندب، وتطل على شبه
الجزيرة العربية حيث مهبط الرسالة ومنابع النفط. ولهذا تسابقت الدول الاستعمارية
على هذه المنطقة، وازداد تنافسها، حتى عقد مؤتمر برلين في عام 1884 م
لاقتسام هذه الغنيمة، فقسمت الصومال إلى خمسة اقسام:
1- بريطانيا أخذت قسمين.
2- فرنسا أخذت قسماً.
3- إيطاليا أخذت قسماً.
4- الحبشة أخذت قسماً.
وبعد مغادرة المستعمرين أرض الصومال ضمت بريطانيا قسماً للحكومة
الكينية، وضم أقليم أوجادين الصومالي للحبشة، وجعلت فرنسا نصيبها السابق
دولة مستقلة اسمها جيبوتي وأقامت عليها قواعدها العسكرية. كل ذلك من أجل
تمزيق الجسد الصومالي الذي يتميز بنسبة 100% من المسلمين.
ولكن المؤامرة لم تقف عند هذا الحد، ففي عام 1969 م تولى الجنرال محمد
سياد بري السلطة بانقلاب عسكري، وفي سبتمبر 1970 م تبنى الاشتراكية العلمية، وفي عام 1976 م أسس الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي وألغى جميع
الأحزاب السياسية.
منذ أن تولى زياد بري السلطة وهو يعلن حربه على الإسلام وملاحقته الدعاة
والعلماء.. فقد أصدر قانون الأحوال الشخصية وأعلن أمام الملأ أن الإسلام قد ظلم
المرأة وهو ينتصر لها ويسويها بالرجل في جميع المجالات في الإرث والنكاح
والطلاق وغير ذلك!
في أول سنة 1975م نشرت جريدة نجمة أكتوبر الحكومية زعمه: أن
خمسين في المائة من القرآن الكريم منسوخ، إلا أن العلماء لا يفهمون ذلك! ولما
اعترض بعض العلماء والدعاة وأنكروا عليه ذلك زج بهم في السجون وسامهم سوء
العذاب، وأخذ عشرة من أجلة الدعاة وأحرقهم بالنار أمام الملأ.. وكان من عادته
أن يتهكم بالعلماء ويسميهم بالسفهاء، وعندما واجهه أحد العلماء بالنصيحة قال له
زياد بري بكل وقاحة: أكره الناس إليّ من قال لي اتق الله، وخوفني بالله.. فهل
الله سبع يأكل الناس؟ !
وفي الثمانينات الميلادية غيرَّ زياد بري من أطروحاته وشعاراته السياسية
وتوجه إلى المعسكر الغربي، وتحولت القاعدة العسكرية السوفيتية في ميناء بربرة
إلى قاعدة أمريكية. وقد فتح زياد بري أبواب الصومال للمنظمات التنصيرية التي
بلغ عددها في آخر عصره 86 منظمة.
وفي 9/7/1989 قتل أحد الأساقفة الإيطاليين المشهورين، ويرجح كثير من
المتابعين أنَّ المخابرات الصومالية هي التي قتلته، لأنه أعطى أسراراً كثيرة تتعلق
بتجاوز السلطة لحقوق الإنسان في الصومال. ولكنه ألصق هذه التهمة بالإسلاميين
واعتدى على كثير من الشباب والدعاة ... فأعلن العلماء والدعاة استنكارهم لذلك
فكانت النتيجة أن أرسل حرسه الخاص في 12/1409 إلى جوامع العاصمة
بعرباتهم المصفحة، وأطلق النار بصورة عشوائية على المصلين، فقتل أكثر من
ألف شخص. وأعدم خمسين شخصاً من الدعاة والأئمة على أثر هذه المذبحة أيضاً.
ولما شعر زياد بري بانخفاض قدرته على السيطرة في البلاد مع مرور الأيام، حاول أن يثير النعرات القبلية بين منافسيه، ويدعم قبيلة على حساب القبائل
الأخرى، ثم ينقلب عليها ليدعم قبيلة منافسة أخرى، حتى أشعل الخلافات القبلية
في جميع البلاد. وبسبب الدكتاتورية المتسلطة والفساد السياسي الكبير الذي تميز به
عهد الرئيس زياد بري كثر التذمر الشعبي والرسمي، وفي مايو 1990م أصدر
114 رجلاً من زعماء القبائل بياناً اشتهر باسم بيان مانيفستو مقديشو دعوا فيه إلى
عزل سياد بري وتشكيل حكومة ديمقراطية جديدة.
وفي 2 اكتوبر 1990م وقعت بعض حركات المعارضة اتفاقاً سياسياً، وبدأت
معارك عسكرية تمكنت بموجبها من طرد زياد بري من العاصمة في 28/1/1991
م. وبخروج بري من السلطة ازداد اشتعال الفتيل الذي أطلق شرارته الأولى،
حتى انفجرت البلاد كلها، واستعرت حرب أهلية قبلية بين جميع الأطراف،
وتحولت البلاد إلى ميدان للسلب والنهب القوي فيها يأكل الضعيف.. فكانت هذه
نتيجة حتمية لنظام الديكتاتورية والتلسط وحرمان الشعوب من حقها الشرعي في
الشورى وإبداء الرأي.
القبائل والأحزاب المتناحرة داخل الصومال:
بعد خروج زياد بري من السلطة تكونت أحزاب كثيرة يصعب حصرها،
لكنني سوف أبرز هذه الأحزاب:
1- المؤتمر الصومالي الموحد (U. S. C) بقيادة الجنرال محمد فارح
عيديد، وهو من قبيلة هويت فخذ هبرقدر. ويعتبر هذا الحزب من أقوى الأحزاب، ويسيطر على جزء من العاصمة مقديشو وعلى ثلث البلاد تقريباً.
2- الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال (S. S. D. F) : زعيمها العقيد
عبد الله يوسف والجنرال محمد أبشر من قبيلة مجيرتين، وتسيطر على ميناء
بيصاصو وقرو وجالكعيو. وقد حصل بين هذه الجبهة والإسلاميين صراع عنيف
في بيصاصو، وتشهد المنطقة الآن صراعاً عنيفاً بين هذه الجبهة وبين جيوش
محمد فارح عيديد.
3- الجبهة الوطنية الصومالية (S. N. M) : ويتزعمها عبد الرحمن أحمد
علي تور من قبيلة إسحاق وتسيطر على منطقة الشمال الغربي الصومالي، وقد
أعلنت هذه المنطقة استقلالها عن الجنوب وأسست دولة مستقلة عرفت بجمهورية
أرض الصومال وعاصمتها مدينة هرجيا Somali Land Republic of.
بالإضافة إلى جبهات أخرى كثيرة وصغيرة لا أهمية لها وبعضها مجرد اسم
ولافتة فقط.
وقد حصلت عدة محاولات للتقريب بين هذه الأحزاب، من أهمها مؤتمر
جيبوتي الذي عقد خلال الفترة 15-19 يوليو من عام 1991م. وقد توصل
المؤتمر إلى اختيار رئيس الجمهورية من أعضاء المؤتمر الصومالي الموحد لمدة
عامين، ووقع ترشيحهم على علي مهدي على أن يتم اختيار نائبه الأول من الحركة
الديمقراطية الصومالية، ونائبه الثاني من الحركة الشعبية الصومالية وجبهة الإنقاذ
الصومالية الديمقراطية بالتبادل. ويكون رئيس الوزراء من الجبهة الوطنية
الصومالية.
ولكن هذه الاتفاقية انهارت كما انهارت الاتفاقيات الأخرى بسبب الصراع
على السلطة في المؤتمر الصومالي الموحد بين الجنرال محمد فارح عيديد وعلي
مهدي، ثم ازدادت جذوة الحرب وكثر التنافس على السلطة على حساب الأبرياء
الذين يتساقطون تحت نيران الجنود والخونة.
الاتجاه الإسلامي:
يوجد في الساحة الصومالية عدد من الاتجاهات الإسلامية المباركة التي
تميزت بدعوتها العامة، فانضم تحت ألويتها عناصر من قبائل متنوعة انصهرت
في بوتقة واحدة، ولم تفرق بين قبيلة وأخرى.. ومن أبرز الاتجاهات الإسلامية:
أ- الاتحاد الإسلامي الصومالي: ويعتبر من أنشط الاتجاهات الإسلامية
وأكثرها اتساعاً، وقد أقام المعسكرات التدريبية في عدد من المواقع. وخاض
معارك عديدة مع الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال في مدينة بيصاصو، ومع
المؤتمر الصومالي الموحد في إقليم جدو، وكانت هذه المعارك في مجملها موفقة
مباركة ولله الحمد. ويلقى هذا الاتجاه ترحيباً جيداً من الأوساط الشبابية خاصة
لتميزه السلفي والمنهجي.
ب- الحركة الإسلامية الصومالية: وهي حركة نشطة ركزت على الجانب
الدعوي تركيزاً كبيراً، ولم تر الدخول في الصراعات العسكرية القائمة في الساحة
الصومالية.
انهيار الصومال:
لما بدأت الحروب الأهلية واستعرت نيرانها في أرض الصومال استغلت
القوى الغربية هذه الفرصة لإنهاك الصومال المسلم وتمزيقه مرة أخرى، فوقفت
موقف المتفرج على الرغم من دعوتها إلى السلام في ظل ما يسمونه بالنظام العالمي
الجديد. بل بدأت بتغذية الصراع القبلي وإثارته. وقد ذكر الكاتب الإيطالي بال
ترميل في مدينة تورينو الإيطالية بأن الأوربيين هم السبب في استمرار المشكلة
الصومالية وتغذيتها.. كما ذكر مراسل القناة الأخبارية C. N. N، أن الحكومات
الغربية توجه إمدادات الإغاثة الإنسانية للجيوش المتصارعة قصداً لتغذية الصراع
وتصعيده بين القبائل! ! وقد وصلت الصومال من جراء ذلك إلى حالة انهيار كامل
في بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا يوجد أي أثر من آثار الحياة
الإنسانية داخل الصومال، حيث نهبت خيرات البلاد وتسابقت الأحزاب المتناحرة
على بيع الممتلكات العامة لشراء الأسلحة والذخيرة، فالسلاح هو سيد الموقف داخل
الصومال، فلا أثر للكهرباء أو الماء أو غيرها هناك، لأن كل شيء قد نهب وبيع
. فقد كان الصومال على سبيل المثال يملك ثاني أكبر محطة لتصفية البترول في
القرن الأفريقي وتقدر قيمتها بخمسمائة مليون دولار، ولكنها بيعت بمليون دولار
أمريكي فقط. بل وصل الحال ببعض الأحزاب أن نبشت الأرض واستخرجت
أسلاك الكهرباء والتمديدات الأرضية لبيعها في السوق السوداء. حتى بلغت الخيانة
ببعض الأحزاب أن وقعت اتفاقيات مع عدد من الشركات الإيطالية والفرنسية
والسويسرية والأمريكية لدفن آلاف الأطنان من المواد الكيميائية السامة والنفايات
النووية في أرض الصومال.. لكي تستمر آثار هذه الحرب ليس على هذا الجيل
فحسب، بل على الأجيال القادمة..! وأصبحت هذه الدول تتسابق في إرسال هذه
النفايات.. وتتباطأ في إرسال المعونات الإغاثية، بل تختلق المعاذير والحجج لكي
تمنع الإغاثة.
وقد كانت الأحزاب القبلية المتناحرة تمارس أبشع ألوان الوحشية من التدمير
والنهب وانتهاك المحارم والأعراض، بل والتمثيل بالجثث. وهذه الفوضى ساعدت
على انتشار اللصوصية وقطع الطرق والاعتداء على العزل والآمنين.
وهكذا صمتت الدول الغربية طوال هذه المدة لكي تنهار الصومال تماماً، ومن
ثم تتدخل الدول الغربية لتفرض الرجال والحكومة التي تريد، وتصبح المنطقة
مهيأة لإقامة القواعد العسكرية الأمريكية والأوربية. فلا توجد قوة تستطيع أن تهدد
المصالح الغربية..! !
المهاجرون الصوماليون:
اضطر الشعب الصومالي الأعزل إلى الهرب خوفاً من نيران الحرب الأهلية
التي أهلكت الأخضر واليابس. فكان كثير من الصوماليين يفر من مدينة إلى أخرى، حتى إذا لحق بهم الحرب مرة أخرى اضطروا للفرار إلى مدينة ثالثة.. فأصبح
الشعب الصومالي كله مهاجراً سواء كان في الداخل أو في الخارج. فالقادرون منهم
وخاصة أصحاب التخصصات العلمية هاجروا إلى أوربا وأمريكا وكندا، ويقدر
عددهم بحوالي مأتى ألف صومالي. وأما عامتهم فقد استقر بهم المقام في الدول
المجاورة مثل كينيا وأثيوبيا وجيبوتي واليمن.. بعد أن أنهكتهم الهجرة وهدهم
المسير.
رأيت أحدهم على الحدود الصومالية الكينية وليس معه إلا ولده البالغ من
العمر خمس عشرة سنة، وقد شحب وجهه وغارت عيناه وتشققت قدماه.. فسألته
عن حاله؟ فجلس على الأرض ووضع يده على رأسه وأغمض عينيه.. ثم
أحضرنا له قليلاً من الماء، فلما شرب وارتوى، قال لي: اسبوعان، كنا نمشي
على الأقدام، هلكت أمي وزوجتي وثلاثة من أطفالي، ولم يكن لي القدرة على
دفنهم.. وكما ترى لم يبق معي إلا هذا الولد؟ ! !
قد بلغ عدد المهاجرين إلى كينيا حوالي خمسمائة ألف لاجىء توزعوا في عدة
مخيمات. كانوا يظنون أنهم فروا من الموت، لكنهم في حقيقة الحال فروا من
الموت السريع تحت نيران الجنود إلى الموت البطيء حيث الجوع والمرض. وقبل
أن نبدأ بذكر أحوالهم، هذه نظرة سريعة لأحوال المنطقة التي هاجروا إليها:
- يمر الشمال الشرقي الكيني المجاور للحدود الصومالية - وهي المنطقة التي
هاجر إليها الصوماليون - بجفاف شديد منذ ثلاث سنوات تقريباً لانقطاع الأمطار.
- يوجد في المنطقة مائة سد لمياه الامطار جفت تماماً.
- 80% من الأغنام والأبقار و40% من الإبل قد هلكت في منطقة وجير
الكينية بسبب الجفاف.
- منطقة وجير مساحتها 56500 كم2 يعيش عليها 126 ألف نسمة من
الأهالي، يضاف إليهم 20 ألف نسمة من المهاجرين الصوماليين لا يوجد فيها إلا
18 بئراً ارتوازياً عاملاً، أما بقية الآبار وعددها ثلاثون بئراً فقد تعطلت.
- 20% من الأطفال دون سن الخامسة ماتوا خلال شهري شوال وذي القعدة
الماضيين بسبب أمراض سوء التغذية.
فإذا كانت هذه هي حالة أهل البلد الأصليين فكيف يكون حال المهاجرين
الصوماليين إلى هذه المنطقة..؟ وإليكم الإحصاءات التي تدل على عمق المأساة
وآثارها الواسعة بين المهاجرين:
- عدد الوفيات حوالي 200 حالة يومياً.. وقد بلغت في بعض الشهور
الماضية إلى خمسمائة حالة أو أكثر.
- 300. 000 طفل ماتوا جوعاً ومرضاً داخل وخارج الصومال منذ بداية
الأزمة.
- 55% من الأطفال مصابون بأمراض سوء التغذية.
- 30% من الأطفال دون سن الخامسة يحتاجون إلى تغذية طبية بالسوائل.
- 30% من الصوماليين مصابون بأمراض الجهاز التنفسي والسل.
- 80% من النساء الحوامل يمتن أثناء الولادة لعدم وجود الرعاية الصحية
الأولية.
- 90% من المهاجرين لا يملكون خياماً للسكن فيها وإنما يسكنون في بيوت
من القش.
وبعد هذه الإحصاءات يتبين حجم المأساة، فالأحوال بلغت حداً لا يوصف من
التردي والمجاعة، حتى إني رأيت امرأة في مخيم صوفتو في أثيوبيا تأخذ جلداً
مجففاً وتدقه.. فلما سألتها عنه؟ قالت: إنها تطبخه بالماء وتطعمه لأولادها
الأيتام..! !
وفي مخيم آخر رأيت رجلاً قد جفف دم إحدى الحيوانات بعد ذبحها حتى
تجلط وتصلب.. فلما سألته عنه؟ قال: إنه طعامه هو وأولاده!
ورأيت رجلاً مع زوجته في مخيم مانديرا الكيني في حالة يرثى لها، فدخلت
في خيمته فلم أجد فيها أثراً لطعام، فسألته: ماذا أكل في هذا اليوم؟ فقال: لا
تسلني عن اليوم، ولا عن الأمس، ولا عن الذي قبله، فلي ثلاثة أيام لم أذق طعاماً
قط..! !
وجلست في أحد الايام في مقبرة صغيرة في مخيم مانديرا - وهي مقبرة من
بين عدد من المقابر المنتشرة في المخيم - ما بين الساعة الثامنة صباحاً إلى العاشرة
صباحاً، دفن خلالها 150 نفساً.. فكيف يُتصور العدد في بقية اليوم.. وكيف في
بقية المقابر؟ ! !(59/60)
حماية إغاثة أم حماية مصلحة
محمد الشيخ عثمان
إن مما لا شك فيه أن ما يحصل في الصومال هو نتيجة الابتعاد عن نهج الله
القويم وشرعه الحنيف لمدة طويلة قبل الاستقلال وبعده. ومع أن هذا الشعب يدين
بالإسلام 100% إلا ما ندر، ومع أنهم كلهم سنة ويتمذهبون بالمذهب الشافعي؛ إلا
أن النعرات القبلية وصلت بهم إلى التقاتل الجماعي ونهب الأموال وانتهاك
الأعراض، وبهذا فقد الأمن والاستقرار وأصبحت النتيجة الموت الجماعي من أثر
المجاعة، والهجرة الجماعية إلى حدود كينيا وأثيوبيا والدول الغربية كبريطانيا
وإيطاليا.
ومع أن أي مسلم يألم أشد الألم لما يحصل لهذا الشعب المنكوب؛ إلا أن
التدخل الأمريكي ليس حلاً للقضية، وليس حماية للإغاثة كما ادعوا، وإنما حماية
مصلحة الدول النصرانية عامة ونصارى شرق أفريقيا خاصة. لذا فموقف المسلم
من هذا التدخل لا بد أن يكون مبنياً على الآتي:
1- إن النظام الأمريكي لا يريد خيراً للمسلمين، بل يبطن الشر والحقد على
عموم المسلمين، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ومعاناة شعب البوسنة المسلم
والشعب الفلسطيني مثال بسيط على ذلك.
2- لقد عودتنا أمريكا أن يكون لها برنامج معلن وآخر غير معلن، فادعاؤهم
أنهم يدخلون الصومال لحماية الإغاثة لا يختلف عن ادعائهم السابق في الخليج
العربي أنهم يدخلون لحماية حدود معينة في بلد ما، ثم ما لبثوا أن غيروا من
أهدافهم.
3- كانت أمريكا ضد أي تدخل عسكري في الصومال لمدة سنتين، ويبدو
أنهم كانوا يهدفون إلى إطالة أمد التحرير بين الفئات حتى تتدهور الأوضاع وتأتي
الفرصة المناسبة للتدخل، وذلك بعد تمهيد الإعلام الغربي واستقطاب الرأي العام.
4- إن قوة 30 ألف من المارينز إضافة إلى قوات أخرى، من كندا 900،
استراليا 900، فرنسا أكثر من 2000، إيطاليا 1000، إلى غير ذلك.. كل هذا
يشير إلى أن العملية أكبر من عملية حماية إغاثة، وإذا عرفنا أن منطقة المجاعة
ليست منطقة كبيرة (Baidor. Bardhera) وأنها ليست كل الصومال؛ يتبين
أن الهدف الحقيقي ليس حماية الإغاثة وإنقاذ متضرري الصومال، وإلا: لماذا لا
يرسلون نصف هذه القوات إلى البوسنة؟ مع أن وضع البوسنة أسوأ بكثير من
الصومال.
5- إن الإعلام الغربي كان يتكلم في الفترة الأخيرة عن تزايد الأصولية في
الصومال [1] . وهذه الكتابات والتقارير يبدو أنها أقنعت جورج بوش بالتدخل
لمحاربة المد الإسلامي القوي في الصومال.
وقد ذكرت مجلة الوسط في عددها رقم 46 تاريخ 14/12/1992 أن مصادر
مسؤولة في إدارة جورج بوش أكدت لهم أن من الجوانب غير المعلنة محاربة
المجموعات الأصولية المسلحة، وعلى رأسهم الاتحاد الإسلامي الذي هو أكبر تجمع
إسلامي في البلاد. فماذا تريد أمريكا من الاتحاد الإسلامي مع أنه لم يشترك يوماً ما
في أنواع الفساد التي ترتكبها العصابات المسلحة الأخرى مثل النهب والقتل
والاغتصاب وغير ذلك؟ والجواب واضح وهو أن الاتحاد الإسلامي نجح في توعية
أعداد كبيرة من الشعب، وطرح الحل الإسلامي بعد أن فشلت جميع الشعارات
الأخرى في المنطقة. فالإسلام هو الحل الوحيد الذي يجمع شتات هذا البلد ويجمع
شمل شعبه المنكوب، إضافة إلى أن قيام دولة إسلامية دستورها الكتاب والسنة
سيكون له أثر طيب على أحوال المسلمين في الدول المجاورة: كالحبشة وكينيا
وإرتريا.
6- إن من الأسباب الغير المعلنة للتدخل الأمريكي السيطرة على البوابة
الجنوبية للبحر الأحمر أي مضيق باب المندب الصومالي. كما أن قربه من المنطقة
الإسلامية تساعده على تنفيذ مخططاته تجاه الأمة، وبعبارة أخرى: فأمريكا ترسل
رسالة عن طريق تدخلها في الصومال أنها من الممكن أن تفعل نفس الفعل في
بعض أجزاء من العالم الإسلامي.
7- إن توجه السودان إلى الإسلام أثار قلق أمريكا والغرب، ووجودهم قرب
السودان سيتيح لهم فرصة التدخل في شؤون هذا الشعب المسلم. وأخيراً فإنني
أرجو من المسلمين عدم تصديق ما ينقل عبر وسائل الإعلام الغربية عن الصومال،
مثل ادعائهم أن عامة الشعب يرحب بالوجود الأمريكي! وهذا غير صحيح. ومع
إن الشعب يريد مخرجاً للأزمة، إلا أنه كان يتوقع أن تأتي المبادرة من الدول
الإسلامية، مثل ما فعلت دول غرب أفريقيا في ليبيريا. بالإضافة إلى الأمور
المذكورة هناك أضرار اجتماعية متوقعة من الوجود الأمريكي. فالجيش الأمريكي
معروف بالانحلال، وقد نقلت الجرائد الغربية أن الجيش الأمريكي ترك وراءه 23
ألفاً من اللقطاء في الفلبين، أضف إلى هذا أن أعداداً كبيرة منهم مصابون بالإيدز
والشذوذ.
وإني وإن كنت ألوم شعبي أولاً لإتاحة الفرصة لمجيء هؤلاء إلى بلدي؛ إلا
أنني اعتقد أن القيم الإسلامية ما زالت جذورها موجودة عند الأفراد العاديين، وأكبر
مثال على ذلك قصة البنت الصومالية التي نقلتها التلفزة البريطانية يوم 14/12/
1992 وهي تضرب من جميع أفراد الشعب بالنعال لأنها ذهبت مع الجنود
الفرنسيين. وذكرت بعض الجرائد أنها ماتت إثر الضرب. ولعل مثل هذا الحادث
يكون حافزاً للشعب الصومالي بأجمعه لاستنهاض غيرته وبعثها، كي يلم
الصوماليون شملهم ويعودوا إلى رشدهم ويضمدوا جراحهم، ويظلوا أوفياء لعقيدتهم
ودينهم وتاريخهم.
[واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] .
__________
(1) الواشنطن بوست 12/11/1992م، وكالة رويتر 17/11/1992م، وغيرهما من المجلات والجرائد الغربية.(59/70)
أمريكا والمستنقع الصومالي
د. مالك الأحمد
وصلت طلائع القوات الأمريكية إلى الصومال رغبة في (إعادة الأمل) ! ! ...
إلى الشعب المسحوق من الحرب الأهلية من جهة والمجاعة من جهة أخرى،
وتعالت الأصوات هنا وهناك بين مؤيد لهذه الخطوة الجديدة وبين معارض لها، ففي
الصومال رحب طرفاً النزاع الرئيسيان بهذه القوات، بينما اعترض عليها الاتحاد
الإسلامي الصومالي، وتعالت الأصوات بأن (الأصوليين دوماً أهل اعتراض
وأصحاب نظرة شك وتوجس) .
وكتب الكثيرون حول هذه القضية ومنهم من حلل الأمر بأنه استعمار جديد
(وهو كذلك) ومنهم من أوله بأن الأمر لا يعدو أن يكون يقظة ضمير أميركي، وبما
أن الدعاة (الأصوليين) محل اتهام ونظراتهم محل توجس وفراساتهم محل ...
اعتراض أحببت أن أعرض هنا مقتطفات لكتاب مختلفي المناحي والمشارب أحدهما
غربي، والآخر عربي علماني يؤكدان فيها التوجه الاستعماري للعملية وأنها لا تعدو
أن تكون وجهاً جديداً لمخطط قديم.
يقول مايكل كلاف من مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن:
(بعد مرور أقل من عامين على حصول آخر المستعمرات في أفريقيا - وهي ناميبيا - على استقلالها، من المرجح أن تكون الأمم المتحدة قد اتخذت أول خطوة يمكن أن تؤدي إلى إعادة استعمار الأمر الواقع إلى الدول الأفريقية التي على وشك الانهيار، كما أن الولايات المتحدة التي بدا أنها على وشك التخلي عن أفريقيا ... ربما تجد نفسها منهمكة في شؤون القارة أكثر من أي وقت سابق) . ثم يضيف:
(هناك إمكانية قوية وحقيقية في أن تقيم الأمم المتحدة وصاية على الصومال لفترة طويلة (صرح بطرس غالي بإمكانية هذا الأمر وأنه محل دراسة) . وهنا يكمن خطر الاستعمار من جديد، ولكن بوجه إنساني، لأنه سيعني في الواقع تولى الأمم المتحدة والولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن البلاد، وعندها لا بد من تشكيل قوة شرطة وقوات أمن جديدة، وإعادة بناء البنية الأساسية والوظائف، وتجنيد جيش من البيروقراطيين الدوليين وما إلى ذلك مما سيكون نظاماً استعمارياً رغم دوافعه الإنسانية) ثم يبين إمكانية توطين هذا المبدأ الاستعماري في أماكن أخرى من العالم الإسلامي: (وما هي إلا قضية زمن قبل أن تبدأ أجهزة الإعلام في تسليط الاهتمام على المناطق الأخرى من القارة المماثلة للصومال (مثل السودان) مع أن الصومال حالة استثنائية الآن. وسوف تكون وجهة نظر التدخل من أجل المساعدات الإنسانية وبالتالي عودة الاستعمار الجديد بهذا الشكل قوية جداً لا سيما وأن هناك في الغرب شبكة شاسعة من المنظمات الكنسية والخيرية التي يمكن أن تصبح مماثلة لتلك الجمعيات التبشيرية ولمحاربة الرقيق التي شهدناها في القرن التاسع عشر، ومن المحتمل أن ينشأ تحالف شاذ غريب بين تلك المنظمات والمؤسسة العسكرية الأمريكية التي تبحث عن مهمات دولية جديدة لتبريرها) انتهى ما نقلته الشرق الأوسط عن لوس انجلس تايمز. وهذا رأي كاتب غربي بارز صاحب العديد من الدراسات والكتب في الشؤون الأفريقية.
وننقل هنا أيضاً وجهة نظر عربية قومية (ليست أصولية) حول التدخل
الأمريكي في الصومال بقلم صلاح الدين حافظ حيث يقول:
(إن دور الأمم المتحدة كمنظمة عالمية قد تبدل هذه الأيام، فبعدما كانت - طبقاً لميثاقها الصادر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي ظل نتائجها - مظلة لكل الأعضاء المتساوين في الحقوق والواجبات كاملي الاستقلال لا تملك سوى حركة التنسيق بين إيرادات الدول وسياسات الكتل؛ أصبحت اليوم في ثوب مغاير، ثوب يمنح قيادتها لدولة عظمى وحيدة هي الولايات المتحدة التي تبوأت وحدها هذا المنصب بعد أن أجهزت على الاتحاد السوفييتي، وبعدما نفضت يدها من الحرب الباردة وتوازناتها ومنافساتها المعقدة، ومن ثم فإن الأمم المتحدة (المنظمة العالمية) أقرب ما تكون اليوم إلى (مجلس شورى عالمي) للولايات المتحدة التي تأخذ من هذه الشورى ما تريد وتفرض هي ما تحب، أليست هي ... القطب الأعظم الأوحد؟) ، ويتابع الكاتب: (وبصرف النظر عن أن إنقاذ دولة الصومال من زعمائها وميليشياتها المتقاتلة، وإنقاذ الشعب الصومالي المطحون من المجاعة الرهيبة أمر مطلوب إنسانياً؟ إلا أنه يلفت النظر التناقض بين السرعة والحماس الذين تم بهما اتخاذ قرار التدخل العسكري هذا وبين التباطؤ - بل التتواطؤ - والتقاعس في حالة البوسنة والهرسك وصولاً إلى حد التغاضي عن التطهير العرقي والمجازر الجماعية تحت سمع الجميع وبصره وبحجة واهية تدعي أن الوضع الجغرافي مختلف في الحالتين الأمر الذي يترجم عادة بأن التدخل العسكري سهل في الصومال الإسلامية الأفريقية صعب في البوسنة الإسلامية الأوربية، ولعل في هذه المغالطة ما فيها من تمييز يخفي المخبوء) انتهى.
وهنا لا بد من توجيه إخواننا الدعاة في الصومال والسودان وأرتيريا وغيرها
للحذر واليقظة من المخططات الاستعمارية الجديدة، والتي باتت مكشوفة لدى
الجميع وإن تسربلت بلباس المساعدات الإنسانية، ولا بد أن يكون الجميع عند
مستوى الأحداث وعياً وإدراكاً وحسن تصرف بعيداً عن الهيجانات العاطفية
والتصريحات الانفعالية، بل لا بد من أخذ الأمور بترو وحكمة كي لا نعطي لهم
المسوغات - وهم لا يحتاجون إليها - لضرب التوجه الإسلامي في منطقة القرن
الأفريقي، خصوصاً بعد ظهور كثير من الأصوات في منظمات الإغاثة الصليبية،
وعلى رأسها الصليب الأحمر الدولي، التي تحذر من خطر الأصولية في المنطقة
بل وتحذر من خطر عمليات الإغاثة التي يقوم بها هؤلاء الأصوليون، وقد سبق لهم
كتابة تقارير تحذيرية لكثير من الجهات الغربية بل والإسلامية كي يخلو لهم الميدان
لافتراس هذه الشعوب المسلمة الجائعة والتائهة.(59/74)
محمد الشرفي
ومشروعه التخريبي في تونس
أ- محمد الشرفي رمز التخريب:
إن من إفرازات سياسة الطاغية بورقيبة التعليمية ظهور نخبة من المثقفين
العلمانيين المتغربين التي قبضت مقاليد التعليم الجامعي منذ انطلاقته في بداية
الستينات، ومن هؤلاء محمد الشرفي الذي كان متخصصاً في الدراسات الحقوقية،
ولكن السمة في أبحاثه معاداته المطلقة للثقافة والتشريع الإسلامي، حيث إنه كان
ينادي منذ الستينات (بإصلاحات تشريعية) تتعارض صراحة مع الأحكام الشرعية
الصريحة والمُحْكمة، مثل مناداته بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة،
بالإضافة إلى مناصرته إلى كل ما ينادي به بورقيبة في إطار مشروعه التغريبي
مثل (تحرير المرأة) والقضاء على الهوية العربية الإسلامية للبلاد التونسية، ...
وبذلك نلاحظ أنه لا اختلاف في الرأي والتصورات الفكرية بين الشرفي وبورقيبة
رغم المعارضة الظاهرية والشكلية التي أبداها الشرفي في عهد بورقيبة، بل إن من
مظاهر التطابق والتجانس الفكري بينهما تمسك كلاهما باللغة الفرنسية كلغة دراسة
وإدارة في البلاد وهو الوجه الثاني العملي للمشروع التغريبي. ذلك بعد أن أطيح
ببورقيبة في 1987م تعالت الأصوات المنادية بالتعريب في التعليم والإدارة
ومختلف مناشط الحياة في البلاد، فكان من أول المعارضين لسياسة التعريب محمد
الشرفي من موقعه في ذلك الوقت كأستاذ محاضر في كلية الحقوق والعلوم السياسية
بتونس، حيث شكل مع فئة من الفرنكفونيين تياراً معارضاً لسياسة التعريب، ومن
هؤلاء عبد الفتاح عمر رئيس جامعة تونس حالياً، وقد حقق مشروع التعريب
خطوات إيجابية في الأشهر الأولى بعد الإطاحة بالطاغية بورقيبة قبل أن تحصل
الردة وتسقط البلاد بأيدي التيار العلماني نهائياً [*] ، فوقع تعريب برنامج المرحلة
الأولى لكلية الحقوق فكانت من المواقف المسجلة على الشرفي أنه امتنع عن إلقاء
المحاضرات باللغة العربية لشده تمسكه باللغة الفرنسية، وكرهه للغة العربية فتنادت
شراذم الفرنكفونيين وأسست كلية الحقوق بأربانة بضواحي العاصمة - والتي تقرر
أن تكون لغة الدراسة فيها هي الفرنسية.
وهكذا يظهر جلياً أن الشرفي هو رمز للتغريب والفرنكفونية والعلمانية بكل
أبعادها الخطيرة على البلاد والعباد، من اجتثاث البلاد من هويتها الإسلامية
والعربية والزج بها في متاهات الضياع والتبعية الثقافية للغرب عموماً ولفرنسا
خصوصاً.
ورغم المعارضة الشديدة التي أبداها بعض المثقفين والجامعيين لتولي الشرفي
وزارة التربية وصدور كتاب (لا أريدك وزيراً) الذي فضح حقيقة الشرفي التغريبية ...
واحترازات العديد من الأطراف فإن الشرفي تسلل إلى وزارة التربية شأنه شأن
شراذم اليسار التي تسللت كذلك إلى مواقع السلطة دون أي موافقة شعبية، بل في
تحد واضح لإرادة الشعب الرافض لهذه الطغمة العلمانية العميلة، التي أخذت على
عاتقها القيام بدور قذر قد لا يقل قذارة عن دور المبشرين المسيحيين الممهدين
لدخول الاستعمار للعديد من البلدان.
وتولى الشرفي الوزارة فكان البيان الضجة الذي وقعه الشيخ عبد الفتاح مورو
في أكتوبر 1989م والذي دعا فيه إلى عدم الاستخفاف بقيم الإسلام وضرورة إقالة
الشرفي، ثم كانت حملة حتى بعض اليساريين والقوميين الذين يعون حقيقة الشرفي
ونادوا بضرورة الجلاء الثقافي كما حصل الجلاء الزراعي من قبل. ولكن الدعم
الكبير الذي كان يلقاه الشرفي خاصة من فرنسا التي تدخلت مباشرة بتعيينه حال
دون حصول أي تغيير في الوضع، بل إن الشرفي ركز قدميه في الوزارة وبدأ في
تنفيذ مشروعه التخريبي الذي أطلق عليه مشروع (إصلاح التعليم) . ...
2- الأبعاد الحقيقية لمشروع (إصلاح التعليم) :
إن من المعلوم أن برامج التعليم ومناهجه التي سارت عليها الأجيال التونسية
طيلة عهد حكم الطاغية بورقيبة قد وضعها الفرنسي (ديباس) الذي كلفه بورقيبة
بوضع برامج التعليم منذ الستينات فأشار (ديباس) بإغلاق الجامعة الزيتونية بحجة
توحد المناهج التعليمية وبتركيز اللغة الفرنسية كلغة أساسية للتعليم سواء كان في
مجال العلوم الصحية أو العلوم الإنسانية، أما اللغة العربية فإنها تدرس كلغة ثانية
كغيرها من اللغات الأجنبية، وظل الأمر كذلك حتى سقط بورقيبة وتولى الشرفي
وزارة التربية.
ورغم هذا المنحى التغريبي الخالص في مناهج التعليم، لاحظت الأطراف
الفرنكفونية العلمانية أنه لم يحقق الأهداف المرجوة من اجتثاث هوية الأمة وتغريبها
بالكامل بل إن النتائج كانت عكسية إذ ظهرت التيارات التأصيلية الإسلامية
المناهضة لسياسة التغريب، ولعل الدور الذي قامت به الحركة الإسلامية في
مواجهة بورقيبة جعلت التيار التغريبي يأخذ على عاتقه مواصلة سياسة التغريب بل
تجديد وسائل هذه السياسة وإعطائها دفعاً جديداً لعلها تحد من المد الإسلامي المتنامي، وفي هذا الإطار يتنزل مشروع الشرفي لإصلاح التعليم فكان إطلاق شعارات:
* التفتح على الثقافات الأجنبية.
* وامتلاك لغة العلم والتكنولوجيا.
* وترسيخ التفكير النقدي.
* ونشر قيم التسامح والتآخي ونبذ التطرف والتعصب.
وغيرها من الشعارات البراقة التي هي في الحقيقة كلمات حق أريد بها باطل.
قال الله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
البَوَارِ] [إبراهيم 28] .
وإذا كان المجال لا يتسع للرد على هذه التوجهات فإنه لا بأس من التعريج
بسرعة على الخلفية الحقيقية لهذه الشعارات وما أريد بها من قبل أصحابها، أما
التفتح على الثقافات الأجنبية فالمقصود به أساساً الانفتاح اللا مشروط على ثقافة
الرجل الأبيض، والقبول بها دون احترازات أو تحفظ على أي جانب منهما رغم ما
تزخر به من نقائض ظهرت نتائجها الملموسة على الساحة الاجتماعية، وما أفرزته
من انتشار للجريمة والإدمان على المخدرات والأمراض الجنسية والنفسية، وتفكك
أسري وغير ذلك من الأخطار الاجتماعية التي تشكل تهديداً جدياً على المجتمعات
الغربية أكثر من تهديد الحروب الأهلية أو الكونية. ورغم ذلك فإن دعوة الشرفي
صريحة في التبشير بهذه الثقافة الداخلية، والتي بغض الطرف عن كل نقائصها
فإنها تبقى ذات خصوصية معينة لا تتفق إلا مع البيئة التي نشأت فيها.
أما امتلاك لغة العلم والتكنولوجيا فإن هذه الدعوة أريد لها بالأساس التمهيد إلى
إعادة تبوء اللغة الفرنسية المكانة التي كانت عليها في مطلع الستينات من ناحية،
ومن ناحية ثانية السعي إلى إعادة نشر وترسيخ القيم الغربية ذلك أن اللغة في علاقة
عضوية بالتفكير ولعل ما أشارت إليه جريدة الفجر عن الملاحظات حول بعض ما
ورد في الكتب الدراسية باللغة الفرنسية في بعض الفصول الدراسية خير دليل ومن
ذلك صدور خارطة فلسطين المحتلة في بعض الكتب تحت اسم (إسرائيل) دون أي إشارة إلى فلسطين أو ما ورد من نصوص للقراءة بالفرنسية وما فيها من ... وصف مشين للمسلمين وتسميتهم بمحمد بالنسبة للرجال وكل النساء بفاطمة وذلك من باب الاحتقار والاستخفاف بالمسلمين وغيرها من الأمثلة التي لا تحصى.
قال الله تعالى: [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً
فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ] [التوبة 63] .
أما بالنسبة لترسيخ التفكير النقدي وروح التسامح ونبذ التطرف والتعصب فإن
المغزى من هذه الدعوة لا يخفى على أحد، فهي تهدف استباحة المقدسات والثوابت، وتشجيع مرضى القلوب على التعرض لها بالنقد والتجريح بدون علم وعن جهل
بل عن قصد ونية سيئة مبيتة، والتعرض لكل من يحاول الدفاع عن أصول الدين
وشرائعه ووصفه بالتطرف والتعصب وعدم القبول بالرأي المخالف، وهذا أمر
خطير وخطب جليل لما يؤدي إليه من طعن وتشكيك في قيم الأمة ومقدساتها التي
يراد بها أن تصبح محل خلاف وجدال لا محل اتفاق وإجماع، وبذلك تدك حصون
الأمة ويسهل غزوها ثقافياً وعقائدياً وقيمياً.
قال الله تعالى: [وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال 30] .
هذه عجالة عن الخلفية الحقيقية لمشروع الشرفي (لإصلاح التعليم) الذي لم
يتجه إلى المشاكل والعوائق الحقيقية في المناهج التعليمية السابقة، التي أدت بالبلاد
إلى أزمة تعليمية خطيرة مثل كثرة المنقطعين عن التعليم في مختلف المراحل
التعليمية، وأزمة البحث العلمي الذي هو أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، وأزمة
التوجيه الجامعي والخريجين وغيرها من المشاكل الهيكلية التي تنخر النظام التعليمي
ككل.
3- تغيير برامج التربية الإسلامية - مثال -:
لقد كان يطلق على الشرفي من قبل بعض المثقفين - قبل وبعد تعيينه في
الوزارة - أنه وزير صاحب مشروع، بمعنى أنه صاحب أهداف خاصة به يريد
تحقيقها من خلال وصوله إلى الوزارة، فهو ليس وزير تنفيذ فقط. وعلى هذا
الأساس لا غرابة أن نجد أول ما قام به الشرفي في (إصلاح التعليم) هو تغيير
برامج التربية الإسلامية، وذلك لسبب وحيد وهو أن هذه البرامج - رغم كل
الاحترازات حولها - فيها مسحة إسلامية يقف وراءها جملة من الأساتذة المخلصين
الذين وضعوها منذ عهد بورقيبة فكانت حملة مركزة على هذه البرامج، وصفت
فيها بشتى النعوت التي تنم عن موقف التيار التغريبي من الإسلام ككل، وليس من
هذه البرامج فقط، فهذه البرامج في تصورهم سبب في تخريج جيل متطرف عنيف
بسبب دراسته لمفهوم الجهاد في الإسلام، فكان التغيير هو أول خطوة قام بها
الشرفي دون استشارة الأساتذة المدرسين للمادة، ولا لجنة متابعة البرامج في
الوزارة التي أقيل رئيسها الشيخ محمد بن إبراهيم الأستاذ في الجامعة الزيتونية
وإمام جامع الفتح بالعاصمة دون سابق إعلام، ووقع الاعتماد في إعداد البرامج
الجديدة على من يسمون بجماعة اليسار الإسلامي من حيث وقع اختيار رئيسها
حميدة النيفر مستشاراً خاصاً للشرفي للشئون الدينية.
قال الله تعالى: [الْمُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ
ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ويَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[التوبة 67] .
فكانت البرامج الجديدة مختلفة تماماً بل مناقضة للأولى على مستوى الأهداف
والمنهج، فأهداف هذه البرامج حسب ما ورد عنهم تتمثل في ترسيخ روح التآخي
والتسامح لدى التلميذ وذلك من خلال الوقوف على مقاصد الإسلام الداعية للمحبة
والتيسير في الدين، أما المنهج في التدريس فهو يعتمد على اجتناب التلقين حتى لا
يقع التعسف على عقل الطفل بل لا بد من الاعتماد على الطريقة الحوارية
الاستنتاجية.
فالملاحظ بصورة جلية من أهداف هذه البرامج أنها تعميمية لا يمكن للتلميذ أن
يعرف من خلالها حتى الضروري من عقائد الإسلام وشرائعه فكيف يمكن الحديث
عن مقاصد الإسلام دون معرفة أحكامه التفصيلية المؤدية للمقاصد الإسلامية، ولكن
دعوة هؤلاء الضالين - ممن يسمون أنفسهم بالتيار الإسلامي الذين ينادون بالفهم
المقاصدي للإسلام - هي ضرب للإسلام نفسه. أما منهج التدريس فهو في ظاهره
إيجابي ولكن المقصود به هو تهميش المادة ونفي التحصيل العلمي للتلميذ من
دراستها فكيف يمكن أن نعتمد الطريقة الحوارية في تدريس الأحكام الشرعية
ونجتنب تلقينها للطفل بحجة عدم التعسف على عقله؟ فمن ينادي بهذا الرأي لا
يمكن أن يكون تصوره تعليم الأطفال الإسلام وأحكامه تعسفاً لا بد من تخليصهم منه.
وعموماً جاءت البرامج الجديدة فارغة من كل محتوى، ضحلة في قيمتها
العلمية فمثلاً على ذلك في برامج الصف الثاني تقرر تدريس الصلاة فنجد أن نصف
الدروس المخصصة لهذا المبحث تتحدث عن جامع الزيتونة وتاريخ جامع الأزهر
وغيرها من المساجد، وليس المقصود من ذلك إبراز دور هذه المساجد التاريخي في
نشر الإسلام ودورها في نشر الإسلام ودورها العلمي المستمر عبر القرون؛ بل
القصد من إدراجها هو تهميش مبحث الصلاة حتى لا تتوفر فرصة حقيقية للتلميذ
ويتعلمها على أسس صحيحة، وهذا ما لاحظه جل الزملاء الأساتذة المدرسين لهذه
المادة.
قال الله تعالى: [وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الجِبَالُ] [إبراهيم 46] .
وبذلك يظهر أن تغيير برامج التربية الإسلامية أبرز مثال على الحرب المعلنة
من قبل الشرفي ومشروعه التغريبي على هوية الأمة الإسلامية وعقيدتها وقيمها.
قال الله تعالى: [ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ]
[المنافقون 8] .
__________
(*) نخالف الكاتب الفاضل في قوله: " قبل أن تحصل الردة وتسقط البلاد الخ " فنظام بن علي هو نظام بورقيبة، وما جرى من تغيير في أسلوب التعامل إنما هو تكتيك تقتضيه طبيعة (الاستلام والتسليم بين طاغية خبيث هرم إلى طاغية آخر شاب من زبانيته وتربى على عينيه، لذلك لم نفرح بتلك المبشرات السطحية التي قدم بها الجنرال بن علي بها نفسه هل هي التجربة الأولى في الانقلابات العسكرية في بلادنا؟ وهل نزل هذا الطاغية الصغير من المريخ؟ !
- التحرير -.(59/78)
مشاهدات في بلاد البخاري
د. يحيى اليحيى
كان هذا العام أول اختراق للسور الحديدي الذي فرضته الشيوعية على أهل
بلاد ما وراء النهر - الجمهوريات السوفيتية - الذين ظل حالهم مجهولاً لأكثر من
سبعين عاماً، ذاق المسلمون هناك ألواناً من البؤس والاضطهاد ومحاولة طمس
الهوية الإسلامية. وقد زرت تلك البلاد ببعثة من الجامعة الإسلامية وكان لي فيها
انطباعات ومشاهدات أحببت تسجيلها.
وسيكون محور الحديث حول النقاط التالية:
1 - عالم مجهول أرضاً وتاريخاً.
2 - الشيوعية وطمس الهوية الإسلامية.
3 - صمود المسلمين وتصديهم للإلحاد.
4 - مشاهدات تسر المسلمين.
5 - لنكن صورة طيبة للإسلام.
6 - إن كنتم تألمون فإنهم يألمون كما تألمون!
7 - عمن نأخذ أخبارهم.
8 - حاجة المسلمين هناك.
9 - وصية المسافر.
10 - عالم جهلناه أرضاً وتاريخاً:
ربط الإسلام بين أتباعه برباط وثيق، مبناه على التراحم والمحبة والتآلف
(فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت ... معاداته من أي صنف كان. قال تعالى: [إنَّمَا ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وهُمْ رَاكِعُونَ *ومَن يَتَوَلَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ] [المائدة 55] ) [1] .
قال ابن القيم: (المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه،
ومواساة بالبدن بالخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار
لهم، ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة. فكلما ضعف
الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت. وكان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب
اتباعهم له) [2] .
فحيثما كان هناك مسلم وجب على المسلمين أن يساعدوه وأن يذبوا عنه،
ولكن الناظر في حالة المسلمين اليوم يجد أن المستعمر قد نجح في زرع الفرقة بينهم، ووضع شعارات وروابط أخرى تسببت في تكتلات وطنية أو لغوية، أو غيرها،
حتى أصبح كثير من المسلمين لا يعنيه في قليل أو كثير ما يقع لإخوانه الذين في
خارج قطره، ويقول: مالي ولهم وما صلتي بأهل هذه البلاد أو تلك! فأين نحن
من قول الله تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات 10] ، وقوله [أَذِلَّةٍ عَلَى
المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ] [المائدة 54] ، وأين نحن من قول الله تعالى يصف
أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -[أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ] ... [الفتح 29] ، بل أين نحن من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم
للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وشبك بين أصابعه.
إن الكفار أمة واحدة يوالي بعضهم بعضاً، وإن المؤمنين إذا لم يتحدوا ويوالي
بعضهم بعضاً فسيحل الفساد الكبير والفتن العظيمة، [والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ] [الأنفال 73] . لو نظرنا إلى
حالتنا اليوم لوجدنا أننا لم نعط إخواننا حقهم بل - بالعبارة الصريحة - بخسناهم
جميع حقوقهم، حتى في الأمور الشكلية فلم تتسع صدورنا لهم ولا في الخرائط
الجغرافية، فقد وضعنا اسم المستعمر بدلاً من اسمهم، وإن شئت فارجع إلى
الخرائط الجغرافية الكبيرة أو الصغيرة فهل ستجد المدن الإسلامية، فضلاً عن
الدول الإسلامية في الاتحاد السوفييتي؟ لا، إنك ستجد بالخط العريض على تلك
القارة (الاتحاد السوفييتي) أما مناطق المسلمين، ودولهم، وأراضيهم، ومدنهم
التاريخية التي ينتمي إليها الكثير من علمائنا فلا تجد لها ذكراً في الخرائط، ولقد
تعبت كثيراً في الخرائط الجغرافية لعلي أحدد موقع مدينة بخارى، أو سمرقند، أو
نسا، أو خوجند، فلم أهتد لذلك، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الوصاية
التي فرضت على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في تعليمها وإعلامها.
وإذا كان الكثير يجهل مواقع المسلمين هناك؛ فما بالك بالتاريخ؟ ! فالجهل
به عام، ولذا فإني سأذكر نبذة عن تاريخ وجغرافية هذه البلاد.
لقد غزا المسلمون بلاد أذربيجان من هذه المنطقة في خلافة أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على يد حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، وفي سنة خمس وخمسين للهجرة عبر سعيد بن عثمان بن عفان - رضي الله
عنهما - نهر جيحون إلى بخارى فصالحه أهلها، ثم عبر إلى سمرقند فصالحه أهلها
أيضاً، ولكن لم تلبث إلا قليلاً حتى نقضت العهد بعد ذلك، ولم تخضع هذه الديار
للإسلام تماماً إلا في عهد الوليد بن عبد الملك، على يد القائد الشجاع (قتيبة بن
مسلم الباهلي) الذي أرسى قواعد الإسلام في بلاد ما وراء النهر، ما ... بين سنتي سبع وثمانين وأربع وتسعين للهجرة. ومن ذلك التاريخ أصبحت تلك البقاع دياراً إسلامية خاضعة بأكملها لدين الله -عز وجل-.
وفي القرن السابع الهجري دخل التتار الإسلام، فخضعت جميع مناطق ما
يسمى اليوم بالاتحاد السوفييتي، حتى موسكو نفسها قد بقيت في ظل الإسلام أكثر
من قرنين. وبعد سقوط القسطنطينية في يد المسلمين تحول النصارى إلى روسيا،
فدخل الروس في النصرانية وأصبحت معقلاً لهم، ثم قاموا بشن حروب شرسة
على المسلمين بقيادة إيفان الثالث، سنة خمس وثمانين وثمانمائة للهجرة حتى
سقطت موسكو، ثم جاء حفيده إيفان الرهيب فقام بإبادة للمسلمين حتى أباد مدناً
كاملة بأسرها، ثم بدأ الروس النصارى يزحفون على آسيا الوسطى فسقطت
(طاشقند) عاصمة أوزبكستان - حالياً - سنة 1282 هـ، ثم سقطت سمرقند سنة
1290 هـ، ثم سقطت بخارى بأيديهم سنة 1291 هـ، ثم سقطت عشق أباد
وبلاد التركمان.
ذاق المسلمون في تلك الفترة - تحت حكم القياصرة - أبشع ألوان الذل
والاضطهاد والاحتقار والابتزاز لأموالهم، ثم قامت الثورة البلشفية الشيوعية سنة
1917 م، فقام الشيوعيون بغزو بلاد المسلمين واحدة تلو الأخرى حتى سيطروا
على تلك البقاع كلها في أقل من عشرين عاماً.
ويقدر عدد سكان السوفييت بأكثر من 240 مليون نسمة، معظمهم من
النصارى أما نسبة المسلمين فقد اضطرب الكتاب عن النسب السكانية اضطراباً
كبيراً، وذلك الاضطراب راجع إلى انتمائهم، فمثلاً الأمم المتحدة والنصارى يرون
أن نسبة المسلمين لا تزيد عن 10%، بينما المسلمون يرون أنهم يزيدون على 30
% والوسط في ذلك - وهو الذي اتضح لكثير من زوار تلك البلاد - أن نسبة
المسلمين تصل إلى 25% فالمسلمون ما بين 60-80 مليون نسمة. هذا العدد
الهائل من المسلمين رزح تحت نير الشيوعية أكثر من سبعين عاماً، وهم في عزلة
تامة عن إخوانهم لا يعرفون عنهم شيئاً البتة، بل إنهم في عداد المجهولين، أين
نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو لأناس حبسوا في مكة -
يعدون على أصابع اليد الواحدة - ويَقنتُ لهم في صلاته سائلاً الله أن يفك أسرهم (اللهم أنج عياش بن ربيعة اللهم أنج الوليد بن الوليد) يتفقد النبي - صلى الله عليه ...
وسلم - شخصاً أو شخصين فينص عليهم بالدعاء، والذين أمامنا ليسوا ألفاً ولا
ألفين بل ملايين لا نعرف عنهم شيئاً، فضلاً عن أن ندعو لهم دعاء عاماً، فضلاً
عن أن نخصهم بالدعاء.
ونحن في عالم التجهيل المضروب على المسلمين عامة في بلاد الله كلها لا
نعلم أن عدد الجمهوريات والدول التي أكثريتها إسلامية، أو سابقاً كانت كلها
إسلامية تزيد على أربع عشرة جمهورية، ولو سألت واحدا منا ما هي؟ فالمثقف
يذكر لك واحدة أو اثنتين، لا أقول مدينة بل دولة كاملة.
كما أن للمسلمين وجوداً في البلاد النصرانية، مثل روسيا وأوكرانيا وجورجيا
وغيرها، حتى قيل: إن نسبة المسلمين فيها تقدر بـ 10%.
وهناك غير الجمهوريات الست المشهورة جمهوريات تقع جنوب غرب جبال
أورال، وهي بشكيريا وعاصمتها أوفا، وتتاريا وعاصمتها قازان، وقازان هذه
كانت عاصمة القطاع الذهبي الذي خضعت له موسكو للحكم الإسلامي أكثر من
قرنين، وأدمورت، وماريا، وجوفاش، وموردوف. أما شمال القوقاز فتقع فيه
أربع جمهوريات إسلامية وهي: داغستان وعاصمتها محج قلعة، الشوشان
والأنقوش وعاصمتها غروزني، قبرديا، قارتشاي، وهم الشراكسة. وهناك
جمهورية أذربجيان، وتقع وراء القوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود، ويزيد
سكانها على ستة ملايين، يمثل المسلمون فيها سبعين بالمائة 70%، ونسبة أهل
السنة فيها تزيد على 20%، وهذه نسبة طيبة وإن كان الرافضة يحاولون التقليل
من هذه النسبة والتجهيل بأهل السنة في تلك البلاد.
أما من ناحية الموارد فإن الأقاليم الإسلامية تملك أعظم الثروات والموارد فيما
يسمى سابقاً بالاتحاد السوفييتي، فعلى سيبل المثال: فإن 50% من نفط الاتحاد
السوفييتي يوجد في الأقاليم الإسلامية، كما يوجد فيها معادن اليورانيوم والفوسفات
والرصاص والقصدير، كما أن فيها ثروة كبيرة من القطن والصوف والحرير.
وقد كانت هذه الموارد كلها تسخر لخدمة الشيوعية، وتستغل لنشر الإلحاد
وضرب المسلمين داخل البلاد وخارجها، وما بلاد الأفغان عنا ببعيد.
ولذا أبدى الغربيون قلقهم إزاء استقلال الجمهوريات الإسلامية،، ويرى
المحللون أن الغرب لن يتهاون أبداً إزاء القوة الكامنة في الجمهوريات الإسلامية،
فقد حذر ساسته من مخاطر ما أسموه القنبلة الإسلامية في مواجهة القوميات الأخرى، فجمهورية كزخستان مثلاً تعتبر الدولة الثالثة من حيث امتلاك الأسلحة النووية،
إذ أنها تأتي بعد روسيا مباشرة، واستقلالها يعني أن العالم الإسلامي قد تمكن بالفعل
من امتلاك القنبلة النووية، ولهذا ثارت مخاوف الغرب فأبدت ألمانيا مثلاً على لسان
وزير خارجيتها بأن كزخستان تملك أسلحة نووية تفوق الأسلحة في كل من بريطانيا
وفرنسا، وإن احتفظت بهذه الترسانة من الأسلحة النووية ستصبح بذلك أول دولة
إسلامية نووية ولها القدرة على تطويرها.
2- الشيوعية ومسخ الهوية الإسلامية:
استخدمت الشيوعية جميع الوسائل والأساليب في محاولة طمس الهوية
الإسلامية وتحويل المسلمين إلى ملاحدة، فسلكت جميع الطرق وسخرت جميع
قواها في هذا الغرض، حتى ظن من لا يعرف ماهية هذا الدين بأنه لن يبقى في
هذه البلاد من يقول: الله، الله. ومن وسائلهم:
1- الاستيلاء على كافة المساجد وتحويلها إلى متاحف ومستودعات وملاعب
ومراقص وخمارات ومستشفيات الخ، - ولا أقول هذا نقلاً عن أحد بل وقوفاً عليها
- في تركستان وحدها تم إغلاق أكثر من ستة وعشرين ألف مسجد، وجرى تحويل
أكثر من سبعمائة مسجد في بلاد التتار، وخمسمائة مسجد في بلاد القفقاز إلى
مواخير وأندية وإسطبلات.
2- إغلاق جميع المدارس الإسلامية وفعلوا بها كما فعلوا بالمساجد، وكان
قبل الثورة في بلاد بخارى وحدها أكثر من ثلاثمائة وستين مدرسة، وقد فنيت تلك
المدارس ولم يبق فيها قائماً الآن سوى خمسين مدرسة، وقد جعلت متاحف ومسارح
وغير ذلك. وقد اطلعت بنفسي على مدارس في (خوارزم) وفي مدينة (خيوة)
ودخلت مدرسة كبيرة مكتوب على بابها (مدرسة محمد أمين خان) بنيت سنة ...
1275 هـ وبجانبها عدة مدارس، وللمدرسة منائر جميلة وقد كتب في مقدمة
المدرسة (قد أوصل الله تعالى اختتام بناء هذه المدرسة التي هي خير المدارس في
العالم سنة 1275 هـ بأمر سلطان الزمان الغازي محمد أمين بهادر) وهذه المدرسة
ذات بناء شامخ عجيب، وجمال يأخذ بالألباب، ولما دخلت بوابتها ما بين منارتين
وجدت عند الباب امرأة وراء مكتب فسألناها فقالت: هذا فندق، ثم دخلنا فرأينا
سلماً ينزل تحت الأرض فسألت عن ذلك، فقيل هذه خمارة، والموسيقى تضرب
بين جنباتها، ثم خرجت من المدرسة إلى مدرسة مجاورة فإذا فيها دار للسينما.
وهذه المدينة ما إن تدخلها إلا وتطالعك المدارس المشيدة ومنائرها العالية
الجميلة وهي تبكي أطلالها وعمارها وروادها.
3- إحراق وإغراق لجميع المصاحف والكتب، وقد حدثني الثقات أن
الشيوعيين جمعوا كأمثال الجبال من الكتب في بخارى وسمرقند وأحرقوها.
4- منع اقتناء أي مصحف أو كتاب، مما اضطر كثيراً من الناس إلى
إحراقها أو دفنها في الجدران، أو حفظها على خوف وقلق عظيمين، لأن من وجد
في حوزته كتاباً أو ما في حكمه مما يمت إلى العلم الشرعي أو اللغة العربية بصلة
فهو معرض للمحاسبة، ولهذا لا تكاد تجد الآن عند كثير من المسلمين اليوم
مصحف ولا كتاب بل لا تجد في مساجدهم ذلك أيضاً.
5- من وسائل الشيوعيين في طمس الهوية الإسلامية نشر وطباعة الكتب
الإلحادية والأدب الإلحادي.
6- تسهيل الانضمام إلى الحزب الشيوعي والتمتع بامتيازاته.
7- تزييف التاريخ الإسلامي الخاص بالمنطقة، فقد حاولوا تجهيل الأبناء
جميعاً في أن هذه البلاد تمت إلى الإسلام بصلة، وإن ذكروا فتوحات المسلمين
فإنهم يذكرونها على سبيل الغزو والسيطرة والاستعمار وإذلال شعوب المنطقة،
ولذلك كثيراً ما يوجد في شوارعهم رسوم وصور المكافحين الملاحدة الذين قاموا
بمكافحة الإسلام في القديم والحديث.
8- فرض اللغة الروسية ومحاربة الكتابة العربية، وهذا شامل لجميع نواحي
الحياة، فاللغة الروسية مفروضة رسمياً في المدارس والمعاملات وجميع الدوائر
الحكومية، حتى المزارع والمتاجر لأنها كلها تحت سيطرة الدولة فلا يمكن
التخاطب على الأقل كتابياً إلا بالروسية، حتى أصبح كثير من المسلمين لا يستطيع
أن يكتب بلغته الأصلية التي يتحدث بها.
9- منع النساء من الحجاب الشرعي، وقد أقيمت الاحتفالات الرسمية
الإلزامية لحرق الحجاب.
10- تسخير نساء المسلمين في الأعمال المهنية الشاقة، فحيثما توجهت نحو
أي مزرعة تجد نساء المسلمين يمسكن بالمساحي لحراثة أرض الدولة، أما الشوارع
فإن تنظيفها موكل إلى عجائز المسلمين.
11- تهجير الكفار إلى بلاد المسلمين، ليمتزجوا بهم وكذا العكس، ولذا تجد
الروس والكوريين وغيرهم قد سكنوا في أحياء المسلمين وقراهم، وكل هذا مبالغة
في طمس الهوية الإسلامية، فأصبحت تجد المسلم وبجواره الروسي النصراني أو
الملحد والكوري الوثني، فالبلاد التي جل سكانها مسلمون هجروا منهم إلى بلاد
النصارى ثم نقلوا من النصارى إليهم.
12- تهجير أقوام بأكملهم مثل مسلمي القرم، فقد قام ستالين بقتل عدد كبير
منهم بالجوع، ثم هجر ما يزيد على مائتى ألف إلى مناطق نائية في عربات الماشية
فمات أكثرهم في منتصف الطريق، ولم يبق في ديارهم واحد.
13- من مبالغة الشيوعية في طمس معالم الإسلام عند الناشئة تغيير أسماء
المسلمين، حيث تجد اسم المسلم المتعارف عليه عند أهله وأقاربه غير الاسم
الرسمي في الاثباتات الرسمية وهو الاسم المعتبر عند الدولة.
وضع أصنامهم في كل حي وشارع وناحية، فما تدخل شارعاً ولا محلة ولا
قرية إلا وتجد تمثال لينين أو غيره على منصة مرتفعة.
14- تسمية الأحياء والمدن والقرى والشوارع والمدارس وغير ذلك بأسماء
رموز الحزب، وهذا شامل لجميع المدن والقرى في طول البلاد وعرضها، فمثلاً
يقولون: قرية لينين، حي ماركس، شارع ستالين وكذا، فأصبح الطفل ينشأ لا
يعرف سوى لينين وستالين وماركس وغيرهم من دهاقنة الإلحاد [3] .
15- كتابة عبارات إلحادية عند نهاية المدن والقرى بدلاً مما نكتبه نحن
(تصحبكم السلامة أو الله يحفظكم) فيكتبون لينين معكم، لينين يحفظكم.
16- التعليم الإلحادي الإجباري لجميع الجنسين، ولمدة عشر سنوات، يتعلم
الطفل فيها إنكار الخالق وتفسير التاريخ تفسيراً مادياً، ثم تؤكد ذلك وسائل الإعلام
المقروءة والمسموعة والمرئية.
فالمسلم ملزم أن يدخل ولده وابنته المدرسة، ولمدة عشر سنوات، فيدخل
الولد وعمره ست سنوات ويتخرج وعمره ست عشرة سنة، فترة المراهقة كلها
يعيشها بين الشيوعيين، وبعد التخرج يختطف إلى سيبيريا للتجنيد الإجباري مدة
عامين، كل هذه المدة في يد الملاحدة ليس في يد أبيه وأمه، وإذا رجع إلى البيت
فلا مصحف ولا كتاب، إنما التلفزيون والمجلة التي تعلم الكفر والإلحاد فماذا
ستكون النتيجة؟ !
17- منع جميع شعائر الإسلام، فكل ما يخطر بالبال من شعائر هذا الدين
فاعلم أنه محظور في تلك الجمهوريات إبان الشيوعية.
18- تسخير برامج الإعلام كلها لغرس الإلحاد والكفر، فللتلفزيون في ثلاث
قنوات: قناتان تبثان من موسكو وقناة تبث من نفس الجمهورية، فالمسلم حيثما
وجه التلفزيون فهو بين هذه القنوات لا يتعداها.
19- الحظر على المسلمين من اتصالهم بالخارج، ومنع المسلمين في الخارج
من الاتصال بإخوانهم في الداخل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هذا السور
الحديدي الذي ضرب على المسلمين هناك شمل حتى الاستماع إلى القنوات الإذاعية
سوى الإذاعات المحلية، فلقد شاهدت جهاز الراديو في الفندق - وهو يمثل
الشيوعية في قمة تعصبها - وليس فيه الجزء الذي تبحث فيه عن المحطات، كما
هو عندنا، وإنما هو عبارة عن مفتاح واحد تضغط عليه المرة الأولى فتخرج لك
إذاعة موسكو، والثانية الإذاعة المحلية، فليس هناك مجال لأن تبحث عن محطة
أخرى.
وحتى بعد أن سمح بأجهزة الراديو المتطورة سلط التشويش على المحطات
الأخرى.
20- القضاء على العلماء والمشايخ، وقد حدثني أستاذ في طشقند أن أباه كان
يصلي بالناس ويعلمهم، فاطلعت عليه المخابرات - الكي. جي. بي - حين
خروجه لصلاة الفجر وبعد مساءلته وكان صريحاً معهم، فقدروا صراحته وقالوا:
سنخفف عنك العقوبة ونشفع لك عند مديرنا، وفعلاً خففت عنه العقوبة فأعطي
مسافة من الشارع يقوم بتنظيفها ورشها بالماء كل يوم قبل صلاة الفجر، يقول:
حتى أصيب والدي بالشلل من شدة البرد حيث كان عمره يناهز السبعين عاماً وهذا
عمله اليومي. هذه أخف عقوبة عند الشيوعيين لعلماء الإسلام ودعاته.
21- إجبار الطلاب على الإفطار في رمضان، ورغم هذه الحرب الشرسة
ضد الإسلام فقد كانت الشيوعية تخشى من بقاء بعض المسلمين على إسلامهم
وتمسكهم به، فحدثني أحد الثقات قائلاً: لما كنا ندرس في المدارس كان مدير
المدرسة في صباح كل يوم من رمضان يمر بنا، فيجبرنا على الشرب حتى في
الأيام الشاتية، وهذا الإجبار خاص بأولاد المسلمين.
22- إبادة المدن المحافظة على دينها مثل: مدينة خوقند في وادي فرغانة،
فقد أبيدت هذه المدينة مرتين: في عهد القياصرة وفي عهد الشيوعيين البلاشفة.
23- استخدام الإرهاب عن طريق المخابرات في التجسس على الناس في
بيوتهم، ووضع مراكز التفتيش عند مدخل كل مدينة وقرية، حتى إنه ليخيل إليك
- إذا قدمت إحدى القرى - أنك دخلت جمهورية أخرى فالفنادق مثلاً لا تقبلك نزيلاً
عندها وليس معك تأشيرة لدخول هذه المدينة أو القرية، ولقد دخلنا مدينة خوقند من
وادي فرعانة في ساعة متأخرة من الليل فقصدنا الفندق وأبرزنا له الجوازات فلم
يقبلنا، فقلنا له ولم؟ قال: ليس معكم تأشيرة لدخول المدينة. فقلنا أوليست من مدن
أزبكستان ونحن نحمل تأشيرة لدخول الدولة فلم يقبل.
فالمطلوب من الزائر أن يأخذ تأشيرة لجميع المدن والقرى! !
24- ربط الناس على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم بالدولة عن طريق
الاقتصاد الذي سيطروا على جميع وسائله وطرقه، حيث تسيطر الدولة على جميع
المزارع والمحلات التجارية، والمصانع، وسيارات النقل والأجرة، والعمائر
الكبيرة، وجميع الثروات. ولا يملك الناس سوى بيوتهم وسياراتهم الخاصة.
25- أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها حاولت الدولة أن تظهر للوفود
الرسمية التسامح، فأذنت بإقامة مسجد في كل ولاية لا يتسع لأكثر من خمسمائة
مصلٍ، ولكن لا يجوز أن يدخلها من عمره أقل من خمسين عاماً. وليت الأمر
انتهى عند ذلك! بل إن الدولة هي التي تعين الإمام ويشترط أن يكون من الحزب
أو من المخابرات، وعليه أن يكتب التقارير عن كل داخل إلى المسجد. وأنشأت
كذلك إدارات دينية تحت إشرافها، ومدرستين هما: مدرسة مير عرب في بخارى
ومعهد البخاري في طشقند، وكان المسؤولون عنها من فجار القوم، وقد حدثني من
درس في مدرسة مير عرب في بخارى أيام الشيوعية، أنه كان يدخل عليه المدرس
ولما يصح بعد من الخمر [4] .
حيال ذلك نشأت أجيال لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن حتى
رسمه، حيث تجد عدداً كبيراً من المسلمين لم يسبق له أن رأى المصحف. وبعد
هذا العرض المجمل عن خطط الشيوعية في طمس نور الإسلام من قلوب الناس،
حيث لا مصحف ولا كتاب، ولا عالم ولا داعية، ولا مسجد ولا مدرسة؛ هل نظن
أنه بقي في هذه الديار من يقول الله الله..؟ من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة؟ الجواب في الفقرة القادمة إن شاء الله.
«يتبع»
__________
(1) مجموع الفتاوى 128.
(2) الفوائد 222.
(3) هذه عادة الطغاة في كل زمن يريدون تخليد انفسهم وأسلافهم بإطلاق أسمائهم على الأماكن ومسح آثار من يخالفهم الرأي، ويعكر على تسلطهم. ... ... ... ... ...
- التحرير -
(4) هل يصف الكاتب ما كان عند السوفييت؛ أم ما هو جارٍٍ في كثير من البلاد العربية إلى اليوم؟ ! لا ندري. ... ... ... ... ... ... ... ... ...
- التحرير -.(59/86)
من الرجعية إلى الأصولية
(2)
محمد بن حامد الأحمري
طالب عربي مسلم يسكن في جلاسجو إحدى مدن الشمال البريطاني. ... وفي أول شهر له في المدينة، أدرك زوجته المخاضُ، واستدعى الممرضات من المستشفى، وحاولت إحداهن الحديث مع زوجته التي لم تكن تعرف الإنجليزية، وظنت أن الزوج لا يعرف اللغة الإنجليزية أيضاً. ثم ولد للمرأة ولد ورفعته إحداهن وقالت: (عدو جديد) ، نعم أصولي جديد يولد، مصنف منذ أول ثواني الميلاد عدواً لبريطانيا وليس فقط أصولياً، لقد كانت هذه الممرضة في وعي تام لقضية الإسلام والنصرانية والصراع العقائدي والتاريخي، كانت تعبر عن ثقافتها بصوت عال سموع لصاحبتها بلا تلكؤ ولا مجاملة ولا غبش في التصور كالذي يعانيه أكثر المسلمين اليوم، حيث يلوكون كلمات الأخوة الإنسانية والصداقة. إنها
كلمات للاستهلاك الإعلامي وملء أسماع الجهلة والأتباع في العالم الثالث فقط، أما هم فيدركون حقيقة الموقف تماماً، وتعرف الممرضة هذه السياسة الواقعية، وتعيش بها وليست مشغولة بصراخ الإعلام الاستهلاكي. إن المسلمين يحبون أن يسود العالم السلام لكن لماذا هم لا يفكرون به.
عندما قالت الممرضة ما قالت نهرها والد الطفل، وأنكر عليها هذا الموقف والعداء من الطفل الوليد، فاحمر وجهها وارتبكت جداً واعتذرت، ووصل الخبر لإدارة المستشفى واعتذر منهم أكثر من شخص. ولكن هذه الحقيقة تفرض نفسها بلا غطاء. وكأني بوالده يقول: يا بني لقد سبقوا الشيطان إليك قبل أن يغمزك منذراً بالصراع أبد الحياة، صراع الحق والباطل، هؤلاء سبقوا وليس بغمزة شيطانية لا نراها ولكن بكلمة واضحة لنا نحن الثلاثة فقط أنت لا تعي ما قالت هذه الممرضة، وأمك لا تفهم لغتهم، ولكن بقية حياتك - إن أعطاك الله العمر - ستكون شرحاً لما أجملته لك الممرضة.
وهذه بداية الطريق صريحة واضحة بلا تمويه، فهل يا ترى ستعيش حياتك بهذا الأسلوب، وهل تراك تفهم العالم الذي تعيش فيه؛ أم سيسلبونك عقلك، ثم تستميت في سبيلهم والدفاع عنهم وعن فكرهم وتقول عن والدك: أصولي متخلف، وأنت متحضر تفهم العالم ويفهمك. إن براءتك وطفولتك لم تشفع لك ولن تشفع لأمتك مجاملاتها الطويلة ووعيها المنقوص. وقبل أن أسمعك الأذان يا بني أسمعوك الموقف العدائي المشهود.
هذه مقدمة فرضت نفسها بين يدي الحديث عن كتاب: (التهديد الإسلامي أسطورة أم حقيقة) [1] . والذي يرى فيه كاتبه (جون أسبوسيتو) خطورة الانطباع الذي يسيطر على تصرفات السياسيين الغربيين تجاه الإسلام، إذ يختصرونه إلى أن الاسلام هو الخميني وصدام، وهم بنظر مفكريهم أصولية بروتستانتية حيث أن استعمال كلمة أصولية بمعناها التاريخي المركوز في الذاكرة الفكرية الأمريكية له أيضاً أبعاده من كراهية سيطرة المتدينين على الحياة الأمريكية وتحريمهم الخمور والتضييق على الناس [2] .
ويرى عدد من المفكرين عندهم أنه لا يمكن التعامل مع الإسلام بالإقناع الفكري والحوار الحضاري - كما حدث مع عديد من الشعوب والحضارات التي التقت مع الحضارات الغربية وذابت في الثقافة الغربية الجديدة - وهذا الإسلام المقاوم يثبت يوماً بعد الآخر أنه لا يمكن أن يتجاوب مع الديمقراطية والرأسمالية بسهولة، لأن موقف الأصولية شديد جداً تجاه الدول الغربية، وهم القطاع الرافض للغرب في العالم الإسلامي، لأن أعمق أذى أصاب كرامة الأمة المسلمة من الغربيين، (إن آخر فكرة مستوردة لقيت قبولاً بين المسلمين كانت العلمانية التي مثلتها القومية العربية في عهد عبد الناصر وأحزاب البعث في سوريا ولبنان والعراق، وكان عاقبتها هزيمة 1967 م) [3] .
ويقول أسبوستيو إن الديمقراطية التي يراد فرضها فرضاً يمكن أن تتحول إلى عنف أشد من عنف أي أصولية، فإن الأفكار الجميلة إذا أكره عليها الناس أو استخدمت بعنف وتدمير للآخرين حتى يتقبلوها؛ فلن يشفع لها الواقع العنيف أن توصف بالتقدمية والاعتدال، ولن يرحب بها أحد. كما أن الفيتناميين لم يروا في الأمريكان رسل ديمقراطية ولا دعاة للمساواة والحرية. إذ كيف تحررني بالقتل والتدمير وترغمني على الاقتناع بفكرة أخرى بالحروب والترويع والاستغلال؟ !
والمؤلف لا يرى أسلوب المواجهة بالقوة مع الأصولية هو الحل المناسب لما يحدث في العالم الإسلامي، بل - كعادة المستشرقين - يطالب بالإغواء والاحتواء والمداهنة وعدم الإثارة وألا يحكم الماضي في الحياة المعاصرة اليوم. وأيضاً فإن النماذج التي يطيب للساسة والمفكرين والإعلاميين الأمريكان استخدامها كنماذج للتطرف الإسلامي تغفل جماهير أخرى ودعوات وحركات إسلامية واسعة لا ترى في الغرب شراً كما ترى النماذج المقدمة على أنها هي العالم الإسلامي. ويدعو إلى دراسة الداخل، ودراسة الحركات الإسلامية وقادتها دون التسرع بأحكام لا تخدم المصلحة الغربية والإسلامية، والمؤلف له علاقات كثيرة مع بعض قيادات الأوساط
الإسلامية ويتحدث عن بعضهم عن سابق معرفة، وبخاصة أنه كانت له علاقة مع أستاذه إسماعيل الفاروقي في جامعة تمبل. ويرى خطاً معقولاً يمكن التفاهم معه والوصول إلى حلول وسط في القضايا التي يختلف فيها الإسلام عن النصرانية، ولا يرى أن تطرح القضية إلا بأسلوب الحديث عن التسامح البارز في الديانتين والدبلوماسية المدركة ليست استخدام الدين سياسياً في الغرب ولا في العالم الإسلامي.
وإذا تعامل المسلمون بهذا الأسلوب الحضاري الذي يراه صحيحاً، هل يعني هذا أن يتعامل معه الغربيون بنفس الأسلوب الذي يحكمه التعاون والتفاهم والحوار والتسامح بين الأديان؟ لا، لأن الواقع الذي يتحركون من خلاله الصليبية وتاريخها وحياة المواجهات الدائمة، ولعل الأنموذج الذي ذكره المؤلف في بداية الكتاب عن حوار متخيل يدور بين زعيم مسلم متدين وبين زعيم غربي، فيرون أن المسلم يتحدث من خلال الصراع الإسلامي النصراني والمواجهة التاريخية الدائرة إلى اليوم [4] واقتسام العالم بين المسلمين والنصارى ولا يملك خياله الخروج من هذه الخيالات. والذي يؤيد ذلك في ذاكرة الانسان المسلم الحوادث المتتالية إلى اليوم.
وبمقدار ما يدل على رسوخ هذا التخيل عند المسلمين فإنه يدل أيضاً على رسوخه أكثر عندهم.
ويرى أن محاولة الوقوف موقفاً معتدلاً مما يحدث في البلدان التي دمرت فيها المشاريع الديمقراطية يجعل الشعوب المسلمة تتجاوب مع الغرب، ولكن الدعم الحكومي الغربي للنظام الجزائري والتونسي اللذين صادرا البدايات الديمقراطية [5] تؤكدان عداء الغرب للديمقراطية في العالم الإسلامي. في الوقت الذي تدمر الشعوب المسلمة بحجة إيجاد حياة ديمقراطية فيها. وذلك نفاق ينعكس أثره على رأي المسلمين في قضية حرياتهم وموقف الغرب منها.
وكما يحلم البعض - كما يقول المؤلف - بإيجاد نظام دولي، فإن ملايين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا يحلمون أيضاً بالحرية السياسية والديمقراطية. ولهذا يرى أنه يجب اعتبار هذه الملايين تحدياً لا تهديداً، وحركة الإحياء الإسلامي في جوانب منها حركة اجتماعية تبحث عن إيجاد المجتمع الإسلامي الأصيل وليست القضية قضية دولة إسلامية عند البعض، والبعض الآخر يرى أنه لا يوجد المجتمع الإسلامي إلا بالدولة الإسلامية، وعلى أي حال فكلا الاتجاهين ليسا بالضرورة ضد الغرب وضد أمريكا. ويرى أنهم دعاة لإصلاح الأوضاع في بلدانهم وليسوا ضد المصالح الأمريكية، وأنه لا بد لهم أن يفهموا بشكل أفضل، وألا يحاكمهم الغرب إلى خيالاته عنهم، بل بإمكان الغرب أن يفهمهم وهم يتطلعون إلى الغرب ليحقق لهم الكثير من آمالهم. وهذه فرصة خيالية للغرب في التعامل معهم وهم يقدمون على تحديد طريقهم في المستقبل [6] ؛ وبالتالي للتأثير في مستقبل الإسلاميين عن صداقة لا عن عداء.
وآراء المؤلف في خلاصته السابقة لكتابه كآراء سابقيه المحترفين والذين ما فتئوا يرون المراوغة والإغواء. وفي نفس الوقت يمارسون أسلوب المنفذ للحل العسكري المباشر ويتولون الإرشاد في مجاهل العالم الإسلامي عند حاجة الجيوش الغربية إلى ذلك، كما سبق مراراً لا تحصى من قبل المستشرقين من قديم. ولا نحاكم نية المؤلف وهو الذي يذرع الولايات المتحدة متحدثاً في كل ناد عن العالم الإسلامي الذي يمكن وعيه وإدراك هويته ويُدل عليهم بمعرفته وجهلهم. ولكن ما هو الواقع الذي جرى تاريخاً بالأمس ويجري اليوم سياسة.
إن ذوي القرار لا يقفون عند فذلكة الكتاب والأدباء، ولا عند المثقفين الذين يغلب عليهم الجبن - كما يرون هم - ولكن (القادة) يأخذون الأمر بأيديهم ويختارون القناعة التاريخية العميقة: (الحرب) هي الحل مع العالم الإسلامي الذي قويه لا يعقل، وغنيه لا يعي، وفقيرة لا يعمل، وقدرته مهاجرة أو معزولة عن التيار اليومي.
ولهذا فتدمير القوي المجنون، وتجهيل الغني وسلب وعيه، وإذلال الفقير، وتأكيد الهيمنة على الجميع، وتأسيس الفرقة والتنازع والوطنية والقبلية؛ هذه أنجع الحلول وليس ما يراه المستشرقون الجدد.
ما يحدث اليوم في طول العالم الإسلامي وعرضه هو الموقف العملي من الأصولية قبل حدوثها، فإن الفقر والجهل والمجاعة والصراع القبلي والحكم الفاسد لأمثال بري كل ذلك يدعو للبحث عن حل؛ وقد كان للدعوة الإسلامية السبق المباشر في هذا، فأقبل الناس على الاتحاد الإسلامي الصومالي وبدأ بالسيطرة على بعض المناطق. وهنا هبت القوى الغربية للحد من خطر الإسلام في الصومال الذي يهدد القرن الأفريقي كله وربما استطاع الاتصال بمناطق أخرى في أفريقيا فيشكل معها قوة إسلامية مخيفة في المستقبل.. وهذا يعوق ما خطط له مركز كارتر في القرن الأفريقي وما يأملون من مستقبل حاسم لأثيوبيا، وعادت أحلام الاستعمار
القديم ونصارى البرتغال الذين قضوا - كما يرون - على الإسلام في الأندلس، وكانت الرحلة حول إفريقيا وسموا عملهم هذا طريق الرجاء الصالح للهيمنة على الإسلام من المشرق، كما دحروه في الأندلس غرباً. واليوم استعادوا نفس الاسم في الصومال عملية (إعادة الرجاء الصالح) ولا يعلم أحد أين سيقف إحياء الرجاء الصالح الذي قد لا يقف عند حد الصومال، فربما يرون ضرورة البحث عن إنشاء مناطق آمنة للنصارى في البلدان الإسلامية (القريبة) أو القضاء على الأصولية المنتشرة في أفريقيا التي يرونها قارة المستقبل للنصرانية، وليس للإسلام فيها حق. وعشرات الألوف تذهب بأحدث الأسلحة إلى الصومال لمكافحة المجاعة، هل هذه الأعداد والعدة تدفع المجاعة أم تصنعها، ومتى كانت القواعد العسكرية بحرية وبرية والاحتلال يقاوم المجاعة. وقد كانت هيئة الأمم المتحدة تعوق وصول الغذاء والدواء من قبل كما قال مبعوثها الرسمى (سحنون) .
والغريب في تعاملهم مع الصومال أنهم بادروا إلى خطر محتمل لا واقع مشاهد، وذلك لأنهم تعودوا أن يسددوا الصفعة الأولى على حين غرة، ولا يكاد عدوهم يدرك مصدر الصفعة حتى تأتيه الثانية على الجانب الآخر دون إمهال.
يرفعون شعار التهديد بالأصولية والتخويف من الإسلام، ويرفعون شعار حماية حقوق الإنسان، وها هم يقتلعون شعباً بكامله في أوربا من أرضه ودياره، لا لذنب جناه، سوى أنه يدين بالإسلام. بحجة أنه سيكون في المستقبل بؤرة للأصولية وتهديداً لأوربا. وكذلك ما نراه من سلبيتهم أمام إسرائيل في تعاملها الشرس مع هذه الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين الذين تقتلعهم من أرضهم ومن بين أظهر عائلاتهم وأطفالهم، وتلقي بهم تحت الثلج والمطر. ويتفرج العالم المتحضر على مأساتهم، ويشاهد غطرسة إسرائيل وعنهجيتها التي لا يقف في وجهها أحد: لا مسلمون، ولا غيرهم، ولا هيئة أمم، ولا نظام عالمي جديد، ولا دعاة حقوق إنسان.
آن لنا أن نعرف خداع العبارات ونفاق الدعاية السياسية حيث السر ضد العلن. وشعار الأصولية والتخويف منها يبطن الحرب على الشعوب المسلمة والقضاء على قوتها وعزتها واستقلالها. التخويف والترويع الذي يهزون به قلوب الحكام والمحكومين في عالمنا الإسلامي الواسع من خطر الأصولية والذي لا يقصد منه إلا إخفاء الأخطار الحقيقية الآتية من قبلهم هم أنفسهم. ليس أخطر على الأمم من عدو يأتيها بصورة منقذ حريص غيور عليها، وليس همه إلا مزيداً من الإضعاف والإنهاك حتى تكون لقمة سائغة له.
__________
(1) Esposito The Islamic Threat J، مطابع جامعة اكسفورد، نيويورك، 1992.
(2) علماً أن الولايات المتحدة وقعت تحت أيدي المتطرفين اليمينيين منذ عهد كارتر إلى نهاية عهد بوش ولن يذهب الرئيس الجديد بعيداً عن سياسة سابقيه فيما يبدو.
(3) فوكوياما، نهاية التاريخ، فري برس، 1992، نيويورك، ص 236- 237.
(4) ص 6.
(5) ص 211-212.
(6) ص 212.(59/98)
منتدى القراء
الصحوة الإسلامية والتمكين
محمد الخريف
إن أي كيان أو دعوة أو تنظيم يستمد قوته الأساسية الدافعة إلى التمكين
والاستخلاف من العقيدة أو المبدأ الذي يقوم على أساسه ويتبناه ويدعو إليه، فكلما
كانت هذه العقيدة واضحة قريبة من فطرة الناس وإدراكهم العقلي؛ كلما كان ذلك
كفيلاً بتوفير عوامل النجاح والتقدم لها، وجعل الناس يستقبلونها بالقبول والاتباع
عن قناعة راسخة يبذلون في سبيلها الغالي والنفيس، وهذا لا يوجد إلا في العقيدة
الإسلامية المنزلة من لديه ربنا -سبحانه وتعالى-، فهي الدين الوحيد الباقي على
وجه الأرض السالم من التحريف بحفظ الله له، وهذا هو سر رسوخه وانتشاره رغم
الحرب الضروس الموجهة إليه من قبل أعدائه، وتخاذل أتباعه عن نصرته
والالتزام بتعاليمه.
ومتى ما خالط الإيمان بهذه القضية سويداء القلوب وخامر التصديق بها مخ
العقول، فإن ذلك يمثل مصدر قوة عظيمة ودفع ذاتي للدعوة الإسلامية في مواجهة
التحديات وتجاوز العقبات والعوائق، في سبيل التمكين لهذا الدين في أرض الله.
إلا أن سنة الله الماضية تقتضي بذل الأسباب، وعدم الركون إلى القوة الذاتية لهذا
الدين فحسب، بل جعلها مصدر دفع مهم إلى الأمام يعوض ويكمل جوانب القصور، ولو كان الأمر خلاف ذلك - حسبما يتصور الخرافيون والصوفيون - لما شرع
الجهاد الذي تتطاير فيه الرؤوس وتسيل الدماء لإعلاء كلمة الله، ومن هذا المنطلق
يجدر بالقائمين على قيادة ركب الصحوة الإسلامية أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن لا
تشغلهم بُنَيَّات الطريق عن أمور الدعوة الجسام، ورعاية هذا الكيان والعمل على
توفير مصادر القوة له، فالله قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، ودعوتنا كلها
جهاد لكن على مراحل تقتضيها المصلحة إلي أن ترقى إلى مرتبة الجهاد بالسنان
وبذل الدم، فإن القوة المادية كما قيل هي عصب الحياة الدنيا وقوامها، والضعيف
فيها على مر العصور مقهور مسحوق لا يحسب له حساب إلا في ظل شرع الله
حين يحكم، ولسنا بهذا نطلب بجعل الدعوة شركة تجارية! لكنه الاعتماد على
الذات بموارد ثابتة وهذا من القوة التي أمرنا الله بإعدادها لمواجهة الأعداء ونشر
الدين، والاستغناء عن مد يد الاستجداء، مما يوفر للدعوة حرية التحرك، واتخاذ
القرار دون ضغوط كابحة للنشاط، إضافة، ما توفره القوة المادية للدعوة من ثقل
سياسي واجتماعي هي بأمس الحاجة إليه، وقريباً منك أخي الكريم، مثلاً حياً
المنظمات الصهيونية والنصرانية في العالم وما تملكه من إمكانات ضخمة وفرت لها
نوعاً من السيطرة على محاور ثلاثة مهمة هي (المال والتقنية والإعلام) حتى
أصبحت ذات نفوذ مؤثر في مجرى الأحداث والقرارات السياسية الداخلية
والخارجية للدول التي تعمل بها، إضافة إلى نشاطاتها وبرامجها الهائلة، حتى
وصفت بالدول الخفية لعظم قوتها ونفوذها.
ولم يكن ليحصل لها هذا النفوذ والتمكن رغم فساد المنهج والانقطاع من حبل
الله. لولا ما تملكه من إمكانات وتنظيم عملي، يبعث الحسرة في قلب المسلم الغيور
لما يرى من حال الدعوة والأمة.
فحري بنا - ونحن حاملو الرسالة السماوية الخالدة - أن نأخذ بكافة الأسباب
المشروعة في ديننا، وأن الدعوة الإسلامية بوضعها الراهن بعيدة عن اتباع هذا
المنهج بشكل جاد، فهي فقيرة بالموارد الثابتة تعتمد على تبرعات الأخيار المتذبذبة، بشكل يفقدها القدرة على وضع الموازنة والتخطيط للبرامج المستقبلية، إضافة لما
تعانيه من ضعف البناء التنظيمي الذي يوحد الجهود ويستغل الطاقات، لاعتمادها
على الجهود الفردية المبعثرة - باستثناء بعض الجمعيات الخيرية ذات الطابع
الإغاثي - وهذا يكشف الحاجة الملحة لإجراء الدراسات والبحوث العلمية لتقويم
نشاط الدعوة وإيجاد البرامج والخطط المناسبة لتوجيه الأعمال وتقسيمها إلى كيانات
متنوعة النشاط ذات شكل مؤسساتي، يجري التنسيق بين أعمالها عبر القيادة
الشرعية العليا. صحيح أن الدعوة محاصرة ومقطوع عنها كل الموارد الرسمية في
الجملة، ولا يتوفر لها ولا إمكانات نادي رياضي ينمي العضلات!
لكن لا ينبغي الاستسلام للواقع، وأبواب الفتح واسعة بعون الله. على أن لا
يغيب عن بالنا ونحن نبذل الجهد وتقدم الأسباب أن نتشبث بعنصر مهم ألا وهو
التوكل على الله والثقة بنصره وتأييده وعدم الانقطاع عنه بأسبابنا الضعيفة لكي
نجمع بين الحسنيين التوكل والعمل كما أمرنا الله سبحانه في سبيل تحقيق الهدف
العظيم ألا وهو التمكين للأمة الإسلامية وإعادة العزة والريادة المسلوبة منها، بعد
هذا الضعف والهوان الذي طال ظلامه وادلهم غسقه، ونكاد نلمح فجراً وضاء يلوح
في الأفق بعد أن أوشك هذا الظلام على العسعسة، ليسطع نور الإيمان كي يعم
الأرض بالعدل والقسط بعدما ملئت ظلماً وجوراً، [واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] والله أعلم.(59/105)
الصفحة الأخيرة
قارة العنف والتعصب
محمد الحسيني
ألمانيا أكثر حواضر أوربا تقنية ومدنية يلفها الرعب العنصري، ويحيط بها
الخوف من النازية الجديدة، من شباب لم يعرفوا من النازية إلا شعار: (ألمانيا
فوق الجميع) وطريقة هتلر في تحية الجماهير. ولم يشهد أحد منهم مقتل عشرات ...
الملايين في الحرب العالمية الثانية ذهبوا ضحية الفكر العنصري من الألمان ...
وغيرهم. تعود اليوم النازية، وتتجه نحو المسلمين الأتراك وغيرهم من الجاليات
التي تعيش في ألمانيا، وقد تجاوزت الحوادث في أقل من عام ألفي حادثة عنف قتل
فيها سبعة عشر شخصاً منهم عائلة تركية. ويخيم رعب النازية الجديدة على الألمان، مما دعا المناوئين برئاسة رئيس الجمهورية إلى المشاركة في المظاهرات ضدهم.
ويرى المراقبون أن أوربا التي تحاول الوحدة يتهددها خطر العنصرية الذي
قامت من أجله له مدراس وكتب وأفكار خالدة في ثقافتهم، حيث يسود القارة
الأوربية الحقد العنصري اللاهب والكراهة المتبادلة. والحروب العنصرية والقومية
هي روح تاريخ أوربا، فحرب المئة عام وحرب الأربعين عام، والحرب العالمية
الأولى والثانية كلها كان ميدانها أوربا، وأكثر الشرور العنصرية في العالم مصدرها
من هناك، فهل تستطيع هذه الدول إيقاف هذا الخطر القادم؟ وهل تستطيع
الديمقراطية الألمانية إيقاف ذلك؟ وهي التي جاءت بهتلر على أعناق الجماهير
العاطلة التي رأته منقذها من البطالة، فأوجد للعاطلين العمل، وأخذهم إلى مصانع
الأسلحة ثم إلى الجندية ثم إلى القبور.
بقي أن نعلم - أن وقوع أوربا تحت طائلة الحروب والأحقاد لا تعني دعوة
الكسالى والسلبيين الممزقين إلى سيادة العالم، وأن حركة العالم من حولنا لا تتأثر
بالجموع الجاهلة الغافلة التي لا تعمل لقضية، ولا يحركها دين، ولا تطمع في حياة
عزيزة، ولا في جنة عرضها السموات والأرض، إذ الحقوق لا تهدى، والصراع
والمدافعة سنة دائمة من سنن الله في الارض.(59/108)
شعبان - 1413هـ
فبراير - 1993م
(السنة: 7)(60/)
كلمة صغيرة
أحداث صغيرة ومتتابعة تلك التي يشهدها المسلمون في هذه الأيام، ومجلة
ثقافية شهرية مثل (البيان) لابد أن تركز على أحداث معينة تجتهد في إبرازها وتجليتها للقارئ لتتضح أبعادها ومرامي السياسة العالمية حولها، وللمسلم المثقف رؤية تخالف الصحفي الذي همّه الإثارة، أو الذي يوجه الحدث كما يريد، ومن هذا المنطلق تابعنا في هذا العدد أحداث المبعدين عن أهلهم وديارهم في فلسطين المحتلة،
وأحداث طاجكستان الأخيرة، وما تقوله الصحف الغربية عن مأساة البوسنة التي فاقت كل المآسي، والتي تجسد فيها الحقد الصليبي واضحاً.
المحرر(60/1)
الافتتاحية
السياسة العليا
رئيس التحرير
عندما بدأ الغرب مشروعه الاستعماري لإحكام السيطرة على العالم الإسلامي،
وشد أنشوطة الحبل حول عنقه - كما عبر توينبي - كان قد مهد لهذا بأخبث
الأساليب وأمكرها. وهي تغيير عقل المسلم وإزاحة الثقافة الإسلامية، ووضع
المناهج المناسبة، وتأسيس المدارس والجامعات فنشأت أجيال مهزومة من الداخل،
مهزوزة الشخصية، كانت وما زالت دماراً ووبالاً على الأمة.
جاء في مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية: (إن المدارس التي أنشأها ...
المبشرون في الآستانة وغيرها من البلاد العثمانية، قد كان تأثيرها في حل المسألة
الشرقية أعظم من عمل جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين) [1] ، وقال
اللورد سالسبوري: (إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار، فهي ...
تحدث في البلاد التي تنشأ فيها انقساماً وتفريقاً بين أهلها، يفقدون بها وحدتهم، ...
فيكونون عوناً للمستعمر على أنفسهم) [2] .
إذا كان الغرب قد اتخذ التعليم والمناهج منطلقاً له في مشروعه الاستعماري،
فلماذا لا يبدأ المسلمون رحلة العودة والتجديد، ورحلة البناء والقوة من هذا المنطلق، وعندما نتكلم عن المناهج، فلا نعني المناهج المقررة في المدارس فقط، فهذه قد
يكون من الصعوبة تغييرها أحياناً، وإنما نعني المناهج العلمية التربوية بشكل عام.
فمثل هذه إذا خرجت للوجود فسوف تستفيد منها المدارس الخاصة، والأسرة
المسلمة، والمسجد والمركز الإسلامي. هذه الأعمال من البديهيات إذا أمعنا النظر
فيها، وهي لا تكلف المسلمين عناء ومشقة، إذا قيست بما يجب عليهم من الأعمال
الكبيرة، ولكننا مع الأسف لم نقم بها، لأن مرض السهولة، والبقاء في دائرة
العموميات جعلنا نستصعب مثل هذه الأمور، والأمثلة كثيرة: (السيرة النبوية،
العقيدة الإسلامية، اللغة العربية) ، هل وضعنا المناهج المناسبة للأطفال، وللناشئة، ... وللشباب، وبأسلوب بسيط وشيق، يتناسب مع أعمارهم وعقولهم وثقافتهم، أم أن
مرض السهولة جعلنا نختار أي كتاب لنقرره منهجاً، وقد يكون الكتاب جيداً ولكنه
لا يتناسب مع عمر الطفل وثقافته.
ثم نأتي إلى المدارس الإسلامية، والمعاهد التربوية، والتي عليها مدار
تخريج أجيال لا تحمل بين جوانحها أمراض التخلف والتبعية، تنشأ إنشاء على
حب هذا الدين وعلى الاستقلالية والثقة بالنفس، هذه المدارس كان لها بدايات في
منتصف هذا القرن ولكنها لم تكن قوية بالدرجة الكافية ثم عادت إلى الظهور هنا
وهناك، ولكنها ما زالت تحبو وهي في نقص كبير في المناهج والمربين، ومن
جهة أخرى فإن هذه المدارس وخاصة في أفريقيا وآسيا قليلة تغالبها مدراس التبشير
أو التي هي شبيهة بالتبشير، وإن أصقاعاً بعيدة مثل بلاد أوزبكستان وبقية تلك
الجمهوريات، لهي بأشد الحاجة إلى مدارس تعيد الأجيال إلى إسلامها، وتخرج
شباباً معافى من أمراض المجتمعات التي يعيشونها، أكثر من حاجتهم إلى أموال
توزع عليهم. وحاجتهم إلى الدعاة الذين يعلمونهم مثل حاجتهم إلى المدارس وكذلك
استثمار الأموال في الزراعة والصناعة، وقد سبقتنا (إسرائيل) إلى تلك المناطق
كما جاء في مقابلة مع (ديفيد كيمحي) حين قال: (لنا مصالح أكبر واهتمامات
أعظم في إقامة علاقات مع الجمهوريات الإسلامية، ونحن نشعر أنه بوسعنا أن نقدم
لهم المساعدة الاقتصادية) [3] ، يجب أن نبدأ بهذه الأعمال بعيداً عن التمزق
والتشنج الذي يجتاح العالم الإسلامي، وبعيداً عن المكر والإبعاد الذي يمارس على
شخصية المسلم الثقافية.
إن العمل الهادئ القوي هو إعداد المناهج وإنشاء المدارس والجامعات، ولقد
استبشرنا بإنشاء أول مدرسة ومركز إسلامي في دولة ألبانيا، الخارجة للتو من
جحيم الشيوعية، ونقول لأصحاب الهمّ الإسلامي ولأصحاب العقول التي تخطط
لمستقبل، هذه هي (السياسة العليا) .
__________
(1) عدد نوفمبر 1911 م.
(2) مجلة المنار المجلد 21/274.
(3) الوسط 4/ 1 /1993.(60/4)
في إشراقة آية
[إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً]
د. عبد الكريم بكار
في هذه الآية خير عظيم، إذ فيها البشارة لأهل الإيمان بأن للكرب نهاية مهما
طال أمده، وأن الظلمة تحمل في أحشائها الفجر المنتظر. وتلك الحالة من التعاقب
بين الأطوار والأوضاع المختلفة تنسجم مع الأحوال النفسية والمادية لبني البشر
والتي تتأرجح بين النجاح والانكسار والإقبال والإدبار، كما تنسجم مع صنوف
الابتلاء الذي هو شرعة الحياة وميسمها العام. وقد بثت هذه الآية الأمل في نفوس
الصحابة - رضوان الله عليهم- حيث رأوا في تكرارها توكيداً لوعود الله - عز
وجل - بتحسن الأحوال، فقال ابن مسعود: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر
حتى يدخل عليه. وذكر بعض أهل اللغة أن (العسر) معرّف بأل، و (يسراً) منكر، وأن العرب إذا أعادت ذكر المعرفة كانت عين الأولى، وإذا أعادت النكرة فكانت
الثانية غير الأولى [1] . وخرجوا على هذا قول ابن عباس: لن يغلب عسر
يسرين [2] .
وفي الآية إشارة بديعة إلى اجتنان الفرج في الشدة والكربة مع أن الظاهر أن
الرخاء لا يزامن الشدة، وإنما يعقبها، وذلك لتطمين ذوي العسرة وتبشيرهم بقرب
انجلاء الكرب.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الاستبشار بهذه الآية حيث يرى المسلمون
الكثير من صنوف الإحباطات والهزائم وألوان القهر والنكد؛ مما أدى إلى سيادة
روح - التشاؤم واليأس، وصار الكثيرون يشعرون بانقطاع الحيلة والاستسلام
للظروف والمتغيرات. وأفرز هذا الوضع مقولات يمكن أن نسميها بـ (أدبيات
الطريق المسدود) ! هذه الأدبيات تتمثل بالشكوى الدائبة من كل شيء، من خذلان
الأصدقاء، ومن تآمر الأعداء، من تركة الآباء والأجداد، ومن تصرفات الأبناء
والأحفاد!
وهؤلاء المتأزمون يسلطون أشعة النقد دائماً نحو الخارج؛ فهم في ذات
أنفسهم على مايرام، وغيرهم هو الذي يفعل كل ما يحدث لهم! وإذا رأوا من يتجه
إلى الصيغ العملية بعيداً عن الرسم في الفراغ أطفؤوا حماسته بالقول: لن يدعوك
تعلم، ولن يدعوك تربي، ولن يدعوك تمسي عملاقاً، ولن يدعوك ...
وكل ذلك يفضي إلى متحارجة (كذا) تنطق بالصيرورة إلى العطالة والبطالة،
إلى أن يأتي المهدي، فيكونون من أنصاره أو يحدث الله - تعالى - لهم من أمره
فرجاً ومخرجاً!
ولعلنا نلخص الأسباب الدافعة إلى تلك الحالة البائسة فيما يلي:
1- التربية الخاصة الأولى التي يخضع لها الفرد:
وتلك التربية قد تقوم ببث روح التشاؤم واليأس من صلاح الزمان وأهله، كما
تقوم ببث نوع من العداء بينه وبين البيئة التي ينتمي إليها فإذا ما قطع أسبابه بها
وانعزل شعورياً بحث عن نوع من الانتماء الخاص إلى أسرة أو بلدة أو جماعة حتى
ينفي عنه الشعور بالاغتراب. لكن يكتشف أن ما كان يعتقد فيه المثالية، ويتشوق
إلى تحقيق أماله من خلاله لا يختلف عن غيره كثيراً، مما يورثه الإحباط واليأس
حيث يفقد الثقة بكل ما حوله وتكون النتيجة البرم والتأفف من كل شيء وردود
الأفعال السلبية تجاه التحديات المختلفة.
2- التعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة:
يميل أكثر الناس إلى النظرة التبسيطية التي لا ترى لكل ظاهرة إلا سبباً
واحداً، ولا ترى في تركيبها إلا عنصراً واحداً. وهذه النظرة الخاطئة تفضي إلى
معضلة منهجية كبرى، هي عدم القدرة على تقسيم المشكلة موضع المعاناة إلى
أجزاء رئيسية وأخرى ثانوية، كما تؤدي إلى عدم القدرة على إدراك علاقات
السيطرة في الظاهرة الواحدة، وعدم القدرة بالتالي على تغييرها أو تبديل مواقعها.
والنتيجة النهائية هي الوقوف مشدوهين أمام مشكلة متكلسة مستبهمة لا نرى لها
بداية ولا نهاية، والمحصلة النهائية هي الاستسلام للضغوط وانتظار المفاجآت، مع
أننا لو باشرنا العمل الممكن اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكنا غداً.
3- عدم الانتباه للعوامل الداخلية للمشكلة:
يندر أن نرى اليوم ظاهرة كبرى لا تخضع في وجودها واشتدادها واتجاهها
لعدد من العوامل الداخلية والخارجية، ويظل العامل الخارجي محدود التأثير ما لم
يستطع إزاحة أحد العوامل الداخلية والحلول محله. ونستطيع أن نطبق ذلك على
أية مشكلة كبرى نواجهها اليوم. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة الباهرة
حين قال: [وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] [آل عمران 120] .
والذي يحدث أننا كثيراً ما نبصر المؤثرات الخارجية - وهي مؤثرات قاهرة حقاً -
ونغض الطرف عن العوامل الداخلية؛ فنحن مثلاً لا نملك إقناع الأعداء بأن يخففوا
من غلوائهم في عدائنا، كما لا يملك بنو البشر جميعاً أن يمنعوا الثلوج من التساقط؛ لكن الذي نستطيعه هو تقوية أنفسنا حتى لا نكون لقمة سائغة، كما يفعل الناس
في مواجهة ظروف المناخ. لكن المشكلة أن أصعب أنواع المواجهات هي مواجهة
الذات، وأن أرقى أنواع الاكتشاف هي اكتشاف الذات!
4- عدم إدراك حركة الجدل بين الأحوال:
تتعاقب الأحوال كما يتعاقب الليل والنهار، وما بعد رأس القمة إلا السفح وما
بعد السفح إلا القاع. وإن دفع أية قضية إلى حدودها القصوى سيؤدي في النهاية
إلى كسر ثورتها أو إنهائها بصورة تامة. وحين تصل تجربة أو نظرية أو منهج
إلى طريق مسدود فإن الناس لن يتلبثوا إلا قليلاً حتى يجدوا المخرج الذي قد يكون
مناسباً، وقد لا يكون.
وهنا يأتي دور الثلاثي النكد من الأذكياء والعملاء والبلهاء الذين يحاولون -
على اختلاف القصود - عدم وصول أي مشكلة إلى مرحلة الانفجار حتى تظل
مستمرة إلى ما لا نهاية! والمشكلات في عالمنا الإسلامي لم تدم تلك القرون
المتطاولة إلا نتيجة الهندسة الإخراجية لذلك الثلاثي! ! وهنا يأتي أيضاً دور
المفكرين الذين يمتلكون رؤية نقدية شاملة ينقلون من خلالها مشكلات مجتمعاتهم إلى
حس الناس وأعصابهم حتى لا يتكيف الناس معها سلبياً، وحتى يتاح بالتالي
تجاوزها.
[فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً] ، وإن النصر مع الصبر وإن
الفرج مع الكرب، وإن في رحم كل ضائقة أجنة انفراجها ومفتاح حلها، وإن
لجميع ما نعانيه من أزمات حلولاً مناسبة إذا ما توفر لها عقل المهندس ومبضع
الجراح وحرقة الوالدة.. وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/488.
(2) السابق , وبعض المحدثين يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.(60/7)
من نور النبوة
فوائد من حديث رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-
ستر الجعيد
الحديث:
روى مسلم عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد - شك الأعمش - قال: (لما
كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا
نواضحنا فأكلنا وأدهنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افعلوا.
قال: فجاء عمر، فقال: يا رسول الله إن فعلت قلّ الظهر، ولكن ادعهم
بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم،
قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء
الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال: فدعا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم، قال: فأخذوا في
أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا
وفضلت فضلة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أشهد أن لا إله إلا الله
وأني رسول الله، لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة) [1] .
فيه فوائد:
1- التربية على الأخذ بالأسباب.
2- عمق تلك التربية.
3- المشورة وقبولها.
4- التراجع عن القرار ليس ضعفاً في القيادة.
5- كثرة البذل والتضحية مع قلة الإمكانات فكيف بالعكس؟
6- أهمية الربط بما يقوي الإيمان رغم حصول ما يستدعي ذلك فكيف في
غير هذا الموطن؟
7- الإيمان بالمعجزات.
8- عظم البركة والدعاء بها.
9- قوة الضبط والتنفيذ في الجيش المسلم.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، مسلم بشرح النووي، 1/225-236.(60/12)
أهمية المنهج
في العلوم والمعارف عامة
وفي علوم الشريعة خاصة
عثمان بن حسن
المنهج لغة من مادة نهج، ينهج نهجاً، وهو الطريق البين الواضح، ويطلق
على الطريق المستقيم. والمنهج، والنهج، والمنهاج: بمعنى واحد. وفي التنزيل
قوله (تعالى) : [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً] [المائدة 48] . قال ابن عباس
(رضي الله عنهما) : (سبيلاً وسنة) [1] وهو مروي عن مجاهد، وعكرمة، ...
والحسن البصري، وغيرهم. وروي عن ابن عباس (سنة وسبيلاً) ورجح ابن
كثير التفسير الأول؛ لظهوره في المعنى ومناسبته. وقال الحافظ بن حجر: (والمنهاج: السبيل، أي الطريق الواضح) . وفي الاصطلاح هو الطريق المؤدي
إلى التعرف على الحقيقة في العلوم؛ بواسطة طائفة من القواعد العامة؛ والتي
تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته؛ حتى يصل إلى نتيجة معلومة. وبعبارة
أوجز: هو القانون، أو القاعدة التي تحكم أي محاولة للدراسة العلمية، وفي أي
مجال. ومن ثم تختلف المناهج باختلاف العلوم التي تبحث فيها؛ فلكل علم منهج
يناسبه، مع وجود حد مشترك بين المناهج المختلفة، وقد تتعاون - وهو الغالب -
مجموعة من المناهج لخدمة ومعالجة فن واحد [2] .
مما تقدم من تعريف للمنهج؛ يمكن القول: بأن علم المناهج علم بعدي؛
بمعنى أنه يقف من وراء العلوم؛ كي يحلل طرائقها ويحدد مسالكها. وعليه،
فالاشتغال بالقضايا العلمية، والمسائل التفصيلية في العلوم، غير الاشتغال بمسالك
تلك القضايا والمسائل، وكيفية ورودها على هذه الحال، أو تلك الحال، ومعرفة
مصادرها، وأدلتها؛ وهو ما يسمى عند المحدثين من العلماء بفلسفة العلوم [2] .
أهمية المنهج في العلوم:
نشأت الحاجة - في أوربا - إلى تأصيل العلوم وتحديد مناهجها بعد
الاضطراب الشديد الذي صاحب الفكر الأوربي منذ أمد بعيد، وحتى عصر النهضة (القرن السادس عشر الميلادي) ؛ حيث ساد المنطق اليوناني في تلك الفترة، وكان ...
منهجاً - في التفكير- عقيماً، لا يأتي بجديد؛ مما كان له أكبر الأثر في تعطيل
العلوم والمعارف قروناً متطاولة. حتى اهتدى الأوربيون إلى المنهج الاستقرائي
التجريبي في العلوم؛ وذلك بفضل اطلاعهم على تراث المسلمين العلمي،
واحتكاكهم به، واستفادتهم منه بصورة مباشرة مما ساعد - بل كان له أكبر الأثر -
على تقدم العلوم وازدهارها عندهم [3] .
إن مشكلة المنهج هي مشكلة العلم في صميمه؛ ذلك أن شرط قيام العلم وتقدمه، أن تكون هناك طريقة صحيحة تطوى تحتها شتات الوقائع، والمفردات المبعثرة
هنا وهناك، بغية تفسير ما قد يوجد بينها من روابط أو علاقات، تنظمها قوانين
محددة. وإن تأخر العلوم ناشيء - في العادة - عن تأخر المناهج؛ بمعنى أن لا
تكون هناك مناهج محددة وواضحة، ومتفق عليها؛ فيسير كل عالم - في فنه -
على غير هدى وبصيرة يخبط خبط عشواء، دون أن يصل إلى نتيجة مفيدة؛
فتتعارض القضايا، وتضطرب المسائل.
فتقدم العلم وتأخره مرتهن بمسألة المنهج، يدور معها وجوداً وعدماً، ولذا
يمكن أن يقال: إن المنهج يحفظ للعلم نظامه واتساقه، كما إنه يضبط العقل البشري، والأعمال الذهنية، بقواعد ثابتة، بحيث تعينه على الوصول إلى الحقيقة فيما
يبحثه من موضوعات. ويتضح الأمر بذكر أمثلة عليه.
ففي مجال العربية تجلت أهمية المنهج؛ وذلك حينما خالط المسلمين غيرهم
من أمم الأعاجم؛ فبدأ اللحن يزحف إلى اللسان العربي، الذي هو وسيلة فهم
الكتاب والسنة، فانتدب أمير الؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أبا
الأسود الدؤلي، ليقعّد للناس ما يحفظون به لسانهم من الفساد [4] . قال ابن خلدون: ... (وخشي أهل الحلوم منهم، أن تفسد تلك الملكة رأساً، ويطول العهد؛ فينغلق ...
القرآن والحديث على الفهوم؛ فاستنبطوا من مجاري كلامهم، قوانين لتلك الملكة،
مطردة، شبه الكليات والقواعد؛ يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه
منها بالأشباه، مثل: أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ
مرفوع) [5] وقال (رحمه الله) في موضع آخر: (وحين كان الكلام ملكة لأهله، لم تكن هذه (النحو والصرف) علوماً، ولا قوانين، ولم يكن الفقيه حينئذ يحتاج إليها؛ لأنها جبلته وملكته، فلما فسدت الملكة في لسان العرب؛ قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح، ومقاييس مستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله (تعالى)) .
فنشأت علوم العربية، محافظة على صحة اللسان، وصيانة له من اللحن؛
فكانت علوم النحو والصرف، وما يسمى بفقه اللغة، الذي هو عبارة عن علم
يحاول الكشف عن أسرار اللغة، والوقوف (على القوانين التي تسير عليها في
حياتها [6] .
ولما ضعفت - في الناس - العربية، وكثرت الوقائع والأحداث، واحتاج
العلماء إلى معرفة أحكامها الشرعية، وقد تعددت طرق الاجتهاد، والاستنباط،
وادعى الاجتهاد، والفقه في الدين، من ليس من أهله؛ احتاج المسلمون إلى
تأصيل الفقه وتقعيده، وبيان مصادر الأحكام وأدلتها، ومعرفة حجية الأدلة،
ومراتبها في الاستدلال، وشروط هذا الاستدلال، وتحديد مناهج الاجتهاد،
والاستنباط؛ بحيث يسير المجتهد على هديها عند تعرفه على الأحكام من أدلتها
التفصيلية، وهو ما يعرف بأصول الفقه.
قال الفخر الرازي: (الناس كانوا قبل الإمام الشافعي (رضي الله عنه) يتكلمون
في مسائل أصول الفقه ويستدلون، ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي
مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها،
فاستنبط الشافعي (رحمه الله تعالى) علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً
يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع) [7] وقال ابن خلدون: (واحتاج الفقهاء ...
والمحدثون إلى تحصيل هذه القوانين، والقواعد؛ لاستفادة الأحكام من الأدلة
فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه: أصول الفقه) [8] . وفائدة هذا العلم العظيم: أن يتمكن المجتهد من الحصول على قدرة، يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها، على أسس علمية صحيحة [9] .
ولما ظهر الوضع في الحديث، وضعفت الهمم عن الحفظ والرواية؛ احتاج
العلماء إلى تدوين قواعد ومناهج، تعرف بها أقوال النبي _صلى الله عليه وسلم-،
وأفعاله وأحواله، وضبطها، وتحرر ألفاظها، ومعرفة أحوال رواتها، وطبقاتهم،
وأصناف مروياتهم، إلى غير ذلك مما يتصل بهذا العلم؛ مما يساعد على معرفة
حال الحديث: سنداً ومتناً، من حيث القبول والرد. وبذلك يعرف صحيح الحديث من سقيمه، ومرفوعه من موقوفه.. وهذا العلم فن أبرز ما يفتخر به المسلمون على غيرهم من الأمم؛ لدقته في أصوله ومسائله [10] . وكذلك قعّد العلماء في مناهج لتفسير القرآن الكريم؛ على نحو ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وتابعه في ذلك ابن كثير.
قال ابن تيمية - وهو يعرف بأصول التفسير -: (قواعد كلية تعين على فهم
القرآن، ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق
وأنواع الأباطيل..) [11] .
أما في مجال العلوم الطبيعية فقد اعتمد العلماء المنهج الاستقرائي؛ الذي يقوم
على أسس علمية ثابتة، تتمثل في ثلاث مراحل رئيسة: [12]
1- مرحلة البحث: وتتم عن طريقي الملاحظة والتجربة.
2- مرحلة الفرض: وفيها يفترض الباحث وجود علاقة ما بين الظواهر التي
تجري عليها تجاربه.
3- مرحلة البرهان: وفيها يتحقق الباحث من صدق ما افترضه سابقاً؛
بحيث يتأكد من أن العلاقة التي لاحظها في مرحلة الفرض، علاقة صحيحة، وأنها
تنطبق على جميع الظواهر المماثلة للأفراد التي يدرسها. وبعدها يستطيع إصدار
حكم عام، يشمل ما وقع تحت الملاحظة والتجريب، وما لم يقع؛ لما يوجد بينها
من التشابه..
ومن ثم تتقدم العلوم بفضل هذا المنهج الذي يكشف عن القوانين التي تنتظم
الظواهر، ومعرفة ما قد يربط بينها من علاقات.
ومن هنا تتضح أهمية المنهج في ضبط العلوم، وتحديد أهدافها، وطرائقها،
بحيث لا تضطرب القضايا، وتتعارض المسائل، مما يساعد على تقدم العلوم،
وحفظها من الدخيل والشاذ، وصونها من الضياع والاختلاف، كما ويشترط أن
يكون المنهج واضح المعالم بيّن القسمات، بحيث يسير الباحث على هدى،
وبصيرة؛ يعرف أين يقف، وإلى أين يتجه.
__________
(1) صحيح البخاري 1/46.
(2) انظر: العلم والبحث العلمي لحسين عبد الحميد رشوان، ص 143- 145، ومنهج البحث العلمي عند العرب لجلال محمد عبد الحميد مرسى ص 271-273.
(3) انظر: العلم والبحث العلمي، لرشوان ص 143-145، ومنهج البحث العلمي عند العرب لجلال موسى ص 273، وانظر: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، أحمد على الملا ص 115.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم.
(5) مقدمة ابن خلدون ص 515.
(6) انظر: فصول في فقه اللغة العربية، د رمضان عبد التواب، ص 9 مكتبة الخانجي.
(7) مناقب الشافعي، الرازي ص 357.
(8) مقدمة ابن خلدون ص 420.
(9) انظر: الأصول من علم الأصول، لمحمد بن صالح العثيمين ص 8.
(10) روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي بكر محمد بن أحمد أنه قال: بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب.
(11) مجموع الفتاوى 13/329.
(12) انظر: رؤية معاصرة في علم المناهج، د علي عبد المعطي محمد، ص 255 والتفكير المنطقي بين المنهج القديم والمنهج الجديد، د عبد اللطيف محمد العبد، ص 55.(60/14)
خواطر في الدعوة
درس من السيرة
محمد العبدة
مرت الدعوة الإسلامية في طورها الأول بتجربة قاسية، فقد امتحن الصحابة
الكرام وابتلوا بلاء شديداً، كما وقع لبلال وعمار وخباب - رضي الله عنهم
أجمعين-، وهذا الابتلاء لا بد منه في الدعوات، حتى تصقل ويقوى عودها،
ويزداد رجالها خبرة وتجربة وتمرساً في الحياة، فإذا مكن لهم في الأرض كانوا
على قدر المهمة المناطة بهم. وحتى لا تكون المحنة أقسى مما يتحمله بشر، فعندئذ
قد يتسرب اليأس والقنوط إلى النفوس، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يخفف من آلام أصحابه، ويدعوهم إلى الصبر، ويذكرهم بما وقع للمؤمنين من
قبلهم، ويبشرهم بأن سيكون بعد الضيق فرج بإذن الله، فكانت كلماته برداً وسلاماً
على قلوبهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - وهو الرحمة المهداة -
يبحث عن مخرج لهذه المحنة، فأشار على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر
من هاجر في المرتين، وعاشوا هناك آمنين مطمئنين يعبدون الله دون خوف أو
أذى، واستمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن مخرج وفسحة أكبر
من الحبشة، حتى تأذّن الله بالفرج وذلك بإسلام نفر من أهل المدينة، ثم كانت
الهجرة الكبرى ثم كانت الدولة.
ابتلي المسلمون في هذه الأيام بلاء كبيراً، ورماهم الغرب وأتباعه عن قوس
واحدة، وقامت قيامة الإعلام عليهم. ينبزهم بألقاب هم بريئون منها، ويؤزون
عليهم من يكره الإسلام وأهله، ويحرضون عليهم السفلة ورعاع الناس.
والابتلاء إذا كان قاسياً قد يحطم الفرد، ويجعله في حالة شلل تام، بل قد
يحطم المجتمع إذا لم يكن متماسكاً وعلى درجة عالية من الأخوة والتناصر، وحتى
ذلك أو قبل أن يحدث ذلك فإن البحث عن مخرج لهذه الفتن المتلاحقة هو من مهمة
القيادات الواعية، والدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، لا بد أن يرى الشباب
بصيصاً من الأمل، وبشارة بقرب زوال هذا الليل الذي طال وناء بكلكله على
صدور المسلمين، لا بد من عمل كبير، واجتهاد صحيح في كيفية التغيير، وإن
فقدان العلماء - الذين هم على معرفة بالواقع وعلى ارتباط به والذين يجتهدون لكل
حادثة، ويكون لهم تأثير كبير وفعال - يضر كثيراً بالعمل الإسلامي، ويجعل
الأصاغر يجتهدون ويخربون ولو كان ذلك بحسن نية. فهل من مبادرات لسد هذه
الثغرة، وحتى لا يقع المحذور.(60/20)
مسالك أهل البدع
في النظر والاستدلال [*]
بهاء الدين عقيل
مما لا شك فيه أن الحاجة ماسة في زماننا هذا - وفي كل زمان - لمعرفة
صفات أهل السنة والجماعة ومنهجهم في الحياة، فهذه مسألة مهمة وملحة من أجل
إنهاء حالة التشتت والحيرة التي يعيشها المسلمون اليوم. وقد ظهرت في الآونة
الأخيرة كتابات طيبة بهذا الصدد؛ ويعد من متعلقات ذلك أيضاً البحث في طرق
ومسالك أهل البدع في النظر والاستدلال، وتوقيها حتى تسلم لنا الاستقامة على
طريق أهل السنة والجماعة؛ فإنما بضدها تتميز الأشياء..
الأصل العام لجميع طرق الاستدلال عندهم:
الأصل في جميع طرق استدلال أهل البدع أنهم لا يأخذون الأدلة مأخذ الافتقار
إليها بل يقدمون أهواءهم، ويعتمدون على آرائهم، ثم يجعلون الأدلة الشرعية تبعاً
لذلك الهوى. ومن يفعل ذلك فهو أحد رجلين:
- إما مغرض ويعلم أنه صاحب هوى متمكن من قلبه، فيستدل بما يراه
موافقاً لهواه، ويلوي الأدلة ليّاً لتوافقه.
- أو هو غير راسخ في العلم، لا يعرف كلام العرب ودلالته، ولا مقاصد
الشريعة وكلياتها وأصولها، فيقرأ أو يسمع نصاً من الكتاب أو السنة فيفهمه بنفسه
فهماً يوافق هوى لديه وهو لا يدري ويظن أنه بذلك متبع للكتاب والسنة.
أما العلماء الراسخون في العلم، المخلصون لله في علمهم وعملهم فلا يقع منهم
ذلك أبداً، بل هم يأخذون الأدلة مأخذ أهلها العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة
ومقاصدها كما كان السلف يأخذونها.
فالهوى هو الدافع والموجه الأول والرئيس لطريقة أهل البدع في النظر
والاستدلال ولذلك سموا بأهل الأهواء، ويتفرع عن هذا الأصل العام مسالك وطرق
شتى، ولا يلزم أن توجد كلها عند كل مبتدع بل قد يوجد بعضها دون بعض،
ونسوق الآن من هذه الطرق أوجهاً كلية يقاس عليها غيرها.
المسلك الأول:
الاعتماد على الأحاديث الواهية الضعيفة، أو المكذوب فيها على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، والتي لا يقبلها العلماء المتخصصون في علم الحديث،
كحديث الاكتحال يوم عاشوراء، وأكل الباذنجان بنية، وأن النبي -صلى الله عليه
وسلم- تواجد واهتز عند السماع [1] حتى سقط الرداء عن منكبيه، وما أشبه ذلك.
وأكثر ما يكون ذلك عند المتصوفة ومن شاكلهم من الفقراء في العلم والنظر.
المسلك الثاني:
رد بعض المبتدعة للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم،
ويدعون أنها مخالفة للمعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها؛
كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية الله -عز وجل- في الآخرة، وكذلك حديث الذباب إذا سقط في الإناء، وما شابه ذلك مما صحت فيه الأخبار
وثبتت ثبوتاً لا يتطرق إليه شك أو نقد.
وتلك طريقة أهل التحسين والتقبيح العقلي- الذين يقولون: (الحسن ما حسنه
العقل، والقبيح ما قبحه العقل، والشرع تابع لذلك) - كالمعتزلة ومن شاكلهم،
ومن يسمون في عصرنا الحالي بالعقلانيين.
ولهم مسلك معروف في النصوص المخالفة لمذاهبهم، أما بالنسبة للحديث فكما
ذكرنا يردونه بكل جرأة ويتعللون لذلك إما بالقدح في رواته - وإن كانوا من
الصحابة أو التابعين وممن اتفق الأئمة على عدالتهم - وإما بقولهم إن الحديث آحاد
وهو يفيد الظن ولا يصلح الظن في أمور العقائد؛ وتلك مقولة باطلة ومبتدعة وقد
ألفت رسائل في الرد على ذلك الزعم [2] ، أو يردون الحديث بأي علة واهية
أخرى.
وأما بالنسبة للآيات القرآنية فلما لم يستطيعوا ردها عمدوا إلى تحريف
مدلولاتها وسموا ذلك تأويلاً، فالخلاصة أنهم إذا خالفوا الحديث ردوه وإذا خالفهم
القرآن حرفوه وأولوه على غير تأويله المعتبر.
وتكمن خطورة مذهب المعتزلة في أنه وإن زالت فرقته الآن - فلا يكاد يوجد
من يصرح في عصرنا بأنه معتزلي المذهب - إلا أن أسس مذهبهم وأفكارهم قد
انتشرت بين آراء كثير من الأدباء والكتاب المعاصرين، وتراهم يصفون المعتزلة
بأنهم أصحاب المدرسة العقلية المستنيرة التي أثرت الفكر الإسلامي، والصواب
وصفهم بأصحاب العقول المظلمة، الذين أفسدوا اعتقاد المسلمين ردحاً من الزمن،
وجروا الويلات على الأمة الإسلامية. بل إن من أفكارهم المظلمة ما تسرب إلى
اذهان بعض العلماء وأثر عليهم؛ وذلك كأخذ بعض العلماء ببدعة رد أحاديث الآحاد
في أمور الاعتقاد، وهذا منتشر بينهم في عصرنا الحالي وكأنه أمر مسلم.
المسلك الثالث:
فهم الآية أو الحديث بالهوى والتخرص. وعدم الرجوع للمعنى العربي للفهم
الذي يفهم به عن الله ورسوله؛ وذلك كمن قال في قوله تعالى: [ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ والإنسِ] [الأعراف 179] أي ألقينا فيها؛ وكأنها من قول العرب
(ذرته الريح) ، وهذا خطأ لأن ذرأ مهموز وذرَّ غير مهموز [3] . وكقول من قال: إن الإمام في قوله تعالى [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ] جمع أم، وأن الناس
يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف فإن [أم] لا تجمع على [إمام] [4] بل جمعها [أمهات] .
ومثل هذه الجهالات كثير، وهي كلها استدلالات لا يعبأ بها، وتسقط مكالمة
أهلها، ولا يعد خلاف أمثالهم. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم) أي فضعوه على ...
مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن طريقة المستقيم إلى اتباع
الهوى. وقيل للحسن: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلمها فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك. وعنه أيضاً قال: أهلكتكم العجمة تتأولون القرآن على غير تأويله.
المسلك الرابع:
الانحراف عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات كما قال تعالى: [فَأَمَّا
الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ] [آل عمران 7] ،
فمثال ذلك احتجاج النصارى على ألوهية عيسى - عليه السلام - وأنه ولد الله بقوله
تعالى: [ورُوحٌ مِّنْهُ] [النساء 171] وقوله تعالى عن نفسه في آيات كثيرة
بضمائر الجمع: (إنا) ، (نحن) ؛ وهذا يقتضي التعدد في زعمهم، وقوله تعالى:
[ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا] [التحريم 12] ، ...
ولم يردوا ذلك إلى صريح قوله تعالى: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ
ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] [الإخلاص] ، وإلى قوله المحكم: [يَا أَهْلَ
الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ إنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ ولَدٌ] [النساء 171] ، بل
أخذوا من هذه الآية فقط قوله [ورُوحٌ مِّنْهُ] وتعلقوا بها مع أن بقية الآية فيها الرد
على زعمهم وكفى بذلك دليلاً على اتباع الهوى في الاستدلال.
ومثل احتجاج المعتزلة لخلق القرآن بقوله تعالى: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ]
[الزمر 62] ، والمراد خالق كل شيء مخلوق وإلا فقد أجيب عليهم بقوله تعالى:
[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ] [الأنعام 119] فهل يقولون أن الله مخلوق؟ ...
سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. والواجب في ذلك كله وما ماثله من المتشابه
أن يرد إلى المحكم ليعرف من معناه، وهذا ما عليه العلماء والراسخون في العلم
الناهجون نهج أهل السنة والجماعة.
المسلك الخامس:
وقريب من المسلك السابق الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها،
والعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ أو العكس، وكذلك الأخذ
ببعض النصوص دون بعض في المسألة الواحدة والتعلق بها؛ كما مثل الشاطبي -
رحمه الله - لذلك بالآتي:
- يحتج الخوارج لقولهم بالخروج على الإمام بحديثهم (ولا تزال طائفة من
أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل) [5] .
- ويحتج القاعد - أي من لا يرى الخروج على الإمام - بقوله -صلى الله
عليه وسلم-: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) [6] .
- والمرجئ يحتج بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من عبد قال لا إله إلا ...
الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) قلت والقائل هو أبو ذر - رضي الله
عنه -: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق [7] .
- والمخالف له محتج بقوله -صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين ...
يزني وهو مؤمن) [8] . وهذه النصوص وإن كان ظاهرها يوهم التعارض ... فإنه يمكن الجمع بينها إذا جعل بعضها أصلاً ورد البعض الآخر إليه بالتأويل السائغ، ولكن كل صاحب بدعة وضلالة يدعي أن دليله هو الأصل، ويرد ما عداه إليه.
والواجب هو جمع الأدلة كلها في المسألة الواحدة وتحقيق ما كان عليه الصحابة
وأئمة خير القرون إزاءها، والخروج بحكم واحد فيها. والذي ينبغي التنبيه عليه
هنا أنه وإن كان هذا المسلك المنحرف من مسالك أهل البدع في النظر والاستدلال،
إلا أنه يقع فيه كثير من المسلمين الناشدين للحق؛ فترى أحدهم يسمع نصاً أو يقرأه
فيدفعه حرصه على الالتزام وخشيته من مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله إلى
المبادرة بتنفيذ ما فهمه منه، حتى وإن بدا مخالفاً لفعل مشاهير الصحابة وأجلائهم؛
وبعيداً عن المعقول، ويظن أنه بذلك يتبع الحق ويخالف هواه ويقهره وأنه بذلك
ممتثل لقول الله تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب 36] . وإنما كان خطؤه أنه عمل بنص
واحد دون الرجوع للعلماء لسؤالهم عنه وعما إذا كان هناك نصوص أخرى في
المسألة، وما هو القول الراجح فيها، وقد يشتد حماسه لفهمه السقيم فينصب نفسه
مفتياً به وداعياً إليه، ويتبعه على ذلك قوم من أمثاله، وصدق رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إذ يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن
يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) [9] . ولعمر الله كم جر هذا المسلك على المسلمين ...
من فتن ومشاكل بينهم في عصرنا الحالي.
والواجب على الباحث المسلم إذا بحث مسألة أن يجمع كل النصوص الواردة
وأقوال العلماء فيها ليخرج بمعنى كلي وفهم هو أقرب إلى الصواب حسب ما أداه
إليه اجتهاده، إن كان من أهل الاجتهاد، فيخرج بذلك من دائرة الإثم، قال
الشاطبي -رحمه الله-: (ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ...
وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض؛ فإن مأخذ الأدلة
عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما
ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها) [10] .
المسلك السادس:
صرف الدليل عن المناط الذي ورد عليه إلى مناط آخر موهماً أن المناطين
واحد. قال الشاطبي: (وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله،
ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه
صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق، مع هوى يعميه عن أخذ
الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) [11] .
ومثال ذلك أن الأدلة وردت بالحث على الذكر مطلقاً قال تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً] [الأحزاب 41] ، وقال: [وابْتَغُوا مِن فَضْلِ
اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [الجمعة 10] ، فيستدل المبتدع بهذه
النصوص على ما يبتدعه من أذكار مخصوصة بكيفيات مخصوصة، وفي أزمنة
مخصوصة، مع أن النص ورد مطلقاً وأفاد مطلق الحث على الذكر. والتقييد من
جهة المبتدع يخالف ذلك الإطلاق، والتزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنه أن يفهم
التشريع، ومثل هذه الأدلة والنصوص ينبغي أن تفهم من جهتين: جهة معناها الذي
يفيد مطلق الحث على الذكر غير المقيد بهيئة مخصوصة، وجهة عمل السلف
الصالح بها. وكل من خالف في ذلك فقد خالف إطلاق الدليل أولاً لأنه قيد فيه
بالرأي وخالف ثانياً من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح -رضي الله
عنهم-.
المسلك السابع:
بناء الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل: وهو فعل الباطنيين كالقرامطة
وغيرهم. وفرق الباطنية يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة،
والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة ولا الشرع بل ولا العقل،
والقول بإمام معصوم، وقد يسمونه باسم آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهاً. ومن فرقهم
المحدثة البهائية والبابية.
وهؤلاء الباطنية هم قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، وإلقاء ذلك
فيما بين الناس لينحل الدين، ولما لم يمكنهم التصريح بذلك لجأوا إلى صرف الهمم
عن الظواهر بادعاء أن لها بواطن مقصودة، وأن الظواهر غير مرادة فقالوا: كل
ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر، والنشر، والأمور الإلهية
الأخرى ليس إلا أمثلة ورموز إلى بواطن.
ولهم في ذلك تُرَّهات وعجائب منها مثلاً: زعمهم أن الجنابة هي مبادرة
الداعي للمستجيب بافشاء سره إليه قبل أن ينال رتبه الاستحقاق، والغسل هو تجديد
العهد على من فعل ذلك، والصيام هو الإمساك عن كشف السر، والتيمم الأخذ من
المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام.. الخ. ولا تستخفنك تفاهة مذهبهم
فتقول هذا مذهب ظاهر البطلان فلا يخشى على أحد من الوقوع فيه، فإنه يكثر جداً
وسط الأعاجم الذين لا يحسنون اللغة ولا يعلمون فقهها ومدلولاتها، وكذلك هي
دعوة رائجة لدى السوقة والسفلة من الناس حيث تمنحهم الإباحية باسم الدين إذ هي
دعوة قائمة على التحلل والإباحية، ثم إن هؤلاء السفلة قد يكثرون وتقوى شوكتهم
فيغلبون الناس على آرائهم ومذهبهم ويعيثوا في الأرض فساداً.
المسلك الثامن:
التغالي في تعظيم الشيوخ والاحتجاج بهم: وغاية حجة من يفعل ذلك أن يقول
شيخنا الفلاني يقول كذا وكذا، ويفعل كذا وكذا، وهو ولي من أولياء الله المقربين
فلا بد أن الحق معه. وأكثر ما يوجد ذلك عند المتصوفة وأمثالهم ممن لا باع لهم
في العلم الشرعي.
والجواب على ذلك من وجهين:
أحدهما: بيان أن الحجة في الشرع، لا في الأشخاص غير المعصومين مهما
بلغت درجتهم.
والثاني: أن يقال له: وما أدراك أن فلاناً المذكور هو من أولياء الله،
فالولاية أمر بين العبد وربه، بل كل مؤمن يؤدي الفرائض ويجتنب النواهي هو
من أولياء الله الصالحين بحسب الظاهر لنا، ولا يسوغ ذلك اتباعه في أمر من
الدين دون معرفة دليله.
المسالك التاسع:
الاستدلال بالرؤى والمنامات: وهو مسلك خطير يستخدمه الشيطان للتلبيس
على الناس في دينهم وإيهامهم بشرعية بعض الأمور التي لا يوجد دليل شرعي على
صحتها. والذي ينبغي معرفته في هذا الباب، أن (الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم ...
بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن
سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو
النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا) [12] ، (فلو رأى في النوم قائلاً يقول: إن ...
فلاناً سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله. أو اعمل بما يقولون لك، أو فلان زنى فحده،
وما اشبه ذلك؛ لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة وإلا كان عاملاً
بغير شريعة، إذ ليس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحي) [13] .
وقد يحتج المسلم بالمنامات بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (رؤيا المؤمن -
جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) [14] وقد أجاب الشاطبي عن ذلك بقوله:
(إن كانت الرؤية من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة [يعني أن البشارة والنذارة من مقاصد النبوة
ومن أجزائها كما في قوله تعالى:] أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ إنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ [
] هود 2 [. وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون
صالحة من الرجل الصالح كما في الرواية الأخرى للحديث السابق: (الرؤيا الحسنة
من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ] 15 [وحصول
الشروط مما ينظر فيه فقد تتوفر وقد لا تتوفر. وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم وهو
من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى
تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير الصالحة؟ ويلزم أيضاً على ذلك أن
يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو منهي عنه بالإجماع) ] 16 [.
وخلاصة القول في الرؤيا أنه يستفاد منها في جانب البشارة والنذارة، ولا
يؤخذ منها حكم إلا بعد عرضها على الشرع فلينتبه إلى ذلك، فهذا هو الاعتدال في
الأخذ بالرؤيا والعمل بها. وفي الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف
المنة فقير الحجة.
وبعد فكما سبق أن بينا لم نقصد في هذا الموضوع إلى الاستيعاب وإنما هي
أوجه كلية لطرق أهل البدع في الاستدلال يقاس عليها غيرها، وندعو إخواننا المسلمين إلى الحذر دائماً من أصحاب البدع ومسالكهم في المحاجة والاستدلال،
وقانا الله وإياهم شر البدع وأهلها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(*) عناصر هذا الموضوع مستقاة من الباب الرابع من كتاب الاعتصام للشاطبي بتصرف 1/ 220-285.
(1) أي سماع الأغاني والتواشيح التي تزعم المتصوفة أنها من الذكر.
(2) انظر في ذلك كتاب أخبار الآحاد في الحديث النبوي لفضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، الباب الرابع، ص 93-101، طبعة دار طيبة الرياض.
(3) انظر الاعتصام، 1 /237.
(4) انظر الاتقان، 2/ 231.
(5) الحديث بهذا اللفظ اورده أحمد في مسنده 5/278، وأبو داود في الفتن وفي أوله قصة.
(6) الحديث أخرجه أبو داود في سننه باب في الخوارج، انظر عون المعبود 13/102 طبعة دار
الفكر.
(7) اخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما انظر مسلم شرح النووي 2/94.
(8) اخرجه ابن ماجه في سنن كتاب الفتن 2/365 طبعة الأعظمي.
(9) الحديث اخرجه البخاري في صحيحه بلفظه، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم (فتح الباري 1/94 ص 100) .
(10) الاعتصام، 1 / 245.
(11) الاعتصام، 1 / 249.
(12) الاعتصام 1/260.
(13) الاعتصام، 1 / 261.
(14) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التعبير، انظر فتح الباري 12/ 373 6987.
(15) اخرجه البخاري في صحيحه كتاب التعبير، انظر فتح الباري 12/ 373 6983.
(16) الاعتصام 1/ 261.(60/22)
شذرات وقطوف
من آيات نبوته -صلى الله عليه وسلم-
(وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة، وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجتمع ...
لبشر قط قبله، ولا تجتمع لبشر بعده، وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط كصبره،
ولا كحلمه، ولا كوفائه، ولا كزهده، ولا كجوده، ولا كنجدته، ولا كصدق محبته، ولا كتواضعه، ولا كعلمه، ولا كحفظه، ولا كصمته إذا صمت، ولا كقوله إذا
قال، ولا كعجيب منشئه، ولا كعفوه، ولا كدوام طريقته، ولم نجد شجاعاً قط إلا
وقد جال جولة، وفرّ فرّة، وانحاز مرة من معدودي شجعان الإسلام، ومشهوري
فرسان الجاهلية كفلان وفلان. وبعد فقد نصر النبي وهاجر معه قوم ولم نر
كنجدتهم نجدة، ولا كصبرهم صبراً. وقد كانت لهم الجولة والفرّة كما قد بلغك -
عن يوم أحد ويوم حنين وغير ذلك من الوقائع والأيام، فلا يستطيع منافق ولا ...
زنديق ولا دهري أن يحدث أن محمداً جال جولة قط، ولا فرّ فرّة قط، ولا ...
خام [1] عن غزوة، ولا هاب حرب من كاثره) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الجاحظ)
أقوال
أرادوا مرة امتحان السياسيين في بلاغة السياسة، طرحوا عيهم هذا الموضوع: سَرَقْتَ حقوق أمة ضعيفة، فاكتب كيف تشكرها على هديتها.. ...
... ... ... ... ... ... ... (مصطفى صادق الرافعي)
(إن من ينبش في مخطوطات غيره مثل من ينبش في جيوب غيره) .
... ... ... ... ... ... ... ... (كاتب من داغستان)
(العالم الثالث هو أكبر متحف عالمي للحفريات السياسية ومخلفات الطغيان) . ...
... ... ... ... ... ... ... ... (د. جمال حمدان)
الرضا
ضل من يحسب الرضا عن هوانٍ ... أو يراه على النفاق دليلاً
فالرضا قدرة على النفس، والسا ... خطُ يحيا للنفس عبداً ذليلاً
والرضا نعمة من الله لم يس ... عد بها العباد إلا قليلاً
والرضا آيةُ البراءة والإيـ ... مان بالله ناصراً ووكيلاً
... ... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى حمام
__________
(1) فشل وجبن.(60/34)
الحضارة الغربية
حضارة متدينة
محمد بن حامد الأحمري
الذين نقلوا لنا الحضارة الغربية نقلوها إلينا بلا دين، وصوروها بأنها كانت
خالصة من سلطان الدين، وذلك محض خداع وكذب على القارئ في العالم الذي
تعامل مع الغرب بلا وعي، إذ نجد المثقف أو الدارس للعلوم الطبيعية يرى أن
الحضارة الغربية قامت على البعث الأوربي (النهضة) وعصرها، وينسى حركة
الإصلاح الديني، ينسى البروتستانتية وينسى مارتن لوثر وما قام به كالفن، بل
ويدرس تاريخ هذه الحضارة بعيداً عن حقيقته بل تاريخ هذه الحضارة الغربية عندنا
هو تاريخ العلمانية لا تاريخ الحركة الحضارية، وبحكم أن ثقافتنا كما صاغوها
لتكون على نمط الغربية فقد نقلوا لنا الصورة مشوهة، كان الواقع الذي مثلوه ...
مشوهاً وغير قادر على الحياة عندنا، فالثقافة الغربية في أذهاننا وفي الجرائد ...
والمجلات والكتب التي نقرؤها ليست هي التي يعيشها الناس هناك في حياتهم ...
اليومية بل هذه جانب فقط.
يقول الكاتب الصيني والزعيم المعروف فانج ليزهي في كتاب (هدم سور
الصين العظيم) [1] : (المفكرون الصينيون يعرفون بعض الشيء عن النهضة
الأوروبية ولكنهم يعرفون قليلاً عن الإصلاح أو لأنهم يركزون على الأول ويقللون
الآخر وهذا التعامل جاء من قلة فهم التاريخ الغربي) .
قطعاً لم يكن الإصلاح (الديني) أقل تأثيراً من النهضة، وفي الحقيقة لم يكن ...
الاثنان منقطعين في اتصالهما. وفي تعليقات هينريتش هينتز على تاريخ الفكر ...
الغربي - قال -: (أول شخص يناقش هو مارتن لوثر لدوره الكبير في ... لفكر الغربي. وبلا شك هذا ما جعل هينتز يركز على ألمانيا، ولا حاجة للنقاش أن الإصلاح الديني كان مؤسساً لأفكار جديدة في الغرب) [2] .
والذي حدث في الصين هو نفسه الذي حدث في البلاد الإسلامية حيث لا ...
تعرض الثقافة الغربية كما هي فعلاً، بل يعرض منها الجانب المادي فقط والإلحادي، ... ولا يذكر بالمقابل الفكر الديني أو الحياة الدينية لهم، وذلك لأسباب منها: ...
حساسية اتصال المثقف المسلم بالثقافة النصرانية، ذلك لأن هذا المترجم أو
الدارس مسلم أو نصراني من المشرق، ولكلا الرجلين خلاف مع الدين الغربي،
ولا يمكن أن يكون متديناً بدينهم، لذا فهو يستبعد هذا الجانب، ثم إنه لا يتثقف هذه
الثقافة الدينية الغربية، فهو إن كان مسلماً متفلتاً من إسلامه فهو أكثر تفلتاً من
النصرانية، وإذا كان نصرانياً شرقياً فإن نصرانيته الشرقية مختلفة مع الكنائس
الغربية لبعد الفرق الديني فيما بينها، فإن كان قبطياً أو مارونياً أو أرثوذكسياً عربياً
فكل هذه الديانات النصرانية تختلف مع الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية
الأوربية، أو لا يحب أن يظهر أمام المسلمين بأنه متعصب للنصرانية الغربية وفكرها.
والمسلم يتحاشى الخوض في هذه الاتجاهات إن لم يكن متديناً، وإن كان ...
متديناً فهو يواجه هذه الديانات بالكراهة أو الرد، ويتجاهل دور هذه الأديان في ...
السياق التاريخي للعالم الغربي. فتكون الصورة التي ترتسم في أذهاننا أن الغرب لا
يدين بدين وهذه أغلوطة كبيرة.
وسبب آخر أن الدول الغربية قامت على علمانية الدولة، بحيث تخلصت من
صراع الكاثوليك والبروتستانت على الحكومات، وحروبهم الدينية، وتحكم الكنيسة، وهروبها من تحكم الكنيسة لا يعني إلحاد الحاكمين، أعني هنا أنها ضد الدين أو
أنها ضد الدين أبداً، بل الحكومات الغربية مضطرة لمصلحتها السياسية والقومية أن
تقف هذا الموقف من الأديان المكونة لها وليس من أديان الأقرب.
جانب مهم آخر أن المثقفين الغربيين الذين تصدروا الثقافة الغربية في مرحلة
صلتنا بها هم نقاد الحياة الغربية والتي ينتقدون فيها الدين المتحكم، فانعكس ذلك
علينا فكنا نأخذ نقدهم للكنيسة وللاستعمار على أن هذه هي الحياة الفكرية عندهم
وأنها هجوم على أديانهم وخلقهم، وننسى الحقيقة التي يعيشها الناس باستمرار هناك، إذ لا تقوم حياة قوية إلا بجانبها الديني وجانبها الاقتصادي.
والعامل المهم الآخر أن وكلاء الثقافة الغربية في بلاد العالم الإسلامي كانوا
من اليساريين وأشباههم وهم يميلون إلى أمثالهم هناك، فلهذا لا ينقلون إلا ما تميل
إليه مدارسهم وانتماءتهم الغربية أو ولاءاتهم، ويضربون صفحاً عن النقد الموجه
لليسار أو للتيارات الإلحادية هناك، حتى لتجد أن الثقافة الغربية المعروفة لدى
جماهيرنا هي الثقافة الإلحادية الغربية فقط، ولا ينقلون لنا ماهية الحياة الثقافية كما
هي، وبالإمكان إجراء مقارنة سريعة بين كاتب فرنسي ملحد اسمه سارتر؛ وبين
زعيم ديني ألماني اسمه مارتن لوثر. الأول نشر وجودية كيركجار مع تعديلات
إلحادية مهمة وطورها، والآخر كان زعيم حركة الإصلاح الديني. ولوثر الذي كان
وراء حركة البروتستانتية وإنشائها - مع غيره - والتي كونت أكبر ديانة في العالم
الغربي وبها تدين أمريكا والشمال الأوربي وكانت سبباً مهماً في التكوين الديني ...
والاقتصادي في شمال أوربا وأمريكا - على الأقل كما يرى ماكس فيير - مقارنة ما ...
نشر عنه في اللغة العربية مع ما نشر عن سارتر لا تقارن بأي حال. فهذا سارتر
صار له عندنا أتباع كثيرون وكتاب يستميتون في الدفاع عنه - كأنيس منصور -
وكان للوجودية شيخ عربي - عبد الرحمن بدوي - كما لقب بعد نشر كتابه إثر
الاحتفالات بقدوم سارتر لمصر. قد يكون ذلك لسهولة الإلحاد على البعض عندنا
ولأن فكرهم وجد دعماً إعلامياً قوياً وحكومياً أيضاً. ومارتن لوثر لم يجد في البلاد
العربية ما وجده الملحدون. ذلك لأن الحديث عن الإصلاح الديني والبروتستانتية
الأوربية قد يجر إلى الاهتمام الديني في الإسلام وذلك ما لا يتفق مع التوجهات
الجارية منذ ذاك إلى اليوم، إذ المطلوب من الفكر في العالم الإسلامي والعربي أن ...
يحارب الدين ويتنكر لدوره الأول في نجاح الحياة وعزة الشعوب واستقلاليتها، ...
وبما أن الدين هو الروح المحركة والدافعة للعزة والكرامة والإخلاص فلا بد من
إقناع شعوبنا المسلمة بعدم أهمية ذلك، لأنه لا يراد بها إلا الدمار والانهيار عندما
تبعد عن الدين، حتى وصل الأمر بنا أن جامعاتنا التي تدرس التاريخ الأوربي لا
تقف عند الأثر الروحي والأخلاقي الذي تبثه الكنيسة البروتستانتية، فالكتب
المترجمة أو التي تدرس عندنا عن فكرهم وحياتهم هي كتب منتقاة إلحادية المشرب. وأيضاً فعند الذين تعاملوا مع الثقافة الغربية في زماننا عقدة من الدين وحاجز لا
يكاد ينفتح، إما لمشكلة في شبابهم مع الدين الرسمي وممثليه؛ وإما لجهلهم به جهلاً
مانعاً من إدراكه، وإما للانحرافات التي تغطي على روح الإسلام فلا تنفذ لقلوبهم،
لذا تجدهم في عماية وكراهية أحياناً من ذكره وإن تعاملوا معه كانوا مكرهين يائسين
مدفوعين إلى مشكلة يحبون الخلاص منها بأسرع وسيلة. غير أن الواقع الآن يدل
على أنهم غادروا هذا الوهم وبدأت ملامح إقبال كبير على الاهتمام بهذا الجانب
الإيماني لم تكن بارزة من قبل [3] .
والذي يهم معرفته في طبيعة العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي أن
جوانب أساسية من الفكر الغربي والسلوك الغربي نفسه هي جوانب يحرِّم الغرب
تصديرها، ويقف موقفاً شرساً ممن يفكر في تصدير هذه الجوانب وتعليمها للناس،
ومنها الاهتمام بالدين ونشره ووعيه، فيسمح بالتجمعات الدينية هناك ولا يسمح بها
الغرب في العالم الإسلامي، لأنها قد تقلب الموازين الفكرية المطلوبة، ومنها اللغة
إذ يحرم الغرب بشراسة سيادة اللغة العربية والتعليم العلمي بها، ويحارب الوعي
السياسي والحريات السياسية والديمقراطية في المستعمرات، كما يحارب الصناعات
الأساسية والعسكرية، ويحارب الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي، ويحارب كل
وسيلة يمكن أن تسمح باستقرار وعي صحيح بحقائق العالم المعاصر وأفكاره.
ولم يعد غريباً اليوم أن نجد أنفسنا عاجزين عن فهم الآخرين، لأننا أعطينا
جانب واحد فقط وبقيت الصورة مشوهة وغير مدركة. ولذا فحلولنا جزئية مبتسرة
لا تنطلق من إدراك واع للذات ولا إدراك واع للآخرين. حتى عند من يزعمون
ذلك أو يقومون بدور الوكيل لنشر الأفكار الغربية.
الحضارة الغربية اليوم حضارة فيها جانب الدين مؤسس وقائم بدور رئيس في
صياغة الحياة والفكر والتماسك في المواقف السياسية تجاهنا وبشكل لا يقاس به ما
كتب عنهم في لغاتنا ولا يقاس به الموقف الرسمي في عالمنا الإسلامي.
وعندما نقول حضارة متدينة فهذا مقابل كلمة ملحدة في الكتابات العربية
المعاصرة، والتي تعني بالإلحاد ما رأت في روسيا الغابرة. ومصطلح: (العلمانية) المتداول في العالم العربي اليوم، ليس هو المطابق الصحيح تماماً مع مفاهيم العلمانية الغربية، إذ ما يسمى بالعلماني الغربي اليوم، عنده قاعدة ولاء وانتماء لجنس ودين في بلده، ويتعامل مع العالم من خلاله لا تجدها في علماني العرب، إذ يفتقدون هذه القواعد، ويخفون على غير منابرهم كلاماً ليس لهم في جماهير لا تفهمهم، لذا لا يثمر شيئاً.
__________
(1) Bringing Down The Great Wall , Knopf, New York , 1990.
(2) المصدر السابق ص 53.
(3) لوحظ أن المؤتمر الفلسفي الذي عقدته الجمعية الفلسفية المصرية، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 27-29 يونيو 1992، كان عبارة عن تظاهرة إسلامية ولم يحدث ذلك من قبل في جمعية علمانية، منبر الحوار عدد 26 خريف 1992، السنة السابعة، ص 146.(60/36)
تعدد الزوجات في
إطار الضوابط الشرعية
منى عبد الله داود
لقد أصبحت قضية تعدد الزوجات من القضايا الحساسة الحرجة في واقعنا
المعاصر، خاصة في محيط العنصر النسائي، وللأسف أن شمل ذلك الفئة الملتزمة
بالدين، والتي يتوقع منها خلاف ذلك، إذ الإيمان كفيل بتهذيب النفوس، وتربيتها
على التسليم بكل ما جاء به الشرع، (فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان وبه ...
تتلقى النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، وسرعة التنفيذ) [1] ، فأغلب النساء المتزوجات أو غير المتزوجات، ينزعجن من مجرد طرق هذه ...
القضية على مسامعهن، وينحون بها منحى الكرامة الشخصية، والمساواة، وظلم
المرأة وبخس حقوقها وغيرها من الدعاوى التي شاعت وعدت من المسلمات، ...
وخاصة إذا كان المتحدث في القضية رجل.. فإنه لا يسلم من سيل الاتهامات فهو
المحور الرئيس في القضية، ومن ثم، يرى من الأسلم له ألا يدلي بدلوه فيها، وفي
الحقيقة هذه القضية حساسة بالنسبة للطرفين الرجل والمرأة، ولكن ربما لو تحدثت
فيها المرأة، فإن تأثيرها سيكون أوقع وأبلغ؛ لأن الطرف المتذمر فيها هو المرأة،
ومن ثم، سيكون الحوار عن طريقها بعيداً عن الاتهامات التي دائماً ما تكون
مصوبة نحو الرجل، خاصة إذا أخذ سياق عرض الموضوع إبراز مدى حاجة
واقعنا المعاصر إلى بيان الضوابط العقدية والشرعية في قضية تعدد الزوجات
بالنسبة للرجل والمرأة على السواء.
فالناظر إلى واقعنا المعاصر يجد انحرافات كثيرة في مفهوماته وتصوراته ...
لقضايا كثيرة في الدين، ومن هذه القضايا قضية تعدد الزوجات؛ إذ شوهت
صورته وعُرض عرضاً منبتاً عن أبعاده الإيمانية من قبل أعداء الإسلام، ومن قبل
سوء تصرفات من ينتمون إلى الإسلام من الرجال الذين أساؤوا إلى المرأة باسم
إباحة التعدد هكذا على إطلاقه دون ضوابط وأسس إيمانية واعية للمقصود الحقيقي
من وراء التعدد، كما أن جل النساء - حتى من يعرفن بالالتزام الديني - أصبحن
يرفضن هذه القضية ويبدين تأففهن منها.
إن قضية التعدد هي ثغرة استغلت من قبل أعداء الإسلام، فهي على صعيد
العنصر النسائي تقابل في نفس المرأة شهوة الاستئثار بالرجل دون غيرها من ...
النساء، ومن ثم، فهي تنزع لذلك إلى النفور من التعدد، وعلى صعيد الرجال
تقابل إشباع ميله إلى النساء بصورة كبيرة، وبالتالي قد ينسى في غمرة ميله هذا أو
في غمرة الجهل بالدين ما لهذه القضية من ضوابط ومفهومات إيمانية يجب أن ...
تراعى.. ومن ذلك نرى أنها ثغرة أُحْكِمَ انتقاؤها لزعزعة عقيدة الأمة والإخلال
بكيانها الاجتماعي، إذ سنلمس ذلك من خلال عرض عواقب ذلك على الأمة وكيف
تمّ..
فمن وسائلهم في ذلك، الغزو الفكري عن طريق الطعن في الإسلام من خلال
هذه القضية، والخوض فيها.. الخ، والغزو الإعلامي الرهيب عن طريق وسائل
الإعلام جميعها، وخاصة المذياع والرائي (التلفزيون والسينما) ؛ إذ عرضت
التمثيليات والأفلام التي تمثل أن التعدد ظلم للمرأة وإهانة لها وخيانة من قبل الرجل، وصور الرجل الذي يعدد بالقسوة والظلم وتعمد الإهانة للزوجة الأولى وبخسها
حقوقها الزوجية.. الخ، أو تصوير الإباحة لحالات خاصة دون سواها كالعقم
والمرض وما شابه ذلك.. من خلال هذا العرض الوجيز المذكور آنفاً، أصبح
هناك قلب في المفاهيم تجاه قضية التعدد في حياة المسلمين، ومما ساهم في زيادة
ذلك ما وصل إليه حال أغلب المسلمين من جهل بالدين عظيم، إذ وجد من يعدد
دون وعي بالمستلزمات الشرعية لذلك، من آداء للحقوق وصيانة لكرامة المرأة
والحرص على عفافها واتقاء الله في حسن معاملتها، فشوه التعدد من قبل هؤلاء،
وبذلك اجتمعت الوسائل المرئية والسمعية والواقعية على تشويه هذه القضية، لدرجة
أن أصبح من المسلمات في حياة كثير من المسلمين أن الأصل هو الاكتفاء بواحدة
وأن الشاذ هو التعدد مع أنه قد يكون العكس هو أصح [2] .
كما أن هناك ملاحظة قد تختص بواقعنا المعاصر وما آل إليه من جراء ذلك،
بيانها في النقطة التالية:
- 1 -
بروز ظواهر اجتماعية مثل:
- انتشار ظاهرة العنوسة بين الفتيات وبقاء أغلب الأرامل والمطلقات بدون
زواج.
ولا يخفى على البصير عواقب هذا الأمر، الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً
بقضايا فطرية إنسانية، قد لا تقوى على تهذيبها، إلا من رحم الله بالإيمان، فإشباع
الحاجات الفطرية وتحقيق الاستقرار النفسي والسكن، لا بد له من شريكين، الرجل
والمرأة، قال تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] [الروم 21] . فهذا الذي
فطر الله الناس عليه، والمجتمع الإسلامي ينبغي له أن يكون متكافلاً متعاوناً على
البر، ومن البر تحقيق الصون والعفاف لأفراده، وإعانتهم على تيسير الزواج،
وعدم ترك المطلقة، والأرملة دون زوج، فهذا من شأنه أن يثير الفتنة في المجتمع
ويشجع على ارتكاب المحرمات، خاصة وأننا في مجتمعات تكالبت الوسائل فيها
على بث الإباحية والمجون والفساد، وبالتالي كان لزاماً سد أبواب الفتنة والانحراف، بالوسائل الشرعية الفاعلة.. فأي عفاف وصون أعظم للمرأة من الزواج والستر؟!..
- 2 -
قضية دعوية تدعيمية لتحقيق صلاح المجتمع المسلم:
وبيان ذلك في التالي: إذ من الملاحظ قلة عدد من يرتجى فيه الصلاح في
مجتمعاتنا المعاصرة، وهذا الأمر يمثل خطراً كبيراً إذا لم يتلاف بجميع الوسائل،
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن أول ما يتبادر إلى ذهن من يهتم بشؤون
المسلمين في زيادة عدد الصالحين هو الدعوة إلى الله بالوسائل المعتادة من إعلامية
وتعليمية وتربوية وغيرها، وهنا ترد وجهة نظر في عرض وسيلة أخرى مجدية -
إن شاء الله- وهي: وعي الفئة الصالحة من الرجال بفائدة تعدد الزوجات وتطبيق
ذلك، إذ إن من استبان صلاحه يتوقع منه حسن تطبيق التعدد، بل وتحقيق سنة
النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من بعده في التعدد، فيصحح مفهوماً قد
شاع سوء فهمه بين الناس، بالإضافة إلى ترقب أن يرزقه الله بالذرية الصالحة
والتي سيتقي الله في تنشئتها النشأة الصالحة الفاعلة في المجتمع بإذنه تعالى، ولو
مثلنا لذلك بمثل عددي ربما وضح القصد، وهو أنه لو اكتفى الرجل الصالح بزوجة
واحدة فإن نتاج ذلك -إن شاء الله- من الذرية على أقل تقدير أربعة من البنين
والبنات وسيتوقع أن يكون أغلبهم من الفئة الصالحة الفاعلة لصلاح أبيهم وبركة
تقواه - إذ شرط الصلاح في هذه القضية مهم جداً -، ومن ثم سيكون مكسب
المجتمع المسلم (زوجة صالحة + فئة من الأولاد الصالحين) ، ولكن لو عدد هذا
الرجل الصالح وأعانه المجتمع المسلم على ذلك، فإن مكسب المجتمع المسلم سيكون
أكثر بكثير من البنين والبنات من ذوي الصلاح والفاعلية -إن شاء الله-، ومن ثم
ستكون هناك زيادة في عدد الصالحين. ويلاحظ أن الزيادة المرتقبة ليست قليلة بل
هي ربما تعادل ثلاثة أضعاف أو أكثر حسب مشيئة الله، وقد لا يخفى على المسلم
البصير أن هذا النفع الدعوي من التعدد، ربما كان هو الذي حدا بأعداء الإسلام إلى
محاربته، وخاصة بين الفئة التي يرجى صلاحها وفاعليتها في المجتمع المسلم،
كما أنه من واقع تطبيق التعدد في حياة مجتمع القدوة في عهد السيرة والراشدين، قد
يندر أن يكتفي صحابي بزوجة واحدة، أفلا يجدر بنا ونحن في هذا الواقع المرير
أن نتدبر أسباب ما آل بمجتمعاتنا الإسلامية وما وصلت إليه من حال بئيس في ...
جميع المجالات، وخاصة المجال الاجتماعي الذي أهمل شأنه طويلاً حتى أصبحت
قضاياه ظواهر اجتماعية بارزة للعيان قد يصعب تداركها الآن بعد أن استفحل
خطبها، فالله المستعان وعليه التكلان، وعسى أن تثوب هذه الأمة إلى رشدها،
وتتلمس حقيقة الثغور التي تؤتى من قبلها فتسارع إلى حراستها بالنفس والنفيس.
- 3 -
عزوف أغلب الفتيات عن الارتباط بالرجل المتزوج، مما ثنى كثيراً من
الرجال عن التفكير في التعدد، بل والحياء من قضية عرضه، سواء في محيط
أسرته أو في محيط المجتمع؛ إذ معظم الناس في مجتمعاتنا ينظر إلى القضية على
أنها قضية أهواء شخصية محضة.
وتفنيد ذلك يتطلب معطيات إيمانية قوية، وممارسات شرعية ظاهرة،
والمقصود بذلك:
1- تصحيح المفاهيم، ببيان حقيقة التعدد والضوابط العقدية والشرعية فيه من
تقوى الله عز وجل، وإخلاص التوجه إليه في الإقدام على هذا الأمر، والحرص
على الذرية الصالحة، وتكثير الفئة الصالحة في المجتمع، وتحقيق العفاف لنسائه
والرقي بهن إلى مصاف نساء السلف الصالح فكراً وممارسة، والأخذ بيد المرأة
المسلمة إلى تقديم دينها على ما سواه في حياتها، وتحكيمها لشرع الله ورضاها به
وتسليمها لما جاء به، فسعادتها في تحقيق دين الله في نفسها ومحيط أسرتها، وإن
وهبها الله فقهاً في الدين فلتكن خير معين لأختها في غرس بذور الإيمان بأحكام
الشرع والرضا بالتسليم بها، فكراً وممارسة، وتنقية النفوس مما من شأنه أن يثير
البغضاء والشحناء، ولتعلم أن خير معين لها في ضبط سلوكياتها وانفعالاتها وتوجيه
أفكارها هو التمسك بدينها والفقه فيه والعمل به، إذ به تتحقق المقاصد الإيمانية،
وتتهذب النفوس والطباع، ولا غرو أن حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على
الزواج من ذات الدين وتفضيلها من بين النساء، بقوله: (تنكح المرأة لأربع:
لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) [3] ، لأن من
جعلت إيمانها نصب عينيها، وسعت جاهدة في خدمة دينها، وتيقنت أن الدنيا دار
ابتلاء وفناء، وأن الآخرة هي دار القرار والبقاء، فإنها لن توصد أبواب الخير في
سبيل أعراض دنيوية ومصالح ذاتية، وستحاول أن تجعل نظرتها لما شرع الله من
أحكام ذات أبعاد إيمانية، تغرس في نفسها الرضا والتسليم بحكم الله ورسوله، قال
تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء 65] ، وحينئذ يمكنها أن تنظر
إلى قضية التعدد على أنها باب من أبواب الخير والدعوة إلى الله، فزوجها يمثل
الرابط المشترك بينها وبين أختها في الله الثانية أو الثالثة أو الرابعة، وأبناؤها
وأبناء أخواتها في الله هم أخوة لأب واحد، وإن أبناءه هم أبناؤها، ومن ثم فالعلاقة
وثيقة قريبة، فلتتعاون هي وأخواتها في الوعي بحقيقة هذا الدين، والوعي بالتربية
الإسلامية الحقّة التي يُرتجى منها جيلٌ قوي يعيد لهذه الأمة مجدها وعزتها، ولتعلم
أن هذا الأمر لا يمكن أن تقوم به جهود أفراد، وأن القضية في حاجة ماسة إلى
جهود جماعية واعية بصيرة، وأنّى لهذه الأمة بهذه الجهود الجماعية الفاعلة دون
مشاركتك أنت، أيتها المرأة المسلمة؟ .. فالرجل الصالح يحتاج لمن يأخذ بيده
ويدفعه للأمام دائماً، فما بالك إن تعاونت أنت وأخواتك على ذلك؟ .. وتعاضدتن
على حسن تربية أولاده ومعاونته في ذلك، فيد الله مع الجماعة أينما كانت،
والقضية قضية إيمانية في الدرجة الأولى تحتاج منك أيتها المرأة المسلمة تجرداً
ذاتياً لله تعالى، وتوجهاً خالصاً في خدمة هذا الدين، وتطلعاً إلى تحقيق واقع جيل
القدوة في حياتنا المعاصرة، فأمهات المؤمنين الطاهرات خير قدوة، والصحابيات
العفيفات خير أسوة.. وكوني على يقين أن الله تعالى سيعوضك خيراً، ولن يضيع
عملك الذي ابتغيت به وجه الله راضية مسلّمة بحكمه، مقتدية بسنة نبيه - صلى الله
عليه وسلم - وأصحابه من بعده، قال تعالى: [أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ] [آل عمران 195] ..
2- الحرص على الممارسات الشرعية في التعدد من قبل الطرفين الرجل
والمرأة، ويقصد بذلك ضبط السلوكيات ضمن ضوابط الشريعة، وتوجيهها في
إطار العقيدة، أي محاولة أن يكون الهدف من وراء التعدد من قبل الرجل، وقبول
الزوجة به، ذا أبعاد إيمانية، يعلوها صدق التوجه لله في ذلك وطلب مرضاته
بخدمة هذا الدين، وتحقيق العفاف في صفوف أفراد المجتمع الإسلامي، وتكثير
الذرية الصالحة، وضبط الممارسات تبعاً لهذه الوجهة العقدية الشرعية والتي تكفل
انضباط الأخلاقيات ضمنها على قدر رسوخها واليقين بها، والتي تجعل قبول المرأة
للتعدد يتوجه للتسليم الخالص به ابتغاء مرضاة الله، وخدمة دينه، وتجعل شراكة
الزوجات، شراكة إيمانية قوامها التعاون على البر والتقوى، ومعينها سعة صدر
المؤمنة لكل ما من شأنه خدمة هذا الدين، والمساهمة في تربية جيل يرتجى
صلاحه وفاعليته: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة 71] .
فعسى الله أن يرحمنا ويعفو عن تقصيرنا في فهم هذا الدين، والوعي بعظم
مقاصد شريعته، ونرجو أن يرزقنا الفقه في الدين، وتمثله فكراً وممارسة في سبيل
واقع أفضل.
__________
(1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن، 2/1009.
(2) انظر: أبو عبد الرحمن، فضل تعدد الزوجات، ص 17-19 (إذ أورد فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز في تعدد الزوجات) .
(3) صحيح البخارى، 5/1958، كتاب النكاح، باب 16، 4802.(60/42)
البيان الأدبي
إسلامية الأدب.. لماذا وكيف؟
(2)
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
الشبهة الثانية:
يدعي بعضهم أن الأدب الإسلامي يحول بين الأديب وبين الإبداع الفني الذي
يحقق المتعة للقارئ فهو أدب وعظ وإرشاد فقط، وأقول: إن الذين يطلقون هذه
المقولة لا يبحثون عن الحقيقة بحثاً علمياً جاداً وإنما يتأثرون - غالباً - بما يشاع
ويقال. وأذكر أن دكتوراً وأديباً وشاعراً من بلد عربي قال لي ذات يوم: إن نجيب
الكيلاني يفتقر في قصصه ورواياته إلى الإبداع الفني، إنه كاتب سردي فقط وبعد
نقاش بيني وبينه تبين لي أنه لم يقرأ لنجيب الكيلاني شيئاً، وإنما قرأ عنه بعض ما
كتب نقاد غير منصفين ممن يختلفون مع الكيلاني في المنهج، واتفقنا أن يقرأ ذلك
الدكتور رواية (عمالقة الشمال) للكيلاني، وقرأها ثم قرأ رواية (عذراء جاكرتا)
للكاتب نفسه فتغير حكمه على نجيب الكيلاني من النقيض إلى النقيض.. هذه قصة
حدثت أحببت أن أقدمها في بداية الرد على هذه الشبهة.
وأعود إلى صلب الموضوع فأقول: الأدب الإسلامي راعى في التعريف
الموضوع له جانب الإبداع الفني، فقد مر معنا في تعريفه أنه (التعبير الفني
الهادف) فكلمة الفني شرط في الأدب، إذ أن من أهم الفوارق بين النص الأدبي وغيره (الإبداع الفني الذي يحقق المتعة) ، وهذا الإبداع لا يخضع لشروط مقننة محددة، وإنما هنالك إطار عام متعارف عليه في مجال الأدب يتكون من سلامة اللغة، وحسن الأسلوب، وصدق التجربة الشعورية، وجمال التصوير، ثم إن للكاتب أو الشاعر بعد ذلك أن يتفنن في أدبه بما يحقق المتعة الفنية، طولاً وقصراً، رمزاً وإيحاء أو وضوحاً ومباشرة وهذا الجانب الفني ليس وقفاً على أحد بل هو مشاع بين الأدباء على اختلاف مشاربهم ولغاتهم، يبدع فيه من يبدع ويخفق فيه من يخفق، ... وإذا تحقق في النص الأدبي ذلك الإطار العام للإبداع الفني فليس من حق أحد من النقاد أن يلغي هذا الجانب في نص ما بسبب اختلاف في المنهج والفكر. ...
وعندما يعني الأدب الإسلامي بجانب الإبداع الفني فإنه لا ينطلق في ذلك من
التقليد للآخرين، وإنما يعتمد على رؤية إسلامية أصيلة، عُني بها القرآن الكريم في
أسلوبه المعجز. كما عني بها أشد العناية الرسول -عليه الصلاة والسلام- أما
القرآن الكريم فهو واضح لكل مسلم يقرؤه بتدبرٍ ولا يهجر تلاوته وتدبره منشغلاً
عنه انشغالاً كلياً أو جزئياً بنصوص الأدب وأحكام النقاد قديماً وحديثاً. ولعل في
كتاب (التصوير الفني في القرآن الكريم) لسيد قطب - رحمه الله - ما يغني ...
ويشفي.
أما عناية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجانب الفني فتؤكدها الروايات
الصحيحة في هذا المجال. ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم من أن الرسول -
صلى الله عليه وسلم- دعا الشعراء إلى المنافحة عن الإسلام، فأنشده عبد الله بن
رواحة فلم يُرْضِ وأنشد كعب بن مالك فلم يُرْضِ، ثم بعث إلى حسان ودعا له وقال: إن روح القدس - يعني جبريل عليه السلام - يؤيدك [1] ، ونتساءل هنا، ما
الذي جعل الرسول عليه الصلاة والسلام يختار حسان ويفضله على صاحبيه، مع
ما نعلم من حبه -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك؟
إن الإجابة الشافية على هذا السؤال موجودة في كتب الأدب التي جعلت حسان
بن ثابت فحلاً من فحول الشعراء، فهو من الشعراء البارزين في سوق عكاظ،
وقصصه في التنافس مع فحول الشعراء معروفة، وقد ذكر ابن سلام الجمحي في
طبقات فحول الشعراء أن حسان يعد أشعر أهل القرى يعني بذلك مكة والمدينة
والطائف، وشعر حسان دليل على قدرته الفنية.
إذن فاختيار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت لم يكن اختياراً
عشوائياً وإنما كان مبنياً على رؤية نقدية واضحة، كيف لا ورسول الله -صلى الله
عليه وسلم- هو الخبير بمواطن القوة والضغف في اللغة العربية أليس هو الذي قدّم
حسان عندما جاء إليه وفد تميم، وكان حسان حينها غائباً فانتظره حتى جاء فألقى
قصيدته المعروفة:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنَّةً للناس تتَّبع
حتى قال وفد تميم: إن هذا الرجل المؤتى له، لخطيبه أبلغ من خطيبنا
وشاعره أشعر من شاعرنا [2] ، ومما يؤكد عناية الإسلام بالجانب الفني في الأدب
ما رواه جلال الدين السيوطي في كتابه (الدر المنثور) حيث ذكر أن الصحابة قالوا
لعلي -رضي الله عنه-: أهج شعراء المشركين، فقال لهم: استأذنوا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فاستأذنوه فقال لهم -عليه الصلاة والسلام-: ليس بذاك،
ابعثوا إلى حسان.
لماذا حسان؟ ؟
لأنه شاعر فحل قادر على تصريف الكلام وصياغته بأسلوب فني رفيع. ليس
هناك تفسير غير هذا، ولو لم يكن مقياس الاختيار فنياً، لما اختار الرسول -عليه
الصلاة والسلام- حسان وفضله هنا على عليّ، فإن ابن عمه أحب إليه وأقرب من
حسان، ولكنها الإجادة في الشعر قدمت حسان بن ثابت هنا. إذن فالإبداع الفني
شرط رئيس لا يمكن التنازل عنه من قبل الأديب المسلم، وهذا الإبداع متوفر في
الأدب الإسلامي قديمه وحديثه وإنما تجاهله من تجاهل، وعمي عنه من عمي،
خاصة بعد أن استحكمت (الشللية) في ساحة الأدب فأصبح التصنيف مبنياً على
آراء شخصية، نصيب العدل والإنصاف فيها قليل.
أما قضية الوعظ والإرشاد فهي من القضايا التي يظلمها كثير من النقاد
المعاصرين، فهي ليست عيباً فنياً في ذاتها، وإنما تكون عيباً حينما يقف عندها
الأديب فلا يتجاوزها، أو عندما يقدمها إلى الناس خالية من التصوير الفني،
والأدب الإسلامي ينظر إلى النصوص الأدبية التي تحمل وعظاً وإرشاداً بمنظار
فني دقيق، فإذا توافر فيها الإبداع الفني صياغة، وخيالاً وصدقاً في التجربة فهي
أدب جميل، وإن كانت وعظاً، وإذا لم يتوافر لها ذلك الإبداع فهي غير مقبولة فنياً. ومما ابتلي به الناس في ظل الآراء النقدية المذبذبة بين المقاييس الغربية والعربية، أنهم إذا سمعوا حكماً نقدياً تعلقوا به دون تدقيق وتمحيص. وإلا فإن من الأدب
الوعظي ما هو في قمة الإبداع الفني، وما شعر أبي العتاهية عنا ببعيد، وفرق
كبير بين شاعر يتحدث عن الموت حديثاً جامداً جافاً، وبين آخر يصور لنا وقع
الموت على نفسه تصويراً يدفعنا إلى التفاعل معه والتأثر به.
إن الذي دفع بعض نقاد هذا الزمان إلى مواجهة فكرة الأدب الإسلامي
بالرفض هو تأثرهم بالآراء النقدية الغربية والانشغال بها كلياً عن حقيقة الأدب
الإسلامي، فيكون استقراؤهم للنصوص ناقصاً. ومن ثم تكون أحكامهم النقدية غير
سليمة، لأنه يريدون أن يكون شاعر أو روائي إسلامي نسخة مكررة من شاعر أو
روائي غربي، وهذا أمر مخالف لطبيعة البشر.
إني أرى في حكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على شعر زهير بن
أبي سلمى رؤية نقدية جديرة بالاهتمام، وهي مرتبطة بالجانب الفني حيث وصفه
بقوله: كان لا يعاظل في كلامه ولا يأتي بوحشي اللفظ ولا يمدح أحداً إلا بما فيه.
ففي هذه المقولة إشارات نقدية فنية.
فكلمة (عاظل) في مدلولها اللغوي تعني الاضطراب وعدم التنسيق فهي في
القاموس تعني تراكم الأشياء فوق بعضها دون ترتيب، فأنت تقول: عظل الجراد،
أي ركب بعضه بعضاً، وعاظل فلانٌ في كلامه، أي: عقّده ووالى بعضه فوق
بعض وكرَّره، وتقول: عاظل الشاعر في القافية: أي علَّق قافية البيت بما بعده
على وجه لا يستقلُّ بالإفادة، وتقول عاظل في الكلام: أي أتى بالرجيع من القول.
فمعنى المعاظلة هنا إخلال بفنية القول، وذلك ما لا يقع فيه الأديب المبدع أو
الشاعر المجيد، فهنا مراعاة واضحة للجانب الفني من قبل عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه-، ومثل ذلك قوله: ولا يأتي بوحشي اللفظ. إنها عبارة دقيقة تدخل
في صلب الإبداع الأدبي، ثم يشير عمر بن الخطاب إلى قضية أدبية مهمة تحدّث
وما يزال يتحدّث عنها النقاد كثيراً، ويعدونها شرطاً من شروط الإبداع في النص
الأدبي ألا وهي (صدق التجربة الشعورية) فكلمة (لا يمدح أحداً إلا بما فيه) توحي بهذا الجانب الفني المهم [3] .
ومن هنا كانت قضية (الإبداع الفني) أصيلة في الأدب الإسلامي إنها تنبع
من الرؤية الإسلامية الناضجة للأدب بصفة عامة، وليس قضية عابرة، ولا أمراً
وافد علينا، والأدب الإسلامي يرى أن الإبداع الفني ينبثق من التراث الإسلامي
أصلاً، ثم يفيد من التجارب الحديثة، أي أنه يُبنى على قاعدة أصيلة، فهو ليس
قفزاً في الهواء.
وأقول: أن شبهة إهمال الأدب الإسلامي للإبداع الفني باطلة، وإنما روج لها
أدونيس وأمثاله الذين لا ينظرون إلى الماضي ولا يرتبطون بتراثهم إلا بما يخدم
وجهة نظرهم المحددة القائمة على التساؤل الرافض لكل شيء يمت إلى أصالة الأمة
الإسلامية القائمة على الدين بصلة، وبهذا يقولون بوجوب تبني المشروع الحداثي
الذي يعني أن نتساءل عن الدين والشعر ما هما، أي دين وأي شعر؟ ؟ [4] ، [*]
أما الأدب الإسلامي فهو يعرف الدين تماماً، ويعرف الشعر والأدب. ولهذا
فهو يشكل نقطة الضوء التي يمكن أن يستدل بها الجيل في سراديب الأدب المعاصر
المظلمة.
__________
(1) انظر صحيح مسلم، باب فضائل حسان بن ثابث -رضي الله عنه-.
(2) انظر الجزء الرابع من سيرة ابن كثير، ص 82 وما بعدها.
(3) انظر لمعرفة الخبر بتمامه، كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، 1/188.
(4) راجع صدمة الحداثة لأدونيس ص 258 وما بعدها.
(*) ونحن نقول: بل إن أدونيس هذا وأمثاله ينظرون إلى الماضي وينظرون إلى الدين ولا ينكرون تأثيره ولكن أي دين؟ دين القرامطة ودين الحلاج وغيره من المارقين - البيان -.(60/52)
إلى متي؟
محمود مفلح
إلى متى والليل لا يرحل ... وكلُّ هذا العهرُ لا يخجلُ؟
والساق لا تسأل عن ساقها ... والباب لا يورى ولا يقفل
إلى متى والشيخ لا يرعوي ... عن غيّه، والطفلُ لا يعقل
إلى متى والريحُ في أرضنا ... تعوي، وهذا الجبن يستبسل؟
والسهلُ لا يهفو إلى سهله ... والنهرُ لا نهرٌ ولا جدول
والجهل يقضي بيننا واثقاً ... والعقل لا يقضي ولا يفصل
****
إلى متى ينزو علينا الأسى ... والكأس من آهاتنا تثمل؟ !
وكل أهل الأرض قد مزقوا ... أكفانهم، بل سافروا واعتلوا
ونحن في بحر خصوماتنا ... والنار غيرَ الودِّ لا تأكل
راياتنا ألفٌ بلا عزة ... أصواتنا من بعضها تجفل! !
والبلبل الغريد لا ينتشي ... والوردُ في أكمامه يذبل
وكلنا يا أمتي ظامىءٌ ... ودون هذا المنحنى المنهل..
****
يا أمتي يا أمتي إنني ... أبكي وصدري من أسً مِرجل
أعزّنا الله فماذا جرى ... حتى يهون النسرُ والأجدلُ! ؟
وعندنا يا أمتي مشعلٌ ... فكيف يخبو عندنا المشعل
ونحن قومٌ سادة في الورى ... ونحن من أسيادهم أفضل
فكيف ينأى المجد في أرضنا ... والنصر عن أسيافنا يذهل
وكيف نستنبت هذا الأذى ... وكلنا في حقده يوغل
وكلما مرّت ليال بنا ... رأيتُ فيها الخطبَ يستفحل
****
أضيق بالحرف وأشجانه ... فالحرف في أفواهنا حنظلُ
الخيل كلّ الخيل صهالةٌ ... ما بال هذي الخيل لا تصهلُ؟ !
والناس شادوا ناطحات السما ... ونحن يغفو عندنا المعول
ننام والحالُ على حالها ... (اللهو والهَيصة والبرْْطل)
كم مرة همت بها أمتي ... همّتْ ورغم الهمِّ لا تفعل!
كم مرة كان لنا محفلٌ ... وانفضّ عن أسراره المحفل
****
القدس ما زالت على حالها ... واللدّ والرملة والكرملُ
والشعب ما زال بها صامداً ... رغم العذاب المرّ يستبسل
يا أمتي يا كعبةً للهدى ... يا أيها السيف الذي يُصقل
ما زال نبض الحب في خافقي ... هلا يجيء القادم الأول
أرنو إلى تلك الوجوه التي ... فيها يضيء الليلُ بل يرحل
ما زال فينا عصبةٌ حرة ... في كلِّ يوم حبلها يُفتل
تمضي ويمضي الفجر في إثرها ... فيها يُرى تاريخنا المقبلُ(60/58)
المسلمون والعالم
مشاهدات في بلاد البخاري
(2)
د. يحيى اليحيى
3- صمود المسلمين وتحديهم للإلحاد:
لقد قاوم المسلمون - ولا أعني جميع المسلمين - جميع موجات الكفر
ومخططاته بعود صلب، وهمة عالية، وقناة لا تلين، وعزة بدين الله، وهذا يدل
على أن أولئك القوم كانوا يحملون همّ الإسلام في قلوبهم، ومن كان يحمل همّ
الإسلام في قلبه فلا بد أن يجد مجالاً ومخرجاً لتبليغ دين الله تعالى.
فكان من مظاهر مقاومة المسلمين للإلحاد ما يلي:
1- عدم الاعتراف بالأسماء الرسمية إلا عند المعاملة وفي الجوازات، فلا
تكاد تسمع فيما بينهم إلا الأسماء الإسلامية، بل إن كثيراً منهم لا يحفظ اسمه
الرسمي فقد قابلت عدداً من الطلاب إذا سألته عن اسمه في الجواز لا يعرفه بل
يخرج الجواز ويقرأه عليك! وهذا بحد ذاته تحد صارخ للشيوعية التي تفرض
عليهم هذه الأسماء، ثم بعد ذلك لا يحفظونها ولايتخاطبون بها.
2- تربية الأولاد على بغض الروس وكراهيتهم، والنفرة من عاداتهم
وتقاليدهم، وهذا أمر عجيب وطيب، فالطفل مثلاً إذا سألته عن جاره الروسي تجده
يبغضه وينفر منه.
وقد سألت أحد الثقات هناك فقلت له: عادة التدخين بين المسلمين قليلة فلم؟
هل هذا راجع إلى قلة الدخان أم غلائه أم ماذا؟ فقال: لا، إن الناس عندنا - يعني
المسلمين - يقولون: التدخين من عادة الروس ولذا فكثير منهم يتركها! ثم سألته:
النساء عندكم متبرجات ومع ذلك فلم أر امرأة تقود السيارة فلماذا؟ فقال: إن قيادة
السيارات من عادة الروسيات والمسلمون يكرهونها.
3- إرضاع الأطفال بغض الشيوعية، وعداوتها وكذبها، فلقد قابلت عددا
كبيراً من الطلاب - وبعد أن درسوا في مدارس الشيوعية - فإذا سألته هل أحد من
أقاربك شيوعي؟ أشاح بوجهه وكره ذلك السؤال، واستغربه، وقال: أعوذ بالله،
سبحان الله.
4- تعليم الأولاد أحكام دينهم والاعتزاز به، وهذا على حسب علم أهل البيت
وما تبقى عندهم من أحكام الإسلام، وأقلهم يعلم الشهادتين. ولقد قابلت عدداً من
الأطفال في كثير من المدن والأحياء ووجدت التباين فيما بينهم في معرفة الإسلام،
فبعضهم لا يعرف إلا الشهادتين، وبعضهم لا يعرف إلا بسم الله الرحمن الرحيم،
وبعضهم يحفظ شيئاً من القرآن، وبعضهم يحفظ أسماء الله الحسنى.
ومررت بمدارس قديمة في مدينة خيوة من خوارزم، وأطفال ما بين سن
الثالثة والخامسة، يصعدون على شرفات هذه المدرسة، فقلت لهم - بعد أن
وضعت أصبعي في أذني - الله أكبر، فما شعرت إلا وقد وضعوا أيديهم على آذانهم
وبدأوا يصرخون: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله،
ففرحت - يعلم الله - فرحاً عظيماً.
5- التعليم السري، وهذا النشاط يدل على أن أولئك القوم كانوا يحملون في
قلوبهم الحرقة على دين الله -عز وجل- على الرغم من قطيعة إخوانهم لهم، ومن
تجاهلهم لهم، وعلى الرغم من هذه الغربة الشديدة، ومن هذا الضغط العجيب الذي
لم يسمع به، ومن فقدان المصاحف وكتب العلم، ومن الفقر وقلة ذات اليد، على
الرغم من ذلك كله فقد قام عدد من المنتسبين إلى العلم بتعليم القرآن، وأحكام
الإسلام، سراً تحت السراديب في حجرات في بيوتهم، وهذا التعليم يتقرب صاحبه
به إلى الله تعالى لا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً، فالطالب يسكن في البيت ويأكل
ويشرب وينام ويلبس كل ذلك على حساب صاحب الحجرة. وقد قام نظام الحجرات
على تكليف الأخيار سواء كانوا طلاب علم، أو محبين للخير بأن يضم إليه طالبين
أو ثلاثة ولا يزيد عن خمسة، فإن كان طالب علم فيقوم بتعليمهم كتاب الله، وأحكام
الصلاة والصيام والأحكام الضرورية، ثم يعلمه سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-
وخلفائه الراشدين، ثم يعلمه اللغة العربية والصرف والنحو.
ويشترط أن يكون الطالب من الغرباء، فلا يكون من نفس المدينة أو القرية،
فمثلاً إذا كان المدرس في جمهورية أوزبكستان فالطالب يأتيه من طاجكستان أو من
غيرها، بل إنني وجدت في بعض الحجرات طلاباً يبعدون عن أهلهم بمسافة تقدر
بآلاف الكيلو مترات، وغالباً ما يكون هؤلاء الشباب ممن تخرجوا من المدارس
الثانوية الحكومية الإلزامية، وذلك أن الدراسة الجامعية عندهم ليست إلزامية، بل
تأخذ الجامعات رسوماً على الطالب، وهؤلاء الشباب الغرباء يجلسون عند الشيخ
في الغرفة مدة ثلاث سنوات، لا يزور أهله إلا في الصيف، ولا يخرج من هذه
الغرفة الصغيرة إلا مرة واحدة في الاسبوع للاستحمام - لأن بيوتهم لا يوجد فيها
حمامات - ولقد دخلت بعض هذه الحجرات فرأيت من صبرهم وجلدهم على التعلم
أمراً عجيباً، يفتقده كثير من طلاب العلم في العالم الإسلامي، تجد شاباً في سن
السادسة عشرة أو أكثر جالساً في غرفة مظلمة، والكتاب بين يديه، وليس للتعليم
عندهم وقت محدود فمتى ما زرتهم تجدهم عاكفين على التعلم، وقت الصباح
والظهر والعصر والعشاء وآخر الليل! !
أما إن كان صاحب البيت ليس عنده علم فإن الطلاب يسكنون عنده ويعطون
الكتب للدراسة، ثم يأتي الأستاذ إليهم مرة واحدة في اليوم أو اليومين أو أكثر حسب
بعد المنطقة، وهكذا يمر في سائر الحجرات، فيلتقي معهم في ساعة متأخرة من
الليل خوفاً من أن يطلع أحد عليه فيدارسهم القرآن والسنة، وباقي الدروس.
هذا دأبهم في التعليم منذ سنين طويلة، ولا يعلم بهم أحد حتى جارهم في
البيت، وقد قابلت عدداً كبيراً من هؤلاء الطلاب فوجدت بعضهم يحفظ كامل القرآن
حفظاً جيداً، ولما سألت بعضهم كيف حفظت القرآن؟ قال: في الحجرة، في
جمهورية كذا. قلت له: أليس في هذه الجمهورية التي تسكن فيها حجرات، قال:
بلى، ولكن العلم لا بد له من الغربة، فقلت: على يد من تعلمت؟ قال: على يد
الشيخ عبد الله، قلت: من عبد الله؟ قال: لا أعرفه هذا عندنا عيب، نعم مدة
ثلاث سنوات لا يعرف شيخه وذلك حتى لا تكتشفهم المخابرات. وهذه الطريقة في
التعليم شاملة للجنسين الذكور والإناث، فالمرأة في بيتها وحجرتها بنات تدرسهن،
والأب في حجرته شباب يدرسهم.
وبعد الانفتاح خرج من هذه الحجرات آلاف الطلاب وكلهم يحمل مؤهلاً لا
بأس به من المعرفة، على الأقل مما يعلم من الدين بالضرورة، وعلى حفظ قسط
طيب من كتاب الله -عز وجل-.
6- تربية الأولاد على حب العربية لغة القرآن، فالأب والأم يربون الأطفال
على حب اللغة العربية وتقديرها، وبعضهم لا يعرفها ولم يسبق له أن رأى
الحروف العربية. وقد حدثني رجل ثقة فقال: كنت ابن عشر سنين فوجدت ورقة
مكتوب فيها بالحروف العربية وقد طرحت على الأرض فأخذتها، ثم بكيت،
وذهبت بها أجري إلى أمي وأقول: هذه أحرف القرآن لا يحترمونها بل يلقونها
على الأرض، فأخذتها أمي وطيبتها - وكان لنا صندوق فيه مصحف - فوضعتها
في المصحف، فلما عرفت العربية وكبرت فتحت المصحف وأخذت الورقة فإذا هي
أنباء موسكو بالعربية! !
إن هذا الصمود ليس شاملاً لجميع المسلمين بل لنسبة كبيرة منهم، فلقد قابلت
عدداً كبيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن الإسلام إلا مجرد الانتساب إليه بالاسم
أو النسب.
- يتبع -(60/62)
الإبعاد
[وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ]
د. عبد الله عمر سلطان
اليهود كانت ولا تزال أمة تنتشي بقتل الأطهار وتحتفل بملاحقة الصالحين..، أمة قتلت أنبياءها، وطاردت صالحيها، وأدارت ظهرها مرة بعد مرة لقوافل الرسل الكرام والأنبياء الأطهار، الذين أرسلوا لها ليثنوها عن غيها ويرشدوها إلى أفق الاستقامة ودرب النور.. هذا أمسها.. وهذا يومها شاهد على أنها الأمة المغضوب عليها..
الصالحون الداعون إلى ربهم كان طريقهم حطباً في الطريق، وسلىً يلقى
على الأعقاب وطرداً من الديار هرباً بالدين والمبدأ.. هذا لوط -عليه السلام-
يخرجه قومه: [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] والمتطهرون
من أتباع نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- خرجوا مهاجرين إلى الحبشة مرتين
وإلى يثرب حيث كانت من الحمى تستوطن ويهود تتآمر في هجرة الظفر والنصر
.. هذا كان قدرهم وقدر هؤلاء الفتية الذين أتى بهم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- مجندلين يوم الحديبية. روى البخاري (وبينما هم كذلك - في مناقشة بعد
الصلح -إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل
مكة حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من
أقاضيك عليه أن ترده إلي بموجب الاتفاق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنا لم
نقض الكتاب بعد، فقال: إذاً لم أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي فأجزه لي.
قال ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال: مكرز بل قد
أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت
مسلماً ألا ترون ما لقيت، وقد عذب عذاباً شديداً في الله) .... ثم انطلق هؤلاء ...
الأبطال هاجرين ديارهم في مكة مترصدين لعير وتجارة قريش في تلك البقعة النائية
على ساحل البحر الأحمر، حتى كان هذا الإبعاد إرهاصاً لفتح مبين..
وفي كل رحلة غربة وقافلة إبعاد ترفع التكبير كان النصر يأتي مع الصبر
ويعقب العسر اليسر.. وفق سنن العزيز الرحيم.
اليوم يستطيل يهود ومن خلفهم العالم النصراني الغربي المتواطىء ويقومون
بنفس الجريمة التي تحرمها قوانينهم ومواثيقهم التي لا تساوي قيمة الحبر الذي
كتبت به.. لكنهم في خضم الخوف من اشتعال الإيمان في الصدور، والجهاد في
الأعضاء، ينسون أن المعركة منذ هذه اللحظة دارت واستدارت وتوجهت نحو أفق
بديل..
ولم تعد معركة إسرائيل مع منظمات تطرح العلمانية حلاً أو الشيوعية خلاصاً
أو التطبيع رهاناً، أو أي مذهب آخر ساقط كمخرج لقضية المسلمين الأولى.. كلا
وفي ظروف دولية وإقليمية متجددة يماط اللثام مرة أخرى عن الإسلام، فإذا هو
ماثل في صورة طفل ينازل يهود وهو يزلزلهم بآيات البقرة، أو شيخ وهو يحمل
قنبلة مولتوف يقذفها في وجههم وهو يتمتم بأرجوزة ابن رواحة:
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
أو امرأة صبرت واحتسبت وقامت بتربية تسعة رجال كل واحد منهم تعده
ذخراً لقضية الإسلام شوكة في حلق اللئام..
لقد استجمعت الأمة قواها في ظل التوحيد، واختارت أن تعيد سيرة رجالات
الإسلام الأفذاذ الذين ضحوا ويضحون في سبيل القدس، لا لكونها حجراً أو شجراً
أو قطعة أرض، فهذا ما راهن عليه المارقون وحاولوا أن يجمعوا الفلسطينيين عليه
لعقود، لكن أبناء الإسلام تلوح لهم المساجد والمآذن وشجر الزيتون والإذخر،
فيحيوها في أذهانهم رموزاً لمواطن المعركة ومسارح لساح الجهاد الذي ينتظرهم..
إيجابيات..
ككل فعل بشري، وقدر ماض، كان حدث الإبعاد مزيجاً من الإيجابيات
والسلبيات التي نرجو أن تتحول إلى كم من الإيجابيات هائل، وقدر ضئيل من
السلبيات لا نملك إلا المدافعة والمحاولة لتغيير مسارها.
* إن أبرز إيجابيات الإبعاد تحويل مسار الصراع من بعده العلماني كصراع
حول الأرض والشجر، إلى منازلة عقيدة ودفع بين الحق المجاهد والباطل المستكبر..، لقد ظلت صيحات الدعاة خافتة لزمن طال، أما اليوم فإن الأعداء يدركون أن الصراع قد اختط زاوية أخرى تحمل في طياتها كما قال رابين خطراً داهماً على الكيان الصهيوني.
* ومن إيجابيات الإبعاد هذا الدرس العملي الذي تسابقت وسائل الإعلام
الغربية على نقله وتصويره، صورة معبرة للمبعدين وهم صابرون مصابرون
بروح عالية وإصرار على المكوث في هذا الجرد الموحش لا يؤنس وحدتهم إلا
صلاة أو ذكر أو دعاء..!
* تقديم صورة جديدة لقيادات لا تعرف الترف ولا المتاجرة بقضية شعبها،
إن شعوبنا ملت تجرع الهزائم وكرهت ملامح هؤلاء الذين تحولوا من صعاليك إلى
أباطرة عبر تقديم التنازلات تلو التنازلات.. أما هؤلاء فيشرعون في رسم مشروع
بطولة ومصابرة تحتاجها الأمة وهي ترى العارض المستقبل أوديتها وفيه ريح
تطبيع مدمر!
* في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات سماسرة التطبيع مع اليهود والمنادين
بالصلح مع إخوان القردة والخنازير وعبد الطاغوت، يعري المجاهدون المبعدون
هؤلاء العتاة، ويحذرون الأمة بلسان المقال من خطورة الإقدام على هذا الصلح مع
قوم لا يعرفون عهداً، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
* أما أمم (بطرس) المتحدة فأبت إلا أن تثبت لنا وللمشككين في نواياها ...
(وهم كثر) أنها حرب على كل طاهر وصالح من خلايا الأمة الإسلامية المستهدفة،
ويأبى الله إلا أن يفضح بطرس وأسياده فهو كان على بعد ساعة من مقر قيادة
حكومة الصهاينة كان في القاهرة ومقاديشو وأديس بابا، ولم يكلف نفسه عناء السفر
أو التصريح بشيء من عباراته البطولية التي يطلقها في وجه المحاربين للنفوذ
الأمريكي والغربي.. وإذا كان نصفك يهودي يا بطرس، هل تأتي هذه الحادثة إلا
لتكشف لنا عن خبث نصفك الآخر؟
* وإذا تطرقنا إلى الساحة العربية فإننا لا نجد إلا عجزاً وهواناً.. الأسلوب
المشروخ هو ذات الأسلوب.. شجب، استنكار، إدانة ثم إذا جد الجد.. إصرار
على خوض المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود، فطريق العجز يردي،
والضعفاء كالمعاقين لا يقدرون على الركض في دروب الجهاد..
وسلبيات..
* تدرك الدولة الصهيونية أهمية القيادة ودور الرموز، لذا فإنها سارعت إلى
إبعاد قيادات العمل الإسلامي في أول مناسبة بُعيد قتل المجند اليهودي، ولأنها لا
تحتمل وجود عمل إسلامي منظم وقوي فإنها سارعت إلى هذه الخطوة التي قد تؤثر
سلباً على انتشار الحل الإسلامي بين أوساط الشعب الفلسطيني، وهذا يقتضي إنشاء
قيادات بديلة تستعين بالكتمان وطول النفس في مواجهتها مع الأعداء و (بعض)
الأصدقاء!
* سارعت المنظمة إلى المزايدة على أحداث الإبعاد وتصويره أنه من
بطولاتها (فبطولاتها خارقة للغاية) ، وفي الوقت الذي طالب رئيسها الهرم عبر ...
صحافة اليهود بقتل (الجناة) الذين قتلوا الجندي اليهودي، كان يجري مباحثات مع
قادة حركة حماس من أجل التنسيق ونصب فخاخ المشاركة في هيكل منظمته
العلمانية..، إن الدخول مع هذه المنظمة المفلسة واقعاً ومعتقداً منعطف خطير
ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعيد النظر فيه، وهذه السلبية اصبحت حدثاً
متوقعاً على الدوام في إطار عجز الخطاب العربي وخوائه. فكما تنبأ العديد من
الإسلاميين سارعت طهران إلى ركوب الموجة الفلسطينية الجهادية واستغلالها في
نفس الوقت الذي كشفت فيه الأنباء خلال نفس الفترة عن صفقة سلاح إسرائيلية-
إيرانية عن طريق كوريا الجنوبية، وهذا دليل آخر على النفاق الرافضي الذي
يرضي البسطاء بتقديم الجعجعة الإعلامية، بينما يأكل اليهود الطحين الإيراني كما
فعلوا من قبل، إن السلوك الإيراني بحاجة إلى دراسات خصوصاً على الساحة
الفلسطينية التي ينبغي على المخلصين فيها أن يسترجعوا دروس القضية الأفغانية
وموقف إيران الإجرامي حيالها، أو ما كشفت عنه الأنباء المتواترة عن تقديم
كلاشنكوفات وأسلحة (رمزية) لمسلمي البوسنة في العلن، بينما يزود نظام الملالي
الصرب بالنفط القادر على سحق أبناء السنة من البوسنيين.
كلما مر يوم على المبعدين الصابرين في الجرد الموحش كشف لنا عن درس
إيجابي أو نقطة ضعف قاتلة، ولكن مجمل المسار لقضية الإبعاد هو مسار إيجابي
عسى أن يتحقق فيه قول الحق -عز وجل-: [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً] ، ولعلهم أن يكونوا أحفاداً لأبي جندل وصحبه.(60/67)
طاجكستان مأساة جديدة
د. مالك الأحمد
توطئة:
تقع طاجكستان في أقصى الجنوب الشرقي للاتحاد السوفييتي (سابقاً) وتشترك
بحدود مع الكثير من الدول وأهمها أوزبكستان من الشمال وأفغانستان من الجنوب،
إضافة إلى الصين وقرقيزيا وكازخستان.
وهي بلد جبلي في معظمه يسكنه أكثر من خمسة ملايين نسمة أكثرهم من
الطاجيك، ثم الأوزبك، بالإضافة إلى أقليات عرقية أخرى.
واللغة القومية هي الطاجيكية وهي فارسية الأصل، لكن اللغة السائدة هي
الروسية. والبلد غني بموارده الطبيعية والغلال والثروات المعدنية والتي من أهمها
اليورانيوم.
والسكان غالبيتهم من السنة ويوجد أقلية من الإسماعيلية. والبلد صغير
المساحة بلا جيش - كحال الجمهوريات الأخرى - لكن الجيش الروسي هو الذي
يحمي الحدود ويسيطر على المراكز الرئيسية سواء في العاصمة (دوشنبه) أو المدن
الأخرى، وقيادته بيد يلتسن شخصياً.
والبلد يتميز بخصائص هامة جعلته محط الأنظار ولعل أهمها:
- قوة الشعور الإسلامي (القومي) لدى الناس، وتمسك الناس بالتقاليد المحلية
وثوراتهم المبكرة ضد الروس في أوائل القرن الحالي، وكذلك الثقافة العالية لدى
الكثيرين خصوصاً في الشمال، والوحدة الإسلامية رغم اختلاف الأعراق.
- وجود حدود طويلة مع أفغانستان، مما قد يسبب خطورة عند قيام دولة
إسلامية قوية فيها.
- وجود نشاط إسلامي قوي وموحد تحت قيادة حزب النهضة الإسلامي.
الأزمة وتطور الأحداث:
استقلت الجمهورية عن الاتحاد السوفييتي سابقاً في سبتمبر 1991 بعد ما
يقارب الـ 130 عاماً من الاستعمار الروسي، وتنفست الصعداء، وخرج طلاب
العلم من الأقبية المظلمة التي اضطروا إليها سنين طويلة كي يحافظوا على دينهم
وعلى لغتهم العربية، ونشطوا في الدعوة والتعليم وأقبلت عليهم الأمة بقلوب
عطشى بعد عقود من التجهيل.
لكن الحكم استمر بيد الشيوعيين مستخدمين نفس سياساتهم السابقة مع تحوير
طفيف دون أن يغيروا عباءتهم كما فعل أشياعهم في الجمهوريات الأخرى واستمروا
في سيطرتهم على كافة المنظمات الشبابية والنقابات والإعلام والمراكز الهامة في
الدولة.
ومجاراة لتطور الأحداث، قاموا بعمل انتخابات (مزورة) في أواخر 1991
وفاز فيها رأس الشيوعية في البلاد نبييف والمدعوم من حزبه الشيوعي، ونتيجة
لذلك تحركت أحزاب المعارضة الوليدة ممثلة بحزب النهضة الإسلامي وهو الغالب، ومعه الحزب الديمقراطي والحركة الشعبية (حزب قومي) مطالبة الرئيس بالتنحي
عن الحكم، وقادت هذه الأحزاب مظاهرات حاشدة فاضطر الرئيس نتيجة الضغوط
لتقديم بعض التنازلات، وشكلت حكومة ائتلافية شاركت فيها المعارضة مع
الحكومة، مع وعد بإقامة انتخابات برلمانية (البرلمان ما زال تحت سيطرة
الشيوعيين) ، لكن الرئيس نكث بوعوده، فتحركت الجماهير بالآلاف بتوجيه من
المعارضة وحاصرت القصر الرئاسي ما يقارب الشهرين حتى اضطر الرئيس
للتنازل والهرب بعد ذلك..
تكونت حكومة جديدة مؤقتة من المعارضة وبعض الشيوعيين (المعتدلين)
وحصل دولت عثمان (من حزب النهضة) على منصب نائب الرئيس مع أنه لم تكن
للحكومة قوة فعلية ولا سيطرة على الشارع، فالقوة الحقيقية كانت للمليشيات
الشيوعية المسلحة والمنظمة والتي انسحبت بعد فرار نبييف وتجمعت في منطقة
كولاب، وانضم إليها الكثير من عتاة الإجرام الذين أخرجوا من السجون وبدأوا
بالتحرك للسيطرة على المناطق القريبة منهم، وهاجموا كرغينة معقل الإسلاميين
الذين لم يكونوا على استعداد للمواجهة، ورغم ذلك استطاعوا إيقاف الشيوعيين
مرات عديدة بأسلحتهم الخفيفة. تطورت الأحداث بعد ذلك سريعاً حيث اجتمع
البرلمان (الشيوعي) وخلع الرئيس وأسقط الحكومة، ثم تكونت حكومة جديدة ليس
للإسلاميين فيها وجود، وضمت المليشيات الشيوعية للحكومة وأصبح الإسلاميون
(حزب النهضة) عناصر خارج النظام، حيث بدأت مطاردتهم في كافة البلاد،
وحدثت مجازر رهيبة بحقهم، لدرجة أن بعض الصحف الغربية كتبت تقارير حول
ذلك، فطلبت الحكومة مراقبين من الأمم المتحدة لمتابعة الأوضاع في البلاد حتى
تنفي عن نفسها مسؤولية المجازر التي وقعت للمعارضة وبخاصة الإسلاميين.
دور المفتي:
المفتي ورئيس الإدارة الدينية أكبر تورجان زاده لعب دوراً خطيراً في
الأحداث، فهو ابتداء من الوضع الشيوعي السابق، معروف بتقلبه ومواقفه
المتعارضة، فتارة مع الشيوعيين وتارة مع المعارضة وأحياناً يلعب دور الوسيط،
وفي مرحلة لاحقة ساعد على تصعيد المواجهة بين الطرفين (وهو يخبر الأجانب
أنه يريد دولة هيكلها علماني وروحها إسلامية، وتلتزم بمعايير حقوق الإنسان
الدولية! ! لكنه لا يتحدث بشأن هذه الآراء بصراحة مع الحركة الإسلامية) [1] .
مواقف الدول الخارجية:
- أوزبكستان: وتعتبر من أخطر الدول ودورها خبيث للغاية، فهي دولة
علمانية صرفة بأسلوب دول العالم الثالث، وتعلن ذلك بصراحة وتحارب الإسلام
في عقر داره، وكانت مواقفها خلال الأزمة مؤثرة وخطيرة، حيث قامت بدور
إعلامي رئيسي في الأزمة تمثل في تشويه صورة الإسلاميين من حزب النهضة،
ووصفتهم بالتطرف والإرهاب والوهابية (التي يبغضها الناس ولا يعلمون ما هي)
وتعتم على أخبار المجازر، وتهون من خطورة الأحداث، وأخبارها دائماً في
مصلحة الشيوعيين، وعند تأزم الأحداث أقفلت الحدود مع طاجكستان لحصار
الناس ومنعهم من الهرب وبالتالي نقل حقيقة ما يجري للناس هناك، وقطعت
الاتصالات والطرق، والقطارات والطيران، ودعمت عسكرياً الشيوعيين وطاردت
من فر من الإسلاميين لأوزبكستان، بالإضافة لحصارها للإسلاميين الأوزبكيين،
وختمت ذلك بالقبض على رئيس حزب النهضة في أوزبكستان عبد الله أوته وما
زال مصيره مجهولاً.
- روسيا: كان للروس دور هام وخبيث وإن كان بشكل غير مباشر حيث أن
موسكو تعتبر مصدراً رئيسياً للأخبار والمعلومات. قامت روسيا بتشويه صورة
الإسلاميين ووصفتهم - كأوزبكستان - بالوهابية والأصولية وأنهم يقاتلون المسلمين، وهيأت الناس للتدخل في حال تعرض الجالية الروسية في طاجكستان للخطر.
أما في الجانب العسكري فقد قامت قواتها بحجز الإسلاميين عن الشيوعيين في
بداية الأحداث عندما كانوا يطاردونهم، وأوقفت الإسلاميين في كثير من المواقع،
ثم قامت في مرحلة لاحقة بالدعم العسكري المباشر للشيوعيين، وزودتهم بأحدث
الأسلحة، وشارك بعض الجنود في القتال، وقامت القوات الروسية بإغلاق الحدود
مع أفغانستان لمنع تنقل الإسلاميين أيام الأحداث وفرارهم آخر الأمر.
- الدور الغربي: تعتبر أمريكا ذات دور هام في دول آسيا الوسطى حيث لها
سفارة تتابع أحداث المنطقة عن كثب، وقامت أثناء الأحداث بمد أنصار نبييف
الشيوعيين بالأسلحة حيث هبطت طائرات نقل أمريكية في كولاب مباشرة تحت
غطاء المساعدات الإنسانية.
- أما الدول العربية والإسلامية فكان دورها سليباً كالعادة، عدا إيران
الرافضة والتى تحمي مصالحها فقط..
نتائج الأحداث:
* حدثت مجازر رهيبة بحق المسلمين والإسلاميين من حزب النهضة على
وجه الخصوص - وتقدر بين 12. 000 - 20. 000 بالإضافة لآلاف قتلوا
أثناء هربهم من الأحداث، بما فيهم من شيوخ ونساء وأطفال بأيدي الشيوعيين
ومسانديهم من الروس، وغرق المئات في نهر جيحون أثناء الفرار، والهجرة
القسرية لأعداد كبيرة من العائلات التي تضررت بالأحداث خصوصاً في جنوب
البلاد إلى أفغانستان (يقدرون بمائتي ألف نسمة) وهم يعيشون في وضع سيء للغاية
من برد شديد، انعدام للمؤن والألبسة والخيام.
* توقف جميع الأنشطة الإسلامية وحلقات العلم، وفرار الكثير من طلبة العلم
إلى البلاد المجاورة والتخفي.
* الملاحقة أو القتل والتعذيب اليومي لأي شخص اشترك في المظاهرات أو
ينتمى لحزب النهضة.
* تدمير وحرق ونهب مناطق الإسلاميين.
* توقف أنشطة البلاد الاقتصادية والأعمال والمدارس ودمار في كثير من
مرافق البلد.
تقويم للأحداث:
- المرتدون من العلمانيين والشيوعيين يمثلون أكبر خطر على الأمة
وعداوتهم لهذا الدين وأهله متأصلة في نفوسهم وهم لا يرعوون عن ارتكاب الجرائم
والقتل والاغتصاب للحفاظ على مصالحهم، ويتحالفون مع أعداء الأمة الخارجيين
كالنصارى واليهود وغيرهم لوأد المسلمين في ديارهم.
- الغرب والشرق على السواء لا يمكن أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام قيام دولة
إسلامية، وسيبذلون وسعهم للحيلولة دون ذلك إن ظهرت بوادره (مثال البوسنة
والهرسك) .
- سلامة المنهج ووضوح الراية ركن أساسي في العمل السياسي للمسلمين أما
دخول الإسلاميين في تحالفات مع أعداء الله الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة
أو مشاركة في حكومات مختلطة فإنه خلل في المنهج وعواقبه
- إن دخول الإسلاميين في اللعبة السياسية قبل أن يشتد عودهم خطر كبير
على الدعوة وآثاره لن تزول بسهولة، وكذلك اعتمادهم على جماهير غير واعية
ولم تتربَّ تربية سليمة، وإن الأمة تحتاج لجهود ضخمة من الإعداد والتربية
الإيمانية والجهادية قبل خوض المعركة مع أعدائها.
- وإيران خطر مستفحل وأثرها في طاجكستان ملموس نظراً لوجود اللغة
المشتركة وقد استفادت كثيراً من تقاعس أهل السنة، وإخواننا في حزب النهضة
اكتشفوا - أخيراً - حقيقتهم بعد أن وثقوا بهم في السنين الماضية، ولا أدل من
موقفهم السلبي تجاه الأحداث وكأنها لا تعنيهم.
وأخيراً نقول إن المأساة الدامية التي عاشتها الأمة في طاجكستان قدر من الله
وابتلاء وامتحان، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- ألا تكون عقوبة لهم. إن الأزمات
دروس للأمة لترتيب الصفوف ومتابعة الخلل وتصحيح الأخطاء والانتباه للمستقبل،
وفي ظني أن الدعوة - في عموم الجمهوريات الإسلامية - سوف تكون تحت مجهر
الأعداء ولن يدعوا الأمور تصل إلى ما وصلت إليه في طاجكستان، فالأمر سباق
بين دعاة الإسلام ودعاة العلمنة، فأيهم يسبق؟
__________
(1) كما ذكرت مجلة فورين بوليسي عدد 87/1992، ومن الجدير بالذكر أنه مطارد حالياً من قبل الحكومة الشيوعية، قال تعالى: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] .(60/73)
هل يعود الشيوعيون
إلى السلطة في كابول
أحمد الإدلبي
يتخوف بعض المراقبين الأفغان أن يؤدي الوضع المتدهور وغير المستقر في
العاصمة كابل بشكل خاص وأفغانستان بشكل عام إلى عودة الشيوعيين إلى السلطة
كما حصل في دوشنبه عاصمة طاجكستان مؤخراً وذلك بعد أن حكمت المعارضة
لمدة ستة أشهر.
المعلومات المتوفرة تشير إلى أن حزب الوطن الشيوعي والذي يضم جناحي
الحزب الشيوعي خلق وبرشم، عقد اجتماعاً لقيادته المركزية قبل سقوط نجيب الله
في أبريل الماضي، وقرروا التوزع في أحزاب المجاهدين وبقية المليشيات
الأوزبكية بزعامة الجنرال عبد الرشيد دوستم التي تحالفت إلى جانب المليشيات
الإسماعيلية وحزب الوحدة الشيعي مع أحمد شاه مسعود، ويلعب الرئيس بابراك
كارمل الدور الأساسي في هذا التحالف، وكان الهدف المشترك لكل عناصر
التحالف إبعاد الحزب الإسلامي عن السلطة، لكن مع مرور الوقت وإدراك الجميع
قوة الحزب الإسلامي، خاصة في معارك أغسطس الماضي عندما فشلت كل
عناصر التحالف في إبعاد الحزب عن كابل، بل استطاع التقدم عدة كيلومترات نحو
العاصمة. ومع رفض رباني التنحي عن السلطة مع انتهاء فترة ولايته للسلطة
وإصراره على عقد مجلس أهل الحل والعقد الذي أثار الشكوك بين الأفغان لرفض
خمسة أحزاب رئيسية لعقد هذا المجلس، وقد وقف الشيخ سياف بشكل واضح إلى
جانب رباني وهو موقف يثير تساؤلات عدة.
حاول حكمتيار كسر التحالف الأخير فقام بتشجيع أي قتال بين عناصر
التحالف حتى وقع الاقتتال بين مسعود وحزب الوحدة في ديسمبر الماضي نجم عنه
تدمير العديد من مناطق الشيعة حيث وجد علاء الدين برجوردي نائب وزير
الخارجية الإيراني من الصعب أن يعيد اللحمة بين الطرفين مرة ثانية رغم زيارتين
قام بهما إلى كابل عقب وصول رباني إلى السلطة، وقد التزم حكمتيار الصمت
حالياً حيال المليشيات حيث اكتفى بالمطالبة في حل كل قطاعات بقايا النظام
الشيوعي السابق، ولم يتحدث عن المليشيات أبداً، حتى أنه في تهديده الأخير هدد
الحكومة بأنه ما لم تقم بالإفراج عن أسرى الحزب الإسلامي الذين بحوزة الحكومة
منذ أبريل الماضي فسيعمد الحزب إلى إسقاط أي طائرة تحلق في سماء كابل أو
تقلع من مطار بغرام أو كابل الدولي، ولم يهدد بقصف الطائرات الجاثمة على
أرض المطار حتى لا يُعد هذا هجوماً على مواقع المليشيات.
وحسب قول المهندس حكمتيار فقد وضع ثلاثة شروط للمليشيات حتى يتعاون
معها: التخلي عن مواقع (بالاحصار، وتبة مهراجان، والمطار الدولي) وهي
مواقع استراتيجية من يتحكم بها يستطيع السيطرة على كابل..
ويبدو أن استمرار الوضع بهذا الشكل دون رجحان لهذه الكفة أو تلك سيصعد
المواجهة بين حكمتيار والأحزاب الأخرى خاصة بعد القتال الأخير بين قوات
حكمتيار وسياف حول كابل حيث إن قوة الأحزاب الشيوعية لم تمس ورغم هروب
قادتها فإنها لم تستقر في كراتشي أو إسلام آباد وإنما فضلت البقاء في بيشاور رغم
تعرضها للخطر مما يشير إلى عزمهم على تنظيم أنفسهم مرة ثانية.(60/80)
أخبار الجهاد والدعوة في الفلبين
لجنة الإعلام الخارجي في
جبهة تحرير مورو الإسلامية
تصاعدت المعارك بين مجاهدي جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة أميرهم
الأخ الأستاذ سلامات هاشم وبين جنود القوات المسلحة الفلبينية منذ أواخر الأسبوع
الأول لهذا الشهر (جمادى الأولى 1413 هـ) . وقد حشد العدو عدداً كبيراً من جنوده المدعمين بالمدفعية الثقيلة في الجبهات القتالية المتاخمة لحدود محافظات لانا الجنوبية وماجنداناو وكوتياتو الشمالية يوم الثلاثاء 9 جمادى الأولى1413هـ.
وشعر المجاهدون أن جنود العدو كانوا يستعدون للهجوم، فتسلل بعض فصائلهم
وراء العدو وهجموا عليهم من الوراء بالقنابل اليدوية والقاذفات والبنادق
الاوتوماتيكية السريعة بعد صلاة الفجر مباشرة من يوم الأربعاء 10 جمادى الأولى
1413 هـ. وقتل ثلاثة وأربعون منهم - أي العدو - في الحال وأصيب عدد منهم، وواصل المجاهدون هجومهم لعدة ساعات وتمكنوا من تشتيت صف العدو
وإضعاف معنوياتهم مما أدى إلى تقهقرهم ولم يتمكنوا من تنفيذ خطتهم للهجوم على
المجاهدين واستمر بعد ذلك تبادل القصف بالمدفعية إلى اليوم التالي (الخميس 11
جمادى الأولى 1413 هـ) وأما المجاهدون فقد استشهد أحدهم وأصيب بعضهم.
وقد دارت المعارك الشديدة بين الجانبين خلال الاجتماع الدوري العام الحادي
عشر المنعقد في الفترة بين (8-11 جمادى الأولى 1413 هـ) لجبهة تحرير مورو
الإسلامية بقاعدة أبي بكر الصديق حيث مقر القيادة العامة للجهاد الإسلامي في
جنوب الفلبين.
والمعارك في الجبهات القتالية المذكورة أمر عادي والاشتباكات وتبادل إطلاق
النار مستمر، وتشتد المعارك حيناً وتتضاءل حيناً آخر، والمجاهدون ثابتون في
خنادقهم يتناوبون منذ أوائل العام الهجري الماضي (1412) .
لمحة عن الاجتماع الدوري العام:
هو اجتماع سنوي يحضره كل من اللجنة المركزية لتحرير مورو الإسلامية
ومجلس الشورى ومجلس الجهاد التنفيذي ومندوبون عن اللجان والقيادات الإقليمية
في المحافظات المختلفة في مناطق مورو للتشاور والمشاركة في وضع سياسة عامة
وخطة للجبهة وبرنامج للعمل تطبيقاً لقوله تعالى: [وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] .
ومن أهم القرارات التي اتخذت:
- تأكيد القرارات السابقة بأن هدف جبهة تحرير مورو الإسلامية هو إقامة
دولة الإسلام في أرض مورو وتحكم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه
وسلم-.
- وإن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في
سبيل الله بالمال والنفس وبجميع ما تملكه من الأمور المعنوية والعقلية والمادية هو
طريقنا للوصول إلى الهدف.
- وأن ما يسمى بالحلول السلمية أو السياسية من الحيل التي يلجأ إليها الأعداء
لخداع المسلمين، لذلك لا وسيلة للوصول إلى الهدف إلا الجهاد في سيبل الله بمعنى
القتال، ولا وسيلة إلا القوة لردع الباطل.(60/82)
الملف الإعلامي
أخبار
* أكدت مصادر دبلوماسية في أسمرا أن الرئيس الاريتري، المؤقت أسياس
أفورقي توجه إلى تل أبيب للعلاج من الملاريا الدماغية وأوضحت أن الجهات
الاريترية المسؤولة تمتنع عن ذكر أسباب (اختفائه) منذ الثلاثاء واعتذاره عن عدم
لقاء الأمين العام للأم المتحدة الدكتور بطرس غالي الذي زار البلاد.
الحياة 8 / 1 / 1993
* مصادر أفريقية مطلعة تؤكد أن جماعة القس مون اليمينية المتطرفة - وهي
على علاقة وثيقة بفئات يمينية متطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية والقارة
الأمريكية بمجملها - بدأت تحركاً واسعاً للتغلغل في القارة الأفريقية، خصوصاً في
الجزائر وتونس والمغرب، بالإضافة إلى شاطىء العاج وتوغو وزائير وأفريقيا
الجنوبية. ينطلق القس مون الذي يمول مجموعة أحزاب وصحف في أوربا
وأميركا، من شركات تجارية ضخمة أسس الأولى منها في كوريا الجنوبية عام
1959، وهو يدير حالياً (أعماله) من مكاتبه الجديدة في جنيف حيث انتقل مؤخراَ
مستعيضاً عن مقره الدائم في زيوريخ.
الأسبوع العربي 11/1/1993
* آخر تقارير أمنية في أكثر من عاصمة أوربية غربية يؤكد أن التعاون
العسكري بين القيادة الصربية وإسرائيل في تنام ملحوظ وأن الطرف الآخر المستعد
لدخول هذه الحلبة (الودية) هو روسيا.
الأسبوع العربي 11/1/1993(60/85)
متابعات
الصحف الغربية ومسألة البوسنة
جاء في افتتاحية الديلي ميل [1] البريطانية بتاريخ 6/12/1992 ما يلي:
في الوقت الذي أصبح فيه وضع المسلمين الباقين في البوسنة يثير الشفقة
والرحمة بشكل أكثر، ازاد الضغط من أجل تدخل عسكري غربي في النزاع.
فالرئيس جورج بوش وفرانسوا ميتران يريدان تنفيذ المنطقة الحيوية الآمنة، وهذا
يعني إسقاط أية طائرة بوسنية ذات جناح ثابت أو طائرة مروحية تحلق في الأجواء
المحظورة. فلم لا نعطي الصرب البوسنيين ضربة قاسية فهم المعتدون والمنفذون
أساساً لسياسة القمع؟ ولم لا نسحقهم؟ هذا فعلاً شيء يثير الإغراء لأن المسألة
الأخلاقية لا يمكن الرد عليها. ومع هذا يبقى جون ميجور ودغلاس هيرد قلقين
ولكن ليس دون سبب. فإذا ما أسقطت طائرات مروحية صربية هل سيصبح
إيصال المواد الغذائية أكثر سهولة أو أشد صعوبة؟ وهل يصبح الجنود البريطانيون
الذين يرافقون بشجاعة قوافل التموين أكثر عرضة لقذائف الصرب؟ وهل
سيرتجف عناصر المليشيات الصربية المتواجدة على التلال أم أنهم سيزدادون عنفاً؟ نحن لا نعرف ومعظم السياسيين لا يعرفون أيضاً لكن الذين هم مؤهلين أكثر من
غيرهم أولئك الضباط البريطانيون المتواجدون في ساحة الميدان في البوسنة تحت
علم الأمم المتحدة. فإذا ما أشار هؤلاء إلى الحذر فإنه يتوجب عندئذ على رئيس
الوزراء جون ميجور أن يستجيب لنصيحتهم.
تعليق:
من أراد فهم السياسة البريطانية فليتأمل ما تقوله هذه الصحيفة، وكيف تداور
وتنافق وفي النهاية تعتذر بمصلحة الجنود البريطانيين والأصل هو الحلف المبطن
مع الصرب
لن نسمح بسقوط سراييفو [*]
أعلن زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار بادي أشداون الذي انفرد حزبه عن
بقية الأحزاب في بريطانيا بتأييد خطوة عسكرية لوقف اعتداءات الصرب بأن: (قوات الصرب تجلس على التلال آمنة من العقاب وتدمر مدينة مدينة من أجل
التسلية. فقد حانت اللحظة التي يتوجب أن نفعل فيها شيئاً ما. فإذا ما استخدم
سلاح الجو هنا (أي في البوسنة) فإنه يمكن تدمير الأسلحة الثقيلة التي تدمر سراييفو. وقال بادي أشداون في وجه الانتقادات التي تقول بأن سلاح الجو غير فعال في
البوسنة: (إذا كان الأمر كذلك فلماذا يخشى الصرب هذا الخيار كثيراً؟) . ...
وقال بعد لقائه بنائب رئيس البوسنة احجيب غانيك: (إنني والسيد غانيك
متفقين في الرؤية. فنحن لن نسمح بسقوط سراييفو في يد دولة الصرب في عملها
العدوانى الأخير. فسراييفو هي رمز أهليتنا للتمسك بالقانون الدولي. إنني أتوسل
إلى الغرب أن لا يحسب فقط تكاليف التدخل ولكن عدم التدخل الذي ستكون نتيجته
تدمير مدينة أوروبية) .
الذبح باسم صربيا الكبرى
نشرت صحيفة الهيرالد تربيون تقريراً أخبارياً يوم الاثنين في 14 ديسمبر
1992 حول هذا الموضوع لمراسلتها في زغرب سلافنكا دركولك فيما يلي عرض
لبعض ما ورد فيه:
يبدو أن ما يحدث في البوسنة والهرسك ضد النساء المسلمات والكروات لا
مثيل له في تاريخ جرائم الحرب. فالنساء يغتصبن بطريقة منظمة وكأنها جريمة
حرب معدة لتدمير شعب مسلم وتقويض حضارته وتكامله الديني وتقاليده. وأعداد
النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب يثير القشعريرة. فقد قدرت وزارة الداخلية في
البوسنة والهرسك في شهر أكتوبر الماضي، أن خمسين ألف امرأة قد اغتصبت
وأن عدداً كبيراً قد تعرض للاستجواب. ويخشى أن يكون العدد قد تضاعف منذ
ذلك الوقت أكثر. ففي العالم المتحضر يعتبر الاغتصاب جريمة حرب والاغتصاب
الجماعي وسيلة إبادة محرمة في القانون الدولي. فحياة عشرات الآلاف من النساء
قد دمرت والعالم مدين لهن بذلك على الأقل. فيما يلي سرد بسيط لما جرى لواحدة
منهن فقط:
تقول السيدة ز. ن. البالغة من العمر أربعين عاماً أن (عصابات) التشكانيك
بمجرد دخولها المدينة بدأت باختيار النساء والأطفال والعجز. فالرجال اقتيدوا،
بحجة إعادة توزيعهم، إلى معسكرات التصفية والتعذيب. أما نحن النسوة فقد
ساقونا إلى مدرسة حولت إلى معسكر. وقام جيراننا السابقون بوضعنا في السجون
فقد عرفت العديد ممن كانوا يزوروننا في الماضي. وبمجرد دخولنا المعسكر دخل
أتباع الزعيم الصربي ميلان مارتيك ببنادقهم واختاروا الفتيات والنساء صغار السن
ووضعوهن في قاعة وأخبروا عصابات التشكانيك بأن يفعلوا بهن ما يشاؤوا. خيم
الهدوء للحظات قفز بعدها رجال التشكانيك على النسوة كالحيوانات وأمعنوا بتمزيق
ملابسهن وشد شعرهن وقطع نهودهن بالسكاكين. وقام هؤلاء بقطع كرش أي امرأة
تلبس سروالاً تقليدياً خاصاً بالمسلمين. وأما النسوة اللواتي بدأن بالصراخ فقد قتلن
مباشرة. وقام رجال التشكانيك باغتصاب النساء والفتيات وتعذيبهن أمام بضعة
مئات من السجناء لعدة أيام. لقد كان منظراً لا يمكن تحمله، رؤية اغتصاب فتيات
أمام ذويهن.
في المساء عادة وبعد أن يشرب رجال التشكانيك كثيراً من الخمر، يأتون إلى
القاعة حاملين مصباحاً يدوسون علينا بحثاً عن فتيات تتراوح أعمارهن بين الثانية
عشرة والثالثة عشرة من العمر، لكن الفتيات الصغار يبدأن بالصراخ ويتشبثن
بأمهاتهن بقوة فيعلق شيء من ثياب أمهاتهن في أيدهن وهن يحملن مكرهات.
وبينما يقوم رجال التشكانيك بذلك يطلق النار علينا. وبعد ذلك يترك رجال
التشكانيك أجساد الفتيات في القاعة لكي نراها. لقد ذرفن الدموع حتى الصباح.
بعدها تأخذ الجثث لترمى في النهر. وهذه الصورة تتكرر كل يوم: يغتصبون
النساء ويقتلونهن أمام المئات منا.
وذات مرة، أخذت امرأة صغيرة السن مع طفلها إلى وسط القاعة. كان ذلك
في شهر مايو. فقد طلبوا منها أن تخلع ثيابها. وضعت طفلها على الأرض بجانبها
وقام أربعة رجال من التشكانيك باغتصابها. لقد كانت تنظر بصمت إلى طفلها
الجاهش في البكاء. وعندما تركوها طلبت منهم إذا كان بإمكانها إرضاع طفلها فما
كان منهم إلا أن قطعوا رأس الطفل بسكين. لقد صرخت المرأة المسكينة فأخذوها
إلى الخارج ولم تعد بعدها إلى القاعة.
__________
(1) الديلي ميل جريدة يومية تمثل الطبقة الوسطى من حزب المحافظين، وهي جريدة مهمة تستطيع أن تؤثر في الناس.
(*) الاندبندنت 16/12/1991.(60/86)
في دائرة الضوء
مشروع تقسيم العالم الإسلامي
دويلات الطوائف إلى أين؟ !
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مشاريع دويلات الطوائف وما يسمى
بـ (الكانتونات) ، خصوصاً مع تزايد النغمة الانفصالية ونغمة إقامة المناطق ...
المحمية؟ ! وتقف خلفها بعض الأصابع الخفية حول هذه الدعوات القديمة المتجددة باسم الإنسانية والدفاع عن حقوق الأقليات والطوائف الدينية والعرقية والمذهبية..
ففي العراق أقيمت منطقة لحماية الشيعة في جنوب العراق بعد إقامة محمية
للأكراد في الشمال؟ !
وفي السودان، طالبت حركة التمرد النصرانية في محادثات جوبا الأخيرة
بانفصال جنوب السودان عن شماله. أما مجلس الكنائس الأفريقي فقد دعا إلى إقامة
منطقة محمية في جنوب السودان على غرار ما يحدث في شمال العرق وجنوبه،
وكرر مثل هذا الكلام نفسه جون قرنق، أما الولايات المتحدة فقد صرحت أنها لا
تعارض مبدئياً تقسيم السودان؟ !
وفي مصر دعت بعض الجمعيات القبطية التي تعيش في الخارج أمريكا إلى
تدخل إنساني وإقامة منطقة محمية للأقباط لإنقاذهم من مذابح المسلمين؟ !
لقد أصبح ما يسمى بـ (المناطق المحمية) تقليداً تسعى الدول الغربية على
إشاعته في العالم الإسلامي فقط فهو مفصل على جسد الأمة الإسلامية المثخن
بالجراح.
أما لبنان، فقد كتبت مجلة الوطن العربي (18/91992) عن مشروع
(محمية دولية للموارنة في لبنان) بعد مقاطعة الموارنة للانتخابات الآخيرة ... التي أقيمت في لبنان مؤخراً وعلى رأسهم بطريرك الموارنة، حيث أجرى هذا البطريرك اتصالات مع بابا الفاتيكان يدعوه إلى التدخل لإنقاذ نصارى لبنان من الاضطهاد والتهجير القسري.
بالإضافة إلى مشروع تقسيم البوسنة والهرسك بين النصارى من الصرب
والكروات، وكذلك أفغانستان هناك محاولة لتقسيمها على أساس عرقي، أو على
أساس مذهبي وعقدي بين الشيوعيين وأهل السنة والروافض.
إنه صورة أخرى لاتفاقية (سايكس -بيكو) بينما تتجه الدول الأخرى إلى
الوحدة والتكتل مثل الوحدة الأوربية، والتكتل القادم بين دول أمريكا الشمالية
وغيرها.(60/90)
إحياء اليسار العربي
ماذا وراءه؟ !
كالعادة تبدو الأوضاع في العالم العربي مقلوبة، فعلى الرغم من سقوط اليسار
وأطروحاته في العالم أجمع، نجد أن التيارات اليسارية في العالم العربي ما زالت
تصول وتجول، وتستولي على المنابر الثقافية والإعلامية، والمؤسسات العلمية
والتعليمية، بالإضافة إلى إنشاء الأحزاب وإصدار الصحف والتي تلجلج
بالأطروحات اليسارية المهترئة..
بل هذه التيارات ازدادت نشاطاً وحيوية بعد سقوط معاقل اليسار في الشرق
والغرب الذي هو بالنسبة لها سند أيديولوجي ومالي وتنظيمي؟ ! واستطاعت
الوصول والاستيلاء على الكثير من المناصب والمنابر الإعلامية والثقافية والعلمية،
والسبب في ذلك أن الحكومات العربية كانت تتخوف من هذه التيارات اليسارية
وتسعى إلى تقليم أظافرها خشية من استفحال أمرها، ولكن بعد سقوط اليسار
وزواله، زال الخوف من هذه التيارات والاتجاهات اليسارية لأنها في وضعها
الحالي أضعف من أن تكون مصدر خطر على هذه الحكومات، والسبب الثاني هو
أن الوضع يتطلب التكاتف والتعاون ضد عدو حقيقي آخر وهو (الأصولية) كما
سموها. ولا أدل على ذلك من أن الأحزاب اليسارية الشيوعية والاشتراكية تصول
وتجول في الساحة بينما يزج آلاف من العلماء والدعاة والشباب الصالحين في
غياهب السجون.
ومن أمثلة المحاولات المستميتة لإحياء اليسار وتلميع وجوه أصحابه، ما نراه
من تغلغل اليسار في المنابر الثقافية والإعلامية وإليك الأمثلة:
رئيس تحرير مجلة (فصول) حالياً د. جابر عصفور وهو يساري، رئيس
تحرير مجلة (القاهرة) غالي شكري وهو نصراني يساري، رئيس تحرير مجلة ...
(إبداع) أحمد عبد المعطي حجازي وهو حداثي يساري، حيث تم إقالة رؤساء ...
التحرير السابقين والإتيان بهؤلاء اليساريين. وهذا تسلط من قبل اليسار على مثل
هذه القنوات الإعلامية والثقافية مما دعا د. مصطفى هدراة إلى كتابة رسالة إلى
الرئيس المصري يشتكي من خلالها سيطرة (الثقافة الماركسية العلمانية وفلول
الشيوعيين على المناصب الإعلامية والثقافية في مصر) ؟ !
أما في الجانب السياسي فإننا نرى محاولات متعددة من أجل تلميع الناصرية
والتجربة الناصرية من خلال المقالات والندوات والكتب، وقد أجمع المراقبون على
أن إنشاء الحزب الناصري وإعطاءه ترخيصاً على ذلك إنما هو من أجل مواجهة
الأصولية المزعومة وبالذات على صعيد الفكر والأيديولوجيا. ويحاول هذا الحزب
ركوب الموجة (الإسلامية) رغم البون الشاسع بين الطريقين؟ ! لما سئل الأمين
العام المؤقت (ضياء الدين داود) عن خلاف الناصريين القديم مع التيارات الإسلامية قال: (لا أعتقد أن هناك حزباً يعارض تطبيق الشريعة الإسلامية، لكن لكل اجتهاده. ولا مجال للحديث عن حزب علماني في المجتمع الإسلامي) [1] .
__________
(1) الحياة 12/11/1412هـ.(60/92)
طبيب الأسرة
مص الإبهام
د. محمد اهليل
إن عادة مص الإبهام أو الأصابع ظاهرة شائعة بين الأطفال، فهي مقبولة من
الناحية الطبية لمن هم دون سن الثالثة. أما بعد سن الرابعة فقد يكون تعلق الطفل
بإبهامه أو بأصابعه هو المؤشر الوحيد على وجود قلق نفسي أو اضطراب عاطفي
عند الطفل. إن 10% من الأطفال ما بين 6-12 سنة مبتلون بهذه العادة. قد
يصاحب هذه الظاهرة عادات مضطربة أخرى مثل:
- شد الشعر: حيث يقوم الطفل بوضع أصابعه بين ثنايا شعره وشده، وذلك
على فترات، أو يقوم بلف خصلات من شعره حول أصبعه أو أصابعه بطريقة
عصبية متوترة واضحة للعيان دون أن يحس بها هو نفسه.
- قضم الأظافر.
- أرجحة الجسم.
- صرّ الأسنان.
- ضرب الرأس.
- فرك أجزاء الجسم كاليدين مثلاً.
إن السمة المشتركة بين هذه الظواهر أنها نفسية المنشأ: فهي محاولة من
الطفل - دون أن يعي - التخفيف من حدة التوتر الذي يحس به. إن بعض هذه
العادات أكثر مضايقة للأهل من عادة مص الإبهام ذاتها.
ما هي المشاكل الناتجة عن عادة مص الإبهام؟
إن الطفل بمصه إبهامه أو أصابعه ومحاولته تهدئة نفسه إنما يحل مشكلة
واحدة ويترك مشاكل عديدة تنشأ وهي:
1- سوء إطباق الأسنان الدائم هذه أهم مشكلة جسدية قد تنجم عن عادة مص
الإبهام لفترات طويلة ومستمرة خصوصاً إذا استمرت هذه العادة بعد سقوط الأسنان
اللبنية وظهور الأسنان الدائمة، إن درجة سوء إطباق الأسنان الناجم عن مص
الإبهام متفاوتة في شدتها حسب عوامل كثيرة منها: قوة ومدة وكثرة أو قلة مص
الأصابع /الإبهام. وقد يصل سوء إطباق الأسنان إلى مرحلة متقدمة تبرز فيها
الأسنان العلوية للأمام بشكل واضح كما ينحرف الفك العلوي للجهة التي يوضع فيها
الإبهام. كما أنه عند إطباق الفكين تظل هناك فجوة واضحة بين الأسنان. إن
حالات مص الإبهام الشديدة قد تسمع من الغرفة المجاورة مثلاً.
2- عادة مص الإبهام قد تخل بالنشاط اليومي للطفل: فالطفل الذي يشغل
ذهنه وقواه العقلية بأصبعه وفمه فقط لن ينتبه للأمور الأخرى المحيطة به وعدم
الانتباه هذا سيقلل من تفاعله مع الآخرين: فاستخدامه ليديه سيقل لأن إحداهما في
فمه. ويقل أيضاً استخدامه لفمه ولسانه مما قد يؤثر على لغته وتطور قدرته
التعبيرية في التفاعل مع الآخرين، وبالمجمل فإن مشاركته الجسدية واللغوية تقل.
3- لعادة مص الإبهام مردود نفسي سيء على الطفل وذلك لشعور الأبوين
بالضيق والحرج لتصرف الطفل لا سيما أمام الناس، وهكذا ينعكس على
تصرفاتهما معه والتي قد تتصف بالقسوة وتتخذ من الزجر والتقريع (ولربما الضرب
أحياناً) وسائل علاج.
هل من علاج؟
عادة ما ينصح الآباء بإهمال شأن هذه العادة لأن معظم الأطفال يتخذونها
وسيلة تخفيف لحدة توترهم، والطفل يقلع عنها عندما يحس بالطمأنينة التي تعوضه
عن اللجوء لهذه العادة لتهدئة نفسه.
من المهم أن يدرك الأبوان أن أي محاولة علاج مصيرها الفشل - في غالب
الأحيان - ما لم يكن الطفل قد وصل إلى سن معينة يستطيع معها أن يدرك المشاكل
الصحية التي قد تنجم عن عادة مصه إبهامه وبالتالي استنفار دوافعه الذاتية لوقفها.
وقبل استشارة الطبيب، كثيراً ما يحاول الأهل اللجوء إلى أساليب متنوعة
مثل: لف يد الطفل أو ربطها، إلباسه قفازاً، وضع مواد حارة (كالفلفل) أو مواد
مرة الطعم أو الاستعاضة عن الإبهام بالمُسْكِتَة (المصاصة) . وما لم يدرك الطفل
جيداً سبب اختيار الوسيلة العلاجية ووجود رغبته في المشاركة في المعالجة، فإنه
بلا شك سينظر لهذه الوسيلة العلاجية كعقاب مما قد يزيد من ردود فعله السلبية
ويرفع من حد توتره.
وإليكم بعض النصائح الطبية التي قد تعين في التخلص من هذه العادة:
1- من الضروري أن يحاول الأهل تحديد سبب توتر الطفل والذي قد يدفعه
لمص إبهامه، ويكون ليس بمساءلته بل بمراقبة سلوكه في البيت وملاحظة
الحوادث التي تزيد من مصه إبهامه. فمثلاً: قد يكون إفراطهم في مداعبة أخيه
الأصغر وإهمالهم له السبب المؤدي لتوتره ومن ثم يحاول الأبوان - ما أمكن -
العمل على تفادي أو التقليل من بروز العامل المسبب لتوتر الطفل.
2- على الأهل العمل على ضبط مشاعرهما أمام الطفل وعدم التصرف
بانفعال عند رؤيته يمص إبهامه وعدم محاولة ضربه أو زجره خصوصاً أمام
الآخرين أو محاولة جذب أصبعه خارج فمه (يستثنى من هذه الحالة الأخيرة: أثناء
نوم الطفل ولا بأس من إخراج إبهامه من فمه برفق) . كما لا يجوز جعل الطفل
أضحوكة في البيت بسبب هذه العادة.
3- زيادة الوقت الذي يقضيه الوالدان مع الطفل وملء هذا الوقت بما يشغل
الطفل من أمور نافعة تتناسب مع عمره كاللعب أو التدريس مثلاً.
4 - محاولة إشغال يدي الطفل معظم الوقت - ما أمكن - باللعب أو الكتابة
وذلك بما يناسب سنه..
5- إعادة تشكيل سلوك الطفل: وذلك بتعزيز سلوك الطفل في الفترات التي
لا يمص فيها إبهامه: فمثلاً كلما زادت الفترات التي يقلع فيها عن مص إبهامه
خلال فترة زمنية معينة (أسبوع مثلاً) أو قل عدد المرات التي يمص بها إبهامه في
نفس الفترة يعطى الطفل جائزة معنوية أو مادية: كأن يعطى كل أسبوع شارة
(نجمة ورقية ذهبية اللون) تلصق في كراس خاص له وعندما يجمع عدداً معيناً منها
يعطى جائزة بسيطة: كقلم أو قصة للأطفال لتشجيع سلوكه للإقلاع عن مص
أصبعه.
من المهم أن نذكر أن بعض الحالات قد تخفق معها هذه الوسائل وهي الحالات
الشديدة، وهذه تحتاج إلى رأي الطبيب النفسي أو تحتاج إلى استخدام بعض
الأجهزة الطبية التي توضع بالفم للحيلولة دون وضع الطفل يده داخل فمه.(60/94)
وفاة الشيخ حمود التويجري
هيثم الحداد
توفي في مدينة الرياض عن عمر يناهز الثمانين، فضيلة الشيخ حمود بن
عبد الله التويجري - رحمه الله - رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
ولا يتسع المجال هنا لذكر ترجمة مفصلة للشيخ، ولكن سنذكر أهم ما تميز به. فأولها جلد عجيب على طلب العلم وتحصيله، وكان سمة بارزة في حياته منذ أن
بدأ الطلب في سن مبكرة حتى أصبح من حملة العلم وناشريه، فقد بدأ بحفظ القرآن
الكريم، فأتمه ولمّا يبلغ الحادية عشرة من عمره، ثم بدأ بطلب العلوم الأخرى على
علم المجمعة وفقيهها العلامة عبد الله بن عبد العزيز العنقري -رحمه الله تعالى-،
وإنك لتعجب حينما تسمع أنه كان يقضي يومه كله من بعد صلاة الفجر، حتى بعد
صلاة العشاء في القراءة والطلب. وقد لازم شيخه عبد الله قرابة ربع قرن، قرأ
فيها عليه الصحيح والمسانيد والسن، وأجازه شيخه فيها إجازة عامة، وقرأ عليه
فتح الباري، والمغني لابن قدامة المقدسي، ومنهاج السنة النبوية ودرء تعارض
العقل والنقل، والفتاوى المصرية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وزاد المعاد
لابن القيم، وطائفة من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة الدعوة،
وغيرها كثير، وأخذ عن العلامة قاضي مكة سليمان بن حمدان، وعنه عن رواية
المغرب الكبير محمد بن عبد الحي الكتاني يروي الكتب الستة.
ولم تفتر همة الشيخ عن الطلب والتحصيل بمثل هذه القوة والرغبة مع تقدمه
في السن. وإنك لتجد تعليقاته وتعقيباته وتصويباته، على ما يقرأ، فله تعليقات
كثيرة على نسخة مسند الإمام أحمد بن حنبل المطبوعة بتحقيق أحمد شاكر، ومثل
هذا تجد على فتح الباري، وغيرها. وكما كان حال سلفنا الصالح من الجمع بين
الجلد على العلم، وكثرة العبادة، كان الشيخ كذلك وهذا من دلائل الإخلاص. وله
في دماثة الخلق وطيب المعشر، شيء عجيب، يقول أبناؤه: ما كان الشيخ يطلب
من أحد شيئاً البتة، وحتى بعد أن ضعفت صحته، فكان يقوم بإعداد الشاي والقهوة
بنفسه، مع إلحاح أبنائه عليه بعدم فعل ذلك راحة لجسده، بل إنا لنجد أبعد من هذا
عند شيخنا، فهو خادم رفقته في السفر، حتى وقد تقدمت به السن، مع حظوته
وتقدير الرفقة العظيم له، وقد يقوم بإعداد الطعام، ومن ذلك أنه كان يقوم الليل
الآخر كعادته ثم يضطجع اضطجاعة خفيفة حتى يحين وقت الصبح فيسخن الماء
لرفقته من أجل الوضوء. وتلك العبادة أكسبت ذلك الشيخ -رفع الله درجته- ورعاً
في الأموال والأعراض، فلم يلِ طيلة عمره عملاً رسمياً، خوفاً من عدم القيام به
على وجهه الأتم، أو لأمر آخر قد رآه، وأُلزم بالقضاء فهرب منه متخفياً إلى
الرياض، ثم أُجبر عليه متنقلاً بين مدينة رحيمة بالمنطقة الشرقية حيث مكث فيها
ستة أشهر، ثم الزلفى سنتين ثم لم يعد إليه إلى أن توفاه الله.
واكتفى ببعض التجارات التي لم يكن يليها بنفسه، فكان زاهداً في الدنيا،
وقبل وفاته أعطى أكبر أبنائه جميع ما يملك - ولم يكن شيئاً كبيراً - ليتصدق به
كله، فلم يخلف -رحمه الله- وراءه عقاراً أو مالاً، سوى البيت الذي يعيش فيه مع
أبنائه. أما ورعه في الأعراض، فمضرب مثل، فلم يُسمع أنه تكلم في أحد البتة،
لا عالماً ولا متعلماً، ولا عامياً. ومما يحسن ذكره أن الشيخ كان من المتابعين
لأحوال المسلمين وما يجري لهم، فكان يتحرق لآلامهم حتى أن أبناءه أوصوا
زواره بعدم ذكر جراحات المسلمين أمامه حتى لا يزداد عليه المرض. وكان ذا
مواقف مشهودة في دعم أهل الخير وإصلاح ذات البين وكان كثير الثناء والدعاء
للصحوة الإسلامية ورجالاتها.
ترك الشيخ ما يزيد عن خمسين كتاباً منها:
- الإيضاح والتبين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين.
- تحفة الإخوان في ما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران.
ومن آخرها صدوراً:
- قصص العقوبات والعبر والمواعظ.
- تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا وتغيير الأحكام.
ولد الشيخ في مدينة المجمعة عام 1334هـ ووافته المنية يوم الثلاثاء لخمس
مضين من رجب عام ثلاثة عشر وأربعمائة للهجرة عن عمر يقارب الثمانين عاماً.
وكان مشهد جنازته مهيباً وتمثل لنا مقولة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: قولوا
لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز.
وكم في ذلك المشهد من إغاظة لأهل الزيغ من مبتدعة، أو علمانيين، فتلك
الجموع التي بدأت بالتوافد على مدينة الرياض منذ سماعها النبأ، ما حملها على ذلك
إلا حب العلماء والصالحين بشكل عام، فكثير ممن شهد جنازته لم يكن على معرفة
شخصية بالشيخ.
وإن في ذلك المشهد إثباتاً لا يدع مجالاً للشك في التفاف الناس حول علمائهم،
ومقدار الحب العظيم الذي يكنونه لهم.(60/98)
وضع الحجر الأساسي
لأول مركز إسلامي في ألبانيا
عماد الدين بكري إسماعيل
بعد اندحار الشيوعية بادرت جمعية الوقف الإسلامي فغرست أول غرس لها
في ألبانيا، وذلك بوضع اللبنة الأولى في مركز الفرقان الإسلامي بتيرانا -
العاصمة -، وقد شهد المناسبة جمع غفير على رأسهم رئيس جمهورية ألبانيا
الدكتور صالح بريشة الذي ظهر متأثراً جداً من رؤيته للجمع الذي ضم الصغير
والكبير، التلميذ والعامل، وكان مما قاله دالاً على تأثره: (أنا سعيد جداً بأن أضع ...
بيدي الحجر الأساس لأول مركز إسلامي بألبانيا بعد غيبة للعمل الإسلامي طويلة،
كم أنا سعيد برجوع الألبان إلى دينهم) .
وشهد المناسبة أعضاء مجلس أمناء جمعية الوقف الإسلامي، ومديرو الهيئات
والمنظمات الإسلامية العاملة بألبانيا وجمع كبير من موظفيها وموظفي الدولة بتيرانا.
والمركز سيبنى إن شاء الله تعالى على مساحة 40. 000 م 2 ويضم
المنشآت الآتية:
1- مسجد جامع.
2- مدرسة ابتدائية.
3- مدرسة ثانوية.
4- سكن داخلي للطلاب.
5- مستوصف صحي يضم خمس عيادات إلى جانب المعمل وغرفة الأشعة
والصيدلية.
6- عمارتان في كل واحدة 6 شقق لسكن الأطباء والمعلمين والموظفين.
7- صالة رياضية مغلقة، بالإضافة إلى الملاعب المفتوحة.
8- مكتبة عامة للمطالعة.
وستبني الجمعية ثلاثة مراكز في ثلاث مدن أخرى، وهي اشكودرة، كاوايا
ودورس، بنفس مواصفات مركز تيرانا، هذا وسيبدأ العمل في المراكز مجتمعة في
وقت واحد إن شاء الله تعالى. نسأل الله التوفيق والسداد.(60/103)
منتدى القراء
عملية (إعادة الأمل) !
عبد الله أبو الهدى
في عصر الثمالة حيث يتجرع الجميع من دماء المسلمين تأتي عملية ما يسمى (بإعادة الأمل) في الصومال الجريح لتطرح المزيد من الشكوك عن دور إنقاذي
مزعوم لمجلس الأمن والأمم المتحدة في إنهاء مأساة هذا الشعب المسلم الذي أنهكته
المجاعات وحروب العصابات المختلفة.. فنحن لم نتعود أبداً رؤية الكاوبوي
الأمريكي وقد حركته أثارة من شهامة أو مروءة أو مشاعر إنسانية، وقد عرفنا كيف
أن (هنري كيسنجر) مهندس السياسة الأمريكية الحديثة، اشتهر بازدرائه
الاعتبارات الأخلاقية في السياسة الخارجية، وهو ما نلاحظه جلياً من خلال التعامل
الأمريكي والغربي عموماً مع مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك أو فلسطين أو
الهند أو قبرص أو غيرها! فكيف لم تستثرهم تلك المآسي واستثارتهم هذه المشكلة؟ وهل يا ترى تكون بريئة شهامتهم هذه أم أن أمريكا عودتنا ابتلاع سكاكينها على
مراحل؟ !
إننا لو نظرنا إلى التصريحات المعلنة لجورج بوش أو ديك تشيني أو كولن
باول لوجدنا تناقضات صارخة فيما بينها؛ فالأول جعل لقواته استقلالية تامة عن
الآخرين ونجده لم يستبعد أشياء (أخرى) إذا ما دعت الضرورة، والثاني حدد مدة
الانسحاب بمدة اقصاها 20/1/1993 يوم دخول الرئيس كلنتون البيت الأبيض
والثالث أبلغ الصحفيين أن المهمة لا تنفذ قبل ثلاثة أشهر على أقل تقدير! ولعل في
هذا ما يدل على أن ثمة خطة ثانية أراد بها جورج بوش تجريع العرب والمسلمين
كأساً من كؤوس صداقته لهم، ونحن لم ننسى المباركات العربية التي سبقت هذا
التدخل كونه الحل الوحيد لمشاكل الصومال (المعقدة) ... بقي أن نقول إن التدخل
الأمريكي (الأخوي) في شؤون هذا البلد المنكوب لم تحركه أية اعتبارات إنسانية أو
مشاعر فياضة وعواطف رقيقة، بل هو مبني على محض المصلحة.. هذه
المصلحة التي جاءت الآن على شكل مغامرة جديدة تستهدف:
1- إحداث اختراق عسكري وسياسي في الخاصرة الإفريقية بمبررات ساذجة.
2- الهيمنة على هذا البلد المسلم الذي يملك أطول ساحل بحري في أفريقيا
(حوالي 3330 كم) .
3- تطويقاً عسكرياً لمضيق باب المندب الذي لا يقل أهمية عن قناة السويس.
4 - وضع اليد على ثروات الصومال ومعاينة حقول اليورانيوم الضخمة في
الأوغادين.
5- الظهور بمظهر المنقذ الشهم الذي ساهم في إنهاء أكبر كارثة مجاعة في
أفريقيا.
6- ربما التمهيد لتدخل سافر في شؤون السودان الذي لا تروق للعم سام
توجهات حكومته!
هذا وللعلم فإن بعض الطائرات التي كانت تقل أطنان الإغاثة الصومالية كانت
أيضاً تنقل أطنان الأسلحة للمليشيات المتقاتلة.. واسألوا إن شئتم (محمد سحنون)
المبعوث الدولي الذي استقال.(60/106)
وللدعاة زمن آخر..!
أبو جهاد حسين بن علي زومي
نظرت من نافذة الطائرة فإذا كل شيء حولها يسرع في الذهاب.. وما كان
قريباً إذا هو بعيد بعيد!
وأردفت بنظرة أخرى على ساعتي فإذا عقاربها ما بين تقارب وتباعد..
تلازم وتنافر.. لكن الشيء الوحيد الذي يجمعها أنها تسير دوماً للأمام.. نعم، إنها
تسير للأمام بدقة عجيبة متناهية.. دونما كلل أو ملل!
كل شيء حولنا يذكرنا بمرور الزمن بسرعة ملفتة للنظر! .. بل حتى ذواتنا.. نمونا السريع.. دقات قلوبنا.. لا تدع لنا مجالاً للشك في سرعة الزمن! ولذلك
يحكم الإنسان في بادئ أمره وبنظرته المحدودة أن حياته قصيرة.. بل قصيرة جداً!!
وهذا الواقع يصح على كل من لم يعرف العيش في الحياة الطويلة! .. نعم،
إن هناك حياة طويلة.. طويلة بما تحمله من معان سامية.. لا بمقياس السرعة
والمادة! !
هذه الحياة لم يعش بها ويشعر بحلاوتها وطولها إلا فئة قليلة امتازت عن غثاء
البشرية.. إنهم الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الناس وهداية الإنسانية.. إنهم الدعاة
إلى الله عز وجل.
وقد تحدث (سيد قطب) - رحمه الله - عن هذه الحياة بكلام رائع، جد رائع
فقال: عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث
بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! ..
أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة
عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض! ..
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهماً،
فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا..
وليست الحياة بعدّ السنين ولكنها بعداد المشاعر.
وما يسميه (الواقعيون) في هذه الحالة (وهماً) ! هو في (الواقع) ، (حقيقة)
أصح من كل حقائقهم! .. [1]
نعم هذه هي حياة الدعاة.. ولهم حياة أخرى هي أجلّ وأسمى من هذه الحياة.. حياة لا توصف بطول ولا قصر! .. لأنها في الحقيقة حياة خلود لا يناوشه
الزمن بهرم ولا بلى.. عند الرفيق الأعلى!
__________
(1) أفراح الروح ص 9.(60/108)
زمان الفاتحين
محمد بن سعد العجلان
أسدل ستارك يا زمان الفاتحين
أسدل ستارك أيها التاريخ وضاء الجبين
أسدل ستارك إننا
ما بين غي وانهزام
لا سعد يمتشق الحسامَ ولا صلاح الدين
لا القادسية شمسها انبثقت ولا حطين
أسدل ستارك يا زمان الفاتحين
* * *
في ظل هذا الانقسام
في ظل قانون النظام
وظل مأدبة اللئام
وفي ظل تحوير الجهاد إلى سلام
والاحتكام لغير رب الاحتكام
صرنا كقطعان النعام
أسدل ستارك يا زمان الفاتحين
وقل على العرب السلام
* * *
من للجهاد إذا أهين الواعظون
وتربصت بهم المنون
وتشبعت بدمائهم غرف السجون
ورأيت أعداء العقيدة يسرحون ويمرحون
من كل فج ينسلون
وعلى دماء شعوبنا يتقامرون
من للجهاد ...
يا أمتي من للجهاد؟
* * *
أسدل ستارك يا زمان الفاتحين
أسدل ستارك وانتظر
أسدل ستارك واصطبر
فلرب قلب ينفطر
ولرب قلب يستعر
ولرُبما في عصرنا
يأتي الزمان المنتظر
ولربما من صلبنا
تأتي صناديد البشر
ولرُبما من قهرنا
تأتي فلول الغاضبين
ولربما من ذلنا
يأتي إباء الأولين
ولربما من بيننا
يأتي أمير المؤمنين
يأتي عُمر
يأتي الظَفر
يأتي صلاح الدين(60/109)
قديم جديد
فلنتعصب [*] ..! !
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
- رحمه الله -
قال صاحب سر (م) باشا:
جاءني يوماً صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم
إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل، وأولئك
للكذب والتهم والمغالطات؛ وهو أُذُنٌ وعينٌ ولسانٌ وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة
معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ تُصلح بإفساد، وتداوي الحمى
بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في
شفتي رضيعها المسكين.
(..)
قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرةً أكشفُهُ بها فإذا أول الفرق بينه
وبين أمثاله عندنا شعوره أن بلاده قد ربته (للخارج) فهو عند نفسه كأنه إنجليزي
مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر، فلا يكون حيث يكون
إلا في صراحة الأمر النافذ أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه
العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر، يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة،
لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافذ البصيرة قائماً
على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجِّه الإنجليزي الظاهر منه
ويُسانده، وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا وليس غير إنجلترا.
ثم تفرَّست في الرجل أريد كُنهه وحقيقته فإذا له نفسٌ مفتوحةٌ مقفلة معاً كغرف
الدار الواحدة، يُفتح بعضها لما فيه كيما يُرى، ويقفل بعضها على ما فيه كي لا
يُرى. وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه، تدور في هذا الوجه عينان
قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني، يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية
الممرنة قد نفت الثقةُ بها نصفَ هموم الحياة عن صاحبها، تُمِدُّ هذه النفس طبيعة
مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يَحسنُ بها
وكل ما يُحسنُ منها.
(..)
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهَّل ورحب؛ ثم هممت
بالانصراف عنهما ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن
صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي
فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إليَّ وكأنه يتأمل من أين يذبحني..
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان! إن هذا الكاتب من تلاميذ برنارد شو، فهو
كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذَنَباً كذيل الهرّ ثم يمسكها منه فإذا هي تعضّ وتتلوى..
والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي
فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين فعجيبٌ أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا
نحن فيها. إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه إنما هو لفظ من
ألفاظ السياسة الأوربية أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيق؛ ومن قبل هذا
اخترعتم لفظ (الأقليات) وأجريتموها في لغتكم السياسية لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني
شكلاً آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى
من غير أن تلمسوها إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله
في كتابه العزيز: [كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
والأَقْرَبِينَ] .
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلاً صارماً، وحقاً محضاً، لا يميز بشيء البتة، لا ذات النفس التي فيها اشتهاءُ الدم، ولا أصلها من الأبوين الذين جاءت منهما
وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفُّون حول نسب الدم - إذا كان هذا
فأين في هذا العدل محل الظلم؟
(..)
أتريد مني التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول،
فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر
الاستطاعة لدفع ظلم القوة بآخر ما في الاستطاعة..
وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامى والدفاع عن كماله.
وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي كان معناه إصرار جميع المسلمين
على نوع الحياة وكرامتها لا على استمرار الحياة ووجودها فقط.
(..)
إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن
لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تقبل غيره،
وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا
شيء غير الحق.
(..)
__________
(*) نقلاً عن مجلة الرسالة، العدد 165، 14جمادى الآخرة 1355هـ، 31 أغسطس 1963، السنة الرابعة.(60/113)
الصفحة الأخيرة
كيف تشتري وزيراً أمريكياً؟ !
جمال سلطان
ديفيد استايذ يهودي من طراز خاص، فهو يتولى رئاسة اللوبي الإسرائيلي في
أمريكا، والمعروف باسم (إيباك) ، الرجل أثار ضجة مؤخراً، لم يقصد لها أساساً، عن دما نشرت صحيفة (واشنطن تايمز) تفاصيل مكالمة هاتفية بينه وبين أحد وجهاء اليهود الأمريكيين، حول طريقة شراء الإدارة الأمريكية الجديدة، بالجملة والمفرق.
المفاوضات بين (إيباك) وبين (بيل كلنتون) كانت تتركز حول موقعين ...
أساسيين: وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي، من الإدارة الجديدة، ويبدو
أن المفاوضات قد نجحت، وتم الشراء، أو الإيجار (الله أعلم) ، حيث تردد أن ...
إجمالي المبلغ الذي وفرته (إيباك) لحملة كلنتون (خمسة وستون مليوناً) من الدولارات، وقد أشار (ديفيد استايذ) إلى أنه قد تم بالفعل زرع (حوالي اثني عشر من الأصدقاء - التعبير لاستايذ - في مقر قيادة كلنتون، وأنهم جميعاً سيتولون مناصب قيادية في الإدارة الأمريكية الجديدة) .
رئيس اللوبي الإسرائيلي، أضاف معلومة أكثر أهمية، وهي أن السيناتور (آل غور) نائب الرئيس، هو - على حد التعبير الحرفي - (ملتزم معنا) ، ولكنه - في الحقيقة - لم يوضح المبلغ بدقة! كما أن الأمر انتهى بفضيحة استقال على أثرها المستر (ديفيد) في محاولة للتخفيف من أبعادها.
المزاد الأمريكي يعقد كل أربع سنوات، وأنا أنصح تجار القضية الفلسطينية
أن يوجهوا بعض (المال الحرام) إلى هذا المزاد، عساهم يفيدون، بدلاً من التفرغ
للتهديد بإطلاق النار على المجاهدين في الأرض المحتلة، أو تشبيههم بقبائل الزولو
في جنوب أفريقيا.(60/116)
رمضان - 1413هـ
مارس - 1993م
(السنة: 7)(61/)
كلمة صغيرة
لم يغفل القدماء عن موضوع الكتابة فتكلموا عن مقاصد التأليف التي ينبغي
اعتمادها فذكروا منها: أن يأتي الكاتب بجديد مستنبط، فيستفيد الناس منه وقد يكملون
ما بدأه، أو أن يشرح غامضاً بعد أن يتمكن من فهم النص، أو يعثر على غلط واضح
بينّ فيصححه، أو يرى نقصاً في موضوع فيكمله، وهذا كما ينطبق على تأليف
الكتب، فإنه ينطبق على إنشاء المقالات والبحوث والدراسات، فلم التعب والعناء في
موضوع قد درس وأشبع درساً وكتب حوله الكثير، ولماذا لا ينصف الناس من أنفسهم
ويريحون غيرهم؟
المحرر(61/1)
الافتتاحية
اليد العليا خير من اليد السفلى
نستقبل في هذه الأيام شهر رمضان العظيم الذي أنزل فيه القرآن روحاً وحياة
للإنسان الذي يهتدي بهداه، وعمىً على كل من كفر وابتعد عن أنوار التنزيل وتاه
في قفر الأوهام، وكان من أسرار هذه العبادة في هذا الشهر المبارك أن المسلم
يمتنع عن شهواته المباحة من الطعام والشراب فيتعود الصبر والمشاق والخشونة
والرجولة والعزة والكرامة، فينشأ إنساناً آخر غير الذي تعرفه المجتمعات المهينة أو
المجتمعات المتكبرة.
هكذا تعلم المسلمون من رمضان، وقد سمعوا قول الرسول - صلى الله عليه
وسلم -: (اليد العليا خير من اليد السفلى) [1] ، فكان أحدهم يقع السوط من يده
فينزل عن فرسه ليأخذه، ولا يطلب من أحد مناولته إياه. وأقسم الصحابي الذي
سمع هذا الكلام أن لا يقبل عطاء من أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
وكان مما عرفنا عن الأمة التي تشرفت بحمل الرسالة، ونزل القرآن بلغتها
كانت تقول في أمثالها: «تجوع الحرة ولا تأكل بثديها» إشارة إلى منتهى الإباء
والشموخ، ثم دار الزمان دورته، ونعيش هذه الأيام لنرى المسلمين يتكففون أيدي
الناس، وينتظرون المعونات من الدول والمجتمعات الغربية والغنية، رضوا
بالأدنى على الذي هو خير، يريدون أن يقوم اقتصادهم على الصدقات والمنح،
وينتظرون تحسن الميزانيات عن طريق من يأتي ليستمتع بالدفء المتوسطي، وإذا
ألقيت نظرة على الجرائد وصفحاتها الاقتصادية فستجد أن المشاريع في هذه البلاد
هي بناء الفنادق على شواطئ البحار، أو شركات أجنبية لتحسين إنتاج التبغ! ! أو
استيراد المواد الاستهلاكية، وبعض الدول الفقيرة تحلم ببئر من البترول حتى تنتقل
فجأة من الفقر إلى الغنى وحتى يمرح الشعب ويفرح، فهم كالفقير الذي يحلم بكنز
من ذهب فهو يبحث عنه وما هو ببالغه، أما التفكير في الزراعة والصناعة،
وتشجيع المهن اليدوية وأنواع الخبرات العالية في شتى فروع التقنية فهذا غير وارد
عند القوم إلا قليلاً، وقد سرى هذا الداء إلى الأفراد بشكل عام، فالعربي الذي يملك
مالاً إذا فكر في الاستثمار سواء في بلده أو في بلد أجنبي، فلا يفكر إلا في الأشياء
الاستهلاكية التي تدر ربحاً سريعاً ومفاجئاً، وكثيراً ما يكون هذا الربح السريع من
المال الحرام.
والسبب في هذا أنه ليس في مناهج التربية تكوين الشخصية المستقلة التي
تكافح وتغامر وتضرب في الأرض وتركب البحار، بل تربى على الغش والذل
واكتساب المال بالحيل، وسبب آخر وهو حب الظهور والفخفخة، وهذا لا بد له
من المال الكثير في الوقت القليل، ولذلك لا يطلب الرزق من الوجوه الطبيعية مثل
الزراعة والصناعة والتجارة.
وأساس التقدم الاقتصادي هو العمل وليس البحث عن الكنوز، وانتظار
المفاجآت. روت عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه» [2] ، وثبت عنه - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: «استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» [3] ، وكان
أحد أتباع التابعين يقول لتلاميذه: «ألزموا السوق» ، ويقول الإمام أحمد -رحمه
الله-: «أحب الدراهم ألي درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة
الإخوان» .
إن الحكومات والشعوب تبحث عن الأدنى مع أن خيرات البلاد العربية والعالم
الإسلامي كثيرة وفيرة وأرضها واسعة، وتربتها طيبة، وإن بداية الاستغناء عن ذل
القروض أو الهبات هو في العمل الزراعي والصناعي، وإذا كانت أوربا قد تكتلت
في الحلف الاستعماري عام 1881 فإنها تتكتل الآن في صورة (السوق المشتركة)
من أجل الزحف الاقتصادي، ومع الأسف فإن أكثر المجتمعات استهلاكاً في العالم
هي المجتمعات الإسلامية إلا ما ندر، ومن الغريب أن بعض الدول العربية كانت
حالها في الخمسينات والستينات أفضل مما هي عليه الآن سواء من حيث الزراعة
أو التصنيع، فهل رأيتم كيف تنهب الأموال وتسلب البركة، وكيف تذل الشعوب.
قلنا في العدد الماضي أن من السياسة العليا اهتمام المسلمين بالمدارس
والمناهج، ونقول هنا أيضاً إن من السياسة العليا اهتمام من يملك المال بالاستثمار
في الزراعة والصناعة حتى لا نستجدي غذاءنا من عدونا.
__________
(1) فتح الباري 3/35.
(2) أبو بكر الخلال / الحث على التجارة / 27، وقال المحقق أنه صحيح.
(3) السلسلة الصحيحة 1450.(61/4)
في إشراقة آية
[كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ]
د. عبد الكريم بكار
يقول الله سبحانه وتعالى: [فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا
اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] [البقرة 249] ، تسلط الآية الكريمة الضوء
على قضية مهمة من حياتنا، هي قضية (الكم والكيف) ، وعلى العلاقة الجدلية
بينهما؛ فحين خرج طالوت لحرب جالوت خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند
(كم) فأراد أن يعرف عن نوعية الرجال الذين سيقاتل بهم فابتلاهم بالشرب من النهر، فشرب منه السواد الأعظم منهم، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمائة
وبضع عشر رجلاً - كعدة أصحاب بدر - وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش
جالوت الموقف الذي يتناسب مع كيفهم، فقالوا: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإذْنِ اللَّهِ] ، هذه الفئة القليلة هي الغالبة لما نالت من تأييد الله ونصره؛ لنصرها
دينه واستحواذها على شروط النصر.
وفي ختم الآية: [واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى
- في جملة ما تتحلى به - بالصبر الضروري لمجالدة العدو.
إن للكيف شأناً وأي شأن في أوقات الأزمات عامة ومصارعة الأعداء خاصة؛ حتى إن الرجل ليغالب العشرة من الرجال [إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] [الأنفال 65] . وهذه الدنيا دار ابتلاء، ومن ثم فإن بني البشر
محاطون بكل ما من شأنه أن يكون ابتلاءً لهم، الزمان والمكان والأشياء والأفكار
والأعراض، وكل ما نتركه غفلاً على حالته الفطرية فهو (كم) يتحدى، ويضايق،
وقد يشوه، ويقتل! ! ومن ثم فإننا نمتلك من القدرة والحرية على مقدار ما نكيفه
من تلك الفطريات.
ونحن بني البشر محدودو الطاقات والإمكانات، ومن ثم فإن توسعنا في الكم
لا بد أن يكون على حساب الكيف، كما أن التوسع في الكيف لا بد أن يكون على
حساب التوسع في الكم، وهذا يوجب علينا أن نتعلم كيف نركز على الكم، وكيف
نركز على الكيف، ومتى يكون هذا، ومتى يكون ذاك؟ وإلا فربما ذهب كثير من
جهدنا هباءً!
وعلى سبيل المثال فإن الظواهر الاجتماعية تتكون على سبيل التدرج، وإذا
ما استقرت، وصارت عرفاً ضغطاً على الناس ضغطاً شديداً، وهي لا تعتمد في
سيرورتها على الكيف، لكن على الكم، ومن ثم فإن القول السائر في صددها يكون
باستمرار: الناس يعيبون هذا، والناس يحبون هذا، بقطع النظر عن توعية
القائلين، ومن هنا جاء الحديث الشريف: (من كثر سواد قوم فهو منهم) [1] حيث ...
إن تكثير السواد في بعض المواقف، كالمؤتمرات والتظاهرات - مثلاً - يكون هو
الهدف مهما كان القصد! وهذا يعني أن جهداً كبيراً ينبغي أن يبذل في اتجاه جعل
الدين ثقافة عامة للناس يؤصلون أعرافهم عليها؛ فلا يصبح المعروف منكراً ولا
المنكر معروفاً..
وعلى صعيد الكيف فإن باحثاً واحداً يعد مرجعاً في فرع من فروع المعرفة
أجدى على التقدم العلمي من ألوف الملقنين المدرسيين. ونحو من هذه الوظائف
الإدارية والقيادية العليا، فإن شخصاً موهوباً مؤهلاً واحداً أنفع من مئات الأشخاص
(الخام) الذين يحتاجون إلى من يصرف أمورهم..
وفي قضايا الفكر والرأي والالتزام قد ننظر للكم تارة وقد ننظر للكيف تارة
أخرى؛ فإذا كان الحق الذي نتبعه قطعياً - أي ليس مناطاً للاجتهاد - فإن الكم
مهدور حينئذ، وهذا معنى قول بعض السلف: الجماعة أن تكون على الحق، ولو
كنت وحدك. وحين يكون الحق اجتهادياً فإن الكم حينئذ معتبر، ومن هنا نشأت
أهمية كلمة (جمهور) عند الفقهاء وغيرهم.
إن أمتنا اليوم لا تعاني اليوم من نقص في (الكم) على أي صعيد من الصعد،
لكنها تعاني من نقص شديد في (الكيف) ؛ فنحن اليوم أكثر من خمس العالم،
وأراضينا واسعة شاسعة وخيراتنا كثيرة وفيرة، لكننا إلى جانب هذا في حالة
معيشية مأساوية على أكثر الأصعدة، فأكثر بلدان العالم الإسلامي مصنفة مع البلدان
الفقيرة، وكثير من شعوبنا يعيش تحت مستوى الفقر! وأعلى نسبة للأمية موجودة
عندنا! أما الوزن الدولي فنحن جميعاً على الهامش موزعون ما بين شرق أوسط
وأقصى وأدنى، أي أننا نُصنف باستمرار تبعاً لموقعنا في المركز! !
ومع أن الوحدة ظلت المحور الذي يجذب مشاعرنا وأدبياتنا، إلا أن حالتنا
الراهنة تتجه باستمرار إلى مزيد من التمزق والتفكك، مع أن العالم من حولنا يسير
إلى التوحد والاندماج! أما حقوقنا وكرامتنا وأراضينا فوضعنا ووضع العالم منها
يلخصه المثل العربي القديم: (أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل) !!
ولا أريد أن أتمادى في (النبش) وتتبع المواجع حتى لا نقع فريسة اليأس
القاتل لكن ما أريد أن أقوله هو أن وضعنا الحالي قد جاءت به النذارة في نصوص
كثيرة منها: حديث [2] القصعة المعروف، والذي وصف حالة الأمة بالغثائية،
والتضاؤل على المستوى الظاهري: غثاء كغثاء السيل، وعلى مستوى المضمون
(الوهن) : (حب الدنيا وكراهية الموت) .
وللغثاء سمتان أساسيتان: خفة الوزن وعدم الترابط، ويترتب عليهما نتيجة
مخيفة، هي فقد الاتجاه الحر، فالغثاء يساق دائماً إلى حيث يريد، وإلى حيث لا
يريد؛ وفي موازين عديدة يعد فقد الاتجاه فقداً للوجود ذاته! !
وهذا كله يعني أن أحوالنا الثقافية والسلوكية والاقتصادية إذا ظلت على ما هي
عليه فلن تفرز إلا التبعية للآخرين، والتي ستفرز من جهتها باستمرار صراعات
في بُنانا العميقة تؤكد الغثائية وتؤصلها! !
كيف نحول الكم إلى كيف؟
نحن في حركتنا اليومية نقوم باستمرار بتحويل (الكم) إلى (كيف) فلا مشكلة
في الممارسة العملية، لكن الإشكال يكن في فقد التوازن بين الكم والكيف، أو
بعبارة أخرى في الكم الهائل الذي نستطيع تكييفه؛ مما يحوله إلى عبء ثقيل وعقبة
كأداء في طريق نجاحنا؛ فالأمي والجائع والمريض والمنحرف والفوضوي
والكسول، كل أولئك يشدون الأمة بعنف نحو الوراء، ويقفون في وجهها، وهي
تخطو نحو الخلاص من الغثائية، وليس هذا فحسب بل إن هذه الهلاميات تستطيع
أن تتأبى على أي قالب تشكيل تصادفه، مما يجعلها دائماً نقاط ضعف في جسم
الأمة ونقاط ارتكاز ورؤوس جسور للمتربصين بها الدوائر! !
ويكون السؤال حينئذ: كيف نحد من نسبة هؤلاء لتكون قريبة من الطبيعية؟ ؟ إن هناك كلاماً كثيراً يمكن أن نقوله في هذا الشأن، لكنني أود أن أشير إشارة
عابرة إلى محاور أربعة أحسبها منطلقات مهمة في هذه السبيل:
1- أن نشيع في الأمة روح التوحد على الأصول والحق القطعي، وذلك
يستلزم جهوداً دائمة في بلورة ذلك؛ وأن نشيع إلى جانب ذلك روح التعاذر في
الفروع والحق الاجتهادي، ونضرب للناس الأمثلة العملية التي تنير لهم السبيل،
وأن نبقي في الحالتين هامشاً للتواصل والتبشير والإنذار.
2- أن نوسع في تربيتنا وحياتنا اليومية من مفاهيم العبادة لتشمل مجالات
النفع العام، كالأخذ بيد أولئك الذين قعدت بهم ظروفهم وإمكاناتهم عن أن يعيشوا
حياة كريمة طبيعية (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم
الليل الصائم النهار) [3] وذلك بغية التخفيف من المعاناة التي يكابدها كثيرون من
أفراد الأمة.
3- رعاية النابهين وإعطاؤهم ما يستحقونه من الاهتمام والمتابعة والبذل،
والنابهون هم أولئك الذين آتاهم الله - سبحانه - من المكنة ما جعلهم محاور يدور
في فلكهم الآخرون، والنابه قد يكون طالباً عبقرياً، وقد يكون وجيهاً يأتمر بأمره
كثيرون، وقد يكون واحداً من ذوي رؤوس الأموال الطائلة، وقد يكون ويكون ... ، وهذا من باب إنزال الناس منازلهم.
4- إقامة المؤسسات الكبرى على مختلف الصعد، وتلك المؤسسات تؤصل
فينا روح الفريق، كما توفر الأطر الإدارية والفنية والعملية لأولئك الذين يملكون
روح الإخلاص والعطاء. إن المؤسسات تمثل مهمة المحرك للسفينة تارة ومهمة
المراسي تارة أخرى، أي: تؤمن حركة راشدة متزنة.
وإذا ما فعلنا ذلك أو بعضه نكون قد ساعدنا الأمة في الخروج من نفق
(الغثائية الكمية) المظلم، ودفعناها نحو امتلاك أهلية قيادة العالم وهدايته. وعلى الله
قصد السبيل.
__________
(1) من حديث لابن مسعود يرفعه انظر فتح الباري 13/37.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود.
(3) أخرجه الشيخان وغيرهما.(61/7)
من نور النبوة
فوائد من حديث رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -
ستر الجعيد
الحديث:
روى مسلم في صحيحه [1] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (كنا ...
قعوداً حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنا أبو بكر وعمر في نفرٌ، فقام
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا فأبطأ علينا، وخشينا أن
يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع فخرجت ابتغي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له باباً
فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة - والربيع الجدول -
فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبو هريرة، فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: ما شأنك، قلت: كنت بين أظهرنا
فقمت، فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت
هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا
هريرة وأعطاني نعليه، قال: اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط
يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر،
فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته
بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثدي فخررت لأستي، قال: ارجع يا أبا هريرة،
فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بكاء، وركبني عمر فإذا
هو على أثري فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك يا أبا هريرة؟
قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت
لأستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمر: ما
حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك
من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً به قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا
تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: فخلهم) .
فيه فوائد:
1- عظم المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه.
2- عمق الأخوة بين المؤمنين.
3- فضل اليقين في الإيمان.
4- الفصل بين الفضولية والاستيضاح.
5- أهمية التثبت عند عدم الشك.
6- الفرق بين رد السنة وبين غيره.
7- أثر العلاقة في التربية.
8- الخشية من وقوع المفسدة يبيح اتخاذ ما يمنع وقوعها.
9- إدراك الصحابة لفقه الخلاف.
10- الإشارة إلى بعض شروط لا إله إلا الله.
11- تأمل خشية عمر مع وجود العمل فكيف لو رأى الترك والإعراض؟
__________
(1) كتاب الإيمان، 1/235-240.(61/13)
وصايا للدعاة
الشيخ عبد الله بن حسن القعود
-1-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فأوصيكم إخواني في الله
دعاة وشباب الإسلام بتأمل أمور منها ما يأتي:
تعلمون وفقكم الله أن الله سماكم المسلمين وامتن بهذه التسمية بل أمر ووصى
بها فقال تعالى: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ..] إلى قوله سبحانه وتعالى: [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ] . وقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ] . وقال: [ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ] . وكانت هذه التسمية هي السمة
والعلامة لأمة الاستجابة التي لم تبدل ولم تغير بل ومحل الاعتزاز، روى الإمام
مسلم -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من
أنت؟ فقال: رسول الله.. الحديث، وأن مسمى دين هذه الأمة الإسلام، الإيمان،
الإحسان، وأنه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي وأن أهله يتفاوتون فيه وشعبه
تتفاوت كذلك قال تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ، وقال: [لا يَسْتَوِي
القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ
الحُسْنَى] . وقال: [لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى] . وقال -عليه
الصلاة والسلام-: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون
الكوكب الدري العابر في الأفق، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها
غيرهم، قال: لا، والذي نفسي بيده، قوم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» . وقال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» . وقال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس
ولا يصبر على أذاهم» . ونصوص زيادة الإيمان بالطاعات ونقصانه بالعصيان
معروفة ومعروف مذهب السلف الصالح في ذلك فمسماه يشمل كل من أظهر الإسلام
ولم يرتكب ما يناقضه وينقل عن أصله، قال -عليه الصلاة والسلام-: «من
صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» [1] .
فمن كان ذلك الوصف ظاهره اندرج في عداد المسلمين، أهل الملة، أهل
القبلة، مسمى جماعة المسلمين في الجملة، أما الفرقة الناجية فقد فسرها -عليه
الصلاة والسلام- بقوله: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . وأن
مذهب السلف في عصاة أهل القبلة أنهم يُحَبون لما فيهم من طاعات، ويُبْغَضون لما
فيهم من عصيان، وأنه يجتمع في قلب الشخص الواحد من المسلمين الحب
والبغض في آن واحد لعصاة المسلمين، وأنهم أي السلف الصالح -رضوان الله
عليهم- يرجون للمحسنين من أمة محمد ويخافون على المسيئين منهم، ولا يكفرون
أحداً من المسلمين بكل ذنب فعله ما لم يستحله، ويبقى فيهم مع تفاوتهم في الإيمان
وارتكاب بعضهم لشيء من العصيان الذي لا ينقل عن الملة التحاب على ما ذكر،
والتراحم والتعاطف والاحترام المتبادل وفق منهاج الله، قال شيخ الإسلام أحمد بن
تيمية -رحمه الله-: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا فعل أخطأ فيه؛
كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ
إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن
رُّسُلِهِ وقَالُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] ، وقد ثبت في الصحيح أن
الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
فليتأمل المسمى المذكور للمسلمين والنقل المذكور عن شيخ الإسلام -رحمه
الله- وأمثاله من يحرجون غيرهم من شباب المسلمين بالقول له: هل أنت كذا أو
كذا، فينبغي لمن ووجه أو قوبل بهذا القول أن يقول: أنا مسلم متبع لكتاب الله
وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-
في استنكاره لمثل هذا السؤال: وروينا عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل عبد الله
بن عباس -رضي الله عنهما- فقال: أنت على ملة علي أو ملة عثمان، فقال:
لست على ملة علي ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -.
- 2 -
من المعلوم البدهي أن الدعوة إلى توحيد الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به
رسله لن تتحقق على الوجه المطلوب ما لم يزل من وجهها ما تأصل في بعض
النفوس الخبيثة من الشرك الأكبر المناقض لتوحيد الله، ولما أمر الله به من الكفر
بالجبت والطاغوت الذي بدونه أي الكفر بالجبت والطاغوت لا يتحقق معنى لا إله
إلا الله في النفوس، ولا في الواقع وإن نطق بها لفظاً فغير خافٍ أن الفترة الزمنية
التي قضاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو فيها إلى توحيد الله
كان يغشى الناس في مجامعهم ومواسمهم التماساً لمن ينصره ويحميه ليدعو إلى ذلك
بالفعل من لم ينفع معه القول، ونتج عن ذلك بيعته في موسم الحج لعدد من
الأنصار -رضي الله عنهم-، تلتها هجرته إلى المدينة ليقيم بها دولة ومعسكر
الإسلام الذي بوجوده تنفذ أحكام الله وتقام حدوده وتحمى دعوته، وفعلاً لما دخل مكة
فاتحاً اتجه إلى الأصنام المعلقة بالكعبة التي كان يدعو بالقول إلى نبذها وأمثالها
وعبادة الله وحده يكسرها ويقرأ قول الله: [وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ
البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] ، ويسلم بعد كثير ممن كانوا ممتنعين عن الإسلام ورضى الله
عن حسان بن ثابت فقد روى عنه أنه قال:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وقال قبل ذلكم خير قائل وأصدق قائل: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا
مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ
لِلنَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ] . ولا شك أن ذكر إنزال الحديد بعد
ذكر إرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان الذي هو العدل، يفهم منه أن من لم يقوّم
بالحجج والآيات الواضحة والأدلة الناصعة يقوّم بالسيف، قال شيخ الإسلام -رحمه
الله- في تعليق له على الآية المذكورة: فمن عدل عن الكتاب قُوِّم بالحديد، ولهذا
كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقال -عليه الصلاة والسلام-: «بعثت بين
يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي
وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» . وقال -
عليه الصلاة والسلام-: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين
لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) [2] .
وقد نهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- هذا المنهج النبوي الكريم
مذ بدأ دعوته الخيرة إلى تحقيق توحيد الله وتصفيته مما علق به من شوائب الشرك
والبدع والعصيان، يجوب البلاد يعرض طلب نصرته فيها وحمايته من أعدائها
على أمراء تلك البلدان ولا زال كما هو معروف من تاريخه -رحمه الله- لا سيما
بعد المعاهدة مع أمير الدرعية آنذاك الذي بسط للشيخ -رحمه الله- يده بعد أن
عرض عليه دعوته وما تحتاجه من نصرة وحماية قائلاً: أبايعك على دين الله
ورسوله والجهاد في سبيله وإقامة شعائر الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فكان لهذا الأمر ما كان من خير لا يزال المنتمون لهذه الدعوة على هذا
المعتقد المنبعث من دعوة رسل الله وأتباعهم بإحسان ينعمون به وقد كان ضمن
منهجهم رحمهم الله التركيز في دعوتهم على الدعوة إلى الكفر بالجبت والطاغوت
وتلقين عوام الناس في المساجد مختصر الأصول الثلاثة للشيخ نفسه ومنه: ما أول
ما فرض الله عليك، الجواب: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.. إلى: والطواغيت
كثير ورؤسهم خمسة إبليس لعنه الله، ومن عبده وهو راض، ومن دعا الناس إلى
عبادة نفسه، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله.
فلينتبه لهذا المنهج الخيرون من المسلمين في دعوتهم إلى الله وإلى إقامة
شرعه عسى أن يكونوا خير خلف لخير سلف صدقوا مما عاهدوا الله عليه.
__________
(1) البخاري رقم 391.
(2) مسلم برقم 1924، كتاب الإمارة.(61/15)
من إيجابيات الدعوة الإسلامية المعاصرة
د. عابد السفياني
إن الدول الإسلامية يعظم عطاؤها ويقوى بقدر ما تبذل في سبيل إحياء
المفاهيم الإسلامية وتجديدها ورفع الشبهة عنها وتربية الناس على عقيدة أهل السنة
والجماعة، التي بينها المجددون من علماء السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
وسنتحدث في هذه المقالات عن أبرز هذه الإيجابيات رغبة منا في إظهارها، وطلباً
لنشرها في كل مكان.
وإن من المفيد أن نشير قبل ذلك إلى أهم الأسباب التي توجب الاعتناء بهذا
الموضوع، كما ننبه على المنهج المتبع في دراسته، وإليك هذه الأسباب:
1- الدلالة على بعض ما بذله العلماء والدعاة من جهود دعوية تجديدية،
والتذكير بأهمية ذلك، ودعوة الجميع إلى التعاون على نشرها والمحافظة عليها.
2- بيان الدليل العملي على يسر تعاون الدعاة والمفكرين وطلاب العلم على
نصرة الإيجابيات، وأنه مهما وقع بينهم من الاختلاف في الأمور الاجتهادية فإن
المجال واسع للتعاون والمناصرة، ويمكن السعي في كشف اللبس عن بعض
المفاهيم التي وقع فيها الكثير من الغبش، وينبغي أن يعلم الدعاة جميعاً أن الصحوة
في العالم كله هي ثمرة من ثمار أعمالهم، وأنه يجب على العلماء وطلاب العلم
الارتقاء بذلك الجهد وتكثير إيجابياته وتصحيح سلبياته وذلك ممكن ومتيسر والحمد
لله.
3- وجوب تعريف الناس عامة - والمسلمين خاصة - بالآثار الحميدة للدعوة
الإسلامية، وبيان أنها الطريق إلى تحقيق عبادة الله وحده واتباع رسله -عليهم
الصلاة والسلام -، وأن الفساد لا يرفع من الأرض إلا بتحكيم (الشريعة ... الإسلامية) ، في جميع المجالات [حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] . ...
4- إن الحديث عن الإيجابيات هو الطريق الوحيد لربط أجيال الأمة بعضها
ببعض، ويحقق لنا حسن الاستفادة من أولئك العلماء الأعلام الذين حملوا راية
الإصلاح فيها، وهؤلاء هم أهل العلم والإيمان والجهاد والبصيرة في الدين، ظهر
منهم في كل جيل عدول، يقولون بالحق وبه يعدلون، قد علمت الأمة مكانتهم - لا
بمجرد الأقوال ولا بكثرة الأموال وإنما علمت مواطن جهادهم وقوة صبرهم
ومواقفهم الثابتة في نصرة الحق حتى قدموه على محبه الأموال والأولاد، وعلى
زينة الحياة الدنيا وجعل الله منهم أئمة لما صبروا كما قال تعالى: [وجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] ، فحرصت الأمة على تقديمهم
رغبة منها لا رغبة منهم.
وهؤلاء المصلحون يجددون في مجالات كثيرة بحسب ما تحتاجه الأمة في كل
عصر، ونحن في هذه المقالات نذكر بشيء من جهودهم التي ينبغي أن تحتذى في
سبيل الإصلاح، ولا ندعي العصمة لأحد منهم وننبه إلى منهج أهل السنة مع
علمائهم فنقول:
إن أهل السنة والجماعة لا يعصّمون العالم منهم ولا يؤثمونه لخطأ وقع فيه، بل يأخذون أحسن ما عنده، ويعذرونه فيما أخطأ فيه ويجعلون جهاده ونصرته
للإسلام، وبُعده عن مناطات الفرق والأهواء مانعاً من الطعن فيه، وبهذا الموقف
المعتدل - عند أهل السنة والجماعة - استطاعوا أن يحافظوا على جهاد علمائهم
ويستفيدوا منه ويبنوا عليه، وقد وفقهم الله في ذلك. بخلاف أهل المسالك الفاسدة
من المتعصبة والمقلدة الذين ينكرون فضل العالم وجهاده إذا اجتهد وأخطأ في بعض
مسائل الاجتهاد.
وهذا الأصل الذي نذكر به وندعو إليه، هو المنهج الوسط الذي التزمه السلف
الصالح -رضوان الله عليهم-، وهو مقتضى العدل الذي بينه - صلى الله عليه
وسلم -، فقد روى عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ
فله أجر» [1] .
ونحن معشر أهل السنة والجماعة لا نعصم العالم إذا اجتهد واستفرغ وسعه
ولا نؤثمه، بل نحافظ على جهاد العالم وإيجابياته وعلمه وحسن بلائه في نصرة
منهج أهل السنة، وندعو الناس إلى المحافظة على جهده وجهاده، ونعتبر إيجابياته
مكسباً للأمة يجب المحافظة عليها، ولا نرى مسوغاً للاعتراض عليها بقول القائل:
إن هذا العالم أخطأ في كذا وكذا ونخشى أن تنتشر تلك الأخطاء بل الواجب أن
نحافظ على إيجابياته، ولا ندعي له العصمة، ولا ندافع عن أخطائه، ونكتفي
ببيان الصواب فيما أخطأ فيه.
وبهذا المنهج نستطيع أن ندعو للإيجابيات ونقوي بها المنهج التجديدي في
الدعوة إلى الله، فعاد الأمر في النهاية إلى ربط أجيال الأمة بعضها ببعض عن
طريق الإشادة والاستفادة من إيجابيات علماء السنة، والحفاظ على جهودهم،
والبناء عليها في مجال التجديد.، بهذا المنهج الوسط - ولتلك الأسباب - ندعو
للاستفادة من جميع الجهود المبذولة في إطار أهل السنة والجماعة، وسنذكر في
المقالات القادمة - إن شاء الله - بشيء من جهود الدعاة والمصلحين كل في مجاله
الذي برز فيه، ولكل مصلح درجات مما عمل بحسب علمه وعمله وجهاده وصبره
وإحسانه، وندعو للجميع بالتوفيق وأن يبارك الله بفضله وإحسانه في جهود العلماء
العاملين، وأن يجزل لهم المثوبة ويجمعنا وإياهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء
وحسن أولئك رفيقاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) خرجه البخاري في صحيحه 13/318.(61/20)
خواطر في الدعوة
صحوة أم تجديد
محمد العبدة
شاعت في هذه الأيام على ألسنة الدعاة والكتاب كلمة (الصحوة) يعبرون بها
عن الاتجاه القوي نحو الدين على مستوى الأفراد والشعوب، ولا شك في أنها
ظاهرة واضحة وقوية لا تحتاج إلى أدلة أو برهان، فالعودة إلى الدين والالتزام به
سلوكاً وفهماً نراه في كل مكان، والمؤتمرات التي تبحث هذه الظاهرة تعقد على
أعلى المستويات. ولكن هل ما نحن فيه، وما يجب أن نكون عليه يكفي في التعبير
عنه كلمة (صحوة) ؟ أليس مما تعنيه أنها إفاقة بعد نوم، قمنا بعدها نتملى ونفرك
أعيننا لنرى ما حولنا؟ وهل هذه الإفاقة هي من تاريخ استعمال هذا المصطلح -
وهو حديث العهد - أم أنها أقدم بكثير؟ أولا تعني - مما تعنيه - أنها مؤقتة، فقد
يصحو الإنسان ثم يغفو، وربما تكون الصحافة الغربية قد أطلقتها على أحداث
السنوات الأخيرة في العالم الإسلامي لتعبر فيها عن قلقها من ظاهرة التدين؛ فتلقفتها
الصحف عندنا، ثم سرت إلينا.
قد يقول قائل: لا مشاحة في الاصطلاح، سمها ما شئت، فالمقصود هو
الرجوع إلى الدين، وهذا صحيح، ولكن أخشى أن تسري سطحية هذا المصطلح
إلى الفكر الإسلامي، فنحن بحاجة، إلى التجديد بكل ما في مصطلح التجديد من
عمق، وكل ما فيه من تعب وكد في العلم والتدبر والتأمل. نحن بحاجة إلى التجديد
لإزاحة كثير من الغبش عن بعض المفاهيم الإسلامية، والتصورات التي كبلت
الشخصية المسلمة عن الانطلاق، ونحن بحاجة للتجديد في وسائل العمل، وفهم
الواقع، وفقه بناء الأمم، وكيفية إقامة (البنيان المرصوص) . ونحن بحاجة إلى
التجديد أمام التحديات الحضارية التي ما زالت رياحها تهب من الغرب.
وإذا كانت الدعوة في بداية مراحلها، تحتاج إلى رعاية فائقة، وشحنة
عاطفية - كالطفل في أعوامه الأولى - فإنها الآن أمام تحديات كبيرة، فلا بد من
العقول المفكرة والعلماء المجتهدين والتخطيط، والنظر في وقائع الاجتماع البشري
والسنن الربانية، والتدرب على تحليل الحاضر واستشراف المستقبل، وهذا كله
يندرج تحت حديث التجديد (يجدد لها أمر دينها) وأمر دينها يندرج تحته أمر
دنياها أيضاً، لأ نه وسيلة إلى الأمن والاطمئنان والقيام بأمر العبودية على أتم
ما تكون.(61/24)
في المنهج
قاعدة في الحكم على المخالف
عثمان علي حسن
التفريق بين الكفر وقائله:
وهذا من الأصول العظيمة التي امتاز بها أهل السنة والجماعة عن سائر
الفرق، أنهم يفرقون بين المقالة وصاحبها، فالمقالة قد تكون كفراً أو فسقاً وصاحبها
ليس بكافر ولا فاسق، كما أنها قد تكون إيماناً وتوحيداً وصاحبها ليس بمؤمن ولا
موحد.
ولكي توافق مقالة الكفر صاحبها، ويوصف بها، لا بد من تحقيق شرائط
وانتفاء موانع:
أما الشروط فمنها [1] :
1- أن يكون صريح قوله الكفر عن اختيار وتسليم.
2- أن يكون لازم قوله الكفر، وعرض عليه فالتزمه، أما إذا لم يلتزمه، بل
رده وأنكره فليس بكافر.
3- أن تقوم الحجة عليه ويتبينها؛ لقوله تعالى: [ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً]
[الإسراء 15] ، وقوله: [ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى]
[النساء 115] .
وأما الموانع فمنها [2] :
1- أن يكون حديث عهد بالإسلام.
2- أن يكون قد نشأ ببادية بعيدة، ويدخل معه من لم يجد إلا علماء الابتداع
يستفتيهم ويقتدي بهم.
3- أن يكون مغيب العقل بجنون ونحوه.
4- أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسنة، أو بلغته ولم تثبت عنده - إن كانت
سنة - أو لم يتمكن من فهمها.
5- بلغته وثبتت - عنده - وفهمها، لكن قام عنده معارض - من رأي أو
ذوق - أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً. ويدخل معه المجتهد المخطئ، فإن الله
يغفر له خطأه ويثيبه على اجتهاده إن كان حسن النية.
وعليه، فلا يجوز الحكم على معين بالكفر إلا بعد تحقيق شروطه وانتفاء
موانعه، وما أثر عن بعض السلف من إطلاق التكفير واللعن فهذا يبقى على إطلاقه
وعمومه، ولا يتعين في حق إنسان إلا بدليل: قال ابن تيمية -رحمه الله-: (فإن
الإمام أحمد - مثلاً - قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على
التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، وترك
الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك
من الجهمية؛ من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم
على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر..
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم،
وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين
عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة
والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم
يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا
يُرى في الآخرة..) [3] .
فالمخالف للكتاب والسنة إما أن يكون مجتهداً مخطئاً، أو جاهلاً معذوراً، أو
متعدياً ظالماً كأن يرتكب كبيرة، أو منافقاً زنديقاً كأن يبطن الكفر ويظهر الإسلام،
أو مشركاً ضالاً وهو المصرح بالكفر. وكل يعامل بحسبه.
العذر بالجهل [4] :
لا بد من التفريق بين جاهل تمكن من العلم ومعرفة الحق ثم أعرض عنه،
وآخر لم يتمكن من ذلك بوجه:
فالمتمكن المعرض مفرِّط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما
العاجز عن السؤال والعلم لا يتمكن منه بوجه، فهم قسمان:
1- مريد للهوى، مؤثر له، محب له، لكنه غير قادر عليه وعلى طلبه،
وذلك لعدم وجود من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
2- معرض لا إرادة له، لكنه لا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما
أنا عليه. ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.
والثاني راض بما هو عليه. لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه، ولا
فرق عنده بين حال عجزه وقدرته. فهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من
الفرق:
فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه - بعد استفراغ
الوسع في طلبه - عجزاً وجهلاً.
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه،
ففرق بين عجز الطالب وعجز المرض.
__________
(1) انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/334، ومجموع فتاوى ابن تيميه 12/ 501.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/179، 231، 3/345، 346، 7/ 217، 218، وطريق الهجرتين لابن القيم ص 412-413.
(3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 12/488، 489، وانظر: 23/ 348، 349.
(4) انظر: طريق الهجرتين لابن القيم ص 412-413، ومجموع فتاوى ابن تيمية 22/16، واقتضاء الصراط المستقيم.(61/26)
آفات في طريق الدعوة
عبد الرحمن دمشقية
الدعوة إلى الله ميدان رحب سلك فيه الداعون إلى الله أساليب متنوعة بهدف
تبليغ الحق والنصح للأمة أفراداً وجماعات، والدعاة الصالحون المستنون بمنهج
أهل السنة والجماعة يعملون بكل جهد واجتهاد للاقتداء بسنة الرسول الأعظم -
صلى الله عليه وسلم - وبصحابته ومن تبعهم بإحسان. إلا أن هذا الميدان الهام قد
يدخله وينتسب إليه نفر ليسوا على المستوى المطلوب علماً وتربية وسلوكاً، وقد
ينزلقون في خضم دعوتهم إلى أخطاء وملاحظات قد تنعكس سلباً على هدف الدعوة
السامي. والكاتب يبين لنا بعض الآفات على طريق الدعوة للحذر منها وعدم
الوقوع فيها لتكون دعوة الداعي الحق على نور من الله ووفقاً لسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم -.
- البيان -
الآفة الأولى:
الشرك وقلة الإخلاص وابتغاء الدنيا بعمل الآخرة: عن أبي سعيد بن فضالة
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جمع الله الأولين
والآخرين ليوم القيامة - ليوم لا ريب فيه - ناد منادً: من كان أشرك في عمله لله
أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» [1] . وقال:
«بشِّر هذه الأمة بالتيسير والسناء والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب» [2] . وقال:
«إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فقالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله -عز وجل- إذا جزى الناس بأعمالهم: ... اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم
جزاء» [3] .
الآفة الثانية:
كتم العلم والتكاسل والتباطؤ عن نشره: فإن مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدِّث
به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه. كما قال ذلك رسول الله [4] . وقد أخذ
الله الميثاق على الذين أوتوا العلم أن يبينوا ولا يكتموا [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ] [آل عمران 187] . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كتم علماً
لجم يوم القيامة بلجام من نار» ، وفي رواية: (ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا ...
أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار) [5] .
الآفة الثالثة:
مخالفة العلم للعمل، وذلك بأن يعظ الناس بخير لا يبالي هو العمل به قال
تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] [البقرة 44] . وقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق
أقتابه [6] فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فتجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه» [7] .
وقال: (مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار،
قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون) [8] .
وجاء في رواية: «ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» [9] . وفي رواية
يخالفونه بالنهار وينامون عنه بالليل.
وأخبر أن مما يسأل عنه العبد يوم القيامة «عن علمه ماذا عمل به» [10] ...
وضرب مثلاً لمن يعلم النار وينسى نفسه قائلاً: «مثل الذي يعلم الناس الخير
وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» وفي رواية: «كمثل
الفتيلة، تضيء على الناس، وتحرق نفسها» [11] . فهذا العلم الذي يتصف به
العالِمٌ، عِلمٌ ضار بصاحبه غير نافع له هو حجة عليه. وقد كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من علم لا ينفع [12] .
الآفة الرابعة:
الادعاء والمباهاة بالعلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يظهر
قوم يقرأون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال
لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أولئكم منكم
من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار» [13] .
الآفة الخامسة:
طلب العلم للمجادلة وغلبة الناس: حيث يظهر المجادل وكأنه ينتصر للحق،
وإنما يريد إثبات ذكائه وقوة لسانه، إن هذا في الحقيقة يريد العزة لنفسه لا لربه.
لقد كان الشافعي -رضي الله عنه- يقول: «ما جادلني خصم إلا وتمنيت أن يظهر
الله الحق على لسانه» .
الآفة السادسة:
التعصب لأقوال الائمة والعلماء، ومحاولة تبرير أخطائهم. ولم أر شيئاً
يحجر العقول مثل التعصب لعالم أو لمذهب، لأن التعصب منهج بعيد عن منهج
الإسلام لا يفسح المجال للعقل ليكون مرناً يفحص الأشياء.
أين الطريق:
إن الذي فرض هذه الغاية لم ينس أن يعلمنا الوسيلة لتحقيق هذه الغاية، قال
تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ] ، [ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] .
إن الدعوة يجب أن تقترن بالخلق الحسن، ولين الجانب، والتأمل والتريث.
وإن خلت من هذه العوامل فقد تنفع المدعو، وقد تضر به إذ تدفعه دعوة الحق -
بالأسلوب الباطل - إلى الإصرار على الخطأ. فإن الناس معادن ويختلفون في ردة
الفعل. لذا كان قدوتنا في ذلك الخُلُق العظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الذي وصفه الله تعالى بقوله: [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم 5] ، وقد قال هو
عن نفسه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [14] .
وإذا كان التحلي بالخلق الحسن واجباً على الناس جميعاً فهو على الداعية
أوجب وأحرى. وكذلك قصة الإعرابي الذي بال في المسجد فراه الصحابة وهموا
بضربه، فزجرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم أن يهريقوا فوق
بوله سَجْلاً [15] من ماء، ثم قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» .
فما كان من الأعرابي إلا أن قال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً
أبداً» . لقد رأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق ومن السماحة واللين ما لم ير من غيره.
__________
(1) رواه الترمذي في التفسير، والحاكم 4/329، وقال صحيح ووافقه الذهبي.
(2) رواه أحمد في المسند 5/134، والحاكم 4/311، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3) رواه أحمد في السند 5/428 بإسناد جيد.
(4) رواه الطبراني بإسناد ضعيف غير أن له شاهداً من حديث ابن عمر الذي رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/122) فالحديث بذلك حسن الإسناد قاله الألباني (صحيح الترغيب والترهيب رقم 117) .
(5) رواه ابو داود والترمذي وحسنهّ وصححه الألباني الترغيب رقم (116) .
(6) أي تخرج أمعاؤه من داخل بطنه.
(7) متفق عليه.
(8) رواه البيهقي وابن حبان وصححه الألباني في الترغيب رقم (121) .
(9) رواه البيهقي وابن أبي الدنيا بإسناد صحيح، صحيح الترغيب للألباني رقم (121) .
(10) رواه الترمذي، والمنذري وصححه الألباني في الترغيب رقم (123) .
(11) رواه الترمذي، والطبراني في الكبير وقال المنذري " إسناده حسن " وصححه الألباني في الترغيب رقم (126) .
(12) رواه مسلم رقم (2722) .
(13) رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن، (صحيح الترغيب 131) .
(14) رواه أحمد 2/381 والبراز كما في المجمع وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
(15) سَجْلاً: أي دلواً.(61/30)
صحافة
من مظاهر الانحراف الفكري
في الصحافة العربية
د. محمد بن سعود البشر
- 1 -
إن من نعم الله علينا أن بلغنا هذا الزمان الذي يشهد صحوة إسلامية مباركة،
ورجوعاً من المسلمين إلى الله تعالى أفراداً وجماعات، شيباً وشباباً، رجالاً ونساء، وعودة راشدة إلى الحق وإلى منهاج كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه
وسلم -، تقود طلائعها ثلة من العلماء، وكوكبة من الدعاة، يرشدون الناس
ويوجهونهم، ويذكرونهم بأيام الله، ويبينون لهم صراطهم المستقيم.
وإن من سنة الله التي خلت من قبل أنه ما من زمان ترفع راية للسنة، ويعلو
فيه شأن للمسلمين، ويرتفع لواؤهم، إلا وتظهر فيه طائفة من الناس قد امتلأت
قلوبهم غيظاً لعز الإسلام، وحقداً لعزة المسلمين، وارتوت أفئدتهم خبثاً ومكرا،
ينتبذون مكاناً قصياً، ويسلكون مسالك شتى في الكيد للإسلام والتربص بحملته،
وإن مما ابتلي به المسلمون في هذا الزمان نفر من بني جلدتهم، يعيشون بينهم
ومعهم، يلبسون ثيابهم، ويتكلمون بلسانهم، لكنهم يحملون همَّاً غير همِّ دينهم،
ويدعون إلى منهج غير منهج قرانهم وشريعتهم، يسلكون في ذلك طرائق قدداً،
فمرة يؤذون المؤمنين باسم التطرف، وتارة يتطاولون على أعراض العلماء
وطلبتهم باسم الحرص على الدين، وأخرى يلزمون الدعاة إلى الله باسم الحفاظ على
المصلحة العامة واستتباب الأمن، وكل ذلك يصدر من مجتمعات إسلامية، وتقرؤه
جماهير المسلمين، ينشرون ذلك باسم الحرية، حرية الرأي، وحرية التعبير،
وحرية القلم، أما غرضهم الأساس فهو الانتقاص من قدر العلماء والدعاة وتجريحهم، والتشكيك فيهم، ومحاولة نزع الثقة منهم حتى لا تقوم للإسلام قائمة، إدراكاً منهم
أن تلك الصفوة من حملة الدين عليهم المعوّل بعد الله في نشره وفي تمكين الصحوة.
- 2 -
وإن مما ابتليت به مجتمعاتنا الإسلامية مؤخراً فئة ممن تسنموا الصدارة
الصحفية وامتطوا صهوة أقلامهم لحرب العلماء والدعاة، ونشر مقالات صريحة
وجريئة في التطاول عليهم والانتقاص من قدرهم. وهم يعلمون أن جماهير القراء
غالبيتهم من المسلمين، وأن ما يكتب في الصحيفة هو بالدرجة الأولى موجه لهم،
وإن من أهم الكتابات التي تلفت أنظارهم هي تلك التي تكتبها أسماء معروفة ذات
نفوذ مؤثر، وذلك لأن تلك الأقلام عادة ما تكون مسؤولة أو تعبر عن اتجاه
الصحيفة كوسيلة إعلامية تعبر عن واقع المجتمع الذي تعيش فيه، أو - في أقل
الأحوال - تكون مرآة لقياس فكر القائمين عليها وسياساتهم وتوجيهاتهم. ومن هذا
المنطلق فإن ذلك السيل الهادر من المقالات المدبجة بعبارات الذم وكيل التهم للدعاة
والناصحين للأمة التي بدأت تطالعنا بها صحافة تصدر في مجتمعات إسلامية كان
محل تساؤل الكثيرين من أفراد الأمة الإسلامية، بل وغضبهم مما يقال وينشر. إن
تلك الفئة من الكتبة يتحدثون بدعوى حرية الرأي عن قضايا ذات علاقة بصفوة
الأمة وهم علماؤها وطلابهم والدعاة إلى الله والناصحون للمسلمين، وتلك وايم الله
قضية ينبغي لمن أراد الكتابة عنها أن يستكمل شروطها، وأن يفكر ويقدر قبل
الشروع في الحديث عنها.
إن ذلك التوجه الخطير في الصحافة العربية له عواقب وخيمة على الأمة،
وإن مما يزيد خطورته غض البصر عنهم من قبل الأنظمة السياسية في الدول
العربية التي أعطتهم الضوء الأخضر لنهج ذلك المسلك. وكان من نتيجة ذلك أن
تمادى هؤلاء الكتاب في غيهم، وتحدوا مشاعر المسلمين وذلك من خلال الكتابة عن
علمائهم ودعاتهم بأسلوب فظ غليظ، ومن خلال تسمية الدعاة والعلماء بأسمائهم
والتعريض بهم والانتقاص من قدرهم ومكانتهم، وأخيراً من خلال ذكر أسمائهم في
افتتاحيات الصحف وأغلفة المجلات إمعاناً في الجرأة ولفتاً للانتباه، في محاولة
فاشلة منهم إما لجذب القارئ وكسبه، وإما استفزازاً له وتشفياً منه.
إن من يتابع ذلك الزخم الهائل من المقالات والتحقيقات والأحاديث الصحفية
التي ينشرها أولئك الكتبة على صدر صحفهم وأغلفة مجلاتهم تتبادر إلى ذهنه عدة
انطباعات عامة هي في نظري القاسم المشترك الذي يجمع بينها، ومن تلك
الانطباعات ما يلي:
أولاً: أن الكتابة عن الدعاة إلى الله وحملة الإسلام والناصحين له بقصد
الانتقاص من قدرهم والتطاول عليهم، وتشكيك الناس فيهم لنزع الثقة منهم،
وتسميتهم بأسمائهم الصرحية بالأسلوب الذي تنتهجه الصحافة العربية لا يخرج في
نظري عن أحد أمرين:
أ- إما غرض شخصي للكاتب لا نعرف نحن القراء كنهه ولا دلالته، وفي
ذك تجن علينا باقتطاع مساحة كبيرة من الصحيفة - وذلك من حق القارئ - لتحقيق
مآرب ذاتية وتلبية رغبات شخصية.
ب - وإما محادة صريحة للمؤمنين وإيذاؤهم، وقد جاء الوعيد لمن انتهج ذلك
المسلك في قوله تبارك وتعالى: [والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً] .
ثانياً: إن هذا التوجه في الصحافة العربية يتزامن مع أحداث لا تزال تقع في
بعض الأقطار العربية كان طرفاها الحكومات العربية من جانب والجماعات
الإسلامية (وبعض المحسوبين على الحركات الإسلامية) من جانب آخر. وإن ذلك
توقيت في غير أوانه، بل إن الكثير من المسلمين يعتقد أن ذلك أمر قضي بليل،
فهم يساهمون بشكل مباشر في ضرب المسلمين وشباب الصحوة الإسلامية
ويتعاونون مع أنظمتهم في تنفيذ ذلك، ثم هم أيضاً بالتطاول على أهل العلم وطلاب
العلم والمنتسبين إلى الدعوة الإسلامية يلتمسون عذراً لمن يتصيد في الظلام من دعاة
الفساد ورؤوس الضلالة في المجتمعات الإسلامية.
ثالثاً: أن أولئك الكتبة الذين ابتليت بهم صحافة الأمة يحاولون لفت انتباه
الجماهير لما يكتبون بطريقة تتنافى مع أعراف الكتابة والصحافة. إن مصطلح
(جذب انتباه القارئ) للصحيفة لا يكون بتلك الطرق المجانبة للصواب، لقد درسنا
الصحافة والسياسة في بلاد الإسلام وفي البلاد الغربية وما سمعنا ولا قرأنا ولا علّمنا
أساتذة الإعلام أن هذا المصطلح الصحفي يجب أن يستخدم على حساب المبادئ
والقيم والقوانين السائدة في المجتمع - أي مجتمع - وإن مصطلح (الحرية) ليس
مطلقاً بل مقيداً تقييداً يتناسب و (المصلحة العامة) للمجتمع، وإلا أصبحت الحرية ...
فوضى، والتعبير الحر هجوماً معلناً، فكيف ونحن نتعامل مع هذين المصطلحين
في مجتمعات إسلامية تحكمها ضوابط الدين والشرع والأخلاق.
إن تلك المنابر الصحفية التي تسلقها أولئك الكتبة ويفرضون على الناس
آراءهم من خلالها هي منابر لا يملكونها، بل هم كغيرهم من أفراد المجتمع أنيطت
بهم مسؤولية إدارتها أو الإشراف عليها، وليس من حقهم ولا من حق المجتمع
عليهم أن يستغلوا تلك القنوات الإعلامية بدعوى (حرية الرأي) وأن ينشروا ...
ترهاتهم وفكرهم الدخيل على صفحات الرأي.
- 3 -
تردد الصحافة العربية وأبواق الإعلام العربي بشكل عام مصطلحات دخيلة
على مجتمعاتنا الإسلامية، غربية غريبة، تترجمها الصحافة العربية على عواهنها
بدون تمحيص ولا غربلة لمدلولها، مثل (الأصولية) ، (الإرهاب) ، (التطرف)
إذا أطلقت في سياق وصف الإسلاميين والجماعات الإسلامية. وإن من نافلة القول
أن نؤكد هنا أن تلك المصطلحات وغيرها مما سنذكره بعد قليل هي مصطلحات
تتناقلها وسائل الإعلام الغربية وتستقبلها وكالات الأنباء العربية وتقوم بترجمتها
حرفياً وتضمينها في المادة الإعلامية المنشورة فيجدها القارئ العربي تتصدر
الأخبار والتحقيقات والمقالات الصحفية التي يطالعون بها القراء بكرة وعشياً.
ولئن تلقاها القارئ العادي بشعور بارد تجاهها إما لجهله بمصدرها أو بمدلولها
إلا أنها تأخذ بعداً آخر حينما تتردد على ألسنة الكتاب وأصحاب النفوذ الإعلامي،
وهذا ما وجدناه في ذلك التوجه الجديد بل الدخيل على صحافة المجتمعات الإسلامية. لقد قرأنا ما نشره أولئك الكتبة فوجدنا فيه من سطحية في الطرح، وغثائية في
الفكر، وتقليدية غربية في الأسلوب، وقد اتبعوا في ذلك أسلوبا فظاً غليظاً في
الحديث عن الدعاة وشباب الصحوة الإسلامية لم يخل من مغالطات شرعية يتحاشاها
من ينتسب إلى الإسلام فضلاً عمن يدعي إصلاح المجتمع الإسلامي:
- فهم يصفون التدين والالتزام بـ (التطرف الأعمى) .
- ويصفون الصحوة الإسلامية بـ (الظاهرة الاجتماعية) .
- ويصفون الدعاة إلى الله بـ (أدعياء العلم) .
- ويصفون الحق الذي هو غاية الدعاة بـ (الخداع والتضليل) .
- ويصفون طريقة العلماء في نشر العلم - عن طريق الكاسيت مثلاً - بـ
(أساليب غير مشروعة) .
- وعمموا الحكم على الجماعات الإسلامية ووصفوهم بأنهم كلهم (إرهابيون) .
- ويصفون الحريصين من طلبة العلم على متابعة الدروس والمحاضرات
الدينية بـ (المتطرفين) .
تلك بعض من المصطلحات الدخيلة على عقيدة الأمة وفكرها، فالرجوع إلى
الحق والتدين والالتزام بمنهج الكتاب والسنة هو (تطرف أعمى) والدعوة إلى ...
هداية الناس ورجوع الشباب إلى الإسلام يسمى (ظاهرة اجتماعية) ، ومن يستخدم
هذا المصطلح يعرف مدلول الظاهرة الاجتماعية ومفهومها واستخداماتها عند أساتذة
الاجتماع، أما استخدام أشرطة الكاسيت وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيرية
لنشر العلم وإرشاد الناس وتبصير الأمة وهدايتها فذلك في نظر تلك الطائفة من
حملة الأقلام الموبوءة (أساليب غير مشروعة) ، وكأنهم قد نصبوا أنفسهم علماء
بالحلال والحرام، والمشروع والممنوع، وتجاهلوا من يستخدم هذا النوع من
الوسائل الإعلامية في نشر الفساد والرذيلة في المجتمعات الإسلامية، وسخروها
للهو والغناء ومبتذل القول ورخيصه، وطلبة العلم وشباب الصحوة في مفهوم تلك
الشريحة من حملة الأقلام هم (متطرفون) ، ولو ناقشت أحدهم في مفهوم التطرف
فلن تجد عنده الجواب الشافي، بل سيقول لك سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، أما
الوسطية أو الإفراط فلم يستوردوها بعد من أبواق الإعلام العالمي؟ !
ثم انظر إلى أساليب التعبير الأخرى في مسيرة الإصلاح الإعلامي الذي
يدعونه، مسيرة تصحيح العقيدة والمفاهيم في المجتمع الإسلامي، يصفون مشاعر
الدعاة في نصرة الحق بأنها أصيبت بالهوس بعد أن تسلل إلى قلوبهم واهتماماتهم
بأسلوب عاطفي يرفضه العقل والمنطق السليم! ! ثم إن هؤلاء الدعاة جاهلون
بمواقف علماء الأمة من مجمل القضايا التي تخضع لأحكام العقيدة الصافية! ! هذه
هي جريمة الدعاة الذين وضعتهم تلك الطائفة من الصحفيين في قفص الاتهام بتهمة
الجهل المدقع بالعلم الشرعي وبفقه الواقع! !
وإننا نتساءل: من أين يؤخذ العلم الشرعي؟ أمن صدور العلماء والدعاة أم
من الأقلام الصحفية المأجورة؟
أما أساليب الدعاة إلى الله في نصرة المظلومين من المسلمين في البلاد
الإسلامية فهي (أساليب إرهابية) ! ! لماذا؟ لأن هؤلاء الدعاة مهتمون بالدفاع عن
(إرهابيين في بلدان عربية مسلمة لا هدف لهم سوى زعزعة الأمن والاستقرار
وتنفيذ تعليمات مصدري الإرهاب في بلدان أخرى) .. أما (الإرهابيون) فهو ... ...
المصطلح الذي أطلقوه على المضطهدين في السجون الذين ينادون بالإسلام شريعة
ومنهاجاً، وأما مصدروا الإرهاب فهم قادة الجماعات الإسلامية الذين يطالبون
بتطبيق الإسلام وينادون بالحاكمية المطلقة لله في الأرض.
إن الذين يكتبون باسم الحرص على الدين، وباسم الحفاظ على المصلحة
العامة يجب عليهم أولاً أن يتبعوا تعاليم الدين وأن يطبقوه في واقعهم حتى يكون
لكلامهم القبول والاستحسان، وإن الذين يكتبون باسم الحوار والدعوة بالحكمة
والموعظة الحسنة والبعد عن التعصب والتشنج لا بد أن يبدؤا بأنفسهم أولاً حتى لا
يدعوا إلى ما يخالفونه، وأن يتدبروا منهج القرآن في ذلك: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً..] [الأحزاب 70] ، [والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ] [المؤمنون 3] ، [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] [طه 44] ، [وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ..] [الحج 30] ، [وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ
إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ..] [الإسراء 53] .
وأن يتدبروا سنة المجتبى - صلى الله عليه وسلم - في التنازع والتخاصم في
الباطل. روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل
في سخط من الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال
حتى يخرج مما قال» .
إن في نصوص الكتاب والسنة معالم المنهج الأمثل للتفكير والحوار، أما أن
يُتخذ الإسلام ودعوى المحافظة عليه والحرص على المصلحة العامة ذريعة لإثارة
الفتنة وزرع بذور الفرقة والتمزق في المجتمع، ويكون ذلك مطية للنيل من الدعاة
والناصحين بكل طرق القول السيء والهجاء المقذع فذلك أمر يرفضه الدين، ويمقته
أقل الناس علماً، فضلاً عن الدعاة وطلبة العلم.
- 4 -
لقد حدثتنا قصص القرآن الكريم في حقب مختلفة من التاريخ عن ذلك الصنف
من الناس الذين استغلوا سلطانهم ومكانتهم في المجتمع بغرض الكيد للإسلام وأهله
بدعوى الإصلاح، والحرص على الأمن واستتابه، والحفاظ على المصلحة العامة،
فنصبوا أنفسهم دعاة مرشدين للناس وهم أبعد ما يكونون عن حقيقة الدعوة والإرشاد. يقول -تبارك وتعالى- عن فرعون وقصته مع موسى -عليه السلام-: [وقَالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي
الأَرْضِ الفَسَادَ] [غافر 26] . يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:
انظر كيف أصبح فرعون مذكراً وواعظاً [1] ، فنصّب فرعون نفسه داعية للناس
ومحذراً لقومه ومنذراً لهم من موسى -عليه الصلاة والسلام- من أن يبدل دينهم أو
أن يظهر في الأرض الفساد. ففرعون على قوته وجبروته وبأسه في قومه لم يمنعه
ذلك من الظهور بمظهر الناصح لهم! !
ولكن سرعان ما تظهر حقيقة هذا الصنف من الناس الذين يتخذون من مبدأ
النصح للأمة قناعاً ووسيلة لتحقيق غاياتهم الدنيئة، ويكون ذلك - كما أخبر عز
وجل - إما بقولهم وإما بسيماهم: [ولَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ القَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ] [محمد 30] ، يقول علي بن أبي طالب -رضي
الله عنه-: «.. وإن لسان المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق من وراء
لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه فإن كان خيراً أبداه، وإن
كان شراً واراه. وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا
عليه» [2] .
إن مخاطبة الأمة عبر الوسيلة الإعلامية بمادة مليئة بالمخالفات الشرعية،
ومحاولة تطويع نصوص الشريعة لتحقيق الهوى والمآرب الشخصية من الانتقام
للذات، ومحاربة للدين وأهله بدعوى الحرص عليه والمحافظة على مصالح
المسلمين، وكيل التهم والتشهير بالدعاة إلى الله والناصحين للأمة، واستخدام
الأساليب المبتذلة والرخيصة في ذلك، إن ذلك كله مما ترفضه مجتمعاتنا الإسلامية
جملة وتفصيلاً، لأنه باختصار يتعارض مع عقيدة المجتمع ودينه، وهو ما ينافي
نظامه الإعلامي الذي يجب أن يستمد إطاره الكلي من قواعد الإسلام وأصوله، ذلك
لأن الكلمة في إعلامنا ينبغي أن تكون قادرة على إيصال معناها إلى جماهير الأمة،
فلا تنوء بحمل معانيها، وأن يراعى في اختيارها الأسلوب الأمثل في مخاطبة
المسلمين، وهو أسلوب ينأى عن الكلمة النابية واللفظة الرخيصة واللغة الحادة أو
المبتذلة المنافية للذوق الإنساني [3] .
- 5 -
إن من يعيش في مجتمعنا، ويحمل هماً غير همِّ ديننا، ويلبس ثوباً غير ثوبنا، وينادي بدعوة لا يرتضيها رب العالمين، وينشر في مجتمعنا كل ما يبعد الناس
عن حقيقة هذا الدين، وينادي بأفكار ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب،
بدعوى الحفاظ على الدين، والمصلحة العامة، وحرية الرأي، وغير ذلك من
الدعاوى الباطلة، وشعارات زائفة، أحرى بهؤلاء أن ينبذوا، وأن يشرد بهم من
خلفهم، وإن لحرية الرأي العام في مجتمعاتنا الإسلامية ضوابط معروفة معلومة،
وإن استخدام هذه الحرية في غير مواضعها هو تجنّ سافر على القيم والمبادئ
السائدة في المجتمع، يدرك ذلك كل إنسان حباه الله فطرة سليمة وعقلاً رشيداً،
وتعاملنا مع مصطلح الحرية محكوم بضوابط الدين والشرع، وإلا أصبحت الحرية
فوضى ونبتة سوء تفرق الأمة، وتظلل الفتنة، وتقود إلى الفرقة والتمزق. وذلك
ما سقطت فيه الصحافة العربية حينما قادها من أعمى الله بصيرتهم عن الحق،
فنشروا الفكر الدخيل على عقيدة الأمة، فكر يوحي بالضياع ويدل على الغفلة
والجهل بهذا الدين. وإننا نربأ بصحافتنا أن تنشر علينا فكراً هزيلاً يستمد جذوره
من مظاهر (الانحراف الديني) و (الهوس الحضاري) المريض.
__________
(1) تفسير ابن كثير، 4/77.
(2) علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، 2/113-114.
(3) محمد كمال الدين إمام، النظرة الإسلامية للإعلام، دار البحوث العلمية، الكويت، ط 2، 1403 هـ، ص 159 بتصرف.(61/35)
معالم في طريق التغيير
محمد محمد بدري
لا شك أن المسلم الذي يرى الحياة من خلال واقعه وليس من خلال أمانيه، يدرك لأول وهلة أن (واقع) الأمة الإسلامية اليوم هو مصداق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ ، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [1] .
فقد أصبحت الأمة الإسلامية (غثاء) من النفايات البشرية الخاوية، تعيش
على (ضفاف) مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة ومتصارعة، تفصل لينها ...
حدود جغرافية ونعرات قومية مصطنعة، وتعلوها راية (الوطنية) ، وتحكمها ...
قوانين الغرب العلمانية.. تدور بها (الدوامات) السياسية فلا تملك نفسها عن ...
الدوران، ولا تختار حتى المكان الذي تدور فيه! !
لقد قذف الله في قلوب المسلمين (الوهن) فأصبحت أمتهم تخاف من تكاليف
الحرية ومجابهة الظلم في الداخل، وتجبن عن صد الغزاة في الخارج.. فتداعت
عليها الأمم، وأحاط بها الأعداء الذين أوصلوها إلى مرحلة (القصعة المستباحة)
التي حذرها إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا ريب أن هذه الحال تؤرق أكثر المسلمين وتقض مضاجعهم، فتقفز إلى
أذهانهم أسئلة بكثيرة: كيف نخرج بأمتنا من أزمتها، وننتقل بها من الاستضعاف
إلى التمكين؟ ومن التبعية إلى الريادة؟ كيف نرفع (غثاء) الأمة الإسلامية من
حضيضه الذي يعيش فيه ليعود كما أراده الله خير أمة أخرجت للناس؟
ولكن لا موغل في (حلم) الريادة البشرية على حساب (حقيقة) التبعية، أو ...
تهرب من مواجهة (واقع) الاستضعاف بالانغماس في (خيال) التمكين، لا بد أن نحزم أمرنا ونعد عدتنا، ونجد السير في طريق التغيير الذي يمكن أن نتبين بعض معالمه فيما يلي:
1- إقامة الفرقان الإسلامي:
بينما كان الاستعمار القديم يستعين بقواته العسكرية لقهر شعوب المستعمرات،
لم يعد الاستعمار الجديد في حاجة إلى استخدام القهر بالقوات العسكرية، بعد أن
أفلح في اختيار عملائه وصنائعه من النخبات (الوطنية) التي أشربت في قلوبها
ثقافة الاستعمار وتربت على يديه، ونشأت في كنفه ورعايته.. ثم وقفت تحت راية
(الوطنية) وتخفت وراء لافتة (الإسلام) لتقوم بمؤامرة (التباس) الحق بالباطل
التي تفتن الأمة عن دينها، وتمزق وحدتها وتشتت شملها، وتوجد الثغرات فيها كي
ينفذ من خلالها أعداء الأمة الذين يحطمون قواها ويستنزفون طاقاتها ...
لقد تمكن أعداء الأمة الإسلامية عبر النخبات الوطنية، من مزج الإسلام
بالأفكار الغربية عنه من (علمانية) وقومية و (وطنية) وغيرها، ليلتبس على
الأمة أمر دينها، وليصبح الإسلام الواحد بعقيدته ومبادئه تشريعاته اسماً متعدداً
بتعدد ألوان مؤامرة (الالتباس) التي تصد الأمة عن سبيل الإسلام الحق. ...
ومن هنا فإنه لا يمكن تحقيق انطلاقة قوية في طريق إحياء الأمة الإسلامية إلا
باقامة (الفرقان) الذي يرفع (الالتباس) ويسقط اللافتات الخادعة التي تتوارى
خلفها العلمانية. فيتمايز الناس إلى فسطاطين: فسطاط نفاق لا إيمان فيه، وفسطاط
إيمان لا نفاق فيه.. وعندها تخرج الأمة الإسلامية من حال التذبذب إلى الانحياز
إلى دينها وشريعتها، والانتصار لإسلامها من كل أعدائها.
2- إحياء الهوية الإسلامية:
تشكل الهوية - في أية أمة - الحافز العقدي والدافع النفسي الذي يدفع الأمة
في طريق التقدم والحضارة، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم
الأخرى.. فما هي هوية الأمة الإسلامية؟
لا شك أن الإسلام (وحده) هو هوية الأمة الإسلامية، ومحور اجتماع أفرادها، والقوة الدافعة التي تفجر طاقاتها وتقوي وقفتها في مواجهة كل أعدائها. لقد قام العملاء من بني جلدتنا بإبعاد الإسلام كهوية للأمة الإسلامية، وزعموا أن طريق (الإحياء الحضاري) للأمة هو (إحياء الهوية الوطنية) و (المشروع القومي المتجدد) !!
فأما (الهوية الوطنية) فقد فرقت الأمة الإسلامية إلى كيانات جزئية ومجتمعات منفصلة، وأصبح الفرد في ظلها يعاني من (الاغتراب) و (فقدان الانتماء) للأمة، ... ... فانعزل داخل همومه الفردية واهتماماته الذاتية،. . وتحولت المجتمعات الإسلامية إلى (ركام) من الأفراد لا يربطهم خيط جامع.. ووصلت الأمة إلى المعادلة الصعبة: وطن بلا مواطنين، ومواطنون بلا وطن..
3- التربية الإسلامية الشاملة:
يتأسس بنيان المشروع الحضاري العلماني على شفا جرف هار من مفاهيم
الغرب النصراني عن الدين، والتي تجعل الإسلام مجموعة من الطقوس والشعائر
لا علاقة لها بشأن من شؤون الحياة! !
ومن هنا كان تعامل زعماء العلمانية مع مشاكل الأمة الإسلامية وأزماتها
الحضارية، تعاملاً ناقصاً يشوبه الاضطراب والعجز.. وما ذلك إلا لأن هؤلاء
الزعماء يحاولون مصالحة (كل) أزمات الأمة ومشاكلها بـ (جزء) من الإسلام! !
ومن هنا فإن المشروع الحضاري الإسلامي لا بد أن يكون منهاجاً للتغيير
الكامل والجذري، يقوم بمجابهة الأزمات الحضارية للأمة والانتكاسات الفردية
والاجتماعية عبر (خطاب إسلامي شامل) يهتم بالجانب العقدي التشريعي والسلوكي اهتماماً متوازناً ومتعانقاً، يعالج السقوط العقائدي والاجتماعي والأخلاقي علاجاً شافياً..
4- إخراج الأمة المسلمة:
وفي ظل عنف الحكام في معاملة خصومهم السياسيين، وإرهابهم لكل من
يعارض أمراً يهمون به. في ظل ذلك تخلى أكثر الأمة عن (واجب) الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للحكام، وآثروا العافية يأساً من الإصلاح،
ورغبة في إصلاح الذات! !
وفي ظل هذا الواقع، لا بد أن نؤكد أن المسئولية عن الإسلام هي مسئولية
كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله على تفاوت في الدرجات بتفاوت
الاستعدادات، والقدرات، والمواقع، والظروف.. وأن العمل الإسلامي هو جهاد (أمة) وليس جهاد (حزب) أو (جماعة) أو (تنظيم) .
ومن هنا فإن (إخراج الأمة المسلمة) هو العلاج الحاسم، والوقاية الحقيقية
لكل المسلمين من نماذج الأنظمة الطاغية التي تُخرجها العلمانية، والتي يراد بها
حرق (المستضعفين) من المسلمين في أتون الظلم والقهر والاستعباد.
5- الطليعة تقود الأمة:
يضع الإسلام لقيادة الأمة الإسلامية شروطاً دقيقة ومواصفات خاصة. وتؤكد
الأصول الإسلامية أن (أولي الأمر) هم (العلماء والأمراء) .. بل إن أكثر المفسرين يرون أنهم (العلماء) وحدهم.
ولا شك أن هذا الاهتمام بأمر القيادة في الأمة الإسلامية، يرجع إلى أن الأمة
التي يقودها ويتولى زمام أمورها (فقهاء) و (أولو ألباب) تتقدم وتنتصر، أما
الأمة التي يقودها ويتولى زمام أمورها (خطباء) لا يحسنون إلا التلاعب بالمشاعر
والعواطف.. فإنها تبقى تتلهى بـ (الأماني) حتى إذا جابهت الأزمات لم (يفقه)
حكامها من (الخطباء) ماذا يصنعون؟ وآل أمرهم إلى الفشل، وأحلوا أمتهم دار
البوار.
ومن هنا فإنه لا سبيل إلى الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية إلا أن يوجد في
الأمة (فقهاء) يتصفون بصفات المؤمنين ويتحركون على أساس من الوعي يقيم
الوحي قرآناً وسنة مع الدراية بشؤون الواقع.. (فقهاء) يتميزون بمنهجيتهم
وموضوعيتهم في رؤية حقائق الواقع، ومواجهة تحديات العصر..
ولكي يستطيع هؤلاء الفقهاء حمل رسالة أمتهم وتقديم العطاء الحضاري
المنشود، لا بد أن يكون عملهم بـ (روح الفريق) ولا بد أن تربط بينهم من شبكة
من العلاقات العقائدية والاجتماعية خيوطها الإيمان والتكامل والتناصر والجهاد في
سبيل الخروج بالأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة ومن الاستضعاف إلى التمكين.
إن (نواة) الفقهاء التي تتسم بالفاعلية والحيوية، تجذب إليها (صفوة) الفكر والتجارب، و (خيرة) القدرات والإمكانات ليتكون من هؤلاء جميعاً ...
(طليعة) قوية قادرة على تحدي كل أعداء الأمة، ومواجهة جميع أزماتها، ... والسير في طريق الإحياء الحضاري بصبر ودأب، حتى يأذن الله بالانبعاث الإسلامي المنشود.. وإذن فإن قيادة الطليعة المؤمنة للأمة الإسلامية هو في حقيقة أمره (تشترطه) أسس التغيير، وتستدعيه متطلبات التمكين.
6- إحياء الفاعلية الإسلامية:
يُقَسِّم المراقبون العالم اليوم إلى (الشمال) تعبيراً عن العالم المتقدم.. ...
و (الجنوب) تعبيراً عن العالم المتخلف..
فأما الأول: فيمثل في الدول المتقدمة، ويشمل محور اليابان ودول أوربا
الغربية وأمريكا الشمالية وحلفاءهم..
وأما الثاني: فيتمثل في بقية دول العالم التي تقع خارج هذه المحاور.
ولا شك أن السبب الأول للهوة الحضارية بين الشمال والجنوب، أن دول
الأول يتميز أفرادها بـ (الفاعلية) والحرص على الوقت، والتوجه بنشاطهم الجاد
في سبيل تقدم أمتهم.
أما دول الثاني، فإن أفرادها يغلب عليهم (انعدام الفاعلية) والنظر إلى الوقت
على أنه لا قيمة له، وتوجه نشاطهم إلى اللغو والحديث غير المنتج.
وكي نوضح ما نقول فإنه من المستحسن أن نتأمل تجربة بلد مثل اليابان..
إن هذه الدولة تعيش في منطقة فقيرة في موادها الخام.. كما أن وضعها الجغرافي
لا يجعلها منطقة استراتيجية.. ولكنها مع ذلك تتقدم يوماً بعد يوم ويغزو إنتاجها
التكنولوجي العالم الغربي.. فما سر ذلك؟
إن السر يكمن في أن فاعلية (الإنسان) الياباني أضعاف أضعاف غيره من
أفراد الأمم المتخلفة الذين انعدمت فاعليتهم وتوارت جهودهم..
إن المتأمل للنماذج التنموية في الأمة الإسلامية يجد أن الأنظمة العلمانية
ترتكز على عنصر رأس المال على أنه العنصر الوحيد القادر على تحيق التقدم..
ولذلك فهي تهمل بناء (الإنسان) لتنفق على بناء (المصانع) ! !
ولا شك أن هذه الطريقة في البناء الحضاري هي طريقة (العملاء) الذين
يحبون أن تظهر أنظمة حكمهم بمظهر التقدم، فيقيمون المصانع العملاقة، ثم
يستوردون كل معداتها من الدول المتقدمة.. ويستوردون معها (كوادر) العمل في
هذه المصانع. فلا يكون لهذه المصانع والمشروعات التنموية - رغم الإنفاق الكثير
فيها - أدنى أثر في التقدم الحضاري المادي.. وما ذلك إلا لأن (الإنسان) ... في كل هذه المشروعات يكون غائباً، أو على أحسن الأحوال يكون حاضراً ولكنه يعاني من (اللافاعلية) ..
7- الريادة البشرية:
يتوقف (وجود) أية أمة في الحياة على حمل هذه الأمة لرسالتها.. فإذا
ضعفت عن حمل هذه الرسالة، انتهى (وجود) الأمة وحل محلها أمة أخرى لا
علاقة لها بها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة..
وهذا هو ما فهمه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من قول الله - عز
وجل-: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [آل عمران 110] ، حيث قال في تفسيرها: لو شاء الله لقال:
أنتم، فكنا كلنا.. ولكن قال: كنتم في خاصة من أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، ومن صنع صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر.
وإذن فالأمة الإسلامية إنما تتميز بقيامها برسالتها في الدعوة إلى المعروف
وفعل الخير، والنهي عن المنكر وجميع الشرور.. فإذا تخلت عن شيء من هذه
الرسالة نقصت قيمتها بقدر ذلك.. أما إذا تخلت عن هذه الرسالة بكاملها، فإن
مصيرها هو الاختفاء من الوجود والحياة..
ولا شك أن الأمة الإسلامية لا تستطيع حمل رسالتها في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر إلا إذا كانت تمتلك (الرادع) للعقل الغريب الذي لم يتخل بعد،
وقد لا يتخلى عن حب العدوان والسيطرة، لاستعباد الآخرين، ونهب مقدراتهم،
وإشاعة التخلف في حياتهم..
ومن هنا يبرز (الجهاد) رادعاً للعقل الغريب ومضاعفاته في الفتنة والفساد.. ...
يبرز الجهاد ليعكس مفهوم (الأمن الإسلامي) الذي يركز على إيصال الرسالة ...
وتبليغها إلى الآخرين في جو من الأمن الفكري والمادي والنفسي والشعوري يزيل
العوائق التي تحول بين الناس وبهت رؤية الحق على حقيقته، أو تمنع من تبينه
من اتباعه..
وحين تقوم الأمة الإسلامية بهذا الدور، وتخوض في سبيله الجهاد الشاق،
سيكون (البقاء للأصلح) لا بالمعنى الدارويني الفاسد، وإنما بالمعنى الرباني:
[فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد 17] . وسيُخرج الله بهذه الأمة من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. وستعود الأمة الإسلامية مرة أخرى إلى (الريادة البشرية) .
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود.(61/45)
إسلامية الأدب.. لماذا وكيف؟ ؟
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
الشبهة الثالثة:
يقول المعارضون لمصطلح الأدب الإسلامي إنَّ هذا المصطلح يجعل الأدب
واضحاً ومباشراً في خطابه، والوضوح والمباشرة عدوان لدودان لفنيَّة النص
الأدبي.. والذي يثير العجب أن أصحاب هذا الرأي يعيبون الوضوح والمباشرة
على إطلاقهما، ويدعون إلى الغموض من خلال الرموز الغائمة بحجة أن الأديب لا
ينزل إلى مستوى القراء، بل هم المطالبون بأن يرقوا إلى مستواه فإن فهموا فذلك
ما يريد، وإن لم يفهموا فليس الأديب مسؤولاً عنهم، ويستدلون على ذلك بالمقولة
المشهورة التي قالها أبو تمام لأبي العميثل عندما سأله: لماذا لا تقول ما يُفهم، فردَّ
عليه أبو تمام بقوله: لماذا لا تفهم ما يقال؟ ؟ وهو استدلال في غير محلِّه فما كان
غموض أبي تمام مستغلقاً على الفهم، والذي سأله لم يكن جاهلاً بمعاني أبيات أبي
تمام - كما يظهر لي - فهو ذو مقدرة لغوية وأدبية استحق بها أن يكون هو الذي
يجيز القصائد التي تُلقى أمام الخليفة. والذي أميل إليه أن سؤاله لأبي تمام كان من
قبيل إشعاره بمخالفته لعمود الشعر العربي، وهو أمر واضح عند أبي تمام، وهذه
قضية خارجة عن موضوعنا هذا ويمكن أن أفصِّل في موضع آخر القول فيها - إن
شاء الله -[1] .
أقول: إن قضية الوضوح والمباشرة بحاجة إلى بيان حتى لا تظلَّ شبهة
مثارة تنطلي على ناشئة الأدب في بلاد المسلمين فيظنون أن الوضوح والمباشرة
عيبان مخلاَّن بفنية الأدب، ونحن نعلم أن التعميم في الأحكام النقدية كثيراً ما يكون
سبباً في قتل الموضوعية، وضياع الإنصاف في الحكم على الأديب، أو على
النص الأدبي [2] .
ولا بد من الإشارة إلى (الرمزية) عندما نتحدَّث عن قضية الوضوح ...
والمباشرة لأنها إنما طُرحت في شكل قضية أدبية ملحة بعد اجتياح موجة الغموض
والإبهام لمساحة كبيرة من النصوص الأدبية في العالم، وكان ذلك الغموض المبهم
نتيجة طبيعية للرمزية التي نادت بتغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية
جديدة تشير إلى موضوعات غير معهودة تؤدي إلى تغيير مقام الكلمات ومجرى
الصياغة المألوفة.. ولذلك لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح
المعهود في الأدب [3] .
تحركت هذه الرمزية صوب المناطق المعتمة في النفس البشرية، وجرَّت
معها نصوص الأدب إلى أدغال الرموز والأساطير والإشارات التي لا أثر فيها
لضوء، ولا مكان فيها لشمس أو قمر أو نجوم، ونشأت بتأثير الرمزية مدرسة
الغموض والإبهام في الأدب العالمي، وتبعه في ذلك - كما هي العادة - الأدب
العربي، وكان طبيعياً أن تعادي مدرسة الغموض المولودة في أحضان الرمزية
الوضوح والمباشرة عداءً عاماً لا مكان فيه للمناقشة الموضوعية الهادئة، وسرت
لوثة الغموض والرمزية الغارقة في الإبهام في عدد غير قليل من نصوص الأدب
العربي المعاصر معتمدة على موجة الحداثة الفكرية التي نادت وما تزال بمعارضة
المألوف والخروج عليه كما هو شائع في كتابات أصحاب هذه الدعوة، وهنا أصبح
(الوضوح) في الأدب هدفاً من أهداف دعاة الخروج عن المألوف يرمونه بسهام
التشكيك، ويشنعوه على الأدباء الذين يكتبون أدباً واضحاً فيه مقومات الصياغة
الفنية الرائعة من أسلوب متقن، وصورة بديعة، ومشاعر دفَّاقة مؤثرة.
ولعل من المصلحة هنا أن نحدِّد نقاطاً لتناول هذه الشبهة حتى لا يطول بنا
المقام.
أولاً: نحن لا نقف ضد الرمز الموحي الذي يغلِّف الكلمة بغلاف رقيق
تطالعك من ورائه فكرة الأديب، والأدب الإسلامي يحترم الرمز المعبِّر وقدوته في
ذلك القرآن الكريم، ففيه عبارات وجمل ترمز إلى المعنى المراد ولا تصرح به،
وكذلك في حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وهناك فرق كبير يغفل عنه
كثير من الناس، بين الرمز الشعري الذي يستخدمه الشاعر للدلالة على فكرة ما،
وبين الرمزية التي هي مذهب أدبي غربي. ولذلك حصل الاضطراب عند بعض
النقاد في قضية الوضوح والمباشرة.
ثانياً: الوضوح والمباشرة ليسا عيبين في الأدب بهذا الإطلاق الذي يرد في
بعض الدراسات النقدية، فهما ضرورتان ملحتان لكل أديب يريد أن يوصل مشاعره
وأفكاره إلى الناس، خاصة عندما يكون الأديب صاحب رسالة عظيمة في الأمة كما
هو شان الأديب الإسلامي، وإنما يعاب الوضوح، وكذلك المباشرة، عندما يطغيان
على فنية العمل الأدبي فتصبح القصيدة كلمات وجملاً مصفوفة لا يربط بينها إلا
الوزن الشعري وليس فيها روح الأدب، ولا جمال تصويره، ولا إيحاء عباراته.
فعندما يقول شاعر مخاطباً شخصاً ما:
تعيش وتبقى ما حييت وتسلمُ
فإنه بهذا المطلع الخاوي الذي لا روح فيه يخرج من مفهوم فنية الأدب،
والأدب الإسلامي لا يقر (فنياً) مثل هذه الكلمات الجافة الجامدة، وهذا الجفاف
والجمود لم يأت من قبل الوضوح والمباشرة كما قد يتخيل البعض، وإنما أتى من
قبل خواء المعنى وعدم نجاح الشاعر في نقل تجربة شعورية صادقة.
ولو كان الوضوح والمباشرة هو العيب، لألغينا مساحة شاسعة من الآداب
العالمية، ومحوناها من خارطة الأدب، وذلك ما لا يقول به ذو بصيرة. عندما
يقول الشاعر الإسلامي محمد محمود الزبيري - رحمه الله -:
خرجنا من السجن شُمَّ الأنو ... ف كما تخرج الأُسْدُ من غابها
نمر على شفرات السيوفِ ... ونأتي المنيَّة من بابها
فإن في هذين البيتين وضوحاً ومباشرة، ولكنها شعر مؤثر، وفيها تصوير
فني جميل لثبات الإنسان على مبادئه التي يؤمن بها، فالفنية هنا موجودة ولم تكن
المباشرة أو الوضوح عيباً بالرغم من وجودهما هنا. وبهذه النظرة النقدية العادلة
نستطيع أن نردَّ مثل هذه الشبهة الباطلة.
ثالثاً: الرمز الموحي مطلوب من النص الأدبي، والأديب المقتدر هو الذي
يحسن استخدام الرموز وتوظيفها، سواء أكانت رموزاً تاريخية أم معاصرة، وسواء
أكانت بشرية أم غير بشرية بل إن الشاعر إذا استخدم رمزاً موحياً وأحسن توظيفه
في النص الأدبي، استطاع أن يؤثر تأثيراً أعمق وأن يحقق للقارئ متعة أكبر،
وإنما يأتي الخلل عندما يصبح الرمز هدفاً ووسيلة لا يتنازل عنها الشاعر فإنه بهذا
يخرج عن إطاره الصحيح ويتجاوز حدَّه المعقول.
رابعاً: الوضوح والمباشرة موجودان في كل نصٍ أدبي يحمل فكرة وإنما
تختلف النسبة من نص إلى نص، اللهم إلا عند الأدباء الذين يجعلون الرمزية غاية
وهدفاً، ويسعون إلى الغموض والإبهام ولا يعنيهم أن يفهم القارئ ما يكتبون، وإنما
يعنيهم أن يتفنَّنوا في استخدام أساليب الرمزية الغامضة، وباستطاعة كل أديب
مقتدر أن يستخدم التعابير اللغوية استخداماً مباشراً ولكنه مفعم بأثر تجربته الشعورية
التي تتناغم مع الإيقاع الشعري الذي يستخدمه، أليس شعر المتنبي واضحاً
ومباشراً؟ ؟ بلى هو كذلك، فلماذا أحبه الناس وما زالوا يحبونه؟ ؟ لماذا لم يكن وضوحه ومباشرته سببين في رفضه وحاجزين أمام إبداعه؟ ؟ وغير المتنبي كثير.
ونخلص من هذا إلى القول بأن الوضوح والمباشرة ليسا مما يعوق العملية
الفنية، وبأن الأدب الإسلامي لا يقف ضد الرمز الموحي، ولا يقبل الجمود
والجفاف في النص الأدبي، وإنما ينظر إلى (الوضوح والمباشرة) بمنظار نقدي
سليم.
__________
(1) راجع كتاب " الفن ومذاهبه في الشعر العربي "، لشوقي ضيف، ص 239 وما بعدها.
(2) راجع كتاب " الوضوح والغموض في الشعر العربي القديم " تأليف عبد الرحمن القاعود، فقد طرح القضية طرحاً مفصلاً.
(3) الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر للدكتور عبد الحميد جيدة ص 121.(61/53)
هدايا رابين
د.محمد وليد
طال الأسى وتفطَّر القلبُ ... فإلامَ ذاكَ القهرُ يا ربُّ
المسلمون نفوسُهم مُلِئتْ ... كرباً وفي أوطانهم كَرْبُ
فإلى متى أموالهم نَهْبُ ... وإلى متى أقداسُهم غَصبُ
لو كان قلبي قُدَّ من حجرٍ ... لتَفَطرتْ أحجاره الصُلبْ
ومضى ينادي ربَّهُ جزعاً ... حتام ذاكَ القهرُ يا ربُّ
وأتاه صوتٌ غاضب يجب ... ملء السماء وكلُّه عَتبُ
ضلّت بكم أهواؤكم شِيَعاً ... وتفرقَ الحادونَ والرَّكبُ
إن السراجَ اليوم مُتَّقِدٌ ... ما بالُه في أرضكم.. يخبو
قد سادَ فيكم كلُّ طاغيةٍ ... وبكل صَرْحٍ شامخ ذئبُ
قهر البلاد وفيه قد جُمعِتْ ... كلَّ العباد فشخصُهُ الشَّعبُ
تحيا الحقيقة وهي بائسة ... في أرضكم ويُجَمَّلُ الكذبُ
أو تحسبون اليوم ويلكُمُ ... أنَّ الحقيقةَ مالها ربُّ! !
الخيرون اليوم قد قُتلوا ... في أرضكم وتفرق الصَّحبُ
والعابدون لربهم حُشروا ... ملء السجون ومالهم ذنبُ
إلا محبتهم.. لخالقهم ... ولسانهم من ذكره رْطبُ
مدريدُ قد جمعت قبائلكم ... وخطابهم في قصرها خَطبُ
يا ليت شعري ويح مؤتمر ... أبطاله الأغنامُ والذئبُ
رابينُ يُهديكم.. بضاعَتَه ... حرباً هواناً بعدها حربُ
ووفودكم تأتيه طائعة ... وجلوسها بمقامه كسبُ
أتفلسفونَ الذلَّ في سفهٍ ... كي لا يقالَ تشدَّد العُرْبُ
يا أيها التاريخ.. مرحمة ... داء المذلة مالهُ طبُّ
لا تعجبوا إن غاضَ ماؤكمُ ... أو أُطفئت بسمائها الشُّهبُ
سيُذلكُّم من كان ذا ضَعَةٍ ... وسيحكم الخنزيرُ والكلبُ
وسيفدحُ الخطبُ الجليلُ بكم ... وسيعظم التقتيلُ والرُّعبُ
ما كان ربُّ العرش يظلمكم ... الظلم فيكم أيها العُرْبُ
سُننُ الإله اليومَ ماضية ... فيكم إلى أن يرعوي القلبُ
هلاّ رجعتم نحو بارئكم ... حتى يعودَ إليكمُ الربُّ(61/58)
الحركة العلمية في بلاد
الحجاز في العصر الأموي
(3)
د.محمد أمحزون
السيرة والمغازي:
لقد كان النزوع إلى جمع المعارف وحفظها من الضياع متعدد الجوانب في
صدر الإسلام، وبدأ في فترة كان فيها عدد كثير من الصحابة وكبار التابعين لا
يزالون على قيد الحياة. وبناء على بعض الأخبار سبق ذكرها يتضح لنا أن
الصحابة والتابعين كان لديهم حس تاريخي؛ فكانت المعارف والذكريات تدوّن من
الذاكرة على الورق، حتى تبقى بعد وفاة مدوّنيها.
وقد استخدم الواقدي كتباً من تأليف بعض الصحابة أسهمت إلى حد ما في
رواية كتب المغازي. ومن هذه الكتب كتاب بخط مؤلفه الصحابي سهل بن أبي
حتمة الأنصاري توفي زمن معاوية بن أبي سفيان. وقد بقيت بعض المعلومات التي
جمعها لدى حفيده محمد بن يحيى، وعنه أخذ الواقدي بعض المغازي [1] . وتعطي
المقتبسات منه صورة تكفي لإيضاح أن سهلاً قد اهتم في كتابه بغزوات الرسول -
صلى الله عليه وسلم-[2] .
وهناك قطعة من مصنف للصحابي العلاء بن الحضرمي يعطي مثلاً آخر على
أن بعض الصحابة قد اعتادوا أن يسجلوا ذكرياتهم المهمة عن سيرة الرسول -
صلى الله عليه وسلم -[3] .
لكن كتب السيرة المختصة كتبت على وجه التحديد في جيل التابعين، حيث
كان عدد من الصحابة موجودين، فلم ينكروا على كتاب السيرة، مما يدل على
إقرارهم لما كتبوه. والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها
وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعلقهم به
ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة
ومذاكرتهم فيها وحفظهم لها؛ فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام.
وجدير بالإشارة أن هذا التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال
تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للنسيان والضياع.
ومن أقدم من ألف من التابعين في السيرة والمغازي عروة بن الزبير (ت سنة
14 هـ) وأَبان بن عثمان بن عفان (ت سنة 105 هـ) وشرحيبل بن سعيد (ت سنة 123 هـ) وابن شهاب الزهري (ت سنة 124 هـ) وعاصم بن عمرو بن قتادة (ت سنة 129 هـ) وموسى بن عقبة (ت سنة 141 هـ) .
وكل هؤلاء من أهل المدينة، وقد تأثروا برأي أهل المدينة الذي يغلب عليه
طابع الحديث فمن الأمور الطبيعية نشوء علم السيرة في المدينة، إذ كانت المكان
الذي نصر الإسلام وحاطه، فاكتسبت السيرة بذلك ثوباً مدنياً، وطبعت بالطابع
الذي تميز به أهل الحجاز وهو ميلهم إلى الحديث والرواية، والتدقيق والمحافظة.
أما عروة بن الزبير بن العوام، فيعدّ أحد فقهاء المدينة السبعة [4] . انصرف
بكليته إلى الدراسة وإلى العناية بجمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
والبحث في سيرته ومغازيه حتى قال عنه الزهري: «رأيت عروة بحراً لا تكدّره
الدّلاء» [5] .
روى عن علي وعائشة وأبي هريرة وأمثالهم، وحدث عنه حبيب بن أبي
ثابت وخالد بن أبي عمران قاضي أفريقيا وأبو الزناد والزهري وغيرهم [6] . وقد
وصلت إلينا بعض كتبه في مؤلفات ابن اسحاق والواقدي والطبري، وهي من أقدم
ما وصل إلينا مدوناً عن مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما أبان بن عثمان، فإنه وإن كان قد شارك في بعض الأحداث مثل وقعة
الجمل، وتولى إمارة المدينة في أيام عبد الملك بن مروان [7] إلا أنه فضل
الاشتغال بالعلم، إذ يعد من فقهاء المدينة السبعة [8] ومن أقدم من ألفوا في المغازي
والحديث [9] . لكن لم يقتبس منه من المؤرخين سوى اليعقوبي في تاريخه [10] .
ويشاركه في هذا الميل شرحبيل بن سعيد، وهو أحد المؤلفين والعلماء الأوائل
في ميدان المغازي، قال سفيان بن عيينه عنه: «لم يكن أحد أعلم بالبدريين
منه» [11] . وكان شيخاً قديماً حدث عن زيد بن ثابت ومعظم الصحابة [12] .
وروى بالخصوص عن أبيه سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي الذي كان له
اهتمام بجمع المعلومات التاريخية المتعلقة بالمغازي [13] . وقد بقيت بعض
المعلومات التي جمعها في مسند الإمام أحمد وتاريخ الطبري [14] ، واعتمد ابنه
شرحيبل عليها في كتاباته. فسار على سنة أسرته في التأليف في المغازي، إذ كان
جدّه سعد بن عبادة الصحابي المشهور ذا مؤلف في السنن لا يزال معروفاً في القرن
الثالث الهجري [15] . وقد ذكر محمد بن طلحة الطويل أن شرحبيل أعدّ قوائم بمن
اشتركوا في غزوتي بدر وأحد، لكن فيها شيء من المبالغة [16] .
ومن الرواد الأوائل في كتابة السيرة أيضاً عاصم بن عمر بن قتادة المدني؛
روى عن بعض الصحابة مثل جابر وأنس، وحدث عنه بكير بن الأشجّ وابن
عجلان وابن اسحاق وغيرهم [17] . وكان عالماً بالسيرة، ثقة، كثير الحديث
[18] ، يعتمد عليه ابن اسحاق في كثير من مروياته [19] .
وقد أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يجلس في جامع دمشق فيحدث
بمغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومناقب أصحابه [20] . ثم رجع إلى
المدينة، فلم يزل بها حتى توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة [21] .
ومنهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الذي يعدّ من كبار المحدثين في
عصره، وثقه جهابذة علماء الجرح والتعديل [22] ، وأثنى عليه الأئمة بالفهم وسعة
العلم [23] . وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل
الأحاديث دون أن تقطعها الأسانيد [24] . وكان صاحب دراسات في التاريخ
الحديث والفقه، يكتب ما يسمعه ويجمعه من مشايخه؛ قال عنه أبو الزناد: «كنا
نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب كل ما سمع» [25] .
وكان حريصاً على الطلب، بصيراً بالعلوم حتى صار مرجع علماء الحجاز
والشام. قال فيه الليث بن سعد: «ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري، يحدث
في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت:
لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة فكذلك» [26] .
وبذلك تكونت من كتاباته وعلومه هذه مجموعات ضخمة دخلت قصور الخلفاء
الأموين. فقد أمر الخليفة هشام بن عبد الملك اثنين من كتابه بمرافقة الزهري
فرافقاه سنة في مجالسه التي يحاضر فيها، ثم أودع ذلك النقل خزانة هشام [27] .
وحكي أنه حين قتل الوليد بن يزيد (ت سنة 126 هـ) حملت الدفاتر من خزانته على الدواب من علم الزهري [28] .
ومنهم موسى بن عقبة الأسدي مولى آل الزبير، وهو محدث ثقة من تلاميذ
الزهري [29] وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال أنه أصح
المغازي [30] . وقال يحيى بن معين: «كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب» [31] .
عاش موسى بن عقبة في المدينة، وكانت له في مسجد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حلقة علم يمنح فيها كذلك إجازاته العلمية [32] . ويبدو أن
البخاري قد أفاد من مغازيه في الصحيح [33] . واختصرها ابن عبد البر بعنوان:
(كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير) [34] . كما استخدمها الحافظ ابن حجر
في كتابه (الإصابة) [35] .
هؤلاء هم الرواد الأوائل في كتابة السيرة في المدينة المنورة موطنها الأصلي، ويتضح من توثيق نقاد الحديث لهم ما تميزوا به من العدالة والضبط، وهما
شرطان عند العلماء لتوثيق الرواة. فلئن كانوا عُدَّلوا عند المحدثين رغم دقة
شروطهم في التوثيق، فإن هذا التوثيق يعطي كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة.
ويعد ذلك دليلاً ساطعاً بأن الله تعالى حفظ سيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
من الضياع والتحريف والمبالغة، بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا
أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام الإخباريين والقصاصين.
__________
(1) الواقدي: المغازي، ص هـ 9، 108، 197.
(2) انظر مثلاً الطبري: تاريخ الرسل، 1/1757 1609 1264 وابن سعد: المصدر السابق، 1/332.
(3) ابن حجر: الإصابة، 2/1184.
(4) ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/399.
(5) ابن عساكر: المصدر السابق، 11/284، والفسوي: المصدر السابق، 1/552.
(6) الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/421-435.
(7) ابن سعد: المصدر السابق 5/152.
(8) ابن حجر: تهذيب التهذيب، 1/97.
(9) انظر مقال تسترسين، دائرة المعارف الإسلامية، 1/5.
(10) اليعقوبي: التاريخ، 1/3.
(11) الذهبي: الكاشف، 2/7.
(12) ابن حجر: تهذيب التهذيب، 4/321.
(13) ابن حجر: المصدر نفسه، 4/69.
(14) أحمد: المسند، 5/222، والطبري: تاريخ الرسل 1/111.
(15) الترمذي: السنن، 1/251.
(16) ابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/361.
(17) الذهبي: الكاشف، 2/46-47.
(18) ابن سعد: المصدر السابق، ص 128 (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة) .
(19) الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/240.
(20) ابن سعد: المصدر السابق، ص 128 (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة) .
(21) ابن سعد: المصدر نفسه، ص 128.
(22) ابن معين: التاريخ، 2/538، والدرامي: التاريخ، ص 44-203، والعجلي: تاريخ
الثقات، ص 412.
(23) الطبري: المنتخب- من ذيل المنديل، ص 97، والذهبي: سير أعلم النبلاء، 5/336.
(24) اكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص 40.
(25) الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/329.
(26) الذهبي: المصدر نفسه، 5/328.
(27) أبو نعيم: المصدر السابق، 3/361.
(28) الدرامي: التاريخ، ص 204، وابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/ 360-361.
(29) ابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/361.
(30) الذهبي: سير أعلام النبلاء، 6/117.
(31) الذهبي: المصدر نفسه، 6/117.
(32) انظر الجامع الصحيح: كتاب المغازي، 5/44.
(33) سزكين: المرجع السابق، 2/85.
(34) ابن حجر: الإصابة، 3/1349.
(35) ابن حجر: تهذيب التهذيب، 3/437.(61/60)
مشاهدات في بلاد البخاري
(3)
د. يحيى اليحيى
مشاهد تسر المسلم:
لقد سرني كثيراً من أحوال تلك البلاد وما كنت لأتوقع ذلك أبداً، وها أنذا
أسجل أشياء مما رأيته ومما ينشرح له صدر المسلم:
* طهارة تلك البلاد من القبور المعظمة عندهم فلم نر مسجداً قط يطوف الناس
حوله أو يتبركون به، ولم أر مسجداً داخله قبر، وهذه نعمة كبيرة ومؤشر كبير
لنشر التوحيد هناك.
* الناس عموماً على الفطرة وإن كان ظاهرهم الإعراض عن الإسلام،
فالمرأة المتبرجة لم تتعر عناداً أو عصياناً كالمرأة في البلاد العربية، لا ولكن جهلاً
منها فمتى عرفت شيئاً بادرت إلى تطبيقه، وإذا دخلت المحلات التجارية - وكل
البائعات فيها نساء - فإذا رأتنا المرأة استغربت الشكل: فسألت صاحبي: عربستان؟ أي من العرب. قال نعم ومن المدينة النبوية فتشهق فرحاً وشوقاً إلى تلك الديار،
وتقديراً لنا تضع يدها على صدرها، ثم تتنهد تنهداً عظيماً وتزفر زفرة قوية،
توضح شوقها وحبها إلى ديار الإسلام وأهله.
ولقد سكنت في فندق في مدينة تشاوز من دولة تركمانستان، فلما علمت
مسؤولة الفندق أننا من البلاد العربية طلبت منا مصحفاً وكان طلبها في نظرها من
أشباه المستحيلات، فأعطيتها مصحفاً ففرحت فرحاً شديداً أبكاها ووضعته على
رأسها، ثم أخذت بتقبيله قائلة: أنا أملك مصحفاً! ثم ذهبت إلى مكتبتها ووضعته
في أعلى مكان منه متمنية سرعة انتهاء دوامها حتى تذهب به إلى بيتها.
فالناس هناك على الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها: حب للإسلام
وحب للعرب خاصة، لأنهم هم الذين حملوا الإسلام إليهم.
3- ترابط الأسرة، وقيام المرأة بشأن بيتها، وقوامة الرجل على أهل بيته،
فتجد البيت فيه الأب والأم والأولاد وزوجاتهم، والمرأة تقوم في شأن البيت كله:
تطحن وتخبز وتطبخ وتنظف وتخيط الخ.
4- الكرم وحسن الضيافة، أما كرمهم فلم أر أحداً أكرم للضيف منهم مع
الفرح والسرور والابتهاج، فلا أتصور أحداً يذهب إلى تلك البلاد، وفيه خير ودين، ويعلم به المسلمون، يدفع شيئاً من جيبه لطعام أو شراب، وقد وصل الأمر إلى
أننا أنكرنا عليهم بعض المبالغة في كرمهم.
فإذا دعاك أحد إلى بيته فلا تتصور أنك ستطرق الباب عليه، فإن أهل البيت
كلهم ينتظرونك عند الباب، فإذا دخلت البيت فمكانك أحسن المجالس، ولا يجلسون
حتى تجلس، أما الطعام فمقدم لك قبل جلوسك ويأتيك الطعام من كل نوع ويقربون
لك أحسنه وأطيبه، أما غسل اليدين قبل الطعام وبعده فيأتيك وأنت جالس مع
المنديل، ولن تخرج من بيت الضيافة إلا ويهدون إليك شيئاً!
والقصص في كرمهم كثيرة وأجتزئ منها قصتين تدلان على كرمهم وحسن
ضيافتهم:
الأولى: خرجنا من مدينة (طشقند) قرب الغروب وبعد مسيرة ثلاثين ميلاً
غربت الشمس فقصدنا شخصاً يعرفه أحد المرافقين معنا ففرح لقدومنا فرحاً شديداً،
وأدخلنا بيته على سرور منه وفرح وما هي إلا دقائق حتى قدم لنا الطعام، وما زال
يقدم لنا أنواعاً من الأطعمة، فما استطعنا أن نوقف سيل الأطعمة إلا بالمناداة
للصلاة، فلما أدينا الصلاة استأذنا في الخروج فبكى وطلب منا أن نبيت عنده،
وقال: ما أكرمتكم، ثم أخذ بإلحاح علينا علنا ننام عنده فلما علم إصرارنا على
المسير، قال: متى ترجعون إلى طشقند، فقلنا: بعد عشرة أيام، فلما قدمنا
(طشقند) وجدناه واقفاً على باب الفندق صباحاً، فحاولت الحديث معه، لكنه لا
يعرف العربية وسمى لي شخصاً ممن يصحبوننا يريد مقابلته فدخلت الفندق وبحثت
عنه، فلم أجده فخرجت إليه وأخبرته وطلبت منه أن يدخل فأبى، فدخلت الفندق،
وتصورت أنه سيذهب ولكنه بقي على باب الفندق حتى جاء صاحبه بعد العصر،
فقال: لا بد من أن يزورني الضيوف الكرام، فقال له: إن سفرهم صباحاً ولا
يستطيعون، فإذا معه بعض الهدايا من عسل مصفى - في إناء لا يقل وزنه عن
خمسين كيلو غراماً- فأقنعه صاحبي أننا لا نستطيع حمله بسبب الجمارك وظننا أن
الأمر انتهى إلى هذا، وبعد صلاة العشاء نزلت من الفندق فإذا بصاحبنا على بابه،
فأدخلته غرفتي فبدأ يبكي: كيف نذهب ولم نزره، ثم أعطاني لباساً من ألبستهم
وشيئاً من العسل يبلغ اثنين كيلوجرام، ولصاحبي مثل ذلك، فحاولت إقناعه بعدم
أخذها وأننا قد ربطنا أمتعتنا فبكى، فأخذتها مجاملة له ثم خرج مودعاً باكياً.
ولا تظن أخي الكريم أن هذا الرجل يتصور أننا أكرم الناس، لا فقد حج في
العام الماضي ورأى من كرمنا أننا نبيع الماء للحجيج! !
الثانية: التقينا مع بعض زملائنا من أهل الرياض في مدينة (طشقند) فتجاذبنا
وإياهم أطراف الحديث فذكروا أن لنا بعض ما شاهدوه من كرم الناس فقالوا: وجدنا
رجلاً يزيد عمره على الأربعين في (طشقند) فقال: أود أن تزوروننا في قريتي،
فأمي منذ زمن تريد أن ترى أحداً من أهل مكة أو المدينة، قلنا كم تبعد قريتك عن
(طشقند) قال قرابة ستمائة من الكيلومترات، فقلنا له: إن شاء الله سنزورك،
كعادتنا في كل من طلب منا الزيارة نسوف له، فإن حانت فرصة فعلنا، ولكن
الرجل فهم منهم القبول فسافر إلى قريته ووصل إلى أمه ليلاً، وأخبرها الخبر،
فأخذت تبكي من الفرح حتى الفجر وفي الصباح اشترت ضأناً بمبلغ ألفين روبل،
- راتب أستاذ الجامعة عندهم ألف روبل - وذبحته وطبخته، فلما حان الظهر
خرج كل أهل القرية ومعهم الأعلام والرايات إلى ظاهر القرية لاستقبال الضيوف
ومعهم المرأة - فلما جاء العصر ولم يحضر الضيوف أمرت ولدها بأن يحضر
طبيباً، خشية أن أحداً منهم قد مرض، ثم بقوا في انتظارهم حتى العشاء الآخرة،
فقال الرجل لأمه نرجع، فقالت: لا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعد
رجلاً فجلس ينتظره ثلاثة أيام، وأنا سأنتظرهم سبعاً، وبعد الإلحاح عليها خشية
البرد رجعت إلى البيت على أن يسافر ابنها في طلب الضيوف، ولكن الضيوف
سافروا إلى مدينة أخرى فهم في نظرهم لم يعقدوا موعداً معه، فخرج الرجل يبحث
عنهم حتى وجدهم فقال لهم: أين الموعد؟ فقالوا: مستغربين، وهل واعدناك،
فلما أخبرهم بانتظار الناس لهم رجعوا معه، فوجدوا الناس في انتظارهم في ظاهر
القرية ومعهم الرايات، قالوا: فلما رأونا رفعوا أصواتهم بالتكبير، وأسرعت المرأة
وأكبت عليهم تريد تقبيل أيديهم، فابتعدوا عنها، ثم أكبت على أقدامهم تقبلها، فلما
دخلوا القرية وجدوا طريقهم قد فرش حتى البيت، قالوا: فلما جلسنا على الطعام
والعجوز قريباً منا وهي تبكي فرحاً حتى خشينا عليها من التشنج، فلما أكلوا
أحضرت لهم الماء بنفسها للتغسيل ومعها المنديل وأبت أن يأخذه أحد منها، قالوا:
ثم ذهبنا إلى المسجد فإذا الناس مجتمعون فيه فأخذ الصغار بالتكبير والكبار بالبكاء
عند مرآنا هذا والقصص في كرمهم كثيرة، ولكن ذكرت هاتين القصتين للتدليل
فقط.
الأدب الإسلامي وحسن الخلق:
شباب عاشوا في جو الإلحاد والضياع ولكن أدب الإسلام وأخلاقه باد عليهم،
فالشاب مثلاً لا يمكن أن يمد رجليه بين يديك، بل ولا يجلس متربعاً، وإنما جلسته
أمامك كجلسة التشهد، أما إن طلبت منه أن يقرأ عليك شيئاً من القرآن، فاليدان
على الفخذين، والرأس مطأطئ والبصر في حجره. لا يتقدم الصغير على الكبير
ولا يتكلم الولد بحضرة والده إلا بإذنه، ولا يعمل الوالد مع وجود ولده، يسود بينهم
الإيثار والاحترام المتبادل، يرقبون حركتك بعين التقدير والاحترام، فإن أردت
القيام قاموا جميعاً ليقدموا لك ما تريد.
الصبر والجلد والغربة في طلب العمل:
وقد ذكرت سابقاً شيئاً من صبرهم وجلدهم وتحملهم في طلب العلم وتحصيله،
ولقد زرت قرية (طبق سه) وهي تبعد عن طشقند قرابة ستين كيلومتراً، فدخلت
مدرسة فيها أكثر من سبعين طالباً أعمارهم ما بين الثانية عشرة إلى العشرين،
وكلهم غرباء، قدموا من مسافات بعيدة للتعلم، وكانوا على مستوى متقارب من
حيث الفهم والمقصد والأهداف، تسود بينهم المحبة والإخوة والإيثار، يخدمون
أنفسهم فهم الذين يطبخون ويغسلون وينظفون. وقد قمت بمقابلتهم واحداً واحداً،
وكان منهم شاب عمره ست عشرة سنة قدم من سيبيريا، وهي تبعد عن مكان
المدرسة أكثر من ألف كيلومتر، فقلت له: لماذا تركت أهلك وقدمت إلى هذا المكان؟ قال: لطلب الدين! ! فقلت له: متى تزور أهلك قال: في الصيف أذهب إلى
الأهل.
سبحان الله شاب بهذا العمر ويعيش في جو الإلحاد والضلال ثم يتغرب
مسافات شاسعة مفارقاً الأهل والخلان والوطن في طلب الدين. إن هذا المجتمع
يحمل مقومات وخصال عظيمة ينبغي تنميتها وتربيتها وتوجيهها لخدمة الإسلام.
احترام وإجلال أهل العلم:
وهذه الخصلة الحميدة سائدة بين مختلف طبقاتهم وعلى تفاوت مستوياتهم في
العلم والالتزام، فإذا قدم عليهم طالب علم أو مرّ بهم احترموه وقدروه وأفسحوا له
الطريق. ولقد وقفت في الشارع أطلب سيارة فتوقف لي صاحب سيارة خاصة في
وسط الطريق وكاد أن يتسبب في وقوع حادث، وقال لي: أنا موظف ذاهب إلى
عملي ولكن لما رأيتك قلت هذا من العلماء فوقفت لك! ! وهذا الاحترام ليس خاصاً
بالمدنيين فقط بل إنني وجدت حتى من العسكريين المسلمين تقديراً واحتراماً يفقده
كثير من الناس عندنا اليوم، فما تمر في نقطة تفتيش مثلاً إلا وتجد أول ما
يبادرونك به تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ويعرضون عليك
بإلحاح النزول عندهم.(61/67)
خطة فانس - أوين لتقسيم البوسنة:
نموذج ابتلاع فلسطين يتكرر
د. علي عبد الرحمن عواض
عندما انطلقت الرصاصة الأولى في البوسنة معلنة بدء الحملة البشعة التي
يشنها الصليبيون الصرب على مسلمي البوسنة-الهرسك صرح الرئيس الصربي
بأن الجولة الثانية من معركة كوسوفو قد بدأت، مميطاً اللثام عن الأهداف
الأصلية لحملة الإبادة التي يتعرض لها مسلمو البلقان. أخبار الجرائم ملأت
الصحف، والتجاوزات فاقت كل حد، وصور التهجير والاعتقال والتعذيب وانتهاك
الأعراض دخلت كل منزل، ومع هذا لم يستيقظ (الضمير العالمي) (إن كان هناك
ما نسميه بالضمير العالمي) ولم تتحرك لها الغيرة الإسلامية إلا من رحم ربي..
ومن بين الركام ومن خلال دخان المعارك تأتي مبادرة فانس -أوين الأوربية لتضع
البصمات الأخيرة على هذه المسرحية المأساوية التي لامست قلب كل مسلم غيور
وتطلبت من المجتمع الدولي - والأوربي خاصة - أن يتحرك (لإيجاد حل للمشكلة ...
فكان اقتراح فانس - أوين) .
الحل الأوربي:
يدعو الجزء الأول من مشروع السلام (فانس -أوين) الأوربي إلى تقسيم
جمهورية البوسنة-الهرسك على أساس الأرض والسلطة بين المسلمين والكروات
(الكاثوليك) والصرب (الأرثوذكس) بحيث يحصل:
* المسلمون والذين (كانوا) يشكلون أكثر من 45% من السكان على25%
فقط من أرض الجمهورية والتي تضم 3 أقاليم صغيرة متفرقة.
* الصرب والذين هم 31% من السكان على 43% من الأرض في ثلاث
أقاليم كبيرة الجزء الأكبر منها محاذ لجمهوريتي صربيا والجبل الأسود، والمقاطعة
الأخرى الشاسعة محاذية للجزء الصربي المحتل من كرواتيا (المليشيات الصربية
تسيطر على 30% من كرواتيا وتعتبر أراض صربية وقد أعلنوا فيها دولة كرواتيا
الصربية العام الماضي.
* ويحصل الكروات (وهم 17 % من السكان) على حوالي 20% من أرض
البوسنة ومعظمها في الهرسك (الجزء الجنوني الغربي للجمهورية) وجزء في شمال
البلاد محاذ لكرواتيا، وذلك على شكل مقاطعتين.
* وتترك سراييفو والمناطق المحاذية لها (كمقاطعتين) مناطق ذات سيادة
وسيطرة مشتركة.
موقف الأطراف:
بالرغم من الضغوط المتزايدة على حكومة البوسنة للقبول بخطة فانس -أوين
(وصلت إلى حد تهديد قادة المسلمين بعقوبات يتخذها مجلس الأمن إذا لم يوافقوا
على الخطة) فقد رفض المسلمون خطة التقسيم هذه. كما أن الصرب لم يوافقوا
عليها فيما أسرع الكروات إلى توقيع الاتفاق في بنوده الثلاث.
المسلمون: أعلنوا أنهم لن يوافقوا على الخطة للأسباب التالية:
1- أنها تكافئ المعتدي وتزيد من محنة الضحية. فقد اقترحت الخطة أن
تبقى سيطرة الصرب على جزء كبير من الأراضي التي احتلوها وأجلوا عنها
سكانها وأصبحت تحت سيطرتهم وبهذا يكون من حصتهم في الخريطة مثل مناطق
إسلامية كمدينة بريجيدور والتي تحدثت وسائل الإعلام عن مجزرة أرقام ضحاياها
وصلت إلى آلاف القتلى من المسلمين عندما احتلتها المليشيات الصربية (التشتنك)
كما تعطيهم مناطق ذات غالبية إسلامية ككلوج وسانسكي، وهذه المناطق المحتلة
يطالب القادة المسلمين بعودتها إلى مقاطعة بيهاك ليتسنى للمهجرين المسلمين العودة
إليها فيما بعد ... قبولنا بهذا الأمر يعني أن لا أمل لمئات الآلاف من المسلمين
بالعودة إلى بيوتهم (كما يقول الرئيس علي عزت بيكوفيتش) .
2- أنها لا تتضمن الموقف الدولي والمحلي من التحكم في الأسلحة الثقيلة
للصرب مما يعني استمرار التهديد والخطر.
3- أنها لا تعطي للأقليات حصصاً متساوية تتناسب مع نسبتهم العددية.
4- أن الخطة لا تحدد شكلاً متماسكاً للجمهورية، حيث إنها تقترح تقسيماً لا
يمكن معه إيجاد ترابط عملي بين مختلف الأطراف من جهة وبين مناطق المسلمين
من جهة أخرى. مما يعني نهاية البوسنة-الهرسك كدولة.
الصرب: مع أن الخريطة تعطيهم معظم المناطق التي احتلوها ونسبة أعلى
من نسبتهم العددية في الأرض إلا أنهم سارعوا إلى رفضها ثم التراجع واقتراح
إجراء استفتاء بين الصرب على الخريطة. وبهذا فهم يربحون الوقت الذي ...
يحتاجون لتمكين سيطرتهم وإنهاء عملية الجلاء القسري لجميع السكان غير
الصربيين بوسائل قمعية وإجرامية أصبحت معروفة لدى الجميع.
وقد وافق الرئيس الصربي ميلوزفيتش على الخطة لأنها بهذا تعتبر الخطوة
الأولى والأساسية من خطط تفكيك البوسنة وانهيارها وتحويل مسلميها إلى أقليات
تعيش في مقاطعات صغيرة محدودة ضمن امتداد صربي واسع.
والأخطر من ذلك أن قادة الصرب أنفسهم أعلنوا جهاراً أن قبولهم لخطة فانس
-أوين ليس نهائياً وأنهم سوف يستمرون في العمل لهدفهم الأكبر وأنهم لم ولن
يتخلوا عن فكرة إقامة (صربيا الكبرى) وذلك بضم الأراضي التي يسيطرون عليها ...
في البوسنة وكرواتيا لأرض جمهورية يوغسلافيا (صربيا والجبل الأسود) .
و (صربيا الكبرى) هي الدولة التي يطمح الصرب لإقامتها آملين أن تعيد أمجاد الدولة ...
الصربية الأرثوذكسية القديمة والتي دحرتها جيوش المجاهدين في دولة الخلافة
العثمانية.
كما أن الصرب يرون أن عليهم الآن - وهذا ما صرحوا به - تغيير تكتيك
إنشاء هذه الدولة، من العمل العسكري في الفترة الراهنة لأسباب استراتيجية تتمثل
بالظروف الدولية المناهضة للصرب. ولعل كلمات الجزار الصربي كاراجيتش
(زعيم صرب البوسنة) يختصر الموقف: (علينا أن نكتفي الآن بما يمكن تحقيقه
مع خلق الشروط للحصول غداً على ما يصبح ممكناً) ، ويؤكد ذلك مستشاره في
نفس المؤتمر الصحفي الذي عقد في جنيف بتاريخ 28/1/1993 والذي قال فيه:
(إن الصرب بدأوا اتباع سياسة براغماتية دون التخلي عن أهدافهم الكبرى) [1] . ...
الكروات: وهم الرابح الأول من تقسيم البلاد. فقد وافقوا مباشرة على الخطة
وخريطة التقسيم حيث إنها تعطيهم أكثر من 20% من الأراضي في جمهورية
البوسنة-الهرسك وذلك للأسباب التالية:
1- إنها تعطيهم أرضاً أكبر من نسبتهم السكانية، وبهذا فالخطة تعوض
كرواتيا عن الأراضي التي يحتلها الصرب في مقاطعة كرايينا في كرواتيا حيث
يقيمون دولتهم الصربية عليها.
2- إنها تعطيهم مقاطعات محاذية لكرواتيا حيث إنها امتداد جغرافي لكرواتيا
مما يعني سهولة ضمها لدولة كرواتيا (الكبرى) . كما أن هذه المناطق كانت قد
أعلنت من قبل الكروات دولة كرواتية ويتم فيها التعامل بالنقد الكرواتي.
3- يعتبر الكروات أن التقسيم الحالي يجعل من مناطق المسلمين حاجزاً
طبيعياً جغرافياً-سكانياً بين الصرب والكروات في مناطق كثيرة. وبهذا يأمن
الكروات مكر اعتداء صربي مفاجئ على أراضيهم.
ملاحظات على الخطة - الخريطة:
هناك عدة نقاط يتفق المراقبون على أن خطة فانس -أوين قد تميزت بها
خاصة وأنها تمر عبر أروقة الأمم المتحدة:
- أنها سابقة في تاريخ الأمم المتحدة أن توافق على تقسيم دولة كاملة العضوية
في الأمم المتحدة. لأن هذا يفتح الباب لسيل من المشاكل العالقة بين الدول.
- يقوم هذا التقسيم بتفكيك أراضي البوسنة-الهرسك فقط وتوزيعها على
الأطراف الثلاثة دون النظر إطلاقاً إلى جذور المشكلة أو النظر في أوضاع الأقليات
في الدول الأخرى لدول يوغسلافيا السابقة - خاصة المسلمين في صربيا - مما
يعني أن سيناريو البوسنة-الهرسك سيتجدد في المناطق الأخرى إذا ما حاول مسلمو
هذه المناطق رفع رؤوسهم والمطالبة بحقوقهم المشروعة وبالأخص مسلمو السنجق
(والذي تتقاسمه كل من صربيا والجبل الأسود وهي مقاطعة ذات أغلبية إسلامية)
وكوسوفو هذه المقاطعة الكبرى ذات الغالبية الإسلامية الساحقة (تصل إلى 92 %
من السكان) والتي تعاني ظلماً وقمعاً صربياً شديداً وتطالب هذه المقاطعة بحق الحكم
الذاتي. والصرب شديدو التمسك بهذه المقاطعة لأسباب استراتيجية وتاريخية وهم
لا يرضون حتى بالحديث عن حقوق سكان كوسوفو، ويرابط في المنطقة 120
ألف جندي صربي يقومون بفرض الأمر الواقع وسياسة الحكومة الصربية المركزية. يقول رئيس صربيا ميلوزوفيتش إن (كوسوفو هي قلب الصرب، وإذا أراد ...
الألبان (المسلمون) الأمان فعليهم أن يكفوا عن محاولات الانفصال، ومن لا يريد
العيش مع الصرب عليه أن يرحل عن كوسوفو) [2] .
وهذه السياسة ليست حكراً على قادة الصرب المتطرفين بل هي مسلَّمات القادة
الصربيين جميعاً.. فمثلاً فوك دارسكوفك زعيم (حركة التجديد الصربي) والذي
يعتبر معتدلاً وصديقاً للغرب صرح أنه (لن يتنازل أبداً عن كوسوفو) كما أنه: ...
(لن يهمل إخوانه الصرب أصحاب الحق التاريخي داخل البوسنة وفي مقاطعة
كرايينا في كرواتيا) [3] . وهذا يعني أنه حتى لو تغيرت السياسة الصربية الحالية
فستكون بنفس الاتجاه من ناحية قضايا الأقليات المسلمة في صربيا. كما أن
الخارطة تغطي - ولا تحل - مشاكل الأقليات الأخرى ضمن دول يوغسلافيا مما قد
يؤدي إلى خلاف أوسع في حال انتقلت الشرارة إلى مناطق أخرى في المنطقة.
الموقف الأمريكي:
أما الموقف الذي يثير الانتباه فهو موقف الأمريكيين الذين أعلنوا (أنهم لن
يرضوا بالخطة لأنها تكافئ المعتدي وتظلم الضحية وهم المسلمون) ، وهم (لن
يوافقوا على خطة يرفضها أي من أطراف النزاع) .
فلماذا هذه الغيرة على حقوق المسلمين من أمريكا في الوقت الذي لم تكن
استجابة (الأخوة المسلمين) على المستوى المطلوب.
إن الموقف الذي اتخذته الحكومة الأمريكية ظاهره فيه انحياز واضح للجانب
البوسني؛ وباطنه فيه المصلحة الأمريكية-الأوربية المغلفة بشتى الشعارات البراقة. فقد انتقدت إدارة الرئيس الأمريكي مبادرة فانس -أوين ووعدت بمبادرة أمريكية
تكون أقرب إلى إرضاء الأطراف المتنازعة من الخطة الأوربية. أمريكا
بمعارضتها للخطة تقف في وجه الإجماع الأوربي متمثلاً بموافقة فرنسا، ألمانيا
وبريطانيا على الخطة، كما أنها تعارض الحليف التاريخي والأول لصربيا وهي
روسيا (الأخ التاريخي العقائدي للصرب الأرثوذكس) والتي صرحت بأنها لن
ترضى بأي تدخل عسكري ضد صربيا، وستعمل على تخفيف أو إزالة العقوبات
عن صربيا. كما أنها تواجه الأمم المتحدة التي استحسنت الخطة ووافقت عليها.
فلماذا يقف الأمريكيون بقوة في هذه المرة مع (الحق الإسلامي) وفي هذه ...
المرحلة؟ !
يرى المراقبون أن دول الغرب تلعب الدور الذي طالما برعت فيه في التعامل
مع قضايا المسلمين، فتتوزع الأدوار بين الأقطاب الكبرى الثلاثة بريطانيا، فرنسا
وأمريكا. فعندما توافق الأولى وتتمهل الثانية وتعارض الثالثة تكون مرجعية
المسلمين لإحدى هذه الدول الثلاث، وآمالهم لا تتجاوز ما توافق عليه إحدى هذه
الدول، كما هو حاصل الآن حيث أن (الأمل) البوسني الوحيد هو في (العناد)
الأمريكي وموقفه (الحازم) من قضية (مكافأة المعتدي) . وهذا النموذج رأيناه ...
واضحاً في قضية المفاوضات العربية-الإسرائيلية حيث كانت هذه الدول تتبادل
الأدوار في (التحدث إلى المنظمة) أو (الأرض مقابل السلام) .. ...
ويبقى السؤل المطروح: ما هي مصلحة الأمريكيين في الإبقاء على البوسنة
وبالمقدار الممكن كدولة متماسكة.
الاحتمال الأول: وهو البعد الاستراتيجي لسياسة (موقع القدم) الذي تمارسه ...
الدول الكبرى من خلال الدول الصغرى في مختلف مناطق العالم، فالمعروف
تاريخياً أن الكروات هم (أذناب) الألمان في منطقة البلقان وصديقهم التاريخي،
وهذا ما يفسر الموقف الألماني المتشدد مطلع عام 1992 للاعتراف بكرواتيا، (وفرض) الاعتراف بها على بقية الدول الأوربية، وروسيا لا تجد لها منافساً في ...
صربيا والتي تأخذ معظم دعمها العسكري الاقتصادي.. والسياسي منها (حتى أن
التلفزيون الصربي عرض إلى جانب مئات المتطوعين الروس الذين جاؤوا للقتال
إلى جانب الصرب، 4 جنرالات من الجيش الروسي يقومون بتنسيق العمليات
العسكرية في البوسنة والهرسك وكرواتيا) . لذا تجد الولايات المتحدة نفسها أمام
خيار واحد في المنطقة وهو دعم الجانب البوسني.
الاحتمال الآخر: وهو لا يتعارض مع الاحتمال الأول، وهو أن الأمريكيين
يريدون دائماً أن يظهروا بمظهر رجل السلام المحب للخير الذي يساعد الضعيف
والمغلوب على أمره - وهم هنا البوسنيون - كما أن في ذلك تحقيقاً جزئياً لمئات
الوعود البراقة التي تخللتها حملة الرئيس كلنتون الانتخابية بأنه سيتحرك لإنقاذ (المظلومين) في البوسنة إذا ما وصل إلى سدة الرئاسة.
جانب آخر من المعادلة هو أن الأمريكيين عندما يُقربون منهم (الحكومة
البوسنية) فهم بهذا يتعاملون مع (الشرعية البوسنية) . الأمر الذي تهتم به دائماً ... ...
الإدارة الأمريكية لتسهيل تمرير ما تريده من قرارات في الأمم المتحدة ومجلس
الأمن (وإن كانت أمريكا لا تصاب بوجع رأس عندما تقرر تمرير قرارات ما في
هذه المجالس) .
إلا أن الحل الأمريكي القادم سوف يأخذ بعين الاعتبار التالي:
- إرادة وقرار السوق الأوربية المشتركة، حيث إن (يوغسلافيا) تبقى دولة ...
أوربية وأية نتائج للصراع فيها يظهر تأثيره المباشر في أوربا، خاصة وأنها تحد
دولاً أعضاء دائمين في مجلس الأمن (فرنسا) .
- الإرادة الروسية والتي تحاول أن تكشر عن أنيابها في الفترة الأخيرة خاصة
بعد أن خاب ظنها بالمساعدات الأمريكية لتحسين الاقتصاد الروسي. كما أنها (غير
راضية عن التفرد بالقرارات العسكرية الأمريكية في كثير من مناطق العالم) كما
صرح وزير خارجيتها
- الواقع العسكري على الأرض والذي لا يصب في مصلحة (الشرعية
البوسنية) في الوقت الحاضر.
- الحيلولة دون قيام دولة إسلامية / أو لنقل ذات غالبية يمكنها أن تتخذ قراراً
يساهم في صنع القرار الإسلامي الدولي خاصة وأن بوادر الصحوة الإسلامية في
العالم أخذت تظهر بين مسلمي الأقليات في مناطق أوربا الشرقية. هذا الأمر حذر
منه القادة الأوربيون: (لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا) [4] ، و (أحذر أوربا والعالم من طموحات الأصولية الإسلامية في البوسنة) [5] . ...
- البقاء على فرضية أن الحل يجب أن يكون أمريكياً وأن القرار الذي لا
توافق عليه الإدارة الأمريكية لن يكون سارياً.
وقد ساهمت الصحف والإعلام الأمريكي في حملة الإدارة الامريكية على خطة
فانس -أوين ووصفها بـ (السطحية) و (الغباء) .. وما إلى هناك من عبارات
الحط منها. وقد أسماها أحد مساعدي كلنتون: أنها (قد صيغت بعقلية الإمبريالية
البريطانية القديمة، وأن تقسيم الهند وفلسطين وأفريقيا تعود للذاكرة عند قراءة
مقترحات المستر أوين) [6] .
كلمة أخيرة:
والواضح أن الخريطة الأوربية (الجديدة) للبوسنة لا تحل المشكلة بل تؤجل
الجولة الثانية منها، وكما يقول المراقبون فإن (الفيدرالية اليوغسلافية القديمة كانت
أشبه ما تكون بمجسم يختصر التكوين الفسيفسائي لمنطقة البلقان بأسرها. وبدورها
كانت جمهورية البوسنة-الهرسك مجسماً صغيراً يختصر كل ما في يوغسلافيا من
تعددية أثنية ومشاكل سياسية واجتماعية وعرقية. فالبوسنة تختزل الإشكالية البلقانية
بوجوهها المتعددة. والصراع الدائر حالياً على أرضها هو بمثابة -مختبر للمنطقة
كلها وفي ضوء النتائج التي سيتمخض عنها سيتحدد مصير عدد من بؤر التوتر
الكائنة في يوغسلافيا وغيرها من دول المنطقة) [7] .
إن أي نجاح في فرض أي خريطة جديدة للبوسنة تقوم على تقسيمها مكافاة
الصرب وتكريس اعتداءاتهم وحرمان المستضعف من حقوقه التاريخية؛ سوف
يغري ويشجع على إشعال حروب وخلق مناطق نزاع جديدة في أماكن متعددة من
أوربا - وغيرها - قد تتطور إلى جزء يتدخل فيه أكثر من بلد في هذا الصراع
خاصة إذا كانت المعارك بين دول أقوى وصاحبة ارتباطات وتحالفات أوسع.
والمناطق المرشحة لذلك أكثر من أن تحصى خاصة في منطقة البلقان.
يبدو أن المسلمين في البوسنة بدأوا يستوعبون ضراوة المحن والمؤامرات
الدولية والغربية عليهم، يدركون أن المقاومة المسلحة والحسم العسكري القوي كفيل
بترجيح الكفة وإخلال الموازين لصالحهم وإثبات الهوية الإسلامية ليس كأقلية عرقية
ولكن كدولة ذات كيان وهوية إسلامية على الرغم من مؤامرات الصليبين الحاقدة.
وفي هذا الإطار ظهرت المعارك الأخيرة في شرق البوسنة وعلى المناطق
الحدودية مع الصرب بالقرب من نهر ديرنا (الفاصل بين البوسنة وصربيا) حيث
حققت القوات الإسلامية نجاحاً ملحوظاً وتكبدت القوات الصربية خسائر كبيرة في
الرجال والعتاد اعترفت به إذاعاتهم. وكانت أشد المعارك ضراوة تلك التي شهدتها
منطقة شيلات الحدودية مع صربيا. كما أن منطقة سد بروكاي الذي تسيطر عليه
القوات الإسلامية وتهدد بتفجيره مما يهدد نصف المناطق الصربية بالزوال.
من البوسنة إلى فلسطين
أوردت وكالات الأنباء والصحف العالمية خبر وصول حوالي مئة لاجئ
بوسني مسلم إلى فلسطين المحتلة نهار الأربعاء 17/2/1993 في محاولة من
السلطات الإسرائيلية لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
__________
(1) الشعب 29/1/1993.
(2) الحياة 12/2/1993.
(3) الاندبندنت 12/2/1993.
(4) ميتران عند زيارته لمطار سراييفو.
(5) تودجمان (الرئيس الكرواتي) 24/1/1993.
(6) الاندبندنت 10/2/1993.
(7) محمد خليفة، أزمة البلقان وصراع البوسنة، الحياة5 25/1/1993.(61/73)
التطورات الأخيرة في الفلبين
د. مالك الأحمد
رغم البعد الجغرافي للفلبين عن البلاد العربية، فإن دخول الإسلام فيها قديم،
وله عدة قرون عن طريق التجار والدعاة المسلمين، ومنذ دخول الأسبان للجزيرة
فإنهم ما فتئوا يحاولون طمس الوجود الإسلامي في تلك الجزر فضلاً عن تنصير
شعوبها، وورث الأمريكان المنطقة حيث ضموا قسراً مناطق المسلمين إلى الدولة
النصرانية الوليدة وتعاقبت على المسلمين حكومات الظلم والاضطهاد، ثم محاولات
الإبادة الكاملة في عهد المجرم ماركوس، نشأت على أثر ذلك منظمتان للمقاومة
الأولى هي جبهة تحرير مورو الوطنية برئاسة نور مسواري، والثانية جبهة تحرير
مورو الإسلامية برئاسة سلامات هاشم، والأولى ذات توجه وطني علماني والثانية
إسلامية التوجه (انشقت عن الأولى إثر تغير توجهاتها) ، تلا ذلك مفاوضات بين
الأولى وحكومة ماركوس على أساس إعطاء حكم ذاتي للمسلمين في مناطقهم،
ورغم ذلك لم يلتزم ماركوس بها واستمرت حركة الجهاد في عهد أكينو التي أعطت
المسلمين الكثير من الوعود دون تنفيذ شيء منها، وهي وإن قابلت الكثير من
المشكلات أثناء حكمها فإن المسلمين لم يسلموا من أذى جيشها وتحرشاته بهم.
وأخيراً اعتلى الحكم راموس والذي ترقى في عهد ماركوس من قائد للشرطة
العسكرية، فنائب لرئيس الأركان، فوزير للدفاع، وهو الذي حمى أكينو ونظامها
من السقوط أمام حركات التمرد من بعض قطاعات الجيش فوثقت به ودعمته في
الانتخابات. وهو ذو تاريخ قذر مع المسلمين فهو الذي أنشأ منظمة (إيلاجا)
الإرهابية في عام 1970 م والتي قامت بأبشع المجازر ضد المسلمين وقامت بإتلاف
المزارع وتدمير البيوت والمساجد وتشريد الكثير من المسلمين من مناطقهم وتوطين
النصارى مكانهم، ثم شارك الجيش عندما تحرك المسلمون لحماية أنفسهم واشترك
في عمليات إبادة كاملة للمسلمين بتوجيهات من ماركوس ووزير دفاعه راموس.
التطورات الأخيرة:
تتطور الأحداث بشكل سريع في الأشهر الأخيرة بعد تسلم راموس الحكم،
والذي نجح بفضل الدعم الأمريكي على وجه الخصوص، ويظهر أن من أولوياته
القضاء على الوجود الإسلامي في الفلبين وتظهر بوادره في التالي:
- الحرص على إحياء منظمة إيلاجا الإرهابية والتي تسربت أنباؤها فضلاً
عن تسليح النصارى القاطنين في مناطق المسلمين.
- الحشود العسكرية المتوالية والأنباء تذكر حشد ما يقارب المائة ألف جندي
بآلياتهم الثقيلة لمواجهة المسلمين المجاهدين في الجنوب، إضافة للغارات الجوية
على مركز قاعدة المجاهدين (قاعدة أبي بكر الصديق) مع الاستعداد لحصار عسكري
اقتصادي على مناطق المجاهدين وبدأ فعلياً حصار بعض القواعد للمجاهدين.
- توحيد صف الحكومة وتوجيه عدائها للمسلمين، بدأ راموس بالعفو عن
جميع الجنود الذين شاركوا في تمردات سابقة ضد الحكومة، وتوثيق الصلة
بالمعارضين والاستعداد للاعتراف بالشيوعيين كحزب رسمي في البلاد في حال
إلقائهم السلاح.
- الحرب الإعلامية ضد المجاهدين، حيث التعتيم الإعلامي على عملياتهم
من جهة، وتشويه صورتهم من جهة أخرى واتهامهم بالإرهاب والتعامل مع بلدان
خارجية، فضلاً عن الحرب النفسية بالتخيير بين العفو العام (الاستسلام) أو الحرب
الشرسة، ومحاولة استرضاء مسواري والتفاوض معه لشق صف المسلمين
وإضعاف كلمتهم.
- الاستعداد لعمليات مستقبلية عن طريق تهيئة القوات الخاصة لعمليات
متقدمة ضد المجاهدين مستعيناً بخبرات اليهود الذين جاؤوا كخبراء في مكافحة
الإرهاب.
- مراقبة الجمعيات والشخصيات الإسلامية، والتضييق عليهم وتجنيد
المرتزقة والجواسيس للعمليات الدنيئة ضدهم.
وهذه التطورات تنبئ بخطة خبيثة للقضاء على المجاهدين من جبهة تحرير
مورو الإسلامية والقضاء على الوجود الإسلامي في المنطقة أسوة بما يحدث
للمسلمين في ديار أخرى كالبوسنة والهرسك، وقد آن الأوان ليدرك المسلمون هذه
العداوة من النصارى فضلاً عن اليهود [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] .
والمسلمون اليوم في الفلبين تحت قيادة جبهة تحرير مورو الإسلامية في حاجة
ماسة للمساعدة (ومن جهز غازياً فقد غزا) ، وهم على ثغرة هامة وجهودهم
ملموسة، فقد أسلم آلاف الوثنيين على أيديهم، ولهم جهود طيبة في التعليم والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر في أوساط المسلمين فضلاً عن هدفهم الأساسي في
إقامة الحكم الإسلامي عن طريق الجهاد في سبيل الله.(61/84)
المسلمون في أوربا
المسلمون في «ويلز» بين الأمس واليوم
ب. م. ناصر
يرمز ميناء كرديف في ويلز إلى فترة ذهبية تاريخها كان ينبض خلالها بالنشاط والحركة، وقد لفت انتباهي في أحد الأيام جماعة من الرجال يشقون
طريقهم نحو منطقة الشحن في الميناء وعلى رؤوسهم طاقيات بيضاء مزركشة،
توجهت نحوهم، بدأتهم بالسلام، فردوا علي التحية، وعرفت من الحديث إليهم
أنهم من اليمن، وأنهم جاءوا إلى ويلز بعد الحرب العالمية الثانية، فاستثار ذلك فيّ
رغبة شديدة للتحري عن وجود المسلمين في ويلز عموماً وكارديف خاصة باعتبار
أنها تحتوي أكبر تجمع للمسلمين.
نبذة عن بلاد الغال «ويلز» :
تشكل ويلز حوالي ثمن مساحة المملكة المتحدة ويصل عدد سكانها حسب
إحصائيات عام 1990 إلى ثلاثة ملايين. ويعتمد السكان عموماً على الزراعة في
المناطق الداخلية والصيد البحري والتجارة على ضفاف المناطق الساحلية. وأهم
الصناعات المنتشرة في ويلز هي الصناعات الميكانيكية من سيارات وغيرها،
وصناعات الكترونية، وصناعات الحديد والصلب.. وتدر الصناعة على الإقليم
أرباحاً طائلة خاصة بعد تركز عدد كبير من الشركات اليابانية في المنطقة.
نبذة تاريخية عن المسلمين في ويلز:
مع دخول العقد الثاني للقرن العشرين بدأ وصول الأعداد الأولى من المسلمين
من موطنهم الأصلي اليمن كبحارة في الأسطول الملكي البريطاني، ثم توالى
مجيئهم بأعداد غفيرة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد رافق دخول
اليمنيين إلى بريطانيا عموماً وموانئ ويلز خصوصاً الهجرات الأولى من الصومال
في الثلاثينيات من القرن الجاري.
وبعد الحرب العالمية الثانية توافدت إلى بريطانيا أعداد غفيرة من المسلمين
الباكستانيين والهنود والبنغاليين حتى أصبحوا في مطلع الستينيات يعادلون مع
الجالية اليمينة ثم تجاوزوها مع انتهاء السبعينيات.
يبلغ عدد المسلمين في ويلز ما يقارب على اثني عشر ألف نسمة أكثر من 70 % منهم في مدينة كارديف، ويتوزع الباقي على مدن نيوبورت بنسبة حوالي 15%، وسوانزي 10%، ويتوزع الباقي على مدن ويلز الأخرى.. ويتوزع المسلمون
في مدينة كارديف في المناطق الداخلية ويشكل المسلمون الباكستانيون والبنغاليون ما
يقرب من 55%، واليمنيون حوالي 35%، والصوماليون حوالي 7%، كما يوجد
عدد لا بأس به من الطلبة المسلمين من المملكة العربية السعودية وماليزيا وليبيا.
أهم المرافق والمؤسسات الدينية:
يوجد في ويلز ما يزيد عن 15 مسجداً، عشرة منها في مدينة كارديف، منها
مسجدان للطلبة، ومسجدان لجماعة التبليغ، ومسجدان للبنغاليين، ومسجد للطائفة
البهائية المنحرفة، وآخر للقاديانية، ومسجد لليمنيين ومسجد آخر هو من أقدم
المساجد في ويلز وثاني مسجد في بريطانيا وهو تحت الترميم. وفي مدينة
نيوبورت يوجد مسجد لأهل السنة وآخر للشيعة، وكذلك في مدينة سوانزي يوجد
مسجد لأهل السنة وآخر للشيعة. ويرجع أول مسجد من حيث النشأة إلى زاوية
على الطريقة الصوفية أنشأها اليمنيون الأوائل لدى وصولهم إلى بريطانيا يمارسون
فيها شعائرهم التعبدية ونمو وتزايد الحاجة تم إنشاء مسجد جامع هو أول مسجد في
ويلز والثاني في بريطانيا وذلك عام 1931، وعندما قدم الباكستانيون والبنغاليون
أنشؤوا بدورهم مساجد صغيرة في مختلف مناطق ويلز التي تركزوا بها.
الإمكانيات الاقتصادية للمسلمين في ويلز:
إذا تتبعنا الأصول العرقية التي جاء منها المسلمون في ويلز أمكننا أن نعدد
مصادر الحياة الاقتصادية التي يرتزقون منها، فمنذ بدايات القرن الجاري كان
المسلمون الأوائل الذين استقروا بمدينة كارديف وغيرها يمتهنون إما الصيد
البحري، أو العمل على متن سفن الأسطول التجاري البريطاني، مع وجود أقليات قليلة كانت تعمل في المناجم.
أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد توافد المسلمون الباكستانيون والبنغاليون
والهنود وغيرهم واستقر هؤلاء في المدن الكبرى، حيث اشتغل أغلبهم في مصانع
النسيج والحديد والصلب ومناجم الفحم التي كانت تشتهر بها ويلز كبعض المدن
البريطانية الأخرى.
وقد عرفت فترة الستينيات والسبعينيات في بريطانيا عموماً اتجاهاً حكومياً
قوياً نحو التخلص أو التقليل من خطر مراكز الصناعة الكبرى التي تعتبر معاقل
للاتحادات النقابية، شمل ذلك الاتجاه مناجم الفحم وصناعات الحديد والصلب
والمرافئ البحرية، وعلى أثر ذلك وجد الكثير من المسلمين أنفسهم بدون عمل،
وكان عليهم أن يجدوا مخرجاً لأنفسهم وإيجاد مصادر جديدة للرزق. وبذلك تنوعت
اتجاهات المسلمين في هذا الشأن، حيث نجد أن المسلمين الباكستانيين اتجهوا نحو
الاتجار في العقارات والبيوت، أو تسيير معاملات البقالة، ثم اتجه نشاط كثير منهم
فأصبحوا يمتلكون الكثير من محلات الاتجار بالجملة.
أما المسلمون البنغاليون فقد تركز نشاط أغلبهم في فتح مطاعم عبر أنحاء ويلز
خاصة المدن الكبرى ككارديف ونيوبورت وسوانزي.. حيث لا تكاد شوارع
كارديف مثلاً تخلو من مطعمين أو أكثر من مطاعم البنغاليين، أما الجالية اليمنية
والصومالية فقد بقي أغلبهم يعتمدون على ما يقدمه الضمان الاجتماعي مع
استثناءات هنا وهناك، واحتفظ بعضهم بمناصبهم في الموانئ، أما البعض الآخر
فيعمل إما في مصالح البلدية المختلفة أو قطاع الخدمات العامة.
الأنشطة الثقافية التي تقوم بها المساجد والمراكز الإسلامية:
على الرغم من حالة المسلمين الاقتصادية في ويلز إلا أنهم ساهموا في شراء
وبناء المساجد. فقبل عام 1980 لم يكن هناك سوى أربعة أو خمسة مساجد، ارتفع
هذا العدد خلال اثنتا عشرة سنة إلى حوالي عشرة مساجد أو أكثر وهذا في مدينة
كارديف فقط.
والدور الذي تقوم به بعض المراكز الإسلامية ينحصر أساساً في تنظيم
الحلقات والدروس العلمية أسبوعياً، وبعض المحاضرات الشهرية التي تتناول
قضايا ومواضيع شرعية، أو لتوعية المسلمين بواقعهم في مختلف أنحاء العالم زيادة
على بعض الرحلات الثقافية والرياضية التي تنظم بين الفينة والأخرى، وإذا أردنا
أن نتحدث بصراحة أكثر فإن أغلب الجالية المسلمة في ويلز عموماً وكارديف
خاصة لم يجدوا من يوجههم ويحرك نوازع الخير في أنفسهم، وأن يجندوا نحو
نشاط أفضل مما هم فيه من الخمول، نستثني من ذلك الجهد الذي يقوم به الإخوة
الصوماليون كتكملة للجهود التي يقوم بها الطلاب المبتعثون للدراسة.
وضعية التعليم والتربية الإسلامية:
كما ذكرنا فإن الجالية الإسلامية بشكل عام تعيش في حالة جهل وعدم اكتراث
ولذلك أهملوا تربية أبنائهم وقد قال لي أحد الشيوخ اليمنيين المسنين إن عدداً كبيراً
من أبناء المسلمين المولودين في هذه البلاد ضاعوا في غمرة ودوامة الحضارة
الغربية، وقطعت كل الأواصر والروابط التي تربط بينهم وبين الثقافة الإسلامية.
وإذا علمنا أن نسبة نمو المسلمين السكاني يبلغ حوالي 4. 5% سنوياً وهي
نسبة عالية جداً ومع مطلع سنة 2000 سيزيد عدد سكان المسلمين في ويلز إذا
استمر على معدله الحالي بحوالي 5000 نسمة وأن نسبة الشباب ما بين 18-21
سنة تصل إلى 40%، وهو يثير علامة استفهام كبيرة حول تربية هؤلاء تربية
إسلامية، وتعليمها تعليماً إسلامياً يحول بينهم والانجراف وراء مغريات الحياة
الغربية، بل وتجعل منهم نماذج حية عن التربية الإسلامية الصحيحة القويمة.
الشيء الموجود في الوقت الحالي هي مدراس تعليم قراءة القرآن الكريم،
ولكن أي تعليم، ومن يعلم من؟ إن هذه المدارس تقليدية في كل شيء وجامدة لا
تريد تحديث أساليبها، والتعليم الذي تقدمه تجعل الشاب فيها يقرأ القرآن الكريم لا
يفهم منه حرفاً، وكأن هؤلاء لم يمروا أبداً بقوله تعالى: [ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] ، غير أنه هناك محاولات مشاريع لعلها بواكير خير في هذا الشأن
ونذكر منها مؤسسة أمانة التربية والتعليم لجنوب ويلز التي أنشئت في الآونة
الأخيرة، وتنوي فتح مدارس دائمة للأطفال متى سمحت بذلك الإمكانات المالية
والتأهيل التربوي.
إن وجود مؤسسة تتولى تعليم أبناء المسلمين في ويلز أمر لا بد منه وإلا فاتنا
الأمر قبل أن نتداركه، ويضيع أبناء المسلمين وهم في غياهب المدارس
والمؤسسات التعليمية الإنجليزية، التي تسعى إلى تنصيرهم أو تلحيدهم كما فعلت
بالكثيرين.
واقع الدعوة الإسلامية:
إن الجهد الدعوي في أوساط غير المسلمين يكاد يكون منعدماً، عدا بعض
المحاولات التي لا تزال في البداية من قبل أحد المراكز الإسلامية، وهي على
ندرتها لا تلبي الطلب ولا تعفي الجميع من تحمل أعباء المسؤولية مع أن المسلمين
هم أحوج الناس إلى الدعوة قبل غيرهم، إنهم في حاجة إلى أن تعمق صلتهم
بالإسلام، وأن يفهموه كما فهمه السلف الصالح -عليهم رضوان الله-، وهم في
حاجة قبل ذلك إلى أن يتعلموا الإسلام كما يتعلم الصبيان القراءة والكتاب والحساب، وليس هذا بالعجيب لمن عرف المستوى الذي وصل إليه المسلمون..
غير أن هذا لا يجب أن يؤول بنا إلى اليأس، بل أن نعقد النية على العمل
لإصلاح المسلمين وتفقيههم بعون الله، ودعوة أهل هذه البلاد ولعلنا نقصر خلاصة
ذلك في النقاط التالية:
1- العمل على إيجاد مؤسسة تتكفل بالنشاط الدعوي وتضع لذلك خطة دقيقة
تشمل الجاليات المسلمة وغير المسلمين من أهل هذه البلاد.
2- السعي نحو إعداد الدعاة المؤهلين بالعلم الشرعي الصحيح والقادرين على
مخاطبة أهل البلاد بلسانهم.
3- إعداد مطبوعات ومنشورات ... وتوزيعها على غير المسلمين والعمل
على أن يكون المسلم محل انتباه هؤلاء بسلوكه الإسلامي وأخلاقه القويمة.
4 - تنظيم المحاضرات والندوات خاصة في الوسط الطلابي وإثارة
المواضيع حتى يصبح حديث العام والخاص ومحل الاهتمام.
خلاصة عامة:
إن ما نخلص إليه عقب هذا العرض هو أن الطلبة المسلمين المبتعثين إلى
ويلز عليهم أن يقوموا بمسؤولياتهم وأن لا تكون دراستهم هي همهم فقط، ولكن أن
يضحوا ببعض أوقاتهم وأموالهم في سبيل إحياء هذا الدين في قلوب المسلمين أولاً
وبثه كنور يشع في قلوب أهل البلاد من غير المسلمين، وأن يعتبروا أنفسهم امتداداً
للإسلام في أوطانهم، وهداة لكل تائه ونوراً لكل حائر.
المراجع:
1- British Review of Statistic , Soutwales , 1990 , British
Statistic Board.
2- The New Islamic Presence in Britain , by T. Gerham
& Y. G. Litham.
3- Muslims in Britain , by Dr. Darsh.
4- Wales Geography , by T. Care.(61/87)
إدارة
الحزم سمة القيادة الناجحة
سامي سلمان
قال الحكماء قديماً في الحزم:
* الحزم أنفس الحظوظ.
* رب رأي أنفع من مال، وحزم أوفى من رجال.
* من لم يقدمه الحزم، أخره العجز.
* الحزم يوجب السرور، والتغرير يوجب الندامة.
وجماع كل هذا في معنى الحزم إذ أن لفظة الحزم تدل على القوة والاجتماع
ويدخل في معناها حسن التصرف واتخاذ المواقف الواضحة بقوة وإصرار.
والحازم هو الذي جمع زمام نفسه بقوة مواقفه وزمام الآخرين لحزم قيادته.
يصف أحدهم شخصية القيادة الحازمة فيقول: إن القيادة الحازمة هي التي
تحافظ على تفكير واضح ومنطقي رغم المتاعب وتبحث عن الحقيقة وتمسك بها
بكل إصرار مهما كلف الأمر وتثبت في المأزق بكل صبر ولو انسحب الجميع من
حولها وتحكم بدون تحيز لآرائها وتصرفاتها الشخصية وتعترف بأخطائها بكل صدق
وأمانة.
وتظهر هنا العلاقة بين القيادة الناجحة واتسامها بالحزم بوضوح إذ أن من أهم
معاني القيادة القدرة على امتلاك زمام الأمور وهذا لا يتأتى للقيادة إلا بعد أمور كلها
من معاني الجزم:
أولها: القدرة على تسيير الأمور وقت الرخاء والشدة، فالرجل الضعيف
المتخاذل لا يستطيع أن يقود أفراده ويوحد صفوفهم ويشد أواصرهم وقت الرخاء
فكيف به وقت الشدة حيث تزداد الحاجة إلى الحزم والقوة.
ثانياً: الوقوف أمام الأهواء فالرئيس الحازم لا تتلاعب به الأهواء ولا تتقاذفه
الآراء فبحزمه يستطيع أن يضع الأمور في نصابها الصحيح دون أن يدع فرصة
للأمور أن تتسيب أو تسير لتخدم غير المصلحة المناطة في عنقه، فهو وبحكمته
وحزمه يسمع لذوي الحجة والمنطق الصحيح ويقف واضحاً حازماً أمام ذوي
الأهواء مما يؤهله للسير بقافلته دون تعثر.
ثالثاً: الوصول إلى الهدف ولو كان صعباً سمة الحازم فمعنى الإصرار لا
يفترق عن معنى الحزم، إذ إن القائد الحازم الذي رسخ في نفوس مرؤوسيه
ضرورة تحقيق الهدف، يجد نفسه في مقدمة من يصر ويسعى جاداً ليكون قدوة
بحزمه وإصراره حتى يصل هو ومرؤوسوه إلى ما تطلعوا إليه وذلك خلاف القائد
المتخاذل الذي ينقطع به الطريق في المنتصف.
رابعاً: القدرة على اتخاذ القرار وتحديد الموقف الصحيح من أهم سمات القائد
الحازم فهو لا يدع للشك والتردد سبيلاً إلى نفسه فإن حزمه يرفض ذلك وبشدة، إن
من المهم دائماً أن لا يترك مرؤوسيه دون أن يعرفوا قراره أو موقفه في أمر ما لم
يشر لهم شخصية تقودهم إلى سبل مختلفة ليست كالتي ينبغي أن يرسمها لهم قائدهم
الحازم.
خامساً: تحمل المسئولية وأعبائها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسمة القيادة الحازمة،
إذ أن الحزم أول الطريق لا يعني شيئاً ولا يحقق أي منفعة إذا لم يترتب عليه
الوصول إلى نهاية الطريق بكل تبعاتها وعندها يدرك المرؤوسون أن حزم قيادتهم
ليس مجرد أزمة عابرة بل هي سمة متلازمة مع كونهم قادة بيدهم زمام الأمور.
ويحضرني موقفان عظيمان يبرزان صفة الحزم في القيادة الناجحة:
الأول:
موقف موسى -عليه السلام- لما رجع من الطور بعد أن ناجى ربه وعاد
بالألواح وقد علم من الله بخبر عبادة قومه للعجل وعاين الأمر أقبل على قومه
فعنفهم ووبخهم وعاتب أخاه هارون [يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ
تَتَّبِعَنِ] ، ثم أقبل على السامري [قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ] ، توعده وأنذره [قَالَ فَاذْهَبْ فَإنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ] . وهذا دعاء عليه بألا يمس أحداً
ثم توعده في الأخرى فقال: [وإنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ] ، وبعد ذلك عمد إلى
العجل فحرقه وذراه في البحر [وانظُرْ إلَى إلَهِكَ الَذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ
لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً] . والقرآن يصف الموقف بصورة حزم واضحة إذ يشعر
القارئ للقصة في كتاب الله سرعة اتخاذ الموقف والقضاء على الفتنة برمتها وبحزم
سريع يكاد يكون خاطفاً فلم يتردد أو يتكاسل بل إن الوضوح والإصرار كان ملازماً
لتصرفاته في القضاء على الأمر وهذا هو معنى الحزم الذي نتحدث عنه.
الثاني:
موقف الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- في ردة الأعراب بعد وفاة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ارتدت أحياء كثيرة وادعى طليحة الأسدي ومسيلمة
الكذاب النبوة والتف حولهم قومهم وأنفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند في المدينة،
فطمعت كثير من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق
على أنقاب المدينة حراساً يبيتون بالجيش حولها ويصف ابن كثير هذا الموقف
فيقول: «عظم الخطب واشتدت الحال وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يترك
المرتدين وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم
بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه وقام في الناس وقال كلمته المشهورة:
» والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لأقاتلهم على منعها والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة «، وكان في اشتداد
المحنة أن طمع الأعراب في المدينة وأغار بعضهم فما كان من الصديق إلا أن بات
قائماً ليلة يعبئ الناس فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صيد واحد ومكن الله
للمسلمين واستمر على ذلك حتى قال المسلمون: لو رجعت إلى المدينة وأرسلت
رجلاً، فقال: والله لا أفعل ولا أواسينكم بنفسي وهكذا بقي الصديق هو وصحابة
رسول الله يقاتلون حتى خضعت الجزيرة إلى حكم الله من جديد.
فالإصرار ظاهر في الموقف وهو من معاني الحزم وكلاهما من سمات القيادة
الناجحة، رحم الله الصديق فبحزمه شرح الله صدر عمر بن الخطاب إذ يقول: فما
هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق.
وهذان الموقفان كان لهما الأثر العظيم في بقاء هذه الأمة، ولكل موقف حازم
أثره ولهذا كانت للقيادة شأنها في حياة الجماعات والأمم.(61/94)
مكتبة البيان
إعداد: سليمان الميداني
تهذيب الكمال في أسماء الرجال:
للحافظ المتقن جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي.
قام بتحقيقه الدكتور بشار عواد معروف.
الناشر مؤسسة الرسالة - بيروت.
لقد احتل هذا المصنف مكانة علمية عظيمة بين علماء القرن الثامن الهجري،
وذلك لسعة اطلاع مؤلفه، ودقته في التصنيف، وهو صاحب كتاب (تحفة
الأشراف بمعرفة الأطراف) ، وتهذيب الكمال: مصنف في تراجم رجال الكتب ...
الستة: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن الترمذي، سنن أبي داود، سنن
النسائي، سنن ابن ماجه.
استند الإمام المزي فيه على كتاب (الكمال) للإمام عبد الغني المقدسي،
وليس هو مختصراً له كما يظن البعض، فقد اختلف عنه في المحتوى، والتنظيم
والحجم وغير ذلك.
اكتمل هذا العقد الثمين بعد صبر طويل، فجاء ذخراً للمكتبة الإسلامية،
وللتراث الإسلامي، وأصبح بين أهل العلم وجهابذة هذا الفن من أجل الكتب التي
ألفت في بابه، وقد اكتمل في خمسة وثلاثين مجلداً.
مجمع البحرين في زوائد المعجمين الأوسط والصغير للطبراني:
تصنيف: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت 807 هـ.
الناشر: مكتبة الرشد الرياض.
استخلص الإمام الهيثمي من المعجمين الصغير والأوسط الأحاديث الزائدة على
الكتب الستة.
وهو كتاب ذو قيمة علمية قام محققه الشيخ عبد القدوس بن محمد نذير بخدمته
خدمة علمية، حيث أخرج لنا نصاً مقابلاً على الأصول الخطية، مترجماً لأكثر
أعلامه مخرجاً لأحاديثه ومعلقاً على بعض مواطنه.
حديث الأحرف السبعة: دراسة لإسناده ومتنه واختلاف العلماء في معناه وصلته بالقراءات القرآنية:
المؤلف: الدكتور عبد العزيز القارئ الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية.
نشر: دار النشر الدولي - الرياض.
وهو بحث علمي متخصص شديد الصلة بكتاب الله، جاء في (181) صفحة
من القطع المتوسط.
النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى:
المؤلف: الأستاذ المكي أقلاينة.
الناشر: سلسلة كتاب الأمة، العدد 34، قطر.
يتكلم المؤلف عن مراحل التعليم ومجالس التحديث والرحلة في طلب العلم
وخصائص التعليم عند المحدثين.
كيف تسعد الأسرة:
المؤلف: الأستاذ عبد الرحمن قره حمود.
الناشر: مكتبة دار البيان في الكويت، حولى.
وهو كتاب يتناول مشاكل الأسرة اليومية وطرق معالجتها على شكل حوار
حيٍّ، يتضمن كثيراً من الآداب والأخلاق الإسلامية.(61/98)
واحة البيان
المرأة الكريمة:
في اللغة: عقيلة هي المرأة الكريمة، والعقيلة درّة الصدف.
والخريدة: كثيرة الحياء الخَفِرة.
وتسمى المرأة بيتاً والعرب تكني عن المرأة باللؤلؤة والبيضة، والنخلة
والقوارير والريحانة.
الفقر الحاضر والعجز الظاهر:
وفَدَ (الصقب النهدي) سيد بني نهد على النعمان بن المنذر، فسأله النعمان عن
الفقر الحاضر والعجز الظاهر: قال: الفقر الحاضر: المرء لا تستغني نفسه وإن
كان ذهباً جليسه، فأما العجز الظاهر: فالشاب الضعيف، اللزوم للحليلة، المتبوع
لها، الذي يحوم حولها، إن غضبت أرضاها وإن رضيت فداها، فذاك الذي كان،
ولا ولدت النساء مثله.
تعريف:
طلحة الطلحات هو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي المشهور بالكرم
والجود، ذهبت عينه في فتح سمرقند مع سعيد بن عثمان بن عفان في خلافة
معاوية.
أقوال:
- الأولاد لا يفهمون عذاب الآباء ما داموا هم أنفسهم لم يأتوا بأولاد.
- إن الإنسان في حاجة إلى عامين ليتعلم الكلام، وإلى ستين عاماً ليتعلم
الصمت.
- إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه
عليك.
- يقول أهل السياسة أحياناً في الاعتذار إلى الضعفاء المساكين: أيها العقلاء! إن هذا لا يمكن أن يحدث، والمعنى السياسي: أيها البُلْه إنه لا يمكن أن يحدث
إلا هذا..(61/100)
منتدى القراء
النظام الدولي الجديد!
علي محمد العيسى
وُلد الجنين فخِلته مسلولاً ... فإذا به شهد الحياة قتيلاً
سُلب الإرادة فهو دمية عابثٍ ... أضفت إلى سُرُر البلاء عليلا
يا من يُقلّب دون أي إرادة! ... أَفَلَسْت ميت أهله المقتولا؟ !
يا من يحارب فكره بفعاله ... ما كنت في سوء الفصال بخيلا
يا من يهدِّم بيته بيمينه ... من يوم مولده، كفاك عويلا
من ليس يشغله البناء حقيقةً ... فلسوف يعلي الصوت والتطبيلا
تبدو مظالم جهله وظلامه ... عدلا! يجيد لزيفه تعليلا
حتى متى نحيا بوعد براطمٍ ... تخفي السموم، وتتقن التقبيلا
فلنبن صرح الجد بالجهد الذي ... يرضي الإله ونقتفيه دليلا
يا ألف مليون تعد جموعهم ... صفراً تلاشى تائهاً مشلولاً
يرمون بعضهم ببعض عنوةً ... وعدوهم يجني الثمار حَفيلا
صُلبت سراييفو، وأنّت قدسها ... واستشهد النُّبل الأبي خجولا
هم ألف مليونٍ تناثر جمعهم ... فكأنهم؟ .. هل قد رأيت فلولا؟
ويضيعون الوقت علّ عدوهم ... يبدي السماح! فهل رأيت مثيلا
هم أوجدوا للخصم كل وسيلة ... حتى يبرمج خطه الموصولا
فتظاهر الخصم اللئيم بعطفه ... وبأنه لا يرغب التقتيلا
ناموا.. لعل البدر يصبح فضة! ... والشمس تضحى تبرة وخميلا
ما أمطرت أُدُم التمنى ثروة ... لم ترو شمس الظهر-قطُّ- غليلا
ما قلت ليس تشبعاً بخطابة ... ما يستحق القول جاء قليلا(61/102)
فإلى متى؟
سليمان بن عبد الرحمن العبيد
فإلى متى والصحفُ تسخر بالكتابْ ... والدين يُطعن بالشتائم والسباب؟
فإلى متى والصحف تزخر بالفساد ... تدعو لتمزيق الفضيلة والحجاب؟
فإلى متى والصحف تهزأ بالدعاة ... وتسومهم بالهمز ألوان العذاب؟
" متطرفون " ولست أدري ما الذي ... يعني التطرف عند هاتيك الكلاب
أهو العقيدة والصلاة لِوقتِها ... أهو الأمانة والنصيحة باحتساب؟
أهو المروؤة والمحبة للورى ... وعزيمةٌ شماءُ عانقت السحاب؟
أهو التوسط عندما ندعو له؟ ... وعن التبتل قد نهينا والغياب
أهو التلذّذُ والتنعم بالحلال ... والنهيُ عن عَقْر المخدّر والشراب؟
أهو التوازنُ والبشاشة والسلام ... أهو الترفّقُ عند تحرير الخطاب؟
أهو البراءة والطلاقة عندما ... نأتي وتأتي غاضباً مثل الذباب
أهي القلوب البيض إذ نحيا بها ... وإذا المنافق قلبُه مثل الغراب
يا أمةٌ بَلِيَتْ بشر بَليِّةٍ ... أعداؤها أبناؤها فَهم الخراب
لِغبائهم كَفَوا العدوَّ جهادَها ... فتمزقتْ وأتوا سراعاً كالذئاب
وصروحُها هُدمت وفي أطرافها ... بنَتِ الأعادي المجدَ من ذاك التراب
فإلى متى؟ وإلى متى؟ وإلى متى؟ ... والشمسُ عنا قد توارتْ بالحجاب؟
يا أمتي والشمسُ طال غيابُها ... فمتى سيُشرق نورُها فوق الهضاب؟
ومتى ستُمطرنا السماء بصيِّبٍ؟ ... ومنى ستَنْجاب القتامةُ والضباب؟(61/103)
الدعاة والمطر
عبد الله الشرايدة
نظر هارون الرشيد -رحمه الله تعالى- يوماً ما إلى سحابة في السماء فقال:
«أمطري حيث شئت يأتيني خراجك» ، وهي مقولة تدل على سعة رقعة الدولة
الإسلامية آنذاك، ولسعة رقعة العمل الإسلامي، بل وعجزه عن استيعاب
المدعويين، فإن الدعاة إلى الله أولى الناس بامتثال هذه المقولة في مجال دعوتهم
إلى الله.
فلو اعتبر كل داعية أنه وإخوانه من الدعاة والعلماء والجماعات في حب أهل
السنة والجماعة، عبارة عن سحب في سماء العالم الإسلامي، مملؤة بالعلم والنفع
والخير الكثير للأمة الإسلامية (لأمطر) كل واحد منهم علماً وخيراً ونفعاً كثيراً لمن حوله من البلاد والعباد، ولأتى الأمة الإسلامية خراجهم جميعاً. ولكن يا ... للأسف، فإن بعض الدعاة والجماعات يعانون ما يعانون من أمراض تجعلهم يخالفون الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على وجوب التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان. فتجد بعض الدعاة عاطفي القرارات، إن أبغض، أفرط في البغض، وإن عادى، أفرط في العداوة، وإن أحب، أفرط في الحب، وإن تحمس لوسيلة أفرط في الحماس لتلك الوسيلة، بل وقلل من شأن الوسائل الأخرى المشروعة، وهذا شأنه في كل قراراته، ولا يعي أهمية التعاون رغم حتمية الخلاف، ولا يقدم مصلحة الأمة على مصلحة نفسه أو حزبه، وهذا الصنف من الدعاة إن لم يعق العمل الإسلامي لم يقدمه. فالأولى بالدعاة إلى الله أن يعوا فقه الخلاف وأهمية التعاون، بل وحاجة الأمة إليه في كل مكان وزمان، خصوصاً في هذه الأيام، وأن يعتبر نفسه وإخوانه سحباً تروي، لا سحباً متفرقة لا خير فيها ولا بركة.
وأخيراً، هذه ليست دعوة إلى ترك التناصح فيما بين الدعاة، ولا إلى ترك
النقد البناء، لأن الخلاف الذي أشرنا إليه بين الدعاة مما يسع الأمة، ومما يدور في
إطار الخلاف المشروع، وإلا فإن التناصح بين الدعاة من أهم وسائل تنقيح مسار
الدعوة إلى الله، والله الهادي إلى سواء السبيل.(61/104)
وعند الصباح يحمد القوم السرى
خالد محمد السبيعي
قال الفتى محدثاً صاحبه: ليتني مثل صلاح الدين الأيوبي، شجاعة، قوة،
وحنكة، وبصيرة، والأهم من هذا كله أنه حرر المسجد الأقصى، وهذه وحدها
تكفي، ثم إن الناس في عصرنا هذا يتمنون لو تلد نساؤهم رجلاً مثله، فقال له
صاحبه: وهل تظن يا أخي أن صلاح الدين قد حرر الأقصى في نزهة مترفة على
فرس أصيل، لا يا أخي لم يحدث هذا، ولا يعقل أن يحدث شيء كهذا، إن الأمور
الجليلة لا تتم لمجرد أن تمنيناها، إن وراء كل حدث عظيم أو شخص عظيم، بذل
وتضحية وجهود كبيرة، لا تنسى أن صلاح الدين قد أعد نفسه جيداً، كما أن جنده
قد أعدوا إعداداً مناسباً، ولم يستسلم هذا القائد لأي عائق، عرض له، بل سعى
لهدفه حتى النهاية.
إن أمنية الفتى طموحة وجميلة بل ومطلوبة إلى حد ما كسلاح فعال ضد اليأس
والفشل والقلق، وتتكرر مثل هذه الأمنية في كل مكان، وتتبدل فقط الأسماء
وأسباب الشهر.
اقرأ سير العلماء والمفكرين والقادة، الذين تركوا بصمات واضحة على
أوراق التاريخ تجد أن معظمهم - إن لم يكن كلهم - قد عاش ردحاً ممتداً من عمره
يعد نفسه لأن يكون ما صار عليه بعد.
إذاً فلا بد أيها المؤمن الطموح أن تكشف عن قدراتك مبكراً، ثم تحدد أهدافك
وتراعي ميولك، استشر في ذلك فما خاب من استشار، ثم انطلق في دربك بقوة،
وهدوء وصبر، ولا تنتظر ثمرة سريعة، بل اسع لها، ومن الله التوفيق، كما هي
الحكمة القائلة (بطيء ولكن أكيد) .
إن الأمور العظيمة، لا تحدث اعتباطاً، بل تسبقها جهود عظيمة، تصب -
كلها - في مصلحة الهدف، وبالتالي فإن طموح الفرد المسلم - أو الجماعة
المسلمة - في شيء كبير ينبغي أن لا يتأخر كثيراً، وكما قالت العرب (وعند
الصباح يحمد القوم السرى) .(61/105)
بريد القراء
الأخ بدر بن عبد الله عبد المنعم
شكراً لكم على شعوركم النبيل ونسأل الله أن تكون البيان دائماً عند حسن
ظنكم. بشأن اقتراحكم حول قضية الأخوة المبعدين من فلسطين فهو اقتراح جيد
والمجلة تعمل حالياً على إعداد ملف عنهم. جزاكم الله خيراً.
الأخ التاج الزبير التاج عبد القادر
أكرمكم الله وأدام عليكم فضله وعلمه. شكراً لكم لمقالتكم الطيبة راجين قبول
اعتذارنا عن عدم نشرها لأن العدد (والأعداد السابقة) تحدثت كثيراً عن الموضوع.
راجين دوام الاتصال بنا.
الأخ فهد العدل
حيَّاك الله وشكراً لنصائحك التي وجهتها لإخوانك، الموضوع يحتاج إلى
تعديل وإعادة صياغة، لذا نرجو مزيداً من المراسلة مع عمل أكثر جدية وعلمية.
جزاكم الله خيراً.
الأخت أم عبادة قمام:
وصلت مشاركتك بعنوان (البحث عن السلام) . نشكرك على مشاعرك النبيلة
وقد صدقتِ فيما قلت عن أن السلام مع اليهود وهم وتضليل لأنه صلح بين الجاني ...
والضحية على أن تنسى الضحية جريمة الجاني وأن يبارك العالم جرائم المعتدي. ...
نعم لن يعيد القدس إلا كتائب الإسلام بعون الله. الموضوع لم ينشر لتشابهه مع ...
كثير من موضوعات العدد. الرجاء الاستمرار بالمراسلة.
الأخ محمود بن جمال البكر:
وصلنا عرضكم لكتاب (السيرة النبوية) للشيخ السباعي -رحمه الله-.
العرض جيد ولكن نعتذر عن نشره لأنه كتب عنه من قبل. نرجو مزيداً من
المساهمة وجزاكم الله خيراً.
الأخ أبو موسى اكملي
يقترح أن تُصدر البيان مجلدات متخصصة يعاد فيها نشر المواد ذات الطابع
الواحد في مجموعة مجلدات كل حسب موضوعه. فهو يقترح (مجلد خاص يضم
كل مقال أدبي وكل قصيدة شعرية) على أن يسمى (البيان الأدبي) ، ويصدر (مثلاً ...
مجلد خاص يضم التراجم والأعلام الذين اصدرت المجلة عن حياتهم من العلماء
السابقين أو تراجم نقدية للمعاصرين..) . كذلك يقترح الأخ (مجلداً خاصاً يضم
المقالات عن الأمة الإسلامية وبيان أحوالهم والحوادث التي ألمت بهم) و (هكذا في
كل جانب من جوانب الثقافة) .
البيان: نشكر الأخ على اقتراحه، وهو موضع دراسة إن شاء الله.
الأخت منيرة أحمد
أرسلت لنا بباقة من النفحات الطيبة التي تحمل في طياتها النصيحة لأبناء
أمتها والغضب من الذين يركضون وراء شعارات يرفعونها عندما يحتاجها الموقف
وينسونها عند تنفيذ تعهداتهم.! إن الحكم على الآخرين من قادة ورعية يكون بفتح
(سجلاتهم) وليس فقط بالاستماع إلى خطب رنانة وكلمات منتقاة تتناسب وواقعة
معينة.
الأخ محمد الوريك
أرسل لنا بمجموعة من الاقتراحات يرى أنه يجب أن تكون الأساس والهدف
من إصدار أي عمل إسلامي. من اقتراحات الأخ، والتي نوافق عليها دون أي
تحفظ، أن تكون من الأهداف:
- معرفة وجهات نظر العلماء والمخلصين من أبناء الأمة بالقضايا المستجدة
خاصة وأن المنابر مفتوحة أمام كثير من الكتاب الذين يسمون أنفسهم (غيورين
على الأمة) وهم (في كل واد يهيمون) .
- رفع شأن الدعاة وتحسين صورتهم لتقديمهم للجيل على أنهم القدوة وأن
الكلمة تسمع منهم لا من غيرهم.
- يقترح الأخ محمد جمع الدعاة في العالم - وإن كانوا متفرقين - على شكل
ندوة على صفحة مجلة البيان.
- تقريب وجهات النظر بين الدعاة في العالم وكسر حاجز العصبية للحزب
والجماعة والعمل أن يكون الولاء لله ورسوله.
الأخ محمد عبد العزيز السيف
يقترح في رسالة بعنوان الأدب الإسلامي إعادة النظر في المواد التي تحشى
بها عقول شباب الأمة وطلاب العلم فيها ويقترح التالي (لدفع عجلة الأدب الإسلامي ...
إلى الأمام) :
1- إيجاد البدائل الجيدة التي تملأ الفراغ الناتج عن إزاحة الآداب الفاسدة
والانحراف الفني.
2- إنشاء أقسام في جامعاتنا تدرس الفن الإسلامي الراقي بأسلوب مناسب.
3- تشجيع ودعم حركة النقد الأدبي من ناقدين موثوقين..
البيان: جزاكم الله خيراً، راجين أن يؤخذ بمقترحاتك وهي جيدة.
- وفي رده المطول على نشر ترجمة المقالة مع علي عزت بيكوفيتش في
العدد 56 يستنكر الأخ صالح بن عبد الله أسلوب طرح الأسئلة على الرئيس
البوسني ويعتبر أن (نشر بعض الأسئلة والأجوبة تراجع في سياسة المجلة (البيان) .
البيان: لا يخفاكم أخي الكريم أننا نشرنا ترجمة للقاء مع الرئيس البوسني ولم
نتبنى أياً من أسئلة الصحفي وقد آثرنا نشرنا للترجمة الحرفية لإطلاع القارئ الكريم
حتى على أسلوب تعامل الإعلام الغربي مع قادة المسلمين وهذا أمر خارج عن
إرادتنا.
أما عن رفضك لبعض إجابات الرئيس البوسني لأنه لم يحمل على الغرب
أكثر مما فعل فهذا شأن الرئيس ومن غير أي شك لديه ما يبرر أقواله لأنه في موقع
لا يمكّنه من التصريح في مواقع آثر فيها التلميح لأن اللبيب لا يلزمه إلا الإشارة.
على كل تقبلنا نقدكم الصادر عن غيرتكم الصادقة، جزاكم الله خيراً ونسأل
الله أن تكون البيان عند حسن ظنكم.
الأخ مختار - ع.
في رسالته عن الموضوعية واستحالة تطبيقها في الحياة العلمية يخلص إلى أن
(الإنسان ليس آلة متخصصة في ميدان معين يضبط وفق معادلات معينة ولا هو
أجزاء بإمكاننا فصلها، فهو وحدة عضوية معقدة لا تعمل إلا وفق ميكانزمات
متداخلة لا تنفصل إحداها عن الأخرى، فالروح والعقل والجسم والقلب كلها مجتمعة
تكوِّن الإنسان في تصرفاته وسلوكياته.
والبيئة والموروث الحضاري والصفات الوراثية والتفاعلات الاجتماعية كلها
مجتمعة هي التي تكون الشخصية. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتخلى
الشخص عن هذه المكونات ويتنحى جانباً ليصدر الأحكام «الموضوعية» .
***
يصلنا من الأخوة القراء كلمات قصيرة يعبرون فيها عما تجيش به أنفسهم من حرقة على واقع المسلمين، ويودون إيصال كلماتهم النافعة إلى القراء، ونحن لا نشك في حب هؤلاء الأخوة للخير، ونحاول نشر المناسب منها، وضمن المساحة المحدودة لأقلام القراء في المجلة، ونعتذر عن نشر كل ما يصلنا, ولا يعني هذا انقطاع الأخوة عن الكتابة، إذا وجدوا موضوعاً مناسباً يستحق الكتابة عنه. وفق الله الجميع للإخلاص والصواب.(61/108)
قديم وجديد
عصبة الأمم بين المد والجزر [*]
بقلم باحث دبلوماسي كبير
كانت عصبة الأمم في نظرنا دائماً أداة دولية مريبة، لا تتفق أعمالها
وجهودها مع المثل والغايات السامية التي أدمجت في دستورها، ولم نستطع يوماً
مدى الخمسة عشر عاماً التي قطعتها العصبة من حياتها أن نحمل على الثقة بها أو
الاطمئنان لاستقلالها أو نزاهة وسائلها وغاياتها؛ وإنما رأينا العصبة دائماً أداة
مسيرة في يد الدول الغربية القوية توجهها حيثما شاءت لتحقيق مشروعاتها وغاياتها
على حساب الأمم الضعيفة، ورأيناها بالأخص سوط استعمار بالنسبة لبعض الأمم
الشرقية، تفرض عليها نير الانتداب وتنظمه لمصلحة الدول الكبرى التي توجهها؛
ولم تقدم العصبة يوماً أي دليل على أنها تعمل لإنصاف دولة ضعيفة أو أمة شرقية،
خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصلحة دولة قوية أو أمة غربية، ولم تنل العصبة
توفيقاً في أي ميدان من الميادين العامة أو الإنسانية التي تزعم أنها تعمل في سبيلها، فلم يحقق مشروع نزع السلاح أو تحديده، ولم يوضع نظام ثابت للسلامة العامة
أو عدم الاعتداء، ولم تكفل حقوق الأقليات أو الأمم الضعيفة بصورة مستقرة عادلة.
ولكنا رأينا عصبة الأمم تتخذ فجأة لمناسبة النزاع الإيطالي الحبشي صورة
أخرى، فتبعث دستورها من قبره وتطبقه بروح جديدة؛ رأيناها تحل السيادة
والحقوق القومية مكانتها، وتعمل لاحترام استقلال الأمم الضعيفة، فتصم إيطاليا بما
تستحق من وصمات الاعتداء المنكر، وتحرك من نصوص دستورها ما تراه كفيلاً
بوقف الاعتداء ورد المعتدي إلى صوابه؛ وتستجمع شجاعتها لتطبيق العقوبات
الاقتصادية والمالية التي فرضت على المعتدي، وتطبقها بالفعل على إيطاليا
المعتدية، فتحظر تصدير السلاح وجميع المواد الأولية إلى إيطاليا وتبيحه للحبشة،
وتطلب إلى أعضائها أن يقطعوا كل العلائق الاقتصادية والمبادلات التجارية مع
إيطاليا؛ فيلبي دعوتها نحو خمسين دولة أو ما يشبه الإجماع؛ وهكذا رأينا عصبة
الأمم تفتتح عهداً جديداً في سياستها وفي فهم مهمتها الدولية، واستبشرنا بأن يكون
العهد الجديد مفتتح الآمال بالنسبة للأمم الضعيفة، فتستطيع أن تطالب بحقوقها
وحرياتها، وتستطيع أن تعتمد على ذلك التعضيد الدولي الذي تحمل لواءه عصبة
الأمم.
ولم يغب عن العالم مع ذلك ما هنالك من وراء ستار، فقد فطن العالم أن
عصبة الأمم لم تكن في عملها مستقلة ولا مختارة، وأنها كانت مسيرة موجهة فيما
اتخذت من قرارات جريئة؛ ولم يغب عن العالم أن السياسة البريطانية هي مبعث
التوجيه والوحي الأول، وأنها اتخذت هذه الخطة لأن الاعتداء الإيطالي على
الحبشة، وتوسيع النفوذ الإيطالي في شرقي أفريقية، وما يترتب على ذلك من
إذكاء الروح الحربي الفاشستي، يعرض الإمبراطورية البريطانية وسلامة
مواصلاتها في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وسيادتها في وادي النيل
وشرق إفريقية إلى أخطار جسيمة، وأن انكلترا لم تحرك أساطيلها الضخمة، وتتخذ
هذه الأهبات الحربية الواسعة النطاق في مصر وعدن وشرق إفريقية انتصاراً
لقضية الحبشة أو دفاعاً عنها، ولكن رداً للخطر الفاشستي الذي ظهر في الأفق فجأة، وأخذ يزعجها بمطامعه وتحديه.
__________
(*) نقلاً عن الرسالة، العدد 131، 11 شوال 1354 هـ / 6 يناير 1936، السنة الرابعة.(61/111)
الصفحة الأخيرة
الفن وأصحاب الفضيلة
جمال سلطان
قديماً قالوا: إن من الجهل جهلاً مركباً، وهو أن يجهل الإنسان ثم هو يجهل
أنه يجهل. ذكرني بهذه الكلمة تلك الفتاوى التي ظهرت مؤخراً حول الفن والفنانين، وهي فتاوى رسمية أحياناً، وشبه رسمية أحياناً أخرى، من هؤلاء النفر
المنتسبين إلى العلم والدعوة ممن يحرصون على الظهور بمظهر المستنيرين
والمتحضرين والمتسامحين! !
وهذه الفتاوى استدرجهم إليها بعض الخبثاء، ومجلات الغواية والفتنة، لكي
يشوهوا بها الدلالة الرائعة لتوبة بعض الفنانين والفنانات ولزومهم هدي الله وهدي
نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم -، حيث أتت بيانات وتصريحات هؤلاء
الفنانين واضحة حاسمة، بأن ما يحدث مما يسمى الفن إنما هو تضليل وغواية
وإفساد لمجتمعات المسلمين، وشبابهم وشاباتهم على وجه الخصوص، والشهادة
دامغة لأنها من داخل البيت المتهم ذاته، ومن أكثر الناس دراية وإحاطة بأسراره،
ومعلناته سواء، فإذا بالفتاوى تصدر بأن الفن حلال زلال، وأفي الفن رسالة
لإصلاح المجتمع، وأن الإسلام يقف مع الفن ويرحب بأهل الفن.. إلى آخر هذا
الخلل والوهم العجيب، فهؤلاء الشيوخ إما أنهم يتحدثون عن الفن من كوكب آخر
غير الأرض لم يكتشفه الإنسان بعد، وإما أنهم من الجهل بالواقع إلى حد البله،
وهذا ما نشك فيه، وإما أنهم يلمعون وجوههم على حساب الدين والحق والأمة معاً.
يا أصحاب الفضيلة، إن شرط الفضيلة أن يكون وجه الحق، وسلامة الدين،
وطهارة المجتمع، فوق الاعتبارات الشخصية الضيقة، أو المصالح الآنية، فإذا ما
غاب الشرط غابت الفضيلة والكرامة!(61/114)
شوال - 1413هـ
أبريل - 1993م
(السنة: 7)(62/)
كلمة صغيرة
التحرير
سيجد القارئ في هذا العدد اتفاقا غيرمقصود فيمقالات تتعلق بأدب التعلم،
والسؤال وأدب الرحلة، وطلب العلم، ومقالاتتتحدث عن المناخ الفكري غير الصحي
الذي يعيشه المسلمون، سواء أكان ذلك بتغلب العاطفة على كثير من أمورهم وشؤون
حياتهم، أو بإغلاق منافذ التفكير والتدبر، وتعطيل القوى التي وهبها الله سبحانه
وتعالى للإنسان، وكل هذا يدل على أن المشكلة قائمة، والمعاناة حقيقية، ولا بد إزاء
ذلك من إعادة النظر بغية إصلاح أساليب التربية وطرق التفكير.(62/1)
الافتتاحية
أفلا يتدبرون
رئيس التحرير
ليس من أمر هذا الدين أن يكون فيه غلو وتنطع أو يكون فيه جمود وعنت،
وهو دين الله ليس بأهواء البشر ولا بأمانيهم، وهو رحمة للعالمين، وبه يصلح
حالهم الذي لا يصلح إلا بالطريق الوسط الأعدل، طريق الذين أنعم الله عليهم،
ولكن من طبيعة البشر نشوء من يميل إلى أحد الطرفين مجانباً سواء السبيل، مما
يوجب على العلماء التصدي لهم بغية إصلاح الاعوجاج. ونفي الزغل والشطط عن
هذا الدين الحنيف.
وبسبب غياب العلم الصحيح في بعض المواطن والأماكن في هذه الأيام،
ظهرت آراء شاذة وتجمعات صغيرة تلتف حول شاب متحمس لم يرسخ في العلم بعد، أو حول شيخ سوء يجمع الناس حوله بزخرف من القول، أو بمداهنة في التشدد
حيناً، وفي الترخص أحايين، قد باع دينه بدنياه!
وهذا الذي يبدو على السطح من منكرات الأقوال والأفعال ما هو إلا عَرَض
للمشكلة، وليس أساسها وإنما تتلخص المشكلة بالسؤال المطروح: ما هو المناخ
الذي هُيِّئَ لخروج مثل هذه التجمعات؟ وما هي الأرضية التي تنبت أمثال هذه
الأفكار؟ وكيف يقبل الناس اتباع رجل يقول بالمتناقضات ويجمع أسس البلايا؟
وكيف يقبل شباب متعلمون، وفيهم أصحاب الدراسات العليا وأصحاب الاختصاص
العلمي، كيف يقبلون أن يكونوا أصفاراً مغمضي الأعين يأخذهم شيخهم تارة هنا
وتارة هناك؟ !
وهذه الظاهرة لا تقتصر على بلد دون آخر بل تكاد تلف العالم الإسلامي؛
حيث انتشر الجهل وقلَّ العلماء، وفي هذه العجالة محاولة مبدئية لتشخيص الواقع
الذي يُفرز هذه الأسئلة:
أولاً: لابد أن نعترف أن المناخ العام الذي عاشه المسلمون في عصور
الانحدار العلمي ويعيشون بعضه الآن لا يساعد ولا يدعو إلى التفكير المستقل،
التفكير الذي يدعو الإنسان إلى التبصر ومعرفة مواقع القول، ويميز بين الخالص
والمزيف. وقد أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نستخدم هذه الطاقات التي وهبنا
إياها، فإنه كما وهبنا السمع والبصر، فقد دعانا إلى ممارسة التعقل، الذي يمنع
التدابر والشقاق: [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] [الحشر
: 14] ، والتي تزع عن الشر: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ] [الملك: 10] ، والتي تدعو إلى الاتعاظ بالذكرى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن
يَشَاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
[البقرة: 269] ، [وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ] [يونس:
101] ، كما دعانا - سبحانه وتعالى - إلى ممارسة التذكر والتبصر والتدبر في
آيات كثيرة: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ] [الأنعام: 50] ،
[انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] [الأنعام: 65] ، [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24] ، ولا شك أن الذي يجري على الساحة
الإسلامية من الآراء الفجة المستهجنة ما هو إلا لأنهم لا يتدبرون القرآن.
إن المناخ السائد هو الانغلاق والجمود والعنت والتقوقع حول من يتلقون عنه، فلا يتكلم بكلمة إلا تلقفوها، ولا يتحرك حركة إلا وحفظوها! ! والمناخ السائد هو
التقليد الأعمى، العريق في التقليد، ولا نتكلم عن اتباع عالِم على بصيرة واحترامه
والتأدب معه والاستفادة منه، فهذا شيء وذاك شيء آخر.
إن هذا المرض العضال ليس مقصوراً على اتباع شيخ يستغل الدين لزعامته
ويربي الشباب على الخضوع له، بل طال حتى الذين ينادون بالضد من هذا، بل
وحتى الذين يحاربون ما سمّوه (الآبائية) [1] ، وهي كلمة حق يراد بها باطل أحياناً،
فقد يحاربون بها التراث الصحيح للأمة، حتى هؤلاء قد شملهم هذا المرض فرددوا
آراء مَن سبقهم، ووقعوا فريسة أسماء مشهورة من الكفرة والملحدين، ولا يقولون
هذا صحيح وهذا خطأ بل يأخذون أقوالهم مأخذ التسليم والقبول.
ثانياً: المناخ الاستبدادي الذى تعيشه الأمة يجعل الفرد يشعر بالضآلة والمهانة، فيلجأ إلى شيخ هنا وزاوية هناك، أو يهرب من واقعه، والضغوط التي تُمارَس
عليه، إلى اللامعقول. ومن طبيعة الاستبداد - سواء أكان في البيت أو المدرسة أو
المجتمع - أن يشل الفرد عن الاستقلال في التفكير، فينشأ نشأة لا يثق فيها بنفسه
ولابد أن يلتصق بمن يفكر عنه ويأمره وينهاه. وقد تعوَّد هذا المسكين على حياة
الذل، فما المانع أن يكون تابعاً مقوداً لمن يحب أن يتصدر للرئاسة الدينية.
ثالثاً: غياب العلماء الفقهاء الذين يعلّمون الناس أمر دينهم، ولا يريدون علواً
في الأرض ولا فساداً، بل يقولون بالحق وبه يعدلون، ولا يرهبون الكثرة أو القلة، فهم كالطبيب النطاسي الذي يعرف الداء فيعالجه من جميع جوانبه، وإن أحد
أسباب هذا الغياب قد يكون راجعاً للسبب السابق، فقد تفرق هؤلاء وبعدوا عن
أوطانهم، وذهبوا كل مذهب بسبب الظلم والإرهاب الذي يمارس على كل داعية
صادق، وعندما غاب هؤلاء تسلق هذا الركن الركين، وتصدَّر للمجالس الأصاغر
أصحاب الأهواء والذين في قلوبهم مرض، ووجدوها فرصة للزعامة وجمع الأتباع.
وللسبب نفسه غابت المؤسسات العلمية القوية التي يتخرج منها من يعلّم الناس
الإسلام الصحيح ويتصدى لمشكلات الأمة.
رابعاً: القلق النفسي الذي يعيشه بعض المسلمين نتيجة البيئة الثقافية
والاجتماعية، ونتيجة القهر والتشرد والبعد عن الأوطان، فيصبح الرجل من هؤلاء
متشنج الأعصاب سوداوي المِزاج، فيفتي ويتكلم من منطلق هذه المعاناة، وتأتي
أحكامه وفتاويه عجيبة غريبة، والذين يعانون أمثالهم يعجبهم هذا التشنج فيؤيدون
أقوالهم، ولا يلتفتون إلى أقوال العلماء الذين هم على دراية بالشريعة ومقاصدها
وعلى دراية بواقع المسلمين. خامساً: يُستغل ضعاف النفوس وأصحاب الآراء
الشاذة لمحاربة أهل المنهج الصحيح، والذي يريد استغلالهم يقدم لهم العون المادي
والمعنوي مما يجعل بعض الانتهازيين يلتفون حولهم طمعاً بالدنيا، وحتى يظهر
هؤلاء بالمظهر العلمي أمام الناس فلابد أن يخوضوا في الفقه والدين ويخوضوا في
التبديع والتفسيق للآخرين ويدَّعوا أنهم أصحاب اتجاه ديني، فيقع التشويش في
الساحة الإسلامية.
هذه هي بعض الأسباب التي نراها مهيِّئة للمناخ الذي يتخرج به من ذكرناهم، والذي يستطيع المسلمون فعله هو إشاعة المناخ العلمي الذي يدعو إلى التدبر
والتبصر، والدعوة للارتباط بالمنهج السليم وبذل الأخوة، والتقدير لكل من يرتبط
بهذا المنهج، كما يجب أن نعلم أن الكلام على الغلاة وأصحاب الأهواء ليس من
باب تفريق صف المسلمين بل هو من صميم الوحدة الإسلامية.
__________
(1) أخْذاً من قوله - تعالى -[قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا] [البقرة: 170] .(62/4)
من إيجابيات الدعوة
تحرير الناس من عبادة غير الله
(2)
د. عابد السفياني
لقد أدرك أئمة الدعوة الإسلامية المعاصرة أن مهمة هذه الدعوة هي تطهير
العباد من الاعتقادات والأقوال المخالفة للتوحيد، وردّهم إلى ما كان عليه النبي -
صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضوان الله عليهم -، وإذا تطهروا من ذلك
تحرروا من العبودية لغير الله، وأقاموا مجتمعاتهم - في أي عصر من العصور -
على شريعة من الله غير مشركين به.
وإن هذه المهمة الكبيرة تحتاج إلى عمل جاد وصبر وفقه في الدين وتحديد
لمواطن الخلل في كل عصر وكل مكان حتى يمكن معالجته حسب ما ورد في كتاب
الله وفي سنة رسولنا - عليه الصلاة والسلام -.
ولنضرب لذلك نماذج عملية متعددة ومتنوعة ليستفيد منها الدعاة في كل مكان
ولأهمية هذا الموضوع وسعته سنختار لكل مقال من هذه المقالات نموذجاً حسب
أهميته وآثاره الدعوية في العصر الحاضر.
لقد تأمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - واقع عصره فوجد الناس
يصرفون كثيراً من أنواع العبادة لغير الله في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وإنهم
لابد من تحريرهم من عبادة غير الله وردهم إلى عبادة الله وحده. لقد وجدهم يدعون
ويذبحون وينذرون لغير الله، ويعكفون على القبور يصرفون لها أنواعاً من العبادة
التي لا يستحقها إلا الله. وتأمل في شبهتهم التي كانوا يعتذرون بها، فمنهم من
اعتقد الضر والنفع في غير الله، ومنهم - عند المجادلة - من يقول إن عبادته لا
تصل إلى العليم الحكيم إلا عن طريق البشر أو غيرهم من الأشجار والأحجار
والأصنام، فوجد - رحمه الله - أن هذا القول انتقاص لحق الله الواحد القهار وأنه
عذر أقبح من الذنب المعتذر عنه، لأن مآله تعلق القلب بغير الله لاعتقاد الإنسان أن
عبادته لا تصل إلى الله إلا عن طريق المخلوقين فيأخذ في التعلق بهم، واعتقاد
النفع فيهم الذي أنكروه من قبل واعتذروا عنه بقولهم [مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى
اللَّهِ زُلْفَى] [الزمر: 3] ، فاتخذوا بذلك الوسائط بينهم وبين الله. وبعد أن أدرك
الشيخ هذا الواقع عزم على تحريرهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
ثم تأمل الشيخ في واقع مجتمعه فوجد انحرافاً آخر، وجد أناساً يزعمون
الإسلام ويتحاكمون إلى غير شريعة الإسلام، فلم يمنع الشيخ - رحمه الله - نطقهم
بالشهادتين وصلاتهم وحبهم للصالحين والأولياء وقولهم إنهم يتبعون العلماء، لم
يمنعه ذلك من أن يعزم على تحريرهم من العبودية لغير الله. ولقد حاجهم وجادلهم
بالتي هي أحسن، ودعاهم للتي هي أقوم، وخير مثال على ذلك كتابه (كشف
الشبهات) الذي قال فيه مبيناً الأسس التي ينبني عليها فهم الإسلام بعيداً عن الشرك
والانحراف عن شرائع الإسلام: (لا خلاف في أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب ...
واللسان والعمل فإن اختل شيء من ذلك لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد
ولم يعمل به، فهو كافر معاند.. فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا
يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص؛ لقوله - تعالى -: [إِنَّ
المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] [النساء: 145] ) [1] .
وبيَّن لهم أن هذه المسائل لم يختلف فيها الفقهاء، بل أجمعوا على أن من جحد
شيئاً معلوماً كفر ولو كان من مسائل الفروع، فكيف إذا جحد التوحيد وخالف فيه،
ثم ذكر كلام علماء الإسلام في باب المرتد وأن النطق بالشهادتين لا ينفع صاحبه إذا
أتى سبباً من أسباب الكفر المخرج من الملة أو الشرك الأكبر، لأن المراد بالنطق
بكلمة الشهادتين معناها لا مجرد لفظها [2] .
وقد بذل - رحمه الله - قصارى جهده في بيان حقيقة التوحيد فكشف عن
مسائل الجاهلية وحذر الناس منها وسيأتي لذلك زيادة بيان في مقالات لاحقة إن شاء
الله.
لقد وقر الحق في قلب الشيخ المجدد - رحمه الله - ولم يعد يلتفت إلى شبههم
إلا إذا أراد أن يكشف زيفها، أما واقعهم فقد علم الشيخ أنه لن يصلح إلا بتجديد
مفهوم التوحيد وتحقيق مقتضياته، حتى تصبح وجهة القوم مطابقة لمقتضى
الشهادتين التي ينطقون بها.
فلما رأى المخالفون إصرار الشيخ على دعوته رموه عن قوس واحدة،
وحاربوه بكل وسيلة في أيديهم، وهو صابر ثابت لم يفت في عضده كثرة المخالفين
وسطوتهم، ولا لدد الخاصمين وتكبرهم ولا سفاهة المشاغبين وخستهم، لقد جمع
هؤلاء كيدهم وافتروا عليه بأنه: جاء ليبدل دينهم ويظهر في الأرض الفساد
ويحارب العلماء والصالحين والأولياء.. فلابد إذاً من محاربة دعوته! ! وقد تمت
المحاربة ولكن الله حفظ الشيخ ولم يتنازل عن شيء من دعوته، بل مضى في
طريقه لا يكل ولا يضعف ولا يتردد حتى انتشر العلم بالتوحيد وأحكامه وربى
أتباعه على ذلك وانكشف زيف الشرك وأباطيله، ومسائل الجاهلية وسفهها.
لقد طلب منه مخالفوه أن يَدَعهم وما هم فيه، وكان يمكن أن يستجيب لمطالبهم
ولكن أراد الله به وبالناس خيراً، كان مجال التأويل واسعاً لمن أراد أن يخلد إلى
الحياة الدنيا ويقعد عن تحمل المسؤولية في مجال الإصلاح، كان يمكن أن يقول
الإنسان لنفسه: كيف أدعو الناس للتوحيد ... وأتحمل كل هذا العناء والدولة
العثمانية التي عاشت قروناً طويلة وخدمت الإسلام في كثير من السنين قائمة بالفعل
وتتبعها الإمارات في كل مكان، لِمَ لا أترك لها القيام بذلك على طريقتها وهي
تتحمل ما يقع من تقصير، وألتزم بالوضع الذي كان سائداً، وقد وفق الله الشيخ
إلى الصواب في هذا الأمر فلم يلتزم بالأطر الدعوية التي كانت تمارس في تلك
الأيام، وسَلِمَ من فساد التعصب والتقليد والعادات وارتفع إلى طريقة الكتاب والسنة
في الدعوة إلى الله - عز وجل -.
كان يمكن أن يقول الداعية لنفسه في مثل تلك الظروف لماذا أبدأ بتصحيح
الاعتقاد، وأنابذ الشرك والبدع والأهواء وأهلها، ولماذا لا أبدأ بتصحيح الأمور
الجزئية.. ولا حاجة للدخول معهم في خصومة ولا بأس من أن أعذرهم في تلك
المخالفات العقَدية، وتكون الألفة والمحبة والولاء بيني وبينهم وبذلك أسلم أنا ومن
معي من كيدهم ومكر رؤسائهم ومخالفة عوامهم، وفي آخر المطاف يمكن لي أن
أصحح الانحراف في الاعتقاد. ومع كل هذه التأويلات والمغريات.. إلا أن الشيخ
- رحمه الله - لم يقبل بشيء من ذلك واختار الاستمساك بالمنهج الدعوي كما ورد
في الكتاب والسنة فدعاهم من أول الطريق إلى تحقيق مقتضى الشهادتين وتحكيم
الشريعة في جميع شؤونهم، ومنابذة ما يخالف ذلك، والبراءة من الشرك وأسبابه
وأهله، والصدق في نصرة دين الإسلام.
واحتمل - رحمه الله - عن بينة وبصيرة وعزيمة وثبات كل العداوات،
احتمل العداوات من الرؤساء الجهال ممن ينتسبون إلى العلم أو يملكون السلطان.
واحتمل الذم من جهلة العوام، والافتراء من سدنة الشرك والجاهلية والتعصب. ولم
تكن هذه العداوات بعيدة عن باله وهو الذي كان يأمر من يتبعه بأن يتسلح بالعلم
والحجة ليواجه كل تلك العداوات. قال - رحمه الله - في كتابه (كشف الشبهات) : (واعلم أن الله - سبحانه - من حكمته (تأمل قوله (من حكمته)) لم يبعث نبياً
بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً
شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً] [الأنعام:
112] ، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وهم أهل فصاحة وعلم وحجج،
فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحاً لك تقاتل به هؤلاء الشياطين..
ولا تخف ولا تحزن [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء: 76] ) [3] .
نعم، إن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه يصدون الناس عن
سبيل الله، ولابد للدعاة من الصبر على كيدهم وتبيين التوحيد ومحاربة الشرك
وتحرير الناس من عبادة غير الله بكل صورها وأشكالها. ولا يحسبنَّ أحد أن آثار
دعوة الشيخ مقتصرة على محاربة شرك القبور والأضرحة - كما فهم كثير من
الدعاة في بلاد العالم الإسلامي - كلا، فإن دعوة الشيخ دعوة شاملة تجديدية بذلت
جهدها المستطاع في تحرير الإنسان من عبادة غير الله، سواء أكانت تلك عبادة
الأولياء والأضرحة أو عبادة الطواغيت وطاعاتهم في التحاكم إلى غير شريعه الله،
أو ما سوى ذلك من مسائل الجاهلية التي عن طريقها يُنتقص حق الله - سبحانه -
في العبادة أو ينتقص حق هذه الشريعة الربانية في الاتباع ووجوب التحاكم إليها في
جميع الأمور.
وسنزيد ذلك بياناً عندما نكشف في المقالات القادمة - بمشيئة الله - عن
العلاقة بين جهد الداعية الكبير وبين جهود مصلحين آخرين في ديار العالم الإسلامي، سواء أكانت هذه العلاقة عن طريق مباشر أو عن طريق غير مباشر ولا يزال
الحديث موصولاً - بتوفيق الله - عن الإيجابية الأولى للدعوة الإسلامية المعاصرة،
وبيان الجانب العلمي والأسلوب المختار عند بعض المجددين الذين كان هدفهم في
الدعوة إلى الله تحرير الإنسان من عبادة غير الله بجميع صورها وأشكالها، القديم
منها والجديد، حتى لا يُعبد إلا الله وحده بلا شريك.
__________
(*) ملل الكفر وطقوسها وقوانينها صور من العبادة لغير الله، والدعاء والذبح والنذر لغير الله صور من صور الشرك.
(1) مجموعة التوحيد، 88.
(2) مجموعة التوحيد، 72.
(3) مجموعة التوحيد، 73.(62/8)
الدعوة بين العقل والجمهور
محمد بن حامد الأحمري
يتعامل غالب المسلمين مع سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومع التاريخ
الإسلامي تعاملاً عاطفياً بحتاً لا يتجاوز دور الإعجاب والتذكر والاندماج في أخباره
وأمجاده، واستعادة هذه الصورة التاريخية يوماً بعد الآخر دون الاستفادة منها
كمدرسة متنوعة المراحل والأدوار والموضوعات والمواقف، وما فيها من مواقف
إقدام واجتياح، تدعو للوقوف والتأمل والبحث عن مخرج عندما تُغلق بعض أبواب
الدعوة. في مثل هذه الحال تسكت أصوات الحادين المشجعين مستجيبة لصوت
هداة القافلة القائلين: أمامكم منعطف تحتاجون فيه إلى احتراز وتعقل حتى تتجاوزوه
سالمين بإذن الله. وهذا هو المنعطف الذي تتجاوزه القافلة بحذر ثم يستمر السير
أحسن مما كان.
فاستجابة المسلمين للقتال والبيعة على الموت في (بيعة الرضوان) لا ...
تتناقض مع القبول بالصلح في (صلح الحديبية) الذي تلا البيعة مباشرة. وحُق ...
لبعض المتأخرين استشكال الموقف إذا لم يتدبروا مآل الأمر. ومع أن الصلح حقق
فائدة عظيمة للمسلمين فيما بعد فقد صعب الموقف على بعض أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وقد قال بعضهم كيف نعطي الدنية في ديننا، (وعظم ذلك
على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلاماً وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجاً فقال لأصحابه: اصبروا فإن الله
يجعل هذا الصلح سبباً إلى ظهور دينه فأنس الناس إلى قوله بعد نفار منهم) [1] .
وسواء أصعب على الصحابة في ذلك الوقت الرجوع إلى الصلح بعد البيعة
على الموت أو صعبت عليهم شروط المصالحة، التي رآها بعضهم مجحفة
بالمسلمين كما رأوا في اعتراضات سهيل بن عمرو على الرسول -صلى الله عليه
وسلم- عنجهية تستحق القمع، ولكن النظر في المصلحة الأولى خير من الوقوف
عند اعتراضات سهيل، أو مشهد إعادة أبي جندل يرسف في قيده إلى قريش. ثم
قبلوا الصلح على مضض، وحلوا (ونحروا بعد توقف كان منهم أغضب رسول ...
الله - صلى الله عليه وسلم -) [2] ، وذلك دليل على أن الخلاف في موقف كهذا الموقف وقع مع الرعيل الأول ودوافعه الإخلاص للدين واتحاد الوجهة، فلهم أن يروا رأيهم، وأن يفكروا ويشاركوا قيادتهم فيه وتختلف الآراء ولكن القرار الذي اتخذ بعد أن أنس المسلمون إليه كان واحداً ونهائياً [3] . فقد كان الإسلام بحاجة إلى الرسوخ في الجزيرة وفي المدينة وما حولها وقريش التي لم تكن تعترف بالمسلمين الذين تسميهم (الصباة) أصبحت تفاوضهم وتعترف بهم نداً قوياً وتسلم الحرم عدة أيام في السنة القادمة، وتعترف لهذا الكيان بقيادته وأحلافه ومناسكه. ويأمن المسلمون فيه شر قريش ويتجهون إلى ساحات أفسح للدعوة والقتال وترسيخ مواقعهم.
إن ما يحتاجه المسلمون اليوم هو البصيرة من سيرة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في هدنته كما يستفيدون من حربه، فتفويت فرص العدو وعدم تمكينه
من المسلمين حاجة إسلامية ملحة وهذا موقف قد لا يروق للسان الخطيب ولحاشد
الجماهير، ويرى الخطيب في هذه الحالة أنه يفقد المتعاطفين والمتحمسين بل يفقد
الجماهير. مع أن الجماهير والشهرة يجب أن تُصبا في مصلحة الإسلام والمسلمين
وألا تكونا غاية في ذاتها. وإذا حدث ذلك - لا قدر الله - فهو انحراف عن الغاية
وفساد في النية لا أظنه موجوداً - إن شاء الله - بحجم يذكر. وخطورة هذا الأمر
عند بعض الخطباء أن يصل بهم الأمر إلى تلقي مواقفهم من الجماهير الحاشدة التي
يعجبها النغم وتستسلم للصوت المثير وإذا هدأ الصوت أثارته مرة أخرى بحثاً عن
متعة الاستماع والجدة والإثارة فقط، وليس بحثاً عن إيصال هذا الكلام المسموع
المثير إلى حيز الفعل أبداً. فللجماهير شهوات يطلبون تحقيقها من الخطيب
يستغربها في البداية ثم يسير فيها مرغماً فيما بعد، فيفقد عقله ورأيه، ويصبح لساناً
لما يسمى بالعقل الجمعي.
ومن المعروف في علم الاجتماع أن للمجموع عقلاً يختلف عن عقل الفرد،
وأن العقل الفردي في حالة الاندفاع الجماهيري يبلغ أقل مستوياته ويضعف جداً
مستجيباً للعقل الكبير البديل (عقل الجماهير) ، ورغباتها التي تريد تحقيقها ولو
بطريق غير معقول.
ويضرب الاجتماعيون والسياسيون لهذا مثلاً بما يحدث في المظاهرات، فبعد
أن يجتمع عشرات الآلاف في مسيرة وتزيد حماستهم لاجتماعهم وكثرتهم وأهمية ما
يمكن أن يقوموا به تجد عقلاءهم وخيرة رجال المجتمع يرمون الأحجار على النوافذ، ويكسرون السيارات، ويدمرون كل ما يواجهونه في الطريق. ولو رأيته قبل
المظاهرة أو جلست معه بعد لحظة وعي وتعقل لقال لك ذلك موقف الجماهير،
وربما وصف نفسه بالجنون، فللعقل الجمعي خطورته وضرره. مع أنه ينبض
بحاجات الأمة الصادقة وما يختلج في كيانها، فهي تعبر عن حاجات حقيقية
صحيحة معقولة، بأساليب ومواقف قد تكون أحياناً غير معقولة. هنا يأتي دور
العقلاء في التحكم بعقول الجماهير وليس الانسياق وراءها، فلا يحتمل اللوم سوى
العقلاء في حال الخطأ أو التقصير. لذا فالخطيب - وليس القائد - هو الذي يسلم
لسانه للجماهير تقول عليه وباسمه ما تريد حتى وإن لم يكن صحيحاً ولا معقولاً،
وتجره كل يوم في وادٍ أو موقف لم يحسب حسابه ولم يكن معروفاً لديه.
ومتابعة رغبات الجماهير في اتخاذ المواقف ظاهرة سلبية تقودنا إلى مواقع
مجهولة لنا، ومواقف لم نحسب حسابها عملياً، بل لم تعطنا الجماهير الفرصة
للتفكير فيها وما نحن فيه وحقيقة موقعنا وقدرتنا على القرار، فالخطباء مأسورون
بحماسة جماهيرهم، والجماهير مأخوذة بما تسمع، ومسحورة بآذانها، والعقول في
كثير من الأحيان في إجازة وخارج دائرة العمل، وعندما يسمح لها بالعمل فإنها
تستهلك في تبرير الأعمال العاطفية السابقة. ليس هذا تجريحاً ولا تقليلاً من الرأي
الجماهيري، ولكن وعي السلوك العام ودوافعه وأساليب صياغته للاستفادة منه
وتجنب آثاره العكسية على العمل الإسلامي مطلب ملح.
ومن مخاطر العمل الجماهيري أن المتحدث أو الخطيب يشق عليه المزج ما
بين عملين رائدين في غاية الخطورة والتأثير، أولهما: رجل العقيدة، وثانيهما:
رجل السياسة. فالعقيدة وعلمها وصفاؤها ومباشرتها ووضوحها والتزامها لها
مطالبها. والسياسة وغموضها وثعلبيتها وعلمها وفنها ومزالقها لها مطالبها هي
الأخرى، والجمع بينهما عند الأولين والمتأخرين نادر جداً.
لا يليق بنا الاستسلام للجماهير، ولا الاستسلام للتاريخ كي يملي علينا مشاهده
الرائعة التي لا نملك الحركة بها. فحاجتنا تملي علينا أن نتعامل مع العلم الشرعي،
والثقافة التاريخية من حال واقعنا فلا نستسلم لأمجاد وأخبار هارون الرشيد ونفكر
بعقلية (اذهبي أنَّى شئتِ فسيأتيني خراجك) ونخطب في جماهير منكودة الحاضر، ...
مجروحة الكرامة، مستغرقة في الآمال والأحلام والتاريخ، ويزيد إخلاص السامعين
وصدق نياتهم من حماستنا فننسى أين نحن وعلى أي المنابر، فنهدد برسالة هارون
الرشيد إلى نقفور؛ ونقول: (من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم) ، الجواب ما ترى لا ما تسمع. فيخرج نقفور من وسط الجماهير ويقبض على خطيبنا ويودعه السجن، والجواب ما ترى لا ما تذكر.
وترجع الجماهير إلى بيوتها تضرب يداً على الأخرى ما بين حزين صادق
كثرت عليه الأحزان - منذ اقتطاع بلاد المسلمين في فلسطين والصومال والبوسنة
وكشمير حتى اختطاف شيخه وأمله القريب. وكان يملك أن يسمع (إنا لله وإنا إليه ...
راجعون) ، كان يسمع شيخه يعزيه ويؤمله، واليوم لا يملك إلا أن يهمس بنفس الكلمات وأقل منها لزوجه - وآخرون كانوا يحضرون الخطبة بحماسة شديدة، وكأنها عندهم مسرحية حية بدأت بهارون وانتهت بنقفور، وعندما يعودون إلى مساكنهم يقولون: لقد غلط الشيخ وأخطأ، فنحن في عصر السرعة، ونقفور أصبح بإمكانه أن يصل، وأن يقبض على هارون، بل أن يسجنه ويقتله قبل أن يرسل هارون جنوده، نسي الجميع أن هارون قد رُمَّ من قرون. وهذا داء أمتنا من قديم نخبط كل يوم في بلاد، ويأخذ بعضنا كلام الآخر، يعيد تمثيله وإخراجه للناس دون أن ندرك أخطاء إخواننا الصادقين في كل مكان، ودون أن نحاول أن نتجنب ما حدث لهم، فعدوُّنا واحد: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى] [البقرة: 120] ، وقد رمونا عن قوس واحدة، فليس يليق بنا تكرار المشاهد وهم يكررون نفس الأسلوب، ابحثوا عن طريق ورسخوا الحق، وابنوا وحداته الجزئية المثمرة المعروف أثرها، وعلَّموا الجماهير ما تحتاج، ولا تهيجوها لما لا تعلمون جميعاً، وتجنبوا خطب إلقاء (إسرائيل) في البحر، ولو لسنوات معدودات، تكفون فيها أيديكم وتستعدون ليوم تفعلون فيه شيئاً. وعندما يرتاب السامعون - لضعف الإثارة وقلة الحشد وخفوت صوت الحماسة - فذلك ما لا يلزم جوابهم عليه خاصة إن كانوا ممن لا تحتمل عقولهم الجواب، ولك في قول الشاطبي اقتداء، حيث قال: (وقد لا يلزم الجواب في مواضع، كما إذا لم يتعين عليه أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع، وقد لا يجوز جواب السائل، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب، أو كان فيه تعمق أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط وفيه نوع اعتراض) [4] .
والأمور بمآلاتها، وليست مما يسهل على الكثير وعيها، وتقوى الله فيهم
واجبة، والنصح لهم واجب، وكلٌّ يُعطى من العلم حسب طاقته. ولا يذكر للمبتدئ
من العلم ما هو حظ المنتهي بل يربَّى بصغار العلم قبل كباره [5] .
ومن تقوى الله في الأمة أن يدبر لها عقلاؤها المخرج بعيداً عن ضجة
مكبرات الصوت والتهاب حماسة الجماهير؛ فارتجال المواقف مراعاة لمشاعر
الجماهير وحماستهم لا تقل خطأ عن المسارعة في رضى الظالمين (ومسح الجوخ
لهم) ، وإن كان الأول أعز وأكرم أمته بموقفه وحماسته، والآخر حطها بالتذلل
والمسارعة لإرضاء الظالمين، ولكن قد يكون مآل الأمرين واحداً، وهو تمكين
عدونا منا تعجلاً للثمرة، أو تطويعنا له نفاقاً أو هلعاً من مواقف الرجولة وهروباً
من شبح المحنة.
__________
(1) الدرر في اختصار المغازي والسير، لابن عبد البر، ص193.
(2) المصدر السابق، ص194.
(3) من المهم مراجعة أو استحضار أحداث صلح الحديبية من كتب السيرة.
(4) الموافقات للشاطبي، 4/313.
(5) المصدر نفسه، 4/190-191.(62/14)
خواطر في الدعوة
ظلم ذوي القربى
محمد العبدة
عندما كان القتال محتدماً بين أحزاب الجهاد الأفغاني في العاصمة كابل،
وكانت القذائف تنزل حمماً على رؤوس الآمنين [1] والمسلمون في كل مكان
يتألمون لما يقع بين إخوة الجهاد، ويزداد ألمهم عندما يفكرون بالأثر الذي يُحدثه
مثل هذا القتال على نفسية المسلم ومعنوياته، ففي أثناء هذا الصراع تمنى أحد
زعماء الجهاد إيقاف هذا القتال، وإن لم يكن نهائياً فعلى الأقل في شهر رمضان
المبارك، وقال هذا القائد: كنا أحياناً نتوقف عن القتال في شهر رمضان أثناء
جهادنا مع أعداء الإسلام، مع حكومة كابل الشيوعية، أفلا نستطيع الآن أن ننفذه
مع إخواننا وفيما بيننا؟ ! .
حقاً، إن ظلم ذوي القربى شديد على النفس، وهذا إذا وقع بين الأقارب في
النسب، فكيف به إذا كان بين الأقرباء في العقيدة والدين، وكيف به إذا تعدى ظلم
فرد لمثيله وأصبح فاشياً في ظلم مجتمع لمجتمع، أو جماعة لجماعة فهو أشد مرارة، وأكثر ألماً، وأقسى من كل ما تصاب به الأمة من عدو خارجي؛ لأن المحنة
عندما تأتي من إخوة لك في الدين، فهذا سيؤدي إلى فقدان الأمل عند جماهير الناس
بمن يتصدى للدعوة، وفقدان الأمل من قرب استئناف حياة إسلامية، وسيؤدي إلى
الإحباط وإشاعة روح اليأس، وسيكون التساؤل قوياً وحاضراً وملحاً: إذا كان
هؤلاء يتخاصمون ولا يتفاهمون، ويتعادون ويتشاكسون. فهل هناك أمل في
الإصلاح المنشود؟ !
هل أصيب المسلمون بأمراض المنطقة وأوبئتها؟ فصاروا مثل غيرهم من
الأحزاب المتناحرة، حيث اشتهر (الرفاق) في الأحزاب العلمانية بممارسات تصفية
زملائهم، سواء بالتصفية الجسدية أو الإبعاد أو السجن.
هل يعي المسلمون - والكلام ليس للأفغان وحدهم - أنهم بتنازعهم وأنانيتهم،
وضيق أفقهم وروح الإقليمية التي شاعت بينهم، سيكونون من أشد المساعدين على
بث اليأس والهزيمة النفسية، وهل يعي المسلمون الدرس الأعظم في تاريخنا، وهو
مقتل الخليفة الثالث ظلماً وعدواناً، تلك المحنة الداخلية التي كانت أوقع أثراً في
المجتمع الإسلامي، وفي التاريخ الإسلامي من كل المحن الخارجية.
إننا لا نستطيع أن نقول لهؤلاء الذين يتشبثون بأنانيتهم وأغراضهم الخاصة،
ويدافعون عنها ولو ضعفت الدعوة وتمزق الصف - لا نستطيع إلا أن نذكّرهم
ونقول: اتقوا الله في هذه الأمة، التي تكاثر عليها الأعداء، فلا تكونوا عوناً لهم
وإن كنتم لا تقصدون ذلك، ورحم الله امرأً عرَف قدر نفسه.
__________
(1) توقف هذا القتال - كما حملت لنا الأخبار أخيراً - ونتمنى أن يستمر هذا التوقف ويصمد هذا الاتفاق وأن يحكم الإسلام بلاد الأفغان.(62/20)
طرق الطرح العلماني
د. عمر المديفر
ليست أساليب وطرائق العلمانيين في طرحهم للمبدأ العلماني واحدة، بل هي
متغيرة بحسب الزمان والمكان، وهذه التغيرات قد تشمل أساليب الخطاب، وقد
تمتد إلى أساليب عرض المبدأ العلماني، وهكذا..، فبينما تطرح العلمانية في قطر
معين على أنها مضادة للدين، تطرح في قطر آخر على أنها موافقة للدين. وفي بلد
ثالث تُفرض فيه العلمانية ببطء وحذر شديدين حتى لا تلفت الأنظار إلا بعد كونها
واقعاً لا مناص منه.
لقد كان كثير من العلمانيين في بدايات هذا القرن الميلادي لا يتقربون إلى
الدين وأهله، وكانت شعاراتهم تتراوح بين القومية والشيوعية والاشتراكية، ولكن
حينما اشتد ساعد الصحوة، وبدأ المسلمون يشعرون بقيمة دينهم، بدأ العلمانيون
بكافة أصنافهم بالتقرب إلى الدين، وبمحاولة إيجاد صيغة تجمع بين علمانيتهم
ومقاصدهم الشخصية وبين استغفال الشعوب المسلمة والاستخفاف بها من خلال
التظاهر بالمظاهر الإسلامية!
فعلى سبيل المثال، كان شبلي العيسمي (السوري الدرزي الذي فرّ من سورية
إلى العراق سنة 1967م) أحد منظِّري البعثية في العالم العربي لا يأتي للإسلام بذكر
فيما يقرب من عشرة مؤلفات صدرت حتى عام 1984م، أما ما بعد ذلك فقد ألف
عن كون العرب مادة للإسلام، وعن (عروبة الإسلام) ! ! وكذلك كانت حال بقية
المنظرين للعلمانية [1] .
وكل هذا التغيير يدلنا على أن العلمانية ليست مقنعة كمنهج في العالم الإسلامي، لأن المسلم - مهما بلغ انحرافه - يشعر بارتباط الإسلام بالحياة العامة، ويشعر
بكون الإسلام له سلطان على كافة أنحاء الحياة ومجالاتها، ولهذا نجد المسلم الذي لم
تفسد فطرته لا يفكر في إمكانية الخروج عن شريعة الله، ومن هذا المنطلق يرفض
العلمانيون أن يُستفتى الشعب في إقرار أو منع الدستور العلماني، لأنهم يعرفون
حتمية خسرانهم.
وهذه التغيرات تدلنا أيضا على أن العلماني ليس له هدف سامٍ وهو رفعة
الوطن - كما يقول - بل هدفه هو الوصول لمصلحة شخصية، والأمثلة على هذا
كثيرة ممن كانوا معارضين لأنظمتهم الحاكمة، ثم حينما اشتُريت مبادئهم بمنصب
ودخل مادي انقلبوا مدافعين عن تلك الأنظمة! !
ويمكننا تقسيم أساليب الطرح العلماني إلى طرح مكشوف وآخر ملتوٍ مموّه!
1 - الطرح الصريح:
وهذا الأسلوب هو أسلوب العلمانيين الأقحاح، الذين يستطيع المرء أن يصفهم
بالغلو العلماني بلا تردد، لصراحتهم حول هذا المبدأ، وهؤلاء أمِنوا العقوبة لأنهم
في بلد تحكمه العلمانية، والشرائع الجاهلية، التي تسمح لهؤلاء بالانتقاص من قدر
الدين، والتعدي عليه، في حين تكمم أفواه الدعاة، والذين يريدون الدفاع عن دينهم!!
ويرتكز هذا الطرح على ما يلي:
أ- مدح الغرب وإطراؤه، ودعوة الأمة إلى اللحاق بركبه والتأسي بتجربته
في رمي الدين جانباً وعزله عن الحياة، وعن هذا يقول أحدهم تحت عنوان (درس
النهضة الأوربية) وهكذا نستخلص من استيعاب درس النهضة وموقفها من التراث
حقيقتين على أعظم جانب من الأهمية:
الأولى: هي أن من الممكن أن تقوم نهضة علمية فكرية رفيعة المستوى في
مراحلها الأولى على أساس الرفض الحاسم للتراث، وذلك حين يكون هناك انقطاع
في التراث يمنع من استمراره في خط متصل حتى الحاضر، وعندئذ لابد أن ترفع
النهضة شعار (البدء من جديد) كعلامة على تحدي التراث.
والثانية: هي أن التطور والتقدم المستمرين في المعرفة يساعدان على
الوصول إلى نظرة تاريخية إلى التراث يختفي فيها التناقض بين تمجيده والاعتراف
بتخلفه [2] .
ب - ادعاء علمانية الإسلام، وأنه لا تناقض بين الإسلام والعلمانية! ؛ لأن
الإسلام دين فرد لا دولة! ويستدل هؤلاء بكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، وكتاب (الديمقراطية أبداً) لخالد محمد خالد وخير مثال لهذا الادعاء كتاب (العلمانية والدولة الدينية) لشبلي العيسمي.
ج - ادعاء عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وأنها نزلت في وقت
معين، وأنها لابد أن تتطور لتوافق النمط الاجتماعي الجديد، ولو كان في هذا
تجاوز لأحكام ثابتة غير اجتهادية؛ لأن المصلحة مقدمة على النص عندهم! !
وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون فردياً بالدين وشعائره! وإن كان معظمهم لا يؤديها! !
ويستدلون بأقوال هي إما لمنحرفين كمحمد أحمد خلف الله، وعلي عبد الرازق أو
أقوال شاذة لبعض القدماء كقول نجم الدين الطوفي: (إن المصلحة مقدمة على
النص) ! فتجد هذا النص متكرراً في كتبهم ومقالاتهم [3] ، ولم ينقل أحدهم القاعدة ...
المشهورة (لا اجتهاد مع النص) ولم ينقل أحدهم قول أئمة الإسلام فيمن يحدد ...
المصلحة! !
د- التركيز على قضية المرأة وأنها مهانة في الإسلام، وضرب الأمثلة
والإطناب في ذلك إلى حد زعم وادعاء اللعب على المرأة في الشريعة الإسلامية! !
حتى أن فؤاد زكريا ليقول - وبأسلوب مموه - (لو لم تكن المسألة في حقيقتها لعبة
بارعة أتقنها الرجل لكي يخدر المرأة ويحقق بها مصالحه لاتجهت دعواته إلى أن
يتحمل هو جزءاً من العبء على الأقل.. الخ) وكأن الشريعة وضعها رجل وليست
شرعاً سماوياً! .
هـ - جعْل الثورة الإيرانية الشيعية هي المثال لكل حكم إسلامي، وصحوة
إسلامية، بل إنهم يرددون في كتاباتهم مزاعم تصف العمل للإسلام، والدعوة للعودة
إليه، والتمسك به بالسعي إلى إقامة طهران أخرى! ! ؛ وهم بهذا يريدون أن
يخوفوا الشعوب من الصحوة الإسلامية، ويحاولوا الصد عن دين الله، بل إن
أحدهم قاس كل دولة إسلامية على الثورة الإيرانية بالنسبة للنص في الدستور على
مذهب معين فقال: (وقياساً على هذا المنطق فإن الدولة الإسلامية في الوطن العربي يجب أن تعتمد على الأساس المذهبي، ولا يخفى ما في ذلك من خطر وخطورة على إمكانية قيامها من جهة وعلى مضمون الوحدة والتماسك بين أبناء الدولة الإسلامية المنشودة من جهة ثانية) [4] وكأنه حريص على وحدة أي دولة إسلامية!
و نقد الصحوة الإسلامية ومظاهرها، والسخرية منها والتعرض بالنقد اللاذع
لرموزها من العلماء والدعاة وكل ذلك - كما أسلفنا - محاولة لإجهاض هذه الصحوة
أو بث الوهن فيها، وتفريق الناس من حولها ولكنهم خابوا وخسروا.
2- الطرح المموه:
وأهل هذا الأسلوب غاية في الحذر والمكر، فهم يدَّعون الإسلام، ويتباكون
على حال المسلمين، حتى يلتبس أمرهم على طالب الحق، فلا يستطيع تمييزهم،
ولكنهم يعرفون بصدورهم عن آراء الشواذ فيما يتعلق بالشريعة وعدم رجوعهم إلى
الحق ولو أقيمت عليهم الحجة، وهم في الغالب لا ينكشفون إلا في حال فرح غامر
بانتشار المنكر أو استياء شديد عند حصول نصر للإسلام، ففي هذه الحال يصدر
منهم ما ينبىء بما يخفون وبهذا يُتبيَّن انتماؤهم ومنهجهم.
وغالب من يسلك هذا الطريق الملتوي يعيش في بلد ترتفع فيه راية الدين؛
فلا يمكن له التصريح بمنهجه، خشية من العقوبة الرسمية، أو خشية العقوبة
الشعبية، كرفض الشعوب له وسقوط مصداقيته. ومن مرتكزات هذا الطرح ما يلي:
أ- الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، والإلحاح على ذلك، وحشد النصوص
والنقول الشاهدة على ذلك، ثم تمتد هذه الدعوة إلى الاجتهاد في ثوابت الدين،
وتمتد إلى تجديد أحكام مجمع عليها وإلى الحث على تجاوز الإنتاج الفكري والفقهي
الإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً، والرجوع إلى الكتاب والسنة بشكل مجرد،
ورفض أية وصاية - على حد زعمهم - يفرضها ذلك الإنتاج، وعدم الاعتراف
بكثير من شروط الاجتهاد التي وضعها السلف!
وقد تورط في مثل هذه القضايا بعض الكُتاب مثل فهمي هويدي في كثير من
كتاباته وخاصة ما كتبه في فصل (وثنيون أيضاً عبَدة النصوص والطقوس) في ...
كتاب (القرآن والسلطان) . والدكتور محمد عمارة في كتاب (الإسلام والعروبة
والعلمانية) ، وفي كثير من كتاباته المعاصرة، وآخرين من أمثالهم.
إن الدعوة إلى الاجتهاد في أصلها صحيحة، ولكن الاجتهاد له ضوابطه
وشروطه التي فصّل فيها علماء الأمة القول، وبينوا أن المجتهد لابد له من الآلة،
وهي علوم الشريعة، وأنه لابد - لكي يكون مجتهداً معذوراً - أن يبذل الوسع،
ويخلص النية، وإلا كان كمن اجتهد في القرآن برأيه، فأصاب ولكنه مخطئ؛ لأنه
اجتهد بغير علم، ويتناسى أصحاب هذه الدعاوى أقوال الفقهاء والعلماء في التحذير
من القول على الله بغير علم [5] .
ب - ادعاء: أن المهم هو أساس الإسلام، ورسالته المهمة في إصلاح
النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وأن هذا أهم من تطبيق الشريعة، وإقامة
الحدود، والجهاد وغيرها مما يؤذي الحس العلماني المرهف! ! الذي يرضى
بالشرائع الغربية، والقوانين الوضعية التطبيقية، ولا يهتم إلا قليلاً بنقل جدية
الحضارة الغربية في العلم المادي، وهذا واضح في الجهود التي تبذلها الحكومات
العلمانية في محاربة الدين، وتغريب القوانين، بينما لم يستطع أي من تلك الأنظمة
التقدم تقنياً ومادياً كما تقدم في مجال التغريب!
ويحرص العلمانيون على احتقار المظاهر الإسلامية، لأنها هي سمة
المسلمين، وبها يعرف المسلم من غيره في عصور ظهور الإسلام، ولكن إذا فقدت هذه المظاهر أهميتها أصبح التمييز بين المسلم وغيره أصعب، وهذه الإشكالية صحيحة أيضاً بالنسبة للعبادات والشعائر العامة، وفي مثل هذه الأحوال يمكن للعلمانيين التحرك بحرية داخل المجتمع الإسلامي.
ج - دعوى الحرص على الوحدة وعدم التفرق: هذه الدعوى قديمة ومتجددة
لدى العلمانيين، فهم يرفعون هذا الشعار في كل مكان، ويرفضون التمسك بالدين -
وبالذات في حكم المجتمع - لأنه - على حد ما يزعمون ويفترون - يفرق المجتمع، ويؤجج النزعة الطائفية، وقد قال هذه الدعوى كثير من العلمانيين، بل يذهب
العلمانيون في تنظيرهم إلى وجوب تطبيق العلمانية لتحقيق ما يسمى بالوحدة
الوطنية! وهذا أحدهم يقول عن العلمانية: (وتلغي تنظيم المجتمع على أساس
الطوائف وهي إذ تلغي الطائفة - كوسيط بين الفرد والدولة - فإنها توفر أساساً
ضرورياً للديمقراطية، وتوحيد المجتمع في إطار عقلاني لا يمكن أن يتحقق في
ظل الانقسام الطائفي) [6] .
ويقول: (العلمانية هي الطريق الوحيد لتحقيق وحدة المجتمع، وإلغاء الانقسامات العامودية، مثل العشائرية، والعرفية، والقطرية، إلى جانب
الطائفية) [7] .
ولست أدري هل غفل هؤلاء عن الدولة الإسلامية المترامية الأطراف -
والتي استمرت لمدة تقرب من الأربعة عشر قرناً - وعاش في ظلها غير المسلمين
أحسن من عيشتهم في ظل دياناتهم، مع أن الصليبيين حينما احتلوا الأندلس لم يبقوا
فيها مسلماً واحداً ظاهراً إسلامه على عكس وضع كل الطوائف في الدولة المسلمة،
بل إن اليهود استمروا تحت حكم هذه الدولة الإسلامية على دينهم طوال هذه الفترة.
د- القول بتغير الفتوى بتغير الزمان: فالعلمانيون يذكرون هذه القاعدة في
أكثر كتاباتهم، ويلفون حولها ويدورون، ويقيمون الحجج لها، وينقلون النصوص، ويحشدون أقوال السلف على صحتها وأهميتها، وهذه قاعدة صحيحة لا غبار
عليها، وقد بحثها علماء الإسلام بحثاً دقيقاً وأصّلوها تأصيلاً شرعياً، ولم تحتجْ
الأمة إلى العلمانيين كي يذكروها بها، ويفردوا الصفحات في كتبهم لمناقشتها،
ولكن من يناقش وهو معظِّم لنصوص الشريعة ومحترم لها، غير من يناقش لكي
يسقط بعض أحكام الشريعة، ولهذا لم يورد العلمانيون أن هذه الفتاوى التي تتغير
بتغير الزمان والمكان إنما هي الفتاوى الاجتهادية في أحكام المعاملات، أما العبادات
وأحكام الأسرة والمواريث فهي ثابتة لا تتغير (ونص هذه القاعدة عام في ظاهره،
فالتغير في الظاهر شامل للأحكام النصية وغيرها، ولكن هذا العموم ليس مقصوداً؛
لأنه اتفقت كلمة الفقهاء على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس إنما
هي الأحكام الاجتهادية فقط، المبنية على المصلحة، أو على القياس أو على
العرف، أو على العادة، وعلى ذلك فالأحكام النصية ثابتة لا تقبل التغيير، ولا
تدخل تحت هذه القاعدة وقد رأى بعضهم أن يكون نص القاعدة) لا يُنكر تغير
الأحكام الاجتهادية بتغير الزمان (دفعاً لهذا اللبس وهذا قيد حسن) [8] ، وعموماً
ففتاوى علمائنا شاهدة على تطبيق هذه القاعدة بدون أن يلفت العلمانيون انتباههم
إليها.
__________
(1) بل إن بعض الاحزاب أصدرت أوامر إلى بعض مفكريها بأن يطرحوا أنفسهم من جديد بشكل إسلامي.
(2) فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، ص39-40.
(3) انظر: العلمانية والدولة الدينية لشبلي العيسمي، ص10، وص180 ومراجع أخرى، وكثيراً ما تُذكر هذه القاعدة في كتب العلمانيين وأشباه العلمانيين، ورداً على هذه الشبهة يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " أحمد بن حنبل "، ص359 أن هذا الرأي " رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية "، ويقول في صفحة 363 عن الطوفي واتهامه بالتشيع " إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هو أسلوب شيعي " نقلاً عن مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد.
(4) العلمانية والدولة الدينية، شبلي العيسمي، ص140.
(5) راجع فصول الاجتهاد وأحكامه في كتب أصول الفقه، وكتاب إعلام الموقعين، لابن القيم، حول ضوابط الاجتهاد ومجالاته وشروطه.
(6) مجلة " فكر "، فبراير عام 85م، مقال مفهوم العلمانية، ص71، بقلم فضل شلق.
(7) مجلة " فكر "، فبراير عام 85م، مقال مفهوم العلمانية، ص74، بقلم فضل شلق.
(8) الوجيز في إيضاح قواعد اللغة الكلية، د محمد صدقي البورنو، ص 254، وانظر في تبيين مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان رسالة " الاجتهاد " للشيخ صالح الفوزان، وانظرها في مواضعها في كتب أصول الفقه والقواعد الفقهية.(62/22)
حُسن السؤال.. نصف العلم
سعود بن عيد الجربوعي
روى الإمام البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات
ووأد البنات، ومنعاً وهات: وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة
المال» [1] .
هذا الحديث الشريف شامل لبيان جمل مهمة عن المحرمات، والمكروهات
التي يجب على المرء المسلم أن يتجنبها، ويتحتم عليه أن يباعد نفسه عنها، وأن
يحذر من مقارفتها أشد الحذر. أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وكثرة السؤال» .. فقد قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند شرحه لهذا الحديث ما نصه: (وقد ثبت عن جمع من السلف كراهته تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو
يندر جداً، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع، والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه
من الخطأ) [2] . فالتنطع في السؤال وتكلفه، والسؤال عن الأغلوطات، والأمور
المشكلات، وما ليس للمرء حاجة فيه من الأمور - أمر منهي عنه، ومحذر منه لما
فيه من حصول الزلل والغلط، وقد روي عن الحسن البصري قوله: (شرار عباد
الله ينتقون شرار المسائل يُعَمّون بها عباد الله) ، كما روي عن مالك قوله: (قال ...
رجل (للشعبي) : إني خبأت لك مسائل. فقال: خبّئها لإبليس حتى تلقاه، فتسأله
عنها) [3] ، وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما يدل على أن الصحابة ... - رضوان الله تعالى عليهم - ما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلهن في القرآن، وأنهم ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم [4] . ومراده بقوله: (ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة) ، أي: المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيَّن لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى كما بينه ابن القيم - رحمه الله -[5] .
يقول سيد قطب - رحمه الله - عند تفسيره لقوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] [المائدة: 101] : (لقد جاء هذا
القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشير إلى شريعة فحسب، ولكن كذلك ليبري
أمة وينشئ مجتمعاً وهو هنا يعلمهم آداب السؤال وحدود البحث، ومنهج المعرفة.
وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة، ويخبر بالغيب، فمن الأدب
أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة، أو إجمالها.. لا ليشددوا على أنفسهم
بتنصيص النصوص، والجري وراء الاحتمالات والفروض.. [6] ، ولكن طائفة
من الناس لا يدركون هذا المعنى، فيقع منهم شيء من التنطع والتكلف. إما
للإغراب، أو التشكيك أو إرادة الامتحان أو الاستهزاء، ومع ذلك كانوا يقابلون من
العلماء بحسن الرد، فيُلجمونهم أشد الإلجام، ويُسكتونهم أيما إسكات، بردود تظهر
فيها الحكمة، وحسن التخلص مع التربية والتأديب، ومن ذلك: ما رواه (اللالكائي)
بسنده عن (جعفر بن عبد الله) قال: (جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد
الله: [الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى] [طه: 5] ، فكيف استوى؟ قال: فما رأيت
مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء - يعني العرق - قال:
وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه. قال: فسُرِّي عن (مالك) فقال:
(الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال
عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) . فأمر به فأُخرج) [7] .
وروى (القاضي عياض) في: (ترتيب المدارك) [8] : قال حبيب: كنا
جلوساً عند (زياد) [9] ، فأتاه كتاب من بعض الملوك، فمد مدة، فكتب فيه، ثم
طبع الكتاب، ونفذ به مع الرسول. فقال زياد: ألا تدرون عما سأل صاحب هذا
الكتاب؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة: أمن ذهب، أم من وَرِق؟
فكتبت إليه: حدثنا مالك عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه» ، وسترد فتعْلَم.
وردت عبارات كثيرة عن الأئمة تدل على كراهية السؤال عما لا ينفع السائل، فمن ذلك ما روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: (سألني رجل مرة عن ...
(يأجوج ومأجوج) : أمسلمون؟ فقلت له: أحكمتَ العلم حتى تسأل عن ...
ذا؟) [10] .. هذا من جانب ومن جانب آخر نجد بعض الناس لا يبالون بما يفعلون، ولا يسألون عما يجهلون من أحكام دينهم وأمور دنياهم، فنراهم يتخبطون في مستنقعات الردى، وينزلقون في مزالق الذنب والمعصية، بسبب البعد عن شريعة الله - سبحانه وتعالى - وإغفال السؤال عن حكم الله، وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم- في الأعمال قبل القيام بها، مما يؤدي إلى كثرة وقوع الحوادث المخالفة، التي لا أصل لها في الكتاب والسنة.
يقول ابن رجب - رحمه الله -: (واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا
أصل لها في الكتاب والسنة، إنما هن من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو أن من أراد أن يعمل عملاً سأل عما شرعه الله
- تعالى - في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه: وقعت الحوادث
مقيدة بالكتاب والسنة.
وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما
شرعه الله، وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة لبعدها
عنها [11] ، لذا وجب على المرء المسلم أن يتورع عن السؤال الذي لا حاجة له به ولا نفع، وأن يهتم بالسؤال عن الأمور النافعة التي يقوم بحسن القيام بها أَوَد أعماله، وأقواله وأحواله، وما يؤدي إلى معرفة ما يجب عليه من أمور عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، مع المحافظة على لزوم الحدود الشرعية، والآداب العلمية عند السؤال، وليعلم أن العلم سؤال وجواب، وأن حسن السؤال نصف العلم) .
__________
(1) انظر: صحيح البخاري (كتاب: الأدب) ، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (8/5) ، ط المنيرية.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (10/421) ، ط دار الريان، المكتبة السلفية.
(3) انظر هذين الأثرين في كتاب: " الآداب الشرعية والمنح المرعية " لابن مفلح الحنبلي (2/82) ، ط دار العلم للجميع، سنة1972م.
(4) انظر نص كلامه في (سنن الدارِمي) (1/63) ، باب (كراهية الفُتيا) ، ط دار الريان للتراث.
(5) وذلك في كتابه القيم: " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (1/77) ، ط دار الفكر عام 1374هـ، هذا، وقد ذكر - رحمه الله - في آخر كتابه المشار إليه فصلاً ذكر فيه عدداً كبيرًا من المسائل التي سُئل عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفتى فيها، وقال في أوله: " " فصل " ولنختم الكتاب بذكر فصول يسير قدرها، عظيم أمرها، من فتاوى إمام المفتين، ورسول رب العالمين، تكون روحاً لهذا الكتاب، ورقماً على جلة هذا التأليف " ثم سرد ذلك فجاء في زهاء 152 صفحة من الكتاب.
(6) انظر: في ظلال القرآن، 2/986، ط دار العلم، ودار الشروق، الطبعة الثانية عشرة، سنة 1406هـ.
(7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي (8/398) نشر دار طيبة (بالرياض) قال المحقق (أحمد سعد حمدان) : قال ابن تيمية في الفتاوى (5/365) : " ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك ".
(8) 3/120، ط المغربية.
(9) هو: زياد بن عبد الرحمن، أحد تلاميذ الإمام (مالك) ، وهو أول مَن أدخل إلى الأندلس (موطأ مالك) متفقهاً بالسماع منه، ثم تلاه (يحيى بن يحيى) انظر: (ترتيب المدارك) ، 3/116 وما بعدها.
(10) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي، 2/76.
(11) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، ص94، عند شرحه للحديث التاسع.(62/31)
موسى بين يدي الخضِر
(عليهما السلام)
دروس في أدب الطلب
خالد بن صالح السيف
ربما كانت الكتابة عن العلم الشرعي - من حيث كونه ضرورة لاستقامة حياة
الأمة بمجموعها وآحادها - أمراً مكروراً بَلْهَ مما يستظهر حفظاً من لدن صغار
طلاب العلم قبل كبارهم، وإن كان مثل هذا التكرار يحمد ويؤكد عليه إلا أن محاولة
جعل هذا المحفوظ (العلم الشرعي) واقعاً يعيشه المتعلم في شتى تصرفاته، آكد في بذل الوسع لتحقيقه، حيث إن مقتضى العلم العمل، والنصوص من صريح القرآن وصحيح السنة متضافرة في هذا الباب، أما الآثار التي تواترت عن سلف هذه الأمة فهي من الاشتهار بمكان. فقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: ... (لا يغرركم من قرأ القرآن ولكن انظروا إلى مَن يعمل به) ، وقال مالك بن ... دينار - رحمه الله -: (تلقى الرجل ما يلحن حرفاً وعمله لحن كله) ! . كما أن العلماء عُنوا بهذا عناية فائقة سواء بإفراد مصنَّف مستقل كالخطيب البغدادي - رحمه الله - في كتابه (اقتضاء العلم العمل) . أو بتضمين الكتاب باباً كما هو الحال عند ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) حيث عقد: (باب جامع القول في العمل بالعلم) .
أو بتناوله مبثوثاً في تضاعيف الكتاب كصنعة ابن رجب في كتابه (فضل علم ...
السلف على علم الخلف) وصنعة ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) وغيرهم ...
كثير.
وقبل تجاوز هذه التقدمة دعونا نتأمل قراءة ما خطّه ابن جماعة في هذا الشأن
حيث كتب: (واعلم أن جميع ما ذُكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق ...
العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم والزلفى لديه في
جنات النعيم، لا مَن طلبه لسوء نية أو خبث طويَّة أو لأغراض دنيوية من جاه أو
مال أو مكاثرة في الأتباع والطلب) [1] .
وبعد: فإن كل الذي سأتناوله في هذه المقالة لا يعدو أن يكون جزءاً من
مفردات العلم الشرعي وطلبه إذ الحاجة إليه ملحة في أيامنا هذه حيث (الجُثُوّ على
الركب.. ومجالسة الأشياخ) ظاهرة تستدعي أُنسنا واحتفالنا ومن قبل الاطمئنان
على مسيرة هذه الصحوة المباركة وهي آخذة بهذا المسلك الذي يفضي بها إلى
استقامة في المنهج، مع رسوخه في ثوابته، حيث مصدرية التلقي -الكتاب
والسنة-وسلامة الاستدلال (وفق فهم السلف) .
فالجزئية التي سأجيء عليها هي جملة من آداب الطلب قصرتها على ما كان
بين موسى والخضر -عليهما السلام - في القصة الشهيرة التي جاءت في سورة
الكهف، وحديث أُبي بن كعب الطويل بأطرافه [2] ، ولم أرد استيفاء الآداب عامة؛ فذلك له مفرداته في التأليف وقد كُهفينا المؤونة [3] .
لماذا أدب الطلب؟
أجمل الإجابة عن هذا السؤال المشروع الشيخ بكر أبو زيد بالقول: بأن
الآداب (تهذب الطالب، وتسلك به الجادة في آداب الطلب وحمْل العلم وأدبه مع
نفسه، ومع مدرّسه، ودرسه وزميله، وكتابه وثمرة علمه، وهكذا في مراحل
حياته. وإن غاب هذا الأدب في مراحل حياة الطالب كلها تكون نواقضها
مجموعة آفات، فإذا فات أدب منها اقترف المفرط آفة من آفاته فمقل ومستكثر،
وكما أن هذه الآداب درجات صاعدة إلى السنة فالوجوب، فنواقضها دركات هابطة
إلى الكراهة فالتحريم [4] ) وهكذا ندرك الأسباب التي دفعت علماء الأمة من السلف
إلى الاعتناء بشأن أدب الطلب في مقدمات كتبهم - فضلاً عما أفرد - وتأكيدهم على
ذلك بفواتح دروسهم وما خبر تخصيصهم لدروس مستقلة في هذا يستهلون بها
حلقاتهم بأمر خفي.
لست أدري.. أتقوم قائمة لعلم بتجرد طلابه من أدب الطلب؟ أم ثمة علم نافع
لا يورث أدباً! ! والإجابة عن كلا التساؤلين بالنفي.
فللعلم عند أهله صيانة وقد روى الخطيب - رحمه الله تعالى - بسنده عن
حمدان بن الأصبهاني قال: (كنت عند شريك، فأتاه بعض ولد المهدي فاستند إلى
الحائط وسأل عن حديث، فلم يلتفت إليه، فأعاد عليه، فلم يلتفت إليه. فقال:
كأنك تستخف بأولاد الخلافة؟ ، قال: لا، ولكن العلم أزيد عند أهله من أن
يضيعوه. قال: فجثا على ركبتيه، ثم سأل، فقال: شريك: هكذا يُطلب
العلم) [5] .
للعلم رحلة ومجاهدة:
لم تكن رحلة موسى - عليه السلام - إلا أثراً لما كان منه هو، إذ إنه كان في
ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى:
لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله
له الحوت آية،.. هذا عند البخاري وعند مسلم [6] من وجه آخر عن ابن إسحاق
بلفظ: (ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً أو أعلم مني) ، فمجيء هذه الرحلة رغبة
في الاستزادة من العلم وحثّاً على التواضع وحرصاً على طلب العلم (وليس قول
موسى - عليه السلام -: أنا أعلم كقول آحاد الناس مثل ذلك ولا نتيجة قوله كنتيجة
قولهم فإن نتيجة قولهم العُجب والكبر، ونتيجة قوله المزيد من العلم والحث على
التواضع، والحرص على طلب العلم [7] كما أنها - الرحلة - وحي أوحاه الله
إليه من بعد أن عتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من
عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك) [8] فالرحلة في مجملها استجابة لأمر الله -
تعالى - وإيقافاً لموسى - عليه السلام - على ما لم يقف عليه من قبل مع ما ذكر
سلفاً من الاستزادة من العلم والحث على التواضع والحرص على الطلب إضافة إلى
جملة الآداب التي أصبحت هدياً لمن سلك فجاج العلم أو سمْتاً لهم.
لقد جاءت الرحلات في طلب العلم اقتفاءً لأثر موسى في رحلته التي خلدها
القرآن الكريم، واستتبعتها السنة مسلكاً شرعياً، وأثر هذا باقٍ على وجه أخص عند
سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم - بمجرد تصفحك لكتاب الخطيب البغدادي
(الرحلة في طالب الحديث) [9] تظفر بعدد من الرحلات تبين علو الهمة في ...
استسهال وعورة الجادة وتكبد مشاق وعثاء السفر، وائتلاف الغربة. كل ذلك
التماساً للعلم ورغبة في أن يسهل الله به طريقاً إلى الجنة وفي هذا المبتغى ودونه
خرط القتَاد.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (ما أنزلت آية إلا وأنا أعلم
فيما أنزلت ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل والمطايا
لأتيته) [10] .
ومن أشهر الرحلات رحلة جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - رواها مسلم
في كتاب الجنة، (ج4، رقم الحديث 56) . ورحلة أبي أيوب الأنصاري - رضي
الله عنه - رواها مسلم في كتاب البر، (ج4، رقم الحديث 58) . وكلاهما في
رحلتيهما لسماع حديث واحد.
وثمة آثار عند سلف هذه الأمة جاءت لتأكيد أمر الرحلة في طلب العلم عامة
والحديث خاصة تجدها مبسوطة في سِفْر الخطيب البغدادي (الرحلة في طلب
الحديث) وانظرها عند ابن الصلاح في علوم الحديث، وعند العراقي في شرح ...
ألفيته، وأيضاً عند السيوطي في التدريب.
الخطيب البغدادي.. ومجمل الآداب:
نبدأ أولاً في (عملية جمعنا) للآداب التي نستفيدها من قصة موسى والخضر ...
- عليهما السلام - بالخطيب وقد أجملها بقوله: (قال بعض أهل العلم، إن فيما ...
عاناه موسى من الدأب والسفر والصبر عليه من التواضع والخضوع للخضر، بعد
معاناة قصده، مع محل موسى من الله وموضعه من كرامته وشرف نبوته -دلالة
على ارتفاع قدر العلم، وعلو منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يُلتمس منه ويؤخذ
عنه ولو ارتفع عن التواضع لمخلوق أحد بارتفاع درجة وسمو منزلة - لسبق إلى
ذلك موسى، فلما أظهر الجد والاجتهاد والانزعاج عن العطن، والحرص على
الاستفادة مع الاعتراف بالحاجة إلى أن يصل من العلم ما هو غائب عنه دل على
أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال ولا يكبر عنها) [11] .
السعدي.. ومفصّل الآداب:
ويجئ من بعد الحافظ البغدادي العلاَّمة السعدي ليفصل هذا المجمل ويزيد في
استقراء الفوائد والأحكام والقواعد، أقتصر منها على ما يخص هذه المقالة بتصرف
يسير [12] :
1 - فضيلة العلم والرحلة في طلبه وأنه أهم الأمور: رحل موسى - عليه
السلام - مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل
لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.
2- البدء بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك،
والاشتغال بالتعليم دون تزود من العلم والجمع بين الأمرين أكمل.
3- أن المسافر لطلب العلم أو جهاده أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار
بمطلبه وأين يريد فإنه أكمل من كتمه؛ لأن في إظهاره فوائد من الاستعداد له،
واتخاذ عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة كما
قال موسى: [لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً] [الكهف: 60] .
4 - أن المعونة تتنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق
لأمر الله يعاني ما لا يعانيه غيره لقوله: [لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً]
[الكهف: 62] .
والإشارة إلى السفر المجاوز لمجمع البحرين، أما الأول فلم يشتكِ منه التعب
- مع طوله - لأنه هو السفر على الحقيقة. وأما الأخير فالظاهر أنه بعض يوم؛
لأنها فقدا الحوت حين آويا إلى الصخرة.
5- التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب لقول موسى - عليه
السلام -: [هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 66] فأخرج
الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، أي: هل تأذن في ذلك أم لا؟ وإقراره بأنه
يتعلم منه بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر الذين لا يُظهرون للمعلم افتقارهم إلى
علمه. بل يدَّعون أنهم يتعاونون هم وإياه! ، بل ربما ظن أحدهم أنه يُعلم معلمه،
وهو جاهل جداً، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى علمه من أنفع الأشياء للمتعلمين.
6- أن تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه يكون ممن مهر فيه - وإن
كان دونه في العلم بدرجات كثيرة - فإن موسى - عليه السلام - وهو من أُولي
العزم من المرسلين الذين منحهم الله، وأعطاهم من العلم ما لم يعطِ سواهم؛ فعلى
هذا لا ينبغي للفقيه المحدث - إذا كان قاصراً في عالم النحو أو الصرف، أو
نحوهما من العلوم - أن لا يتعلم ممن مهر وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً.
7- إضافة العلم وغيره من الفضائل لله - تعالى - والإقرار بذلك، وشكر الله
بقوله: [تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ] [الكهف: 66] ، أي مما علّمك الله - تعالى -.
8- أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد
وهداية لطريق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك فإنه من العلم
النافع، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضاراً أو ليس منه فائدة لقوله: [أَن تُعَلِّمَنِ
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 66] .
9- أن مَن ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على
ذلك ليس أهلاً لتلقِّي العلم، فمَن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر
ولازمه أدرك به كل أمر سعى إليه؛ لقول الخضر: [ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ
صَبْراً] [الكهف: 82] .
10- الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف
ما يراد منه وما هو مقصود.
11- أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيعازه للمتعلم أن يترك الابتداء في
السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها فإن المصلحة
تتبع، كما إذا كان فهمه قاصراً، أو نهاه عن السؤال عن دقيق الأشياء التي غيرها
أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالاً لا يتعلق بموضع البحث.
12 - أن الإنسان غير مؤاخذ بنسيان، لا في حق الله ولا في حقوق العباد؛
لقوله: [لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ] [الكهف: 73] .
13- أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو وما
سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشدد عليهم ويرهقهم
فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
14- وفي القصة تبدو القاعدتان الكبيرتان الجليتان التاليتان:
* الأولى: وهي أنه: (يُدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير) وتراعَى
أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حي يفتن أبويه
عن دينهما أعظم شراً منه، وبقاء الغلام من دون قتل، وعصمته وإن كان يظن أنه
خير، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت
هذه القاعدة من الفروع والفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحُم المصالح
والمفاسد كلها داخل في هذا.
* الثانية: وهي أن (عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة
وإزالة المفسدة أنه يجوز - ولو بلا إذن - حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض
مال الغير، كما خرق الخضر السفينة لتعيب فتسلم من غضب الملك الظالم.
15 - استعمال الأدب مع الله - تعالى - في الألفاظ: فإن الخضر أضاف
عيب السفينة إلى نفسه بقوله [فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا] [الكهف: 79] وأما الخير
فأضافه إلى الله - تعالى - لقوله: [فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ويَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ] [الكهف: 82] .
ابن حجر ودقيق الاستنباط:
وننتهي عند الحافظ ابن حجر [13] في دقيق استنباطه لننقل - كما فعلنا مع
سابقيه - عنه بشيء من التصرف من آداب الطلب مع الحرص على تجاوز التكرار:
أولاً: الترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم لأن ما يُغتبط به تحتمل
المشقة فيه، ولأن موسى - عليه الصلاة والسلام - لم يمنعه بلوغه من السيادة
المحل الأعلى من طلب العلم وركوب البحر لأجله.
ثانياً: التنبيه لمن زكّى نفسه أن يسلك مسلك التواضع ولزومه في كل حال.
ثالثاً: أن الأنبياء ومَن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علّمهم الله، إذ لو
كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله كما في: فقال الخضر:
وأنى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى.
رابعاً: وجوب التأني عند الإنكار في المحتملات، فإن الذي فعله الخضر
ليس في شيء مما يناقض الشرع، وإن نقص لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم
عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعاً وعقلاً ولكن مبادرة موسى بالإنكار
بحسب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحاً في رواية أبي إسحق، التي أخرجها مسلم
ولفظه: (فإذا جاء الذي يشرها فوجدها منخرقة تجاوزها فأصلحها. أما قتله الغلام ...
فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان ...
والله أعلم) .
وأخيراً.. [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] [الأنعام: 90] :
وعقب هذه الحصيلة المباركة من الدروس - في أدب الطلب - التي استنبطها
علماؤنا (البغدادي، وابن حجر، والسعدي) - رحمهم الله جميعاً - من قصة موسى - عليه السلام - والتي جاءت في مجموعها مصابيح يستضئ بها أبناء أمتنا على امتداد طريقهم في طلب العلم الشرعي، حيث الأمر في قوله - تعالى - لنبيه - عليه الصلاة والسلام-: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] [الأنعام: 90] ، (وموسى - عليه السلام - منهم فتدخل أمة النبي -صلى الله عليه وسلم - تحت هذا الأمر إلا فيما ثبت نسخه) [14] .
وحسبي من هذه المقالة - التي كنت فيها جامعاً ليس غير - أن تجد هذه
القصة بدروسها المستفيضة عناية من لدن المشتغلين بالعلم الشرعي، وطلابهم
والتأكيد على درسها وتدريسها في حلقة العلم حيث المساجد، وفي المدرجات حيث
المدارس والجامعات.
وإن كنت أذكر في هذا السياق أن ثَم دروساً في أدب الطلب كثيرة - يجمعها
من قبل هدي المصطفى، وما كان من أصحابه بين يديه، وما كان أيضاً من
تابعيهم بين أيديهم وهكذا فيمن جاء من بعدهم استناناً بمسلكهم.
وأخيراً.. فلا ريب أن دروساً لم تزل بعد مكتنزة في ثنايا (قصة موسى مع
الخضر - عليهما السلام -) ولعلنا نعدم من يبدأ من حيث انتهى علماؤنا (فكم ترك ...
الأول للآخر من شيء) .
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم، ص13.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم من (صحيحه) وأخرج أطرافه في مواضع كثيرة منه (انظر: الفتح، 1/263) وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل من (صحيحه) (انظر: شرح النووي 15/135) .
(3) حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ص5، الهامش.
(4) المصدر نفسه، ص4.
(5) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/198.
(6) هامش2.
(7) من كلام لابن المنير نقلاً عن الفتح، 1/265.
(8) انظر: هامش2.
(9) ربما تملَّكك العجب إذا علمت أن الحافظ البغدادي في هذا الكتاب إنما خصه في الرحلة من لدن أهل الحديث لطلب الحديث الواحد، فأي مجلدات سيبلغ هذا الكتاب لو أراد الرحلة في طلب الحديث جملة؟ ! .
(10) البخاري في فضائل القرآن، 6/186، ومسلم في الفضائل 7/148.
(11) الخطيب في الرحلة، ص107.
(12) العلامة السعدي.
(13) فتح الباري، 1/203، 204، 210، 268.
(14) فتح الباري، 1/210.(62/36)
البيان الأدبي
نوافذ الوجع في ديوان
(صراع مع النفس) [*]
بقلم: محمد شلاّل الحناحنة
كيف نحدد الحزن على خارطة المشاعر.. كيف نرنو لسروة الروح ودمنا ... يتصفد حاراً في العروق؟! كيف نهز تفاحة الشعر لنقترب من الأرض، ونؤاخيها ... بدلاً من أن نؤطِّر الصراع معها؟! لِمَ ننزف هذا الشجى فجأة لنقطف وردة؟ أو ...
نؤلب أبجدية النفس لمزيد من صفاء الفكر؟ !
هذا ما فاح عليَّ أثناء قراءتي لديوان (صراع مع النفس) لشاعرنا الدكتور ...
عبد الرحمن صالح العشماوي. هذا الديوان يجعلك تلوّح من بعيد لأزهار الأسئلة،
تنتفض كطائر جريح أمام حسرة الفجائع، إنه الألم المترع بالآهات والعذاب وهو
بعد ذلك غصة تمتطي القلب:
وتلك بعض نفسي ...
في فرحتي وبؤسي ...
تدق من ألحانها ...
لحزنها بجرسِ ...
كتبتها (قصائداً) ...
لتستريح نفسي ...
هذا الحزن الصافي الذي ينشده عبد الرحمن العشماوي لا يرتطم بعبثية
الموقف، ولا يندحر أمام (مازوخية) ، مَرَضية في تعذيب الذات كما تحطمت ...
نفسيات كثير من الشعراء التائهين الضالين بين لُجج الفكر المنحرف المستهلَك،
وهو بعد ذلك لا يروم في حزنه عبر ضبابية تنصهر على مذابح السريالية.
إنه يستدرك التساؤل المرير عن سر صراعه وألمه:
لكنني بشريعتي أحيا على درب اليقين ...
أنا عاشق للقمة الشمَّاء للحبل المتين ...
لكتابي السامي ويكفيني به شرفاً ودينِ ...
أليست هذه الأوبة، أوبة الواثقين المتمسكين بحبل الله المتين، أليس هذا
العشق عشقاً لليقين، عشقاً للمعاني الخالدة، والقيم الإسلامية المثلى.
حقاً، ما كان هذا صراعاً بقدر ما هو مشاعر إسلامية تتوثب، كأن أحلاماً
جميلة واثقة تترعرع، وحنيناً متوقداً لشرفات الفضيلة، وعزماً يؤوب إلى الخلود:
نهوى شباباً شاعريَّ ... الحسِّ موفورَ الحنين
متوقد العزمات ... شرف وذا خلق ودين
ذا يعلو بدين الله في ... صف الرجال الخالدين
إنها الانطلاقة نحو عزيمة صادقة، تتدفق بالأحاسيس الواعدة شمماً وتشهد
لهذا الشمم غايات تفضي إلى غايات خصيبة:
ومشاعر الإيمان تسقي أرض أحلامي الخصيبة ...
فمضيت أدعو أمتي لترد أوطاننا السليبة ...
يا أمتي سِيري فكأس النصر دانية خصيبة ...
أما رموزه فهي شفيفة قريبة قرب الندى لشفاه الورود، وقرب الفكر الإسلامي
لفطرة الإنسان، فيها بساطة متميزة، ويقظة صادقة لجراح دفينة، فتلك شجرة لوز
مخضرة ندية العود، إلا أنه لا يلبث أن يعريها الظمأ والغياب عن ذبول ويباس:
أسقطت أغصانك الخضراء أحداث الدهور ...
وتوارى حسنك المحبوب في ظل العصور ...
لم تعودي بسمة الروض وهيفاء الغدير ...
أين أغصانك ذات الرقص في عز الجذور ...
هكذا استسلمت في يأس فأيقظت شعوري ...
وأسلت الدمعة الحسناء من جفنى الكسير ...
هكذا ذكرتني بالخالق الحي القدير ...
هكذا ينزّ الوجع عبر هذه المعادلة المرة، هذه المعادلة التي صاغها شاعرنا
متوجعاً ومستشرفاً رموزه المغرقة بالأنين، إنه وحدة المصير للكائنات الحية جميعاً
ولكن الإنسان بما منحه هذا الخالق المبدع من تكريم وتقدير هو المعني الأوحد بهذا
المصير، أما بقية المخلوقات فسخرها الرحمن بشكل أو بآخر لهذا الإنسان الذي
كرمه ونعمه! وإن كان الموت نهاية هذا الوجود الدنيوي، وهو مقدمة لما بعده من
حياة أخرى، فما بالنا نتكالب على الحياة الفانية ونعرض عن الحياة الخالدة، أو
ليس هذا ظلماً لأنفسنا، وهل بعد هذا الظلم من ظلم! !
وتمضي القصائد في اقتناص دهشتها من عصارة القلب، ناشرة حسرتها
ولواعجها المؤلمة، إلا أنها أخيراً تركن إلى مجد هذا الدين، وتأوي إلى عالم
الأسرار:
لا تسألي عن ضيق صدري ...
أنا مغرم بخلاص أسري ...
أفضي وايماني قريني ...
والهداية رأس أمري ...
أنا لست إلا مؤمناً ...
بالله في سري وجهري ...
نسمات من الإيمان يعزفها شاعرنا العشماوي، وذكريات حزينة رهيفة يرويها
بعطر دمه، فتتوهج الضلوع ببوح شفيف عبر قصائده، ويوشوش بخواطره الدافئة
أغصان القلوب، وهي تجدف لبث عبيرها الإيحائي من خلال صور شعرية مكثفة
ونابضة بالحياة، يرف مع رفيف طيور الأسى، ويشدد للشمس أوجاعه وآلامه
الحرّى:
فابسمي يا شمس للولهان ...
للقلب الكئيب ...
كل نجم سوف يغفو ...
بين أحضان المغيب ...
__________
(*) صراع مع النفس للشاعر الدكتور عبد الرحمن صالح العشماوي.(62/47)
صرخة ألم في وجه الأمة
فيصل محمد الحجي
ربِي خيولَكِ في بُحْبُحةِ الرغدِ لا ترصديها ليوم الحرب واقتصدي
وارمي سيوفَكِ كي يقتاتَها صدأ الفارسُ الشهمُ للهيجاءِ غير صَدِ [1]
لا تعجبي ف [صلاحُ الدين] مِن غدِنا قد استقال.. لكي نحيا بدون غدِ
ألقى الولاءَ لـ (أرناط) وقال له: جَرِّد حسامَكَ واحْمِ الأمنَ في بلدي
لا لا تلمني.. فإني اليوم منشغلٌ بالجمعِ واللهوِ والأزواجِ والولدِ
كأنَّه ليس من أحفاد مَن وَرَدُوا غُرَّ المعركِ في بدر وفي أُحُدِ
يا أمتي ما أراكِ اليومَ سائرةً على طريق الهدى والخيِر والرَّشدِ
لِمَ ارتختْ ببني الإسلام أربطةٌ ووُثِّقت بذوي الصلبانِ بالعُقَدِ؟
ولم تعد جمعة الإسلام تجمعنا إلا إذا شاء أهلُ السبتِ والأحدِ
فأي عِرْق ٍ إلى الكفار تنسبنا بوش بن قحطان أم متران [2] سِبط عدي [3]
غدا الأذان غريباً في مسامعنا كأنه اليومَ يدعونا إلى الفَنَدِ
كيف اقتدائي؟ وفي المحراب منتصباً (شاميرُ) يقرأُ في تلموده النَّكِدِ؟
ما لي أراكِ إلى الأعماقِ هاويةً؟ يا أمتي فكّري في الأمر واتَّئدِي
فما تقدمتِ إلا للوراءِ.. وما علوتِ إلا لقاع الذل والنَّكَدِ
ما أنتِ والعقمُ يا عرباء في زمن لم تحملي فيه أبطالاً ولم تلدي؟
لاالسمحُ [4] يزحف في وجه الغزاة غداً ولا (الرشيدُ) يردُّ الكيدَ عن بلدي
يُظلني الموت إحساساً فإن سَلِمَتْ ظهري من الطعن لم أسلم من الكَمَدِ
كأن كلَّ هموم الأرض قد جَمعتْ أشواكَها الحُمْرَ والنيرانَ في كبدي
ركعتِ للروم - بعد الفرس - راغمةً لو قمتِ بالسيفِ لم تعني لمضطهدِ
فإن تمخَّض ضِرْعٌ. فاز قيصرهم بالزُّبْد.. وانشغل الأعرابُ بالزَّبَدِ
أجدادُنا الشُّمُّ بالأقدامِ قد وَطِئُوا هامَ الفراعينِ أهلِ العزِّ والعَدَدِ
لأنتِ أعظمُ أهل الأرض قاطبةً لو عدتِ معتزةً بالواحدِ الصمدِ
أظلُّ رغمَ اربدادِ الليل منتظراً فجرَ البشائرِ في أثوابِها الجُدُدِ
ما دام قرآنُ ربي في مؤانستي وسُنةُ المصطفى الغراءُ في خَلَدي
وفتيةٌ قلةٌ في الناس قد نَهَدُوا لكل حربٍ.. وعافوا عيشةَ الرَّغَدِ..
طوفانُ نوحٍ أراح الأرضَ من دنسٍ ونحن طوفانُنا المأمولُ فجر غدِ
__________
(1) الصدي: العطشان.
(2) متران: رئيس وزراء فرنسا.
(3) عدي: بطن من بطون قريش، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) السمح بن مالك الخولاني من قادة الفتح الإسلامي.(62/51)
سراي ايفو.. سراييفو
محمود السيد الدغيم
سراي ايفو سراييفو! ! ...
لقد أسقطت عن كل اللئام - الشُّمِّ - أقنعةً تستر مارقاً جَمَحَ ...
وبانتْ عورةُ القادةْ ...
وبان القبحُ وانفضحَ ...
وسادتْ محفل السادةْ ...
تفاهاتٌ تناستها طلائعُنا، وعافتها ثقافتنا ...
وغلفها ظلامُ الليل عقب الليلِ والليلِ ...
فقد كنا وما زلنا مشاةً نحفر السفحَ الذي جُرِحَ ...
بأقدام الحفاة، الأرضُ تعرفنا ...
ونعرفها إذا سرنا، وفر القائدُ المشبوهُ وانفضحَ ...
وتجهل قادةً قادوا على الخيل، تقاذفهم قوي الموجِ من سيل إلى سيلِ ...
وما اكترثوا بما عانت حرائرنا! ! من الآلام والويلِ ...
لقد صرخت حرائرنا وما سمعوا ...
أصمَّ السادةَ الصممُ، وراودهم على أعراضنا الطمعُ ...
فما سمعوا صراخ الطفل والغادةْ ...
لأن الأمر لا يعني سيادتَهم، ولا يلغي قيادتهم ...
أتلك شمائل السادةْ؟ ؟ أتلك شمائل القادةْ؟ ؟ ...
* * *
سراي ايفو سراييفو ...
سراييفو عروس العصر تُغتصب، وتَهتك عِرضَها النُّوبُ ...
على مرأى دعاة العدلِ، يا إسلام! يا عربُ! ...
يدنِّس عرضها الكروات والصربُ ...
ويقهرها بجامعها بمسجدها صليبي يهودي تزينُ صدره الأنواط والرتبُ ...
وأوربا - بلاد العلم - تغمض عينها قصدا لأن الأمر يعنينا ...
ولا يعني رعاياها ...
لأن الأمر يخدمها ويفرحها، يخدرنا ويوقظها ... وتغدو - بعدما اغتُصبت سراييفو -
عروس المجد حاضرةً بلا إسلام تصبح من سباياها ...
ويصبح شعبها سبياً تقاسمه رعاياها ...
وأرض العُرب والإسلام حاصرها جنود وسائل الإعلامِ ...
والتضليل والتدجيل فانتشرت ضحاياها ...
أماتوا الحس واغتالوا شهامتنا، كما اغتالوا بطولتنا ...
كما اغتالوا كرامتنا، فلا عشنا ولا متنا ...
وخدرنا بريق وسائل الإعلام وانتصرت إرادتهم، فما ضمدت إرادتنا ...
لقد هُزمت قواعدنا - بحرب وسائل الإعلام فانسحبت - كما هُزمت قيادتنا ...
وما قنعت أعادينا بما خسرت قبائلنا ...
بما عانت أراملنا ...
بما ذاق اليتيم الراحل المحزون من ألم ...
بما عاناه مغلوب يقاسي وهو مضطرب ...
فأوربا - بلاد العلم والتصنيع والنقم ...
أمانيها: إذا متنا يعُمّ ربوعها الطربُ ...
إذا أعلامنا طويت، وما خفقت ...
إذا شجعاننا قتلت، وما انتصرت ...
إذا أكبادنا اغتُصبت، وما انتقمت ...
إذا قواتنا خُذلت، وما نُجدت ...
إذا أفكارنا سقطت، وما نهضت ...
إذا أحرارنا قُمعت، وما قَمعتْ ...
وعم الذل وانتشرا، ومزق شرقنا الغربُ ...
فروما سوف تغتبطُ ...
وكي نحيا شروط الذل تشترطُ ...
لها في ذلنا أَربُ ...
ولو أخفت نواياها ...
ومهما صحبُها كذبوا ...
لكي يخفوا خفاياها ...
فقد كانت وما زالت كأفعى حين تتقلبُ ...
تصب السم في أنهار عالمنا ...
لكى تقضي على الإسلام والسلمِ ...
إذا أبطالنا هزموا ...
تؤجَّج ضدنا الحربُ ...
وتفقأ كل أعيننا، ويبدأ سلبت جهراً بقانون أقر بنوده الغربُ ...
وتبقى خلفنا قصص حكايات يرددها هدير الموج والشطُّ ...
فيحيى سخطَنا سخطُ ...
وتشرب من دم الأطفال رومانُ ...
وتنشد جوقة الرومان ملحمة: بروما الآن نغتبطُ ...
لقد قُتلت سراييفو وعنها القادة الأنذال قد هربوا ...
صلبناها كصلب القدس والأحزاب تحتزبُ ...
كذا: فليُصْلَبِ الصلبُ ...(62/54)
المسلمون والعالم
كشمير:
أليس لهذا الليل من آخر؟ !
د. يوسف الصغير
الموقع والسكان:
تقع ولايتا (جامو) و (كشمير) شمال شبه القارة الهندية الباكستانية، ... ...
وحدودها متاخمة لخمس دول وتحدها باكستان من جزء من شمالها الغربي، ومن
غربها، ومن جزء من جنوبها الغربي بطول 700 ميل تقريباً، وتحدها الصين في
جزء كبير من شمالها ومن شرقها، ومن جزء صغير من جنوبها الشرقي وتحدها
الهند في جزء من جنوبها بطول 200 ميل تقريباً، وتبلغ مساحتها 84471 ميلاً
مربعاً، وهي بلاد جبلية فيها سهلان أو واديان هما وادي جامو، ووادي كشمير،
وهي طيبة المناخ، كثيرة الأنهار والغابات، وتنبع منها الأنهار التي تروي باكستان، وهي أنهار السند وجيلم وجناب، وكان الاسم العربي القديم لها هو: (سقف الدنيا) ويتجاوز عدد سكانها (12) مليون نسمة، 85% منهم مسلمون، وهم أغلبية في ...
جميع المناطق حيث تبلغ نسبتهم 90% في وادي كشمير أما في منطقة جاجيت
فتبلغ نسبتهم 100%، وأشهر القبائل: الشيخ، والسيد، والمغول، والباتان،
وهي إسلامية، أما قبائل الهندوك فأشهرها: بانديت، وريشي، وقبائل البانديت
متعصبون للبرهمية، ومنهم رئيس الوزراء الهندي السابق جواهر لال نهرو،
ولغتهم خاصة بهم، لا تشبه اللغات الهندية، وهي قريبة من الفارسية.
***
دخول الإسلام:
على الرغم من دخول المسلمين الهند، وحكمهم إياها فإن دخول الإسلام إلى
كشمير تأخر بسبب مناعتها، ولكن ملكها البوذي (دنجن شا) اعتنق الإسلام على يد أحد الدعاة، وتسمى باسم (صدر الدين) وحكمها الملوك من أبناء كشمير من سنة 1310م حتى سنة 1552م، ثم جاء حكم المغول المسلمين فاستمر حتى سنة 1752 م، ثم حكمها الولاة الذين يعيَّنون من أفغانستان، ولما ضعف الحكم الإسلامي في الهند واتسع نفوذ الإنكليز فيها أقام السيخ فيها دولتهم في البنجاب وغزوا كشمير، وأخضعوها، واستمر حكم الشيخ لكشمير (27) عاماً من سنة 1819 م حتى سنة 1846م، وكان عهدهم أسود حيث ساموا المسلمين الخسف وأذلوهم، وارتكبوا أبشع صور الظلم والجور، وما إن حل العام 1846م حتى كان الإنكليز قد أحكموا سيطرتهم على الهند، فطردوا الحكام السيخ من هذه الولاية ليبدأ فصل جديد من فصول الظلم والقهر، حيث قام الإنكليز ببيع كشمير مع سكانها لأحد الإقطاعيين من منطقة جامو واسمه (غولاب سنغ) وهو من قبائل الدوجره الهندوسية - بمبلغ سبعة ملايين وخمسمائة ألف نانك شاهي، ولم تتجاوز قيمة الفرد من الشعب سبع روبيات، وكان البيع لمدة 100 سنة، على أن تنتهي في العام 1946م، ويُعرف عقد البيع هذا بمعاهدة (أمرتسار) بين (غلاب سنغ) والحاكم البريطاني (اللورد هادرنغ) ووقع الشعب بأسره فريسة عدة أشخاص من سدنة المعابد، وعبادة الأوثان الذين كانوا يتقلدون جميع المناصب الرئيسية في ... الولاية، وكان المسلمون يجبَرون على القيام بأعمال السخرة، ويدفعون أفدح ... الضرائب، ولم يكن يسمح للمسلمين بحمل السلاح، وكان ذبح البقر ممنوعاً، ولم يكن يسمح للهندوسي أن يعتنق الإسلام إلا إذا تنازل عن كل ما يملك من أرض، وكانت سياسة الحكومة قائمة على التعسف، والظلم وإرهاق الرعية بالضرائب لكي تشغلهم بالبحث عن قوت يومهم فلا يثورون عليها، وفي سنة 1929م بلغت الحالة حداً من السوء دفع أحد كبار وزراء المهراجا إلى الاستقالة، ومغادرة البلاد بعد أن أدلى بالتصريح التالي: (إن دولة جمو وكشمير تعاني الجهل التام والفقر وسوء الحالة الاقمصادية والمعيشية، فأهلها عملياً يسيَّرون كالماشية. هنالك أيضاً عزلة الحكومة عن الشعب، وانعدام الفرص لرفع الظُّلامات للمسؤولين) .
في سنة 1931م حصلت بعض الحوادث التي كان لها أثر كبير في مستقبل
كشمير، فقد قامت إحدى البلديات بهدم أحد المساجد القديمة، فقام المسلمون بمحاولة
إعادة بنائه، فقامت قوات المهراجا بإطلاق النار عليهم، ومنع أحد الأئمة من إلقاء
خطبة الجمعة، ودنس أحد ضباط الأمن الهندوسي القرآن الكريم، وتتالت أحداث
العنف، وتدخلت القوات الإنكليزية لدعم المهراجا، وفي منتصف أكتوبر سنة
1932م برز إلى الوجود (حزب المؤتمر الوطني الإسلامي) الذي عقد أول مؤتمر
برئاسة الشيخ عبد الله، ومشاركة شودري غلام عباسي، وكان التناقض بين
الرجلين واضحاً منذ البداية، فبينما كان الشيخ عبد الله يميل إلى حزب المؤتمر
الهندي برئاسة غاندي، ويصادق نهرو مع أن حزب المؤتمر حزب هندوسي في
الأصل، وإن دخله بعض المسلمين فهو يسعى إلى إخراج الإنكليز من الهند لإقامة
دولة هندوسية، أما شودري فكان يميل إلى جمعية الخلافة (الرابطة الإسلامية) التي
أنشأها محمد علي جناح وذلك بهدف إقامة كيان خاص بالمسلمين [1] ، وفي النهاية
تكوَّن حزبان هما:
الأول: المؤتمر الإسلامي ورئيسه شودري غلام عباسي الذي يعكس أهداف
الرابطة الإسلامية.
الثاني: المؤتمر الوطني ورئيسه الشيخ عبد الله ويأتمر بأوامر حزب المؤتمر
الهندي، وكان شعاره (اخرجوا من كشمير) ويقصد الدوجره، وذلك على غرار ...
شعار حزب المؤتمر الهندي (اخرجوا من الهند) ويقصد بها الإنكليز.
وكان عام 1946م حاسماً؛ حيث انقضت مدة بيع كشمير وكانت الصراعات
على أشدها من أجل تحديد مستقبل الهند، وتم وضع شودري وعبد الله في السجن،
وجاءت أحداث سنة 1947م ليخرجا من السجن، ولكن شودري ذهب إلى الباكستان، والشيخ عبد الله خرج من السجن لينال رئاسة الوزراء في الولاية.
كشمير وتقسيم الهند:
وأخيراً تم الاتفاق على تقسيم المناطق التي يحكمها الإنكليز بصورة مباشرة
بحيث تتبع مناطق الغالبية الإسلامية لدولة باكستان، وقد أصر الهندوس على تقسيم
كل من البنغال، والبنجاب، إلى قسمين قبل الشروع بالتقسيم، ولما وافق محمد
علي جناح أخذت الهند البنغال الغربي، والبنجاب الشرقي وكانت الهند مكونة أيام
الاستعمار من جزئين هما:
الأول: جزء يحكمه الإنكليز حكماً مباشراً.
الثاني: 565 إمارة يحكمها أمراء من المسلمين، أو الهندوس، وكانت تتمتع
بالاستقلال الداخلي، وتحتل هذه المارات 45. 3 % من مساحة مشبه القارة
الهندية.
ضمن الإنكليز حصول الهندوس على أكبر قدر ممكن من المكاسب، حيث تم
تعيين اللورد (مونتباتن) -ابن عم الملك - في منصب نائب الملك في الهند الذي
خطب - في مجلس أمراء الولايات الهندية - بعد إعلان استقلال المستعمرة خطاباً
قال فيه: (للولايات الحرية في الانضمام لأية دولة من الدولتين، ولكنني حين ...
أقول: إن لها حرية الانضمام إلى إحداها أرى لزاماً على نفسي أن أؤكد في الوقت ذاته: أن هناك ضرورات جغرافية لا يجوز أن يُصرف عنها النظر البتة، إذ ليس لكم أن تنؤوا بجانبكم عن حكومة الدولة التي هي جارة لكم، كما ليس لكم أن تخالفوا رغبة الرعايا الذين تتحملون المسؤولية عن فلاحهم وسعادتهم) . وسرعان ما ذابت الإمارات في الهند، وباكستان بدون مشاكل، ما عدا أربع إمارات هي: كيورتهلة، وجوناكدة، وحيدر آباد، وكشمير.
كيورتهلة: هي إمارة صغيرة يحكمها أمير هندوسي، وأغلبية أهلها مسلمون،
ولما كان الأمير يخاف اعتراض المسلمين على رغبته في الانضمام إلى الهند، فقد
شن حملة من القتل والتشريد، حتى لم يبق من يستيطع الاعتراض عليه ثم أعلن
الاندماج في الهند.
جوناكدة: هي إمارة ساحلية صغيرة، تتصل بباكستان عن طريق البحر،
وكان أميرها مسلماً وأكثرية أهلها هندوس، فأعلن انضمامه إلى باكستان، فقامت
القوات الهندية باجتياح الإمارة، وطردت الحاكم المسلم منها.
حيدر آباد: وتقع في هضبة الدكن وسط الهند ونظراً لكبرها، فقد كان لها
وضع خاص؛ لأن عدد سكانها يزيد على العشرين مليوناً، ومساحتها حوالي
350000 كم2، ولغتها الرسمية كانت الأوردية، وكان الأمير المسلم يرغب في
الانضمام إلى باكستان، ولكنه قدَّر صعوبة ذلك، فطلب الاستقلال، فرفضت الهند، فاقترح الاستفتاء، فأعادت الرفض، كما رفضت استفتاء الأمم المتحدة، وقامت
بالهجوم عليها في 14 من أيلول سنة 1948م ثم استولت عليها بعد مقاومة ضئيلة.
كشمير: ذكرنا سابقاً أن الهندوس أصروا على تقسيم البنجاب إلى قسمين،
بحيث يصبح المسلمون أقلية في أحدهما، وهو الشرقي حيث إن غالبية سكانه من
السيخ، والهندوس، وقد قام السيخ بحملة وحشية على المسلمين قتل فيها عشرات
الألوف منهم، وفي النهاية لم يبق للمسلمين وجود في البنجاب الشرقي، أما في
كشمير المجاورة فإن المهراجا قام بتمثيل دورين مختلفين هما:
الأول: عقد المهراجا اتفاقاً مع حكومة باكستان في 15 من آب (أغسطس)
سنة 1947م تقرر فيه إبقاء الوضع كما هو، أي رجوع إمارة كشمير إلى لاهور،
كما كان الأمر في أيام الاحتلال، وظاهر هذا الأمر الاستعداد للانضمام إلى باكستان.
الثاني: أمر بنزع سلاح المسلمين، وتبع ذلك نزع سلاح المسلمين العاملين
في الجيش والشرطة وسمح بتسليح المنظمات الهندوسية، وكانت تلك بداية لعملية
الإبادة التي تم فيها قتل الألوف من المسلمين، ونهبت أموالهم وممتلكاتهم،
واختطفت بناتهم، وطرد الناجون إلى باكستان، فاشتعلت الثورة في المناطق النائية، ثم انتشرت في كافة أنحاء (جامو) وكشمير، وكانت أخبار الفظائع تصل إلى
أسماع المسلمين من رجال قبائل الباتان، فسارعوا إلى نجدة إخوانهم، فعبروا
الحدود وأقام السردار إبراهيم حكومة حرة في المناطق المحررة في 4 من أكتوبر
(تشرين الأول) سنة 1947م وجعل عاصمتها (مظفر آباد) وتمكن المسلمون من ...
إلحاق الهزيمة بجيش (الدوجره) حتى اقتربوا من (سري ناجار) ففر منها ...
المهراجا ورئيس وزرائه الشيخ عبد الله وطلب المعونة من الهند، فقامت بتلبية
ندائه، وبعثت أليه بالذخيرة، وأرسلت مندوباً ليأخذ من المهراجا وثيقة الانضمام
للهند حتى تستطيع التدخل، فوقَّع الوثيقة في 26 من أكتوبر (تشرين الأول) سنة
1947م.
فأعلنت الهند الموافقة عليها بصورة مؤقتة، وسارعت بارسال القوات
المحمولة جواً، وبدأت مرحلة جديدة من الحرب غير المتكافئة بين المتطوعين
المسلمين، وبين قوات الجيش الهندي المدججة بالسلاح، واستمرت الحرب سنة
كاملة. أحرج خلالها موقف الجيش الهندي، ورفعت الهند الأمر إلى مجلس الأمن،
وتوصلت الدولتان الهند وباكستان إلى اتفاق وقف لإطلاق النار قبل منتصف ليلة
يناير (كانون الثاني) 1949م بدقيقة واحدة، وصدرت قرارات مجلس الأمن لوقف
إطلاق النار، وإجراء الاستفتاء المحايد لتقرير مصير الشعب الكشميري، وفعلاً فقد
نفذ الجزء الأول، وهو وقف إطلاق النار، ولم يتم تنفيذ الجزء الثاني حتى الآن.
يتبع
__________
(1) إن محمد جناح الذي يُطلق عليه " الزعيم الأعظم " هو رجل إسماعيلي المذهب وينتسب إلى أسرة هندوسية تحولت إلى الإسماعيلية، وكان يدعو إلى كيان خاص بالمسلمين، ولم يكن يدعو إلى كيان إسلامي، وعلى الرغم من أنه كان يخطب في الجماهير بالإنكليزية - التي لا يعرفها العامة ولم يكن يجيد لغة المسلمين في الهند " الأوردية " - فقد لاقت شعاراته " قبولاً " من العامة، وفرض على المسلمين خياراً صعباً، وهو إما الخضوع لدولة الهندوس، أو الاستقلال بدولة لها سيادة تسمى: دولة باكستان الإسلامية، ويحكمها النظام العلماني! .(62/58)
مشاهدات في بلاد البخاري
(4)
د.يحيى اليحيى
مطالب المسلمين في طاجكستان تمثل الاعتزاز بالدين:
لما تمزق الاتحاد السوفييتي تنفس المسلمون الصعداء، وحاولوا إعادة بناء
كيانهم، وإظهار تميزهم عن غيرهم من أهل الملل الأخرى، والانضمام إلى كيان
الأمة الإسلامية الكبير؛ لذا قاموا بالاعتصام في ميادين العاصمة (دوشنبيه) وضربوا
في الميادين أكثر من أربعمائة وخمسين خيمة، واعتصموا بها - على رغم الأمطار
والثلوج - أكثر من عشرين يوماً من آخر رمضان إلى آخر شوال وقد صلُّوا العيد
في ميدان لينين، مطالبين الدولة بعدة مطالب منها:
أن تكون الأحرف العربية هي أحرف الكتابة، وأن يكون الذبح على الطريقة
الإسلامية، وأن تكون الجمعة هي إجازة الأسبوع، وأن يكون يوما العيدين إجازة
رسمية، وأن يفسح ببناء المساجد وترفع عنها الضرائب إلى غير ذلك من المطالب.
وقد قدِمت العاصمة وشاهدت بنفسي تجمعات المسلمين وهم يرفعون راية
(الله أكبر) والنصر لهذا الدين، والناس يؤمون هذه الميادين صفوفاً تتلوها الصفوف من شباب وشيب. وعلى حين يطالب أهل السنة بأن تكون الكتابة بالأحرف العربية فإن الشيعة في أذربيجان يطالبون بأن تكون كتابتهم بالأحرف اللاتينية، وقد أقاموا ندوة حضرها أحد الإخوة من هيئة الإغاثة الإسلامية، قالوا فيها بالحرف الواحد: (إن الحروف العربية لا تناسب النطق والصوت في لغتنا ولا ... تستطيع تلبية احتياجات اللغة الأذربيجانية) . المسلمون يتظاهرون مطالبين ... بالأحرف العربية، أما شيعة أذربيجان فيطالبون بالبعد عن الأحرف العربية.
ولا يخفى أن الدول الغربية وعلى رأسها (أمريكا) تسعى للضغط على ...
الجمهوريات الإسلامية كي تكون كتابتهم بالأحرف اللاتينية بدلاً من الروسية، لأنهم
يعلمون أن المسلمين لن يقبلوا بالأحرف الروسية بعد تلك السنين العجاف. وقد
عرضوا عليهم الإسلام التركي بشقيه العلماني الحاكم والصوفي الشعبي.
حزب العدالة يدل على الاستجابة لهذا الدين:
وقعت في مدينة (نمنكان) في وادي فرغانة من جمهورية أوزبكستان - عدة ...
سرقات للسيارات ولم يعرف السارق، إلا أن هناك تواطؤاً من بعض الجهات.
وكشف ذلك شاب من المدينة عندما أعلن عن تشكيل حزب العدالة وانضم إليه قرابة
خمسة آلاف شخص، ثم دعا مَن سرقت سيارة إلى إخبار الحزب عنها، وقام
الحزب بالبحث عن السيارات المسروقة وأحضرها لأصحابها بعد تأديب اللصوص، ثم تطور الحزب في مجال الحسبة فبدأ بإغلاق محلات القمار، ثم انتقل إلى منع
الخَمَّارات، وبمطالبة النساء بالتستر ومنع التبرج. إن بلداً ومجتمعاً عاشا سبعين
سنة في جو الإلحاد والتهتك ثم قاما بهذه الحركة لَدليل على أن مقومات هذا الدين ما
زالت تنبض في صدورهم فمَن يوقظها ويوجهها الوجهة الصحيحة؟ ؟
الحرص العجيب على طلب العلم من منابعه الأصيلة:
لقد لمست من تلك المجتمعات حرصاً عجيباً على طلب العلم في المدينة
النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم والمواقف والقصص التي
مرت بي أكبر شاهد على ذلك، وأذكر من ذلك قصتين فقط هما:
الأولى: قدمنا إلى مدينة (دوشنبيه) يوم الجمعة ثم رحلنا عنها يوم السبت ولم
نقابل عدداً كبيراً من الطلاب هناك بسبب الاضطرابات والمظاهرات، ولما علم بنا
أحد الشباب هُرع إلينا في الفندق، فقيل له: إنهم رحلوا إلى مدينة (دهنوا) التي
تبعد مسافة مائتين وخمسين كيلو متراً، فركب القطار ولما وصلها صباح الأحد قيل
له إنهم رحلوا إلى سمرقند، ثم سيرحلون إلى بُخارى، فركب القطار إلى بخارى،
فوصلها يوم الاثنين ظهراً، وسأل عنا فقيل له إنهم ذهبوا إلى القطار ليرحلوا إلى
جمهورية (تركمانستان) ، ولم يكن معه من النفقة ما يكفيه فطلب سيارة لتوصله إلى
محطة القطار فاشترط عليه السائق مبلغاً لا يملك سواه فوافق على ذلك، ولما وصل
إلى محطة القطار قام بالبحث عنا هناك فلم يعثر علينا، حيث كنا في مطعم نتناول
طعام الغداء، وقف على بوابة القطار ورفع يديه إلى السماء ونذر لله أن يصوم
شهراً كاملاً شكراً لله - تعالى - إن وجدنا، فلما خرجنا من المطعم وشاهدنا أسرع
إلينا وعانقنا ثم حمل عنا أمتعتنا، وركب معنا القطار وقال: أنا منذ يومين أبحث
عنكم كي أقابلكم فعرضنا عليه أن يسافر معنا، فذكر أنه لا يحمل جواز سفره،
وبعد مسير ثلاث ساعات استأذننا ثم فارقنا فعرضنا عليه بعض المال فرفض لكننا
ألزمناه به. ثم طلبنا منه شهاداته فقال: ليست معي. فقلنا له: تقدم بها علينا في
طشقند الأسبوع القادم، وفي يوم الأحد قدم إلى طشقند حاملاً أوراقه إلينا.
الثانية: كنا نقول لمن لم نتمكن من مقابلته في جميع الجمهوريات، أن يلتقي
بنا في مدينة (طشقند) فلما قدمناها بعد خروجنا منها بعشرة أيام، وجدنا مئات
الطلاب ينتظروننا في أحد المساجد، وكلهم غرباء، وبعضهم من كبار السن قد أتوا
بأولادهم، وكان من بينهم رجل يزيد عمره عن ستين عاماً قد أحضر معه ولده الذي
يبلغ ستة عشر عاماً، إلا أن مظهره يوحي بأقل من عمره، فقلنا له: لعلك تنتظر
بالولد سنتين ثم نقابله، ولما سمع ذلك منا بكى وبكى معه ولده، فقررنا إجراء
مقابلته وطلبنا منه أن يقرأ سورة (النبأ) فلما قرأ عشر آيات بكى وبكى أبوه، وألح
عليَّ في قبوله للدراسة لأنه يريد له أن يتربى ويتعلم في ديار الإسلام، وأن يكون
ذخراً له بعد موته، فوعدته خيراً.
التنافس والتفاني في بناء المساجد:
عاش المسلمون ردحاً من الزمن وهم في بعد عن بيوت الله بسبب الشيوعية
الإلحادية الطاغية، فما إن سمح بإقامة المساجد، حتى تسارع الناس إلى بنائها
وتشييدها من أموالهم الخاصة على الرغم من الفقر وضيق ذات اليد التي يعانونها،
حتى شملت المساجد كثيراً من الأحياء، وأصبحت في بعض المدن تعد بالمئات.
عمارة المساجد بذكر الله:
ومما يسر المسلم في تلك البلاد كثرة المصلين وخصوصاً من الشباب،
وامتلاء المساجد بطلبة العلم وقراء القرآن، فما إن تدخل مسجداً في ليل أو نهار
حتى تجد أناساً يقرؤون القرآن أو يتعلمون شيئاً من العلم، ولقد زرت عدة مساجد
في أوقات مختلفة من الليل والنهار فوجدت المساجد عامرة بالناس.
تقبلهم للتوجيه والنصح:
إن كثيراً من الناس هناك على الفطرة وعندهم استعداد طيب لقبول التوجيه
والنصح والإرشاد. زرت مدرسة في مدينة (مرغلان) ، وصليت معهم صلاة ...
المغرب فعرض علينا أحد الآباء أن يُسمعنا من ابنه أسماء الله الحسنى التي يحفظها
عن ظهر قلب فرحبنا بذلك، وتلا علينا الابن أسماء الله الحسنى بصوت جميل
رقيق ومؤثر حتى أبكى الحاضرين، ثم أمره أبوه أن يذكر أسماء النبي -صلى الله
عليه وسلم-، فلما قرأها وجدت أن بعضها لا تليق إلا بالله - عز وجل - فقمت
وذكرتهم بعظمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبمنزلته، وتقديم محبته على محبة
الوالد والولد والناس أجمعين، لكن هذه الأسماء لا تليق إلا بالله - عز وجل - ولا
يرضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قام مَن ترجم لهم ما قلت، ولما ركبنا
السيارة لحقني الأب وقال: نسيت الأسماء، اكتبها لي في ورقة حتى أعلّم ابني
إياها فكتبتها له وبدا أثر الفرح على وجهه.
وقمنا بتوزيع بعض الكتب في العقيدة السليمة الصحيحة على بعض أئمة
المساجد وغيرهم، ورأينا بعضهم يخطب بها في يوم الجمعة، وهذا دليل على
تقبلهم للتوجيه والتعليم، والقصص في ذلك كثيرة.
عزة النفس:
على الرغم من الفقر وضيق ذات اليد عندهم، وضعف الاقتصاد وقلة الأعمال
إلا أنك لا تكاد تجد متسولاً، ولا يرحبون بالمساعدات المالية الشخصية، إلا أن
تكون على شكل هدية، أو لقيام مشروع، وقد حاولت أن أدفع بعض المساعدات
للذين خدمونا وأكرمونا فرفضوا أخذها وعدُّوا ذلك عيباً، بل إن بعضهم يغضب
منك إذا مددت إليه شيئاً من المال مكافأة على عمله لك.
وجود عدد كبير من المخطوطات الثمينة:
على الرغم من إحراق وإبادة الكتب من قِبَل الشيوعيين، إلا أنه قد بقي في
المنطقة ثلات خزائن للمخطوطات، في طشقند، وأذربيجان وطاجكستان، إضافة
إلى المخطوطات المتناثرة في بيوت الناس، وقد اطلعت على بعضها، وزرت
خزانة الكتب في معهد الاستشراق التي تحوي أكثر من أربعين ألف مخطوط، أكثر
من ثلاثين بالمائة باللغة العربية،. ولم يفهرس منها إلا سبعة آلاف مخطوط
والباقي لا يعرف، وقد سألتهم عن عدد من الكتب لكنهم لا يعلمون هل هي عندهم
أم لا، وتوجد عندهم مخطوطات يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني للهجرة،
وأكثر اهتمامهم بكتب القانون والفلسفة، ولذا تجدهم يبرزون كتب ابن سينا
والفارابي وغيرهم. ومن العجائب أنه يوجد في مكتبة الشؤون الدينية نسخة من
مصاحف عثمان التي بعثها إلى الآفاق.
قلوب القوم معنا فهل قلوبنا معهم؟ :
إن أولئك الناس يكنون لنا الود والمحبة وهم لم يرونا، ولقد حملني كثير منهم
السلام إلى إخوانهم في هذه البلاد، على حين أننا أغفلنا حتى ذكرهم سنين طويلة
ولم نقدم لهم شيئاً من حقوقهم.
[إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] [النساء: 104] .
إن أعداء الإسلام قرروا أن هذه المنطقة من المناطق البكر التي يجب
استغلالها، وتنفيذ مخططاتهم فيها. وهنا أنقل إليكم هذه الأخبار المؤلمة والقلب يكاد
يتقطع، والكبد يكاد يتفطر، فلقد تسابق أهل الكفر والزندقة إلى استثمار هذه
المنطقة الجديدة في العالم، كل يحاول التفرد بها دون غيره: اليهود، النصارى،
القاديانية، الإسماعيلية، الروافض، الصوفية الغالية: كالنقشبندية والقادرية
والبكرية وغيرها، وكل قد نزل بثقله إلى استثمار هذه البلاد، ونشروا عقائدهم
الفاسدة فيها، ودول الكفر تحاول عزل هذه البلاد عن إخوانهم المسلمين في كل
مكان، وتحذر حكامها من الأصولية كما يقولون.
لقد صليت الجمعة في مسجد (تخطباي) في طشقند - وهي آخر جمعة من
شهر ذي القعدة - وحضر وفد نصراني إلى داخل المسجد، كموفد من كلية الكنيسة
في أمريكا لدراسة المنطقة دينياً واقتصادياً واجتماعياً، ومدة هذه الدراسة ستة أشهر، وكانوا يقومون بزيارة كل موقع ودخول كل تجمع، وكانوا يسألون عن سر كثرة
الشباب في هذا المسجد، وعن سبب تكبيرهم أحياناً أثناء الدرس الذي يعطيه الإمام، ولما سألناهم كم لكم هنا؟ قالوا: أربعة أشهر وبقي لنا شهران.
وفي يوم السبت ذهبنا إلى المسجد لمقابلة الطلاب، وأثناء خروجنا منه وجدنا
على بابه عجوزاً أمريكية، فقلت لصاحبي: اسألها عن سبب قدومها لهذه البلاد،
فذكرت أنها دكتورة في (جامعة كولمبيا في نيو يورك) - وللعلم أن هذه من أكبر
الجامعات التنصيرية - وقد قدِمت هذه العجوز لنفس الغرض السابق، ثم بادرتنا
بالحديث وقالت: أنا أعرف أنكم من السعودية، وقد سبقتمونا في تقديم الخدمات
لهذه البلاد ولكننا سنقدم لهم كل ما يريدون وما يطلبون! .
وقد ذكر لي أحد الثقات: أن عدداً من المسلمين قد تنصَّر في جمهورية
القرغيز، نتيجة الترغيب والإمداد بالأموال، وتقول الإحصائيات: إن النصارى
وزعوا أكثر من خمسين مليون نسخة من الإنجيل في جميع لغات الاتحاد
السوفييتي - المنهار - وفي جميع الأحجام والأشكال مقروءاً ومسموعاً. والقناة
الروسية تبث الدعوة إلى النصرانية في فقرات متعددة من برامجها، و (جيمي
سواجرت) وحده يظهر على القناة الروسية - التي تُلتقط في جميع الجمهوريات - مدة
ثلاث ساعات من يوم الأحد في كل أسبوع، عدا البرامج النصرانية الأخرى.(62/65)
الملف الإعلامي
أخبار قصيرة
إعداد: د.علي عبد الرحمن عواض
* دعا الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني اليهود في
جميع أنحاء العالم - بما في ذلك (إسرائيل) - إلى مساعدة الشعب الكردي الذي
تعرض للإبادة. وقال طالباني في تصريحات إلى مراسل صحيفة (يديعوت
أحرونوت) الإسرائيلية رون بن إيشاع: إن (إسرائيل) لا تقدم أية مساعدة إلى
الأكراد على رغم أن بغداد تتهمهم بأنهم (أدوات) في يدها. ونسبت الصحيفة إلى
الزعيم الكردي قوله: إنه يتوقع من اليهود المتحدرين من أصل كردستاني أن
يشكلوا (لوبي) لمصلحة الشعب الكردي يحض الإسرائيليين على تقديم مساعدات ...
إنسانية ومالية وطبية إلى الأكراد.
... ... ... ... ... ... الحياة / القدس العربي 6/2/1993
* موسكو - أ. ب. رويتر: لم يستبعد وزير الدفاع الروسي الجنرال بافل
غراتشوف قيام تعاون عسكري بين بلاده وحلف شمال الأطلسي لمواجهة (اختراقات ...
عناصر إسلامية أصولية عدوانية) . أما القائد العام لقوات حلف الأطلسي في أوربا
الجنرال القوقازي الأصل جون شاليكاشفيلي فقد وعد بالعمل على إقامة (شراكة قولاً
وفعلاً) بين روسيا والتحالف الغربي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الحياة 31/1/1993
* تقول مصادر ديبلوماسية إسرائيلية إن (إسرائيل) تدرس جدياً إقامة ...
علاقات ديبلوماسية مع ثلاث دول إسلامية غير عربية منها أندونيسيا التى تعتبر ...
أكبر دولة إسلامية في العالم لجهة الكثافة السكانية (180 مليون مسلم) . ودولتا ...
السنغال وإريتريا. وإذا نجحت مساعي (إسرائيل) لإقامة علاقات ديبلوماسية مع ...
البلدان الثلاثة المذكورة فسيرتفع عدد الدول الإسلامية التي تبادلها التمثيل
الديبلوماسي إلى خمس دول بعد مصر وتركيا.
... ... ... ... ... ... ... ... الحياة 31/1/1993
* العلاقات الودية جداً بين جمهورية قيرغيزستان في آسيا الوسطى
و (إسرائيل) أدت إلى ود آخر بين (الجمهورية المسلمة) وإفريقية الجنوبية، يذكر أن قيرغيزستان وإفريقية الجنوبية أقامتا علاقات ديبلوماسية مؤخراً.
... ... ... ... ... ... ... الأسبوع العربي 31/ 1/1993(62/74)
إحصائيات
المسلمون في أوربا:
تفيد الإحصائيات الصادرة عن منظمة العمل العربية - مكتب العمل
العربي - أن عدد المهاجرين غير الأوربيين في أوربا يزيد عن الثمانية ملايين نسمة
(غير الأوروبيين لأن أعداد الأوربيين الذين يهاجرون ضمن أوربا لا يدخلون في
هذا الحصر) وغالبيتهم الساحقة من العالم الإسلامي (أتراك، عرب، باكستانيون،
هنود وأفارقة) . وهذا الرقم - أي الثمانية ملايين - مساوٍ لعدد سكان ثلاث دول
أوربية وهي اللوكسمبورغ والدانمارك وأيرلندا.
والهجرة إلى الغرب ليست مسألة جديدة، بل إن عدداً من الدول الغربية كان
يشجع هجرة الأيدي العاملة الرخيصة إليها، فكان منهم اليمنيون والباكستانيون
والهنود في بريطانيا، والأتراك في ألمانيا، والعرب في فرنسا وأسبانيا وإيطاليا،
حيث نزح عدد كبير منهم في الخمسينيات والستينيات عندما كانت الأعمال اليدوية
متوفرة ويأنف الأوربي من القيام بها.
الهجرة إلى ألمانيا بدأت عام 1962م وبدأ استقطاب العمالة الرخيصة من
تركيا حتى وصل العدد إلى خمسة ملايين حالياً، إلى جانب رقم لا بأس به من
جنسيات أخرى (يوغسلافيا/بولندا/فيتنام..) .
وتشير الإحصائيات في فرنسا إلى: أن شخصاً من بين كل أربعة فرنسيين له
على الأقل جد أجنبي أو مولود في الخارج. ويبلغ عدد العاملين من أصول أجنبية (14) مليون شخص بينما حصل عشرة ملايين من هذا الرقم بالفعل على الجنسية
الفرنسية.
وتشير دراسة بريطانية أجريت أخيراً إلى أن نسبة 20% من العاطلين عن
العمل في الدول الغربية هم من المهاجرين. وهذه الهجرة تعود لأحد الأسباب
التالية:
- الضغوط السياسية.
- المجاعات والكوارث.
- الرغبة في المغامرة.
ولعل أهم مخاطر الهجرة هي (هجرة العقول) أو (النزف العلمي) كما يسميه ...
البعض؛ إذ إن الإحصائيات تشير إلى أن الغرب أصبح (مرتعاً) لعدد هائل من
مفكري وكُتاب ومثقفي وقادة العالم الإسلامي.
... ... ... بتصرف / مجلة الوسط، العدد رقم 57، 1/3/1993(62/75)
مصطلحات
الدعوة والدعاية:
الدعوة: اصطلاحاً تعني: الترغيب في دين الله ونداء الناس للدخول فيه
وتعريفهم بمناهجه بالحكمة والموعظة الحسنة وهى - أي الدعوة - برنامج متكامل
يضم جميع المعارف التي يحتاج إليها الناس ليعرفوا الغاية من محياهم وليستكشفوا
الطريق التي تبصرهم بصراط الله المستقيم.
الدعاية: اصطلاحاً تعني: عملية منظمة متعددة الوسائل والأساليب تقوم بها
سلطة من السلطات باستمرار بهدف التأثير بها على المدعوين. وتحقق أهدافها
كسلطة، أو تحافظ على مكتسباتها وتديم استغلالها أو سيطرتها بالطرق النفسية التي
تستعبد بها نفوس المدعوين، وتخضعهم أكثر فأكثر لسلطان نفوذها. ومن أهم
قواعد الدعاية الحديثة: (التبسيط، وتركيز الاهتمام على العدو الواحد) ،
و (التضخيم والتعريف) ، و (توزيع الأدوار) ، و (تحويل المشاعر) ، و (نقض مزاعم
وخطط العدو والتكرار..) .
إذن فالدعاية هي نشر الأفكار ووجهات النظر والمواقف المرغوب في تبنيها
من الآخرين. والدعاية - كالإعلان - تستخدم أحدث وسائل الإعلام، والاتصال
بالناس من صحافة وإذاعة وتلفاز وخيالة " سينما " ومنشورات ومسرح، كما
تستخدم أحدث فنون الإيحاء الذاتي المبنية على اكتشافات علم النفس الفردي
والاجتماعي.
وعلى الرغم من فائدة الدعاية بصورة عامة فإن فيها عدة أخطار كامنة؛ لأنها
تميل إلى تبسيط الأمور وإبراز المزايا وإخفاء العيوب والأخطاء مما قد يقتل أية
قدرة على النقد، وعلى الحكم الموضوعي المتعقل.
ومن الأخطار الكامنة في الدعاية: خطر وقوع وسائل الاعلام والدعاية تحت
سيطرة فئة محدودة من موظفي الدولة أو كبار الرأسماليين، ولعل أخطر أنواع
الدعاية هي: الدعاية الخفية التي يصعب اكتشافها، وبالتالي تحقق أهدافها بفعالية
وعمق تحت ستار من الموضوعية المزيفة، وتنتشر الدعاية (ويتحسن سوقها) في
أوقات الأزمات والحروب، ولعل أهم الفروق بين الدعوة والدعاية اعتماد الأولى
على الحقائق وإيصالها بأساليب نظيفة بهدف خدمة الدين. والثانية تمزج الحقيقة
بغيرها وتوصل رسالتها بكافة الوسائل والأساليب من أجل خدمة مالكي أجهزة
الدعاية.
فيدرالية (Federalism) :
نظام سياسي يفترض تنازل عدد من الدول أو القوميات الصغيرة - في أغلب
الأحيان - عن بعض صلاحياتها، وامتيازاتها واستقلاليتها لمصلحة سلطة عليا
موحدة تمثلها على الساحة الدولية وتكون مرجعها الأخير في كل ما يتعلق بالسيادة
والأمن والقومي والدفاع والسياسة الخارجية.
فالفيدرالية إذن تتعلق بالنظام السياسي والتنظيم الإداري وبتقسيم صلاحيات
السلطات الحاكمة وتنظيم العلاقات فيما بينها وتأمين انسجامها لتمنع تغلب طرف
على الطرف الآخر فتحصر قرارات الدولة الفيدرالية المركزية بالقمة، وتترك
الأمور المحلية للسلطات الإقليمية، والسلطات المحلية بدورها لا تخرج عن نطاق
صلاحياتها، فهي لا تشرع للقضايا التي تتعلق بالدولة المركزية، رغم أنها تشارك
في قضايا المؤسسات التي تعالج الأمور القومية وتنظيم هذه المؤسسات وتوزع
الصلاحيات بشكل يؤمن استقلالية الوحدات المكونة للسلطة الفيدرالية ويضمن لها
المشاركة الفعالة في القرارات المركزية والمصيرية.
والفيدرالية على أنواع ودرجات متفاوتة في الأشكال والصيغ التطبيقية؛ إذ
تتراوح ما بين وحدة مطلقة أو الاتحاد بين مجموعة متمايزة تماماً. ومن أهم أمثلة
الفيدرالية: الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي (سابقاً) ، الهند، سويسرا،
أستراليا، البرازيل. والجدير بالذكر أن بعضاً من الاتحادات الفيدرالية (بدأت
حياتها) كاتحاد كونفدرالي.
كونفيدرالية (Confederation) :
الكونفيدرالية شكل من التنظيم الاتحادي بين دول تعهد بممارسة بعض
صلاحياتها إلى سلطة مركزية مشتركة مع إبقائها على حكومتها المتميزة، وتتألف
السلطة المركزية أساساً من هيئة تنسيق ملزمة باتخاذ قراراتها كافة - أو معظم
قراراتها على الأقل - بإجماع الدول الأعضاء في الكونفيدرالية، وذلك بخلاف ما
يحصل في الفيدرالية حيث تُتخذ القرارات بأكثرية الأصوات فقط، وغالباً ما تتحول
الكونفيدرالية - ولا سيما في إطار الدول القومية - إلى فيدرالية، وهذا ما حصل
في سويسرا على سبيل المثال حيث لم يبق من الكونفيدرالية سوى الاسم، وكما هو
واضح فإن النظام الكونفيدرالي أكثر مركزية وسلطوية من النظام الفيدرالي.
ومن نماذجها المطبقة في العالم:
- الكونفيدرالية الأوربية للنقابات (C. E. S.) .
- الكونفيدرالية العالمية للعمل (C. M. T.) .
الحكم الذاتي (Autonomy) : [*]
هو حق دولة أو منطقة أو مقاطعة من دولة في إدارة شؤونها الداخلية بكل
حرية، دون الخضوع لتوجيهات خارجية. ويعتبر الحكم الذاتي الخطوة الأولى
والطبيعية نحو الاستقلال الكامل. وقد أثبتت التجارب التاريخية ذلك، وينتقل الحكم
الذاتي إلى مرحلة الاستقلال عندما تأخذ الدولة بزمام الشؤون الخارجية والدفاعية من
الدولة المهيمنة أو المنتدبة أو المحتلة..، وتستخدم الدول المحتلة عادة نظام الحكم
الذاتي لتأجيل إعطاء الاستقلال للمناطق المحتلة مدعية أنها: (مرحلة أساسية
وضرورية ويجب أن تمر بها المستعمرة؛ لتهيئة أبنائها وتمكينهم والتثبت من
إمكانيتهم إدارة شؤون البلاد بشكل نهائي ومستقل) .
وأمثلة الولايات أو الدول التي تتمتع بحكم ذاتي ضمن هيمنة دولية أوسع
كثيرة. فمثلاً في روسيا ست دول إسلامية تتمتع بحكم ذاتي تحت الغطاء الروسي.
وفي آذربيجان كانت مقاطعة (ناغورنو قره باغ) ذات الغالبية الأرمنية تتمتع بالحكم
الذاتي من الدولة الآذرية ذات الغالبية الإسلامية ... والمناطق التي تطالب بحكم
ذاتي في العالم كثيرة جداً.
__________
(*) انظر: (موسوعة السياسة) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1986م.(62/76)
في دائرة الضوء
كشف تقرير سري رفعته بعثة تحقيق إلى المجلس الوزاري التابع للمجموعة
الأوربية أن القوات الصربية في البوسنة والهرسك ساهمت في تنفيذ أعمال
اغتصاب منظم لما لا يقل عن 25 ألفاً من النساء والفتيات المسلمات. وأن مقاتلي
الصرب يستخدمون الاغتصاب (سلاحاً في الحرب) .
وقضى الكثير من ضحايا عمليات الاغتصاب الجماعي نتيجة إصابتهم وكان
بينهم أطفال لم يتعدوا السادسة أو السابعة من العمر. كما وجد المحققون أنه غالباً
كان يتم اغتصاب الفتيات أمام آبائهن وأمهاتهن، والأمهات أمام أطفالهن والزوجات
أمام أزواجهن.
إندبندنت 26/1/1993
* (إن التقرير غير دقيق؛ حيث إن عدد حالات الاغتصاب تجاوز
50000 حالة شملت الأطفال ذكوراً وإناثاً. كما شملت النساء والرجال. والصحافة
العربية تشير إلى أقل من نصف الحقيقة.) ... ... ... ...
- البيان -
وأضاف التقرير أيضاً أن الكثير من عمليات الاغتصاب كان هدفه جعْل
النساء حوامل واحتجازهن حتى موعد الوضع: (إمعاناً في الإذلال وكي يتذكرن
باستمرار هذا الإذلال) .
الحياة 3/2/1993
* (ومع ذلك لا يجد المهجَّرون المسلمون مكاناً آمناً في البلاد الإسلامية،
فيضطرون إلى الهجرة إلى ديار الكفار في أوربا وأمريكا، وهناك يتم تهويدهم
وتنصيرهم.) ... ... ... ... ... ... ... ... ...
-البيان -
* * *
مصطلح رهيب جارح مؤذٍ مخجل يجد طريقه سهلاً في أي موضوع يتناول
قضايا المسلمين، إنه كلمة (اغتصاب) . ما بالها لا تفارق أي تقرير يتحدث عن
المسلمين في أية بقعة من بقاع الأرض. ستون ألف امرأة وفتاة وطفلة انتُهكت
أعراضهن في أوربا على مرأى ومسمع العالم.. والعالم الإسلامي شاهد على
الجريمة.. تسبى بنات المسلمين (بفتوى) شرعية من كنائسهم.
تقارير كشمير تتحدث عن فصل الرجال عن النساء في القرى النائية بحجة
التحقيق مع الرجال والنساء تحت رحمة عُبَّاد البقر.. وبعد الفصل تجري فصول
وطقوس تخدش إنسانية الإنسان.
من أرمينيا يرتفع صوت المذيع في راديو (ناغورنو قره باغ) معربداً موجهاً
كلامه للمسلمين: (لن نترك بناتكم حتى يلدن أطفال الأرمن) !! هكذا جهاراً نهاراً. ...
يقول مراسل إندبندنت البريطانية في تقرير من بنغلاديش عن أوضاع
اللاجئين البورميين: (لم ألتقِ بامرأة مسلمة واحدة إلا وحدثتني عن قصة جديدة من
قصص الاغتصاب.. كل واحدة التقيتها قالت لي: إنها اغتُصبت..) .
اعتادت الأسماع على هذه الأخبار والعيون على هذه الصور وألفنا صور
الجريمة! ! فهل هذا هو دورنا المطلوب؟ ! هل لنا أن نستمع لفتوى العلماء (إذا
سُبيت امرأة مسلمة في المشرق فعلى أهل المغرب إنقاذها) . هل لنا أن نتذكر ما
فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- باليهود عندما حاول أحدهم أن يكشف عورة
امرأة مسلمة؟ وهل ننسى ما فعله المعتصم عندما لطم علج رومي مسلمة في زبطرة
وصاحت (وامعتصماه) ! !
عندما سئل الناطق الرسمي لجبهة تحرير مورو عن السبب في الهجوم على
مجموعة من الجيش الفلبيني وقتل 35 من عناصره أجاب: (مع أننا في معاهدة
وقف إطلاق نار معهم ولكنهم اغتصبوا امرأة) !
* * *
الإريتريون ليسوا عرباً، وإريتريا ليست جزءاً من العالم العربي، وسنقيم
علاقات ديبلوماسية مع (إسرائيل) . دانيال يوهانس المفوض العام لإريتريا في
فرنسا. وأضاف: إن واقع أن تكون مسلماً وأن تتحدث اللغة العربية يمكن أن
يحتوي على اتجاه للانتماء العربي. إن هذا الواقع لا يعني أنك عربي ومن بعد
إريتري، إن المسلم الإريتري إريتري فقط. ولا يوجد خلاف ولا بحث في مسألة
أننا عرب أو غير عرب، نحن إريتريون وأفارقة فقط.
وعن علاقاته مع (إسرائيل) يضيف: جاء سفير (إسرائيل) في أثيوبيا إلى أسمرة مباشرة بعد الاستقلال (24/5/1991) ، وطرح علينا إقامة علاقات ديبلوماسية. وكانت (إسرائيل) الدولة الأولى التي اتخذت مثل هذه البادرة. ونحن سنقيم علاقات مع (إسرائيل) ، لسنا مجبرين وليس لدينا حساب نؤديه لأحد في هذا المجال.
مجلة الوسط 15/2/1993
الضجة الإعلامية و (الاستغراب) الذي ساد كثيراً من العواصم العربية على
إثر تصريحات (أفورقي) بعد زيارته لإسرائيل، له ما يبرره ولأفورقي في أسبابه
فيما قاله. العرب الذين احتضنت عواصمهم وكثير من مدنهم مكاتب (الحركة
الشعبية لتحرير إريتريا) منذ اللحظة الأولى وحتى سقوط حكم الرئيس الأثيوبي
منغيستو هيلا ماريام، والذين قدموا للجبهة الدعم المادي والسند السياسي رأوا في
تصريحات أفورقي (خيانة) و (نكراناً للجميل) ، ولكنها خيانة (مَن) و (لمن) ؟
(فالرجل) يرى في (إسرائيل) (صديقاً) يمكن الاستفادة منها والتعامل معها وإقامة تبادل ثقافي وديبلوماسي.. فهل هذه (الطموحات) تبتعد كثيراً عن تصريحات كثير من العرب أنفسهم؟ ! وهذا ليس سراً، بل إنها تصريحاتهم ... وعناوين صحفهم. و (إسرائيل) ترى في الخطوة تعزيزاً لسياسة التغلغل التي تتبعها في إفريقية.
الإريتريون عرب، أحب أفورقي أم كره، ولغة العلم في البلاد هي
العربية والإسلام دين الغالبية فالتقارب بين النصراني أفورقي ويهود (إسرائيل) هو
من مظاهر هذا العصر إن لم نقل من مستلزماته ولكن هل يتعلم المسلم العربي كيف
يختار أصدقاءه وفيمن يضع ثقته؟ !
أما في إفريقية فقد تولت الولايات المتحدة تحمل التبعات في تهيئة الأجواء
وذلك عبر نشاطات وزارة الخارجية الأمريكية في القرن الإفريقي والتي رسم
سياستها مساعد وزير الخارجية الأميركي هيرمان كوهين.
***
لفت خبير أمريكي في شئون الشرق الأوسط - وهو على علاقة وثيقة
بالدوائر الأمريكية - إلى (جدوى استغلال المثقفين الشيوعيين السابقين في دعم
التوازنات الإقليمية المقبلة في المنطقة) موضحاً أن بعض الأقلام اليسارية يقوم
بمواجهة التطرف الديني بطريقة أفضل من الأقلام الموالية للسلطة. وأشار الخبير
بالمناسبة إلى أسماء معروفة جداً في أوساط اليسار المصري.
الأسبوع العربي 15/2/1993
***
فعلى القارئ الفاهم الواعي أن يتذكر الأسماء التي تكتب اليوم باسم الإسلام
و (تدعي وصلاً به) والإسلام لا يقر لهم بذاك. أقلامهم التي ملأت صفحات الكتب
والمجلات افتراءات تهاجم الإسلام وأهله هي الآن نفسها التي تكتب عن (الإسلام
المتطوَّر) (المتسامح) الذي يحتوي على توصيات وقيم اجتماعية وأخلاقية طيبة
في الوقت الذي يشككون بالنظام الإسلامي للحكم. هؤلاء (الدخلاء) لا يتركون
مناسبة إلا ويحملون فيها حملات مسعورة على الإسلام تحت غطاء محاربة (التطرف) أو مواجهة (الأصولية) .
الغلو منبوذ أصلاً في الإسلام، ولكن هل يجوز استغلال بعض الممارسات
التي لا تمثل وجهة النظر الصحيحة؟ ؟(62/79)
مكتبة البيان
رسائل جامعية
إعداد: عبد العزيز الحويطان
* مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة:
رسالة قدمها الباحث ناصر بن عبد الله القفَّاري لنيل درجة (الماجستير) من
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سنة 1398هـ وقد نالها بدرجة امتياز.
تقع الرسالة في جزئين، الأول (390 صفحة) وتتضمن تعريف أهل السنة
والجماعة، ومصادرهم في تلقي العقيدة، وأهم معتقداتهم التي خالفتها طائفة الشيعة. وتعريف الشيعة ومعتقداتهم التي خالفوا فيها أهل السنة كالقول بتحريف القرآن،
والغلو في القبور، والتَّقِيَّة والرجعة، وقولهم في الصحابة. أما الجزء الثاني (390
صفحة) فقد دار حول آراء دعاة التقريب في قضايا الخلاف، ومحاولات التقريب
منذ القديم إلى هذا العصر - سواء الجماعية التي قامت بها دار الإنصاف ودار
التقريب بين المذاهب الإسلامية أو المحاولات الفردية مثل محاولات محمد عبده
ومحمد رشيد رضا ومصطفى السباعي وغيرهم - ونتائج هذه المحاولات، حيث
بيَّن هدف علماء الشيعة الحقيقي من هذا التقريب، وانخداع من قام بهذا من أهل
السنة، كل هذا في عرض موضوعي علمي قلما نجده في غير هذا الموضع.
بذل الباحث جهداً في هذه الرسالة، حيث سافر إلى بعض البلاد للاطلاع على
مادة هذه الرسالة، وجمعها والوقوف عليها فقد سافر إلى الكويت والعراق ومصر
وباكستان. طُبعت الرسالة أخيراً (1412هـ) وهي من توزيع دار طيبة للنشر -
الرياض.
* أمالي المحاملي رواية ابن يحيى البيع:
رسالة قدمها إبراهيم القيسي لنيل درجة (الدكتوراه) بتاريخ 21/6/1406هـ
من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وقد
حازت على مرتبة الشرف الثانية. وطبعت أخيراً (1411هـ) وهي من توزيع دار
ابن القيم. والكتاب من الكتب التي تستحق العناية والإخراج، وقد اقترن اسم مؤلفه
به، حيث اشتهر عند علماء الحديث (بأمالي المحاملي) ، والكتاب فيه مادة حديثية
كانت المعتمد لكثير من علماء الحديث قديماً وحديثاً.
يقع الكتاب في مجلد، بدأه المحقق بمقدمة عن حياة المؤلف وعصره، ثم
عرف بالكتاب ومكانته والنسخ المخطوطة التي اعتمد عليها التحقيق، وأتْبعه
بالأحاديث المسماة بالأمالي التي رتبها الباحث على الأبواب الفقهية (ليسهل الوصول
إليها) ، وجاء الكتاب في (576صفحة) مع فهارسه.
ملاحظة: الأمالي: جمع إملاء وهو أن يقعد عالِم وحوله تلاميذه بالمحابر
والقراطيس، فيتكلم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتب التلاميذ فيصير كتاباً
يسمونه الإملاء أو الأمالي، وعلماء الشافعية يسمون مثله (التعليق) (انظر مقدمة
الكتاب، ص31، نقلاً عن (كشف الظنون) ، 1/161) .
* المسائل والرسائل المدونة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة:
جمع وتحقيق ودراسة عبد الإله بن سلمان بن سالم الأحمري. تقع الرسالة في
مجلدين، بدأها الباحث بترجمة للإمام أحمد، ثم علق بشكل مقتضب على المصادر
التي استقى منها مادة هذا البحث، وهي مسائل الإمام أحمد التي رواها تلامذته،
ورسائله الشخصية ورسالته لمسدد، ومؤلفاته التي صحت نسبتها إليه والتي لم
تصح، إضافة للكتب التي نقلت آراءه في هذا المجال.
الرسالة جامعة ومفيدة، وتكتسب أهميتها من كونها: صادرة عن الإمام أحمد
بن حنبل إمام أهل السنة المتفق على إمامته وجلالته، وثانياً: كونها في باب العقيدة
التي اضطربت فيها بعض الفرق الإسلامية عبر تاريخنا الإسلامي، وطريقة
الباحث أن يعرض كلام الإمام أحمد في مسألة من مسائل العقيدة، ويتبعها أحياناً
بتعليق من عنده يوضح مذهب السلف في هذه المسألة، وبعض النقولات فيها
لبعض الأئمة المشهورين، وربما أتى برأي بعض الفرق فيها.
يقع الجزء الأول في (412 صفحة) يضم أقوال الإمام أحمد في مسائل الإيمان، والقدر، ومسائل القرآن، ومسائل الأسماء والصفات، والجزء الثاني في (500
صفحة) تحدث فيه عن أقوال الإمام أحمد في مسائل القتال، والأموال، ومسائل
الصلاة، والسحر والكهانة، والمسائل المتعلقة بالتوكل والغيبيات، والمسائل
المتعلقة بالرسل، ومسائل الفرق. الرسالة من توزيع دار طيبة للنشر، الرياض.
* الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة:
دراسة علمية حول ظاهرة الغلو ومفاهيم التطرف والأصولية، تأليف عبد
الرحمن بن معلا اللويحق المطيري، قدم الباحث هذه الرسالة إلى قسم الثقافة
الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لنيل درجة
(الماجستير) وقد استحقها بدرجة امتياز وذلك بتاريخ 13/1/1412هـ.
قام الباحث بدراسة موثقة ومؤصلة شرعاً، معتمداً على الإحصاءات
والدراسات الحديثة في هذا الجانب، وموضحاً المصطلحات التي تتلجلج في هذا
الموضوع بدون ضابط، وقد أجاب على الأسئلة المهمة المتعلقة بهذا الموضوع مثل: هل في حياة المسلمين المعاصرة غلو؟ ما هي جذور هذا الغلو؟ ما حجمه؟ ما
مظاهره؟ ما الميزان المستصحب في اكتشاف الغلو؟ وفي نقده ونقضه؟
عرَّف الباحث في رسالته مصطلح الغلو في الشريعة الإسلامية، وجذوره
التاريخية، وحجم وطبيعة الغلو في حياة المسلمين المعاصرة، ومفهومه عند
العلمانيين والغربيين، ومجالات الغلو العقدية والتشريعية، وكذلك العملية والسلوكية، وختمه بالنتائج التي توصل إليها في هذا البحث.
وقد كان لجهد الباحث في جمع المادة، وما صاحبه من تبويب وعرض شيق
أثر في أهمية هذه الرسالة التي طُبعت أخيراً (1412هـ) في نحو (600 صفحة) مع
فهارسها، وهي من توزيع مؤسسة الرسالة بيروت.(62/82)
إصدارات
يعتبر كتاب (ملحمة البوسنة والهرسك.. الجريمة الكبرى) للدكتور عدنان ...
علي رضا النحوي إضافة قيِّمة إلى المكتبة العربية وإغناءً لبعض النقص الواضح
في الكتابات العربية التي تتناول شؤون مسلمي البلقان قديماً وحديثاً.
استعرض الكاتب في الباب الأول تاريخ البلقان وانتشار الإسلام هناك كاشفاً
جذور المأساة التي تعانيها الأقليات المسلمة في أوربا الشرقية، ومفصلاً مراحل (الجريمة الكبرى) التي تُرتكب الآن في البوسنة والهرسك والتي بدأت مع انهيار ...
الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية.
وفي الباب الثاني يقدم الكاتب (الملحمة الشعرية) في البوسنة والهرسك حيث
يعرض التحولات في تاريخ البوسنة من خلال قصائد عبقت فخراً بتاريخ البوسنة،
وحزناً على واقعها وخجلاً من واقع المسلمين وصيحة لمستقبل آخر.
لا تُراعي يا (بوسنَ) صبرٌ جميلٌ ... سوف نُحيي مع الملاحم عِيداً
واسكبي النور عَلَّه يوقظُ الجَف ... نَ فنلقي هناك فجراً جديداً
الكتاب من إصدارات دار النحوي للنشر والتوزيع في الرياض، ص. ب.
1891، الرمز البريدي 11441. ويقع الكتاب في مئتي صفحة من القطع
المتوسط (1413هـ/1993م) .
الإسلاميون وسراب الديمقراطية، تأليف عبد الغني الرحال:
يتضمن الكتاب موضوعاً مهماً هو شرعية دخول الإسلاميين إلى البرلمانات.
وقد عرض الباحث كافة المبررات والمسوغات التي يحتج بها من يرى المشاركة
البرلمانية وخاصة قضية المصلحة، ثم يشير إلى أن المشاركة في هذه البرلمانات
هي ترسيخ لواقعها المخالف لدين الأمة.
وقد بدأ الباحث دراسته بمقدمة ضافية تمثل دراسة نقدية موجزة للواقع ...
المعاصر، وموقف الجماعات الإسلامية إزاءه، ثم تكلم عن الموضوعات التالية:
- الديمقراطية.
- المجالس النيابية ومقاصد الشرع.
- مصالح متوهمة أم أبواب مغلقة.
صدر الكتاب حديثاً خلال (1413هـ) عن مؤسسة المؤتمن للنشر والتوزيع -
الرياض ويقع في (536) وهو الجزء الأول من الكتاب، سيليه مستقبلاً الجزء
الثاني عن التجربة المصرية والسورية.(62/84)
ردود ومناقشات
جاءتنا ردود على ما كتبه الأخ محمد عبد الله آل شاكر في العددين (55و56) ، وحرصاً منا على سماع وجهات النظر ننشر هذين الردين باختصار مع الإبقاء
على النقاط المهمة والله الموفق.
- البيان -
رد الدكتور سليمان بن عبد الله العُمير:
لقد اطلعت على ما كتبه الأخ الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر في العدد 55 من
مجلة (البيان) في زاوية: تراث تحت عنوان: (هجوم على العمالقة) . وقر أت ما تضمنه ذلك المقال من الانتقاد اللاذع لما قام به الدكتور حمد الحماد - الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية بالمدينة - من اختصار كتاب المغني لابن قدامة.
ولست أريد بهذه الكتابة الدفاع عن المنتقَد أو مناقشة المنتقِد أو الدخول في تفاصيل
جدوى اختصار الكتب المطولة، أو عدم جدواها. فهذا له أهله، وتحكمه نوعية
الكتاب الذي يراد اختصاره، والحال التي عليها القراء وهل هم بحاجة فعلاً إلى
الاختصار والتسهيل أم أن باستطاعتهم التعامل مع الكتب الكبيرة، والتلقي منها
مباشرة دون عناء. لكني أريد التنبيه على بعض الأمور التي وقع فيها الأستاذ:
أولاً: قوله: (إن هذا المختصر يقع في ثمان مجلدات) والصواب في أن هذا
الكتاب لن يتعدى أربع مجلدات على أكبر تقدير. ولعل الأستاذ صدق هذه الشائعة
نظراً لأنه يوجد في السوق مختصرات وضعها أصحابها في حجم يقارب حجم
الأصل إن لم يزد عليه، وهو معذور في ذلك، لكن الصواب ما ذكرت.
ثانياً: مسألة تيسير الشراء التي افترضها الأستاذ غير واردة أصلاً، فلا محل
لها.
ثالثاً: قوله عن هذا المختصر: (رأيت منه مجلدين اثنين) هو من قبيل
الوهم. والواقع لم يُطبع من الكتاب إلا المجلد الأول فقط، وهو ينتهي بنهاية كتاب
الجنائز كما أشار إليه الأستاذ.
رابعاً: فهم الأستاذ من حذف الدكتور لأقوال السلف من الصحابة والتابعين في
المسائل أن في ذلك حرماناً لطالب العلم من معرفة آراء هؤلاء التي قد تكون لها
قيمتها ومكانتها، وهذا فهم في غير محله. ذلك أن الدكتور إنما حذف من هذه
الأقوال ما كان موافقاً لأقوال أصحاب المذاهب المشهورة، ومعطوفاً عليها، وحينئذ
فالقول موجود وإن حذف بعض من قال به، أما حين يكون رأي هؤلاء السلف
مقابلاً لآراء أصحاب المذاهب فإنه يثبته ولا يحذفه، وعليه فلا نكون حرمنا طالب
العلم من معرفة آراء هؤلاء الفقهاء خارج نطاق المذاهب المشهورة.
هذا ما أردت التنبيه عليه في هذه العجالة ولا يُنكر ما للأستاذ شاكر من جهود
في الذب عن التراث، ومن غيرة صادقة عليه خاصة في مقاليه عن التحقيق
والمحققين في العددين (43و44) مزدوج وفي العدد (45) .
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
رد الأستاذ حسان عبد المنان:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فإني أُخبرت أن رداً على
كتابي (رياض الصالحين) المحقق المهذب وقع في مجلة (البيان) الإسلامية.
فحمدت الله أن أحداً بادر بنقده.
وكنت أتمنى أن يكون الرد الذي وقع في نفسي، وهو تصحيح خطأ أو منهج
سرت عليه، أو بيان مغالطات فيه، وإن كان فبأسلوب علمي خالٍ من التحامل أو
التجريح. ولكن بما أن الكاتب قد تجنى عليَّ، فلا بد من الرد، وهذا هو بين يدي
القارئ:
1- ادعى الكاتب: أني حذفت بعض أبواب (رياض الصالحين) وهذا لم
يحصل.
2 - ادعى: أني حذفت بعض الأحاديث الصحيحة وسكت، ولو أكمل العبارة
لأوضح أنها في هامش الكتاب، فاستغنى عن تكرارها في متنه.
3- ادعى: أن الحذف بلغ عندي أحد عشر بنداً كما في مقدمتي، وهذا غير
الواقع بل هي أكثر.
4- ادعى: أن إحالات الحديث: انظر الحديث كذا.. قد تتجاوز نصف
الصفحة بحرف صغير، وهذا غير الواقع أيضاً؛ فالحرف لم يتغير.
5- ادعى: أني قلت في كتابي: (وافقني عليه الشيخ الألباني) في أحاديث
ضعَّفها. واعترض عليَّ بقوله: والكل يعلم أن تحقيق الألباني على الأقل أسبق من
تحقيقه هو بسنوات فمَن الذي يوافق الآخر؟ .
أيها الفاضل: أنا لا أريد أن أخوض معك غمار اللغة، ولكن يكفي أن أطالبك
بهذه الجملة، أين وقعت عليها في كتابي؟ ! أنا أعرف بكتابي، لم أذكر ذلك
صريحاً في موضع من الكتاب، وإنما اقتصرت على موافقة الشيخ شعيب
الأرناؤوط - حفظه الله - لأني جالسته جلسات عدة في مراجعة الأحاديث الضعيفة
من الكتاب، ووافقني على ما بينت في كتابي.
أما الشيخ الألباني - حفظه الله - فقلت في بداية فصل الأحاديث الضعيفة: (ولعل الشيخ الفاضل الألباني يرجع إلى نحو ذلك بعد ما يرى الحجة في هذا
الكتاب) . فكيف أذكر موافقته على أحاديث - لو صح ما زعمت - وقد قلت قولتي هذه.
ولنعد إلى الملاحظات:
1 - تقول: (أصبحت المختصرات الناسخة للأصول المطولات من تراثنا
كثيرة كثرة تستلفت النظر..)
وأقول: هل المختصرات وليدة هذا العصر؟ أم أنها سُنة من أئمتنا وأئمتك.
ولتوقن أن المختصرات لم يمسخها المتأخرون، أذكر لك نماذج من مختصرات
المتقدمين، وإكثارهم من هذا الباب:
فها هو الإمام الذهبي - رحمه الله - المتوفى سنة (748هـ) قد اختصر أكثر من ثلاثين كتاباً، وقد ذُكرت في مقدمة (سير أعلام النبلاء) ،83 -88.
أما التفاتك إلى عصرنا أيها الفاضل، فانظر مختصرات الشيخ الألباني لكتبه
وكتب غيره، مثل صفة الصلاة، وأحكام الجنائز، والشمائل المحمدية، والعلو
للعلي الغفار، وصحيح البخاري..
وأما رياض الصالحين، فاختُصر من قِبل غير واحد كالنبهاني، وغيره مما لا
زال مخطوطاً في المغرب، والمكتبة الوطنية بباريس. فهل هذه الكتب ماسخة
للأصول؟
2 - تقول: (وأما تهذيبك نصوصاً - ونصوص الكتاب كلها آيات
وأحاديث - فلست أدري والله ما الذي يحتاج إلى التهذيب، أهذه النصوص الكريمة
أم الذي قام بتهذيبها نفسه؟) .
وهنا لابد أن نقل تعريف التهذيب من كتاب الكليات (للكنوي) ، ص308،
يقول: (التهذيب هو عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله والشروع في
تنقيحه نظماً كان أو نثراً، وتغيير ما يجب تغييره، وحذف ما يجب حذفه،
وإصلاح ما يتعين إصلاحه، وكشف ما يشكل من غريبه وإعرابه وتحرير ما يدق
من معانيه) . وبعبارة أخرى: هو اختصار أو زيادة بتصرف.
ومن الأمثلة على الزيادة تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب، وتهذيب إصلاح
المنطق، ومن الأمثلة على الاختصار - مع زج بعض التعليقات الخفيفة فيه -:
المهذب في اختصار السنن الكبرى.
وأما اعتراضك: أن هذه آيات وأحاديث فلا تهذب، فالأمثلة كثيرة على
تهذيب كثير من الكتب المليئة بالآيات والأحاديث واختصارها. وقد تقدم ذكر شيء
منها.
3- عِبت عليَّ أني رتبت بعض الأحاديث - وهي قليلة - في الأبواب
المناسبة.
أقول: إن النقل الذي فعلته في كتابي لا يعدو طريقة المتقدمين في تهاذيبهم.
فانظر مثلاً كتاب (الكمال في أسماء الرجال) للحافظ عبد الغني المقدسي، الذي
رتب كتابه في تراجم الرجال كالآتي: مقدمة في أهمية الإسناد في الحديث، ثم
تراجم العشرة المبشرين بالجنة، ثم تراجم الصحابة، ثم تراجم الصحابيات، ثم
المحمدين من التابعين ومن بعدهم، ثم حرف الألف منهم بالترتيب الهجائي. فجاء
بعده الحافظ المزي، فبنى على كتابه كتاباً آخر سماه (تهذيب الكمال) غيَّر فيه
وبدَّل فبدأ بمقدمة، ثم بترجمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم بتراجم الرواة
جميعاً صحابة وتابعين، وغيرهم على الترتيب الهجائي إلا أنه قدم من اسمه
أحمد في حرف الألف على غيره..
فهل هذا التهذيب - أيها الفاضل - كأصله في ترتيبه؟ .
4- تستحلفني بالله أن هذا كتاب رياض الصالحين نفسه بنصه وفصّه كما
وضعه المؤلف؟ .
أقول: كيف تقول ذلك وأنا أقول لك هذا تهذيبه، وكل عامل يدرك ذلك، ففي
صفحة الغلاف إشارتان واضحتان لذلك. الأولى: قولي: (تمتاز هذه الطبعة
بضبط نصوصها وتهذيبها) . والأخرى: (حققه وقدم له وهذبه وخرجه حسان عبد
المنان) . فكيف تريدني أن أحلف على أمر أنا أقول بخلافه؟ ! .
هذا السؤال نفسه وجهه إلى الشيخ الألباني المحدث - حفظه الله - فقل له:
هل كتاب (السنة) [1] لابن أبي عاصم هو الكتاب الذي وضعه مؤلفه؟ . سيقول ...
لك: أنا وضعت تحت هذا العنوان: (ظلال الجنة في تخريج السنة) ، فيفهم منه
أن هذا الكتاب هو تخريجه. وكحال الكتب المحققة المخرجة أيضاً، هل هي الكتب
التي وضعها مؤلفوها؟ إذاً يجب على قاعدتك أن تذكر فوق كل عنوان: تخريج،
أو شرح، أو تحقيق..
5- تعترض عليَّ لأنني حذفت الأحاديث الضعيفة من الكتاب، وقد فعل هذا
غير واحد من مشايخ عصرك، فها هو الشيخ الألباني مثلاً: استخرج السنن الأربع
بصحيحها وحذف ضعيفها، وكذلك (صحيح الجامع) . فهل ما فعله بنظرك إساءة؟
6- تقول: وما أخال إنساناً سوياً خلقه الله ووهبه عقلاً يشكو صعوبة تناول
كتاب النووي حتى جاء صاحبنا ليسهل له ذلك بالتهذيب كيما يناله بأقرب الطرق
(حتى ولو كانت مشروعة) والغريب حقاً أنه يفعل ذلك ليقرأ الكتاب دون ملل في
وقت قصير مع أن صفحاته الستمائة تقريباً تعادل حجم الأصل..
أقول:
أولاً: وهل اختصر النبهاني الكتاب نفسه لأن فيه صعوبة، وهل اختصر
الألباني أحكام الجنائز، وصفة الصلاة، والشمائل المحمدية، والعلو للعلي الغفار
لذلك السبب نفسه. أم من باب التسهيل والتيسير لهذه الأمة قدر الإمكان.
ثانياً: اعتراضك أن صفحات التهذيب تعادل حجم الأصل، وهذا غير الواقع، انظر إلى طبعة المكتب الإسلامي الجديدة، وطبعة مؤسسة الرسالة المحققة،
وطبعة فاروق حمادة فإنك ستجد أن الأولى والثانية تتجاوز صفحات كل منهما السبع
مئة صفحة، والثالثة نحو التسع مائة صفحة. وأما طبعتي فهي دون الفصل الأخير
نحو خمس مئة صفحة على ما فيها من شرح وتحقيق أثناء الكتاب.
أقول أخيراً: إن الاتهام أسهل البضائع، ولكنها لن تُباع إذا لم تُقرن بالأدلة.
__________
(1) ما زال الكتاب يطبع باسم غير مؤلفه دون أي تنبه لذلك , إذ كتب على غلافه: للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد والصواب: للحافظ أبي بكر بن أحمد بن عمرو بن أبي
عاصم.(62/86)
منتدى القراء
أهمية فقه سُنة الابتلاء
راشد حُسين آل عبد الكريم
إن معرفة الطريق الذي يسير فيه الإنسان لبلوغ هدفه أمر ضروري لمواصلة
سيره دون انقطاع أو فتور، لتجنب ما يمكن تجنبه من العوائق في هذا الطريق.
ومما لا شك فيه أن طريق الدعوة إلى الله طريق طويل وشاق؛ إذ إنه يبدأ منذ أن
يعقل الإنسان دوره ووظيفته في هذه الحياة، ولا ينتهي إلا إذا انتهت المسافة التي
حددها الله له في هذا السفر - وهي عمره - والتي لا يدري عنها المسافر شيئاً،
هذا إذا واصل في هذا الطريق، ولم يستطل المسافة أو يستصعب السير فيبحث عن
طرق أخرى يراها أقصر أو أسهل. وقد يكون فيها هلاكه المحقق!
السمة البارزة لهذا الطريق - كما يذكر الله (تعالى) في كتابه، وكما يذكر
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكما يذكر التاريخ ويؤيده الواقع أيضاً - أنه
طريق ابتلاء وامتحان، طريق محفوف بالمكاره، يشتد الابتلاء فيه - بشتى صوره
- ويكبر كلما أوغل السائر فيه وهو مُصر على التقدم.
وهذا التصور يفيدنا في أمور لعل من أهمها:
1- الاستعداد المناسب لطبيعة الطريق:
إن من يريد اجتياز هذه الطريق يحتاج إلى استعداد وتهيئة وتربية، تهيئة
نفسية تساعد على الاستمرار وعدم التوقف، وتهيئة علمية تساعد على ضبط المسار
وعدم الانحراف.
إن مَن يريد سفراً - وهو يعرف طبيعة الطريق - يلزمه أن يختار أسلوب
السفر المناسب، وطريق الدعوة، وحمْل هذا الدين قد ثبت بالشرع والواقع أنه شاق
تكثر فيه العوائق والمحن، فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه على ما يُحتمَل أن يصيبه
في هذا الطريق، ويعد نفسه لذلك حتى إذا حدث شيء منه يكون قد أخذ استعداده
فلا يُفاجَأ بالأمر فينهار، أو يرتبك إذا لم يكن في حسبانه وتخطيطه احتمال وقوعه، ويقول الشيخ السعدي [1] في قوله - تعالى -: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ]
[آل عمران: 186] : (.. ومنها (أي فوائد الإخبار بالابتلاء) أنه أخبرهم بذلك
لتتوطن أنفسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع لأنهم قد استعدوا لوقوعه
فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجؤون للصبر والتقوى) .
ففقه هذه السنة اللازمة للدعوة إلى الله بتدبير الآيات والأحاديث المخبرة عنها، وبدراسة سير السلف الصالح ممن ابتُلوا في سبيل الدعوة إلى الله - يدعو الحازم ...
إلى الاستعداد والتأهب وتوقع ما سيحصل في مستقبل دعوته.
2- عدم الوقوع في الفتور الذي يصيب بعض الدعاة:
إن كثيراً من الشباب المتحمس يبدأ مجال الدعوة باندفاع ويسر لما يحققه من
نجاح نسبي في أول مشواره مع قلة ما يواجه المبتدئ - غالباً - من عقبات،
فيترسخ في ذهنه أن هذه الطريق كلها بهذه السهولة، قريبة النتائج. فإذا ما توغل
وحصل له أي نوع من أنواع الابتلاء بدأ يتململ ويتذمر، وينفذ صبره، ويتوقف
عن مواصلة الطريق، ثم يخبو حماسه أو ينطفئ تماماً، وما ذلك إلا لأنه لم يكن
مدركاً من الأصل طبيعة هذا الطريق، بل كان لديه تصور متفائل جداً، وغير
مستند على أدلة شرعية، أو حقائق واقعية مما جعله يفاجأ بالحقيقة التي لم يعدّ نفسه
لها منذ البداية، وقد تصل الحالة بمن كان مفرطاً في التفاؤل إلى التخلي عن مبدأ
الدعوة إلى الله ولو تدريجياً.
3- عدم التسرع والاستعجال في تحصيل النتائج:
إن الداعي إلى الله إذا لم يعلم ويتيقن أن ما سيصيبه في طريق دعوته - من
عدم استجابة الناس على عجل أو عدم استجابتهم البتة، أو عدم ثباتهم على
الاستقامة أو عدم زوال المنكرات، بل أحياناً ازديادها أو غير ذلك - إنما هو من
الابتلاء والامتحان له، بل قد يدفعه جهله هذا إلى الظن أن هذه هي النتيجة النهائية
وأنه - والدعاة معه - قد خسروا فيتصرف تصرفات رعناء متسرعة من واقع
الضغط النفسي الذي يضايقه، ظاناً أنه بذلك يحقق نصراً للدعوة لم يستطع تحقيقه
بأسلوبه الأول الذي اعتمد على الرفق والتؤدة.
مثلاً: أن يسعى لتغيير بعض المنكرات الكبيرة الشائعة بالقوة التي يرى -
بفهمه القاصر - أن فيها مصلحة للدعوة، وهذا مما يسبب مشاكل كبيرة للدعوة التي
يحملها، والتي كان يمكن تفاديها لو علم أنه ليس مطالَباً بأن يهتدي الناس على يديه، بل واجبه هو دعوة الناس وتبليغهم دين الله، وهو إذا قام به على خير وجه فهو
نجاح بالنسبة له بغض النظر عن النتائج.
والداعي ليس مطالباً بتحقيق نصر الإسلام فهذا أمره إلى الله متى شاء أن
يحدث حدث، لكنه مطالب ببذل الجهد في هذا السبيل فحسب، والرسل والأنبياء
كانوا يخاطَبون بذلك [فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ] [الشورى: 48] ، فالعجلة والتسرع في قطف ثمار الدعوة، وتحصيل نتائجها
كلها يتطلب أمراً أساسياً ألا وهو الصبر.
__________
(1) تفسير السعدي، ص468، ط1.(62/93)
هُجِرَ الكتاب
عبد الله بن محمد العسكر
طُوي الكتابُ وجفَّت الأقلامُ ... فعليكَ يا زمنَ الإباءِ سلامُ
واستأسد الفأرُ الضعيفُ بعصرنا ... وأُميطُ عن وجهِ اللئيمِ لِثامُ
تلك المآسي لستُ أحصي عدَّها ... في كلِّ يومٍ محنةٌ وسَقامُ
كلُّ المصائب سهلةٌ ويسيرةٌ ... أما مصائب أمتي فَجِسَامُ
إني أنادي والرياحُ عصيبةٌ ... والأرضُ حجرٌ والدِّيارُ ضِرامُ
يا ألفَ مليونٍ ألا مِن سامعٍ؟ ... هل من مجيبٍ أيها الأقوامُ؟
فأجابني صوتٌ دويٌ صاخبٌ ... أصغتْ له الوديانُ والآكامُ
فرفعتْ رأسي إذ بشبلٍ شامخٍ ... خجلتْ لفرطِ عُلُوِّهِ الأجرامُ
فسألتُه: مَن أنت؟ قال بعزةٍ: ... أنا مسلمٌ وشعاريَ الإسلامُ
أنا شبل سعدٍ يا نجومُ وخالدٍ ... أنا شبلُ حمزةَ ذلك الضِّرغامُ
الساجدون بليلِهم أما إذا ... لفحَ الهجيرُ فإنهم صوَّامُ
ثم انقضتْ تلك المفاخرُ كلُّها ... كأنما كانت لنا أحلامُ(62/95)
أناس يتطهرون
إدريس نقش الجابري
تطهرنا من الأوثانِ فينا ... وخُضنا في الشقاء وما شقينا
وراع الثُّلَّةَ البيضاءَ أَنَّا ... كفرنا بالظلامِ ولن نلينا
فهذا القسّ والوثني صارا ... يزفَّان السلامَ لقاتلينا
أقاموا " مجلساً " لهمُ وسنُّوا ... قوانينا لأمنِ الظالمينا
وسَمَّوا دفعنا للظلم عنفاً ... وإرهاباً يصيب الآمنينا
وسَمَّوا رُعبَهم أمناً فأهَدُّوا ... لأسْرانا المشانق والسجونا
وقالوا: أخرجوهم! إنما هُم ... أناسٌ أصبحوا يَتَطَهَّرونا
فآوينا إلى ركنٍ شديدٍ ... تشرفُهُ الملائِكُ ما حيينا
أتانا الرومُ يغتصبون لكنْ ... رمينا بالحجارةِ غاصبينا
نُكبِّرُ إن أقاموا الحصنَ يوماً ... ونقذفُ بالمقاليع الحصونا(62/96)
ماذا ينتظر المسلمون؟
عدنان محمد عبد الرزَّاق
إذا كانت وحدة العمل الإسلامي والتنسيق بين العلماء والدعاة والتشاور بين
الجماعات من الأمور المطلوبة أكثر من قبل وأشد إلحاحاً، فإن معاناة المسلمين،
وما يلاقونه من عذاب وقهر، وإذلال وقتل وتشريد، وما يخطط لهم عدوهم - مما
هو أشد وأنكى - يتطلب منا اليوم أكثر من أي وقت مضى الوقوف وقفة رجل واحد
لوضع حد لمعاناتنا، وإيجاد مخرج من هذا النفق المظلم، والبحث عن أسباب
ووسائل التمكين والعزة؛ فالدموع والآهات والحسرات ليست هي الرد الأمثل،
وكذلك الخطب والمحاضرات، اللهم إلا إذا كانت تدندن حول هذه المواضع وتمهد
لها.
لم يعد خافياً على أحد: أن العالم أجمع - قديمه وجديده - اتفق على ألا تقوم
للمسلمين قائمة، ونلمس ذلك صباحاً ومساءً، فماذا أعددنا لمواجهة ذلك؟ وعلى أي
شيء اتفقنا؟ .. أخشى ما أخشاه أن نكون اتفقنا على الشيء نفسه لكن بحسن نية،
وسلامة قصد؛ إذ كلمة الحق مرة، ولكن من مُر الدواء يكون الشفاء بإذن الله.
فحين يقول الزعيم: أنا ولا أحد غيري! ! وتدعي كدعوات هذه الجماعة وتلك،
ونبقى نحن على ما نحن عليه يستفحل هذا التنازع المؤدي للفشل وذهاب الريح! !
إن معرفة واقع المسلمين وأسباب ضعفهم، واكتشاف أمراضهم وعِلَلهم ليس
خطأً ولا عيباً، بل الخطأ في المجاملة والطمأنة بأننا بخير وأحوالنا في تحسن،
والنصر لنا، والمستقبل والصحوة، إلى آخر ما هنالك من هذه العبارات.
لا يشك أحد أن المستقبل لهذا الدين، وسيبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولكن هذا
النصر من الله - تعالى - جعله الله - تعالى - على أيدي المسلمين أنفسهم،
وبجهودهم ونحن لسنا أعز على الله - تعالى - من رسوله الكريم؛ إذ أخذ بكافة
الأسباب، حين أراد الهجرة من مكة، من رفيق الطريق، والزاد والدابة،
واستئجار الدليل، وإخفاء الليالي، كل ذلك والله قادر على إيصاله إلى المدينة بأقل
من طرفة عين، لكنها السنن، والمدرسة التي يجب أن نتعلم منها ونتلمس خُطاها،
[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ] [آل عمران:
142] .
إن التمني وأحلام اليقظة لا تنتج إلا حراباً تنحر رقاب المسلمين، بعد أن
أصبح الخوف والخنوع شعارنا، ونشيد أطفالنا الذين ينامون ويستيقظون على أحلام
الخوف والفزع.. حول ما يرون ويسمعون، فإذا قرأت كلمة (ذُبِحَ) فتوقع بعدها
المسلمين، وإذا سمعت (هُتِكَ) فلا بد أن تكون أعراضهم، وإن ذُكر الهدم
فالمقصود مساجدهم..
أيرضى عن هذا الذي نحن فيه مسلم يبتغي وجه الله واليوم الآخر؟ أترضى
عن ذلك جماعة تبتغي إعلاء كلمة الله وإقامة شرعه؟ .
وإني أقول الجواب: إن من لم يعمل لإيجاد مخرج مما نحن فيه، ومن لم
يسعَ حسب قدرته وطاقته، ومن لم يكن هذا همه، فليفهم نفسه أنه على خطر عظيم.
إن المسؤولية تكبر بكبر الموقع، والإمكانات، وإن مكان ذلك لا يعفي أحداً
منها، ومن يدري فرُبَّ كلمة في هذا الاتجاه يهيئ لها الله - سبحانه وتعالى -
القبول ممن بيدهم الاستطاعة والقدرة؛ فالحروب الصليبية كلها عائدة لبطرس
الراهب الذي جاب أوربا شرقاً وغرباً - لا يملك سوى الكلمة لتحريض النصارى
على تخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين حسب زعمه.
ونحن في هذا المجال لا ننكر جهود بعض المخلصين ونداءاتهم من أجل وحدة
العمل الإسلامي ورصّ الصفوف رغم ما يعترض ذلك من صعاب ومشقة، ولكن
النتائج لم تُظهر أية مبادرة عملية في هذا الاتجاه، حيث كثرت الأقوال وقلَّت
الأعمال.
إن خلاص النية لله والتوكل عليه وتقواه أساس البداية الصحيحة السليمة؛
ومصداق ذلك قوله - تعالى -: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً] [الطلاق: 2] . [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] [الطلاق: 3] ، ثم يأتي الإعداد والأخذ
بالأسباب؛ لقوله - تعالى -: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ]
[الحديد: 25] .(62/97)
السرقة أنواع ودرجات
عادل محيي الدين نصار
قد يظن البعض من الناس أن مفهوم السرقة محصور فقط في أخذ مال الغير
من حِرْزه، والاستيلاء عليه بدون وجه شرعي.. وكفى. ولكن مفهوم السرقة
أعمق من هذا بكثير.. فقد تفنن الناس فيها، واخترعوا اختراعات، حتى صارت
أنواعاً ودرجات.. بعضها أظلم وأعقد من بعض.
فمن أنواع السرقات التي انتشرت في الآونة الأخيرة في العالم أجمع: سرقة
الأعمال الأدبية، سواء أكانت شعراً أم نثراً أم قصة أم رواية.. الخ. وكذلك سرقة
المؤلَّفات بكاملها أو بعضها.. أو الخروج على قانون الاقتباس، وهذا ما قد عمَّت
به البلوى - ولا حول ولا قوة إلا بالله -.
وكذلك ما تفعله بعض دور النشر والتحقيق التي لا ضمير لها، وكذا بعض
الأفراد الذين يعملون في هذا المجال.. فمصائبهم لا تعد ولا تحصى ... كل هذا
سرقة للتراث، وقتل للنبوغ والابتكار وإهلاك الاقتصاد.
ومن أشد أنواع السرقة، ومن أقتمها درجة، وأعظمها عند الله: سرقة بعض
المدراء لجهود مرؤوسيهم، ولا سيما إذا كان هذا المدير ذا فصاحة وبيان وعنده
القدرة على التلاعب بالألفاظ والاستخفاف بعقول الآخرين والتأثير عليهم بسحر
لسانه وقوة بيانه وكذبه وتماديه في الباطل، فيخلط مع الكلمة ألف كذبة؛ ليأكل
بلسانه حقوق الموظفين التابعين لإدارته، وهذا الصنف من المدراء كثير - لا
كثَّرهم الله - في كل زمان ومكان.(62/99)
المجتمع الإسلامي
المرأة وخدمة العقيدة! !
الرباب بنت عبد الله
قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: كان الرسول - عليه السلام -
يقول في مرضه الذي مات فيه: (يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت في
خيبر) .
هذا حديث صحيح ذكره البخاري في باب (مرض الرسول الذي مات فيه) .
لقد وقفت مع هذا الحديث وظللت أتأمله وأردد بيني وبين نفسي (إن هذا لشيء
عُجاب) ! ! ؛ أجل فقد استولى عليَّ العجب لكون طعام يهود خيبر المسموم الذي
قدموه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجئ به شاب مفتول العضلات ولا
رجل قوي البنية! إنما تولت زمام هذه المؤامرة الدنيئة امرأة ضعيفة! !
سألت نفسي مراراً:
تُرى ما الذي حمل هذه المرأة على أن تخطط لقتل رسول الهدى؟ ! وما
كان - بأبي هو وأمي - من الملوك الظلمة الذين يأخذون أموال الناس غصباً وعدواناً
هل هو شعور هذه المرأة بأنها عضو في مجتمع وعليها دور لابد أن تؤديه؟ !
إذا كانت هذه المرأة اليهودية قد عرَّضت نفسها للمشاق والألم. وهمت
بمبارزة الرجال حرصاً على بقاء عقيدتها الهشة التي أحاط بها الباطل من بين يديها
ومن خلفها.. فماذا تراها فاعلة لو كانت تحمل في صدرها عقيدة التوحيد الصافية
التي يحملها فتيات الإسلام ومع ذلك قلما يجتهدن لنصرتها، ويحملن همها ويقدمن
لأجلها الرخيص فضلاً عن النفيس! !
كأن فتاة الإسلام قد أغمضت عينيها فلم تبصر نساء اليهود والنصارى في
عصرنا وقد شمرن عن ساعد العمل والجد. حتى قامت (إيميلدا) - زوجة ماركوس
حاكم الفلبين السابق - بقيادة معظم الحركات التنصيرية ضد المسلمين في مندناو
والجزر الإسلامية! ! ، بل إن حماسها العقَدي حملها على إنشاء منظمات نصرانية
كمنظمة (ايلجاس) التي ليس لها مهمة إلا قتل الشباب المسلم في الفلبين، وقتل
نسائهم وتخريب ديارهم! كما لم تنسَ هذه النصرانية تكوين عصابة سمتها ...
(عصابة الفئران) وصرفت لموظفيها مبالغ طائلة ليصطادوا فريستهم التي ليست إلا نحن (! !) .
وإني أحسب أن فحيح (عابدة حسين) الذي تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً،
ليس إلا دليلاً على أن العصر عصر العقائد، حتى عند الجنس اللطيف! ؛ إذ دأبت
هذه المسيحية على تحريض بلادها (باكستان) كي تعترف بالكيان الصهيوني الذي
ترتبط هي به روحياً وعقائدياً! !
والأمثلة على هذا النوع كثيرة ... غير أني أدَعُها وأدْعو نساء المسلمين إلى
مطالعة صفحات التاريخ المشرقة ليرين خطوات أسماء ونطاقها الذي لم تجد غيره
فشقّته! وليتأملن صمود أسماء وابنها عبد الله، فهل كان يرخص رأس عبد الله في
عيني أمه لولا عقيدة يرخص دونها الوالد والولد؟ !
لماذا تُشيح فتاة الإسلام بسمعها عن صوت الخنساء وهي تردد: (الحمد لله
الذي شرفني بقتلهم) ! وهي التي همت قبل إسلامها بقتل نفسها حزناً على أخيها؛
إذ قالت:
ولولا كثرةُ الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلتُ نفسي!
تُرى ما الذي غيَّر لغة الخنساء وعاطفتها، ومن ذا الذي منحها طاقة تواجه
بها مصيبة موت أولادها الأربعة إلا عقيدة لا طعم للحياة بدونها!
وفي العصر الحديث لا نعدم جيلاً نسائياً استشعر عظمة العقيدة فجاهد
لنصرتها، ولم يقف تفكير هؤلاء النسوة عند حدود الطبخ والثوب والحذاء والزوج
والولد وأمن البلاد، بل كان مع تربية الولد وإسعاد الزوج وخدمة أمتها..
أختاه.. (للنائمات فقط) ، العقيدة لا تحتاجنا، بيد أننا نحتاج خدمتها لنتذوق
طعم الحياة بها! !
__________
(1) صحيح البخاري، (والله يعصمك من الناس) ، عرض تاريخي لمحاولات اغتيال الرسول، أحمد الجدع.
(2) انظر: مجلة الدعوة، تاريخ 8/5/1412هـ، ص16-17.
(3) مجلة الجهاد، العدد رقم 85، شعبان عام 1412هـ عابدة حسين سفيرة باكستان لدى الأمم المتحدة.(62/104)
آداب الزيارة وحدودها
بين النساء
أم عبد الرحمن
إن للزيارة آداباً وحدوداً، فإذا فقدت الزيارة بعضاً من هذه الآداب وتجاوزت
شيئاً من هذه الحدود، فإن القلوب قد تتنافر، كنتيجة لذلك.
وقد جمعت شيئاً من هذه الآداب من واقع التجربة، راجية من الله - عز وجل
- أن يجعل فيها الفائدة المرجوة لأخواتي في الله، وأن تكون بعيدة عن الإفراط
والتفريط.
من آداب الزيارة:
1- اختيار الوقت المناسب، واليوم المناسب للزيارة:
فلا يكون الوقت في الصباح الباكر أو في وقت الظهيرة بعد الغداء، أو في
وقت متأخر من الليل؛ فإن وقت الصباح الباكر وقت نوم عند بعض النساء،
ووقت عمل عند أخريات (من تنظيف بيت وإعداد طعام..) .
ووقت الظهيرة بعد الغداء هو وقت القيلولة، وهو وقت نوم أو استراحة
للزوج بعد عودته من العمل. والوقت المتأخر من الليل هو وقت السكون والراحة
أيضاً وهو وقت خاص بأفراد الأسرة.
2- اجتناب الزيارات المفاجئة بدون موعد مسبق أو استئذان:
وتلافي ذلك بسؤالك صديقتك التي ترغبين في زيارتها (عن طريق الهاتف إن
استطعت) عمَّ إذا كان وقتها يسمح لها باستقبالك إذا لم تكن لديها أية مسؤوليات تجاه
أطفالها أو بيتها أو زوجها في ذلك اليوم. وبهذا الاستئذان تكون مهيأة ومستعدة
لاستقبالك، بعكس الزيارة المفاجئة التي قد تسبب الضيق والإزعاج لصديقتك،
خاصة إذا كانت صديقتك - أو بيتها - في حال أو في هيئة تكره أن يراها أحد
عليها.
3 - أن لا تطول مدة زيارتك:
لأن الزيارة إذا كانت مدتها طويلة قد تُشعر صديقتك بأنك أثقلت عليها وأنك لا
تبالين بكثرة مسؤولياتها كزوجة وأم وربة بيت، وبالتالي قد يذهب ودّها لك أو يقل.
4- إذا طالت مدة الزيارة فينبغي استغلال الوقت بما ينفع:
وبما يكون فيه لك ولصديقتك الأجر والثواب، وذلك بقراءة أحد الكتب
الإسلامية، أو سماع شريط نافع، كي تشعر صديقتك بالسرور؛ لأن زيارتك
أفادتها الكثير ولم يذهب وقتها هباءً في الثرثرة من تشدق وغيبة ونميمة.
5- التحفظ وقت الزيارة في الأقوال والأفعال:
بحيث لا تُظهري لصديقتك شيئاً من الفضول في قولك أو فعلك بكثرة
الاستفسار عن أشياء تخصها، أو تخص زوجها - والتي ربما تكون عادية - ولكنها
لا تحب البوح بها لك أو لغيرك.
6- إظهار الرضى والسرور والبشاشة بما تقدمه لك من طعام أو شراب:
واستكثاره مهما كان قليلاً، وتقديم النصيحة لها بالبعد عن الإسراف والتكلف
للضيف في المأكل والمشرب، وعدم التحدث بعيوب الطعام الذي قدمتْه لك مهما
كان نوعه.
7- تجنب كثرة المزاح:
إذا تجاوز الحد أورث مقتاً واحتقاراً لصاحبه، وقد يملأ القلوب بالأحقاد إذا
كان مزاحاً ثقيلاً وجارحاً لكرامة الشخص ولمشاعره.
8- إصلاح ما قد يتلفه أطفالك من متاع أو أثاث في بيت صديقتك أثناء
زيارتك لها:
(إذا كان بالإمكان إصلاحه وقتئذٍ) ، وتنظيف أو إزالة ما قد يُحدثه أطفالك من
فوضى أو قذارة في بيتها؛ حتى لا تشعر صديقتك أنك ضيفة ثقيلة عليها أنتِ
وأطفالك.
9- تقديم الشكر لصديقتك عند نهاية الزيارة:
والدعاء لها بقولك: (جزاك الله خيراً) على استقبالها لك وحسن ضيافتها لك، وقدمي لها الاعتذار إن بدا منك أو من أطفالك أي أذى لها أو لأطفالها أثناء الزيارة؛ فإن هذا الاعتذار قد يُذهب ما في القلوب من كدر أو جفاء أو شحناء إن وجد.
10 - عدم تكرار الزيارات في فترات متقاربة من الزمن:
حتى لا تتولد الجفوة والسآمة بكثرة الخلطة واللقاءات والاجتماعات المتكررة
والمتقاربة، وقد قيل: (زُرْ غِباً تزددْ حباً) ، وقيل أيضاً: (لا تزرِ القوم قبل أن
يشتاقوا إليك، ولا تمكثْ حتى يضجروا منك) .
وختاماً.. فإني أرجو أن تكون هذه الآداب بعيدة عن الإفراط والتفريط وأن
تكون أقرب إلى الحق والصواب والعدل.(62/107)
ظواهر
الأحباش: دعوة أم فتنة؟
محمد الشيخ عثمان
ظهر في لبنان في السنوات الأخيرة طائفة تسمى الأحباش، نسبة إلى شيخهم
عبد الله الحبشي وقد تبنت هذه الطائفة عقائد خالفت فيها كثيراً من اعتقادات أهل
السنة كما سلكت مسالك شاذة في الفقه والسلوك. ولهم جمعية اسمها (جمعية
المشاريع الخيرية) ومجلة شهرية تسمى (بمنار الهدى) تصدر في لبنان. ونظراً
لأن مؤسس هذه الفئة (عبد الله الحبشي) يدعي أنه من الصومال بل يدعي أحياناً
أنه مفتي الصومال؛ رأيت أن أكتب بعض الحقائق عنهم لكوني من الصومال أولاً،
ولأنني كنت أتابع نشاط هذه الفئة لبعض الوقت. وقبل أن أتطرق لمعتقداتهم رأيت
أن أكتب عن المؤسس.
أسس هذه الفئة عبد الله بن محمد الشبيب الهَرَري [1] الحبشي [2] . وهو
ليس من الصومال كما يدعي، ولا أظنه معروفاً عند الصوماليين فضلاً عن كونه
مفتيهم.
شخصية الحبشي شخصية غامضة لم تكن معروفة كثيراً في العالم الإسلامي
أو في شرق إفريقية إلا ما ذكره الشيخ عبد الرحمن دمشقية من أن الرجل ساهم في
فتنة المسلمين في أرض هرر، وخاصة فتنة (كلنب) [3] وقد ذكر أن الحبشي
حارب أهل السنة بإيعاز من أديس أبابا وتعاون مع الحاكم ادتراجي صهر
هيلاسيلاسي، وسبب إغلاق مدارس تحفيظ القرآن، حتى عُرف بشيخ الفتنة، ثم
هرب من الحبشة إلى الشام، وأسس مذهبه في لبنان وكانت أزمة لبنان الأخيرة مما
ساعده على ذلك حيث وجدها مرتعاً لأفكاره المنحرفة، ومدخلاً للعالم الإسلامي لبث
اعتقاده. ومما يؤكد أن شخصية الحبشي غامضة ما ذُكر في مجلتهم (منار ...
الهدى) [4] ، حين أجرت مقابلة مع ابنه الذي صرح أنه لم يلتقِ بوالده حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره! .
الأحباش:
أكثر (الأحباش) من لبنان، وقلة من الجنسيات الأخرى، وقد بدؤوا أخيراً
تكوين نشاط في بعض الدول الغربية، مثل الدانمارك، وسويسرا، وفرنسا، وأكثر
أتباعه شباب متعصبون لشيخهم ومذهبهم المبنيّ على كثير من الاعتقادات الفاسدة،
والشذوذات الفقهية.
ففي الاعتقاد: خالف الحبشي أهل السنة في كثير من مسائل العقيدة، فهو يتصيد الآراء الفاسدة من كل الفرق المنحرفة، فتجده تارة جهمياً وتارة مرجئاً، كما أنه يأخذ فكرة التكفير من الخوارج، ففي الصفات نجده مدَّعياً أنه يؤمن باثنتي عشرة صفة فقط، ويزيد عليها مخالفة الله للحوادث والقيام بالنفس [5] . كما أنه لا يؤمن بصفتَيْ الغضب والرضا، ويرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان [6] .
سَبّه للصحابة:
إن عبد الله الحبشي يفسّق معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ومن كان
معه ضد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهو في هذا متشيع خارج عن
مذهب أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة وعدم الخوض فيما شجر بينهم، كما
يفسّق أم المؤمنين عائشة - عليها رضوان الله -[7] .
تكفيرهم للعلماء:
من سمات الأحباش تكفيرهم لعلماء شُهد لهم بالعدالة والاستقامة، فهم يكفرون
شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب
وغيرهم. ومن العلماء الذين يكفرهم الحبشي الشهيد سيد قطب - رحمه الله -
والمحدث محمد ناصر الدين الألباني،. والشيخ عبد العزيز بن باز، بل ويكفرون
الجماعات السلفية، وجماعة الإخوان المسلمين. مقابل تفسيق الصحابة، وتكفير
العلماء نجد الحبشي يمدح ابن عربي، وعبد الوهاب الشعراني، وغيرهم ممن
عرفوا بالشعوذة والدجل [8] .
آراؤه الفقهية:
سلك الحبشي مسلكاً شاذاً في الفقه، فهو يرى خروج المرأة متبرجة متعطرة
إلى الشوارع، ويرى اختلاط النساء بالرجال لأجل الدعوة، ويكفر من يحذر من
ذلك كما فعل بحق الشيخ فيصل مولوي، ومن أغرب ما ذهب إليه الحبشي إجازته
لمن أراد التخلف عن الجمعة أو الجماعة أن يأكل الثوم والبصل؛ مستدلاً بحديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربنَّ ...
مسجدنا) [9] وهذا غاية في الشذوذ والضلال، وإذا فُهمت النصوص بهذا الفهم ... الحبشي فلن يكون هناك كتاب أو سُنة.
ومن غرائبهم أنهم موسوسون في إخراج الحروف، فتسمع لهم في الصلاة
صفيراً بسبب بحثهم عن مخارج الصاد، وقد شبَّههم الشيخ محمد عبد الله الشامي
بفعلهم هذا في مساجدهم كأن مساجدهم مملوءة بالعصافير! [10] .
استخدام العنف في نشر مذاهبهم:
وهذا مذهب أهل الضلال والانحراف مثل الخوارج؛ فأهل السنة لا
يستخدمون العنف لنشر مذهبهم ويتقون الله في دماء المسلمين. وقد سبق أن اتُّهِموا
بمقتل الشيخ القصاص [11] وغيره. ولا يمكن أن يُترك هؤلاء يروِّعون المسلمين
في مراكزهم ومساجدهم.
أقوال علماء المسلمين فيهم:
لقد أخبرني مَن أثق فيه: أن من أحسن ما كُتب أخيراً في الرد على الأحباش
كتاب (إطلاق الأعنَّة) ، كما أن كتاب (الرد على عبد الله الحبشي) للشيخ محمد
عبد الله الشامي يعتبر كتاباً جيداً، ناقش معتقدات الأحباش بهدوء، وبطريقة علمية. وقد تكلم على هذه الفئة علماء أجلاء منهم: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
حيث قال عنهم: (إن هذه الفئة معروفة لدينا وهي فئة ضالة، ورئيسها عبد الله
الحبشسي معروف بانحرافه وضلاله والواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم) . وذكر
سعد الدين خالد ابن الشيخ حسن خالد - رحمه الله - مفتي لبنان: (إن هؤلاء ليسوا
بعيدين عن مخططات أعداء الإسلام في نشر الفُرقة والآراء الشاذة ليشغلوا المسلمين
بها) .
وخلاصة القول إن هذه الفئة تستخدم إمكانيات اقتصادية هائلة، ومن خلالها
ينشرون مذهبهم بين المسلمين؛ لذا يجب على علماء الإسلام التصدي لهؤلاء وتفنيد
بدعهم، والرد عليهم، وبيان زيفهم وضلالهم.
__________
(1) نسبة إلى هرر مدينة شهيرة قامت فيها إمارات إسلامية وهي الآن جزء من الحبشة.
(2) نسبة إلى الحبشة.
(3) المسلمون، العدد (410) ، 17 من جُمادى الآخر عام 1413هـ، ومجلة الفرقان، العدد
(33) ، رجب عام 1413هـ.
(4) منار الهدى، ص33، العدد رقم 3.
(5) انظر الرد على الحبشي للشامي.
(6) الدليل القويم، ص10-11، والرد على الحبشي للشامي، ص218.
(7) الدليل القويم، ص214.
(8) الدليل القويم، ص152 (الفتوحات المكية) .
(9) رواه مسلم بلفظ: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته) .
(10) الرد على الحبشي للشامي، ص29.
(11) الفرقان، العدد (33) ، رجب عام 1413هـ.(62/110)
الصفحة الأخيرة
باسم رب الغلام
د. محمد الحضيف
اقتربتْ من صدره فاحتضنته، ثم تراجعت خطوة إلى الوراء، ويدها ما
زالت على صدره وقالت:
- ما هذا يا عبد الله؟
- درع أتقي بها ضرباتهم.
- أتخاف من الحجَّاج يا عبد الله.. أتخاف من الموت؟ !
قلت لها: لماذا لا تخافين أن يكون اسمك على ورقة، لماذا تطالبينني أن
أكون (عبد الله) ، ولا تحاولين أن تكوني (أسماء) ؟ سكتت وانتهى هذا الحديث.
ثم.. لما جنَّ عليَّ الليل أخذت أتأمل فيما قلت لها: هل قسوت عليها. هل
طالبتها بما لا تستطيع؟ ، لقد تحدثنا عن التضحية، عن كيف عانى - عليه الصلاة
والسلام - حتى يبلّغ الرسالة. إننا دائماً نتحدث عن الحاجة إلى الرواد الذين
يتقدمون الصغوف ليلتقطوا الراية أو يحملوا المشعل، وكثيراً ما نستخدم مثالاً سخيفاً، فنقول: (مَن يعلق الجرس؟) فتتبادر إلى أذهاننا قصة الفئران والقط. لهذا ...
السبب نعاني شُحاً في الرواد والرائدات.. ما دام المثال فئراناً وقططاً؛ فالمسألة لا
تستحق تضحية، فضلاً عن أن تكون هناك ريادة.
استبد بي الأرق وعافني مضجعي وأنا أتأمل فيما قلت. تذكرت حديث
صاحبي الذي قال: كنا في مجلس فحُدِّثنا عن صفة أهل النار فرانَ علينا صمت
كصمت مَن في القبور، وما تجد واحداً منا يلتفت إلى صاحبه. ثم حُدثنا عن صفة
أهل الجنة فارتفع بكاؤنا وعويلنا. تعجبت.. قال: لا تعجب، حينما كان يتحدث
عن أهل النار خفنا أن يسمينا لكثرة ما اقترفنا، فلزم كل منا الصمت خشية أن يقول
ها هو ذا. وحينما تحدث عن أهل الجنة، وتحدث عن أدنى أهلها والحوار الذي
دار بينه وبين الرب - جل وعلا - بكينا وكل واحد يؤمّل أن يكون ذلك الأدنى. ثم
أضاف صاحبي وقال: لكنه حدثنا حديث الغلام.
سرتْ في جسدي رعشة وأنا أردد: حديث الغلام. هل تذكرون حديث الغلام؟؛ هذا أعظم الرواد. ليتني قلت لها حديث الغلام. صحيح أنني حدثتها عن أم
المؤمنين خديجة وهي تدثره - عليه السلام - وتقول: أبشر، والله لا يخزيك الله.
كأني أقول لها كوني خديجة.
لكن ما حال الغلام؟ هل تريد أن تقتلني، قالها الغلام. اجمعِ الناس، وخذ
هذا السهم وقل: باسم رب هذا الغلام ثم أطلقْ السهم فتقتلني. جمع الناس وقال:
باسم رب الغلام وأطلق السهم؛ مات الغلام، وقال الناس: آمنا برب الغلام.
ومضت في التاريخ قصة أعظم الرواد. فمَن يكون مثل الغلام.. لا من يعلق
الجرس؟ ! .(62/116)
ذو القعدة - 1413هـ
مايو - 1993م
(السنة: 7)(63/)
كلمة صغيرة
ما زالت الكتابات التي تتناول أحوال المسلمين دون المستوى المطلوب، فمنذ أن كتب الأمير شكيب أرسلان تعليقاته الشهيرة على كتاب (حاضر العالم ... الإسلامي) ، لم يظهر كتاب يماثله في وصف حالة المسلمين وواقعهم وما هم عليهم من القوة والضعف والجهل والعلم وما هي ثرواتهم ومؤسساتهم وواقع الدعوة بين صفوفهم.
سنقدم في هذا العدد من (البيان) محاولة متواضعة لسد هذه الثغرة، وسنتابعها
في الأعداد القادمة إن شاء الله وسنتطرق للحديث عن أحوال المسلمين في المناطق (المنكوبة) ، والتي تسميها الصحافة (مناطق ساخنة) تخفيفاً من هول المأساة.
وهذا الموضوع واسع ودقيق يتطلب جهوداً جمة، وإمكانات قوية، ولذا فربما
نعجز عن تحقيق ما نرنو إليه ولكننا سنسدد ونقارب والله من وراء القصد.
المحرر(63/1)
الافتتاحية
هذه هي القضية
هل أصبح المسلم منبوذ هذا العصر؛ يتحاشاه الناس كما يتحاشون من الجمل
الأجرب؟
إن الحملة الإعلامية الخبيثة التي تُشَن عليه تريد ترسيخ هذه الصورة في
أذهان الناس. وتستغل أخطاءً هنا وهناك كي تكتمل الصورة ويكتمل العرس
الإعلامي الذي يقوده الغرب بعد أن استفرد بالمسلمين على الساحة العالمية.
إن من طبيعة الغربي في تفكيره وسلوكه أن لا يرضى بالتنازلات القليلة،
فكلما تنازلت له عن شيء يطلب المزيد، أما المسلمون فليسوا على استعداد لترد
دينهم وعقيدتهم إرضاءً للغرب. وأما الذين يلهثون وراءه، فهل يستطيعون بعد
الانسلاخ عن دينهم تغيير جلودهم؟ .
لا شك ستبقى نظرة الغرب إليهم نظرة فوقية ولو قبَّلوا أقدامه.
ليست (قضية الأصولية) هي الغضية المستهدفة عند الغرب، وإنما المستهدف
هو الإسلام عقيدة وسلوكاً وحضارة، وقد عبرت عن هذه النوايا صحيفة يهودية
عندما طالبت بإلغاء البرامج الدينية من الإذاعة والتلفاز، بل وإلغاء العبارات
الدينية! .
تقول الصحيفة: (الأمر العجيب في القاهرة أن حوانيت الملابس تُسمع فيها
آيات القرآن، وتذيع إذاعة القرآن الكريم هذه الأيام (19) ساعة يومياً، ويدل
استطلاع الرأي أن 96% من المستمعين المصريين يفضلون هذه الإذاعة على
غيرها) ، وتعلق الصحيفة على إلغاء برامج إذاعة القرآن والاقتصار على تلاوة
الآيات: (إن خلفية إلغاء البرامج الدينية من الإذاعة الإسلامية هو ادعاء الدوائر
العلمانية، إن مصر تستخدم عبارات دينية في جميع مجالات الحياة، مما يشكل
تربة خصبة للإسلام الأصولي..) [1] .
لقد عبر عن هذا الاتجاه أيضاً (أنس الشابّي) ، التونسي العلماني الذي كتب
معاتباً لدولة مجاورة لأنها تستقدم المشايخ من الأزهر لإلقاء المحاضرات والدروس
الدينية، يقول: (لا يمكن للأزهر إلا أن يكون السند الخفي والظاهر للتطرف
والانغلاق والتحجر، لأنه كان ولازال دائماً وأبداً معارضاً للتطور، وخصماً لحرية
الفكر، ومنذ بدايات هذا القرن مثَّل الأزهر مؤسسة الانغلاق، يدل على ذلك:
1- فصْله للشيخ علي عبد الرازق، وإخراجه من زمرة العلماء عام 1925
بسبب إصداره كتاب (الإسلام وأصول الحكم) .
2- تشنيعه على طه حسين إثر نشره (في الشعر الجاهلي) ، واتهامه بالكفر. ...
3- مصادرته كتاب (مقدمة في فقه اللغة العربية) للدكتور لويس عوض،
ومصادرته (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ.
4- الضغط لسحب كتب فرج فودة من السوق.
ذلك هو حال الأزهر..) [2] .
إن تقسيم الإسلام إلى إسلام أصولي وآخر متنور ما هو إلا مؤامرة تستهدف
شق صف المسلمين على أمل الاستفر اد بكل قسم منهم على حدة لتسهل عمليه
القضاء على المسلمين بالتدرج. ولعل أخطر ما يردده الغرب المعادي وتلاميذه
ومريدوه هو إسقاط عبارات التشنيع على المسلمين؛ تلك الصفات التي تصفهم
(بالأصولية) التي تعني عند الغرب ما لا تعنيه في اللغة العربية، واستخدام هذا
المصطلح ينسلك في إطار التضليل والتشويه.
هذه هي القضية واضحة لا التواء فيها، إنها صدور منطوية على كُره
الإسلام وأهله، وكم يبدو العلمانيون متناقضين حين يتظاهرون بالعلم والثقافة،
ويتكلمون عن سماحة الإسلام ويسره، وأنه ليس دين تشدد، وهم يحاربون الإسلام
سراً وعلانية، وأما القوميون الذين بدؤوا بالتقرب من الإسلاميين عندما أحسوا بقوة
تيار العودة إلى الدين - عادوا ونكصوا رؤوسهم وساروا في (الزفة) ، التي تهاجم
المسلمين، وأظهروا الشماتة بما يقع لهم، ونقول لهؤلاء وأولئك: إن الله ناصر
دينه، وجاعل لهذا الأمر فرجاً، والعاقبة للمتقين، وهناد حقيقة ناصعة يجب أن
يكونوا على بينة منها وهي: أنه لا يفلح عرب بلا دين؛ تلك خصوصية العرب،
وهذا قدرهم. وإذا ابتعدوا عن الإسلام فسيصيرون مِزقاً وأحاديث، وقد كان رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لقريش في أول الدعوة: «قولوا كلمة تَدين لكم
بها العرب والعجم» ويقول - تعالى - مذكِّراً بما أنعم عليهم: [وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ
قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ]
[الأنفال: 26] .
ويقول الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي: (وإنكم - معشر العرب - كنتم
على الحال الذي قد علمتم من جهالتكم، والقلة والذلة والضلالة، وأن الله - عز
وجل - نعشكم بالإسلام وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأنام، حتى بلغ بكم
ما ترون..) [3] .
وها نحن نُتخطف من أرضنا، وليس لنا وزن يُذكر، ولا يكيل بمكيالنا أحد،
ولم أَرَ في واقعنا المعاصر أمة يجري عليها التقسيم والذل كما نراه في واقع العرب
والمسلمين، وبماذا نفسر هذا الغبن والكنود والجحود من الغرب للشعوب الإسلامية
التي تقطن المنطقة العربية، إلا أن العرب هم مادة الإسلام، وقطب الرحى،
والغرب يعلم هذا ولكن القوميين والعلمانيين لا يعلمون بل يتجاهلون.
نحن لا نخاطب -إزاء هذا الواقع الأليم - فئة من الناس لا يكرمهم الله -
سبحانه وتعالى - بأن يكونوا أنصاراً لهذا الدين، ويكون الدين عزاً لهم، ذلك لأنهم
لا يستحقون هذا التكريم: [ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وهُم مُّعْرِضُونَ] [الأنفال: 23] .
ولكننا نقول لمن بقيت فيهم بقية من أنفة وشمم: كونوا مع المسلمين في
مقاومة هذا الإذلال وهذا القهر الذي نعانيه جميعاً. أليس في هذه البقية عقلاء
يقولون الحقيقة ويصدعون بها، ويتساءلون عن المصلحة من هذه الدماء التي تُسال، وهذه الأوطان التي تخرَّب، ويعلمون أخيراً أن العز والتمكين لا يُنالان إلا بهذا
الدين، وأن هذه الحملة الشرسة على الإسلام لتدل على كماله وقوته ونفوذه في
قلوب الناس، ولابد للمسلم أن يصبر ويصابر، ويأخذ بسياسة النفس الطويل، ولا
تستخفه الجعجعة الإعلامية، ولا إرجافها وتهويلاتها.
ورحم الله عمر - رضي الله عنه - حين قال: (يعجبني الرجل إذا سِيم خطة
ضيم أن يقول: لا، بملء فِيه) .
رئيس التحرير
__________
(1) هآرتس 21/3/1993.
(2) جريدة الصحافة 20/12/1992.
(3) سير أعلام النبلاء، 3/43.(63/4)
فتوى العلامة الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن آل جبرين
تقديم: هيثم الحداد
وردنا من أحد القراء السؤال التالي:
ما تقولون في بعض الشباب من المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات الغرب، وأحياناً في مجتمعات شرقية غير إسلامية، أو في مجتمعات إسلامية، ويفتون
لأنفسهم بأخذ الأموال أو المتاع ويتحايلون على ذلك بشتى الوسائل، وربما يحتجون
لذلك بأن تلك البلاد علمانية أو غير إسلامية. فهل يجوز ذلك؟ ! وما الدليل؟ وما
هو الأسلوب الذي نبين به - لهؤلاء - الحكم الشرعي الصحيح والتصرف اللائق
بالمسلم. أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً.
قبل أن نعرض هذا السؤال على أحد العلماء للإجابة عليه لا بد من توضيح
الأمور التالية:
إن أسباب هذه الظاهرة عند هؤلاء الشباب هي الأمور التالية:
1- عدم أخذهم للقدر الكافي من العلم الشرعي الذي يساعدهم في معرفة هذه
المسائل وأحكامها.
2- عزوف هؤلاء الشباب عن أهل العلم الذين اشتُهروا به، وأخذهم العلم
عن الذين لم يبلغوا درجة كافية من العلم تخولهم الإفتاء في مثل هذه الأمور الشائكة
والخطيرة، فأخذوا العلم من غير أهله.
3- ومع ما تقدم، فلم يقوموا ببحث هذه المسائل بحثاً علمياً من كتب أهل
العلم المعتبرة، حتى يبرئ ذمتهم أمام الله - عز وجل - حينما يقفون بين يديه،
وذلك ببذلهم غاية جهدهم في طلب الحق، والوصول إليه، وحتى لا يتعلق برقابهم
شيء من حقوق العباد - حتى وإن كانوا كفاراً - فلا يستطيعون التخلص منها إلا
بردها إلى أهلها إن أمكن.
4- وقبل ذلك كله، حماسهم واندفاعهم، ولعل ذلك ناشئ من غيرتهم على
هذا الدين، وبغضهم لأهل الكفر والنفاق.
والمفترض على هؤلاء الشباب أن يكونوا من طلاب الحق، غير المتبعين
للهوى، أو المتعصبين لأحد، ولذلك سنبحث هذه المسألة بصورة موجزة، سريعة، وسنعرض أصلها الذي يُبنى عليه حكمها، فما كان فيه من حق أُخذ، وعمل به،
وما كان غير ذلك ترك وطرح، فنقول:
يقسم الفقهاء الدُّور إلى قسمين رئيسيين، دار الإسلام، ودار الكفر.
أما دار الإسلام فهي الدار التي تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة مستعلية.
وأما دار الكفر فهي الدار التي تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة مستعلية.
وإذا استقرأنا أحوال دار الكفر، وأحوال الكفار، تبين لنا أن دار الكفر لا
تنفك عن أحوال ثلاث: الأولى: أن يُعقد لأهلها عقد موادعة أو معاهدة، والمعاهدة
هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة، بعوض أو بغير عوض ولو
كان فيهم من يقر على دينه ومن لا يقر [1] والأصل في مشروعية المعاهدة الكتاب
والسنة والإجماع، أما من الكتاب فقول الله - عز وجل -: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] [الأنفال: 61] ، قال ابن كثير: (وقول من قال بأن ... هذه الآية منسوخة بآية السيف فيه نظر أيضاً؛ إن آية (براءة) فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفاً، فإنه تجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم) [2] .
وأما من السنة فصلح الحديبية، ووجه الاستدلال ظاهر. وأجمع المسلمون
على جواز عقد الهدنة في الجملة. وأما شروط المعاهدة فهي أربعة:
1 - أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه.
2- أن تكون بمصلحة.
3- أن تخلو عن شرط فاسد.
4- أن تكون مدتها معينة، مؤقتة.
وهذه الشروط متفق عليها في الجملة [3] . ويترتب على عقد الموادعة أو
المهادنة دخول المعاهدين في جملة المعصومين، فلا تحل دماؤهم ولا أموالهم إلا
بحقها، وهذا مجمع عليه من الفقهاء، ولم يخالف فيه مخالف، لتضافر الآيات
والأحاديث على وجوب الوفاء بالعهود، والمواثيق، وأصل عقد الهدنة يتضمن أمن
كل طرف من المتعاقدين، على نفسه وماله وغير ذلك، فالاعتداء على نفس
المعاهد أو ماله يعتبر نقضاً صريحاً للعقد والعهد الذي قال الله فيه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1] ، وقال: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] [الإسراء: 34] .
الثانية: أن تكون محايدة، لا تنحاز لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار، وأصل
هذه الصورة، قوله - عز وجل -: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
وجَدتُّمُوهُمْ ولا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ ولِياً ولا نَصِيراً (89) إلاَّ الَذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ولَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً] [النساء: 89-90] ، ودون الدخول في تفصيل أسباب نزول هذه
الآيات، فإن هؤلاء المهادنين يُلحَقون بالمعاهدين، ولذلك فإن أغلب الفقهاء لم
يجعلوا هذه الدار قسماً مستقلاً؛ لأنه جرى بينهم وبين المسلمين عهد، يجب الوفاء
بما تضمنه ذلك العهد.
الثالثة: أن تكون حالة الحرب قائمة بين المسلمين وبين تلك البلاد، فهي ما
تعرف بدار الحرب وأهلها هم الحربيون، وهؤلاء هم من غير المعصومين، فتباح
أموالهم ودماؤهم وغيرها في الجملة، ولكن لابد من الوقوف على بعض التفصيلات:
إن من دخل من هؤلاء الحربيين إلى ديارنا بأمان من غير استيطان، لغرض
من الأغراض - كالرسل، والتجار وغيرهم - فإنه يصبح مستأمناً [4] ومقتضى
تسميته مستأمناً، أن يأمن على نفسه وماله وعرضه، ومقتضى أيضاً أن يؤمن على
أموال غيره ودمائهم فلا يخون ولا يغدر، وإلا انتقض عهده وأمانه، وهو أيضاً
مقتضى العقد الذي يبرم بين الدولة المسلمة وغيرها بخصوص ما يتعلق بهؤلاء.
وألحق بعض الفقهاء بالمستأمنين، من يدخل من المسلمين إلى دار الحرب
بأمان، كالرسل والتجار وذوي الحاجات وغيرهم [5] وهذا الإلحاق ظاهر،
فمقتضى إذن هذه الدولة الحربية لنا بالدخول بأمان، يعني عهداً من الطرفين بأمان
الآخر، وخلافه خيانة، والخيانة محرمة، فلا يجوز لنا أن نسرق من أموالهم، ولا
نحتال عليهم، وقد نص على ذلك غير واحد من الفقهاء.
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن سعيد بن جبير، قال: لما قال أهل
الكتاب: [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] [آل عمران: 75] ، قال نبي الله: كذب
أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة فإنها
مؤداة إلى البر والفاجر [6] .
الثانية: بما أن العصمة قد انتفت عن هؤلاء الحربيين فإنه يجوز سرقة
أموالهم، لكن ما حكم المال المسروق؟ هل يلحق بالغنيمة [7] أو لا؟ ؛ قولان:
فالمالكية - وكذا ابن حزم - يلحقونه بالغنائم وههنا أمور: فلا يتولى قسمة الغنيمة
إلا الإمام أو نائبه وليس ذلك لآحاد الرعية، وليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً قبل
القسمة إلا ما كان في طعام وعلف لدابته، وما احتاج إليه فيجوز أن يأخذ منه جائزة
قبل القسمة. ثم إن الغنيمة تُخَمَّسُ، فأربعة أخماسها للقائمين، والخمس الباقي
مختلف في كيفية توزيعه، وتفصيل ذلك في كتب الفروع.
وخلاصة ما تقدم: يقال لمن يستحل أموال الدولة الكافرة، يجب أن تثبتوا أن
هذه الدار هي دار حرب، وليست دار معاهدة، ولم يجرِ بينها وبين الدول
الإسلامية عهد أو معاهدة أمان، فإن تجاوزتم ذلك، فأثبتُّم أن هذه الدول هي دار
حرب، فيقال: كيف دخلتم تلك البلاد، هل دخلتموها بأمان أم لا؟ أنتم تدخلونها
بتصريح من تلك الدولة ولم تعطكم تلك الدولة ذلك التصريح، بل لم تسمح لكم
بالإقامة على أرضها إلا وهي تنظر إليكم على أنكم مستأمنون، ولستم أهل حرب،
وإلا لم تسمح لكم بالمكوث على أرضها ولا لحظة واحدة.
وبعد هذا البيان فقد عرضنا هذا السوال على العلامة الشيخ عبد الله بن عبد
الرحمن آل جبرين، فأجاب بما يلي:
(فإن هؤلاء الشباب الذين ينتمون إلى الإسلام ويعتزون به يجب عليهم أن
يظهروا تعاليمه ويبيّنوا محاسنه للخاص والعام وأن يعملوا بكل ما يستطيعونه من
الإرشادات والتوجهات الإسلامية ولا شك أن منها الأمانة العامة التي وصف الله بها
عباده وسماهم مؤمنين وقال - تعالى -: [فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ] [البقرة: 283] ، وهذا لفظ عام ينطبق على كل مسلم ائتمنه أي بشر، فإن
عليه أن يكون مأموناً في سره وفي جهره ويبتعد عن الخيانة التي وصف النبي -
صلى الله عليه وسلم- بها المنافق في قوله: «وإذا اؤتمن خان» ، ولقد ذم الله
أهل الكتاب بقوله - تعالى -: [ومِنْهُم مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] [آل عمران: 75] ، أي
أنهم لا يخونون أمانتهم ويدّعون أن لا حرج عليهم إذا خانوا في ذلك في حق الأميين
من العرب بزعمهم أنهم ليس لهم دين أو أن دينهم غير محترم، ولقد أكد النبي -
صلى الله عليه وسلم- حق المعاهد سواء أكان كتابياً أو غير كتابي، فحرم قتله
والاعتداء على ماله أو محارمه، وكل ذلك إظهار لمحاسن الدين الإسلامي فقال
تعالى: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] [الإسراء: 34] وقال: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1] ، ولا شك أن كل دولة قد اتفقت مع غيرها
على صلح وأمان إذا دخلت في حدودها وفي بلادها بعض الأفراد من غير أهلها فإن
ذلك دليل أنها قد وثقت به وائتمنته وأمنت خيانته وغدره، وإنما أباح الله أموال
الكفار التي تؤخذ على وجه المغالبة بالقتال، ولا يحل ذلك مع أهل المعاهدة. قال
- تعالى -: [فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] [الأنفال: 72] ، وقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكفار واليهود المعاهدين بالوفاء بجميع أنواع الوفاء، فلما قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من المشركين ولم يعلم بعهدهما فداهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما قتل المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قوماً من الكفار وأخذ أموالهم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً فقال: «أما الإسلام فأقبل وأما المال فلا» ، ومنع الصحابة من الاعتداء على أموال المعاهدين من المشركين وأهل الكتاب حتى نقضوا العهد عملاً بقول الله - تعالى -: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا]
[النحل: 91] ، فكل من دخل بلادنا بأمان فإنه يحرم الاعتداء عليه في النفس أو في المال إلا إذا نقض العهد أو خالف ما يقتضيه الشرع، وهكذا كل من دخل بلادهم بأمان فإنه يحرم عليه نقض العهد والخيانة ولو كانوا كفاراً كما ذكر ذلك المفسرون عند قوله - تعالى -: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]
[آل عمران: 75] ، ونحوها من الآيات، وإنما تباح أموال الحربيين إذا أُخذت على وجه المغالبة والقتال، فأما إذا دخل الحربي بلاد الإسلام لتجارة ونحوها فإنه يؤمَّن حتى يخرج ويبلغ مأمنه، ويجوز التلصص على بلاد المحاربين واختطاف ما يقدر عليه من أموالهم بخلاف من لهم صلح أو عهد أو اعتراف من الدول الإسلامية وغيرها، فلا يجوز الاحتيال على أخذ أموالهم خيانة وغدراً فإن ذلك حرام يجب فيه التعزير والعقوبة الرادعة عن مثله. والله أعلم) .
__________
(1) مغني المحتاج4/260، المغني لابن قدامة1/517، وبدائع الصنائع للكاساني 7/108، والشرح الكبير للدردير 2/106.
(2) ابن كثير عند تفسير الآية.
(3) للتوسع انظر أحكام الأحلاف والمعاهدات في الشريعة والقانون، للدكتور خالد الجميلي.
(4) انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/476.
(5) انظر: اختلاف الدارين وأثره في اختلاف أحكام المناكحات والمعاملات، ص128.
(6) انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية من سورة آل عمران.
(7) الغنيمة هي المال الذي يأخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر، وهذا بالاتفاق، انظر: الجامع لأحكام القرآن تفسير قوله - تعالى-: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ] [الأنفال: 41] .(63/8)