وقفات مع حقوق المصطفى
صلى الله عليه وسلم
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
إن الحديث عن نبينا وحبيبنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حديث تنشرح له صدور أهل الإيمان، وتتشوق له نفوس الصالحين، ويدفع
العاملين إلى الاستقامة على الصراط المستقيم، كيف لا وهو -صلى الله عليه
وسلم - سيد ولد آدم، وخاتم النبيين، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قد خصه الله - تعالى - بخصال رفيعة كثيرة انفرد بها عن بقية الأنبياء السابقين - عليهم السلام - فهو أول من يعبر على الصراط يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها، وله المقام المحمود ولواء الحمد، وهو أول شافع ومشفع. وفي هذه السطور أستعرض معك - أخي القارئ - شيئاً من الحقوق الواجبة علينا تجاه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -:
1- يمكن - ابتداءً - أن نجعل حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
بهذه العبارة الجامعة التي سطرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قائلاً: (ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر،
واجتناب ما نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع) [1] .
2- وإن من أهم ما يجب علينا تجاه حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم -
أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والناس
أجمعين. قال - تعالى -: [قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم
مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ
الفَاسِقِينَ] [التوبة: 24] .
يقول القاضي عياض عن هذه الآية: (فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة
على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها - صلى الله
عليه وسلم - إذ قرَّع - سبحانه - من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله
ورسوله، وأوعدهم بقوله - تعالى -: [فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] ثم فسَّقهم
بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله) [2] .
وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [3] .
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كن فيه
وجد حلاوة الإيمان - وذكر منها - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما» [4] .
ولقد ضرب الصحابة - رضي الله عنهم - أروع الأمثلة في صدق وتمام
المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- يقول للعباس: (أن تُسْلم أحب إليَّ من أن يسلم الخطاب؛ لأن ذلك أحب إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وسئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف كان حبكم لرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان - والله - أحب إلينا من أموالنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
ولا شك أن لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - علامات، منها كثرة ذكره
له، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره، ومنها كثرة شوقه إلى لقائه، فكل حبيب يحب لقاء
حبيبه. ومنها محبته لمن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين
والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، فمن أحب شيئاً أحب
من يحبه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحسن والحسين: اللهم إني
أحبهما فأحبهما. ومن علامة حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - شفقته على أمته،
ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ورفع المضارّ عنهم، كما كان الرسول -صلى
الله عليه وسلم - بالمؤمنين رءوفاً رحيماً [5] .
3- ومن أهم وأكثر علامات محبته - صلى الله عليه وسلم: متابعته والاقتداء
به، يقول القاضي عياض - رحمه الله -: اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر
موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه، وكان مدّعياً، فالصادق في حب النبي -
صلى الله عليه وسلم - من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال
سنته، واتباع أقواله وأفعاله، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه،
وشاهد هذا قوله تعالى: [إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ]
[آل عمران: 31] [6] .
كما أن من متابعته - صلى الله عليه وسلم - التمسك بسنته والحذر من
الابتداع في دين الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد» [7] يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: (فهذا الحديث
يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن
كل عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمراد بأمره ها هنا دينه وشرعه، فالمعنى
إذاً: أن مَن كان عمله خارجاً عن الشرع ليس متقيداً بالشرع فهو مردود) [8] .
4- ومن حقه - صلى الله عليه وسلم -: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال:
[وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ] [الفتح: 9] .
يقول ابن تيمية - رحمه الله: (التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من
كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال، وأن
يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد
الوقار) [9] .
ويقول أيضاً: (أما انتهاك عِرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه
منافٍ لدين الله بالكلية العرض متى انتُهك سقط الاحترام والتعظيم، فسقط ما جاء به
من الرسالة، فبطَل الدين، فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين
كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله، وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن
انتهك عرضه) [10] .
وقد قال الله - تعالى -: [إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] [الكوثر: 3] ، فأخبر -
سبحانه - أن شانئه (مبغضه) هو الأبتر،، والبتر: القطع، فبيَّن - سبحانه - أنه
هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد.. ومما قال ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة
الجامعة: (إن الله - سبحانه - بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره -
وأهله - وماله، ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحاً
لمعاد، ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله،
ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً ولا
عوناً، ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعماً، ولا يجد
لها حلاوة وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها) .
وقال أبو بكر بن عياش: أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة
يموتون ويموت ذكرهم لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه
وسلم - فكان لهم نصيب من قوله [ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ] [الشرح: 4] . وأهل البدعة
شَنَأُوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم- فكان لهم نصيب قوله: [إنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] [11] ، [12] .
5- ولقد تحققت العقوبات، ووقعت المثُلات في حق مَن أبغض الرسول -
صلى الله عليه وسلم - أو تنقصَّه بسب أو استهزاء، أو افتراء. وقد عرف من
ذلك حالات عديدة منها:
أ) من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، قال: كان
رجل نصراني، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي - صلى الله
عليه وسلم - فعاد نصرانياً، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته
الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا
عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض،
فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه.
ب - ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية (عن أعداد من المسلمين العدول في الفقه
والخبرة، عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل
الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر
الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس، فإذا
تعرَّض أهله لسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوقيعة في عرضه،
فعجلنا، وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان
عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، حتى إن كنا لَنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم
يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه) [13] .
ج - ومن العقوبات التي حلت بمن انتقص الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ولو تعريضاً - في هذا الزمان ما ذكره الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - عن أحد
خطباء مصر، وكان فصيحاً متكلماً مقتدراً وأراد هذا الخطيب أن يمدح أحد أمراء
مصر عندما أكرم طه حسين، فقال في خطبته: جاءه الأعمى [14] . فما عبس
بوجهه وما تولى! ، فما كان من الشيخ محمد شاكر - والد الشيخ أحمد شاكر - إلا
أن قام بعد الصلاة، يعلن للناس أن صلاتهم باطلة، وعليهم إعادتها؛ لأن الخطيب
كفر بما شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أحمد شاكر: (ولكن الله لم
يدعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد
رأيته بعيني رأسي - بعد بضع سنين، وبعد أن كان عالياً منتفخاً، مستعزّاً بمَن لاذ
بهم من العظماء والكبراء - رأيته مهيناً ذليلاً، خادماً على باب مسجد من مساجد
القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني،
وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه؛
فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة) [15] .
6- وفي نهاية هذه المقالة أقول: إن مما حباً للرسول - صلى الله عليه
وسلم - والتصاقاً بهديه وسيرته، أن نسعى إلى محاسبة أنفسنا ومعرفة أخطائنا، فإذا اكتشفنا عيوباً، فسنجد في هديه - صلى الله عليه وسلم - العلاج الناجع لهذه الأدواء التي حلت بنا، وإليك أمثلة على ذلك:
فإذا كان أحدنا مقصراً في جانب النوافل والعبادات - مثلاً - فليتذكر أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حتى تتورم قدماه وقد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد يكون أحدنا متصفاً بالجبن والهلع، ألا فليعلم أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كما أخبر أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان من أشجع الناس،
وقد قال علي - رضي الله عنه -: إنا كنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله -
صلى الله عليه وسلم -.
وربما كان البعض منا مشغوفاً بحب الدنيا والتكالب عليها، ومن ثم فلينظر إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من أزهد الناس في الدنيا، حتى
قالت عائشة: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- ثلاثة أياما تباعاً - من
خبز حتى مضى لسبيله [16] .
وقد نلمس في أنفسنا وغيرنا جفاءً مع الناس وسوء معاملة، وقد قال أنس:
خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أُفٍّ قط، وما
قال لشيء صنعته لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وصدق الله - تعالى -
عندما قال - سبحانه في شأنه -: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً
غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] [آل عمران: 159] .
وأخيراً فقد يتلبس أحدنا بأَثَرَة وأنانية، فلا يهتم إلا بنفسه وشخصه مع أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه» . هذا الحديث الذي يبين ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه
وسلم - من الموالاة والرحمة والإشفاق لأهل الإيمان، عن جرير قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، متقلدي السيوف، عامتهم من مُضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر (تغير) وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذّن وأقام، ثم خطب فقال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ..] إلى آخر الآية [إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] [النساء: 1] ، والآية التي في الحشر [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ] ... تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثويه، من صاع بُره، من صاع تمره حتى قال: «ولو بشق تمرة» ، قال: فجاء رجل من الأنصار كادت كفه تعجز عنها، بل لقد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل (يستنير) كأنه مُذْهَبَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله
أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء» [17] أسأل الله
أن يرزقنا تمام التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يحشرنا مع
زمرته.
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 1/190.
(2) الشفا، 2/563.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) انظر تفصيلاً لتلك العلامات في كتاب الشفا للقاضي عياض، 2/571- 577.
(6) الشفا، 2/571.
(7) رواه البخاري ومسلم.
(8) جامع العلوم والحكم، 1/177.
(9) الصارم المسلول، 422.
(10) الصارم المسلول، 211.
(11) الفتاوى، 16/526-528 باختصار.
(12) الصارم المسلول، 457-458.
(13) الصارم المسلول، 117.
(14) يعني طه حسين، ومن المعلوم أن طه حسين كان أعمى البصر والبصيرة، انظر: (طه حسين في ميزان الإسلام) للأستاذ أنور الجندي.
(15) كلمة الحق، 176-177.
(16) رواه مسلم.
(17) رواه مسلم.(47/23)
فتاوى في بعض التعاملات المالية
الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* البيع إلى أجل.
* بيع التورُّق.
* العِينَة.
* القرض (بالفائدة) .
الحمد لله والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده وآله وصحبه. أما بعد:
فقد سئلت عن حكم بيع السلعة التي تساوي مائة ريال نقداً بمبلغ مائة وخمسين ريالاً إلى أجل:
والجواب عن ذلك: أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن بيع النقد غير بيع
التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على
جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجْل الأجَل، وظن ذلك من الربا -
وهو قول لا وجه له - وليس من الربا في شيء؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى
أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة والمشتري إنما رضي بالزيادة
من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقداً، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة وقد ثبت
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على جواز ذلك، وذلك أنه - صلى الله
عليه وسلم - أمر عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن يجهز
جيشاً فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول
الله - سبحانه -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]
[البقرة: 282] الآية. وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية
المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع السَّلَم، فإن البائع في السلم يبيع من ذمته
حبوباً أو غيرها - مما يصح السلم فيه - بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به
المسلم فيه وقت السلم، لكون المسلم فيه مؤجلاً، والثمن معجلاً، فهو عكس المسألة
المسئول عنها. وهو جائز بالإجماع وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى، والحاجة
إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل،
لكن إذا كان مقصود المشتري - لكيس السكر ونحوه - بيعه والانتفاع بثمنه وليس
مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة (التورُّق) ويسميها العامة
(الوعدة) وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين:
أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة، لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم
وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها، لأنه ليس كل
أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله -
سبحانه-: [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ..] [البقرة: 275] ، وقوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ؛ ولأن الأصل في الشرع حل
جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه
المعاملة، وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك
موجباً لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالباً في المعاملات وهو تحصيل
نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك.
وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة
العِينة. فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من
آخر بثمن في الذمة، ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه، فهذا ممنوع شرعاً لما فيه
من الحيلة على الربا، وتسمى هذه المسألة مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث
عائشة وابن عمر - رضي الله عنهما - ما يدل على منعها. أما مسألة التورق -
التي يسميها بعض الناس الوعدة - فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقداً من
أجل حاجته للنقد، وليس في ذلك حيلة على الربا، لأن المشتري غير البائع، ولكن
كثيرًا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة،
فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا
اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي، وكلا الأمرين
غير جائز؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لحكيم بن حزام:
«لا تَبِعْ ما ليس عندك» وقال - عليه الصلاة والسلام-: «لا يحل سلف وبيع
ولا بيع ما ليس عندك» وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من اشترى طعاماً فلا
يَبِعْهُ حتى يستوفيه» وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: (كنا نشتري الطعام
جزافاً فيبعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ينهانا أن نبيعه حتى
ننقله إلى رحالنا) وثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أيضاً أنه نهى أن تباع
السلع - حيث تبتاع - حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم
أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى
يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضاً أن ما يفعله كثير من الناس من بيع
السلع - وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق - أمر لا
يجوز لما فيه من مخالفة سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما فيه من
التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور
والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله - عز وجل - نسأل الله لنا ولجميع
المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تُبذل لدائن
بعد حلول الأجل ليمهل المدين ويُنظره فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل
الجاهلية ويقولون للمدين قولهم المشهور: إما أن تقضي وإما أن تُرْبي، فمنع
الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله - سبحانه -: [وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى
مَيْسَرَةٍ] [البقرة: 280] وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة وعلى تحريم كل
معاملة يتوسَّل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل أن يقول الدائن للمدين: اشترِ مني
سلعة من سكر أو غيره إلى أجل، ثم بِعها بالنقد وأَوْفني حقي الأول، فإن هذه
المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية،
لكن بطريق آخر غير طريقهم.
فالواجب تركها والحذر منها، وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له
القضاء، كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله، ويعمل الأسباب الممكنة
المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين، ويبرىء به ذمته من حق المدينين.
وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم
لأهل الحق غير مؤدٍّ للأمانة، فهو في حكم الغني المماطل وقد صح عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مُطْل الغني ظلم» ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» والله المستعان.
ومن المعاملات الربوية أيضاً ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة
في القرض إما مطلقاً وإما في كل سنة شيئاً معلوماً، فالأول: مثل أن يقرضه ألفاً
على أن يرد إليه ألف ومائة أو يسكنه داره أو دكانه أو يعيره سيارته أو دابته مدة
معلومة أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
وأما الثاني: فهو أن يجعل كل سنة أو كل شهر ربحاً معلوماً في مقابل
استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض، سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة،
فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضاً مضموناً ولا يجوز أن يدفع
إلى صاحبه شيئاً من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك
المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر،
وهذا العقد يسمى أيضاً: القِرَاض، وهو جائز بالإجماع، لأنهما قد اشتركا في
الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا
تلف من غير تعدٍّ ولا تفريط - لم يضمنه وليسر له من عمله إلا الجزء المشاع
المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد.
وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(47/31)
خواطر في الدعوة
حتى لا نخادع أنفسنا
محمد العبدة
كانت القاعدة الأساسية التي سار عليها العلماء الربانيون من هذه الأمة في
تعليم الناس وتربيتهم هي حمْلهم على الطريق الوسط، فلا غلو ولا تقصير، ولا
تيئيس ولا طمع، ونريد تطبيق هذه القاعدة الآن في قضية ما يقال عن خوف
الغرب من المسلمين ومن الصحوة الإسلامية، وأنه يحسب لها ألف حساب؛ وأن
التحدي الكبير بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو الإسلام والمسلمون، ونعلن بهذا في
صحفنا وخطبنا، فهل يصح في التربية القويمة أن نميل بالناس إلى جانب
الاطمئنان والركون إلى قوة الصحوة وخوف الغرب منها، وهل نحن أقوياء حقيقة
أم أننا نخادع أنفسنا؟ ! .
إن واقع المسلمين الحالي من الضعف والتفرق والخراب الاقتصادي وتراجع
القوة العسكرية، وصراع القبائل والعشائر ما يدل على أنه غير مخيف، ولكن إذا
عرفنا كيف يفكر الغرب، وكيف يحتاط للمستقبل البعيد، ويستعد للأمور قبل أوانها، فالجواب: نعم، الغرب يخشى من الإسلام ومن المسلمين؛ لأنه يحذر أن تفاجئه
الأحداث بشيء لم يكن يتوقعه، بنهوض سريع لم يحسب له حساب، خاصة وأن
الإسلام يزحف بشكل مستمر، سواء في كسب أنصار جدد أم في عودة المسلمين
إلى دينهم.
ولا نستبعد أن يضخم الغرب هذا الموضوع كي نفرح ونعيش أحلاماً سعيدة،
وهو غير بعيد عن استعمال هذه الأساليب في مقارعة الخصوم، حتى يؤلب شعوبه، ويستنفر الطاقات وله في ذلك أحاييل شديدة الخبث، وما بالك بأقوام دأبوا منذ
ثلاثة قرون على استعمار الأرض ونهب خيراتها، وصدق من قال: إن الغرب
تعمق في مسائل علم النفس كي يستخدمه في أغراضه الاستعمارية.
هذا الكلام ليس لغرس اليأس والإحباط في النفوس، وإنما لنعرف مواقع
ضعفنا وقوتنا، وكيف نستكمل مواطن القوة، ومن أين يأتينا الخلل، وليس من
الأساليب الحكيمة أن نُفرح الشباب المسلم بأننا قوة يخشى بأسها ثم يتبين لهم بعدئذ
ما يؤيد عكس هذا، بل نعطي أنفسنا الحجم الحقيقي، ونكون متفائلين بأن الإسلام
هو الغالب بإذن الله، وسيبلغ أقطار الأرض، وهو التحدي الحضاري أمام الغرب
فعلاً، ولا يوجد أمة أو شعب يملك منهجاً متكاملاً - به يُعتز وبه يتميز - مثل
المسلمين، والغرب يكره أشد الكراهية من يتعالى عليه، ولكن هذا المنهج يحتاج
إلى تطبيق على أرض الواقع.(47/36)
المدارس الأهلية
الواقع المرير والأمل المنشود
محمد الناصر
تؤسَّس المدارس الأهلية عادة من أجل أهداف خاصة يحددها أصحاب هذه
المدارس، أو المؤسسات التي أقامتها، أو لسد حاجة تعليمية ملحة لم تغطها
المدارس الحكومية.
وقد كانت البعثات التبشيرية سباقة إلى هذا المجال في بلاد المسلمين،
لأغراض التبشير تحت مظلة الاستعمار الحديث، وما يزال تأثيرها قائماً حتى الآن.
ثم قامت مدارس وطنية في بلاد المسلمين، بعضها سار على نهج العلمانيين
متأثراً بالهجمة الفكرية الغربية، وبعضها الآخر أراد أصحابه إيقاف هذا الغزو
الصليبي، فأنشأ مدارس متناثرة في أنحاء العالم الإسلامي لنشر تعاليم هذا الدين
الحنيف، وهذا الذي يعنينا في هذا المقال.
المدارس التبشيرية الأجنبية:
ركز أعداؤنا على زرع المدارس والجامعات في بلادنا منذ مطلع هذا القرن،
من أجل تشكيك أبناء المسلمين في قيم الإسلام ومعتقداته باسم العلم والمعرفة،
وتمكنوا من تخريج كثير من أبناء المسلمين، قاد بعضهم دفة الحكم في أقطارهم
فترة من الزمن، فكانوا أسوأ خلف لشر سلف من أسيادهم. فقد اعتبر هؤلاء أن
(المدارس من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين) [1] .
حرص هؤلاء أن تؤسس هذه المدارس والجامعات على النمط العلماني الغربي
ظاهراً. يقول تاكلي: (يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني؛ لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب
المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية) !
وكانت الأغراض الحقيقية إذن من إنشاء هذه المدارس والجامعات هو
التخريب العقائدي والفساد لمصلحة المستعمر، تحت مظلة العلم والمعرفة والتحديث
والعلمانية. وقد تنوعت وسائل المبشرين في أعمالهم هذه فأسسوا المدارس للأطفال، وللبنات، وأنشأوا قسماً للطب وآخر لنشر الإنجيل [2] .
ومن وسائل المبشرين في كل من سورية وفلسطين:
1- توزيع نسخ من الإنجيل.
2- التبشير عن طريق الطب..
3- المدارس والكليات..
4- الأعمال النسائية مثل: زيارة المبشرات لمنازل المسلمين وإلقائهن
المحاضرات الخاصة [3] .
وكانوا يستغلون الفقر والحاجة في بعض بلاد المسلمين، فيختارون الأطفال
دون سن الخامسة لقاء مبلغ من المال، ويرسلون بعضهم - بعد تدريسهم في
مدارس التبشير - إلى فرنسا، كما حصل في السنغال، إذ يعود الصبي مسيحياً إلى
بلاده، ويُمنح حق المواطن الفرنسي في المستعمرات من حيث المستوى،
الاجتماعي والوظائف. ومن أمثلة هؤلاء: سنغور (سان جورج) رئيس جمهورية
السنغال السابق، فهو مسيحي، لكن أبويه وإخوته مسلمون [3] .
لقد خرَّجت المدارس والجامعات التبشيرية كثيراً من قادة الفكر والسياسة في
بلاد المسلمين، ومعظمهم من النصارى والموتورين، ومن أبرزهم: ميشيل عفلق، وجورج حبش، وقسطنطين زريق وأنطون سعادة [4] .
واهتمت هذه المدارس الأهلية بتعليم المرأة المسلمة لإخراجها من دينها عنوة؛
تقول الصليبية (آنَّا مليجان) : (ليس هناك طريق لهدم الإسلام أقصر مسافة من تعليم بنات المسلمين في مدارس التبشير الخاصة، إن القضاء على الإسلام يبدأ من هذه المدارس التى أنشئت خصيصاً لهذه الغاية، والتي تستهدف صياغة المرأة المسلمة على النمط الغربي، الذي تختفي فيه كلمة الحرام والحياء
والفضيلة) ! [5] .
لقد نجحت هذه المدارس الأهلية في أداء مهمتها بالعمل الجاد وحسن التخطيط
واتباعها وسائل تربوية حديثة مستفيدة من دعم الأثرياء ورجال الكنيسة وحكومات
الاستعمار.
المدارس الأهلية الإسلامية:
شعر المسلمون بالخطر وقد أفسد عليهم أبناءهم، فحاول بعض أهل الخير
والغيرة أن يرمموا بعض هذا الخراب وأنشأوا عدداً من المدارس الأهلية المتناثرة
في أنحاء بلادهم، اعتباراً من الأقطار العربية في آسيا وإفريقية أو في بلاد
المسلمين في هاتين القارتين، ثم تبعتها محاولات لأبناء الجاليات الإسلامية في
أوربا وأمريكا.
كانت جهود هذه المدارس طيبة، ويكفي المخلصين من أصحابها الأجر
والمثوبة إن شاء الله ... إلا أنها ما تزال تتعثر في أساليبها ومناهجها، ويسود
معظمها الارتجال وأخطاء أخرى، أبعدتها عن تحقيق الأهداف المرجوة، ويمكن
الإشارة إلى أهم هذه الأخطاء والانحرافات:
أ- يسود معظمها الارتجال وعدم التخطيط؛ إذ سرعان ما تنشأ الفكرة ثم
يبحث عن المبنى وبعد ذلك تكون الصدمة في عدم وجود الكوادر الإدارية المناسبة
ولا هيئة التدريس المؤهلة، ولا حتى فكرة واضحة عن المناهج الإضافية والأنشطة
المختلفة.
ب - الإشراف والإدارة: بسبب السرعة قد لا يوضع الرجل المناسب في
المكان المناسب، فيضطر أهل الخير لاختيار مشرفين أو إداريين من غير ذوي
الاختصاص التربوي.
وإنه لأمر طبيعي أن يشرف المهندس على مباني المدارس وتهيئتها صحياً،
وأن يباشر الطبيب المسلم الإشراف على علاج أبناء المسلمين فيها، وأن يستلم
المدرس التربوي أمر التدريس أو الإشراف الإداري إن كانت خبرته كافية.
أما أن يسلم الإشراف والإدارة إلى المهندسين والأطباء أو التجار، فإنه لأمر
مفزع ومؤسف حقاً حيث لا يستفاد من الكفاءات والاختصاصات في مجالاتها
المناسبة ثم يقال بعد ذلك: ليس بالإمكان أحسن مما كان ... هاتوا البديل.
ج - الهاجس المادي: وهو من العوائق التي تقف أمام اختيار الكفاءات في
التدريس، وهو الشبح الذي يجعل أصحاب الحاجات يرتضون بالأجر الزهيد.. أو
هو الذي يقدم الخريجين الجدد؛ لأن رواتبهم أقل وطبيعي أن عطاء هؤلاء سيكون
ضعيفاً. وبذلك يتحول أطفال المسلمين إلى مراكز تجارب وتدريب.. حتى إذا
اكتسب المستجدون الخبرة، أو اكتفى صاحب الحاجة تحوَّل المدرسون إلى
الوظائف الأخرى ذات الحوافز الأفضل! . وهكذا يستمر التخبط. أين أموال
المسلمين الفائضة؟ أين التضحيات العقَدية؟ ! ابحث عنها في المحاضرات
والخطب والتنظير.
د- أما رياض الأطفال [6] : فكثير منها أصبح أشبه بأماكن يتجمع فيها
الأطفال في ملعب آمن على سلامة أبدانهم. أما حالتهم النفسية، وحالتهم العقدية
والدينية، وقدراتهم العقلية فحدِّث عنها ولا حرج. إنها تُوأد بخشونة المعاملة أو
الجهل بنفسية الأطفال فيتخرج هؤلاء في المجتمع وقد امتلأوا بالعُقد النفسية،
والانحرافات الخلقية.
وبعض هذه المدارس لا يتفاعل مع خصائص الطفولة فيثقل على الأطفال
بتحميلهم فوق قدراتهم، فيكرهون المدرسة بدلاً من أن يرتاحوا إليها.
هـ - ومما يعرقل تقدم هذه المدارس - ويعيق العملية التربوية في بعض
المدارس الجادة - تدخُّل حكومات تلك البلاد، فإذا كانت علمانية فهي حاقدة تجهض
كل تحرُّك للمدارس الإسلامية.
وإذا كانت (بين بين) أربكت هذه المدارس بكثرة تدخل الموجهين أو
الإداريين، وقد يكون هؤلاء ممن لا خبرة لديهم، أو لا يؤمنون بعقيدة أو هدف هذه
المدارس، فيستغلون عصا السلطان بشراسة، ويذكّروننا بسلطة المندوب السامي
أيام الانتداب المشؤوم. وربما تحولت هذه المدارس بسبب هذا التدخل أو بسبب
الأخطاء السابقة - إلى مكان للمشاحنات والدسائس فتضيع الأهداف وتُنسى الغايات، ولا تكفي النية الطيبة في إنشاء هذه المدارس مادامت لم تحقق أهدافها.
هذه صورة مجملة أستخلصها من متابعتي لهذا الموضوع في عدد من ديار
المسلمين، ولعلّي لا أكون متشائماً واليأس ليس من شيم المؤمنين، ولكن الكلمة
الصريحة الصادقة واجبة ولو كانت مُرة لأنها أمانة تؤرق أصحابها.
فلابد من:
1- التخطيط في وضع المناهج الجادة المساعدة ذات الهدف العقدي والأخلاقي.
2- ومن تقديم أصحاب الخبرة والكفاءة في الإدارة والتدريس.
3- وألا يشغل الهاجس المادي أصحاب المدارس، فربح ضئيل مع الأجر
العظيم خير وأبقى.
4- التعاون بين المدارس الإسلامية، والاستفادة من الخبرات فيما بينها، لأن
رسالتها رسالة عظيمة.
إننا نريد من هذه المدارس - ومدارس المسلمين عموماً - أن تخرّج الدعاة
والمصلحين؛ إذ ما بال مدارس التبشير قد تضافرت جهود القائمين عليها - رغم
باطلهم - والمسلمون تتفرق كلمتهم رغم الحق الذي يحملونه؟ !
وإنه لأمل يراودنا في نجاح هذه المؤسسات، وأن تقوم بدورها العظيم،
وتحقق الأمل المنشود.
__________
(1) الغارة على العالم الإسلامي، ص101، الدار السعودية للنشر.
(2) انظر تفصيلاً لذلك في: التبشير والاستعمار، والغارة على العالم الإسلامي.
(3) انظر تفصيلاً لذلك في: التبشير والاستعمار، والغارة على العالم الإسلامي.
(4) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: القسم الخامس، إعداد الشيخ أحمد بشير نقلاً عن (التبشير والاستعمار) .
(5) في مسألة السفور والحجاب، د عبد الودود شلبي، ص4.
(6) انظر كتابنا: تربية الأطفال في رحاب الإسلام (فصل رياض الأطفال، ص453) .(47/38)
هجرة اليهود الفلاشا
مازن عبد الله
يتمتع غالبية يهود الولايات المتحدة بمداخيل مادية ضخمة ونفوذ كبير في
المؤسسات المالية والاجتماعية والسياسية، وبالإضافة إلى مناخ الحريات الشخصية
هناك؛ فضَّل هؤلاء البقاء على الهجرة ومناصرة إسرائيل من مواقعهم المؤثرة
داخل الولايات المتحدة الأمريكية.. ولما كانت هجرة يهود أمريكا محكومة بهذه
الظروف التي تجعل هذه الهجرة محدودة، كان أمل (إسرائيل) مركزاً على
هجرات كثيفة من دول الكتلة الشرقية عامة والاتحاد السوفييتي بشكل خاص ...
لقد ركزت الحركة الصهيونية على الضغط على الاتحاد السوفييتي للسماح
لليهود السوفيات بالهجرة، واستخدمت في سبيل ذلك كل وسائل الضغط السياسي
والإعلامي بربط موضوع الهجرة بحقوق الإنسان، كما تحرك اللوبي الصهيوني في
الولايات المتحدة ليجعل موضوع هجرة اليهود السوفييت على جدول أعمال أية
مباحثات تدور بينها وبين الاتحاد السوفييتي ... وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية،
كان اليهود وحقوقهم الثقافية والدينية وهجرتهم في صلب المواضيع التي دارت
حولها الحرب الباردة. وقليلة هي الاجتماعات التي عُقدت بين مسؤولين أوروبيين
أو أمريكيين ومسؤولين سوفيات بعد الحرب، ولم يكن موضوع الهجرة اليهودية
ضمن جدول اعمالهم، فبقي هذا الموضوع مشهراً في وجه الاتحاد السوفييتي مع
تعاقب قياداته ومسؤوليه.
وقبل الدخول في تفاصيل هجرة يهود الاتحاد السوفييتي نود الإشارة إلى
هجرتين سبقتا هذه الهجرة، ولو أنهما كانتا أقل أهمية وأصغر حجماً..
هجرة يهود إيران:
لقد كان الشاه متعاطفاً مع (إسرائيل) ، وكانت له علاقات وثيقة بها. ونتيجة
لهذه الصلة فقد كانت هجرة يهود إيران محكومة بالظروف الاقتصادية والعقائدية
لهؤلاء اليهود، شأنهم شأن يهود أمريكا، فقد آثر أثرياء اليهود الإيرانيين البقاء في
إيران وإمداد (إسرائيل) بالدعم المادي والمعنوي، ذلك أن الكثيرين منهم كانت لهم
السيطرة على بعض قطاعات الاقتصاد الإيراني، ولم يغادر إيران سوى القليل من
أصحاب الدخول المتدنّية والمتعصبين الدينيين.
عندما نجحت الثورة في إيران وأُسقط الشاه، بدأ اليهود هناك يخططون
للهجرة إلى إسرائيل بأعداد كبيرة.. وبقدر ما كانت (إسرائيل) منزعجة من
التوجهات المعلنة للثورة الإيرانية، فقد أسعدها أن تتدفق موجات المهاجرين من
اليهود الإيرانيين إليها. وهكذا، فعندما نشبت الحرب العراقية الإيرانية وصدرت
قرارات حظر توريد السلاح الأمريكي إلى إيران التي تعتمد قواتها المسلحة اعتماداً
أساسياً على السلاح الأمريكي جاءت (إسرائيل) لتنتهز الفرصة، وبعد اتصالات
سرية، قامت بشحن قطع غيار لطائرات الفانتوم والدبابات الأمريكية مع كميات من
الذخيرة، وذلك مقابل السماح بإقامة جسر جوي حمل الآلاف من اليهود الإيرانيين
إلى (إسرائيل) . ولكن هذه الرحلات توقفت بعد فترة قصيرة من بدئها وذلك
لأسباب عديدة ما لبثت أن حُلت، فأُكملت الصفقة التي كانت تحلم بها (إسرائيل) ،
وذلك في سبتمبر عام 1987، حيث سمحت إيران بهجرة حوالي 30000 يهودي
إيراني بدأ عن طريق تركيا، ثم جواً أو بحراً من تركيا إلى (إسرائيل) .
هجرة يهود أثيوبيا (الفلاشا) :
الولايات المتحدة الأمريكية وبشخص رئيسها جورج بوش - تتدخل لدى
أطراف عديدة في منطقة البحر الأحمر لتنفيذ عملية مدنية عسكرية، قام خلالها
الجيش الإسرائيلي (بمهمة إنسانية) لإنقاذ مجموعة يهودية (معرضة للإبادة) . لقد
بدأت العملية ليل 26 من أيار عام 1991 حيث تمكنت (إسرائيل) من نقل حوالي
14500 يهودي أثيوبي من أديس أبابا إلى تل أبيب خلال ست وثلاثين ساعة على
متن أربعين طائرة عملاقة معظمها تابع للجيش من طراز هيركوليز -130سي،
وأخرى استؤجرت وأزيلت مقاعدها فحُشر فيها الفلاشا حشراً وهم جلوس على
أرضيتها؛ لتتسع لأكبر عدد منهم!
لقد بدأت عمليات تهجير الفلاشا إلى (إسرائيل) في بداية الثمانينات. ومع
ظهور الحاجة إلى مزيد من المهاجرين لزيادة الكثافة السكانية مهما كانت مهاراتهم
قليلة - بدأت الوكالة اليهودية بتنظيم حملة لجمع التبرعات خاصة في كندا
والولايات المتحدة لتمويل عملية تهجير يهود أثيوبيا.
في أواخر السبعينات، كانت الوكالة اليهودية قد بعثت ببعض عملائها
ووعاظها ليعيشوا بين يهود أثيوبيا. وهناك تمكن هؤلاء من نشر فكرة أن اليهود
الأثيوبيين سيتعرضون في المستقبل القريب إلى حملات الاضطهاد وإرهاب من قِبَل
عناصر معادية للسامية، بالإضافة إلى توزيع نشرات دعائية عن أرض الميعاد
والخير والنعيم الدائم الذي ينتظر كل يهودي يهاجر إليها.
على صعيد آخر، وخلال زيارته إلى أمريكا في محاولة لشراء السلاح،
اصطدم الرئيس الأثيوبي منغستو هيلا ميريام برفض أعضاء الكونغرس الموافقة
على بيع سلاح أمريكي لأثيوبيا. عندئذ نصح البعض منغستو بالاستعانة بنفوذ
(إسرائيل) في الكونغرس. وكان (بيغن) آنذاك في الولايات المتحدة يجري
مباحثاته الشهيرة مع أنور السادات في كامب دافيد.. وهكذا تم اتصال منغستو
ببيغن الذي رحب بشدة بهذه الفرصة الذهبية، فتم الاتفاق - وبعد مباحثات
قصيرة - على أن تقوم إسرائيل، بواسطة اللوبي الصهيوني بالضغط على الكونجرس ليوافق على تزويد أثيوبيا بالسلاح مقابل أن يوافق الرئيس الأثيوبي على إقامة جسر جوي بين أديس أبابا وتل أبيب لنقل اليهود الفلاشا.
لقد بدأت عمليات تهجير اليهود الفلاشا مع مطلع عام 1981، عندما قامت المخابرات الإسرائيلية، وبالتنسيق مع المخابرات الأمريكية ال CIA بعملية تهريب 140 يهودي أثيوبي على متن طائرة تجارية كانت تقوم برحلات إلى أديس أبابا لنقل البضائع. قام بتنفيذ العملية والإشراف عليها وقتئذ منظمة تدعى.. المنظمة الأمريكية، وهي منظمة تعمل كغطاء لوكالة المخابرات الأمريكية في المنطقة.. بعد فترة قصيرة، استطاعت المخابرات الإسرائيلية نقل حوالي ألف يهودي أثيويى سرا إلى إسرائيل. وهكذا توالت عملية تهجير الفلاشا إلى إسرائيل وبأعداد قليلة حتى سنة 1982 حين تم اكتشاف إحدى العمليات في مطار أديس أبابا فتوقفت العمليات.. وعندما كانت إسرائيل بأمس الحاجة إلى هجرة كثيفة تساعدها في إنشاء مستوطنات جديدة تغطي الأراضي العربية التي احتلتها وأخرى تخطط، ومن هنا بدأ التفكير الجدي في البحث عن طرق أخرى لتهجير يهود أثيوبيا وبكثافة كبيرة.
عملية موسى:
بدأت العملية عندما استطاعت المخابرات الإسرائيلية، وعن طريق
المخابرات الأمريكية، الاتصال بالملياردير عدنان الخاشقجي والاتفاق معه على أن
يتوسط لدى الرئيس السوداني جعفر النميري من أجل إتمام صفقة ليحصل فيها
النميري على مبلغ 56 مليون دولار، توضع في حساب سري باسمه في أحد فروع
بنك أوروبي بروما، كما يدفع فيها مبالغ إضافية لبعض مساعديه وفي مقدمتهم
اللواء عمر الطيب ومساعده لشؤون القصر الدكتور بهاء الدين إدريس في مقابل
مساهمة ومساعدة هؤلاء في عملية تهجير اليهود الأثيوبيين عن طريق السودان إلى
إسرائيل.
وفي منتصف عام 1984، وفي قصر عدنان خاشقجي في نيروبي عاصمة
كينيا، تم الاجتماع المنتظر والذي ضم جعفر النميري وآرييل شارون وعدنان
خاشقجي بالإضافة إلى الدكتور بهاء الدين إدريس وبعض مسؤولي الموساد. وعلى
أثر هذا الاجتماع تم الاتفاق على عقد الصفقة وتنفيذ العملية.
بعد اجتماع نيروبي، بدأ الإعداد لتنفيذ العملية بإنشاء معسكر خاص في منطقة
القضارف ومعسكر آخر في منطقة (تبواوا) ، وكلاهما منطقة نائية تقع على
الحدود السودانية الأثيوبية، وأعدا بشكل يظهران فيه بأنهما مجرد معسكرين
للاجئين يأوي إليهما اللاجئون الأثيوبيون.. وعلى صعيد آخر اتصلت المخابرات
الإسرائيلية برجل أعمال يهودي بلجيكي اسمه جولتمان وهو صهيوني متعصب
يملك أسطولا من الطائرات متعددة الأحجام والطرز، وطلبت مساعدته. فوافق على
الفور وجهز أسطولا من الطائرات المناسبة لتنفيذ العملية، ووضع عليها اسم ...
(شركة ترانس يوروبيان اير لاينز) باعتبارها شركة نقل بلجيكية تعمل على نقل مواد الإغاثة إلى السودان.
بعد الاطمئنان إلى دقة الترتيبات صدر قرار البدء بتنفيذ العملية. وكان ذلك
يوم 20/11/1984 وفعلا، وصلت الأوتوبيسات التي تحمل الدفع الأولى من
المهاجرين اليهود الأثيوبيون إلى مطار الخرطوم قادمة من منطقة القضارف ودخلت المطار تحت حراسة وإجراءات أمنية مشتددة، حيث كان بانتظارها السفير الأمريكي شخصيا والذي جاء ليطمئن بنفسه على صعود المهاجرين الفلاشا إلى الطائرة. ... وهكذا بدأت رحلات الهجرة وحسب الخطة المرسومة بحيث تقلع الطائرات من الخرطوم وتتجه إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل، فتهبط هناك للتزود بالوقود
على أنها طائرات ترانزيت عابرة، ومن ثم تقلع مباشرة إلى (إسرائيل) ... لقد
استمرت تلك العملية فترة على هذا المنوال، قامت خلالها الطائرات البلجيكية بثمانٍ
وعشرين رحلة نقلت فيها حوالي عشرة آلاف يهودي أثيوبي إلى (إسرائيل) ، حتى
توقفت بعد حادثة تسرب الغاز في أحد مخازن البضائع التي كان يُخبَّأ فيها اليهود
الفلاشا وانكشاف العملية.. فلقد اعترف متحدث رسمي إسرائيلي في مؤتمر صحفي
يوم 16/1/1985 بأن (إسرائيل) قد رتبت فعلاً تلك العملية السرية التي تحدث
عنها بزهو وفخر واعتبرها من أهم العمليات التي نفذتها مخابرات بلاده بنجاح.
عملية سبأ:
بعد انكشاف أمر العملية الأولى أي (عملية موسى) ، أخذت المخابرات
الأمريكية على عاتقها أمر تنفيذ العملية التالية والتي أطلق عليها اسم عملية (سبأ) .
وفي 6/3/1985 قام الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش -والذي كان يشغل في
تلك الأثناء منصب نائب الرئيس - بزيارة خاصة للسودان فاجتمع بالرئيس النميري
وأقنعه بالعملية الجديدة التي وعده بأن المخابرات الأمريكية بكل ثقلها هي التي
ستتولى تنفيذها. لقد وافق النميري على العملية شرط أن لا تتوجه الطائرات
الأمريكية التي ستقل الفلاشا إلى (إسرائيل) مباشرة وإنما تتوجه إلى إحدى القواعد
الأمريكية في أوروبا أولاً ومن ثم تتابع رحلتها إلى (إسرائيل) ، ولكن عند بدء
تنفيذ العملية في 18/3/1985 تجاهلت المخابرات الأمريكية هذا الشرط؛ فكانت
طائرات الشحن العسكرية تقلع من إحدى القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا
لتصل إلى مطار العزازا بشرق السودان ثم تقلع بحمولتها من يهود الفلاشا مباشرة
إلى أحد المطارات العسكرية الإسرائيلية في النقب.
لقد اختارت المخابرات الأمريكية مطار العزازا المهجور كبديل عن مطار
الخرطوم؛ وذلك لقربه من منطقة (القضارف) ولسهولة إحكام السيطرة الأمنية
عليه، فهيأت ممراته بحيث يصبح جاهزاً لاستقبال طائرات النقل العسكرية
الضخمة من طراز سي 135 والتي استخدمتها في تلك العملية ... لقد شارك في
تنفيذ العملية - وزيادة في التمويه - موظفو هيئة الإغاثة الدولية الذين تم تجنيدهم
لصالح المخابرات الأمريكية. ولكن بالرغم من كل تلك الاحتياطات والتدابير
الأمنية المشددة، فقد تسربت أنباء تلك العملية وخاصة بعد حادثة مراسل صحيفة
(لوس أنجلس تايمز) ، وذاع السر، فبدأت تتناقله في 22/3/1985 - الدوائر
الصحفية والسياسية، وهكذا توقفت العملية الثانية بعد فترة قصيرة من بدئها، قامت
الطائرات الأمريكية العسكرية خلالها بست رحلات فقط نقلت فيها آلاف اليهود
الفلاشا إلى (إسرائيل) .
التغييرات الدولية والعملية الجديدة:
في عام 1989، وعندما بدأت ملامح تغير موازين القوى الدولية والإقليمية
تظهر - خاصة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي ومن ثم بين (إسرائيل) والدول
العربية - أعلنت أثيوبيا عن إعادة علاقاتها الديبلوماسية مع (إسرائيل) ، بعد
قطيعة دامت 22 سنة. عندئذ بدأت (إسرائيل) تخطط لعقد صفقة مع أثيوبيا تكون
عملية تهجير اليهود الفلاشا من أهم عناصرها. وهكذا لم تستغرق المسألة وقتاً
طويلاً حتى تمكنت (إسرائيل) من عقد صفقة مهمة مع أثيوبيا، وإن لم تستطع أن
تحقق كل ما كنت تطمح له وبالسرعة التي تريدها ... فلقد وافقت (إسرائيل) على
إمداد أثيوبيا بالسلاح والعتاد والمستشارين العسكريين ومستشارين في مجال الري
والزراعة ومجالات أخرى، مقابل موافقة أثيوبيا على السماح لإسرائيل بإقامة قاعدة
تنصت واستشعار عن بُعد في إحدى الجزر الأثيوبية بالبحر الأحمر، بحيث يمكِّنها
هذا الموقع من التجسس الالكتروني على السعودية واليمن، وموافقتها على تهجير
اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى (إسرائيل) . وفعلاً، فلقد تأكد لدى دوائر المخابرات
أن تهجير يهود أثيوبيا إلى (إسرائيل) بدأ مباشرة بعد وصول أول دفعة من الأسلحة ...
الإسرائيلية إلى أثيوبيا.
عملية جسر سليمان:
وكما ذكرنا في مطلع حديثنا عن اليهود الفلاشا، فلقد تابع رئيس الولايات
المتحدة الحالي وعرَّاب عملية سبأ (جورج بوش) وبصورة شخصية - الجهود
الرامية إلى ترحيل حوالي 16 ألفاً من الفلاشا إلى (إسرائيل) ، خوفاً عليهم من
مغبة انفجار الوضع في أديس أبابا وخاصة بعد انهيار حكومتها.
فبعد انتهاء حرب الخليج وانقلاب موازين القوى السياسية والعسكرية، الدولية
والإقليمية، وتفرد أمريكا شبه التام بالساحة الدولية - أوعزت إلى بعض عملائها
في بعض الجبهات الثورية في جنوب وغرب أثيوبيا وأعطتهم الضوء الأخضر من
أجل تفجير الأوضاع في البلاد. وعندما انفجر الوضع في أثيوبيا، سارع جورج
بوش ليتصل بادئ الأمر، وحسب مراسل صحيفة (نيو يورك تايمز) - بالرئيس
الأثيوبي منغستو هيلا ميريام وناشده الإسراع بترحيل ما تبقَّى من اليهود الفلاشا من
أثيوبيا إلى (إسرائيل) و (لأسباب إنسانية) . لِلمّ شملهم مع أسرهم وأقربائهم الذين
تم ترحيلهم من قبل في عمليتي موسى وسبأ. ولكن عندما ربط منغستو موافقته على
هذا الطلب مقابل موافقة أمريكا على إمداد حكومته بالسلاح وإعطائه مئة مليون
دولار نقداً؛ تخلى عنه بوش.
بدأت الأحداث تتسارع في أثيوبيا، وبدأ الثوار الذين تمثلهم (جبهة الشعب
الأثيوبي الديموقراطية الثورية) و (جبهة ثوار أورومو) و (الجبهة الشعبية
لتحرير أرتيريا) يحرزون نجاحات سريعة في زحفهم نحو العاصمة وميناء عصب
(الميناء الوحيد الذي يربط أثيوبيا بالعالم الخارجي) ، فشعر منغستو بدنو أجل ...
حكومته فتنازل عن الحكم لنائبه تيسفاي كيدان الذي شكَّل حكومة جديدة بعد هروب
منغستو إلى زيمبابوي حيث طلب حق اللجوء السياسي؛ عندئذ عادت أمريكا لتدخل
على خط الأحداث ثانية. والغريب أن المفاوضات حول ترحيل اليهود الفلاشا لم
تكن تتم بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأثيوبية. ولكن عبر وسيط أمريكي،
هو اليهودي هيرمان كوهين، مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية.
وكان المبرر الذي تجري بموجبه هذه المفاوضات هو محاولة عقد مؤتمر لحل
النزاع بين الثوار والحكومة الأثيوبية والذي اتخذت لندن مقراً له. في تلك الأثناء
كانت الأحداث تتسارع في أثيوبيا وبدأت كفة الميزان تترجح لصالح الثوار الذين
سيطروا على ميناء عصب وعلى غالبية المواقع الاستراتيجية في البلاد وبدأوا
زحفهم الأخير نحو العاصمة. عندئذ طلبت الحكومة الأمريكية - ممثلة بكوهين -
تأجيل المفاوضات في لندن وتأجيل اقتحام الثوار العاصمة، وكان هدف كوهين من
هذا التأجيل هو الحصول على مهلة تسمح بنقل الفلاشا عبر جسر جوي يربط بين
أديس أبابا و (إسرائيل) قبل تدمير العاصمة عند اقتحامها.. وهكذا كان، فلم
يستغرق الأمر أكثر من خمسة أيام و35 مليون دولار، كانت من نصيب الحكومة
الأثيوبية، تم خلالها نقل جميع اليهود من الفلاشا - الذين جُمعوا في مخيمات قرب
السفارة الإسرائيلية في العاصمة - عبر مطار أديس أبابا إلى (إسرائيل) .
بعد انتهاء هذه العملية التي أطلق عليها اسم عملية (جسر سليمان) مباشرة،
استؤنفت في 27 من أيار عام 1991 المفاوضات التي أعلن فيها كوهين القرار
الأمريكي بإعطاء الضوء الأخضر للثوار باقتحام العاصمة. وهكذا سقطت العاصمة
وسقطت معها الحكومة، وأسدل الستار على ما عُرف بقصة اليهود الفلاشا في
أثيوبيا.(47/44)
كتب
التطبيع
استراتيجية الاختراق الصهيوني
تأليف: غسان حمدان
عرض: د. يوسف الصغيِّر
يعتبر هذا الكتاب من الكتب المهمة في هذا الموضوع؛ حيث إنه يجمع بين
صغر الحجم نسبياً (256 صفحة من القطع المتوسط) وغزارة المعلومات
والإحصاءات الموثقة المعروضة عرضاً جيداً من وجهة نظر إسلامية في عمومها
ويتكون هذا الكتاب من مقدمة وسبعة فصول.
ففي المقدمة ألقى الضوء على كارثتين ابتليت بهما الأمة في هذا العصر وهما
إلغاء الخلافة الإسلامية ودور التآمر اليهودي والصليبي فيها، والثانية اغتصاب
فلسطين وإقامة دولة اليهود فيها وما تبع ذلك من استغلال العشرات من الحركات
والأحزاب المنحرفة لهذه الأحداث وإعلانها الوصاية على الشارع الإسلامي بادعائها
العداوة مع اليهود ومقاومة الوجود اليهودي في فلسطين على الرغم من مدهم الأيدي
لهم في الخفاء. ولبيان منحنى العلاقات الظاهرة بين العرب ودولة اليهود عقد
الكاتب الفصل الأول حيث بيَّن أن الإجماع العربي الرسمي على رفض الاعتراف
بالعدو كان شاملاً منذ العام 1948 وحتى هزيمة 1967م باستثناء موقف الرئيس
التونسي بو رقيبة، وكانت المقاطعة من أبرز ملامح هذه الحقبة؛ حيث اتخذ مجلس
الجامعة العربية في أيار 1951م قراراً بإنشاء مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل وقد
أُنفقت أموال هائلة على جهاز المقاطعة، ولكنها لم تمنع تسرب البضائع الإسرائيلية
إلى الدول العربية، وبالعكس وقد ازداد التسرب كثيراً بعد حرب 1967 م، فقد
كان البترول العربي يستورد عن طريق طرف ثالث أو يفرغ مباشرة من الناقلات
في عرض البحر، وكانت المنتجات الإسرائيلية تتسرب عن طريق دول مجاورة
مثل إيران واليونان وقبرص، أو عن طريق مراكز تصديرية عالمية مثل تايوان
وهونغ كونغ.
وبدأت مرحلة جديدة بعد زيارة السادات للقدس، حيث برز اصطلاح جديد
وهو التطبيع، وقد استعمله اليهود كثيراً على الرغم من المغالطة في المفهوم؛ حيث
إن التطبيع هو عودة العلاقات إلى سابق عهدها، بينما الأصل في العلاقة مع اليهود
هو العداوة كما قال تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ
أَشْرَكُوا] [المائدة: 82] ولا ينكر الساسة اليهود أن التصور الإسرائيلي للسلام مع
العرب يدور حول فكرة أساسية هي تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية التي هي
مرحلة من مراحل السيطرة اليهودية، ولا يمكن تصور أن زيارة السادات للقدس
كانت وليدة خاطرة في ذهن الرئيس، بل إن الاتصالات الإسرائيلية كانت مستمرة
بلا انقطاع مع أكثر من طرف عربي. وما نشر وينشر من كتب موثقة حول
لقاءات شخصيات وزعماء عرب مع زعماء اليهود يغني عن ذكر الأسماء، فالأمر
أصبح واضحاً لكل ذي لب.
وهناك صلات ودية حميمة بين بعض الزعماء وزعماء (إسرائيل) وقد ...
سمحت بعض السلطات لليهود والذين يهاجرون إلى (إسرائيل) - بالاحتفاظ
بجنسية البلد الذي غادروه، وكثير من مسؤولي (إسرائيل) الآن هم من ذاك البلد
وقد طالب زعيم هذا البلد - في مقابلة مع صحيفة (السياسة) الكويتية - بالاعتراف
بإسرائيل واعتبارها (حارة) لليهود في الدول العربية! .
وإذا كانت الاتصالات الإسرائيلية المارونية ليست محل استغراب فإن ...
الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية توضح إلى أي مدى وصلت إليه القيادة
الفلسطينية؛ حيث اشتمل الكتاب على حقائق وإحصاءات كثيرة، ويجدر
الاطلاع عليها فهي تحتوي على معلومات عن مفاوضات ولقاءات كثيرة سواء بين أفراد أو بين وفود، منها ما هو سري ومنها ما هو علني. أما الاتصالات المصرية الإسرائيلية فقد جرت بشكل سري في عهد عبد الناصر تحت إشراف أمريكي، وجاء السادات ليكمل المسيرة فبدأ بعملية إعداد إعلامي لترويض الشعب المصري وتصوير كل المصاعب بسبب الصراع، وأن السلام سيجلب الثراء، وبدأت العملية العلنية بمبادرة السادات في مجلس الشعب يوم 9/11/1977م؛ حيث أعلن فيها رغبته في زيارة القدس (وغزو العدو في عقر داره) ! وبعد جولات من ... المباحثات تم التوقيع على معاهدة كامب ديفيد التي تعتبر مثالاً يُحتذى لأي معاهدة قد تجري بين العرب و (إسرائيل) ، فهي تتعدى كونها معاهدة سلام إلى معاهدة يتم بموجبها فتح المنطقة أمام النفوذ والسيطرة اليهودية، ويمكن تلخيص مظاهر التطبيع بالآتي:
1- التطبيع السياسي؛ حيث أرسيت علاقات دبلوماسية كاملة ولقاءات قمة
متبادلة.
2- التطبيع الاقتصادي؛ حيث تمت إزالة جميع الحواجز بل أصبحت
(إسرائيل) الدولة الأولى بالرعاية.
3- التطبيع الثقافي؛ حيث ينظر اليهود إليه على أنه الدعامة الرئيسة لبقاء
السلام حيث يتم نزع العداء لليهود من العقل العربي.
ومن مظاهر التطبيع يتبين لنا أهمية التطبيع الكبيرة بالنسبة للكيان اليهودي،
حيث يتم كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود، وتنتهي المقاطعة العربية مما
يفتح المجال لتوسع اقتصادي كبير في (إسرائيل) نتيجة فتح الأسواق العربية،
وهناك أمر آخر هو أهمها وهو أن الاستقرار الأمني في المنطقة سيؤدي إلى سيل
كثيف من هجرة اليهود إلى (إسرائيل) ، مما يقرب اليهود من تحقيق حلم
(إسرائيل) الكبرى؛ حيث إن قلة عدد السكان هو أكبر عامل يعرقل المشاريع
اليهودية في المنطقة. ويتبين من حرص اليهود على التطبيع بين مصر
و (إسرائيل) عدة مظاهر خطيرة:
منها استغلال الدين وتطبيعه حيث تم تصوير زيارة السادات للقدس بأنها
إحياء لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلحه مع قريش، وسنة صلاح
الدين في دخوله القدس وقد أصر اليهود على منع بث السور التي تتحدث عن اليهود
وحذف الآيات التي تفضح اليهود من الكتب الدراسية، وكذلك منع البرامج الدينية
التي تتناول قصص اليهود والواردة في القرآن، وأخيراً تأليب النظام على الحركة
الإسلامية.
وبعد أن تم توقيع الاتفاقية الثقافية الملحقة بكامب ديفيد في 8/5/1980م
أسرعت الحكومة المصرية وقامت بمراجعة شاملة لمناهج التعليم في مصر وتعديلها
لتلائم المرحلة الجديدة، وبالطبع لم يتم شيء من هذا في الجانب اليهودي. إن
اليهود مصرون على تحقيق هدفهم مستعينين على ذلك بتواطؤ الحكومات العربية
إضافة إلى جدهم وجَلدهم، فمنذ الأيام الأولى لتأسيس (إسرائيل) صرح بن
غوريون في كلمة موجهة إلى الطلاب اليهود بقوله: (إن هذه الخارطة ليست
خارطة شعبنا، إن لنا خارطة أخرى عليكم - أنتم طلاب المدارس اليهودية
وشبابها - أن تحولوها إلى واقع ... يجب أن يتسع شعب (إسرائيل) من النيل إلى الفرات) ! .
إن حلقات هذا المسلسل لن تنتهي إلا بتحقيق موعود الله - تعالى - لهذه الأمة
على لسان نبيها بأن تحصل المجابهة النهائية بين اليهود وبين جند الإسلام؛ حيث
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون
اليهود؛ فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر
والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعالَ فاقتلْه..) رواه مسلم
والترمذي. فما يحصل الآن هو بشارة لهذه الأمة بعودة دولة الإسلام وإن الله جامع اليهود ليوم الملحمة.(47/53)
البيان الأدبي
مناهج لا كلمات
د. عبد الله عمر سلطان
(التجرد) ادعاء أم ممارسة؟ :
سؤال مطروح في أوساط المفكرين والمصلحين منذ القديم، والسؤال نفسه
يجد طريقه إلينا بصورة شاخصة قوية اليوم لا سمما ونحن نعيش عصر الانبعاث
الإسلامي اللحظة بصورة متجددة ...
وبقدم السؤال ... بأهمية الإجابة.. بحجم القضية.. وباتفاق الأطراف على
إجابة واحدة لا تدع مجالاً للمراوغة ولا مساحة للتدليس!
التجرد ممارسة وتطبيق وواقع ينطلق من قناعة ونظرية ومسلَّمة.. والتجرد
في عُرف الأمة الوسط ظل هكذا، وعاش كذلك دون أي بهرجة أو فلسفة مخلة.
التجرد يعبر عنه رجال خير القرون، ورواد أهل السنة بتلك العبارة الشهيرة: (قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) ... وتأملوا قصة هذا الحديث وتوقفوا لحظات قسرية أمام هذا النموذج البسيط المدهش! «عن حصين بن عبد الرحمن قال كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت أنا: ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لُدغت. قال: فما صنعت، قلت ارتقيت، قال فما حملك على ذلك؟ قلت حديث حدثناه الشعبي ج قال: وما حدثكم؟ قلت حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رُقية إلا من عين أو حُمَة قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع..، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي معه الرجل والرجلان، والني ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه فنظرت إلى سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم لعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً.. وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عُكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم ... قال سبقك بها عكاشة» متفق عليه واللفظ لمسلم.
والحديث على ما فيه من العبر والدروس والتي لا تنقضي فإنه يمر على
أكثرنا اليوم دون توقف أمام النص المعجز.. والنبراس المضيء ... وقفة تأمل
وتتلمذ واجبة، هل نقف أمام الخوف الشديد من الرياء والتابعي الجليل يقول لمن
توهم بأنه شاهد النجم حيث كان يقوم الليل بعبارة (ولكني لدغت..، أم أمام الحوار
الدائر بين جمهرة الصحابة في القضايا المهمة وحرصهم على الخير..، أم أمام
مفهوم التوكل والأسباب؟ أم أمام ظاهرة التطير؟ كلها وقفات مهمة لكننا سنختار
موضعاً واحداً للوقوف والاعتبار.
هذا هو المنهج. التابعي الأول مجتهد محسن في عُرف أخيه، لأنه اتبع أصح
الأدلة وسار على أوضح المسالك التي كانت بين يديه.. وهذا دأبهم، في ظل مفهوم
التجرد المكرس واقعاً، لا يتخذ من الموقف السابق والدليل المرجوح إلا سلماً في
الطريق إلى الحق المطلق الثابت بصورة أوكد.
هكذا بكل تجرد.. وتواضع.. وتنازل يؤخذ بزمام الحق.. ويُتولى شطر
اليقين. مَن كان هذا دليله وذلك منهجه يفرح حقاً بالوصول إلى الأسلم ويحلق بقوة واندفاع في اتجاه جديد عليه لكنه مؤمن به كل الإيمان.. دأب صاحب هذا التوجه، التجرد مما آمن به في لحظة ثبوت الحق القاسي على النفوس التي تظن أن تبنّيها مواقف سابقة تجعلها مرتبطة آلياً بها، هكذا دون نقاش، وإن إعلان الخطأ طقس من طقوس الضلال.. الذي يجب ألا يُقترف.
خط صاحبنا التابعي يقول: اسمعوا لا شيء يقف في طريق الحقيقة سوى
النفوس المريضة والخيالات الهشة..، الحق في الثابت الصحيح وما كان طريقاً
إليه وموصلاً بحبله طريق ليس إلا ... فإذا تمسكت بمرحلة معينة وأضفت حولها
قداسة وهالة فإن هذا لا يعني أنها هي الغاية من السفر المرهق، ... الغاية هناك
حينما تصل إلى نهاية الرحلة ... لا يمكن لأعرابي مجتهد أن يزعم أن عسفان -
وهي الطريق المؤدي إلى حرم الله الآمن - هي البيت الحرام.. عسفان مع ما فيها
من رجال خير.. ومساجد عامرة مرحلة قريبة من الوصول إلى البيت العتيق ... ،
والأعرابي هذا إما أن يتنازل عن وهمه حينما يواجَه مباشرة بأنه صحيح الظن في
مساره لكنه لم يبلغ ما نذر نفسه له أو يظل مصراً على التمسك بموقفه ... ، إن
عليه في تلك اللحظة أن يتنازل عن عسفان ووهمه الجميل الذي بناه حولها ... ،
ويشار إليه إلى جبال سود يجد مكة بعدها ... فإذا قبل الأعرابي فإنه انتهى إلى ما
قد سمع ... وإذا أصر على أنه لم ير في حياته مكاناً يشبه ما تخيله أنه البلد الحرام
فإنه سيبقى في عسفان ... وتبقى مكة هي بيت الله الحرام ... بالرغم من كل
الأساطير والأحلام والرؤى التي قلبت في ذهنه عسفان حتى غدت في حسه الفطري
ما قصده حاجاً.
(قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) :
عبارة بسيطة، وجملة مستقطعة من الحديث ... ولكن كم هي عظيمة وعميقة
تُعلن للمسلمين على مر العصور أن القاعدة العظيمة [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ
وسْعَهَا] [البقرة: 286]- تسري على طالب الحق كما تسري على مجتنب
الخبث ... ، ولا يسأل الله عبداً إلا ما كان في استطاعته وعلمه وتحت يده ... ، وتجعل من منهج (المجتهد المخطئ) مدخلاً عظيماً نقف نحن اليوم أمامه في مرحلة من عصور التقدم المادي وتظل الحضارة المعاصرة قاصرة عن
بلوغه..، هذه البدهيات في المنهج تحث على التجرد في حدود الممكن والمستطاع ولا تثقل كاهل الإنسان وتلقي به في دائرة المستحيل ... لكنها تصوغ في نفس الوقت الطريق الموصل من خلال التجرد المطلق للحق بلا تردد.
(قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) :
أمر الدين لا يؤخذ إلا هكذا في مسائل الشرع والمعتقد والتعامل اليومي! وأمام صحوة وانبعاث المسلمين اليوم تبرز ظاهرة تفرض نفسها فرضاً وتجبرنا على طرحها دون خيار.. متمثلة في تشرذم العاملين لإعادة هذا الدين حينما يغفلون عن إدراك مثل هذه القاعدة!
وحالة الانبعاث في كل عصر يصاحبها شيء من الحيرة والقلق والمحاولة
حتى تستقيم الصحوة وتصلب وتتجذر! لكن من الظلم بل من العبث أن يُضفَى على
حالات الحيرة والقلق الموصلة إلى الحق شيء من القداسة وأن يُرَشَّ من حولها
بخور الكرامة لكونها محاولة وكفى، إن حالنا اليوم يشبه عسفان وأعرابيها ... ، أن
نطلق على هذه المحاولات المجتهدة صفة الثبات والأصلية يجعلها قوالب مرعبة
ورموزاً عسفانية! وكلما تخيلنا وأطنبنا في خيرية المحاولة واجتهادها الطيب، فإنها
مرحلة ليس إلا ومحطة في الطريق إلى الهدف المنشود، ومن ادعى غير ذلك حينما
يواجَه بالنص القاطع والدليل الساطع - فإنما هو يتقوقع في دثور الاعرابي الذي
ظل يصرخ: وهذه المساجد، وتلك النفوس المؤمنة أليست هي بكة أم القرى؟ ؟
نعم أيها المجتهد إنها محاولة جادة وصادقة صدرت عنك ... لكن تأمل أمامك أدلة
تصرخ، ونصوص توضح، وأصول تجذر ... هل تتركها وتضرب بها عرض
الحائط؟ أم أنها جديرة بالبحث والنظر.. تأمل أيها الحبيب منهج سلفك ... تعرض
عليك القضية من هذا المنظار وتلك الزاوية فلا يكون موقفه سوى التسليم والانصياع
متمتماً: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع ...
لم يقل.. دليلي أخذته من الشعبي.. أتشك في الشعبي وعلمه؟ ؟ ولم يجادل
قائلاً: دليلي ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كدليلك! ولم يقل ... كلٌّ
يأخذ بما يرتاح إليه.. أنا آخذ برأي إمام معتبر. وأنت بآخر ... ولم يتمادَ بشعار
الجهلة (اختلاف أمتي رحمة) . تجرد واقعاً ممارَساً وتحركا يدب ... ويندفع،
واليوم ... كم من الدعاة العاملين يطبق هذه القاعدة ويستسلم لهذا الشعار! ! حقاً!
تأملوا مَن حولكم لتروا كم منا يرى في الطرق المجتهدة، مقدسات ورايات
يقاتل وينتهك من أجلها كل شيء ... حتى النصوص والقواطع؟ تأملوا كم منا يفكر
في أن كل الجماعات العاملة والأفراد المخلصين ما هم إلا أسباب خير ومحاولات
رشاد قابلة للخطأ والصواب؟
تأملوا كم الذين يتجردون للحق والثابت حى ولو عارض من يثقون بهم
وينخرطون في صفوفهم؟ تأملوا موقفنا اليوم من هذا المنهج والهدى المشع..
وموقفنا غداً بين يد البارئ ... ليس بيننا وبينه ترجمان.. أفراداً لا جماعات؟ !
تأملوا ثم اعرفوا بعد ذلك كم منا يقوده حصين بن عمران ... وكم من مئات العاملين
يعيشون منطق أعرابي عسفان! ثم بعد ذلك ثقوا بأن التاريخ بعد أمد سيقول عن كل
هذه المحاولات أنها محاولات ليس إلا..، قد تنتج شجرة مباركة في ظل التجرد
وقد.. تآكلت كما تآكلت أندلس بالأمس..، وتتآكل بعض قوانا واقعاً نراه على
مرأى البصر.
انظروا للمتجرد من أمثال ابن تيمية حينما واجه (المتوجسين) من المقلدة
الهامشيين، وأدركوا بعدها كم ينجح المتجرد المتصل بالحق على أهل السلطان
والفتوى والعلم الزائف.. ولو بعد حين ... كما حصل لأحمد بن عبد الحليم معظم
معاصريه وهم أعداؤه في ذات الوقت لم نكن لنعرف عنهم شيئاً لولا وجود ذلك
الرجل الذي خالف المذهب، وأفزع المقلدة من أهل عصره حينما التزم شعار
الالتزام بالحق والانتهاء إلى ما قد سمع من الثابت ... ، وانظروا إلى الشيخ
القاسمي في بداية هذا القرن وهو يواجه المتعصبة من المذهبيين فلا يملكون أمام
المتجرد / الرمز سوى اتهامه بالاجتهاد! !
وهي تهمة - في نظر ضيِّقي الأفق وأسرى الاتباع الأبله - لا توازيها تهمة!
(قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) :
منهج لا تحسن الألسنة لوكه دون أن يدب.
وكلمات متأصلة ليمت طارئة.
ونداء مدوٍّ له في سمع المتجردين.. والمتجردون القلة أذن واعية! وعلى مر
العصور والبقاع المتناثرة، لكنه يظل مشعاً كأنه كوكب دري في شعاب الحقب
والزمان.(47/58)
شعر
وقفة على أعتاب مستوطنة يهودية
شعر: د. عبد الرحمن صالح العشماوي
يا أبي.
هذي روابينا تغشَّاها سكونُ الموت..
أدماها الضجرْ
هذه قريتُنا تشكو..
وهذا غصنُ أحلامي انكسرْ
يا أبي..
وجهُك معروق ...
وهذا دمع عينيك انهمرْ..
هذه قريتنا كاسفة الخدينِ
صفراء الشجرْ
ما الذي يجري هنا يا أبتِ..
هل نفضَ الموتَ التترْ؟ !
يا أبي..
هذا هو الفجر تدلَّى فوقنا من جانب الأُفُقْ
وفي طلعته لونُ الأسى
ها هو المركب في شاطئنا الغالي رسَا
غيرَ أنَّا ما سمعنا يا أبي
صوتَ الأذانْ
عجباً
صوتُ الأذانْ؟ ؟
منذ أن صاحبني الوعيُ بما يحدث في هذا المكانْ
منذ أن أصغيتُ للجدَّةِ..
تروي من حكاياتِ الزمانْ:
(كان في الماضي وكانْ)
منذ أن أدركتُ معنى ما يُقالْ
وأنا أسمع تكبيرَ أذان الفجرِ ...
ينساب على هذي التِّلالْ
فلماذا سكت اليومَ..
فلم أسمع سوى رجْعِ السؤالْ؟ ؟ !
يا أبي..
هذا هو الفجر ترامى في الأفقْ
هذه الشمس تمادت في عروقِ الكونِ
ساحت في الطرقْ
فلماذا يا أبي لم نسمع اليومَ الأذانْ؟ !
ولماذا اشتدت الوحشة في هذا المكانْ؟ ؟
يا أبي..
كنا على التكبيرِ نستقبل أفواج الصباحْ
وعلى التكبير نستقبل أفواج المساءْ
وعلى التكبير نغدو ونروحُ
وبه تنتعش الأنفس تلتام الجروحُ
وبه عطر أمانينا يفوحُ
فلماذا يا أبي لم نسمع اليوم الأذانْ؟ !
ولماذا اشتدت الوحشة في هذا المكان؟ !
يا بُنّيَّ اسكتْ فقد أحرقني هذا السؤالْ
أنت لم تسأل ولكنك أطلقت النِّبَالْ
أَوَ تدري لِمَ لمْ نسمع هنا صوتَ الأذانْ؟ !
ولماذا اشتدت الوحشة في هذا المكانْ؟ !
هذه القرية ما عادتْ لنا
هذه القرية كانت آمنهْ
هي بالأمس لنا
وهي اليوم لهم مستوطنَهْ!(47/64)
إبحار في زمن السقوط
عبد العزيز بن محمد السالم
رجلٌ سار على درب الرمادْ ... وتمادى في أمانيه وزادْ
وعلى كل الشعارات ارتقي ... خفقتْ راياته في كل نادْ
وتنادت بسمةُ النصر على ... كل ثغرٍ عشق الرِّقَ ومادْ
و (رفاق) النصر قد باتوا على ... لَغَطٍ يعلو وأقداحٍ تُعادْ
رجلٌ ماتت حياة الناس في ... صوته الأحمر يستهوي الجمادْ
يدَّعي حب المساكين ولا ... يستحي مَن قطع أعناق العبادْ
يتباكى حين يلقى أمةً ... تشتكي الضعف وتستجدي النفادْ
وينادي بانتصار الحق من ... كل مَن يدعو إلى درب الفسادْ
ويبُزُّ الناس في مظهره ... أنه المنقذ من كل الشِّدادْ
أنه بذرة خيرٍ للدُّنَى ... يملأ الأرض جلالاً واجتهادْ
يمحقُ الباطلَ في معقله ... وينادي بمساواة العبادْ
وإذا الشرُّ تنامى زرعُه ... في الورى فهو له شرٌّ حصادْ
هكذا ظن وهذا ما ادعى ... هكذا قال وهذا ما أرادْ
خدع الدنيا بفكرٍ أحمرٍ ... غيُّه خافٍ وقد أبدى رشادْ
بعبارات على مبسمها ... ألفُ آهٍ تتمطى في انقيادْ
* * *
كان جباراً وفي أفيائه ... مصنعٌ يعلو وبنيانٌ يُشادْ
والورى يهتف في موكبه ... فهو يستهوي ملايين الجرادْ
في حمى (منجله) رعبٌ سرى ... يحصد الأمنَ وأحلامَ الرقادْ
في حمى (منجله) شرعٌ به ... أمةٌ تُسبَى وآلافٌ تبادْ
لا تسلْ (مطرقة) الغدر كما ... لا تسلْ (منجله) عما يُرادْ
فلقد بان لنا الحق وما ... عاد يلهينا عن الحق سوادْ
سقطتْ كل الشعارات التي ... رُفعتْ فوق منار (الاتحادْ)
* * *
رجل أسقطه طغيانُه ... رجلٌ أنهكه أهلُ الجهادْ
طالما دامتْ ليالي عُرسه ... فليذُقْ من أهلنا طعم الحِدادْ
قَدُّكَ الممشوقُ يا هذا ذوى ... فاطَّرح فكراً هزيلاً وعنادْ
عُد إلى كهف الضلالات ومُتْ ... في نواحيه وخذْ ماءً وزادْ
لا تُجربْ حظك العاثر في ... دعوة أخرى وأثوابٍ جِدادْ
كفرَ الناس بما قلتَ وهل ... يحصد المرءُ وروداً من قتادْ!
* * *
قد تعجَّبتُ ولكن ليس من ... سقطة الفكر الذي امتدَّ وسادْ
إنما من بعض قومي حينما ... جعلوا فكرته فيهم عمادْ
أنا أقسمتُ وهذا الكون لي ... شاهدٌ قولاً وفعلاً واعتقادْ
أنه لا حظَّ في النصر لنا ... حينما نُسْلِمُ للكفر القيادْ
إنما النصرُ حليفٌ صادقٌ ... لصلاحٍ وكفاحٍ وجِلادْ(47/67)
المسلمون والعالم
مقابلة مع رئيس اللجنة السياسية
لجبهة الإنقاذ الجزائرية
(2)
(وصلنا في الحوار مع الأخ رابح كبير رئيس اللجنة السياسية بالمكتب
التنفيذي المؤقت لجبهة الإنقاذ الإسلامية في العدد السابق إلى موضوع الانتخابات
وما يتعلق بها ونكمل في هذا العدد بقية المقابلة) .
- البيان -
* البيان: لقد كانت جماهير المجاهدين في الثورة الجزائرية تطالب باستقلال
الجزائر المسلمة وكانت الشعارات إسلامية ثم سُرقت الثورة من بعد، ألا ترون أن
التعويل على الجماهير وأنها هي التي ستحسم الموقف لصالح الإسلام سيعيد التجربة
السابقة في الجزائر وفي بلدان مشرقية أخرى؟ .
لا بد من التنبه إلى خصائص الشعب الجزائري وواقعه الحالي، فالشعب
الجزائري الآن ليس هو بأي حال الشعب في عام 1962؛ فمستوى الوعي الآن
تغير تماماً، أصبحت شعارات الجبهة (لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عليها نحيا
وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد) يحفظها كل طفل وتُردد في كل دار، مستوى
الوعي ارتفع كثيراً، ثم بالنسبة للقيادة التي تحمي هذا المسار ليست محددة في
شخص. في بداية الاستقلال كان هناك قيادة مخضرمة وتمت تصفية هذه العناصر
الإسلامية أما اليوم فالجبهة الإسلامية تسيِّر عناصر لا تؤمن بغير الإسلام، فكيف
يمكن لهم أن يسرقوا النصر، وهذا في حسابنا على كل حال؛ لأن الذين يسيرون
الجبهة من مكاتبها الولائية إلى أعلى هيئة فيها وهي مجلس الشورى، غالب هؤلاء
من الإخوة المتشبعين بالحل الإسلامي، فهذا الوضع لعل الله - سبحانه وتعالى -
يبارك فيه وتستأنف الحياة الإسلامية من جديد.
* البيان: قلتم إن الجبهة صارت أقوى وخاصة بعد المحنة، وكان الأعداء
يتوقعون تفكك الجبهة، وذكرتم أن بقاء الصف موحداً كان أحد الأسباب، هل هناك
أسباب أخرى؟
الذي نقوله الآن في الجبهة الإسلامية سواء مع بعضنا أو في لقاءاتنا مع
الشعب الجزائري أن من أعظم الأسباب التي حمت الجبهة الإسلامية إنما هي عناية
الله حقيقة، نحن نؤمن أنه كلما أخلصنا العمل لله، وكلما تمسكنا بكتاب الله وسنة
نبيه - صلى الله عليه وسلم - كلما أعاننا الله - تبارك وتعالى - بعض المحللين
السياسيين قالوا: إنه مستحيل، الجبهة لا يمكن أن تقوم الآن، الضربة كانت
شرسة، أكثر من مئتين من رؤساء البلديات سُجنوا، قُتل شباب داخل المساجد
ولكن الشعب عرف أن هذا الطريق هو طريق الإسلام، الشعب الجزائري شعب
متميز في تحدِّيه، إذا عرف الحق واستمسك به يصعب على أعدائه أن يخيفوه.
* البيان: من أسباب قوة الجبهة أنها بدأت بداية غير حزبية، فهل هذا
مستمر، أعني أن لا يعامَل الذي من الجبهة معاملة خاصة عمن هو خارجها ولو
كان رجلاً طيباً فاضلاً؟ وشيء آخر أن البعض يعتبر أن الجبهة ليس لها إطار
محدد، ولكن هل من الناحية الفكرية تتبنى أشياء محددة حتى تكون متماسكة ومن
جهة، ومن جهة الإطار غير حزبية؟
الجبهة كانت كذلك، وستبقى كذلك بإذن الله، فالإطار الذي يجمع العمل في
الجبهة إنما هو الكتاب والسنة، قال الله، قال رسوله، أي الدليل، نحن لا نخضع
إلا للدليل، ونحن لا نقبل من إخوتنا الذين جاءوا من تنظيمات معينة أن يأتوا ككتلة، بحيث يكون هناك تكتل داخل الجبهة، إنما الجبهة تبقى حركة أمة، حركة شعب، في إطار الكتاب والسنة.
* البيان: هل تتبنى الجبهة بالنسبة للعقيدة والمفاهيم عقيدة أهل السنة وفهمهم
للإسلام؟
أنا قلت الإطار العام هو الكتاب والسنة والجبهة منذ البداية تعتقد ما ورد في
الكتاب والسنة وفق فهم سلفنا الصالح، هذا الأمر واضح دون تغيير بإذن الله.
* البيان: إن أي عمل - سواء كان عملاً إسلامياً أو غير ذلك يحتاج
للمراجعة والنقد الذاتي والمسلمون بحاجة شديدة إلى مثل هذا فهل حصل مثل هذا
في إطار الجبهة، هل صححت الأخطاء وروجعت الحسابات؟ .
نحن نعتقد أننا كمسلمين ينبغي علينا أن نراجع أنفسنا بين الحين والآخر،
وكلما وجدنا أن هناك أمراً فيه أخطاء نستبعده، هذا لا شك فيه، الجبهة الإسلامية
تقوِّم أعمالها بين الفينة والأخرى وهي ليست معصومة عن الخطأ، وهي مستعدة
للتراجع عن الخطأ إذا تأكدت أنه خطأ.
* البيان: في الآونة الأخيرة، هل تحدِّيها للسلطة مثل الدعوة للإضراب وأنه
إذا لم يُستجب للمطالب فسنعلن الجهاد، هل كان هذا خطأً؟ .
أولاً ينبغي أن نصحح، أنا في علمي وفي اعتقادي أن الجبهة لم تقل بأنه إذا
لم تقع الاستجابة سنجاهد؛ لأنها لم تعد الإعداد للجهاد.
* البيان: ألم تُذكر كلمة التهديد بالجهاد في تصريحات قادة الجبهة؟ .
على كل حال في التصريحات الرسمية للجبهة في اعتقادي أنها لم تَرِدْ، وإذا
وردت على لسان بعض القادة فهي تعبر عن رأي أما الجبهة فهي لم تتبنَّ الجهاد في
هذه المرحلة، أما قضية الإضراب هل هو موقف حق؟ في تقديرنا أنه لم يكن
موقفاً خاطئاً؛ لأننا كنا بين خيارين، إما أن نترك الانتخابات تمر بالتزوير،
وسوف يأخذ النظام المصداقية وإما أننا نوقف ذلك التزوير مع علمنا أنه قد يسقط
شهداء وقتلى: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة:
251] ؛ فالإضراب كان لابد منه، وقد ورد عن بعض إخواننا أن الاستجابة لم تكن
واسعة فهذا غير صحيح، فالاستجابة كانت واسعة، لا أقول: الانقطاع عن العمل، بل لأنها كانت حركة شعبية شارك فيها الشعب، المسيرات وصلت إلى القرى
والمداثر وليس فقط المدن ولكن كان هناك تعتيم إعلامي شديد، في مدينة عنابة
كانت المسيرة طولها (14) كم، لا يتمالك الإنسان عندما يراها إلا أن يبكي من
الفرح، كانت مواقف مهيبة، فالإضراب كان ناجحاً رغم ما حدث.
* البيان: هل كنتم تتوقعون اعتقال الشيخ عباسي مدني والشيخ علي بلحاج؟ .
بكل تأكيد، الشيخان كانا يتوقعان ذلك وكانا على علم وقد أخبرا إخوانهما بذلك، نحن ندرك المخاطر التي تحيط بنا، وكنا ندرك أن الأمر جد لا لعب فيه.
* البيان: هل الحكم الفعلي في الجزائر هو للجيش أم لرئيس الجمهورية؟ .
في الحقيقة النظام في الجزائر هو نظام واحد، فالرئاسة والجيش شيء واحد
بالنسبة لنا.
* البيان: هل الأحزاب غير الإسلامية تمثل خطراً كبيراً؟ ، فإذا كان هناك
قوة للجيش، للجبهة، أين تضع الأحزاب العلمانية، وهل هناك ترتيب لأخطرها؟ .
تأثير الأحزاب على الشعب الجزائري تأثير ضعيف، لا يوجد هناك حزب
يستطيع أن يجند الشعب، هناك أحزاب تستطيع أن تجند فئة معينة من الشعب،
كل الأحزاب (تدير) تجمعات ولكن لا يجرؤ حزب من الأحزاب أن يعقد تجمعاً
كبيراً، القضية لم تعد قضية الجبهة الإسلامية، أصبحت قضية شعب.
* البيان: الذين اتخذوا موقفاً مشرفاً هل كانوا من الإسلاميين؟ .
هناك بعض الإسلاميين وهناك - للأسف الشديد - غير الإسلاميين مثل بعض
اليساريين مع أن هناك إسلاميين اتخذوا مواقف سيئة وكان هذا على مرأى من
الشعب الجزائري.
* البيان: هل كان موقف هؤلاء اليساريين يتماشى مع ضعفهم، وموقفهم
عبارة عن تكتيك حزبي من أجل كسب ورقة في المستقبل أم موقفاً مجرداً؟ .
في السياسة لا توجد مواقف مجردة ولكن أقول إن هذه الأحزاب إنما أحسنت
الحسابات وهذا أفضل من حسابات بعض إخواننا.
* البيان: في الدوائر العربية والصحفية بشكل خاص يثار سؤال عما يسمونه
(اللعبة الديموقراطية) وأن الجبهة ضمناً ترى عدم شرعية الانتخابات والبرلمانات
بشكلها الحالى وأنه إذا فازت فستمنع كل الأحزاب من حرية التحرك أو حرية الكلمة، كيف يجاب عن مثل هذا الإشكال؟ .
هذا الكلام أجبنا عنه في لقاءات عدة مع الشعب الجزائري ومع الصحافة فقلنا: النظام اليوم يستكثر على الشعب الجزائري والجبهة الإسلامية أن تقول: (لا
ميثاق، لا دستور، قال الله، قال الرسول) ، بينما هم الذين في السلطة ويزعمون
أنهم يحترمون الدستور هم أول مَن يدوس الدستور؛ فمثلاً قضية (جريدة الفرقان)
منعوها أيام الحصار فلما انتهى الحصار جاءت مراسم من وزارة الدفاع تقول إن
مبرر المنع انتهى، فلما كلمناهم في الموضوع، قالوا جاء هاتف من الوزارة بالمنع، فقلنا: هل نحن في دولة القانون أم في دولة التلفون؟ ! ، الجبهة الإسلامية منذ
انطلاقها تعمل في هذه المرحلة الانتقالية، وأعلنت منذ البداية أنها إن وصلت إلى
السلطة فإنها ستغير القوانين التي تنافي شريعة الله - تبارك وتعالى - هذه لم نخفها
وكنا صرحاء مع الشعب.
* البيان: إذا طُلب منكم المشاركة، هل ستشاركون في حكومة؛ الأغلبية
فيها لغيركم، والدستور غير إسلامي؟ !
نعتقد أنه إذا شاركنا قي الانتخابات وكانت نظيفة فإن الجبهة الإسلامية ستفوز
بإذن الله.
* البيان: إن مما يحرج الحكومة - فضلاً عن قوة الجبهة - هو المشكلة
الاقتصادية، مشكلة الديون والبطالة، هل عند الجبهة برامج لهذا الأمر؟ .
بكل تأكيد، إن الأزمة الاقتصادية ليست مفصولة عن الأزمة السياسية، فالذي
أفسد الاقتصاد إنما هو السياسة، وعلى رأسها انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، إن
الجزائر دولة غنية (ومَن قال إن الجزائر دولة فقيرة؟ !) ، غنية بثرواتها الطبيعية، غنية بتربتها، بشبابها المستعد للعمل، ففي إمكاننا في وقت قياسي تأمين الغذاء،
النظام الحالي أفلس اقتصادياً فهو ينتظر القمح من الخارج، أسعار المواد ترتفع
والديون إلى أين تذهب؟ !
في النظام الإسلامي توزع الثروة توزيعاً عادلاً، وعندما يرى الشعب مسؤوليه
يقفون معه في نفس الخندق فسيحقق الاكتفاء الذاتي إن شاء الله.
* البيان: سؤال أخير: هل تضم الجبهة جميع شرائح الشعب، أغنياء،
فقراء، مثقفين، علماء، البدو، الريف.
كان النظام في البداية يقول: إن الجبهة فيها الأغنياء! ، لماذا لأن الجبهة
رفضت أموال النظام، لأن النظام يعطي دعماً للأحزاب قالت الجبهة: هذا غير
معقول، هذه الأموال من حق الأمة، والأحزاب التي لها امتداد شعبي الشعب هو
الذي يمولها. فلما رفضنا قالوا: معكم الأغنياء ومرة اتهموا بأن هناك دولاً أخرى
تعين الجبهة، وكل مرة يخرجون بدعايات لا أساس لها.
إخواني: والله أقول لكم، هذا واقع الجزائر، جميع الشرائح مع الجبهة
الإسلامية، في المدن، في الأرياف، في بلاد القبائل، وهؤلاء تمسكهم بالإسلام
شيء عظيم، والوعي يزداد والالتفاف حول الجبهة يقوى والحمد لله.
* البيان: شكراً لكم على هذه الفرصة ونرجو أن تتكرر فرص اللقاء لمعرفة
أحوال المسلمين في الجزائر.(47/71)
المسلمون والعالم
المخطط الصليبي في البرنامج التعليمي
للجبهة الشعبية في إرتريا
موسى عبد الله
تؤكد السياسات التعليمية المطروحة من حكومة الجبهة الشعبية الإرترية وجود
نوايا صليبية تسعى إلى قمع الإسلام وإضعاف عقيدته في نفوس معتنقيه. ويحسب
كثير من المسلمين أنهم حققوا كسباً ثقافياً عظيماً بتجويز تعريب المواد الدراسية في
مرحلتهم الابتدائية من سلمهم التعليمي.
إلا أني لا أرى فيما يبث الآن عبر صوت الجماهير في أسمرا من سياسات
تعليمية سوى تكرير للمفاهيم الصليبية التي قد تنطلي على بعض من مثقفينا، وليس
فيها من جديد سوى أنها اتسمت بمزيد من المكر والدهاء في صراعها مع الإسلام
حين قررت:
أولاً: خلافاً لتصريحات أسياس أفورقي وفي لقائه مع وفد الماريا أقر الإعلان
التعليمي الجديد إمكانية تأسيس مدارس أهلية وأجنبية تنفذ برنامجها الخاص ولا
تتقيد ببرنامج الحكومة التعليمي، ولا تمنع من تدريس الدين إذا رغبت، شريطة أن
لا يكون مرسباً للطالب وأن تكون المادة الدينية الملقاة عليه وحظها من الحصص
الأسبوعية واليومية خاضعة للنقاش، أما المدارس الحكومية فالدين سيبقى مفصولاً
عنها ومبعداً.
ثانياً: المعاهد الإسلامية تنحصر مهمتها في تعليم المواد الدينية فحسب ولا
يحق لها مزج العلم التجريبي في برنامجها التعليمي حسبما هو منطوق في الإعلان.
ثالثاً: أكد الإعلان تطوير بعض لهجات القبائل الإرترية بالحرف اللاتيني
والتدريس بها في المرحلة الابتدائية لمن أراد.
إن البحث عن جذور هذه السياسة التعليمية يوصلها إلى أصول صليبية
وسياسات استعمارية وفي الوقت ذاته يبرهن على التشوش والاضطراب الذي تعيشه
الجبهة الشعبية في التعامل مع الواقع الإرتري المسلم الذي بدأ يهمس تضجراً من
مثل هذه الأطروحات، ويبدو أن شيئاً من الغمز واللمز بدأ يطرق أسماع قيادة
الشعبية، الأمر الذي يجعلها تبيح تدريس الدين في المدارس الأهلية والأجنبية على
حذر ووجل.
ولكن الجبهة الشعبية مهما حاولت تخدير الشعب المسلم ببعض الإصلاحات
السطحية فإنها لن تستطيع إخفاء حقيقتها ومكائدها الصليبية فبرنامجها التعليمي ما
زال يفيض حقداً على الإسلام لدرجة أنه ضاق من إتاحة المجال للمعاهد الإسلامية
لتزويد أبنائها بسائر المعارف العلمية، وهو بنهجه هذا يهدف إلى إعاقة تقدمها
وترقيها وتزهيد الطلاب في الالتحاق بها، وجعل خريجيها مجرد أناس ينحصر
مجال نشاطهم في ساحة المسجد، ويقتصر دورهم في تنظيم حفلات المولد النبوي
والإصغاء إلى كلمة أسياس التي ستُلقَى بهذه المناسبة في كل عام.
والتعامل مع المعاهد الإسلامية بهذه السياسة إنما ينطلق من نظرة صليبية
تجعلها في مصاف الأديرة النصرانية التي لا تطمح إلى أكثر من تخريج واعظ ديني
بصليبه النحاسي وجلبابه الأسود.
وليس في تطوير لغات القبائل الإرترية بالحرف اللاتيني إلا جلب لسياسات
الآباء اليسوعيين وتلامذتهم الذين نادوا باستخدام الحرف اللاتيني في تطوير لهجات
بعض البلدان العربية.
وأما فيما يتعلق بالمرامي الصليبية من اعتماد الإنجليزية لغة التعليم من
المرحلة الإعدادية فحسبي أن أورد نص كلام المبشر تكلي في كتابه (الإسلام
والتبشير) ، حيث قال: (يجب أن نشجع إنشاء المدارس، وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي، إن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية، إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمراً صعباً جداً) !
يظهر لي أن هذا يكفي لإلقاء الضوء على الطرح التعليمي الصليبي الذي
مازالت تصر الجبهة الشعبية على تطبيقه في واقعنا الإرتري طمساً للهوية الإسلامية وخصائصها المميزة.(47/78)
المسلمون والعالم
تقرير عن مسلمي جنوب الفلبين
الجانب التاريخي بإيجاز:
يجهل كثير من المسلمين أن الإسلام هو أول دين سماوي وصل إلى الفلبين
واعتنقه كل سكان هذه المنطقة، كما أن الحضارة الإسلامية هي أول حضارة
عرفتها جزر الفلبين.
وقد وصل الإسلام إلى هذه الجزر في عام 1310م (662هـ) ، وقيل قبل ذلك، كما يعتبر أن أول دولة منظمة قامت في هذه البلاد هي دولة إسلامية، حيث تأسست في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي أول دولة إسلامية، واستمرت
لمدة 100 سنة تقريباً.
ولكن لم تنعم تلك الجزر طويلاً، فقد تعرضت للتحدي الصليبي البرتغالي
الذي انتقل من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي والهادي، وذلك ابتداءً من عام
917هـ -1511م.
بعد ذلك تعرضت هذه الجزر للغزو الاستعماري (الأسباني) سنة 923 هـ -
1521م بقيادة ماجلاّن؛ حيث قتله المسلمون، وخلال عشرات السنين سيطر
الأسبان على شمال جزر الفلبين، مما دفع بعض المسلمين إلى الهجرة جنوباً هرباً
من بطش المستعمر، وفي تلك الفترة سُميت هذه الجزر بالفلبين نسبة إلى فيليب
الملك الأسباني في ذلك الحين، بعد ذلك اتجه المستعمر الأسباني جنوباً لإتمام
سيطرته على هذه الجزر، إلا أنه وُوجِهَ - هذه المرة - بمقاومة عنيفة من المسلمين، واستمرت الحرب بينهم مدة (377 سنة) ، 923-1300هـ / 1521-1898م.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي 1898م (1300هـ) تمت اتفاقية بين أمريكا وأسبانيا انسحبت على إثرها أسبانيا مقابل (255 مليون دولار أمريكي) ؛ حيث حل محلها المستعمر الأمريكي الجديد، كما أُدخلت الجزر الجنوبية (جزر المسلمين) ضمن هذه الصفقة! .
عند استلام الأمريكان هذه الجزر وقف المسلمون ضدهم، وقد استفاد
الأمريكيون من تجربة الأسبان القمعية ضد الجزر الجنوبية؛ مما دفعهم إلى تغيير
هذه السياسة والتحول إلى سياسة (السكَّر) ، حيث أقنعوا المسلمين بأنهم جاءوا
لإصلاح أخطاء الأسبان، وإنشاء المدارس لهم، وحمايتهم! ! ! ، وحدث على أثر
ذلك اتفاقيات مثل اتفاقية (فرانك كاربنتر) المحافظ الأمريكي.
أنشأ الأمريكيون بعد ذلك المدارس وأصبحوا يشرفون على تربية أبناء
المسلمين، وبدأوا ينصّرونهم.
أدرك الأمراء - بعد ذلك - هذه الخدعة، وقاموا بثورات، ولكن ماذا حدث؟ .
حدث أن كثيرًا من أبناء الأمراء كانوا قد تدربوا في تلك المدارس وأخذوا
عنها الثقافة الغربية، مما دفع بهؤلاء (العلمانيين) الأبناء إلى الوقوف مع هذا
المستعمر! .
وفي تلك الفترة تم الاتفاق بين الأمريكيين ونصارى الفلبين على إعطائهم
حكماً ذاتياً في الجزء الشمالي، وكان هذا أول حكم ذاتي وذلك سنة 1353هـ/ 1935م. وخلال الحرب العالمية الثانية تمكن اليابانيون من طرد الأمريكيين من تلك الجزر، لكن لم يلبثوا أن عادوا بعد عامين أو ثلاثة.
وفي عام 1366هـ/1946م حصلت الفلبين على الاستقلال ككل، وضُمت بلاد المسلمين إلى هذه الحكومة النصرانية ظلماً وعدواناً.. ومن ذلك التاريخ ومسلمو الفلبين يتعرضون لمخططات طمس الهوية الإسلامية لهذا الشعب المسلم. وتتلخص هذه المخططات فما يلي:
1- تهجير النصارى من الشمال إلى الجنوب ومنحهم الأراضي الزراعية.
2- إعطاء النصارى بعض المناصب المهمة في أرض المسلمين.
3- الاتجاه إلى تنصير أبناء المسلمين.
4- محاولة طمس الدين من النفوس عن طريق إنشاء المدارس الغربية
والكنائس ونشر الفساد.
إلا أن جميع هذه المخططات - ولله الحمد والمنة والفضل - لم تفلح في
طمس هوية هذا الشعب المسلم، وإن كان لها دور كبير في إبعاد بعض المسلمين
عن منهج الإسلام الصحيح.
بعد ذلك لجأت هذه الحكومة النصرانية إلى أسلوب الإرهاب، وذلك عن
طريق تكوين عصابات (منظمة إيلاجا) التي قامت بقتل المسلمين والفتك بأسر كاملة، وقاموا بإحراق المدارس الخاصة بالمسلمين، وكان ذلك في السبعينات. أدرك
بعض زعماء المسلمين - وبعد أن أفلست المنظمات الوطنية والعلمانية في تحقيق
أهداف مسلمي الفلبين بسبب الولاءات والارتباطات المشبوهة - ضرورة إنشاء
منظمة إسلامية تجتمع تحتها كلمتهم، وتقف ضد هذه المخططات الإرهابية. وتم
ذلك بتأسيس (جبهة مورو الإسلامية) والتي يرأسها الشيخ (سلامات هاشم) ؛ حيث
قاموا بوضع خطة تستغرق خمس سنوات لتنظيم أنفسهم، لكن تلك العصابات
فرضت عليهم المعركة، حيث قاموا بإحراق المسلمين وقتلهم، وكان ذلك عام
1390هـ/1970م، حيث نشبت حرب بين جبهة مورو الإسلامية وبين هذه
العصابات الإرهابية، وتمكن المسلمون من طردهم من بعض المواقع، وتدخلت
الحكومة للتوسط بين الطرفين؛ حيث إن الحكومة كانت تدّعي عدم علاقتها بهذه
العصابات الإرهابية، إلا أن الأمر اتضح بعد ذلك بدعم الحكومة لهم.
وفي عام 1392هـ/1972م انتصر المسلمون نوعاً ما، وتمكنوا من طرد
(عصابات منظمة إيلاجا) عن بعض القرى، إلا أن تدخل الحكومة استمر - مع
عدم تدخل المسلمين في شؤون إخوانهم! ! - وأعلنت الحكومة فرض الحكم
العسكري وذلك في عهد (ماركوس) ، وبعدها مباشرة تعرضت بلاد المسلمين لهجوم
شامل من الجيش الفلبيني جواً وبحراً وبراً؛ مما أدى إلى نشوب قتال شديد جداً،
ونظراً للهجوم الحكومي على المسلمين تحولت الحرب إلى حرب عصابات وذلك
أواخر عام 1392-1394هـ/1972-1974م.
وقد قدمت الفلبين المسلمة زمن ماركوس الصليبي وفي فترة اثنتي عشرة سنة
فقط: 1392-1404هـ/1972-1984م:
- 30 ألف قتيل معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن من المسلمين.
- استرقاق ستة آلاف مسلمة على أيدي الجنود الصليبيين الفلبينيين.
- تشريد أكثر من مليوني مسلم.
- فرار حوالي 300 ألف نسمة، واضطرارهم إلى الهجرة إلى البلاد
المجاورة (ولاية صباح التابعة لماليزيا) .
- إحراق 300 ألف منزل من بيوت المسلمين.
- تدمير مائة قرية ومدينة إسلامية.
- اغتصاب معظم أراضي المسلمين الخصبة.
-تدمير أكثر من 500 مسجد للمسلمين.
وفي عام 1395هـ/1975م تدخلت منظمة المؤتمر الإسلامي في إجراء
مفاوضات بين الطرفين، إلا أنها فشلت في ذلك. وفي عام 1406هـ/1986م سقط
ماركوس، ووصلت أَكِينُو إلى الحكم، وسارت على خُطى من سبقها يتولى توجيهها
مجلس الكنائس الفلبيني، حيث عينت كبار القساوسة مستشارين لها.
ولا زالت المخططات الصليبية العالمية تخطط وتنفذ وتتابع، ومن خطط
الصليبية الأخيرة لخنق المسلمين في جنوب الفلبين: ترشيح رجل صليبي في ولاية
صباح شمال دولة ماليزيا المسلمة والتي تحد (مندناو) من الجنوب.
ولا يزال المسلمون في الفلبين يعانون من تسلط النصارى على دينهم
وأعراضهم وأراضيهم وأرواحهم، ونسأل الله أن يعز المسلمين ويحفظ دماءهم
وأعراضهم، وأن يقيم دولتهم على التوحيد، وأن يمكّن لهم، إنه على ذلك قدير،
وبالإجابة قدير.
المشكلات التي تواجه مسلمي الفلبين:
لو أردنا تتبع جميع المشكلات التي تواجه المسلمين في هذه البلاد لاحتاج ذلك
إلى دراسة أكثر عمقاً وتوسعاً للوقوف على هذه المشكلات وأسبابها.. إلا أننا هنا
سوف نركز على جانبين اثنين من جوانب هذه المشكلة والتي قد تكون من أهم
العقبات التي تواجه مسلمي جبهة تحرير مورو للنهوض بالمسلمين - هنا - تربوياً
واقتصادياً وللدفاع عنهم، والمحافظة على شخصيتهم الإسلامية وهي كالتالي:
1- مشكلات تعوق الدعوة والتربية:
تدير جبهة تحرير مورو الإسلامية حوالي 400 مدرسة (ابتدائية -
متوسطة - ثانوية) وتتعاون مع 200 داعية متنقلين بين مناطق المسلمين، كما يوجد بعض الإخوة الدعاة الذين تتبناهم بعض الجهات (وهم قليل) وتبرز المشكلة هنا وهي: أن معظم الإخوة الدعاة والمربين هم من الفقراء الذين يضطرهم الفقر إلى ترك عمل الدعوة والاتجاه إلى كسب الرزق لإطعام أسرهم؛ حيث إن الكثير منهم لا يجد مَن يكفل أسرته في حال تفرغه لأعمال الدعوة، كما تعاني هذه المدارس من نقص الكتب العلمية والشرعية في جميع التخصصات بالإضافة إلى المكتبات التي يحتاج إليها الدعاة لتعليم المسلمين أمور دينهم. يضاف إلى ذلك صعوبة التنقل بين مناطق المسلمين، وافتقار المسلمين إلى وسائل النقل التي يحتاجون إليها.
2- مشكلات تعوق الأعمال الجهادية:
حيث إن الفقر صفة ملازمة للمسلمين - في تلك البلاد - نجد أن المجاهدين
يعانون من الفقر الذي يدفعهم إلى ترك خنادقهم والاتجاه إلى طلب الرزق، وهذا مما
لا شك فيه يؤدي إلى إضعاف القوة العسكرية للمسلمين، كما أن هناك مشكلة تعوق
العمل الجهادي وتعتبر من المشكلات الأساسية التي يعاني منها المجاهدون ألا وهي
قلة الأسلحة والذخائر، ونقصها عند المجاهدين ليس بسبب ندرتها - فهي متوفرة -
ولكن ضيق ذات يدهم يحُول بينهم وبينها.
مشاريع جبهة مورو الإسلامية:
مسلمو الفلبين كغيرهم من المسلمين لهم آمال وطموحات وتطلعات لمستقبل
أفضل، وتتمثل طموحاتهم هذه - بالالتفاف حول قيادتهم التي تسعى لتنفيذ خطط
طموحة من شأنها - إن شاء الله - المضي قدماً بمسلمي الفلبين لتبؤ المكانة اللائقة
بهم - من خلال العمل على أربعة محاور هي:
1- العمل على توجيه المجتمع إلى الإسلام الصحيح:
وذلك عن طريق إنشاء المدارس والمعاهد بمختلف مراحلها، وقد أشرنا إلى
جانب من ذلك عند الحديث عن المشكلات التي تواجه الدعوة. كما تطمح الجبهة
إلى تكثيف العمل لتبصير المسلمين بأمور دينهم وشرح العقيدة الإسلامية الصحيحة
لهم وكيفية العمل بها، وذلك عن طريق زيادة عدد الدعاة وتفريغهم لهذا العمل،
وترجمة وطباعة الكتب الشرعية، بالإضافة إلى إنشاء المزيد من المدارس
والمساجد التي من خلالها يتخرج نشء مسلم يعلم أمور دينه، ويتقن أمور دنياه
ليساهم في بناء مجتمع إسلامي قوي ومتين.
2- العمل على الاكتفاء الذاتي:
ويُقصد به هنا الجانب الغذائي، وذلك عن طريق تبني سياسة العمل على
توفير الغذاء الأساسي عن طريق زراعة الأراضي الخاصة بالمسلمين وتوفير
غذائهم منها، وعدم الاعتماد على مصدر خارجي، حيث يزرع الأرز والذرة
وأشجار الموز، وبعض المحاصيل الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أن الجبهة قد
اقتربت من الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأرز والذي يشكل الغذاء الرئيس الذي يعتمد
عليه السكان هناك، إلا أن تطور هذا العمل يحتاج إلى الكثير من المعدَّات الزراعية
والخبرات الفنية، حيث تعتمد الزراعة على الطرق البُدائية، وكل ذلك بسبب عدم
توفر القدرات المادية اللازمة لتطوير هذا القطاع.
3- تطوير الجهاز الإداري للجبهة:
ويتم ذلك عن طريق توفير دورات لتعليم بعض المجاهدين الشؤون الإدارية،
وهذا الاتجاه لا شك سيكون له مردود إيجابي على جميع قطاعات الجبهة عندما تدار
بأيدٍ مؤهلة، حيث تكون قادرة على تطوير العمل والسير به إلى الأفضل.
4- بناء قوة عسكرية إسلامية:
يطمح المسلمون إلى بناء قوة عسكرية تمكِّنهم من مواجهة عدوهم وإحكام
سيطرتهم على كامل أراضيهم، ويعتمد هذه البناء كل جوانب منها: عمل دورات
تدريبية للمجاهدين لرفع الكفاءة القتالية، وتتفاوت مدة الدورة بناءً على ظروف
المجاهد حيث إن هناك دورات لمدد قصيرة، ودورات لمدة 3 أشهر، ودورات لمدة
ستة أشهر. كما يوجد كلية عسكرية تستوعب 200 طالب، ومدة الدراسة بهذه
الكلية ثلاث سنوات، وتشتمل الدراسة بها على تربية شرعية، وعسكرية،
وتدريبات عملية.
ويطمح قادة الجبهة إلى إيجاد مصدر ذاتي للتزود بالسلاح حتى يتمكنوا من
مواجهة عدوهم والله غالب على أمره.(47/81)
وانتهت إمبراطورية
الرعب والتجسس
محمد حامد الأحمري
سنوات قلائل شهد العالم فيها نهاية الإمبراطورية الشيوعية التي لم يخطر
على بال دارس للحضارات أن يرى نهاية إمبراطورية بهذه السرعة وبلا غزو
خارجي ولا ثورة مضادة، كهنة المعبد أنفسهم حطموه على رؤوسهم.، وأنهوا
أسطورة غريبة وفصلاً نشازاً في تاريخ العالم (دولة الإلحاد) !
الذين قرأوا ملحمة البداية الشيوعية وعنف رجالها وشدتهم لا يكادون يصدقون
هذه النهاية الهزيلة وضعف الحكومة وتهاوي قدرتها ونهاية مركزيتها ونهاية الجيش
والجاسوسية بل نهاية الحزب إلى غير رجعة. ذلك أن العالم قرأ عن روسيا كتب البطولات الأسطورية ككتاب (عشرة أيام هزت العالم) [1] وغيره من الكتب التي مجدت الزعماء الشيوعيين وكما سموهم زوراً (أنبياء الثورة) [2] ، وكانت هذه الكتب تمجد البطولات الزعامات، وما كان يدرك القارئ في بلدان العالم الإسلامي وبلدان العالم الثالث أن هذه الكتابات والمبالغات في تمجيد الزعامات تعني وجود طبقة جديدة مستغلة ومحطِّمة لإنسانية الفرد واحترامه وحقوقه في
روسيا، لقد كان الشيوعيون يمجدون أفراداً منهم إلى حد العبادة، يرتفع هؤلاء الناس فوق كل نقد وفوق كل شخص وفوق كل مبدأ حتى كانوا هم المبادئ وهم
الدولة وهم الشعب وهم كل شيء، وكان ذلك يعني دون شك تحطيم الشعب وإذلاله، ذلك أن الأمة كانت محرومة من السلطة تماماً في روسيا، فإذا كانت السلطة عبارة عن وحدة مكونة من مائة درجة فقد كانت في روسيا مائة كاملة بيد الرئيس والحزب، وهذا يعني فقدان الشعب لأي حق ولهذا كان الشعب يترصد نهاية الحزب حتى يسلب منه كل شيء، وهذا ما حدث اليوم حتى أصبحت روسيا تهدم وتبيع تلك الأصنام التي نُحتت لزعمائها، الذين كانوا متفردين بكل شيء.
لقد كان التطرف في الاستبداد يعني الهدم والخلاص من الشبح الذي كان
مخيماً بتطرف مقابل، إن المستبد مهما رأى أنه يملك أزمَّة الأمور فإنه سرعان ما
يفقد كل شيء، يفقد كل سلطة وكل احترام، ويكون نقطة سوداء قاتمة في تاريخ
الأمة أي أمة؛ وبمقدار ما يرى نفسه محترماً معصوماً صائب الموقف والقرار،
يكون الرد عليه يوم سقوطه غاية في احتقاره واحتقار شخصه وأعماله، وكل أتباعه
وحواشيه. وهذه نهاية كل حكم فردي. وهكذا كانت روسيا ما بين فردية الحاكم
واستبداد الحزب.
تأخذ الدول زمناً طويلاً حتى تسقط، وكما يقولون لم تسقط روما في يوم واحد، ولكن روسيا سقطت في يوم واحد، وكأنها تنكر تلك القواعد التي يروق للمؤرخين
أن يقفوا عندها ويقيسوا عليها، وروسيا تعطي الدارس مزيد وعي بأن الدول
الكبيرة تبقى جثتها الهامدة تخيف الناظرين وقتاً طويلاً بعد موتها حتى إذا تهاوت
وخرت بعد سنين تبين الناس أن لو كانوا يعلمون الحق ما لبثوا في رعب مهين،
ومشكلة المراقبين لأحوال هذه الدول أنهم لا يستطيعون تجاوز الماضي بسهولة،
ولا معرفة حقيقة ما يجري؛ لأن السمعة الهائلة وضخامة الأمجاد واتساع الرقعة
وقوة الجيش والـ (ك. ج. ب) (الاستخبارات الروسية) ، كل ذلك يصنع
حاجزاً بين الأعين. وبين حقيقة ما كان يحدث من روح منهارة وفساد مقيم.
عقاقير لإحياء الموات:
1- الإرهاب:
حين اشتد هرم بو رقيبة وخرفه طالب بإعدام رجالات الاتجاه الإسلامي في
تونس، وهكذا الأنظمة إذا أوشكت على الموت قاومته بالإرهاب والتعذيب
والتظاهر بالحياة والقوة، وهكذا يقاوم الحكم المشرف على الموت بالإرهاب خارجياً
إذا عدم المخالف في الداخل وسكت الجميع توقّياً لغضب شيخوخته ورعونة قراراته
التي تميته أخيراً.
وعندما كانت روسيا تشيخ وتذبل ويهترئ جسمها كما كانت أجسام زعمائها
المسنّين كبريجنيف، وتشيرننكو، وأندروبوف الذين تلاحق هلاكهم في زمن
قياسي - كانوا يحاربون هذه الشيخوخة والنهاية بمساحيق إرهابية في أفغانستان ويحاولون استعادة أنفسهم وإشعار العالم بأنه لم يزل في عظامهم مخ وقوة.
وكانت أفغانستان المسمار الأخير في نعش إمبراطورية الاستبداد، وقد كانوا
يأملون أن تكون أفغانستان وجهاً جديداً معبراً عن قوتهم وشدة نفوذهم ولكن هذه
المساحيق الإرهابية التي يتظاهر أهلها بالقوة لم تزد أصحاب الحق إلا إصراراً على
حقهم ولم تزد على أن حطمت بقية الشيخوخة وتحرك المقاومون في بولندا،
وشرقي أوربا ورومانيا وألمانيا الشرقية.
2- التجسس:
وتلجأ الحكومات المنهارة في زمن شيخوختها إلى التجسس وترى أنه هو الذي
يحفظ كيانها ويرصد أعداءها، فتضخم من هذا الجهاز وتعلي من شأن رجاله وتفتح
أمامهم الأبواب الواسعة، فقد تولى رجال الـ (ك. ج. ب) زعامة روسيا وجاء
أندروبوف من الـ (ك. ج. ب) ثم جاء بعده غورباتشوف من نفس المبنى
ومن نفس المنصب بل ونفس لم البلدة، جاء الجواسيس الروس إلى الحكم ليقولوا
للناس: نحن أقوى وأقدر وأعلم بأمور العالم، والجواسيس يعلمون الكثير؛ فمنهم
الجندي الغبي الذي يحل مشكلات الدولة بالسوط والإرهاب ونشر الخوف في
المجتمع فيتولى أشباح وأشباه رجال وخيال دولة وما فيها من الدولة شيء؛ إذ يجعل
المجتمع كله عبارة عن مكتب للتحقيق، فالكل متهم، والكل خائف، وراية الخوف
والجوع والذل والعبودية مرفوعة.
وقد يوجد من الجواسيس عقلاء يعترفون بالانهيار ويحاولون إيقافه وقد لا
يوفقون، وتكون الأزمة أكبر من جهودهم كما حصل قديماً زمن هتلر، والآن مع
غورباتشوف. وهناك حقيقة تاريخية تغفل عنها الحكومات ولا يجرؤ أحد على
ذكرها في غمرة الزهو بجهد الجواسيس، ألا وهي التناسب العكسي بين زيادة
ونفوذ الجاسوسية وقوة الدولة، فكلما زاد عدد الجواسيس وقوي شأنهم ودورهم في
المجتمع كلما كان زمن انهيار الدولة قريباً؛ ذلك لأنهم يكونون سلطة داعمة للدولة
في البداية تحت هيمنتها في بادئ الأمر، ثم مشاركة مؤثرة في قراراتها في المرحلة
الثانية، ثم تستبد بالأمر في المرحلة الثالثة، ويصل زعماء هذه الطائفة الجاسوسية
إلى مقاعد السلطة وقد مَرَنَ سلوكهم وعقولهم على الإرهاب واحتقار الإنسان،
فتكون النهاية التي حذر منها الحديث: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس
أفسدهم» ، فتنعدم الثقة بين الناس وترتفع شريعة الغاب ويسود الرعب مع الأجهزة
الخفية وانتشار المراقبين، ويكره الناس العمل لأنفسهم وبلدانهم، وتهون القضايا
لديهم ويكرهون أوطانهم وتقل نزعة الحمية عندهم؛ لأنهم يشعرون بأنهم مطارَدون
ومسحوقون فيها، مستباحة أعراضهم وأموالهم، ويقل الإنتاج وتنهار الزراعة
والصناعة وتسود الرشوة والفردية واقتناص الغنائم العارضة عن طريق الجواسيس
أو ثقافة الجواسيس التي يصبغون بها البلاد.
ولقد حمل التاريخ لنا شواهد على هذه القضايا تحتاج إلى وعي وتدبُّر؛ ذلك
أن الدول حين قيامها تعتمد على القوة المؤسسة وعلى صدق الدعوة وحرارة الإقناع
وتوجه الجموع إلى العمل على ترسيخ الوضع الجديد الذي تراه بديلاً جيداً، فإذا
تولى هذا الجيل وقل اهتمامه بسبب وجوده وعلة سيادته ذهب يبحث عن بدائل
لترسيخ وجوده ويوهمه ضعفه وفقدانه للفكرة أو للمبدأ الذي قام من أجله أن
الجاسوسية هي التي تضمن له البقاء وتحافظ على السلطة، وفي النهاية حيث ينتهي
المبدأ أو الفكرة ويطفو الأشخاص فيسخِّرون الأمم لذواتهم فقط وبلا شريك والوسيلة
الجاسوسية هي التي تسلبه سلطته. وتنهي قوته وتجعله يعيش في زنازين الوهم
والخوف. ذلك لأن أجهزة الجاسوسية لا تبني مكانتها لدى الحكم إلا بعد إخافته
وإذلاله وإشعاره بالحاجة الدائمة لهذا الجهاز الذي يبعده يوماً بعد يوم عن الواقع
ليغرق في وهم أن العالم كله ضده، وهي مشكلة تبدأ من إيجاد المكانة للجواسيس
حيث تسعى لإقناع الحكم بأهمية دورها ثم يصبح هذا اللعب والترويع عملها ليس
للشعب وحده بل للحكم، تخيفه وترهبه حتى يأتي الزمن الذي تسلبه الحكم نهائياً أو
تحتفظ به رمزاً فارغاً وتكمل مشوارها في ممارسة السلطة الفعلية التي تتهدم على
رأسها ورأس الرمز أخيراً.
شاهد من الماضي:
وقد استعان المأمون العباسي بالجواسيس، وعمل في خدمته جهاز مخابرات
قوي من الرجال والنساء حتى قالوا: إنه بلغ عدد النساء اللاتي يتجسسن في بغداد
ألفي امرأة ولكن قد كانت هذه الخطوة من الأسباب التي أفقدته النفوذ في بغداد
وتسلط الغرباء على البلاد حتى تسلّم الأتراك السلطة وتحول الخليفة العباسي من بعد
المعتصم إلى مجرد كلمة تقال يوم الجمعة؛ حتى قال أحد الخلفاء العباسيين واصفاً
حاله:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه
إليه تُحمل الأموال طراً ... وما من ذاك شيء في يديه
وشواهد من الحاضر:
وفي ألمانيا كانت سيادة الغستابو وهيمنتها على الحياة الألمانية والجيش
والمدنيين تمثل النهاية الداخلية للألمان، حتى إذا أراد القادة الألمان خلاص ألمانيا
من القيادة الاستبدادية لهتلر التي ورطتها في الحرب كان العائق هو الغستابو.
وكانوا هم المتنفذين وعلى أيديهم وتحت مشورتهم ودعمهم لهتلر هلك ملايين الألمان
وقُتل قادة الجيش حتى لقد سقوا روميل السم واتهموه وغيره بالخيانة وتوالت
الهزيمة والرعب في الداخل وقسّم البلد وانهارت الأمور حتى توفر العقلاء وأبعدوا
الغستابو وحكمه، وعاشت ألمانيا الغربية حياة جديدة وعدلاً جديداً، وكانت السلامة
من سرطان الجاسوسية. ولكنه بقي قريناً للإرهاب في ألمانيا الشرقية حتى تخلت
ألمانيا عن هونيكر وزبانيته.
وكان أبشع الأمثلة تشاوشيسكو في رومانيا التى حكمها بالجاسوسية والرعب،
حتى لقد شق ممرات تحت الأرض له ولجواسيسه إلى كل المناطق المهمة في مدينته
بحثاً عن الأمن، واستسلاماً لمشورة الجواسيس، وكانت عاقبته شر عاقبة، وقُتل
مع زوجته شر قتلة.
والفرق بين هذه الأجهزة السابقة وغيرها من الأجهزة التي لم تزل تمارس لم
دورها إلى الآن في (البُعد عن التدخل في السياسة الداخلية) وتعمل على إخضاع
الأعداء في الخارج كالـ (سي. آي. إيه) والموساد هو أن هذين الجهازين
الأخيرين لم تزل الدائرة الداخلية محظورة أمامهما إلا في إطار ضيق [3] . وإن
كانت بداية الانكفاء الأمريكي إلى الداخل والسلم الذي تخطط له (إسرائيل) قد
ينهيان المواجهة الخارجية ويتولى هذان الجهازان عملهما التدميري في الداخل.
وهناك مؤشرات على تدخل هذين الجهازين في إحداث الفوضى السياسية، فهذه
(إيران غيت) و (أوليفر نورث) ، وبوش يأتي للرئاسة من رئاسة الـ (سي. آي. إيه) وأيضاً بدأت المؤشرات المزعجة في علاقات الموساد بالحكومة الإسرائيلية
وحجب الموساد لبعض المعلومات المهمة عن الحكومة [4] .
والمقصود بالتجسس المدمر للشعوب هو التجسس الداخلي الذي عاناه الشعب
الروسي وتعانيه بعض الشعوب التي اقتبست هذا النظام من روسيا وهتلر، ولكن
شعوب العالم المتخلف لا طاقة لها باستيعاب العبر الكبرى! .
__________
(1) كتبه شاهد عيان لأيام الثورة هو جون ريد مؤسس الحزب الشيوعي الأمريكي.
(2) من الكتب التي شاعت عن هذا: الثلاثة الذين صنعوا الثورة لينين وتروتسكي وستالين لوولف وكتاب النبي عن تروتسكي لإسحاق دويتشر وكتاب لينين للويس فيشر.
(3) مر في تاريخ أمريكا ما سمي بسنوات المكارثية حين قاد النائب مكارثي حركة مكافحة الشيوعية فنشر الرعب في المجتمع بدعوى ملاحقة الشيوعيين وذهب ضحية هذه الحركة عدد من التجار والسياسيين ولكن كانت الموجة المضادة أقوى فاستطاعوا إيقاف الرعب الداخلي وامتهان الجواسيس لحرمات الناس، وبقيت هذه الذكرى المؤلمة في أذهانهم حتى أن الطلاب ليتظاهرون في الجامعات حين يعلن ضباط الـ (سي آي إيه) عن قدومهم إلى الجامعات لتجنيد موظفين جدد! .
(4) وردت إشارات لهذه القضية في كتاب (على طريق الخداع) لفيكتور أوستروفسكي.(47/89)
مع القراء
وصلتنا رسائل أكثرها شفهية، يظهر القراء فيها تعاطفهم مع المجلة ومنهجها
ولكنهم يأخذون عليها أن في بعض المقالات شدة على المخالف ويعتبرون هذا مخالفاً
لمنهج الحكمة مثل ما كتبه الأستاذ عبد القادر حامد في نقده لكتاب البوطي (السلفية) ، أو ما كتبه الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر حول بعض دور النشر وطريقة
إخراجها لكتب التراث، أو حول منهج التحقيق لهذه الكتب. ولهؤلاء الإخوة نورد
مقتطفات مما كتبه الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم الوزير من علماء القرن التاسع
الهجري حول مناهج اللين والشدة في المراسلات والمحاورات، يقول في كتابه
(العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) في معرض حديثه عن الطريقة
الوعظية مع الناس:
(وهي نوعان التأليف والترغيب، والتخويف والترهيب، ولكل منهما مكان يليق به، وحال يصلح له، ومن ثَم اختلف السمع في ذلك، ففي موضع يقول:
[فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً] [طه: 44] ، [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ] [آل عمران: 159] ، وفي موضع: [وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] [التوبة: 123] ، [وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: 63] ، [قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ] [القصص: 18] ، ومن ثم مدح المؤمنين بالذلة في موضع، وبالعزة في موضع.
أما النوع الأول: وهو نوع التأليف والترغيب، فهو الدعاء إلى الحق
بالملاطفة، وضرب الأمثال، وحسن الخلق، ولين القول وحسن التصرف في
جذب القلوب، وتمييل النفوس. وهذا النوع أشهر من أن يبين بمثال.
وأما النوع الثاني: وهو نوع التخويف والترهيب وهو الدعاء إلى الحق بذكر
الزواجر، وكشف غطاء المداهنة مع المخاطَب. وقد ورد ذلك وروداً كثيراً، في
السنة النبوية، والآثار الصحابية ... بل ورد في كتاب الله - تعالى - قال الله -
سبحانه - حاكياً عن كليمه موسى - عليه السلام -: [فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفاً
يَتَرَقَّبُ فَإذَا الَذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ]
[القصص: 18] ، ومن ذلك قول يوسف لإخوته: [أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً] [يوسف:
77] لما نسبوه إلى السرقة.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي
ذر - رضي الله عنه -: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» رواه البخاري. ومن ذلك
الحديث: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك،
فإن المساجد لم تُبنَ لهذا» رواه مسلم عن أبي هريرة. وروى مسلم أيضاً عن
بريدة: أن رجلاً نشد في المسجد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم: «لا
وجدت» رواه مسلم. ومنه الحديث: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك» رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: حديث
حسن. وهذه الأخبار عامة في ناشد الضالة، والبائع، والمبتاع كائناً من كان.
وقد ذكر النووي فصلاً في كتاب (الأذكار) ، في أنه يجوز للآمر بالمعروف
والناهي عن المنكر، وكل مؤدِّب - أن يقول لمن يخاطبه في ذلك: ويلك، ويا
ضعيف الحال، ويا قليل النظر لنفسه، أو يا ظالم نفسه، وأورد في ذلك أحاديث.
منها: حديث عدي بن حاتم، الثابت في صحيح مسلم: أن رجلاً خطب عند
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن
يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس الخطيب
أنت، قل: ومن يعصِ الله ورسوله» .
وروى فيه حديث جابر بن عبد الله: أن عبداً لحاطب جاء يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله ليدخلنَّ حاطب النار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية» رواه مسلم في الصحيح.
وذكر فيه قوله - عليه السلام - لصاحب البدنة: «ويلك اركبها» رواه
البخاري. وقوله - عليه السلام - لذي الخويصرة: «ويلك فمَن يعدل إن لم
أعدل؟ !» رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
وما رُوي من قول علي لابن عباس - رضي الله عنهما -: إنك امرؤ تائه -
حين راجعه في المتعة.
ومن الآثار في ذلك: أثر عبد الرحمن بن أبي بكر. وفيه أن أباه ضيَّف
جماعة، وأجلسهم في منزله، وانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فتأخر رجوعه. فقال: أعشيتموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن،
فقال: يا غُنْثَرُ، فجدَّع وسبَّ. وفي هذا المعنى أخبار كثيرة، وآثار واسعة لا
سبيل إلى استقصائها.
وهذا النوع أقسام: منه ما يقع مع أهل المعاصي، ويتضمن الذم لهم،
والدعاء عليهم. وهذا القسم لا يكون في هذا الجواب منه شيء - إن شاء الله
تعالى - لأن هذا الجواب خطاب لأهل العلم والمراتب الشريفة.
ومنه ما يكون مع أهل العلم والفضل، ولكن على سبيل التأديب، مثل قوله -
صلى الله عليه وسلم -لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . وقول علي لابن
عباس: (إنك امرؤ تائه) رواه النسائي.
ومنه ما يكون على جهة التنبيه - لأهل الفضل والعلم - بقوارع الكلام
الموقظة - على سبيل الحدة في الموجدة والموعظة.
واعلم أن للزجر والتخويف بالألفاظ الغليظة شروطاً أربعة:
شرطين في الإباحة، وهما: أن لا يكون المزجور محقاً في قوله أو فعله،
وأن لا يكون الزاجر كاذباً في قوله، فلا يقول لمن ارتكب مكروهاً: يا عاصي،
ولا لمن ارتكب ذنباً لا يعلم كِبَرَهُ: يا فاسق، ولا لصاحب الفسق - من المسلمين -
يا كافر، ونحو ذلك.
وشرطين في الندب، وهما: أن يظن المتكلم أن الشدة أقرب إلى قبول
الخصم للحق، أو إلى وضوح الدليل عليه، وأن يفعل ذلك بنية صحيحة، ولا
يفعله لمجرد داعية الطبيعة.(47/95)
منتدى القراء
معاول.. معاول
عبد الحليم الصالح البَرَّاك
إن المعاول التي تريد هدم شباب الأمة كثيرة، منها إعلامي، وآخر أخلاقي،
وآخر كذلك ثقافي ... ، وهلم جرا، ولكن - ومن باب نقد الذات - هناك زمرة منا؛ هم في الحقيقة معول هدم، بل ومن أشدها قوة وتأثيراً، هذا المعول هو سلسلة
تحطيم قدرات الشباب وازدرائها والحط منها تارة باسم (النضوج المبكر) وتارة
باسم (قلة العلم والإدراك) .
ولا شك أن التقويم مطلوب ومعالجة الأخطاء ضرورة ملحة يفرضها الواقع
وقبله الشرع الحنيف، ولكن ما مدى صحة طريقة عرض أخطاء شبابنا، إن
عرضها بطريقة الحط والنيل والتشفي هي من أسباب سقام الأمة وقلة وعي شبابها،
وإلا فما بال طفل عمره أحد عشر عاماً تحس منه فرط ذكاء ونبوغ، وبعد بضع
سنين تظهر وتفوح منه الدونية والنظرة السطحية والآمال الأرضية؟ السبب - لا
شك - هو وَأْده قبل الولادة بهذا المعول ومعه عدة معاول أُخَر. وأنا هنا لا أدعو
إلى المدح المفرط والتأثير المزدوج وتحميل شبابنا أكثر وأكبر مما ينبغي بل
(القصدَ القصدَ تبلغوا) و (الحسنة بين السيئتين) .
إن شباب الأمة هم روضها الناضر وزهورها التي ستثمر - إن شاء الله -
فهلاّ رعيناها رعاية الأب المشفق المتجاوز عن السقطات العفوية، التي لابد منها
لكل عمل وبعيداً عن التهشيم الحاد. لا شك أننا سنكسب الكثير لمصلحة الدعوة وإلا
سيجني أعداؤنا ثمرات سقطاتنا، وأخاف أن:
تمضي بنا سُفن الأيام ماخرةً ... بحر الوجود ولا نُلقي مَراسينا(47/99)
مَن هي المرأة المسلمة؟
مريم السالم
مَن هي المرأة المسلمة؟ سؤال يجب أن نطرحه دوماً لنعي معناه، من هي
المرأة المسلمة حقاً وما هو دورها وما أهميته وكيف تشارك في مجال الدعوة إلى
الله - عز وجل -.
المرأة المسلمة أم تنجب الأبناء الصالحين وتربيهم على المنهج القويم وتصنع
منهم رجالاً أَكْفَاء يحملون هَم الإسلام وعبء الدعوة ويبذلون في سبيله كل غالٍ
ونفيس، وهي زوجة صالحة تقف بجانب زوجها وتثبته وتشد من أزره وتحثه على
البذل والعطاء، إنها ليست أي زوجة فحسب وما ينبغي لها أن تكون كذلك.. إنها
امرأة تدرك واجب الدعوة إلى الله - تعالى - وأنه يتطلب وقتاً طويلاً وجهداً ليس
بالقليل، فيه تضحية بالراحة وبالأوقات مع الأبناء، وفيه تضحية بالمال والدنيا
بأسْرها وما عليها إن كان ذلك كله في سبيل مرضاة الله - تعالى - ثم إنها تدرك
قبل ذلك أن هذه الأمة لم تقم ولن تقوم إلا بالتضحيات الغالية.
المرأة المسلمة زوجة داعية وأم راعية، إنها تعرف للصبر معنًى وللأذى
والاضطهاد حكمة وللحياة قيمة.
إن هذا الدور فقهته نساء الصحابة - رضوان الله عليهن - فَرُحن يُسطرْنَ في
ذلك صفحات خالدة ترسم القدوة والمنهج وتبعث الأمل وتنهض بالجيل، وعندما
أغفلنا نحن هذا الدور وتهاونا فيه كان حالنا ما كان وأصبحت المرأة عاملاً في
الانحطاط والفساد الذي أصاب الأمة وتغاضت عن صوت الحق الذي يناديها: أما
آن للمرأة المسلمة أن تفيق وتكون خير زاد في الطريق! .
إنه لا أحد ينكر حاجة الدعوات إلى النساء، خاصة وأنهن أرق عاطفة وأكثر
اندفاعاً وأسمح نفساً وأطيب قلباً وهي إذا آمنت بشيء لم تبالي في نشره والدعوة
إليه، وإذا صدقت بشيء عملت على إقناع زوجها وإخوتها وأبنائها به، ولجهاد
المرأة المسلمة في سبيل الإسلام في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -
صفحات بيضاء مشرفة تؤكد لنا اليوم أن حركة الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة
الخطى، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة فتنشئ جيلاً من الفتيات
على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، هؤلاء أقدر على نشر هذه القيم التي يحتاج
إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال، فضلاً عن أنهن سيكُنَّ زوجات
وأمهات، وأن الفضل الكبير في تربية صغار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود
إلى نساء الإسلام اللاتي نشَّأن هذه الأجيال على أخلاق الإسلام وآدابه وحب الإسلام
ورسوله، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ من علو الهمة واستقامة السيرة.
فدعوة إلى الاستفادة من طاقات المرأة لتربية الأجيال، ودعوة إلى المرأة
لتشمر السواعد للعمل لهذا الدين ونصرة الدعوة؛ ليعود للمسلمين عزهم وقوتهم
ويعود للكفر خذلانه وسقوطه.(47/100)
مكتبة البيان
1- تربية الأطفال في رحاب الإسلام:
كتاب جديد صدر عن مكتبة السوادي - جدة للمؤلفيْن: محمد حامد الناصر -
خولة درويش.
والكتاب يستعرض مراحل التربية.. يقع الكتاب في 417 صفحة من القطع
الكبير.
2- جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث:
لمؤلفه: جمال سلطان - صدر عن مركز الدراسات الإسلامية في بيرمنجهام
- بريطانيا
يتحدث فيه المؤلف عن بعض الذين كتبوا حول النهضة في أوائل هذا القرن،
وأخطأوا طريق الفهم الإسلامي الصحيح مثل: رفاعة الطهطاوي والكواكبي،
ومدرسة الشيخ محمد عبده.
الكتاب في 188 صفحة من القطع الكبير.
3- إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها:
وهو الكتاب رقم (30) من سلسلة كتاب الأمة، للدكتور: ماجد عرسان
الكيلاني
ويتحدث المؤلف فيه عن مكونات الأمة المسلمة وهي: أفراد مؤمنون وهجرة
وجهاد ورسالة وإيواء ونصرة وولاية.
والكتاب في 161 صفحة من القطع المتوسط.
4-[الرحمن على العرش استوى] بين التنزيه والتشويه:
للدكتور: عوض منصور، وهو يبحث كثيراً من الأخطاء التي يقع فيها
الشباب المسلمون نتيجة تسرعهم وضعفهم في البحث والعلم الشرعي، ويحذر من
التعصب للآراء الخاطئة التي لا دليل عليها، ومن الانحراف وراء الأهواء والعقائد
الباطلة.
الكتاب في 165 صفحة من القطع الكبير.(47/102)
بريد القراء
* الأخ أحمد الجربوع أرسل إلينا حاثًّا على إجراء اللقاءات أو القيام بجولات
استطلاعية عن أحوال المسلمين في الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة والتي كانت
تشكل جزءاً كبيراً من الاتحاد السوفييتي.
* البيان: شكراً للأخ محمد ونرجو أن يتحقق ذلك.
* الأخ طه جبر أرسل رسالة أشاد فيها بالمجلة وببعض المقالات فيها كمقالات
الدكتور أحمد إبراهيم خضر عن علماء الاجتماع والعداء للصحوة الإسلامية ويشكو
عدم وصول المجلة لمدينته ويعد بالمشاركة.
* البيان: نرحب بالأخ طه جبر ومشاركته ونسأل الله أن نكون عند حسن
ظنه وظنون القراء الكرام، ونرجو أن يتهيأ للمجلة أن تصل إلى كل من يحب
قراءتها..
* الأخ ظافر الدوسري أرسل رسالة وذكر أنه أحد المعجبين والمتابعين لقراءة
المجلة شهرياً لما تنظمه من مقالات ومواعظ وشعر ممتاز ونقل لأخبار المسلمين
ويريد نشر موضوع عن أحوال المسلمين في يوغوسلافيا وسري لانكا.
* البيان: نشكرك على اهتمامك ونرجو أن يتيسر لنا تحقيق رغبتك.(47/103)
الصفحة الأخيرة
التخصص بدعة أم حاجة؟ !
د. مالك إبراهيم الأحمد
يصف الكثير من الكُتاب المعاصرين عصرنا هذا بأنه عصر التخصص وذلك
في كثير من كتاباتهم في شؤون الحياة العلمية والعملية، فهذا مدير وهذا عالِم وهذا
خطيب وهذا كاتب ... الخ. وذلك بخلاف الأزمنة السابقة حيث نجد العلماء
الموسوعيين الذين يجمعون الكثير من الفنون.
وعند الحديث عن الدعوة الإسلامية، ينبغي استحضار هذه النظرية، وهي
أنه نظراً لتشعب العلوم الإسلامية، ومجالات الدعوة الإسلامية، وصعوبة الحياة
وتعقدها، وتقارب البلدان والثقافات، أصبح من اللازم تطبيق هذه النظرية على
العاملين في هذا المجال، أي أنه لابد من تخصص الداعية في فرع يجيده ينفع به
المسلمين، ويثري هذا الجانب.
فنحن نريد دعاة متخصصين في كل مجال من مجالات الدعوة الإسلامية في
الوقت الحاضر مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التربية، الخطابة،
الوعظ، الإدارة والقيادة، الكتابة، التعليم الشرعي، وغيرها، حيث تكون
خطواتنا متزنة نظراً لأن العاملين في كل باب هم من المتخصصين فيه مما يتوقع
منه إثراء مجالات الدعوة، وإبراز المواهب الإسلامية، وإعطاء الدعوة دفعة قوية
للأمام.
ولا يعني هذا التخصص الجامد بحيث لا يجيد الداعية شيئاً غير تخصصه بل
لابد من إلمامه في كثير من جوانب الدعوة وأساليبها، لكنه على علم صحيح بجانب
يكون مرجعاً فيه، ومع هذا نحن لا نضيق بوجود علماء أفذاذ يتمتعون بمشاركة في
كثير من المجالات العلمية تؤهلهم للقيادة، لكن الحديث هنا على مجموع الدعاة
العاملين في الميدان الإسلامي الكبير.(47/104)
شعبان - 1412هـ
يناير - 1992م
(السنة: 6)(48/)
الافتتاحية
أيها المسلم
إنك تعاني ما لا يعانيه غيرك من البشر، جهودك تضيَّع، وخططك تدمر،
وأحلامك تُغتال. وتتواتر عليك المصائب دون انقطاع. إن من يقرأ ما كتب عنك
ولا يعرفك يخرج بنتيجة حتمية - هذا إذا أنصف - وهي أنك أصبحت منبوذ هذا
العصر، يتحاماك الناس في كل مكان، وينفرون منك لا لشيء، إلا لأن عقولهم
امتلأت بالصور القبيحة التي يرسمها الإعلام لك، والإعلام في هذا العصر هو
السلاح الذي لا يوضع، والحرب المشنونة التي لا تهدأ، إنك تواجه ضربين من
الحروب:
أ- ضرب يجيء ويذهب بين الفينة والفينة، حينما تبلغ الكراهية الذروة،
ويصل الضجيج إلى منتهاه، ولا يسكت إلا حينما يشفي غليله السنان والحسام
والمدفع والدبابة والصاروخ.
ب- وضرب هو هذا (العرس الإعلامي) القائم الدائم بفحيحه وضجيجه،
والذي لا يهدأ عن الهجوم على الإسلام: أفكاراً وأشخاصاً.
والضرب الثاني هو الأقسى والأنكى لأنه الأبقى، ومع أن الأول آلامه أعم،
وبلاياه يحس بها الجميع، إلا أن الثاني لا يشعر به إلا العلماء وقادة الفكر وذوو
الحس الحي في الأمة، الذين يتألمون لمصائب غيرهم ويشفقون من الآتي قبل
حلوله.
إنك - أيها المسلم - غدوت ضحية هذه الحضارة المادية العاتية، تريد أن
تطحنك برحاها، فتجدك عسر الهضم صعب المكسر، وهذا من أكبر العزاء لك،
فلتكن ثقتك بالله قوية، ولا تحتقر نفسك وتشكو الضعف، وتجنب طريقة بني
إسرائيل حيث شكوا لموسى عليه السلام الضعف والضراعة والاستكانة: [قَالُوا
أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [الأعراف 129] .
أفلس أعداؤك جميعاً، مادياً ومعنوياً، أفلسوا من الخلق والدين والدنيا، باعوا
دينهم بعرض قليل منزوع البركة، ينطبق أكثره على نشر الفساد واستئصال
المعروف وإرساء المنكر وإشاعة التقاليد الفرعونية، كل ذلك خوفاً منك، وعلاجاً
لحضورك الذي يخيف سَدَنَة الفرعنة، ويهدد تقاليدها العفنة ورسومها المنخورة.
فاعرف نفسك - أيها المسلم - واعلم أنك - إن صدقت النية واستجمعت
العزم - كنت اليد التي تُنَفَّذُ بها إرادة الله في الأرض من سحق الباطل وإنعاش الحق.
إن أعداءك يسلكون في سبيل إضعافك وإلغائك سياسة النَفَس الطويل والبناء
الهادئ والمشاعر الباردة التي لا تستثار بسهولة، اطوِ قلبك على كراهية الكفر
ورموزه، واثنِ جوانحك على مقت الخيانة والمكر التي تجرّب عليك كل حين،
ولكن إياك أن تُستَدْرَجَ إلى عمل ينتظره شانئوك للإيقاع بك. أجِّل خلافاتك مع من
يشاركونك كلمة التوحيد، ويهدفون مثلك إلى إحياء عقيدة أهل السنة والجماعة،
واستخلاصها من براثن الماسخين والمستغلين، فأعداء هذه العقيدة أمرهم عَجَبٌ في
كثرتهم وتنوعهم واجتماعهم على هذا الهدف، رغم اختلافاتهم العميقة. وجِّه كل
جهدك إلى من يريدون حصرك في مفهوم للدين من صنعهم، فهؤلاء هم العدو
فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون. هؤلاء هم وكلاء الاستعمار بين ظهراني
المسلمين، وهم موضع ثقته، وعيبةُ أسراره، ورواد دهاليزه.
إياك أن تنخدع بدعوى أن بلادنا مستقلة، حرة في قراراتها وإراداتها، تلفَّت
يمنة تجد ألف دليل ودليل في كل صقع على أننا مكبلون، يُقرأ لنا، ويرسَمُ لنا،
ويزرَع لنا، ويصنَع لنا، ويحفرَ لنا.
إن صعوبة المرحلة الاستعمارية المكشوفة - مع شراستها ومرارتها - لا
تقارن بما يحدث في هذه المرحلة التي أعقبت تلك، التي يدبر أمرك فيها عدو من
جلدتك بقلب مجلوب وعقل مستعار. لقد بان الصبح لذي عينين، فأنت الذي يحمل
الشرعية، وأمامنا مثالان حاضران من أمثلة كثيرة، أحدهما في شرق الأرض،
والآخر في غربها.
أما الأول ففي أفغانستان، حيث أنت الذي قام في وجه الإلحاد الغازي،
وصليت بنار الشيوعية قبل أن تولِّيك الأدبار تحت شدة ضرباتك الموفَّقة واستوصت
على وليدها الخديج [1] كل من خَبُث من الأوصياء، قبل أن تندثر في مقبرة
التاريخ.
وأما الآخر ففي الجزائر، لما قام الشعب هناك، فصحَّحَ خطأ عمره ثلاثون
سنة سلماً لا حرباً، وأفصح عن إرادته تحت رقابة هؤلاء الذين يغتصبون هذه
الإرادة بكل صلافة وصفاقة وبعد عن المعقول حيث:
أجمعوا أمرهم عِشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاءُ
وقالوا: هذا لا يكون، وما هكذا رجونا أن تكون النتيجة، (والشعب لم
يصوِّت على شيء) ! ! الديموقراطية في خطر. الوحى الوحى، أدركوها قبل أن
يعصف بها الإسلاميون! !
يا لله وهذا الافتراء! كيف يدان شخص قبل اقترافه الجريمة؟ ويدان ممن؟
ممن يداه ملطختان بدماء الأبرياء، وجيوبه منتفخة من حقوق المستضعفين!
أيها المسلم:
لا تستغرب ما ترى، فأنت تعيش في عصر الغرائب والأعاجيب، وحسبك
هذا ليدفعك إلى الصبر والعمل ليل نهار دون كلل ولا ملل، لا تسمح للإحباط أن
يتسرب إلى نفسك، فحق لك أن يتعب منك المرجفون ولا تتعب، وييأس من ثنيك
عن عزيمتك وأهدافك دهاقنة الباطل ولا تيأس. لا تبالِ بالأوصاف الكاذبة التي
تلصق بك، ولا بالأقلام المأجورة التي تنهشك، ولا تصرفْك الدعايات المسمومة
التي تلفَّق ضدك عما توجهت له.
يعيبون عليك الاشتغال بالسياسة؟ وهل شرط المشتغل بالسياسة أن يتخلى
عن دينه، ويدوس الأخلاق، ويترك هذا المجال لمحترفي الدجل يرسون دعائم
الفساد ويحوطونها بالشريعات الباطلة، ويحرسونها بالدساتير والقوانين المفصلة
على قدِّ نواياهم الخبيثة، وسلوكهم المنافق؟ لم هذا التردد والخوف البادي على
تعبيراتك وأعمالك كلما سمعت من يتهمك بحب السلطة والحكم مع أنك لم تمارسهما
يوماً، وكأنه عار وشنار تحب أن تتوارى منه، مع أن غيرك - وهو السفيه
الأرعن، والجاهل الرعديد - تراه واثقاً من نفسه، لا يفكر أن توجه له مثل هذه
التهمة مع أنه متلبس بهما تلبساً كأن أمه ولدته على رقاب الناس؟
إن الباطل لا يستبحر في دنيا الناس ولا يعرِّش إلا حينما يراهم يحبون الدعة
والراحة والرفاه الكاذب الذي يُمنِّيهم به، ويستحون مما لا يستحى منه، فيخجلون
من الرجولة، ويتفاخرون بالفرار من تسمية الأمور بأسمائها التي وضعها لها البشر
الأسوياء.
أيها المسلم:
إن الباطل ذا الرؤوس المخيفة الذي يخوفونك مغبة غضبته ليس كما يدعون،
نعم، له أساليب جهنمية، وأرواح كثيرة، سبعة أرواح! ولكنها أرواح قصيرة
كأرواح القطط والكلاب، فلا ترعك غضبته، ولا تصرفك عن طِيَّتِك أساليبه
وتجاربه، لا تتردد عن الإصرار على دمغه بحقك فيزهق ويضمحلّ، [وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] [الروم 4-5] .
__________
(1) الخديج: المولود الذي يولد ناقصاً.(48/4)
القواعد الفقهية
عبد العزيز الحويطان
معنى القاعدة لغة واصطلاحاً:
القاعدة لغة: الأساس [1] وتجمع على قواعد وهي: أسس الشيء وأصوله
حسياً كان ذلك الشيء أو معنوياً.
قال تعالى: [وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ ... ]
وقال تعالى: [فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ ... ]
واصطلاحاً: عرفها الجرجاني بأنها (قضية كلية منطبقة على جميع
جزئياتها) [2] .
وقال تاج الدين السبكي: (هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة
تفهم أحكامها منها) [3] .
إذاً فقد عرفها السبكي بأنها أمر كلي، لكن الحموي له تعريف آخر فهو
يعتبرها أمر أكثري أو قضية أغلبية فهو يقول: (إن القاعدة هي عند الفقهاء غيرها
عند النحاة والأصوليين، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي ينطبق على أكثر
جزئياته لتعرف أحكامها) [4] .
لكن ما السبب في جعلها حكماً أغلبياً لا كلياً؟
سيأتي معنا بعد قليل أن القاعدة تنخرم في بعض الأمور أي تشذ بعض الفروع
فلا تنطبق على القاعدة، ولذا سميت قضية أو حكماً أغلبياً.
إذاً نستطيع أن نعرفها بأنها (حكم شرعي في قضية أغلبية يتعرف منها أحكام
ما داخل تحتها) [5] .
الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي:
حتى نعرف الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي، يجدر بنا أن نعرف
الضابط الفقهي أولاً، ومنه يتضح الفرق إن شاء الله.
قال العلامة تاج الدين السبكي: (والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم
صور متشابهة أن يسمى ضابطاً) [6] .
هذا هو المقصود بالضابط الفقهي، وهو أنه قاعدة تختص بباب واحد فقط.
أما الفرق بينهما، فقد قال ابن نجيم:
(الفرق بين الضابط والقاعدة: أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى،
والضابط يجمعها من باب واحد، هذا هو الأصل) [7] . وأكد ذلك السيوطي -
رحمه الله - في كتابه الأشباه والنظائر حيث قال: (القاعدة تجمع فروعاً من أبواب
شتى والضابط يجمع فروع باب واحد) [8] .
وحتى يتضح الأمر تماماً دعنا نضرب مثالاً للضابط الفقهي، وهو حديث ابن
عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيما إهاب
دبغ فقد طهر) [9] . فهذا الحديث يعتبر ضابطاً لطهارة الجلود في باب الآنية، لذلك يقول الإمام إبراهيم النخعي -رحمه الله-: (كل شيء منع الجلد من الفساد فهو دباغ) [10] .
أما مثال القاعدة فهي قاعدة (الأمور بمقاصدها) نجد أنها تدخل في أغلب
أبواب الفقه إن لم يكن جميعها..
بهذا نكون قد وقفنا على الفرق بين الضابط والقاعدة في الفقه، وهذا لا يمنع
أن يكون بعض العلماء قد ساروا في كتبهم على عدم التفريق بينهما.
الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية:
أول من وجد له كلام عن التفريق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية الإمام
القرافي -رحمه الله-، حيث يقول:
(فإن الشريعة العظيمة المحمدية اشتملت على أصول وفروع، وأصولها
قسمان:
1- المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام
الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح
ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك ...
2- قواعد فقهية كلية، كثيرة العدد عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع
وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر شيء منها في
أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هناك على سبيل الإجمال فبقي تفصيل لم
يتحصل) [11] . إذا فالشريعة من أصولها أصول الفقه والقواعد الفقهية كما قال القرافي.
ولو أمعننا النظر في القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، لوجدنا بينها فروق
نذكرها على سبيل الإيجاز:
1- أن أصول الفقه بالنسبة للفقه ميزان وضابط للاستنباط الصحيح، شأنه
في ذلك شأن علم النحو لضبط النطق والكتابة، فهي التي يستنبط بها الحكم من
الدليل التفصيلي وموضوعاتها دائماً الدليل والحكم، كقولك: الأمر للوجوب والنهي
للتحريم والواجب المخير يخرج المكلف من العهدة فيه بفعل واحد مما خير فيه. أما
القاعدة الفقهية فهي كلية تنطبق على جميع جزئياتها، وجزئياتها بعض مسائل الفقه، وموضوعاتها دائماً هو فعل المكلف.
2- القواعد الأصولية كلية تنطبق على جميع جزئياتها، أما القواعد الفقهية
فإنها أغلبية وتكون لها المستثنيات.
3- القواعد الأصولية ذريعة لاستنباط الأحكام الشرعية، أما القواعد الفقهية
فهي عبارة عن مجموعة الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى علة واحدة تجمعها.
4- القواعد الفقهية متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع، لأنها
جمع لأشتاتها وربط بينها، أما الأصول فالغرض الذهني يقتضي وجودها قبل
الفروع لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط [12] .
هذه هي أهم الفروق بينهما، ولعلها اتضحت إن شاء الله. ويبقى أن نذكر أن
من أهم مميزات القواعد الفقهية أنها تخدم المقاصد الشرعية العامة والخاصة، وتمهد
الطريق للوصول إلى أسرار الأحكام وحكمها [13] .
معنى الأشباه والنظائر:
هذا المبحث لأول وهلة يظن المرء أن لا دخل له في القواعد الفقهية، لكن
كتب الأشباه والنظائر مليئة بالقواعد الفقهية وفنون أخرى، ولذلك ألحق بهذا البحث. فما تعريف الأشباه؟ ؟
- كلمة شِبْه أو شَبَه هي المثل في اللغة [14] ، والنظير: المثل المساوي [15] .
أما اصطلاحاً فقد عرف تاج الدين السبكي -رحمه الله- الأشباه فقال: (إن
الأشباه: هو أن يجتذب الفرع أصلان ويتنازعه مأخذان فينظر إلى أولاهما
وأكثرهما شبهاً فيلحق به) [16] . مثال ذلك: (إلحاق العبد المقتول بالحر، فإن له ...
شبهاً بالفرس من حيث المالية وشبهاً بالحر لكن مشابهته بالحر في الأوصاف ...
والأحكام أكثر فألحق بالحر) [17] .
وقد عرف الحموي الأشباه فقال: (المراد بها المسائل التي يشبه بعضها بعضاً
مع اختلاف في الحكم لأمور خفية أدركها الفقهاء بدقة أنظارهم، وقد صنفوا لبيانها
كتباً كفروق المحبوبي والكرابيسي) [18] .
إذاً فالأشباه هي الفروع المتشابهة ظاهراً والمختلفة باطناً لعله معينة، وأصل
هذه الكلمة يرجع إلى كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى
الأشعري حيث جاء فيه: (الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في
الكتاب والسنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى
أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى) [19] .
هذا فيما جاء في أصل هذه الكلمة، أما كلمة النظائر فلم يرد فيها أثر، لكن
الفقهاء أضافوها إلى كلمة الأشباه مقابلة لها، وذلك أنهم ألفوا فنوناً فقهية عبارة عن
أحكام متشابهة مع وجود بعض الفروق بينها [20] .
فالفروق أقاموا كلمة النظائر بدلها، وبعض المؤلفين ألف كتباً وسماها الفروق، بينما بعضهم ألف في نفس الفن وجاء بالأشباه والنظائر، ولذلك يقول السيوطي:
(والمناظرة تكفي في بعض الوجوه ولو وجهاً واحداً) [21] .
أما أول من ألف في الفروق فهو الإمام أحمد بن عمر بن سريج الشافعي
(306 هـ) ثم توالت التأليفات بعده [22] .
وقد عرف صاحب الفوائد الجنية الفروق فقال: (معرفة الجمع والفرق: أي
معرفة ما يجتمع مع آخر في الحكم، ويفترق معه في حكم آخر كالذمي والمسلم
يجتمعان في أحكام ويفترقان كذلك، ومن هذا الفن نوع يسمى الفروق: وهو معرفة
الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين بحيث لا يسوى بينهما في الحكم) [23] .
وقال أبو محمد الجويني: (فإن مسائل الشرع ربما تتشابه صورها، وتختلف
أحكامها لعلل أوجبت اختلاف الأحكام، ولا يستغني أهل التحقيق عن الإطلاع على
تلك العلل التي أوجبت افتراق ما افترق منها واجتماع ما اجتمع منها) [24] .
ومن الأمثلة على ذلك: (إذا طرح في الماء تراب فتغير به طعمه أو لونه أو
ريحه، لم يسلبه التطهير، ولو مزج فيه طاهر غير التراب كالزعفران والعصفر
والصابون والملح الحجري فتغير بمخالطه بعض صفاته سلبه التطهير، والفرق
بينهما أن التراب يوافق الماء في صفتيه الطهارة والتطهير، فلا يسلبه بمخالطته
شيئاً منها ... ) [25] .
ومما سبق يتبين أن علم الأشباه والنظائر هو نفسه الفروق، وهما يشملان
القواعد الفقهية، لأن علم الأشباه والنظائر يحوي الألغاز والحيل وفنوناً عديدة منها
القواعد الفقهية..
(يتبع)
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 406.
(2) التعريفات للجرجاني ص 171.
(3) القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي.
(4) غمز عيون البصائر شرح الاشباه والنظائر 1/22.
(5) القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي ص 43.
(6) القواعد الفقهية.
(7) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 192.
(8) أخرجه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، وقال: حديث حسن صحيح.
(9) الآثار لأبي يوسف ص 232.
(10) الفروق للقرافي 1/2-3.
(11) انظر القواعد الفقهية ص 58- 61، للإطلاع على مزيد من هذه الفروق.
(12) مصدر سابق ص 61.
(13) تاج العروس 9/393.
(14) مصدر سابق.
(15) الأشباه والنظائر ص 17.
(16) كشف اصطلاحات الفنون 4/173.
(17) غمز عيون البصائر.
(18) سنن الدارقطني 4/206 وسنن البيهقي 10/115.
(19) القواعد الفقهية ص 68.
(20) الحاوي للفتاوى 2/273.
(21) القواعد الفقهية.
(22) الفوائد الجنية 1/87.
(23) القواعد الفقهية للندوي ص 73، وعزاه إلى كتاب الفروق للجويني - شريط مصور.
(24) القواعد الفقهية ص 74، وعزاه إلى كتاب الفروق للسامري - شرط مصور.
(25) أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب: المعدن جبار والبئر جبار 6/ 2533 ترقيم البنا.(48/9)
أثر الضعف الخلقي في سقوط الأندلس
د. حمد بن صالح السحيباني
حينما دخل المسلمون الفاتحون بلاد الأندلس، كانوا قد انصهروا في بوتقة
الإسلام، حيث تأدبوا بآدابه، فاتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، كما مثلوا أخلاقياته
وما يدعو إليه من قيم سامية واقعاً ملموساً، أدركها جميع أهل تلك الديار، فأعجبوا
بها. فقد قال أحد قادة لذريق في رسالة بعث بها إليه يصف بها جيش المسلمين
الأول الذي عبر إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد: (لقد نزل بأرضنا قوم لا ندري
أهبطوا من السماء أم نبعوا من الأرض) [1] .
وقد بقي المسلمون خلال القرون الثلاثة الأولى من وجودهم هناك، محافظين
على تلك القيم، معتزين بها. ولكن مع مضي الزمن بدأ البعض منهم بالتحلل منها
مما أفقدهم شيئاً من مقومات أصالتهم ووجودهم هناك وقد أدرك هذه الحقيقة ابن
خلدون حين قال: (إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب
المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى فيما
أدى الى ضياعه) [2] .
كما أدركها كوندي - أحد الكتاب النصارى - حيث قال: (العرب هَوَوْا
عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل الى الخفة
والمرح والاسترسال بالشهوات) [3] .
وصدق الله العظيم إذ يقول [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء 16] .
ومنذ أن بدأ الضعف في الجانب الخلقي عند بعض مسلمي الأندلس بالظهور
كعرض من أعراض بعدهم عن منهج الله انتاب الوجود الإسلامي هناك نوع من
الضعف وذلك لأن كل تقدم حضاري وسياسي وسمو فكري وارتفاع معنوي وأية
عزة في السلطان كان مرده إلى التمسك بالإسلام، ومرتهنا بمقدار الالتزام
بشريعته [4] .
ولما كان هذا العامل من أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس رأيت أن أكتب حول
هذا الموضوع حيث سأقوم - بعون الله - برصد هذه الظاهرة منذ بدايتها كعامل أثر
على الواقع السياسي والعسكري للمسلمين هناك، منذ عصر ملوك الطوائف حتى
خروج المسلمين من تلك الديار.
ونظراً لتشعب الموضوع فإن دراستي هذه ستقصر على عصر ملوك الطوائف
وذلك لأن المرحلة الاولى من مراحل سقوط الأندلس بدأت فيه آملاً أن تتاح لي
الفرصة مستقبلاً لإكمال رصد تلك الظاهرة حتى نهايتها.
وفي البداية قد يكون من المناسب أن نبين قبل حديثنا عن عوامل سقوط بلاد
الأندلس حقيقة تاريخية هامة وهي:
أن سقوط الأندلس بيد العدو النصراني لا يعني سقوط مملكة غرناطة التي كان
يحكمها بنو الأحمر فحسب؛ بل إن الأمر أعم من ذلك وأشمل، فسقوط الأندلس بدأ
حقيقة في وقت مبكر من تاريخ المسلمين بتلك الديار، حيث يستطيع الراصد لذلك
التاريخ أن يقول: إن بداية الانحسار الإسلامي في الأندلس كان منذ أن سقطت
الدولة الأموية هناك، وبعد أن قام على أنقاضها العديد من الدويلات الإسلامية
المتناحرة المتنازعة التي صورها الشاعر بقوله [5] :
مما يزهدني في أرض أندلسٍ ... أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
ولعل مما يؤكد هذه الحقيقة أن مسلمي بلاد الأندلس لم يتمكنوا من الدفاع عن
أنفسهم بعد سقوط الخلافة الأموية هناك بل بقوا متنازعين متناحرين فيما بينهم حتى
بدأ الضعف بهم واضحاً نتيجة لتزايد الخطر النصراني ضدهم، الأمر الذي دفعهم
إلى الدخول في سلطان دولة المرابطين ثم الموحدين، ثم الاعتماد بعد ذلك على
المساعدات المرينية بشكل قوي وملموس.
وتتأكد هذه الحقيقة إذا تذكرنا أن الخطر النصراني ازداد ضد المسلمين هناك
حينما ضعفت مساعدات مسلمي المغرب لإخوانهم مسلمي الأندلس.
وبعد هذه المقدمة السريعة - فإنه بوسعنا أن نقول أن سقوط مدينة طليطلة سنة
478 هـ (1085م) [6] كان مقدمة لسقوط غرناطة سنة 897 هـ (1491م) [7]
وأن تراجع مسلمي الأندلس نحو الجنوب منذ القرن الخامس كان هو الخطوة الأولى
لعبورهم إلى الشمال الأفريقي في آخر القرن التاسع الهجري، كما أن غياب أمثال
طارق بن زياد وموسى بن نصير والسمح بن مالك وعبد الرحمن الغافقي وغيرهم
عن الساحة الإسلامية قد أتاح الفرصة لظهور مثل رذريق (القمبيطور) والفونسو
الثامن، والفونسو الحادي عشر، وفرانده الخامس وغيرهم من زعماء النصارى
الذين تولوا قيادة الجيوش النصرانية التي تولت مهمة حرب استرداد الأندلس كما
يسمونها.
وقد أدرك هذه الحقيقة الشاعر الأندلسي المسلم الذي هز وجدانه سقوط طليطلة
سنة 478 هـ (1085 م) فعرف أن ذلك له ما بعده حيث قال محذراً إخوانه
المسلمين هناك [8] :
حثوا رواحلكم يا أهل اندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك يُنثَر من أطرافه وأرى ... سلكَ الجزيرة منثوراً من الوَسَطِ
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياةُ مع الحيات في سَفَطِ
وهكذا نرى أن بداية الانحدار لمسلمي الأندلس كان في عهد ملوك الطوائف،
وأن الضعف الذي حل بهم كان ضربة موجعة لم يستطيعوا التخلص من آثارها بعد
ذلك بالرغم من التئام شملهم النسبي في عهدي المرابطين والموحدين.
ومما لا شك فيه أن هذا الضعف التدريجي الذي أدى في النهاية إلى خروج
المسلمين من تلك الديار، لم ينشأ من فراغ، كما لم يكن وليد يومه أو ليلته، بل إنه
كان نتيجة لعدة عوامل وأسباب نشأت في ظروف معينة، فلما نمت وترعرعت
تمخض عنها ضعفهم، وخروجهم من الأندلس، ويمكن إجمال تلك العوامل
والأسباب فيما يلي:
1- انحراف كثير من مسلمي الأندلس عن منهج الله.
2- موالاة العدو النصراني والتخلي عن الجهاد.
3- انعدام الوحدة السياسية بينهم.
4 - تكالب القوى النصرانية ضدهم.
هذه أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس، ويعتبر الضعف في الجانب الخلقي عند
المسلمين هناك أحد النتائج التي تمخضت عن العامل الأول وقد كان لهذا الضعف
أكثر من مظهر وصورة ولعل من أهمها:
* الأنانية وحب الذات.
* التشبه بالعدو وتقليده.
* انتشار المجون والخلاعة بين المسلمين.
ولهذا سيكون حديثي عن هذا الموضوع من خلال هذه المحاور الثلاثة، حيث
سأبدأ أولاً برصد هذه الظاهرة منذ بداية ظهورها، ثم انعكاسات ذلك على المجتمع
الإسلامي في الأندلس، وآثارها على القوتين السياسية العسكرية عندهم.
الأنانية وحب الذات:
مما لا شك فيه أن الإيثار والتعاون من أهم سمات المجتمع الإسلامي، فقد دعا
الإسلام إلى هذا الأمر وأصله في نفوس المسلمين، قال تعالى: [والَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا
أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ] [الحشر 9] .
وقد دخل المسلمون الفاتحون الى بلاد الأندلس بهذه الأخلاق الطيبة، كما
تربي أفراد المجتمع الإسلامي هناك على هذا الخلق الإسلامي الأصيل عامتهم
وخاصتهم، ولهذا قال أحد الباحثين: (بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت
الأندلس لما أضعنا طريق الله، بقينا في الأندلس بهمة عبد الرحمن الداخل الذي قال
لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال: إني
محتاج لما يزيد في عقلي لا لما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت
إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا
لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي فلا
حاجة لي بها الآن) [9] .
وقد سار المسلمون بالأندلس على هذا النهج حتى آخر عمر الدولة الأموية
حيث يذكر ابن عذاري أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته
وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفد منه كل وقته لدرجة انه كان لا ينام إلا سويعات
قليلة متفرقة فلما قيل له: قد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى أكثر من هذا النوم، أجاب قائلاً: إن الملك لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي لما كان
في دور هذا البلد العظيم عين نائمة [10] .
وفي آخر عمر الدولة الأموية ضعف تمسك الناس بكثير من الأخلاق
الإسلامية، فانعكست آثار ذلك على المجتمع الإسلامي فضلاً عن الدولة الأموية
التي بدأت تظهر عليها علامات الهرم والشيخوخة حينما خف اعتبارها عند الناس،
لأن قادتها فقدوا واحداً من أهم مقومات دولتهم حيث يذكر المؤرخون أنه حينما أعلن
سقوط الدولة الأموية في قرطبة سنة 422 هـ مشى البريد في الأسواق والأرباض
بألا يبقى أحد من بني أمية بقرطبة ولا يكنفهم أحد من القرطبيين [11] .
وبعد أن قامت دولة ملوك الطوائف على أنقاض الدولة الأموية ازداد الأمر
سوءاً حيث تنافس أولئك القوم على السلطة، وتناحروا من أجلها، فانتشر بينهم
العداء المستحكم والخصام الدائم، فالكثير منهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته الذاتية
وإشباع أنانيته، وتثبيت أقدامه في السلطة ولو على حساب مصلحة المسلمين،
وكأن الأندلس إنما وجدت له ولمصلحته الذاتية مهما كان قصير العمر، ذليل المكانة
مهزوز القواعد [12] ، ولهذا جعل الله بين أولئك الملوك والأمراء من التحاسد
والتنافس والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات، فلم يتعاونوا على بر أو
تقوى أو يسعوا لمصلحة إسلامية، بل انصبت كل جهودهم على توفير ما يخدم
مصالحهم الخاصة [13] . هكذا كان واقع أولئك القوم، ويجد الدارس لتاريخهم
العديد من الأمثلة والحوادث التي تدل على صحة ذلك وعلى أنهم انشغلوا بأمورهم
الخاصة وغفلوا عن الخطر النصراني الذي كان يتهدد هذه الجهة الشمالية من بلادهم، ومن الأمثلة على ذلك أنه حينما أغار فرناندو ملك ليون على بَطَلْيوس بلاد المظفر
ابن الأفطس فدمرها، واستباح حريمها، وانتهب أموالها ورد خبرها على المأمون
ابن ذي النون صاحب طليطلة، ولما دخل عليه وزيره أبو المطرف بن مثنى بعد
وصول الخبر إليه وجده شديد الإطراق والضيق. وأخذ يفرج عنه معتقداً أن ما
أصابه من ضيق كان بسبب ما سمعه مما أصاب المسلمين في بطليوس، فلما فهم
مقصد ابن مثنى منه أعرض عنه وقال له: ألا ترى هذا الصانع - يعني عريف
بنيانه - صبرت له وأغضيت له لكنه لا يمتثل لأمري وينغص علي لذتي ويستخف
بإمرتي [14] .
ولما تزايد الخطر النصراني ضد مسلمي الأندلس بعد حادثة بربشتر سنة
456 هـ وجه أبو حفص عمر بن حسن الهوزني [15] رسالة إلى المعتضد ابن
عباد (433 - 462 هـ) دعاه فيها إلى الجهاد، كما بين فيها شدة معاناة المسلمين،
وسبب تزايد الخطر النصراني عليهم، وأنه لا خلاص للمسلمين من واقعهم المر إلا
بالرجوع إلى ميدان الجهاد ومما جاء في تلك الرسالة:
أعباد جل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يُتَوَقَّع
فَلَقِّ كتابي من فراغك ساعه ... وإن طال فالموصوف للطول موضع
وكتابي عن حالة يشيب لشهودها مفرق الوليد، كما يغير لورودها وجه
الصعيد، بدؤها ينسف الطريف والتليد، ويستأصل الوالد والوليد، تذر النساء
أيامى والأطفال يتامى.. [16]
هكذا نبه أبو حفص الهوزني ابن عياد إلى الخطر المحدق بالمسلمين هناك،
كما بين له أن الخلاص من ذلك المأزق لا يتم إلا بالتخلي عن الذات، وجعل الجهاد
هو الهاجس الدائم للمسلمين هناك عامتهم وخاصتهم. ويذكر المؤرخون أن موقف
ابن عباد من تلك الرسالة كان سيئاً، فما إن تلقاها حتى أرسل إلى الهوزني يستدعيه
للقدوم إلى أشبيلية، فلما قدم إليه أخذ يسعى للقضاء عليه حتى تمكن من قتله سنة
460 هـ[17] .
وبالإضافة إلى هذه الحادثة فقد ذكر المؤرخون العديد من الأمثلة التي قام بها
المعتضد بن عياد من أجل تثبيت قدميه في السلطة حينما يرى أن سلطانه أصبح في
خطر حيث تطاول على العديد من القادة والعلماء كما قتل ابنه من أجل هذا
الغرض [18] .
وكان ملوك الطوائف يسعون دائماً إلى إيجاد ما يدعمون به ملكهم ويثبت
أقدامهم في السلطة، ومن ذلك بذلهم العطاء الوافر للشعراء والأدباء الذين يقولون
قصائدهم في مدحهم، وقد أسرفوا في هذا الأمر إسرافاً لا مثيل له، وعلى سبيل
المثال فقد منح المعتمد بن عباد الشاعر عبد الجليل بن وهنون ألفين من الدنانير
على بيتين من الشعر، بينما منح المعتصم بن صمادح قرية بأكملها للشاعر أبي
الفضل جعفر بن أبي عبد الله بن مشرف حينما أنشده قصيدته التي مطلعها:
قامت تجر ذيول العَصْبِ والحِبَرِ ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ولما بلغ منها قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ
قال المعتصم: (لقد أعطيتك هذه القرية نظير هذا البيت الواحد ووقع له بها
وعزل عنها نظر كل وال) [19] .
وقد ذكر عن علي بن مجاهد صاحب دانية أنه (طلب السِّلم وأغمد السيف
وكانت همته في خراج يَجْبٍيه ومتجرٍ يُنَميِّه) [20] .
وهكذا يتبين لنا من خلال هذه الأمثلة التي ذكرناها أن الأنانية وحب الذات قد
تأصلت عند ملوك الطوائف حتى أصبحت خلقاً مألوفاً لدى الكثير منهم يصعب
عليهم التخلص منها أو السعي لغيرها. وهذا بلا شك كان من أكبر معاول الهدم التي
أصابت قوة المسلمين في تلك الفترة، وقد أدرك هذه الحقيقة عدد من مؤرخي تلك
الفترة، فقال ابن حيان شيخ مؤرخي الأندلس: (دهرنا هذا قد غربل أهليه أشد
غربلة فسفسف أخلاقهم، وسفه أحلامهم، وخبث ضمائرهم ... فاحتوى عليهم
الجهل، يعللون نفوسهم بالباطل..) [21] .
كما عد ابن حزم هذا الانحراف الذي مني به ملوك الطوائف بأنه منزلق
خطير، وظاهرة لها ما بعدها من الآثار السلبية حيث قال: (اللهم إننا نشكو إليك
تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور
يتركونها عما قريب، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم،
وبجمع أموال ربما كانت سبباً في انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائنا عليهم عن حاجة
ملتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة، وانطقت ألسنة أهل الكفر
والشرك) [22] .
وبالإضافة إلى هذا فقد ذكر ابن حزم في موضع آخر أن الأنانية وحب الذات
قد تأصلت في نفوس أولئك الحكام حتى كأن الأندلس إنما خلقت لهم ولتحقيق
رغباتهم، وأنهم يقدمون في هذا السبيل ومن أجل هذا الغرض تنازلات كبيرة حيث
قال في ذلك: (والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم بادروا إليها،
فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنوهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم ... وربما
أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس) [23] .
وهكذا نرى كيف أن الأنانية وحب الذات عند ملوك الطوائف قد جعلتهم
يقدمون التنازلات الكثيرة للنصارى من أجل البقاء في السلطة حتى ولو كان ذلك
على حساب مصلحة المسلمين العامة.
(يتبع)
__________
(1) المقري، نفح الطيب 1/240.
(2) مقدمة ابن خلدون 2/446.
(3) شوقي أبو خليل، عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي ص 122.
(4) عبد الرحمن الحجي، التاريخ الأندلسي ص 574.
(5) مقدمة ابن خلدون 2/752، ابن الخطيب، أعمال الأعلام 2/144.
(6) ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس ص 85، المقري نفخ الطيب 1/ 441.
(7) مؤلف مجهول، نبذة العمر ص 39-42، المقري، أزهار الرياض 1/ 66، نفخ الطيب 4/525.
(8) ابن سعيد، رايات المبرزين ص 50، المقري نفخ الطيب 4/253.
(9) شوقي أبو خليل، عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي ص 122-1231.
(10) البيان المغرب 2/298.
(11) ابن بسام، الذخيرة 3/527، ابن الخطيب، أعمال الأعلام ص 39 1 ويتأكد لنا أهمية هذا الأمر إذا تذكرنا ما كان للأمويين من اعتبار قوي عند الناس قبيل قيام دولتهم في الأندلس.
(12) الحجي، التاريخ الأندلسي ص 332.
(13) ابن الخطيب، أعمال الأعلام القسم الثاني ص 244.
(14) ابن بسام، الذخيرة ق 4 1/147-148.
(15) وهو أبو حفص عمر بن حسن الهوزني من علماء الأندلس المشهورين ولد سنة 392 هـ، واهتم بطلب العلم منذ صغره، وتد تفنن في كثير من العلوم حيث أخذ من كل علم بطرف وافر، (ابن بشكوال، الصلة 2 / 402 - 403) .
(16) ابن بسام، الذخيرة ق 2 83/1-86.
(17) ابن بشكوال، الصلة 1/204.
(18) انظر في تفصيلات هذه الحوادث كلا من ابن بسام، الذخيرة ق 2 ج 1 ص 147- 150، ابن عذارى، البيان المغرب 3/ 244 -248، المراكشي، المعجب ص 147.
(19) ابن بسام، الذخيرة ق ج 4 1/192، بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ص 98.
(20) رجب عبد الحليم، العلاقات بين الأندلس الاسلامية وإسبانبا النصرانية ص 296.
(21) ابن بسام، الذخيرة ق 3 ج 1/188-189 (نقلاً عن ابن حبان) .
(22) ابن حزم، رسائل ابن حزم تحقيق إحسان عباس 3/14.
(23) رسائل ابن حزم 3/176.(48/16)
مبادرة كارتر
أسلوب جديد للتنصير
د. حسن علي أحمد
يبدو أن مشاغل جيمي كارتر هذه الأيام أكثر بمرات عديدة منها أيام فترته
الرئاسية لأمريكا. هذه حقيقة مع فارق بسيط. فمع كثرة المشاغل والمتاعب إلا أنه
وزوجته روزالين يجدان متعة عظيمة فيما يقومان به، لأنهما - كما يقول - يؤديان
ما يؤمنان به وقد نذر بقية عمره لأجله، فالتنصير أو ما يسمى تدليساً التبشير هو
الهدف الرئيس الذي أنشأ من أجله مركز كارتر في أتلانتا بولاية جورجيا. هذا
المركز والذي لاقت أعماله نجاحاً ودعماً كبيراً من جمعيات التنصير العالمية، تكون
ابتداءً من قسم واحد يعمل من أجل السلام في العالم! ، يتفرع اليوم إلى أقسام عديدة؛ أهمها مركز كارتر للديموقراطية (CCD) ، وشبكة كارتر الدولية للتفاوض
(CINN) .
لقد استفاد المنصرون من تجاربهم والتي عانت من الفشل مرات كثيرة خاصة
في بلاد المسلمين فتغيرت بعض أساليبهم وبشكل ملحوظ خلال العقد الماضي. فلم
يعد التنصير اليوم حكراً على القسس والرهبان بل أصبح المنصر مهندساً أو طبيباً
أو قائداً لثوار ورئيساً سابقاً لدولة عظمى داعية للديموقراطية والسلام! ؟ ويدعي
كارتر أن شبكة التفاوض الدولية التابعة لمركزه تتابع أكثر من 104 نزاعات في
العالم، صنفت اثنتان وثلاثون منها على أنها حروب كبيرة بعد أن سقط فيها أكثر
من 1000 قتيل. تقع ثمانية من هذه الحروب الكبيرة في أفريقيا؛ القارة الأقرب
إلى قلب كارتر والتي سعى ويسعى فيها لدعم المسيحيين في القرن الافريقي،
والذين يشكلون أقليات في كل دول المنطقة حتى في أثيوبيا خلافاً لما يعتقده كثيرون. ويعرف من يتابع مجريات الأحداث في شرق أفريقيا والاجتماعات التي عقدت
خلال الأعوام الماضية في أتلانتا ونيروبي وأديس أبابا، أن تبني كارتر لجورج
قرنق في جنوب السودان وجبهة أسياس أفورقي النصراني في أرتيريا إنما كان
لينفصل الأول عن السودان وتندمج الثانية بشكل نهائي في أثيوبيا كخطوة نحو إيجاد
دولة أو كيان يضم كل المسيحيين في القرن الأفريقي، تحقيقاً لحلم يراود النصارى
منذ زمن بعيد، حيث لم يفتأوا يصرون على أن المنطقة كانت ويجب أن تظل
مسيحية.
وضمن جهود كارتر المتواصلة للتغلغل في المنطقة، زار خلال شهر تشرين
الثاني الماضي زامبيا للإشراف على سير الانتخابات الرئاسية الأخيرة فيها وذلك في
إطار برنامج مركزه للديموقراطية المذكور سالفاً. هناك أطلق كارتر - وفي بعض
الدول الأخرى التي زارها - مجموعة من النداءات أراد لها أن تكون مبادرة
تستهدف إنهاء النزاعات في القارة وتساهم في حل مشاكلها الصحية والاقتصادية.
ونستعرض فيما يلي طرفاً مما قام به في رحلته هذه إضافة إلى مراقبة الانتخابات
في زامبيا:
* قضى عطلة نهاية الاسبوع السابقة للانتخابات في محادثات مع طرفي
النزاع في ليبيريا؛ الرئيس الانتقالي آموس سوير، وقائد المتمردين تشارلس تايلر؛ في لاغوس، العاصمة النيجيرية، حيث التقى بالرئيس إبراهيم بابنجيدا من أجل
الجلسة القادمة في سلسلة لقاءات سوير وتايلور والتي تعقد في باموس سكرو تحت
إشراف الحكومة النيجيرية من أجل حل سلمي للنزاع الدامي الذي شغل ليبيريا
لأكثر من 22 شهراً. وبدا كارتر متعاطفاً مع زعيم المتمردين في تصريحاته التي
ذكر فيها أن تايلر أصبح أكثر استعداداً للسلام والديموقراطية [1] . كما تعهد كارتر
بمساعدات سيقدمها مركزه لإقامة انتخابات خلال العام المقبل في حالة حصول اتفاق
بين الطرفين وإنهاء تقسيم ليبيريا. وجدير بالذكر أن الجبهة الوطنية الليبيرية قد
أثارت فتنة عظيمة في البلاد بقيادة تشارلس تايلر النصراني المتعصب، راح
ضحيتها آلاف المسلمين وتعرضت فيها ممتلكاتهم وأراضيهم للنهب والتخريب.
* بالإضافة إلى الإشراف على الانتخابات، يقدم المركز خدمات أخرى. فقد
أعلن ممثل المركز أنه قد تم تنظيم مجموعات محلية هدفها حماية الأطفال وتعليمهم، وأعلن أن الجهود الأولى ستصرف في حملة تطعيم - ضد أمراض الحصبة
والدفتيريا والتيفود والسعال الديكي.
* حرص كارتر على تنظيم لقاءات مع القيادات السياسية والفكرية لتلك الدول، كان أهمها اللقاء الأكاديمي الذي تم في المعهد النيجيري للشؤون الدولية وذلك ...
ضمن حلقة علمية عن (دور ومشاركة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في نشوء النزاعات الأفريقية) . وقد حرص كارتر في ذلك اللقاء على دعوة مجموعة من الأساتذة الأفارقة لزيارة مركزه في أتلانتا لإلقاء المحاضرات فيه عن العلاقات الدولية كما كان حريصاً على طرح بعض النقاط التي تمس الواقع المتخلف لأفريقيا جنوب الصحراء والتي يمكن تلخيصها بالتالي:
1- إن أفريقيا لم تحصل على نصيب مكافئ من الثروة العالمية وأنها لا تزال
تعاني من آثار النظم الاستعمارية التي اغتصبت شعوبها وثرواتها. وهذا بالتالي -
كما يقول - أدى إلى وقوع أفريقيا في الديون التي ترزح تحتها اليوم.
2- إن أمريكا لا بد أن تفعل كما فعلت أوروبا واليابان في إعفاء أفريقيا من
بعض الديون وتخفيض معدلات الربا عليها. كما أن عليها أن تشتري المنتجات
الأفريقية - طبيعية وصناعية - بأسعار جيدة يكون من شأنها رفع مقدرة أفريقيا
على دفع ديونها.
3- إن سقوط الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة يتيحان لنا فرصة عظيمة
للاهتمام بالعالم النامي وقال: إن النظام العالمي الجديد ليس حقيقة قائمة. وقد يكون فرصة جيدة لكنها لم توجد بعد؟ ! وقال: إنه يتمنى أن يتجاوز النظام العالمي الجديد كونه مجرد تغيير في التركيز من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط وأن يستطيع الوصول إلى أفريقيا المحرومة من حقها الطبيعي تحت الشمس السياسية! وأضاف أن الرؤساء والمسؤولين الأفارقة يقع عليهم عبء الانتاج
بمستوى الاقتصاد للقارة وعدم الاعتماد على المساعدات العالمية.
ولا نشك في أن كارتر قد استطاع لمس وجدان سامعيه بمثل هذه الطروحات.
لكننا لا نشك أيضاً أن هدفه من وراء ذلك إنما هو محاولة إقناع الأفارقة بأنه مهتم
وساع في حل مشاكل القارة على اختلافها ليحتل مكاناً في قلوبهم يمكنه من تنفيذ
برامجه في التغلغل في القارة دونما شكوك أو معارضة.
ولا يخفى على كل من عرف كارتر ومراكزه أن التنصير هو غايته الأولى،
وليراجع من شاء تصريحاته وكتبه ومنشورات مركزه.
وحق لنا أن نتساءل، وقد تباكى كارتر على حرمان أفريقيا من حقها ووقوعها
ضحية الاستغلال الغربي: لماذا لم يقدم لها كارتر شيئاً يذكر عندما كان رئيساً
لأمريكا وكان بإمكانه أن يفعل الكثير؟ ففي فترة حكمه لم يزد مجموع المساعدات
للقارة - جنوب الصحراء - على 250 مليوناً من الدولارات كانت تضيع في أحسن
أحوالها - وكارتر يعلم ذلك - بين قلة من الذين يسيطرون على مقاليد الأمور هناك.
لا أحسب أن تاريخ العالم يحفظ أسوأ من صورة مدنية الغرب في معاملة
الآخرين وإنكار مصالحهم وتجاهل حقوقهم. وهذه السخائم الوبيلة ليست في طبيعة
الغرب سجية محدثة، بل كانت المدنية الغربية ولا تزال تفرض إثمها على أنه
شرف ورفعة وتنشر نزواتها وأهواءها على أنها قوانين عادلة.
وفي بداية الحملات الاستعمارية الحديثة على القارة الأفريقية، شكلت بعثات
التنصير الكنسية طلائع هذا الغزو، وكانت أداة فعالة في ترسيخ الاستغلال الذي
تحدث عنه - مستنكراً - كارتر! . لكن اليوم وقد اختلفت العوامل التي تربط
الغرب بمصالحه في أفريقيا فقد تغيرت وسائله وانقلبت أولوياته، وأصبح الاستعمار
الجديد والاستغلال الاقتصادي أدوات طيعة موجهة لخدمة أهداف الكنيسة. هذا ما
كتبه النصارى أنفسهم وناقشوه في مؤتمر من أهم مؤتمراتهم في هذا القرن اجتمعت
له أعداد كبيرة من الهيئات والمنظمات المسيحية التي تستهدف المسلمين في ولاية
كولورادو في 15/10/1978م أم واشتهر بعدها بمؤتمر المنصرين. ثم جمعت مادة
هذا المؤتمر في كتاب حرره القس دونالد ماكوري تحت عنوان (الإنجيل
والإسلام) ..
ليس أقصد من وراء هذا السرد إثارة الحسرة والأسى ولا التباكي على واقعنا
الذي اعتراه ضعف وعجز في نواح كثيرة لكنها ذكرى لعل الدعاة إلى الله يستفيدون
من مثل هذه التجارب والأساليب. فمثل هذه الأساليب قدمت خدمات تنصيرية فاقت
إلى حد بعيد كل جهود القسس والرهبان والدعوة التقليدية.
إن المسلمين اليوم وإن كانوا في أعقاب فترة كلية، ولا زالوا ينفضون غبار
الذل الذي أصابهم بعد أن طُويَ لواءهم، إلا أنهم يتهيأون - كما يرى كل ذي
عينين - لانتفاضة مرموقة بإذن الله، وهم يستعدون لحمل رسالة الحق من جديد. ولا بد لهم في ذلك من وسائل ناجعة وصالحة، فإن دعائم الدعوة الموفقة الناجحة تلتقي كلها في الأخذ بكتاب الله -سبحانه- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. نعم إن مستقبلنا في هذه الدنيا ثم مصيرنا يوم المعاد، كلاهما لا يضمنه إلا هذا المنهج الوثيق.
__________
(1) مجلة (ويست أفريكا) الصادرة في لندن بتاريخ 14 ديسمبر 1991 م وقد اعتمدت على ما كتبه مراسلهم من نيجيريا فيما نقلته من أقوال كارتر.(48/25)
خواطر في الدعوة
في الهدم والبناء
محمد العبدة
إن المتتبع لكل الجهود التي بذلها المسلمون خلال القرن الماضي فيما سمي بـ
(النهضة) سيلاحظ شيئاً عجيباً، فهذه الجهود لم تكن تراكمية يستفيد فيها اللاحق من
السابق، وينظر في أمرها فيأخذ ما صح منها ويبني عليه، ثم يأتي من بعده ويتم
البناء، ولكنها في الغالب كانت تبدأ من الصفر فتخطىء وتصيب وتجرب مرات
ومرات، وفي العادة تكون البدايات شاقة وتحتاج الى طاقات كثيرة.
وسبب هذه الطريقة في التفكير والعمل - والله أعلم - أننا لم نتعود بعد على
العمل المؤسسي الذي يقوم بالدراسات الدقيقة لكل عمل سبق وتقويمه تقويماً منصفاً
حيادياً، ودراسة كل فكر تقدم، وكل تجربة لداعية أو عالم أو هيئة، وما هي
الانجازات التي تحققت أو الفشل الذي وقع. كما أننا لم نتعود على الإنصاف في
تقدير جهود الآخرين، خاصة إذا كان يخالفنا ولو في شيء يسير، وثالث الأسباب
أننا نحمل في داخلنا موروثات مذمومة من الحسد والشنآن فلا نذكر محامد أحد، بل
إننا أقرب إلى حب التحطيم كما يفعل الأطفال بألعابهم.
كتب خير الدين التونسي قبل أكثر من قرن محذراً من الطوفان القادم (الغرب)
إن لم يتدارك الأمر بالمؤسسات والبعد عن الاستبداد في الأمة وما يجر من ويلات،
وعلى الرغم مما عندنا من ملاحظات على التونسي والكواكبي، وما في فكرهما من
ثغرات وتشوش، فإن ما طرحاه في هذا الموضوع كان صحيحاً.
ولا يزال بين المسلمين من يقول بعدم إلزامية الشورى. ثم جاء الشيخ رشيد
رضا وكتب في (المنار) مقالات قوية عن شؤون العمران والسنن الربانية في قوة
الأمم ورقيها وأسباب ضعفها. واقترح تأسيس الجمعيات والمدارس التي تساهم في
هذا الرقي وأظن أننا لم نستفد كثيراً مما كتب، وهكذا تكررت هذه الظاهرة، فقد
قام الشيخ ابن باديس بتجربة قوية ناجحة في جمع علماء الجزائر في جمعية واحدة،
وكان أثرها قوياً واضحاً في نهضة الجزائر، والآن نرى أكثر العلماء والدعاة
متفرقين مع الأسف، وكتب مالك بن نبي عن المشكلة الحضارية وأن البدء يكون
بتغيير ما بالأنفس، وكتب عن مشكلة الأشخاص والشيئية القادمة من عصور
الانحطاط، ولكن المشكلة لا تزال قائمة وجاء سيد قطب فكتب فصولاً جيدة عن
القاعدة الصلبة وكيف تتكون.
وليست المشكلة فقط أننا لا نستفيد من صواب كل واحد منهم بل إن بعضنا
ينقض ما عندهم من إيجابيات ويقلل من شأنها، ويستهين بها. وهم في ذلك
[كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] [النحل 92] .
ولا ندري إلى متى نستمر في البناء والهدم والحزبية وقلة الإنصاف، والنزعة
الأنانية الضيقة. والله وحده المستعان على هذه الحال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(48/31)
قراءة في مجلة المنار
عبد القادر حامد
كان الهم الشاغل لرشيد رضا حين أخرج مجلته هو الفجوة العلمية الضخمة
بين الغرب من جهة وبين العالم الإسلامي من جهة أخرى، لهذا فإنه حض أولاً
على نبذ الكسل والتهاون والضعف والاتكالية، واعتبر التربية والتعليم الوسيلة
المثلى التي يمكن أن تردم هذه الفجوة أو تقلل منها على الأقل.
وهو مدرك صعوبة ما هو مقبل عليه، ويضع في حسابه أن يصطدم
مشروعه الإصلاحي برغبات كثيرة من أصحاب النفوذ، ولهذا فهو يحاول أن
يقتصر على الممكن، ويتجنب التورط في ما يثير هؤلاء عليه، ويحدد في عبارات
تطمينية أهدافه حتى لا تذهب الظنون في تفسير خطته كل مذهب، فيقول:
(وغرضها الأول - أي المنار - الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط في الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطرق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبَّست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفراً وإلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذلة والمهانة تواضعاً، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضى وتسليماً، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً) [1] .
لكن على الرغم من هذه الاحتراسات الكثيرة التي أراد رشيد رضا أن تكون
سوراً يدفع عن أفكاره المخاطر؛ فإنه اصطدم بما كان متوقعاً، وسيبدو لنا في
المستقبل أمثلة من هذه الوقائع.
وقد يكون ظن في أول الأمر أنه سيترك وشأنه - وقد اختار الطريق الذي
يبدو الأبعد، وهو طريق التربية والتعليم - ولعله رأى أن اختياره هذا الطريق
سوف يقيه عواقب الاصطدام بالرغبات القريبة التي ترى في كل دعوة تجديدية
تهديداً لمصالحها ونذير شؤم عليها، ولأن هذا الطريق هو الذي يبقى أثره بعده
ضاربة جذوره في الأرض، لا يستطيع أحد أن يقضي عليه قضاء كاملاً. وهذا
صحيح، فأي دعوة تهمل هذا الجانب مهددة بالانقراض بل والارتداد عليها. وأمامنا
مثالان لذلك:
الفتح الإسلامي الأول بعد عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والفتوحات التي قام بها العثمانيون في أوربا وغيرها.
ففي الفتح الإسلامي الأول كان تجييش الجيوش وتوجيهها في حركة الفتح
ليس هدفاً بنفسه، بل وسيلة إلى غاية أسمى وهي نشر الإسلام والدعوة إليه عن
طريق تشجيع العلم والعلماء، وبيان أن الإسلام جاء إنقاذاً للبشرية من الظلم
الاجتماعي وجور السلطات المهيمنة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، ونشر
الصحابة وتلاميذهم العلم بين طبقات هذه الشعوب، وتحولت أعداد هائلة من أبناء
هذه الشعوب الداخلة في الإسلام إلى دعاة ومدافعين عن الدعوة الجديدة وقرآنها
ولغتها، وبرزت أسماء يصعب حصرها ممن تلقوا هذا العلم الأصيل، وحملوه في
الآفاق، ونفعوا به شعوبهم وغير شعوبهم، وكانوا يتحركون من مكان إلى مكان لا
يقف في وجههم عائق، ولا تحجزهم حواجز، بل إن من تقاليدهم التي رسخت أنهم
كانوا يجعلون الرحلة في طلب العلم وسيلة للتقويم والمكانة، فبقدر عدد البلاد التي
يطوف فيها الشخص تكون قيمته العلمية، وبقدر اختلاطه بعلماء الأمصار تزداد
الثقة به والحاجة إليه. وهذا حق.
أما الفتوحات التي قام بها العثمانيون، فقد اكتفوا بالإخضاع، وجباية الجزية، وتركوا أهل البلاد يديرون شؤونهم بأنفسهم، وكانت الهوة سحيقة بين السلاطين
وبين رعاياهم، ولم يلتفت إلى أهمية أن تُعَدّ لهم جيوش من الدعاة والعلماء يكملون
ما قامت به الجيوش، وتركت هذه الشعوب على ما هي عليه من أفكار وأحوال،
واقتصر أمر الدعوة ونشر العلم على المبادرات الفردية، وما كان أضعفها في تلك
الفترة، وأقل كفايتها وغناءها! حيث تأذنت حكمة الله أن لا ينبغ من بين سلاطين
آل عثمان رجل يتبنى اللغة العربية لغة رسمية للسلطنة على كافة المستويات،
فتركت هذه الميزة للغة التركية - وهي من أشد اللغات فقراً وأظهرها ضعفاً - حتى
إذا ضعفت قبضة الدولة على هذه المقاطعات المفتوحة، برزت الكراهية العرقية
والدينية التي لم يهذبها علم ولم يقاومها فكر، تغذيها وتمدها دول أوربا الطامعة
المتربصة. ولم ينفع العثمانيين آنذاك تسامحهم ولا إبقاؤهم على عقيدة البلاد
المفتوحة، والسماح لأولئك بإدارة شؤونهم الدينية دون تدخل أو معارضة؛ بل
انقلب هذا التسامح وهذه السياسة التي اتبعت أداة بيد هذه الشعوب للتخلص من
الحكم العثماني؛ بل لتقويض بناء هذه الدولة، ولم يبق في ذاكرة هذه الشعوب إلا
صورة الكرباج التركي وظل التركي القاسي الغليظ الذي عمموه - في فترة من
الفترات على الأقل - على كل معتنق للإسلام [2] .
إصلاح العقائد والعوائد:
إذا كان رشيد رضا قد اعتقد أنه بإعلانه تحاشى أولي السطوة وعدم استثارتهم
قد ضمن سكوتهم عنه؛ فإنه لم يكن متحرزاً من فتح حلبة صراع لا تقل عن الأولى
التي يحاول بحكمته تجنبها، وهي حلبة إصلاح عقيدة الأمة والعادات التي تراكمت
عبر القرون واختلط صحيحها بفاسدها، وهذا ما يشير إليه قوله:
(الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير
من عوائدها) . فَمَن هي الجهة التي ستقف في وجه التجديد؟ ! إنها بلا شك خليط
من صنفين من الناس:
أ- صنف ذكي يستثمر الجهل والغفلة، ويحب أن يبقي كل أمر على ما هو
عليه، لأنه يشك في كل حركة وكل دعوة، ويرى في ذلك تهديداً لمصلحته الآنية،
فيحارب كل ما يشك فيه، ويستنفر العامة بنفاقه وكذبه ويدخل في عداد هذا الصنف
الخبيث القصد أصحاب النظر القصير - ممن لا يقدرون على النظر إلا في مواطن
أقدامهم، ويستغلهم ذلك الصنف الذكي بوسائله الجهنمية الترهيب والترغيب، وقد
يكون من هؤلاء أسماء طنانة وأصحاب ألقاب سيّارة.
ب - والصنف الثاني: العامة والدهماء، ممن يصدق بسرعة ودون روية
وتفكير دعاوى الصنف الأول المتنوعة، وتهاويلهم البرّاقة، فيكونون ردءاً لهم
وعوناً على تعطيل كل نية تهدف إلى تخليصهم من براثن الطغاة والمشعوذين.
وهكذا يستمرون ضحية الجهل وعدم القدرة على التفكير من جهة؛ والاستغلال
والتلاعب من جهة أخرى.
لقد ورث المسلمون - زيادة على ضعفهم السياسي والاقتصادي - ضعفاً
اجتماعياً مخيفاً، لا يجاوز الحقيقة من ادعى أنه أدهى وأمر من الضعفين الأولين،
بل هو السبب الرئيسي والمباشر لذينك الضعفين اللذين هما عرض ظاهر لذلك
الجوهر الذي لا يبدو إلا للقليل من الناس، وإن بدا؛ فلا يقدر على تحليل عناصره
وإرجاعها إلى مفرداتها البسيطة إلا القلة من هذا القليل.
وأشد مظاهر هذا الضعف الاجتماعي خطراً ما ارتبط منه بالعقائد، والتصق
(بالوجدان الجمعي) للأمة، حيث تصبح معالجة هذا الضعف تصدياً لا إلى حالة
فردية؛ بل إلى قوة اجتماعية انصهرت فيها ألوان من القوى والمقاوِمات.
وبسبب ما توالى على المسلمين من أحداث ضخام، وما تعاورهم من ظروف
تحمل إليهم كل يوم جديداً من التسلط والطغيان، وتسقط فوق رؤوسهم كل ساعة ما
لا يتوقعون من حيل شيطانية يمهر بتزيينها المتغلبون وأعوانهم؛ ... كل ذلك
وغيره أثر في حيويتهم، وترك في تقويمهم للأمور خرماً يصعب رتْقُه، حيث
سحبوا على هذه الإرادات الطاغوتية ظلاً من إرادة الله، والتبست عليهم أقدار
الخالق بأقدار المخلوق، وصار بهم الأمر إلى حالة سكونية ترضى بالقليل،
وتستنيم إلى اللحظة الحاضرة وأصبح لسان حالهم يقول:
وما في سَطوة الأرباب عيبٌ ... ولا في ذِلَّةِ العُبدان عار!
لقد رأى رشيد رضا أن العقائد عندما تفسد يفسد المجتمع، وعندما تتحول
العادات المرذولة إلى ما يشبه العقائد فإنها تهدم الكيان البشري للفرد، كما تهدم
المجتمع. وهنا يظهر لنا أن رشيد رضا لا يبتعد عن الحديث عن السلطة إلا يجد
نفسه وجهاً لوجه معها، وهو - واعياً أو مضطراً - (يرد الصدر على العَجُز)
ويفر من جبروت السلطة والتعرض لها لعله يضمن حيادها وسكوتها عن مشروعه
الإصلاحي؛ ليؤلب عليه طبقات اجتماعية لا تتورع عن الاستظهار بالسلطة للقضاء
على خصومها وإسكاتهم وتعطيل ما يرمون إليه، فتجتمع عليه قوتان، ويواجه ما
فر منه وما فرَّ إليه! وهذه هي مأساة المصلحين في كل عصر، وهذا هو التحدي
الذي ينتظرهم.
إن بقاء شعب أو شعوب تحت نير الاستبداد الدائم يقلل فيه من عناصر الخير
والفضيلة، ويعدم الثقة المتبادلة بين أفراده، ويجعله يعبد القوة ليعوض عن ضعفه
المتأصل بالنفاق والتملق للأقوياء، ويصبح اتكالياً يطلب من الحكومة أن تعمل له
كل شيء، مع أنه لا يحبها ولا يثق بها، ويتهرب من رقابتها ما استطاع،
وباختصار: إن الاستبداد نوع من السرطان فريد، قد لا يميت الإنسان، بل يبقيه
حياً يتنفس، ولكن بإنسانية مفقودة، وشخصية مشوهة، وأخلاق مرذولة.
__________
(1) فاتحة العدد الأول.
(2) هذا الكلام هو تقرير لحقيقة، ولا نغفل عن الدور الإيجابي الذي قام به العثمانيون، ودوافعنا على كل حال تختلف عن دوافع القوميين العلمانيين.(48/33)
البيان الأدبي
مختارات
وصية أبي حازم للزهري
تمهيد:
سبب اختيارنا لهذه الوصية أنها أثر ثمين في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ومثال للأدب العالي الذي يتجاهله دارسو الأدب العربي في هذه الأيام،
ونموذج فريد من (أدب الرسائل) بين العلماء يصلنا من وقت مبكر، من أوائل
القرن الثاني الهجري، وكذلك فإن القوة في الألفاظ والمعاني مع السهولة والصدق
الذي يميز هذه الوصية يجعلها بحق (أثراً ثمينا) يسرنا تقديمه لقرائنا الكرام.
ولا يخطرنّ على البال أننا نريد أن نحطب بحبل الذين يتحاملون على الأئمة
بمجرد عثورهم على مثل هذا النص، فهذا من نقد الأقران الذي لا يسقط العدالة.
ولا يحط من قدر العالم أن ينتقد، كما لا يعتبر مجرد قرب العالم من السلطان جرحاً
فيه، بل إن ابتعاد أو إبعاد طبقة العلماء عن الحكام فيه ضرر كبير وشر مستطير
يلحق بالمجتمع، ويخلي الساحة للجهلة والمفسدين أن يتصرفوا بشؤون الناس كيفما
يشاؤون، ومن راجع كتب الفقه في باب القضاء وحكم توليه وجد تفصيلاً شافياً
يتعلق بهذه المسألة [1] ، وإن مما تدل عليه هذه الرسالة الحرية الفكرية بين علماء
السلف، فهذه الحرية هي التي تجعل واحداً مثل أبي حازم - وهو أصغر من
الزهري ومن تلاميذه - ينصحه بهذه النصيحة القوية، ويبين له وجهة نظره بجلاء
لا غموض فيه، وبعيداً عن المجاملات التي لا تنفع الأخوة الصادقة، وتكون
الدعوة بعد ذلك من ضحاياها.
لا نريد الإكثار من الكلام حول هذا النص، بل إن هذا القليل اضطررنا إليه
اضطراراً، وكم وددنا لو أخلينا بين القارئ وبين هذه الرسالة دون توسُّط.
أبو حازم:
سلمة بن دينار، الأعرج، مولى لقوم من بني ليث بن بكر، روى عن ابن
عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وقيل إنه رأى أبا هريرة، وسمع من كبار
التابعين كسعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعروة بن الزبير وغيرهم. وهو ثقة
عند عامة المحدثين. توفي سنة 144 في خلافة المنصور.
الزهري:
أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي
سمع من أنس وسهل بن سعد والسائب بن يزيد وغيرهم من الصحابة. ورأى ابن
عمر وسمع من كبار التابعين وأئمتهم، قال فيه عمرو بن دينار: (ما رأيت أنصَّ
للحديث من الزهري، وما رأيت أحداً الدينار والدرهم أهون عنده منه) . وقال فيه
الليث بن سعد: (ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علماً منه) .
وقال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه: (أصح الأسانيد مطلقاً: الزهري عن
سالم عن أبيه) . وقال الشافعي: (لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة) . قال
النووي: (ومناقبه والثناء عليه أكثر من أن تحصر)
وتوفي في شهر رمضان سنة 124 هـ وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
النص
عافانا الله وإياك - أبا بكر - من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت
بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله
عليك، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حُجج الله تعالى مما حملك
من كتابه، وفقَّهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك. وقد قال تعالى:
[لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] .
انظر ... أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل، فسألك عن نعمة
الله عليك؛ كيف رعيتها، وعن حججه عليك: كيف قضيتها، ولا تحسبَّن الله
راضياً منك بالتعذير، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات ليس كذلك!
أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ ورَاءَ
ظُهُورِهِمْ] .
إنك تقول إنك جدل، ماهر، عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم [2] ،
وخاصمتهم فخصمتهم [3] ، إدلالاً منك بفهمك، واقتداراً منك برأيك؛ فأين تذهب
عن قول الله عز وجلّ: [هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ
اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ] ؟ !
اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت [4] ؛ أن آنست الظالم،
وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن
ينوه باسمك غداً مع الجرمة [5] ، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة.
إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقاً، ولا ترك باطلاً
حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك.
جعلوك قطباً تدور رحى باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم،
وسلماً إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على
العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم؛ ولا أقوى
أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم. واختلاف الخاصة والعامة إليهم،
فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك! وما أقل ما أعطوك بكثير ما
أخذوا منك! فانظر لنفسك؛ فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل
مسؤول.
وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك.
أمر من جعلك بدينه في الناس مبجلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته
مستتراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً.
ما لك لا تَتنَبَّهُ من نعستك، وتستقيلُ من عثرتك، فتقول: والله ما قمت لله
عز وجل مقاماً واحداً أحي له فيه ديناً، ولا أميت له فيه باطلاً [6] ! أين شكرك
لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه؟ !
ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
ورِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى ... ] ؟ !
إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه؟
طوبى لمن كان مع الدنيا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده!
إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، وليس أحد أهلاً أن تردفه على
ظهرك. ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، احذر فقد أتيت، وتخلص فقد أدهيت! ! إنك تعامل من لا يجهل، والذي يحفظ عليك لا يغفل.
تجهز؛ فقد دنا منك سفر بعيد، وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن
أني أردت توبيخك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش [7] ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قوله تعالى: [وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى
تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ] .
أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب [8] ، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ ! وهل
تراه ادخر لك خيراً منعوه، أو علمك علما جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك
في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن أحللت
أحلوا. وإن حزمت حرموا. وليس ذلك عندك، ولكن إكبابهم عليك، ورغبتهم فيما
في يديك، ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرياسة،
وطلب الدنيا منك ومنهم.
أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ !
وابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم
إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر
لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.
واعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تعالى على يدي أوليائه لأوليائه،
الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة) [9] .
فهؤلاء أولياء الله الذين قال تعالى فيهم: [أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ المُفْلِحُونَ] .
وجاه يجريه الله تعالى على يدي أعدائه لأوليائه، وَمِقة [10] يقذفها الله في
قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس بتعظيم أوشك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم
لرغبة أولئك فيه إليهم: [أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الخَاسِرُونَ] .
وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستوراً عليه في دينه، مقتوراً
عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفةً عنه الفتن في عنفوان شبابه وظهور
جلده، وكمال شهوته. فعني بذلك دهره، حتى إذا كبر سنه، ورق عظمه،
وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته؛ فتحت عليه الدنيا شر فتوح؛ فلزمته
تبعتها وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها.
فسبحان الله ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر، فهلا إذا عرضت لك
فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في كتابه إلى سعد ... حين
خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد:
(أما بعد، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا
في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم
الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا) .
فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور
أجلك؛ فمن يلوم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول
في عقله؟ [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ! على من المعول، وعند من المستعتب؟ !
نحتسب عند الله مصيبتنا، وما نرى منك. ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك
به.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..
__________
(1) لمزيد معرفة بشخصية الإمام الزهري ومكانته يراجع ما كتبه لشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله- في كتابه القيم: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 206-226.
(2) غلبتهم في المجادلة.
(3) غلبتهم في المخاصمة.
(4) حملت في حقيبتك.
(5) الجرمة: ج جارم مثل: كاتب وكتبة، أي المذنبون.
(6) هذه مبالغة من أبي حازم اقتضتها الشدة في الموعظة، وإلا فإن حياة الزهري كانت في سبيل إحياء الدين وإماتة الباطل، كما تنبئ بذلك أقوال علماء الجرح والتعديل.
(7) تتدارك.
(8) القرن الأعضب: القرن في رأس الدابة انكسر أخوه وبقي منفرداً.
(9) جزء من حديث في الترغيب والترهيب 4/154 باب: الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد قال المنذري رواه ابن ماجه والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح ولا علة له ولم نجده في صحيح سنن ابن ماجه للالباني وفي صحيح مسلم ط عبد الباقي ص 2277 عن سعد ابن أبي وقاص أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ان الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي) - التحرير -.
(10) مقة: محبّة.(48/40)
شعر
أننسى؟ أننسى..؟
شعر: محمود مفلح
إذا كانت جراحُ الناس تغفو ... فإنَّ جراحَنا أبداً تفور
وإن كانت همومهمُ رَماداً ... فإن همومَنا الصغرى سَعير
أيحكم في قضيتنا عدوٌّ ... ويُرشدنا لغايتنا ضرير! ؟
ونبقى في الحياة بلا لسانٍ ... وقد نطقتْ بحاجتها الحمير! !
ندور كما يقول القوم دوروا ... وإن رغبوا الثباتَ فلا ندور
ومِنّا من يرى في الخيش خزاً ... ومنّا مَن يضايقهُ الحرير! !
ويبحث بعضُنا عن كأس ماءٍ ... وتُغرق بعضَ سادتنا الخمورُ؟
كأن النائبات لنا فراشٌ ... وأنَّ العادياتِ لنا دُثور
وما زالت تُؤرّقنا سفوحٌ ... لها في كل جارحةٍ حُضور
أننسى فى دروب القدس ليلى ... وليلى تستغيثُ وتستجير؟
أننسى أعين الليمون ترنو ... وأعشاشاً تحن لها الطيور
أننسى مسجداً ونداءَ فجرٍ ... ومحراباً وهل تُنسى الجذورُ؟
لئن مِتنا فإنَّ لنا قبوراً ... ستحكي كلَّ قصتنا القبور
رجالاً أصبح الاطفال فينا ... وفي أرض الصدام لهم زئير
كأنهم من الصّوان قدّوا ... ومن بُركانه هذا الزفيرُ
فلا تعجبْ وليس لهم رصاص ... إذا وقعت على الموتِ الصدور
نعم ثاروا وعدتهم حجارٌ ... ونحن القاعدون متى نثور! ؟
نعم ثاروا وكلهمُ جياعٌ ... ونحن المتخمين متى نثور! ؟
دماؤهم على الطرقات مسكٌ ... ويمضي للعبير بك العبيرُ
قبلنا بالحلول وأنكروها ... وقالوا: إنه العار الكبير
وقبلّنا الأكفَّ لقاء سلمٍ ... حقيرٌ ساقه الزمنُ الحقير
وضيّعنا الأمانة والأماني ... فلا زحفٌ هناك ولا عبور
وماذا يحكم الشهداء فينا ... غداة غدٍ إذا انتفضت قبورُ؟ !
دماءٌ قد نسيناها ليبقى ... لنا شاةٌ همام أو وزير
ولكنَّ الرجال هناك قالوا ... ألا كُفّوا فقد فُطم الصغير
فَنبتُ القدس ليس له نظيرٌ ... وحاشا أن يكون له نظير
بماء الذكر يُسقى كل يوم ... وفي أحضانه تنمو البذور(48/47)
شعر
من كابل.. إلى القدس
د. محمد بن ظافر الشهري
دهى الوسواسُ بالُملكِ الكلابا ... وأوهَمَهَا بأنَّ لها جَنَابا
وقيل له فَلَمْ تسمع لقولٌ ... يُحَذِّرها ولم تَقْْبل عتابا
فأسْلَمَها الغرورُ لِبطشِ ليثٍ ... يُحَكِّم مخْلبا فيها ونابا
رويدا يا عُلُوجَ الروسِ حتى ... نُوَفِّيكم من القتل النَّصابا
لَئِنْ سُمنا جَحَافِلكُم عذاباً ... فإتّ إلهَنَا أقسى عِقابا
سَلَلْتُم سَيْفَ هَيبتِكُم علينا ... فَصَيَّرْنَا لَهُ الَحدْبا جِرَابا
بنو الإسلام لا يَخْشَون خَلْقاً ... فَربُّ الخلقِ أولى أنْ يُهَابا
وإن قُلْتُم تَقَاتَلْنا سِجَالاً ... فكيفَ تَكُونُ دَعْواُكم صوابا
أيستويانِ من بالموتِ يحيا ... ومن يَصْلَى لدى الموتِ العَذَابا
أيستويان مَن في الأرضِ يَسْعى ... بإصلاحِ ومن يسعى خرابا
وأَشْعَلْتُم فَتِلَ الحربِ كَيْما ... تُخِيُفونا فَزِدنَاهُ التهَابا
ألا إنّا نَشُمُّ إذا غُزِيْنا ... لنارِ الحرْب عَرْفاً مستطابا
هي الإكْسِرُ إنْ دارت رَحَاها ... يعودُ كُهُولُنا فيها شبابا
أأنْسَتْكُمْ كؤوسُ الخمرِ أنّا ... بنو من وَحَّد الدّنيا غِلابا
ومن لم يسألِ التاريخَ عنّا ... فنحنُ نُريِه في الهَيْجا جوابا
نُسِلُ دَماءه وَعْداً علينا ... ونجعلُها لأفرُسِنا خِضَابا
ألا مهلاً بني الِخنْزيرِ مَهْلاً ... فإنَّ لنا بذمَّتكُمْ حسابا
وما مِن ذِمةٍ فيكمْ فأنتمْ ... قُرودٌ أُلبِسَتْ زوراً ثيابا
تطاولتمْ على الأطفالِ حتى ... تموت الأمُّ قهراً وانتحابا
وكم بطنٍ بَقَرْتُمْ للحبالى ... فاخجلتمْ بذا الفعلِ الذئابا
ألا هبُّوا للُقْيَانا فإنّا ... تُجاه القدسِ أطلقنا الرِّكابا
نُذكِّركمْ بأيامٍ خوالٍ ... إذا ذُكِرَت تموتونَ ارتعابا
بها سُقنا إناثكمُ إماءاُ ... وأَلْحْفنا ذُكوركمُ الترابا
خُذُوا من نكبةِ الروسيِّ دَرساً ... شَكَى ضيقاً فَزدْناهُ اكتئابا
أتى دُبّاً يُزمجرُ فَانبَرَيْنَا ... لهُ حتى طَرَدْناهً ذُبَابا
ألا لا تَهربُوا مِنُا فإِنّا ... سَنُدْرِكُكُم وإنْ تَعْلوا السحابا
فإنّ سُيُوفَنَا ظمأى جياعٌ ... تْحبُّ الهامَ منكمْ والرقابا
سَيُؤْْتي اللهُ أَنْفُسَنا يَقِيناً ... وأَنْفُسَكُمْ شُكُوكاً واضطرابا
فُرُبُّ الناسِ غَضْبَانٌ عليكمْ ... ونُحنُ لرَبِّنا جِئْنا غِضَابا(48/49)
المسلمون والعالم
باسم الحرية
ينحرون الحرية
يوماً بعد يوم تكتشف البشرية أن تقدمها المادي في جميع العلوم النظرية
والتطبيقية: في الطب والهندسة، في الكمبيوتر والالكترونيات، في علم الذرة
والمفاعلات النووية، كل هذا لم يقدم لها السعادة المطلوبة، ولم يشفها من شقائها
وأمراضها، لقد أنتج ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي أكبر عدد من العلماء ...
والمهندسين في علم الفضاء والعلوم النووية، ولكنه سجل أكبر إخفاق سياسي -
إنساني في هذا العصر، وفي مقابل هذا التقدم العلمي الهائل في الطب الوراثي وفي
علم (الجينات) الذي وصل إلى أن (تدر الأبقار حليباً يحتوي على عقاقير صالحة
لشفاء الأمراض البشرية) ومع هذا نرى الفقر والتمزق يلفان معظم ما يسمونه العالم
الثالث أو الرابع ... كما نرى التسلط الذي تمارسه الدول الصناعية الكبرى نحو
بقية دول العالم ومحاولة احتكار واحتجان الأموال بأيدي طبقة معينة وشعوب معينة، حتى تبقى على حالة من الرفاهية والازدهار لا تريد التنازل عنها.
إن الانفصام بين الدين والحياة بلغ مدى ربما لم يتوقعه أو يريده الذين دعوا
إليه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هذا الانقطاع والقطيعة بين العقل
والقلب لم يؤد إلا للدمار النفسي والاجتماعي. ولذلك بدأت قطاعات كبيرة من
البشرية في العودة إلى الدين - أي دين - إلى الإيمان بقوة غيبية، يعودون إلى
الدين ولو كان ديناً ملفقاً غير صحيح، ففي الغرب وفي أمريكا بالذات نجد عودة
إلى البروتستانتية، وفي أمريكا الجنوبية عودة إلى الكاثوليكية، وفي الصين والهند
عودة إلى البوذية، وهذا مؤشر على أن التدين والإيمان بالغيب نظرة أصيلة في
الإنسان، وأن ما حاوله الملحدون والمستهزئون بالأديان من الابتعاد عن قوة مؤثرة
في حياة الإنسان، وأن الإنسان يقوم وحده؛ كل هذا لم يمنع من بحث الإنسان عن
شيء يفقده..
لقد رجع الملايين من المسلمين إلى دينهم في مناطق المسلمين التي احتلها
الروس زمناً طويلاً، وذاق أهلها المر والعلقم من هذا الاحتلال، وتنفس المسلمون
في أوربا الشرقية الصعداء، وبدأت رحلة العودة. وهناك مناطق في البلاد العربية
لم يصلها دعاة ولا علماء وتفاجأ الدولة بالشباب المتدين بالمئات والألوف. كيف
وقع هذا؟
إنها العودة إلى الدين بعد هذا الجفاء والجفاف، بعد رحلة الضنك والعذاب في
مسيرة القومية والاشتراكية والعلمانية، إلى آخر الشعارات الفارغة من أي مضمون
حقيقي، بعد رحلة العذاب مع الأنظمة التي احتقرت الشعوب واحتقرت حقوق
الإنسان، وأقامت نفسها آلهة لشعوبها، وعبيداً أذلاء لأعداء الإسلام.
إن الإسلام قادم رغم مظاهر الضعف هنا وهناك، والعجيب أن الذين يعادون
الإسلام يضعون رؤوسهم في الرمال ولا يحبون مواجهة الحقيقة، وهي حقيقة ما في
ذلك ريب، وأكبر دليل على ذلك شعب الجزائر الذي أعطى صوته للإسلام قبل أن
يعطيه لشخص أو لهيئة، لقد عبر عن مشاعره الداخلية، ووجد أمامه شباباً لم
يتلوثوا بالسرقات ونهب الخيرات، ولم يتلوثوا بالرشاوى والكذب والنفاق السياسي. لقد اتضحت الصورة وانكشف الغطاء، ومع أن هذا كان معروفاً من قبل ولكنها لم
تكن واضحة كما هي في هذه الأيام، إن هؤلاء المتسلطين لا يريدون الإسلام من
حيث هو، كانوا يتهمونه بـ (الإرهاب) و (الأصولية) فهل رحبوا به عندما جاءهم
عن طريق صندوق الاقتراع؟ الجواب ماثل وواضح في هذه الدعاوى الكاذبة التي
لا ينقصها شيء من الوقاحة وقلة الحياء، وهذه التعليقات التي قيلت حول انتخابات
الجزائر.
إذن فالمقصود إبعاد الإسلام بأي شكل من الأشكال، وليست القضية قضية
عنف أو سلام، ولقد قالوها دون حياء أو خجل ومحاولاتهم هذه إنما تعرقل المسيرة
وتؤخر اليوم المحتوم، ولكن تبقى الحقيقة قائمة هي أن الإسلام قادم ولو كره
المشركون، والحمد لله أولا وأخيراً.(48/52)
أطراف القضية الجزائرية
محمد حامد الأحمري
مدخل:
كلمة الحق في القضية الجزائرية تذكرنا بموقف فخر الدين الرازي تجاه
الحشاشين، فقد كان فخر الدين الرازي يعلم الناس في حلقته في المسجد ما يراه حقاً، ولم يكن لدى المسلمين آنذاك شبهة فصل الدين عن الحياة، وفي ذلك الزمان كانت
فتنة الحشاشين قد ذرّت، وبدأت تنشر الإرهاب واغتيال قادة المسلمين، فاغتالوا
نظام الملك، وحاولوا اغتيال صلاح الدين أكثر من مرة، وكل ذلك إرضاءً
للصليبيين، ووصولاً إلى أهدافهم الباطنية، وكان أحد هؤلاء الحشاشين قد انتظم
في حلقة الفخر الرازي لمدة طويلة، ليراقب الشيخ ثم يسكته عن النقد أو يغتاله،
وسئل ذات يوم عنهم فشرح رأيه في الحشاشين وبين خطورتهم على الإسلام وأهله، ثم خرج الشيخ إلى داره، وفي ناحية من الطريق انفرد الحشاش بالشيخ - وكان
الحشاش ضخماً قوياً - وعدا على الفخر وصرعه أرضاً، ثم جلس على صدره،
وسل خنجره وقال: عدني ألا تعود إلى نقد الحشاشين مرة أخرى وإلا قتلتك الآن،
فتخلص منه الشيخ بالوعد الذي أراده، وفي يوم آخر سأل أحد الحاضرين الشيخ
عن الحشاشين فقال له: يا بني هؤلاء القوم لا أقول فيهم شيئاً، لأن لهم حججاً ثقيلة؛ وأخرى حادة [1] .
هذه هي قصة كلمة الحق في بعض الأزمان الماضية، وهي في زماننا لا تكاد
تذهب بعيداً عن هذا، والناس بالخيار إما أن يقولوا الباطل وتلك هي الفتنة، أو أن
يأخذوا بالعزيمة وهنا قد يتعرضون للسجون والاغتيال والحياة الصعبة، ولا خير
في الترخص في هذا الزمن فقد غلب على الناس.
وقضية المسلمين في الجزائر مما لا يسع المرء السكوت عنه، كيف وهي
مواجهة بين الحق والباطل وبين دين الله وقوى الشر والطغيان.
هوية الحركة في الجزائر:
لقد كان الاتجاه السلفي في الجزائر والعودة إلى الكتاب والسنة هو السلاح
الذي سله الجزائريون في وجه فرنسا، حيث قبلت الطرق الصوفية في الجزائر
بالمعايشة مع المستعمر وموالاة أعداء الله، أعداء المسلمين بل قام كثير منهم
بإصدار الفتاوى ضد حركة الاستقلال. وثلاثون عاماً مرت بعد الاستقلال لم يبد
أنها غيرت من قناعة هذه الطرق قديمها وجديدها، فقد كان لها نفس الموقف من
الجبهة، فهذه الطرق الآن في صف أعداء التوجه الإسلامي في الجزائر، وقد
اجتمع مؤخراً مائة من رؤساء الزوايا والطرق الصوفية وأعربوا عن تأييدهم
للمجلس الأعلى للدولة ورئيسه بوضياف [2] نكاية بالجبهة الإسلامية للإنقاذ،
وانقياداً للمصلحة الفرنسية العليا، التي لم يزل الصوفية يفكرون بها منذ أيام
الاستعمار، حيث وقفوا معها ضد جمعية العلماء وضد الثورة على المستعمر، ولا
يظهر أنها قادرة على تجاوز عقدها الماضية، فلم يلهمهم الله فهماً في دينه بنصرة
الإسلام أو المظلومين، كما لم يوفقوا في مكسب دنيوي محض بمشاركة سياسية
كريمة. ولم يزل هؤلاء الطرقية تياراً يؤمن بالمهادنة والميوعة والتزلف، وقد وجد
في السنوات الأخيرة تيار سياسي صوفي حارس للمصالح الأجنبية، ليس في
الجزائر وحدها حيث يلوي شيخ الطريقة عنق الأمة تحت تلك الأقدام القذرة وإن
كانت أقدام النصارى:
إذا كان الغراب دليل قوم ... يمر بهم على جيف الكلاب
وجبهة الإنقاذ الإسلامي حركة سلفية فيها بساطة الإسلام، ووضوح شعارات
القرآن والسنة، وفيها عزة الوضوح، وجماهيرية الاستجابة، وظاهرة الالتزام
بالسنة، والأمة المسلمة عندما تصمم على امتلاك حقوقها فإنها لا تؤمن بالشيخ
الوصي والوكيل عنها، المخدر لعقلها، الذي بيده كل الخيوط والأسرار وطرق
السماء والأرض! ليس الأمر كذلك، فكلام الله وهدي رسوله مبسوط ميسور،
والسبق للعامل الملتزم المتقدم إلى ساحة العمل والوعي، وبذل النفس والمال والجهد، وليس في هذا أحاجٍ وألغاز يفهمها الغازي المستعمر وحده، ويفسرها للناس شيخ
الطريقة حسب مصالح الأول.
والأمة لها عقل، قد تخطئ مرة، وقد تُضلل مرة، ولكن ليس دائماً.
والجبهة الآن تمثل قضية المسلمين في الجزائر ووعيهم بأنفسهم وبمصلحة أمتهم،
وتحديداً (العودة إلى الله) بعد غربة طويلة صنعها الاستعمار ثم زادها بعداً
الحكومات المتتالية؛ التي كانت وجهاً عربياً للفرنسيين.
فرنسا والغرب:
دار حديث في الأوساط السياسية في أعقاب أزمة الخليج عن ترتيب أوروبي
أمريكي يلتزم بإبقاء نفوذ فرنسا قوياً للمرحلة القادمة في شمال أفريقيا، وزار
ميتران تونس وأبدى عدم رضاه عن وجود نفوذ للثقاقة الأنجلوسكسونية في تونس،
ثم التزم لتونس بإرسال ثمانمائة مدرس للغة الفرنسية تدفع نفقاتهم فرنسا. وفي
الجزائر ذكر سيد أحمد غزالي أن فرنسا تعامل الجزائر وكأنها لم تستقل بعد، أو أن
الفرنسيين لم يقبلوا باستقلال الجزائر [3] .
وقد كان توقع فوز الجبهة مثار هلع كبير في الصحافة الغربية والفرنسية
بوجه خاص، تعكس ذلك بعض عناوين الصحف الفرنسية: (فرنسا: الدولة في
حالة تأهب [4] ) وفي لندن (الأخبار المفجعة بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ) [5]
وبعد الانتخابات رأى الفرنسيون في نجاح الجبهة خطراً لا يهدد فقط الجزائر
والعلاقات مع فرنسا لكن أيضاً يهدد الأمن الفرنسي [6] . ولم تخف وسائل الإعلام
الغربية خوفها الشديد مما حدث، وقالوا: هذا الخطر ليس تهديداً لعلاقاتهم السياسية
فقط، بل تهديداً للثقافة الغربية في الجزائر، وتساءلوا عن مصير المسرح وبرامج
التلفزيون والجرائد والمدارس التي تعتمد اللغة الفرنسية وهي الواجهة الفرنسية في
الجزائر، وتساءلوا أيضاً عن مصير شمال أفريقيا كله هل يعني هذا عودة الإسلام
قوة في الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط؟ وهل يعني هذا تغييراً شاملاً في
المنطقة، وبالتالي بداية لتاريخ مختلف عن الذي سجلته أوربا في عصور سيطرتها
على العالم.
وفي واشنطن ذكر المتحدث باسم البيت الأبيض خطورة وصول الإسلاميين
إلى الحكم في الجزائر وأن ذلك سيكون مهدداً لعلاقة الجزائر مع الغرب، ولما تولى
الجيش أعلنت أمريكا أن هذه مسألة جزائرية داخلية، وذكرت بعض المصادر ما
يوحي بعلاقة ما بين الجيش في الجزائر والسلطات الأمريكية [7] . وأشار نفس
المصدر إلى أن (المؤسسة العسكرية) ستجهض المناورة الأصولية [8] . ومن
المعروف أن أمريكا وفرنسا ومن يدور في فلكهما يريدون بقاء مصالحهم في الجزائر
والتي على رأسها:
1- إبعاد الإسلام عن السياسة تماماً، وذلك بإصدار قانون يمنع استغلال الدين
في السياسة.
2- فتح الأسواق للبضائع الأوروبية والأمريكية.
3- تدفق الثروات الجزائرية رخيصة إلى الخارج.
4- فتح المجتمع الجزائري للتغريب والإبقاء على الثقافة الفرنسية بكل
أشكالها.
الديموقراطية:
كانت الصادرات الأوروبية إلى العالم الإسلامي عديدة ومختلفة، بدءاً من
وسائل الحياة الحديثة، إلى الأسلحة والأفكار والمبادئ، ومرت بنا مرحلة كنا نظن
فيها هؤلاء الغربيين حريصين على أخذ كل شيء عنهم، وكتب من قومنا من كتب
مرحباً بالزمن الغربي والحياة الغربية، وانقسمنا وما زلنا ننقسم تجاه ماذا نريد وماذا
يريدون لنا. اختصاراً للقول تبين أنهم مع فرحهم بتقليدنا لهم لكنهم لا يرضون بأن
نكون مثلهم أحراراً! مهما حرصنا على ذلك.
وقد كان هؤلاء الغربيون العنصريون دائماً لا يرون غيرهم في مستواهم
الإنساني والعقلي، وبالتالي فنحن لا نستحق من الكرامة والحرية والإنسانية ما
يستحق الإنسان الغربي، وقديماً وصف شاعرهم كيبلنغ الإنسان في العالم الثالث
بأنه مركب من نصفين (نصفه طفل ونصفه شيطان) ، وحين كان غاندي يلاين
ويلاطف الإنجليز وهو ابنهم المخلص الذي تربى وعاش على ثقافتهم كان يصفه
أحد كبار الساسة البريطانيين بـ (القرد العاري) . واستضاف أحد الأفارقة فرنسياً
وفرش له في داره خير ما عنده وأكرمه فكتب عنه الفرنسي: (لقد كان يزحف على
طرف الفراش كما يزحف الكلب) .
لهذا فإن هذه الشياطين والقرود والكلاب - في منظور الغرب - لا تستحق
الديموقراطية مهما سعت إليها، فهي ميزة وتكريم للإنسان الغربي فقط، ومهما
تبجح الغرب أنه يساندها في العالم الثالث فإنه حقاً يحاربها إذا كانت ستحمل الكرامة
والحرية أو شيئاً من هذا للإنسان في العالم الإسلامي، وذلك ليس لأنه لم يبلغ درجة
عالية في إنسانيته - كما تقول الفلسفة السياسية لداروين - ولكن لأن الغرب الآن
يقف معنا على أرض واحدة وميدان حرب جديدة منذ بدأنا نعي أنفسنا أخيراً.
ونطالب بحريتنا وكرامتنا بين سكان هذا العالم.
ويخطئ بعض الكتاب والدعاة عندما يرون أن الغرب يمكن أن يصدر لنا هذه البضاعة (الديموقراطية) . ولكن أحداث الجزائر اليوم شاهد يفقأ عين المخالف، فها نحن لما حاولنا تقليدهم أو الاستفادة من بعض ما عندهم حاربونا وحرمونا حتى حق تقليدهم، وهكذا في الصناعات سيقفلون أسواقهم عنا لو حاولنا تصدير بعض البضائع اليسيرة، وأيضاً يمنعوننا حتى أن ندفع لهم الملايين لشراء أسلحة من مصانعهم مهما التزمنا بمواثيقهم، وإن كان عائدها المالي خيالياً بالنسبة لهم، ويبقى شبح كرامتنا وحريتنا واستقلالنا يرهقهم ويفكرون فيه كثيراً. ويبقى السؤال: هل يعامل العالم الغربي الناس في خارجه كبشر حقاً؟
الحق الذي لا مرية فيه أنهم لن يرضوا لنا خيراً أبداً [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ واللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ
مَن يَشَاءُ] . [البقرة 105] ، أي خير! حتى الذي يمكن أن يحمله إلينا بعض
أفكارهم التي لا نشك في انحرافها والتي لا تقوم على أساس نعتقد شرعيته، ويمكن
أن يعطونا بعض أفكارهم ومذاهبهم ولكن بشرط أن نترك الإسلام، وقد تساءل
أحدهم: هل ستستمر الديموقراطية في الجزائر؟ ثم قال: (نعم ولكن بدون
إسلام) [9] وقد تبنى بوضياف هذا القول وترجمه إلى العربية على أنه من كلامه وهدد به الجزائريين. وأنه لا يسمح باستخدام الدين في السياسة (لأن الإسلام مقدس) ؟ ؟ نعم ولأن السياسة بمفهومه معاكسة للمقدس.
الإسلاميون هم سبب الديكتاتورية:
كان من الممكن في العالم العربي أن تتوفر فيه ديموقراطية كالتي في الهند،
وقد كان في مرحلة ما بعد الاستعمار بوادر شيء من ذلك، ولكن حين بدأ الصوت
الإسلامي في الظهور من بلد إلى آخر كان الجواب الغربي: تسليط استبداد العساكر
عليهم، من المعلوم في قصة الجزائر أن الغرب والشرق كان سيرضى عن نتائج
الديموقراطية في الجزائر، لو خرجت النتائج لغير الجبهة الإسلامية وكانت الجزائر
ستجد من التحية والإشادة بها وبإيمانها بالحرية والديموقراطية ما تجده الآن من
الإشادة بهذه الديكتاتورية المكشوفة التي لا يحجبها إلا ألاعيب زائفة يدركها أنصار
الحرية وأعداؤها على السواء. إن العالم يقرأ أو يسمع هذه المواقف العالمية
ويستغرب تماماً هذه الجريمة التي يمارسها العالم ضد ما يدعي من مبادئ الحرية
والديموقراطية وحق الشعوب في اختيار حكامها وتقرير مصائرها، وفجأة إذا هذه
الدول وهذه المنظمات تمد يدها لاغتيال كرامة شعب مسلم وحريته، وتؤيد الاستبداد
والسجون والتعذيب للقيادات الجزائرية لأن هذه القيادات مسلمة داعية إلى الحق من
خيرة المجتمع الجزائري: وقالت هذه القوى بصراحة لا تحسد عليها: مرحباً بكل
فساد يقف ضد المد الإسلامي. وكنا نتوقع المراوغة في المواقف والنفاق، ولكن
صراحة أعداء الإسلام في مواجهة المسلمين كانت فوق كل تقدير.
الجيش:
مع بداية تصاعد مطالبة المسلمين في الجزائر بأن يحكموا بالكتاب والسنة وأن
يتخلصوا من الاستبداد أصبحت القوى المخالفة لرغبة مصلحة الشعب تراهن على
لعب البطاقة الأخيرة ضد رغبة الناس وحريتهم وقد نشرت إحدى المجلات
الفرنسية [10] خبراً يقول أنه في يوم 29 كانون الأول بعد ثلاثة أيام من الدورة الانتخابية الأولى غادرت ثلاث طائرات من طراز هركليز مطار وهران إلى الجزائر العاصمة محملة برجال الاستخبارات العسكرية يلبسون لباساً شبيهاً بلباس الإسلاميين وموفرين للحاهم وذكرت المجلة أن السيناريو الذي يتوقعه كثير من الديبلوماسيين الغربيين [11] وكثير من الجزائريين أن تجري حوادث استفزازات دامية خلال الأسبوعين الأولين من السنة الجديدة، تعطي فرصة للقضاء على الجبهة الإسلامية في الجزائر وتترك الجزائر تعيش في جو من عدم الاستقرار وقد تقع تحت سيطرة الجيش.
وقال المعلقون: (المعروف أن تصميم هذه المؤسسة (الجيش) على قطع
الطريق أمام الإسلاميين للوصول إلى السلطة ليس جديداً) [12] . وكان معروفاً منذ
ما قبل انتهاء الانتخابات أن الجيش سيتدخل في حال فوز الجبهة الإسلامية بالنتائج
واستعد بقواته وحاصر بها المدن حتى تم الانقلاب العسكري الذي جاء بهذه
الشخصية الغائبة عن الجزائر لمدة تزيد عن 27 عاماً إلى الحكم، والذي يشير له
المراقبون أنها شخصية يرضى عنها أعداء الجبهة الإسلامية وصفها حشاني بالقيادة
المستوردة. وهي شخصية عارضة في هذه المرحلة، حيث القرارات والسلطة
الفعلية بأيد أخرى وهو ستار مدني لحكم عسكري.
وقد بدا شأن الجزائر في هذه الأيام يوحي بأن المتحكمين في المجلس الأعلى
أقرب إلى حال مجموعة من السفراء لمصالح خارجية. فقد علقت وسائل الإعلام
على هؤلاء الأشخاص بأن فلان رجل فرنسا والآخر رجل الجيران والثالث ...
والرابع ... ولم تحمل هذه الأسماء من يمثل واقع الشعب وحاجته، وهكذا واقع
السياسة في العالم الثالث السياسة القادمة من الخارج أهم من الشعب ومصالحه،
وهذا ما جعل غزالي يشك في أن الفرنسيين لم يقبلوا بعد استقلال الجزائر كما سبق. وهذه الحقيقة هي التي تفسر عدوان الجيش على مصلحة الشعب ومصادرة حقوقه
إذ أن فيه من يعمل لمصالح أخرى كما سبق في فقرة (فرنسا والغرب) . على
الرغم من أن قطاعاً كبيراً من الجيش لا يبدو أنه ذو قناعة تامة في الخروج على
الدستور وأنه لا يريد المواجهة العسكرية مع الشعب. وهذا ما جعل الانقلابيون
يفرقون من خطابات عبد القادر حشاني زعيم الجبهة الإسلامية للجيش ومناشدته
للجيش بتقوى الله وعدم قتل الناس وجر البلاد إلى حرب أهلية، ونادى الجيش
بترك دعمه للاستبداد.
وأصبح الجيش في الجزائر وللأسف تلك العصا التي يُجلد بها الشعب بإدارة
خارجية وتلك مأساة الجيوش في العالم العربي ذات قدره فعالة في التدمير وإذلال
وقمع الشعوب في الداخل، ومقدرة نادرة في الهزيمة أمام كل عدو خارجي.
ولا يصعب تفسير هذه الظاهرة إذ الجيوش في عالمنا غالباً متخلفة عن الوعي
الديني العام، وتدين بالولاء لعقليات قمعية ومستبدة، ربت جيوشها على الاستبداد
وفردية القرار والطاعة العمياء في الحق والباطل، ويحال بينها وبين وسائل
المعرفة والوعي عن قصد، لهذا كانت سلاحاً خطيراً يضرب بلا وعي. وواجب
الأمة تدارك هذا الفساد وإيجاد هدنة ما بين الشعوب وجيوشها ومصلحة الأمة لا
تختلف بحال عن مصلحة الجيش أخيراً.
المسألة الاقتصادية:
تناول بعض أعداء التوجه الإسلامي في الجزائر القضية الاقتصادية وذكر أنها
هي السبب في إقبال الشعب على الحل الإسلامي وعلى كل ما حدث، وهؤلاء
الكتاب فيما يبدو ليسوا شيوعيين، وهم يعرفون كذب هذا الذي زعموه، وأيضاً فهم
لا يملكون الشجاعة في قول الحق، ولا الخروج من عقدة الحقد على التوجهات
الإسلامية في العالم الإسلامي، لهذا يخرجون بتحليلات ساذجة وبعيدة عن الصدق،
وتؤكد ثقافة التزوير التي يشهدها عالمنا الإسلامي لمصلحة أعدائه. نعم في الجزائر
حالة اقتصادية سيئة، كما يقول أحد الصحافيين [13] : - وليس إسلامياً حتى لا
نُتهم - (إن الشعب الجزائري ذاق طعم الحرية بعد سنوات طويلة من حكم الاستبداد
والديكتاتورية والرأي الواحد والحزب الأوحد. فبعد عقود متصلة من القهر
والنصب والفشل والخداع باسم الاشتراكية مرة وباسم الحفاظ على حقوق الشعب
العامل مرة أخرى، اقتنع الشعب الجزائري بهول الجريمة التي ارتكبت في حقه فلا
الأحلام التي عاش عليها بعد الاستقلال تحققت ولا الثروات الطبيعية الهائلة التي
وهبها الله له فوق وتحت الأرض الجزائرية صرفت على تحسين مستوى المواطنين، ولا المتاعب والأعباء المعيشية الصعبة نجح الحكام في التخفيف من حملها
وضغطها) [14] . ليس هذا فحسب بل إن السرقات التي سرقها الحكام والمتنفذون
السابقون والتي ذكرت وسائل الإعلام إمكان عودتها من الحسابات السرية في أوربا
بلغت 20 مليار دولار [15] وتزيد بعض التقديرات هذا المبلغ إلى ثلاثين مليار
دولار فالذين لا يؤمنون بيوم الحساب، ولا يؤتمنون على مصلحة الأمة سواءاً
جاءوا من شبهة التحرير أو من العساكر هم الذين سرقوا ثروات الأمة، ورجال
الإسلام هم موضع الثقة حقاً في هدا العصر وفي كل عصر، ثم لماذا لا يتوجه
الجزائريون إلى حزب آخر إذا كان الأمر هو الضائقة الاقتصادية، بل لو كان
الأمر هكذا لدعم الشعب الجزائري جبهة التحرير وسيد غزالي، كيف وقد تدفقت
القروض على الجزائر بمجرد وصوله لأنه رجل الغرب، وقد تكفل لهم بحرب
الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولو كان هدف الشعب فقط أن يملأ بطنه لوجد غير
الجبهة ممن رفع هذا الشعار. لكنها الدوافع الإيمانية أولاً وقبل كل شيء ثم فساد
الحكومات العلمانية المتوالية أكد للناس حاجتهم إلى دين الله وعدل الإسلام. والجبهة
كما يعلم أى عاقل لن تحمل لهم ثروات العالم. والمسألة الاقتصادية تحدٍ مهم ولا
شك لكنهم يثقون على الأقل أنها لن تنهب وتسرق ثرواتهم وستعمل الجبهة الإسلامية
على تخفيف الديون الباهظة التي أصبحت الحكومة غير قادرة على تسديد أرباحها
الربوية.
أطراف أخرى للقضية:
يندرج كثير من القوى الفاعلة في الساحة الجزائرية تحت بعض الأطراف
السابقة، فجبهة التحرير ذات الاسم والشهرة التاريخية أصبحت ميراثاً عاماً للشعب
بمالها وما عليها، وبقية رجالها إما واقعون تحت نفوذ الجيش ومنهم طائفة أخرى
لها صوت معارضة لسلطة الجيش ولا يظهر أنهم جادون في اتخاذ موقف يخرج
عن دائرة مصالح الأطراف المعارضة للجبهة الإسلامية.
البربر:
يشكل البربر، قرابة 4 ملايين [16] من 26 مليون عدد سكان الجزائر،
منهم طائفة كبيرة تتبنى منهج وأسلوب الجبهة الإسلامية، بالمطالبة بعودة البلاد إلى
الحياة الإسلامية، وبرز منهم قيادات إسلامية من أمثال الشيخ محمد سعيد في
الجزائر العاصمة، أما في مناطق القبائل (تيزي أوزو) فقد اتضح مناصرة عدد
منهم لآيت أحمد (القوى الاشتراكية) وهم منطقة نفوذه واستغل قضية البربر
مواجهاً بها الجبهة الإسلامية وعندما أسس آيت أحمد حزبه البربري في فرنسا بدعم
من فرنسا أكد على قضايا عديدة منها إبعاد البربر عن الإسلام واللغة العربية
ومحاولة كتابة اللغة الأمازيغية البربرية وإحلالها محل اللغة العربية، وبالتالي
يستطيع تشكيل أقلية وحقوق أقلية ومسمار فتنة في الجزائر عسى أن يتلافى
الإسلاميون تقصيرهم في حقوق إخوانهم وأن يوقفوا الفتنة قبل تعاظمها.
الليبراليون التحرريون:
وهناك ما يسمى بالقوى الليبرالية (التحررية) وهي القوى التي تراعي
مصالح الغرب وتؤمن بأفكارهم وأسلوب حياتهم، وقد درج هذا القطاع من الناس
على التحريض على الإسلام ودعاته ووصهم بتلك الألقاب التي كانت ترددها فرنسا
زمن حرب التحرير وكانت تصف المجاهدين في الجزائر بأوصاف التعصب
والرجعية. والآن تردد بقايا جيوب الظلام العلماني نفس المقولة بكل ببغائية
وسذاجة فتصف الجبهة بالتعصب والرجعية والتطرف والخوف على الانحلال
والدمار الاقتصادي الذي جلبته مرحلة الضياع في الجزائر. وهذه الطائفة تمثل
الطابور الخامس في كل بلدان العالم الإسلامي وهم دعاة الفساد وجلاوزة الاستبداد
ويحلو لهم أن يلبسوا لباس الثقافة الليبرالية، وهم بعكس هذا.
وليست لهم قوة مهمة في الجزائر غير أنهم يتمتعون برعاية عناصر
الديكتاتورية في الجزائر والدعم الغربي المحارب للتوجه الإسلامي ويتوزعون على
الأحزاب المعارضة للجبهة ويقيم بعضهم في فرنسا. وهذه الطائفة مع أمثالها خارج
الجزائر تقوم بدور الدعاية المضادة للإسلام ولمصلحة الجزائر ورغبة شعبها.
إن سير الأحداث لا يدل على أن أعداء الإسلام يمكن أن يسمحوا له بالوجود
ولا للمسلمين بممارسة حقهم في حكم أنفسهم بما يريدون [17] فالمسلمون أسرى في
بلدانهم لقوانين عبودية غربية جائرة؛ وأمام أعيننا هذا المشهد الذي يثير عجب كل
عاقل، ويثير حمية كل مسلم، ينتهك حقه وحريته وكرامته، فعندما نستخدم قوانين
الغرب وأعرافه لننال بها حقاً لنا يتنكر هؤلاء للقوانين التي سنوها ويحطمون ما
أسموه مبادئ وحريات وديموقراطيات، ويواجهون المسلمين بالسجون والمطاردة
والتعذيب والتخويف وهم الذين شهد قانونهم ومحاكماتهم بما أوصلوا له العباد من
فساد وفقر وخوف، ثم يستمرون ويعدون بأنهم سوف يسمحون بالديموقراطية بعد
إصدار قانون يحرم استخدام الإسلام في السلطة، وهم اليوم يمنعون المساجد أن
تذكر فيها قضايا المسلمين ويحاولون إغلاقها وجعلها منابر حكومية، [ومَنْ أَظْلَمُ
مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن
يَدْخُلُوهَا إلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
[البقرة 114] .
ختاماً:
لقد تبين من الانتخابات التي كانت نتائجها صحيحة ولم يثبت لدى اللجنة
القضائية [18] خلاف ذلك وبطلت الطعون التي قدمها أعداء الجبهة الإسلامية أن
الشعب يرى قيادته الفعلية التي تحقق مصلحته وتخرجه من الفساد هي الجبهة
الإسلامية، وأي قوة غيرها تهيمن عليه إنما هي سلطة يرفضها الشعب ابتداءاً،
ويعلم أنها ستسوقه في طريق أشد ظلمة مما حاولت الخروج منه، وسيمارس
المغامرون من عساكر الانقلاب الجديد أسلوبهم في نهب الثروة وإذلال الشعب،
حتى ترضى فرنسا ويرضى غيرها من القوى التي أيدت مجيئهم ويسرها كل شر
يقع للمسلمين. وربما حدث ما لا يتمناه مسلم من حرب أهلية قد لا يستطيع مثيروها
إيقافها وقد تتسع دائرتها وتترك كل شيء بعدها خراباً.
وقد حرصت الجبهة على تجنب الاضطرابات وضبط النفس والتعامل بأسلوب
إسلامي راق ومتزن ولم يتوفر هذا الانضباط والهدوء في مواجهة الموقف وتقدير
المسؤولية من غيرهم، في حين يقع الظلم والتزوير عليهم، فهل الاسلاميون
قادرون على تحمل المزيد من الأذى وضبط النفس أم سيواجهون من الآن وتكون
العاصفة، أم هل سيقبلون بالتأجيل إلى جولة أخرى والصبر على مرارة الموقف
حتى يعدوا أنفسهم لجولة أخرى يقابلون بها هذه الانتهازية والتسلطية التي تصر
على إبعاد الشعب عن دينه وهويته ومصالحه، والعمل على قطع جذور الفساد
والتبعية، وإحلال السلم والأمن والعدل محل النهب والسطو والجور الذي يصفق له
العالم المنحاز بكل صفاته؟ ليس طريق الحق سهل الورود، فدونه فتن وابتلاءات
قص الله في كتابه منها ما يجعل المؤمن يثق بالحق ويدافع عنه ويصبر عليه مهما
لقي في طريقه بقطع النظر عما حقق. [الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ * ولَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ
الكَاذِبِينَ] والذي أصبح معروفاً لدى عدونا ويعاملنا وفقه هو أن يمارس علينا
أسلوب القتل والسجن والإرهاب ثم يستمر في طغيانه بلا رادع بواسطة وكلائه
عندنا ويحقق بهذه الممارسة كل رغبات الصليبيين واليهود الذين يسمون علماء الأمة
ودعاتها وقادتها ورجال إنقاذها بالمتطرفين والأصوليين وقد وصف رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- والأنبياء بأكثر من هذا، وما أسعد اليهود والنصارى حين
يرون الدبابات والأسلحة والجيوش - وكل هذا يقال أنها جيوشنا وسلاحنا - تسدد
ضربات للأمة وتقتل وتسجن وتشرد خيار رجالها وقادة العلم والفكر والسياسة فيها،
إلا إنه لم يقدم لعدونا من النصرة علينا وهزيمتنا مثلما قدمته جيوشنا التي تخصصت
في قتلنا وتعويق أي سبيل لنا في النهوض أو أنها على أحسن الظنون استخدمت بلا
وعي. اللهم إنا نسألك لإخواننا الثبات على الحق وألا تعرضهم لفتنة أكبر وأنت
القادر على ذلك.
__________
(1) في بعض روايات القصة أنه وعده بمال إن سكت (راجع كتاب (الحشاشون) ، برنارد لويس) .
(2) الحياة 23/1/1992 م.
(3) نص قول غزالي: (إن بعضهم في فرنسا ينظر إلى الجزائر كما لو أن هناك تضامناً بينهم وبيننا لكن هناك من يستمر في التفكير في مشاكل الجزائر كما لو أنها مشاكلهم لأنهم لم يقبلوا بعد استقلالنا، الحياة، الأربعاء 18 رجب 1412.
(4) عنوان رئيسي لمجلة لوبوان الفرنسية عدد 919، 30/4/1990.
(5) التايمز 14/6/1990.
(6) المصور، 3/1/92 تلخيصاً عن لومرند الفرنسية.
(7) الوطن العربي 10/1/92.
(8) الوطن العربي 10/1/92.
(9) الغارديان ويكلي، 26/1/92.
(10) الكنار أنشيني Le canar enchaine 1/1/92.
(11) لأنهم هم الذين صمموه فلا يرون مجلاً لتوقع آخر.
(12) الأسبوع العربي، عدد 1684، كانون الثاني 1992 م.
(13) إبراهيم سعدة.
(14) أخبار اليوم 13 رجب 1412، 18 كانون الثاني 1992.
(15) القدس 18 رجب 1412، 21 كانون الثاني 1992.
(16) ليس هناك احصاءات دقيقة في هذا الموضوع.
(17) قد يسمح للمسلمين بنشر كتب عن الإسلام وإرسال دعاة من الأزهر وغيره أو بث برامج عن الإسلام في حدود، ولكنهم لا يمكن أن يسمحوا بإقامة دولة للإسلام ولو في جزيرة في المحيط لأنها بداية لنهاية التسلط الصليبي على المسلمين، سيد قطب؛ الإسلام ومشكلات الحضارة فصل طريق الخلاص.
(18) تكونت اللجنة من سبعة أشخاص ثلاثة منهم قضاة سابقون وقد خرجوا بإثبات سلامة الانتخابات وردوا الطعون وهذا من الأسباب التي عجلت بخروج الجيش قبل الدورة الأخيرة ثم أخرج الجيش خطاباً سياسياً ادعى فيه تزوير الانتخابات، علماً بأن الأطراف المتنافسة المهمة ترى نزاهة الانتخابات مع وجود بعض المناطق لم توزع فيها البطاقات الانتخابية، وكانت من مناطق نفوذ الجبهة.(48/55)
رسالة إلى
جبهة الإنقاذ الإسلامية
ببالغ الفرحة والسرور تلقينا خبر نجاحكم في الدورة الأولى للانتخابات
الجزائرية والتي خرجت بنتائج باهرة أفرحت كل مسلم يحمل هم الإسلام في قلبه.
وأغاظت كل عدو وحاقد ومنافق لايريد لكلمة الحق أن ترتفع، ولا لأصحابها أن
يعلو شأنهم تماماً كما وصفهم الله عز وجل: [إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإن
تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا] [آل عمران 120] .
ونحن - علم الله - فرحنا بفوزكم الذي إن دل على شيء فإنما يدل على أن
الشعوب المسلمة التي ذاقت الذل تحت نير المناهج الأرضية تشتاق إلى التحرر من
نير العبودية للمناهج والأنظمة الوضعية الدخيلة، إنه الظمأ إلى جرعة من النبع
السلسبيل بعد أن أفسد الملح الأجاج حياتنا.
إن انتصاركم - أيها الأحبة - عزاءٌ لنا في هذا الزمن.. زمن الهزائم
المتكررة والاستسلامات المتتابعة.
لا يغرٌنكم ما صنعوه وما سيصنعوه ليفسدوا عليكم هذا الانتصار الرائع فأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين.
أيها الإخوة: لقد ساءنا هذا النفاق العالمي الذي يكيل الأمور بمكيالين، فمن
حق شعوب العالم قاطبة أن تختار المنهج الذي تريد والقائد الذي تريد. أما الشعوب
المسلمة فهي شعوب فسدت أذواقها. فلم تبلغ بعد سن الرشد لتختار من تريد.
أيها الإخوة: لقد ساءنا هذا التضامن الإقليمي الذي لم يفلح قط إلا في محاربة
الحركات الإسلامية الأصيلة التي تريد العودة بالأمة إلى عزتها واستقلالها.
إن هؤلاء العملاء المحليين يرفضونكم ويرفضون أمثالكم. وهم في المقابل
يدخلون اليهود في نسيجنا السياسي والثقافي. فقبح الله قوماً جعلوا اليهود أصدقاء
وجعلوا الدعاة والمخلصين أعداء يحرصون على إيذائهم وإخفات صوتهم بكل سبيل. مرة أخرى أيها الأحبة: لا يغرنكم ما صنعوه وما سيصنعونه ليفسدوا عليكم هذا
الانتصار الكبير فأنتم الأعلون إن شاء الله.
أيها الإخوة: نحمد الله أن عاد للجماهير وعيها فاختارت الإسلام ليكون هو
الحل والمنهج، لقد قدمتم للدعاة نموذجاً متقدماً من نماذج العمل الإسلامي
الجماهيري، ولكن الجماهير وحدها لا تصنع نصراً، إننا نطمح بعد نجاحكم في
العمل الجماهيري، أن تقدموا لنا نجاحاً آخر في مجال بناء القاعدة الصلبة وإعداد
الكوادر المؤهلة.
إن العمل الإسلامي على مستوى الأمة - والجزائر جزء منه - بحاجة إلى قلة
تنقذ الموقف. بحاجة إلى رجال متجردين ينبرون لعملية الإصلاح السياسي
والاقتصادي والإعلامي وقبل ذلك الإصلاح الديني العقدي.
هؤلاء هم الذين سيقومون بتربية الجماهير ونشر العلم الشرعي بينها، حتى
يصبح الإسلام مطلباً شعبياً ملحاً تغضب من أجله الجماهير أكثر من غضبها
لمطالبها اليومية.
إن هذه الجموع المباركة التي تربت على يد القاعدة الصلبة لن تقف في وجهها
ألاعيب الساسة العلمانيين، ولن يرهبها سيف الجيش المسلط، كما لن تغريها
الوعود بالرخاء والرفاهية.
أيها الإخوة: إن حجماً هائلاً من الكيد العالمي والمحلي يكيد لكم ولأمثالكم من
الدعاة المخلصين، وأحياناً ينسينا التأييد الشعبي المكثف حجم هذا الكيد فيظن الظان
أننا قاب قوسين من قطف الثمار.
أيها الإخوة: نطالبكم بألا تدعوا أعداءنا وأعداءكم يستجرونكم إلى معركة لم
تحددوا مكانها ولا حجمها ولا أدواتها. وكما أن البذرة لا تصبح ثمرة يانعة بين
عشية وضحاها - وأنتم أدرى بذلك - في أرض الزيتون والعنب، فكذلك الدعوات
بحاجة إلى التعهد والرعاية والبناء حتى يصلب العود ويخرج شطأه ويستغلظ.
أيها الإخوة: لا تظنوا أنكم تقفون في أرض الجزائر بمفردكم، فهناك الألوف
والألوف من إخوانكم في شتى بقاع العالم يرقبونكم ويعيشون معكم بقلوبهم، إن
الروح الإسلامية باقية وإن ظنوا أنها قد أخمدت عندما هدمت الخلافة، ومزق
الاستعمار أراضينا إلى دويلات صغيرة هزيلة.
هذه الروح الإسلامية هي التي تجعل الهندي المسلم يفرح بفوز الجزائري
المسلم، وهي الروح التي جمعت المسلمين على شتى لغاتهم وأعراقهم في أرض
أفغانستان المسلمة. لذلك - أيها الأحبة - حافظوا على هذه التجربة الناجحة وخذوا
بأسباب النصر الشرعية التي ذكرها الله في كتابه، فنجاحكم سيكون نموذجاً لغيركم، وبداية لحقبة جديدة في تاريخ المسلمين المعاصر.
واختم رسالتي هذه بدعوة إلى الدعاة إلى الإسلام في الجزائر من خارج الجبهة
فأقول لهم:
- إن العدو لا يفرق بين معتدل ومتطرف، فالجميع أصوليون تجب محاربتهم
والقضاء عليهم.
أيها الإخوة: ما أحوجكم إلى الاتحاد والتعاون ونبذ الفرقة والاختلاف كما قاله
تعالى: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران 105] .
[ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]
[الأنفال 146] .
إن الخلاف شر وخصوصاً في مثل هذه الظروف العصيبة من تاريخ المسلمين، وتاريخ الجزائر على وجه الخصوص. وهذه الظروف تحتم التعاون مع إخوانكم
في الجبهة ومساعدتهم، وأن لا تكونوا سهماً في كنانة العلمانيين الذين بدت البغضاء
من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر؛ يستخدمونه ضد كل من يلتف المسلمون
الصادقون حوله، وأختم رسالتي بآية عطرة من كتاب الله الكريم: [لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيراً وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] [آل عمران 186] .(48/70)
ماذا يريدون؟
من الملفت للنظر هذا الدوي الإعلامي والسياسي الهائل الذي أعقب الدورة
الأولى من الانتخابات في الجزائر، وتداعيات الأحداث التالية لهذا الحدث المزلزل. ومع هذا الكم الهائل من التحليلات والتوقعات والإشارات فإن الحدث الجزائري
يظل هائلاً، مدوياً، بل زلزالاً بكل المقاييس والمعطيات، ولا أظن أن هذا الحدث
قد أخذ أبعاده وآثاره وبصماته المستقبلية بعد، وإن كان قد رسم لنا معالم حاضرة
ومستقبلية هامة، لعل من المناسب الحديث عن أبرزها..
إن الحدث قد كشف عن هشاشة الطروحات العلمانية واليسارية والقومية
والانتهازية، فهي أول انتخابات يشارك فيها أكثر من خمسين حزباً طرحت كل
المناهج والرؤى المعاصرة فلا مكان للحجج القائلة بأن التيار الإسلامي قد مارس
إرهاباً فكرياً أو حمل الناخبين قسراً على تبني الحل الإسلامي. ففي المثال الجزائري كان الشيوعيون المحنطون يعرضون بضاعتهم المزجاة جنباً إلى جنب مع
(حزب فرنسا) الذي يصيح بكل ما أوتي من صوت منادياً باستعمار الجزائر من
جديد على يديه وفي حضور كل التيارات السياسية المعاصرة ... والحق أن
الإسلاميين كانوا القوة الوحيدة التي لم تكن تتكئ على قوة خارجية أو دعم من خارج
الحدود - كما كان وضع بقية صفوف الأحزاب السياسية - التي اكتشفت أنها ظل
ثقيل (للآخر) الذي يضخمها بدعمه الخارجي.
إن الحدث بأطواره الأخيرة لا يمكن أن يفصل عن إطاره التاريخي
والموضوعي والمنهجي.. فأحداث الجزائر ليست وليدة اللحظة، ولم تنبت من
فراغ، فهي إفراز متوقع لحالة المواجهة الضارية التي خاضها المسلمون في هذا
الصقع، منذ نزول الصليبيين الفرنسيين قبل أكثر من قرنين ومحاولة هؤلاء سلب
هذا الشعب العريق هويته العقدية والحضارية. وفي خضم هذا الصراع ظل الإسلام
وحملته هم ضمير الأمة، وقادة الصفوف في ساعة الزلزلة، منذ عبد القادر
الجزائري ومروراً بزعماء جمعية العلماء (ابن باديس والإبراهيمي) وحتى امتدادهم
المتمثل بجبهة الإنقاذ.. وقضية الإسلام كهوية وثقافة ومنهج تفرض نفسها من جديد
بالرغم من محاولة العسكر (بعد الاستقلال) طمس هذه القضية أو تحجيمها من خلال
تبني الطروحات السياسية والاشتراكية، وإن كانت، ظروف بومدين وعصابته
بالأمس قد أوهمتهم بالتغلب على هذه الإشكالية، فإن الواقع اليوم يؤكد أن قضايا
الأمة الكبرى لا يحلها الإرهاب والتسلط، وأن المعضلات المتعلقة بالكيان
الحضاري والصيرورة العقدية ترفض أن تخضع لفوهة المدفع أو تسلط الحذاء
العسكري الثقيل، إنها في جوهرها بالنسبة للمسلم اليوم الوجود أو الذوبان.. ومن
هنا فإن التدخل العسكري الثالث للجيش بعد تدخل عام 1988م ويونيو 1991م
يواجه الإخفاق الذي واجهه في المحاولات السابقة، ويقابل بنفس الكراهية والاحتقار
من قبل جماهير الجزائريين الذين أثبتوا في السابق أن الحلول المبترة لا تؤدي إلا
إلى نتائج عكسية.
إن أحداث الجزائر الأخيرة نزعت ورقة التوت الأخيرة عن الأصوات
والتيارات والأحزاب والشخصيات المطلة عبر أجهزة التثقيف والإعلام في العالم
العربي، والتي تمسك بخطام التوجيه وزمام القيادة.. لقد كان رد فعلها غاية في
التشنج وإيغالاً في ممارسة الإرهاب الفكري، كما كان الطرح في مجمله يفضح
إشكالية ما يسمى بالتيار التحديثي والتوفيقي (حل وسط ومدهش يرمي إلى دمج
الإسلام بالثقافة الغربية) وبعد هذا التيار عن أرضية المجتمع والأمة التي هي من
المفترض أن يعبر عن تطلعها وآمالها. إن ما يكتب خلال هذه الفترة أبعد ما يكون
عن الموضوعية وأقرب إلى شكل (الإسقاط) النفسي حيناً ومزج الخيال المحطم
بالواقع الصارخ في وجوههم ... حيناً آخر.
والسؤال الحائر لا يزال يطرح بقوة: هل كان الغرب ومؤسساته الإعلامية
أكثر اتزاناً من ظله العربي العلماني؟ ولعل استعراضاً لعناوين الصحف والتحليلات
العربية يؤكد هذه النظرية مضيفاً إلى هذا المنحى الخطر غثاثة وسطحية واختزالاً
ونقلاً (كربونياً) يدعو القارئ إلى الغثيان! (وهي لازمة لعصر الإفلاس الثقافي ...
والإعلامي في العالم العربي اليوم) .
إن أحداث الجزائر كشفت عن (نسبية) جديدة لم تكن مكشوفة إلى هذه الدرجة
وعارية إلى هذا الحد..، فخلال أزمة الصيف التي كانت محاولة أخرى من
محاولات العقلية البوليسية لمصادرة الحل الإسلامي اتهمت جبهة الإنقاذ بأنها ضد
الديموقراطية والاختيار الحر، وأصبحت طروحات الجبهة تمثل لهؤلاء المرتجفين
التسلط، أما انتشار الجيش ومطاردته للمدنيين المسالمين فيمثل (قمة الحكمة
والضبط) .. فالأمور هنا نسبية.. فالدكتاتورية النزقة والتسلط المفزع تغدو (حكمة)
و (حماية للديموقراطية) و (حراسة للدستور) ! ! ثم أتت الانتخابات، ولأول
مرة في التاريخ المعاصر تتهم الحكومة حزباً معارضاً بأنه زوَّر الانتخابات.
وبالرغم من عدم قدرة المجلس الدستوري على إثبات هذا الادعاء فإن الخيار
الديموقراطي الذي دافعوا عنه قبل أيام يتحول بين عشية وضحاها إلى (كابوس) ؛
ومن خلال نسبية الثقافة هذه يطالب ابن فرنسا سعد سعدي أو مطايا الماركسيين
المفلسين باستخدام القوة لمنع (الخيار الديموقراطي) .. أو لم تقل اللوموند بالأمس:
(الديموقراطية جميلة لكن الأصولية غير مرغوب فيها) ! ! إذن الإشكالية ... تكمن لدى الغربيين في أن الديموقراطية تستحق البكاء والعويل إذا دفعت إلى السلطة دماها المتعددة يساراً أو يميناً، وتصبح كابوساً وديكتاتورية حين يكون المكون العقدي المخيف - الإسلام - قاب قوسين من استلام مقاليد الأمور. وهنا تكون الديكتاتورية العسكرية والتسلطية البوليسية قمة الحكمة والحرية. فالمسألة نسبية لدى صليبِّيي اليوم وحزب النفاق المحلي! !
تردد أقلام النفاق المستتر والإعلام الوصولي مقولة يسارية صدئة خلاصتها
أن انتخابات الجزائر أظهرت أن القضية الاقتصادية في أساسها وأن الجماهير تريد
الخبز والكساء والحياة الرغيدة.. فقط لا غير..! ! ولكن السطحية والتناقض لا
حد لها في خطاب (مترجمي الفكر) و (مجتري الطروحات الغربية) ، وهم يلمزون الجبهة بأنها لا تملك برنامجاً اقتصادياً واضحاً، وأنها لا تقدم البديل للجماهير.. ولذا فهي تلجأ لشعارات فضفاضة..
هذه (النظرية) التي اكتشفها بعض (المفكرين) و (المترجمين) تنقصها
الحبكة المسرحية اللازمة لتمرير مثل هذه النكتة الثقيلة الظل.. فالجميع يعرف أن
الجبهة لا تستند لأي مجموعة اقتصادية أو دعم مالي خارجي مؤثر.. وأنها خاضت
الانتخابات في مواجهة أحزاب تعد الناخب الجزائري بمساعدات خارجية وتطرح
برامج اقتصادية تلائم طبع الدول العربية والشركات المتعددة الجنسيات كما تكرس
ربط الجزائر بالسوق الدولي ودورته الاقتصادية؛ إضافة إلى أن الغرب قد هب
لمساعدة الحكم القائم بمئات الملايين من الدولارات لمواجهة خطر (الأصوليين) في
الوقت الذي لم تعد الجبهة بمساعدات دولية أو تعرض أرض الجزائر في مزاد
(النخاسة) النفطي وهنا نجد أن من حقنا أن نطرح السؤال المنطقي التالي:
إذا كانت القضية تدور حول جوع الجماهير وتلبية رغبتها الاستهلاكية الملحة، فلمن ستصوت الجموع؟ ؟ لمجموعة سياسية لا تدعمها دول وقوى اقتصادية
عظمى وتتهم بأنها لا تملك برنامجاً اقتصادياً أو خبرة إدارية كافية. أم لأحزاب
ومؤسسات وهيئات تلح في حملتها الانتخابية على أهمية التعاون والاندماج بالقوى
الدولية المؤثرة، وتعد الجماهير برفاهية اقتصادية وملء البطون وسد الحاجات
الاستهلاكية؟ !
والجواب المنطقي والواقعي هو أن الذين ينثرون الوعود والذين تتسابق القوى
الإقليمية والدولية لدعمهم اقتصادياً هم الأحرى بتوجه الجماهير الجائعة المتطلعة إلى
إشباع الغرائز إليهم! لكن، ماذا نرى؟ نرى الجماهير المتحدث عنها هي التي
لفظت هؤلاء المرتزقة والمرتشين والأذناب بعد أن عرفت أنهم سرقوا في فترة لا
تزيد عن خمس سنوات أكثر من ثلاثين بليون دولار. كما أن هذه الجماهير المتعبة
ترى أن المعضلة الاقتصادية التي صنعها النموذج العلماني / الاشتراكي هي في
حقيقتها مرتبطة بإطار أكبر وواقع أشمل حكم البلاد من خلال فلسفة مستوردة لا
تصلح أرض الجزائر لاستنباتها، بل حولت هذه الفلسفة أرض الجزائر - وهي
الأرض المعطاء - إلى أرض بلقع بوار.
أثبتت أحداث الجزائر أن الخائفين من الحل الإسلامي، المطاردين لدعاته
يصابون بحالة من (الحول الحاد) تجعلهم يرون الشيء شيئين واللون ألواناً متداخلة
والحقيقة زيفاً..! ! فما إن يفوز التيار الإسلامي في أي عملية انتخابية مثلاً حتى
يخرجوا للجماهير مبررين هذا الفوز بأسباب أصبحت ممجوجة من سطحيتها
وتكرارها
مثل: إن أعدادا كبيرة من الناخبين لم تصوت في الانتخابات..! فمن أدراكم
أن الذين لم يصوتوا سيصوتون في قناة التيار اللاديني..؟ ! والقاعدة الفقهية تقول: لا ينسب إلى ساكت قول! ويقولون بأن الإسلاميين يستغلون كل قواهم وقواعدهم
في الانتخابات وهل في هذا الأمر حرج وهذا من قواعد اللعبة الديموقراطية
المجلوبة والتي يكون فيها إجحاف بحق الناخب لا سيما في العالم المتخلف حيث إن ...
المناوئين للحل الاسلامي اليوم يستنفرون فئات لا تتعاطف معهم مستخدمين سيف
المعز وذهبه.. وهذان كفيلان بترغيب وترهيب أعداد كبيرة لا تصوت عن
قناعة؟ ؟
ثم أخبرونا أيها المتباكون على كل نصر للأصالة والعودة إلى الجذور.. كم
يصوت في انتخابات أمريكا (النموذج الديموقراطي) ..؟ أليسوا في حدود النصف
إن لم يكن الرقم أقل من لك.. ثم يحكم الرئيس الأمريكي ويفوز بنصف أصوات
الناخبين أي أنه يحكم بأصوات المؤيدين له وهم لا يتجاوزون الربع.. ثم تُدعى هذه
الانتخابات بأنها أكثر الانتخابات الديموقراطية نزاهة وأرقى نماذج الحكم الذي
توصلت له البشرية اليوم؟ !
إن حالة (الحول المفاجيء) تصيب مرضاها بمضاعفات خطيرة أبرزها
(الانفصام النفسي) والتناقض المحجوج الذي لا شفاء منه إلا بالصدق والأمانة وهذا
دواء يستعصي على من مرد على النفاق قبوله.
تصور أن ...
تصور أيها القارئ الكريم لو أن تسلسل الأحداث في الجزائر قد سار بطريقة
مختلفة عما آل إليه الأمر.. وتصور لو أن المسار التصاعدي للتحولات الجزائرية
قد انحرف إلى زاوية ترضي أهواء الغرب - لا سيما فرنسا وأمريكا - والنظام
السياسي العربي القائم، بقيادة أي اتجاه محارب للإسلام معاد لأصول الأمة
ومعتقدها..، قد تقول إن الشعب الجزائري قد أثبت بالدليل القاطع رفضه لكل
(الجراثيم الفكرية) ووقف في وجهها وقفة الرجل الواحد مرة بعد أخرى! ! لكن دعنا
نفترض مساراً آخر للحدث، يرضي ولو آنياً خيال المنافقين والعملاء.
تصور أن (حسين آيت أحمد) في الجزائر قرر عقب السماح بتكوين
الأحزاب أن يرشح نفسه للانتخابات البلدية في الجزائر.. وأنه - ويا للهول - قد
حصد أكثر من ثمانين بالمئة من البلديات وأكثر من ستين بالمئة من أصوات
الناخبين..! ! ماذا ستكون افتتاحيات اللوموند والفيجارو والنيويورك تايمز
وصحافة العرب المترجمة والمرتجفة من خصوم آيت أحمد وليكن علي بلحاج أو
عباسي مدني، وكأني بها وقد حملت عناوين ضخمة أحدها بالخط العريض
(الجزائريون يلفظون الظلام ويختارون الرجل المتحضر) ..!
تصور أن الرجل المتحضر الذي يحقد على الإسلام ويرفض التحدث
بالعربية - لأنه متحضر فهو يتحدث بالفرنسية - قد أصبح الزعيم المرتقب للجزائر، وعندها قرر الحزب الحاكم أن يقلم أظافره ويغير من قانون الانتخابات بحيث يحول دون انتصار كاسح للرجل (المتحضر) و (خياره العلماني) ... سيكون ملخص التعليقات والتحليلات شرقاً وغرباً: (مجزرة الديموقراطية في الجزائر) ! وتصور أن الرجل (المتحضر) قد قام بمقاومة هذا الظلم والحيف بأسلوب متحضر هو الآخر ونادى بالجزائريين المتعاطفين معه أن يقاوموا القانون الجائر بالتظاهرات السلمية في الساحات العامة منبهاً لضرورة البعد عن استخدام العنف.. أخال أن الوكالات الدولية ستحمل الخبر الآتي (غاندي الجزائر.. ينادي بالثورة السلمية ضد الظلم) ! !
تصور أن العسكر قد قرروا أن ينهوا ربيع الديموقراطية وذلك بافتعال مواجهة
مصطنعة مع الزعيم المتحضر وجماهيره المنضبطة وخلال هذه المواجهة تفصل
السلطات جميع الرافضين للتسلط والقهر، كما تزعم أن آيت أحمد (وزبانيته)
يخططون للانقلاب على السلطة وتعرض على وسائل الإعلام الدولية الأدلة الدامغة
على ذلك.. (كما فعلت بعد مواجهتها مع جبهة الإنقاذ في الصيف الماضي) مقلمة
أظافر.. وسكيناً لتقشير التفاح.. وحبلاً.. وزجاجة كوكاكولا فارغة! ! !
ولم تجد السلطات العسكرية بداً للحد من تزايد التعاطف مع الزعيم المتحضر
حسين آيت أحمد سوى أن تعتقله ونائبه دون توجيه تهمة أو جناية وتأمر الجيش
بالنزول للشوارع وتلغي الانتخابات لأجل غير مسمى! ! وهنا قد تتسارع الأحداث
وتعلن فرنسا سحب سفيرها من الجزائر وتوقف تعاملها مع الجزائر.. أما بوش
زعيم النظام الدولي الجديد فيعلن أن نظامه الجديد لن يسمح للدكتاتورية بالعيش..
أو أن يتحول بن جديد إلى صدام آخر يغتال الديموقراطية، ويئد الأحرار بلا سبب
دستوري! ! وهنا تجتمع الأمم المتحدة ليلقي مندوبو الدول المؤيدة للحرية خطباً
عصماء تنادي بانتهاء عصر الظلم.. ويرسل عرفات برقية إلى بن جديد يناشده
فيها باسم الكفاح المسلح أن ينهي مسلسل الإحباط ويفرج عن المناضلين الأبرار
وفي مقدمتهم الأخ الفاضل.. حسين آيت أحمد! ! تصور أيها الأخ العزيز أن
قضية حسين آيت أحمد ستشغل الصحف الصفراء والخضراء والسوداء لأسابيع..
ويصبح هذا الرجل المناضل (مانديلا الجزائر) - لاحظ الرموز المقتبسة -.. وفي
ظل الحملة الدولية والإقليمية يعلن الرئيس الجزائري بأن الزعيم المتحضر سيحاكم
بعدالة وأنه قرر إجراء انتخابات عامة للخروج من المأزق، لكنه يعين أحد
المتواطئين معه لتفصيل القانون الانتخابي على مقاس جبهة التحرير الحاكمة..،
هنا ستوجه الأمم المتحدة (الأمريكية) تحذيراً أخيراً وتحرك القوى الخفية في داخل
الجزائر تشتري الذمم وتزرع العملاء.. ويعلن بن جديد احترامه للدستور وأن
حزب القوى الاشتراكية مدعو للاشتراك في الانتخابات القادمة.
يحجم الحزب البربري وزعيمه المؤقت عن الاشتراك في الانتخابات التي
ستحرمه من فوز مؤكد وساحق.. وتتدخل الأصابع الفرنسية والأمريكية والمحلية
لإقناع الزعيم المتحضر ومناصريه بالاشتراك في هذه الحملة لإحراج السلطة ليس
إلا..
تصور أن هذا الحزب المظلوم، المقهور، المطارد قد فاز بـ 189 مقعداً
مقابل 20 مقعداً لجبهة الإنقاذ و 15 مقعداً لجبهة التحرير هنا سأكتفي بعنوان واحد
لصحيفة عربية أفردت ملحقاً خاصاً من عشرين صفحة للحدث /القنبلة، عنونت له
في صفحتها الأولى بعناوين مثيرة منها:
(انتصار خيار المستقبل على المتاجرين بالدين)
(الجزائريون يختارون التحضر ويلفظون الأصوليين البرابرة! ! !)
(الأصوليون يندحرون في وجه الفوز الساحق للزعيم المتحضر) .(48/74)
المستقبل لمن؟
في يوم السبت السابع من رجب 1412 هـ الموافق 212/1/1992 ظهر
الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد على شاشة التلفزيون وألقى كلمة قصيرة أعلن
فيها استقالته قائلاً: إنه قرر الاستقالة لكي لا يصبح عقبة تعرقل التفكير في حل
يحفظ الوحدة الوطنية. وقال أيضاً: إن انسحابه ليس تهرباً من المسؤولية، بل
وطلب من الجزائريين أن يعتبروا ذلك تضحية. إن أخطر ما قاله هو أنه قرر
الاستقالة لكي لا يصبح عقبة تعرقل التفكير في حل يحفظ الوحدة الوطنية! ! ..
فمن الذي يهدد الوحدة الوطنية؟ ومن الذي يفكر في حل يصرح الرئيس المستقيل
أنه عقبة تعرقل هذا الحل؟ لا أظن أن الإجابة على هذه التساؤلات تحتاج إلى عناء
كبير، فإن الأمر الذي أشغل الساحة الجزائرية بل والعربية والعالمية هو فوز جبهة
الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات الجزائرية فوزاً ساحقاً يعبر بوضوح عن حالة جديدة
تمر بها هذه الأمة للخروج من حالة الضياع والتشرذم الذي تعيشه، وعلى الرغم
من أن الأحداث في الجزائر تمر بمرحلة انتقالية يصعب التكهن بنتائجها، فإنه يجب
على كل مسلم أن يعيش مع إخوانه في آمالهم وآلامهم وتجاربهم، وألا يبخل عليهم
بما يستطيع من دعوة صالحة في ظهر الغيب، ونصيحة مشفقة خالصة مع دعمهم
بكل ما يستطيع. ومساهمة في هذا السبيل نقدم هذه القراءة المتواضعة في أحداث
الجزائر لعلها تكون عوناً على فهم الحاضر والتعامل مع المستقبل.
وجيز الأحداث:
في الأول من نوفمبر 1954 أعلن حزب جبهة التحرير الوطنية ميثاقه ومما
جاء في ذلك الإعلان:
استعادة دولة جزائرية ذات سيادة ديموقراطية واجتماعية في نطاق المبادئ
الإسلامية. وقامت حرب التحرير على أساس إسلامي شديد الوضوح، وقدم
الجزائريون التضحيات العظيمة من أجل استعادة إسلامهم وعروبتهم، حتى سميت
الجزائر بلد المليون شهيد، ولكن ما إن تم التحرير، وخرج المستعمر؛ حتى تربع
على السلطة من سرق ثمرة الجهاد، فكافأ رجاله بفتح المعتقلات والسجون لمن؟
لعملاء الاستعمار؟ لا، بل للدعاة المخلصين الذين لهم الدور الأكبر في مجاهدة
المستعمر، وقام (بن بلا) ومن بعده (بومدين) بفرض النهج الاشتراكي، وأقاموا
دولة بوليسية قائمة على الكبت والاضطهاد، مع ما صاحب ذلك من عمليات سلب
لثروات الأمة.
وفي عهد (بن جديد) الذي خلف (بومدين) لم يتغير شيء سوى ازدياد عمليات
النهب المنظمة للثروة، أو عجز الحكومة، أو قل: عدم اهتمامها بتقديم الخدمات
الأساسية للشعب المطحون، فحصلت أحداث شغب في يونيو (حزيران) 1988 م
مما أوقع مئات القتلى، واتضح فشل النظام وترهله مما أرغمه على اللعب بورقة
التعددية الحزبية، وسياسة الانفتاح والحرية، وفتح المجال لتكوين الأحزاب، ولم
تعد جبهة التحرير متفردة بالساحة السياسية، فقد تم تسجيل حوالي 58حزباً
تراوحت بين إسلامية من طرف وإلحادية من طرف آخر وكثير من اللافتات
المتنوعة في الوسط، مما يدل على شراسة الهجوم الفكري الذي تعرض له هذا
الشعب المسلم، ومن هذه الأحزاب:
1- جبهة الإنقاذ الإسلامية تم إعلانها رسمياً في مطلع 1989 م وذلك بمبادرة
من عدد من الدعاة من بينهم رئيس الجبهة الشيخ عباسي مدني، ونائبه الشيخ علي
بلحاج وللجبهة مجلس شورى يتكون من 60 عضواً.
2- حركة المجتمع الإسلامي (حماس) وتم إعلانها في ديسمبر 1990 م على
يد الشيخ محفوظ النحناح.
3- حركة النهضة الإسلامية: قام بإعلانها الشيخ عبد الله جاب الله.
4- حزب الأمة: أسسه يوسف بن خده رئيس الوزراء سابقاً، وهو يؤكد
على الأهداف الإسلامية والعربية.
5- حزب القوى الاشتراكية: (FFS) قام بتأسيسه حسين آيت أحمد عام
1989م. ويدعو إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وتبني التعددية اللغوية
والثقافية بين عربية وبربرية وفرنسية (علماني بربري فرانكفوني) .
6- التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية: أسسه الدكتور سعيد سعدي وهو
حزب بربري شبيه بالحزب السابق.
7- الحركة من أجل الديموقراطية: أسسه أحمد بن بلا الرئيس السابق.
8- حزب العدالة والإصلاح: أسسه قاصدي مرباح رئيس الحكومة السابق
بعد خروجه من جبهة التحرير.
9- حزب الطليعة الجزائري (الحزب الشيوعي) .
10- حزب التجديد الجزائري.
11- الحزب الوطني للتضامن الإسلامي.
12- حزب التجمع الجزائري البومديني الإسلامي.
13- الحركة الجزائرية من أجل العدالة والتنمية.
وغيرها بالإضافة إلى جبهة التحرير الوطني التي حكمت الجزائر لمدة ثلاثين
سنة متوالية.
انتخابات الجزائر، حقائق وأرقام:
جرت الانتخابات يوم الخميس 26/12/1991 وقد بلغت نسبة التصويت
58 % من أصل 12. 2 مليون ناخب. وبلغت الأصوات الباطلة حوالي 10% وأعلن وزر الداخلية عن عدم وصول ما يقارب من مليون بطاقة انتخابية إلى أصحابها، وقد بلغ عدد الذين أدلوا بأصواتهم حوالى 7 مليون و700 ألف وهي نسبة كبيرة إذا ما قورنت بنسبة المشاركة في الدول الغربية، أما نتائج الانتخابات فقد كانت صدمة لمن أجروها ولمن أعلنوها، وتباينت ردود الفعل فقد كانت الصدمة بادية على محيا وزير الداخلية وهو يعلن الفوز الكاسح لجبهة الإنقاذ، كان متعباً وهو يقرأ النتائج بصوت متهدج، أما رئيس الوزراء فقد حلّ ضيفاً على القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، وقد كان شاحباً وحزيناً متلعثماً وكان يبدو تحت وقع الصدمة [1] .
وخلافاً للتوقعات التي كانت تنتظر أن تكون النسب على الشكل التالي:
* 150 مقعداً للجبهة الإسلامية.
* 120 مقعداً لجبهة التحرير.
* 70 مقعداً لجبهة القوى الاشتراكية.
* 40- 50 مقعداً للتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية.
* 40 مقعداً للأحزاب الأخرى والمستقلين.
فقد جاءت النتائج على النحو التالي:
لقد شارك 49 حزباً من أصل 58 فازت جبهة الإنقاذ بـ 188 مقعداً من
أصل 228 وحلت جبهة القوى الاشتراكية في المركز الثاني بحصولها على 27
مقعداً، أما جبهة التحرير الوطني فقد جاءت في المرتبة الأخيرة وحصلت على 16
مقعداً فقط، والمستقلون حصلوا على 3 مقاعد.
كانت ردود الفعل متباينة، ويمكن معرفة ردود الفعل الرسمية غير المعلنة عن
طريق متابعة وسائل الإعلام، وهذه أهم ملامح التوجهات الإعلامية في تلك الفترة:
* في اليوم الأول الذي أعلن فيه الفوز الساحق لجبهة الإنقاذ بأكثرية
الأصوات لم تشر جل الصحف إلى ذلك، مع أن وكالات الأنباء نقلت هذا الفوز
الكبير. وبعد أن أفاقوا من الصدمة بدأت مرحلة التهوين من الانتصار وتحليل
أسباب انتصار الجبهة، وحيث أن حكم الإسلام غير مطروح فقد كثرت التحليلات
لكيفية الخروج من هذا المأزق وإليك بعضها:
1- التركيز على أن التصويت للجبهة كان بسبب كراهية الناس لجبهة
التحرير، وليس حباً في جبهة الإنقاذ أو كما يتولون: (ليس حباً في زيد لكن
كراهية في عمرو) وكأن الجبهة الإسلامية هي الحزب الوحيد بجانب جبهة التحرير.
2 - تبنوا طروحات الأحزاب العلمانية الجزائرية الخاسرة وادعوا أن
الانتخابات فيها الكثير من التجاوزات من جانب جبهة الإنقاذ، بل وقدمت طعون
كثيرة بصورة مبالغ فيها حيث بلغت 341 طعناً قدمت فيها جبهة التحرير 174
طعناً، وهولوا من خطورة هذه الطعون على مستقبل الجبهة حيث ستفقد أغلبية
المقاعد التي حصلت عليها، ولكن المجلس الدستوري رفض هذه الطعون وكان
على وشك إعلان ذلك ومنعه من ذلك الأحداث اللاحقة.
3- أكثروا من الكلام حول امتناع حوالي نصف الناخبين عن المشاركة وأنهم
ضد الجبهة، وأن الفرصة سانحة لتعديل النتيجة في الدور الثاني، ولكن هذا
التحليل تهافت سريعاً، حيث بدأت الأحزاب العلمانية تحذر من الخطر على
الديموقراطية عندما تحكم جبهة الإنقاذ، وطالب بعض الديموقراطيين بالغاء
الانتخابات.
4- وفي النهاية تعلقوا بالأمل الأخير لحماية الديموقراطية والحفاظ على
الدستور وهو الجيش الذي تتجاذبه النزعات الفرنسية والأمريكية.
5- ولقوة هذا الخيار فقد بدأوا بالكلام عن السيناريو والإخراج لهذا الترتيب،
حيث تحدثوا عن خلاف بين بن جديد والجيش واحتمال استقالة بن جديد، وذلك بعد
فشل الأحزاب العلمانية في محاولة جر الجبهة للاصطدام بها، ليكون ذلك ذريعة
لتدخل الجيش بدعوى حفظ النظام.
أما مراسل هيئة الإذاعة البريطانية فقد قال في سلسلة أحاديثه (الجزائر عشية
أول انتخابات حرة) إن رئيس الوزراء هو مرشح الجيش لتشكيل حكومة ائتلاف
ديموقراطي بعد الانتخابات، وفي الحلقة الثانية شكك بقبول جبهة الإنقاذ لقواعد
اللعبة الديموقراطية، وفي الحلقة الرابعة تحدث عن الجماعات الإسلامية وأشاع
دعاوى كاذبة حول إهدار الإنقاذ لدم محفوظ النحناح. وفي الحلقة الخامسة تحدث
عن آيت أحمد المتفرنس البربري وعن تكتيكه الجديد وكيف أن مرشحيه صاروا
يستعملون العربية الفصحى.
أما موقف الإعلام في شمال أفريقيا فهو كما يلي:
* بعد ظهور نتائج الانتخابات بدأت الصحافة الجزائرية الناطقة بالفرنسية
وأجهزة الإعلام الأخرى التي يسيطر عليها الشيوعيون؛ بدأوا بحملة ضارية ضد
الجبهة وتخويف الناس من مستقبلهم إذا اختاروا الجبهة، أما في المغرب فقد
التزمت الصحف الرسمية الصمت في البداية، مما يوحي بأنها لا تريد تحديد موقف
متسرع وأن الأمر متعلق بأمور داخلية، ثم تحول الأمر إلى هجوم على الأصولية.
* وفي تونس كانت الانتخابات محل اهتمام كبير لدى الأوساط السياسية
والرسمية حيث جاءت النتائج مخالفة لما توقعته من فوز جبهة التحرير، وأبدت تلك
الأوساط قلقاً صريحاً من فوز الإسلاميين في الجزائر.
* وفي مصر عكست الصحافة القلق من هذه التطورات وأهمية اتخاذ المثال
المصري للديموقراطية القائم على خنق الأفكار الإسلامية والسماح بأحزاب تحددها
السلطة سلفاً.
أما وسائل الإعلام الغربية فإنها منذ بدء الانتخابات وهي تهول وتحذر من المد
الأصولي القادم الذي سيخرب البناء الجزائري، وسيعيد البلاد إلى عصور التأخر،
ولمحت بعض الصحف من جانب آخر إلى أن وصول الإسلاميين ربما يجعلهم
يهتمون بالسلاح النووي، وفي برنامج أسبوعيات الصحافة البريطانية، الذي أذيع
في يوم الجمعة 28/6/1412 هـ (3/1/1992م) نقل البرنامج العديد من وجهات
النظر البريطانية المتشنجة وفيها صحيفة (اليوربيان) التي أسسها اليهودي
(ماكسويل) ، التي نشرت تحليلاً يثير الخوف والهلع من استلام الإسلاميين، وقالت
بأن الجيش سيتولى الحكم وسيحكم مجلس مكون من جنرالين ورائد وهم وزير
الدفاع ووزير الداخلية ورئيس الشرطة السرية حتى لا يتمكن الإسلاميون من الحكم.
أما (الايكونومست) فقالت بأن الجزائريين لن يصمتوا حيال حكم مستبد جديد
بدل حكم مستبد سابق.
أما فرنسا فقد تعاملت في البداية بحذر يعكسه ما نسب إلى الأمين العام لوزارة
الخارجية حين قال: (إن بلاده تعتبر ما تشهده الجزائر قضية داخلية فرنسية نظراً
لامتداداتها داخل فرنسا، وأضاف بأن علاقاتنا بالجزائر ثابتة لا تتأثر بعوامل
ظرفية مؤقتة) . ويوضح الخلاف الحاصل في الوقت الحاضر بين فرنسا والحكومة
الانقلابية تحسس فرنسا من عدم ثبات النظام الجديد، وبالتالي لا تريد التورط معه
في علاقة تؤثر على مستقبل العلاقات، وقد يكون الانقلاب أمريكياً يقصد منه إبعاد
الإسلاميين وأيضاً النفوذ الفرنسي، ولا ننسى انقلاب عبد الناصر الأمريكي على
النفوذ البريطاني في مصر.
الموقف الإيراني:
كانت السياسة الخارجية الإيرانية ناجحة كعادتها في محاولة توظيف الأحداث
التي تحدث في العالم الإسلامي لصالحها، وقد استفادت إيران كثيراً من قضية
سلمان رشدي رغم أنها ركبت هذه الموجة متأخرة، وكانت الرابح الأكبر من حرب
الخليج وتحطيم العراق، وها هي تستفيد مما يعانيه السودان من ضيق اقتصادى،
وهي الآن تحاول الاستفادة من أحداث الجزائر وتوظيفها لصالح النفوذ المتزايد
لشيعة إيران، حيث تظهر بمظهر الحكومة الوحيدة التي تتبنى التحولات الحاصلة
نحو الإسلام. مع أنهم في الحقيقة لا يحبذون قيام حكومة سنية في الجزائر كشأنهم
مع أفغانستان، ولكنه موقف سياسي، وقد وقع 170 نائباً إيرانياً رسالة أوضحوا
فيها دعمهم الكامل للشعب الجزائري، ولذلك وصلت الأمور بين البلدين إلى سحب
الجزائر سفيرها في طهران، ولا يسعنا هنا إلا أن نقول للإخوة في جبهة الإنقاذ:
حذار من إيران.
جبهة الإنقاذ بعد الانقلاب:
من المؤكد أن ما جرى كان احتمالاً وارداً، ولكن الجبهة استفادت من الخيار
المطروح لتثبت للعالم أن الشعوب تريد الإسلام، وأيضاً تريد إحراج أدعياء
الديموقراطية في كل مكان وبالتالي كان تعاملها مع النظام الجديد بحكمة، فقد
حرصوا على أن لا يُجَرُّوا بالاستفزاز حين بدأ النظام بحملة اعتقالات القصد منها
استفزاز الجبهة لردة فعل تكون مبرراً لضربة عنيفة، وقد توجت هذه الحملة
باعتقال الشيخ عبد القادر حشاني الرئيس المؤقت للجبهة يوم الأربعاء 18 رجب
1412 هـ (22/1/1992م) بتهمة تحريض الجيش على التمرد، وكانت هيئة
الإذاعة البريطانية قد أجرت مقابلة معه قبل اعتقاله بقليل أوضح فيها أن الجبهة لن
تتخلى عن اختيار الشعب لها.
وإننا نرجو الله -سبحانه وتعالى- أن ينصر عباده المخلصين وأن تصمد
الجبهة أمام هذه الهجمة، وأن تستمر متماسكة وتعود أقوى مما كانت، وإننا على
ثقة بنصر الله، والله غالب على أمره، ولا ننسى قوله تعالى:
[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ..] .
__________
(1) الأسبوع العربي 6 / 1 / 1992.(48/83)
كتب
أقوال العلماء في كتاب
إحياء علوم الدين
اختيار: أم قتيبة
إن كتاب إحياء علوم الدين للشيخ أبي حامد الغزالي المتوفى سنة (505 هـ)
رحمه الله وعفا عنه، وهو كتاب عرفه العامة والمثقفون والعلماء والجاهلون، وقد
كثرت فيه أقوال العلماء سلباً وإيجاباً، وقيل عنه بأنه يحتوي على أحاديث وآثار
ضعيفة بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وقد رأيت
أن أورد أقوال بعض العلماء في هذا، الكتاب:
1- الذهبي:
قال في (سير أعلام النبلاء) [1] :
(أما (الإحياء) ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما
فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علماً
نافعاً، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول -صلى الله
عليه وسلم- قولاً وفعلاً ... )
إلى أن قال معرضاً:
(وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضيات، وجوع الرهبان،
وخطاب طيش أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه
بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم) .
2- ابن كثير:
قال في (البداية والنهاية) [2] عن الغزالي:
(وصنف في هذه المدة كتابه (إحياء علوم الدين) وهو كتاب عجيب،
يشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوّف
وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة غرائب، ومنكرات، وموضوعات، كما
يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام، فالكتاب
الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمراً من غيره.
وقد شنَّع عليه أبو الفرج ابن الجوزي، ثم ابن الصلاح، في ذلك تشنيعاً
كثيراً، وأراد المازري أن يحرق كتابه (إحياء علوم الدين) وكذلك غيره من
المغاربة، وقالوا،: هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا، فإحياء علومه كتاب
الله وسنة رسوله، كما قد حكيت ذلك في ترجمة من (الطبقات) ولقد زيَّف ابن
شكر مواضع (إحياء علوم الدين) . وبيّن زيفها في مصنَّف مفيد، وقد كان الغزالي
يقول: أنا مُزْجى البضاعة في الحديث..) .
3- ابن تيمية:
قال في (درء تعارض العقل والنقل) [3]
(ذكر أبو حامد في كتاب الإحياء كلاماً طويلاً في علم الظاهر والباطن، قال: (وذهبت طائفة إلى التأويل فيما يتعلق بصفات الله تعالى، وتركوا ما يتعلق
بالآخرة على ظواهره، ومنعوا التأويل، وهم الأشعرية - أي متأخروهم الموافقون
لصاحب (الإرشاد) - قال: وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا كونه سميعاً بصيراً
والرؤية والمعراج وأنه لم يكن بالجسد، وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط،
وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد والجنة، واشتمالها على
المأكولات) .
قلت -أي ابن تيمية -،: تأويل الميزان والصراط، وعذاب بالقبر، والسمع
والبصر، إنما هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصرية.
قال أبو حامد: وبترقّيهم إلى هذا الحدّ زاد الفلاسفة، فأولوا كل ما ورد في
الآخرة إلى أمور عقلية روحانية ولذات عقلية.
إلى أن قال: (وهؤلاء هم المسرفون في التأويل، وَحَدُّ الاقتصاد بين هذا
وهذا دقيق غامض لا يطَّلع - عليه - إلا الموفقون، الذين يدركون الأمور بنور
إلهي لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه، ونظروا إلى
السمع والألفاظ الواردة فيه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف
أوَّلوه، فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع، فلا يستقر له قدم) .
قلت - أي ابن تيمية -: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر ...
الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة. وهذان أصلان للإلحاد فإنَّ كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات.
وقال رحمه الله في (مجموع الفتاوي) [4] في معرض كلامه في الصفات
والأسماء ونقضه كلام الفلاسفة:
(وأبو حامد في (الإحياء) ذكر قول هؤلاء المتأولين من الفلاسفة وقال:
إنهم أسرفوا في التأويل، وأسرفت الحنابلة في الجمود، وذكر عن أحمد بن حنبل
كلاماً لم يقله أحمد، فإنه لم يكن يعرف ما قاله أحمد، ولا ما قاله غيره من السلف
في هذا الباب، ولا ما جاء به القرآن والحديث، وقد سمع مضافاً إلى الحنابلة ما
يقوله طائفة منهم، ومن غيرهم من المالكية والشافعية، وغيرهم من الحرف
والصوت. وبعض الصفات مثل قولهم: إن الأصوات المسموعة من القراء قديمة
أزلية، وإن الحروف المتعاقبة قديمة الأعيان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ويخلو
منه العرش، حتى يبقى بعض المخلوقات فوقه، وبعضها تحته، إلى غير ذلك من
المنكرات. فإنه ما من طائفة إلا وفي بعضهم من يقول أقوالاً ظاهرها الفساد، وهي
التي يحفظها من ينفر عنهم، ويشنع بها عليهم، وإن كان أكثرهم ينكرها ويدفعها،
كما في هذه المسائل المنكرة التي يقولها بعض أصحاب أحمد ومالك والشافعي، فإن
جماهير هذه الطوائف ينكرها، وأحمد وجمهور أصحابه منكرون لها.
4- ابن الجوزي:
قال في (تلبيس إبليس) : [5]
وجاء حامد الغزالي فصنف لهم كتاب (الإحياء) على طريقة القوم، وملأه
بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة، وخرج عن قانون
الفقه، قال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم -صلوات
الله عليه- أنوار هي حُجُبُ -عز وجل-، ولم يرد هذه المعروفات! وهذا من جنس
كلام الباطنية!
وقال في (منهاج القاصدين) [6]
واعلم أن في كتاب (الإحياء) آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث
الباطلة الموضوعة، والموقوفة وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه
افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مصنوع.
5- محمد ناصر الدين الألباني:
قال في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) [7] :
(وكم في كتاب (الإحياء) من أحاديث جزم بنسبتها إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - وهي مما يقول الحافظ العراقي وغيره فيها: لا أصل له) .
__________
(1) 19/339.
(2) 12/180.
(3) 5/347.
(4) 17/362.
(5) ص 186.
(6) المختصر ص 3.
(7) 1/18.(48/92)
الانصهار في حمأة التهلكة
د. عبد الله عمر سلطان
ما من يوم تطلع فيه الشمس، إلا يزداد اليقين بأن هذه الأمة أُتيت من مقتل،
وجوبهت من جهة ضعف، وتخاذلت عن صيحات التحذير، وآيات النذير ... ،
فالقرآن الكريم، منهجها الذي يجب أن تتحاكم إليه، مليء بأخبار المهالك، والفتن
وأسبابها، والسنة الكريمة أتت محذرة من الوهن وأسبابه، والضمور ومقدماته..
والإخلاد للدنيا والانغماس في حمأتها كان في معظم الأطوار البشرية نتيجة لتمكن
أمة وعلو كعبها وشأنها.. حتى إذا فرحت بما نالت وظفرت، كان ذلك سبب زوالها
وحقها ...
أما أمتنا اليوم، التي تفجر من تحت أقدامها خزائن الأرض فإنها حرقت كل
مراحل النصر والتمكين واكتفت بالنعم، كما ينقلب السفيه الأحمق في مال موروث
لم يبذل فيه عرقاً ولا أنفق فيه جهدا أو كدحاً.
نحن أمة عالة على ثروتها، وثروتها - ويا للبشاعة - خنجر يوجه إلى
صدرها لإغراقها في التافه والسطحي والهامشي حتى فقدت كل أسباب المنعة والقوة، وبدلاً من أن تكون هذه النعمة الموهوبة أداة بناء، كانت أداة هدم، وبدلاً من أن
ترقى إلى وسيلة تمكين، صارت قنطرة انكسار متتال.
نحن أمة حتى قرن مضى، كانت تعيش التكافل وتشعر بأحاسيس الجسد
الواحد..، وما إن انقلبت أعضاؤها في عصر الانحطاط إلى قبائل تسمى دولاً،
وعشائر تملك مقعداً في الأمم المتحدة، حتى غُذي لدى الأغنياء شعور العزة والأنفة
انطلاقاً من الثروة الزائلة، وغرس في يقين الضعفاء هذا الحقد المريع على إخوانهم
الميسورين لكونهم ميسورين ... أصبح الغني لا يعرف قيمة سوى للدرهم
والدينار ... والفقير لا يلهث سوى من أجل ذلك البريق ... بل وفي غفلة وجهل ... رضينا أن صارت دنانيرنا ودراهمنا أوراقاً خضراً نقش عليها الطاغوت الأمريكي عبارته الكاذبة (بالله نحن نثق In God We Trust) وأصبحنا لا نثق إلا بهذه الورقة القادمة عبر البحار ... أليست التهلكة ... كما رواها لنا أبو أيوب ... حينما حمل رجل من المسلمين على الروم فقال الناس: مه مه، لا إ له إلا الله، يلقي بأيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما تأولون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة، أو يبلى من نفسه! ؟ إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، فلما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أحوالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: [وأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ] فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها دون الجهاد، قال أبو عمران: - راوي الحديث - فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.
التهلكة الإقامة والتركيز على مظاهر الزينة المنتفشة، وترك رسالة الله في
الأرض وحملتها يلاقون أبشع عصور السحق والاضطهاد.
التهلكة أن ترسم لنا جامعة ستانفورد (خطط التنمية) كما حصل في بعض
الدول العربية، ومن ثم تضع وزارات التخطيط زوراً اسمها على هذه الخطط ...
التهلكة أن تهجم الأمة بلا ضابط ولا رادع نحو بيع العينة والأخذ بأذناب البقر، والرضى بالزرع، وترك الجهاد.
التهلكة أن تصبح أمتنا نهباً للأعداء وعملائهم من البيادق المحلية الذين سقوا
أمتنا المر والعلقم، حتى أصبحنا كالقصعة تماماً والتي يحيط بها الواهنون من غثاء
الأمم.
التهلكة أن تتحول آلاء الله ونعمه إلى وسيلة انتحار بطيء نتجرعه بحبور
وننتظر مزيداً منه في مرحلة الغيبوبة التي لا بد أن تنجلي! !(48/97)
منتدى القراء
محمد خير البشر
عبد الجبار الطعمة
محمد خير البشر ... حمد نور ظهر
به استنارت أرضنا ... والظلم قد ولى وفر
هو النبي المرتجى ... يشفع من هول سقر
ميلاده نبراسنا ... سيرته خير السير
طاعته واجبةٌ ... ومن أطاع قد ظفر
جبريل قد لقَّنه ... بالله آيات السور
أنزل دستورٌ لنا ... فيه النواهي والنذر
فيه أحاديث الألى ... مروا ولم يبق أثر
معجزة ظاهرة ... على المدى لا تندثر
هزت قريشا آيُهُ ... فأيقنت صدق الخبر
لانت وكانت قبله ... قلوبها مثل الحجر
سبحان من غيرها ... من بعد غي وبطر
به استعادت عزها ... وفاخرت كل البشر
وجاهدت بسيفها ... لم تخش في الله خطر
حولها الله من ال ... ضعف ومن عيش كدر
إلى ليوث حرة ... أبت معاناة الضرر
فازت بجنت العلا ... عند مليك مقتدر
مقعد صدق لم يَدُرْ ... بِخَلَدٍ ولا عَبَر
قد نبذوا فانية ... حُفَّت بهول وخطر
إبليس قد زيَّنها ... وهي عجوز ذات شر
تبرز للطالب في ... أبلغ زي معتبر
كم أهلكت من بشر ... أردتهم وسط سقر
لكن عباد الله لم ... يصبهمُ منها شرر
فضل من الله لمن ... حباه لطفاً فغفر
فليغفر الله لنا ... فهو العفو المقتدر(48/100)
استثمار المواقف
خالد السبيعي
أورد ابن حجر في (لسان الميزان) قصة عجيبة، ذكرها أبو محمد بن حزم لعبد الله بن محمد بن العربي، والد القاضي أبي بكر، (أنه - أي ابن حزم - شهد جنازة، فدخل المسجد فجلس، قبل أن يصلي، فقيل له، قم فصلِّ تحية المسجد، ففعل، ثم حضر أخرى فبدأ الصلاة، فقيل له: اجلس ليس هذا وقت صلاة، وكان بعد العصر: فحصل له خزي، فقال للذي رباه: دلني على دار الفقيه، فقصده وقرأ عليه الموطأ، ثم جد في طلب العلم بعد ذلك) .
لقد أجاد أبو محمد كما رأينا في التعامل مع هذا الموقف، وحوله من خسارة
إلى مكسب، إن هذه القضية نموذج ساطع لفن التعامل مع المواقف واسثمارها.
ولا نستطيع في - الواقع - الاستمرار في الحديث عن الموقف واستثماره
دون وضع تعريف محدد للمقصود به هنا، فالموقف إذاً: (هو كل ما يتعرض له
الفرد من أحداث، ويتطلب منه اتخاذ قرار، إيجابي أو سلبي، تجاه هذه الأحداث،
ويكون له القدرة على اتخاذه) وبعبارة اخرى، فالحياة: مجموعة مواقف.
إن استثمار المواقف يحتاج إلى منهج واضح، لعلنا في هذه العجالة نلقي
ضوءاً على بعض أسسه، إن المبادئ (العقائد) التي يحملها الفرد، والقيم التي تحكم
تصرفاته، والطباع الشخصية المحركة لدوافعه، تمثل الأسس الداخلية التي يقوم
عليها منهج الاستثمار المتوازن للمواقف، فضعف الإيمان بالمبدأ - مثلاً - أو قوته
ومدى سلبيته أو إيجابيته، ونتائج التخلي عنه تحدد مدى قوة تأثير العامل.
كما أن هناك مؤثرات أخرى (خارجية) ، كالبيئة التي يعيش فيها الفرد
والأصدقاء المقربين له، والضغوط التي يتعرض لها سواء كانت اجتماعية أو
اقتصادية أو فكرية وغيرها كثير، وسيكون استعراضنا هنا لأثر الأسس أو العوامل
الداخلية (الفردية) وذلك لأنها المحدد النهائي لمدى الاستجابة (الاستثمار) وكيفيته.
فالأنَفَة - على سبيل المثال - طبع شخصي عند ابن حزم، دفعته إلى
تصحيح وضع خاطئ (جهل المرء بدينه) بإيجابية ملهمة - كما رأينا سابقاً، وجعلته
فيما بعد ممن يشار إليهم بالبنان.
والتعصب الأعمى للقبيلة. وكل تعصب أعمى - من القيم الجاهلية المعروفة
إلا أن أثرها كما سيظهر في القصة التالية خطير وأي خير.
فقد أورد ابن كثير في (البداية والنهاية) رواية للبيهقي جاء فيها أن أبا جهل
وأبا سفيان والأخنس ابن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع منه، وكل
لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا
فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال لبعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض
سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم أنصرفوا، وتكرر هذا الأمر ثلاث ليال، حتى
قالوا: (لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته وسأله عن رأيه فيما سمع قال أبو جهل:) ماذا سمعت؟ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبداً ولا نصدقه!) .
انظر إلى هذه القيم وماذا تفعل بالبشر!
أما عن أثر المبادئ - وهو الأهم - على استثمار المواقف فالشواهد عليه لا
تحصى، وسنعرض لموقف فريد منها، لم يتكرر في القرآن الكريم، ولم يذكر
صاحبه إلا في هذه السورة التي حملت اسمه، إنه النبي يوسف -عليه الصلاة
والسلام-.
وسنتوقف قليلاً عند هذا الموقف ونتأمله! كما وصفة الله -عز وجل- في
محكم تنزيله. رزق الله يوسف -عليه السلام- بجمال أخاذ في الخلقة، وعقل
راجح، وفصاحة في البيان و ... مما جعله محط أنظار الناس. وسكن في بيت
العزيز - حاكم مصر - بعد أن اشتراه بثمن بخس! ! ، وأعجبت به امرأة العزيز:
[ورَاوَدَتْهُ الَتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ *
واسْتَبَقَا البَابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [يوسف 23-25] .
كانت الظروف كلها - مهيأة تقريباً لحدوث ما لا تحمد عقباه، إن حب
الشهوات طبع بشري عالجه يوسف -عليه الصلاة والسلام- وأزاله بالمبدأ السامي
(طاعة الله) ، والذي هو عقيدة كل مسلم.
وختاماً فإن الفرد - منا - بحاجة إلى مبادئ صحيحة يعتقدها وتنير دربه،
وقيم صالحة ينتقيها، وطباع بشرية يهذبها، ليكون الاستثمار الأمثل للحياة.(48/101)
نحو وعي إسلامي سياسي
عبد الرحمن البشير
إلى الأمة المسلمة، إلى الأمة العربية: أي إسلام تريدون؟ أتريدون الإسلام
المستأنس، أم إسلام الخوارج، أم إسلام الكتاب والسنة؟
لأن الإسلام من عند الله الذي لا يحابي أحداً، ولا تكريم عنده إلا للتقي،
ولأن التقوى منزلة عزيزة المطلب ولأن حب التسلط من طبع البشر ولا يتخلص إلا
القليل منهم من نوازع نفسه وحب ذاته؛ ولأن الآية والحديث سيف في يد قائلهما؛
لكل ذلك لا بد للسلطان الذي يحكم الهوى أن يستأنس إسلاماً يسانده في سلطانه
ويحقق منافعه ويستخدمه سلاحاً ضد أعدائه. وعملية استئناس الإسلام عملية قديمة
قدم الانحراف عن منهج الكتاب والسنة، وستستمر ما بقي سلطان في الأرض يحكم
بالإسلام اسماً، وبالقرآن رسماً وبالمصالح والأهواء عملاً وواقعاً.
والمستفيدون من ذلك يرون لزاماً عليهم أن يقربوا رجالاً يتزينون بزي الدين
فينطقونهم حيث يردون ويسكتونهم حيث يشاؤون، ويضع هؤلاء لهم من الفتاوى ما
يناسب أذواقهم وأهواءهم، ويفصلون لهم من الدين أثواباً على قياسهم، ولذلك
فالاسلام المستأنس إسلام عجيب، إذا كان السلطان يطبق النظام الشيوعي كان
الإسلام المستأنس شيوعياً وكذلك إذا كان اشتراكياً لا ترى ولا تسمع إلا الأحاديث
التي تشيد بالمساواة وآيات الإنفاق، وإذا كان السلطان يطبق النظام الرأسمالي بكل
احتكاراته وظلمه وغشمه لا تسمع إلا: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) .
واليوم حيث تتشابك السبل وتشتبه النصوص وتقل المعرفة ويستأنس علماء
الإسلام بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى، ويصنع لكل سلطان في كل بلد جبة
إسلامية تناسبه في الشكل والموضوع يخرج فكر الخوارج من معاقله فنسمع عن
جماعات التكفير والهجرة وعلى شاكلتها.
وإسلام الكتاب والسنة ليس هذا ولا ذاك، إنه إسلام مهتد ينطق بالحق ولا
يبرر الواقع، ويصدع بالنص كما يريده الله ورسوله، ولا يلوي عنقه ليوافق أهواء
الناس. إسلام الكتاب والسنة هو الإسلام الكامل الذي أنزله الله لا يجامل أحداً، ولا
يستغله أحد، يقوم عليه علماء نذروا أنفسهم لله وتواضعوا له فرفعهم وأخلصوا
نياتهم فأشرقت قلوبهم بنور الوحي فعرفوا طريقهم وعظموا الله فذل كل جبار في
أعينهم، وتواصوا بالمرحمة فعلموا الجاهل وأرشدوا الحائر وصبروا على إساءة
الظالم طمعاً في هداية الخلق ورغبة في ثواب الخالق، فأي إسلام تريدون يا أمتنا.(48/104)
من نشاطات المنتدى
أقام المنتدى الإسلامي بلندن يومي السبت والأحد 21- 22 جمادى الآخرة
الملتقى الثقافي الحادي عشر. وقد استضاف فيه الشيخ الدكتور محمد بن سعيد
القحطاني أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى، والشيخ الدكتور يوسف عبد الله الوابل
أستاذ العقيدة بالمعهد العلمي بمكة المكرمة. وقد اشتمل الملتقى على المحاضرات:
* الخلاف في العقيدة: جذوره - أسبابه - علاجه
* علاقة المسلمين بغيرهم.
كما شارك الشيخان الفاضلان في ندوة عن (قضايا التكفير وضوابطه)
بالإضافة إلى فقرات أخرى. واختتم الملتقى بلقاء مفتوح مع أسئلة المشاركين.
هذا وقد توافد إلى الملتقى أعداد كبيرة من الرجال والنساء من جميع أنحاء
بريطانيا.
كما زار الشيخ محمد سعيد القحطاني مدينة شيفيلد في وسط بريطانيا، وألقى
فيها محاضرة عن (ثوابتنا ضد المتغيرات الجديدة) ولنفس الغرض زار الشيخ
يوسف الوابل مدينة بورتسموث في جنوب بريطانيا.
والمنتدى الإسلامي يشكر الشيخين الفاضلين على هذه الزيارة المفيدة، وعلى
المحاضرات القيمة، ويشكر جميع الإخوة الذين شاركوا في الملتقى.
كما نعلن للإخوة أن أشرطة المحاضرات السابقة متوفرة، ويمكن طلبها من
مكتبة المنتدى.(48/107)
بريد القراء
* الأخت نجوى دمياطي:
شكراً لك على مشاركتك الجيدة والمستمرة للمجلة، ونعتذر عن نشر مقالك
الأخير (قرأت لك) لأن المقال خرج طويلاً جداً ولأنه لم يراع الأسلوب المناسب
لعرض الكتب حيث خرج بشكل مختارات من الكتاب وليس عرضاً له ونرحب
بمشاركتك مستقبلاً.
* الأخ محمد محمد بدري:
نشكرك على مشاركتك الجيدة في المجلة ونعتذر عن نشر مقاليك الأخيرين،
لأن الكتاب الذي عرضته (رؤية إسلامية في أحوال العالم الإسلامي المعاصر) لم
يعد جديداً الآن. والمقال الآخر عن الشرك قد كثر الحديث عنه على صفحات
المجلة كما تعلم، ونرحب بمشاركاتك مستقبلاً، شاكرين لك اهتمامك بالمجلة.
* الأخ أبو عبد الرحمن الحمروي:
كتب مقالاً يحذر فيه من تقصير كثير من الشباب في أمر العبادة وبخاصة
الخشوع في الصلاة معتذرين بقصة عمر -رضي الله عنه- أنه كان يجند الأجناد،
وهذا إذا كان حدث لعمر -رضي الله عنه- مرة واحدة فكيف تجعلون منه قاعدة في
تشاغلكم عن الروحانية في الصلاة بما ترونه إهتماماً بالدعوة فالذي يهتم بالدعوة
أولى به تمام الاهتمام بالصلاة والخشوع فيها.
* الأخ محمد سعود الطيار:
نشكرك على ثقتك ونسأل الله أن نكون عند حسن ظن كل مسلم، أما عن
المنتدى فليس له معهد لدراسة اللغة الإنجليزية وبه مدرسة إسلامية باللغة الإنجليزية
والعربية، أما اللقاءات الإسلامية فهي في أوقات متعددة خلال كل عام والدورة
الشرعية خلال شهر أغسطس.(48/106)
الصفحة الأخيرة
قَدَرُنا وقَدَرُهم
عبد الله القحطاني
حملت وكالات الأنباء الغربية في نفس اليوم الذي اعتقل فيه زعيم جبهة
الإنقاذ المؤقت خبراً مفاده أن نحو مائة من رؤساء الزوايا الصوفية في الجزائر
أعربوا عن تأييدهم للمجلس الأعلى للدولة ورئيسه بوضياف، وأصدر هؤلاء بياناً
بعد اجتماع عقد في (ادرار) ، في الصحراء الجزائرية.. وأضاف الخبر مُعرِّفاً
بهذه الزعامات: (والزاوية مركز لتعليم القرآن تقام عادة في جوار ضريح أحد
الأئمة، وتحمل اسمه، وكانت رابطة العلماء بقيادة ابن باديس قد نددت في الماضي
بالزوايا وعلمائها بعد الاشتباه بتعاونها مع السلطات الفرنسية (1830 - 1862) .
هذا الخبر والتعريف بالطرق الصوفية الخرافية يقدم مستنداً جديداً على تخاذل
هؤلاء المشعوذين الراقصين على جراح وآلام المسلمين كلما ضرب دف المستعمر،
وأذناب الاستعمار السمر! ! وكأن قرنين من العمالة والارتماء في أحضان
القراصنة الصليبيين لا تكفي لتأتي حركات وجماعات الخرافيين بدليل آخر على
خيانتها وتآمرها وطعنها في ظهور الأحرار والصادقين، ولتؤكد على أن هذه
العقليات لا تزال تحكم شيوخ الرقص والموشحات الآكلين من موائد أعداء الأمة
الذين يرون فيهم عوناً لهم على تحقيق أغراضهم. أما أهل السنة والجماعة في
جزائر الأحرار فهم لا يعرفون تحت هذه الظروف للنوم طعماً، أو للقمة شهية، أو
لمتاع الدنيا الرخيص متعة، لقد رأوا في سلف هذه الأمة نماذج لا تنطفئ:
الصحابة والتابعون والأئمة والعلماء الأعلام الذين لم يخضعوا لظالم، ولم تكن
تأخذهم في الله لومة لائم. وكلمات ابن تيمية لا زالت حية تنطق: (ماذا يفعل
أعدائي بي أنا جنتي في صدري.. إن سجني خلوة، ونفيي سياحة وقتلي شهادة) !
قدر هذا الفريق أن يبقى رافعاً لواء السنة والجماعة على مر العصور،
ومدافعاً عن هذا الدين، مجاهداً في سبيله، ولهم الفضل، بعد الله، بأنهم يحفظون
هذا الدين غضاً كما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه إلى يوم الدين، لا يصدهم عن دين الله من خالفهم أو من خذلهم.. أما قدر الخرافيين والراقصين
في الموالد والمآدب فهو العمالة والذل والاندحار عند كل نازلة تنزل بأهل
الإسلام ...(48/108)
رمضان - 1412هـ
مارس - 1992م
(السنة: 6)(49/)
الافتتاحية
وا إسلاماه
إن ما يجري في المنطقة العربية من إبعاد للإسلام وأهله خاصة عندما يكون
له التأثير والفاعلية، وبشكل صفيق ومكشوف، وبتحد واضح لمشاعر المسلمين،
هذا الإبعاد قد لا يحتمله إنسان إلا أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، عامراً بالثقة بالله
ونصره، ينظر إلى الأمور دائماً نظرة التفاؤل ويعتبر أن هذه الأحداث إنما هي
إرهاصات وابتلاءات حتى يقوى عود المسلمين ويشتد ساعدهم ويزدادوا خبرة
وحكمة.
ليست هذه صرخة عاطفية، فالتكالب الذي يدور على المسلمين من البعداء
والأقرباء لا بد أن يقابله استثارة الهمم والعزائم وفتح الأعين والآذان، وإصغاء
القلوب والعقول، والتفكير جدياً بما يجري، فالرئيس الفرنسي (ميتران) يناقش
موضوع تصاعد الموجة الأصولية الإسلامية في المنطقة وخطورتها على استقرار
دول المنطقة عموماً فهل هناك تدخل في شؤون الآخرين أشد من هذا، وهل هناك
أسوأ من تصوير المسلمين بأنهم (برابرة متوحشين) خطرين على استقرار
المنطقة! ؟ وهل المنطقة مستقرة بالأحزاب العلمانية والدكتاتورية العسكرية؟ !
ألا يحق لنا أن نصرخ بها والمنطقة العربية تعيش من عشرات السنين في
دوامة القهر والتخلف والحروب الأهلية الطاحنة: لماذا هذه المنطقة بالذات يجب أن
تعيش الاستبداد والفقر والتفرقة، ويتسلط عليها العساكر إرضاء لأعداء الله وتمسكاً
بالسلطة، وتحطيماً لقدرات الشعب ونفسياته، كيف يُسخَّر هؤلاء لهذه المهمة القذرة، وكيف تربوا على هذه النفسية اللا إنسانية، ألا تستحق ظاهرة الجيوش هذه أن
تدرس، ولماذا يخالفون أوامر الله ولا يشعرون بالمسؤولية قبل أن يضربوا إخوانهم
المسلمين، أم أنهم كما صرحت مندوبة الولايات المتحدة في هيئة الأمم المتحدة
عندما سئلت عن سبب دعم بلادها لأنظمة قمعية، فأجابت: (صحيح إنهم
دكتاتوريون ولكنهم ديكتاتوريونا) [1] .
ألا يحق لنا أن نقولها ونحن نسمع أن أقصى أماني الوفد الفلسطيني إلى ما
يسمى مؤتمر السلام هو أن يعترف به الوفد اليهودي ويجلس معه على طاولة واحدة، ويهاجر إلى إسرائيل 25 ألف طبيب و 112 ألف مهندس و 12 ألف عالم
وباحث و 170 ألف أكاديمي، ونحن في البلاد العربية نهجّر العلماء والباحثين إلى
أوربا وأمريكا، أو يقبعون في زوايا النسيان في أوطانهم، كل هذا بسبب مخالفة في
الرأي.
لماذا يسمح في الغرب لأحزاب تتسمى باسم (النصرانية) أن تحكم وفي البلاد
العربية (لا) ، وإسرائيل تقوم على أسس دينية وغيرها ممنوع، ولماذا يسمح
(للكرواتيين) بالاستقلال عن الصرب والمسلمون في (البوسنة والهرسك) غير
مسموح لهم، بل أن أوربا تساعد الصرب على ضربهم؟ !
ونحن في هذه الحالة المؤسفة نرى أن بعض المشايخ والدعاة يتباكون على
موضوع تغطية المرأة وجهها أو موضوع عدم (الاختلاط) ويعتبرون هذا من
التزمت، وكأن هذه مشكلة المسلمين الكبرى ولا يتكلمون عن الحريات التي تخنق،
والإسلام الذي يبعد، ولا على الشباب المسلم الذي يضيق عليه، لماذا يسكت هؤلاء
(الكبار) عندما يظلم إخوانهم، ويخرجون على الناس بأحاديث ومقالات يمدحون فيها
من ساعد على ظلمهم، أما الكتاب (الصحفيين) الذين يملأون الدنيا جعجعة حول
(فهمهم للإسلام) وأنهم مفكرون، هؤلاء لم نحس لهم صوتاً عندما يضرب الإسلام
في بلد من بلاد المسلمين.
إن حقوق المسلم أكبر بكثير مما نتصور، يقول علماء الفقه الإسلامي: لو
أنفقت الدولة خزينتها على فداء أسرى المسلمين من الكفار ما كان هذا كثيراً،
وعندما رجع المنصور بن أبي عامر من إحدى غزواته في شمال الأندلس قابلته
امرأة مسلمة على أبواب قرطبة وقالت له: إن ابني أسير عند النصارى ويجب
عليك أن تفديه أو تأتي به، فما دخل المنصور قرطبة ورجع بجيشه حتى فك هذا
الأسير، وليست كرامة المسلم فقط هي المحفوظة في الدول الإسلامية بل يتعداها
إلى حفظ كرامة كل مواطن، يقول ابن حزم في حق المواطنين من غير المسلمين
(أهل الذمة) : (إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب
علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لما هو في ذمة الله
تعالى وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد
الذمة) [2] .
فإذا كان هذا في الذمي فكيف بعلماء المسلمين الذين يهانون ويضربون والأمة
الإسلامية لا تفزع لهم ولا تنادي بأعلى صوتها للمفسدين والطغاة أن كفوا أيديكم عن
الدعاة والعلماء، ولكن الحقيقة أن المسلمين بمضيعة فلا دولة تهابهم ولا أحد يحسب
حسابهم، وذلك لما تفرقوا وتحزبوا وأكثروا من الكلام وأقلوا من الأفعال ولاذ كثير
ممن يشار إليهم بالبنان في ظل مؤسسات لا تريد للإسلام عزاً، ضعفاً منهم وإيثاراً
للدنيا، ولما لم يفقهوا سنن التغيير وكيف يصلون إلى درجة من المهابة في صدور
أعداء الله.
إن وقوف الغرب بقضه وقضيضه في وجه اختيار المسلمين لدينهم، وأن
يكون حاكماً لحياتهم لهي حرب ثانية خلال أقل من سنتين، وقد علق أحد ...
الدبلوماسيين العرب على ما وقع أخيراً قائلاً: (الغرب نفسه لا يقبل بذلك ...
(الديموقراطية بالمفهوم الغربي) لأنها تعني في الحد الأدنى شيئاً من السيادة سياسياً
واقتصادياً على الأقل وليس مسموحاً أن يكون - حتى اليوم - أي موقف عربي سيد
نفسه) [3] إذن القضية ليست مع نفر قليل من العبيد الذين باعوا أوطانهم في سبيل
الجاه والمال والشهوات وأهم شيء عندهم هو إمتاع أسيادهم بكثرة المذلة، ولكن
القضية هي أننا في صراع مع الغرب، وهذا بحاجة إلى إعداد طويل وبحاجة إلى
حشد وتكتُّل والتفاف حول قيادات إسلامية راشدة عندها علم بالمصالح والمفاسد
وترجيحها، ومعرفة بسنن الله في الكون، وعلم بواقع المسلمين والعالم، والسير
ضمن هذه المتغيرات الدولية السريعة. إن كل القيادات المخلصة مدعوة للالتقاء
والتحاور حتى يصل المسلمون إلى مرحلة يسمع لهم ويهاب جانبهم. فالغرب شديد
المكر ويملك قوة مادية هائلة. وما يسمى النظام العالمي الجديد إنما يطبق على
المنطقة العربية لا سواها، وليس صحيح أن العالم سيحكم من قطب واحد،
فالمتغيرات سريعة، والصراع الاقتصادي بين أمريكا واليابان أو بين أمريكا والكتلة
الأوربية بات واضحاً، ووصل الأمر برئيس وزراء اليابان أن يصرح بأن:
(الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى الصداقة والعطف في هذا الظرف الاقتصادي ...
السياسي العصيب) [4] . وقد أغاظ هذا التصريح الأمريكيين واعتبروه تعالياً عليهم
وقد هدد أحد مستشاري البيت الأبيض سابقاً بأنه (إذا قام تكتل شرقي (اليابان ومن
حولها) فسنطلق النار على رجليه) [5] ولا يزال المسلمون - ضمن هذه
المتغيرات - يملكون أوراقاً رابحة إذا أحسنوا التصرف.
وإننا لنتسائل أخيراً، هل الذين يقفزون إلى السلطة على ظهر دبابة أو عربة
مجنزرة، هل هم وطنيون فعلاً أم إنهم أداة رخيصة بيد غيرهم، والجواب يعرفه
أقل الناس دراية بالسياسة، فهذا الهدم للأوطان وهذا التخريب الثقافي والاقتصادي
والاجتماعي لا يمكن أن يقوم به وطني فضلاً عن أن يقوم به مسلم يؤمن بالإسلام
ديناً مهيمناً. وإن إبعادهم للإسلام بحد ذاته دليل على الخيانة، لأن الإسلام هو
هوية هذه الأمة وهو مصدر عطائها وهو كل شيء.
__________
(1) الحياة 25/1/92.
(2) د عبد الكريم زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية ص 69.
(3) الشراع 20/2/92.
(4) الأسبوع العربي 27/1/92.
(5) الكفاح العربي 20/1/92.(49/4)
آية من كتاب الله
[ولا تَجَسَّسُوا..]
الشيخ: عبد الله بن حسن القعود
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد أنزل الله القرآن الكريم هداية ورحمة وبياناً وحجة وذكراً وموعظة.
أنزله ليعرف الناس به ربهم، وليعبدوه تعالى العبادة الحقة التي خلقوا لها والتي
أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه. أنزله ليؤخذ كلاً لا بعضاً، ليؤخذ مُعتقداً وسلوكاً
وعبادة ومعاملة وتحاكماً بل خلقاً وآداباً. ولقد أنزل الله تعالى في هذا القرآن سورة
عظيمة المعنى كبيرة القدر تضمنت حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة
المترابطة المتشادة فيما بينها [أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ..] .
تلكم سورة الحجرات المسماة بسورة الآداب والتي رغم قصرها النسبي نودي
المؤمنون فيها بخمس نداءات، نودوا فيها بأطيب الأسماء والأوصاف وأحبها إلى
مسامعهم وأقواها لمساً لمشاعرهم واستجابة لقلوبهم، نداءات تستحق أن تصيخ لها
الآذان وأن تعقلها القلوب وأن تتحرك بمقتضاها الجوارح حسبة لله سبحانه وسيراً
على منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول الله سبحانه وتعالى [يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِه] [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا..] .
ولنأخذ في هذه العجالة التذكير بثلاث موضوعات أو ثلاثة آداب. آداب
عظمى تلزم للمسلمين جميعاً جماعات وأفراداً مسئولين أو غير مسئولين ولا سيما
في مثل هذا العصر الذي اختلط حابله بنابله، ثلاثة مما تلا هذه النداءات الخمسة
من أوامر أو نواهٍ، فما من نداء مثل هذا إلا ويتلوه أمر بخير أو نهي عن شر كما
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
أول هذه الأمور ما تضمنه قوله سبحانه: [إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا..]
أي تثبتوا في خبره، محصوه تمحيصاً بحق وعدل لئلا يكون كاذباً أو مخطئاً
فيجركم ذلك إلى أن تصيبوا قوماً بجهالة. قوماً هنا نكرة تعم الذكر والأنثى والصالح
والطالح عدلاً بين الناس وإحساناً إليهم وإحتراماً لدمائهم وأموالهم وأعراضهم،
فتصبحوا على ما فعلتم من اعتماد على قبول خبر الفاسق فيهم نادمين معرضين
للوعيد في قول الله سبحانه: [والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً] . فليتق الله المسلم ولا سيما المسئول وليأخذ بهذه
الآداب (فتبينوا) ليتق الله من مطيته في النَّيل من الأبرار روايات وأخبار الفجار
وليتذكر أن الإنسان كما يدين يدان - أي يجازى بمثل عمله.
ثاني هذه الأمور وثالثها ما تضمنه قوله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا..] والظن الذي أمرنا هنا
باجتنابه هو بمعنى التهمة التي لا يعرف لها أمارات صحيحة ولا أسباب ظاهرة ولا
سيما إن كان المظنون به من أهل الأمانة ظاهراً والستر والصلاح وهو أي الظن
بهذا الاعتبار حرام لقول سبحانه: [اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ]
وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) .
ويشتد تحريمه ويعظم إثمة إذا جرّ الظان للتجسس على المظنون به التجسس
الذي نهينا عنه بقول الله سبحانه: [ولا تَجَسَّسُوا] وقول رسوله - صلى الله عليه
وسلم - (لا تجسسوا ولا تحسسوا) أي لا يبحث أحدكم عن عيوب وعورات أخيه.
يروى عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا
المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله
عورته يفضحه في بيته) . وفي كتاب أبي داود عن معاوية -رضي الله عنه -
قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنك إن اتبعت
عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) .
وكفى هذه الفعلة قبحاً أن صاحبها كالذباب لا يكاد يقع إلا على المستقذرات
والمنتنات والمستقبحات ذوقاً وعرفاً بل وشرعاً.
وكما يشتد تحريم الظن السيء ويعظم إثمه إذا جر الظان للتجسس على
المظنون به فإنه يشتد ويعظم ويقبح أكثر وأكثر إذا أدى إلى نقل الظان عن المظنون
للغير قولاً أو فعلاً أو أمر يشينه ولا سيما عند من بيده حول أو طول من الناس
لارتكاب جريمة عظمى وداهية كبرى، جريمة وداهية النميمة المعرّفة من العلماء
أنها نقل كلام شخص لآخر على وجه التحريش والإفساد وأنها محرمة بإجماع أهل
العلم لما جاء فيها من نصوص ولما فيها من إفساد وفساد.
ولا جرم، فلكم جرت من ويلات وأفسدت من صلات وكشفت من عورات.
كم بذرت وتبذر من بذور للشحناء وأرست من قواعد للعداوة والبغضاء. كم خربت
من بيوت عامرة وفرقت بين أسر مجتمعة وأزهقت من أرواح بريئة، ودرءاً
لفسادها عن الأمة وحماية للأسرة المسلمة من آثارها جاءت نصوص الكتاب والسنة
بتهديد ووعيد مرتكبيها ومستقبليها بقوله سبحانه [ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ *
هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ] ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة
نمام) [متفق عليه] . وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال (مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) [متفق عليه] . فاتقوا الله إخوة الإسلام واحذروا داء النميمة والوشاية الداء العضال المفرق
بين الأحبة الباغي للبرآء العيب. احذروه فإن إثمه كما سمعتم آنفاً مركب من عدة
آثام. إثم الظن السيء أولاً ثم إثم التجسس ثانياً ثم إثم النقل ثالثاً. وإن تلاها الرابع
وهو أخذ الأجر على ذلك كانت طامته، لأخذه الأجر على إفساد ذات البين التي أمر
الله أن تصلح يقول سبحانه: [وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ..] والذي لا يقل حرمة عن
حلوان الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب، رحماك اللهم يا رب! ولا حول ولا قوة
إلا بك نستغفرك اللهم ونتوب إليك.(49/9)
الحركة الإسلامية
بين العاطفة والمنهج
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
شهدت العقود الأخيرة انتشاراً واسعاً للإسلام خاصة بعد سقوط الأقنعة،
وإفلاس منطق الزيف، وتهافت الشعارات النفعية التي جرّت الأمة من نكسة إلى
أخرى. وانخرط في صفوف الحركة الإسلامية عدد كبير من الناس على شتى
المستويات العلمية والثقافية، وظهرت آثار الصحوة المباركة في كل مكان بحمد الله
وفضله.
وبدأ هذا المد يتنامى بصورة مذهلة ونجحت الحركة الإسلامية في كسب
الشعوب وتحريكها لتبني الراية الإسلامية.. ولكن ماذا بعد ذلك..؟ ! هل
استطاعت الحركة الإسلامية احتواء هذه الألوف من المنتمين إليها؟ ! هل
استطاعت أن تنتقل بهم من المرحلة العاطفية إلى مرحلة أكثر نضوجاً وعمقاً؟ !
هل قدمت المناهج الشرعية، والبرامج العلمية لتربية هذه الأجيال؟ !
للأسف الشديد استطاعت الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي أن تنتج رجالاً صالحين في أنفسهم ... لكنها لم تنجح النجاح الذي نتطلع إليه في إنتاج رجال ناضجين عاملين، يسعون بكل عزة لإنقاذ الأمة من كبوتها.
ولا شك في أن الشعوب في منطقتنا الإسلامية محبة للإسلام بفطرتها، وتستجيب استجابة عاطفية سريعة للنداءات المخلصة من رجالات الدعوة. لكن العاطفة وحدها لا يمكن أن تبني الأمم أو تحرر الشعوب. وإن اعتماد الحركة الإسلامية على عاطفة الجماهير وحدها سوف يؤدي مع مرور الوقت إلى ضمور هذه العاطفة وتآكلها، حتى إذا أردناها لم نجدها ... ! ! ولعل في تاريخ الحركة
الإسلامية المعاصرة ما يؤكد ذلك.
إذا فالعاطفة هي بداية الطريق وليست نهايته.. العاطفة الإسلامية هي
المنطلق الذي تنطلق منه الدعوات ... ثم يتبع ذلك عملية أكثر تعقيداً وصعوبة،
وأكثر أهمية وخطورة. وهي مرحلة التربية والإعداد.. مرحلة بلورة الفكر
المنهجي لأبناء المسلمين بعيداً عن العشوائية والارتجال، وبعيداً عن التقليد لشيخ أو
العبودية لحزب ... مرحلة ترشيد هذه النفوس المؤمنة بخطط علمية مدروسة،
ومناهج شرعيه مؤصلة، تقودهم إلى فهم واع موضوعي بأصول الإسلام ومنابعه
الكريمة، مبرأة من الآراء والتصورات البشرية، وخالية من الفلسفات والنحل
المادية، وتقدم لها أيضاً رؤية واضحة ناضجة لواقع الأمة الإسلامية بخلفياته
السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسبيل النهوض بها.
من مشكلة الصحوة الإسلامية أنها لا تتحرك وفق استراتيجيات ثابتة ومحكمة، تستشرف فيها آفاق المستقبل. بل لا زالت تنطلق بوحي من الخطب الحماسية
والأطروحات الوعظية ... ولا تتجاوزها إلى غيرها. وأنا لا أنكر أهمية ذلك..
لكن لا يجوز الاقتصار عليها، لأنها سوف تولد مع مرور الوقت أجيالاً هشة، ليس
لها القدرة على الوقوف أمام الشبهات والفتن التي تحيط بها من كل جانب، خاصة
في العصر الذي اختلطت فيه الثقافات، وكشر الأعداء فيه عن أنيابهم.
ليس ضعف أمتنا بسبب قلة عددنا، ولكن بسبب الغثائية التي أنهكتها
وأصبحت تخدعنا عند الأزمات. وصدق في حقنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) . وكما قال الشاعر:
يُثقلون الأرض من كثرتهم ... ثمَّ لا يُغنون في أمر جلل
إن ضعفنا بسبب التمزق الفكري والعبث المنهجي الذي نتخبط فيه، حتى
أصبحت معالم هويتنا هلامية باهتة في كثير من جوانبها لا نكاد نميزها على
الإطلاق.
وإن غياب المنهج الشرعي الأصيل، وفقدان الضوابط العلمية، واضطراب
المقاييس الشرعية؛ تؤدي حتماً إلى خلل فكري يحول طاقاتنا إلى طاقات مبعثرة
هزيلة، تنتهي بالأمة إلى الحيرة والقلق. والنجاح الحقيقي - الذي تشرئب له
الأعناق، وتتطلع له الأفئدة - مستحيل بدون بذل غاية الجهد لتأصيل العقلية
المسلمة تأصيلاً علمياً متكاملاً، لترتفع بهمومها وتطلعاتها إلى مستوى المرحلة التي
تعيشها الأمة. والحركة الإسلامية بشتى فصائلها مطالبة بأن تجعل ذلك من أولويات
البناء الذي تقوم به. ومعلوم أن هذا لن يتم في يوم وليلة، كما أن رجلاً واحداً لن
يستطيع القيام به وحده. بل يحتاج الأمر إلى جهود علمية كبيرة، ودراسات تربوية
مستفيضة.
والمسؤولون عن الصحوة الإسلامية ليسوا أفراداً مهما بلغت منازلهم، فدين
الله ليس حكراً على أحد، ولكنه بعث عام يساهم فيه جميع المؤمنين، وكل واحد
منا له قيمته في دفع عجلة المسيرة الإسلامية، لكنه يكتسب قيمته الحقيقية حينما
يسخر كل ملكاته وقدراته في خدمة مبدئه، ويفجر كل الإمكانات الكامنة في نفسه
ليطوعها في مجالات الإبداع والعطاء لخدمة هذا الدين الحنيف.
علينا أن نفكر في أنفسنا جيداً، وسوف نجد أننا بقليل من الحزم، وقليل من
الطموح، وكثير من الإخلاص، نستطيع أن ننجز أعمالاً عظيمة ما كنا نتوقعها.
والمهم أن نبدأ.. أن نبدأ بروح واثقة وعزيمة صادقة، وسوف نكتشف في أنفسنا
أشياء كثيرة لم نكن نعرفها. وسنخطيء كثيراً، لكننا سنستفيد من أخطائنا، وعندها
نجد أن الأبواب بدت مشرعة أمامنا تدعونا لمزيد من البذل والتضحية..
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] .(49/13)
التوسط في مسالك الدعوة والإصلاح
الشيخ: إسماعيل بن سعد بن عتيق
إن مما يدور على الألسن، ويتكرر على الأسماع قضية التجديد والإصلاح؛
فمن قائل بشموليته من القاعدة إلى الذروة، ومن قائل بتخصص جانب من جوانب
الإصلاح، ومن مقتصر فلا هذا ولا ذلك وهذا قد أنسانا نفسه إذ نسي.
أما الأولون فقد راموا الكمال فعجزوا، فكانت وصمة الإحباط إذ عجزوا عن
المنال، وتقاصروا دون الكمال. وأما الآخرون فقد كرسوا جهدهم بما يمتلكون.
وآزروا الدعوة بما يستطيعون، مستنيرين بقوله تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]
وقوله تعالى: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ... ] .
بقي أن نتسائل عن المنطلقات والقواعد وأسس العمل الإسلامي فمتى اتفقت
الجهات وتنوعت الأساليب لتحقيق الغاية وهي العبودية لله -عز وجل- فهذا منطلق
التوحيد وقاعدة الإسلام. أما إذا حصل اختلاف في المنطلقات والقواعد والأسس
فمن هنا يكون التشاجر والنزاع والخلاف كما حصل بين الأنبياء وأممهم، فإن قاعدة
الأنبياء ومنطلقاتهم هي إفراد الله بأنواع العبادة مما دل عليه صريح القرآن والسنة
لقوله تعالى: [قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا
شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] .
وبحكم تقارب المسافات وتلاحم الشعوب على مصالحها المادية والاجتماعية
فقد تقاربت الأفكار أو كادت، مما جعل ظاهرة الحوار والجدل والمناقشات في أمور
الدعوة أمراً يتطلبه توحيد الاتجاه والعبودية لله رب العالمين، ولا يزال هذا الحوار
في طور التكوين وذلك بوسائل الإعلام من نشرات ومجلات وكتب واتصالات وبعقد
المؤتمرات والندوات واللقاءات الرسمية والشعبية، وهذا يبشر بخير متى صفت
النية وحسن القصد. وإن الفأل المعقود بوجود فئة مؤمنة تناست الألقاب والرتب
المركزية متمثلة بقوله تعالى: [قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى]
ولكن هل هذه الفئة محل ثقة وأمانة وصدق وإخلاص لدى الكثير من الناس مما
يجعل تولهم محل عناية وقبول. هذا ما يجب أن يكون.
وقد يستوضح سائل عن إجمال ما ذكرته من مخالف لقاعدة الإسلام ومنطلقه
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فنقول: قد ذهب فئة من الناس إلى أن
إصلاح القمة هو سبيل تحقيق الغاية والعبودية لله -عز وجل-، فكانت صناعتهم
السياسية وإرادة الحكم من غير تحقيق لمعنى العبودية لله -عز وجل-. ومن قائل
بأن الإسلام يقوم على القواعد الشعبية ولا بد من إصلاح الفرد في سلوكياته وأخلاقه
ومعاملاته فكان الجهد بدل الجهاد وكان التنسك الفردي هو غاية ما يستطيعونه وكلا
الفئتين على طرفين يتوسطهما منهج السلف الصالح في تحقيق العبودية لله بإصلاح
المعتقد ونبذ كل خرافة وبدعة، بجانب التنسك والعبادة ومحاولة إقامة حكم الله
وتنفيذ شرعه بالطرق المشروعة، وبهذا تكون شمولية الإسلام وتحقيق قاعدة: لا
إله إلا الله محمد رسول الله.(49/17)
تربية
أسس تقويم المنهج
عبد العزيز صادق
أهمية التقويم:
يعتبر التقويم جزءاً أساسياً بالنسبة للمنهج حيث أن المنهج بمفهومه الشامل
يتضمن ثلاثة جوانب رئيسية:
أولاً: تحديد الأهداف التربوية.
ثانياً: وضع الخطط والبرامج اللازمة لتحقيق هذه الأهداف عن طريق اختيار
الطرق والأساليب المختلفة.
ثالثاً: عملية تقويم نتائج العملية التربوية بكافة أبعادها.
ومن ذلك يتبين كيف أن التقويم يعتبر جزءاً أساسياً في العملية التربوية. فهو
يتأثر بالمنهج ويؤثر فيه.
فهو يتأثر بالمنهج على النحو التالي:
إذا كان المنهج يركز على البيئة أو المجتمع فإن عملية التقويم تنصب على
دراسة التلاميذ للبيئة ومصادرها وطرق استغلالها. هل أتيحت الفرصة لهم للقيام
بالرحلات التعليمية والزيارات الميدانية؟ هل تكونت لدى التلاميذ بعض المفاهيم
التي تسخر لخدمة المجتمع؟ هل أحس التلاميذ بالمشاكل العامة للمجتمع؟ وهل
قاموا بالدراسات اللازمة للتغلب على هذه المشاكل؟
ومن هذا يتضح لنا أن عمليه التقويم تتأثر بمفهوم المنهج.
ومن ناحية أخرى فإن التقويم بدوره لا بد وأن يؤثر في المنهج وفي العملية
التربوية:
* فالتقويم الناجح هو الذي يؤدي إلى تغيير بعض الأهداف التربوية وتعديل
بعض الأهداف الأخرى.
* وهو الذي يؤدي أيضاً إلى تغيير في الطرق والوسائل والأساليب التي تتبع.
* والتقويم الناجح هو الذي يلقي الضوء على الصعاب والمشكلات التي تواجه ... عند القيام بعملية التربية، كما يلقي الضوء على جوانب القوة والضعف فيها ... بحيث يؤدي ذلك في النهاية إلى تدعيم جوانب القوة ومعالجة جوانب الضعف، ... وبذلك يكون التقويم أداة هامة من أدوات تطوير المنهج. وهذا الجانب بالذات يغفل ... عنه الكثيرون. ...
مفهوم التقويم:
التقويم هو العملية التي يقوم بها الفرد أو الجماعة لمعرفة مدى النجاح أو
الفشل في تحقيق الأهداف العامة التي يتضمنها المنهج وكذلك نقاط القوة أو الضعف
في المنهج حتى يمكن تحقيق الأهداف المرجوة بأحسن صورة ممكنة.
فالتقويم ليس فقط تشخيصاً للواقع بل هو أيضاً علاج لما به من عيوب. إذ لا
يكفي أن نحدد أوجه القصور في المنهج وإنما يجب العمل على تلافيها والتغلب
عليها حتى لا تتكرر الأخطاء. وبذلك يكون الأداء في كل مرة أفضل من المرات
السابقة.
مجالات التقويم:
المفهوم القاصر للتقويم هو الذي ينصب على نقطة واحدة وهي مدى استيعاب
التلميذ للمعلومات. ووسيلة هذا التقويم هي مجموعة من الاختبارات المتنوعة التي
تقيس تحصيل التلميذ في هذه المعلومات.
أما المفهوم الصحيح للتقويم فهو ذلك الذي يركز على جميع جوانب النمو لدى
التلميذ. كما يتعرض لجميع جوانب العملية التربوية والعوامل المؤثرة فيها. فهو
بذلك يمتد إلى الأهداف التربوية، المنهج (المقررات، الكتب، الطرق، الوسائل،
الأنشطة، الامتحانات) ، التلميذ، المعلم، التوجيه الإداري، أماكن الدراسة.. الخ.
أسس التقويم:
لا بد أن يقوم التقويم على الأسس التالية:
1-الشمول.
2- الاستمرارية.
3- التعاون.
4- التناسق مع الأهداف.
5- أن يبنى على أساس علمي.
أولاً - الشمول:
يعتبر التقويم شاملاً إذا انصب على جميع الجوانب. فإذا أردنا أن نقوم أثر
المنهج على التلميذ فلا بد أن نقوم مدى نمو التلميذ في كافة الجوانب وهي:
- الجانب العقلي ويتضمن القدرة على الاستيعاب وتفتح مداركه.
- الجانب الشرعي.
- الجانب الثقافي العام ومعرفة الواقع.
- الجانب الاجتماعي وعلاقاته المختلفة مع الآخرين.
-الجانب القيادي.
- الجانب الانفعالي.
-الانضباط.
- الاهتمام بالآخرين.
- الحماس والغيرة.
- الجانب البدني.
إلى غير ذلك من الجوانب المختلفة.
والتقويم الشامل للمنهج يجب أن ينصب على النقاط التالية:
-أهداف المنهج.
-البرامج الدراسية.
- المقررات الدراسية.
- طرق التدريس.
- الكتب الدراسية.
- الوسائل التعليمية.
- الأنشطة التربوية.
- أساليب ووسائل التقويم نفسها.
والتقويم الشامل لا بد أن يتعرض للمعلم أيضاً. فلا بد من التعرض للنقاط
التالية:
- إعداده.
- تدريبه.
- شخصيته.
- مادته العلمية.
- طريقة تدريسه.
- طريقة تقويمه للتلميذ.
- علاقته بالإدارة.
- علاقته بزملائه المدرسين.
- علاقته بالتلاميذ.
فسواء انصب التقويم على المعلم أو التلميذ أو على المنهج فلا بد أن ينصب
على جميع الجوانب في كل مجال من هذه المجالات.
وتطبيق هذا المبدأ لا شك أنه أمر صعب يتطلب قدرة عالية من الشخص الذي
يقوم بالتقويم.
ثانياً - الاستمرارية:
لا بد أن تستمر عملية التقويم مع مدة الدراسة وذلك يعني أن التقويم يجب أن
يسير جنباً إلى جنب مع التربية. وبالتالي فإن عملية التقويم التي تجري في صورة
امتحانات في آخر العام الدراسي فقط هي عملية غير سليمة فيها إخلال بهذا الأساس.
وحيث إن عملية التقويم تهدف إلى التشخيص والعلاج فمن الواجب إذا أن تبدأ
عملية التقويم مع بداية العام الدراسي حتى يمكن تحديد نواحي الضعف ونواحي
القوة في جميع الجوانب وحتى يمكن ملاحظة وتتبع عمليات النمو على مدار العام
وبالتالي يكون هناك متسع من الوقت للعمل على تلافي نواحي الضعف والتغلب
على الصعوبات. وملاحظة التلميذ لمعرفة سلوكه ومشكلاته واتجاهاته لا تتم من
مرة واحدة وإنما يجب أن تستمر الملاحظة لفترة طويلة حتى تكون النتائج صادقة.
أما التقويم الذي يتم في فترات محدودة في آخر العام أو في خلال العام ولكن
على مرات قليلة جداً فلا يمكن أن تؤدي إلى عملية تشخيص سليمة.
وحتى لو توصلنا إلى تشخيص صحيح فإن الوقت قد يكون متأخراً لتحسين
الوضع وتفادي الأخطاء.
أما إذا كانت عملية التقويم مستمرة مع فترة الدراسة فإن ذلك يساعد على
التالي:
- تغطية جميع الجوانب المراد تقويمها.
- تحديد نقاط القوة أو الضعف (عملية تشخيص) .
- الكشف عن المعوقات والمصاعب.
- علاج نقاط الضعف وتدعيم نقاط القوة (عملية علاج) أولاً بأول.
- إتاحة الفرصة لاستعمال الوسيلة أكثر من مرة لكي يتم التوصل إلى نتائج
ثابتة (صدق النتائج) .
- إتاحة الفرص لإشراك عدد كبير من الأفراد في عملية التقويم.
وهكذا تتيح استمرارية التقويم الفرصة لتدعيم الأسس الأخرى التي تبنى عليها
عملية التقويم مثل الشمول، التنوع، الثبات، التعاون.
ثالثاً- التعاون:
يجب أن يكون التقويم تعاونياً أي يقوم به مجموعة من الأفراد. فمفهوم المنهج
هو مجموعة الخبرات المربية التي تهيأ للتلميذ بقصد مساعدته على النمو الشامل
وبالتالي فإن لقويم التلميذ في ظل هذا المفهوم يتطلب استخدام مجموعة من الوسائل
المتنوعة كما يتطلب مجموعة من الأفراد كل في مجال تخصصه وذلك لمعرفة مدى
نمو التلميذ في جميع الجوانب. ومن هنا أخذ التقويم طابعه الجماعي والتعاوني.
إذا أردنا أن نقوّم تلميذاً بهذا المفهوم فلا بد أن يشترك في تقويمه:
-المعلم.
- الإدارة.
- بقية التلاميذ.
- التلميذ نفسه.
وإذا أردنا أن نقوم المعلم فلا بد أن يشترك في ذلك:
- المدير.
- بقية المعلمين.
- التلاميذ.
وإذا أردنا أن نقوم الكتاب المدرسي بهذا المفهوم فلا بد أن يشترك كل من:
- المعلمين.
- الموجهين.
- رجال التربية.
- التلاميذ.
وهكذا نجد أن عملية التقويم تأخذ طابعاً جماعياً يقوم بها العديد من الأفراد فلا
ينبغي أن يعتمد على تقويم فرد واحد مهما بلغ من العلم والكفاءة.
رابعاً - التناسق مع الأهداف:
لا بد أن يكون التقويم متمشياً مع المنهج وأهدافه فلا ينبغي الخروج عن
الأهداف أو التناقض معها.
فإذا كان المنهج يهدف إلى تكوين الشخصية التي تعمل على تطوير نفسها
وتساهم مساهمة فعالة في تطوير المجتمع الذي تعيش فيه فإن عملية التقويم في هذه
الحالة عليها ان تكشف لنا عن الجوانب التالية:
- هل تكوّن لدى الشخص اتجاه سليم يقود إلى التغيير؟
- هل اكتسب الشخص القدرة على الربط بين الأحداث ومن ثم الحكم عليها؟
- هل اهتم المنهج بتنمية القدرة على الابتكار والإبداع؟
- هل أتيحت للشخص الفرصة لممارسة النقد الهادف البناء؟
- هل اتيحت له الفرص لحل المشكلات بأسلوب علمي؟
- هل هناك اهتمام فعلي للتحصيل والرغبة في الاستزادة؟
- هل تكونت لديه عادة القراءة وحب الاطلاع المستمر الذي يعتبر نواة للتعلم
الذاتي والتعلم المستمر؟
فاذا انصبت عملية التقويم على كل هذه الجوانب الموضوعة في صورة أسئلة، كل سؤال يفتح مجالاً معيناً، فمعنى ذلك أن عملية التقويم تتمشى مع مفهوم المنهج
وأهدافه. ولا ينبغي أن نركز على جانب معين في التقويم ونغفل باقي الأهداف.
خامساً - أن يبنى التقويم على أساس علمي:
الأسلوب العلمي في التقويم أساس من الأسس الهامة جداً وأهم خصائص
الاسلوب العلمي هي:
- الصدق.
- الثبات.
- الموضوعية.
- التنوع.
- التمييز.
-التخطيط.
- مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ.
وهذه العناصر ترتكز على الوسائل التي يتبعها التقويم، ومن ثم فإنها تنعكس
على التقويم ذاته. وسنتكلم في العدد القادم عن هذه العناصر ببعض التفصيل.
(يتبع)(49/19)
القواعد الفقهية
(2)
عبد العزيز الحويطان
لمحة تاريخية عن نشأة القواعد الفقهية:
يمكن أن نقسم تاريخ نشأة وتدوين القواعد الفقهية إلى ثلاثة أقسام هي: نشأة
القواعد، وتدوينها، وتنسيقها.
طور النشأة
النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق من نطق بالضاد، وقد أوتي جوامع
الكلم، ولذا كان كلامه - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحاديث عبارة عن
قواعد فقهية باقية إلى قيام الساعة، انظر مثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جرحها جبار) [1] أو قوله (لا ضرر ولا ضرار) [2] أو قوله: (البينة ...
على المدعي واليمين على من أنكر) [3] أو قوله (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى
بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم) [4] أو قوله: (ما أسكر كثيره فقليله
حرام) [5] وكثير كثير من الأحاديث التي هي قواعد ثابتة تجمع فروعاً شتى في أبواب الفقه.
كما أن لبعض الصحابة كلاماً منظوماً بمثابة قواعد فقهية، مثل قول عمر -
رضي الله عنه-: (مقاطع الحقوق عند الشروط) [6] وقول ابن عباس: (كل
شيء في القرآن أو، أو فهو مخير، وكل شيء) فإن لم تجدوا (فهو الأوَّل
فالأول) [7] .
كذلك أثر كلام عن التابعين بمثابة قواعد في أبواب الفقه، انظر مثلاً إلى قول
شريح (76 هـ) : (من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه) [8] أو قوله:
(من ضمن مالاً فله ربحه) [9] وهو يماثل القاعدة (الخراج بالضمان) .
ومن التابعين أيضاً خير بن نعيم فقد روي عنه الليث بن سعد المقولة التي
كانت قاعدة فقهية فيما بعد: (من أقر عندنا بشيء ألزمناه إياه) [10] .
وإذا نظرنا إلى كتب التابعين وجدناها مليئة بالأقوال العامة التي تأتي على
نسق القواعد الفقهية، ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث هو (كتاب
الخراج) لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (182 هـ) . ففيه عبارات تتسم بسمات
وشارات تتسق بموضوع القواعد منها:
1- التعزير إلى الإمام على قدر عظم الجرم وصغره [11] .
2- كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال [12] .
3- ليس للإمام أن يخرج شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف [13] وهذا
نظير القاعدة المشهورة (القديم يترك على قدمه) .
4- ليس لأحد أن يحدث مرجأ في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا
مزرعة، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يحدث ذلك كله [14] . وهذا نظير القاعدة
(لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذنه) .
5- لا ينبغي لأحد أن يحدث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرهم، ولا
يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم، ولا يسعه ذلك [15] والشطر
الأول يتعلق بقواعد رفع الضرر كما سيأتي والثاني يتعلق بالقاعد: (التصرف على
الرعية منوط بالمصلحة) .
إذاً نستطيع أن نقول أن القواعد كانت موجودة آنذاك ولكنها كانت متناثرة لا
تعرف بأنها قواعد، تأتي عفوية من العلماء، ولا شك أن هذا أدى إلى أن تكون هذه
المقولات مصدر إنطلاق للمتأخرين في هذا المجال.
طور التدوين:
لم تظهر القواعد الفقهية كعلم مستقل إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك أنه
لما اضمحل الاجتهاد وظهر التقليد بدأ كل أناس بدراسة مذهبهم، واستخراج الفنون
من أمثال: الفروق والحيل والألغاز والقواعد الفقهية.
وما يشهد له التاريخ أن فقهاء المذهب الحنفي كانوا أسبق من غيرهم في هذا
المضمار ولعل ذلك يرجع لتوسعهم في الفروع [16] .
أما أقدم نص وصل إلينا في تدوين القواعد الفقهية كعلم، ما ذكره العلائي
الشافعي والسيوطي وابن نجيم في كتبهم عن القواعد: (أن الإمام أبا طاهر الدباس
من فقهاء القرن الرابع الهجري، قد جمع أهم قواعد مذهب الإمام أبي حنيفة في
تسع عشرة قاعدة كلية، وكان أبو طاهر - رحمه الله - ضريراً يكرر كل ليلة تلك
القواعد بمسجده بعد انصراف الناس، وذكروا أن أبا سعد الهروي (488 هـ) -
شافعي - قد رحل إلى أبي طاهر، ونقل عنه بعض هذه القواعد، ومن جملتها
القواعد الأساسية المشهورة وهي:
1- الأمور بمقاصدها
2- اليقين لا يزول بالشك
3- المشقة تجلب التيسير
4- الضرر يزال
5- العادة محكمة [17] ، [18] .
ولعل الإمام الكرخي (340 هـ) قد اقتبس بعض القواعد من الإمام الدباس
وضمها إلى رسالته المشهورة التي تحتوي على سبع وثلاثين قاعدة، ولعلها أول
نواة للتأليف في هذا الفن [19] .
وجاء بعدهم الإمام أبو زيد الدبوسي (430 هـ) حيث ألف أول كتاباً في هذا
الفن وهو يمثل بداية هذا العلم من ناحية التدوين، واسم كتابه (تأسيس
النظر) [20] . وفي القرن السادس عشر لم يحفل بمؤلفات في هذا الفن ما عدا كتاب السمرقندي (540 هـ) وهو (أيضاً في القواعد) ، أما القرن السابع فقد برز فيه هذا العلم بشكل واضح وخرج فيه كم من المؤلفات منها كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام (660 هـ) .
أما القرن الثامن فيعتبر العصر الذهبي لتدوين القواعد الفقهية، ومن المؤلفات
التي خرجت في هذا القرن: الأشباه والنظائر لتاج الدين السبكي كذلك القواعد في
الفقه لابن رجب الحنبلي، والقواعد للمقري وغيرها كثير.
وفي القرن التاسع جدّت المؤلفات على المنهاج السابق مثل كتاب ابن عبد
الهادي (880 هـ) (القواعد والضوابط) .
وفي القرن العاشر رقي فيه التدوين بخروج مؤلفات العلامة السيوطي
(910 هـ) مثل الأشباه والنظائر، كذلك كتاب ابن نجيم (970 هـ) (الأشباه والنظائر الذي ألفه بعد انقطاع للحنفية عن التأليف دام قروناً [21] .
هذه لمحة عابرة عن مسار التأليف في هذا الفن منذ القرن الرابع إلى القرن
العاشر الهجري. لكن السؤال الحري بالإجابة: من قعد في هذه الفترة هل قلد من
سبقه؟ أم أنه أتى بجديد في هذا العلم؟
والإجابة على هذا السؤال أن نقول أن الاحتمالين واردان، فهناك بعض
العلماء نقح في هذه القواعد وزاد في دقتها وقلل من مستثنياتها، مثل الإمام النووي
(676 هـ) . وفي نظرة عاجلة على كتابه المجموع نجد أنه ذكر قواعد منها:
1- أصَّل الفروع الكثيرة بناء على القاعدة المشهورة (اليقين لا يزول
بالشك) [22] .
2- من القواعد الشهيرة (الأصل في الأبضاع التحريم) ذكر في فروع منها:
(إذا اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجز له وطء واحدة منهن بالاجتهاد بلا
خلاف، سواء كن محصورات أو غير محصورات لأن الأصل التحريم، والأبضاع
يحتاط لها، والاجتهاد خلاف الاحتياط) [23] .
3- أشار إلى قاعدة ترجيح المحرم على المبيح عند اجتماعهما في قوله: (إن
الأصول مقررة على أن كثرة الحرام واستواء الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه
في المنع كأخت أو زوجة اختلطت بأجنبية) [24] .
4- ما نقله عن الإمام الجويني: (أنه إذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع أولى) كما جاء في النص التالي: (من فاته صلاة في زمن الجنون والحيض فإنه لا
يقضي النوافل الراتبة التابعة للفرائض كما لا يقضي الفرائض ... لأن سقوط
القضاء عن المجنون رخصة مع إمكانه، فإذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع
أولى…) [25] .
كذلك الإمام ابن القيم، له جهد وباع في تنقيح ودقة بعض القواعد الفقهية،
وفي نظرة عاجلة على كتابيه (إعلام الموقعين) و (بدائع الفوائد) يلمس المرء
جهده الطيب في هذا المجال، من ذلك:
1- (إذا زال الُموجِب زال الُموجَب) ذكرها في فصل عنوانه (طهارة الخمر
باستحالتها توافق القياس) [26] .
2- (لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة) قال: (إن الرجل إذا لم يجد
خلف الصف من يقوم معه تعذر عليه الدخول في الصف، ووقف معه فذاً، صحت
صلاته للحاجة) [27] .
3- (إن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع،
كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر) ذكرها تحت فصل عنوانه:
إجارة الظئر توافق القياس [28] .
4- (المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف) [29] بناء على ذلك اتفقوا
على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه، كما إذا باع مخزناً له فيه متاع
كثير لا ينتقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة
واحدة [30] .
5- (إن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول، مثل التراب
في الطهارة والصوم في كفارة اليمين) [31] .
6- (ما حرّم سداً للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة) كما أبيح النظر للخاطب
والشاهد والطبيب من جملة النظر المحرم [32] .
بهذا يتضح أن عصر التدوين كان تنسيقاً لما سبق وكان فيه استنتاج لبعض
القواعد الفقهية بناء على دراسة الفروع المتشابهة.
مواد التنسيق:
علمنا فيما مضى أن القواعد الفقهية دارت في أول نشأتها على ألسنة المتقدمين
إلى أن جرى تدوينها واتضحت معالمها. لكن القواعد على الرغم من تلك الجهود
ظلت متفرقة ومبددة في مدونات مختلفة تضمنت تلك المدونات بعض الفنون الفقهية
الأخرى مثل الفروق والألغاز وأحياناً بعض القواعد الأصولية.
(ولم يستقر أمرها تمام الاستقرار إلى أن وضعت مجلة الأحكام العدلية على
أيدي لجنة من فحول الفقهاء في عهد السلطان عبد العزيز خان العثماني في أواخر
القرن الثالث عشر الهجري ليعمل به في المحاكم التي كانت تعمل آنذاك [33] .
(وقد وضعت القواعد في صدر المجلة، وهي قرابة مائة قاعدة، أخذت من
كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم ومجامع الحقايق للخادمي) [34] .
هذه لمحة سريعة عن تطور علم القواعد الفقهية عبر القرون الماضية.
ويلمس الإنسان عدة أمور أثناء تأمله في تاريخ القواعد الفقهية منها:
1- أن القواعد التي جاءت في كتب القواعد ليست كلها قواعد مذهبية.
2- أن بعضها اكتسب صياغة أدق وامتاز بالرصانة بعد المزاولة والمداولة.
ولنأخذ على ذلك مثالاً: القاعدة المشهورة في كون الإقرار إنما يلزم صاحبه المقر
ولا يسري حكمه على غيره، ترى نصها المتداول في كتب المتأخرين وفي المجلة
بعنوان (الإقرار حجة قاصرة) في حين أننا نجد هذه القاعدة عند الإمام الكرخي
بالنص التالي: (الأصل: أن المرء يعامل في حق نفسه كما أقر به، ولا يصدق على إبطال حق الغير، ولا بإلزام الغير حقاً) [35] .
ومثال آخر: القاعدة المشهورة (التصرف على الرعية منوط
بالمصلحة) [36] يوجد أصلها في كلام الشافعي -رحمه الله- بأن (منزلة الوالي من الرعية منزلة الولي من اليتيم) [37] ، ثم اشتهر هذا القول عند كثير من الفقهاء باعتباره قاعدة تحت عنوان: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) [38] .
هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؟
هذه المسألة حساسة ومهمة وعليها تنبني كثير من الأحكام، والراجح فيها -
والله أعلم- أنه لا يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي.
يقول الإمام الجويني في كتابه الغياثي بمناسبة إيراد قاعدتي الإباحة وبراءة الذمة:
(وغرضي بإيرادهما تنبيه القرائح.. ولست أقصد الاستدلال بهما) [39] .
ويقول ابن نجيم في هذه القضية: (إنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد
أو الضوابط، لأنها ليست كلية بل أغلبية) [40] .
أما العلامة على حيدر فيقول في شرح المجلة (فحكام الشرع ما لم يقفوا على
نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد) [41] .
إذاً وضع القاعدة كدليل شرعي الراجح أنه لا يصح وذلك أن القاعدة مستثناة
وصفتها عدم الشمول، ونحن مطالبون بأن نستدل بدليل ثابت صفته الشمول والدقة.
نعم لبعض القواعد صفة أخرى كأن تكون معبرة عن دليل أصولي أو كونها
حديثاً ثابتاً مستقلاً فهنا نستند إلى صفتها كأن تكون دليلاً قرآنياً أو سنة نبوية أو
قاعدة أصولية، والله أعلم.
__________
(1) اخرجه البخاري، كتاب الديات، باب: المعدن جبار والبئر جبار (6/ 2533) ترقيم البنا.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/57 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه مسلم 13/3 بشرح النووي، والترمذي كتاب الأحكام والبيهقي وابن عساكر، كما أخرجه الدارقطني.
(4) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب إيقاء المسلم من الكافر، والنسائي 8/18 وابن الحلبي.
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان، قال الترمذي: حسن غريب، قال ابن حجر: رواته ثقات وصححه الألباني.
(6) صحيح البخاري باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح وباب: الشروط في النكاح.
(7) رواه عبد الرزاق 4/395.
(8) صحيح البخاري بشرح الكرماني 12/55.
(9) أخبار القضاة 2/319.
(10) المصدر السابق 3/ 231.
(11) الخراخ لأبي يوسف ص 180.
(12) المصدر السابق ص 51.
(13) المصدر السابق ص 71.
(14) المصدر السابق ص 111.
(15) المصدر السابق ص 101.
(16) القواعد الفقهية ص 99.
(17) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 7 وكذلك الأشباه والنظائر لابن بجيم ص 10- 11.
(18) وقد نظم بعض الشافعية هذه القواعد الخمس الأساسية في بعض الأبيات:
خمس مقررة قواعد مذهب ... للشافعي فكن بهن خبيراً
ضرر يزال وعادة قد حكمت ... وكذا المشقة تجلب التيسيرا
والشك لا ترفع به متيقناً ... والقصد أخلص إن أردت أجورا.
(19) القواعد الفقهية ص 100، وبالمناسبة فإن الإمام الكرخي هو القائل: إن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح أو على التأويل من جهة التوفيق (شرح القواعد الفقهية للزرقا ص، 39) .
(20) القواعد الفقهية ص 101.
(21) انظر في هذا التسلسل التاريخي القواعد الفقهية (ص 101 - ص 103) .
(22) المجموع 1/246.
(23) المصدر السابق 1/237.
(24) المصدر السابق 1/237.
(25) المصدر السابق 1/433.
(26) إعلام الموقعين 2/ 14.
(27) المصدر السابق 2/48.
(28) المصدر السابق 2/34.
(29) أظن القاعدة بالعكس أي أن المستثنى بالعرف أقوى من المستثنى بالشرط.
(30) إعلام الموقعين 2/ 30.
(31) المصدر السابق 3/399.
(32) المصدر السابق 2/161.
(33) القواعد الفقهية ص 121.
(34) المصدر السابق ص 121.
(35) كلام الكرخي، انظر رسالة الكرخي ص 212.
(36) مجلة الأحكام العدلية 2/58.
(37) المنثور في القواعد ص 309.
(38) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 121.
(39) الغياثي ص 499.
(40) غمز عيون البصائر 1/17.
(41) درة الأحكام شرح مجلة الأحكام 1/10.(49/27)
خواطر في الدعوة
أزمتنا الأخلاقية
محمد العبدة
خلل كبير نعاني منه في حياتنا الإسلامية المعاصرة أيما معاناة، ذلك هو
النقص في الأخلاق الأساسية التي يجب أن تتوفر في كال مسلم، لأنها إن ضعفت
أو نقصت فلن تقوم للأمة قائمة. هذه الأخلاق كانت موجودة أو كثير منها عند
العرب عندما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة والهداية. كان
خلق الوفاء والصدق والشجاعة والتذمم للصديق والجار شائعاً، وكان العربي يجد
غضاضة في أن يوصم بالكذب أو الغدر، ولذلك لم يتعب الرسول - صلى الله عليه
وسلم - نفسه في تأديب هؤلاء وتربيتهم على هذه الأخلاق والدعوة إلى ممارستها،
فالإشارة منه لهذه الأخلاق كانت تكفي لأنها ارتبطت بالتوحيد الذي جاءهم به، وهو
الذي كان ينقصهم فلما تمثلوا به وأصبحت العبودية تامة لله سبحانه؛ كملت هداية
الفطرة وهداية الوحي فكانوا كما قال تعالى: [نُّورٌ عَلَى نُورٍ] .
وفي هذه الأيام ابتلى المسلمون وابتليت الدعوة بمن تجرد من هذه الأخلاق،
فالكذب - وهو من أسوأ الأخلاق الرديّة - يقع فيه هؤلاء سواء في أحاديثهم العادية
أم في تجريح إخوانهم من الدعاة، ولا أدري بم يعللون هذه الفعلة الشنيعة، هل
بمصلحة الدعوة! ؟ أما الحقيقة فهي أن معادنهم رخيصة، وليس عندهم أخلاق
الفطرة لأنها فسدت بسبب البيئة التي عاشوا فيها، ولا أخلاق الإسلام لأنهم تربوا
على الأنانية والحزبية الضيقة، ويتبع هذه الخصلة السيئة قلة الإنصاف في الحكم
على الآخرين، فالتهم تكال كيلاً دون أدنى تحرٍ للعدل والإنصاف، ويتناقل هذه
التهم المغفلون والسذج دون أي تحرج أو تأثم، فكيف تستقيم حياتنا الإسلامية وفينا
هذه الأخلاق، انظر إلى هذا الذي يقول عن إخوانه الذين يتصدون للظلم والقهر
والإرهاب السافر، يقول عنهم في لقائه مع رئيس مجلس الدولة: (جئنا لتهدئة
الأوضاع والخروج من الأزمة التي سالت فيها الدماء، فأصبح المقتول لا يعرف
لماذا قتل، والقاتل لا يعرف لماذا قتل) [1] .
أهكذا أيها الداعية؟ ! المقتول لا يعرف لماذا قتل؟ الذين يجاهدون الظلم
ويدفعون عن أنفسهم العدوان لا يعرفون لماذا يجاهدون؟ هل هذه أخلاق رجال،
هل الذي يشمت بما يفعل بإخوانه يملك الأخلاق الأساسية التي هي من مقومات
نهضة الأمة، وكان قد أظهر شماتته في أحداث سبقت وأيد نزول الجيش لإنهاء ما
سماه (الفتنة) .
إنها مصيبة والله أن يكون بعض من لا يتبنى الإسلام عنده من الجرأة
والرجولة أكثر من هذا الذي يملك نفساً أنانية ولا يريد إلا التسلق على حساب
مصائب إخوانه ولذلك نقول: إن أزمتنا في بعض جوانبها أزمة أخلاقية.
__________
(1) الحياة 10/2/1992.(49/36)
عالم وكتاب
إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام
للعلامة أبي الحسنات اللكنوي
عرض وتقديم: محمد عبد الله آل شاكر
- 1 -
لعلماء الهند المسلمين جهود رائعة وعناية مخلصة بعلوم الشريعة الإسلامية
بعامة وفي الحديث بخاصة. ومنذ أكثر من نصف قرن، قال السيد محمد رشيد
رضا، رحمه الله: ( ... ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق. فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز، منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر) .
ولئن بدأت علوم الحديث الشريف تأخذ مكانتها اللائقة في جامعاتنا اليوم:
دراسة وفهماً والتزاماً فإن الوفاء يقتضي أن نشير إلى جهود الرواد والسابقين الذين
كان لهم فضل في توجيه المسلمين إلى هذا الجانب، من خلال التعريف بعالم من
هؤلاء العلماء، ودراسة واحد من كتبه التي يجمع فيها بين الدراسة الحديثية
والفقهية، على طريقة كثير من علمائنا رحمهم الله وهذا العالم هو العلامة أبو
الحسنات اللكنوي (1264 - 1304 هـ) ، وكتابه هو (إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام) .
-2-
مما بين أفغانستان والهند، تنقلت أسرة اشتهرت بالعلم والعلماء والصلحاء،
واستقرت في مدينة (دهلي) . وكان منها: محمد بن عبد الحليم بن محمد أكبر بن
المفتي أحمد أبي الرّحم، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري -
رضي الله عنه-. وفي عام 1264 هـ، رزقه الله تعالى بولده (عبد الحي)
وكنيته (أبو الحسنات) واشتهر بلقب (اللكنوي) ، نسبة إلى مدينة (لَكْنَوْ) أو (لكهنو) .
ومنحه الله تعالى -منذ نشأته- قوة الحفظ، فحفظ القرآن الكريم وله من العمر
خمس سنوات، وكان يحفظ - كما يقول عن نفسه - جميع الوقائع التي تقع له
كالعيان. وتنقل بين عدد من البلاد في الهند مع أبيه الذي كان مدرساً في (باندا)
ثم انتقل إلى (جونفور) ، وفيها شرع في تحصيل العلم وعمره إحدى عشرة سنة
حتى فرغ من قراءة الكتب المدرسية في علوم كثيرة. وتابع تعليمه بعد وفاة والده،
ونال إجازات علمية كثيرة، وتصدر للتدريس ولازمه في (حيدر آباد) مدة من
الزمن. وكان شغوفاً بذلك منذ عنفوان الشباب، بل من زمن الصبا، فلم يقرأ كتاباً
إلا درسه فيما بعد، وجمع بين العلم والتعليم والتربية، وكتب له في تدريسه القبول
والرضى.
وقد بلغ أبو الحسنات مكانة في العلم والخلق ألهجت الألسنة عليه بالثناء،
يشير إلى ذلك ما قاله العلامة الكبير عبد الحي اللكنوي في كتابه (نزهة الخواطر) :
( ... تبحر في العلوم، وتحرى في نقل الأحكام، وحرر المسائل، وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكراه الركبان، بحيث أن، علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته.
وله في الأصول والفروع قوة كاملة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة
عامة. وفي حسن التعليم صناعة لا يقدر عليها غيره. وكان إذا اجتمع بأهل العلم،
وجرت المباحثة في فن من فنون العلم لا يتكلم قط، بل ينظر إليهم ساكتاً،
فيرجعون إليه بعد ذلك. فيتكلم بكلام يقبله الجميع، ويقنع به كل سامع. وكان هذا
دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه طيش ولا خفة في شيء كائناً ما كان. فقد كان
من عجائب الزمن، ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف
بفضله ليس فيه نزاع) .
والرجل الذي يبلغ هذه المنزلة يأنف من العصبية المقيتة والتبعية الذليلة، فلا
يرضى أن يقوده غيره - تقليداً أعمى - من حيث لا يبصر طريقه. فقد تفقه على
مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول - وهو المذهب المنتشر في تلك الأصقاع -
ولكنه كان غير متعصب في المذهب، ويتبع الدليل، ويترك التقليد إذا وجد في
المسألة نصاً صريحاً مخالفاً للمذهب. وكتبه وتحقيقاته لكثير من المسائل، شاهد
صادق على ذلك، رحمه الله تعالى. قال في كتابه (النافع الكبير لمن يطالع الجامع
الصغير ص 48) :
ومن مِنَحِه تعالى أنه رزقني التوجه إلى فن الحديث وفقهه، ولا أعتمد على
مسألة ما لم يوجد لها أصل من آية أو حديث. وما كان خلاف الحديث الصحيح
أتركه، وأظن المجتهد فيه معذوراً، بل مأجوراً. ولكنني لست ممن يشوش العوام
الذين هم كالأنعام، بل أتكلم بالناس على قدر عقولهم) .
وكان سالكاً طريقاً وسطاً بين الإفراط والتفريط في مسائل الخلاف، فهو ليس
ممن يختار التقليد البحت بحيث لا يترك قول الفقهاء، وإن خالفته الأدلة الشرعية.
ولا ممن يطعن عليهم ويهجر الفقه بالكلية! وهو شديد الاعتداد بالحديث وأهله -
يرحمهم الله أجمعين- فيقول في كتابه الذي سنعرض له بعد قليل، ص 228:
(ومن نظر بعين الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً عن الاعتساف، يعلم علماً يقيناً: أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف فيها العلماء، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم. وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريباً من الإنصاف. فلله درّهم، وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حقاً، ونواب شرعه صدقاً. حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم.
وأمثال هذه الكلمات كثيرة تجدها مبثوثة في تضاعيف كتبه، مما يدل على
اعتداده القوي بالدليل، وعدم تعصبه للمذهب، مع سعة اطلاعه وكثرة تنقيبه،
وإنصافه لمن يخالفه في الرأي والمسألة.
- 3 -
تلكم لمحات سريعة موجزة عن اللكنوي، أما كتابه (إمام الكلام..) فهو
واسطة العقد بين مؤلفات كثيرة في القراءة في الصلاة، قبل اللكنوي وبعده.
وقد تعددت مناهج المؤلفين واختلفت طريقة بحثهم في المسألة، تحريراً
وتأصيلاً ورداً مما لا مجال للإفاضة فيه الآن. ولكن يحتاج القارئ المتبصر إلى
بحث فقهي حديثي لهذه المسألة يستقصي فيه الأدلة بأنواعها، وينزل كل دليل
منزلته، دون أن يأخذ ببعض الأدلة ويهمل بعضها الآخر، فيجمع أطراف المسألة
كلها، ويخرج بنتيجة وحكم يؤيده الدليل الصحيح. ولعل هذا الكتاب، الذي نعرض
في هذه الصفحات، يحقق ذلك فيما أحسب:
رتب المؤلف كتابه على مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة.
الباب الأول:
وعقده المؤلف لاختلاف علماء الأمة عن الصحابة، التابعين الأئمة المجتهدين، ومن بعدهم من فقهاء الملة. وجعله في فصلين:
الفصل الأول:
الآثار الواردة عن الصحابة -رضوان الله عليهم-، وساق فيه الروايات الكثيرة عنهم، والمروية في كتب الصحاح والسنن والآثار والمصنفات، وأيد ذلك بنقول كثيرة تبين أن المسألة خلافية، عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي والحازمي وغيرهم ...
والفصل الثاني:
أقام المؤلف بحثه على (تنقيح المذاهب) على ثلاثة أصول أو مسالك:
أ- الأول: أنه لا يقرأ خلف الإمام بحالٍ، لا في السرية ولا في الجهرية،
وهو مسلك فقهاء الحنفية ومن وافقهم.
ب- الثاني: يقرأ الفاتحة في السرية والجهرية كلتيهما. وهو مسلك الشافعية.
ج- الثالث: يقرأ في السرية دون الجهرية. وهو مسلك المالكية والحنابلة.
وتحت كل مسلك من هذه المسالك مذاهب ومسائل متفرقة، عرض لها المؤلف وناقشها مع الأدلة. كما ناقش ما كتبه الشوكاني في (نيل الأوطار) بدليل قوي وحجة ناصعة وعبارة عفيفة.
الباب الثاني:
وفيه عرض المؤلف أدله أصحاب المساك الثلاثة السابقة من المذاهب الأربعة، ووجه الاستدلال بكل دليل. مع ذكر ما يقوي هذه الأدلة أو يرد عليها ويضعفها. ومن البحث في ذلك تعلم وجه استدلال كل مذهب بالدليل من النصوص الشرعية والإجماع والمعقول. وقد اشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
في دلائل الحنفية، ومن وافقهم على مذهبهم، وهي بأنواعها خمسة أصول وهي الاستدلال بالكتاب والسنه والآثار عن الصحابة والاجماع والمعقول.
وعقّب ذلك برأي الإمام البخاري -رحمه الله-، وأجاب عن اعتراضاته، بما
يلتقي مع ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك، مما هو في ملحق الكتاب. وفي هذا
البحث كلام طويل عن السكتات في الصلاة، من حيث عددها ومكانها وما الذي
يشرع منها.
الفصل الثاني:
وعقده لعرض أدلة أصحاب المسلك الثاني، وفيه بحث ثلاثة أصول أو أدلة:
الأول: دليل الكتاب الكريم [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ..] وقوله تعالى: [واذْكُر
رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... ]
والثاني: استدلوا فيه بآثار عن الصحابة في تجويز القراءة، مما روي عن
عمر، وابن عمر، وأبي بن كعب، وأبي هريرة، وحذيفة، وعلي، وعائشة،
وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وفي الأصل الثالث: استدل بالمعقول من وجوه، أولها: أن القراءة ركن
يشترك فيه الإمام والمأموم، والثاني: أن الإمام لا يتحمل عن المأموم شيئاً من
الفرائض غير القراءة فلا يتحمل القراءة كذلك. وفي الأصل الرابع: استدلوا
بحديثي: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) و (.. لا تفعلوا إلا
بأم الكتاب) .
وقد أطال النفس في هذا الأصل وما وجه إليه من اعتراضات، ورد ذلك كله
بوجوه كثيرة، تخللها مبحث طويل في رواية محمد بن إسحاق وتوثيق العلماء
لروايته. ثم حرر النزاع حول مسألتين هما: ركنية الفاتحة في الصلاة، وقراءة
المقتدي لها.
الفصل الثالث:
وهو فصل موجز لأدلة أصحاب المسلك الثالث، فلا حاجة للإطالة، فهم قد أخذوا من كل مسلك بطرف، وردّوا بأدلة هذا على ذاك. ...
الباب الثالث:
وفيه ضبط المذاهب السابقة إجمالاً والإشارة إلى دليل كل منها تفصيلاً مع ترجيح يقبله أصحاب النظر الصحيح، استهله بما ورد في ركنية الفاتحة، مبينّاً أصل ومبنى الخلاف في المسألة.
ترجيح:
ثم يخلص إلى القول بعدم افتراض القراءة على المؤتم مطلقاً، واستحباب قراءة الفاتحة أو سنيّتها في السرية، ولما لم يثبت استحباب سكتات الإمام، لم يقولوا بالقراءة في السكتة، كما ذهب إليه جمع من المحدثين.
الخاتمة والملاحق:
وختم الكتاب بحكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة مرجحاً دليل من قال باستحباب القراءة فيها.
وزاد من قيمة الكتاب ملحقان اثنان: أحدهما لشيخ الإسلام ابن تيمية حول
القراءة، والثاني لحافظ المغرب ابن عبد البر، رحمهما الله، وقد بلغ الملحقان أكثر
من خمسين صفحة.
- 4 -
وبعد، فهذا الكتاب حديث وفقه، يتصل بأعظم ركن من أركان الإسلام بعد
الشهادتين، يدرب القارئ على الاستدلال والمناقشة، ويأخذ بيده في دراسة الفقه
على بصيرة، وفي تضاعيفه تجد كثيراً من المسائل الحديثية والأصولية وغيرها.
وقد صدر هذا الكتاب بطبعة جديدة، فيها عمق الموضوع مع جمال الإخراج، وزوده المحقق بمقدمة عن الموضوع والمؤلفات ثم ترجمة المؤلف. وأضاف إليه
تعليقات ونصوصاً، وخرج أحاديثه وترجم لبعض أعلامه، وصنع لها فهارس تعين
على الإفادة منه.
وهذا لا يمنع من إبداء ملاحظة هامة؛ فالكتاب عليه حاشية للمؤلف نفسه،
التقط منها المحقق بعض الفوائد وأثبتها في الكتاب، ولو طبع الكتاب كاملاً لكان
أكثر فائدة، وإن كان سيؤدي إلى زيادة حجم الكتاب إلا إن كان القصد مصروفاً إلى
الكتاب نفسه دون حاشيته.
ووفق الله العاملين والمخلصين والحمد لله رب العالمين.(49/38)
مراجعات في عالم الكتب
نظرية الضرورة الشرعية
جدواها وضوابطها
تأليف: د. جميل بن محمد مبارك
عرض: هيثم الحداد
إن موضوع الضرورة من الموضوعات الهامة التي ينبغي على الدعاة وطلبة
العلم الإلمام بها، ومعرفة حدودها وضوابطها، ذلك إن الساحة الإسلامية على وجه
العموم والعمل الإسلامي على وجه الخصوص قد جدت فيه أمور غير مألوفة
وأحوال قد تضطر المسلم إلى الوقع فيما أصله المنع، وقد بلغت هذه الأحوال من
الكثرة حتى أصبح المسلم يواجهها في عدة صور وربما في كل يوم.
خذ أخي القارئ مثالاً على ذلك وهو السفر إلى بلاد الكفار، لقد أصبح المسلم
عرضة لهذا السفر كثيراً، فقد يطرد المسلم من بعض بلاد المسلمين لا يجد له
المأوى إلا في بلاد غير إسلامية، وقد يضيق عليهم في الرزق ولا يجد سعة فيه إلا
عند الكفار، بل قد يضيق عليه في دينه ودعوته ويجد فسحة في ذلك -وللأسف -
في البلاد التي يحكمها يهود أو نصارى.
وقد تضطره متابعة التعليم إلى الذهاب إلى هناك والإقامة بين أظهرهم ردحاً
من الزمن؟ أليست هذه أحوالاً استثنائية لم تكن معهودة من قبل؟ إذا كيف يواجه
المسلم - وخصوصاً الداعي - مثل هذه الأحوال وهل هي أحوال ضرورة تبيح له
ما كان محظوراً؟ إذا ما هي حدود الضرورة وما هي ضوابطها.
جواب هذه الأسئلة وغيرها تجدها في كتابنا هذا الذي نقدم تعريفاً موجزاً له.
وموضوع الضرورة قد تناوله الفقهاء في كتب الفقه على صورة أحكام فرعية متفرقة
في عدة مواطن، ولم يتحدثوا عن ضوابطها وحدودها، وتعرض لها الأصوليون في
كتب القواعد الفقهية - على وجه التخصيص - وغيرها ولكن بصورة غير مستقلة. فكانت هناك حاجة لمن يجمع شتات هذا الموضوع، ويجلي ضوابط الضرورة
وحدودها، حتى يسهل تفريع الأحكام عليها.
ومن الكتب المهمة التي جمعت شتات هذا الموضوع في بحث مستقل كتاب
(نظرية الضرورة الشرعية حدودها وضوابطها) .
وقد جاء هذا البحث منسقاً متناسقاً، أتى فيه مؤلفه على جميع ما يتعلق
بالضرورة من ضوابط وحدود بصورة واضحة، فاستطاع من خلاله أن يثبت، أن
الإسلام جاء بنظرية متكاملة شاملة للضرورة، جعلته أيسر الشرائع وأكثرها ملائمة
للحياة.
وقد قسم البحث هذا إلى أربعة أبواب بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة:
* فقد ذكر في الباب الأول تعريف الضرورة وأدلة مراعاتها، وعلاقاتها
بالمشقة، والأسباب المؤدية إلى الضرورة، ومدى أثرها في إباحة المحظورات.
* أما الباب الثاني فقد خصصه لبعض المصطلحات الأصولية التي لها علاقة
بالضرورة مثل الاستحسان وسد الذرائع.
* ومن أهم أبواب الكتاب الباب الثالث، حيث تناول المؤلف فيه ضوابط
الضرورة.
* ولربط الموضوع ببعض الفروع الفقهية المعاصرة أفرد الباب الرابع لحديثه
عن بعض الأحكام المترتبة على الضرورة.
ومن أهم ما يتميز به هذا الكتاب:
- أنه يبدأ بتأصيل القاعدة وتوضيح حدودها وضوابطها ثم يذكر جملة من
الفروع الفقهية التي تبنى على هذه القاعدة.
لم يكن المؤلف جامداً في نقله عمن سبقه من العلماء أو الباحثين، بل كان
ينقل أقوالهم ويعمل نظره فيها بقوة، فيناقشها مناقشة هادئة مبنية على الأدلة
والقواعد العامة للشريعة، ثم على الواقع، انظر إليه -مثلاً- وهو يناقش تعريفات
الفقهاء للضرورة وما على هذه التعريفات من مآخذ، ثم تجده يخرج بتعريف مستقل
يقول فيه (خوف الهلاك أو الضرر الشديد على أحد الضروريات للنفس أو الغير
يقيناً أو ظناً إن لم يفعل ما يدفع به الهلاك أو الضرر الشديد) [1] .
- مما ينبغي على الباحثين الآن عدم الجمود على الأمثلة التي ذكرها الفقهاء
السابقون، بل لا بد من ضرب أمثلة حية لها صلة وثيقة بواقع المجتمعات الآن،
وفي هذا من الفوائد جعل العلم أقرب مأخذاً من قبل الناس، فينمو شعورهم بأن هذه
الشريعة قادرة على معالجة مشكلاتهم، ثم إنه يجعل الفقيه أكثر تفتحاً ومعرفة
بمشكلات العصر، وقد أجاد كاتبنا هنا أيما إجادة.
فمن ذلك أنه أفرد باباً مستقلاً في تطبيق نظرية الضرورة الشرعية على بعض
القضايا المعاصرة، ومما أورد فيه: أحكام السفر إلى بلاد الكفار وبعض الأحكام
التي تتعلق بالمسلمين الذين يعيشون في هذه البلاد، وأورد أيضاً مسألة التداوي
بالمحرمات عند الضرورة، ثم اقرأ ما كتب عن محاولات تبرير الفوائد الربوية
بالضرورة.
ومن أجمل ما في الكتاب أنك تقرأه فتشعر كأنه يتكلم عن واقعك وما يعانيه
المسلمون من مشكلات، وهذه نتيجة تلقائية لضرب الأمثلة الحية من واقع الناس.
يقول تحت عنوان العوامل التي تؤدي ببعض المفتين إلى الإفتاء بالضرورة
في غير محلها [2] :
( ... ، 3- سيطرة روح التيسير ورفع الحرج عن عقول كثير من الذين
يفتون بالضرورة في غير مكانها، ولعل طغيان هذه الفكرة ينبع أحياناً من الرغبة
في تحبيب الدين للناس، بعد أن أصبح الدين في أنفسهم مهلهلاً، وكادوا يعبدون الله
على حرف..) .
(4- تعرض المفتي لبعض الضغوط من جهات معينة ترغب في استصدار
فتوى توافق ما تميل إليه، فيخضع المفتي لهذه الضغوط، ويلجأ إلى مثل هذه
العمومات إسناداً لفتواه، كرفع الحرج عن الأمة والتيسير والأخذ بقاعدة
الضرورات) .
(5- تورط بعض المفتين في مثل تلك القضايا التي يسألون عنها في حياتهم
الشخصية فيحملهم ذلك على البحث عن مخرج في الشريعة لما يعيشون من تلك
القضايا، حتى لا يتهموا بالخروج عن النصوص الشرعية، وحتى لا تتعارض
فتاواهم للناس مع ما يمارسونه في شئونهم، فإذا لم يجدوا موئلاً في النصوص لجأوا
إلى آيات التيسير ورفع الحرج) .
(6- عدم العلم الدقيق بتلك القضايا وعلم إحاطتهم بملآتها..)
بقي أن نقول إن الكتاب من طبع دار الوفاء للطباعة والنشر بالمنصورة وقد
جاء في 494 صفحة مع المراجع وفهرس الموضوعات.
__________
(1) نظرية الضرورة، ص 28.
(2) نظرية الضرورة، ص 298.(49/46)
شعر
هجوم السلام
عبد الرحمن بارود
يا حمامَ السلام.. عُدْ يا حمامُ ... لا يَفُلُّ الُحسامَ إلا الُحسامُ!
في زمانِ الصقور.. صِرْتُم حَماماً ... كيف يحيا مع الصقور الحمامُ؟
أيُّ عُرسٍ هذا؟ تزُفّونَ ماذا؟ ... ولماذا يُطبَّلُ الإعلامُ؟
ثَكِلَتْ أُمُّكمْ.. أليسَ لديكمْ ... غيُر: (عاش السلام) (يحيا السلامُ) ؟
والخواجا (شَيْلوك) [1] في الذَّبحِ ماضٍ ... منذ أن غَلّنا (أللِنْبِيْ) [2] الهمامَ
أوَ غَيْرَ السَّاطوِر يُنصِرُ شيئاً ... تاجرْ البندقيِّة اللحَّامُ؟
* * *
في مَهَبِّ الرَّدى ... أمامي رصاصٌ ... وورائيْ خَناجرٌ وسهامُ
قُلْتُ إذْ غرَّدتْ صواريخُ [3] قومي ... وقد احْمَّر باللَّهيب الظلامُ:
أعلينا.. وأنتِ غرْسُ يدينا؟ ... أيها العاشقون فاض الغرامُ
ليسَ بَعْدَ اليقين - يا عينُ - شكٌ ... أثْبَتَ الفعلُ ما نفاهُ الكلامُ
مع مَنْ أنتمو؟ وهلاّ رَفَعْتُمْ ... مِنْ ركوعٍ تصطكُّ منه العظامَ؟
مُسِخَ الُحبُّ.. فالحبيبُ غوريلا [4] ... مُسِخَ الطب ... فالطبيبُ الُجذامُ
* * *
أينَ مليارُ (لا) ؟ ومليارُ (كلا) ؟ ... أينَ تلك المُحرَّمات الجِسامُ؟
ما لتلك اللاءات تهويْ تِباعاً؟ ... أَوَ هَلْ صار ربَّنا (العمُّ سامُ)
قُتِلتْ (لا) حبيبةُ العُمر غدراً ... و (نَعَمْ) .. رفرفتْ لها الأعلامُ
آَتَزُفُّ القيانُ (إِسِتْيرَ) [5] أُخرى! ! ... أم (سَلوميْ) [6] لها تُدارُ الُمدامُ
عادتِ النارُ في البراكِين ثلجاً ... وتخلى عن الرُعودِ الغمامُ
قد قَلَبتُم كلَّ الموازينِ قَلْباً ... وغداْ أوَّل الحلالِ الحرامُ
* * *
تابعوا الَكشفَ يا زَعاماتِ قَومي ... فبِكم تَفْخَرُ الكشوفُ العِظامُ
أيهوديةٌ فلسطيُن أيضاً؟ ... وأخونا ذو الغِبْطةِ الحاخامُ؟
أَوَ هذا وَعْدٌ لبلفورَ ثانِ؟ ... فامضِ بِلْفورُ.. ما عليكَ مَلامُ
أيها البائعونَ حيفا ويافا ... أهجومٌ هذا أمِ استسلامُ؟
قد جَلَبْتُمْ عارَ الزمان.. ولكنْ ... عَضَّ فَكَّ المعارضينَ اللِّجامُ
ومن الناسِ - يا جميلُ -.. قرودٌ ... ومِنَ الناسِ - إي وربي - نَعامُ
* * *
وَقَعَ السقْفُ يا صناديدَ قوميْ ... أوَ صاحونَ أنتمو أمْ نيامُ؟
أين فتحٌ؟ ؟ وأين: (إنَّا فَتَحْنا) ؟ ... شَدَّ ما غَيَّرَتْكُمُ الأيامُ! !
سُورةُ الفتح أُنزِلتْ في رعيلٍ ... أَلعماليقُ عندَهم أَقْزامُ
نَفَروا خَلْفَ قائدٌ من قُريشٌ ... عَقِمتْ عن نظيرهِ الأرحامُ
لا دُمىً.. لا تآمرٌ ... لا ذِئابٌ ... لا قطيعٌ يساقُ.. لا أصْنامُ
قَتَلَتْكُمْ أَزِقَّةٌ تَتَلوَّى! ... وجحورٌ فيها أَفاعٍ عِظائمُ
* * *
__________
(1) التاجر اليهودي السفاح في قصة شكسبير: تاجر البندقية.
(2) قائد القوات البريطانية التي دخلت القدس في الحرب العالمية الاولى.
(3) كناية عن التنازلات والاعتراف.
(4) اليهود.
(5) امرأة يهودية تزوجها الملك قورش وكانت سبب مذبحة للفرس.
(6) امرأة يهودية داعرة بسببها قطع رأس سيدنا يحيى -عليه السلام-.(49/50)
مقال
في موسم الجفاف: يُجْتَثُ نخلنا
وينمو غَرْقَدُهُم! !
خالد بن صالح السيف
التعامل مع النصوص وفق فهم سلفي منهجية يتجاوز بها ما يعتور الفهوم
الفاسدة من الخطل وانعدام الرؤية الشرعية تجاه قضايا الأمة بعامة.
وحسبي أنه مخاض لمسخ دلالة النصوص، واعتساف لتأول ذات الدلالة التي
يقتضيها.. ويلتزمها ظاهر النص [ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا
لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] وبعد:
فثمة مسلمة بدهية تستجيب تلقائياً لمعطى المنهجية السالفة تستوعب الموقف -
العقدي - الممتد في وضح النهار من (مدريد) إلى (واشنطن) الحافل بإضاءة
الإدارة الصليبية ومباركتها! !
[ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
[ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ..] .
إن محض الحقيقة في صراعنا مع اليهود كفانا القرآن مؤنة استكناهها حيث
راحت سياقاته تكرس المفاصلة العقدية ليس غير، وتمنحنا آياته بُعداً في فهم العقلية
اليهودية ضمن رؤى مستقبلية: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ
نَادِمِينَ * ويَقُولُ الَذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ] [1] .
فهل ثمة أرض.؟ وشعب؟ ! وحلٌ سلمى! ؟ ودماء فلسطينية يسأل عنها
الفلسطينيون وحدهم للبتِّ في تقرير مصيرهم؟ ! أم إنها القيادات واستجاباتها
لمرحلة النظام العالمي الجديد باستخذاء، وهي تتمتم مسبحة بحمد نزع الفتيل!
تبلغها الخشية فتسجد (سلاماً) على المذهبية الأمريكية بصلاة ثلاثية؛ يهودية! !
مسيحية! ! إسلامية! !
على رسلكم أيها - المدريديون - فالصراع العقدي لا تستطيع أن تغتاله أيدي
المأتمرين على الموائد المستديرة رغبة في إجهاض الجهاد الحل الصائب لأبعاد
القضية. ومهما (حاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة،
راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية كي يموهوا على المؤمنين حقيقة المعركة،
ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة) [2] لأن (الذي يغير راية المعركة، إنما يريد
أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها) [3] .
وما سلاح النصر الحقيقي إلا فريضة الجهاد.. ذروة سنام الإسلام، ليس غير. (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) [4] وما المراجعة إلا العودة إلى الجهاد.
ما سلف ارتأيته تقدمةً فحسب، لنقف وإياك على بُعْدٍ دلالي يتضمن ذات
المفاصلة بين المسلم، واليهودي يمتنع معها الالتقاء ويتعذر التفاوض ابتداءً، لتباين
الطباع وما جبلا عليه ومن قبل ما ألمحنا عليه في الجانب العقدي:
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من
الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في
شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا
رسول الله، أخبرنا بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي النخلة.
قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن
يكون لي كذا وكذا) [4] قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: (ووقع عند
المصنف في الأطعمة من طريق الأعمش قال: حدثني مجاهد عن ابن عمر قال:
(بينا نحن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتي بجمار، فقال: إن من الشجر
لما بركته كبركة المسلم) وهذا أعمُّ من الذي قبله، وبركة النخلة موجودة في جميع
أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعاً،
ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال
وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه
مستمر له ولغيره حتى بعد موته) [5] . ويبدو أن العلامة ابن حجر لم يشأ أن
يُفيض في تعداد أوجه الشبه وإلا فأوجه الشبه ربما تتجاوز ما ذكره ولم يكن ثمة
حصر يبتغيه فالمسلم والنخلة وجهان لحقيقة الوفاء والصدق والبر والنفع
المطلق و.. و..
وأما اليهودي فنقيض المسلم جملة وتفصيلاً، ولست في هذه المقالة أرصد
الفروق وأستجلي نعوت اليهودي وهي من الاشتهار بمكان لا مشاحة فيه حيث
النصوص المستفيضة من صريح القرآن وصحيح السنة.
غير أني سأوظف حديث أبي هريرة بالإسقاط على اليهودي حيث (الغرقد) ...
ومبدأ الخيانة في مرحلة (تدجين) النخل والغرقد بين سباخ (مدريد) وقيعان
(واشنطن) استلهاماً لتأبير جديد - جنس ثالث - يصنعه نظام عالمي.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) [6] .
بهذا الحديث الصحيح نمزق غشاوة التشاؤم. ونُحَرِّق أسبال الهزيمة.. ونُتْلِف
أعمة (؟) الجبن والهوان. كل ذلك نستدعيه بأسباب التمكين وأدوات النصر على
امتداد أجيال هذه الأمة، مع تعاطي (جيل مدريد) الأسباب المشروعة في الإعذار
إلى ربكم، وعلَّ أضعفه بث الوعي في (الجيل المدريدي) تجاه المفاصلة العقدية
بين المسلمين ويهود مع استقرار حيثيات الموائد المستديرة إبانها نعي لُعبة
(العسكري والحرامي) ونَكْبُر بوعينا العقدي على تطبيل التطبيع وزمّارة السلام! !
ولنعد مرة ثانية إلى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- حيث الاستثناء (إلا الغرقد
فإنه من شجر اليهود) استنثناء خيانة وغدر وليس منقطعاً أو متصلاً! !
استجابة ربانية ليوم النصر يتضافر فيها المسلم والجماد - الحجر والشجر -
لتحقيق الوعد القاطع (يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله) منتهى الاحتفاء بالمسلم ويوم نصره ومشاركة فاعلة للقضاء على المفسدين في الأرض [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] [الروم 4-7] .
الغرقد وحده يحالف اليهود استجابة بدهية للطباع المشتركة فيما بينهم وحينها
يلوذ بالصمت خيانة وغدراً (إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) . فأي (سلام) مع
أقوام هذه (طباع) شجرهم؟ ! يبدو سؤالاً ساذجاً ... يبد أنه يتضمن إجابة تقريرية
تستخلص بداهة من حديث أبي هريرة والله المستعان.
بقي أن نقف على شيء من إرهاصات قرب ذلك التحقق، حيث تسخير الله -
سبحانه وتعالى- لليهود بزراعة هذه الشجرة (الغرقد) حول المستوطنات التي
أقاموها على أرض فلسطين على هيئة أسوار نباتية مانعة لأن له أشواكاً قوية حادة
خطافية، كما أن له وجوداً في الأصل في فلسطين والأردن وذلك على السفوح
الصخرية ويعرف فيها بهذا الاسم: (الغرقد) . وجاء في علوم الطبيعة أن (أشهر
أنواعها خشب الأنبياء وخشب القديسين) [7] .
تجاوزت الخلاف بين المعنيين في (علم النبات) حول حقيقة (الغرقد) وأثبت
ما جاء في (الموسوعة في علوم الطبيعة) السالف، لكونه يحمل دلالة لا أحسبها
تغيب عن حس كل مسلم يمت بسبب الشبه إلى وجه الشبه بينه وبين النخل..
__________
(1) انظر ما كتبه سيد -رحمه الله- في ظلاله حول هذه الآيات من المائدة إلى الآية رقم 59.
(2) سيد قطب، معالم في الطريق ص 185.
(3) سيد قطب، معالم في الطريق ص 176.
(4) البخاري في العلم والأدب والأطعمة ومسلم في صفات المنافقين.
(5) فتح الباري ج 1 ص 145-146 ط دار المعرفة لبنان.
(6) مسلم في الفتنة والترمذي وابن ماجه في الفتنة أيضاً.
(7) الموسوعة، المهندس ادوار غالب ص 203.(49/53)
أثر الضعف الخلقي
في سقوط الأندلس
(2)
د. حمد السحيباني
ذكر الكاتب في المقال السابق أن مما تمخض عن انحراف المسلمين في
الأندلس عن منهج الله ثلاث نتائج: الأنانية وحب الذات، والتشبه بالعدو وتقليده،
وانتشار المجون والخلاعة، وقد تحدث في المقال السابق عن الأنانية وحب الذات،
ويتابع هنا الحديث عن النتيجتين الأخريين.
2- التشبه بالعدو وتقليده:
حينما دخل المسلمون بلاد الأندلس كانت لهم شخصيتهم الإسلامية المستقلة،
التي تميزوا بها عن غيرهم من الشعوب والأمم، وقد ظلوا خلال القرون الثلاثة
الأولى للوجود الإسلامي هناك محافظين على تلك الشخصية التي تأصلت فيها
الأخلاق والقيم النبيلة، ولكن حينما اعترى وجودهم الضعف، وعصفت بهم الفتن،
وخف الوازع الديني عند بعضهم بدأوا بالتخلي عن بعض تلك الأخلاق والتأثر
بأخلاق وعادات غريبة عليهم وعلى مجتمعهم، الأمر الذي جعل شخصيتهم
الإسلامية تأخذ بالاضمحلال ويسري فيها الضعف.
وقد أدرك هذا الأمر ابن خلدون حيث قال: (.. إذا كانت أمة تجاور أخرى
ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير كما هو في
الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم
والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت،
حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر
لله) [1] .
كما ذكر ابن الخطيب أن جند مسلمي الأندلس تشبهوا بالنصارى في زيهم
وأسلحتهم [2] ، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن بعض مسلمي الأندلس قلد
النصارى في الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الدينية [3] .
وهناك فئة أخرى من المسلمين كانت تحضر مجالس النصارى وتشاركهم
أفراحهم، ومن هؤلاء منذر بن يحيى - صاحب سرقسطة - فقد بالغ في التشبه
بالنصارى وموالاتهم حيث كان يحضر عقود المصاهرة التي كانت تتم بين
أبنائهم [4] .
كما أن حسام الدولة يحيى بن عبد الملك - صاحب مدينة شنتمرية - كان يقلد
النصارى في اقتناء القرود حيث أهدى إليه ألفونسو السادس ملك قشتالة قرداً كان
يفتخر به على ملوك الأندلس [5] .
وقد أدى التشبه بالعدو وتقليده عند أولئك القوم أن (ذل الرئيس والمرؤوس
وافتقرت الرعية وفسدت أحوال الجميع بالكلية وزالت من النفوس الأنفة
الإسلامية) [5] .
ومما لا شك فيه أن هذا الانهزام الذي مني به المسلمون في ذلك الوقت حينما
تأثروا بالنصارى قد تمخض عنه كسر الحاجز النفسي الذي كان موجوداً عند
المسلمين إزاء العدو النصراني الأمر الذي جعل مخالطتهم أو التأسي بهم أمراً مألوفاً
عند بعض المسلمين هناك، ولهذا خرجوا إلى ميادين الجهاد وهم غير آبهين بالعدو
ولا مستعدين لحربه، وقد ترك لنا الشاعر ابن الجدّ وصفاً لأهل بلنسية وهم
خارجون لملاقاة العدو النصراني غير مبالين بالعدو ولا آخذين بالعدة حيث قال:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألواناً
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة [6] ما كانا [7]
هكذا زالت مهابة المسلمين عند النصارى حينما تخلوا عن أصالتهم وقيمهم
الإسلامية حيث أصبحوا حقيرين في عين العدو وأقل من أن يهتم بهم، وقد بين هذا
الأمر الفونسو السادس - ملك قشتالة - حيث قال لرسول المعتمد بن عباد لما قدم
إليه: (.. كيف أترك قوماً مجانين تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم وكل
واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً.. وكيف يحل لبشر أن يقر منهم على
رعيته أحد وأن يدعها بين أيديهم سدى) [8] .
3- الخلاعة والمجون:
كان من مظاهر الضعف الخلقي عند مسلمي الأندلس في عصر ملوك
الطوائف انتشار كثير من الأوجاع الخلقية بينهم، كالمجون والخلاعة وشرب الخمر
والاستغراق في الملذات الجسدية والإكثار من الجواري والنساء حيث كان هذا الأمر
قاسماً مشتركاً بين كثير من ملوك الطوائف [9] .
وقد أسهب المؤرخون في الحديث عن هذا الأمر، فقد ذكر ابن حيان أن
قرطبة حاضرة المسلمين هناك أصبحت مرتعاً خصباً لمزاولة تلك الرذائل، حيث
كان ملوك الطوائف إذا احتاجوا إلى شيء من الملهيات يرسلون رسلهم إلى قرطبة
للبحث والتنقيب عن الأوصاف التي يريدونها من الجواري، وأنه في شوال سنة
422هـ ورد على أبي الوليد بن جهور في قرطبة رسول المظفر بن الأفطس
يلتمس شراء وصائف ملهيات يأنس بهن فوجد له صبيتين ملهيتين عند بعض التجار
واشتراهما له [10] .
كما ورد على أبي الوليد بن جهور بقرطبة من الكتب في يوم واحد كتاب من
ابن صمادح صاحب المرية يطلب فيها جارية عوادة، وكتاب من ابن عباد يطلب
جارية زامرة [11] .
وقد اشتهر المعتضد بن عباد بأنه كان (له كلف بالنساء وخلط في احباسهن
فانتهى في ذلك إلى مدى لم يبلغه أحد نظرائه) كما أن المعتمد بن عباد كان مولعاً
بالنساء حيث خلع ثمانمائة امرأة من أمهات الأولاد وجواري المتعة وإماء
الخدمة [12] .
وكان مجاهد العامري صاحب دانية والجزر الشرقية ذا شخصية مزدوجة
(فطوراً كان ناسكاً، وتارة يعود خليعاً فاتكاً لا يساتر بلهو ولا لذة، ولا يستفيق من
شراب وبطالة، ولا يأنس بشيء من الحقيقة، له ولغيره من سائر ملوك الطوائف
في ذلك أخبار مأثورة [13] ، أما هذيل بن خلف بن رزين صاحب شنتمرية فقد
كان من أرفع ملوك الطوائف همة في اقتناء القينات حيث اشترى جارية بثلاثة
آلاف دينار [14] .
هكذا غرق أولئك القوم في مستنقع الفحش والرذيلة، وقد استغل هذا الأمر بعض الوزراء والموظفين الذين رغبوا أن يستبدوا بالحكم والسلطان، فأشغلوا
حكامهم بإغراقهم في الملذات، وإشغالهم بالنساء اللائي كثرن وأخذ الكثيرات منهن
تطمح في ولاية من تربِّيه من أبناء السلطان حتى يكون لها الحظوة والغلبة [15] .
ويذكر الأمير عبد الله بن بلقين أن إشغال الحكام بالنساء كان أمراً مألوفاً عند وزراء
دولة بني بلقين في غرناطة [16] .
أما شرب الخمر في قرطبة وغيرها من بلدان ملوك الطوائف فيبدو أنه أصبح
أمراً لا غرابة فيه في ذلك العصر، ولهذا لما حاول ابن جهور منعها مدحه الشعراء
ومنهم ابن زيدون وعبد الرحمن بن سعيد المصغر [17] ، كما ذكر المقري أن وادي
اشبيلية لا يخلو من جميع أدوات الطرب وأن شرب الخمر فيه غير منكر [18] .
ولعل القارئ لدواوين الشعر في ذلك الوقت يدرك كيف أن وصف الخمرة
والتغني بها كان أمراً مألوفاً عند كثير من شعراء ذلك العصر حتى قال أحدهم [19] :
فجل حياتي من سكرها ... جرت مني الخمرة مجرى دمي
ولم يكن هذا الأمر قاصراً على فئة معينة من الناس، بل كان كثير من الناس
يقضون لياليهم أيقاظاً يجتمعون على الكؤوس حتى الصباح [20] .
وكان للطرب والغناء نصيب عند أولئك القوم حيث كانوا يتفاخرون بكثرة
آلاتها ومجيديها حيث يقولون: عند فلان عودان وثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك [21] .
ولو حاولنا استقصاء ما ذكره المؤرخون حول الطرب والغناء في عهد ملوك
الطوائف لطال بنا المقام ولكن قد يكون من المناسب أن نكتفي بذكر ما قاله أحد
الباحثين المحدثين حول هذا الموضوع حيث قال: (فانتشرت مجالس الغناء وأصبح
هذا الفن بجملته جزءاً من ثقافة الشعب) حتى لنجد الفلاح في حقله والعامل في مصنعه والفقير في كوخه لا يقل ولع أحدهم بالغناء عن الأمراء والعظماء [22] .
وقد بدأت أعراض تلك الأوجاع التي حلت بالمجتمع الإسلامي في الأندلس في
تلك الفترة تظهر عياناً، فقد استخف بعض الناس بالدين، وتجردوا من الأخلاق
والقيم الإسلامية، ولم يعد هناك وازع من دين أو ضمير، فقد ذكر ابن حزم أن
إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة في الأندلس عشق غلاماً نصرانياً فوضع له
كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد تقرباً إليه [23] ، كما يذكر - أيضاً - أنه في
ذلك العصر قد عظم البلاء فهان القبيح ورق الدين حتى رضي الإنسان بالفضائح
والقبائح مقابل وصوله إلى مراده وشهوته، وقد حكى لنا كثيراً من القصص حول
هذا الموضوع منها ما ذكره حول (عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الحريري فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعاً في الحصول على بغيته من فتى كان علقه..) [24] .
وكان ممن غرق في مستنقع الرذيلة ولادة بنت المستكفي الأموي أعلنت
وقوعها في هذا الأمر حيث كتبت بالذهب على طرازها الأيمن [25] :
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه فيها
وكتبت على الطراز الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها
هذه أهم مظاهر الضعف في الجانب الخلقي التي حلت بالمجتمع الإسلامي في
عهد ملوك الطوائف، وقد انعكست آثار ذلك على قوة المسلمين فأضعفتها.
ومما لا شك فيه أن هذا الضعف الذي مني به ملوك الطوائف قد جعل مسلمي
الأندلس يصابون بخيبة أمل لأنهم أدركوا أن زمام الموقف أصبح بيد النصارى
المتربصين، وقد عبر عن هذا الشعور الشاعر الأندلسي ابن العسال حينما
قال [26] :
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياةُ مع الحيّاتِ في سفط
ولم يكن هذا الشعور قاصراً على المسلمين بل تعداهم إلى العدو النصراني
الذي أدرك أن حصون المسلمين الداخلية قد ضعفت وأن الفرصة أصبحت مهيأة له
لدخول الثغور والحصون الخارجية ولهذا وضع خطة حربية تتناسب مع ذلك الواقع
وقد أبان هذه الاستراتيجية الحربية فرناندو بن شانجه ملك جليقية أثناء حصار
النصارى لمدينة طليطلة سنة 478 هـ حيث قال لأهلها الذين خرجوا يطلبون
الصلح معه لما أعيتهم المقاومة: ( ... ما أجيبكم إلى سلم، ولا أعفيكم من حرب..
فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديماً في أول أمركم فقد سكنتموها ما قضي
لكم، وقد نصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا إلى عدوتكم - يعني بلاد
المغرب - واتركوا لنا بلادنا، فلا خير في سكناكم معنا بعد اليوم [27] ...
(كما أبانها الفونسو السادس - ملك قشتالة - حيث قال لرسول المعتمد بن عباد حينما قدم إليه كيف أترك قوماً مجانين [28] .
وقد صرح بتلك النوايا والخطط الفونسو السادس ششنندو (مسنندو) حيث يذكر
الأمير عبد الله بن بلقين - أحد ملوك الطوائف - في مذكراته أن هذا الوزير
النصراني قال لمسلمي غرناطة قبيل سقوط مدينة طليطلة بأيدي النصارى سنة
478 هـ (1085 م) (إنما كانت الأندلس للروم في أول الأمر حتى غلبهم العرب
وألحقوهم بأنخس البقاع جليقية فهم الآن عند التمكن طامعين بأخذ ظلاماتهم فلا
يصح ذلك إلا بضعف الحال والمطاولة حتى إذا لم يبق مال ولا رجال أخذناها بلا
تكلف) [29] .
هكذا كشر النصارى عن أنيابهم العدائية فأبانوا خططهم. ونواياهم ضد
الإسلام والمسلمين هناك، كما بدأوا بعملياتهم الحربية والتي اسموها بحرب
الاسترداد، حيث تمكنوا خلالها من اجتياح العديد من المدن والثغور الإسلامية ومن
أهمها مدينة قلمرية وبربشتر سنة 456 هـ (1046 هـ) وطليطلة سنة
478 هـ (1085 م) ثم بلنسية سنة 487 هـ (1094 م) [30] .
وبعد هذا العرض السريع فإنه بوسعنا أن نقول: إن العد التنازلي للوجود
الإسلامي بالأندلس قد بدأ منذ عهد ملوك الطوائف الذين حادوا في كثير من
تصرفاتهم عن الخط الإسلامي، وإن هذا الضعف الذي مني به المسلمون هناك هو
المرحلة المبكرة من مراحل سقوط بلاد الأندلس لأن المراحل التالية تعتبر امتداداً لها
من حيث المسببات والنتائج.
__________
(1) الإحاطة ج 1 ص 136، اللمحة البدرية ص 39.
(2) ابن عذاري: البيان المغرب 3 ص 176.
(3) ابن الخطيب: أعمال الاعلام القسم الثاني ص 197، ابن عذاري: البيان المغرب ج 3 ص 176-177.
(4) ابن عذاري: البيان المغرب ج 3 ص 177.
(5) ابن الكردبوس: تاريخ الأندلس ص 77.
(6) بطرنة قرية من قرى بلنسية (ابن سعيد: المغرب ج 2 ص 5 35، المقري: نفح الطيب ج 1 ص 147.
(7) ابن بسام: الذخيرة ق 3 ج 2 ص 850، المقرى: نفح الطيب ج 1 ص 181.
(8) ابن الكردبوس: تاريخ الأندلس ص 89.
(9) رجب محمد عبد الحليم: العلاقات بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية في عصر بني أمية وملوك الطوائف ص، 296.
(10) ابن عذاري: البيان المغرب ج 3 ص 212 (نقلاً عن ابن حيان) .
(11) المصدر السابق ج 3 ص 212.
(12) ابن الأبار: الحلة السيراء ج 2 ص 43، 53.
(13) البيان المغرب ج 3 ص 308.
(14) المصدر السابق ج 3 ص 308.
(15) رجب عبد الحليم: العلاقات بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية ص 296.
(16) مذكرات الأمير عبد الله ص 85.
(17) ابن بسام: الذخيرة ق 1 ج 1 ص 388.
(18) نفح الطيب ج 4 ص 199.
(19) ابن سعيد: المغرب ج 1 ص 396.
(20) رجب محمد عبد الحليم: العلاقات بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية ج 1 ص 300.
(21) العذري: نصوص عن الأندلس ص 18.
(22) محمد عبد الوهاب خلاف: قرطبة الإسلامية ص 321.
(23) طوق الحمامة ج 1 ص 13.
(24) طوق الحمامة ص 130.
(25) المقري: نفح الطيب ج 4 ص 205.
(26) ابن سعيد: رايات المبرزين ص 0 5، المقري: نفح الطيب ج 4 ص 352.
(27) ابن عذاري: البيان المغرب ج 3 ص 282.
(28) ابن الكردبوس: تاريخ الأندلس ص 89.
(29) التبيان ص 73.
(30) انظر في تفصيلات سقوط هذه المدن وغيرها كلا من: ابن بسام: الذخيرة ق 3 ج 1 ص 189 - 190، ابن عذارى: البيان المغرب ج 3 ص 305 وج 2 ص 33، وابن عميرة: بغية الملتمس ص 257، ابن الخطيب: أعمال الاعلام ج 2 ص 203، الحميري: الروض المعطار ص90.(49/58)
المسلمون والعالم
المسلمون في يوغسلافيا
محمد آل الشيخ
يشهد الحج كل عام 1500 حاج تقريباً من يوغسلافيا. ترى ما هو حال
إخواننا هؤلاء؟ وكيف وصلهم الإسلام؟ وما مشاكلهم؟ هذا ما سنحاول أن نعرفه
في هذا المقال.
لقد قام الرئيس الهالك تيتو قبل أن يقعده المرض الذي أصاب رجله بحوالي
شهر بزيارة إلى جمهورية محلية هي البوسنة والهرسك، وألقى خطاباً هناك كان
أبرز ما فيه هجومه العنيف على النشاطات الهدمية لبعض الدوائر الدينية، ومع أنه
لم يسمّ هذه الدوائر إلا أن الجميع كان يعلم أنه يعني القيادات الإسلامية في البوسنة
والهرسك.
لم يكن هذا الرجل يجهل أن عدد المسلمين في يوغسلافيا يصل إلى 33% من
مجموع السكان البالغين أكثر من 23 مليون نسمة، وأن جمهورية البوسنة والهرسك
هي أهم معاقل المسلمين هناك، ولكن لم تكن هذه إلا حلقة في سلسلة معاناة
المسلمين اليوغسلاف الطويلة.
إحصائيات:
تتكون يوغسلافيا اليوم رسمياً من ست جمهوريات:
1- جمهورية صربيا
2- جمهورية كرواتيا
3- جمهورية البوسنة والهرسك
4- جمهورية مقدونيا
5- جمهورية الجبل الأسود
6- جمهورية سلوفينيا
وبعض الأقاليم التي لم تحصل على استقلال وبقيت تحت حكم الصرب،
الذين فعلياً يتحكمون في الاتحاد اليوغسلافي كله وعلى رأسه الحكومة المركزية
والجيش الاتحادي.
ويتركز وجود المسلمين في البوسنة والهرسك، فهم يشكلون 56% من
مجموع السكان البالغ خمسة ملايين ونصف، وفي جمهورية مقدونيا بنسبة 24%
من مجموع السكان البالغ مليونين ونصف وجمهورية الجبل الأسود بنسبة 23% من
مجموع السكان البالغ 800 ألف، وإقليم كوسوفو بنسبة 93% من مجموع السكان
البالغ مليونين و 600 ألف، وأعداد قليلة متوزعون في باقي البلاد ولا تتجاوز
نسبهم 2%-3%.
وترجع أصولهم في الغالب إلى أحد ثلاثة أعراق هي: أصول سلافية وهم
سكان البلاد الأصليين ويسكنون غالباً في جمهورية البوسنة والهرسك، وأقليات
قليلة في باقي المناطق، وأصول تركية ويشكلون 93% من مسلمي مقدونيا وهم في
يوغسلافيا كلها اليوم لا يتجاوزون 400 ألف مسلم، وأصول ألبانية وهم حوالي
مليونان ونصف، ويتركزون في كوسوفو والجبل الأسود.
ويبلغ عدد المسلمين في يوغسلافيا كلها ما يزيد عن سبعة ملايين ويشكلون مع
الصرب أكبر (قوميتين) في يوغسلافيا اليوم.
دخول الإسلام إلى يوغسلافيا:
يرجع دخول الإسلام وتمكنه في البلاد إلى عاملين مهمين: الأول هو الفتح
العثماني عام 1463 م حيث لم يكن فيها مسلمون قبل ذلك. والعامل الثاني هو
الترحيب الذي لقيه العثمانيون من شعب البوسنة فقد كانوا يعانون من اضطهاد
الكنيسة الكاثوليكية لهم بسبب اختلاف المذهب. فوجدوا في حكم الإسلام متنفساً
لعقائدهم، ثم وجدوا فيه بعد فترة عقيدة أكثر ملائمة لفطرتهم، فاعتنقوه عن رغبة
واقتناع، ثم تجاوز الأمر ذلك فأخذوا يدخلون في الإسلام بشكل جماعي.
ثم أصبحت البوسنة بعد ذلك ولاية عثمانية، فهاجر إليها مجموعة من
المسلمين الأتراك، وأولتها دولة الخلافة عناية خاصة في المنطقة، فساعد ذلك على
إنشاء المدارس والمساجد والمكتبات العامة. فعرفت البلاد لغات أخرى مثل التركية
والعربية إضافة إلى لغة القوم الأساسية وهي الصرب - الكرواتية، فساعد هذا كله
على ظهور حضارة وثقافة جديدة خاصة بالبلاد ميزتها عن جيرانها. حيث شهدت
تطوراً ثقافياً حقيقياً سبقت به غيرها من الشعوب المجاورة بفضل الإسلام، مع أن
أصل سكان البوسنة هم خليط من الصرب والكرواتيين إلا أنهم شهدوا بدخولهم
الإسلام ما لم يشهده جيرانهم.
ظهور قومية جديدة:
لم يعد خافياً على أحد هذا التطور المهم الذي حصل لشعب البوسنة، فكل من
زار المنطقة في تلك الفترة شهد بذلك، ولا يصعب عليه التعرف على العادات
والأخلاق الجديدة التي اكتسبوها من الإسلام، فكان لها أثر هام في نشوء رابطة
قوية بين أبناء الدين الجديد (الإسلام) متجاوزين بذلك أصولهم العرقية، وما لبثت
هذه الرابطة أن تمكنت منهم وأخذت بعداً ثالثاً هو الإقليم، فكانت بذرة لنشوء قومية
جديدة في المنطقة اسمها القومية الإسلامية، وهي ليست كما يفهمها المسلمون اليوم
رباطاً يربط المسلم بأخيه المسلم مهما كان عرقه أو لونه، وإنما هي قومية خاصة
تربط سكان تلك المنطقة المسلمين فيما بينهم ولا تتعداهم إلى غيرهم أو هي - كما
وصفها بعض الكتاب - أقرب إلى تفاعل كيماوي استمر 500 سنة لشعوب متباينة. ولدت شعباً واحداً لا يمكن إعادته إلى أصوله القديمة، وظلت هذه الرابطة
الإسلامية طابعاً مميزاً لهم إلى اليوم.
بداية مرحلة المعاناة:
لقد تعرض، هؤلاء المسلمون لاضطهاد وتنكيل قل أن يتعرض له شعب آخر
خاصة في طول المدة التي طال فيها التنكيل.
لقد اضطهد الصربيون المعروفون بشدة تعصبهم الديني وقسوتهم مع خصومهم
أبناءهم وإخوانهم الذين أسلموا اضطهاداً شديداً، وكذلك فعل المقدونيون والكرواتيون
والمجريون.
ولكن هذا الاضطهاد أدى إلى نتيجة عكسية حيث ازداد تلاحم المسلمين فيما
بينهم وأدى ذلك إلى مفارقة أكثر لأقوامهم، وبكلمات أخرى أدى ذلك إلى تبلور
أوضح للرابطة الإسلامية.
وساعد على هذا الاضطهاد اضطهاد خارجي مارسته دولة النمسا-المجر (التي
قامت على اتحاد هاتين الدولتين والتي كانت من أقوى دول المنطقة في ذلك العصر) ، وكانت ولاية البوسنة خط الدفاع المتقدم للدولة العثمانية، التي كانت في صراع
مستمر مع دولة النمسا-المجر. فاضطروا إلى استقبال أعداد من الجيوش العثمانية، فدارت على أرضهم حروب كثيرة بين دول عظمى في ذلك الوقت.
الانفصال عن الدولة العثمانية:
استمر أمر هؤلاء البوسنيين على هويتهم الإسلامية، وغدا رجوعهم عنها
أمراً مستحيلاً، وظلت تحت حكم العثمانيين دهراً من الزمان.
ولكنهم سخطوا على الانحرافات السلبية في أواخر عهد الحكم العثماني سواء
على مستوى الدولة في المركز أو على مستوى الولايات والحكم في المقاطعات،
والفساد الذي انتشر، والظلم الذي عم جميع الرعايا والشعوب مسلمين وغير
مسلمين، وهذه سنة من سنن الله في الدول إذا كتب لها الزوال ظهر الظلم وقلّ
العدل وعميت البصائر فسخط الناس، فأدى ذلك إلى زوالها.
وبعض مفارقات هذه القومية المحلية أنهم لم يجدوا غضاضة في طلب
الانفصال عن دولة الخلافة، فكانوا مثل بقية دول البلقان التي عمها السخط على
الخلافة العثمانية فساعد ذلك على سرعة سقوط الخلافة.
وقد كان رد فعل الدولة العثمانية قوياً على هذه المحاولات فأرسلت لهم جيشاً
قوياً لقمع هذه المحاولات الانفصالية. ولكن حدثت حادثة أهم من تلك، ففي مطلع
هذا القرن حين أدت الصراعات الدولية في البلقان وتقاسم تركة الدولة العثمانية إلى
إعلان دولة النمسا-المجر ضم البوسنة الهرسك إليها فأصبحت تحت احتلال ألد
خصومهم من النصارى الذين ساموهم أشد أنواع العذاب، وسعوا لتدمير هويتهم
الدينية المتميزة في المنطقة، فحلوا جميع الجمعيات والمنظمات والأحزاب السياسية
والثقافية والدينية، وحظروا عليهم ممارسة أي نشاط وسلبوهم كل حقوقهم، فرد
المواطنون المسلمون على ذلك بمقاومة عسكرية ومدنية ضارية، وأنشأوا أحزاباً
ومنظمات سرية (وهو رد فعل طبيعي لأي شعب يقع عليه ظلم أو كبت) فنظموا
مجابهة قوية للاحتلال، وطلبوا الاستقلال عن النمسا والدولة العثمانية معاً، وهذا
الخلط بين الدولة العثمانية والنمسا جرّ عليهم ويلات كثيرة فيما بعد.
ولقد شاء الله في تلك الأثناء أن يزور ولي عهد النمسا مدينة سراييفو عاصمة
البوسنة فيقتل هناك فأرسلت النمسا جيشا لذلك، فطلبت البوسنة النجدة من روسيا،
فكانت هذه هي الشرارة التي كانت تنتظرها الدول الاستعمارية في ذلك الوقت
لتنشب الحرب العالمية الأولى.
البوسنة والهرسك تحت حكم الصرب:
لقد أفرزت هذه الصراعات الدولية ظهور دول في البلقان مثل ألبانيا وبلغاريا
واليونان وصربيا ورومانيا والجبل الأسود. ولكن الحال كان مختلفاً بالنسبة
للبوسنيين، حيث رأت الدول المنتصرة في الحرب مكافأة الصرب على تضحياتهم
في حروبهم ضد العثمانيين بأن تضم لها بعض المناطق وعلى رأسها البوسنة
والهرسك. (وليس خافياً على أحد ما تخفيه هذه الخطوة من أحقاد صليبية دفينة)
فشهد المسلمون أصعب فترات تاريخهم (1918 م - 1941 م) فالصرب مصرون
على أن البوسنة والهرسك من أراضيهم وأن شعبها جزء من أمة الصرب، لذلك
وضع الصرب سياسة قمعية تقوم على:
1- إلغاء أي كيان مستقل اسمه البوسنة، وتقسيم أراضيها بين صربيا
وكرواتيا.
2- رفض وجود شعب بوسني متميز، وقسم السكان حسب السلالات
والأعراق السابقة عن إسلامهم.
3- سلب جميع أملاك المسلمين البوسنيين حتى الأوقاف وتحويلهم جميعا إلى
أقنان وعبيد عند الإقطاعيين والملاك الصرب والكرواتيين.
4- بدأ محاولات بالقوة لإرجاعهم إلى المسيحية.
5- أُغلقت جميع المدارس والمؤسسات التي تعلم باللغة العربية أو التركية أو
تعلم الدين الإسلامي.
6- تدمير جمع الرموز التاريخية التي تظهر الطابع الإسلامي للمنطقة
وسكانها، وإحراق الكتب وسلب المنازل وتدمير محتوياتها.
وطبقت هذه السياسات بأقسى صورها على المسلمين فاضطر كثير من
المسلمين إلى التظاهر بترك دينهم. وظلت المنطقة بين عامي 1892 م - 1941 م
معزولة عن العالم تعاني كل أنواع الاضطهاد والتنكيل دون أن يعلم بها أحد، بل إن
تاريخها في تلك الفترة ظل مجهولاً، وكأنها ليست من العالم، أو أن أهلها ليسوا من
البشر.
ثم زاد الأمر قسوة - فيما بعد - وجود حكم علماني في تركيا بقيادة مصطفى
كمال الذي تنكر لكل الأقليات الإسلامية التي كانت دولة الخلافة ترعاها في الماضي، فقد كان معادياً لكل ما يمتّ للخلافة العثمانية بصلة فتُرِك المسلمون في البوسنة
لوحشية الصرب وحدهم.
المسلمون تحت حكم الشيوعيين:
خلال الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب الأهلية بين الصرب والكروات
اشترك هؤلاء في محاولة لتصفية مسلمي البوسنة، على حد زعمهم، فارتكبت
مذابح جماعية ضدهم، ونهبت أراضيهم وقسمت على غيرهم، وقد قتل في هذه
الحرب من الجميع مليونا شخص خلال ثلاث سنوات. عند ذلك برزت (جبهة
الأنصار) الشيوعية تنادي بوحدة يوغسلافيا، وإعادة بنائها على أساس المساواة بين
جميع الشعوب الناطقة باللغة الصربية والكرواتية، فبادر المسلمون إلى تأييد ذلك،
ومما يجهله كثير من الناس أن المسلمين كانوا في مقدمة الثوار الذين قاتلوا في سبيل
استقلال يوغسلافيا وتحريرها من الحكم النازي.
ومع ذلك تنكر الشيوعيون لمسلمي البوسنة حين وصلوا للسلطة، وشكلوا
حكومة فدرالية في البلاد ومنعوا قيام كيان مستقل للمسلمين في يوغسلافيا الجديدة،
بل إن الأمر كان أخطر من ذلك فقد استمر اضطهادهم على أيدي الصرب أيضاً
(الذين استولوا على الحكومة المركزية) ، فخيرهم تيتو الهالك بين أن يكونوا صرباً
أو كرواتا، وإذا رفضوا ذلك عاشوا مشتتين في البلاد! وهكذا قامت خمس
جمهوريات ومنعت السادسة، ومنع المسلمون الذين كانوا ربع السكان في ذلك
الوقت من الوصول إلى مناصب عليا في الدولة أو أي منصب حساس داخل البوسنة
نفسها.
ومع أن الحكم كان شيوعياً إلا أنه سمح للأعراق والمذاهب والأقليات بتنمية
خصائصها وإبراز تقاليدها الاجتماعية والروحية باستثناء المسلمين كما وعد تيتو،
ثم صدرت قوانين لحماية حقوق اليهود والمسيحيين، وصدرت قوانين أخرى
تصادر وتمنع حقوق المسلمين. وهكذا اضطر كثير من المسلمين إلى التظاهر بعدم
الإسلام للنجاة من كثير من الاضطهادات.
ومُورست سياسة الإهمال لكثير من مناطق المسلمين مثل البوسنة والهرسك
وكوسوفو بل ومناطق سكن المسلمين أنفسهم داخل صربيا وكرواتيا وتدل إحصائيات
الحكومة نفسها أن مناطق المسلمين أفقر المناطق في يوغسلافيا وأقلها دخلاً وأعلاها
بطالة. في حين أن صربيا وكرواتيا لا تقل عن مستوى بعض الدول الأوربية
الغربية بينما نجد مناطق البوسنة وكوسوفو في مستوى بعض دول أفريقيا أو ولايات
الهند.
الاعتراف بالبوسنة والهرسك:
قاوم البوسنيون بطبيعة الحال هذه السياسة بتصميم على انتزاع حقوقهم، من
داخل المؤسسات اليوغسلافية وبطريقة إيجابية، حتى باتت تهدد بانفجار الصيغة
التي وضعها تيتو للدولة، فاضطر للاستجابة لحقوقهم، ففي عام 1968 م فرضت
مطالبهم نفسها على المجتمع والدولة.
وفي يناير عام 1974 م صدر دستور ينص على قيام جمهورية البوسنة
والهرسك كجزء من دولة يوغسلافيا فانزاح بذلك هم كبير عن كثير من المسلمين،
وأظهر كثير من المستخفين إسلامهم، وأدلّ شيء على ذلك أن نسبة المسلمين في
البوسنة كنت 25% عام 1961 م وبعد أن خفّ اضطهادهم عام 1971 م أصبح
39% ثم في عام 1988 م أصبحت 56%، وما زال كثير منهم يتخفى بدينه خوفاً
على وظيفته أو طمعاً في منصب يطمح إليه. غير أن الصرب والكرواتيين لم
يكونوا مسلّمين ولا راضين بهذا التطور وكانوا يتربصون للاستيلاء عليها وتقسيمها
من جديد.
حرب أهلية جديدة:
في صيف العام الماضي 1991 م أعلن الكرواتيون الانفصال عن الحكومة
الفدرالية التي كان يسيطر عليها الصرب فعلياً، فثارت الأقلية الصربية داخل
كرواتيا والتي يبلغ عددها 600 ألف نسمة وطلبت تدخل الجيش الاتحادي، فكانت
بداية لحرب أهلية جديدة، ثم تبعتها جمهوريات أخرى فسحب الجيش الاتحادي
قواته منها إلى سراييفو، وفي نهاية شهر ديسمبر من العام الماضي أعلنت البوسنة
والهرسك الاستقلال، وكما هو متوقع ثارت الأقلية الصربية والتي يبلغ عددها
حوالي مليون شخص وطالبت في شهر يناير من هذا العام بالبقاء ضمن الاتحاد الذي
لم يعد يضمّ إلا صربيا والجبل الأسود وبعض الأقاليم مثل أقليم كوسوفو وغيره، ثم
في خطوة جريئة طالب المسلمون في كوسوفو وهم الأكثرية ويحكمها الصرب
والمسلمون في الجبل الأسود وفي مقدونيا طالبوا جميعاً بالاستقلال لتشكيل حكومة
جديدة مستقلة والملفت أنهم لم يطلبوا الانضمام إلى المسلمين في البوسنة والهرسك
وهذا من أهم تأثيرات اعتبار الإسلام قومية محلية عند هؤلاء المسلمين، وستحظى
هذه الخطوة بردة فعل قاسية من بعض دول المنطقة فهم بالتعاون مع ألبانيا سيكون
لهم وجود قوي في المنطقة، وكذلك ستظهر إلى السطح مشاكل حدودية قديمة، وقد
حظيت كرواتيا وسلفينيا بترحيب واعتراف من أوربا والفاتيكان، أما المسلمون فمن
المتوقع أن يواجهوا صعوبات أكثر مما واجهها الكروات بحكم تمركز الجيش
الاتحادي على أراضيها، ووجود جالية صربية كبيرة ممتزجة مع السكان،
ووقوعها في البلقان وهو مركز مهم للتعصب الكنسي منذ القدم.
واجباتنا تجاه إخواننا هناك:
إن مشكلة بهذا الحجم والتعقيد، وفي مواجهة خصم بمثل هذه القسوة والهمجية
تّحتّم وجود حل قوي تتبناه الدول الإسلامية الغيورة على أحوال المسلمين، وذلك
لتأمين وضع يحفظ للمسلمين حقوقهم ويحافظ على بقائهم في تلك المنطقة الملتهبة
من البلقان، وليكن في تخاذل تركيا العلمانية درس لنا اليوم فلا يُتركوا كما تركوا
بالأمس، وهذه الأمانة تحتاج إلى رجال إن كان في القوم رجال.
على أن هذا لا يعفي المؤسسات الإسلامية مثل الجامعات والمراكز الإسلامية، وغيرها من مسؤولياتها تجاههم، فيجب أن يتولوا القضية الإسلامية في يوغسلافيا
بقوة، وأفضل ما يقدمونه لهم هو بث الوعي الإسلامي بينهم، وتعميق الشعور
بالوحدة الإسلامية مهما كانت الأصول، فهو أكثر ما يحتاجونه اليوم، وتُخصص
لهم منح في الجامعات في العالم الإسلامي، وتعقد عندهم الندوات العلمية، ويساعد
على نشر الكتاب الإسلامي بينهم بلغتهم ويُيسر لهم بعثات للحج والعمرة ويُعطون
أولوية في الدورات العلمية المتنقلة.
وللأفراد المسلمين دور يقومون به نابع من الاهتمام بأمور المسلمين. نذكر
منه: متابعة أحوالهم وتطور قضيتهم خاصة هذه الأيام، والسؤال عنهم ومعرفة
حاجاتهم، وبث الوعي الإسلامي بينهم وتبني قضيتهم في كل صعيد والدفاع عنها
والدعاء لهم.
إن تكاتف جهود المسلمين لحل مشاكلهم هو النموذج الأمثل لإعادة مجد الإسلام
ورفع الظلم عن المسلمين في باقي الأماكن، وخطوة مهمة في الطريق الصحيح
الذي بدت معالمه تلوح في كل مكان.(49/67)
مأساة أراكان
يرويها شاهد عيان
مندوب المجلة إلى بنجلادش
أراكان ... !
أراكان ... ليست اسماً لشركة من شركات العطور الفرنسية!
أراكان ... ليست اسماً لمجلة من مجلات الأزياء الإيطالية!
أراكان ... ليست اسماً لشركة من شركات التصدير الأمريكية!
أراكان ... أرض من أراضي المسلمين التي انتزعت منهم وأصبحت نسياً
منسياً.. هل سمعتم بها؟ !
تقع أراكان جنوب غربي بورما ويحدها من الشمال بورما والهند، ومن
الغرب بنجلادش، ومن الشرق بورما. دخلها الإسلام في العصر العباسي الأول.
وقد كانت أراكان خاضعة تحت الاحتلال البريطاني مع مجموعة الدول المجاورة لها. ولما حصلت بورما على الاستقلال في عام 1948 م ضمت بريطانيا أراكان إلى
بورما، ومنذ دلك اليوم وأراكان تقع تحت سيطرت بورما الاشتراكية.
يبلغ عدد سكان أراكان 4 ملايين نسمة تصل نسبة المسلمين إلى 75%.
وبورما دولة بوذية متعصبة جردت مسلمي أراكان من جميع حقوقهم المدنية
ومنعتهم من ممارسة شعائرهم الإسلامية. وفي عام 1962 م قام بعض العسكريين
الاشتراكيين بانقلاب عسكري وتولوا السلطة بقيادة الجنرال نيوين، وحكموا بالحكم
الاشتراكي فازداد الاضطهاد والضغط على المسلمين، فهدمت مساجدهم ومدارسهم
الدينية، ومنعوا من الحج من عام 1968 م حتى عام 1982 م بل منعوا من التنقل
داخل البلاد، وتعرضوا لحملات إبادة واسعة النطاق، وصودرت أموالهم وأراضيهم
ومزارعهم، فاضطر قسم كثير منهم إلى الهجرة إلى الدول المجاورة.
وفي الأيام الاخيرة ازداد القمع والإرهاب، وارتكب البوذيين جرائم وحشية
بشعة، حيث قتل الرجال واعتدي على النساء، وشرد العزل عن ديارهم مهاجرين
إلى بنجلادش أكثر الدول فقراً في العالم. ولا توجد إحصاءات دقيقة لعدد المهاجرين
في الأشهر الأخيرة، لكن يقدر عددهم بحوالي 75 ألف مسلم وهم بازدياد مستمر.
وقد زرت مدينة كوكس بازار في بنجلادش على الحدود البورمية، حيث
توجد نسبة كبيرة من المهاجرين، فوجدت المأساة تطل من وجوه الناس بصورة
يهتز لها القلب وتتفطر منها النفس، فكل واحد من مسلمي أراكان يحمل على عاتقيه
جراحات وآلام تنهد لها الجبال، إذ أنهم يعيشون بصورة محزنة جداً، فقد فروا
بأنفسهم وهم لا يملكون شيئاً من حطام الدنيا.. فصنعوا لأنفسهم بيوتاً من أغصان
الأشجار لا تسلم من الأمطار أو الرياح، ولا تحميهم من البرد والأعاصير، ومعظم
عششهم التي يسكنون فيها لا يزيد ارتفاعها عن الأرض مقدار متر واحد فقط،
يجتمع فيها جميع أفراد الأسرة بلا غذاء أو دواء، وهم شبه عراة لأنهم لا يجدون
لباساً، وخاصة أطفالهم الذين ألفوا العري!
ومن المآسي المحزنة التي رأيتها أثناء تجولي في مخيماتهم: فتاة شابة ومعها
طفل صغير يعاني من المرض، أسر والدها وقتلت أمها، واعتدى الجنود البوذيون
على الفتاة، وألقيت محطمة، ففرت مع الفارين بهذا الطفل الصغير الذي ينتظر
الموت على يديها.
وامرأة أخرى أنهكها الجوع، فلما وضعنا بين يديها كيساً صغيراً من الأرز
ضمته إلى صدرها بشدة كما تضم الأم ولدها المفقود.
ولما قام بعض المحسنين بتوزيع بعض المواد الغذائية على الناس، أتى إليّ
رجل كبير في السن من المهاجرين، وتكلم معي بكلام لم أفهمه، فقلت له: أشهد أن
لا إله إلا الله ... فقال لي وقد أشرق وجهه بالفرح: مسلم! فقلت له: مسلم. فسلم
علي بحرارة ووضع يدي على صدره وضمها بشدة وبكى وهو يقول: مسلم.. مسلم! ثم أخبرني المترجم أنه كان يقول: لقد مات هذا الصباح أربعة أطفال صغار من
شدة الجوع والبرد.. وهكذا في كل يوم.
وفي إحدى العشش فوجئت بثلاثة من الأمريكيين، قيل لي: إنهم صحفيون
من مجلة النيويورك تايمز والواشنطن بوست، ومعهم مترجم من مجلة بنجلادش
غارديان. ولما ذهبنا إليهم وجدنا امرأة ملقاة على الأرض مع ولدها المصاب بنزلة
حمى شديدة، وبجوارها شيخ هرم تجاوز الستين عاماً يرتجف من البرد، ومعهم
طفلان صغيران ليس عليهما لباس ينظران إليهم بصورة محزنة، ويذكر ذلك الشيخ
أنه لم يذق الطعام منذ سبع ليال.
والعجيب أن النصارى أحسوا بهذه المشكلة، وأرادوا استغلال هذه المحنة
لممارسة أعمالهم التنصيرية، إذ أني رأيت عند حاكم المقاطعة طبيبتين فرنسيتين.
جاءتا إلى الحاكم لكي يسمح لهما بافتتاح عيادة طبية بين مخيمات اللاجئين
المسلمين ... ! !
هؤلاء هم مسلمو أراكان.. مشردين، جياعاً، عراة، انتشرت بينهم
الأمراض، يصارعون البقاء، أذلهم أعداء الإسلام، وساموهم سوء العذاب.. ومع
ذلك فلا يعرف بحالهم كثير من المسلمين..! !
وتساءل أحد الإخوة قائلاً: أين مواثيق هيئة الأمم المتحدة.. وأين دعاة السلام
والديموقراطية.. وأين منظمات حقوق الإنسان التي يتشدق بها الغرب.. وأين ...
وأين؟ ! !
فقلت له: لا تتوقع يا أخي شيئاً من هذه الشعارات التي يتلبس بها الكفرة..
ولكن قل لي أين المسلمون، وإلى متى هذه الغفلة؟ ! ثم أين الصحفيون العرب عن
مآسي إخوانهم؟ ! أو أنهم مشغولون بالتزمير والتطبيل.. والهجوم على الحركات
الأصولية التي أصبحت مادة يتسلق عليها أصحاب الأهواء للوصول إلى المال
والشهرة! !(49/77)
الجزائر
هل استقر الأمر للعسكر في: الجزائر
علقت صحيفة The SundayTimes الصادرة بتاريخ 2/6/ 1992 على ...
الوضع في الجزائر بقولها: (مادام الجيش في الشوارع والحالة غير مستقرة
فالغرب لن يقدم الدعم المالي للمغامرة في الاستثمار، وإذا انسحب الجيش فلن
تستطيع الحكومة الاستمرار) وهذا الرأي تؤيده صحف غربية أخرى وبعض الصحف العربية، فهي معادلة صعبة بالنسبة للحكم في الجزائر، والحل العسكري لن يأتي بالطمأنينة والاستقرار، فالقضية ليست قضية (جبهة الإنقاذ) وإنما هي شعب يريد غالبيته الإسلام، فهي حالة مستعصية على العسكر، فالدين متجذر في قلوب الناس وهم يحاولون سلخ حياة الناس عن هذا الدين، ويخدعون أنفسهم بقولهم: إن المشكلة هي مشكلة اقتصادية، والناس أرادوا الإسلام بسبب الفقر والبطالة، وهذا ما تروجه الأحزاب العلمانية والعسكر الذين لا يفقهون طبائع الشعوب ولا التحولات التي جرت في السنوات الأخيرة.
نعم هناك مشكلة اقتصادية في الجزائر وفي أكثر بلدان ما يسمونه (العالم
الثالث) ولكن لو أن الشعوب تريد حل مشكلاتها الاقتصادية بأي ثمن وبسرعة
لاختارت الانحياز للغرب أو الدول الغنية والعيش على القروض والإعانات. ولكن
شعباً مثل شعب الجزائر عنده الاستعداد لأن يهلك جوعاً ولا يذل نفسه لأجنبي.
ومن ناحية أخرى هل تستطيع حكومة (غزالي) أن تحل هذه المشكلة، والغرب لا
يثق بهذا الوضع المضطرب وهل يحل الاستجداء مشاكل الشعوب؟ وهل كتب على
الجيوش العربية أن تكون أداة قهر وتسلط على الشعوب المسلمة التي دفعت من
جيبها ومن تعبها لبناء هذه الجيوش، هل كتب عليها أن تكون أداة رخيصة بيد
أعداء الإسلام؟ أليس فيهم رجل رشيد يرفض هذه المهمات القذرة مهمة إذلال الأمة
وضرب خيرة شبابها وصفوة علمائها حتى تعيش منهكة محطمة.
إن ما قام به الجيش هناك جعل بعض الفرنسيين الذين كانوا يخجلون من
أعمالهم الوحشية ضد الشعب الجزائري، يتراجعون الآن عن أقوالهم ويقولون:
هاهم يضرب بعضهم بعضاً بوحشية لا تقل عما فعلناه فليهنأ العسكر هذه الشماتة،
وهذا الانتصار على شعب أعزل، وهذا الانتصار على الشيوخ والأطفال والنساء
وعلى أهله وأقربائه، وإذا كان قد انتصر -بزعمه - فنحن نعتقد أنه انتصار مؤقت، وهو عملية عرقلة وتأخير فقط لقدوم الإسلام وتعبير الأمة عما تريده وتكنه من
حب لهذا الدين، وما تكنه من كره عميق لهؤلاء المسخرين لخدمة فرنسا وغير
فرنسا. وإذا كانت جبهة التحرير بتنظيمها السياسي ومن ورائها الجيش لم تستطع
حل مشكلة الجزائر وانفرط عقدها لأنها قامت على مذهبية مغايرة لعقيدة الأمة،
قامت على السلب والنهب لخيرات الجزائر؛ فهل يستطيع أفراد قليلون من الجيش
وغيره أن يستمروا في حكم الجزائر؟ ! لا أعتقد ذلك، وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون.(49/81)
شتاء باب الواد!
د. عبد الله عمر سلطان
حينما اندلعت أحداث براغ، ثورة شعبية في وجه المتسلطين من رفاق الحزب
الشيوعي؛ خلّد دعاة الديموقراطية الغربية أحداث تلك الانتفاضة الجماهيرية
الخاطفة من خلال القصيدة والمقال والشريط السينمائي.. ووصلنا نحن العرب
المسلمين ترجمة بعض تلك الآثار مثل (ربيع براغ) أو احتفالات طابور العمالة
البلهاء بالذكرى السنوية لما أسموه بمذبحة الحرية والكرامة والإنسانية! .. حتى
ثورة الخميني الرافضية شهدت تعاطفاً غربياً وزخماً إعلامياً هائلاً رافق تحركات
صاحب (الولاية العظمى) من النجف إلى القرى الفرنسية النائية ومن ثم إلى
شوارع طهران عبر مقعد الطائرة الفرنسية ... وكأنه شريط سينمائي أخرج
ببراعة..
أما صيف بكين ومجزرة الديموقراطية فيها فقد ولدت في عصر القرية الكونية
وبث محطة CNN (سي إن إن) ... فنقلت وكالات الأنباء والإذاعات ومحطات
التلفاز ذلك الحديث لحظة بلحظة.. ودقيقة بدقيقة.. وأخرج الإعلام الأمريكي لنا
(ثوار حرية) لم يتجاوزوا السابعة عشرة ... وفجأة.. طار (دان راذر) المذيع
الأمريكي الشهير إلى بكين وأشهد العالم (أعظم ثورة معاصرة) بل إن إقدامه
وهيامه بالديموقراطية دفعاه إلى التصدي للسلطات الصينية التي حاولت منعه من
نقل المشاعر المتفجرة والثورة العارمة ضد التسلط والظلم والقهر.. لقد برر الإعلام
الأمريكي موقفه بالقول: إن من حق الإعلام أن يعلم تفاصيل المذبحة الجماعية التي
تسحق فيها المجنزرة أجساد الأحرار الذين يدافعون عن خيارهم الحر الأوحد!
هذا الخيار الحر الأوحد تكرر مرات أخرى في باب الواد بدلاً من ساحة
(تيانمي) في بكين.. وفي عصر القرى الكونية وثورة الاتصالات الهائلة مُني
الإعلام العالمي (والعربي بالضرورة) بشلل كامل وجلطة دماغية قاتلة جعلته ينقل
للمشاهد بيانات العسكر الركيكة ويكتفي بنقل وجهة نظر الجزارين العصريين
المتدثرين ببزات عسكرية قاتمة وعقول لا تقل غلظة عن أحذيتهم الباطشة لكل فكر
طليق! !
شتاء باب الواد مرَّ بعد أن فضحت صناديق الاقتراع كل المهرجين من الساسة
والمتربصين من الثوار.. ودول الإعلام الغربي التي تشهر الديموقراطية متى
شاءت، وتتباكى على حقوق الإنسان لتتدخل هنا وهناك تزرع الدمار وتستنبت
العملاء والمشبوهين الذين أتقنوا دور الدمية المتحركة في الإطار المرسوم..
.. شتاء باب الواد.. كان حدثاً يحمل كل عناصر السبق الإعلامي وإثارة
التداعيات السياسية وتسمر المشاهد المتلهف للخبر الذي ينصف الخلية الآدمية في
وجه طلقات الرصاص وزخات المدافع الرابضة في الأزقة الضيقة بدلاً من ساحات
الوغى المفتوحة.. لكن الجزائر وثورتها لا تحمل (دان راذر) على المتابعة.. ولا
(تيدكبل) على الملاحقة الإعلامية.. فهؤلاء.. يتحركون بزاوية معينة وخطوات
محسوبة.. وإن لم يتحرك الأساتذة.. فتلاميذهم من العرب سيتفننون في الركض
من خلفهم وهم يزرعون الشائعات، ينثرون الكذب ويدافعون عن القهر والتسلط..
ويلمعون طغمة المرتشين والمتفرنسين والخارجين من توابيت الموت النضالي جثثاً
لا تحمل من الحياة قطرة ولا من المؤهلات سوى صناعة الطوب الرديء! !
ولأن الحقائق الكاملة مجهولة، فإن نصف الحقيقة، وإن جاءت متأخرة
تستحق الذكر في عصر الكذب والنفاق.. نصف الحقيقة التي نشرتها اللوس
انجلوس تايمز بقلم روبين رايت ننقلها لكم هنا، بعد أن صمت إعلامنا عن الحديث
إلا بالزور.. والاستشهاد إلا بأقوال الجناة.. والنقل إلا تدليساً.. يقول المقال:
(كانوا يشقون طريقهم عبر الطرق المتعرجة الموصلة إلى حي القصبة بهدوء،
وصلوا مترجلين إلى مبنى المسجد الذي لم يكتمل بناؤه بعد، في مجموعات من
اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، والنساء محجبات، جاءوا مشاة لأن جميع الطرق
مسدودة، يواجهون رجال الشرطة المدججين بالسلاح، لقد أصبحت صلاة الجمعة
حدثاً هاماً في الحياة الجزائرية لأن الأصوليين يستثمرونها لإبراز قوتهم، وأصبح
المسجد بصلاة الجمعة رمز النضال في وجه بطش العسكر والاختلاف معهم حول
المستقبل الحر لهذا البلد المنكوب. لقد شهدت صلاة الجمعة الفائتة والتي قدمت
دليلاً على حجم التأييد لهذه الجبهة حين تدفقت الجموع الهائلة والهادئة في نفس
الوقت حيث حرص أنصار الجبهة على الهدوء وعدم استفزاز العسكر.. لقد امتلأ
المسجد مبكراً وبدا أن ضباط ارتباط الجبهة قد انتشروا حول المسجد يوجهون
المصلين مطالبين بالسكينة التي عمت حي باب الواد.. لقد كانوا غاية في الانضباط
وقمة في التنظيم.. وحينما اقتربت الساعة من الواحدة والنصف منع البوليس
الصحفيين من الدخول إلى المنطقة وقال المسؤول بنزق: إن الصحفيين ممنوعون
من الدخول إلى الحي حتى أولئك الحاصلين على تصاريح من قبل حكومته! ! لكن
بعض الصحافيين استطاعوا التسلل لمراقبة الأحداث عن قرب.. وكنت أحدهم
حيث استضافتني أسرة في عمارة من ثمانية طوابق.. لقد كان المشهد باهراً..
حيث الناس من القصبة حتى البحر الأبيض يتابعون المنظر من سقوف منازلهم
وشرفات بيوتهم وهم يقدمون الدليل على تعاطفهم مع جبهة الإنقاذ في تجمعها هذا
اليوم.. وحينما بدأت الصلاة كان الرجال يركعون في الشوارع فيما الأمهات يحملن
أطفالهن لرؤية هذا المشهد الأخاذ لهذه الجموع الهائلة.. ولم تتردد العائلات في
إزالة أقفاص الحمام لتمكين الصحفيين من متابعة الأحداث حيث كان البعض يصور
المنظر وهو مختف تحت بطانية عتيقة، وكأن الشعب الجزائري يريد أن يؤكد بهذه
الأعمال تضامنه العميق مع الجبهة، وبمجرد أن أذن المؤذن تحول المشهد إلى ما
يشبه الاحتفال.. وصرخت امرأة في منتصف العمر (F.I.S) الحروف
الأولى الدالة بالفرنسية على جبهة الإنقاذ وأشارت إلي قائلة: (انظري إلى شعارات
الجبهة ومؤيديها.. إن الحال في كل أصقاع القطر هكذا..) وبالطبع فإن باب الواد
الحي المكتظ والممتلئ بالعاطلين عن العمل والأسر المحشورة لا يمثل استثناء..
ذلك أن التعاطف مع الجبهة يمتد إلى قطاع واسع من المجتمع الجزائري.. لا سيما
المساجد لا التي يتجاوز عددها تسعة آلاف مسجد.. وهكذا ومع شعائر الصلاة كان
تعاطف الناس ومشاعرهم يتصاعد وهم يعرضون مساعدتهم للصحفيين المتابعين..
كما فعلت فتاة في سن المراهقة حينما دافعت عنا أمام حاجز بوليس قائلة: (إنهم
جاءوا لزيارتي) .
لقد شعرنا خلال تجوالنا من بيت لبيت وسقف لسقف بشعور عميق من
التضامن.. عميق جداً بين أفراد هذا المجتمع ... كما كان شعور المسؤولية ...
والانضباط واضحاً على كافة المستويات من القاعدة حتى القيادة حيث كان عبد
القادر حشاني يخاطب المجتمعين قائلاً: (إنني أطلب منكم الهدوء وعدم مقابلة
الاستفزاز بالعنف) .. وهكذا مرت شعائر الصلاة دون عنف بل على العكس لقد
طلب الإمام من الشرطة الانضمام لأداء شعائر الصلاة طارحاً إشكالية مدى انقسام
الجيش الجزائري وإمكانية رفضه لمهاجمة أبناء شعبه! ! لقد أقدم المجلس الخماسي
بعيد الصلاة على اعتقال حشاني ومنع جميع مظاهر التعبير السلمي مهما كان السبب
أو الوقت.. لكن يبدو أن النظام الحاكم قد غفل عن حقيقة الضجر والتململ التي
بدت واضحة فوق أسطح المنازل! !) .(49/83)
الركن الاعلامي
أخبار قصيرة
- قمة الفرنكوفونية:
استضافت باريس القمة الرابعة للدول الناطقة كلياً وجزئياً باللغة الفرنسية
والمعروفة بالدول الفرنكفونية لمدة ثلاثة أيام لدراسة سبل تعزيز التعاون والتضامن
فيما بينها، وقد اشترك في القمة أكثر من 45 دولة ضمنها لبنان وتونس والجزائر
وموريتانيا وغيرها من الدول.
الدولية25 نوفمبر عدد 78
- بريطانيا ترفض ترشيح سفير سوداني (أصولي) :
ذكرت مصادر سودانية أن بريطانيا أبلغت الخرطوم رفضها قبول ترشيح
أحمد سليمان سفيراً للسودان في لندن وأوضحت المصادر أن هذا المرشح يعتبر أحد
الوجوه البارزة في الجبهة الإسلامية القومية التي تساند النظام العسكري الحاكم في
الخرطوم.
البيان الإماراتية 3 رجب عدد 4220
- حاخام إسرائيلي يجيز إجراء التجارب الطبية على الفلسطينيين:
جاء ذلك في رسالة بعث بها الحاخام دون ئيسور إلى طبيب إسرائيلى خدم في
الجيش ومما جاء فيها إذا كانت لدينا الفرصة في أن يجري التجارب على معتقلين
مخربين لا يرجى منهم خيراً فإن الواجب يدعونا إلى ذلك لأن هؤلاء حكمهم في
دولة يسودها القانون هو الموت.
الحياة 8 جمادى الآخرة 14 ديسمبر
- تهاني:
سيد طنطاوي يبارك اختيار بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة ويصفه
بالكفاءة والعقل الراجح ويصف اختياره بحسن الاختيار وإنه صادق وقال إني كواحد
من رجال الدين الإسلامي في مصر أؤكد على أن الدكتور بطرس غالي كفاءة
تنتسب إلى مصر ... أزجي تهنئتي وتحياتي إلى بطرس غالي متمنياً له التوفيق
والسداد في مهمته السامية وفي منصبه الرفيع وأؤكد لأهل الشرق ولأهل الغرب أن
مصر ووحدتها الوطنية بإذن الله ستسير في طريق الأمان.(49/88)
كتب - وثائق - مذكرات - إصدارات
- فلسطين بالإنكليزية:
(إلقاء اللوم على الضحايا) عنوان كتاب جديد صدر عن لندن ونيويورك،
أصدره إدوارد سعيد وكريستوفر هيتشينن، وقد ترجمه د. ممدوح البلتاجي، وفكرة
الكتاب تقوم على دور إسرائيل في إقناع الرأي الغربي بأن المشاكل التي تقع بين
العرب وإسرائيل لا تتحملها إسرائيل بل يتحمله العرب فقط وهم ضحايا إسرائيل.
- مدير عام اليونسكو ينتقد هيمنة الإعلام الأمريكي بعنوان (نظرة في مستقبل
البشرية)
أصدر فيديريكو مارسوثارجوتا مدير عام اليونسكو كتابه الجديد وينطلق في
هذا الكتاب إلى طرح تنظير العالم الجديد ينحو فيه إلى الابتعاد عن الأفكار الجامدة
والمصالح الإنسانية، وقد انتقد فيه بشدة الهيمنة الإعلامية الغربية وخصوصاً
الأمريكية على العالم.
الناشر: الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العامة
ترجمة محمود علي مكي
الحياة 24 محرم - 4 أغسطس
- أكثر من 75 ألف وثيقة للحزب الشيوعي على أبواب الظهور:
رغم أن قادة الانقلاب وقادة الحزب أحرقوا كثير من الوثائق ونقلوا كثيراً منها
ومع ذلك فقد بقيت هذه النسبة الضخمة التي يعاد ترتيبها بالتعاون مع مكتبة
الكونجرس الأمريكي لإخراج ما يمكن نشره من أسرار الحزب الشيوعي.
المجلة عدد 615 20/22/91
- هكذا رغبوها.. وهكذا فككوها:
أصدر واصف عبوشي كتاباً بعنوان تفكيك فلسطين انتقد فيه مواقف الدول
الكبرى بنقد لاذع مع ربط تاريخي بين الماضي والحاضر مدعماً بالوثائق،
وواصف عبوشي أستاذ للعلوم السياسية في جامعة سنستامي أوهايو وهو فلسطيني
الجنسية وكان والده أحد مؤسسي حزب الاستقلال وأحد رؤساء البلديات الأوائل
الذين طردهم البريطانيون، يقول المؤرخ مونتي بالمر (من جامعة ولاية فلوريدا)
إنه أفضل كتاب صدر حتى اليوم عن دور بريطانيا في فلسطين بالاستناد إلى وثائق
بريطانية ... والكتاب إلى الآن باللغة الإنكليزية.
الحياة 23 محرم - 13 أغسطس
- خيبة أمل:
رسالة إلى الغرب، كتاب جديد للدكتورة رانية قباني وترجمه إلى الإنكليزية
والدها د. صباح قباني وجهت فيه رسالة إلى العرب تحذرهم من الانسلاخ من
الجذور من منطلق تراثي عربي، ورسالة إلى الغرب تصحح لهم مفاهيم مغلوطة
عن العرب وتحاول تقريب وجهات النظر، والكاتبة تعبر عن خيبة أمل التيار
التحديثي وتقر بفشل إسقاط هذا المشروع على الواقع المعاصر.
الحياة 21 جمادى الآخرة - 26 نوفمبر
- وثائق من محاكم التفتيش:
أوضحت دراسة بعنوان وثائق من محاكم التفتيش تظهر تمسك الموريسكيين
بمعتقداتهم الدينية على رغم عمليات القمع وكلمة موريسكي تعني (مسلمي الأندلس)
والدراسة تحاول فتح الصفحات المنسية في هذه الحقبة الزمنية من التاريخ، ذكرت
فيه مقتطفات من كتاب (حياة الموريسكيين الدينية) والذي يعد أهم كتاب صدر في
الموضوع.
الحياة 27 محرم - 7 أغسطس
- ألف مجاهد الجندي كتابه عن تاريخ الجامع الأحمدي في طنطا والذي
يحوي قبر (أحمد البدوي) والذي أصبح بؤرة للشرك والطواف حوله، وقد دافع
المؤلف بحماس عن البدوي وأشادت صحيفة (اللواء الإسلامي) بالكاتب والكتاب
وقدمت عرضاً له ولقاءاً مع مؤلفه في العدد (520) ونحن نتعجب من صحيفة
إسلامية تطبل لمثل ذلك الموضوع، وكيف لا يعلم المحرر ما في جامع الأحمدي
من الخرافات والبدع، ولمن يريد معرفة حقيقة (البدوي) نحيله إلى كتاب (السيد
البدوي بين الحقيقة والخرافة) د. أحمد صبحي منصور.(49/89)
إحصاء
- 20% من شباب إسرائيل يتعاطون المخدرات:
ذكر راديو العدو الإسرائيلي أن 20% من بين طلبة المدارس الثانوية في
إسرائيل يتعاطون المخدرات بمختلف أنواعها، وأشار إن هذا يعني إن أكثر من
عشرين ألف طالب ثانوي يتعاطون المخدرات في إسرائيل، وأوضح التقرير
الصادر عن مكافحة المخدرات الذي نقل عنه راديو العدو إن أكثر من 20% من
الشبيبة الإسرائيلية يتعاطون المخدرات من بينهم عشرة آلاف مدمن مخدرات وأكثر
من أربعين ألف متعاط لها.
البيان الإماراتية 27 ديسمبر عدد 4209
- 38 ألف عضو لجمعية (كيف تنتحر) :
أسس ديريك همفري جمعية هيملوك (وتعني السم) عام 1980 م التي تضم
الآن ثمانية وثلاثين ألف عضو، وتنادي إنه من حق المريض بداء مميت أن يصمم
أفضل أسلوب للموت ويتعاون مع طبيب خاص لإجراء عملية الموت، والجديد في
الخبر هو الكتاب الذي نشره مؤسس الجمعية بعنوان (الحق في الموت) ويتضمن
دليلاً تفصيلياً لطريقة الموت، وقد نفدت العشرين ألف نسخة في الأيام الأولى كما
نفدت 121 ألف نسخة أخرى في أيام قليلة أيضاً.
الحياة 14 أغسطس
- تجارة:
صحيفة البيان الإماراتية - في معرض حديثها عن دمج اقتصاديات المنطقة
بالاقتصاد العالمي - ذكرت أن 90% من تجارة العالم الإسلامي تتجه للدول
الصناعية، وإن هذا الرقم مرشح للزيادة في ظل ازدياد الاقتصاد المتعدد والجنسيات
المختلفة.
البيان الإماراتية 27 ديسمبر عدد 4209(49/91)
في دائرة الضوء
التزييف: رؤية ونموذج
رؤية:
ليس أضرّ على أمة من الأمم من أن تُبتلى بمن يزيف وعيها بحقيقة ألدّ
أعدائها؛ وأكثرهم مكراً وكيداً، خاصة حين يكون العداء له جذور في أعماق ثقافتها
عندها وعند عدوها على السواء؛ ضمن سياق طويل من معركة عقائدية عنيفة،
غائصة جذورها في أحقاب قرون طويلة مضت، وممتدة أغصانها في اعتقاد
الأمتين لتغطي الأزمان المستقبلية القادمة. ثم كم هي الخيانة عظيمة حين تمارس
فئة من الأمة التبشير بمشروع عدوها التقليدي، بوصفه حلاً واقعياً لا يمكن إيجاد
بديل يفضله أو يوازيه، مع أن أهون لوازمه -لو كتب له النجاح - فرض إعادة
تشكيل لجغرافية عقول الأمة عن طريق الحذف والاضافة من أجل بناء عقل
(معتدل -واقعي..) يتقن ممارسة الاستسلام الذليل والتخلي عن كل مقوماته الحضارية في مقابل توهمه استعادة جزء من أرضه المغتصبة، بينما هو يقدم أراضيه كلها -بكل ما فيها ومن فيها- لتكون سوقاً كبيراً يستهلك منتجات العدو الفكرية والمادية، ويحقق له تنفيذ اختراق أكبر للبنى الاجتماعية والسياسية لا يقارن بكل ما حدث في السابق.
هذه الصورة القبيحة من الزيف هي المحصلة الوحيدة التي يخرج بها من تابع
ويتابع الإعلام العربي منذ بدأ الحديث بما يسمى بـ (مؤتمر السلام) ، بل كثر
حديث الصحافة العربية عن مرحلة التفكير الواقعي المنتج الذي ارتقى إليها العقل
السياسي العربي، مع مهاجمة لا هدنة فيها لمن أسموهم: المتاجرين بالشعارات ...
القاطنين في رومانسياتهم الحالمة، في الوقت الذي تسوَّد فيه الصفحات بالحديث عن
الشرعية الدولية وما تعد به من خير عميم على القضية الفلسطينية.
وسوف نعتني هنا بتسليط الضوء على بعد واحد من أبعاد الصورة المعتمة،
ليكون نموذجاً بسيطاً للتزييف الذي تمارسه أقلام كثيرة تطالعنا تحليلاتها وآراؤها
التي ترسم بالسواد بياضاً وتجعل من الليل المعتم فجراً واعداً بجنة الحياة الدنيا، بل
والآخرة!
نموذج للتزييف
منذ بدأت مهزلة السلام غرقت الصحف العربية إلى أذنيها في الحديث عن
تغير النظرة الأمريكية إلى الصراع العربي الإسرائيلي، وعما سيقوم به الحكم
الأمريكي (راعي المفاوضات) من كسر لحاجز التعنت الإسرائيلي، ولما ظهرت
لاءات إسرائيل الأربع، وبدأت المفاوضات، وجاء الموقف الإسرائيلي ملتزماً
بالرؤية التوراتية التلمودية طالعتنا الصحف العربية بتحليلاتها: ما بين مؤكد
لحدوث تدخل قريب من الوفد الأمريكي للخروج من عنق الزجاجة، ومقدم عرائض
المطالبة بهذا التدخل، ومستنكر لتأخره الطويل.
وعلى الرغم من قيام مئات الشواهد التاريخية والواقعية قديماً وحديثاً تؤكد
وحدة المشروع الاستعماري الأمريكي والإسرائيلي، والتقاء المبادئ والمصالح في
مجرى واحد بحيث لا يمكن للحياد أن يجد ثغرة في درب متخم بالحواجز العقدية
والمصلحية، إلا أننا سنغفل كل ذلك وننطق من داخل أروقة المؤتمر نفسه ونتساءل: هل يمكن أن يكون للوفد الأمريكي موقف محايد في المفاوضات الجارية؟ بل:
هل تم تشكيل الوفد بصورة تنبئ عن الرؤية الأمريكية الجديدة التي توهمنا بها
الصحف العربية، والتي لا تنتمي إلى المشروع الإسرائيلي ولا تؤمن به؟ أم إن
راسمي القرار في الوفد الأمريكي مختارون بشكل يجعل منهم وفداً إسرائيلياً آخر في
لباس أمريكي؟
لقد نشرت الصحف العربية -على استحياء! - مواصفات أعضاء الوفد،
فكانت كالتالي [1] :
* دينيس روس رئيس الوفد هو رئيس مجموعة تخطيط السياسة في وزارة
الخارجية الأمريكية، وهو بذلك أعلى مستشاري السياسة الخارجية لبيكر، أمضى
عشر سنوات في التعامل مع القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط وتحديد السياسات
الأمريكية تجاهها، وهو ربيب ريتشارد بيرل الصهيوني النشط داخل دوائر
الحكومة الأمريكية وخارجها على مدى السنوات العشرين الماضية، وسأله وفد زاره
في مكتبه عن الرسومات المختلفة لنجمة داود على طاولة المكتب فأجاب أنها من
رسم ابنه.. وصفته جريدة واشنطن بوست (28/10/91) بأن له (معتقدات قوية
مؤيدة لإسرائيل) وأنه (كان لفترة طويلة من مؤيدي إسرائيل الراسخين) .
* دانيال كورتسر نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون التخطيط
السياسي وأحد مساعدي روس الكبار، كان موضوع رسالته للدكتوراة عن (العنف)
الفلسطيني والانتفاضة الإسرائيلية المعتادة، وفيها يعارض استخدام القوة لأنه يعتقد
أن هناك أساليب مضادة للانتفاضة الفلسطينية أنجع مما تقوم به إسرائيل لوقفها،
ويفضل الحوار مع المنظمة لأنه خطوة تسمح للإسرائيليين بإعادة تجميع صفوفهم
والانطلاق بعد ذلك في استخدام الوسائل الأنجع، وهو يهودي ملتزم بالتعاليم
اليهودية كان أثناء خدمته في سفارتي الولايات المتحدة في كل من (تل أبيب)
و (القاهرة) يتلقى الطعام اليهودي الحلال (كوشير) من إسرائيل، وهو يتحدث
العبرية بطلاقة، وله أقرباء في إسرائيل.
* آرون ميلر مساعد آخر لروس ضمن مجموعة تخطيط السياسة في وزارة
الخارجية، وهو يحمل شهادة الدكتوراة في تاريخ الشرق الأوسط، وله كتاباته عن
الفلسطينيين ومنظمة التحرير، ويركز في شكل خاص على الخلافات ضمن
صفوف الفلسطينيين ويؤكد أنها يمكن أن تفضي إلى تداعي التضامن الفلسطيني،
ويعرف عن أسرته في (أوهايو) أنها من أكبر دعاه التبرع للمنظمات الصهيونية،
وسبق أن عاش في إسرائيل وله فيها أقارب ويتقن العبرية.
* ريتشارد هاس، ويشغل منصب مساعد خاص للرئيس الأمريكي لشؤون
الأمن القومي، وكبير مديري شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن
القومي الأمريكي، وغالباً ما يطلق عليه لقب (المحافظ الجديد) وهي كلمة مرموزة
تشير إلى مؤيدي إسرائيل من الداخلين الجدد إلى المسرح المحافظ، والذين برزوا
فجأة في عهد ريجان، وقد درس وعاش في إسرائيل، ويعتبر أن الشرق الأوسط
غير ناضج بعد لحل الصراع فيه.
* ويليام بيرنر: هو العنصر الوحيد في فريق متابعة المفاوضات الأمريكي
الذي ليس يهودياً، ويشغل منصب النائب الرئيسي لمدير مكتب تخطيط السياسة
التابع لوزارة الخارجية الأمريكية.
هذا هو بعض ما نشر من مواصفات الوفد الأمريكي لمفاوضات السلام، وهو
يحل محل بوش وبيكر في حال غيابهما، ويرسم لهما سياستهما في حال حضورها. وسندع الإجابة عن تساؤلاتنا السابقة لأمين سر مجلس الوزراء الإسرائيلي
روبنشتاين فهو يقول [2] : (إن الفريق الأمريكي إلى مفاوضات سلام الشرق
الأوسط المؤلف من خمسة أشخاص، حيث يلتقي وفداً إسرائيلياً من خمسة أشخاص
أيضاً ينقصهم (مينيمام) أي النصاب الكامل (عشرة اشخاص) لإقامة صلاة
يهودية، فتسعة من المجتمعين العشرة يهود) .
ترى أين يعيش هؤلاء الذين يتحدثون عن رؤية أمريكية. جديدة، وحل
سلمي عادل؟ ! أم أنهم قد [جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا
واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] .
__________
(1) تحدثت عنهم الحياة في عددها (10512) في 17/10/1991 والأهرام في 3/9/1991 م.
(2) الحياة العدد السابق ذكره.(49/92)
مصطلحات
العالم الثالث
كيف كان وماذا سيكون
سقط الاستعمار القديم بعد الحرب العالمية الثانية وظهرت القوتان الكبريان:
أمريكا والاتحاد السوفييتي بعد اجتماع (يالطا) عام 1945، ومنذ ذلك الوقت نشأ
بينهما ما سمي بالحرب الباردة، وفي الستينات من هذا القرن ظهرت المعارضة
الفرنسية (الديغولية) لأن تكون أوربا الغربية دائرة في فلك واشنطن، وعلى الجانب
الآخر ظهرت المعارضة الصينية للهيمنة السوفييتية. وفي غضون ذلك ظهر ما بين
عامي 1959- 1960 مصطلح (العالم الثالث) الذي يشمل دولاً مختلفة في آسيا
وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
هذا العالم يرتبط بعدة معايير متداخلة إلى حد ما وفيها:
1- المعيار التاريخي الذي يربط دول هذا العالم بالدول المستقلة حديثاً من
الاستعمار الذي ساهم في تخلفها بشرياً واجتماعياً.
2- معيار اقتصادي ترتبط به هذه الدول بسمة التخلف الاقتصادي الذي
انعكس بصورة رئيسية على مستوى التقدم السياسي وجعل غالبها معرضاً للقلق
السياسي واضطراب الأمن.
3- معيار سياسي حاولت فيه هذه الدول أن تنشأ كتلة (عدم الانحياز) إلى أي
من القطبين وإن كان هذا الشعار لم يكن دقيقاً لأن كثيراً من دوله كانت منحازة فعلاً.
هذه المعايير ليست بقادرة وحدها ولا مع غيرها على تحديد حقيقة العالم
الثالث لأن تمتع هذا العالم بالوجود السياسي في النسق الدولي الراهن مفيد في
ممارسته بعالمية تواجد القطبين وسيظل العالم الثالث مسرحاً وهدفاً للقطبين الدوليين
ما دام لم ينتج الأسلحة الاستراتيجية. فهذا التجمع القائم على فكرة توفيقية هو
شريك في النسق الدولي لا أهمية له لأنه لم تتوفر له القوة المادية التي تمكنه من
المشاركة، زيادة على ما في هذا التجمع من التناقضات الكثيرة واختلاف المصالح
وأنه فعلاً منحاز لأحد القطبين.
وبعد سقوط القطب السوفييتي وتشرذم دوله ونشوء (دول الكومنولث المستقلة)
انتهى النسق الدولي القديم ونشأ الواقع الحالي القائم على القطب الواحد وتحت ما
تروج له أمريكا (النظام العالمي الجديد) . ومع ذلك فقد تظهر عوالم أخرى تحاول
أن تكون قطباً مناقضاً لامريكا كدول أوربا الغربية، ودول الكومنولث المستقلة،
واليابان وبلاد النمور السبعة ويبقى العالم الثالث في حالة لا يحسد عليها، وستطمع
فيه تلك الدول وبوادر ذلك نلمسها في استغلال خيرات دول هذا العالم واستغلال
المواقع الاستراتيجية بدعوى حمايتها من الإرهاب، وربما يتحول ذلك المصطلح
(العالم الثالث) إلى مصطلح أكثر دقة كأن يكون (الصراع بين الشمال والجنوب) أو
حتى (بين الصحارى والمدن) كما ألمح إلى ذلك الصحفي (محمد حسنين هيكل) في
مقاله الذي نشره في التايمز اللندنية بتاريخ 12/9/90 أبان حرب الخليج.
ولكن هل تتفطن دول هذا العالم (وأغلبها إسلامية) أن تعود لسر قوتها
ونهضتها وهو الإسلام بعد أن فشلت كل الطروحات التي حكمت بها بعد الاستقلال؟
هل تتخلص من رموز الاستعمار الذين رباهم على عينيه وجعلهم يفضلون التعايش
مع اليهود في سلمهم الجديد ويكرهون التعايش مع الإسلام ولو حتى بالشكل
الديموقراطي الذي طالما رددوه ودعوا إليه، وما أصدق قول عمر -رضي الله
عنه-:
(نحن أمة أعزنا الله بالإسلام وإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله) .(49/97)
منتدى القراء
إلى من يهمه
تبليغ رسالة الإسلام
سعود بن محمد آل عوشن
لا شك أن هناك تقصيراً في تبليغ الإسلام في هذا العصر الذي تيسرت فيه
وسائل التبليغ بما لم يتيسر في أي عصر مضى، ومع هذا فإن هناك أمماً كثيرة
محجوبة عن هذه الرسالة تماماً، وكثير من أفرادها لا يعرف أن هناك ديناً اسمه
الإسلام أو رسالة جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وطبعاً هذه مسئولية
أبناء الإسلام حسب قدراتهم ومسؤولياتهم.
ولو أننا بذلنا جزءاً مما نبذله على النواحي السياسية أو الرياضية أو التجارية
لاستطعنا إبلاغ الإسلام لكل الأمم وبكل سهولة ويسر. لكننا أعرضنا عن ذلك
وتركناه وكأننا غير مسئولين عنه، وعندما يكون هناك منهج رياضي أو سياسي أو
أسلوب تجاري نترجمه إلى مئات اللغات ونبلغه لجميع الدول وبوسائل التبليغ
والإعلام المختلفة، ولا يصعب علينا ذلك أو نتوانى دونه، لكن أن نترجم معاني
القرآن أو الأحاديث النبوية الشريفة أو كتب العقيدة أو الفقه أو ما يلزم للمسلم من
عبادات ضرورية، أو إبلاغ غير المسلمين بالإسلام فهذا لم يكن، وما كان في
الساحة فجزء قليل مما يجب وهذا نقص كبير في الإبلاغ والتفهيم.
لا شك أن كثيراً من علمائنا ودعاتنا يجهلون هذه الحقيقة لعدم إحاطتهم
بأوضاع العالم المعاصر ويكتفون بما يرد من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فأطاح أصحابه -رضي الله عنهم- وأرضاهم
بأكبر دول في الوجود آنذاك في الشرق والغرب، ونشروا الإسلام في بقاع العالم،
لكن نحن المقصرون في أداء الأمانة وإبلاغ الرسالة من بعدهم، حيث نشاهد أمماً
كثيرة لا تعرف عن الإسلام حتى اسمه، ولم نفعل شيئاً يجدي في ذلك، وكل
جهودنا قليلة وفي حدود ضيقة ومجالات قصيرة لا يعلمها إلا القليل وبصورة مشوهة
أو هزيلة لا تعطي المعنى والمظهر الإسلامي الحسن والأداء الشرعي المطلوب،
إن المسئولية في نظري تقع على كل فرد مهما يكن مستواه أو علمه أو قدرته، بقدر
ما منحه الله من قيم مادية أو معنوية علمية أو عملية، فعليه أن يستغل ذلك في أداء
هذا الواجب وغيره من الواجبات الأخرى فلو فعل ذلك كل فرد ما بقي في الأرض
فرد إلا تبلغ الإسلام فهل شعرنا بذلك وأشعرنا إخواننا بمسئولياتهم، إن هذا من أهم
الأمور التي يجب البدء بها للسير في الطريق المستقيم.
ومن الوسائل المهمة في تبليغ الإسلام أن نستقدم عدداً كبيراً من الأبناء تلك
المسلمين من تلك الدول وندرسهم لغة القرآن والعلوم الإسلامية، ويعودون إلى
بلادهم لينشروا الإسلام في أوطانهم، ويبلغوه لبني قومهم وأن نبعث إليهم من
المتشبعين بالعلوم الشرعية المحصنين بها من يدرس لغاتهم باتقان ليتولى ترجمة
معاني القرآن والعلوم الإسلامية إلى تلك اللغات، ومن ثم يعمل على نشر هذه
الترجمات في أوطانهم وبواسطة مؤسساتهم وبصورة أوسع وبصورة مستمرة
ليحصل كل فرد عليها، هذا مع الاهتمام بالإسلام إعلامياً ونشره بكل الوسائل
الممكنة الأخرى حتى نؤدي الأمانة ونبلغ الرسالة ونأمن المسؤولية في يوم الحساب
الأكبر فهل نحن فاعلون؟(49/99)
مجرد تساؤلات
عثمان بن محمد الخنين
لماذا يُصر بعض كبار الكتاب في كتاباته على نهج أسلوب غامض أو شبه
غامض ذي التواءات.. مما يجعل فهم ما يكتبه صعب المنال (فربما احتاج الأمر
لأكثر من متخصص في العربية ليوضحوا ما يقصد الكاتب) ، ألا يجدر بمثل هذا
الكاتب أن يسأل نفسه ... نحن في أي عصر؟ ! عصر كثرت فيه (الكتابات)
وكثرت فيه الكتب والصحف ...
وكثير من القراء إذا قرأ في بداية موضوع ولم يفهم منه شيئاً تركه إلى غيره
وهناك البديل أوضح وأيسر متناولاً؟ وباختصار نقول لمثل هذا الكاتب وأمثاله
(يسروا ولا تعسروا) .
أحد الناس متخصص في أحد فروع العلوم الطبيعية ثم أدخل نفسه في الأدب
والشعر فقُبل منه ثم بدأ يدخل نفسه في العلوم الشرعية مع أنه لم يلُم بالأحكام
الشرعية وأصبح يرد على بعض الدعاة والفقهاء! !
نقول لهذا: لماذا تُدخل نفسك في أمرٍ لست متخصصاً فيه ولا تُجيده وخاصة
إذا كان هذا الأمر هو الشريعة وأحكامها والدعاة والفقهاء؟ الا تخشى الله؟ !
و (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه) .(49/101)
في طريق
محو الإسلام من القدس
في خطوة لا سابق لها؛ أدانت المحكمة العليا في القدس مؤذن مسجد الشيخ
جراح الواقع قرب فندق المستعمرة الأمريكية في القدس الشرقية بحكم فحواه أنه
(يحدث ضجة غير معقولة) ويزعج السكان اليهود على بعد بضعة مئات من الأمتار
في النصف الثاني من المدينة، وغرمته ما يعادل (55) جنيهاً، و (500) جنيهاً
آخر إذا أعاد مثل هذه (الجريمة) خلال الثلاث سنوات القادمة.
وهذا الحكم جاء نتيجة لتحقيق قام به البوليس حول هذه التهمة. وهي أن إمام
هذا المسجد الصغير، الذي يلتصق بمئذنته مكبر صوت ضخم، يرفع صوت
المكبر إلى أقصى درجة ويوجهه باتجاه الأحياء اليهودية، حتى في الليل وفي أيام
السبت!
ويدعي متطرفون يهود أن قوة المكبر ازدادت بشكل ملحوظ منذ بدء
الانتفاضة، وقد تحققت الشرطة من ذلك بمقياس صوت قاست به نسبة الضجيج وادعت أن صوت المؤذن يتجاوز ما هو مسموح به. وقال أمير شيشن رئيس قسم القضايا العربية في بلدية القدس: (لقد تلقينا شكاوى حول ضجيج المكبر
والأذان - بالإضافة إلى اليهود - من مسلمين ومسيحيين وهؤلاء يخافون من التصريح بأسمائهم) .
وقد عبر المسلمون غضبهم من قرار المحكمة، ولم يقتنعوا من تعليق هذا
المسؤول في المجلس البلدي، خاصة وأن هذا الحكم صدر في الوقت الذي يجتمع
فيه زعماء مسلمون من شتى أنحاء العالم في مراكش لمقابلة الملك الحسن لمناقشة
الطرق التي يحافظ بها على (التراث لإسلامي) في القدس.
وقد أعلن محامي الدفاع أنه سوف يستأنف ضد هذا الحكم، ويطلب التدخل
من (هيئة الوقف الإسلامي) . وقد قال موشي عميراف عضو المجلس البلدي:
(المدينة حساسة جداً تجاه تناول المحكمة لقضية مثل هذه القضية، لأن مثل هذه
الخلافات يجب أن تحل بالوفاق، وإلا فإن حلها بهذه الطريقة سوف يسوق المدينة
إلى الانفجار) .
جريدة التايمز: 24/2/1992(49/104)
المرأة المسلمة والدعوة إلى الله
خولة درويش
تحملت المرأة المسلمة أعباء هذه الدعوة منذ فجر الإسلام، وضربت أروع
الأمثلة في الصبر والتفاني والثبات ...
(وإن أول قلب خفق بالإسلام وتألق بنوره قلب امرأة وقد هيء لها من جلال
الحكمة وبعد الرأي وزكاء الحسب ما عز على الأكثرين من الرجال.
لقد تأثرت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- بهذا الدين تأثراً
نفذ إلى قلبه - صلى الله عليه وسلم -، فكان مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع
النُّوَب واشتداد الخطوب) [1] . فقال - صلى الله عليه وسلم - مبيناً فضلها
وسابقتها: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها
الولد، وحرمتموه مني) [2] . ثم تحملت المرأة العذاب في سبيل دينها، متحدية
سطوة قريش وجبروت طغيانها آنذاك.
كانت سمية بنت خبَّاط أم عمار بن ياسر، سابعة سبعة في الإسلام، وكان بنو
مخزوم اذا اشتدت الظهيرة خرجوا بها وبابنها وزوجها إلى الصحراء وأهالوا عليها
الرمال المتقدة وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وتوفيت سمية تحت التعذيب -رضي
الله عنها-.
وعن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية بنت خبَّاط، والدة عمار بن
ياسر، كانت عجوزاً كبيرة ضعيفة، ولما قتل أبو جهل يوم بدر، قال النبي -
صلى الله عليه وسلم - لعمار (قتل الله قاتل أمك) [3] .
لقد هانت النفس والمال والولد عند الرعيل الأول من الرجال والنساء في
سبيل عقيدتهم ودينهم وحب الله ورسوله.
(عن ابن اسحق عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: مر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من بني دينار وقت أصيب زوجها وأخوها
وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحد، فلما نُعوا لها قالت: ما
فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله
كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. قال: فأشير لها حتى إذا رأته قالت:
(كل مصيبة بعدك جلل) [4] .
وخلال الهجرة ساهمت المرأة في التخذيل عن رسول الله وصاحبه وتحملت
الأرزاء والمشاق في سبيل دينها.
فكانت رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أوائل من هاجر
إلى الحبشة، وكان معها جملة من نساء المؤمنين [5] .
وكانت أم سلمة -رضي الله عنها-، قد منعها قومها بنو المغيرة من الهجرة
مع زوجها، ثم جذبوا ابنها سلمة منها حتى خلعوا يده، ففرقوا بينها وبين زوجها.
تقول -رضي الله عنها-: كنت أخرج كل غداة، وأجلس بالأبطح، فما أزال
أبكي حتى أمسي سبعاً.. حتى مر بها رجل من بني عمها فرقّ لها. وقال لبني
المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها، وبين ابنها، فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، وردوا عليها ابنها ثم لحقت بزوجها، رضي الله عنهما [6] .
ويستمر شأن الجاهلية هذه حتى أيامنا هذه، فيشرد المؤمنون في أصقاع
الأرض، ويمنع ذووهم من النساء والأطفال من تأشيرات الخروج للحاق بهم،
وتبقى سلعة الله غالية، تستحق التضحيات الجسام.
وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-، ذات مواقف
عظيمة خلال الهجرة، تمثل لباقة الداعية وحصافتها وثباتها.
قال ابن اسحق: حدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: (لما خرج
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر -رضي الله عنه، أتانا نفر من
قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا: اين أبوك يا
بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين؟ قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً
خبيثاً - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي [7] .
وعندما احتمل أبو بكر ماله كله، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم خلال
هجرته، سكّنتْ أسماء جدها أبا قحافة بأن وضعت حجارة في كوة البيت الذي كان
يضع أبو بكر ماله فيها، وغطتها بثوب ووضعت يد أبي حقافة على ما ظنه مالاً..
تقول: ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.. [8]
ولم تكتف المرأة المسلمة بذلك، بل ساهمت في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر على قدر طاقتها.
(دخل قريب لأم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها-، فوجدت من ريح
شراب. فقالت: لئن لم تخرج إلى المسلمين فيجلدوك؛ لا تدخل علي أبداً) [9] .
وها هي أُم سليم تدفع ولدها ليكون جندياً يخدم صاحب الدعوة. عن أنس قال: (جاءت بي أم سليم (والدته) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد
أزّرتني بنصف خمارها، وردَّتني ببعضه فقالت: يا رسول الله! هذا أُنيًس ابني
أتيك به يخدمك فادع الله له. فقال: (اللهم أكثر ماله وولده) فوالله إن مالي كثير،
وإن ولدي وولد ولدي يتعادّون على نحو من مئة اليوم) [10] .
وعندما خطب أبو طلحة أم سُليم (قبل أن يسلم) قالت: يا أبا طلحة! ألست
تعلم أن إلهك الذي تعبد نبتُ من الأرض قال: بلى. قلت: أفلا تستحي؟ تعبد
شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقاً غيره. قال: حتى أنظر في أمري.
فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالت: يا أنس
زوج أبا طلحة. فزوجها فكان صداقها الإسلام) [11] .
فأين من ذلك فتيات اليوم؟ ممن يتغالى أهلهن بالمهور، وقد يكون الخاطب ذا
دين وخلق، ولكن لا يستطيع دفع الأموال الطائلة، وكذلك الفتيات يتباهين بكثرة ما
يدفع إليهن من مهر وذهب ومجوهرات، أو يبقين عوانس مدى حياتهن وما أكثر
هذه الظاهرة في عصرنا الحاضر.
__________
(1) عودة الحجاب: محمد اسماعيل المقدم 2/263.
(2) قال محقق سير أعلام النبلاء: اسناده حسن انظر السير 2/112.
(3) الإصابة: 4/327.
(4) البداية والنهاية: 4/47، وحياة الصحابة: 2/333 (وجلل: تريد صغيرة، قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير) .
(5) الإصابة: 4/297، وسيرة ابن هشام: 1/322.
(6) الإصابة: 4/439.
(7) السيرة النبوية لابن هشام: 1/487.
(8) انظر سيرة ابن هشام: 1/488.
(9) أخرجه بن سعد: 8/129، وسنده حسن (أعلام النبلاء 2/244) .
(10) أخرجه مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة: (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/398) .
(11) الإصابة لابن حجر: 2/442.(49/106)
الصفحة الأخيرة
دعوة مؤسسات لا دعوة أفراد
د. مالك إبراهيم الأحمد
ما زال الكثير من التجمعات الإسلامية يعيش عقلية سنوات خلت، حيث كانت
الصحوة الإسلامية في مراحل نمرها الأولى تمشي متعثرة وتحاول النهوض بعد كل
كبوة. أما الآن، وقد أصبحت ملء العالم وأصبحت الخطر الأوحد أمام الأنظمة
الغربية بعد سقوط الشيوعية في المعسكر الشرقي فإنه لا بد من مواجهة أساليب
العمل الدعوي في وقتنا الراهن.
إن مما يؤسف له أن الكثير من التجمعات الإسلامية ما زالت محكومة بعقلية
الفرد، وما زالت تعيش مركزية وفردية القرار في حين أن العقبات أمامها تكبر،
والتحديات تزداد، والمحن تتوالى والأزمات تتفاعل.
إن أسلوب العمل من خلال أفراد في مواقع العمل المختلفة ما زال يجر عليها
الكثير من المصاعب والمصائب، وإن الأسلوب الأمثل - في نظري - لمنهج
التصدي للأزمات من جهة، وتطوير وسائل الدعوة بين الناس واستثمار معطياتها
للمستقبل؛ يكمن في أسلوب المؤسسات. أي أن يكون لدى كل تجمع إسلامي
مؤسساته الخاصة به لتطوير العمل وتنظيمه. وتكون هذه المؤسسات واضحة
المعالم والصلاحية والاختصاص، فهذه مؤسسة متخصصة بالدعوة العامة ووسائلها
وأساليبها، وهذه مخصصة للصحف والمجلات والكتب والنشرات، وتلك
متخصصة برصد ما ينشر عن الإسلام ويسبر أغوار الإعلام العالمي المناهض
للدعوة الإسلامية، وهذه مؤسسة مهمتها البحوث الشرعية التي تدعو حاجة المسلمين
إليها، ومؤسسات أخرى تربوية وإدارية وغير ذلك مما لا مكان لاستقصائه هنا.
وبذلك نحقق غايات أساسية كثيرة مثل: تحريك كثير من الطاقات المعطلة
وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، وضمان استمرار هذه الجهود وعدم وأدها بوفاة
شخص، وانتفاع المسلمين الدائم منها باعتبارها جهات تعمل على خير الجميع
وليست مشروعات فردية مرتبطة بشخصية من أسسها.(49/112)
شوال - 1412هـ
أبريل - 1992م
(السنة: 6)(50/)
الافتتاحية
الداء.. والدواء
لم تكن الدعوة الإسلامية بحاجة إلى الوحدة والتعاون والالتقاء على أهداف
واضحة كحاجتها في هذه الأيام، فالتحديات كبيرة وماكرة وخاصة بعد قيام ما سمي
بالنظام العالمي الجديد، فالغرب بعد انهيار الشيوعية كان لا بد له من عدو مشترك
يكتل حوله شعوبه ويشعرهم بالتحدي، ولم يجد أمامه سوى الإسلام الذي جعلوه
(فزاعة) يخوفون به الشعوب الأوربية الساذجة، ويكتلون حولهم من يستطيعون من
الدول والأمم.
أمام هذه التحديات نجد التفرق والتشرذم يفتك بالعمل الإسلامي وبالمسلمين
بشكل عام، وما يصاحب هذا التفرق عادة من حسد وبغضاء وعصبية، والأمثلة
واضحة أمامنا في كل أنحاء العالم الإسلامي، ولا نحتاج إلى عناء كبير لاكتشاف
هذه الظاهرة وما أدت إليه من الضعف.
إن عدم وحدة العمل الإسلامي في الجهاد الأفغاني كان من أكبر العوامل في
تأخير النصر، وهذا لا يخفى على الأخوة المخلصين هناك، ولكن عوامل التفرقة
راسخة وتحتاج إلى عمل كبير وتضحيات وتنازلات، وقد سمعنا أخيراً تصريح أحد
زعماء الجهاد بدعوته للاندماج الفوري في المؤسسات العاملة وخاصة الجبهة
العسكرية.
ومثال ثان من مصر حيث تكثر التجمعات الإسلامية ويكثر الجدل النظري
حول مسألة أو مسألتين، وتذهب السنوات ولم يتفق عليها.
ومثال ثالث موقف بعض الإسلاميين من أحداث الجزائر الأخيرة، فالذي
حدث في هذا البلد كان كارثة بكل معنى الكلمة، حدث لا يمكن أن يهمل أو ينسى،
فقد ضربت الدعوة هناك جهاراً نهاراً دون أن تقوم بأي عمل استفزازي للسلطة،
وليست القضية فقط قضية جبهة الإنقاذ، فقد ضرب الإسلام في مصر في
الخمسينات والستينات ثم عاد والحمد لله، وضرب في مناطق أخرى وعاد أقوى مما
كان، فنحن لا نخشى على الشباب المسلم هناك، ولكن المأساة هي أنه لا يزال
يعيش بين ظهرانينا أناس يتكلمون بلغتنا وعندهم الاستعداد لأن يخربوا البلاد
ويشردوا العباد، ويحطموا مستقبل الأمة في شبابها المتعلم المتدين ذي الأخلاق
العالية.
ما هو موقف بعض الإسلاميين تجاه حدث كبير كهذا، لقد تكلموا في الصحف
والمؤتمرات بكلام أقل ما يقال فيه أنه جهل بمرامي الإسلام الكبرى في وحدة
المسلمين وخاصة عندما يكون الصراع مع أعدائهم، ففي مقابلة مع جريدة الحياة
(6 /3/1992) قال أحدهم:
(الذي حصل هو نوع من التقهقر لجبهة الإنقاذ، أجريت الانتخابات بطريقة
لا يمكن أن يتحقق من ورائها الاستقرار، لا بد أن نفتح حواراً مع السلطة التي
جاءت وفرضت الأمر الواقع، ممكن للدولة أن تقلم أظافر أما كم الأفواه فلا) .
هذا رأي من لا يعرف حقوق الأخوة ولا يفقه في سياسة الناس شيئاً، وصنف
آخر انتقد الجبهة لأنها تعمل في السياسة، وتدافع عن نفسها، وأن الذي في الجزائر
الآن هو مجرد عاطفة وليس هناك أي تربية. ونقول لهؤلاء الإخوة: أهذا وقت
اللوم والنقد وإخوانكم في السجون والمعتقلات في الصحراء، أم وقت النصرة
والتأييد، وللنقد البناء والمناصحة والمشورة وقت آخر، ألم يخرج ابن تيمية مع كل
مشايخ دمشق - وفيهم الكثير من خصومه وحساده الذين أساؤوا إليه وكادوا له -
لمقابلة ملك التتر (قازان) وحتى يكون الموقف موجزاً، ألم ينضم علماء السنة
لحركة أبي يزيد الخارجي في قتاله للعبيديين الباطنيين وقالوا: نكون مع أهل القبلة
ضد أهل الكفر، وإذا كنا ننعى على التعصب المذهبي فلماذا لا ننعى على التعصب
الحزبي والإقليمي. أو ما شئت من أصناف التفرق الذي جاءت النصوص بالنهي
عنه والتحذير منه والعقلاء من الأمم يدركون أخطاره.
وفي ندوة أحد المؤتمرات الإسلامية انتقدت الجبهة الإسلامية من قبل أحد
المتباكين على الديمقراطية ولا ينتقد النظام الذي يزج بالآلاف في السجون..
إن ما ينقصنا هو فقه السياسة الشرعية في الوحدة ووسائل الوصول إليها،
والقرآن والسنة طافحان بالدعوة إليها ونبذ التفرق، أم ننتظر ليأتينا كاتب
غربي [1] ليقول: (إن سبب صعوبة حسم الخلاف بين المسلمين عدم وجود مؤسسة مركزية تصدر توجيهات لكل المسلمين..) .
__________
(1) في مقال نشر في مجلة دير شبيغل الألمانية للكاتب اودو شتاينباغ.(50/4)
قراءة في مجلة المنار
سر تقدم الأمم
عبد القادر حامد
هناك قسمان من العلماء: قسم يعني بالأمور الكلية الأساسية التي تتفرع عنها
القضايا الجزئية، وآخر يشغل نفسه بالقضايا الجزئية التي تأكل عمره وجهده.
فبينما يرى الفريق الأول أنه من العبث إصلاح الفرع بينما الأصل فاسد لا سبيل
إلى معالجته؛ يرى الفريق الثاني أنه إذا صلحت الجزئيات فإنها ستشكل بمجموعها
مجموعاً صالحاً يضغط لإصلاح الأصل، لأنه من الصعب تجاهل هذا الضغط الذي
يتحول إلى قوة جبارة لا سبيل إلى مقاومتها. وقد يغرق هذا الفريق في الجزئيات
ولا يعنِّي نفسه بهذا النقاش أصلاً، لأنه يكون غير قادر إلا على هذا، ولا يملك ما
يؤهله على الاستشراف والنظرة الكلية الشمولية.
وقد كان رشيد رضا ممن تشغله الأمور الجوهرية في بناء الأمم، وتعنيه
الأسباب التي بوجودها يتقدم المجتمع، وبفقدانها يتخلف ويطويه الجهل ويضربه
الذل. وقد حرص على أن يقدم روئيته في ذلك منذ أنشأ مجلته. ولذلك فإننا نعثر
في فاتحة العدد الثاني الصادر في 29 من شوال سنة1351 هـ (22/3/1898 م)
على مقال مكثف يضمنه هذه الرؤية عن طريق حوار بينه وبين جمع من الناس.
وأول ما يلاحظ في هذا المقال شعوره بأهمية الكشف عن أسباب سعادة الأمم
وتقدمها، وعوامل تخلفها وانحطاطها، وقد بين بادئ ذي بدء أن التقدم والتخلف
ليست أقداراً ثابتة ولا أوصافاً موروثة لا سبيل إلى تجاوزها، (فالاستعداد الفطري
والقوى الطبيعية في تلك الأمم واحدة، وأن اختلاف الحالات لم يأت من اختلاف
المدارك، والتفاوت في الاستعداد.. وإنما جاء من أمور عارضة، وظروف
خارجية..) . وبذلك يعطي بحثه وتحليله نتيجة إيجابية فما دام مرجع سعادة الأمم
وشقائها (أموراً عارضة وظروفاً خارجية) فسيكون من الممكن البحث عن هذه
الأمور العارضة؛ والتحكم في الظروف الخارجية.
وأول ما يراه رشيد رضا حوله هو هذه السلبية والتواكل وفساد الاعتقاد التي
ألبسها المسلمون ثوب الدين، وهي ليست إلا بدعاً وأمراضاً قاتلة قضت على
الإسلام بالتشويه، وعملت على قتل عناصر الحيوية والطموح عند المسلمين. فقد
أصبحت نظرة المسلم إلى الكون والعالم خليطاً من أفكار القدرية والجبرية والمرجئة. فبينما ينظر المسلم إلى المسائل العامة والمصالح الوطنية بجبرية وتسليم يتجلى
في جواب المصري حين يناقش في تلك القضايا: (هو بيدنا إيه) ! وجواب الشامي: (شو طالع باليد) . ويحيل نتائج العجز على الله، وربما استشهد على هذا السلوك
الباطل بقوله تعالى: [لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ..] بينما حاله في المسائل
العامة على هذه الصورة السلبية؛ تراه تحول إيجابياً وفاعلاً فيما يخص شؤونه
الخاصة وما يتعلق بمعيشته وهواه، ويعمل على جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها
بشتى الوسائل والأسباب بم ما كان مشروعاً، وما لم يكن، ولو أن يلجأ إلى عالم
الجن والشياطين، ويستعين بالأموات، ويطلب مشورة السحرة والعرافين
والمشعوذين.
وهكذا جمع المسلمون في عصورهم المتأخرة بين أطراف رؤوس البدع،
فأصبحوا جبرية فيما يخص المصالح العامة، وقَدَرية لا يؤمنون بالقدر عند
مصالحهم الخاصة.
وقد طرح أسئلة يبرز من خلالها فكرته عن السر الذي يحوّل الأمة من حال
الشقاء الى حال السعادة، وعرض من خلال هذه الأسئلة تصوره للمشكلات التي
يعيشها المسلمون في عصره، ثم حدد جواباً واحداً لمجموع هذه الأسئلة، وهذه
الأسئلة هي:
1- كيف يحصل التجاذب والالتحام بين العناصر المتفرقة في الأمة لتكون
منها أمة واحدة؟
2- ما الذي يمحو الأثرة والفردية من نفوس أفراد الأمة، حتى يرى كل فرد
مصلحته في مصلحتها، ومضرته في مضرتها؟ وهذه الأثرة والفردية قد أصبحت
مرضاً في المجتمع الإسلامي، فانفرط عقده، وأصبح الناس فيه: (بأسهم بينهم
شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) .
3- كيف تعاد الثقة إلى الفرد والجماعة بأن الله لم يحرم جماعة من الجماعات
من المواهب الفطرية والعقلية، بل إن هذه المواهب والقدرات مودعة وكامنة فيها
كمون النار في الزِّناد، ولا ينقصها حتى تظهر إلا أن تستعمل فيما خلقت له؟
4- ما السبيل إلى انتزاع اليأس والقنوط من نفوس الذين يستبعدون الشقة
بينهم وبين الأمم المتقدمة؟ ويشملهم ذلك اليأس عن الحركة؟
5- كيف يمكن إقناع أهل التقليد الأعمى بخطأ ما هم عليه من التقليد
بالمظاهر وثمرات الحضارة فقط؛ من تشييد القصور، وتزيينها وفرشها بالغالي من
الأثاث الذي أنتجته الشعوب المتقدمة، مما يعود بزيادة الفقر والإفلاس على الأمم
المتخلفة؟
6- ما سبيل النجاة من سطوة العادات التي يحملها المتغلّب؛ وسبيل الإبقاء
على الدين واللغة والعادات النافعة التي يسلِّط هذا المتغلب قواه ضدها، وكيف لا
نأخذ العبرة في مجال حفظ لغتنا العربية من اليهود، الذين احتفظوا بلغتهم مع ما
ابتلوا فيه من الذل والمسكنة والضعف وفقدان السلطة، والتشتت في الأرض، ومع
ذلك ظلوا يتكلمون ويقرؤون كتابهم بالعبرية، ولم يمنعهم من ذلك معرفتهم لغات
الشعوب التي عاشوا بينها.
وكيف لا نجد هذه الغيرة على لغة القرآن من المسلمين وبخاصة من أكثر
شيوخ العلم في بقاع العالم الإسلامي الذين إن ناشدتهم بذل الجهد ومضاعفة الوسع
والتحرك في الحفاظ على اللغة العربية، تملصوا بالاحتجاج بأن الله حافظ دينه
وكتابه حيث قال: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] .
7- كيف نتخلص من عاداتنا الرديئة التي تمكنت منا حتى صار يحسبها
الكثيرون أنها من الدين وهي ليست من الدين في شيء؟
8- ما السر الذي يجعل اختلاف رجال العلم والسياسة في أمم أوربا مثمراً،
والمحن التي تمر بهم يستخلصون منها النتائج الإيجابية والدروس النافعة؛ على
حين نرى اختلاف أمثالهم من رجال العلم والسياسة المسلمين اختلافاً عقيماً وتنازعاً
مهلكاً، ولا يكادون يجنون مما يمر بهم من الفتن إلا فتناً جديدة وخلافات تعصف
بالجهود ويعاني من ثمراتها الصغير والكبير، والغني والفقير، والجاهل والعالم؟
9- ما الذي يغسل النفوس من الوهم الذي يجعلها تخاف مما لا يخيف،
وتتطلع إلى ما لا فائدة منه من الأفكار والأشخاص؟
10- ما القياس الذي يقاس به النفع والضرر، ويميز به بين المجد الصحيح
والمجد الكاذب، وبذلك يمكن أن توجه النفقات الطائلة التي تنفق على المظاهر
الفارغة، كالولائم والمآتم وما يتعلق بها من تشييد القبور.. إلى التربية والتعليم
والأمور التي تعود بالنفع العام؟
11- ما هو الدواء الشافي لأمراض الفساد والمآثم والموبقات؟
12- متى يمكن القضاء على الأمراض الجسدية والأوبئة أو التقتيل منها على
الأقل؟
13- كيف نعمل على رفع نسبة الدخل القومي للأفراد في أمة يوجد فيها قلة
من الأغنياء - وأكثرهم حصل على ثروته من طرق غير مشروعة - وكثير من
الفقراء فقراً مدقعاً؟
14- كيف تتحسن الزراعة، ولماذا كان أهالي فرنسا ونيوزلندة أكثر ثروة
زراعية من أهل مصر، مع أن أرض مصر أخصب.، ورجالها أكثر صبراً
وجلداً على العمل، وعندهم النيل الذي ليس له في العالم نظير؟
15- كيف يمكننا إتقان الصناعة والتفنن في تنويعها حسب حاجات الأمة
لتحفظ ثرواتها من استغلال الأجانب لها، وجعلها دائماً عالة عليهم؟
16- ما هي الطريقة للنهوض بالتجارة التي هي بمثابة إدارة لثمار الزراعة
والصناعة؟
17- كيف لنا أن نتحرر من سيطرة الأجانب على أبسط المرافق العامة كالماء
(احتكار شركات أجنبية في ذلك الوقت لتوريد ماء النيل ونهر الكلب في بيروت،
مما يدل على انحطاط أمة تسمح بهذا، ومما لو وجد خبره في كتب التاريخ القديم
لكان من الخرافات والأساطير وهذيان القصاص الذي لا يصدق!)
18- كيف حصلت دول مثل انكلترا وفرنسا وغيرها من الدول المسيحية على
القوة التي مكنتها من احتلال وإخضاع تلك الممالك الشاسعة في جنبات الأرض؟
19- كيف يتسنى لنفر قليل الاستيلاء على شعب كبير يصرفونه في
مصالحهم ويستخدمون أفراده كما تستخدم الدواب، ويديرونه كما تدار الآلة الصماء، وهو لا يعرف سبب هذه السلطة وقد لا يفكر في ذلك أصلاً كأنما فقد العقل
والشعور؟
20- كيف تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحرر من حكم الإنكليز،
وأن تتحد تحت لواء واحد، وتصبح قوة تخشاها أوربا؟ [1]
21- وباختصار: ما الآلة الرافعة للمتطوحين في مهاوي التعاسة والشقاء
للخروج مما هم فيه وتحسين أحوالهم حسياً ومعنوياً، ديناً ودنيا؟
كانت هذه جملة الأسئلة المنتزعة من الواقع المعاش في ذلك الزمان وقد
عرضناها جميعاً ليدرك قارئ اليوم بالمقارنة كم من تلك الاسئلة ما زال يبحث عن
جواب؟ وقد حاول رشيد رضا الرد على ما اعتقد أنه مزاعم قد يظن أنها تمثل
إجابات أو حلولاً للمشكلات التي تعكسها هذه التساؤلات ومن ذلك:
الزعم أن سر التقدم والخروج من مأزق التخلف يكمن في الأمراء والحكام.
فلو افترض أن الحكومة غنية، ورعاياها فقراء فقراً مادياً وأدبياً وأمكن هذه
الحكومة أن تجري الإصلاحات المادية جميعها، فهل تستطيع أن تقتلع من نفوس
الأمة الأخلاق السيئة والعادات الرديئة وتزرع فيها ضدها من الأخلاق الفاضلة؟
كلا. وهو ينعى على ما صار إليه أمر المسلمين من هذا الاعتماد الكامل الشامل
على الحاكم، حتى أصبحوا لا يرون لأنفسهم وجوداً إلا بالحكام، ويرون أن صلاح
الأمة وفسادها، وغيها ورشادها وصحتها ومرضها، وغناها وفقرها، بل محياها
ومماتها كل ذلك بيد الحاكم، كأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وكأن هذا الوهم متسلسل فيهم بالإرث من عهد من قال: (أنا أحيي وأميت) وعهد
من قال: (أنا ربكم الأعلى) [2] وجهلوا أن الحاكم ليس إلا رجلاً من الأمة، وأن
الحاكمية ما زادت في فضائله، ولا منحته قوة فوق القوى البشرية، بل ربما
أفسدت أخلاقه وأسقمت مداركه.. (نعم، إن الحاكم إذا ساعد الشعب يكون
الإصلاح أسرع وأقرب إلى النجاح.
زعم طائفة أن الطريق لنهضة الأمة هو تسليم أمرها إلى الأجانب حيث هم -
على عيوبهم - أقدر على بسط العدل، ومحاربة الرشوة، وغل أيدي المتسلطين،
وإنشاء المرافق الحديثة التي يعود خيرها على المجموع.. وهذا الزعم كثير التردد
منذ ذلك الوقت إلى اليوم، فكثير من الناس يتمنون الآن أن لو عاد المستعمر -
فرنسياً أو إنكليزياً أو أمريكياً - وخلص البلاد والعباد من الظروف المأساوية التي
تلفها، وكثير من المخضرمين الذين عاصروا مرحلة الاستعمار ومرحلة ما سمي
بالتحرر آل بهم الأمر إلى أن (يترحموا) على عهد المستعمرين، ويحنوا إلى ذلك
العصر الذي لم يذوقوا منه ما ذاقوه على أيدي أبناء جلدتهم. ولماذا نذهب بعيداً
ونحن نرى شعوباً وجماعات بكاملها تستنجد بأمريكا وبريطانيا وفرنسا وبالعفاريت
والشياطين لتنجو من سوء ما وقعت فيه من جور وظلم ونكبات؟ !
لكن رشيد رضا يسفِّه هذا التفكير، ويعده استشفاءً من الداء بداء أقتل منه.
وهو أن ساسة هذه الأمم قد تربوا في بلادهم على حب أوطانهم ووقفوا حياتهم على
نفع أمتهم، وأصبح ذلك طبعاً فيهم، وأن ما يبدو من أعمالهم نفعاً للشعوب والأمم
الأخرى في الظاهر؛ إنما باطنه مضاعف النفع لأممهم، لأن تصرفاتهم تقوم على
مبدأ (النفعية) الأنانية المقيتة، ويدرك ذلك كل ذي لبّ، فلا ينشرون من المعرفة
في غير بلادهم إلا ما يؤدي إلى حبهم واعتقاد عظمتهم، ويفسد على الآخرين لغاتهم
وأديانهم وتاريخهم وثقافاتهم. ولا يقدمون من المعونة لغيرهم باليمين إلا ليأخذوا
أضعافاً بالشمال، فمثلهم كمثل الذي يعطي كِسرة خبزٍ ليأخذ رغيفاً، وقد يعملون
على جلب الرخاء والرفاهية لأمة من الأمم بعد فقر وشدة، ولكن أي رخاء وأي
رفاهية؟ الرفاهية التي تزيد في الكسل والترهل، وتسخر الكثرة لخدمة القلة.
رد رشيد رضا أيضاً على زعم من يزعم أن الصحافة هي المخرج، وبين أن
الصحافة -. مع مالها من شأن عظيم وأهمية لا تنكر- لكنها لا توجد المدنية بل
هي أثر من آثارها وثمرة من ثمراتها.
وبعد أن استنفد ما يُتَصور من الأجوبة وناقشها ختم بجواب هو عنده الوسيلة
الصحيحة التي ترجع إليها كل الأسباب لتحقيق التقدم والارتقاء وهو (تعميم التربية
والتعليم) بين أفراد الأمة. فهل هذا هو الجواب الفاصل؟ ! قد لا يكون هناك
إجماع على هذه النتيجة التي وصل إليها، فقد عممت التربية والتعليم، وأصبح
التعليم مجانياً لدى أكثر الشعوب العربية، وكثر الأطباء والمهندسون والخبراء،
فهل أدى ذلك إلى التقدم الذي نشده رشيد رضا من التربية والتعليم؟ لا أحد يرى
ذلك.
أين الخلل إذن؟ هل هو في المناهج التعليمية؟ أم في الإدارات التي تديرها؟
أم في المصدر الذي يوجه هذه الإدارات، ويرسم سياستها؟ أم في علة أخرى..
الأجوبة كثيرة والحاصل واحد!
__________
(1) لم تكن أمريكا حينذاك قد أصبحت قوة عظمى فاعلة على المسرح العالمي.
(2) أي النمرود وفرعون.(50/7)
خواطر في الدعوة
أزمتنا الأخلاقية
(2)
محمد العبدة
كم هو مؤلم للنفس أن يشكو إليك أخ مسلم حال بعض المنتسبين للدعوة فيذكر
من جفائهم وبعدهم عن تطبيق ما يأمر به الإسلام من الرفق واللين والكلمة الطيبة،
والسؤال عن الحوائج وتفقد الأحوال، والزيارة الأخوية، ويتابع هذا الشاكي فيقول: (دخلت المستشفى فلم يزرني الإخوة الذين أعرفهم، وزارني زملاء العمل الذين
هم أقرب لأن يكونوا من عوام المسلمين، وبعضهم يعرض علي المساعدة المالية،
أو أي خدمة يمكن أن يؤديها) .
ونحن نسمع ونرى كيف يخدم أهل الباطل بعضهم، أو من يريدون وقوعه في
شباكهم، مع أن المسلمين هم أولى الناس بكل مكارم الأخلاق ومحاسن العادات،
ولا يجوز أن يسبقهم سابق في هذا المضمار، وإننا نذكر المسلم بحديث: (اشفعوا
فلتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب) وحديث العاهر التي سقت كلباً في
يوم قائظ فغفر الله لها، وحديث المرأة التي عذبت في هرة لها حبستها، وحديث
الذي كان يقام عليه حد الخمر فلعنه أحدهم، فقال له الرسول - صلى الله عليه
وسلم -: (لا تلعنه إنه يحب الله ورسوله) كما نذكرهم بقصة الإمام أبي حنيفة مع جاره السكِّير الذي كان سجن فشفع له أبو حنيفة حتى تاب وأناب.
إن من أسباب هذا الجفاء والجفاف عند بعض المنتسبين إلى الدعوة هو ضيق
عطنهم، وجهلهم بحال المدعو وبطريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحاله
في تأليف الناس وطريقة العلماء الربانيين من هذه الأمة. ولذلك تجدهم إذا رأوا من
هو مقصر في بعض السنن عاملوه بازدراء واستخفاف، وقد لا يسلمون عليه إلا
بصوت منخفض، ولا يهتمون به ولا يحاولون استمالته بالكلمة الطيبة أو بصنع
المعروف حتى يميل قلبه إلى محبه السنة وأهلها.
وهذا الذي ينظر إلى المقصرين بعين الازدراء وقع في داء أشد وهو العجب
بالنفس والاستطالة على الخلق. وهؤلاء غالباً ما يقعون في الغيبة باسم النقد
والتقويم. وهذا المرض أصبح فاشياً، فتُذكر معايب المسلم وقد لا تكون فيه،
وأكثرها من الأوهام والظنون، ولا تسأل كذلك عن المكر الذي يستعمله بعضهم مع
إخوانه ويعد هذا من الذكاء والكياسة، وينظر للمسلم الذي لا يستعمل هذا المكر على
أنه مغفل مسكين.
وبعد هذا كله، ألا يحق لنا أن تصف بعض جوانب أزمتنا بأنها أخلاقية،
وهي فرع ولا شك من تخالفنا العام الذي طال مكثه فينا، ونحن نحاول من هنا
وهناك الخروج من هذا المأزق؟ !(50/14)
مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية
عثمان جمعة ضميرية
-1-
اقتضت حكمة الله وإرادته أن يجعل آدم وذريته خلفاء في الأرض، ليقوموا
بعمارتها وفق منهج الله تعالى وشريعته، فيحققوا بذلك غاية وجودهم، توحيداً لله
وعبادة له وطاعة؛ حيث قال -سبحانه وتعالى-:
[وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] [البقرة: 30] .
[وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ
فِي مَا آتَاكُمْ] [الأنعام: 165]
ولما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض لم يتركه لنفسه أو لعقله، فهو يحتاج إلى
عناية ورعاية، ويحتاج إلى منهج وهداية، وقد أكرمه الله تعالى بذلك، فأنزل عليه
الهداية الربانية والمنهج الذي تستقيم به حياته:
[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * والَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ] [البقرة: 38 - 39] .
-2-
ومنذ أن أوجد الله تعالى البشر فطرهم على التوحيد والإيمان بالله تعالى،
وأخذ عليهم العهد والميثاق، مذ كانوا ذريَّة في ظهور آبائهم، ولذلك يأمرهم أن
يقيموا وجوههم لله، وأن يخلصوا دينهم له، فإنه مقتضى الفطرة، وتحقيق للعهد،
وأداء للشهادة التي أشهدهم عليها:
[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] .
وعلى هذه الفطرة والتوحيد كانت البشرية الأولى قبل أن يقع الانحراف،
كانت على التوحيد والإسلام من وقت آدم إلى مبعث نوح، وكان بينها عشرة قرون، كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله
تعالى إليهم نوحاً، فكان أول رسول، ثم بعث الله بعده النبيين:
[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ
الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [البقرة 213] .
-3-
ولا تستقيم حياة البشر إلا ببعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهي
ضرورية للعباد، لا يستغنون عنها، فهي بمثابة الروح للحياة والنور للهداية
والإبصار، ولذلك سمى الله تعالى ما أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -:
روحاً ونوراً، فقال: [وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ
ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا] [الشورى: 52] .
ولذلك بعث الله تعالى الرسل تترى، كلما ضلَّت أمة بعث الله تعالى إليها
رسولاً، يقيم عليها الحجة ويقطع العذر، ويبشرها وينذرها: [إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً ونَذِيراً وإن مِّنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ] [فاطر 24] .
وهؤلاء الرسل هم الذين يحملون الشرائع للناس ويبينونها لهم، ويبلِّغونهم
البلاغ المبين، فيعرّفون الناس بربهم معرفة صحيحة صادقة، ويضبطون حركتهم
الفكرية والعلمية بضوابط الوحي الإلهي؛ إذ لا تستطيع العقول البشرية - مهما
ارتقت - أن تستقلَّ بمعرفة ما ينبغي معرفته من مصالحهم العاجلة والآجلة، ولا
تستطيع معرفة أمور الغيب المحجوبة عنها، ولا الأمور الدينية على وجه التفصيل. وهم أيضاً: القدوة الصالحة التي تتأسى بها البشرية، ولهم الأثر الباقي الخالد في
الحياة. وهم سبب كل خير، وبرسالتهم ودعوتهم تقوم الحضارات.
-4-
ولما بلغ الكتاب أجله، قضت حكمة الله تعالى أن تختم رسالات السماء برسالة
نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلا رسالة بعد رسالته، ولا نبي بعده. وهذا
يقتضي أن تكون دعوته خطاباً عاماً موجهاً للناس جميعاً، وأن يكمل الله تعالى بها
الدين، وأن يتم بها النعمة ويجعلها ظاهرة على الأديان كلها ناسخة لها. وقد كان
ذلك كله، فأصبحت هذه الأمور خصائص لهذه الرسالة التي تكفل الله بحفظها عندما
تكفل بحفظ أصلها المنزل حين قال: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
[الحجر: 9] ، ولذا فهو كتاب [لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [فصلت: 42] .
-5-
ونهض رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بأعباء الدعوة وصدع بها،
منذ أن أمره الله تعالى بذلك، واستمر نزول الوحي عليه في مكة المكرمة ثلاثة
عشر عاماً، لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في الدعوة والتجرد والإخلاص والتفاني،
والصبر والجهاد والمجاهدة، والتربية الإيمانية العميقة. فنشأت - عندئذ - القاعدة
الصُّلبة التي رباها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عينه، يقود خطاها الوحي
الإلهي في كل لحظة من اللحظات، ويأخذ بيدها لتكون على الجادة من الطريق
الطويل.. ثم انتقل بها إلى المدينة حيث تجد التطبيق العملي لمبادئ الإسلام كاملة،
بعد أن أراد الله تعالى لأهلها الخير، فساقهم ليبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -
بيعة العقبة التي كانت حجر الأساس في بناء الدولة الإسلامية، التي عمل النبي -
صلى الله عليه وسلم - لإقامتها بوحي من ربه -تبارك وتعالى-.
كل هذا، والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يتلقّون من النبي - صلى الله
عليه وسلم - أحكام هذا الدين وتعاليمه وآدابه: فيما يتعلق بالإيمان ومعرفة الله
سبحانه، وما ينبغي له من الطاعة، وفي كيفية العبادة وأداء الشعائر، وفي شتى
أنواع المعاملات ومناشط الحياة الفردية والاجتماعية، وفي جوانب الأخلاق والآداب
والسلوك، ثم في علاقة الأمة بغيرها من الأمم الأخرى.. كل هذا دون أن يكون
هناك تقسيم لهذه الأحكام أو تصنيف لها أو تبويب على أساس أن هذا عقيدة وذاك
فقه وعبادة، والثالث اقتصاد أو سياسة.. إلى غير ذلك من هذه التقسيمات
الحادثة - اليوم - للضرورة، ودون أن يكون هناك تفريق بينها في الالتزام بها والعمل بمقتضاها. فهي كلها أحكام منزلة من الله، ينبغي عليهم أن يتلقوها بالتسليم، وأن يسارعوا إلى الامتثال والالتزام بها والتفاعل معها، ليحققوا بذلك مقتضى إيمانهم بالله واستسلامهم لشرعه ودينه.
ولذلك نجد الإسلام والإيمان والإحسان في سياق واحد يعبِّر عن الدين كله،
كما في حديث جبريل الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - وفيه جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما في من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من
الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك كله تفصيل لجملة هي كلها
شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال: (إنه جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو لهذا الدين بجملته، لأنه
لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من جميع جوانبه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-
لجماعة من شيبان بعد أن عرض عليهم الإسلام. وهو ما يشير إليه جوابه لوفد
ثقيف عندما وفدوا عليه، وغدوا عليه أياماً، وهو يدعوهم للإسلام كله دون أن
يكون هناك استجابة لبعض ما يريدونه من مسامحة في أمور بعينها يريدونها!
-6-
فالدين الإسلامي - بما أنه منهج إلهي للبشر ينبغي أن يصرّف حياتهم
ويوجهها - يشمل جانبين اثنين، تتفرع عنهما سائر الجوانب الأخرى وتعود إليهما:
الجانب الأول: الأصول الاعتقادية، أو الأساس النظري الذي يشكل القاعدة
الأساسية في بناء هذا الدين، ومنه ينطلق المؤمن، ويضبط حركته كلها بضوابطه، ويوجه سلوكه وأعماله بمقتضاه، وهو يفسِّر له أصل نشأة الإنسان وغايته مصيره
ويحدد علاقته بالوجود كله من الحياة والأحياء بعد أن يحدد له صلة بالله تعالى.
وهذا الجانب هو العقيدة التي تقوم على أصول نسميها أصول الإيمان وأركانه، مما يجب أن يعتقد به المؤمن ويصدق به.. وتسمى الأحكام المتعلقة بهذه النواحي
أحكاماً أصلية أو اعتقادية.
والجانب الثاني: هو النظام الذي ينبثق عن تلك الأصول الاعتقادية ويقوم
عليها، ويجعل لهذه الأصول صورة واقعية متمثلة في حياة البشر الواقعية.، لذا
فهو يحدد للمكلفين حدوداً في أقوالهم وأفعالهم - كما يقول الشاطبي -رحمه الله -
فيبين كيفية عمل المكلف، والإتيان به على الوجه الذي أمر به الشرع؛ في الشعائر
التعبدية والنظام الاجتماعي، ونظام الأسرة، والنظام الاقتصادي وفي قواعد
الأخلاق.. وفي كل ما من شأنه تنظيم حياة الناس وارتباطاتهم وعلاقاتهم.. وتسمى
الأحكام المتعلقة بهذه الجوانب كلها: أحكاماً فرعية أو عملية، لأنها عمل متفرع عن
الاعتقاد.
والعلم المتعلق بالجانب الأول من هذين الجانبين يسمى علم العقيدة أو أصول
الدين. والعلم المتعلق بالجانب الثاني يسمى علم الشرائع والأحكام، لأنها لا تستفاد
إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم - عند الإطلاق - إلا إليها.
-7-
وإذا كانت العقيدة هي أصل البناء وأساسه، فإن الشريعة تنبثق عن هذا
الأصل وتقوم عليه، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك الإنساني، في أي
جانب من جوانب الحياة، متفرعاً عن أصل من أصول العقيدة والإيمان ومرتبطاً به. فلا قيمة ولا استقرار لنظام لا يستند على أساس متين، كما أنه لا جدوى من
أساس ما لم نرفع فوقه بناء قوياً محكماً.
وهكذا تتعانق العقيدة والشريعة لتكوين هذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به،
وإن كان أحد الجانبين أعظم أهمية من الآخر، فإن العقيدة هي الجانب الأعظم الذي
أولاه الإسلام عنايته الكبرى أولاً في مكة المكرمة، وهي مرحلة الإعداد والتربية
والتكوين، ثم استمر الحديث عن هذه العقيدة عندما بدأت الأحكام تتنزل على الأمة
في المدينة، بعد أن أصبح لها وجود فعلي وكيان مستقل، بل كانت العقيدة هي
الروح الذي يسري في هذه الأحكام، فيهبها الحياة النابضة المتحركة.
وقد عرضت الأحكام الشرعية في جوانب الحياة، حتى تلك التي تبدو وكأنها
لصيقة جداً بالجانب المادي أو الجسماني البحت - من خلال العقيدة وارتبطت
بالإيمان بالله تعالى ومراقبته، وأحكام الشريعة بجملتها شاهد صادق على ذلك.
-8-
ولعله من نافلة القول، أن نؤكد مرة أخرى على أن هذه التقسيمات السالفة
للدين إلى عقيدة وشريعة وأخلاق.. إنما هي تقسيمات فنية اصطلاحية من أجل
الدراسة والمعرفة، اقتضتها ضرورة التأليف والتصنيف بعد نشأت العلوم واستقلالها
بالتدوين. ولكن الغفلة عن هذه الضرورة تركت آثاراً سيئة في حس بعض الناس
وشعورهم وواقعهم، حيث جعلتهم يظنون أنه يكفيهم أن يكونوا على عقيدة نظرية،
تستقر في قلوبهم ووجدانهم، دون أن يكون لذلك أثر في حياتهم، أو دون العمل
بمقتضيات هذه العقيدة، ويحسبون أنهم متمسكون بهذا الدين حتى لو كانوا يستمدون
تشريعاتهم في جوانب الحياة الأخرى من مصادر بشرية أو من مذاهب وأفكار أخرى
لم يأذن الله بها.
ولم تكن هذه الآثار نابعة عن التقسيم إلى عقيدة وشريعة، بحد ذاته، فإن ذلك
قسمة واقعية بيانية، وإنما كانت هذه الآثار بعد أن بهت الدين في نفوس بعض
الناس والتبست عليهم الأمور واختلفت المفاهيم. ولذلك كان من الغلو والإجحاف أن
يجعل بعض الكاتبين هذا التقسيم مخالفاً لحقيقة الدين حيث يقول: (إن ثنائية تقسيم
الدين إلى عقيدة وشريعة من أخطر الأمور التي جرّت آثاراً سيئة على ديننا الحنيف، وذلك لأن هذا التقسيم مخالف لحقيقة الدين التي تقوم على أمر واحد، وهو تأليه
الله -عز وجل- وحده..) وإن كان دافعه لهذا القول طيباً وحسناً، إذ هو يريد أن
يعيد للدين هيمنته وسيطرته على النفوس.
-9-
وبعد؛ فحسبنا هذه الإشارات السريعة التي جعلتها مدخلاً عاماً بين يدي دراسة
موجزة عن (علم العقيدة: تاريخ النشأة، وطرق التدوين) ، أعرض خطوطها
الرئيسية على صفحات (البيان) -إن شاء الله - لعل هذا الموضوع يأخذ حظَّه من
الدراسات العميقة المتخصصة على يد أحد الباحثين. ولعل بعض القراء الكرام
يصحح خطأً أو يقوّم اعوجاجاً أو يقترح منهجاً للبحث فيما سأعرضه في هذه
الصفحات المنتزعة من تلك الدراسة التي أشرت إليها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(50/16)
ردود الأفعال
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
إن (ردود الفعل) من الظواهر المرضية والمستفحلة في واقع المسلمين قديماً
وحديثاً، فما أن يظهر انحراف ما.. حتى يقابل برد فعل معاكس تماماً للانحراف
السابق.. لكن يوقع في انحراف من نوع آخر! ! ومن ثم تتكاثر تلك الانحرافات
وتتشعب هذه الشطحات الواقعة بين إفراط وتفريط، أو غلو أو جفاء.
إن ردود الفعل مسلك سلكه أهل الجهل والظلم.. كما هو ظاهر عند طوائف
المبتدعة.. وقد هدى الله تعالى أهل السنة فجمعوا بين العلم والعدل، فهم يعرفون
الحق ويرحمون الخلق، ومن ثم فقد سلموا من نتائج وعواقب تلك الردود،
وصاروا وسطاً وعدلاً بين تلك الطوائف المتباينة.
ومن المعلوم أن دين الله عز وجل وسط بين الغالي والجافي، يقول الشاطبي
في هذا الشأن: (الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الأوسط
الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير
مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين
غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام..
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط
إلى أحد الطرفين، كان التشريع راداً إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه
إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فعلَ الطبيب الرفيق يحمل المريض على
ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا ما استقلت
صحته، هيأ له طريقاً في التدبير وسطاً لائقاً به في جميع أحواله) [1] .
ولقد تفطن سلفنا الصالح لهذا المزلق، وأشاروا إليه، فهذا خطيب أهل السنة
ابن قتيبة يحكي أمثلة على ذلك فيقول:
(لما رأى قوم من أهل الإثبات إفراط هؤلاء في القدر [أي في نفيه] .. حملهم
البغض لهم، واللجاج على أن قابلوا غلوهم بغلو، وعارضوا إفراطهم بإفراط،
فقالوا بمذهب جهم في الجبر المحض، وجعلوا العبد المأمور المنهي المكلف لا
يستطيع من الخير والشر شيئاً على الحقيقة.
وزعم آخرون تصحيح التوحيد ونفي التشبيه عن الخالق، فأبطلوا الصفات
مثل: الحلم والقدرة، والجلال، والعفو وأشباه ذلك. فعارضهم قوم بالإفراط في
التمثيل فقالوا بالتشبيه المحض: وكلا الفريقين غالط، وقد جعل الله التوسط منزلة
العدل، ونهى عن الغلو فيما دون صفاته من أمر ديننا، فضلاً عن صفاته..
ثم قال -رحمه الله-: وقد رأيت هؤلاء أيضاً حين رأوا غلو الرافضة في
حب علي - رضي الله عنه -، وتقديمه على من قدمه رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وصحابته عليه، وادعاءهم له شركة النبي صلى الله عليه وسلم - في نبوته، وعلم الغيب للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل والأمور السرية التي جمعت إلى
الكذب إفراط الجهل والغباوة، قابلوا أيضاً ذلك بالغلو في تأخير علي -رضي الله
عنه-، وبخسه حقه، واعتدوا عليه بسفك الدماء بغير الحق.. والسلامة أن لا تهلك
بمحبته ولا تهلك ببغضته..) [2] .
وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية يورد أمثلة أخرى لتلك الردود فيقول:
(لما أعرض كثير من أرباب الكلام، وأرباب العمل عن القرآن والإيمان،
تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة يجعلون العقل وحده أصل علمهم
ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه ويرون أن المقامات الرفيعة لا
تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذبه صريح العقل، ويمدحون
السكر والجنون والوَلَه.. وكلا الطرفين مذموم، بل العقل شرط في معرفة العلوم،
وكمال الأعمال، لكنه ليس مستقلاً بذلك، فهو بمنزلة قوة البصر التي في العين،
فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس
والنار) [3] .
ومما سطره يراع الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في مقدمته النافعة لكتاب
خصائص التصور الإسلامي: (إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات
الفكر الإسلامي أو الواقع الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله.... لأن
استحضار انحراف معين، أو نقص معين والاستغراق في دفعه وصياغة حقائق
الإسلام من أجل الرد عليه منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد
في الفكر والتصور الإسلامي لدفع انحراف قديم، والانحراف انحراف على كل
حال) .
إن هذه المشكلة التي ذكرها سيد تضرب أطنابها في واقع المسلمين قديماً
وحديثاً.. ولو نظرت أخي - المسلم - إلى حاضر المسلمين الآن لرأيت استفحال
هذه القضية وظهور آثارها وانعكاساتها.
وقد ذكر سيد قطب على ذلك أمثلة منها: أن تهمة المستشرقين وأذنابهم بأن
الإسلام انتشر بالسيف والقوة، قد قوبلت بهذا المسلك الذي حذر منه سيد وغيره من
المصلحين.. حيث انبرى بعض (المنهزمين) بتبرئة الإسلام من تلك الفرية،
واشتطوا في ذلك حتى أسقطوا قيمة الجهاد في سبيل الله، وحصروه في مجال
الدفاع ورد العدوان! !
كما أورد سيد مثلاً آخر خلاصته: أن النزعة العقلية الغالية عند محمد عبده
بحيث جعل العقل نداً للوحي، بل وربما قدمه على الوحي.. إنما جاء كرد فعل
للبيئة التي ظهر فيها محمد عبده حيث أغلقت باب الاجتهاد، وأنكرت على العقل
دوره في فهم الشريعة والاستنباط، فغلب على تلك البيئة الجمود والتقليد الأعمى
وانتشار الخرافة.. وفي نفس الوقت كانت أوربا تعبد العقل..
وكم هو محزن حقاً أن تظل إصلاحات بعض الناصحين وجهودهم وليدة ردود
فعل لبعض الانحرافات السائدة، فتستحوذ عليهم تلك الانحرافات، وتصاغ حقائق
هذا الدين وفق الرد والمواجهة لهذا الانحراف.. ما يورث انحرافاً آخر يقابل
الانحراف السابق.
وتأمل ظهور الفرق الإسلامية وتمزق الأمة شيعاً وأحزاباً.. تجد أن (ردود
الفعل) أحد الأسباب الرئيسية في نشأة تلك الفرق وانحرافاتها.. فالإرجاء ظهر كرد
فعل لقول الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) وكذا الجبر رد فعل لنفي القدر.. والتشبيه
في مقابل التعطيل.
وانظر إلى ظاهرة الغلو في التكفير والتسرع فيه.. وكيف أدى الأسلوب الذي
سلكه بعضهم من أجل علاج الظاهرة السابقة (ردود أفعال) ! لقد قام من يهاجم هذا
الانحراف (التسرع في التكفير والغلو فيه) ويؤلف في موضوع التكفير.. لكن على
سبيل الرد على أولئك الغلاة (خوارج اليوم) فانزلق القوم فصاروا (مرجئة اليوم) !
ومثال آخر: وهو أن الأمة لما غرقت في لجة الجمود على كتب الفقهاء
المتأخرين، ووقعت في أسر التقليد والتعصب لآراء الرجال.. قام قوم - إزاء هذا
الشطط - فانكروا ذلك - بالأسلوب الخاطئ - واشتطوا في ذلك لدرجة تجريح
العلماء وازدراء كتب الفقه.
لا شك أن لهذه الظاهرة أسباباً يمكن من خلال إدراكها معرفة الأسلوب الملائم
في علاجها، فمن أسباب المشكلة: ضغط الواقع وشدة تأثيره وتفاعل الإنسان معه
سلباً أو إيجاباً، أو نفوراً أو استسلاماً، فربما نزّل النصوص الشرعية على الواقع
فجعل واقعه حكماً على الوحي.
ومن أسباب هذه المشكلة: القصور في العلم الشرعي والجهل بالنصوص
الشرعية متكاملة والظلم والاعتداء على الطرف الآخر، والقصور في النظرة
المتكاملة للواقع الحاضر، ومن أسبابها: فقدان الموازنة والشمولية عند النظر إلى
بعض الانحرافات العلمية أو العملية، والنظر إلى أعراض المشكلة وآثارها دون
أصلها وسببها.
وأخيراً لا بد أن نعرض حقائق وشرائع هذا الدين من خلال الأسلوب
التقريري اليقيني، وأن نحذر من مسلك الرد والنقض لما قد يورثه من انفعالات
ردود وتعديات، وأن لا تستحوذ علينا بعض الانحرافات بحيث تكون شغلنا الشاغل، فنهمل ما هو أولى بالعلاج منها، وأن نكثر أولاً وأخيراً من التضرع إلى الله
تعالى والاستعانة به فلا منجا من الله إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) الموافقات 2/163.
(2) باختصار من كناب الاختلاف في اللفظ ص 231-244.
(3) باختصار من الفتاوى 3/338 - 339.(50/23)
القواعد الفقهية
(3)
عبد العزيز الحويطان
شرح لبعض القواعد المهمة:
سنقف في عجالة سريعة على أهم القواعد الفقهية، التي عرفت قديماً
واتصفت بالدقة والشمول وهي:
1- الأمور بمقاصدها:
أصل هذه القاعدة حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (إنما الأعمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) [1] . قال بعضهم: ينبغي أن يجعل هذا الحديث
رأس كل باب.
وقد ورد في القرآن بعض الآيات التي تشهد لهذه القاعدة، منها قوله تعالى:
[ومَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ] [النساء: 100] وقوله تعالى: [ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] [النساء: 114] .
ومما ورد في السنة يشهد لهذه القاعدة الحديث الذي رواه البخاري والشاهد منه
(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [2] .
ومن الأمثلة على فروع هذه القاعدة:
1- اللقطة إن التقطها ملتقط بنية حفظها لمالكها، كانت أمانة لا تضمن إلا
بالتعدي وإن التقطها بنية أخذها لنفسه، كان في حكم الغاصب، فيضمن إذا تلفت
في يده بأي صورة كان تلفها، والقول للملتقط بيمينه في النية لو اختلفا فيها [3] .
2- لو وقع الصيد في شبكة إنسان أو حفرة من أرضه، ينظر فإن كان نشر
الشبكة أو حفر الحفرة لأجل الاصطياد بهما، فإن الصيد ملكه، وليس لأحد أن
يأخذه، وإن كان نشر الشبكة لتجفيفها مثلاً أو حفر الحفرة لغرض معين، لا لأجل
الاصطياد فإنه لا يعتبر من ملكه، وساغ لغيره أن يتملكه بالأخذ إذا استبق إليه،
لأن إحراز المباحات لا يفيد الملك إلا إذا اقترن بالنية والقصد [4] .
2- الضرر يزال:
أصلها حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضرار) [3] .
وقد وردت آيات في معنى هذه القاعدة منها قوله تعالى: [ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً
لِّتَعْتَدُوا] [البقرة 231] وقوله تعالى: [الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإحْسَانٍ] [البقرة 229] .
أما في السنة فقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله كتب
الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة،
وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) [4] .
وقد استنبط العلماء من هذه القاعدة عدة قواعد منها:
- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف
- يختار أهون الشرين
- إذا تعارضت مفسدتان روعى أعظمهما بارتكاب أخفهما.
ومن الأمثلة على ذلك:
1- يجوز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم، كما
تجوز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شر أعظم [5] .
2- يجوز شق بطن الميتة لإخراج الولد، إذا كانت تُرجى حياته [6] .
3- حديث الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد [7] .
3- العادة مُحَكَّمة:
ما ورد في معنى هذه القاعدة من الآيات القرآنية، قوله تعالى: [ولَهُنَّ مِثْلُ
الَذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ] [البقرة 228] و [وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] [النساء 19] ، وقوله تعالى: [فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ] [البقرة 98] .
أماه الأحاديث فقوله -صلى الله عليه وسلم- (خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف) [8] . قال الإسنوي وغيره: (إن ما ليس له ضابط في الشرع ولا في
اللغة يرجع فيه إلى العرف) [9] .
4- المشقة تجلب التيسير:
دلت على هذه القاعدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية منها قوله تعالى: [يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة 185] ، وقوله تعالى: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة 286] ، وقوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ..]
[النساء 28] .
ومن الأحاديث قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (إن الدين يسر ولن
يشاد الدين أحد إلا غلبه) [10] . وقوله صلى الله عليه وسلم-: (لولا أن أشق
على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم
أحيا ثم أقتل) [11] .
والأدلة التي تؤيد هذه القاعدة أكثر من أن تحصر ولذا يقول الإمام الشافعي:
(إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع) [12] . ومن
هذه القاعدة استنبط العلماء قواعد تندرج تحتها منها:
- الضرورات تبيح المحظورات.
- ما جاز للضرورة يقدر بقدرها.
- إذا ضاق الأمر اتسع، ومن فروع هذه القاعدة:
أن المديون إذا كان معسراً ولا كفيل له بالمال يترك إلى وقت الميسرة.
5- إذا اجتمع الحلال والحرام غَلَب الحرام الحلال:
وأصل هذه القاعدة قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (الحلال بين
والحرام بين وبينهما مشتبهات - أو مشبهات - لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى
الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،
كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن
حمى الله محارمه) [13] .
كما أن حديث عدي بن حاتم يعتبر أصلاً لهذه القاعدة وهو: (قلت يا رسول
الله أرسل كلبي وأسمي، فأجد معه على الصيد كلباً آخر لم أسم عليه ولا أدري أيهما
آخذ، قال: لا تأكل، إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر) [14] .
6- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة
وفي معنى هذه القاعدة، يقول تعالى: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ
إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] [النساء: 58] .
أما الأحاديث فقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيته) [15] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من عبد يسترعيه
الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة) [16] .
ومن فروع هذه القاعدة:
إذا لم يوجد ولي للقتيل فالسلطان وليه، ولكن ليس له العفو عن القصاص
مجاناً لأنه خلاف المصلحة بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص أو في الدية
أخذها [17] .
7- الميسور لا يسقط بالمعسور:
أصل هذه القاعدة ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا
منه ما استطعتم) [18] . ومن فروعها:
1- إذا كان مقطوع بعض الأعضاء يجب عليه غسل ما بقي جزماً.
2- إذا قدر على بعض السترة فعليه ستر القدر الممكن.
3- القادر على بعض الفاتحة يأتي به بلا خلاف.
4- من بجسده جرح يمنعه استيعاب الماء، فعليه غسل الصحيح مع التيمم
عن الجريح.
ومن القواعد المهمة:
1- المتعدي أفضل من القاصر، لكنه يستثنى في الإيمان.
2- الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها، مثل الصلاة في
جوف الكعبة لكن الجماعة خارجها خير من الصلاة منفرداً داخلها.
3- ما حرم استعماله حرم اتخاذه: ومنها تحريم آلات اللهو واتخاذ الذهب
والفضة للزينة.
4- الخروج من الخلاف مستحب: مثل غسل المني، الترتيب في قضاء
الصلاة.
5- الإيثار بالقُرَب مكروه وفي غيرها محبوب: والضابط أنها في الواجب
محرم وفي السنة مكروه، وفي المستحب خلاف الأولى، ويشكل فيها ما لو سحب
إنسان من الصف إذا لم يجد فرجة.
__________
(1) رواه الستة، انظر القواعد الفقهية للندوي ص 246.
(2) أخرجه البخاري 1/43، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً.
(3) أخرجه الحاكم وتقدم تخريجه.
(4) ابن ماجه في الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، 2/1058 رقم 3170.
(5) شرح القواعد الفقهية للزرقاني ص 147.
(6) الأشباه والنظائر لأبي نجيم ص 97.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي 3/190.
(8) صحيح البخاري بشرح العيني 13/16-17.
(9) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص 224.
(10) أخرجه البخاري 1/16.
(11) أخرجه البخاري 1/15-16.
(12) الموافقات 1/231.
(13) أخرجه مسلم في المساقاة 2/1219 رقم 1099.
(14) رواه البخاري، كتاب البيوع 4/1939.
(15) رواه البخاري 1/ 304 رقم 853.
(16) رواه البخاري، فتح الباري 13/126-127.
(17) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 121.
(18) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 4/258.(50/28)
من شذرات القلم
اختيار: عبد الرحيم بن صمايل السلمي
* العامل الأساسي لنجاح الداعية:
(إن العامل الأساسي في نجاح الداعية: ليس كثرة علمه، ولا قوة بيانه
وسحره، ولكن هناك عاملاً قبل كل هذه الأمور: هو الإيمان بالدعوة التي يدعو
إليها، والخوف الشديد مما يعتريها، والشعور بالأخطار التي تقع بسبب إهمال
الدعوة، إنّ مثل هذا الإنسان يصيح بالناس ويترك فيهم أقوى الآثار ولو كان أبكم) .
محمد أمين المصري
(المسؤولية ص 31)
* ذِكْرُ سببٍ لانشراح الصدر:
(ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته (الإكثار من ذكر الله) فإنّ
لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همّه وغمّه، قال تعالى:
[أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] [الرعد 28] . فلذكر الله أثر عظيم في حصول هذا
المطلوب لخاصيته. ولما يرجوه العبد من ثوابه وأجره) .
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
(الوسائل المفيدة ص 22)
* حذارِ من الزهدِ من العلم:
(وإيّاك يا أخي ثم إيّاك، أن يزهدك في كتاب الله تعالى كثرة الزاهدين فيه،
ولا كثرة المحتقرين لمن يعمل به، ويدعو إليه، واعلم أن العاقل الكيس الحكيم لا
يكترث بانتقاد المجانين، واسمع قول الأديب الكبير محمد بن حنبل الشنقيطي
الحسني -رحمه الله-:
لا تسؤ بالعلم ظنّاّ يا فتى ... إنّ سوء الظنّ بالعلم عطب
لا يزهِّدْك أخي في العلم أَنْ ... غمر الجهال أرباب الأدب
أنْ تر العالم نضواً مُرْمِلا ... صِفْرَ كف لم يساعده سبب
وتر الجاهل قد حاز الغنى ... محرِزَ المأمون من كل أرب
قد تجوع الأسد في آجامها ... والذئاب الغبس تعتام القتب
جَرِّعِ النفسَ على تحصيله ... مَضَضَ المرين ذلٍ وَسَغَبْ
لا يهاب الشوكَ قطُّاف الجنى ... وإِبارَ النحل مُشتارُ الضرَبَ..)
محمد أمين الشنقيطي
(أضواء البيان 1/5)(50/34)
أسس تقويم المنهج
(2)
عبد العزيز صادق
أ- الصدق:
لا بد أن تكون الوسائل المستخدمة في التقويم صادقة. ونقصد بذلك أن تكون
الوسائل لديها القدرة على قياس الشيء المراد قياسه بدقة دون أن تتأثر النتائج
بعوامل أخرى غير تلك التي وضعت الوسيلة لقياسها.
فمثلاً لو أردنا قياس قدرة الشخص على فهم نص معين عن طريق القراءة
فينبغي أن يكون الخط واضحاً والوقت كافياً لإنهاء النص. أما إذا كان الخط غير
واضح ولم يستطيع الشخص فهم النص فقد يكون سبب عدم الفهم هو سوء الخط
وليس قصورّ في الفهم عنده. وبذلك تكون هذه الوسيلة غير صادقة في تقويم قدرة
الشخص على الفهم.
كما أن الوسيلة لا تكون صادقة في الحكم على جميع الجوانب إذا كانت هذه
الوسيلة مقتصرة على جانب معين فقط.
ومثال ذلك: لو أردنا معرفة حصيلة شخص من الفقه فسألناه عدة أسئلة،
ولكنها جميعها تدور حول موضوع واحد في الفقه فإننا لا نستطيع أن نعمم ونقول إن
قدرته وحصيلته الفقهية ضعيفة إذا لم تكن إجابته صحيحة. وذلك لأن هذه الوسيلة
اقتصرت على جزئية ولم تكن شاملة لعدة مواضيع حتى تعكس حصيلته العلمية في
الفقه. أما إذ كانت الأسئلة شاملة بحيث تغطي جوانب الفقه المتعددة وكانت الإجابة
ضعيفة فحينئذ نستطيع أن نقول: إن الوسيلة صادقة في كشف قدرته العلمية في
الفقه.
وينبغي أن نلاحظ أيضاً أن كل وسيلة لا يمكن أن نحكم عليها بأنها صادقة أو
غير صادقة إلا إذا ربطناها بالموقف الذي استخدمت فيه. فقد تعتبر الوسيلة صادقة
في بعض المواقف ولكنها نفسها قد تعتبر غير صادقة في مواقف أخرى.
فإذا استخدمنا وسيلة ما لقياس انضباط الشخص في وقت كان فيه في حالة شدة
وغضب فإن هذه الوسيلة تعتبر صادقة تكشف هذا الجانب فيه. أما إذا استخدمت
في فترة الهدوء والرخاء فإنها لا تعتبر صادقة في كشف مدى انضباطه.
ب- الثبات:
ويقصد بالثبات هنا هو الوصول إلى النتائج نفسها تقريباً لو أعيد استخدام
الوسيلة عدة مرات سواء في صورتها الأولى أو في صورة مماثلة لها.
هناك مجالات يسهل فيها الوصول إلى درجة الثبات عند إعادة استخدام
الوسائل نفسها في القياس كما هو الحال في مجال العلوم والهندسة والطب. ولكن
الأمر يختلف عند التعامل مع البشر لقياس المهارات والاستعدادات والقدرات
ومعرفة النفسيات والاتجاهات ففي هذه الحالات يصعب الوصول إلى نتيجة ثابتة
بإعادة استخدام الوسيلة نفسها.
ولذلك لا بد من اختيار الوسائل التي تعطي قدراً معقولاً من الثبات وفقاً للمجال
التي تتم فيه عملية القياس على ألا يكون هناك تناقض في النتائج المختلفة التي
نصل إليها.
ج- الموضوعية:
ونقصد بالموضوعية عدم تأثر نتيجة التقويم بالعوامل الشخصية التي يتعرض
لها المربي أو من يشاركه في عملية التقويم. وينبغي أن نلاحظ أن هناك عدة
عوامل شخصية قد تؤثر في عملية التقويم منها:
- الحالة النفسية أو الصحية أو الاجتماعية والظروف المحيطة بالشخص.
- قيم المربي واتجاهاته وآراؤه. فكثيراً ما يتعاطف الفرد مع الذين يشاركونه
نفس القيم ويوافقونه في آراؤه.
- نوعية العلاقة بين المربي والتلميذ. فأحياناً يرتبط المربي بتلميذه بعلاقة
شخصية سببها الجيرة أو القربى ولهذه العلاقة درجات متفاوتة في تأثيرها على
التقويم. فإذا كانت هذه العلاقة قوية ووطيدة فإنها قد تؤثر في النتيجة بصورة
إيجابية وإذا كانت سيئة للغاية فإنها ستؤثر في النتيجة بصورة سلبية.
وحتى تكون عملية التقويم فيها موضوعية فمن الواجب اختيار الوسائل
المناسبة التي تساعد على تحقيق الهدف دون أن تتأثر بالعوامل الشخصية.
والموضوعية التامة أمر صعب بين البشر إلا إنه من الضروري التقليل من
تأثير العوامل الذاتية في نتائج التقويم.
د- التنوع:
لا بد من استخدام وسائل مختلفة في عملية التقويم وعدم الاقتصار على وسيلة
واحدة فقط. فاستخدام الوسائل المختلفة يمكننا من إلقاء الضوء على الجوانب
المختلفة من شخصية التلميذ بحيث تساعد كل وسيلة في الكشف عن جانب معين من
سلوك التلميذ وقدراته ومن ثم نستطيع أن نعدل من هذا السلوك وفقاً للهدف المنشود. ومن الضروري أن تتكامل هذه الوسائل المختلفة بحيث نحصل في النهاية على
صورة صادقة وكاملة لشخصية التلميذ.
ونريد أن نلفت النظر إلى أن طريقة التقويم التي تستخدم وسيلة واحدة مثل
الاختبارات هي طريقة تفتقد إلى خاصية التنوع وبذلك تكون نتائجها غير شاملة
لجميع الجوانب. فالتقويم الصحيح يعتبر التنوع ركناً من أركانه، ويتطلب التنوع
استخدام مجموعة من الوسائل المختلفة مثل:
- الاختبارات.
- المقابلات.
- دراسة الحالات.
- ملاحظة ردود الفعل عند المواقف المختلفة.
- الاستبيانات.
- مقاييس العلاقات الاجتماعية.
- المناقشة الجماعية (الندوات) .
- التكليف ببعض المسئوليات وملاحظة الأداء.
ولا يقصد بالتنوع الاكتفاء باستخدام وسائل متنوعة فقط وإنما يجب أن يمتد
التنوع إلى داخل كل وسيلة تسمح طبيعتها بذلك.
فالتنوع بالنسبة للاختبارات (التي تعتبر وسيلة من الوسائل) يتطلب استخدام
كافة أنواع الاختبارات (التحريرية، الشفهية، اختبار المقال، الاختبارات
الموضوعية، اختبار القدرات، الاختبارات العلمية) .
والتنوع بالنسبة للملاحظة يتطلب القيام بها في مجالات مختلفة ومواقف
مختلفة حتى نستطيع أن نلاحظ معظم الجوانب في شخصية التلميذ. كما يفضل أن
يقوم بالملاحظة عدة أفراد حتى تتحقق الموضوعية في التقويم بقدر الإمكان.
والتنوع بالنسبة للمناقشة الجماعية يتطلب القيام بها في مجالات مختلفة ...
ومواقف مختلفة:
- داخل حجرة الدراسة: حول أحد الموضوعات، مناقشة الأخطاء الشائعة،
تصحيح هذه الأخطاء والمفاهيم.
- أثناء التخطيط للأنشطة المختلفة وبعد الانتهاء منها مناقشة التجارب العملية
التي مر بها التلميذ.
هـ - التمييز:
والمقصود بالتمييز هنا هو القدرة على إظهار الفروق بين التلاميذ. وتعتبر
هذه العملية في منتهى الأهمية وذلك لأنها تساهم في الكشف عن ميول كل فرد
وقدراته واستعداداته واتجاهاته ومن ثم يكون توجيه كل فرد إلى ما يناسبه ويلائمه.
فإذا ما روعيت قضية التخصص في الطاقات فإننا نساعد في تنمية القدرة على
الابتكار والإبداع الذي يعتبر من الأهداف الرئيسية التي ينبغي أن نوليها أقصى
اهتمامنا. فبذلك يكون التكامل والعطاء الغزير بين الأفراد.
كما أن وجود عنصر التمييز يساهم أيضاً في الكشف عن التلاميذ الذين يعانون
من نقص أو تخلف في بعض الجوانب ومن هنا يمكن رعايتهم رعاية خاصة وبذل
المزيد من الجهد معهم حتى يلحقوا بأقرانهم.
وهكذا تقوم عملية التقويم بالتشخيص والعلاج معاً، تفسح الطريق أمام
الموهوبين وتأخذ بيد الضعفاء والمتخلفين.
و التخطيط:
يعتبر التخطيط أمراً هاماً وحيوياً ليس فقط في مجال التقويم وإنما في جميع
المجالات. والتقويم المبني على أساس علمي لا بد أن يرتكز على التخطيط في كل
مما يأتي:
- في تحديد الجوانب التي تنصب عليها عملية التقويم والهدف منها.
- في اختيار أنسب الوسائل لتقويم كل جانب من هذه الجوانب.
- في التنسيق بين مجموعة الوسائل المستخدمة لغرض واحد. فإذا كان
الهدف من التقويم هو الكشف عن قدرة التلميذ على التفكير العلمي السليم فمن الممكن
استخدام عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف مثل الاختبارات المخصصة لهذا الغرض،
الملاحظة، المقابلة الشخصية. وحيث أن كل وسيلة من هذه الوسائل يقوم بها أفراد
معينون فمن الضروري التنسيق بين مجموعة الوسائل.
- اختيار الأشخاص المدربين (أهل الاختصاص) لاستخدام كل وسيلة.
- وضع خطة زمنية يتحدد فيها استخدام كل وسيلة حسب الظروف المناسبة
لكل منها. وكذلك عدد مرات الاستخدام إذا خطط لها أن تستخدم أكثر من مرة.
- تحديد أدق وأنسب الطرق لتسجيل نتائج كل وسيلة ويفضل استخدام
البطاقات المخصصة لكل فرد.
- أن تتسم الخطة الموضوعة بالمرونة الكافية بحيث يمكن تغيير مواعيد
استخدام الوسيلة أو استبدالها بوسيلة أخرى إذا دعت الظروف لذلك.
ز- مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ:
كثيراً ما يخطيء المربي حين يقارن تلميذاً بتلميذ آخر. وإنما التقويم الصحيح
يوجب مقارنة التلميذ بنفسه بدلاً من مقارنته بغيره من التلاميذ لكي نعرف مدى ما
أحرزه هذا التلميذ من تقدم نحو بلوغ الأهداف المنشودة. فالمقارنة هنا تحدد نوعية
هذا التقدم وهل هو بالقدر المطلوب أم لا، وبذلك يكون الحكم على التلميذ وفقاً
لإمكاناته وقدراته وظروفه.
أما مقارنة التلميذ بغيره من التلاميذ سواء التلاميذ الذين معه في الدرس أو في
سنه ومرحلته ففي ذلك تجاهل لمبدأ الفروق الفردية. وهذا التجاهل يؤدي إلى شعور
التلميذ محدود القدرات والذكاء باليأس والاستسلام والإحباط. وقد يؤدي إلى إحساس
التلميذ المتفوق الذكي بالغرور الذي قد يدفعه في بعض الأحيان إلى الكسل والتراخي. وفي كلتا الحالتين فإن هذا يعتبر ضرراً بالغاً. وليس معنى ذلك أن نغفل مقارنة
التلميذ بغيره وإنما نقصد أن نبدأ بمقارنة التلميذ بنفسه أولاً لكي نعرف مدى التقدم
الذي أحرزه وعندما نلمس أنه أحرز نوعاً من التقدم نقارنه بغيره ولكن بحرص
وحذر وتشجيع.
ويتطلب مراعاة الفروق الفردية استخدام وسائل التقويم المتنوعة إلى أقصى
درجة ممكنة. فبالنسبة للاختبارات مثلاً فإنه من الضروري استخدام كافة أنواع
الاختبارات الشفهية منها والتحريرية، المقالية والموضوعية بحيث تعطينا النتائج
وصفاً دقيقاً للأفراد.(50/36)
البيان الأدبي
الأدب الإسلامي
بين القبول والرفض
د. حسن بن فهد الهويمل [*]
تعيش المذاهب الغربية والشرقية مخاض رؤية معزولة عن وحي السماء،
إنها تجهيز في إطار عالم الشهادة وهو عالم لا يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا. وقضية
الأدب الإسلامي في إطار هذه البيئة تحتاج إلى تحرير، فهي الآن مسألة خلافية
حتى عند الإسلاميين الذين يحملون هم التناول الإسلامي، ولا يعترضون على
المضمون بل يرون مشروعية الأداء ويحتمونه، ثم هم يختلفون بين أن يكون
للمشروع مصطلحاً أو نظرية نزعة أو اتجاهاً، والأطروحات التي وصفت
المصطلح بالبدعة، والأطروحات المضادة لا تنفك عن ترديد اللغط المعروف،
وسوف أحاول تخطي ذلك قدر المستطاع متخلصاً من معوقات التيئيس، ومحاولاً
تخلية الموقع من بعض التساؤلات التي تركها بعض الكتاب.
ويقيني أن أي مشروع جديد لا بد له من حركة تمحيصية ليأخذ وضعه
الطبيعي وأنا متفائل بل متأكد بأن مصطلح الأدب الإسلامي سيأخذ هذا الوضع
مسقطاً كل الإشكاليات، وأملي أن تتوفر له الكفاءات المقتدرة لتبحر في مركبه وسط
الأمواج المتلاطمة، وما لم تتضافر الجهود فإن هاجس الخوف سينمو وبالتالي
تصبح التجربة أقرب إلى الفشل المؤدي إلى الخروج من دائرة الضوء.
وإشكالية المصطلح الإسلامي تنمو بفعل الخصوم، والخصوم فئتان: فئة
تستبطن سوء النية تريد للمبدع والناقد التخلص من سيطرة الدين، وهذه الفئة
تنسجم مع دعوات التحرر من سلطة الماضي بما فيه الدين، ولا صعوبة في مجادلة
تلك الطائفة لأنها لا تطرح إشكاليات بل تطرح رأياً رافضاً. وفئة ترى أن
مشروعية التناول الإسلامي قائمة منذ البعثة ولا حاجة إلى تأطيرها ضمن مصطلح
متميز. وهذه الفئة يمكن التحاور معها لأنها تمارس ما تمارس من باب التحفظ فقط، وهي لا تمنع أبداً مشروعية التناول بروح إسلامية، ونواياها حسنة ولكنها بحاجة
إلى تجاوز الظاهر والخوض في عمق القضية. ومع خطورة الفئة الأولى فإن
محاورتها يجب أن تكون في مشروعية الإسلام فهي كالفئة الكافرة لا تطالب بفروع
الشريعة. وقبل أن نستهل الحديث نود الإشارة إلى شيئين:
- أولهما: ثنائية الشكل والمضمون؛ ففئة ترى استقلال الشكل الفني عن
المضمون العقدي وهذا يستتبع عزلة عن الحياة، وفئة ترفع شعار الفن للحياة،
وتؤكد على مبدأ الالتزام بقضية (ما) وهذا يدخلنا في قضية الالتزام ومعالجتها على
مستويات عدة وهو ما لا نريده الآن.
وفي اعتقادي أن لا فصل بين الفن والحياة، فلا حياة بلا فن، ولا فن بدون
حياة واعية. والتجربة جزء من الحياة أو هي الحياة عينها، والإبداع بدون تجربة
عبث ولهو، فالفن إذاً استعادة التجربة حركياً في المسرح. وتعبيرياً خيالياً على
الورق. والإنسان في كل ذلك عنصر هام في التجربة.
- وثانيهما: أنه يتحتم على كل إنسان يعرف أبعاد مسؤوليته ويرضى بهذه
المسؤولية ممارسة ومنهج حياة أن يعيد النظر في أسلوب عمله. والإنسان الذي
رضي بالله رباً، بالإسلام ديناً له مسؤولية، تلكم هي مسؤولية العبادة والدعوة إليها:
[ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] .
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] .
وحين لا نجد بداً من تحمل هذه المسؤولية عملاً ودعوة فعلينا أن نستذكر أنه
من الأفضل أن نعيش هذه المسؤولية باستمرار [واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] .
[الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ] نعيش لها ومن أجلها وفق
منهج محكم متطور يلائم العصر ويستجيب لحاجاته، والدعوة إلى سبيل الله بالكلمة
الطيبة وبالأسوة الحسنة، والمسلم الفذ هو الذي يعرف الحق ويثبت عليه، ويدعو
إليه، ويتمثل الإسلام قولاً وعملاً على ما كان عليه سلف الأمة الذين رضي الله
عنهم ورضوا عنه. وعلى ضوء هذين الشيئين تتجلى لنا حياة المسلم التي لا تعرف
الفراغ فهي مليئة بالعمل لدنياه وآخرته، والكلمة الطيبة جزء من العمل الجاد المثمر
[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ] .
فهناك ثبات وهناك سمو. والإبداع الفني لا بد أن ينطوي على الثبات والسمو
وما الأدب الإسلامي إلا تجسيداً لهذا الثبات وهذا السمو، فالله لا يحب الجهر بالسوء، ويأمر عباده بأن يقولوا التي هي أحسن وينهى عن لهو الحديث، ويُثبت على
القول السديد، ولا يصعد إليه إلا الكلم الطيب. وإذاً فثمة تلازم بين الكلمة الطيبة
والإبداع. وإذ يكون التلازم.. تكون حتمية الأدب الإسلامي، والكلمة مادة الفن
المقروء، والفن ضرورة إنسانية والنزوع إليه فطري، والاستجابة له طوعية وأثره
واضح في الحديث (إن من البيان لسحراً) .
والسحر يجعلك تتلبس بالاستجابة دون وعي، ومن ثم قال توفيق الحكيم:
(لو علم رجل الفن خطر مهمته لفكر دهراً قبل أن يكتب سطراً) فالحركات التي
غيرت ملامح التاريخ وصاغت الحياة من جديد فتق لها المبدعون، ألم يكن للرسول
شاعر في مقابل شعراء الوفود، وخطيب يفوق خطباءهم؟
والمدركون لقيمة الفن الجمالية والدلالية، وخطورة دوره وأهميته يتلبثون
كثيراً قبل الإفضاء بإبداعهم، ولعلنا نعرف صاحب الحوليات، ومدرسة عبيد الشعر، وفي العصر الحديث نسمع أن جوستاف فلوبير الفرنسي صاحب قصة (مدام
بوفاري) قال في معرض حديثه: (ربما أخذت أسبوعاً أو أسبوعين في صياغة
جملة من جمل هذه القصة) ويقول: (قرأت ألفي كتاب من مكتبة المتحف الوطني
الفرنسي من أجل استيفاء الأرضية الخلفية والاجتماعية لإحدى القصص) .
(وماركيز) أنتج إحدى قصصه في ستة عشر عاماً كل هذا يدل على أن
الأدب لم يعد جمالياً للمتعة، وإنما استصحب الجمالية وتخطى بها إلى عمل جاد
لتحويل المسار البشري وتغيير قناعاته، وثقافة النص تغلب على جمالياته، والثقافة
والإبداع يشكلان حجر الزاوية في العملية الإبداعية فلا أدب بدون ثقافة معمقة
وشاملة، ومن ثم أصبح الأدب عملاً فكرياً متلبساً بالفلسفة يطرح رؤية متميزة
للكون والحياة والعالم، هذا التحول في مسار الأدب جعل له خطره وأهميته وأثره
الواضح في تشكيل ذهنية المتلقي مما دفع الصفوة من رجال الفكر والأدب إلى
التفكير في التدخل المباشر لتوجيه الأدب والفن عامة وجهة تنسجم مع المقتضى
الإسلامي، وتسهم في صياغة الذهنية صياغة توجه الإنسان إلى بارئه.
وإذا كان هناك موقف رافض أو متردد أو متحفظ من مشروعية مصطلح
الأدب الإسلامي، فإن هذا الموقف يجب أن يكون أكثر احتداماً وتصلباً في وجه
المصطلحات الطارئة زمناً، والطارئة فكراً، مصطلحات تنطوي على توجهات
فكرية مضادة للفكر الإسلامي، إن هناك أدباً وجودياً، وماركسياً، وقومياً، وحداثياً، وعلمانياً، هذا بالنسبة للبعد الدلالي، وهناك آداب أخرى حسب الاتجاه الفني،
ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلويث وعينا، يتبناها
أبناء المسلمين، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود ولا يجدون غضاضة من
معاشرتها وطرد الغربة عنها، ولم نسمع إلا القليل ممن يبحث في مشروعيتها.
وإزاء طوفان المذاهب الأدبية لا بد من أدب إسلامي يبرز شخصيتنا، ويكرس
خصوصيتنا، والفن هو الأكثر قدرة على حمل هذه الخصوصية. وإذا كنا قد
رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وتحملنا في سبيل ذلك مكائد العالم المتكبر، فلا أقل
من أن نسعى لتأصيل وتكريس الأدب الإسلامي، ليسهم في الذوذ عن مقدراتنا،
ومقدساتنا الفكرية، وليس فيما نسعى إليه بدعة ولا تجزئة، فأسلمة الأدب مشروع
إسلامي، ومجيء المصطلح لم يكن بدعاً من القول فالإسلام، منذ البدء مارس
أسلمة الشعر.
لقد نزل القرآن الكريم يحدد فئات الشعراء [والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ] إلى
أن قال: [إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] [وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وانتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا] هذا السياق القرآني يحدد ملامح الشعر الإسلامي، وإذاً فهناك شاعر
إسلامي تبرزه سماته وخصائصه، وشاعر آخر تحدده توجهاته، ومصطلح الأدب
الإسلامي يقيم صروحه على هذا التقسيم القرآني. وينطبق على الأدب الرخيص
والأدباء المنحرفين قوله تعالى: [ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا..] إلى أن قال: [وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا..] وهل هناك أخطر
من سهم الكلمة الجميلة المسمومة؟ ! فالأدب الإسلامي إذاً مشروع تطهيري يحاول
تنقية الكلمة من الشوائب، ويؤكد على صدق المحتوى وشرف الغاية وسلامة
الوسيلة، وجمال العرض، ويعترف ببشرية الإنسان الناقصة، وحاجتها إلى
الترويح البريء واللهو المباح.
والأدب العربي المعاصر لا ينهض بكل هذه المهمات، ولم يعد خالياً من
الشوائب فالضخ الغربي والشرقي وقابلية التبعية والتهالك على الطارئ، كل ذلك
أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة
بالغموض والنثرية.
إن هناك تبعية في الأدب العربي تتمثل في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب
عن الفكر الإسلامي، وفي إعلاء الشخصيات المشبوهة، وفي السقوط الأخلاقي
وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغيير واستمراره، إنه أدب يعيش بلا هوية وبلا تماسك، ولا
خصوصية، لقد تشكلت هذه المثبطات في غياب الوعي أو تزييفه، لتكون امتداداً
لمحاربة الكلمة الطيبة التي بدأت بقول المشركين: [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا
فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] .
لقد سمعنا منكراً من القول سربه إلينا التقليد الفج للآداب الأجنبية إبداعاً
وتنظيراً، ومن ثم تلاحقت المذاهب في لهاث مسعور كالسريالية، والدادية،
والواقعية، والوجودية، والماركسية، والحداثة الفكرية، جاء كل ذلك نتيجة رؤية
متوترة للكون والحياة رؤية مادية خالصة. وأعقب ذلك نهوض أقلام مقتدرة ومؤثرة
لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر الاعتزالي،
والوثني وشعر الخمر، والمجون والغزل الفاحش، كما أعيدت ظواهر أدبية
وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحويلها إلى قدوة سيئة
للناشئة، فالصعاليك، والزنادقة، والشعوبيون، والباطنيون، وغلاة المتصوفة،
كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء ويعبرون إلينا من شبا أقلامهم بشكل لم يسبق
له مثيل. وتضافر الجهود في مثل هذه الأقبية يبعث على الشك والارتياب في
النوايا، ويحفز على التحُّرف للتصدي والمواجهة. والمواجهة يسبقها جمع الكلمة
وتوحيد الصف تحت شعار (الأدب الإسلامي) .
لقد تعرض الأدب العربي لتغييرات أفقدته هويته، وقضت على خصوصيته
وسرعة التحولات أفقدت الأساطين زمام المبادرة حتى قال قائلهم: (قصائدنا بلا
لون وبلا طعم وبلا صوت) كل هذه الترديات تسوغ لهذه النظرية المنقذة، بل وتحتم التفكير الجاد في تكريسها وممارسة الإبداع على ضوئها لإقالة عثرة الكلمة الطيبة واستعادة ماء الحياة بعد النضوب والتصحر.
لقد كان الأدب العربي أدباً إسلامياً، وكان الخروج على مقتضى الإسلام في
الإبداع يعد تجاوزاً فردياً، أما الآن فإن الأدب العربي لم يعد في جملته إسلامياً،
ويكاد يكون الاتجاه الإسلامي فيه فردياً بحيث يمكن تمييز الأدب الإسلامي وسط
طوفان التعدي على حمى الله، ومع التباين في المحتوى بين الأدب العربي
والإسلامي فإن أحدهما لا يلغي الآخر.
ومع هذا فنظرية الأدب الإسلامي لم تجتث من الأرض، ولم تكن طارئة،
إنها تمتد بجذورها في عمق تاريخي لا مثيل له في كل الآداب العالمية، وجذور
الأدب الإسلامي مسوغات لاستمراره، فالقرآن بكل ما يحفل به من مدد بياني معين
لا ينضب يتدفق في شرايين الأدب ويمده بأرقى الأساليب وأشرف الأفكار وأنبل
الغايات. والحديث النبوي يفيض بفصاحة عربية، والشعر العربي الذي دافع عن
الإسلام جنباً إلى جنب مع المجاهدين في سبيل الله، تمتد وشائجه إلى اليوم ليضخ
فكره وجمالياته في محيط الأدب الإسلامي الحديث، أدب له هذه الجذور لماذا تقام
المحاذير من حوله، ولماذا يتساءل الطيبون عن مدى مشروعية المصطلح، لقد
طوع الغرب أدبه وسخره لخدمة مبادئه وأفكاره، وأكسبه قيمة دلالية، وجعله
رسول دعوة يتخطف الناس ببريقه، ولم يقل أحد عن هذا ما قاله المتحفظون،
والرافضون لمشروعية الأدب الإسلامي، إننا نجد من يتحفظ على مشروعية
المصطلح ملتمساً دعائم لهذا التحفظ. يقول أحد الطيبين: (لقد اعتورت تاريخنا
الإسلامي موجات أدبية فيها بذور إلحاد، كما في شعر (الحلاج) ، وأبي العلاء،
وفيها شعوبية كما في شعر بشار وابن يسار، ولكن ما علم أن الأسلاف دعوا إلى
الإصطلاح بأدب إسلامي يميزه) ، وأحب أن أشير إلى أن بذور الإلحاد والشعوبية
ممارسات فردية ليس لها تنظيم، ومجيئها في وقت كانت القوة والغلبة للإسلام
وغياب المصطلح الإسلامي في تلك الفترة لا يبرر غيابه الآن. كما تخوف
المتحفظون من التجزئة ومن ضعف أداء المنتمين إلى الأدب الإسلامي بجوار
الآداب الأخرى التي يمثلها القمم في القيمة الأدبية، ولا أحسب التجزئة قائمة لأن
هناك وشائج قربى بين الأدب العربي والإسلامي فاللغة واحدة، والقيم الجمالية
واحدة ولا يكون التمايز إلا في المحتوى إذا حاد الأدب العربي عن جادة الصواب
في تناولاته وهذا ينفي الخوف من التشرذم.
أما الخوف من ضعف المنتمين فليس الإسلام مظنة الضعف، ومن ضعف من
المسلمين فعليه ضعفه، وهل من لوازم الأدب الوجودي والماركسي أو أي اتجاه
منحرف القوة. وهل من لوازم الأدب الإسلامي الضعف بحيث نثيره كمحذور،
والله جل وعلا يقول: [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ] يقول هذا والأمة
الإسلامية في حالة ضعف وهزيمة. وأحسب أن المتحفظ ينظر إلى الواقع المعيش.
ومهمة المفكر والأديب التجاوز بالأدب والفكر الإسلامي هذه المرحلة وإعادة مجده
وفوقيته، ويمضي المتحفظون إلى ضرب الأمثال فالأدب الماركسي - في
نظرهم - أخفق إخفاقاً ذريعاً حين أمم الأدب وفرض عليه الالتزام، وفات أوشك أن المذهب الماركسي معاكس للطبيعة البشرية، وقسر الأدب على خدمته مؤذن بفساد الأدب وتشوه جمالياته، أما الإسلام فعقيدة فطرية تلائم نوازع الإنسان وتستجيب لمطالبه، وسير الأدب في ركابه انطلاق وحرية، فلا تعني تجربة الالتزام الماركسي الفاشلة موعظة للذين يحاولون الالتزام الإسلامي، فالمسلم مطالب بالالتزام، وإن لم يكن مبدعاً، ومسؤولية الكلمة وخطورتها تتضح من قوله تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - حذر من حصائد الألسن وأشار إلى أنها تكب الناس على مناخرهم في النار وفي الأثر: (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) .
وتألق الأدب الوجودي - إن كان ثمة تألق - لم يتأت من عدم التزامه،
فمجرد كينونته تعني حاجته إلى أدب يبشر به، ولعل انتشاره مرتبط بتلك الحرية
المطلقة التي بلغت حد العبث والفوضى والغثيان. لقد أصبح متنفساً للمقهورين
بالشك والارتياب والرفض. وعلى الجملة فمقارنة الأدب الإسلامي بتلك الآداب
انتقاص للأدب والإسلام معاً لإنها مقارنة مع الفارق.
ومما أشار إليه المتحفظون التركيز على أهمية القيمة الجمالية بمعنى أن الأدب
للمتعة فقط، وتوريطه بالمهمات النفعية يكون على حساب جمالياته، وبالتالي ينحيه
عن مقتضيات الفن وأحسب أن الواقع المعيش أسقط من حسابه الانقطاع للجمال
والمتعة.
لقد تلبس الأدب بالفلسفة، واتخم بالفكر، وتحولت المذاهب الأدبية من
مذاهب شكلية إلى مذاهب فكرية، وامتطت صهوة الكلمة لتكون رسولاً من رسل
هذا الفكر، والإسلام سبق كل المذاهب في ذلك، والقرآن الكريم معجزة الرسول
يأتي في قمة الفن، وقد نظر إلى الجماليات صوتاً، وصورة، وأسلوباً، وقضية
النظم التي طلع بها الجرجاني تجسد الجمالية الأسلوبية بأبهى صورها، ولم يؤثر
المدلول القرآني على روعة الأداء وجمال النظم، فكيف نفكر في إثارة الملمح
الجمالي للأدب، ونعده معوقاً في طريق تلك النظرية، ومن ينكر نفعية الأدب
وأيديولوجيته وأثره الفكري والعقدي والأخلاقي؟
لقد انتهت نغمة الفن للفن. وحل محلها الفن للحياة. والفن تجربة يشكلها
الجدل مع الحياة، وقضية الفن للفن أو للحياة سفسطة لا قيمة لها، وهذا لا يعني
تحويل الفن القولي إلى خطب ومواعظ وأمر ونهي، إن الأدب الإسلامي أبعد من
كل ذلك وأشمل لكل ذلك، إن الأدب الإسلامي يريد فقط تميز الأديب المسلم بأدائه،
وذلك بإبراز الحس الإسلامي، والتفكر في خلق السموات والأرض، وتجلية
جماليات الكون للالتفات إلى مبدع الكون، ألم تشدنا الأرض وتثير انتباهنا حين
تأخذ زخرفها وتتزين؟ ألم تشدنا مناظر الطبيعة وأشكالها وألوانها المتناسقة ونظامها؟ ألم نطرب لهذه الأصوات، من حفيف وخرير وتغريد؟ إن على المبدع أن
يمارس إبداعه بحرية مطلقة، ولكن عليه أى يستحضر عظمة الخالق، فالكون
صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهذا الاستحضار كفيل بإنتاج أدب إسلامي رفيع
المستوى ولكن الحاصل، خلاف ذلك لقد شغلنا بالطبيعة منفصلة عن خالقها، فجاء
الأدب مادياً لا قيمة له، لأنه فقد نبض الإيمان، وحين يفقد نبض الإيمان تتصحر
الحياة، ويجف معينها.
ومما أثير في سياق التحفظات في طريق مشروع الأدب الإسلامي احتياج
الشاعر إلى التغني بذاته والتنفيس عن همومه الفردية والشاعر يغني ألم الحرمان
ويصف مناظر الجمال ويحسب هؤلاء أن الأدب الإسلامي يمنع من ذلك وفاتهم أن
الأدب الإسلامي أرحب صدراً وأوسع أفقاً مما يتصورون.
إنه يستوعب كل الهموم وكل التطلعات ولا يضيق بخواطر النفس وخطراتها، وآلامها وآمالها. إن الأدب الإسلامي يحفظ ويحافظ على جماليات الفن وموسيقاه،
وصوره وخياله ولغته المتميزة، ويعرف حدود الأدب، ويرفض تداخل المهمات،
فهو لا يحمل هم الوعظ والإرشاد، ولا يفكر بالإفتاء ونظم العلوم، وكل الذي نريده
من المعارضين أن يعرفوا جيداً أبعاد الأدب الإسلامي ومقتضياته وخصائصه
وسماته، عندها لا يكون جدل أو خصام.
فالأدب الإسلامي يتفق مع الفن في القيم الفنية، أما القيم الدلالية فله موقف،
وليس بدعاً في ذلك، فالأدب الماركسي له موقف من القيم الدلالية، والأدب
الوجودي والسريالي والحداثي وكل الآداب الحديثة تحدد موقفها من القيم الدلالية.
ويقيني أننا إذا عرفنا ذلك فلن نحتاج إلى البحث عن مسوغات، ولن نلتمس
المحاذير، والنص الإبداعي الحديث لا ينجو من الأدلجة والتسييس. وإشكالية
الأدب الإسلامي لا تتجاوز إلى مشروعية الممارسة، لقيامها منذ أن وجه الرسول -
صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت للتصدي للمشركين، ولكنها تقف عند
مشروعية المصطلح، وإذا كانت هناك ممارسة إبداعية فما المحذور من إطلاق
مسمى يميزها عن غيرها، وعندما لا ينتبه السلف إلى إطلاق هذا المصطلح فإن
ذلك لا يدين الماضي، ولا يمنع الحاضر، فالمصطلح تولده الحاجة.
إن الأدب الإسلامي الذي يتوجس منه البعض خيفة حين يستوي على سوقه
سينهض بفرائض غائبة إسهاماً في تصحيح الفساد المتفشي، ولن يعالج هذا الفساد
إلا أدب ينطلق من قواعده الإسلامية من القرآن والحديث. إن سرعة التحولات
أفقدت الأدب العربي هويته وشككت في انتمائه وولائه، وغمسته في أوحال التبعية
والإمَّعية وترديه في تلك الأوحال من أولويات مسوغات، الأدب الإسلامي
ومشروعيته، مصطلحاً وأداء.
__________
(*) وصلنا هذا المقال من الدكتور الهويمل الذي يعتبر من نقاد الأدب المشهورين في المملكة العربية السعودية والبيان ترحب به وبكل الاخوة الذين يساهمون في تعميق الأدب الإسلامي.(50/44)
شعر
أمي
محمود مفلح
إلى روح التي ارتحلت عن هذه الدنيا، وكلانا لم ير الآخر منذ عشر سنوات
إلى روح أمي:
مالي سمعتُ كأنْ لم أسمعِ الخبرا ... هل صار قلبيَ في أضلاعه حَجرا؟
مالي جمدتُ فلم تهتزَّ قافيتي ... ولا شعرتُ ولا أبصرتُ من شعرا
كأنَّ كلَّ سواقي الشعر قد أسِنت ... من جففَّ الشعرَ من بالشعرِ قد غدرا؟
أنا الذي عزفت أوتارُه نغماً ... هزَّ الورى والذُرا والطيرَ والشجرا
مالي سكتُ فلم أنطقْ بقافية ... ولا رأيت بعيني الدمعَ منحدرًا؟
هل جففَّ الرملُ إحساسي وجففّني ... فأصبح الشعرُ لا علماً ولا خبرا؟
وهل عجزتُ عن التعبير واأسفي ... كأنني لم اصغْ للغادةِ الدُررا! ؟
أمي تموت ويُمناها على كبدي ... يا أمُّ رُحماك إنَّ القلبَ قد فُطِرا
هزّي سريري إني لم أزلْ ولداً ... ودّثرينيَ إن الريحَ قد زأرا..
وجفّفي عَرَقي فالصيفْ ألهبني ... وسلسلي الماءَ كي أقضي به وطرا
مُدي يَديّكِ كما قد كنت ألثمها ... فقد نهضتُ وَوَجْهُ الصبح قد سفرا
وحّوطيني.. تلك العيُن خائنة ... وكم رأيتُ عيوناً تقدح الشررا
ولوّني أغنياتِ الصيف في شفتي ... وقرّبي من وسادي النجم والقمرا
ما زال صوتك يا أماه يتبعني ... يا ربُّ رُدَّ حبيباً أدمنَ السفرا
يا ربِّ صُنْهُ من الأشرارِ كلهمُ ... ورُدَّ عنه الأذى والكيْد والخطرا
واجبرْ إلهي كسْراً، حلَّ في ولدي ... فأنتَ تجبرُ يا مولاي ما انكسرا
يا ربِّ جفّت دموع الأمهات هنا ... فأنزلنَّ علينا الغيث والمطرا
كلُّ العصافير عادت من مهاجرها ... متى نعودُ إلى أعشاشِنا زُمرا
وارحم إلهيَ زوْجاً غاص عائلها ... في ظلمة السجن لم تبصرْ له أثرا
وطفلةً كلما قالت زميلتها ... أتى أبوك؟ تشظّى القلبُ وانفجرا
وارحم إلهي شيخاً دبَّ فوق عصاً ... قد كاد من طول ليل يفقد البصرا
يا من رددتَ إلى يعقوب يوسفَه ... لا تتركِ الشيخَ فرْداً لا يُطيق كرى
يا ربّ ما ذنبُ أحرارٍ إذا وقفوا ... مثلَ الجبالتِ وموج الظلم قد سكِرا؟ !
ما زال صوتك يا أماه يجلدُني ... إني أسأتُ وجئتُ اليوم معتذرا
لا والذي خلق الدنيا وصورّها ... ما خنتُ عهدك يوماً، ما قطعت عُرى
لكنها مِحَنٌ حلت بساحتنا ... أودت بفكر الذي قد روّض الفِكرا
أمي تموت ولم أفزع لرؤيتها ... ولا قرأتُ على جثمانها سُورا
ولا حملتُ على كِتْفي جِنازتها ... ولا مشيتُ مع الماشين معتبرا(50/55)
فوائد من كتاب
" الفوائد "
اختيار: أم عبد الرحمن
قيل في العلماء الصادقين أنهم أطباء القلوب، وذلك بما عندهم من فراسة
صادقة وهبها الله لهم من نوره الذي قذفه سبحانه في قلوبهم الممتلئة بالعلم والإيمان
والإخلاص واليقين. فتجد أحدهم يكشف لكل مريض عن سبب مرض قلبه بحذق
وفطنة وبصيرة نافذة.
ومن هؤلاء العلماء: ابن قيم الجوزية - رحمه الله - فإن معظم مؤلفاته
تُفصح عن مدى صدق فراسته، وعن مدى قدرته في تحليل خفايا النفوس المريضة
بالذنوب والأهواء. ومن كتبه التي تحمل تلك الصبغة كتاب (الفوائد) الذي اخترت
منه هذه الفوائد المنوعة والموجزة والتي أرجو الله أن يجعل فيها المنفعة والفائدة لكل
قارئ وقارئة.
* ليس كل من تحلّى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل
المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى.
* لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس
إلا كما يجتمع الماء والنار والضبّ والحوت.
* المعاصي سدٌ في باب الكسب، وإن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه.
* من أراد من العُمّال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من
العمل وبأي شغل يشغله.
* الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجيف.
* من عظم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقَّره الله في قلوب الخلق أن يُذِلّوه.
* للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل
لقائه ويعمر بيته قبل انتقاله إليه.
* إذا حمَّلت على القلب هموم الدنيا وأثقالها وتهاونت بأوراده التي هي قوته
وحياته، كنت كالمسافر الذي يحمِّل دابته فوق طاقتها ولا يوفيّها علفها فما أسرع ما
تقف به.
* عيَّر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَا
لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ] [التوبة 38] .
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب
الآخرة.
* الإخلاص: هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا عدو فيفسده ولا يعجب به
صاحبه فيبطله.
* ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية.
* لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه أو يداهن غيره.
* الجهَّال بالله وأسمائه وصفاته المعطِّلون لحقائقها يُبغِّضون الله إلى خلقه
ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون.
* وقار الله:
من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خالٍ
من تعظيم الله وتوقيره، فإنك توقر المخلوق وتجلّه أن يراك في حال لا توقر الله أن
يراك عليها، قال تعالى: [مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَاراً…] [نوح: 13] .
ومن وقاره ان لا تعدل به شيئاً من خلقه ... ، ولا يجعله على الفضلة ويقدم
حق المخلوق عليه، ولا يكون الله ورسوله في حدّ وناحية، والناس في ناحية وحدّ، فيكون في الحدّ والشق الذي فيه الناس دون الحدّ والشق الذي فيه الله ورسوله،
ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبّه ويعطي الله في خدمته بدنه ولسانه دون
قلبه وروحه، ولا يجعل مراد نفسه مقدماً على مراد ربّه. فهذا كله من عدم وقار
الله في القلب، ومن كان كذلك فإن الله لا يُلقي له في قلوب الناس وقاراً ولا هيبة،
بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقّروه مخافة شره فذاك وقار بُغضٍ لا وقار
حُبٍ وتعظيم. ومن وقار الله أن يستحي من اطّلاعه على سرّه وضميره فيرى فيه
ما يكره. ومن وقاره أن يستحي من أكابر الناس.
* مواساة المؤمنين:
المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن
والخدمة ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة
بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة. فكلما ضعف الإيمان ضعفت
المواساة، وكلما قوي قويت. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم
الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.
* شرف النفس:
قال شقيق بن إبراهيم: أُغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء:
اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى
الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار
الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها. قلت: وأصل
ذلك عدم الرغبة والرهبة، وأصله: ضعف اليقين، وأصله: ضعف البصيرة،
وأصله: مهانة النفس، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.(50/57)
الركن الإعلامي
أخبار قصيرة
- آغا خان لصاً:
اتهم المدعو (صدر الدين أغاخان) باختلاس أموال المهاجرين والمجاهدين
الأفغان. حيث إنه يعمل منسقاً لجهود الأمم المتحدة لإعادة توطين المهاجرين الأفغان، وقد ظهرت هذه التهمة عندما رشح آغا خان نفسه لمنصب الأمين العام للأمم
المتحدة مما استدعى البحث في ملفه كاملاً وتبين أنه صرف مبالغ طائلة من أموال
مشاريع التوطين في غير ما خصصت له، كما سبق للحكومة الفرنسية أن اتهمته
باختلاس مليونين ونصف مليون من الدولارات صرفها دون أن يدرج بها كشفاً
بكيفية الصرف مما يدل على صرفها في غير وجهها.
العالم الإسلامي
- ندوة فاشلة عن الديموقراطية في بيروت:
عقد في بيروت بين 20-23/1/92 ندوة بعنوان المجتمع المدني في الوطن
العربي ودوره في تحقيق الديموقراطية، شارك فيها حوالي 90 باحثاً ومفكراً من
مختلف الأقطار العربية تحت إشراف مركز دراسات الوحدة العربية، قدم فيها 16
بحثاً وعقب عليها 29 باحثاً يمثلون مختلف الاتجاهات الفكرية من قومية وأصولية
وماركسية على حد ما جاء في الخبر. تطرق المتناقشون فيها إلى ما اسموه
بالمؤسسات السلطوية والأنظمة الاستبدادية وأنظمة الحزب القامعة للديموقراطية
وانتهاك حقوق الإنسان.. الخ
الأنباء العدد 5652
* والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم يلق الإسلاميون وما يعانونه من
اعتقالات واغتيالات وسرق لجهودهم الديموقراطية، لماذا لم يلق الشجب والإدانة
على أقل تقدير. لماذا لم تتطرق الندوة بما يدين تلك الجهات المناوئة لهم: لماذا،
أليسوا بشراً لهم حقوقهم وما ذاك إلا لأنهم إسلاميون فحسب، وإذا عرفنا بأن
المركز المشرف ذو اتجاه علماني بطل العجب، والشيء من معدنه لا يستغرب.
وماذا قدم من سموهم بالأصوليين المشاركين في هذا المجال! !
- اهتراء منظمة التحرير:
في انتخابات الغرفة التجارية في مدينة رام الله فازت الكتلة الإسلامية بعشرة
مقاعد من أحد عشر مقعداً، وكانت هذه الكتلة قد عرضت على فصائل المنظمة
تشكيل قائمة موحدة ولكن المنظمة رفضت وشكلت مرشحيها عن كل فصيل من
فصائل المنظمة، فكانت النتيجة أن اكتسحت الكتلة الإسلامية هذه الانتخابات.
الحياة 11/3/92
* الجدير بالذكر أن في هذه المدينة يعيش نسبة عالية من النصارى، وهذه
رسالة موجهة إلى منظمة التحرير بالبراءة منها، وهي رسالة موجهة إلى كل من
يريد إبعاد الإسلام بالقمع والقوة وأن الإسلام هو قدر هذه الأمة.
- ماليزيا تحتج على بورما للمجازر التى ترتكبها ضد المسلمين:
استدعت وزارة الخارجية الماليزية سفير بورما وأعربت عن قلقها إزاء
المعاملة التي تتلقاها الأقلية المسلمة هناك.
الحياة 11/3/92
* حسن من ماليزيا أن تحتج ولو بالكلام على وحشية حكومة بورما، وننتظر
من دول أخرى أن تقوم بنفس العمل، إذا كانوا يفهمون بلغة الإنسانية.
- نظام كابل يطلب من واشنطن مساعدته للقضاء على (الأصولية) ؟ !
في مقابلة مع صحيفة (نيويورك تايمز) طلب نجيب الله من الولايات المتحدة
مساعدته في التغلب على المجاهدين مما يحول دون انتشار الأصولية في جمهوريات
آسيا الوسطى المجاورة ...
الحياة 11/3/92
* أصبح المسلمون سلعة يتاجر بها كل نظام يريد مساعدات مالية يضرب
الإسلاميين ويسجنهم حتى تنهمر عليه المساعدات. ونحن نأمل من هذه (الأصولية)
أن تقتلع جذور حكام كابل ومن وراءهم.(50/60)
كتب -وثائق -مذكرات -إصدارات
- إلى أين تسير الجزائر: تأليف بلقاسم نابي:
المؤلف وزير جزائري سابق للبترول وضح في كتابه هذا الذي بلغ 500
صفحة، أزمة البترول وتأثيرها على التنمية خلال الحقبة الماضية في الجزائر..
حدد من خلاله الظاهرة البترولية وعلاقتها باستراتجية الدول المتقدمة وهدف إعادة
تنظيم العالم من جديد، وتطرق لمشاكل البترول والغاز وخلفيات الصراع الدولي
حول الأسعار بأسلوب لا يخفى المنطلقات السياسية التي تعكس تبرير قرارات
التأميم، وركز على خطر الاعتماد الكلي على قطاع المحروقات واعتبار الرأسمال
البشري كقوة عاملة والاستمرار على نهج سياسة التصدير في الوقت الذي عجزت
فيه الدولة عن تنشيط الصناعة المريضة والفلاحة العاجزة عن تلبية أدنى
الاحتياجات الغذائية، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تكون الجزائر دولة بترولية
مصدرة بينما هي اقتصادياً منحطة فضلاً عن الديون المتراكمة التي تنوء تحت
كاهلها.
- أبو نضال: بندقية للإيجار تأليف: باتريك سيل
عن حياة رئيس حركة فتح (المجلس الثوري) المدعو صبري البنا والمعروف
بأبي نضال كتب الصحافي البريطاني (باتريك سيل) كتابه الجديد متطرقاً للعمليات
الإرهابية التي قام بها المذكور ومنظمته ضد بعض الأهداف الغربية واليهودية.
وذكر المؤلف أن أبا نضال أو المقربين إليه كانوا يعملون لصالح إسرائيل، ولا
ندري عن معلومات المؤلف، لكن حينما يغيب الإسلام عن التوجه، والدين عن
الضمير فلك أن تتصور أبشع الجرائم واشنع التصرفات.
- الحرب القادمة حرب المياه والصراع العربي الإسرائيلي
تأليف: د. سمير عيسى سعد
دراسة علمية تدرس مشكلة المياه في فلسطين المحتلة وأطماع العدو الصهيوني
في مياه الدول المجاورة وتطرق الباحث إلى المواضيع التالية:
حدود فلسطين كما أقرتها الاتفاقيات الدولية، وبيان الموارد المائية هناك،
ومشاريع المياه المنفذ منها وما هو تحت التنفيذ، وكذلك تطور السكان في فلسطين
وعلاقتهم بالمياه، ثم الواقع المائي في الأراضي المحتلة، وتظهر في هذا الفصل
فكرة المرحلية في استيلاء العدو الصهيوني على الأرض والمياه ثم يبين بالأرقام
والجداول مشاكلهم المائية نتيجة سياستهم في التوسع والاستيطان وخلص إلى أن
أطماع العدو تصل إلى مياه نهري النيل والفرات ثم ختم الكتاب بخلاصة البحث وما
تبين له من استنتاجات.
- اليهود والتحالف مع الأقوياء تأليف د. نعمان السامرائي:
وهو العدد 32 من سلسلة كتاب الأمة التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية
بقطر قدم لها الأستاذ المشرف بمقدمة تحليلية مطولة ويتكون الكتاب من عدة فصول
هي:
1- اليهود والظواهر الغريبة (ثقة بالنفس أم غرور) و (فقدان الغربة في
الحوار، إثارة مخاوف الآخرين) و (الارتباط بفلسطين) وقانون العودة..
2- عبادة القوة والتحالف مع الأقوياء متطرقاً لبيان ذلك بنبذة تاريخية
ونصوص مختارة لقادتهم وتحالفهم مع الفاشية والنازية وإيضاح عصر أدبياتهم
اليهودية.
3- الاستعمار والصهيونية (الأستاذ والطالب) الاستقلال والتبعية في آن واحد
والتوسعية والوحدوية والتفاوت الثقافي بين المهاجرين اليهود ثم ملحق عن الحقوق
الصهيونية المدعاة في فلسطين وبيان تهافتها علمياً.
وأشار المؤلف في مقدمته إلى حقيقة هامة يريد اليهود استغلالها في سبيل
استهدافهم تحطيم إرادة الخصم وهي محاولتهم بكل السبل تفريقنا وزرع الشكوك
بيننا واقناع حكامنا زوراً بأن الخطر على كراسيهم يأتي من الإسلاميين وليس من
إسرائيل! ! !(50/62)
إحصاء
- في مؤتمر (تنسيق المساعدات للدول المستقلة الجديدة) الذي عقد في
واشنطن من 22-23 يناير الماضي والذي حضره 47 دولة و 7 منظمات دولية ولم
تدع له الجمهوريات المحتاجة للمساعدة أعلن الرئيس الأمريكي (بوش) أنه سيطلب
من الكونجرس تخصيص 645 مليون دولار مساعدات للجمهوريات التي كانت
تشكل الاتحاد السوفييتي السابق، وأعلنت اليابان تقديم 50مليون دولار، ولم يقر
المؤتمر أي مساعدات جديدة وإنما اكتفى بإقرار بعض خطوات تنسيق المساعدات
وكيفية شحنها.
- سيصل إنتاج اليمن من النفط إلى 1. 5 مليون برميل يومياً في نهاية العام
الحالي 1992 والمعروف أن 18 شركة نفط مختلفة الجنسيات تعمل في اليمن على
قدم وساق، وأن المجلس الأعلى للشؤون النفطية والاستثمار وافق على 12 اتفاقية
جديدة في مجال الاستثمار النفطي.
الخليج 4657
- قال سمحا دنس مدير الوكالة اليهودية للمهاجرين أن نقص فرص العمل في
إسرائيل هو السبب الرئيس للانخفاض الكبير في عدد المهاجرين لإسرائيل حيث لم
يبلغ عدد المهاجرين في فبراير الماضي سوى 500 مهاجر فقط وهو أقل معدل وقد
وصل نحو 400 ألف مهاجر من الاتحاد السوفييتي السابق منذ أواخر عام 1989
مما أدى إلى إجهاد الاقتصاد اليهودي ورفع معدل البطالة إلى 11% وهو أعلى
معدل منذ 20 عاماً، ووفقاً لإحصائيات للوكالة المذكورة فقد بلغ معدل المهاجرين
في شهر ديسمبر عام 1990 إلى الذروة إذ وصل إلى295. 34 مهاجراً سوفياتياً
وفي الأشهر الستة الماضية لم يصل العدد الشهري إلى 10 آلاف شخص بينما بلغ
الشهر الماضي 237 مهاجراً.
الشرق القطرية العدد 1425(50/64)
في دائرة الضوء
أي حرية تمارسها الصحافة الكويتية؟
بعد أن عاد الكويتيون إلى ديارهم بعد المأساة التي عاشوها والتي اكتووا بنارها، ... كنا نتوقع ويتوقع كل مخلص أن يتوب المبتعدون عن الإسلام إلى ربهم، لا سيما
من كان منهم يبارز الله بالمعاصي، ومن عرف عنهم مواقفهم المتشنجة ضد
الصحوة الإسلامية، وضد الدعاة إلى الله عموماً، لا سيما الكتاب والصحفيين
وغيرهم، لكنا فوجئنا بأن الأمر انعكس رأساً على عقب، ورأينا الفئة المفترية على
الله عادت أشرس ما تكون عداءاً للإسلام، وأكثر افتراءاً على دعاته وأسرع سقوطاً
في أحضان الكفر والكافرين. وقرأنا ما تقشعر له أبدان الذين آمنوا من السخرية من
الدين وشعائره كما كتب المدعو (فؤاد الهاشم في صحيفة صوت الكويت) عليه من
الله ما يستحق، وكان محل انتقاد الدعاة والعلماء في الكويت.
ورأينا (أحمد الجار الله) يفتري على الله ويتهم الدعاة إلى الله بمفتريات سخيفة
لا يصدقها عاقل.
ووجدنا صحيفة الوطن تملأ صفحاتها افتراءاً وكذباً وتزويراً ضد من دعوا إلى
(إقامة هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وجن جنونهم لهذا المشروع
الخيري الكبير، وكأنهم يعطون الدليل بأنه لا يصح أن يوقفوا عند حدهم وألا
يفطموا على ما ألفوه من باطل وانحراف، ووجدنا من يدعو إلى الاعتراف بالعدو
الصهيوني بدعوى أنه لم يفعل بهم كما فعل (مجنون العراق) وشنوا حملات ظالمة
ومفتراة على الجماعات الإسلامية التي كان لها موقف معين ووجهة نظر رأوها
حيال تلك الأزمة التي مرت بالمنطقة فدعوا إلى مقاطعتها وشنعوا على قادتها
واعتبروهم أبعد من العدو الصهيوني نفسه.
نعم إن للحرية الصحفية دورها في كل مطبوعة لكن أن تصل الحرية إلى
الكفر البواح وإلى الافتراء بلا دليل والسخرية من المسلّمات الشرعية المحترمة فهذا
ما يجب أن يوقف وأن يكون محل دراسات علمية ونفسية لهؤلاء الكتاب الذين هم
عالة على الصحافة، وأبعد ما يكونون عن رسالتها الشريفة، ولقد تطرق نفر من
الدعاة إلى الله إلى دراسة هذه الظاهرة وتحليلها وبيان منزلقاتها أمثال (الشيخ سلمان
ابن فهد العودة) في درسه (هشيم الصحافة الكويتية) الذي نشرته مجلة المجتمع
مسلسلاً ابتداءاً من العدد 985 وما بعده.
لكن ما يمكن قوله في هذه العجالة:
1- أن أولئك الكتاب الذين أخرجوا ما في بواطنهم من غل هم أناس
مشبوهون ولهم سوابق في الانحراف الفكري، والقراء يعرفونهم قبل الأزمة.
2- إنهم جهلة بالدين الذي ينتسبون إليه لا يعرفون منه سوى ما يعرفه العوام
أما أن يعرفوا أصوله وآفاقه وحلوله لمشكلات العصر فهم أبعد الناس عن ذلك وفاقد
الشيء لا يعطيه.
3- اتهامهم للإسلام ودعاته، وتكرارهم لما يقوله أعداؤه يدل دلالة أكيدة على
أنهم عملاء سواء عرفوا أم جهلوا، وإلا لماذا يتبنون طروحات الأعداء حتى
صارت كالإعلانات المدفوعة الأجر.
4- الموقف حيال تلك الاتجاهات الشائنة للإسلام ودعاته هو مقاطعتهم ولقد
أحسنت الجمعيات التعاونية بالكويت صنعاً حينما قاطعت تلك الصحيفة التي تبنت
آراء ذلك الكاتب المشبوه ضد الإسلام حتى اعتذرت الصحيفة عما نشرت على
لسانه.
ولابد من المقاطعة لتلك الصحف المشبوهة فإنها ستصاب بالسكتة القلبية من
جراء مقاطعتها حتى تتأدب مع الإسلام ودعاته وتحترم الرسالة المفترضة فيها وهذا
أبلغ علاج.
وإن من أبجديات الشكر لله على ما آلت إليه الأحوال أن يحترم دين هذه الأمة
وأن يتاح المجال للكتاب المحترمين بأداء دورهم في الدعوة والإسلام، وألا تنشر
إلا كل نافع ومفيد فإن الصحيفة المحترمة تستطيع أن تجذب القارئ بالموقف
الموضوعي والنقد البناء والخبر الطريف والتحقيق المفيد وطرح القضايا الحيوية
التي تهم قطاعات المجتمع.(50/65)
مصطلحات
الدين لله والوطن للجميع!
تتردد هذه الايام على ألسنة من يمارس اضطهاد الدعاة مقولة: لا وصاية
لأحد على الإسلام، والإسلام للجميع، كما يرددون (الدين لله والوطن للجميع) .
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمه الله - عن هذه العبارة فأجاب:
هذه المقالة: (الدين لله والوطن للجميع) صاغها الحاقدون على الإسلام الذين
رموه بالطائفية بهذه الصيغة المزورة إفكاً وتضليلاً، ليبعدوا حكم الله ويفصلوه عن
جميع القضايا والشؤون بحجة الوطن الذي جعلوه نداً لله، وفصلوا بسببه الدين عن
الدولة، وحصروه في أضيق نطاق، فأعادوا بذلك الحكم القيصري والكسروي
بألوان وأسماء جديدة، والعبرة بالمعاني من سوء التحكم والأعمال المخالفة للشرع،
وعدم العدل لا بالأسماء والألقاب، فهي خطة شركية قلّ من انتبه لها، ولا يجوز
للمسلمين إقرارها أبداً، ولكن غلبت عليهم سلامة الصدر فاغتروا بما يطلقه أولئك
من الدجل والتهويل ويخادعون به الله والمؤمنين من دعوى تعظيم الدين والارتفاع
به عن مستوى السياسة التي هي غش وكذب، ليخدعوا به المسلمين ويخرسوهم
والله لا يرضى من عباده أن يتهاونوا بالحكم ويتنازلوا عن حدوده قيد شعرة أو
تنقص فيهم الرغبة الصادقة في تنفيذه - بدلاً من أن تنعدم - لحب وطن أو عشيرة
بل ولا لحب ولد أو والد أو أخ قريب، فالدين الذي لله يجب أن يسيطر على الجميع
ويكون أحب وأعز من الوطن وأن لا يتخذ الوطن أو العشيرة نداً لله ويعمل من أجله
ما يخالف حكم الله وتبذل النفوس والأموال دون كيان العصبية القومية في سبيل
الوطن لا في سبيل الله لإعلاء كلمته وقمع المفتري عليه بل لتعزيز المفتري عليه،
فهذه وثنية جديدة أفظع من كل وثنية سبقتها، إذ يعملون تحت هذا الشعار الوثني ما
يشاؤون ويخططون لحياتهم الوطنية تخطيط من ليس مقيداً بشريعة ربه وكونها
أفظع من كل وثنية هو لمزيد فتنتها وإخراجها للناس بهذا الأسلوب الذي صاغته
(أوربا) هروباً من حكم الكنيسة والله يقول: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ويقول: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن
تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ..] وقد عملوا منذ
زمن طويل على ذلك حتى كسبوا بعض أولاد المسلمين فنفذوا لهم هذه الخطة التي
طوحوا بها بحكم الإسلام بحجة أقلية نصرانية انتحلوا هذه النحلة وعطلوا دعوة
الإسلام وأوقفوا زحفه إرضاء لهذه الأقلية وإغضاباً لله بينما هي تزحف بالدعاية
النصرانية وبث الإلحاد على حساب المسلمين وفي عقر بيوتهم وجعلوا الحكم لغير
الله وأباحوا من أجلها ما حرم الله بإقرارهم له وإعفاء مرتكبه من العقوبة ليشهدوا لهم
مع تلاميذ الأفرنج من أبنائهم أنهم متحررون أكفاء للحكم.(50/68)
العنصرية والديموقراطية الأوربية
في الميزان
د. أحمد عجاج
لم يكن يخطر أبداً في بال عائلة سعدو اللبنانية التي هربت من جحيم الحرب
الأهلية في لبنان بأنها ستواجه مأزقاً بعد اليوم. فقد حطت رحالها أخيراً في بلدة
هنكس الألمانية على نهر الراين، وشعرت للمرة الأولى منذ سنوات بالأمان
والحرية. ولكن لم يكن هذا الشعور إلا وهماً وسراباً. ففي منتصف ليل الخامس
من أكتوبر الماضي ودون سابق إنذار اشتعل منزلها وأصيبت طفلتاها اللتان لم
تتجاوزا بعد سن السادسة والثامنة بحروق خطيرة إثر هجوم قامت به العصابات
النازية الجديدة بالقنابل الحارقة عليها. وسبب الهجوم بسيط جداً وهو أن تلك العائلة
لا تنتسب إلى الجنس الألماني العظيم!
وعائلة سعدو ليست إلا واحدة من عدة عائلات تعرضت إلى ما هو أفظع
وأشنع من ذلك بكثير على يد تلك المجموعات النازية الجديدة التي تطالب بتطهير
ألمانيا من الغرباء الذين يشوهون منظرها ويزيدون أعباءها.
إن تصاعد الخطاب العنصري في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوربية ليس
بحد ذاته حدثاً عابراً أو أمراً عارضاً بل هو يلمس جوهر السياسة الأوربية الجديدة
في تعاملها المستقبلي مع الأقليات الموجودة على الأراضي الأوربية. ففرنسا تجد
نفسها أمام تصاعد نجم العنصري (ماري لوبان) وألمانيا تقف عاجزة أمام موجات
العنف التي يشنها المتطرفون ضد الأقليات واللاجئين من العالم الثالث، وبريطانيا
تعرب عن قلقها إزاء تصاعد نشاط الجبهة القومية البريطانية، وسويسرا درة
الغرب تحاول أن تتجنب تلك الموجات العنصرية المشينة.
وأوربا تعيش الآن مرحلة خطيرة من تاريخها الحديث الذي لا يختلف بنتائجه
وآثاره عن تلك المرحلة المظلمة التي استساغت فيها أوربا استبعاد الشعوب
واستغلال طاقاتها معتمدة على تبريرات واهية ترتكز إلى اللون والدين ودرجة
التمدن. فالحملة العنصرية ضد المهاجرين، أي اللاجئين كما يطلق عليهم، بلغت
مرحلة خطيرة جداً إذ أصبح معها المهاجرون غير آمنين حتى في بيوتهم وبحاجة
دائمة لحماية من الشرطة. وتزامنت الحملة هذه مع تزايد البطالة وتدهور الوضع
الاقتصادي وتدفق أعداد هائلة من المهاجرين إلى أوربا.
وتصاعد الكراهية وموجة العداء لا ينطلقان من فراغ بل يستندان إلى مبررات
ومسببات عديدة تجد تشجيعاً وتغذية من الأحزاب العنصرية التي تعمل ليل نهار
على نشر مشروعها العنصري. فالأحزاب العنصرية لها مبادئها ومنطلقاتها الفكرية
التي ترى فيها تفوقها وأفضليتها وأصالتها وسموها على بقية الأجناس البشرية. هذه
الأحزاب والجماعات تتعامل مع موضوع المهاجرين من زاوية عنصرية بحتة.
فهي ترى في وجودهم على أرضها تشويهاً لجمال بلادها وخطوة خطيرة نحو زوال
نفوذها وسيطرتها وطمساً لحضارتها العظيمة. ولم لا وهي تعتقد بأن أولئك
المهاجرين لا يتمتعون بأي رصيد حضاري ولا همّ لهم سوى الاستيلاء على المدن
الراقية وصبغها بلونهم شأنهم في ذلك شأن البرابرة. فأكثر ما يزعج تلك الجماعات
العنصرية وجود أقليات كثيرة في مدنها الراقية مما يغير من طبيعتها ونمطها. لذا
يطلقون على مرسيليا الفرنسية على سبيل النكتة والتهكم بأنها (عربية أكثر من
الجزائر) نظراً لوجود أعداد هائلة فيها من المهاجرين العرب من شمال أفريقيا.
والخطورة لا تكمن في وجود تلك الأحزاب بل في أنها تعمل في جو من
الحرية وضمن إطار الديموقراطية، دون حسيب أو رقيب وضوابط وقيود.
والحرية الممنوحة لتلك الجماعات تجاوزت الحدود الممكنة التي يمكن السماح بها في
أي ديموقراطية. فقد وصل الأمر أخيراً أن تطرح الأحزاب العنصرية برامج
سياسية تدعو إلى التخلص من جميع المهاجرين سواء كانوا مواطنين أصليين أم لا
انطلاقاً من أن أوربا للأوربيين وأنه من غير المجدي والممكن أن يتعايش الجميع
فيها. فالرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان وغيره من الساسة المحترمين أمثاله
لم يتورعوا عن إطلاق تصريحات عنصرية آملين من وراء ذلك أن يحصلوا على
أصوات الناخبين الفرنسيين وسحب البساط من تحت أقدام الحزب العنصري الذي
يتزعمه ماري لوبان. فقد صرح ديستان أثناء مقابلة أجرتها معه صحيفة الفيغارو
الفرنسية الواسعة الانتشار بأن من الضروري التحرك لوضع حد لهجرة أبناء العالم
الثالث مشبهاً إياها بالغزو الذي يتوجب مواجهته قبل فوات الأوان. ولم يقتصر
الأمر عند هذا الحد بل تعدى ذلك بكثير عندما أعلن رئيس وزراء فرنسا السابق
جاك شيراك في احتفال حزبي عن امتعاضه من (صخب العرب وضوضائهم) ومن
(روائحهم البشعة) [1] .
تلك التصريحات العنصرية والمليئة بالحقد والكراهية ساهمت إلى حد كبير في
زيادة روح العداء والانقسام وغذت عنصر الأنا والاستعلاء لدى المواطنين
الفرنسيين وشجعت بدورها على نمو التيارات العنصرية وبالذات الجبهة القومية
الفرنسية التي بدأت تكتسب شعبية مرموقة في صفوف الشعب الفرنسي. فالجبهة
القومية استطاعت أن تلعب ورقة المهاجرين واللاجئين بمهارة ودقة مما سمح لها أن
تفرض نفسها على الساحة السياسية كقوة لها وزنها وقيمتها. وقد وصل الأمر أخيراً
بزعيم الجبهة ماري لوبان أن يطرح برنامجاً انتخابياً يطالب فيه بطروحات تضرب
عرض الحائط جميع مقومات الديموقراطية التي يتغنى بها الفرنسيون في بلد الحرية
والإخاء والمساواة. والبرنامج يدعو إلى طرد جميع المهاجرين واللاجئين غير
الأوربيين مباشرة بعد مرور سنة على إقامتهم في فرنسا وحظر إعطاء تاشيرات
سياحية للعرب والأفارقة [2] . والتبرير المعطى هو أن الهجرة من العالم الثالث
مصدر الجرائم والبطالة والتهديد للوطن الفرنسي. وينص البرنامج على منح
الفرنسيين الأفضلية في السكن والوظائف وحرمان المهاجرين، بغض النظر عن
مدة إقامتهم، من جميع الضمانات الاجتماعية التي توفرها الديمقراطيات الحديثة
لجميع المواطنين دون تمييز يرجع إلى اللون والجنس. ورغم بشاعة البرنامج فإن
الفرنسيين وجدوا فيه إيجابيات عديدة! فقد أفاد آخر استطلاع للرأي العام أن نسبة
تأييد ماري لوبان ارتفعت من 18 إلى 32 بالمئة محرزاً في ذلك تقدماً ملموساً
وظهوراً قوياً على الساحة السياسية [3] .
والتأييد الذي يلقاه ماري لوبان يعكس مدى التردي الأخلاقي في المجتمع حيث
أصبح الجهر بالعنصرية شيئاً مقبولاً ولا يثير الخجل والحياء بل الفخر والإعجاب.
فقد أصبح الخطاب العنصري مجالاً رحباً وأرضاً خصبة للتأييد الشعبي وتعزيز
موقع الطامح إلى السلطة حتى وصل الأمر أخيراً بالرجل الثاني في الجبهة القومية
الفرنسية برونو ميغرات أن يتسائل قائلاً: (لماذا نجهد أنفسنا في الحفاظ على
أجناس الحيوانات في حين لا نلقي بالاً لاختفاء الجنس البشري من جراء الاختلاط
العام بين الأجناس البشرية المختلفة) [4] .
فلا غرابة إذن أن نرى متطرفين وعنصريين وأعمال إرهاب وعنف ضد
المهاجرين واللاجئين طالما أن الخطاب العنصري يحتل رقعة واسعة من الحياة
السياسية والاجتماعية.. ولكن ما يدعو إلى الاستغراب حقاً هو كيف تتعايش
الديموقراطية مع العنصرية؟ فالديموقراطية الغربية بما تتضمنه من أفكار ومبادئ
تتنافى كلياً مع ما تطرحه العنصرية، والاختلاف بينهما كبير بمقدار ما هو بين
الماء والنار. فالدول الغربية بالذات تطالب دولاً أخرى باستمرار أن تحترم حقوق
الإنسان وأن تنتهج المنهاج المثالي في التعامل مع مواطنيها وتتزعم دائماً المؤتمرات
والمجالس الدولية رافعة الصوت عالياً باحترام حقوق الإنسان وتوفير الأمن
والرفاهية للجميع دون استثناء لكن دون أن تكلف نفسها عناء النظر في ما يجري
على أراضيها من حدث وخطاب سياسي. فظاهرة تفشي العداء والتطرف ضد
المهاجرين قلما تجد تأنيباً من نخب الغرب الحاكمة إن لم تجد أحياناً تشجيعاً كما هو
الحال في فرنسا وألمانيا. وهذه المفارقة تكشف في جوهرها حقيقة الديموقراطية
التي ملأ صيتها الآفاق وانتشر في أرجاء المعمورة.
إن كانت الديموقراطية كما يزعم بأنها من أنجح الأدوية وأفضل الطرق لرص
صفوف المجتمع وصهر طاقاته فإن نموذجها الغربي المطبق لم يحقق حتى الآن إلا
نجاحاً نسبياً. وإلا لما طرح لوبان مشروعه، ولما قال شيراك بأن العرب رائحتهم
كريهة ولا تعرضت عائلة سعدو للحرق. فالديموقراطية بمثالها الغربي لا يمكن أبداً
أن تنجح في توحيد المجتمع وصهر طاقاته البشرية ولم أجناسه المتنوعة في بوتقة
واحدة. والسبب يكمن في كيان الديموقراطية الغربية ذاته القائم على الحرية الفردية
المنفلت من كل قيد أو ضابط أخلاقي واللاهث وراء الإشباع المادي دون سواه.
فإذا ما توفرت العناصر المادية ولوازمها يمكن للمجتمع آنذاك أن يعيش نسبياً نوعاً
من الأمان والاستقرار الاجتماعي. ففي الماضي غير البعيد انتجت ديمقراطية
الغرب - عندما تردت الأوضاع وساءت الأحوال الاقتصادية - نازية هتلر
وفاشستية موسوليني.
الثابت أن المجتمع الذي لا يتمتع بالمناعة الأخلاقية والمثل العليا غير قادر
على معايشة حقوق الإنسان واحترام الآخرين عندما يواجه انحساراً وضموراً في
وفرته الاقتصادية. وهذا بالطبع ليس شيئاً غريباً لأن الفرد الذي تربى على تأليه
المال والمبادرة الفردية الصرفة في الإنتاج واعتاد الوفرة والبذخ في العيش لا يمكنه
أن يتنازل عن مكتسباته برحابة صدر وابتسام. بل يتطلع دائماً إلى كبش فداء
لتحميله وزر الضائقة وإنزال سخطه وغضبه عليه. وهو بسعيه هذا يتمتع بحصانة
تحول دون معاقبته لأن السلطة ذاتها بحاجة إلى دعمه ودعم أمثاله، وترى في
أعمال كهذه منفذاً للتهرب من مسؤولياتها وفشلها في إدارة البلاد. والسلطة في
مواجهة أزمات كتلك ترتكز على أهمية ضمان الوحدة الاجتماعية التي لا تتحقق
بنظرها إلا بتوفر عنصرين هما: الأمن الداخلي وتنفيذ مشروع الاندماج.
والمقصود بعبارة الأمن الداخلي هو إقفال البوابة الأوربية في وجه الآلاف من
المهاجرين الذين ضاقت بهم بلادهم وخرجوا منها قهراً أو بحثاً عن مصدر رزق
جديد. وعبارة الاندماج تتطلب من المهاجرين واللاجئين الانسلاخ عن ذاتهم
وتقاليدهم استعداداً لتقمص هوية جديدة لم يعرفوها أو يألفوها من قبل. وفي كلا
المطلبين تصبح الديموقراطية بلا معنى ويخسر المهاجرون واللاجئون حقوقهم
الإنسانية.
فالديموقراطية والعنصرية يصعب تعايشهما معاً، إلا أن تعيش واحدة على
حساب الأخرى. إذ لا يعقل أبداً أن تحرق عائلة سعدو وتذبح عائلة رومانية أخرى
دون أن يعتقل الجاني أو تغلق مراكز الجماعات العنصرية وتمنع شعاراتها التي
تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان. فالديموقراطية الحقة التي نعرفها لا تستقيم إلا إذا
عاشت عائلة سعدو بأمان وسجن قاتلو العائلة الرومانية وأقفلت أبواب الأحزاب
والجماعات العنصرية إلى غير رجعة.
__________
(1) الحياة، 13 كانون الأول 1991.
(2) Foreign Report 14 of November 1991.
(3) Foreign Report 13 of November 1991.
(4) نفس المصدر.(50/70)
قراءة لفكر الصحافي هويدي
خالد بن صالح السيف
مدخل:
الكتابة في المراجعات والرد على المخالف منهجية ذات تأصيل سلفي تتجاوز
هشاشة العاطفة.. وتنأى باعتدالها عن الاستئناس بتبدي العورات قبالة الملأ..
وتتحرى الصواب مخافة بخس الناس أشياءهم؛ ومن قبل تحتسبها إماطة للأذى..
ونفياً لخبث الفهم الفاسد في مرحلة اختلط فيها المتغير بالثابت.. وبخس النقل في
سوت العقل..، ولم تعد الأولويات مواطن اتفاق.. رغم جلاء المنهج القرآني في
الجانب العقدي؛ وبات فئام يصدورن عن فهم يساري إسلامي! ! وآخرون عن فهم
مستنير! ! وثمة فهم عقلي وعصري وفهوم آخر ما أنزل الله بها من سلطان.
وهو واجب كفائي يحقق مطالب شرعية.. (أهم المهمات: نصح للمخالف:
وضماد لجراحه ونصح لجميع المسلمين، وكشف للغشاوة عنهم وحماية لقيمهم من
التحلل والإدغام والدخولات وحياة الأنعام وغيرها من رواسب الخلاف الطائش.
وتنقية الساحة من المنكودين، وبالتعريف عليهم، بما خالفوا به أمر السنة والكتاب
فابتدعوا وفجروا ونابذوا السنة وآذوا المسلمين. وفي هذا تحذير بالغ من الوقوع في
شراكهم وحيلولة بينهم وبين ما يشتهون) [1] .
و (السنة شاهدة من وجه آخر إلى مدح القائمين بهذا الواجب، وأنهم هم
العدول المصلحون، الغرباء، وأن عملهم من الجهاد، وواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر..) [2] .
ما سلف منهجية تبدو حقيقة محضة في ممارسة أرباب منهج (أهل السنة
والجماعة) المتقدمين منهم والمتأخرين سيان وفي كتابتي هذه أتطلع إليها مجتهداً
وأستشرف الصواب فيها متحرياً، والله المستعان.
الأستاذ فهمي هويدي صحافي يكتب في (الأهرام) و (العربي)
و (المجلة) [*] ويعني في طرحه بقضايا إسلامية ذات بعد صحفي.. مغرق في الانتفاش، ذو رؤية أحسبها تكونت من أمشاج رؤى احتطبها من (مركز للمعلومات) فحسب، إن شئت فارقب ذلك في كتبه ومقالاته حيث النقول المستفيضة وإن كان يحسن صرف دلالتها بأن يلوي أعناقها أو يحرفها وفق مقتضى طرحه، ودونك مثالاً على ذلك:
في مقالة له وسمها بـ (العقل في قفص الاتهام) كتب الآتي: (ولشيخ
المجتهدين ابن تيمية كتاب كامل في) رد تعارض النقل والعقل (خصصه لمناقشة
القضية من زاوية دقيقة تتمثل في السؤال التالي: ما العمل إذا تعارض الشرع -
وهو المنقول إلينا من غيرنا - مع العقل؟ ، في رده قال ابن تيمية: إذا حدث
التعارض بينهما فإما أن يجمع بينهما وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين وأما أن
يردا جميعاً (أي يرفضا جميعاً) وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل
الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في العقل والنقل جميعاً، والحل يرد ابن
تيمية: فوجب تقديم العقل.
ثم يضيف شيخنا الجليل إن هذا الرأي بمثابة قانون كلي عند أكثر الأئمة
المجتهدين الفخر الرازي وأتباعه وقبله الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر العربي
والجويني والباقلاني وهذا صحيح..) انتهى بنصه من كتابه القرآن والسلطان هموم
إسلامية معاصرة [3] .
ويبدو واضحاً حدة التمويه التي يمارسها هويدي في غالب نقوله رغبة في
موافقة ما يصدر عنه من هوى وإن اضطر للتقول. واحسبها في النص السابق
المنسوب لشيخ الإسلام تبدو أكثر وضوحاً في هذا التجني وهويدي نفسه ربما يعي
جيداً أن هذا ليس من كلام شيخ الإسلام إن لم يكن أول من يعلم ذلك.. إضافة إلى
مفردات الاسلوب وعباراته ليست من أساليب شيخ الإسلام ولا من عباراته -رحمه
الله تعالى-! !
يبدأ ابن تيمية كتابه - درء تعارض العقل والنقل - بعد الخطبة بقوله: (قول
القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية..) [4] . وبعد أن أورد شيخ الإسلام
القانون الكلي للتوفيق عند المبتدعة وهو ما نقله هويدي في مقاله السابق ونسبه إليه
زوراً قال - أي شيخ الاسلام: (وهذا الكلام قد جعله الرازي واتباعه قانوناً كلياً
فيما يستدل به ولهذا أرادوا الاستدلال به بما جاءت به الأنبياء والمرسلون من
صفات الله وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها،..) [5] .
وجاء في مقدمة الكتاب نفسه من وضع د. محمد رشاد سالم - رحمه الله -
والنص الذي أورده ابن تيمية في مستهل كتابه هو تلخيص لكلام الرازي في كتبه
المختلفة في هذه النقطة..) [6] .
أحسب أن القارئ الفطن أدرك جيداً إن ما نسبه هويدي للشيخ إنما هو (قانون
التأويل الكلي) لأرباب الابتداع والذي جاء كتابه الفريد في رد هذا القانون من وجوه
عديدة بلغت أربعة وأربعين وجهاً.
وبعد.. فليس ثمة تعليق على منهج يفتقد إلى مسلمات الموضوعية في أمانة
النقل وأستميح القارئ عذراً لهذا الاستطراد الذي ليس منه بد.. إذ أن ما سلف
جزئية استليتها من منهج الأستاذ الصحافي هويدي، والذي صنف في زمن استمراء
الألقاب، (كاتباً ومفكراً إسلامياً ذا مبضع يدمل به جروح الأمة في تدينها
المنقوص) ! ! و (أزمة وعيها الديني) ! !
(إذ بات قدر الكاتب الذي يعلن انتمائه الإسلامي ويصر على أن يخوض
بدينه معركة التقدم أن يواجه في مسيرته ثلاث معارك في آن واحد أولها ضد
الناقدين للإسلام وثانيها ضد المتربصين بالعاملين في ميدان الدعوة والثالثة مع
فصائل المتدينين أنفسهم الذن امتلأت قلوب أكثرهم بالإيمان ولكن وعيهم بحقائق
الدين وأساليبه ومقاصده تشوبه شوائب عدة مما أطلقت عليه في أكثر من موضوع
بالكتاب وصف: التدين المنقوص) [7] .
وهو لا يكاد يتجاوز في جل كتبه وأطروحاته الصحافية الأدلجة العصرية
لهموم المسلم المستنير ويعزف على ذات النغمة إياها لأرباب هذا الطرح ممن
ينعتون بالكتبة والمفكرين الإسلاميين! ! وهاك مفردات (قاموسه) من خلال كتابين
اثنين من كتبه فحسب (التدين المنقوص) - (أزمة الوعي الديني) [**] لتكفيني
مؤنة إبراز منهجه وتحديد هوية انتمائه وسقف طرحه:
** (فوجدت مكتبة المسجد عامرة بالكتب التي أفزعتني عناوينها إذ كانت
هذه العناوين كما يلي: حكم بناء الكنائس والمعابد الشركية في بلاد المسلمين -
الجواب المفيد في حكم التصوير - الشفاء في أمر الموسيقى والغناء - التحذير من
السفر إلى بلاد الكفرة وخطره على العقيدة والأخلاق - نقد القومية العربية على
ضوء الإسلام والواقع - الضوء القرآني والسني على عقيدة النبهاني - الأنوار
الرحمانية لهداية الفرقة التيجانية - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد - فصل
الخطاب في المرأة والحجاب - هذه نصيحتي إلى كل شيعي إقامة البراهين على
حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين) [8] .
** كتابات شيوخه شلتوت والغزالي والقرضاوي من المعاصرين وحدهم:
(تعد نماذج واجبة الاحتذاء لما ينبغي أن يكون عليه موقف الفقيه في قلب هموم
الأمة..) [9] .
** عقب أن استعرض كتاب البوطي (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب
إسلامي (بثناء مفرط كتب) أحسنت يا أستاذنا) [10] .
** الفقيه عنده (يتجاوز دارسي العلوم الشرعية ليشمل كل من حسن إسلامه
وتعمق في أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية والعلمية) [11] .
** أدى فريق المنشدين الفتيات منهم والشباب أغنية فريد الاطرش (يا زهرة
في خيالي) ثم قدموا أنشودة أقرب إلى التواشيح على أنغام أغنية أخرى لفريد
الأطرش أيضاً.. بعد ذلك وقفت مغنيتان في شرفة جانبية وقدمتا عدة أغنيات
ماليزية بصوت رخيم على أنغام الآلات الموسيقية المحلية المتميزة.
سألت لماذا فريد الاطرش دون غيره؟ قالوا إنه هو والسيدة أم كلثوم أشهر
الفنانين العرب الذين تعرفهم ماليزيا وبعدهما يأتي عبد الوهاب.. رغم أنهم لا
يفهمون معنى الكلام العربي ولكنهم يتعلقون باعتباره ينتسب الى لغة القرآن،
بصرف النظر عن مضمونه..
(قلت للشاب الماليزي المتحمس إن الترويج للأغانى العربية الراقية لا يعد
متعة مشروعة ومطلوبة فقط ولكنه يؤدي رسالة أيضاً من حيث أنه يجذب الناس إلى
اللغة العربية ويعلمهم مفرداتها بمضي الوقت) [12] .
وبئس الميكافيلية تلك. وربما نعتت مستقبلاً بالإسلامية! !
** لا يوجد نص شرعي صريح أو واضح الدلالة في تحريم أي من الغناء أو
الموسيقى على إطلاقهما وأن النبي وصحابته سمعوا الأغاني والدفوف ولم ينكروها، ثم إن الإسلام لم يخاصم فناً لذاته سواء كان غناء أو تمثيلاً أو رقصاً فتلك وسائط
لا يسع عقلاً إسلامياً أن يحكم بحلها أو حرمتها إلا إذا عرف لأي شيء وضعت
للحلال أم للحرام) [13] .
** (وأستأذن في أن أعفى من الخوض في مسألة النقاب الذي تعرضت له
في سياق سابق وقلت أنه مظهر شاذ، لا يستند إلى دليل شرعي قوي ومع ذلك فلا
تثريب على من تنقبت إذا استراح ضميرها الى ذلك شريطة ألا تلزم غيرها بما
فعلت وألا تتهمها بنقصان في الدين أو خروج على تعاليمه) [14] .
** (تقاليد مجتمع الصحارى العربية لها دورها الذي لا ينكر أيضاً في
تطويق مساحة الترويح.. ونحن نلحظ مثلاً أن بعض المذاهب المدرسية الفقهية
التي تجنح إلى التشدد لم تستقر ولم يكتب لها الاستمرار إلا في البيئة الصحراوية
والمذهب الحنبلي وامتداده النسبي المتمثل في التيار الوهابي لم يتجاوزا حدود شبه
الجزيرة العربية كقاعدة عامة) [15] .
** (لست أخفي أن قلقاً انتابني لأول وهلة حينما رأيت كتاب الأستاذ سيد
قطب (معالم في الطريق) مترجماً الى الملاوية ومتصدراً واجهات بعض المكتبات
في كوالالمبور ربما لأني تمنيت أن يطل الشاب الملاوي على مساحة الفكر والعمل
الإسلاميين من نافذة أخرى أكثر رحابة وسماحة فضلاً عن أن كتاب (المعالم) ليس
أفضل تعبير عن الأستاذ سيد الذي كان أكثر لياقة وأقرب إلى ما ننشد من وسطية
واعتدال في كتابه المبكر (العدالة الاجتماعية) [16] .
** (لكن المحظور الذي ننبه إلى خطره هنا هو أننا ينبغي ألا نسعى بأيدينا
إلى إثارة النعرات المذهبية والطائفية سواء بين السنة والشيعة، أو بين السلفيين
والأباضية أو الزيدية أو الصوفية، أو بين المسلمين في مجموعهم وبين غير
المسلمين) [17] .
** (إذ الخوض في التاريخ لا طائل من ورائه والجدل حول رؤية
الله - سبحانه وتعالى- يوم القيامة الذي تقول الأباضية باستحالته بينما يقرر آخرون وقوعه ويرون المخالفة فيه من قبيل الاجتهاد في شأن العقيدة الذي يستدل به على الضلال.. هذا الجدل يظل من قبيل الثرثرة في شأن عالم الغيب التي تضر ولا تفيد بالتالي فقد أصبح الحوار حول منابع أصول القفه الأباضي هو
الاختيار - أو الاختبار - الصحيح) [18] .
** (.. فما قيل حول العلاقة بين مذاهب المسلمين إذا كان قد حقق مصلحة
أكيدة - على الصعيد الفكري - فإنه أيضاً صادف هوى في نفسي من حيث أنه
أحد مداخل المشروع الحضاري الإسلامي، الذي ندعو إليه ونحلم به. هو المشروع
الذي يتجاوز الحركة والمذهب والفرق، ويطرح نفسه كصنيعة للمستقبل، تظلل
الجميع بمختلف مذاهبهم ودياناتهم ومدارسهم الفكرية والسياسية. وإن اكن التطبيق
يخضع لسنن النمو الطبيعية مبتدئاً بالوطن ومنتهياً بالناس كافة وماراً بالأمة العربية، ثم الأمة الإسلامية) [19] .
** (كما أفسدت ملفات الماضي العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية وخسر
الجميع الكثير بسبب ذلك الفساد) [20] .
لم أشأ أن أتعقب هذه النصوص ليقيني سلفاً أن كل من لديه أثارة من علم من
صغار المبتدئين يدرك فسادها جملة وتفصيلاً ويجد فيها مواطن العبث.. ويتحسس
أرضية الرؤية الهشة في تضاعيف النصوص المنقولة! !
ولنعد مرة ثانية إلى مفردات (قاموسه) من خلال كتابه الثاني (التدين
المنقوص) لنبين عن هويته بلا ادعاء أو تحامل.. وأيضاً لن نتعقبها برد البتة لذات
السبب المذكور تواً.
** (لسنا بحاجة إلى دليل من النقل نعزز به دعوتنا، يكفينا دليل العقل الذي
أحسب أنه لا يغيب عن ذوي الحس السليم) [21] .
** (وفي تجربة شخصية مع موظف في إحدى مصالح الحكومة نهض من
مكانه بمجرد سماع أذان صلاة الظهر غير عابيء بطابور البشر الواقف أمامه حتى
امتد طرفه إلى الشارع في ظل القيظ الشديد، غاب الرجل ثلثا ساعة ثم عاد إلينا
يبسمل ويحوقل بضمير مستريح ونفس راضية وعندما اعترضت على مسلكه قائلاً
إن وقت الظهر ممتد حتى صلاة العصر وأن الله لا يقبل صلاة تعطل مصالح الناس
نظر الرجل إلي شذراً ونعى الزمن الذي تتعرض فيه (حقوق الله) للانتقاد) [22] .
** (ليس الحل الإسلامي دعوة إلى الخلافة بالضرورة وإذا كانت الخلافة هي
الصيغة التي أرتآها سلف المسلمين إلا أنها لا تلزم الخلف بأي حال) [23] .
(حتى بات الأمر والنهي ميداناً تداخل فيه الحق والباطل في ... الوقت ذاته، ولسنا بحاجة لأن نسترجع صفحات التاريخ [***] لنستخلص من ممارسات الخوارج - مثلاً - شواهد ندلل بها على صحة ما نقول. حسبنا الذي نشهده في زماننا باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تخليط تم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) [24] .
** (بالنسبة للذين يتصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينبغي أن
يكون معلوماً أن مسؤولية الأمر والنهي تعد واجباً (كفائياً) لا يطالب به كل فرد بذاته
وإنما إذا قام به البعض سقط عن الآخرين بهذا قال جمهور الفقهاء والمعتزلة) [25] .
** (بالنسبة لموضوع الأمر والنهي، فينبغي أن يكون مما لا مجال للاجتهاد
فيه. وعند السنة والشيعة فإنه لا يجوز الأمر والنهي - حتى للعلماء - في الأمور
التى اختلفت فيها آراء المجتهدين. من مثال ذلك في زماننا الاختلاط والغناء
والموسيقى وغير ذلك مما ينشغل شبابنا به) [26] .
** (لماذا لا نقف مع المزيد من ضمانات الحرية والديموقراطية ما دامت
النصوص لا تعارض ذلك بل تحتمله) [27] .
** إذاً ما أسهل أن يقعد الواحد في صدر مجلس أو يعتلي منبراً ولا هم له إلا
أن يحذر الناس من الإلحاد والشرك ملوحاً بمختلف صور العذاب في الآخرة وما
أسهل أن يجرح آخرون في إيمانهم لمجرد أن أحدهم أقام قبراً لميت أو أقسم بغير
الله أو استمع لصوت الموسيقى..) .
أما النضال من أجل وقف استيراد الدجاج المذبوح أو تقصير جلابيب الرجال
أو.. أو.. فذلك مما لا يحتاج إلى جهد أو فقه أو حتى شجاعة حسب المرء قدر من
الفراغ وحظ من ضيق الصدر والعقل على هذه الجبهة نجد ألوفاً مؤلفة من المقاتلين
مزروعة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من أندونيسيا وماليزيا إلى
الجزائر) [28] .
** (استمات في دفاعه عن الهالك توفيق الحكيم وسخر من الضجة التي
أثارها الشيوخ عندما بدأ الأديب الحكيم كتابة سلسلة من المقالات بعنوان (حديث إلى
الله) وكتب (فضلاً عن أن الرجل أعلن صراحة في تقديمه لتلك المقالات أنه قد
استشعر أن موعد لقائه بربه قد حان وأنه لن يخاطب سوى الله -سبحانه وتعالى-
ولم تكن فكرة مخاطبته لله جديدة بحد ذاتها فثلث كتابات الصوفية تتوجه إليه سبحانه
فيما عرف (بالمناجاة) حتى فكرة الحوار لم تكن جديدة فقد مارسها قبل الحكيم
بسبعين عاماً (1913) الشاعر والفيلسوف والمتصوف محمد إقبال.. ورغم تلك
الملابسات التى تجعل الأمر مقبولاً من فنان مسلم موثوق في اقتداره إذا ما كان
مراعياً للغة وأدب الخطاب إلى الله فإن بعض الفقهاء وغيرهم من المزايدين
والمتشيخين تلقفوا ما كتبه الحكيم وفتحوا النار عليه بدعوى الدفاع عن الذات الإلهية، حتى تراجع الرجل عن المضي في الكتابة وغير عنوان الحديث إلى الله إلى
حديث مع النفس ثم حديثه إلى القراء وهلل جمهور المشاهدين للنجاح
الكبير..) [29] .
** (من يفتينا في القات: حلال هو أم حرام؟ ربما كان السؤال متأخراً
بعض الشيء لأن الفتوى أصدرها بالفعل فريق من الفقهاء فذهب البعض منهم إلى
تحريمه وذهب آخرون إلى أنه حلال ولا حرمة فيه وتوقف الأمر عند هذا الحد
حتى إشعار آخر! ولست في موقفى يسمح لي بالانحياز لأي من الرأيين ليس فقط
لأنني خضت تجربة فاشلة لتذوق القات في (مقيل) صنعاني ولكن لأن الذين
أصدروا الحكم في القضية كانوا من الفقهاء في علوم الدين والأمر متعلق بأمور
الدنيا! ! [30] .
** (ومنهم من يصر على تقصير الثياب استجابة للتحذير النبوي الذي يقول
بأن (ما أسفل الكعبين من الإزار فهو في النار) غير مدرك أن إطالة الثياب في زمن
الرسول كانت من علامات الكبر المذموم وهو ما لم يعد قائماً الآن) [31] .
** (الاكتشاف في الأمر أن الإسلاميين تبينوا أن العلمانيين ليسوا كائنات
غريبة تنفث الشر والفتنة والإلحاد.. أثبتت التجربة أن الطرفين من خلق الأسوياء
والراشدين الذين تختلف وجهات نظرهم [32] .
** (ومثل العلمانيين فيه أحد علمائنا الأجلاء، هو الدكتور فؤاد
زكريا) [33] .
وهكذا - يمتح - هويدي بدلاء استنارته من قاع رؤية بائنة العوار! ! يصمها
تارة بالاستنارة وأخرى بالوعي.. وثالثة بالاعتدال ورابعة.. و..؛ ولست ادري
أي استنارة بمقدورنا أن نصنف ما قرأت تواً مما نقلناه عنه وهو قليل من كثير
تطفح به جل كتبه والتي في أصلها أطروحات صحفية وأي وعي نقدّه لبوساً
لأطروحاته! ! أم أي اعتدال ننعت به مشروعاته الثقافية والفكرية.
وقبل أن ندير وإياكم الرحى مع هويدي في همه الشيعي [****] المستعر بلظى ...
التقريب لنقرأ جديده حيث راح يمارس تكريس ذات الرؤية التي يصدر عنها مع
سبق إصرار وترصد ليمتهن ورثة الأنبياء ازدراء ويسلك بهم فجاج الجاهلية عنوة
وثمة نعوت لا تليق بالسوق تأدباً فضلاً عن قادة الأمة.
أعي جيداً أني أقرفت القارئ بتلك النقول بيد أنها ضرورة حتمية للإبانة عن
تأصيل الاستنارة المعصرنة بوعي يقصر عن إدراكه علماؤنا ويتجاوزه كثر من
أرباب اليسار الإسلامي.. وصناع الليبرالية الإسلامية وأشياخ تجديد السلفية
المستنيرة.
إنه التقويض من الداخل لبناء الأمة المتصدع بمعاول شداة الحداء ذاته. وأختم
هذه الكتابة بما قاله سيد - رحمه الله- في ظلاله حول قوله تعالى: [ولا ...
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً] وذلك لقاء السكوت، أو لقاء التحريف، أو لقاء الفتاوى
المدخولة!
وكل ثمن هو في حقيقته قليل. ولو كان ملك الحياة الدنيا.. فكيف وهو لا
يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقاباً ومصالح صغيرة يباع بها الدين وتشترى
بها جهنم عن يقين؟ ! إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن، وليس أبشع من تفريط
المستحفظ، وليس أخس من تدليس المستشهد..
والقارئ يستحضر حديث حذيفة [*****] (.... قلت فهل بعد ذلك الخير من
شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.. الحديث) .
واستغفر الله لي ولكم.
__________
(1) الرد على المخالف من أصول الإسلام ص 38، لشيخنا بكر أبو زيد حفظه الله.
(2) المصدر نفسه ص 28.
(*) وأخيراً في مجلة (الشراع) .
(3) الكتاب 49، 50 ط 1401 هـ دار الشروق.
(4) ج 1 ص 4 ط الأولى 1399 م تحقيق محمد رشاد سالم.
(5) المصدر السابق ص 50.
(6) المصدر السابق ص 11 في المقدمة.
(7) التدين المنقوص - فهمي هويدي - ط الثانية 1409 هـ مركز الاهرام ص 7 المقدمة.
(**) المعتبر في ترتيب المنقول عنهما جاء كما هي في صفحات الكتابين (من حيث ترتيب الكتابين نفسيهما) .
(8) أزمة الوعي الديني 19، 20 والمكتبة في مسجد بمنطقة الجيزة في مصر فأي فزع تثيرها كتب المنطقة بأمس الحاجة إلى موضوعاتها كما يقوله ابناؤها.
(9) نفسه 27.
(10) نفسه ص 40.
(11) ص 134.
(12) 138.
(13) 139.
(14) نفسه 146.
(15) 155.
(16) 229.
(17) 292.
(18) 348.
(19) 356.
(20) 360.
(21) التدين المنقوص.
(22) المصدر نفسه ص 14.
(23) ص 80.
(24) ص 83.
(***) ضمن إطار مشروع الهوى الذي يحلم به ويدعو إليه ينعي علينا تأريخنا في سياقات دعوى التقريب بين المذاهب والفرق ويطالب بإلحاح تمزيق ملفات التاريخ وهنا يضطر إلى استرجاع
صفحاته! ! لإسقاط ممارسات الخوارج على الذين يحافظون على الخيرية في الأمة من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
(25) 85.
(26) 86.
(27) 113.
(28) 121 (أحسبك أدركت جيداً عملية الخلط المعتمد بين الشركيات واستيراد الدجاج! !) .
(29) 145.
(30) 193.
(31) 273.
(32) 273.
(33) 287.
(****) البخاري في الفتنة والمناقب ومسلم في الإمارة وابن ماجه في الفتنة.
(*****) في كتابة قادمة بإذن الله تعقب هذه القراءة لفكر هويدي نستفيض في الكتابة رداً ومناقشة على همه المستعر بلظى التقريب علها تكن قريباً.(50/76)
بل هم عنصريون
أحمد عبد العزيز أبو عامر
رفض اليهود إدانة هيئة الأمم المتحدة لهم بكون الصهيونية شكلاً من أشكال
التمييز العنصري واستمروا منذ صدور قرار هيئة الأمم المتحدة بهذا الصدد في
10/11/1975 يعملون بكل جهد بغاء القرار، حتى استغلوا الظروف الدولية التي تمخضت عما سمي بالنظام العالمي الجديد ومرحلة السلام التي طرحت وتداعى لها العرب كتداعي الذباب على الشراب، بينما تصلب (العدو الصهيوني) ليفرض ما يريده من آراء وتوجهات منها (إلغاء القرار المذكور) وما زال يطالب بإلغاء
(المقاطعة العربية) بل وإلغاء (الجهاد ضد الصهاينة) كما جاء في (خطاب شامير)
في مؤتمر مدريد. وحصل إلغاء القرار بمساواة الصهيونية بالعنصرية بقرار من
أمريكا كما هو معلوم، فما قصة القرارين؟ وهل الصهاينة ليسوا عنصريين كما
يزعمون أم أن الحق والواقع أنهم عنصريون بلسان حالهم ومقالهم؟
قصة قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية:
لم يأت القرار رقم 3379 الذي قضى بأن الصهيونية شكل من أشكال
العنصرية من فراغ فقد قررت هيئة الأمم شجب التمييز العنصري فيما يسمى
بحقوق الإنسان، وأكدت الهيئة ذلك حينما شجبت العنصرية القائمة على التمييز
باللون والجنس والعرق.. في الدورة 22 حيث قررت الجمعية العمومية للأمم
المتحدة اعتبار الفترة من 10/12/73 حتى 10/12/83 حقبة مكافحة التمييز
العنصري حيث طلب من المجلس الاقتصادي والاجتماعي المنبثق عن الأمم المتحدة
بأن يتولى مساعدة الأمين العام في مسؤولية تنسيق النشاطات والبرامج المضطلع بها
خلال ذلك العقد على أن يقدم تقريراً سنوياً للجمعية العامة عن الحالة المختصة بهذا
الشأن في نهاية كل دورة.
واستغلت الدول العربية هذا التوجه في مكافحة التمييز العنصري فاتفق على
أن يتقدم مندوب الصومال بمشروع القرار (بمساواة الصهيونية بالعنصرية) . ولما
شعر الصهاينة بالمشروع حرص مندوب أمريكا (دانيال مونيان) ومندوب العدو
الصهيوني (حاييم هيرتزوك) على الاشتراك مع اللجنة مع مستشارين ورجال
الإعلام وتمت محاولات لإفشال المشروع وإثارة الخلافات حول الجانب التنفيذي منه
وصياغته إلا أنها لم تنجح. واستمرت المناقشات عدة أيام وسط جو محموم
ومحاولات استقطاب واضحة إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل وصدر القرار رقم
3379 في 10/11/1975 بتأييد 70 صوتاً مؤيداً و 29 صوتاً معارضاً و 27
صوتاً ممتنعاً وغياب 15 عضواً وكان يوماً مشهوداً في هيئة الأمم إذ ثارت ثائرة
ممثل العدو الصهيوني وتصرف المندوب الأمريكي بصورة أكدت عمق الصدمة
الأمريكية من نتيجة التصويت.. وقام مندوب أمريكا واحتضن مندوب إسرائيل
مواسياً له أمام الوفود وأدلى بتصريحات غير دبلوماسية تصور عمق الصدمة [1] .
وقد مارست أمريكا وإسرائيل طوال 16 عاماً ضغوطاً كثيراً لإلغاء القرار حتى تم
لهم ما أرادوا على ضوء المستجدات الدولية فكان قرار الإلغاء الصادر في 10/6/
1412 والذي أيده 111 دولة وعارضه 25 دولة وامتنع عن التصويت 13 ولم
تشارك 17 دولة.
ومما يؤسف له أن بعض الدول العربية امتنعت عن التصويت وكأنهم لا
يعرفون عنصرية إسرائيل وما يعانيه شعب عربي مسلم من مظالمها واضطهاداتها
وبالفعل كان إلغاء القرار سابقة عجيبة في قرارات الأمم المتحدة وبخاصة وأن إلغاء
القرار لهم يضع في اعتباره ما كان يجب على (إسرائيل) أن تتخذه من إلغاء
القوانين العنصرية التي ما زالت سارية المفعول وتطبق بكل صفاقة على
الفلسطينيين [1] .
لماذا هم عنصريون فعلاً
إن الصهاينة عنصريون فعلاً فهم يستقون تاريخهم في الدرجة الأولى من
التوراة وهو كتاب خالطه الكذب والزيف والتضليل وامتزجت فيه الحقيقة بالخرافة
والخيال فلا يعتمد عليه المؤرخ النزيه مصدراً يستقي منه معلوماته. وهم منذ
وجدوا يغلفون تاريخهم بالأسرار والألغاز! إذ أن تاريخهم كله تاريخ صراع بينهم
وبين الأمم الذين يعيشون بينهم كأقليات مستضعفة ذات نشاط أوسع من إمكاناتها
وأطماع أوسع من أن تحتملها تلك الأمم فلجأوا إلى أسلوب الكذب والغش والعمل في
الخفاء وعرفوا بعدة أسماء فهم تارة اليهود وتارة العبرانيون وتارة الموسويون وتارة
بنو إسرائيل وتارة الساميون وحاولوا دائماً هدم التوازن بين تلك الأسماء ويفضلون
بأن يُدْعَوْا بني إسرائيل ليدخلوا في روع الناس أنهم جميعاً من نسل ذلك النبي
الكريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ليصلوا من ذلك إلى أنهم الأشرف
جنساً والآصل نسباً والأصدق ديناً، فهم في زعمهم (شعب الله المختار) وإن ما
عداهم من (الجيوييم) أي الأغيار ما خلقوا على هيئة البشر الا ليخدموهم ويعترفوا
بفضلهم ولا تعليل لهذه التصورات القاصرة إلا لكونهم يشعرون بشعور الطفولة
لأنهم على مر تاريخهم [2] ضعفاء مستضعفون لا وزن لهم إلا بضعف غيرهم.
ويوم انقطع حبل الله عنهم بما كفروا بقي لهم حبل (الناس) المعروف. وواقعهم
العنصري يعرفه كل مطلع على حياتهم الفعلية وأنا في هذا المقام لا أفتري عليهم بل
أسوق الأدلة على ألسنة أشخاص معروفين منهم لهم وزنهم الأدبي والفكري على
النحو التالي:
أولاً / الدكتور إسرائيل شاحاك:
وهو يهودي بولوني قدم إلى فلسطين عام 1945 وشهد نشوء الكيان
الصهيوني وأنهى دراسته الثانوية عام 1951 في هرزليا في تل أبيب وأكمل خدمته
في الجيش الإسرائيلي إلى عام 1953 ودرس الكيمياء العضوية في جامعة القدس
العبرية وحصل على شهادة الأستاذية عام 1963 وأكمل التخصص في جامعة
(ستانفورد) بأمريكا وعاد مدرساً في جامعة القدس.
وقد شارك في لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن وساءه ما حصل من
عدوان 1967 فانقلب على قومه الصهاينة وبدأ نضاله ضد كافة مظاهر الظلم
والعنصرية لديهم. وألف كتابه (عنصرية إسرائيل: بالوثائق والأرقام
والأسماء) [3] ويمكن إيجازه فيما يلي:
1- الكيان الصهيوني دولة يهودية وحسب واليهود وحدهم الشعب المختار.
2- اليهود في الحقوق المدنية أصحاب الحق ويخضع الفلسطينيون لنظام ظالم
يستند إلى القوانين الاستثنائية التي سنها الانتداب الإنجليزي عام 1945
3- الأسس الأيديولوجية والقانونية التي يقوم عليها الكيان الصهيوني تضعه
حتماً في خط نازي لا يقل وحشية عن نازية هتلر.
4- تهويد الأرض والبشر شرط أساسي ونتيجة محتومة للتضييق على الناس
وتهجيرهم ومصادرة كل ما لديهم باسم الأمن القومي والمصلحة العليا.
5- يتغنون بالسلام ابتزازاً وهم المتعلقون بالحروب استدراراً للأموال من
الخارج وقد تطرق في الكتاب لجرائم الصهاينة ضد الفلسطينيين بالحقائق والأرقام
وفضح أوضاع السجون ومعاناة مرتاديها وكذلك القرى المهدمة التي قامت بها
إسرائيل وصوراً من المعاناة والاضطهاد والتمييز العنصري حتى من اليهود أنفسهم
وخاصة السود منهم والقادمون من أوربا الشرقية والكتاب بالفعل يكشف وجه
إسرائيل العنصري بكل بشاعاته.
ثانياً / جدعون جيلادي:
وهو يهودي شرقي عاش طفولته وشبابه في فلسطين وشهد مرحلة التقسيم
وسيطرة اليهود الغربيين (الاشكناز) على الحكم وبعد تأسيس دولتهم كان شاهد عيان
لما أقدم عليه الصهاينة من مذابح وطرد جماعي وقهر سياسي واستيلاء على
الأراضي والممتلكات من الفلسطينيين وبعد مراحل متتالية من الدراسة والبحث
وجمع الوثائق ألف كتابه (إسرائيل نحو الانفجار الداخلي) [4] .
يقول في المقدمة: إن الكتاب دراسة تبرز اتجاه الحكومة الإسرائيلية نحو
التمييز العنصري ويسوق على ذلك نموذج اليهود السوفييات الذين تدفقوا بالآلاف
على الأرض المحتلة ووفرت لهم المساكن والوظائف وتفرد لهم مساحات من الرأي
في الشؤون الثقافية بينما يتعاملون مع اليهود الشرقيين (السفارديم) من أرض علوية
ويبقى حظهم من التعليم والتمثيل البرلماني والوظائف العليا والنقابات المهنية
والمؤسسة العسكرية أدنى المعدلات التي يتمتع بها (الاشكناز) .. وأن العالم لم ينتبه
إلى سياسة التفرقة العنصرية التي تمارس ضد (السفارديم) داخل إسرائيل للتعتيم
حولها.
وهذه الدراسة مقسمة إلى عشرة فصول تطوف بالقارئ حول علاقة العرب
والمسلمين باليهود منذ عهد النبوة باعتبارهم أهل ذمة لهم حقوقهم وأثر الحضارة
الاسلامية على الدين اليهودي والأدب العبري وإنكار المزاعم باضطهاد اليهود في
ظل الإسلام ويخصص المؤلف فصلاً لدراسة تهجير يهود اليمن إلى فلسطين
واستغلالهم دعائياً والمعاملة المزرية التي لاقوها على أيدي اليهود (الاشكناز) .. ثم
يتحدث عن السجون هناك التي تشهد أبشع نماذج التعذيب والتنكيل والجدير بالذكر
بأن هذا الكتاب نشر أولاً بالعربية في القاهرة وترجم إلى الإنجليزية.
ثالثاً / عوري دافيد:
وكتابه (إسرائيل دولة عنصرية) [5] وهو كاتب يهودي، بين الكاتب بأن أحد
المبادئ الأيديولوجية للحركة الصهيونية منذ تكوينها حتى الآن الفصل بين المجتمع
اليهودي وغير اليهودي ولذلك تعاملت مع اعداء اليهود بهدف إجبارهم على اتباع
سياساتها إذ أنهم يرون بأنهم شعب مكروه وإن الطريق الوحيد هو إقامة دولة لهم
واستغلت الحالة الحسنة نسبياً لبعض اليهود في الدول العربية فبثت الرعب في
قلوبهم عن طريق نسف محلاتهم لإجبارهم على الهجرة إلى الأرض المحتلة.
وانطلاقاً من مبدأ الصهيونية في العزلة باشروا بعد قيام دولتهم في تطبيق
مبدئهم عن طريق تدبير المذابح الجماعية للشعب الفلسطيني وذلك لإخلاء فلسطين
من سكانها وتهويدها كلياً وساق أمثلة من أقوال زعمائهم من استغلالهم الحروب
لطرد المزيد من الفلسطينيين وتشجيعهم العنف ضدهم كوسيلة لطردهم للمحافظة
على التفوق السكاني لصالحهم وكيف أن (كاهانا) أكثر القادة الصهاينة صراحة في
التعبير عن آرائه.
وذكر المؤلف أن الكنيست الاسرائيلي وافق على قانونين يحددان المستقبل
السكاني لهم وهو قانون (العودة 1950) الذي ما زال ساري المفعول والذي يسمح
لأي يهودي في أي بقعة من بقاع العالم بالهجرة إلى (الأرض المحتلة) مع إعطائه
جميع التسهيلات الممكنة.
الحق في الاستيلاء على أراض وأملاك الفلسطينيين الذين طردوا من مواطنهم
بحجة أنهم غائبون عن أملاكهم وهذا القانون يجرد الفلسطينيين من أبسط الحقوق
الطبيعية لأي إنسان وهو حق عيشه في أرضه ووطنه.
ثم ذكر المؤلف بأن من أهم النتائج السياسية للسيطرة الصهيونية هي فقدان
الحرية السياسية للفلسطينيين مدللاً على ذلك بما أقرته الكنيست من قانون في سنة
1980 يحق بموجبه لوزير الداخلية أن ينتزع الجنسية عن أي شخص يقوم بعمل
يهدد شرعية الدولة ومن ذلك تأييد منظمة التحرير بأي صورة وأن هذا القانون قد
يؤدي إلى طرد جميع الفلسطينيين لأن معظمهم ذوو ولاء لقومهم ووطنهم وقضيتهم.
وهكذا يتضح لكل ذي عينين بأن اليهود الصهاينة عنصريون فعلاً بمنطلقاتهم
الدينية وايديولوجيتهم السياسية. ومن واقع قوانينهم الحاكمة التي ذكرها هؤلاء النفر
منهم يتضح مدى الشكل العنصري الذي يؤمنون به ويطبقونه حتى على بعض بني
عقيدتهم ممن يصنفون في فئة (السفارديم) أي اليهود الشرقيين الذين هم أقل مكانة
من (الاشكناز) الغربيين.
إذاً لماذا تلغى وصمة العنصرية عنهم؟
لا شك أن إلغاءها لم يأت بمبرر معقول أو سبب وجيه لما سبق ذكره من أنهم
لم يلغوا القوانين العنصرية التي يحكمون بها ولم ينصفوا حتى بني عقيدتهم الأقل
شأناً وهم (السفارديم) والأعجب والأغرب أنهم في إبان مناقشة هذه الموضوع كانوا
يسومون الفلسطينيين في المخيمات سوء العذاب بالطرد والإبعاد وهدم البيوت
وإخلائها لصالح الوافدين الجدد وما طرد أهل (سلوان) عنا ببعيد.
إنها مقايضة سخيفة لتتكرم بالمشاركة في السلام المزعوم! بل ولتملي
شروطها. والأدهى والأمر: (طلب إلغاء المقاطعة العربية) و (إلغاء الجهاد ...
ضدها) ! !
إن (العدو الصهيوني) دولة عنصرية ليس من واقع معاملتها فحسب؛ بل حتى
كتب دينها المحرفة تؤكد هذا التوجه وتوضحه بما لا يدع مجالاً للشك، وإصحاحات
أسفارهم الدينية المحرفة في التوراة والتلمود مملوءة بالشهادات على ذلك.
وهل إلغاء قرار وصمهم بها يمنع حقيقة عنصريتهم التي يحيونها وعلى
ضوئها يعيشون.
فهم بالفعل عنصريون وإن رغمت أنوف.
فهل في وصفهم بالعنصرية تجنٍ عليهم؟ ! وهل إلغاء قرار الأمم المتحدة في
ذلك يغير من الحقيقة شيئاً؟ ! لا، وألف لا.
__________
(1) صحيفة المدينة المنورة العدد 8982 في 12/6/1412 هـ.
(2) جذور الفكر اليهودي / داود سنقرط.
(3) عنصرية إسرائيل / لإسرائيل شاحاك من مطبوعات دار طلاس - دمشق.
(4) إسرائيل نحو الانفجار الداخلي لجدعون جيلادي انظر (الشرق الأوسط) العدد 4552.
(5) إسرائيل دولة عنصرية لعوري دافيد انظر مجلة العربي 354.(50/87)
تاريخ
كيف نفسر التاريخ؟
د. محمد بن صامل السّلمّي
الحدث التاريخي: هو فعل الإنسان، بما يحمله من أفكار وتصورات، وما
لديه من قدرات وإمكانات، وما يعتمل في نفسه من الرغبات والشهوات، ومن القيم
والفضائل والاعتقادات في زمان ومكان من هذا الكون الفسيح المحكوم بمشيئة الله
وعلمه وقدرته..
من خلال التعريف يتضح أن أركان التفسير التاريخي هي: الإنسان، الزمان
والمكان، المشيئة الإلهية.. وتفسير التاريخ هو معرفة التصور الصحيح عن هذه
الأركان وإدراك العلاقة الصحيحة بينها..
إن من يملك التصور الصحيح ويرجع إلى المصدر الحق يستطيع أن يفسر
تاريخ البشرية كله، لأن المصدر الحق (الكتاب والسنة) وضح لنا السنن التي تسير
في إطارها الأحداث، ويحكم من خلالها الأمم والدول والأشخاص..
إن هذا الكون -بما فيه الإنسان وفعله - هو خلق الله، فلا بد من الرجوع إلى
الخالق لفهم هذا الخلق؛ وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق لهداية البشرية،
نجد السنن واضحة، والاتجاهات محدّدة..
ففي أول سورة من المصحف تقرأ قول الله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ] وكل ما سوى الله عالم، وأنت واحد من هذا العالم، إذن أنت تنتمي إلى عوالم كثيرة فسيحة، وأنت مدعو إلى التعرف على رفقاء الطريق.. كيف بدءوا؟ وكيف ساروا.؟ وإلى أي شيء انتهوا.؟ وحين تتقدم في القراءة تجد نفسك في قمة الزمان ونهايته، الذي هو وعاء التاريخ وغايته ومصير الجميع [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] فما بدء الزمان ومنطلق التاريخ؟ وكيف سار إلى هذا المصير؟ وإذا ازددت في القراءة تجد نفسك أمام اختيار حاسم لسبيل واحد من بين سبل متعددة
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] فإما صراط مستقيم قد سلكه قبلك أخيار من الرسل
والصديقين والشهداء والصالحين.. وإما سبل متعددة منحرفة ومتعرجة سارت فيها
أمم من المغضوب عليهم والضالين ومن قلدهم وسلك منهجهم حتى دخل جحر
الضبّ وراءهم.. وأنت مدعو للتعرف على ذينك الطريقين، طريق الاستقامة
والهدى، وطريق الضلال والهوى..
وأن تعرف الأطوار التاريخية لتلك الأمم وتقلباتها ومصائرها والسنن الربانية
التي حاقت بها.. وأن تعي حركة التاريخ حتى تكون على بصيرة بمواقع خطوك
وسيرك في هذه الحياة.. إنك مدعو للتعرف على الزمان بأبعاده الثلاثة: الماضي،
والحاضر، والمستقبل القريب والبعيد..
وإذا أخذت في قراءة السورة التي تلي الفاتحة تجد في أولها الحديث عن
الإنسان الذي هو فاعل الحدث وصانع التاريخ.. وأن الناس على ثلاثة أقسام:
* المؤمنون.. ولهم صفات واضحة محددة، ولهم منهج وطريق [الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ
إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] [البقرة 3-5] . أفلحوا لأنهم سلكوا الصراط المستقيم الذي أمروا به
في السورة السابقة.
* الصنف المقابل هم الذين كفروا، وبسبب جحودهم وتركهم للصراط
المستقيم فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة. فهذه
الحواس ووسائل المعرفة لما انحرفوا بها ولم يحفظوها عاقبهم الله بأن سلبهم المقدرة
على الاستفادة الصحيحة منها..
* الصنف الثالث متردد بين الصنفين، وهم المنافقون، وقد أطالت الآيات
في وصفهم للحاجة إلى بيان حالهم حتى لا يتلبس أمرهم على المؤمنين بسبب ما
يظهرون من دعوى الصلاح والاستقامة وأنهم مع المؤمنين، وحقيقة أمرهم أنهم
لضعف نفوسهم وجبنها عن مواجهة الحقيقة يريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلاً ...
ثم يأتي الحديث في السورة عن أصل البشر وبداية خلقهم وسبب خروج أبيهم
من الجنة وإسكانه الأرض، وما طلب من ذريته، ويتكرر الحديث عن هذه المسألة
في سور أخرى حتى تتضح بداية التاريخ، ولا يكون الأمر معمي عن الناس
فتتلاعب بهم الأهواء والظنون والأوهام، والحفريات والآثار والاجتهادات القاصرة.
ثم يدعوك ربك وخالقك إلى وعي التاريخ وأحداثه، قال تعالى: [قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران
137] .. والسير في الأرض على نوعين:
* نوع أفقي على امتداد الزمان والمكان لمشاهدة الأحداث والآثار، وأخبار
الأمم وتقلبات الأحوال بهم، ورؤية المصائر التي انتهوا إليها، أي النظرة الشاملة
إلى مسار التاريخ الإنساني كله؛ هذا السير نوع من المشاهدة الفاحصة والملاحظة
الواعية والمقصدة، وليس مجرد الاستقبال السلبي التكراري لصور الأحداث
وتعاقبها..
* ونوع يتجه نحو العمق، ويتمثل بالتبصر الواعي بالكيفية التي حدثت بها
الأحداث، والبحث عن الأسباب والدواعي والنتائج القريبة والبعيدة، وهو الموجه
إليه بقوله [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] فالنظر المطلوب هنا هو بالبصائر
والعقول، وليس بالعيون الباصرة فقط.. ولذا نعى المولى على الذين لم يستخدموا
ما وهبهم من وسائل وقدرات فقال: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ] [الحج 46] . بل هم يوم القيامة يعترفون حين يرون الحقيقة ماثلة أمامهم
بأنهم لم يسمعوا ولم يعقلوا وإلا لما وصلوا إلى هذا المصير [وقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] [الملك 10-11] .
إن القصص القرآني عن الأمم السابقة والرسل المرسلين إليهم هو الذي يبين
لنا مجرى التاريخ البشري منذ فجر البشرية الأول وحتى حاضرها ومستقبلها ونهاية
تاريخها ومصيرها بعد الحياة الدنيا.. ومن خلال السنن الربانية في كتاب الله وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه، ونعرف عوامل
البناء والأمن والاستقرار والبقاء، وعوامل الهدم والخوف والسقوط والتدمير؛ وأن
هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد
والشرك؛ فإذا أتى الإنسان بالأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود الله، أصاب
خير السنة الربانية ... وإذا أهمل الأمر وخالفه وارتكب المنهي عنه ووقع في حدود
الله أصاب شر السنة الربانية..
قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد 11] . وقال تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ] [الأنفال 53] .
وقال تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ
مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران 165] .
هذا هو المنهج الذي يفسر به تاريخ البشرية كلها: الوزن بميزان العقيدة
والإيمان ... [قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا
أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] [الأنعام 104] .(50/95)
منتدى القراء
يا دعاة الحق متى تتوحد كلمتكم؟
عبد الرحمن عبد الله العيد
سؤال حيّر ألباب الغيورين، وعبارة أسهرت مقل الملايين من المسلمين. نعم
قد يكون الجواب كلمة وقد يكون سطراً ولكن الجواب الحقيقي هو البدء، هو العمل، هو الفعل، هو النتيجة لماذا لا يجيب على هذا الاستفهام دعاتنا الأجلاء من شتى
بقاع الأرض من أي تربة كانوا وفي أي أرض سكنوا.
إنه الاختلاف الشاسع في كثير من المناهج، إنه التبني للآراء الفردية وترك
الآراء الجماعية، إنه العزلة الحقيقية في التفكير، إنها النظرات القريبة جداً أو
البعيدة جداً.
فيا أخي الداعية، أيها المسلم الواعي أينما كنت: وحَّد الهدف مع إخوانك
تتوحد الكلمات. اتَّبع المنهج الصحيح في دعوتك تتقارب الأفهام، كن مجموعة ولا
تكن فرداً تتجلى لك الأمور، كن حذراً في الشبه قوياً في الحق منصفاً في الأحكام،
عادلاً في الميزان، مقتصداً في القياس، حاذقاً في الاجتهاد، تستطيع السير قدماً
بكل وضوح ورسوخ..
يا قادة الأمة:
يا ورثة الأنبياء والله إن نفوسنا تتوق إلى جواب فعلي عملي فكثرة الورق
ملأت مكتباتنا، وكثرة الكلام ميزة تمتاز بها مجالسنا، فنحن بأمس الحاجة إلى
رجل تمشي، ويد تأخذ وتعطي، وفعل ينفذ، ونتيجة تُذهب عن قلوبنا غبار اليأس، ولا يأس من وعد الله.(50/100)
مختارات
أحمد باشا الجزار [*]
من كتاب:
أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ونصف القرن الرابع عشر الهجري
للشيخ: محمد جميل الشطي ص38
ذكره الجبرتي في تاريخه المشهور، قال ما خلاصته:
هو الوزير الكبير، والدستور الشهير، أحمد باشا، المعروف بالجزار،
البشناقي الأصل. حضر إلى مصر في خدمة علي باشا حكيم أوغلي أيام ولايته
الثانية سنة 1711 هـ (1757م) ، واستأذن مخدومه إلى الحج، فأذن له. ولما
رجع وجده قد انفصل عن ولاية مصر، وسافر إلى الديار الرومية، فاستمر
المترجَم بمصر، وتزيى بزي المصريين، وخدم علي بيك (بلوط قبان) ، وتعلم
الفروسية على طريقة الأجناد المصرية، وقلده المذكور ولاية البحيرة، وأرسله
بتجريدة إلى عربانها، فذهب إليهم، واحتال عليهم، وجمعهم في مكان، وقتلهم -
وهم سبعون كبيراً - وبذلك سمي الجزار. ورجع فأحبه علي بيك لنجابته وشجاعته. وتنقل عنده في الخدم والمناصب، ثم قلده السنجقية، وصار من جملة أمرائه، ثم
كان ما كان بينه وبين مخدومه.. فتنكر وخرج هارباً في صورة شخص جزائري،
وسار إلى الاسكندرية فالروم، ثم رجع إلى البحيرة، وتزوج هناك. ثم سار إلى
بلاد الشام فاستمر فيها بين محاربات وتنقلات، واشترى مماليك، واجتمع لديه
عصبة، واشتهر أمره في تلك النواحي.
ولم يزل على ذلك إلى أن مات الظاهر عمر في سنة 1189 م - 1775 م
ووصل حسن باشا الجزائري إلى عكا، فطلب من يكون كفؤاً للإقامة بحصنها؛
فذكروا له المترجَم، فاستدعاه وقلده الوزارة، وأعطاه الأطواخ والبيرق، فأقام
بحصن عكا، وعمّر أسوارها وقلاعها، وأنشأ بها البستان والمسجد، واتخذ له جنداً
كثيفاً واستكثر من شراء المماليك، وأغار على تلك النواحي، وحارب جبل
الدروز [1] مراراً، وغنم منهم أموالاً عظيمة، ودخلوا في طاعته، وضرب عليهم وعلى غيرهم الضرائب، وجبيت إليه الأموال من كل جهة حتى ملأ الخزائن وكنز الكنوز، وصار يصانع أهل الدولة ورجال السلطنة، ويتابع إرسال الهدايا والأموال إليهم، فقلدوه ولاية الشام، وولى على البلاد نواباً وحكاماً من طرفه وطلع بالحج الشامي مراراً، وأخاف النواحي، وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل، وقطع الآناف والآذان والأطراف، ولم يغفر زلة عالم لعلمه، أو ذي جاه لجاهه، وسلب النعم عن كثير من ذويها واستأصل أموالهم، ومات في سجنه ما لا يحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم، ومنهم من أطال حبسه سنين حتى مات، وكاد البلاد وقهر العباد، ونصبت الدولة فخاخاً لصيده، فلم يتمكنوا من ذلك ولم يسعهم إلا مسالمته. ومسايرته، وثبت قدمه، وطار صيته في جميع الممالك والثغور، وراسله ملوك النواحي، وراسلهم وهادوه وهابوه، وبنى عدة صهاريج، وملأها
بالزيوت والسمن والعسل والشيرج والأرز وأنواع الغلة، وزرع في بستانه أصناف
الفواكه، وبالجملة فقد كان المترجَم من غرائب الدهر، وأخباره لا يفي القلم
بتسطيرها، ولا يسعف الفكر بتذكارها، ولو لم يكن له من المناقب سوى استظهاره
على الفرنساوية وثباته في محاربتهم أكثر من شهرين لكفاه ذلك! وكان يقول أنا
المنتظر، وأنا أحمد المذكور في الجفور. ولم يزل على حاله حتى توفي على
فراشه، وذلك في أواخر سنة تسع عشرة ومائتين وألف. انتهى كلام الجبرتي.
وترجمه العلامة السيد محمود أفندي الحمزاوي في مجموعة له فقال ما
مختصره:
صار المترجَم والياً بدمشق أربع مرات: الأولى سنة 1198 هـ - 1784م
وبقي سنتين، ثم عزل وتولى ثانياً سنة 1205 هـ - 1790 م واستقام خمس
سنوات على حال غير مستقيم من قتل وسلب وأجرام عظيمة، ثم عزل وتولى ثالثاً
سنة 1313 هـ - 1799 م وكانت العساكر الفرنساوية مستولية على مصر،
فوردت الأخبار بأنهم توجهوا إلى السواحل وأخذوا يافا وغزة، والجزار إذ ذاك في
عكا، فعقد الرؤساء والوجوه في دمشق مجلساً قرروا فيه جمع العساكر وإرسالها
معونة لأهل السواحل، وكان إذ ذاك غلاء عظيم، فجعلوا كلف الذخائر على تجار
الصابون خاصة، فبلغ المجموع من ذلك مقدار مائة وخمسين ألف قرش، وفي
اليوم الثالث توجهت العساكر من دمشق، وقدرها أربعة آلاف، وذلك في 20 شوال
من السنة المذكورة، ثم لحقت بهم التيمارلية وبعض الغربية، وانقسم الجميع إلى
فرقتين: فرقة توجهت إلى جهة صفد؛ وفرقة توجهت إلى السكة نحو الجسر،
فقصدتهم أناس من العساكر الإفرنسية، ففروا بعد أن قتل عدة منهم، وعادوا إلى
دمشق، وصارت العسكر الشمالية ترد على دمشق من جميع الأقطار، حتى غلت
الأسعار، وكثر الجور والفساد، وخربت القرى من سوء إدارة الرؤساء. ثم وردت
الأخبار بأن الجزار محصور، وما زالت الأخبار تتجدد كل يوم بما وقع، والعساكر
ترد على الشام، والمفاسد على ساق، إلى أن ورد كتاب من قبل الجزار بأن
الإفرنسيين جلوا عن عكا، كما وردت الأخبار بأن مصر استُرجِعَت منهم قهراً،
وفي 26 ربيع الأول سنة 1412 هـ (27/8/1799) وصل يوسف باشا الصدر
الأعظم إلى دمشق، فاستقصى أصحاب المفاسد، وأعدمهم الحياة وسعَّر الغلال
وغيرها، ومهد الأمور. وفي أثناء ذلك ورد معروض من الجزار إلى الصدر
المشار إليه يشعر باستقالته من ولاية دمشق، فقبل استقالته. ثم إن الجزار تولى
دمشق رابعاً سنة 1218 هـ (1803م) وهو في عكا، فأرسل إلى دمشق تعريفاً
بذلك صحبة المفتي أسعد أفندي المحاسني، وبعد تلاوته أخرجت الأوامر الصادرة
منه، فإذا أحدها بتعيين قائم المقام فجرى إيجابه، وإذا أوامر أخرى بالقبض على
عبد الرحمن أفندي المرادي (المفتي السابق) وجملة من الرؤساء والوجوه، فسجنوا
في القلعة، وفي غيرها، وكتب للجزار بذلك، فحضر الجواب بعد ليلتين بإعدامهم
الحياة، فقتلوا عبد الرحمن أفندي والدفتردار حسن أفندي ليلاً، ثم قتلوا جملة ذوات
معتبرين (ولعل منهم المفتي أسعد أفندي المقدم ذكره كما هو مشهور) وبادروا بسلب
أموال الأهالي بدون حق، وحملوا التجار أغلب الأثقال، فقد كانوا يهددونهم
بالضرب والتعذيب حتى يدفعوا المطلوب منهم، وعظم الأمر على أهالي الشام، إذ
أرسل من عكا أشخاص من الأكراد لتنويع العذاب على الأهالي بالنار والكعاب
يضعونها في مصادغ من يريدون تعذيبه وهي محمية ومربوطة بالسلاسل [**] ،
وأمثال ذلك كثير، واستمر الحال على ذلك إلى افتتاح محرم الحرام سنة تسع عشرة
ومائتين وألف (11/4/ 1804 م) . وفيه وردت الأخبار بموت الجزار، فتوجهت
الناس إلى القلعة، وأخرجوا الذين حبسوا من أجل المال، ثم تتبعوا أعوان الجزار
فقتلوهم، وتفقدوا الأكراد الذين وكلوا بعذاب الناس، فعثروا عليهم في قرية (التل)
فأحضروهم وعذبوهم بمثل الأنواع التي عذبوا بها الناس، ثم نتفوا لحاهم وقتلوهم
شر قتلة. انتهى كلام السيد الحمزاوي.
وترجمه الأستاذ البيطار في تاريخه بما خلاصته:
ولد المترجَم في بوسنة سنة1135 هـ (1723م) ولما بلغ 16 عاماً ارتكب
أمراً فظيعاً، فهرب إلى القسطنطينية، وقضى بها مدة وهو في ذل وفاقة، إلى أن
باع نفسه في سوق النخاسة، وآل به الأمر إلى أن بيع في مصر، فدخل في سلك
المماليك المصرية، وساعده الحظ على المرام والأمنية، حتى صار والي البحيرة،
وهناك لقب بالجزار، وكان مجبولاً على الفظاظة والقسوة، مطبوعاً على الفسوق
والآثام، سفاكاً للدماء يفعل ما يشاء، قد اتخذ هواه هادياً ونصيراً، وعتا في نفسه
عتواً كبيراً، ثم ساءت سيرته في مصر فهرب إلى سورية، ودخل دير القمر سنة
1185 هـ (1771م) ملتجئاً إلى الأمير يوسف الشهابي والي جبل لبنان حينئذ،
فرحب به الأمير وأكرمه، ثم أرسله إلى بيروت ورتب له بعض الرسوم، فأقام
أياماً ثم أعرض عن ذلك، وسار إلى دمشق. وفي سنة 1187 هـ (1773م) جعله
الأمير المذكور متسلماً من قبله على بيروت، وجعل معه طائفة من المغاربة، ولم
تمض مدة حتى خان الأمير وعزم على مبارزته، فشرع في ترميم الأسوار وهيأ
الميرة وآلات الحرب للحصار، ومنع أهل البلاد من دخول المدينة، ولم يدع شيئاً
يخرج منها، فاستنجد الأمير يوسف بحسن باشا وهو قاصد القسطنطينية، فعاد
وأخرج الجزار من بيروت، فسار هذا بعسكره براً إلى صيدا وعددهم ستمائة،
فأرسل الأمير إليهم جماعة النَّكدِيّة، ولما التقى العسكران قتل أصحاب الجزار أكثر
النكدية، وقبضوا على أعيانهم. ثم سار الجزار إلى صيدا، فبعلبك، وعظم أمره
في تلك الأقطار، ووقع الصلح بينه وبين الأمير المقدم ذكره. ثم إن الجزار
صاحب الترجمة خان الأمير ظاهر العمر بعد أن أنعم الأمير عليه بقيادة جيشه،
فقتله بيده، ولما كان الأمير ظاهر عدواً للدولة العثمانية أنعمت الدولة على الجزار
بولاية عكا وصيدا معاً، ثم منحته الوزارة وولاية دمشق سنة 1218 هـ (1830م) . فزاد في طغيانه من قتل الأنفس وسلب الأموال، حتى قتل خلقاً كثيراً من أعيان
دمشق ومن أفضلهم عبد الرحمن المرادي مفتي دمشق، وأسعد أفندي المحاسني
مفتيها أيضاً. واصطنع للناس أنواع العذاب بآلات اخترعها له طائفة من الأكراد
عاونوه على ظلم العباد، وأقروه على دعواه بأنه مجدد الوقت، وكان رئيسهم يدَّعي
التصوف، ويقول: إن الشيخ الأكبر أخبر عنه في فتوحاته! وقد ادعوا أن قتله
الأنفس وسلبه الأموال ليس حراماً، بل هو حلال حتى أكفروا علماء عصرهم
المنكرين عليهم. وكان من أعوان الجزار أيضاً رجل اسمه عبد الوهاب له اطلاع
في بعض العلوم، أرسله إلى دمشق على رأس طائفة من العساكر، وكان إليه
المشورة في أمورهم، فصار يتغالى في قباحته وإساءته ويتلذذ بقتل الرجال وسلب
الأموال، حتى كادت تخافه الأطفال، ومازال هذا الضال يتغالى في ظلمه حتى
تحركت الدولة الفرنساوية [2] ، لدخول البلاد، فحاصرت عكا سنة 1412 هـ
(1799م) ثم قدمت مراكب إنكليزية إلى عكا لرد الفرنساويين، فلم تمض مدة حتى
رجع بونابرت بعساكره، فصفا الوقت للجزار، فعاد لظلم الناس؛ بتعذيبهم بالقتل
والقطع والسحل والجدع، إلى غير ذلك من الأفعال الفظيعة والأحوال الشنيعة،
حتى صار جوره مثلاً سائراً. ولم يزل على حاله حتى هلك - قبحه الله - سنة
1219 هـ (1804م) في عكا ودفن بها في الجامع المنسوب إليه، وعادت دمشق
إيالة على حدة سنة 1220 هـ (1805م) انتهى كلام البيطار. فلعق:. ورأيت
للعلامة السيد محمد أمين عابدين بيتين يؤرخ بهما وفاة صاحب الترجمة وهما قوله:
هَلَكَ الجَّزارُ ولا عَجَبٌ ... وَمَضَى بالخزْيِ وَبالإْثْمِ
وبمهلِكِهِ الباري عنا ... -أَرِّخ- قَدْ كَفَّ يَدَ الظُلْمِ
__________
(*) باختيارنا هذه الترجمة ننفس عن صدورنا قليلاً حيث إننا نختار حالة ترتبط بحالات مماثلة نعيشها في عصرنا بأكثر من سبب ونسب، وتمنعنا الموانع من الكتابة المكثف عنها كما كتب هؤلاء المؤرخون.
(1) المقصود: جبال الشوف موطن دروز لبنان.
(**) لقد تطورت وسائل التعذيب كثيراً عند المسلمين منذ ذلك التاريخ إلى الآن، ولا فخر! .
(2) من الطبيعي أن تستغل الدول الاستعمارية هذه الظروف، وهي واجدة - لا بد - طوائف كثيرة تتمنى مجيئها للخلاص من هذه الظلم المأساوي المخيَّم، كحال كثير من المسلمين اليوم حيث عاد كثير منهم يطلبون الخلاص من أميركا وبريطانيا وفرنسا.(50/103)
الصفحة الأخيرة
يا لله.. وهذا الحيف! !
عبد القادر حامد
إننا ممن يقدر مسؤولية الكلمة، ونقف عند حدود: (ولا تقفُ ما ليس لك به
علم) ونحرص على أن نجري على ما نكتب رقابة ذاتية تأخذ في حسابها العوائق
الكثيرة في طريق الدعوة إلى إسلام الحق والعدالة والحرية.
ومع أن هذه العوائق مما يفت بعَضُد الجبابرة، ويحبط مساعي أصبر الناس؛
إلا أن ثقتنا بالله - وله الحمد والمنة - عظيمة، وأملنا ورجاؤنا أن يبارك الجهد
المخلص - وإن قل وتعثر- لا حدود له.
إن المسلمين أمام هذه العوائق صنفان:
* صنف ملول، ينفض يديه، وينحو باللائمة على الظروف، ويتقاعد
ويتثاقل، وينصرف إلى خاصة نفسه.
* وصنف عنيد لا يكلِّ، ويرى أن المسلم معتاد على العمل في الظروف
الاستثنائية، وحياته كلها معاناة ومجاهدة، يُسدُّ في وجهه باب، فيفتح الله له باباً
آخر، وهكذا..
ونحن نحب ونتطلع إلى أن نكون من الصنف الثاني، الذي بمثله تقوم الحجة، وبجهوده يدحر الباطل، نتألم إذا حوربنا لكن لا نيأس، ونتوجع لإعراض قومنا
لكن لا نشتكي إلا لله. وعلى الرغم من عيشنا بأجسامنا خارج حدود بلادنا الحبيبة
فإننا صابرون محتسبون على أن فُرِّق بين أجسامنا وأرواحنا - التي غادرناها
هناك - هذا التفريق الُممِضَّ، ومن حقنا على بلادنا أن نحبها، وعلى إخواننا الذين تربطنا بهم العقيدة واللسان أن نخاطبهم، فإن لم يكن حق العقيدة واللسان فحق الهوى والميل.
أَأَن نصبنا أنفسنا لمحاربة الشعوذة والخرافة والإسراف وتبديد الثروات
وموالاة أعداء الله؛ ودعونا إلى التمسك بعقيدة التوحيد ومقتضياتها، وإلى القصد
والاعتدال، والبعد عن الغلو، وإصلاح الخلل وترميم الداثر نحارَبُ ويشقق ما
نكتبُ، ويشطب على ما نقول؟ ! يا لله وهذا الحيف! !(50/110)
ذو القعدة - 1412هـ
مايو - 1992م
(السنة: 6)(51/)
الافتتاحية
أيها الأفغان
اهزموا الحمية الجاهلية كما هزمتم الشيوعية
يكثر الحديث عن دور الإعلام في توجيه الأحداث والتحكم بسيرها، وأوضح
مثال على ذلك ما يجري في أفغانستان، وكثرة اللاعبين والمتدخلين في مصير هذا
البلد.
يبدو أنه كلما تقدم الزمن كلما كثرت التدخلات بسبب سرعة الاتصال بين بني
البشر وترابط مصالحهم وتعقدها، وتزداد هذه التدخلات حدة حينما يكون المسلمون
طرفاً فيها، فالقوى التي تعادي الإسلام كثيرة وإن هي آلت في النهاية إلى فريقين
من الناس هم: الكفار والمنافقون الذين تحددت صفاتهم وملامحهم وقسماتهم في
القرآن الكريم وفي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذه القوى الكافرة -
السافر منها والمستتر - قد يكون بينها خلاف سابق أو لاحق بسبب التنافس
والحرص على الفوز بالنصيب الأكبر من كل ضحية تلوح، ولهذا فإن بعضها قد
يقف مع المسلمين وينصرهم بالسلاح والمساعدات، فيظن من لا خبرة له أن هذا
معونة ونخوة، ولا يدرون أن هذا ليس إلا من قبيل تسمين الذبيحة، أو من قبيل
حشد (البياطرة) لقطعان الماشية للعناية بصحتها لتكون أفضل إنتاجاً، أو لإنقاذ
حيوان نادر مهدد بالانقراض.
إن كثيرين يظنون أن هناك دوافع إنسانية تكمن وراء هذه المساعدات لمجرد
(الإنسانية) لا لشيء آخر، ويغفلون عن حقيقة وأهداف هذا الرفق بالإنسان
والحيوان، وهو توفير جو من الاستمتاع المادي (والفني) الرومانسي بالإبقاء على
هذه الفصائل التي يتعاورها ما يهددها بالانقراض والإبادة لإشباع ميول الإنسان
المتحضر وإرضاء فضوله وحب المعرفة عنده.
هذه أفغانستان، ملحمة من ملاحم المسلمين في العصر الحاضر، دولة مسلمة
مسالمة، لا أطماع لها فيما حولها، نكبتها الشيوعية بواحدة من نكباتها الكثيرة التي
نكبت بها الشعوب، فهب شعبها - بما عرف به من بأس وأنفة وإباء للضيم - هبة
واحدة، ولم يقبل بالظلم وإن كان من جار جبار لا تقاس قوته إلى قوته، ووقف
كثير من المسلمين مع هذا الشعب مادياً ومعنوياً، ولم يسع الغرب أن يقف مكتوف
اليدين أيضاً، فما الذي يمنعه أن يمد يد العون إلى من يكيل الضربات للشيوعية
العدو الراهن للغرب؟ ! ففعل، وفي الغالب فإن المنكوب لا يدقق في المساعدات
التي تصله: ماذا وراءها، وإلى ماذا ترمي؟ وبخاصة إذا أصابت هذه النكبة شعباً
كاملاً بمختلف عناصره، بل كانت هذه المعونات تقدم أحياناً على طبق الآخرة
الإسلامية وإغاثة الملهوف.
ومنذ أن أذن الله بهزيمة السوفييت وانسحابهم من أفغانستان، والتداول مستمر
بشأن أفغانستان: (هزيمة للسوفييت: نعم، ولكن انتصار للإسلام: لا) . ويقود
كبر تحقيق هذه المعادلة أعداء الإسلام في المنطقة وخارجها، وهم معروفون
بمسعاهم وحرصهم المستميت على أن لا يسمحوا لمن ضحوا التضحيات الجسام
بأموالهم وأنفسهم أن يقطفوا ثمرة جهادهم. وقد شاهدنا - وشاهد العالم بأسره -
حرص الدوائر الغربية - التي يظهر إعلامها بواطن ما تخفيه - على إبراز من
تريد والإشادة به، وإخفاء من تريد والإساءة إليه بإلصاق الصفات المنفرة به،
وإظهاره بمظهر المتعطش للدم، الهاوي للخراب.
ولكن المسلم أصبح في هذه الأيام، ولطول ما عانى من أكاذيب هذا الإعلام
يكتشف بشكل لا شعوري أين تكمن الحقيقة، ويتجه مباشرة بولائه إلى الجهة التي
يناصبها هذا الإعلام عداءه، حتى ولو كانت عليها مآخذ أخرى.
إن مشكلة أفغانستان كغيرها من المشاكل التي تقع في البلاد الإسلامية، هي
مواجهة حقيقية للظروف الصعبة التي تحيط بالمسلمين، وسبيل من سبل المواجهة
لقوى التدخل الخارجي التي تفرض وجهات نظرها على الشعوب، وتحاول أن
تتحكم بمصائرهم. فهذا الجهاد الطويل ليس إلا محاولة لإفهام هذه القوى الخارجية
أنه من العبث استخدام عملاء تصنعهم على أعينها كي يسلموها مفاتيح البلاد،
ويرتهنوا مستقبل أجيالها لمصلحة الأجنبي الدخيل. ومن الخطأ الاعتقاد بأن
التدخلات لا يعبر عنها إلا بدخول الأجنبي البلاد، ثم تنتهي برحيله، إن السوفييت
ارتحلوا ولكن خلفوا وراءهم تركة ثقيلة من الهدم والخراب في البنيان والنفوس،
وتظن القوى الخارجية الأخرى التي فركت أيديها فرحاً بهزيمة السوفييت وانهيار
الشيوعية أن بإمكانها ملء الفراغ الناجم عن ذلك، واستثمار الدمار والشقوق
الموجودة في المجتمع الأفغاني، وتضخيمها، وهي لا تهدأ عن دفع محاولاتها
الدائمة في استثمار كل شيء لتحقيق أهدافها. ولا ينبغي أن ينسى المسلم أن وسائل
هذه القوى أخبث، وطرق تأثيرها أكثر تعقيداً وأبعد أثراً.
فمن يأتيك شاهراً قبضته يستنفر كل عوامل الدفاع عندك، ويضاعف قوتك
أضعافاً مضاعفة. ولكن من يأتيك بالمال والرغيف وباقة الزهر والبسمة، وإظهار
الحرص على إخراجك من محنتك ومشكلاتك ... يوقع في نفسك الحرج،
(والنفوس مفطورة على حب من أحسن إليها) ! وهكذا يصبح التشكيك في نوايا
هؤلاء المحسنين الأدعياء وسيلة من وسائل انشقاق المجتمع وبث الفرقة والفتنة في
صفوفه.
المعونات وسيلة من وسائل الارتهان:
لا يحسن أن يغيب عن أذهان المسلمين - اليوم - أن المعونات الاقتصادية
والعسكرية الآتية من المجتمعات الغربية وسيلة من وسائل التحكم بالمصير
والارتهان لسياسات لا تتلاءم مع الشعور الإسلامي، فهذه المعونات ليست لله،
وهذه صحيفة أمريكية تظهر الأسف والندم على تقديم المعونات لقلب الدين حكمتيار
بحجة أنه ظهر أنه معاد للغرب، ولكن لم تبين لنا هذه الصحيفة المحترمة ما
المظهر العملي لعداء المذكور للغرب، هل أغار على بلد غربي؟ أو سفك دماء
غربين أبرياء، أو يفكر في إقامة حكومة إسلامية في ولاية من الولايات المتحدة
الأمريكية؟ ! أم أن جريمته بنظر هؤلاء أنه يقول: نقبل المساعدات على أنها
مساعدات مجردة، ولكن أن تكون هذه المساعدات ثمناً لشيء غير الشكر فلا؟ !
وعلى كل حال، فإن أجهزة المخابرات حينما تتفضل بتقديم المساعدات لهذا
الفريق من المسلمين أو ذاك تعرف كراهية ومقت المسلمين للإذلال والمن وما
تنطوي عليه صدورهم للدول الغربية الاستعمارية من بغض سواء قدمت مساعدات
وإغاثات أم لا، ولكن هذه الأجهزة تراهن على ضعاف النفوس الذين لابد أن
يخرجوا من بين ظهراني المسلمين مدفوعين بالحرص على الجاه والشهرة وحب
السلطة، وهؤلاء هم سبب البلاء في كل عصر ومصر، وهم العقبات التي تجهض
جهاد المسلمين، وتذرو جهودهم وأعمالهم في الرياح. إن المطلوب من المجاهدين
أن يسدوا الشقوق التي يستغلها أعداء الإسلام بوحدتهم ونظرهم البعيد للأمام،
وبوضعهم أهواءهم الشخصية تحت الأقدام، فليسوا أشد حاجة إلى التلاحم والاتحاد
وتنقية الصفوف منهم في هذه اللحظة، لكن الإصرار يجب أن ينصبَّ على تحييد
هذه المجموعات التي كانت مرتزقة للنظام السابق، وكذلك عدم السماح للشيوعيين
السابقين باحتلال مناصب حساسة تجعلهم يسيرون الأمور من الداخل لمصالحهم،
وليتعظ المجاهدون بأحوالى اليمن، حيث نجا الشيوعيون من الحساب باستباقهم
الأحداث ودعوتهم إلى الوحدة - وهم أعداء الوحدة - وبأحوال الجمهوريات في
الاتحاد السوفيتي المنهار، حيث لازال الشيوعيون السابقون الذين أذاقوا المسلمين
الأمرين وكانوا (طابورا خامسا) ضد بني قومهم.. لازال هؤلاء الشيوعيون هم
الحاكمين وعلى وجوههم الصفيقة غلالة من النفاق والخبث والمكر يستخدمونها
لتضليل الناس وخداعهم، أولئك هم العدو، فأحذرهم [قاتلهم الله أنى يؤفكون] .
إن المسلمين في كل مكان يتطلعون إلى أفغانستان وأيديهم على قلوبهم،
يشفقون على أن يتبخر حلم المجاهدين بإعادة العزة إلى شعب أفغانستان، ومن
ورائه الشعوب الإسلامية التي بعث فيها الجهاد الأفغاني نسمة الحياة، فالله الله -
أيها الإخوة - في ذلك الحلم أن يتبدد ويضمحل. وكما أسقطتم الشيوعية وعملاءها
المطلوب منكم أن تتنبهوا للغرب وعملائه، وقبل ذلك وأهم منه: أن تدوسوا
الركائز التي يرتكز عليها الغرب في تحقيق أهدافه وهي: العصبية القبلية،
والحمية الجاهلية، والأهواء الشخصية.(51/4)
في إشراقة آية:
[وقل اعملوا..]
د. عبد الكريم بكار
خلق الله تعالى الجنة داراً لتكريم أوليائه، فوفر فيها كل شروط التكريم؛
وخلق النار داراً لإهانة أعدائه، فوفر فيها كل شروط الإهانة؛ وخلق الدنيا داراً
لابتلاء الفريقين، فوفر فيها كل شروط الابتلاء.
إن هذا الدين يعلمنا أن كل ما يحيط بنا في دائرتي الزمان والمكان يمثل
بالنسبة لنا ضرورة تتحدانا، وعلينا أن نعيه، ونتصرف معه التصرف اللائق
بالإنسان المكرم المبتلى.
إن كل لحظة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي لحظة اختبار، وهي في
الوقت ذاته ضرورة تتحدى، وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً مناسباً، فإذا لم نستطع
تكيف تلك اللحظة مضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا! وإن التكييف
في موازين هذا الدين السمح قد يأخذ في بعض الأحيان صورة اعتبارية محضة،
كما هو الشأن مع الذي يبادر إلى فراشه فيما يتمكن من حضور صلاة الفجر مع
الجماعة؛ فإنه قد كيف كل لحظه نوم بما انطوت عليه سريرته من قصد. وعلى
هذا فإن البطالة والنوم - غير المكيف - ضربان من ضروب الفناء والعبودية
المكبلة بالأغلال!
إن كل ما حولنا من فكر ومادة وضرورات هي الأخرى تنادي الإنسان المبتلى
كي يتحرر من قيودها بتكييفها؟ إن الفكرة الصحيحة تتحدانا كي نعممها، وإن
الفكرة الخاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها، وإن الفكرة الغامضة تتحدانا؛ لننفذ إلى
جوهرها، كما أن الفكرة القاصرة تتحدانا لنطورها.
إن الأرض تتحدانا لنزرعها، فإذا قبضنا على منتوجها تحدانا هو الآخر كي
نصنعه على الوجه الأمثل. إن نديف القطن يتحدى النساجين، فإذا ما صار قماشاً
دخل في طور من التحدي جديد، فلئن كان النساجون قد تحرروا من قيود النديف
فقد وقع الخياطون في ضرورة النسيج إلى أن يحيلوه ثوباً جميلاً. فإذا ما عجزت
أمة عن أن تخيط نسيجها بين يديها، أو تزرع أرضاً خصبة تملكها تحول ذاك وهذا
إلى قيود على حريتها ووجودها، وإن من القيود ما يقتل، ومنها ما يشل، ومنها ما
يشوه ...
وليس انتقال الإنسان من ضرورة إلى أخرى انتكاساً أو زجاً له في دائرة
مغلقة - كما قد يتوهم - فنحن إذ نتردد بين مشكلاتنا وحلولها إنما نمضي في حركة
لولبية صاعدة تمنحنا المزيد من الحرية والقدرة والتأنق.
إن كل سلعة مصنعة نستوردها هي عبارة عن ضرورة نطوق بها أعناقنا،
وإن أشد المستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند
مستوردها؛ لأن العمل هو الحرية، والذي يلغيه يلغي الحرية. ذلك لأن السلعة
المصنعة كانت من قبل مادة غفلاً وكان لإمكاننا أن نمارس حريتنا في تصنيعها
وتحويلها، وقد صودرت هذه الحرية حين قام بتشكيلها غيرنا.
وقد أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة فتسابقت إلى استيراد المواد الخام،
ووضعت القيود على استيراد السلع المصنعة؛ فهي لا تبادل الدول الأخرى منها إلا
قدراً بقدر حتى تمارس حريتها كاملة؛ وترى ثمار ما عملته أيديها..
إن حرية الفرد في المجتمع على قدر عمله، فإذا ما أخذ من الآخرين أكثر مما
يعطيهم فقد من حريته مقدار ما يزيد لهم عنده. وإن أقسى ما يواجهه الحر الكريم
أن يرى نفسه غارقاً في عطاء الآخرين دون أن يكون لديه ما يعطيهم؛ لشعوره بأن
ذلك على حساب حريته، أي: على حساب وجوده! !
إن العمل هو طريق الخلاص، وهو طريق تحقيق الذات؛ ولكن هل كل
حركة بركة، وهل كل عمل هو كسر للقيود وإعتاق للرقاب؟ ؟
لاريب أن الأمر ليس كذلك، فالسكون في أيام الفتن - مثلاً - خير من
الحركة، ورب حركة متعجلة قصد منها كسب الحرية أدت إلى الرسف في أغلال
العبودية سنين طويلة، ذلك لأن العمل عبارة عن غزو الصورة للمادة، وإذا ما
شكلت مادة ما على صورة خاطئة فإن هذا قد يعني الحرمان منها باعتبارها كماً،
وباعتبارها كيفاً؛ لأن أشياء كثيرة قد لا تقبل أن تتشكل إلا مرة واحدة! ! إنه لا بد
من توفر شرطين أساسيين في العمل الكريم، هما الصواب والإخلاص، أي القوة
والأمانة، أو القدرة والإرادة، وإن كان بعض الأعمال يعتمد على أحدهما أكثر من
اعتمادها على الآخر؛ فأعمال الآخرة تعتمد على الإخلاص أكثر من اعتمادها على
الصواب، وإن يكن الصواب أساسياً. وأعمال الدنيا تعتمد على الصواب أكثر من
اعتمادها على الإخلاص، فكلما كان الإخلاص أعظم كانت المثوبة أكبر، وكلما
كان الصواب أكبر كان النجاح أكثر، تلك هي سنة الله.
وتقاس حيوية المجتمع بقدر ما يمور به من حركة الفكر واليد؛ وعلى هذا
الصعيد فقد فجر الإسلام طاقات المسلم على مستوى القيم، وعلى مستوى الأداء
بصورة قل نظيرها في التاريخ، فشيد المسلمون في قرن من الزمان حضارة زاهرة
ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من عشرة قرون، ثم صارت المجتمعات
الإسلامية، من أقل مجتمعات الأرض حراكاً وعطاء، فما هو السبب الذي أفضى
إلى هذه الحالة المنكورة؟
في مقاربة أولية للوقوف على جواب هذا التساؤل الكبير، يمكن أن نقول أولاً: إن ظاهرة كبرى كظاهرة الركود الحضاري أكبر من أن تفسر بعامل واحد؛ ولكن
بإمكاننا أن نسلط الضوء على عامل نحسب أنه كان على جانب كبير من التأثير في
هذه الظاهرة، هذا العامل هو انخفاض مستوى الإيمان بالله - تعالى - أو انخفاض
جوهر ذلك الإيمان، أعني (الصلة بالله تعالى) . حقاً لقد ظلت قيمة الإيمان في أعلى
السلم القيمي للمسلمين، ولكن ذلك وحده غير كاف لإطلاق الطاقات وتوجيهها نحو
بؤرة محددة ما لم تتوفر شروط موضوعية في الإيمان نفسه، وفي البيئة التي يعمل
فيها.
وإنما كان ذلك هو السبب في تصورنا، لأن بنية الثقافة الإسلامية تتمحور
داخلها العلاقات حول ثلاثة أقطاب هي: الله - سبحانه -، الإنسان، الطبيعة.
وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقات حول قطبين اثنين لكانا: (الله، الإنسان) . ...
وأما الطبيعة فإنها هامشية نسبياً ما أن وظيفتها تتركز في كونها إحدى الدلائل
على وجود الله، وكونها مجالاً للابتلاء؛ فالمسلم يكتشفها ويعمرها امتثالاً لأمر الله
تعالى، وهذا على خلاف ما هو مستقر في العقل اليوناني الأوربي الذي تتمحور
العلاقات فيه على الإنسان والطبيعة. أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على كشف
الطبيعة، أي إنها تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الطبيعة في الثقافة الإسلامية.
ومن هنا فإن تعامل المسلم مع الطبيعة ليس مباشراً، ونظرته إليها معيارية قيمة؛
فعلى مقدار ما يتوهج الإيمان في صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ويكون عطاؤه
الحضاري، فإذا ما خبا الإيمان في صدره - لسبب من الأسباب - انحبس جهده في
البناء الحضاري، أو فتر. وليس كذلك الشأن عند أهل الحضارة المادية. ولا يكفي
أن يتوهج الإيمان في صدور أفراد قليلين في المجتمع الإسلامي لاستئناف مسيرة
الحضارة الإسلامية؛ لأن الحضارة ظاهرة اجتماعيه لا ظاهرة فردية.
ونلمح هذا المعنى شائعاً في الخطاب القرآني كله؛ فكثيراً ما تفتتح آيات
الأوامر والنواهي بـ[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا..] وكثيراً ما تختتم بـ[إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ..] [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ..] ؛ تذكيراً بأن الايمان المتألق هو الذي يطلق
طاقات المسلم، ويفعل القيم لديه. ولم تشذ الآية الكريمة التي نحن بصددها عن هذا
النسق حيث يقول سبحانه: [وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ
وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] فقد ربطت العمل
برؤية الله تعالى لهذا العمل ومجازاته عليه في الآخرة.
وقد أدى الضعف في فاعلية المسلم وحركته اليومية إلى وجود خلل كبير في
حياة المسلمين فصارت بلادهم أفقر بلاد الله، كما أن نظامهم الرمزي الذي كان في
يوم من الأيام أغنى نظم العالم بالأبطال العظام صار اليوم مجدباً على مستوى الكم
والكيف! !
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن الأزمة على صعيد الفعل أدت إلى وجود
أزمة خطيرة على صعيد (الفكر) ؛ ذلك لأن العقل عقلان على حد تعبير (لالاند)
عقل فاعل، وعقل سائد. أما العقل الفاعل فهو النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر
حين البحث والدراسة، وهو الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ. وأما العقل
السائد فهو مجموع القواعد والمبادئ التي نستخدمها في استدلالاتنا. فليس العقل
السائد شيئاً غير الثقافة. والعقل الفاعل أشبه شيء بالرحى، والعقل السائد أشبه
شيء بالقمح يلقى فيها؛ وماذا تصنع رحى لا قمح فيها؟ ! ومن أين ستأتي الثقافة
لأمة لا تحرك يداً، ولا تبني نموذجاً إلا في نطاق الضرورات إن كل انحباس في
حركة اليد سيؤدي الى انحباس في حركة الفكر، وكل انخفاض في وتيرة الإيمان
سيؤدي - لدى المسلم - إلى انخفاض في تردد اليد. فهل كتبنا الحرف الأول في
أبجدية البداية؟(51/9)
خواطر في الدعوة
عالم الاقتصاد
محمد العبدة
عندما آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في
بداية تكون الأمة المسلمة والدولة الإسلامية لم يكن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقرر مبدءاً أخلاقياً أو اجتماعياً فحسب، بل حل مشكلة اقتصادية واقعية،
فالمهاجرون الذين تركوا أموالهم وديارهم في سبيل الله لابد أن يعيشوا عيشة كريمة
وهم يؤسسون مجتمعاً وأمة، وإذا لم تحل مشكلتهم فماذا هم فاعلون؟ هل يضربون
في الأرض يبحثون عن الرزق حتى يعولوا أنفسهم وأهليهم، وإذن لا يستطيعون
المساهمة في تأسيس هذا البنيان العظيم.
فهذا الحل لابد منه في مثل هذه الأحوال ليشعر الفرد المسلم أنه في حماية
وطمأنينة من هذا الجانب، وأنه لن يُضيّع من إخوانه الذين سار معهم على درب
الإيمان، وعندئذ سترتفع طاقته الإيمانية والعملية أضعافاً مضاعفة، فلا يصبح ترك
الفرد المسلم وحيداً في ميدان الصراع والكد والتعب في مرحلة تأسيس الدعوة، لأن
ذلك يقلل كثيراً من فرص الإبداع والإنتاج.
وفي هذه الأيام العصيبة التي يرزح تحت وطأتها غالب المسلمين في العالم،
ويظهر الغرب بقوته الاقتصادية التي يضغط بها على الشعوب والدول ليفرض
شروطه المذلة ابتداء من البنك الدولي وانتهاء بجعل الدول الأخرى دولاً استهلاكية
تشتري كل ما ينتجه الغرب، كما أن أصحاب الجاه والمال من الذين أشربوا في
قلوبهم كره الإسلام يستخدمون العامل الاقتصادي للضغط على المسلمين وإذلالهم
لمحاربة الإسلام بشتى الوسائل؛ نتساءل هنا: أين المسلمون من عالم الاقتصاد
والتخطيط الاقتصادي، عالم المال الذي يسخر لإحقاق الحق، لماذا لم يُقتحم حتى
الآن، ولماذا يغلب على الذين اقتحموه الفشل والخيبة، متى يصبح المسلم (إنساناً
اقتصادياً) [1] يعرف قيمة المال الذي سماه الله سبحانه وتعالى في القرآن (خيراً) ؟
وبما أن المسلم لا يحب أن يتهم بالجشع والبخل والتكالب على الدنيا فهو
يتهرب من آن يكون (اقتصادياً) وهذا هو الخطأ واللبس في فهم هذه الناحية المهمة
في حياتنا، وكأنه ينسى كيف كان بيت مال المسلمين في عهد عمر -رضي الله
عنه-، وكيف كان يحاسب على النقير والقطمير، وكيف كان يهنأ [2] إبل الصدقة
حفظاً لثروة الأمه.
إن المسلم الذي يفهم الإسلام فى مراميه القريبة والبعيدة لا بد أن يكون
(اقتصادياً) ، والعربي عندما لا يتحضر بحضارة الإسلام سيعود إلى الإسراف
والتبذير الذي يظن أنه كرم وهو ليس بذلك، وبعضه يصل إلى حب السمعة والرياء
والأمة المسلمة لا يجوز أن تكون فقيرة تعيش على صدقات أعدائها.
__________
(1) لا نعني الادخار الشخصي أو التضييق والبخل في الإنفاق، وإنما حفظ المال بكل أنواعه وتسخيره للصالح العام.
(2) يداويها ويطليها بالقار بنفسه.(51/14)
العقيدة الإسلامية
تاريخ النشأة وعوامل التدوين
عثمان جمعة ضميرية
ألمحنا في العدد السابق إلى أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا
بحاجة إلى تدوين العلوم في العقيدة والشريعة وغيرهما، فقد كانوا يتلقون من النبي
الكريم مباشرة، في كل ما يتصل ويتعلق بأمور الدين والدنيا، والقرآن الكريم
يتنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصقل النفوس ويزكيها، ويربي الأمة، ويعالج ما يطرأ من مشكلات، ويجيب عن التساؤلات، ويحمل المؤمن على
الالتزام بالأوامر الإلهية، فيتم التفاعل مع النصوص الشرعية: قرآناً ناطقاً، وسنة
عملية حادثة.
- 1 -
وكان الجيل الأول على عقيدة نقية صافية، ببركة صحبة النبي، -صلى الله
عليه وسلم-، وقرب العهد بزمانه، ولما فُطِروا عليه من سليقة تمكنّهم من الفهم بعد
التلقي، فالقرآن الكريم يتنزل بلغتهم التي يفهمونها وتجري على ألسنتهم كما جري
الدم في عروقهم، مما جعلهم جميعاً على عقيدة واحدة لا يختلفون فيها، رغم ما قد
يقع بينهم من خلاف في بعض الأحكام الشرعية العملية الأخرى.
وقد كان الصحابة يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمر العبادات وما
يتعلق بها مما لله تعالى فيه أمر أو نهي، كما سألوه عن أحوال القيامة والجنة والنار
ولم يكن أحدهم يسأله عن معنى ما وصف الله به نفسه في كتابه وبما أوحى إليه من
الصفات الإلهية، كما أن أحداً منهم لم يفرِّق في الصفات بين كونها صفة ذات أو
صفة فعل، وإنما أثبتوا لله تعالى صفات أزلية تليق بجلال الله تعالى وعظمته،
فأطلقوا ما أطلقه الله تعالى على نفسه الكريمة مع نفي مماثلة المخلوقين، ولم
يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا. ولم يكن أحد منهم يستدل على وحدانية
الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بغير كتاب الله تعالى،
وما عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا المناهج الفلسفية المتأخرة [1] .
ففي الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته، يستدلون بقول الله تعالى: [قُلْ
مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ
المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ] [يونس: 31] …
[مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ] [المؤمنون: 91] ... وأمثال ذلك من الآيات.
ويستدلون على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمثل قوله تعالى [قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] [الإسراء: 88] . وأما اليوم الآخر والبعث فيستدلون عليه
بمثل قوله تعالى: [وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ
رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ…] [يس: 78-79] .
لهذا كله لم يكن الصحابة والتابعون بحاجة إلى تدوين علم العقيدة أو أصول
الدين، وإلى ترتيب مباحثه كتباً وأبواباً وفصولاً، كما نجد اليوم مثلاً.
ثم جدّت بعد ذلك أمور اقتضت تدوين مسائل العقيدة في علم مستقل،
وتضافرت على هذا جملة من العوامل الداخلية والخارجية.
وفي هذه المقالة إشارات إلى ما نحسبه مؤثراً من العوامل الداخلية في نشأة
التدوين وتطوره بالنسبة لعلم العقيدة، لنخصص بعد ذلك مقالة أخرى - إن يسر الله
تعالى لنا ذلك - للعوامل الخارجية.
-2-
التحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى بعد أن ترك في هذه
الأمة ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبداً: كتاب الله وسنة رسوله. وكان كتاب الله
تعالى محفوظاً بحفظ الله تعالى، جمعه الصحابة في صدورهم وكتبوه في الصحف،
على ما كان متيسراً من وسائل الكتابة، ليكون ذلك وسيلة لتحقيق وعد الله تعالى
بحفظه، مع وسائل أخرى، فتوفر لهذا الكتاب الكريم ما لم يتوفر لأي كتاب آخر
غيره سماوياً كان أو غير سماوي.
أما الحديث وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلم تدوّن رسمياً في عهد
النبي -صلى الله عليه وسلم- كما دون القرآن الكريم. وكان أول من فكر بجمع
السنة وتدوينها: عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وقام الإمام الحافظ ابن شهاب
الزهري بتدوين ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوب على أبواب العلم، وربما
كان مختلطاً بأقوال الصحابة والتابعين. ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل
الزهري، في النصف الأول من القرن الهجري الثاني، مع ضم الأبواب بعضها
إلى بعض في كتاب واحد - على ما فعله الإمام مالك في (الموطأ) والبخاري
ومسلم في «صحيحيهما» وأصحاب «السنن» في كتبهم [2] .
وبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب مثل: باب الإيمان، باب
العلم، باب الطهارة، باب الطلاق.. باب التوحيد، باب السنة، وهكذا.
فكأن هذا التبويب للأحاديث، كان النواة الأولى في استقلال كل باب - فيما
بعد - بالبحث والنظر والعناية والتدقيق وبيان الأحكام، فعن أبواب الوحي والإيمان
والسنة والتوحيد.. نشأ علم العقيدة، واستقل عن العلوم الأخرى المستنبطة من
الكتاب والسنة. هذه واحدة.
- 3 -
أما الثانية: فقد كان المسلمون عند وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غير من أظهر وفاقاً أو أضمر نفاقاً..
وكانوا على كلمة واحدة في جميع أصول الدين، وإنما كانوا يختلفون في فروع
مسائل كثيرة عملية، وكان اختلافهم هذا لا يورث تضليلاً ولا يوجب تفسيقاً [3] ،
لأنه في أمور لا تمس العقيدة وإنما هي مسائل فرعية، ثم هي مما لم يرد بها نص
صريح عن الله تعالى أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو جاءت في بعضها
نصوص مختلفة في ظاهر الأمر.
ثم اختلف الناس في أشياء اتخذها قوم من بعدهم تكأة: إمَّا للطعن في بعض
الصحابة، وإما جعلوها أساساً لنِحلتهم؛ أو استدلوا بها في مسألة من مسائلهم التي
اتخذوها شعاراً لهم، ثم تعمق الخلاف وأدى إلى نشوء جماعات متفرقة.
يقول الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: «اختلف الناس بعد نبيهم -
صلى الله عليه وسلم -في أشياء كثيرة، ضلل بعضهم بعضاً، وبرىء بعضهم من
بعض، فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل
عليهم. وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم -صلى الله عليه
وسلم-: اختلافهم في الإمامة.. وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم» [4] .
وبعد هذا الاختلاف قامت كل فرقة تجادل عن رأيها وتؤيده بالأدلة، وتدفع
رأي الآخرين وترد عليه؛ فوضعت في ذلك كتب ومؤلفات، فكان ذلك من عوامل
نشأة الكتابة والتدوين في هذا الجانب.
-4-
ونضيف هنا عاملاً ثالثاً: وهو: ما نجم وظهر من البدع والانحرافات عن
العقيدة الصافية التي كان عليها جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - بعد سنين من
خلافة علي -رضي الله عنه-.
وقد تتبع المقريزي -رحمه الله- نشأة هذه البدع ورصد سيرها منذ حدوث
القول بالقدر، وتبرأ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من أصحاب هذه البدعة، وحدث أيضاً في زمنهم: مذهب الخوارج وقد ناظرهم ابن عباس واقام عليهم
الحجة. وحدث في زمنهم مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب والغلو فيه، وقام في
زمنه عبد الله بن سبأ وأحدث القول بوصية الرسول لعلي بالإمامة من بعده، وابتدع
القول بالرجعة بعد موته.. ومنه تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة.
ثم حدث بعد عصر الصحابة مذهب جَهم بن صفوان في نفي الصفات وإثارة
الشكوك والشبهات. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، وكانت بينهما مناظرات
وفتن كثيرة متعددة أزماتها [5] ..
ولما ظهرت هذه البدع، وقف علماء السلف وأهل السنة دون عليها ويحذرون
منها، ويوضحون أصول العقيدة، ويدعون للتمسك بالكتاب والسنة. فكان ذلك
واحداً من الأسباب والعوامل التي ساعدت على تدوين العقيدة الإسلامية في كتب
خاصة.
- 5 -
وهناك عامل رابع كان له أثر في تدوين العقيدة، وهو اختلاف طبيعة المنهج
الذي سلكه المسلمون بعد عصر الصحابة في التفكير والفهم لمسائل الألوهية والعقيدة
بعامة، نشأ عنه الانشغال ببعض المشكلات التي لم تظهر مبكرة، أو لم يكن هناك
ما يدعو للانشغال بها أو التعمق في بحثها والتفكير فيها. ونشأ عن هذا ظهور كثير
من المشكلات والقضايا التي شغلت الفكر الإسلامي، وكان لها أثرها في نشوء
الفرق والكتابة حيالها.
كان موضوع التفكير في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة -
رضوان الله عليهم - هو موضوع الألوهية وما يتفرع عنها. فقد وصف الله تعالى
نفسه في القرآن الكريم وعرفنا بدلائل قدرته. كي نعبده ونسلم له؛ وصف نفسه
باعتبار ذاته: بأنه الأول والآخر، والظاهر والباطن.. وغيرها من الصفات التي
تدل على أن الله تعالى غني بنفسه محيط بكل شيء، أبدي واسع القدرة..
وباعتبار صلته بمخلوقاته: بأنه الخالق المبدئ المعيد، والبارئ المصور،
إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه - سبحانه - الخالق المدبر الحكيم الذي لا
قوة ولا سلطان غير سلطانه في الوجود. وباعتبار علاقته بالإنسان، وصف نفسه
بأنه الرحمن الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. وباعتبار علاقة
الإنسان به وصف نفسه بأنه: المهيمن والهادي والوكيل.. وغيرها مما يدل على
احتياج العبد لربه تبارك وتعالى وخضوعه له.
كان ذلك الاعتقاد في وضوحه ونصاعته عنوان الجماعة المسلمة، به يبشرون
وعنه يدافعون، يتلقون ذلك بالتسليم دون تفتيش عن المتشابه أو تأويل لما يظن أنه
بحاجة إلى تأويل. ولكن الأمر بعد ذلك بدأ يسير على نحو آخر، فحاول المسلمون
فهم العقيدة وشرحها على نحو آخر وعلى منهج يختلف عن منهج الصحابة، وشغلوا
بالبحث عن حقيقة الإيمان وكنهه، وعن مسؤولية الإنسان وحدودها، وعن إرادة
الله التي هي فوق كل شيء..
وعندئذ جدت مسائل، وتكونت في العقيدة مشاكل، وحاولوا أن يوجدوا لها
حلاً، وكلما تأخر بهم الزمن واشتد اختلاطهم بغيرهم.. كلما تعددت المشاكل الأولى
التي نشأت في جماعتهم، وضموا إليها جديداً من المشاكل والآراء، وازداد - من
أجل ذلك - تشقق الأمة إلى شيع وأحزاب.
ظهرت مسألة الصفات، وهل هي عين الذات أو غيرها؟ .. وظهرت مسألة
القدر، وهل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر، وهل هو مسؤول..؟ وكذلك مسألة مرتكب
الكبيرة: هل هو مؤمن أم كافر؟ ومسائل أخرى كالإمامة، وحقيقة الكفر والإيمان
وغيرها. وعن البحث في هذه القضايا وأمثالها نشأت في الجماعة الإسلامية فرق
وأحزاب: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة [6] ..
وذهبت كل فرقة تدافع عن رأيها ومعتقدها، وترد على المخالفين لها،
وتزيف ما يعتمدون عليه من دلائل.. فكان هذا من العوامل التي دفعت بأهل السنة
إلى الرد على تلك الغرق، فنشأت الكتابة في العقيدة لبيان الحق ورد الشبهات.
وإذا كانت هذه العوامل والأسباب كلها عوامل داخلية نابعة من داخل المجتمع
المسلم، فإن هناك عوامل أخرى خارجية تحتاج إلى إشارة لا يتسع هذا المقال لها،
فنرجئها إلى عدد قادم بإذن الله تعالى.
- يتبع -
__________
(1) انظر الخطط المقريزية: 3/309 - 310، إعلام الموقعين: 1 / 49، مفتاح السعادة:
2/143، التفكير الفلسفي في الإسلام ص 119 -126.
(2) انظر: السنة ومكانتها في التشريع، للشيخ مصطفى السباعي ص (103 -107) ، دراسات في الحديث، للدكتور الأعظمي: 1/71 وما بعدها، قواعد التحديث للقاسمى ص (70- 72) ، السنة قبل التدوين، لأستاذنا الدكتور محمد عجاج الخطيب ص 290 وما بعدها.
(3) الفرق بين الفرق، للبغدادي ص (14) .
(4) مقالات الإسلاميين، للأشعري ص (34) .
(5) الخطط المقرزية: 3/310-313، ومقدمة أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/17-37.
(6) الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، للدكتور محمد البهي ص (40 - 42) ، وانظر الخطط المقرزية: 3/316 -317، مقدمة ابن خلدون: 2/0 83- 832.(51/16)
كلمات في «الولاء والبراء»
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
من الانحرافات الظاهرة التي تبدو طافية على السطح في مثل هذه الأيام ما
نسمعه ونقرؤه من نشاط محموم ومكثف من أجل إقامة «السلام» مع يهود، وإنهاء
الصراع معهم في ظل الوفاق الدولي. ومن جانب آخر نشاهد كثرة ما يعقد في
الساحة من مؤتمرات وملتقيات للتقارب بين الأديان! والحوار والزمالة - بالذات -
بين الإسلام والنصرانية.. وتلحظ على هؤلاء المشاركين في تلك المؤتمرات ممن
يحسبون من أهل الإسلام هزيمة بالغة في نفوسهم، وحبّاً للدعة والراحة.. وكرهاً
للجهاد وتوابعه، فالإسلام دين السلام والوئام و «التعايش السلمي» ! حتى قال
أحدهم: هيئة الأمم المتحدة تأخذ بالحل الإسلامي لمعالجة المشكلات التي تواجه
الإنسانية! [1] كما تلمس من كلامهم استعداداً كاملاً للارتماء في أحضان الغرب..
فضلاً عن جهلهم المركب بعقيدة الإسلام الصحيح.. ومن أهمها عقيدة الولاء
والبراء..
وهذه المكائد والمخططات - عموماً - حلقة من حلقات سابقة تستهدف القضاء
على عقيدة البراءة من الكفار وبغضهم.. إضافة إلى كيد المبتدعة من الباطنيين
وأشباههم.. ومع هذه الحملة الشرسة والمنظمة من أجل «مسخ» عقيدة البراء
فإنك ترى - في الوقت نفسه - الفرقة والشحناء بين الدعاة المنتسبين لأهل السنة،
ولأجل هذا وذاك، أحببت أن أؤكد على موضوع الولاء والبراء من خلال النقاط
التالية.
- 1 -
إن الولاء والبراء من الإيمان، بل هو شرط من الإيمان، كما قال سبحانه:
[تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 80-81] .
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: «فذكر جملة شرطية تقتضي أن إذا وجد
الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال:
[ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ] فدل ذلك على
أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء
في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من
الإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه..» [2] .
والولاء والبراء أيضاً أوثق عرى الإيمان، كما قال -صلى الله عليه وسلم-:
«أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» رواه أحمد والحاكم.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «فهل يتم الدين
أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله
والبغض في الله.. ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة
ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين
أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» [3] .
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل
العظيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة
وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين» رواه النسائي وأحمد.
وتأمل معي هذه العبارة الرائعة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل
(ت 513 هـ) :
«إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في
أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء
الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً..
وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة
الدين في القلب» [4] .
- 2 -
الولاء معناه المحبة والمودة والقرب، والبراء هو البغض والعداوة والبعد،
والولاء والبراء أمر قلبي في أصله.. لكن يظهر على اللسان والجوارح.. فالولاء
لا يكون إلا لله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين كما قال سبحانه:
[إنَّمَا ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا..] .. فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم
لإيمانهم، ونصرتهم، والإشفاق عليهم، والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيارة مريضهم وتشييع ميتهم ومواساتهم وإعانتهم والسؤال عن أحوالهم، وغير
ذلك من وسائل تحقيق هذا الولاء.
والبراءة من الكفار تكون: ببغضهم - ديناً - وعدم بدئهم بالسلام وعدم التذلل
لهم أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم - شرعاً -
وجهادهم بالمال واللسان والسنان، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام [5]
وغير ذلك من مقتضيات البراءة منهم [6] .
- 3 -
أهل السنة يرحمون الخلق ويعرفون الحق، فهم أحسن الناس للناس، أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين، وهم في وئام تام، وتعاطف وتناصح وإشفاق
كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، حتى
قال أحد علمائهم وهو - أيوب السَّخِتْياني -: «إنه ليبلغني عن الرجل من أهل
السنة أنه مات، فكأنما فقدت بعض أعضائي» [7] .
ولذا قال قوّام السنة إسماعيل الأصفهاني: (وعلى المرء محبة أهل السنة في
أي موضع كانوا رجاء محبة الله له، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول الله تعالى: «وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتلاقين
فيّ» رواه مالك وأحمد، وعليه بغض أهل البدع في أي موضع كانوا حتى يكون ممن أحب في الله وأبغض في الله) [8] .
ولا شك أن هذا الولاء فيما بين أهل السنة، إنما هو بسبب وحدة منهجهم،
واتحاد طريقتهم في التلقي والاستدلال، والعقيدة والشريعة والسلوك،..
- 4 -
الكفار هم أعداؤنا قديماً وحديثاً سواء كانوا كفاراً أصليين كاليهود والنصارى
أو مرتدين، قال تعالى: [لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ
ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] [آل عمران 28] .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن
يوالوا الكفار وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد
على ذلك فقال تعالى: [ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ] أي ومن يرتكب
نهي الله في هذا فهو بريء من الله، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً..]
[النساء 144] ، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ] [9] .
فهذه حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن الكفار دائماً وأبداً هم أعداؤنا
وخصومناً.. كما قرر ذلك القرآن في أكثر من موضع، فقد بين الله سبحانه وتعالى
هذه الحقيقة فقال سبحانه عنهم: [لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً..] ، وقال
تعالى: [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ..] ، وقال سبحانه: [ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ
بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم..] ، هكذا حذر الله تعالى من الكفار:
[أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] .. ولكي يطمئن قلبك.. فانظر إلى التاريخ في القديم والحديث.. وما فعله الكفار في الماضي وما يفعلونه في هذه الأيام، وما قد سيفعلونه مستقبلاً.
ورحم الله ابن القيم عندما عقد فصلاً فقال: «فصل في سياق الآيات الدالة
على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعاداة
الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاّهم أمر المسلمين» [10] .
- 5 -
إن الناس في ميزان الولاء والبراء على ثلاثة أصناف، فأهل الإيمان
والصلاح يجب علينا أن نحبهم ونواليهم. وأهل الكفر والنفاق يجب بغضهم
والبراءة منهم، وأما أصحاب الشائبتين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً،
فالواجب أن نحبهم ونوليهم لما سهم من إيمان وتقوى وصلاح، وفي الوقت نفسه
نبغضهم ونعاديهم لما تلبسوا به من معاصٍ وفجور. وذلك لأن الولاء والبراء من
الإيمان، والإيمان عند أهل السنة ليس شيئاً واحداًلا يقبل التبعيض والتجزئة،
فهو يتبعض لأنه شعب متعددة كما جاء في حديث الصحيحين في شعب الإيمان
(الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق) ، والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة، فإذا تقرر أن الإيمان شعب متعددة
ويقبل التجزئة، فإنه يمكن اجتماع إيمان وكفر - غير ناقل عن الملة - في
الشخص الواحد ودليله قوله تعالى: [وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..]
فأثبت الله تعالى لهم وصف الإيمان، مع أنهم متقاتلون، وقتال المسلم كفر كما في
الحديث: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ، وفي الحديث الآخر يقول -صلى
الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ، فدل
ذلك على اجتماع الإيمان والكفر - الأصغر - في الشخص الواحد.
يقول ابن تيمية:
«أما أئمة السنة والجماعة، فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم، فيكون
مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب
ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب إيمان العبد
وتقواه، فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى، فإن
أولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: [أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُوا يَتَّقُونَ] ) [11] .
- 6 -
موالاة الكفار ذات شعب متعددة، وصور متنوعة.. وكما قال الشيخ عبد
اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -:
» مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية.. ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات « [12] .
ويقول أيضاً: (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة
والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها
مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل
عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما
يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة.. إلى أن قال:» فقوله تعالى: [ومَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ..] قد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة،
العامة..) [13] .
فمن شعب موالاة الكفار، التي توجب الخروج من الملة؛ مظاهرة المشركين
ومعاونتهم على المسلمين كما قال سبحانه: [ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ..]
[البقرة: 102] .
ومنها عدم تكفير الكفار أو التوقف في كفرهم أو الشك فيه، أو تصحيح
مذهبهم [14] .. فما بالك بحال من يدافع عنهم ويصفهم بأنهم إخواننا في
الإنسانية - إن كانوا ملاحدة أو وثنيين - أو (أشقاؤنا) - إن كانوا يهوداً أو
نصارى - فالجميع في زعمهم على ملة إبراهيم عليه السلام!
- 7 -
يقع خلط ولبس أحياناً بين حسن المعاملة مع الكفار - غير الحربيين -
وبغض الكفار والبراءة منهم، ويتعين معرفة الفرق بينهما، فحسن التعامل معهم أمر، وأما بغضهم وعداوتهم فأمر آخر، وقد أجاد القرافي في (الفروق) عندما فرّق
بينهما قائلاً:
«اعلم أن الله تعالى منع من التودد لأهل الذمة بقوله [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ
الحَقِّ..] الآية، فمنع الموالاة والتودد، وقال في الآية الأخرى: [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ..] فلا بد من الجمع بين هذه النصوص، وأن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وأن التودد والموالاة منهي عنهما.. وسر الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودين الإسلام، وقد حكى ابن حزم الإجماع - في مراتبه - على أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع
والسلاح.. فيتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على موادات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبل ما نهي عنه في الآية وغيرها، ويتضح ذلك بالمثل، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها، هذا كله حرام، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق، وأخلينا لهم واسعها ورحبتها ... والسهل منها، وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس والولد مع الوالد، فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر وتحقير شعائر الله تعالى وشعائر دينه واحتقار أهله، وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادماً ولا أجيراً يؤمر عليه وينهى.. وأما ما أمر من برهم من غير مودة باطنية كالرفق بضعيفهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً معهم لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم.. فجميع ما نفعله معهم من ذلك لا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا عز وجل، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالاً لأمر ربنا..» [15] .
- 8 -
وإن من أعظم ثمرات القيام بهذا الأصل: تحقيق أوثق عرى الايمان، والفوز
بمرضاة الله الغفور الرحيم، والنجاة من سخط الجبار جل جلاله، كما قال سبحانه:
[تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 79-80] .
ومن ثمرات القيام بالولاء والبراء: السلامة من الفتن.. قال سبحانه:
[والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ] [الأنفال: 73] .
يقول ابن كثير: (أي إن تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت
فتنة في الناس وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد
منتشر عريض طويل) [16] .
ومن ثمرات تحقيق هذا الأصل: حصول النعم والخيرات في الدنيا، والثناء
الحسن في الدارين، كما قال أحد أهل العلم: (وتأمل قوله تعالى في حق إبراهيم
عليه السلام: [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ
وكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياً * ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياً]
[مريم: 50] ، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء
الجميل - إلى أن قال - فاعلم أن فرط اعتزال أعداء الله تعالى والتجنب عنهم صلاح الدنيا والآخرة بذلك، يدل على ذلك قوله تعالى: [ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ]
[هود: 113] ) [17] .
وهذا أمر مشاهد معلوم، فأعلام هذه الأمة ممن حققوا هذا الأصل قولاً وعملاً، لا زلنا نترحم عليهم، ونذكرهم بالخير، ولا يزال لهم لسان صدق في العالمين..
فضلاً عن نصر الله تعالى لهم والعاقبة لهم.. فانظر مثلاً إلى موقف الصديق -
رضي الله عنه- من المرتدين ومانعي الزكاة.. عندما حقق هذا الأصل فيهم..
فنصره الله عليهم وأظهر الله تعالى بسببه الدين.. وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد
ابن حنبل -رحمه الله- يقف موقفاً شجاعاً أمام المبتدعة في فتنة القول بخلق
القرآن.. فلا يداهن ولا يتنازل.. فنصر الله به مذهب أهل السنة وأخزى المخالفين.. وهذا صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- يجاهد الصليبيين - تحقيقاً لهذا الأصل - فينصره الله تعالى عليهم ويكبت القوم الكافرين.. والأمثلة كثيرة..
فيجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقاداً
وقولاً وعملاً، وأن تقدم البرامج الجادة - للمدعوين - من أجل تحقيق عقيدة الولاء
والبراء ولوازمهما.. وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله تعالى، والسيرة النبوية، وقراءة كتب التاريخ، واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر القديم
والحديث، والكشف عن مكائد الأعداء ومكرهم (المنظم) في سبيل القضاء على
هذه الأمة ودينها، والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء كالإنفاق في
سبيل الله، والتواصل واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن، ومتابعة
أخبارهم ونحو ذلك.
__________
(1) د. معروف الدواليبي / انظر جريدة العالم الإسلامي بمكة عدد 1243 وانظر دور هيئة الأمم في إسقاط عقيدة الولاء في كتاب الجهاد للعلياني.
(2) من كتاب الإيمان ص 14.
(3) من رسالته أوثق عرى الإيمان ص 38.
(4) من الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268.
(5) يقول القاضي أبو يعلي: (وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام المسلمين دون الكفر فهي دار الإسلام، وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الاسلام فهي دار الكفر) ، المعتمد في أصول الدين ص 276.
(6) انظر تفصيل ذلك في كتاب الولاء والبراء للقحطاني، وكتاب الموالاة والمعاداة للجلعود.
(7) الحجة في بيان المحجة للأصفهاني (قوام السنة) 2/487.
(8) المرجع السابق 2/501.
(9) تفسير ابن كثير 1/ 357.
(10) أحكام أهل الذمة 1/238.
(11) الأصفهانية ص 144.
(12) الدرر السنية 7/159.
(13) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7-10.
(14) انظر الشفا لعياض 2/1071.
(15) مختصراً من الفروق 3/14-15.
(16) تفسير ابن كثير 2/316.
(17) من كتاب منهاج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب ص 52، وانظر اضواء البيان للشنقيطي 2/485.(51/23)
الإسلام
توحيد المُشَرِّع ومتابعة المُبِلِّغ
د. محمد محمد بدري
جاء الإسلام - ككل دين جاء من عند الله - عقيدة وشريعة، العقيدة ثابتة لا
تتغير [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ..] ، والشريعة في أسمى صورها
وأكملها.. فآمن بالإسلام قوم فأصبحوا مسلمين، وأبى قوم فأصبحوا في كفر
وجاهلية.. وبمرور الزمن والبعد عن عهد النبوة، ومضي القرون المفضلة وفشو
الجهل في الناس وانحسار كثير من مد الإسلام، أخذ مفهوم الإسلام في الانحسار
حتى بات عند كثير من الناس لا يعدو النطق بلا إله إلا الله، وإن لم يعمل قائلها
بمقتضاها.. وأصبح (مثقفونا) يتساءلون في استنكار: ما للإسلام والاقتصاد؟ ! ..
ما للإسلام والسياسة والحكم؟ ! .. وأصبح الفرد من عامة المسلمين يقول: لا إله
إلا الله، ثم لا يجد حرجاً أن يرى شريعة الله لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من
مشاكل.
ومن هنا كان من الضروري أن نبين حقيقة الإسلام الذي جاء به محمد -
صلى الله عليه وسلم وإليه دعا.. ونقيم الدليل على بديهيته الأولى وهي: توحيد
المُشرَّع، وتصديق ومتابعة المُبلَّغ - صلى الله عليه وسلم-.
1- حقيقة الإسلام وجوهره:
الإسلام هو دين الرسل جميعاً، وإن تنوعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال
تعالى: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ..] والآيات في ذلك كثيرة والأحاديث منها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» (صحيح البخاري، كتاب: فضائل الأنبياء) .
ولهذا كانت الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قاطعة
أن الله لا يقبل من أحد ديناً سوى الحنيفية وهي الإسلام العام، قال تعالى: [إنَّ
الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ..] وقال عز وجل: [ومن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن
يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] .. [1]
ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، مأخوذ من
قوله سبحانه: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ] . فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه،.. وهذه
حقيقة قولنا لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن
يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] [2] ولذلك فإن قدم الإسلام لا
يثبت الا على ظهر التسليم والاستسلام [3] ، (والانسان أمام طريقين لا ثالث لهما،
فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية
لغير الله) [4] ، فإفراد الله بالعبادة هو جوهر الإسلام وحقيقته، وهو المدلول العلمي
لشهادة أن لا إله إلا الله،.. والتلقي في كيفية هذه العبادة عن رسول الله هو حقيقة
تصديقه فيما أخبر، وهو المدلول الحقيقي والعملي لشهادة أن محمداً رسول الله.
(فدين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده
بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو استحباب) [5] ،
وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
(ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد إنك لرسول لم يكونوا مسلمين
بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي نعلم ونجزم أنك رسول
الله، قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود.. فعلم أن مجرد العلم والإخبار
عنه ليس لإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشماء المتضمن للالتزام والانقياد
مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم،.. فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا
كفاراً في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفاراً في
الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد
عنه:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً.. [6]
(ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام، ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة
من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة
وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام؛ علم أن الإسلام أمر وراء ذلك،
وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار
والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً) [7] .
فالإسلام الذي نحرص عليه، ولا نرضى بغيره ديناً، ليس مجرد تصديق
الرسول فيما أخبر بل لا بد من الإسلام من تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما
أمر ذلك أن حقيقة الإسلام (توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله
ورسوله وطاعته فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم) [8] ... وهذا
أصل عظيم ينبغي معرفته لما قد لبس على الناس أصل الإسلام حتى صاروا
يدخلون في أمور عظيمة هي شرك يتنافى مع الإسلام لا يحسبونها شركاً. إن حقيقة
الإسلام وجوهره: أن لا نعبد إلا الله، وأن لا نعبده إلا بما شرع.. إن حقيقة
الإسلام: أن يستسلم العبد لله رب العالمين، ولا يستسلم لسواه.
2- الإسلام.. وتوحيد المُشَرَّع:
التشريع في الإسلام لا يكون إلا لله. ومن زعم لنفسه الحق في التشريع بغير
سلطان من الله، فقد تجاوز حد العبودية، وتطاول إلى مقام الألوهية، وجعل نفسه
نداً لله تعالى، فالمُشرّع هو الله وحده، ولا تشريع إلا ما شرعه سبحانه، قال تعالى: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] فالتشريع المطلق حق
خالص لله وحده لا ينازعه في ذلك أحد كما قال تعالى: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] ، لذلك أوجبت الشريعة التحاكم إلى الشرع وجعلته
شرط الإيمان، قال تعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ] ، وقال سبحانه: [ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى: 10] . (فالشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب
والسنة الذي بعث الله به رسوله، ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج
عنه إلا كافر) .. [9]
فلا إسلام لمن منح البشر اختصاص الربوبية والرسالة من حق التشريع،
والخضوع والإذعان التام لغير الله ورسوله.. لأن معنى الإسلام - كما بينا - هو
الاستسلام لله ورسوله بالطاعة والخضوع للأوامر الصادرة منهما، ولا يصح إسلام
من يتمرد على حكم الله ورسوله. (فمعنى الإسلام: الاستسلام والطاعة لشريعة
الله،.. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أي جزئية من جزئيات الحياة، هو رفض للاعتراف بألوهية الله سبحانه وسلطانه، سواء كان هذا الرفض باللسان، أو بالفعل دون القول) .. [10]
بل المسلم يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته (فالحلال ما أحله الله
ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله) .. [11] .
وقبول المسلم لشرع الله هو رفض لشرع غيره.. وقبوله لأي جزئية من جزئيات
شرع غير الله هو رفض لشرع الله في هذه الجزئيات، وهذا يعني رفض شرع الله
كما قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ
اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] [آل عمران: 64] ، (ومعنى لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من
دون الله: أي لا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم
بعضنا.. بشر مثلنا وهو نظير قوله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم مما لم يحرمه
الله ولم يحله الله) .. [12]
وعلى هذا فالتحاكم إلى البشر عن رضى وطواعية هو خلع لربقة الإسلام من
الأعناق،.. وقبول شريعة أي بشر وتقديمها على الكتاب والسنة هو الكفر بعينه..
فالله هو المشرع وهو الحكم، وكتابه هو المهيمن،.. والناس ليس لهم مع القرآن
والسنة سوى التنفيذ والتطبيق (وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم
يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بينهم نفياً مؤكداً مكرراً بتكرار أداة
النفي وبالقسم، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] .. [النساء 65] وتأمل
قوله عز وجل [فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] فإن اسم الموصول (ما) مع صلته من صيغ
العموم عند الأصوليين وغيرهم، وهو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من
ناحية القَدْر فلا فرق بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير) .. [13] .
فقبول شرع الله كله، ورفض شرع سواه كله هو الإسلام وليس للإسلام حقيقة
سواه، (والرضا بالقضاء الديني الشرعي، واجب وهو أساس الإسلام وقاعدته،
فيجب على العبد أن يكون راضياً بلا حرج ولا منازعة ولا مدافعة ولا معارضة ولا
اعتراض، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] .. فالله عز وجل أقسم أنهم لا
يؤمنون حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى يرتفع الحرج من
نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً، وهذه حقيقة الرضا بحكمه،
فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام
الإحسان) [14] .
وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله،
فإنه لا يكفي في هذا الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي والقبول القلبي،
وإسلام القلب والجنان في اطمئنان.. [15] ، ولا يجتمع التحاكم إلى غير شريعة
الله، أو رفض التحاكم إلى شريعة الله،.. لا يجتمع هذا أو ذاك مع الإسلام في
قلب عبد بأي حال من الأحوال (ومن رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله
فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول
والامتناع عن التسليم) [16] .. فقبول شرع الله سبحانه يتحقق بعدم رد أمر الله
عليه، وقبول شرع غيره يُعرف بعدم الرد، فإن منع من رفض ورد شريعة غير
الله الإكراه، فلا بد من كره القلب، وهذا يعني عدم مظاهرة القائمين على شريعة
غير الله.. حاكماً كان أو حزباً أو طبقة.
إن المسلم يلتزم بمقتضى إسلامه أن يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون
حياته، قال تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] .. هذه واحدة. والثانية أن المسلم ملزم بمتابعة
الرسول فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، قال تعالى: [ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] وهذا أمر عام في الأمر والنهي، والحلال والحرام،
وكذلك في الحكم والاحتكام، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء:
65] ، فهذه الآية تجعل من أساسيات الإسلام؛ التحاكم إلى شريعة الله ومتابعة
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغها عن الله.
إن المُشرّع هو الرحمن، وليس البرلمان..
إن الشريعة هي الكتاب والسنة، وليس إرادة الأمة..
إن الإسلام عقيدة وشريعة، وشريعته هي الترجمة الواقعية لعقيدته..
إن الإسلام لا بد فيه من توحيد المُشرِّع، ومتابعة المُبَلِّغ.
__________
(1) راجع الفتاوى - ابن تيمية ج 1 ص 335.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم - ابن تيمية ص 4 45، التدمرية ص 46.
(3) شرح الطحاوية - لأبي العز ص 121.
(4) العبودية - ابن تيمية ص 6.
(5) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة - ابن تيمية ص 41.
(6) راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 7 ص 561.
(7) زاد المعاد - ابن القيم ج 3 ص 42.
(8) طريق الهجرتين - ابن القيم.
(9) الفرقان - ابن تيمية ص 65.
(10) في ظلال القرآن - سيد قطب ج 2 ص 889.
(11) اقتضاء الصراط المستقيم - ابن تيمية.
(12) راجع تفسير البيضاوي والقرطبي والنسفي وابن كثير للآيات.
(13) تحكيم القوانين - الشيخ محمد بن إبراهيم ص 650.
(14) مدارج السالكين - بن القيم ج 2 ص 192.
(15) في ظلال القرآن - سيد قطب ج 5ص 130.
(16) أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص.(51/33)
الأدب الذي نطمح إليه
عبد الله بن محمد العسكر
لا أخال أحداً يجهل قيمة الأدب في الحياة، ومدى تأثيره على حياة الأمم
والشعوب. ومن تتبع التاريخ عرف مصداقية هذه العبارة. وهذا الأدب يكون في
الغالب متمشياً مع مستوى أخلاق الأمة وما يعيشه أفرادها من وعي وإدراك،
فبقدرهما يرتفع مستوى الأدب أو ينخفض. فالأدب ما هو إلا نتاج لتلك البيئة وذلك
الجو الذي يعيش فيه الأديب.
وما أحوج أمتنا الإسلامية - في هذا العصر خاصة - إلى أدب يسمو بأفرادها
ويرتفع عن مستوى الانحطاط والدونية. إن للكلمة السامية والشعر الصادق الرفيع
أبلغ الأثر في الرقي بالفرد المسلم وشحذ همته وعزيمته ليخدم دينه ومعتقده. ألا
وإن على الأديب المسلم مهمة عظيمة ورسالة سامية يحملها ليقدمها لأبناء جيله
خصوصاً في هذا العصر الذي تعصف فيه الرياح بأمتنا من كل جانب، ويريد
الأعداء أن ينهشوا لحمها ويمزقوا جسدها.
إن باستطاعة الأديب الذي يحمل هم الإسلام بين جوانحه أن يفعل ما لا
يستطيع أن يفعله غيره، فهو الذي حباه الله شحنات مضاعفة من رهافة الحس
وعمق الشعور بالمسئولية والمبالغة في رؤية الجراح، وفي هذا الطريق ما لا يخفى
من معاناة ومكابدة ومشقة خاصة وأن هذا الأديب يعيش في عصر نرى فيه الشعوب
قد أنهكها العطش وبلغ منها الجهد مبلغه، فأقامت تحت شجرة الصبر تنتظر المطر
أن ينزل من السماء دون أن تكلف نفسها عناء حفر بئر في الأرض. مهمة الأديب
المسلم اليوم بعث الحياة في حياة الأموات وحمل المشاعل لتنير الدروب المظلمة
التي تتخبط فيها فئام كثيرة من الناس الذين يبحثون عن نور يخرجهم من تلك
الظلمات الحالكة؛ فتأتي حروف ذلك الأديب لتشرق عليهم وتنير لهم الطريق.
واجب الأديب المسلم أن يجاهد بسلاحه ما دام سلاحه ليده، وما دام قلمه يحيا
بأنات الشعوب فعليه أن يبذل كل ما يستطيعه من غال ونفيس.
كلمات الأديب المسلم وقصائده صرخات بالحق في زمن انسحب فيه الناس من
ساحات الجهاد واشتغلوا بجمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
خواطره.. منشورُ علنيّ يوزعه تارة بلسانه وأخرى بقلمه ليُظهر حقاً مرّا
سكت عنه الآخرون..
خواطره.. انفصال من حياة رتيبة هادئة ومستكينة، وانطلاقة من الراحة
والهدوء النفسي، واستعلاء وسمو عن حاجات القطيع وتفكير القطيع.
إن على الأديب المسلم أن يؤدي زكاة قلمه وما من الله عليه من نعمة البلاغة
والبيان. تلك الزكاة التي تعني إظهار المشاعر في صورة كلمة طيبة، تعود بالخير
والنفع على من يسمعها وهذه الكلمة لا بد أن تكون نابعة من القلب، مصدقة لما
يؤمن به الفؤاد ويعتقده. فجذورها راسخة فيه، ضاربة في سويدائه، ثابتة في
مستودعه، متمكنة من رحابه، ثم هي واضحة ظاهرة بعيدة عن الالتواء والغموض. إنها كالشجرة الطيبة المثمرة الثابتة بجذورها في مغرسها، الصاعدة بفروعها إلى
السماء [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا
فِي السَّمَاءِ] .
إننا نريد من الأديب أدباً رفيعاً متنزهاً عن كل معاني السفالة والانحطاط.
نريد أدباً يرقى بالأمة، لا أقول لتكون في مصاف الأمم بل لتكون سيدة على الأمم
جمعاء.
نريد قصائد تحيا بالأمة وتعيد لها كرامتها، وتساعد في إرجاع عزتها ومجدها، ولا نريد قصائد تهوي بالأمة إلى حمأة الشهوة والرذيلة، وشتان شتان بين كلا
النوعين من القصائد:
وقصائدٍ مثل العرائسِ، مهرُها ... غالٍ، وأخرى ليس فيها مطمعُ
فوق النجوم تعيش بعضُ قصائدٍ ... والبعض في عفنِ القمامة يقبعُ
وأجلهنَّ قصيدة عربيةٌ ... فيها من الإسلام شمس تسطع
تأبى على أهل الغرور غرورَهم ... وتشدُّ من أزر الضعيف وتمنعُ
وتثورُ في وجه الطغاة وتنبري ... للظالمين، تؤزُّهم وتزعزعُ
وإذا أصاب المسلمين مصيبةٌ ... فهي التي من أجلهم تتوجعُ
وهي التي تأسو الجراح بليلهم ... والفجر من جرح القصيدة يطلعُ
وهي التي تنهل في صحرائهم ... مطراً، وتحفر في الصخور وتزرع
حسبُ القصائد أنها لا تنحني ... إلا لجبار السماء وتركعُ(51/41)
أرض الجزائر
أبو خالد السبيعي
أرض الجزائر شامة الإسلام ... أرض البطولة والكفاح الدامي
أرض الجهاد على العصور تحطمت ... فيها جيوش الكفر والأصنام
أرض ابن باديس الذي فخرت به ... جمعية العلماء والألام
أرض الجزائر حدثينا ما جرى ... لبني فرنسا أفصحي بكلام
واليوم دالت للضلالة دولة ... فوق الجزائر من بني الإجرام
جعلوا الجيوش وجندها في أُهبة ... لحصار داعية وسجن إمام
نصبوا أمام الراكعين مدافعاً ... يا ليتها نصبت إلى الأزلام
ملأوا السجون بِفِتْيةٍ لم يذنبوا ... إلا بدعوتهم إلى الإسلام
وتواطأت دول العروبة ويلها ... ويل لها من حالك الأيام
سكتت ولم تنطق ببنت حقيقة ... أهو العمى؟ أم ذا السكوتُ تعام؟
أترى الهوى أنسى الحقائقَ أمتي ... أم أنها مشغولة بسلام
أم أنها تمسي وتصبح غِرّة ... لم تأخذ التلقين من " صدّام "
إخواننا الأكراد لم نسمع لهم ... خبراً من التحريق والإعدام
حتى أتى صدام نحو ديارنا ... وعدا علينا جيشه بظلام
فتكشفت أوراقه في لحظة ... من بعد ما هو فارس الإسلام
يا أمة الإسلام ويحك أنصفي ... من قبل نازلة وقبل ملام
أنا لا أصبُّ اللوم فوق عصابة ... كلت أياديها من الإجرام
كلا ولست ألوم كل منافق ... أمسى أسير أنيسه ومدام
كلا ولست ألوم عربيداً غدا ... لا فرق بين حلاله وحرام
لكن أسوق ملامتي وتأسفي ... لبني العقيدة سادة الإسلام
أهل اللسان بسحره وبيانه ... أهل المنابر أو ذوي الأقلام
أسفاه يا جند الجزائر ما لكم ... صِرتم عبيد حثالة أقزام
أنى توجهكم توجهتم لها ... أين العقول وفطنة الأفهام
يا أيها الجند المغّررُ وفّروا ... طلقاتِكم لحماية الإسلام
ما للمدافع وجهت أفواهها ... نحو المساجد غُرة الأيام
أبذا نجازي جامعات خرجت ... جيل الجهاد وصفوة الأعلام
يا أيها الجند الكرام عدوكم ... من يمنع الصبيان من إطعام
يعثو بخيرات البلاد سفاهة ... حتى غدا السكان كالأيتام
فبلادكم زخرت بأنعم ربها ... والخبز فيها يشترى بزحام
من سيَّر الطاغوت فوق رقابكم ... بدلاً من القرآن في الأحكام
يا أيها الجند الكرام عدوكم ... من قتَّلوا الأجداد بالأكوام
أهل الصليب هم العدو حقيقة ... أهل المعارك سالف الأيام
يا أيها الجند الأفاضل ما لنا ... نستبدل التحقيق بالأوهام
خذ أيها الجيش الكريم نصيحتي ... أنت الجدير بنصرة الإسلام(51/44)
وَهْمُ السَّلام
عبد الله بن محمد العسكر
هات المحابر، واكتب أيُّها القلمُ ... وسطّر الشعر إن الشعر محتدمُ
فالخطب يا صاحبي أمرٌ غدا جَلَلاً ... ضجَّ الحطيم له والبيتُ والحرمُ
هذا الزمان عجيبٌ لست أفهمُه ... أرجاؤه ظُلَمٌ، من فوقها ظُلَمُ
هذي شجوني وأحزاني أُرتِّلها ... بكتْ لها مقلتي فاستضحك القلمُ
يا دوحة الشعر همُّ المسلمين غَلَى ... به الفؤادُ، فنارُ الحزن تضطرمُ
إنِّي أرى أمَّتي قد أبحرتْ -سفَهاً- ... بلا سفينٍ وموجُ البحر يلتطمُ
يا لاهثين وراء السِّلم في زمنٍ ... مات الإباءُ به والمجدُ والشيمُ
أمن يهودٍ تريدون السلام لكم؟ ... أين السلام وهم ليست لهم قيمُ؟
فالشرُّ منطقهم، والغدر شيمتهم ... والخبث ديدنهم، إنّ العداة همُ
سلوا فلسطين إنْ رمتم بها خبراً ... قد استبيحت بها الأعراض والحُرَم
عزَّ الذهابُ إلى مسرى النبي بها ... فمن أراد ذهاباً فالطريق دم
سلوا بلاداً بلبنان التي طُعنت: ... أين المواثق والهدنات والذممُ؟
مدريدُ ها قد أتى إليك شرذمةَ ... يرجون سلماً، فلا فازوا ولا سلموا
أتوا وقد حملوا ذُلاً ومسكنةً ... عار المذلَّة في طلعاتهم يَصِمُ
عُميٌ بصائرهم، طُمسٌ مشاعرهم ... كأنهم في مراعي وهمهم غنم(51/47)
المسلمون والعالم
مقابلة مع الشيخ:
عبد الولي بن عاشور علي
من علماء المسلمين في أوزبكستان
إعداد: د. مالك إبراهيم الأحمد
انعتق المسلمون في الاتحاد السوفييتي من ربقة الهيمنة الروسية والسيطرة
الشيوعية التي جثمت على ديارهم واستنفدت خيرات بلادهم وحاولت اجتثاث الدين
من نفوسهم، وبدؤوا مسيرة جديدة وطويلة في إعادة الدين إلى النفوس، وإصلاح
البلاد بعد الخراب، ومن باب توطيد العلاقة مع الدعاة في هذه البلاد الإسلامية ذات
التاريخ الإسلامي المجيد، تلتقي البيان مع أحد الشيوخ من أوزبكستان ليلقي الضوء
على أحوال المسلمين هناك والتحديات التي تواجههم.
* في البداية نرجو من الضيف الكريم أن يعرف بنفسه
اسمي عبد الولي بن عاشور علي، ولدت عام 1950 م في مدينة أنديجان في
جمهورية أوزبكستان، درست على يد الشيخ عبد الحكيم قاري والشيخ قاسم دملة،
حفظت القرآن الكريم في سن الخامسة والعشرين، ونظراً لقلة المعلمين فقد كنت
أدرس ولم أكن أدرس في نفس الوقت على نظام الحجرات، وأعمل الآن مدرساً
للعلوم الإسلامية في أوزبكستان، وأخطب في جامع أنديجان.
* وما هو نظام الحجرات؟
نظام الحجرات هو أسلوب التعليم الخفي أيام الشيوعية، حيث يتبرع بعض
المخلصين بجزء من بيوتهم لتعليم الأولاد القرآن والعربية وأصول الدين، بعيداً عن
أعين الشيوعيين، ويظل الطالب ما يقارب الأربع سنوات حبيساً داخلها أغلب
الزمن، حتى ينهي متطلبات الدراسة، وخريجو الحجرات هم أعمدة الدعوة
الإسلامية الحالية، حيث تربوا تربية جادة وقوية وحصلوا على الكثير من العلوم
الأساسية النافعة.
* وما هي الكتب التي كانت تدرس في تلك الفترة؟
لا يخفى عليكم شح الكتب وندرتها وخطورة اقتنائها في تلك الأيام، حيث
كانت تعتبر جريمة وخصوصاً إذا كانت كتباً حديثة كمؤلفات الأستاذ سيد قطب،
وقد كان الطلاب يحفظون القرآن ويقرؤون في كتب النحو المعروفة واللغة والأدب
مثل أدب الدنيا والدين للماوردي، وفي العقيدة كان كتاب العقائد النسفية معروفاً،
وكذا كتاب التوحيد لمحمد عبده، وذلك قبل أن يتضح للمشايخ ما فيها من أخطاء،
وفي الفترة الأخيرة وصل كتاب التوحيد للزنداني وهو جيد، بالإضافة إلى كتب
الحديث المعروفة.
* كيف كان وضع التعليم الديني في بلادكم أثناء الحقبة الشيوعية؟
بعد قيام الثورة الشيوعية قتل كثير من العلماء، وسجن الكثير وهرب إلى
الخارج البعض منهم، ولم يبق إلا القلة، وكان الأمر صعباً جداً في الفترة الأولى
حتى عام 1950 حيث خرج بعض العلماء من السجون وبدؤوا حركة التعليم
بالطريقة السرية (الحجرات) بأعداد محدودة جداً حتى عام 1970 تقريباً.
بعدها بدأت حركة التعليم تزدهر حتى بداية الثمانينات حيث أحس الشيوعيون
بالخطر، وبدؤوا حملة اعتقالات وتعذيب، وبالأخص من يوجد لديه كتاب من
الكتب الإسلامية الحديثة حيث يعتبر ذلك جريمة قصوى لأنه يدل في نظرهم على
اتصاله بالخارج، وخفت الأوضاع عندما ضعفت الدولة في آخر أيامها حتى سقطت
بحمد الله.
* ما هو الدور الذي قام به الشيوعيون من المسلمين؟
لا يخفى أن المرتد أشد كفراً من الكافر الأصلي، وهذا كان وضع الشيوعيين
المسلمين. كانوا شديدي الوطأة على أبناء دينهم، ينفذون توصيات أسيادهم من
الروس، ورغم ذلك كان الكثير منهم على ولائه للإسلام كهوية، ولا يرضى أن
يوصم بالكفر، ويحرصون على دفن موتاهم على الطريقة الإسلامية، وكان
أخطرهم أئمة مساجد ومسئولو الإدارات الدينية، فقد كانوا يوطدون للشيوعية،
ويراقبون المتدينين ويدعون للحكم الشيوعي، باعوا دينهم بعرض من الدنيا، عدا
طائفة قليلة كانت تدعو إلى الإسلام، وتقول الحق ولا تتهاون في دين الله.
* بعد انحسار الشيوعية ما هي أوضاع المسلمين الآن؟
بعد اندحار الشيوعية، تحرر المسلمون كغيرهم - وبدؤوا باستعادة مساجدهم
التي حول الكثير منها إلى متاحف بل وبارات ومستودعات، وكذا مدارسهم
ومراكزهم الإسلامية، وانتشرت موجة بناء المدارس والمساجد في كافة البلاد.
وأما من جهة المدارس الرسمية فما زالت نفس المناهج المنحرفة تدرس،
وهناك أفكار مطروحة لإعادة كتابة التاريخ الذي مسخه الشيوعيون وكذا اقتراح
بتدريس الدين في المدارس الحكومية، والإعلام ما زال كما هو، وإن اختفت لهجة
الهجوم على الدين وتشويهه، ويدعي الحكام انشغالهم بالجانب الاقتصادي للبلاد.
* ما هي الأحزاب التى نشأت في الجمهوريات الإسلامية؟
هناك حزب الحرية، وحزب الاتحاد وهو رسمي فقط في طاجكستان ومواقفه
في المعارضة قرية، وأما الأحزاب الإسلامية فيوجد حزب النهضة الإسلامي.
* حبذا لو أعطيتنا نبذة عن حزب النهضة؟
تأسس حزب النهضة مع قيام الإصلاحات في عهد جورباتشوف قبل حوالي
خمس سنوات، وقبل التقسيم وبعد التقسيم سعى إلى التسجيل في كل دولة، فهو
معترف به مثلاً في بعض الجمهوريات مثل أوزبكستان ويرأسه الشيخ عبد الله أوته، وكذا في طاجكستان وأيضاً في روسيا ويرأسه أحمد قاضي. والحزب له مجلس
شورى وللعلماء فيه دور فعال، ويركز على الجانب التعليمي بالدرجة الأولى،
وإنشاء المدارس، خصوصاً للبنات، وكذا بناء المساجد وتجهيز المكتبات الإسلامية، ويصدر بعض الصحف الإسلامية مثل (الدعوة) في أوزبكستان، (النجاة) في
طاجكستان و (الوحدة) في روسيا، وقام بطبع ونشر العديد من الكتب الرسائل
بالعربية وباللغات المحلية والحزب بحاجة ماسة للدعم بكافة أنواعه كي يقوم بالمهمة
الملقاة على عاتقه، وبالأخص توفير الكتب والمدرسين واستقبال الطلاب في
الجامعات الإسلامية في البلاد الإسلامية.
* هل مررتم بمشاكل طارئة؟
نعم، فقد اتهمنا بالوهابية في بلادنا وقام بعض الشيوخ المتعصبين والصوفية
ضدنا، وأثاروا العامة وحرضوهم علينا.
* ماذا كان موقفكم؟
استخدمنا أسلوب الرد الإيجابي، فقد تركناهم جملة، ونشطنا في نشر الأفكار
الإسلامية الصحيحة، ونجحنا بفضل الله، وقد عاد إلينا بعض من كان يتهمنا
ويعادينا.
* وهل الوهابية مذهب؟
لا، إنها دعوة تجديدية للشيخ محمد بن عبد الوهاب سار على خطا أسلافه من
الأئمة المعتبرين كابن تيمية وابن القيم، والأئمة المتبعين كابن حنبل.
* ما هي المشكلات التي تعانيها الدعوة في الداخل؟
- الصوفية: وهي قديمة في هذه البلاد، وأغلب المنتسبين إليها من العوام
الذين لا يفقهون من الدين شيئاً، فقط يعتمدون على أقوال شيوخهم.
- القومية: وقد ساهم الروس في تأصيلها بين المسلمين، ونسعى للقضاء
عليها عن طريق التعليم وخصوصاً بين الدعاة عن طريق التعارف والاجتماعات.
- العلمانية: وهي داء ينخر في المجتمعات الإسلامية، والحكام لدينا لا
يعلمون من الإسلام شيئاً مما يجعل بعضهم يدعو إلى تطبيقها، والطامة أن بعض
المنسوبين للعلم صرح بأن الإسلام لا يعني بالحكم وشؤونه.
- الاقتصاد: فالشيوعيون نهبوا خيرات بلاد المسلمين وأنشأوا بها المصانع
في روسيا وتركوا للمسلمين الفقر والتخلف.
* هل هناك تحديات من الخارج؟
- إيران: فلها نشاط محموم خصوصاً في طاجكستان حيث اللغة مشتركة
(الفارسية) وكذا في أذربيجان حيث الأغلبية شيعية، أما العامة لدينا (أوزبكستان)
فعداوتهم للشيعة ظاهرة، لكن المشكلة في بعض العلماء الذين يستدرجهم الشيعة.
- تركيا: وخطرها في محاولة نقل النموذج التركي العلماني للجمهوريات
الإسلامية وذلك بدعم وتوجيه من الولايات المتحدة.
- التنصير: حيث الأناجيل توزع مجاناً، ومن يتنصر يجد الرعاية والدعم،
وأكبر خطر في قرغيزيا حيث أكثر السكان لا يفهمون من الإسلام شيئاً حيث إن
لغتهم هي الروسية، فهم مهددون.
- اليهود: وهم موجودون في كل الجمهوريات، وإن هاجر أكثرهم فما يزال
لهم وجود مؤثر، ويحاولون السيطرة الاقتصادية على بلاد المسلمين ويقومون
كعادتهم بإثارة الفتن والمشكلات.
* هل كان للجهاد الإسلامي في أفغانستان أثر على المسلمين في الجمهوريات السوفييتية؟
نعم، وخصوصاً في طاجكستان حيث اللغة المشتركة، وفقد المسلمون الكثير
من أبنائهم ظناً منهم أن القتال كان لنصرة الحق ضد الثوار المجرمين، لكنهم
اكتشفوا حقيقة الأمر في نهاية المطاف، وتأثر الشباب المسلم الذين وقعوا في أيدي
المجاهدين من مواقفهم الطيبة، حيث أنهم أطلقوا سراح الكثيرين منهم بعد إشهارهم
الإسلام ونطقهم بالشهادتين.
* ما هو سبب سقوط الشيوعية؟
سقطت بسبب دماء الشهداء ودعوات المظلومين.
* مشاكل الأمة الإسلامية كثيرة ما هو العلاج؟
لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها.
* التعصب المذهبي موجود في كثير من بلاد المسلمين، ما توجيهكم في ذلك؟ ...
المذاهب الفقهية ثروة للأمة، فنحن نجل أئمة المذاهب ونحترمهم ونسير على
أقوالهم (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ولا نتعصب لأي منهم، بل التعصب للحق
فقط.
* هل هناك حركات إسلامية وافدة على بلدانكم؟
نعم هناك جماعة التبليغ، ولهم دور طيب ومحمود في انتشال الناس من
الفسق والانحراف، ونحن نكمل ما نقصهم، ونقوم بتربية الناس وتعليمهم.
في الختام: نشكر الضيف الكريم، ونسأل الله له ولإخوانه التوفيق والسداد
في مسعاهم.
ملاحظة: ويسر المنتدى الإسلامي استقبال تبرعات المحسنين وزكواتهم
لدعم المشاريع الإسلامية في أوزبكستان ونشر منهج أهل السنة والجماعة في تلك البلاد.(51/49)
السودان ... وتحرير الجنوب
إذا كانت هناك مشكلة في العالم الإسلامي ففتش عن الإنكليز، هذه المقولة
تنطبق تماماً على السودان الذي استعمر من قبل بريطانيا في نهاية القرن التاسع
عشر، كما انطبقت على فلسطين وباكستان، وكل مشاكل الحدود بين دول العالم
الإسلامي ... فالإنكليز لم يخرجوا من السودان إلا بعد أن تركوا فيها مشكلة قابلة
للتفجر، لقد أقفلوا جنوب السودان عن شماله حتى يتعمق شعور الانفصال عند
الجنوبيين، وفي هذه الأيام ونحن نسمع أنباء سقوط مدن الجنوب وتحريرها من
حركة التمرد التي يقودها الصليبي جون قرنق لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء
لنرى كيف بدأت هذه المشكلة، ولماذا؟
نبذة تاريخية:
في عام 1898 احتل الإنكليز السودان وقد أدركوا للوهلة الأولى أن الصلة
بين شمال السودان العربي المسلم وجنوبه الوثني سيؤدي آجلاً أو عاجلاً إلى انتشار
الإسلام بين صفوف الوثنيين، ولذلك أقدم هذا المستعمر الذي عرف بخبثه وذكائه
على عزل الجنوب، فعمد إلى تشكيل فرقة عسكرية من أهل الجنوب وإبعاد الجنود
من أهل الشمال، ثم طردوا التجار الشماليين وقد صدر بذلك منشور رسمي يقضي
بترحيل جميع التجار الشماليين باعتبارهم مسلمين ويخشى من تأثيرهم على أهل
الجنوب. بل منعوا الجنوبيين من ارتداء ملابس أهل الشمال أو التكلم بلغتهم،
والأسوأ من هذا كله هو منع الشماليين من الدخول للجنوب فأصبح السوداني الذي
يرغب في زيارة الجنوب يحتاج إلى إذن من الحكومة، وقد صدر في هذا قانون
المناطق المقفلة في عام 1930 وفيه أعطت المادة (22) للحاكم العام اعتبار الجنوب
منطقة مقفلة سواء للسودانيين أو غيرهم، وهكذا أغلق الجنوب في وجه الدعوة
الإسلامية، وفتحت أبواب التبشير بالنصرانية فجاءت إرساليات من أمريكا
واستراليا وكانت تعمل في وسط قبائل (الدينكا) .
وماذا بعد الاستقلال؟
عندما شكلت أول حكومة انتقالية برئاسة إسماعيل الأزهري بدأ أول تمرد في
السودان عام 1955م، وذلك نتيجة الحقد الذي زرعه المستعمر في نفوس الجنوبيين، وفي عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود استمرت الإرساليات النصرانية في بث
روح الكراهية لأهل الشمال، فحاولت الحكومة الحد من نشاطها واعتقلت بعض
القساوسة الذين ساهموا في كتابة المناشير المناوئة لحكومة السودان، وفي عام
1962 م بدأت حركة تمرد بقيادة (ويليام دينغ) وذلك على أثر توقيع اتفاقية المياه
مع مصر، واستمر هذا التمرد حتى عام 1965 عندما عقد مؤتمر المائدة المستديرة
وانتهى بإعطاء الجنوب الحكم الذاتي في إطار سودان موحد، ثم كانت حركة التمرد
الثانية بقيادة (جوزيف لاغو) واستمرت حتى عام 1972 وانتهت بتوقيع اتفاقية
أديس أبابا في عهد جعفر نميري، وبسبب هذه الاتفاقية انفصل جون مرنق عن
حركة جوزيف لاغو متهماً إياه بمسايرة الشماليين، واستمر قرنق في تمرده مستغلاً
ضعف وميوعة الحكومات السودانية المتعاقبة ومستغلاً مشاكلها الاقتصادية والسياسية.
ومن أهم مطالب حركة التمرد - كما صرح أحد قادتها (لام كول) في مؤتمر
كينيا الذي عقد برعاية الرئيس الأمريكي كارتر - استبعاد الدين نهائياً عن الدولة،
ومن الأهداف الرئيسية لبعض فصائل التمرد الانفصال التام للجنوب.
أما حركة التمرد التي يقودها قرنق منذ عام 1983 فقد تجاوزت هذا إلى
قضية تحرير السودان كله ليصبح دولة علمانية اشتراكية - كما جاء في البند
العشرين، الفصل السابع من دستور الحركة: (إن الجيش الشعبي لتحرير السودان
يقاتل لتأسيس سودان اشتراكي موحد، وليس جنوب السودان منفصلاً) . كما جاء
في البند الثاني والعشرين فقرة (ج) : (إن قوة الجيش الشعبي ستنمو وتتعاظم
لتصبح قوة تقليدية قادرة على تحطيم جيش السودان الرجعي) إذن هو ضرب
الإسلام في السودان كله. وقد ساعد حركة التمرد نظام منغستو في أثيوبيا، بل إن
جيش أثيوبيا ساعد قرنق في بعض العمليات العسكرية، كما تلقى قرنق مساعدات
من ألمانيا الشرقية وكوبا ودعم الغرب هذه الحركة، حتى إن وفداً من الكونغرس
الأمريكي التقى بقادة حركة التمرد داخل الأراضي السودانية وبدون الحصول على
تأشيرة دخول، وتدفقت المساعدات على قرنق من البوابات الجنوبية للسودان -
مثل كينيا - كما قدم له الدعم المعنوي بالإعلام الذي يتكلم عن اضطهاد الجنوبيين
إلى آخر هذه النغمة التي يتقنها الغرب.
ودعمت إسرائيل هذه الحركة، وزار قرنق إسرائيل عدة مرات، كما نشط
مجلس الكنائس العالمي بمساعداته وإرسالياته، ومع هذا الدعم فقد كانت الحكومات
السودانية التي تواجه قرنق ضعيفة، فقد سقط نظام نميري، ولم تسقط مدينة واحدة
من مدن الجنوب في يد الحكومة السودانية واحتل المتمردون أكثر من عشر مدن
مثل إبور، منقلا، توريت، نواط. وفي عهد الصادق المهدي ذهب وفد الحكومة
إلى أديس أبابا ليوقع اتفاقية مع قرنق وكان من شروطها إلغاء تطبيق الشريعة
الإسلامية.
تحرير الجنوب:
منذ أكثر من شهر ونحن نسمع أنباء سقوط مدن الجنوب في يد الجيش
السوداني تدعمه قوات الدفاع الشعبي، ولا شك أن إرجاع الجنوب إلى حظيرة
السودان هو رد على التجزئة والتفتيت الذي - يريد الغرب فرضه على الدول
العربية والعالم الإسلامي، كما أن الجنوب أصبح بؤرة للتبشير بالنصرانية ومحاربة
الإسلام، وقد ساهمت قوات الدفاع الشعبي في القتال ومن أشهر العمليات التي
خاضوها: الفجر الصادق، والوعد الحق، والمغيرات صبحاً التي دخل فيها
عنصر الخيل لأول مرة، وقد يواجه الجيش صعوبات كبيرة عندما يبدأ موسم
الأمطار الصيفية وتتحول الأرض إلى مستنقعات وبحيرات. وربما تلجأ الدولة إلى
المفاوضات ولكن من موقع المنتصر القوي، إن إرجاع الجنوب وتوحيد السودان
عمل جيد وبشتى المقاييس فهو على الأقل سيعطي السودان فرصة لعملية التنمية
والبناء.
إن ذلك سيعطي السودان دفعة قوية نحو الاستقرار السياسي والتنمية ومن ثم
سيساهم بإذن الله بنشر الإسلام في الجنوب الذي هو بوابة السودان على أفريقيا.(51/56)
الأمة الألبانية تخرج من الجحيم
محمد آل الشيخ
[ألبانيا جمهورية اشتراكية شعبية قائمة على الحكم المطلق للطبقة الحاكمة.]
[حزب عمال ألبانيا هو السلطة السياسية الوحيدة التي تقود الدولة
والمجتمع.]
[الماركسية اللينينة هي المذهب الحاكم.]
هذه فقرات من دستور ألبانيا التي كانت الدولة الإسلامية الوحيدة في أوربا..
فكيف جاء الإسلام إلى هذه الدولة الأوربية؟ ثم كيف صارت هذه الدولة المسلمة
شيوعية وجمعت بين التناقضات؟ وما هو حال أهلها اليوم؟ وما مستقبلهم؟ هذا ما
سنتناوله في هذا الموضوع.
تاريخ الألبان:
تفوق قدرة التحمل للشعب الألباني ما نسمعه اليوم عن المجاهدين الأفغان، بل
تكاد تتطابق طبيعة الشعب الألباني مع طبيعة أرضه، ويصح لنا القول أن
التضاريس الجبلية لألبانيا أكسبت الشعب قدرة فائقة على التحمل، وهذا هو التفسير
الذي كان يبحث عنه العالم وهو يسمع بالأهوال التي كانت وما زالت تصب على
رأس الألبان وهم صابرون متحملون، بل أحياناً يلجأون بأنفسهم إلى الخيار الصعب، كما فعلت الأقلية الألبانية في يوغسلافيا عندما اعتصموا أسابيع في المناجم على
عمق مئات الأمتار تحت نير الاضطهاد الصربي الحاقد، وذلك بعد أن طالبوا
بالحكم الذاتي.
وساعدت الأرض وطبيعة الشعب على محافظتهم على هويتهم ووجودهم،
رغم ما عانوه من اضطهاد طوال مئات السنين وما وقعوا تحته من احتلال وحروب. ولقد دفع الشعب الألباني عبر التاريخ الثمن غالياً لموقع بلاده الصعب بين كثير
من الإمبراطوريات ابتداء باليونان ثم الرومان وانتهاء بالصرب والشيوعيين.
دخول الألبان إلى الإسلام:
عرف الألبان الإسلام في وقت مبكر من القرن الحادي عشر الميلادي عن
طريق التجار المسلمين، ولكن لم تشهد ألبانيا إقبالاً على الإسلام إلا بعد ذلك ففي
القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) كانت الجيوش العثمانية الإسلامية عام
7890 هجرية (1389م) بقيادة مراد الأول قد وصلت إلى إقليم كوسوفو الذي تحتله
يوغسلافيا الآن فكان ذلك أول احتكاك للألبان بالدولة الإسلامية. ثم بعد ثلاث
سنوات عاد ولده بايزيد لمواصلة عمل أبيه، ففي العام التالي استطاع أن يفرض
الولاء على ألبانيا من دون حرب فدانت له ودفعت الجزية عام 1393م وظلت على
هذه الحال 60 سنة. ثم عاد الألبان وانتفضوا على الدولة العثمانية، وأخيراً انتصر
العثمانيون نصراً نهائياً عام 882 هجرية (1479م) ولم تحدث في البلاد بعدها
مقاومة منظمة، وإن بقيت المواني بعيدة عن سلطة العثمانيين مدة أطول حيث
فتحت انتيفاري آخر مدن ألبانيا عام 979 هجرية.
ولقد كانت الدهشة كبيرة حيث تحولت غالبية الألبان إلى الإسلام في أقل من
مائة سنة، ولعل من أهم أسباب ذلك أن الألبان عرفوا ولأول مرة في حياتهم الدين
الذي يناسب الفطرة، وعرفوا شيئاً من التحسن في الأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية، وكذلك كان هذا التحول الجماعي ردة فعل قوية لمحاولات اليونان
والرومان حملهم على التنصر بالقوة.
والخلاصة أن الألبان كانوا تجربة فريدة واجهها العثمانيون في البلقان، حيث
كانوا في كل بلد يواجهون ثقافة وحضارة وأوضاعاً اجتماعية وإدارية ودينية قوية
تظل تطبع أهلها في جانب من جوانب حياتهم حتى بعد دخولهم تحت المظلة
العثمانية، أما الألبان فكانوا أقرب إلى الفطرة الأولى، فكان من السهل عليهم أن
يعيدوا تشكيل حياتهم وفقاً لدينهم الجديد.
ألبانيا تصبح ولاية عثمانية:
سارعت الدولة العثمانية إلى إعطاء الألبان المواطنة الكاملة وحق تقلد أعلى
المناصب في الدولة، فألبانيا غدت ولاية عثمانية وأهلها أصبحوا مسلمين.
وكان للألبان دور كبير في دعم الدولة العثمانية، وشاركوا في شتى المجالات، فظهر منهم الوزراء والقضاة والكتاب والدبلوماسيون، ولكن كان المجال العسكري
هو المجال الأكبر الذي شاركوا فيه، فسارع الألبان إلى الانخراط في الجيش
العثماني، وسبب برزوهم في هذا ما عرف عن القوم من شدة وشجاعة وقوة وبأس
فاعتمدت عليهم الدولة عسكرياً اعتماداً كبيراً وشكلوا عماد الجيش العثماني، وهذا
من أهم أسباب انتشارهم الواسع في الولايات العثمانية، فقد كانوا على درجة عالية
من الإخلاص والانضباط والبأس في الحروب. وهؤلاء هم الذين يعرفون في البلاد
العربية بالارنؤوط، وهو الاسم الذي أطلقه عليهم العثمانيون.
وكانت أعظم مشاركاتهم في الدفاع عن الحدود الغربية للدولة العثمانية في
مواجهة دول أوربا التي ما فتئت تحاول دحر العثمانيين واسترجاع ما أخذوه من
أوربا.
وظلت ألبانيا تؤدي دوراً مهما داخل الإمبراطورية العثمانية حتى نهاية القرن
التاسع عشر الذي ظهرت فيه النزعة القومية، وحميت فيه كذلك الحرب مع روسيا
ودولة النمسا والمجر وتبع ذلك بداية انهيار الدولة العثمانية وضياع ولاياتها في
أوربا وغيرها، خاصة بعد إرغام الدولة العثمانية على توقيع اتفاقية سان استيفانو
مع روسيا عام 1878م فلم يبق مع الدولة العثمانية في البلقان سوى ألبانيا ومقاطعة
البوسنة والهرسك وسالونيك شمال اليونان، والجديد في هذه المعاهدة أنه تم ولأول
مرة تقسيم ألبانيا حيث اقتطع جزء من أراضيها وهو بعض مقاطعة كوسوفو وضم
إلى دولة الصرب، وظهرت على السطح في تلك الأثناء القومية الألبانية لأول مرة
وكان الذي أذكى نارها فرنسا وإيطاليا وألمانيا، لتقويض الإمبراطورية العثمانية
تمهيداً لإبعادها عن الإسلام، وقد أدى ذلك إلى صراعات بين الألبان المناوئين
للانفصال عن الدولة والألبان المؤيدين لذلك، ولكن الدول الغربية ضغطت على
الدولة العثمانية من جديد وأرغمتها على توقيع معاهدة برلين التي تنازلت فيها عن
بعض الأراضي الألبانية، مما أدى إلى تقسيم جديد للأراضي الألبانية، الأمر الذي
آثار جميع الألبان على الخلافة وأظهرت تلك الأحداث بجلاء قوة القومية الألبانية
ومدى تغلغلها في النفوس، وعدم قبولهم لتقسيم أراضيهم وشعبهم، فثاروا ثورة
عارمة مطالبين بوحدة الأمة الألبانية والدفاع عن حقوقها بل والانفصال عن الدولة
العثمانية، هذا الانفصال الذي جر عليهم الويلات فيما بعد، ومع أن الدولة العثمانية
قمعت هذه الثورات بشدة إلا أن نارها لم تخمد، وظلت متقدة بشكل أو بآخر إلى
يومنا هذا، فما زالت لديهم نزعة قوية لتوحيد شعبهم وأراضيهم.
وانتهى بهم المطاف حين ظهرت القومية الطورانية في تركيا على يد مصطفى
كمال، وذوبان الرابط الديني الذى كان يربط ولايات الدولة، فثار الألبان ثورتهم
النهائية على الدولة العثمانية عام 1909 م، ثم ما لبثت أن نشبت حرب البلقان عام
1912 م وهي الحرب التي أنهت فعلياً علاقة ألبانيا بالدولة العثمانية، وبدأت خطاً
شديداً في حياتها يبعدها عن الإسلام شيئاً فشيئاً لحساب القومية الألبانية.
ألبانيا بعد العثمانيين:
كانت المؤامرة على الدولة العثمانية كبيرة، وكانت مصممة بحيث تقضي
تماماً على كل أثر للإسلام في أوربا، بما فيها ألبانيا. فكان نصيب ألبانيا أن تحتلها
إيطاليا بعد سنتين فقط من رحيل العثمانيين عنها أي في عام 1915م.
وبعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولتين الكبيرتين في ذلك الوقت الدولة
العثمانية ودولة النمسا والمجر، أعاد مؤتمر باريس عام 1919م تقسيم المنطقة
فكافأ الصرب على بلائهم في الحرب ضد العثمانيين فضم إليهم كثيراً من أراضي
الدول المجاورة وعلى رأسها مقاطعة كوسوفو كاملة مع أنها أرض ألبانية وأهلها
ألبان مسلمون كما أخذ منها أيضاً منطقة شامريا وضمت إلى اليونان. فجنت ألبانيا
من انفصالها عن الدولة العثمانية ثماراً سيئة، فصارت ألعوبة للدول الكبرى في ذلك
الوقت، وبعد أن استقلت عن إيطاليا عام 1925 م عاد الإيطاليون واحتلوها عام
1929م وبقيت تحت الاحتلال الإيطالي أربع سنوات، ثم احتلها الألمان عام
1943م وانسحبوا منها بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية فاستقلت، ولكنها
هذه المرة وقعت في قبضة أخبث نظام شيوعي عرفه التاريخ ودعّم هذا النظام
شيوعيته بتحالفه مع يوغسلافيا (1944-1948م) ثم مع الاتحاد السوفييتي
(1948-1961م) ثم مع الصين (1961-1978م) ، ثم تخلى عنهم جميعاً متبنياً
نهجناً شيوعياً بحتاً ليس له نظير.
ألبانيا دولة الأبواب المغلقة:
تحولت ألبانيا من الدولة الإسلامية الوحيدة في أوربا إلى الدولة الشيوعية
البحتة الوحيدة في العالم بسرعة خاطفة، حيث ظهر الحزب الشيوعي الألباني إلى
الوجود عام 1941 م بمساعدة وتدبير من يوغسلافيا، وبسبب دور الحزب في
سرب الاستقلال استولى الشيوعيون سعادتهم على السلطة عام 1944م وظهر
زعيمه أنور خوجا إلى السطح ليجثم على حكم البلاد أربعين سنة، ومع أنه مولود
لأبوين يدعيان الإسلام إلا أن سلوكيات أسرته وسلوكياته هو أيضاً فيما بعد جعلت
الناس لا ينسون أصله اليهودي، أضف إلى ذلك أنه درس في فرنسا فتخرج منها
شيوعياً، ثم اعتنق بعد ذلك الإلحاد وعادى كل الأديان.
حول أنور خوجه ألبانيا من الإسلام إلى الإلحاد، فشن أقسى الحملات على
الأديان وخص الإسلام بحرب لا هوادة فيها، فدمر جميع المساجد وحولها إلى
مخازن ومتاحف ومتاجر، وألغى جميع المؤسسات الدينية وحظر الشعائر التعبدية
حظراً تاماً، ولم يسمح بأي رحمة تدخل قلبه تجاه مخالفيه فأنزل فيهم أشد العقوبات
وسعى بكل ما أوتي من قوة إلى طمس معالم الحقبة العثمانية مع أنها هي الحقبة
الحضارية في تاريخ ألبانيا، وجعل للبلاد رمزاً تاريخياً هو الاسكندر بك الذي
عرف بكرهه للعثمانيين، ورمزاً معاصراً هو أنور خوجه نفسه.
وقد نجح هذا الطاغوت إلى حد كبير في طمس هوية الألبان الإسلامية فنشأت
أجيال كاملة بلا هوية ولا دين كما كانوا قبل ثمانية قرون، ومن يزور ألبانيا اليوم
لا يصدق أن هذا البلد قبل أقل من قرنين من الزمان كان أهله يحملون راية الإسلام
مجاهدين في سبيل الله تحت راية العثمانيين.
وقد كان هجوم الشيوعيين على الإسلام في البداية مقتصراً على إخراج المرأة
المسلمة إلى المعامل والمصانع وورش البناء والمزارع والمكاتب حتى أن المرأة
الألبانية أجبرت على المشاركة في العمل في ثلاث نوبات على مدار الـ 24 ساعة، وأسندت إليهم أعمال شاقة مثل الرجال وحرص الشيوعيون على زواج المسلمات
من غير المسلمين، ثم انتقلت الدولة إلى مرحلة أخرى فشددت الخناق على الإسلام، وطاردت كل من يؤدي الشعائر التعبدية، ونظمت حملات قاسية من أجل
استئصال جذور العقيدة والشعائر والأدب والسلوك الاسلامي من حياة الناس. وبلغ
الاضطهاد أوجه عام 1967 م عندما حرض أنور خوجه الشباب الذين تربوا في
أحضان الشيوعية على تدمير المساجد والجوامع فهدموا المنارات بالجرارات وما
بقي منها حول إلى متاحف ومعالم ثقافية، وإمعاناً في الإهانة حول بعضها إلى
دورات مياه، ثم صدرت قوانين رسمية تعاتب كل من يؤدي شعائر تعبدية، فخرج
جيل ألباني ممسوخ مسخاً تاماً، وسلط الولد على والده والوالد على ولده حتى خاف
الآباء أن يعلموا أبنائهم كلمة التوحيد، فقد كانت المعلمة تسأل التلاميذ ماذا تقول
والدتك؟ وماذا تعمل جدتك؟ وهل يقول والدك أو جدك أن الله واحد لا شريك له؟
وماذا طبخت والدتك من الحلويات بمناسبة عيد الفطر؟
ولعبت ألبانيا دوراً مهما على مستوى العلاقات الدولية خاصة بين الدول
الشيوعية الكبرى، وكان هذا الدور أكبر من حجمها (مساحتها حوالي 27 ألف كم
مربع، وسكانها يزيدون على الثلاثة ملايين قليلاً) وسبب هذا الدور يعود إلى تنافس
الدول الشيوعية على الاستحواذ عليها مما أكسبها وضعاً دولياً مميزاً، إضافة إلى
موقعها الهام جنوب القارة الأوربية وكونها مخرجاً إلى البحر المتوسط عبر البحر
الأدرياتيكي الواقع بينها وبين إيطاليا.
ومن جهة نظر أنور خوجه فقد خاب أمل هذا الشيوعي الملحد في الدول
الشيوعية واحدة بعد الأخرى كما مرّ معنا فابتعد عنها كلها عندما تبنت سياسات
اقتصادية أكثر تحرراً، فقد اختلف مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه بسبب سياسات
خروتشوف الإصلاحية في أوائل الستينات فأصبح يعتمد اعتماداً كلياً على
المساعدات الصينية غير أن الصين كذلك بدأت بعد هلاك ماو تسي تونغ تسير في
درب الإصلاح الاقتصادي فوجدت ألبانيا نفسها في عزلة تامة وسط العالم الشيوعي
معتمدة على نفسها ومنغلقة على شعبها.
ولما توفي أنور خوجه عام 1985م خلفه نائبه رامز عليا الذي بدأ حكمه
بمواصلة سياسة سلفه أنور الانعزالية لكنه أمام التغيرات التي شهدتها الدول
الشيوعية من حوله في السنوات الماضية وكثرة الاضطرابات عليه في الداخل
ولجوء كثير من الألبان إلى السفارات الأجنبية في تيرانا عاصمة البلاد وهروب
أعداد كبيرة من الألبان إلى إيطاليا عبر البحر اضطر إلى إعلان إصلاحات داخلية
وخفف كثيراً من الضغوط على الشعب وسمح بمزاولة الشعائر التعبدية، ثم دعا إلى
انتخابات عامة عام 1991م فاز فيها هو بطبيعة الحال، ثم أجريت انتخابات أخرى
هذا العام هزم فيها الشيوعيون فاضطروا لتسليم السلطة للحزب الديمقراطي
العلماني. ...
ألبانيا اليوم لمن يسبق!
ألبانيا لمن سبق فلو سبق النصارى لحولوها إلى نصرانية ولو سبق المسلمون
لحافظوا على بقاء الإسلام فيها، هكذا يلخص أحد الدعاة حال ألبانيا اليوم.
في أواخر عام 1990م وبسبب الانهيار الذي كانت تعيشه الشيوعية سمحت
الحكومة بمزاولة الشعائر التعبدية وأعادت إلى المسلمين بعض المساجد التي نجت
من التدمير وسارع المسلمون إلى الصلاة فيها. ومع ذلك فالوضع الحالي في ألبانيا
سيئ للغاية، وتعتبر ألبانيا أفقر دولة أوربية فهي تعيش حالياً على المساعدات
الخارجية التي تأتيها من الفاتيكان وإيطاليا واليونان.
ويعاني المسلمون من عدم توفر الكتب الإسلامية والدعاة والمدرسين. ومما
عقد المسألة هناك السياسة الشيوعية السابقة التي كانت تزوج المسلمين والمسلمات
من المسيحيين والمسيحيات مما جعل البيت الواحد الآن فيه أكثر من دين.
سباق المبشرين:
وبسبب الأحوال المأساوية في ألبانيا فإن الشباب الألباني يحاول جاهداً
الخروج من ألبانيا بشتى الطرق الممكنة وقد استغلت اليونان ذلك ففتحت مكتباً
خاصاً داخل السفارة اليونانية في تيرانا لإعطاء الشباب الألباني حق الهجرة إلى
اليونان بشرط أن يغير أسمه إلى اسم مسيحي، ويتم تعميده مبدئياً في السفارة على
أن يكون التعميد النهائي عند وصوله إلى اليونان.
وينشط الفاتيكان في عمل منظم داخل ألبانيا يبدأ بإرسال الوفود التبشيرية
وإرسال الصحفيين والمعلمين ويعقدون مؤتمرات أسبوعية يوزعون خلالها الأناجيل
والكتب الصليبية باللغة الألبانية مما يوحي بأنهم كانوا مستعدين لذلك منذ مدة.
ويقوم الفاتيكان كذلك بفتح المعامل والمتاجر ويوظف فيها الشباب الألباني ويشترط
عليهم وضع الصليب في أعناقهم.
ثم سارعت الأم تيريزا المتخصصة في تنصير الأطفال بالذهاب إلي ألبانيا
وشراء بعض البيوت واسترجاع بعض الكنائس واحضرت معها حوالي 100 مبشرة
ليقمن بتوزيع الأناجيل والكتب التنصيرية والصلبان على الأطفال ثم يقمن بتغيير
اسماء الأطفال المسلمين إلى أسماء مسيحية، وقد وعدت الأم تيريزا البابا بتقديم
100000 طفل مسلم يكونون قد تنصروا هدية له عند زيارته الأولى ألى البانيا.
ويعمل الفاتيكان حالياً على فتح كلية لتدريس الدين النصراني وتخريج
القساوسة ووضع الفاتيكان كذلك خطة لبناء 200 كنيسة خلال العامين القادمين مع
أن الكاثوليك في ألبانيا لا يتجاوزون 10% من السكان. ومن القوى الصليبية التي
تعمل هناك السفارة الإيطالية فلها نفوذ سياسي قوي على الحكومة الألبانية بحكم أن
إيطاليا كانت تحتل ألبانيا في الماضي.
حاجة المسلمين الألبان اليوم:
يعاني المسلمون في ألبانيا من الجوع والجهل، فيحتاجون الخبز لسد الجوع
والإسلام لرفع الجهل.
لقد كان عدد المساجد في ألبانيا قبل الحكم الشيوعي 1600 مسجداً، وقد
أعادت الحكومة اليوم عدداً قليلاً جداً منها، ويحتاجون اليوم حوالي 70 مسجداً
حاجة عاجلة طبقاً لما ذكر الشيخ صبري كوتشي رئيس الجماعة الإسلامية الألبانية
في تقرير له كتبه في يناير من هذا العام. ومن أهم ما يجب تركيز العمل من أجله
استعادة المساجد التي صادرتها الدولة وحبس الأوقاف عليها وتزويدها بالأئمة
والدعاة والمدرسين.
ومما سيساعد على إبقاء الإسلام في ألبانيا العناية بمدارس الأطفال لتعليمهم
الإسلام واللغة العربية والقرآن الكريم لبناء جيل ألباني مسلم وإقامة المؤتمرات
الإسلامية لتوعية الناس بدينهم وإيجاد تيار عام يرجع الناس إلى الإسلام، وطباعة
الكتب الإسلامية بلغتهم وتوفيرها مجاناً لهم ثم إقامة مراكز وكليات إسلامية
متخصصة تخرج الأئمة والدعاة لكي يقوموا بتشغيل هذه البرامج والإشراف عليها
والتوسع في قبول الطلاب الألبان في الجامعات الإسلامية لإعدادهم للقيام بالدعوة
هناك.
ويجب ألا ينسى المسلمون الاحتياجات الأخرى للشعب الألباني مثل
المساعدات الغذائية والعينية فهذا الباب هو الذي يدخل منه المنصرون لتنصير
الألبان.
مستقبل الأمة الألبانية:
لعل أحداث يوغسلافيا خلال السنة الماضية هي أول خطوة على طريق توحيد
الأمه الألبانية، فيوغسلافيا تضم أكبر تجمع ألباني خارج ألبانيا حيث يقدر عدد
الألبان في يوغسلافيا بأكثر من ثلاثة ملايين ألباني وتفكك يوغسلافيا لا بد أن
يصحبه مطالبة الألبان في يوغسلافيا بالانضمام إلى بلدهم الأصلي إما عاجلاً أو
آجلاً وسيساعد سقوط الشيوعية في ألبانيا كثيراً على إتمام ذلك.
وهذا بلا شك سيسبب مواجهة بين الألبان والصرب، ومواجهة من هذا النوع
لن تكون سهلة فقد تستمر طويلاً وتتحول إلى حرب أوربية واسعة، ما لم يتدارك
الصرب والأوربيون عموماً ذلك ويسارعون إلى رفع الظلم عن الشعوب المضطهدة
في البلقان وعلى رأسهم المسلمين في ألبانيا والمسلمين في البوسنة والهرسك. وإلا
فإن مرحلة من الصراعات الجديدة قد تبدأ في البلقان ولا يعلم إلا الله وحده أين
ينتهي خاصة أن حروباً عالمية كانت شرارتها الأولى في البلقان.
وما مطالبة المسلمين الألبان في كوسوفو بالاستقلال أو الحكم الذاتي التى بدأت
العام الماضي إلا مرحلة أولى للانضمام إلى ألبانيا هذا الانضمام الذي سيكون مسألة
طوال الفترة القادمة، والمقلق أنه لا توجد دولة واحدة في البلقان توافق على وحدة
الأمة الألبانية لأن هذا سيجعلها قوة كبرى مؤثرة في المنطقة ثقافياً وسياسياً ودينياً،
فمن المتوقع أن تطالب بإقليم شامريا الألباني الذي تحتله اليونان وأن يعود إليها
مئات الآلاف من الألبان المهاجرين من كل مكان.
ومعظم الألبان خارج ألبانيا اليوم موجودون في يوغسلافيا ففي إقليم كوسوفو
الذي يخضع لحكم الصرب المباشر يوجد مليونان من الألبان ويشكلون 92% من
سكان الأقليم الذي يحكمه الصرب وحوالي 800 ألف في مقدونيا وحوالي 300 ألف
في جمهورية الجبل الأسود. وينتشر الألبان كذلك في معظم بلاد البلقان خاصة
اليونان، ويوجد مجموعة منهم هاجروا إلى تركيا من يوغسلافيا بتواطؤ بين تيتو
ومصطفى كمال وقد عرفوا في الغالب في هذه المناطق بشدة تماسكهم وصعوبة
ذوبانهم في المجتمعات المسلمة مثل البوسنة والهرسك حيث يفضلون العيش في
جماعات صغيرة منغلقة.
وقد نجح الألبان في الماضي كثيراً في التفوق على ظروفهم الصعبة بطريقة
فريدة فهم رغم التشتت والتفرق والهجرات أقاموا بينهم روابط تنظيمية متينة لا
مثيل لها، ومن المتوقع أن يلعب ألبان كوسوفو دوراً هاماً على صيد الوحدة الألبانية
فتاريخياً كوسوفو تمثل مركز القيادة الألبانية وكثير من الزعماء والقادة الألبان جاؤوا
من كوسوفو وهم منذ سنة يعيشون انتفاضة قوية ضد الصرب ودخلوا معهم في
مواجهات دموية قاسية.
إن معطيات الأحداث اليوم وتاريخ هؤلاء القوم يولد نتيجة حتمية مؤداها أن
القوم سيتحركون على كل صعيد لبدء خطوات عملية في سبيل إعادة دولتهم الموحدة.
المصادر:
(1) المسلمون تحت، السيطرة الشيوعية، محمود شاكر، المكتب الإسلامي.
(2) جريدة الحياة 8 اغسطس 1991 م.
(3) The World TodayJune 1985.
(4) دائرة المعارف البريطانية.
(5) مجلة البيان عدد 5.(51/60)
ليبيا بين إرهابين
محمد بن حامد الأحمري
(إذا اختلف اللصان ظهر المسروق) وذلك مثل القذافي والدول الغربية،
فليس أسوأ من جنون القذافي وعدوانه على ممتلكات الناس وحرياتهم إلا الغرب في
تعامله مع العالم، يزرعون الرعب والجور، وينصرون اليهود، ويغضون الطرف
عن جرائمهم، ويجعلون شعباً كالشعب الليبي يضع يده على قلبه ويرقب الساعة
التي تدك فيها طائراتهم طرابلس أو سواها كما حدث في عام 1986م.
إن الشعب الليبي لا شك هو الضحية، وهو الذي صودرت حرياته وبددت
ثروته، وهجر كثير من أبنائه بحثاً عن الحرية لدينهم، أو التماساً لفرص حياة
مستقرة بعيداً عن المسرح الجنوني الذي يديره القذافي كل يوم منذ ثلاث وعشرين
سنة، وقد قال أحد المواطنين الليبيين يصف الحال الذي عاشته البلاد: (إن
الآخرين لا يتصورون مدى معاناتنا، إننا شعب يعيش في عذاب يومي منظم من
الصباح حتى المساء) ، وهذه الكلمة المعبرة تكاد تختصر تاريخ القذافي ومفاجأته
الدائمة، أصيب بعقدة العظمة والكبرياء، فسمى جمهوريته بخمسة أسماء، وغير
التاريخ الهجري والميلادي، وغير أسماء الشهور، ولما قل المال بيده جعل الشهر
خمسة وأربعين يوماً، ورأى نفسه إماماً للمسلمين، وأيضاً فيلسوفاً للنظرية العالمية
الثالثة، وطبع ملايين النسخ من الكتاب الأخضر، وأنشأ معاهد لدراسته، وجعله
ثقافة للشعب الليبي، وبدد الملايين من الدولارات في أفريقيا وغيرها حتى يدرس
الناس أفكاره، وكتب الكتاب على الصخور، وأمر بدفنه في الصحارى، حتى إذا
جاءت قرون متأخرة وجدت هذا الفكر الغريب محفوظاً لها. ولا يتسع المجال
لشرح عقدة الكبر والعظمة عنده، فهي مسألة إجماع لمن علم أحوال هذه البلاد،
ويكفي نموذجاً لذلك أنه يمنع نشر أسماء الوزراء وممثلي اللجان الشعبية ولاعبي
كرة القدم حتى لا يشتهروا فينافسوه الشهرة.
وأمر آخر يهم المسلمين إدراكه في قصة القذافي مع الدول الغربية، أن
الحصار الجوي المفروض الآن - وربما أي حصار قادم يراد فرضه على القذافي -
لا يمس شخصه، ولكنه الضرر البالغ يقع على الشعب ويزيد من آلام الناس وسوء
حالهم، ولن يشعر به القذافي وحاشيته، واللص الثاني يدرك عمق هذه التصرفات
فإذلال الشعوب وإقناعها (إقناع كل أفرادها) بأن الغرب هو الذي يجب أن يطاع
وأن تخضع له القلوب والعقول من الشعوب قبل الحكام، تلك رسالة مهمة يرجو
المحاصرون إيصالها إلى أعماق كل محاصَر، حتى لا يفكر في يوم من الأيام
بمخالفة السادة هناك.
أما معمر القذافي فإنهم حين يثقون بالمعارضة فعلاً وأنها قادرة ومضمونة من
أي توجه إسلامي فلربما حسموا من خلالها أمرهم مع القذافي.
والمسألة الإسلامية في قضية ليبيا ذات بعد يجدر بالمسلمين وعيه وألا يلدغوا
من نفس الحجر مرات عديدة، لقد جعل القذافي من نفسه محارباً للإسلام والمسلمين
بلا هوادة، وألقى عليهم الألقاب اللاذعة القذرة التي لا يقولها إلا لسان فج كلسانه
سماهم (الكلاب الضالة) وسماهم إخوان الشياطين، لكنه لما حوصر تذكر الإسلام
وغازل العدو بقوله أنه وقف وما زال ضد الأصولية والأصوليين متملقاً للغربيين
بهذه الكلمات التي تعني: أبقوني بالله عليكم وسأحارب الإسلام كما تريدون، ثم هدد
مرة أخرى وقال بأسلوب تملق طفولي غريب: إن الأصوليين والجماعات الأصولية
عرضت علي أن أكون قائداً لها لأنه ينقصها وجود قيادة، وقال إنه رفض هذا
العرض. ثم كانت خاتمة المطاف في صلاة عيد الفطر عندما خطب الناس في العيد
وقال إنه سيعلن الخلافة الفاطمية في ليبيا، نفسها طريقة واحدة للمستبدين يفهمون
الإسلام وسيلة للاستمرار والسخرية بالجماهير الساذجة، يحارب الإسلام طوال
حياته وبكل وسيلة حتى إذا خاف الغرق ذكر الله كاذباً لا مخلصاً له الدين، ولكن
واستمراءاً للعبة المداورة والعبث والنفاق للغرب مرات عديدة والكذب على
الساذجين في عالمنا المسكين.
إن الغرب اليوم يلعب على أكثر من حبل بديل منها الجبهة ومنها ورثة
السنوسية ومنها ضباط القذافي، وشرط الوراثة البعد عن الإسلام الذي يسميه
الغرب الأصولية. وليس للشعب أي حق في اختيار من يرث القذافي، حقه فقط
كالشعوب العربية الأخرى أن يرقب الجلاد من الداخل متى سيجلده، أو يهدده أو
يغتصب ماله أو يمارس عملاً جنونياً مريعاً، وأن يرقب اللص الخارجي متى يرسل
عليه صاروخاً قاتلاً أو مستبداً وريثاً، أو أن يقطع عنه الطعام والشراب ويحرمه
حق التنقل ويغلق عليه السبل.
لله ما أعجب هذه الشعوب المسلمة المسلوبة كل حق إلا حق توزيع التملقات
لكل قادم ومستبد، يصب المتسلطون العذاب على الرؤوس فما تحير جواباً، وإذا
خلت هذه الجموع إلى نفسها عاذت بالبكاء على حظها العاثر وحزنها المقيم،
تتهامس وتتخافت بالإشارة إلى اللص الأول مرة، وإلى الثاني مرة، ولكن الهوان
أوهى العظام، وقعد بالهمم وهلعت النفوس فما تطيق حراكاً ففي داخل البلدان همس
وشكوى وزفرات خافتة ويد مكبلة أو يتوهم صاحبها أنها مكبلة، وفي الخارج السنة
طويلة وكلام كثير.
وإذا لم يزُل هذا الظالم رغم ذله وانتهاء قدرته فمتى يزيل الناس عنهم الظلم؟
وإن وقوف الشعب يتساءل: ماذا يريد القذافي من جهة، وماذا تريد به الدول
الغربية من جهة أخرى، لموقف محزن.(51/72)
الركن الاعلامي
أخبار قصيرة
- أعلن الرئيس الأذربجاني الجديد (يعقوب محمد) حملة تطهير في أوساط
المسؤولين المشتبه بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي ممن ما زالوا يشغلون مناصب
حكومية على شتى الأصعدة، وقال (حيدر أوغلو) أحد زعماء الجبهة الشعبية: إن
هناك مؤامرة لجعل (قره باغ) فلسطين ثانية، ولتشجيع أرمينيا لتصبح إسرائيل
ثانية في المنطقة، فالسيناريو نفسه يتكرر هنا.
الشرق الأوسط 7/ 9/ 1412
- اتهم مسؤول أذربجياني (مرتزقة من لبنان وسوريا) بممارسة التعذيب
والمشاركة في مجازر دموية ضد الأذربجانيين. ويتهم الأذربجانيون موسكو بممالأة
الأرمن في عملياتهم ضد القرى والمدن الأذربجانية في قره باغ وقيل إن القوات
(السوفياتية سابقاً) والمرابطة في المنطقة تشارك إلى جانب الأرمن.
الشرق الوسط 4 مارس 1992
- ذكر تقرير من قازان عاصمة تتارستان أن الشعوب المسلمة في روسيا
شكلت جبهة موحدة للعمل من أجل الحصول على استقلال ذاتي أكبر عن موسكو
سياسياً وثقافياً، ويضم الاتحاد الروسي حوالي 23 مليون مسلم، وأدى تفكك الاتحاد
السوفييتي السابق إلى بقائهم في روسيا في عدة من الجمهوريات ذات الاستقلال
الذاتي في مناطق تمتد من شمال القوقاز إلى سيبيريا وجاء تشكيل هذه الجبهة
بمبادرة من الجبهة الشعبية التتارية التي نظمت في وقت سابق المؤتمر الإسلامي
العام للشعوب المسلمة، في روسيا وقد حضر ذلك المؤتمر 400 مندوب، وقالت
مندوبة الجبهة: لقد نال الشعب الروسي حريته من الدكتاتورية الشيوعية وعليه أن
يفهم بأننا نطالب بحريتنا.. وأن يسمح لنا بممارسة حقنا في تقرير مصيرنا.
1 مارس 1992
- في حديث لمستشارة (الرئيس الروسي يلتسن: ستارونو تيوفا) لصحيفة
الحياة إبان عقد اللقاء العالمي الخاص (بإحياء الإسلام في بطرسبرج) قالت: لتفادي
انهيار الدولة الاتحادية الروسية ينبغي على الحكومة إيجاد لغة مشتركة مع ممثلي
الطوائف الإسلامية، وأضافت بأن الإسلام يجمع بين الدين والديمقراطية.
والمعروف بأن عدد المسلمين في هذه المدينة يناهز المائة ألف شخص عرفوا
بتمسكهم بإسلامهم، وقبل الثورة الشيوعية 1917 كان يصدر بها أربع صحف
إسلامية.
الحياة 19 فبراير 1992
- في مقابلة مع جريدة واشنطن بوست دعا (نكتور ميكيلوف) وزير الطاقة
النووية الروسي إلى التعاون مع أمريكا لمواجهه ما أسماه بالخطر النووي الإسلامي
وقال: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سيتغير العالم الإسلامي كثيراً، وسيحاول العالم
الإسلامي بالذات توحيد قواته وبناء قدرات عسكرية نووية.
الأسبوع 25/2/1992
- تصدر الآن في موسكو (نشرة الأنباء الإسلامية) باللغة الروسية وتوزع
على كافة المناطق الإسلامية في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق،
وفي لقاء لصحيفة الشرق القطرية مع رئيس تحريرها: (سعيد بله طالب) ذكر أن
فكرة إصدار هذه المجلة قد صاحبت مناخ النهضة الإسلامية وحرية العقيدة التي
كفلتها (البيرسترويكا) لكافة الأديان على أراضي الاتحاد السوفييتي السابق وقال:
إننا نبغي نشر المعرفة الحقة والصحيحة عن الإسلام وتعاليمه بين المسلمين الروس
الذين يقدر عددهم 12 مليون نسمة من إجمالي السكان ومن ثم إبراز القيم الإسلامية
السمحة أمام أصحاب الديانات الأخرى وخاصة المسيحية التي تشكل أكثرية في
الشعب الروسي مع توعية المسلمين ومعالجة التصورات الخاطئة لديهم، واسم
الصحيفة إسلامكى فينسينك (الأنباء الإسلامية) .
- أعلن صابر مراد رئيس جمهورية تركمانستان أن خبرة 70 عاماً في بناء
الشيوعية أظهرت أنه من المستحيل جعل كافة الناس أغنياء بدرجة متساوية في
الوقت الذي تحولوا كلهم إلى فقراء وعلل حل الأحزاب الشيوعية في تركمانستان
والدول المستقلة بخيبة الأمل من الأيديولوجيا الماركسية ولا بد من الاعتراف بأن
الشيوعية هي أكبر خرافات القرن العشرين.
الحياة 23 / 2 / 1992(51/76)
كتب - وثائق - مذكراتْ - إصدارات
ربما تكون الحرب الآتية مع العدو الصهيوني حول المياه وقد صدرت عدة
دراسات علمية حول الموضوع منها:
- الأمن المائي العربي / تأليف حسن العبد الله
من منشورات مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق. حيث يتناول
بالدراسة والتحليل مشكلة المياه في منطقة الشرق الأوسط التي باتت تشكل عنصراً
من أهم العناصر في الصراع العربي الإسرائيلي الذي اتخذ سابقاً شكل الصراع
المسلح ويتخذ حالياً شكل الصراع السياسي. والمؤلف يحاول جمع عناصر المشكلة
ومقوماتها وتتبع تطوراتها مع التركيز على المحاور الرئيسية وما يتهدد الثروة
المائية العربية من أخطار، وأشار الكاتب بأن أهمية المياه ستفوق أهمية النفط في
المستقبل مع أن الدول العربية لم تعط هذا الجانب الأهمية اللازمة إذ اقتصرت
اهتماماتها على الجوانب السياسية والأمنية. ووضح المؤلف أهمية مشكلة الأمن
المائي العربي وأنه مسألة خطيرة وحساسة ويجب معالجتها بجدية وحذر في آن
واحد لارتباطها بالأمن الغذائي، وقد حذر من الأطماع اليهودية التي تتحكم بمياه
الضفة الغربية وغزة والجولان وأنه لم يفلت من نفوذها سوى نهري الليطاني
واليرموك وأي محاولة في ذينك النهرين ستكون وبالاً على الأمن والسلام في
المنطقة.
الشرق الأوسط 48537
- الحصار: غباء وأخطاء السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط
تأليف: جون كولي:
الكتاب يحلل وقائع مداخلات أمريكا في الشرق الأوسط، ويغطي الأحداث
التي وقعت خلال السنوات الحرجة (1979-1991) أي منذ سقوط الشاه وحتى
اندلاع حرب الخليج الأخيرة، يوضح أن الدول الغربية وفي مقدمتها أمريكا وقعت
في أخطاء فادحة بالمنشة بسبب ما سماه بسوء الفهم الأمريكي حيال المواقف
الرسمية من الصراعات العرقية والدينية والسياسية، ويتحدث باستفاضة عن مسألة
احتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران وما رافقها من التباسات وما نجم عنها من
انعكاسات على العلاقات الأمريكية الإيرانية، ثم التورط العسكري في لبنان
والضربات الموجعة التي تلقتها أمريكا من تدمير مركز مشاة البحرية الأمريكي،
ويواصل استعراض الأحداث الأساسية التي وقعت في المنطقة وصولاً إلى قيام
حرب الخليج. والكاتب لا يخفي تعاطفه مع السياسة الأمريكية في محطاتها المختلفة
في المنطقة لكنه يعتبر أن أخطاء كثيرة وقعت أعاقت هذه السياسية وجعلتها محل
الشك حتى من قبل أصدقائها! ! وأدى بها إلى كره متنام من قبل أعدائها.
الحياة 1 مارس 1992(51/78)
الركن الاعلامي
إحصاء
- نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقريراً يشير إلى أن الأمية لم
تعد محصورة في العالم الثالث بل تنتشر أيضاً في عدد من الدول المتقدمة في أوربا، وقال التقرير بأن في أوربا ملايين الأميين الذين يشكلون مصدر تهديد للدور
الاقتصادي لبلدانهم، وينتقد التقرير الدول الأوربية لعدم توفيرها برامج تدريبية
كافية للكبار ولمساعدة العمال في تحسن مهاراتهم، ويستشهد بأمثلة خطيرة تشير إلى
حجم المشكلة وخطورتها..
ففي مصنع للورق في السويد هناك 700 عامل نصفهم بحاجة إلى تدريب جيد
لا يعرف مائة منهم القراءة والكتابة. وفي ألمانيا يعاني 3 ملايين شخص من الأمية
الفعلية وفي فرنسا فإن واحد من كل خمسة أشخاص من مجموع 500ألف شخص تم
استدعائهم بين عامي 1990-1991 للخدمة العسكرية لم يقدر على قراءة نص من
700 كلمة، وفي وقت قريب كانت دول أوربية كثيرة منها السويد وفرنسا تزعم
بأن المهاجرين القادمين إليها وحدهم هم الأميون، وحاولت بريطانيا مكافحة الأمية
بتنفيذ برامج خاصة لتعليم الكبار القراءة والكتابة، إلا إنها انهارت عندما توقفت
الحكومة عن تمويلها.
الشرق الأوسط 1 مارس 1992
- خصصت السعودية 3 مليارات ريال سعودي للإنفاق على البحث
والمحافظة على الآثار الموجودة في مناطق متعددة ويبلغ عدد المتاحف السعودية 9
متاحف وتكلفتها 120 مليون ريال سعودي.
- كشفت (اسكوتلانديارد) في تقريرها السنوي ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات
الجريمة في بريطانيا خلال عام 1991م وقد ارتفعت معدلات الجريمة إلى أكثر من
925000 جريمة خلال عام 91 أي بنسبة 10. 9 % وتوقعت أن معدلات
الجريمة ستستمر في الارتفاع طوال العام، وبانتهاء عام 1992 ستتخطى معدلات
الجريمة رقم المليون. وقد بدأت دوائر الشرطة وضع سياسات حازمة لمواجهة
ارتفاع معدلات الجريمة كما بدأت نقابة ضباط الشرطة حملة واسعة ضد الإفراج
عن المجرمين بكفالة مالية.
- في دراسة علمية نال عليها الباحث محمد شعبان درجة الدكتوراه من كلية
الإعلام بجامعة القاهرة عن موضوع المخططات اليهودية للتحكم في وسائل الإعلام
لتشويه صورة المسلمين والإسلام ذكر الباحث وجود35 مركزاً إعلامياً يهودياً في
عدد من دول العالم وبخاصة في أمريكا وأوربا لإعداد السياسات الإعلامية وتشكيل
الرسائل الإعلامية لكافة وسائل إعلامهم في تلك الدول ويقوم عدد كبير من خبراء
الإعلام، وتخصص لهذه المراكز ميزانيات تصل إلى مليار و300 مليون دولار
سنوياً. وتؤكد الدراسة أن هناك ما يقارب من 400 محطة تلفزيون أوربية
وأمريكية مملوكة لمراكز وجهات وشركات يهودية و1150 محطة إذاعية و 2880
جريدة ومجلة وأن هناك ما يقرب490 دار نشر تصدر حوالي 3 آلاف كتاباً سنوياً
بجميع اللغات وأن 87% من الرسائل الإعلامية وسائل الإعلام المملوكة لهذه
الجهات موجهة للإسلام والمسلمين مستخدمة الدعاية غير المباشرة ضدهم مثل
دعوى أن الإسلام ضد التقدم ويدعو للعنف تتردد في 59% من الرسائل الإعلامية
تلك وفي مجال الإذاعة تبث يومياً 1136 ساعة من المواد الإذاعية اليهودية
الموجهة تتضمن مواد إعلامية مشوهة عن الإسلام والمسلمين وهي موجهة إلى
111 دولة في مختلف أنحاء العالم.
الشرق عدد 1456
- أفادت إحصائية ضمن ندوة علمية بمراكش أن 295 حالة إيدز قد رصدت
في بلدان المغرب العربي منها 98 حالة بالمغرب و 92 حالة بالجزائر و105
حالات في تونس.
البيان 13 /8/ 1412(51/80)
أسرار الختان تتجلى
في الطب الحديث
د. حسان شمسي باشا [*]
لم يكن يخطر ببالي في يوم من الأيام أن أكتب عن الختان.. ولكن الدافع إلى
كتابة هذا المقال ما نشرته حديثاً (مارس ومايو 1990) أشهر المجلات الطبية
الأمريكية عن الختان. فقد يعجب المرء حين يعلم أن 61%-هـ8% من أطفال
أمريكا يُختنون بعد الولادة.. واليهود في أمريكا قلائل.. وكذلك المسلمون..
فنصارى أمريكا إذن يختتنون..
لماذا هذا؟ ونحن نعلم أن النصارى لا يختتنون؟ .. ونعلم أيضاً أن أوربا
المسيحية كانت تعادي الختان..
وحين قرأت أن أشهر أطباء الأطفال في أمريكا ينادون بضرورة إجراء
الختان روتينياً عند كل مولود، قلت في نفسي: الحمد لله الذي أظهر لهم فوائد
خصلة من خصال الفطرة، أخبرنا عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وبقراءة ما نشر في موضوع الختان في المجلات الطبية الحديثة فكان هناك ما
يربو على مئة مقال، نشرت جميعها في السنوات القليلة الماضية في أشهر المجلات
الطبية الأمريكية والعالمية.
الختان في الأديان السابقة:
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين بالقَدّوم» . وقال ابن القيم: (وقد
روي أن إبراهيم كان أول من اختتن، واستمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى
في المسيح فإنه اختتن، والنصارى تقر بذلك ولا تجحده، كما تقر بأنه حرم
الخنزير) .
واهتم بالختان اليهود على وجه خاص، فقد جاء في سفر التكوين:
(هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك، يختن كل ذكر) . ويبدو أن الختان مشروع في النصرانية إلا أن النصارى قد حرفوا نصوص كتابهم
وأعرضوا عن تعاليمه، فقد ورد ذكر الختان في إنجيل برنابا: (أجاب يسوع:
الحق أقول لكم إن الكلب أفضل من رجل غير مختون) .
الختان في الإسلام:
وردت في السنة النبوية عدة أحاديث عن الختان، فقد أخرج البخاري ومسلم
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب،
وتقليم الأظافر، ونتف الإبط. وروى الإمام أحمد حديث شداد بن أوس مرفوعاً:
(الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) .
ماذا يقول علماء طب الأطفال في أمريكا عن الختان؟
كتب البروفسور Wisewell - وهو رئيس قسم أمراض الوليدين في
المستشفى العسكري بواشنطن - مقالاً في مجلة American Family Physician في عدد آذار (مارس) 1990 جاء فيه:
(لقد كنت في عام 1975 من أشد أعداء الختان، وقد شاركت في الجهود
التي بذلت حينئذ للإقلال من نسبة الختان. إلا أنه في بداية الثمانينات أظهرت
الدراسات العلمية ازدياداً في نسبة التهاب المجاري البولية عند الأطفال غير
المختونين. ومع ذلك فلم أكن أقترح آنئذٍ جعل الختان روتينياً. ولكن.. وبعد
تمحيص دقيق وإجراء دراسة موضوعية للأبحاث والدراسات التي نشرت في
المجلات الطبية عند الختان.. فقد وصلت إلى نتيجة مخالفة.. وأصبحت من
أنصار جعل الختان أمراً روتينياً يجري عند كل طفل.
وليس هذا فحسب بل إن التقرير الذي أصدرته عام 1989 الأكاديمية
الأمريكية لطب الأطفال قد جاء مخالفاً للتقرير الذي صدر عام 1970، وتراجع
عن عدائه للختان. وأكد حديثاً الفوائد الطبية العظيمة للختان عند الأطفال..) .
أجل لقد تغيرت مواقف وآراء.. وتراجع الذين كانوا من أشد الناس عداوة
للختان.. وأصبحوا من أكثر الناس حماساً له.
عادت الفطرة البشرية لتثبت نفسها من جديد إنها الفطرة التي لا تتغير على
مر العصور: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] . وختم البروفسور مقاله
الشيق بالقول:
(وفي يوم 8 آذار 1988 صوّت أعضاء الجمعية الطبية في كاليفورنيا
بالإجماع على أن ختان الوليد وسيلة صحية فعالة. لقد تراجعت عن عدائي الطويل
للختان، وصفقت مرحباً بقرار جمعية الأطباء في كاليفورنيا) .
الختان ونظافة الأعضاء الجنسية:
كتب الدكتور (شوين) في مقالته الرئيسية في مجلة England New ... Medicine of Journal عام 1990 يقول:
(لا شك أن ختان الوليد يسهل نظافة الأعضاء الجنسية على مدى العمر وفي
مختلف الظروف البيئية. فالختان يمنع تجمع الجراثيم الممرضة تحت القلفة في
فترة الطفولة.
ويقول الدكتور (شوين) - وهو من أشهر أطباء الأطفال في العالم - مؤكداً
أهمية نظافة المناطق الجنسية في الوقاية من سرطان القضيب: (إن الحفاظ على
نظافة جيدة في المنطقة الجنسية أمر عسير، ليس فقط في المناطق المتخلفة من
العالم بل حتى في دولة كبرى ومتحضرة كالولايات المتحدة التي تضم العديد من
الأعراق مع اختلاف شائع في العادات والتقاليد الاجتماعية، وحتى في بلد متحضر
أصغر، غالبية سكانه من عرق واحد، فإن الأدلة العلمية تشير إلى أن العناية
بنظافة الأعضاء التناسلية ما تزال سيئة. ففي دراسة أجريت على أطفال المدارس
البريطانيين غير المختونين، وجد أن العناية بنظافة الأعضاء الجنسية سيئة عند
70% من هؤلاء الأطفال.
وفي دراسة أخرى من الدانمارك، يتبين وجود التصاقات في القلفة عند 63%
من الأطفال غير المختونين في سن السادسة من العمر) .
هذا ما يؤكده رئيس فريق علمي كبير في أمريكا نهض لبحث أمر الختان. لقد
أتى الإسلام بدواء لهذا المشكلة، إنه الختان الذي أرشدنا إليه رسول الإنسانية -
صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا] [الروم: 30] .
الختان والتهاب المجاري البولية:
أكد عدد من الدراسات العلمية الحديثة التي نشرت عام 1989 أن احتمال
حدوث التهاب المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين يبلغ 39 ضعف ما هو
عليه عند المختونين. ففي دراسة أجريت على أكثر من 400 ألف طفل وطفلة وجد
البروفسور (ويزويل) ارتفاع نسبة التهاب المجاري البولية عند الأطفال الذكور
نتيجة لحدوث الالتهاب عند الأطفال غير المختونين.
وقدر الباحثون أنه لو لم يجر الختان في الولايات المتحدة، فستكون هناك
عشرون ألف حالة أخرى من التهاب الحويضة والكلية. وتقول مجلة اللانست
البريطانية الشهيرة في مقال نشر عام 1989: (إن ختان الأطفال في الفترة الأولى
من العمر يمكن أن يخفض نسبة التهاب المجاري البولية عند الأطفال بنسبة 90%) .
الختان وسرطان القضيب:
نشرت المجلة الطبية البريطانية B.M.J عام 1987 مقالاً عن هذا
المرض جاء فيه: (إن سرطان القضيب نادر جداً عند اليهود، وفي البلدان
الإسلامية حيث يجري الختان أثناء فترة الطفولة) .
وسرطان القضيب مشكلة هامة في عدد من بلدان العالم فهو يشكل 12 -
22 % من كل سرطانات الرجل في الصين وأوغندا وبوتوريكو.
ونشرت مجلة المعهد الوطني للسرطان دراسة أكدت فيها أن سرطان القضيب
ينتقل عبر الاتصال الجنسي، وأشارت إلى أن الاتصال الجنسي بالبغايا يؤدي إلى
حدوث هذا السرطان.
ونشرت المجلة الأمريكية لأمراض الأطفال Am.j.DIS.Child حديثاً
مقالاً جاء فيه: (إن الرجل غير المختون يعتبر معرضاً للإصابة بسرطان القضيب، في حين يمكن منع حدوثه إذا ما اتبع مبدأ الختان عند الوليدين) . نعم.. هذا ما
يقرره علماء الطب اليوم، وهذا ما قرره الإسلام منذ أربعة عشر قرناً!
الختان والأمراض الجنسية:
جاء في مقابلة مجلة New England Journal of Medicine المنشور
عام 1990 (إن الختان قد ساعد على منع حدوث التهابات الحشفة والوقاية من
حدوث الأمراض الجنسية عند الجنود الأمريكان إبان الحرب العالمية الثانية وخلال
حرب كوريا وفيتنام) .
وأكدت دراسة حديثة من استراليا وجود ازدياد واضح في حدوث أربعة
أمراض جنسية عند غير المختونين، وهي الهربس التناسلي Genital Herpes
وداء المبيضات Candidiasis، والسيلان Gonorrhea، والزهري
Syphilis.
الختان ومرض الإيدز:
(الختان يقي من مرض الأيدز) ذاك هو موضوع مقال نشر حديثاً (1989م)
في مجلة Science الأمريكية. فقد أورد المقال ثلاثة دراسات علمية أجريت في
أمريكا وأفريقيا. وأكدت هذه الدراسات انخفاض نسبة الإصابة بمرض الإيدز عند
غير المختونين) .
أليس هذا بالأمر العجيب! ! فحتى أولئك الذين يجرؤون على معصية الله
بالشذوذ الجنسي يجدون خصلة من خصال الفطرة يمكن أن تدفع عنهم غائلة هذا
المرض الخبيث.
ولكن لا يظننَّ أحد أنه إن كان مختوناً فهو في مأمن من داء الإيدز.. فهو
يحدث عند المختونين وغير المختونين، وإن كانت نسبة حدوثه أقل عند المختونين.
وهكذا تثبت الأبحاث العلمية أن ما جاء به المصطفى هو الحق، وأنه لا
تبديل لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
__________
(*) للمؤلف كتاب عن هذا الموضوع بعنوان (أسرار الختان تتجلى في الطب الحديث) ، إصدار مكتبة السوادي بجدة.(51/82)
منتدى القراء
اللكنوي وابن تيمية
راشد آل عبد الكريم
لقد قرأت ما كتب الأخ محمد عبد الله آل شاكر في العدد 49 من عرض
لكتاب (إمام الكلام) وقد عجبت لما كاله الكاتب للمؤلف وكتابه من المديح مع عدم
التنبيه على هفواته الشنيعة في كتابه هذا وكتبه الأخرى التي تبين شخصية المؤلف
وعلمه وعقله.
ولتوضيح ما أقصد أقول إن للمؤلف - عفا الله عنه ورحمه - حاشية على
كتابه (إمام الكلام) - وهذه ذكرها الكاتب - تهجم بها المؤلف اللكنوي على أئمة
أعلام بكلام يبعد جداً أن يكون منصفاً لمن لا يخالفه في الرأي - كما ذكر الكاتب.
انظر إلى هجومه الظالم على الأئمة: ابن تيمية وابن القيم والشوكاني حيث
يقول في حاشيته غيث الغمام ص 65: (.. لا يقول بكون حديث أبي بكرة وأمثاله
مجملاً متشابهاً إلا من هو خفيف العقل كابن القيم وأضرابه وابن تيمية وأشياعه
والشوكاني وأنصاره..) ! ! ثم ينبز هؤلاء الثلاثة بأنهم: (خفيفي الأحلام) ثم
يذكر - غير المقلد هذا - بعد أسطر كلاماً عن بعض العلماء يذكرون فيه ذلك عن
هؤلاء الأئمة! ! ثم ينقل كلاماً في ذم شيخ الإسلام ابن تيمية (انظر ص 74-75)
وقصص ونقولات متهافتة ينقض آخرها أولها ويترك (غير المتعصب هذا!) كتب
الشيخ وعلمه وعقله وتحقيقه مكتفياً بما قاله من سبقه (فيقلدهم) في ذلك: ويقول
عن شيخ الإسلام: إن علمه أكبر من عقله! ! .. سبحان الله! ابن تيمية صاحب
(درء تعارض العقل والنقل) وصاحب (الاستقامة) و (الجواب الصحيح) وسالك
(منهاج السنة) وغيرها من الكتب يقول عنه هذا - عفا الله عنه - إن علمه أكبر من
عقله، وإنه خفيف العقل؛ ولا أظن كل تآليفه تبلغ شيئاً أمام مصنف واحد لابن
تيمية؟ !
والحق أن من يحكم - بعلم - بين اللكنوي وخصومه هؤلاء لا يجد بداً من أن
يقول: إن كان هناك أحد يستحق أن يقال فيه أن علمه أكبر من عقله فهو اللكنوي
نفسه - عفا الله عنه. ومع ما في كتبه من الفوائد إلا أنها لو جمعت كلها لم تكن
شيئاً عند مؤلفات شيخ الإسلام التي نصر الله بها السنة قديماً وحديثاً، وكانت
كصاحبها شجى في حلوق أهل البدعة والتعصب والتقليد الأعمى.
كتبت هذا - والله يعلم - لا أقصد الغض من الشيخ اللكنوي، فأنا ممن قرأ
بعض مؤلفاته، واستفاد منها، كالأجوبة الفاضلة، والرفع والتكميل، وإقامة الحجة، وإمام الكلام، ولكن إحقاقاً للحق بالدفاع عن الأئمة الأعلام، ولتبيين بعض الأمور
عن شخصيته - رحمه الله - حتى لا ينخدع بكلامه أحد.
وفي الختام اسأل الله الكريم أن يغفر للشيخ اللكنوي خطأه، ويثيبه على
اجتهاده، وجميع علماء المسلمين، وأن يحشرنا وإياهم في زمرة سيد المرسلين -
صلى الله عليه وسلم-.. والله أعلم.(51/88)
بريد القراء
* الأخ عبد الصمد محمد قارى
نرحب بمشاركتك، فكرة قصيدتك جيدة، ولكن تحتاج إلى إقامة الوزن، حبذا
لو عرضت إنتاجك الشعري على خبير بالشعر، وسوف ننشر ما يكون صالحاً بإذن
الله. وشكراً لكم على ثقتكم.
* الأخ أبو عبد الله المطرفي
قصيدتك جيدة، وسوف ننشرها في المستقبل، لسبب تراكم كثير من القصائد
التي وصلت قبلها، وشكراً لك على ثقتك بنا، ونرجو مواصالة المشاركة.
* الأخ طه جبر
أرسل رسالة أشاد فيها بالمجلة وببعض المقالات فيها كمقالات الدكتور أحمد
إبراهيم خضر عن علماء الاجتماع والعداء للصحوة الإسلامية، ويشكو من عدم
وصول المجلة لمدينته ويعد بالمشاركة.
ونحن نرحب بالأخ طه جبر ومشاركته، ونسأل الله أن نكون عند حسن ظنه
وظنون القراء الكرام ونرجو أن يتهيأ للمجلة أن تصل إلى كل من يحب قراءتها.
* الأخ ظافر الدوسري
أرسل لنا أنه أحد المعجبين والمتابعين لقراءة المجلة شهرياً لما تتضمنه من
مقالات ومواعظ وشعر ممتاز ونقل لأخبار المسلمين، ويطلب منا أن نكتب عن
أحوال المسلمين في يوغسلافيا وسيريلانكا.
البيان: نشكرك على اهتمامك، وقد كتبنا شيئاً عن يوغسلافيا، ونرجو أن
يتيسر لنا المزيد من ذلك ومن الكتابة عن أحوال المسلمين في سيريلانكا.
* الأخت أم أسماء
نشكر لكم ملاحظتك القيمة على القصيدة المنشورة في العدد 48 ومما جعلنا
نمرر ذلك أننا فهمنا قصد الشاعر أنه يعني الرجال أصحاب الموقف.
* الأخ محمد بن ظافر الشهري:
نشكركم على رسالتكم والنصح الوارد فيها، ونحن نرحب بكل اقتراح ونصح
يأتي من القراء، ونسأل الله العون على تطبيق النافع من ذلك، نرجو منكم دوام
المشاركة.
هذا ونعتذر عن الأخطاء المطبعية التي وردت في قصيدة (من كابل إلى
القدس) في العدد (48) ، نعيد الأبيات التي وردت فيها تلك الأخطاء مصححة وهي:
وقيل لها فَلَمْ تسمع لقولٍ ... يُحذِّرها ولم تَقْبل عتابا
لَئِنْ سُمنا جَحَافِلَكُم عذاباً ... فإن إلَهنَا أقسى عِقابا
هي الإكسير إن دارت رَحَاها ... يعودُ كُهُولُنا فيها شبابا
نُسيل دِماءهُ وَعداً علينا ... ونجعلُها لأفْرُسِنا خِضَابا
أتى دُباً يُزَمجرُ فانبرينا ... لهُ حتى طَرَدْناهُ ذُبَابا
فإن سُيُوفَنَا ظمأى جياعٌ ... تُحبُّ الهامَ منك والرقابا
* الإخوة الذين يبعثون إلينا بإنتاجهم الشعري لنشره:
هناك كمية كبيرة من الشعر تردنا لنشرها في البيان ونحن ننشر ما نراه مناسباً
وصالحاً. وكثير مما يرد لا يصلح إما لأنه شعر غير مستقيم المعنى وإن كان جيد
الموضوع؛ وإما أن موضوعه مبتذل ومطروق؛ أو لأنه شعر مناسبات فات أوانها
لا جديد فيه.
وسوف ننشر تباعاً قصيدة أو قصيدتين لا أكثر من أفضل ما يصلنا من القراء
الكرام. ونطلب من الشعراء أن لا يتعجلوا كتابة الشعر، وأن لا يخوضوا هذا
المعترك إلا بعد الاطمئنان إلى وجود الموهبة، والدراسة العميقة الواسعة للشعر
الجيد وشروط جودته، وكذلك دراسة النقد الأدبي الذي هو بمكانة الحارس لهذا
المجال.
* من الأخت منيرة محمد جاءتنا هذه الرسالة:
في كل يوم أسمع أخبار الجرائم، وأخبار الأعراض التي تنتهك والأموال التي
تسرق، أتساءل: هل جميع ما سمعته قد حدث فعلاً؟ هل صحيح أن الفساد طم
وعمّ، وإلى متى يبقى جرحنا ينزف؟ أسئلة كثيرة تدعوني لأقول: أعلى أرض
الإسلام تفعل هذه المنكرات؟ ! بماذا نداوي جراح المجروحين؟ ماذا سنقول لمن
أجهد نفسه في تربية ابنه وكان يحلم له بمستقبل سعيد ثم يفتش عنه فيجده قد ضاع
في عالم آخر ماذا سنقول لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى قال لنا:
«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي» إني أوجه كلماتي لأبناء الإسلام ودعاة الإسلام ليقوموا بواجبهم.(51/90)
مراجعات في عالم الكتب
الكتاب والسنة
يجب أن يكونا مصدر القوانين
بقلم العلامة: أحمد محمد شاكر
تقديم: أحمد بن صالح السيف
في وقت تأزمت فيه التبعية في البلاد الإسلامية لقوانين البشر الطاغوتية [أَلَمْ
تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً
بَعِيداً] [النساء: 60] ، وما زالت الأمة تجر ذيول الهزيمة والتخلف في جميع
مجالاته بما جره القائمون على شؤونها، على إثر تخليها وإعراضها عن أمر ربها
وابتغائها حكم الجاهلية: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء: 59] .
حري بنا أن نقدم رسالة في أصلها محاضرة ومشروع قدمه العلامة المحدث
الشيخ أحمد شاكر - القاضي الشرعي وعضو المحكمة الشرعية العليا (سابقاً) في
مصر 1309-1377 هـ - رحمه الله رحمة واسعة، بعنوان (الكتاب والسنة
يجب أن يكونا مصدر القوانين) يقدمها كلمة حق في وجه ذلك الادعاء الموبوء الذي
تولى كبره آنذاك - الوزير عبد العزيز فهمي - حينما دعا إلى كتابة العربية
بالحروف اللاتينية وأتبعه بادعائه المشين ألا وهو (أن التشريع الإسلامي لا يصلح
لهذا الزمان) وذلك في حقبة مرة من الزمن والتي ما زال أولئك الأذناب ينبشون هذه الادعاءات بين الفينة والأخرى بصورة أكثر نفاقية ودهاء.
سأقف وإياك - أخي القارئ - مع الشيخ في أبعاد طرحه لقضيته: وجوب
جعل الكتاب والسنة مصدراً للقوانين، حيث بدأه في تحميل مصر عبء العمل إلى
الرجوع والأخذ بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- (نعم ومصر بلد
إسلامي وهي تقعد الآن بين الأمم مقعد الصدارة في ممالك الإسلام وإلى ما تصنع
ينظر المسلمون في أنحاء الأرض وبها يقتدون فيهتدون أويضلون) في حين أن
مصر واقعاً وللأسف قد قادت بقوانينها الوضعية البشرية جل البلاد الإسلامية -
العربية - ممن أخذها جملة أو تفصيلاً.
والشيخ يتعوذ بالله من أن تضل مصر بعد أن ملكت أمرها واستقلت شؤونها
فتحمل إثم العالم الإسلامي كله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من
سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص
من أوزارهم شيء» .
والله شرع هذه الشريعة الكاملة للناس كافة في كل زمان ومكان بعموم بعثة
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبختم الرسالة والنبوة به وأنها ليست خاصة بأمة
دون أمة وأن فيها ما هو ثابت لا يقبل التغيير وما هو جزئي بحسب اختلاف الدهور
والعصور.
ثم يتناول رحمه الله آثار القوانين الوضعية - الأجنبية - في نفوس الأمة،
فقد صبغتها بصبغة غير إسلامية: (وإليها يرجع أكثر ما نشكو من علل في أخلاقنا، في معاملاتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك من أمور
التربية والتعليم وقضايا المرأة والإعلام) .
وبين أن هذه القوانين قد أجرمت في حق الأمة والدين أكبر الجرائم فبثت في
كثير من الناس روح الإلحاد والتمرد على الدين أو حمتها وساعدت على بقائها
ونمائها. مؤكداً ذلك ببعض الأمثلة من القوانين ومدى مخالفتهما الصريحة للكتاب
السنة كجرائم القتل والزنا وغيره..
ثم يطرح الشيخ - رحمه الله - خطة عملية لرجال القانون في مصر وممن
يسير على خطاها للعمل مع العلماء بحكم أنهم أصحاب السلطة في البلد وبيدهم
الأمر والنهي مع تركهم للتعصب لتشريع الإفرنج وآرائهم جانباً، وموجز الخطة
العملية كما يرى الشيخ: (أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون كلهم ثم
تستنبط من الفروع ما تراه صواباً مناسباً لحال الناس وظروفهم مما يدخل تحت
مواعد الكتاب والسنة ولا يصادم نصاً ولا يخالف شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة) .
ثم يعرض الشيخ نقاشاً مع صاحب الادعاء المشين:
(فإني أرجو أن أظهر الناس على مبلغ علم الباشا فيما هو أيسر من ذلك العلم، وهذا الرجل الذي بلغ علمه بالقرآن وباللغة وبعلوم الإسلام ما ترى، والذي
أشرب في قلبه قوانين الإفرنج حتى لا يسع غيرها لم يكد يمسك القلم حتى خلق فرصة لا أدري كيف خلقها لإبراز ما يحمل قلبه من ضغن على التشريع الإسلامي ولتقديس قوانين الإفرنج والإشادة بها والذوذ عنها خشية أن يفوز) القائمون بالدعوة إلى تشريع مقتبس من الكتاب والسنة موافق لروح الإسلام وعقائد المسلمين) .
ليتصدى بعدها لادعاءات فهمي لنقضها والتحذير منها بالأدلة قوله: إن الدين
لله وأما سياسة الإنسان فللإنسان: (وأن الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس
على ما يحقق مصالحهم مؤسساً عمله على الحق والعدل على أن لا يمس العقائد
وفرائض العبادات) ومعنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته وجعله دين
عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون
الإنسان.
وأعجب ما في الأمر أن يسأل معالي الباشا السيد محب الدين الخطيب هل
يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئاً من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من
فرائض الدين؟
ثم يجيبه الشيخ جواباً حاسماً:
(نعم إن القوانين الإفرنجية والنظم الأوربية فيها كثير مما يخالف عقائد
المسلمين وفيها تعطيل كثير من فروض الدين.
فيها إباحة الخمور علناً والترخيص رسمياً ببيعها بتصريح كتابي يوقع عليه
وزير من وزراء الدولة أو موظف كبير من موظفيها، بل إن فريقاً من رجال الدولة
الكبار لا يخجلون أن تدار عليهم الخمور في حفلات رسمية فتنفق عليها أموال
الدولة بحجة أن هذا إكرام لمدعويهم من الأجانب أو بما شئت من حجج تجردت من
الحياء حتى إن الدهماء ومن يسمونهم بسمة (الطبقة الراقية) اقتدوا بسادتهم
وكبرائهم واستغلوا هذه القوانين فيما يذهب عقولهم ويذيب أموالهم فانحطوا إلى
الدرك الأسفل.
وفيها إباحة الميسر بكل أنواعه، وفيها إباحة الفجور بطرق عجيبة من حماية
الفجار من الرجال والنساء.
واختلاط الرجال والنساء، ثم المصايف وما فيها من البلاء.. وفيها إبطال
الحدود التي نزل فيها القرآن كلها وغير ذلك ...
ثم يحقق الشيخ بقوله: لسنا ننعى على هذه القوانين كل جزئية فيها بالضرورة
نفسها ففيها فروع في مسائل مفصلة تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة،
ولكننا ننكر المصدر الذي أخذت منه وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في
التشريع، وقد أمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله، فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام
نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كل عصر وكل مكان مسترشدين بالعقل
وقواعد العدل، ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح
الإلحاد والتمرد على الإسلام في كثير من المسائل الخطيرة والقواعد الأساسية، فلا
يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهي من قواعد الإسلام، وأن
يصبغوها صبغة أوربية مسيحية أو وثنية إذا ما أرضوا عنهم أعداءهم ونالوا ثناءهم
ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث وهم في نظر الشرع مخطئون إذا ما
أصابوا مجرمون إذا ما أخطأوا، أصابوا على غير طريق الصواب، إذ لم يضعوا
الكتاب والسنة نصب أعينهم بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله) .(51/93)
الصفحة الأخيرة
وظيفة الصحافة
عبد القادر حامد
إن وظيفة الصحافة من حيث المبدأ تنوير الرأي العام، وتزويده بالحقائق التي
تكشف له الطريق، وإرساء أسس صحيحة للحكم على الأمور وهي - باختصار -
أداة تثقيف وتوجيه.
ولكن هذه الأداة قد تقود إلى نتائج عكسية، أو لا توصل إلى نتيجة، إيجابية، فبدلاً من التنوير يكون التعتيم، وبدلاً من كشف الحقائق تحاول سترها بأغطية
صفيقة، وعندما يتطلب الأمر تحديد معاني الكلمات والمصطلحات تتعمد التضليل
والغموض المقصود.. كل ذلك يكون عندما تتحكم بهذه الأداة عقليات معينة تريد
فرض أفكارها على غيرها، وتحب أن يساق المجتمع سوقاً إلى ما تريد.
أن المجتمعات التي تبتلى بمثل هذا النوع من الصحافة تصاب بأمراض نفسية
يصعب علاجها، وينزل بها الانفصام والانقسام، وتدب بها الفوضى الفكرية،
وتتزلزل فيها القيم الثابتة، ويحل محلها فكر مشوه يراد له أن يملأ الفراغ، فلا
القديم النافع يبقى؛ ولا الأفكار (الجديدة) تضرب بجذورها، لأنها تفقد المناخ
المناسب لذلك.
وهذه هي الصحافة الشائعة بين الناطقين بالعربية اليوم، صحافة الرأي
الواحد، والحزب الواحد، صحافة الفكر العلماني الذي يصول ويجول، لا رقابة عليه ولا تضييق، يتبارى فرسانه بالترجمة عن غيرهم ويدعون الإبداع، ويريدون بهذا المسخ أن يغيروا ويبدلوا، ويهدموا ويبنوا، ويخيل إليهم غرورهم أنهم مصلحون وهم المفسدون، وأنهم مستقلون أحرار وهم العبيد يخدمون الفساد والمفسدين، ويعيشون مرتزقة لا يتقنون إلا التزلف والتملق لأصحاب الأمر والنهي، والهجاء المقذع والحسد لأهل الخير والإصلاح؛ إنهم الذين يضع فيهم كل فرعون ثقته ليكونوا عقله ولسانه، وقليل منهم من يكون له شجاعة سحرة فرعون فيثوب للحق بعد خدمة الباطل، ويصحو ضميره فيكفّر عما اقترب من تزوير للحقائق وتزويق للأباطيل.(51/100)
ذو الحجة - 1412هـ
يونيو - 1992م
(السنة: 6)(52/)
الافتتاحية
من للمسلمين؟
حملت لنا الأنباء المذابح المروعة التي وقعت ولا تزال على مسلمي البوسنة
والهرسك الذين كانوا إلى وقت قريب جزءاً من يوغسلافيا، هذه المذابح الوحشية
التي يمارسها الصرب المتعصبون والتي فاقت بكثير ما فعله إخوان لهم من الموارنة
بحق المسلمين الفلسطينيين في (صبرا وشاتيلا) . مئات الألوف شردوا وقرى
بكاملها أتى عليها الذبح فلم ينج منهم شيخ ولا وليد، كل هذا لم يحرك ساكناً من
أكثر الدول التي تحكم المسلمين، لم يحتجوا، ولم يشجبوا ولم يسحبوا
سفراءهم [1] بَلْه أن نتكلم عن الدعم المادي لمسلمين يتعرضون لأبشع أنواع الظلم.
كما حملت لنا الأنباء خبر هجوم نصارى الأرمن على قرى المسلمين في إقليم
(ناخيتشفان) واحتلالهم لهذا الإقليم لعزل تركيا عن الاتصال بمسلمي أذربجيان،
وللوصول إلى مناطق الأرمن في أذربجيان ومع أن تركيا لها حق قانوني في إقليم
(ناخيتشفان) نتيجة معاهدة مع (ستالين) روسيا، ولكنها لم تحرك ساكناً لقمع الأرمن
وإبعادهم عن إيذاء المسلمين، واكتفت بالتهديد، حتى لا يقال عنها بأنها دولة
متعصبة تحمي المسلمين.
أما في (البوسنة والهرسك) فقد بلغت وحشية الصرب إلى درجة جعلت الدول
الغربية في موقف حرج أمام العالم فاضطرت إلى استخدام قرارات الأمم المتحدة
لمقاطعة الصرب اقتصادياً كما استخدمتها سابقاً مع غير الصرب، وربما كانت
الدول الغربية أسرع من غيرها في مقاطعة الصرب والكلام عن وحشيتهم.
تأثرت الشعوب الإسلامية لما يحدث، وتجاوبت مع مسلمين خرجوا لتوهم من
جحيم الديكتاتورية الاشتراكية، وبدأت حملات التأييد المادي والمعنوي، واستطاع
المحسنون والمؤسسات الإسلامية إيصال هذا الدعم إلى مسلمي البوسنة. وهذا شيء
يبعث على الارتياح، فالشعوب الإسلامية بدأت تدرك حجم التحدي الذي يتعرض له
المسلمون في العالم.
هذا جانب من الصورة والجانب الآخر هو خروج بلاد بكاملها من ربقة
الشيوعية والاستعباد ومحاولة الرجوع إلى الإسلام، وهؤلاء بحاجة شديدة إلى العلم
والدعوة بين صفوفهم. هذه الأوضاع لا تحتمل التأجيل، بل هي بحاجة إلى (غرفة
عمليات) دائمة الاجتماع لبحث أوضاع المسلمين ومساعدتهم. فمن يتبنى هذه
الأوضاع؟ ليس هناك إلا العلماء والدعاة الذين هم قادة الأمة، وهم المكلفون بما
يجري الآن على الساحة الإسلامية، وباجتماعهم واتحادهم سيسمع الناس كلمتهم
ويستطيعون تقديم العون المادي ونشر العلم، والدعوة بين صفوف الجهلة من
المسلمين.
هذا المكان شاغر لهم، وإذا كان علماء الملل الأخرى هم شرارها وآكلو
أموالها، فإن العلماء في الملة الإسلامية هم خيارها وقادتها المتبوعون فليتصدوا لهذه
المهمة التي هي من عمل الأنبياء والمرسلين.
وفي هذه الأيام التي يمارس فيها المسلمون شعائر عبادة عظيمة وهي الحج
فإننا نتذكر أبا الأنبياء، إبراهيم -عليه السلام-، الذي كان أمة وحده وقد تصدى
للشرك وحده، وهاجر وحده وبنى أول مسجد للتوحيد.
إنه موسم مناسب لأن يتذكر الدعاة والعلماء أن دورهم المطلوب منهم كبير
وخطير، وأنهم يستطيعون فعل الكثير، فالساحة مفتوحة والشعوب متلهفة، تنتظر
القيادة الحكيمة والعلماء الأتقياء، الذين يتفانون في مصلحة الدعوة، ويعلمون أن
التحدي الكبير لا يقابل إلا بالعمل الكبير ألا وهو اجتماع الكلمة.
__________
(1) بعضهم سحب سفيره بعد قرار الأمم المتحدة بمقاطعة الصرب.(52/4)
عوامل ومؤثرات في
تدوين العقيدة الإسلامية
عثمان جمعة ضميرية
انتهينا فيما سبق إلى أن هناك جملة من العوامل الداخلية في نشأة علم العقيدة
واستقلاله عن العلوم الأخرى، وقد عرضنا لتلك المؤثرات في الحلقة السابقة.
وفيما يلي إيجاز العوامل الخارجية التي ساهمت في نشوء وتطور التدوين في
الجانب العقائدي.
- 1 -
ويمكن أن نجمل هذه العوامل الخارجية في احتكاك المسلمين بغيرهم من
أصحاب الديانات والمذاهب الفلسفية، إما عن طريق اللقاء المباشر والجدل مع
أصحابها، أو عن طريق الترجمة التي بدأت في عهد الدولة الأموية، ثم اتسعت في
عهد الدولة العباسية، وكان للخليفة المأمون أثر كبير في هذا، حيث فعل ما لم
يفعله السابقون، وهو أنه ترجم الكتب الخاصة بالإلهيات والأخلاق وأمثال ذلك مما
سموه بـ (ما وراء الطبيعة) .
وليس من هدفنا - هنا - أن نعرض بالتفصيل لحركة النقل والترجمة وأثرها
والمنهج الذي سارت عليه والطريق الذي اتخذته. فحسبنا إشارة سريعة إلى
الاحتكاك المباشر بين المسلمين واليهود من جهة، وبين المسلمين والنصارى من
جهة ثانية، وكذلك ما كان من احتكاك بالمجوس، ثم بالفلسفة اليونانية وغيرها،
عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وتهيأت الأسباب لذلك.
- 2 -
فاليهود الذين عاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد الهجرة، هم الذين كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج ببعثة نبي جديد، هؤلاء هم الذين
كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وناصبوه العداء من اللحظة الأولى،
وتنوعت وسائلهم في الصدَّ عن الدعوة، والمماطلة والجدال، وإلقاء الشبهات،
والحرب الفكرية والنفسية.
وكان القرآن الكريم يتولى مناقشتهم والردَّ عليهم وبيان مؤامراتهم، كما
أوضح تحريفهم لكتبهم المنزلة، ورسم صورة صادقة لطبيعتهم ونفسيتهم.
وبعد أن خرج يهود من الجزيرة العربية - في أعقاب مؤامراتهم ونقضهم
للعهود - ليقوموا بدور كبير في عدائهم لهذا الدين، ومنهم من دخل فيه ظاهراً -
وهم على حقد وضغينة - بدأ اتصالهم بالمسلمين لإثارة الفتنة، فكان لعبد الله ابن
سبأ دوره في الفتنة في عهد عثمان -رضي الله عنه-، ثم تتابعت مظاهر الفتنة في
نشر فكرة الإمام المعصوم والرجعة التي تلقفتها عنه الفرق الباطنية [1] ، وأثاروا
الجدل بين المسلمين حول الذات الإلهية والصفات. واليهود معروف عنهم التشبيه
والتجسيم كما هو في كتبهم. وقد انتقلت هذه الأفكار إلى التراث الإسلامي، مما
عرف بـ (الإسرائيليات) في كتب التفسير والحديث.
وأثاروا أيضاً بين المسلمين الجدل حول الجبر والاختيار، وغير ذلك من
أمور عقائدية.
وعندئذ قام المسلمون بالردَّ على مفتريات يهود ودحض شبهاتهم، وناقشوا
عقائدهم، واصطنعوا لذلك منهجاً يقوم على النظر والدليل، فكان من ذلك تراث
إسلامي ضخم من كتب العقيدة والملل والنّحل..
- 3 -
وأما النصارى؛ فقد بدأ الجدال بينهم وبين المسلمين في هضبة الحبشة أولاً -
عند الهجرة الأولى للمسلمين - في حقيقة المسيح، وفي الكلمة وغيرها من المسائل
التي تدور حول العقيدة الإسلامية في المسيح.
ثم وفد نصارى نجران إلى المدينة وجادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -
في شأن عيسى -عليه السلام-، وقد دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى
المباهلة، كما في سورة آل عمران، آية (61) .
ثم وصل الإسلام إلى الشام والعراق ومصر، فبدأت النصرانية تنازعه نزاعاً
فكرياً شديداً [2] . وثار الجدل حول طبيعة المسيح، وحول مسائل الألوهية،
وفكرة الجوهر والعَرَض، والأقانيم الثلاثة، والوحدانية، وفكرة الخطيئة والفداء
والصلب، وبلغ الجدل ذروته من الشدة بعد (يوحنا الدمشقي) - طبيب الأمويين
الذي وضع للنصارى أصول الجدل مع المسلمين - وبلغ ذروته وشدته على يد
(يوحنا النقيوسي) المصري الذي رحل إلى الحبشة وبدأ يرسل رسائله إلى أقباط
مصر، يحاول فيها مناقشة العقائد الإسلامية، والحيلولة دون اعتناق الأقباط للإسلام. ثم تتابع النقاش في عهد العباسيين.
وساعد هذا الجدل في توجيه الأنظار إلى معالجة مسائل جديدة ومشكلات
عقائدية ظهرت على سطح المجتمع الفكري. وقد يكون (علم الكلام) أيضاً - كما
سمي في فترة من الزمن - نتيجة التأثر بالكلام النصراني أو علم اللاهوت المسيحي!
- 4 -
وكان لترجمة كتب الفلسفة اليونانية والرومانية وإقبال بعض المسلمين عليها،
أثر في بعض المسلمين الذين فتنوا بها، فحاولوا التفلسف في ضوئها، وتأثروا بها
منهجاً وموضوعاً، حين راحوا يفسَّرون تعاليم الإسلام في ضوء هذه الفلسفة،
وحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام، وقرؤوا القرآن الكريم على ضوء الفكر
اليوناني - على حد تعبير المفكر محمد إقبال رحمه الله-[3] .
وقام فريق من علماء المسلمين يزيفون آراء الفلاسفة وتهافتهم، ويقيمون
صرح التفكير الإسلامي على أسس مغايرة لها، وكان نتيجة ذلك كثير من الكتب
والمؤلفات في الجانب العقائدي.
وليست هذه الفلسفة هي كل ما اتصل به المسلمون وردُوا عليه، فهناك أيضاً: المذاهب الغُنُوصِيَّة الشرقية [4] ، وقد قابل الإسلام هذه المذاهب في جميع البلدان
التي دخلها بلا استثناء؛ فقابلها في العراق وفي إيران، وقابلها في مصر في شكل
الأفلاطونية الُمحْدَثَة.
وقد بدأ غنوص تلك المذاهب يهدم الإسلام، منذ قوَّض الإسلام عقائد تلك
المذاهب وطقوسها القديمة. وكانت من أخطر المذاهب الهدامة التي جالدت
الإسلام.. حاربته بالسيف والقلم، وهاجمته بقوة وعنف. على أن هذه الدعوة ما زالت آثارها حتى الآن تتمثل في غلاة الشيعة وفي الإسماعيلية وفي
البهائية [5] .
اتصل المسلمون بهذه المذاهب السالفة، وناقشوا اصحابها، وردَّوا عليها،
ومن خلال المناقشة والرد كانت تتضح - كذلك - الجوانب العقدية التي يدعو
الإسلام إليها، فنشأت الكتابة في العقيدة الإسلامية.
- 5 -
ومن هذا العرض الموجز للعوامل والمؤثرات في نشأة وتدوين علم العقيدة
يمكن القول بأن هذه النشأة كانت (استجابة لضرورة طبيعية ملحّة، تمثلت في
مشكلات سياسية واجتماعية، نجمت في حياة المسلمين، وباتت تهدد - باستفحالها
المطّرد - البناء الديني الذي قام عليه المجتمع الإسلامي. كما تمثلت في تحديات
دينية وفلسفية مع الأديان والفلسفات القديمة، باتت تروج بين المسلمين وتهدد بنية
العقيدة الإسلامية. فهذه المشكلات والتحديات دفعت الفكر الإسلامي - في سبيل
الدفاع عن مرجعيته العقدية - إلى أن يتجه إلى معالجة تنظيرية، فكانت نشأة علم
العقيدة بمنزلة الاستجابة لتحديات ناجمة من صميم واقع المسلمين) [6] .
ولذلك ينبغي الالتفات إلى التحديات المعاصرة ومناقشتها وبيان حكم الإسلام
فيها، بدلاً من الإغراق في دراسة قضايا وأمور انتهت منذ أمد بعيد أو لم يعد لها
أثر في حياة المسلمين، ويمكن أن يلتفت المسلمون اليوم للاهتمام بقضايا كثيرة مثل
قضية الحاكمية، والمذاهب المعاصرة كالعلمانية والقومية والعقلانية، وقضايا
الإنسان ودراسة علاقته بالكون ومن حوله ... الخ وهذا ما وجدناه في كتابات رائدة
للأستاذ سيد قطب -رحمه الله- عن (التصور الإسلامي) والأستاذ محمد قطب -
حفظه الله- عن (مذاهب فكرية معاصرة) .. وفي سلسلة (قضايا العصر على
ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة) للشيخ محمد سرور زين العابدين.
- 6 -
ولئن كانت مواجهة تلك العوامل - التي أشرنا إليها - أمراً ضرورياً، فإن
بعضها قد سبب انحرافاً في المنهج الذي سلكه بعض العلماء، متمثلاً في علم الكلام، الذي وقف منه علماء السلف موقفاً متشدداً، وحذروا منه تحذيراً كبيراً.
وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-:
(ولقد وقع في طور من أطوار التاريخ الإسلامي أن احتكت الحياة الإسلامية ...
الأصيلة المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح بألوان الحياة الأخرى التي وجدها
الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك، ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد.
واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية - وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد،
واستسلموا لموجات الرخاء ... وجدت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث
السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية - كان بعضها في وقت مبكر
منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية - اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية
والمباحث اللاهوتية التي ترجمت إلى اللغة العربية ... ونشأ عن هذا الاشتغال -
الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين، وفي الأندلس أيضاً -
انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل، التصور الذي جاء
ابتداءً لإنقاذ البشرية من هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات، وردَّها إلى
التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة،
للبناء والتعمير، والارتفاع والتطهير، ويصون الطاقة أن تُنْفَق في الثرثرة، كما
يصون الإدراك البشري أن يُزَجَّ به في التيه بلا دليل.
ووجد جماعة من علماء المسلمين: أنه لا بد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك
بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله -سبحانه - وصفاته، وحول القضاء والقدر، وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة.. إلى آخر المباحث التي
دار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي، ووُجِدت الفرق المختلفة: خوارج
وشيعة ومرجئة، قدرية وجبرية، سنية ومعتزلة.. إلى آخر هذه الأسماء.
كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فُتِن بالفلسفة الإغريقية - وبخاصة
شروح فلسفة أرسطو - أو المعلم الأول كما يسمونه - والمباحث اللاهوتية
(الميتافيزيقية) وظنوا أن الفكر الإسلامي لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو
مظاهر أبُهَّته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي - زي التفلسف والفلسفة - وكانت
له فيها مؤلفات!
وكما يفتن منا اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك
الأزياء وقتها، فحاولوا إنشاء (فلسفة إسلامية) كالفلسفة الإغريقية، وحاولوا إنشاء
علم الكلام على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو!) [7] .
__________
(1) انظر: رؤية إسلامية، للأستاذ محمد قطب ص (77-79) ، عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام تأليف سليمان بن حمد العودة ص (37) وما بعدها.
(2) نشأة الفكر الفلسفي، للنشار: 1/62.
(3) انظر تجديد الفكر الديني في الاسلام، تأليف محمد إقبال ص (8-9) .
(4) الغنوص أو الغنوسيس، كلمة يونانية الأصل، معناها المعرفة غير أنها أخذت معنى اصطلاحيا هو التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا، أو هو تذوق تلك المعارف تذوقاً مباشراً بأن تلقي في النفس دون استدلال أو برهنة عقلية انظر نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، للدكتور على سامي النشار: 1/186-187، المعجم الوسيط: 2/664.
(5) الفكر الفلسفي، للدكتور النشار: 1/62-63.
(6) في فقه التدين: فقهاً وتنزيلاًً للدكتور عبد المجيد النجار: 2/ هـ2-26 (كتاب الأمة) .
(7) خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب ص (11-12) .(52/7)
خواطر في الدعوة
عالم الاقتصاد
(2)
محمد العبدة
قال لي صاحبي: ما كتبته في الخاطرة السابقة عن علاقة المسلم بعالم
الاقتصاد فيه عموم ونحن بحاجة إلى الأمثلة التفصيلية، قلت: سأتكلم عن الحالة
الفردية المبسطة جداً، وليس هنا مجال الكلام عن التخطيط الاقتصادي، أو أهمية
الاقتصاد. حالة الفرد المسلم الذي يشعر بأهمية (المال) وكيف يساهم في التخفيف
من ضغوط الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاستهلاكي المسلط على رؤوسنا، ومن
الأمثلة التفصيلية التي يعرفها ولا شك كثير من المسلمين ولكنها للذكرى، ولمزيد
من إعطاء الأهمية لعالم الاقتصاد:
* لماذا لا يتعلم الشاب المسلم مهنة أو أكثر من المهن التي يحتاجها الإنسان
بين الحين والآخر يتعلمهما ولو من قبيل الهواية وليس لكسب الرزق من خلالها،
فيستطيع إصلاح أمور منزله، أو مركوبه، أو شتى حوائجه كما كان يفعل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلح نعله ويرقع ثوبه وقد منَّ الله سبحانه وتعالى
على سيدنا داود بأن علمه [صنعة لبوس لكم] ، وفي المجتمع الأوربي الآن قلَّ
أن يخلو منزل من أدوات إصلاح المنزل، إصلاح الكهرباء أو الجدران أو
الحديقة..
* لماذا لا نحرص على موضوع الاستثمار، الذي يفيد الفرد والمجموع،
والاستثمار يأتي من تجمع (المال) ومن ثمَّ إدخاله في دورة الإنتاج الاقتصادي
(زراعة وصناعة وتجارة) وتجمع المال قد يأتي من التوفير ولو كان قليلاً، ودورة
الإنتاج هذه تخفف من البطالة التي ينتج عنها من المشاكل ما الله به عليم.
إن الشاب المسلم الذي يجد نفسه عالة على أسرته أو أصدقائه ويجد من نفسه
القوة والنشاط والفاعلية ثم لا يستطيع أن يعمل شيئاً، كل هذا سيؤثر في نفسيته بل
وبطريقة تفكيره.
* يلاحظ أن كثيراً ممن يملك المال في مجتمعاتنا يميل إلى استثمارها في
الأمور الاستهلاكية، فهو إما مستورد لحاجات صنعت في الخارج أو يقوم بالوساطة
التجارية وهذا كله حباً في السهولة والربح السريع، وبعداً عن المشاريع التي تفيد
المسلمين في الزراعة والصناعة.
* قد تجد المسلم المتدين ولكن زوجته تنفق أموالاً طائلة على الكماليات في
المسكن والملبس وهو يرافقها ولا يجد حرجاً في ذلك وقد لا يخطر في باله أن هذه
الأمور مما يجب الاهتمام بها والتنبه لها، وأين هذا من صنع السيدات الفاضلات
في مجتمعاتنا الإسلامية قبل مجيء عصر الاستهلاك، حين كانت المرأة المسلمة
تدير المنزل أحسن تدبير، فلا إسراف ولا تقتير، بل وتخرّج أجيالاً تمرسوا على
هذا التدبير.
هذه أمثلة بسيطة والموضوع بحاجة إلى مزيد من الوضوح، وإني أجد نفسي
لم أعبر تماماً عما أريده من (المسلم الاقتصادي) .(52/14)
من كان معه فضل من زاد
فليعد به على من لا زاد له
هيثم الحداد
إن الناظر بتأمل في أحوال كثير من المسلمين اليوم ليكاد يجزم أنهم يعيشون
لدنياهم فقط، وكأن الآخرة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وعذابها المقيم، أحلام
ليست واقعاً سننتهي إليه ولا محالة، وإلا فما هو سبب قعودنا عن كثير من أعمال
الطاعات التي هي في مقدورنا دون كبير كلفة أو بالغ مشقة.
ولنضرب لذلك مثلاً:
هل فكر أحدنا في التوفير للدعوة، نعم التوفير للدعوة، ألسنا كلنا اعتدنا
التوفير لأمور مادية بحتة وقد تكون ليست ذات بال، فبعضنا يقتر على نفسه أحياناً
ويصنع ما يسمى بترشيد الإنفاق من أجل أن يجمع مبلغاً من المال لشراء سيارة
جديدة وربما لشراء شيء من الأثاث، والكثير يعمل ذلك من أجل أن يشيد بيتاً
يؤمن له مستقبله ومستقبل أولاده، ومع هذا لم نفكر في تشييد مستقبلنا السرمدي.
قرأت عن مشروع تتبناه هيئة خيرية، وهو عبارة عن بناء مجموعة من
المساجد في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) ، يكلف بناء
المسجد الواحد منها أثني عشر ألف ريال تقريباً.
يا إخوة ألسنا كلنا نعلم أجر بناء المساجد وتعميرها، ألسنا كلنا نحفظ حديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ،
لم لا نفكر في التوفير من أجل بناء بيت في الجنة، لم نبخل على أنفسنا [ومَن
يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ] .
انظر إلى هذا المبلغ الذي يستطيع أحدنا توفيره بسهولة، والذي لو أردنا
توفيره من أجل شراء سيارة لما ترددنا في فعل ذلك طرفة عين. وإليك مثلاً آخر،
تقول تلك الهيئة: إن تكلفة المصحف الواحد وإيصاله إلى تلك البلاد ثلاثة ريالات،
أتدرون ما هي الثلاث ريالات! إنها قيمة قطعة من الحلوى أو قارورتين من
المشروبات الغازية، ألا نستطيع الامتناع عن تلك المشروبات بضعة أيام من أجل
أن نشتري مصحفاً لأحد أبناء المسلمين، إنه صدقة جارية يبقى لك بعد مماتك،
ولعل قارئه كلما قرأه دعا لمن تبرع به، وكم ينشر من علم وخير، ولا تستكثر يا
أخي الأجر، فالله كريم واسع الفضل والعطاء، وكلتا يديه يمين سحاء الخير، ليلاً
نهاراً.
ولو جال أحدنا بخاطره وتمعن في مصروفاته اليومية فإنه سيجد نفسه قادراً
على التخلي عن كثير منها، واستبدالها بما ينفعه في أخراه، [وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
المُتَنَافِسُونَ] .
ولقد شرع الإسلام التكافل المالي بين المسلمين، ومن المواساة والترابط وسد
الحاجات وفي الحديث [1] صورة رائعة لتطبيق هذا النظام، وذلك عندما يوجد في
المجتمع المسلم بسبب بعض الظروف طوائف بلغت من الفقر حداً لا تستطيع معه
تلبية حاجياتها الأساسية، فعند هذه الحالة يلزم الإسلام أصحاب فضول الأموال أن
يخرجوا من فضول أموالهم - ولو من غير مال الزكاة - ما يسد حاجة إخوانهم.
إننا نعيش اليوم أحوال ضرورة توجب علينا ما لا يجب في الأحوال العادية،
ذلك أننا نعلم يقيناً بوجود حاجة ماسة لكثير من المسلمين في عدة جوانب، فكثير
من - المسلمين يموتون جوعاً أو عطشاً أو برداً، فهم بحاجة إلى المال للحفاظ على
حياتهم، والإبقاء على مهجة المسلم واجب.
وكثير منهم يتنصرون بسبب عمل النصارى الدؤوب في الدعوة إلى دينهم،
وقعودنا نحن عن هذا الواجب، فأولئك المسلمون بحاجة إلى المال الذي يوظف دعاة
ويمدهم برسائل الدعوة، والحفاظ على الدين من أهم الواجبات.
وهناك أسرى كثيرون للمسلمين في بقاع شتى، وبلاد إسلامية محتلة من قبل
الكفرة، وتلك وهذه تحتاج إلى المال من أجل فكاك أسرها، وقد قال الإمام مالك -
رحمه الله تعالى-: (يجب على الناس افتداء أسراهم وإن استغرق ذلك جميع
أموالهم) .
لقد شرعت الزكاة لسد تلك الحاجات وأشباهها، فإذا انسدت حاجتهم لم يكن
هناك مسوغ لأخذ غير الزكاة من أموال الأغنياء، وللأغنياء عندئذ التوسع في
المباحات ما لم يبلغوا حد الإسراف.
لكن قد يحدث أن لا تفي أموال الزكاة بسد تلك الحاجات، إما لقلتها أو لأن
كثيراً من الأغنياء امتنعوا عن أدائها ولا سلطه تلزمهم بدفعها، أو حينما لا يتمكن
من إيصالها إلى المحتاجين في الوقت المناسب، كأن يرى المسلم معصوماً يشرف
على الهلاك جوعاً أو عطشاً، أو أسيراً مسلماً حانت فرصه لافتدائه وإن لم يفتد
الآن فسيقتل، وغير ذلك من الصور. فمن أجل هذه الحالات وأشباهها أوجب
الفقهاء على المستطيع، وهو من يجد فضل مال أن يخرج من ماله ما يسد حاجة
المحتاج. وإن كان العلماء قد اختلفوا في مسألة (هل في المال حق سوى الزكاة) ،
إلا أنه عند تحرير محل النزاع نجد أن هناك قدراً مشتركاً لم يختلفوا فيه، فقد اتفقوا
على وجوب نفقة الزوجة والأولاد مثلاً، وهذا لا شك مال يجب على الإنسان
إخراجه غير مال الزكاة، وقد اتفقوا على وجوب إطعام المشرف على الهلاك جوعاً، ولو من غير مال الزكاة.
فبناء على هذا يظهر أن محل الخلاف بين الفريقين في إيجاب حق دوري،
مقدر بقدر معين يلزم كل من ملك نصاباً، في جميع الأحوال، فبهذا يكون موضوعاً خارج عن محل الخلاف [2] . ويدل على ذلك أن القائلين بعدم إيجاب مال سوى الزكاة في المال هم أنفسهم يستثنون الأحوال العارضة، فهذا الجصاص الحنفي يقول: (إن المفروض إخراجه هو الزكاة المفروضة إلا أنه تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء، نحو الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه) [3] . وهذه المسألة تشهد لها أدلة كثيرة:
فأولها: القواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة، التي جاءت بحفظ مصالح
العباد، والتي حرمت دين المسلم، ونفسه، وعرضه، وعقله، وماله، وجعلت
تلك الأشياء من الضروريات التي يجب المحافظة عليها وإن ترتب على ذلك بعض
المفاسد.
وما من شك أن مفسدة ذهاب الدين، أو هلاك النفس أعظم من مفسدة أخذ مال
الغير الذي يفيض عن حاجته الأساسية. ووضوح هذا الأمر يجعل من غير
المستغرب أن ينقل الإجماع على ذلك، وممن نقل الإجماع ابن العربي المالكي،
والقرطبي، قال ابن العربي المالكي: (وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق ...
العلماء) [4] . والقواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة كافية في إيجاب هذا الأمر، لكني أورد طائفة من الأحاديث والآثار التي توجب ذلك، مقرونة بكلام العلماء، زيادة في البيان وتقوية في الحجة. فمن تلك الأدلة:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا
منهم» رواه البخاري ومسلم، فقد سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان يفعله الأشعريون إذا أرملوا وبشرهم بأنه منهم وهم منه، وهذا دليل على أنه لا يريد أن يكون المجتمع طبقتين: طبقة مترفة تكدس الأموال في جيوبها، وطبقة معوزة لا تجد غنى يغنيها، وفي ذلك من الفساد ما فيه) [5] .
وقد صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة -رضي الله عنهم -: أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم أيها على السواء. قال ابن حزم: فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة - رضي الله عنهم- لا مخالف له منهم [6] .
وعن أبي بكر -رضي الله عنه-: أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة، من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس، أو كما قال، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي بعشرة [7] ، قال ابن حجر في فتح الباري:
(وفيه التوظيف في المخمصة) . [8]
وفي حديث مسلم في القوم الذين جاؤوا رسول الله، مجتابي النمار متقلدي
السيوف عامتهم من مضر فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لما رأى
ما بهم من الفاقة، فخطب الناس وحثهم على الصدقة فتصدق الناس حتى تجمع
كومان من الطعام، ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تهلل وجهه
كأنه مذهبة ... فتمعُّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث دليل
على كراهته وجود مضطرين في المجتمع المسلم وفيه من يملك مواساتهم، وإزالة
الضرورة عنهم، فلما رأى إسراع الصحابة، رضوان الله عليهم، إلى مواساة
هؤلاء تهلل وجهه ورضي بما صنعوا، إيماء إلى أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون
عليه أعضاء المجتمع المسلم كله [9] .
آثار الصحابة:
لقد كان عام الرمادة بمثابة الاختبار، لواقعية هذا النظام، ولمقدرته على
تجاوز الأزمات، ولقد كان للفاروق عمر بن الخطاب مواقف رائعة جداً في ذلك،
تعكس عظمة الإسلام وروعة نظامه.
وقد أورد ابن سعد في الطبقات جملة من الآثار عن عمر بن الخطاب في
موقفه من المجاعة تدل كلها - إما نصاً أو معنى - على وجوب التكافل بين
المسلمين، وأن على أصحاب فضول الأموال أن ينفقوا من فضول أموالهم، حتى
يسدوا حاجات الفقراء، بل وعلى والي المسلمين أن يأمرهم بذلك، وهذا يكون إذا
لم تف أموال الزكاة، أو أموال بيت مال المسلمين بذلك.
فمن هذه الآثار:
أن عمر- رضي الله عنه- كتب إلى عمرو بن العاص عام الرمادة: (بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى العاصي بن
العاصي، سلام عليك، أما بعد أفتراني هالكاً ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك؟
فيا غوثا، ثلاثاً) . [10]
وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب حرم على نفسه اللحم عام
الرمادة حتى يأكله الناس [11] .
وعن ابن عمر أن عمر قال لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أدخل
على كل أهل بيت عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بحيا فعلت،
فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم [12] .
وقال -رضي الله عنه-: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول
أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين) قال ابن حزم في إسناد هذا الأثر
إسناده في غاية الصحة والجلالة [13] .
وعن علي بن أبي طالب: (إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم
بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه) [14] .
نصوص العلماء في ذلك:
لقد كانت هذه المسألة من الأهمية بمكان عند العلماء، حتى أنهم بحثوها في
مواطن متعددة وإليك جملاً من نصوصهم:
الحنفية:
قال الجصاص: (إن عارية هذه الآلات - يعني القدر والفأس ونحوها - قد
تكون واجبة في حال الضرورة إليها، ومانعها مذموم مستحق للذم، وقد يمنعها
المانع لغير الضرورة، فينبىء ذلك عن لؤم، ومجانبة أخلاق المسلمين، وقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [15] .
وعند المالكية:
في أحكام القرآن لابن العربي: (وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع
أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء.
وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك
أموالهم، وكذلك إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟
مسألة نظر أصحها عندي وجوب ذلك عليهم [16] .
وقال القرطبي: (واتفق علماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء
الزكاة، يجب صرف المال إليها، قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن
استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع، وهو يقوي ما اخترناه) [17] .
وفي الشرح الكبير لمختصر خليل: (وقاتل المضطر جوازاً، رب الطعام،
ولو مسلماً، إن امتنع من دفعه له، عليه، أي على أخذه منه، بعد أن يعلم ربه،
أنه إن لم يعطه قاتله، فإن قتل ربه - رب الطعام - فهدر) [18] .
الشافعية:
في كتاب الأطعمة:
قال في مغني المحتاج: (أو وجد طعام حاضر غير مضطر له لزمه أي غير
المضطر إطعام مضطر معصوم مسلم أو ذمي أو نحوه كمعاهد، ولو كان يحتاج إليه
في ثاني الحال على الأصح للضرورة الناجزه بخلاف غير المعصوم كالحربي، فإن
امتنع وهو أو وليه غير مضطر في الحال، من بذله بعوض لمضطر محترم، فله
أي المضطر قهره على أخذه، وإن احتاج إليه المانع في المستقبل، وإن
قتله..) [19] .
وفي نهاية المحتاج: (ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة
عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال، على القادرين وهم من عنده
زيادة على كفاية سنة لهم ولممونهم، وهل المراد من نفع ضرر من ذكر: ما يسد
الرمق أم الكفاية؟ قولان، أصحهما ثانيهما، فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن
على ما يليق بالحال من شتاء أو صيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما من
أجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع، كما هو واضح) [20] .
الحنابلة:
بحثت في عدة مواطن من كتبهم:
في كتاب الصيد والذبائح، فعند المغني: (وجملته أنه إذا اضطر فلم يجد إلا
طعاماً لغيره، نظرنا فإن كان صاحبه مضطراً إليه، فهو أحق به ولم يجزئ لأحد
أخذه منه، لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه الضرورة، وإن أخذه منه
أحد فمات لزمه ضمانه، لأنه قتله بغير حق، وإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه،
لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم، فلزمه بذله كما يلزمه
بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لأنه
مستحق له دون مالكه، فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله
المقاتلة عليه فإن قتل المضطر فهو شهيد، وعلى قاتله ضمانة، وإن آل أخذه إلى
قتل صاحبه فهو هدر، لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكنه أخذه بشراء أو
استرضاء..) [21] .
وفي منار السبيل: (ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه كثياب لدفع برد، ودلو، وحبل لاستقاء ماء، وجب على ربه بذله مجاناً بلا عوض، لأنه
تعالى ذم على منعه بقوله [ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ] ، فإن احتاج ربه إليه فهو أحق
بالملك من غيره لتميزه بالملك) [22] .
في كتاب الديات: (وإن اضطر إلى طعام وشراب لغيره فطلبه منهم فمنعه
إياه مع غناه عنه في تلك الحالة، فمات بذلك، ضمنه المطلوب منه لما روي عن
عمر أنه قضى بذلك، ولأنه اضطر إليه فصار أحق به ممن هو في يده وله أخذه
قهراً، فإذا منعه إياه تسبب إلى إهلاكه بمنعه ما يستحقه، فلزمه ضمانه، كما لو
أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك) [23] .
وفي قواعد ابن رجب الحنبلي: (القاعدة التاسعة والتسعون: ما يدعو إلى
الانتفاع به من الأعيان ولا ضرر في بذله لتيسيره وكثرة وجوده أو المنافع المحتاج
إليها يجب بذله مجاناً بغير عوض في الأظهر.. ثم نقل عن شيخ الإسلام أن
المضطر إلى الطعام إن كان فقيراً وجب بذله له مجاناً لأن إطعامه فرض كفاية لا
يجوز أخذ العوض عنه بخلاف الغني..) [24] .
قول ابن حزم:
كما مر فإن ابن حزم نافح عن هذا الأمر بقوة، وحشد له جملة من الأدلة،
وقد قال -رحمه الله تعالى-: (وفرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بذلك، ولا في سائر أموال
المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء
والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف وأعين المارة) .
قول ابن تيمية:
قال -رحمه الله-: (فأما إذا قدر أن قوم اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان
إذا لم يجدوا مكاناً يأوون إليه، إلا ذلك البيت فعليه أن يسكنهم، وكذلك لو احتاجوا
إلى أن يعيرهم ثياباً يستدفئون بها من البرد، أو إلى الآت يطبخون بها، أو يبنون
أو يسقون يبذل هذا مجاناً، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلواً يستقون به أو قدراً
يطبخون فيها، أو فأسا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه
قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، والصحيح وجوب بذل ذلك مجاناً إذا كان
صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله
تعالى: [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *
ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ] وفي السنن عن ابن مسعود قال كنا نعد الماعون عارية الدلو
والقدر والفأس) [25] .
تنبيهان:
الأول: قد يتسائل البعض فيقول هذه شيوعية أو اشتراكية؟
والجواب شتان ما بين الثرى والثريا، وكما قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصى
إن النظام المالي للشيوعية يقوم على أسس منها:
1- إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتاً وإحلال الملكية الجماعية بدلاً منها.
2- المساواة في الأجور.
3- تطبيق مبدأ من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.
وهذه أسس خيالية تصادم الفطرة ولذلك فشلت فشلاً ذريعاً كما هو الواقع. أما
النظام الإسلامي، فيما سبق الحديث عنه، فيرمى إلى أن لا يوجد في المجتمع
الإسلامي مضطرون لا يجدون حاجاتهم الأساسية، مع تمكن البعض من سد
حاجاتهم وإزالة الضرورة عنهم، ولا يرى الإسلام مانعاً من أن توجد فوارق بين
أبناء المجتمع وهذا ما نص عليه القرآن في مواطن عدة [26] ، قال تعالى:
[ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً] .
الثاني: لا يقولن قائل أن وجوب سد حاجة الفقراء، مقصورة على الأغنياء،
ذوي المال الوفير، بل إن وجوب ذلك منوط بكل من وجد فضلاً من المال كما مر
آنفاً في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي الآثار المروية عن عمر.
الخاتمة:
وبعد هذه الأدلة الناصعة، وكلام العلماء الجلي: أقول: أيها المسلمون ويا
أيها الدعاة، ألسنا نرى بأم أعيننا ونسمع بآذاننا عن إخوان لنا في الدين يموتون كل
يوم جوعاً، ومرضاً، وخوفاً وتشريداً، أفلا نقول لأنفسنا كما قال عمر بن الخطاب: (هل نرى هؤلاء يموتون، ونعيش نحن، بل ونتنعم، ونتلذذ بكل ما لذ وطاب،
ولا يفوتنا من الكماليات شيء؟) ، إننا بحق في حاجة إلى الأخوة الإسلامية كما
جاء بها الإسلام.
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- حيث قال: (بينما نحن في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً فقال رسول الله: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له) فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل رواه مسلم.
(2) ولهذا لم أعرض وجهة نظر الفريق القائل بأن في المال حقاً سوى الزكاة.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/131.
(4) أحكام القرآن لابن العربي 1/95-6، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/242.
(5) نظرية الضرورة لجميل مبارك ص 342.
(6) المحلى 6/158.
(7) الحديث رواه البخاري 6/587 رقم 3581.
(8) ص 6/600.
(9) نظرية الضرورة 342.
(10) الطبقات 3/ 310.
(11) 3/313.
(12) الطبقات 3/ 316.
(13) المحلى 6/ 158.
(14) رواه ابن حزم 6/158.
(15) أحكام القرآن للجصاص 3/ 584.
(16) أحكام القرآن 1/59-60.
(17) تفسير القرطبي 2/ 242.
(18) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/116 بتصرف يسير.
(19) 4/ 308-309.
(20) نهاية المحتاج 7/ 149.
(21) المغني مع الشرح 11/80.
(22) انظر منار السبيل كتاب الأطعمة 2/419.
(23) المغني مع الشرح 8/580، وانظر منار السبيل كتاب الديات 2/335.
(24) قواعد ابن رجب 228.
(25) مجموع الفتاوى 28/98.
(26) للتوسع انظر فصل الشيوعية من كتاب مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب.(52/16)
من هدي السلف الصالح
اتباع المحكم.. وترك المتشابه
حسن حسن إبراهيم
المحاجة وإقامة الأدلة لها طرق ومسارات تصل بصاحبها إلى الحق، وتكشف
وجه المسألة من أقرب طريق، فإذا تجاوز الحوار بين طرفين هذا الحد، خرج إلى
حكايات وتفريعات لا تنضبط بقواعد محكمة، ولا يحدها تسلسل منطقي من
الاستدلال.. فتدرر المحاورات في حلقات مفرغة وتتفرع إلى منزلقات ومتاهات
فيتمزق الموضوع.. والسبب هو ترك الأمور المحكمة إلى متشابهات الأدلة.
إذا تبين لك ذلك فلا تعجب إذا رأيت كل مبتدع يستشهد على بدعته بدليل
شرعي ينزله على ما وافق هواه، فإن هذا الأمر قد ثبت في الحكمة الأزلية فقد قال
تعالى: [يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً] [البقرة 26] . لكن إنما ينساق له من
الأدلة المتشابه منها لا الواضح، والقليل منها لا الكثير، وهو أدل الدليل على اتباع
الهوى، فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق، فإن
جاء ما ظاهره الخلاف فهو النادر القليل، فكان من الصواب رد القليل إلى الكثير
والمتشابه إلى الواضح.. ولكن المبتدع يأخذ الأدلة تبعاً لهواه ومن شأن الأدلة أنها
جارية على كلام العرب، ومن شأن كلام العرب الاكتفاء فيه بالظواهر، وقلما تجد
من كلامهم نصاً لا يحتمل، وكل ظاهر يمكن أن يصرف عن مقتضاه ويُتأول على
غير ما قصد فيه، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بمقاصد الشريعة وأصولها كان الأمر
أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع، فإذا غلب الهوى أمكن
انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أريد منها.
أما السلف الصالح فهم يتبعون الأدلة منقادين لها باسطين لها يد الافتقار، فهم
إذ سلكوا على الجادة يجدون جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في الطلب الذي
بحثوا عنه فيتبعون هذا المحكم. وأما ما شذ عن ذلك من متشابه فإما أن يردوه إلى
المحكم، وإما أن يكلوه إلى عالمه، ولا يتكلفوا البحث عن تأويله. ففيصل القضية
بين أهل البدعة وأهل السنة هو قوله تعالى [فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] [آل عمران 7] . ولما قرأ - صلى الله عليه
وسلم - هذه الآية قال: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمىّ
الله فاحذروهم» رواه مسلم [1] .
فما هو الحكم والمتشابه؟
* المحكم: هو الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره، فهو قائم بنفسه، لا
يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو: [ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] ، [وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن
تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] ، [طه 82] ، [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ] [النساء 48] ، [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً..]
[الأنعام 151] [2] . بل إن معظم القرآن آيات محكمات لقوله تعالى: [هُوَ الَذِي
أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ] وأمّ الشيء معظمه وعامته
ولذلك كان القرآن بيان للناس وكان أيضاً حجة الله عليهم.
* المتشابه: هو ما أشكل معناه ولم يُبين مغزاه [3] .
وهو قسمان:
أ - المتشابه الحقيقي: وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه. ولا شك أنه
قليل لقوله تعالى: [.. مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]
فالمحكم هو الغالب والمتشابه هو القليل النادر [4] . ومثاله:
1- الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه.
2- الحروف المقطعة في آوائل السور.
3- ماهية الروح ووقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى
وما إلى ذلك [5] .
ولا يتعلق بذلك تكليف سوى مجرد الايمان به لقوله تعالى: [والرَّاسِخُونَ فِي
العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] . والتشابه في هذا القسم راجع إلى الأدلة.
ب - المتشابه الإضافي: هو ما بينته الشريعة ولكنه تشابه على الناظر فيها
لتقصيه في الاجتهاد أو لزيغه عن طريق البيان اتباعاً للهوى. فلا ينسب الاشتباه
هنا إلى الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه [4] . ومثاله:
1- ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي وإن كان في نفسه
ظاهر المعنى لبادي الرأي كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله:
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ] فإن ظاهر الآية صحيح على الجملة، وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان، وهو ما ذكره ابن عباس من أن الحكم لله تارة من غير تحكيم، وتارة بتحكيم، لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله، فتأملوا وجه اتباع المتشابهات، وكيف يؤدي إلى الضلال والخروج عن الجماعة، ولذلك قال: ...
(فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) [6] .
2- الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها وبالعمومات من غير تأمل - هل
لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق أو خاصاً فيُعم
بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذا المسلك رمي في عماية واتباع للهوى في
الدليل، وذك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد فإذا قيد صار
واضحاً [7] فإذا قيل مثلاً: (إن البيع موجب لنقل الملكية) فلا يكون ذلك لأي بيع
فيه غرر أو ربا، وإذا قيل: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فلا يكون ذلك لأي
قول فإن هذا خلاف المعلوم من دين الإسلام فالمنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت
الجاحدين لها من الدرك الأسفل من النار، ولكن المقصود هو القول التام [8] الذي
يستلزم أثره من تركٍ للشرك والتزام بشرائع الإسلام، وكذلك أيضاً قوله تعالى:
[إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً] يُرجع فيه إلى قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ] وقوله: [وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] وينضم
إلى ما سبق الأخذ بالمنسوخ من النصوص دون ناسخه، وبالمجمل دون مبينه،
وبالظاهر المتشابه دون مؤوله، فكل هذا من اتباع المتشابهات.
3- الأخذ بقضايا الأعيان وحكايات الأحوال التي قد تخالف بظاهرها أصولاً
مطردة مقررة واضحة في الشريعة. فهذا معدود من المتشابهات التى يتُقى اتباعها
بل يجب ردها إلى هذه الأصول المحكمة وتنزيلها على مقتضاها. ومثال ذلك أن
مرجئة العصر الحديث عندما وقفوا على قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمه - أبي
طالب - إذ حضرته الوفاة: (أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)
[البخاري] ، قالوا: الإسلام كلمة والنجاة من الخلود من النار بكلمة لا شيء بعدها
ومن أثبت شيئاً معها فهو من الخوارج. ومعلوم من الملة الإسلامية أن من مات
يشرك بالله شيئاً دخل النار وأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع قولهم لا إله
إلا الله، وأن القرآن قد دحض هذه الشبهة: [أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] .
وختاماً نحذر من هؤلاء الذين يُعتقد فيهم أو يعتقدوا هم في أنفسهم أنهم من
أهل العلم، ثم تراهم يهدمون كليات الشريعة ببعض جزئياتها - اتباعاً للمتشابه،
وتركاً للمحكم، وانتصاراً لرأيهم - فإن الحامل لهم على ذلك هو بعض الأهواء
الكامنة في نفوسهم، مع الجهل بمقاصد الشريعة، واستعجال نتيجة طلب العلم.
وعلى من طلب خلاص نفسه أن يثبت حتى يتضح له الطريق، فإن العاقل لا
يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا
مخلص له منها إلا أن يشاء الله [9] .
__________
(1) الاعتصام 1/134-135 بتصرف.
(2) تفسير القرطبي 2/125.
(3) الاعتصام 2/233.
(4) الموافقات 3/91.
(5) تفسير القرطبي 2/1253.
(6) الاعتصام 2/234.
(7) الاعتصام 1/245.
(8) مدراج السالكين.
(9) كلمات للإمام الشاطبي.(52/28)
المصلحة وفقه التلفيق
أحمد بن صالح السيف
إن من نزعات الفطرة البشرية أن الذي أوجدها هو صاحب الأمر والنهي فيها
[أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ] [الأعراف: 54] . الإله المستحق للعبادة والتحاكم إليه
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] . فإذا ما انسلخت هذه
السمة الفطرية وحُكمّ الطاغوت كما تئن منه بلادنا الإسلامية اليوم كان تمرداً على
حق الألوهية في العبادة، حيث استجابت تلك البلاد للدعاوى الملفقة لإقصاء
الشريعة رغبة في إحلال القوانين البشرية محلها ميممة نحو الغرب الكافر (لاقتباس
ما وضع فيه من قواعد قانونية تعجيلاً بالإصلاح المنشود ونكولاً عن حمل أعباء
التقنين الشرعي فانتشرت وراجت حركة التشريع [*] على حساب الشريعة
الإسلامية حتى تخلفت بهذه الشريعة المرتبة بين مصادر القانون الرسمية فيها
وضاق نطاق إلزامها في العمل ضيقاً كبيراً، كاد يقتصر على مسائل الأحوال
الشخصية أو حتى على بعضها الوثيق الصلة بالشخص كمسائل الزواج والطلاق
والنسب [1] .
إذ طبيعة شعوبها المغلوب على أمرها تحتم ذلك ولا يضيرهم هذا الجانب إذا
طبق فيه الشرع لكونه لا يؤثر على مبتغاهم لعلمنة التشريع الإسلامي وتغييبه عن
الواقع [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ
خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ] [البقرة 85] .
من مسالكهم النفاقية ودسائسهم أنهم إذا ما وافق باطلهم وقانونهم شرع الله
أذاعوا به ورفعوا عقائرهم بأنهم مصلحون وفق الشريعة الاسلامية (فإذا جاء الحق
معارضاً في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه
دفع الصائل، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق
أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بداً أعطوه السكة
والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ وإن جاء الحق ناصراً لهم وكان لهم
صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته أغراضهم واهوائهم
[وإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وإن يَكُن لَّهُمُ
الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ ورَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [النور: 48-50] [2] ، وبهذا المسلك
أقصيت الشريعة الإسلامية بأردية مستعارة مبيتّين أفكاراً ودسائس علمانية ويدرؤن
بذلك الشبهة عن انفسهم بدعوى الإصلاح والتقدمية ومن جهة أخرى يصمون بخبث
ودهاء شرع الله بالرجعية، وهذا طعن بحق الله [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ]
[البقرة 11-2] .
إذ يغالون في اعتبار المصلحة ويقدمونها على النصوص الشرعية القطعية،
وهذا شأن كل مغرض يسعى لمحاربة الله وتسمية الإفساد إصلاحاً إذ (يؤدي ذلك
إلى تعيل النصوص التشريعية بنظر اجتهادي عقلي محض، ولو جاز أن تتقبل أمة
من الأمم هذا الرأي على إطلاقه في تشريعها وتسمح به لرجال الحقوق أو القضاء
في اجتهادهم لسادت الفوضى في العمل بالشريعة والقانون فمن تراءت له مصلحة
النص الشرعي عمل به ومن تصور أن المصلحة بخلافه نبذه وفي ذلك منتهى
الفوضى) [3] كما أن واقعنا اليوم يعيش في هذه الحقيقة، فالمصلحة المعتبرة هي
ما جاءت وفق ضوابط شرعية مبسوطة في كتب الفقهاء والأصوليين (فالمصالح
المعتبرة شرعاً أو المفاسد المستدفعة إنما تعتبر حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية،
وذلك أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا
لله) [4] يحكمونه في كل شؤونهم الحياتية، وإذا ما دعوا إلى المحاكمة العقلية
الشرعية جحدوا الحق واستيقنته أنفسهم ظلماً وعلواً وأظهروا الإحسان والتوفيق
[إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَاناً وتَوْفِيقاً] [النساء 62] . وهذا خداع منهم أنهم ما أرادوا بهذا العمل إلا الإحسان في المعاملة والتوفيق بينهم وبين خصومهم فهم (يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هذا عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته، إنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب [**] التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة، إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين هي هي دائماً وفي كل حين) [5] وقد يستغلون هذا التلفيق المسيس للقضايا والمسائل الشرعية الموافقة لأباطيلهم وتضليل الشعوب بإقامتها وإقرارها برداء المصلحة الدنيوية والأخروية إذ المعتبر هو جهة المصلحة الشرعية التي هي عماد الدين والدنيا لا ما تمليه أهواءهم ونزعاتهم العدوانية وقد كفانا الله مؤونة فضحهم في كتابه العزيز (والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين والدنيا وأتم نعمه فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا قد حدثنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد أمرين لازم له إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة) [6] .
__________
(*) يعني مصطلح التشريع في القانون الوضعي هو قيام سلطة عامة مختصة في الدولة بالتعبير عن القاعدة القانونية في صورة مكتوبة وإعطائها قوة الإلزام في العمل، انظر في ذلك المدخل إلى القانون، د حسين كيره منشأة المعارف، مصر، ص 228.
(1) المصدر السابق، ص 211 (بتصرف) .
(2) مدارج السالكين، ابن القيم، 1 /53، دار المعرفة.
(3) الاستصلاح والمصالح المرسلة، مصطفى أحمد الزرقاء، دار القلم، دمشق ص 77.
(4) الموافقات فى أصول الشريعة، لأبي اسحق الشاطبي، 2/38.
(**) كما يزعمونه تهويلاً من الاحتكام إلى شرع الله.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، 2/694، دار الشروق.
(6) مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيميه، جمع ابن قاسم، 11/344-345.(52/33)
البيان الأدبي
في رحاب هجوم السلام [*]
محمود مفلح
قليلةٌ هي القصائد الأصيلة المقنعة في هذا الزمن زمن الغثاء والهباء. ولا
يكاد الواحد منا وهو يقرأ مئات القصائد يعثر على واحدة تستوقفه وتغريه. ومن
هذه القصائد النادرة - ولا أقول القليلة - التي وقفت عندها طويلاً قصيدة أخي
الدكتور الشاعر المتألق عبد الرحمن بارود المنشورة في العدد (49) من مجلتنا
(البيان) بعنوان (هجوم السلام) .
والشاعر الدكتور عبد الرحمن بارود مقلّ في نشره ومتشدد في هذا النشر،
والذي يقرأ مقدمة ديوانه- غريب الديار - الصادر عن دار الفرقان بعمان يعجب
لهذا (البخل في النشر) وهذا الحرص على البقاء في الظل ... ولا أبالغ إن قلت -
وأنا مطمئن - إنه شاعر المرحلة، بل يقف بجدارة على رأس قائمة شعراء العصر
الحديث، وإن قصيدته المذكورة آنفاً والتي مطلعها:
يا حمام السلام عد يا حمام ... لا يفلُّ الحسام إلا الحسام
تؤكد ما أقول. فالقارئ العادي أو المتعجل قد لا يرى فيها شيئاً غير عادي،
ولكن القارئ الحصيف المتمرس ذا الذوق الناضج يدرك أن هذه القصيدة جمعت بين
البساطة والعمق، بين الحاضر والتاريخ، بين الأصالة والمعاصرة، وطرحت
الموضوع طرحاً ذكياً مقتدراً مستفيدة من كل عناصر الإبداع الشعري.
وقد زادها زخماً تلك الخيوط التاريخية التي دخلت في نسيجها والتحمت في
بيئتها التحاماً عضوياً لا أثر فيه للتصنع أو الادعاء.
والخواجا شيلوك في الذبح ماض ... منذ أن غلّنا " اللنبي " الهمام
أوَ غيرَ الساطور يبصر شيئاً ... تاجر البندقية اللحَّام؟
وأبرز عنصر من عناصر هذا النص الشعري عاطفته المتأججة التي تصل
إلى حد الفوران أو حد الشتيمة أحياناً.
ثَكِلتْ أُمُّكمْ.. أليسَ لديكمْ ... غيرُ: (عاش السلام) (يحيا السلامُ) ؟ ؟
ثم توبيخ وتقريع:
أينَ مليارُ (لا) ؟ ومليارُ (كَلاّ) ؟ ... أين تلكَ المحرَّماتُ الجِسامُ؟
ما لتلكَ " اللاءاتِ " تهويْ تباعاً؟ ... وَهَلْ صار ربُّنا (العمُّ سامُ)
ولا يخفى ما لإشارات التعجب والاستفهام من دور في تثوير النص وشحنه
بطاقة فنية عالية. كما لا يخف ما للتضاد من دور في تلوين النص وخروجه عن
المألوف،
عادتِ النارُ في البراكيِن ثلجاً ... وتخلى عن الرُعودِ الغَمامُ
قد قَلبتُمْ كل الموازينِ قلباً ... وغدا أوَّل الحلالِ الحرامُ
وتبلغ القصيدة ذروة تأثيرها في المقطع الأخير الذي يقول:
وَقَعَ السقْفُ يا صناديدَ قومي ... أوَ صاحونَ أنتمو أمْ نيامُ؟
أين فتحٌ؟ ؟ وأين: (إنَّا فَتَحنا) ؟ ... شدَّ ما غَيرَّتْكُمُ الأيامُ! !
ويبقى جواب هذا السؤال الملح الذي ترفعه الأمة كلها عند تجار الشعارات
ودهاقنة السياسة والمنظّرين.
ولكن القصيدة لا تمهلنا كثيراً، إذ تضع الأمور في نصابها حين تقول:
سُورةُ الفتح أُنزِلتْ في رعيلٍ ... اَلعماليقُ عندَهم أًقْزامُ
نَفَروا خَلْفَ قائد من قُريشٍ ... عَقِمتْ عن نظيرِهِ الأرحامُ
إي وربي يا أبا حذيفة (العماليق عندهم أقزام) والأقزام عند بني قومنا عماليق، إننا بحاجة إلى مثل هذا الشعر الأصيل الموهوب المتمكن، لنزيل ركاماً ورثناه
في عهود الضعف والهزيمة.
وإننا نطالب أخانا الدكتور عبد الرحمن بمزيد من الإبداع ومزيد من النشر،
حتى تعود إلى الشعر عافيته، وإلى ميدان الشعر فرسانه الحقيقيون.
__________
(*) قصيدة للدكتور الشاعر عبد الرحمن بارود نشرت في البيان (49) .(52/38)
مظاهر الانحراف في
شعر المقاومة الفلسطينية
أحمد بن راشد بن سعيّد
تحفل الصحف العربية بإنتاج مجموعة من الشعراء الفلسطينيين الذين يقدمون
للقارئ العربي على أنهم رواد شعر المقاومة الفلسطينية كما تنتشر دواوينهم في
المكتبات، ويدعون لتقديم الأمسيات الشعرية، وتسبغ عليهم ألفاظ (المناضلين)
و (الثوريين) وغيرها ... ولعل أبرز هؤلاء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق
زياد ومعين بسيسو [1] .
ومأخذنا على هؤلاء الشعراء إجمالاً هو انفصالهم عن هوية المقاومة،
وتنكرهم لعقيدة الشعب الفلسطيني، والتماسهم حل القضية في مناهج مستوردة
غريبة، وإنكارهم أن يكون الحل موجوداً في إسلام الأمة وتاريخها.. ونسوق
ملاحظاتنا على شكل نقاط فيما يلي:
الجرأة على الذات الإلهية:
وهذه ظاهرة عامة تنتظم شعر المجموعة المذكورة، وباعثها كما تدل القصائد
التضجر من الواقع والضيق بما آلت إليه القضية. يقول محمود درويش في
قصيدته (الموت في الغابة) :
نامي فعين الله نائمة ... عنا وأسراب الشحارير
ويقول في مطولته (مديح الظل العالي) :
(يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلّ..
لعلى لي رباً لأعبده لعلَّ) .
وفي قصيدته (التعاويذ المضادة للطائرات) يقول سميح القاسم:
(كنت طفلاً آنذاك..
علموني أن مجرى الأرض في كف السماء..
علموني أنه سبحانه يحيي ويفني ما يشاء..
دون أن أسأل من كانوا وماذا فعلوا للتعساء..
علموني الدجل والرقص وإذلال النساء..
علموني السحر والإيمان بالأشباح والرقية والتعزيم والخوف إذا جاء المساء.. ...
فرس الخضر كفيل بي وحسبي الفقهاء..
يا أبي المهزوم..
يا أمي الذليلة..
إنني أقذف للشيطان ما أورثتماني من تعاليم القبيلة..
إنني أرفضها تلك الطقوس الهمجية..
إنني أجتثها من جذرها تلك المراسيم الغبية..
إنني أبصق أحقادي وعاري في وجوه الأولياء الصالحين..
إنني أركل قاذورات ذلي وانكساري للتكايا والدراويش وأقزام الكراسي ...
النابحين.. (.
ويستمر الشاعر في استهزائه وغيه فيقول:
(صوبوا كل التعاويذ بوجه الطائرات..
ألبوا الله عليها..
واقذفوها بالوصايا العشر.. والجفر..
وآيات السماء البينات..) .
وفي قصيدة (أبطال الراية) يقول سميح:
(والله نحن نشاؤه بغرورنا..
شيئاً له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا) ..
إلى آخر ما يقول من عبارات تنضح بالجهل بحقيقة الإسلام وتنبئ عن مرض صاحبها وفساد قلبه..
ومن قصيدة لمعين بسيسو بعنوان (إلى سائحة) يقول فيها:
(وآخر ديك قد صاح ذبحناه..
لم يبق سوى الله..
يعدو كغزال أخضر تتبعه كل كلاب الصيد..
ويتبعه الكذب على فرس شهباء..
سنطارده..
سنصيد له الله) ! !
ويقول في قصيدة (عيون مليكة المراكشية) :
(والله كان يلعب الشطرنج كل ليلة مع الملائكة..) ،
ويقول في قصيدة
(جندياً كان الله وراء متاريس دمشق) :
(كان الله يحمل أكياس الرمل على ظهره..
يرفع بيديه الأحجار..
ويعجن بيديه الاسمنت..
ويقيم متاريس دمشق..
كان الله على شاطئ حيفا يصطاد السمك لأطفال فلسطين..)
والمتتبع لقصائد هذه المجموعة يجد كماً من هذه الأشعار الكفرية التي ساهمت بلا ريب في تضييع القضية وتأخير مسيرة العودة إلى فلسطين [2] . ...
التنكر للتاريخ الإسلامي ورموزه:
وبدلاً من أن يحاول هؤلاء الشعراء أن يبحثوا عن حل لمأساة فلسطين في
سفر التاريخ الإسلامي، نراهم يزدرون هذا التاريخ ويقللون من أهمية رموزه
وأبطاله.. وهذا هو محمود درويش يتمنى كتابة تاريخه وحاضره (بالفأس والمنجل)
فيقول في قصيدة (مغني الدم) :
(ليتني أدفن كل الكلمات الميتة..
ليت لي قوة صمت المقبرة..
يا يداً تعزف يا للعار خمسين وتر..
ليتني أكتب بالمنجل تاريخي..
وبالفأس حياتي..) .
ويقول سميح القاسم متسائلاً في قصيدته حتى الموت:
(وماضيك؟
كتب جمة والتمر والشمس..
وغار الوحي والتكبير والدعوة..
وسيف الله والرومان والفرس..
وباسم الله والثورة..
وما الحاضر؟
ميراث الدم المهدور في الماضي..
ووشم من قلاع المجد عميقاً تحت أنقاضي..
وطاقية إخفاء..
وجن في بساط الريح..
وآلاف العيون الزرق..
والعجمة في لفظي..
وكنز من شروح الفقه والأنساب والوعظ..) .
والغمز والطعن والتهكم بالتاريخ الإسلامي والحاضر المتصل به الآخذ منه
واضح في هذه العبارات، ويزيد ذلك وضوحاً قول سميح في قصيدة (الميلاد) :
(أبي.. لا كتبنا الملقاة تحت نعال هولاكو..
ولا فردوسنا المردود فردوساً إلى أهله..
ولا خيل الصليبيين..
ولا ذكرى صلاح الدين..
ولا جندينا المجهول في حطين..
تشد خطاي للأنقاض في المنفى..) .
وننظر لنرى ماذا يشد خطى سميح للمنفى فإذا هو يقول:
(فمن حبي لأطفالي أشيد مصانعاً كبرى..
وأرتق معطفي البالي وأبني
مسكناً حلوا..
وأخلق جنة خضرا) .
إن بطولات المسلمين وملاحم الجهاد الفذ التي سطروها والعقيدة الصلبة التي
ربتهم وعلّت شأنهم.. كل ذلك لا يحفز للتحرير، ولا يشد الخطى إلى المنفى.. فما
هو البديل إذن؟ وما الذي سيغذ الخطى ويحفز الهمم ويدفع مواكب التحرير إلى
فلسطين؟ إنه في رأي سميح العمل والفلاحة، أي التوجه إلى المستقبل وإهمال
الماضي بكل شموخه وجلاله، وهي الصورة السمجة الشوهاء التي رسمتها
الاشتراكية البائدة.
الافتتان برموز المذاهب الهدامة:
ولأن أصحاب الشعر المقاوم لا يفخرون برموز وأبطال الجهاد الإسلامي ولا
يستلهمون من قصص كفاحهم شعاعاً يضيء طريقهم، فهم يتغنون بأعمال جيفارا
ولينين، ويهتفون لآراء سارتر وغيره من دعاة المذاهب الوثنية..
وهذا سميح القاسم الذي يقول أن ذكرى صلاح الدين لا تثير اعتزازه، وأن
جهاده الصليبيين لا يحرك في نفسه شيئاً، يقول في قصيدة يخاطب فيها الزعيم
الكوبي فيدل كاسترو:
(قدماً.. قدماً في هذا الدرب..
يا حاطم أغلال الشعب..
قدم يا أول شعلة..
في عتمة أمريكا المحتلة..
يا غوث الجزر المنهوبة..
وعزاء الأمة المنكوبة..)
ويوجه قصيدة إلى جان بول سارتر صاحب مذهب الوجودية فيقول:
(أطلقها ناراً في وجه الأعداء..
أطلقها كلمتك الحمراء..
ما دام على الدنيا باستيل..
ما دامت قضبان وسياط ودماء..
يا أنبل قنديل..
في عتمة باريس العمياء..) .
ويقف توفيق زياد أمام ضريح لينين خاشعاً، فينعقد لسانه وتأخذه رهبة
الموقف (! !) لكنه بعد ذلك يصور مشاعره وهو ماثل أمام قبر الطاغوت في هذه
الكلمات:
(كأنني ولدت من جديد..
كل الشموس في يدي وأجمل الورود..
أمامه وقفت خافض الجبين..
ضريحك الذي يعيش في القلوب يا لينين..
أحسست أنني أنا المعذب الشقي..
المعدم الذي نصيبه من الحياة كوخ طين..
أملك كل شيء..
أقوى من الزمان والقضاء..
وأنني أقدر أن أقتحم السماء..
أردت أن أقول كلمتين..
واحترت ماذا يقدر الشقي أن يقول؟ !
وجدت أن الصمت يا معلم الأجيال..
أصدق من كل الذي يمكن أن يقال) .
ونقرأ قصيدة لمعين بسيسو بعنوان (قصيدة فلسطينية إلى لينين) يقول فيها:
(كان لينين فكان الحزب..
يا فرس البحر على الصخرة..
تلد ملائكة الشعب..
موسكو في القلب..) ؟ !
وفي دواوين شعراء المقاومة هؤلاء نطالع كثيراً من هذه القصائد التي تتغنى
بلينين وكاسترو وسارتر وغيرهم من الأصنام التي هوت أو تتهاوى إلى مزبلة
التاريخ.
تبني الاتجاه الماركسي كطريق لإنهاء المأساة:
والقارئ لشعر المقاومة يلمس تأثراً واضحاً بالفكر الماركسي (ومن أسباب ذلك
الاعتقاد بأن الاتحاد السوفييتي البائد كان النصير لحركات التحرر العربية! !)
ومن مظاهر هذا التأثر التهجم على الدين والتاريخ وإطراء الاشتراكية، والتنديد
بهمجية الغرب الرأسمالي وجوره على الطبقة العاملة.. وهذا سميح القاسم يشرح
في قصيدته (عزيزي إيفان) كيف قاسى العذاب وأصابه اليتم والفقر والتشريد، فلم
يلق مساعدة من أحد، ولم يجد في (دور الوعظ والإرشاد) من يحنو عليه، وإذا به
يصحو يوماً على صوت (معلم جوال) أتى من قمة الشرق وانتشله من مجتمع
الذئاب إلى حياة ملؤها الهناء ورغد العيش.. هذا المعلم بالطبع هو رسول
الاشتراكية.. يقول:
(دعوت الأولياء الصالحين فردت الوديان..
إلهك كان يا هذا..
إلهك كان!!
وقهقهت السفوح السود والقمم النحاسية..
إلهك كان..
يا طرح الأناشيد الحماسية..
وعاد إليّ في الصوت..
جبيني الأول العالي..
وقلبي عاد مركبة فضائية..
تخط طريق أجيالي..
وعادت ملء أجفاني المسافات الربيعية..
وغابات المداخن والصنوبر والقراصية..
أجل عادت مع الصوت..
رؤى نسلي الذي أقسمت أن يأتي..
ووجه الأرض مخلوق من البدء..
بصورة سفر تكوين..
يسمى الاشتراكية..) ! !
وفي قصيدة (برلين تستعيد شعرها) يقول سميح:
(ربى الشيوعيون شعرك..
طيبوه ودللوه..
ربوه بالفرح المقدس والمرارة والصمود..
لا كي يجز غدائره..
متحضرون برابرة..
برلين..
لا لن ينسجوا من شعرك المبعوث أغطيه الجنود..
عين الشيوعيين ساهرة..) .
ويقول توفيق زياد في قصيدة (شيوعيون) :
قالوا: شيوعيون. قلت: أجلهم ... حمراً بعزمهم الشعوب تحرر
قالوا شيوعيون: قلت منية ... موقوتة للظالمين تقدر
قالوا: شيوعيون. قلت: أزاهر ... بأريجها هذي الدنا تتعطر..
يا سائلي لا تستب أمورنا ... حتى يظللنا اللواء الأحمر
وفي قصيدة بعنوان (المطر الأول) يقول محمود درويش:
(في رذاذ المطر الناعم كانت شفتاها..
وردة تنمو على جلدي..
وكانت مقلتاها..
أفقاً يمتد من أمسي إلى مستقبلي..
كانت الحلوة لي..
كانت الحلوة تعويضاً عن القبر الذي ضم الها..
وأنا جئت إليها من وميض المنجل..
والأهازيج التي تطلع من لحم أبي ناراً وآها) .
وقد مر بنا كيف أن درويش تمنى كتابة تاريخه وحاضره بالفأس والمنجل
معلناً انهزامه وانسلاخه من عقيدة أمته وماضيها. ويؤكد في قصيدة أخرى افتتانه
بهذا المنجل لا السيف الذي اشتهر به العرب والمسلمون فيقول:
(نعم عرب ولا نخجل..
ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل) !
ونطالع في شعر المقاومة كثيراً من الاستعارات والألفاظ التي تنبعث منها
رائحة اليسار مثل (الرفاق) ، (العمال) ، (الثوار) ، (الجياع) ، (الكادحون) ،
(الرجعية) ، (الأممية) وغيرها. ولأن الاشتراكية ذات طرح عالمي، فإن شعراء
المقاومة ربطوا كثيراً بين نضال الشعب الفلسطيني و (نضال) شعوب المعسكر
الاشتراكي (السابق) ، وقرروا أن هدفهم واحد وهو القضاء على (الامبريالية)
والاستغلال والتمييز العنصري.. وتتجلى هذه الفكرة عند سميح القاسم في قصيدته
(لو) إذ يقول:
(لو يصدق الكلام..
وتحمل الريح ولو سلام..
من ثائر في الشرق..
لثائرين يشتلون النور في الظلام..
لثائرين إخوة لا فرق..
في النيل..
في الكونغو..
وفي الفيتنام) .
ونلمس فكرة (العالمية) هذه في قصائد سميح القاسم الذي يخاطب فيها
الشيوعي الإسرائيلي مائير فلنر والزعيم الكوبي فيدل كاسترو وثوار الفيتكونغ
الفيتناميين.. كما نقرأ قصيدة لتوفيق زياد يحيي فيها عمال (مصافي النفط وحقول
السكر في كوبا، وقصيدة أخرى يخاطب فيها ثوار أفريقيا بقوله:
(يا أخوتي المتزنرين على البنادق والحراب..
في قلب أفريقية السوداء..
في خضر الشعاب..
إنا نراها ثورة التحرير تقرع كل باب..) [3] .
الغلو في تقديس الأرض:
وبسبب بعد هؤلاء الشعراء عن العقيدة الإسلامية، وفقدانهم للتصور الإسلامي، فهم (يتطرفون) في تقديس الأرض، ويجعلونها غاية الكفاح ومنتهى القصد.
يقول توفيق زياد معبراً عن هذه النظرة المادية الضيقة:
(آه يا رائحة الأهل،
ويا بيتاً من الطين،
ويا حفنة عشب وتراب..
كم علينا اليوم من أجلكمو،
أن نجرع الموت وألوان العذاب) .
ويقول محمود درويش: (هذه الأرض التي تمتص جلد الشهداء.. فاعبديها
نحن في أحشائها ملح وماء) . ويقول في قصيدة (أهديها غزالاً) : ...
(وفي ليل رمادي رأينا الكوكب الفضي..
ينقط ضوءه العسلي فوق نوافذ البيت..
وقالت وهي حين تقول تدفعني إلى الصمت: تعال غداً لنزرعه مكان
الشوك في الأرض..
أبي من أجلها صلى وصام..
وجاب أرض الهند والإغريق..
إلهاً راكعاً لغبار رجليها..
وجاع لأجلها في البيد..
أجيالاً يشد النوق..
وأقسم تحت عينيها يمين قناعة الخالق بالمخلوق..
فدائي الربيع أنا..
وعبد نعاس عينيها..
وصوفي الحصى والرمل والحجر..
سأعبدهم لتلعب كالملاك..
وظل رجليها على الدنيا..
صلاة الأرض للمطر..) .
وهذه النظرة الأرضية الجاهلية تنتظم شعر المقاومة الذي نحن بصدده.. ولا
نكاد نلحظ في هذا الشعر ذكراً للمسجد الأقصى وغيره من المقدسات الإسلامية في
فلسطين، وهي التي تصل فلسطين بالسماء، وتجعل قضيتها أكبر من مجرد
(حصى ورمل وحجر وغبار) .
وختاماً لا بد أن نشير إلى أن الحديث عن دلائل الانحراف هذه يقصد به
إيضاح المسافة التي تفصل الأمة عن هؤلاء الشعراء، وأنهم خلافاً لما تصوره
الصحافة العربية لا يمثلون همَّ وضمير الشعب الفلسطيني. كما لا يعني هذا الحديث
عدم وجود شعر فلسطيني مقاوم يستلهم معاني الإسلام وتعاليمه، وللدكتور مأمون
فريز جرار كتاب بعنوان (الاتجاه الإسلامي في الشعر الفلسطيني) يرصد إنتاج
الشعراء الفلسطينيين الذين ربطوا فلسطين بإسلامه وتاريخها، وتغنوا بفتوحات
المسلمين وبطولاتهم، وأكدوا أن الجهاد في سبيل الله هو طريق التحرير
والكرامة.. ومن المناسب هنا إيراد هذه الأبيات للأستاذ يوسف العظم، والتي تحكي حال ومقال المسلم الفلسطيني الملتزم بدينه، المؤمن بموعود ربه، المباهي بأصالته وتاريخه:
أهيم براية اليرموك أهوى أخت حطين ...
تفجر طاقاتي لهباً غضوباً من براكين ...
لأنزع حقي المغضوب من أشداق تنين ...
وأرفع راية الأقصى ورب البيت يحميني ...
سلاحي النور في قلبي ورشاشي وسكيني ...
ولكن دون أوهام لجيفارا ولينين ...
ففكر الشرق يتعسني، وفكر الغرب يشقيني ...
أرتل آية الكرسي أتلو ربع ياسين ...
وفي صدري كلام الله يسعدني ويشفيني ...
كفرت بدعوة الإلحاد من صنع الشياطين ...
وأوثان صنعناها من الأوحال والطين ...
وآمنا برب البيت والزيتون والتين ...
ليشمخ شعبنا حراً عزيزاً في فلسطين ...
* * *
مصادر النصوص (عدا أبيات يوسف العظم) :
- ديوان سميح القاسم (بيروت دار العودة، 1973)
- ديوان محمود درويش (بيروت دار العودة؛، 1977)
- محمود دوريش، مديح الظل العالي (بيروت دار العودة، 1984)
- معين بسيسو، الأعمال الشعرية الكاملة (بيروت دار العودة، 1979)
- ديوان توفيق زياد (بيروت دار العودة، 1971)
- ديوان فدوى طوقان (بيروت دار العودة، 1984) .
__________
(1) بسيسو (شاعر نصراني) توفي قبل بضع سنوات ورثته الصحافة العربية مجلة عربية (اليمامة) دبجت سبع صفحات في تأبينه.
(2) الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان تقول في قصيدة لها بعنوان، (مرثاة إلى نمر) : (وأنت يا من قيل عنه إنه هناك حانٍ لطيف بالعباد أين أنت لا أراك دعني أراك كي أقول إنه هناك) ويقول راشد حسين في مطلع قصيدة له عن مصادرة اليهود لبعض أملاك العرب:
... ... الله أصبح غائباً يا سيدي ... صادر إذن حتى بساط المسجد.
(3) تجدر الإشارة إلى أن سميح القاسم وتوفيق زياد درزيان، وعضوان في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) ، وهو حزب يعترف بشرعية إسرائيل، غير أنه - عملاً بأطروحات الشيوعية - قام على أساس معارضة الصهيونية (كحركة رجعية تحكمها البورجوازية اليهودية) ، فلو افترضنا أن الشيوعية بقيت ذات شأن، وأن الحزب ما زال مؤمناً بطروحاتها وأنه وصل إلى الحكم، فإن نضال سميح وتوفيق يتوقف عند هذا الحد فليس عند الشاعرين (الثوريين) ما يمنعهما من رفع السلاح في وجوه شعبهما ما دام ذلك يخدم مصالح الفلاحين والعمال اليهود! .(52/41)
شعر
صرخة من أحفاد صلاح الدين
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
أنا بينكم شعبٌ دمي مطولُ ... أُصغي وألسنةُ الرَّصاص تقولُ
أنا بينكم، أصلى بنار قذائفٍ ... وتُصاغ قصّةُ حسرتي، وتطولُ
أنا بينكم، شعبٌ يُقسَّمُ جهرةً ... والشمس في كبد السماءِ تجولُ
شعبٌ يُغذَّى بالأسى أطفالُه ... ويُشرَّدون وللنساءِ عَويلُ
أنا بينكم يا مسلمون سعادتي ... نُقِضَتْ، وحَبْلُ تعاستي مفتولُ
هذي الجراح، أما تحرَّك ساكناً ... فيكم، أما للغافلين عقولُ؟
ما زلتُ أحزم للجهاد حقائبي ... لكنني عن ساحتي معزولُ
أوَ ما ترون القومَ يدفع بعضُهم ... بعضاً إلَّي، فقاتلٌ وقتيلُ؟
خانوا صلاح الدين في أحفاده ... فأعزُّهم للغاصبين عميلُ
أوَّاه لو أبصرتم الطفل الذي ... أمسى، وهيكلُ عظمه مشلولُ
أوَّاه لو أبصرتم الأمَّ التي ... ماتت، ولا كفنٌ ولا تغسيلُ
هذا فتىً بالأمس هاجر خائفا ... مترقّباً، والاسمُ إِسماعيلُ
من أسرةٍ معروفة بصلاحها ... ما شابها زيف ولا تضليلُ
خرجوا من البيت القديم، أمامهم ... دربٌ من القصف العنيف طويلُ
رحلوا من البيتِ المهدَّم خمسةً ... والجوع قاسٍ، والطعام قليلُ
وصلوا إلى (زاخو) بغير أبٍ ولا ... أمٍّ فلم يَشف القلوبَ وصولُ
وصلوا وقد نقصوا وشُتِّت شملُهم ... وأصابهم بعد الصعود نزولُ
وصلوا إلى (زاو) فما وجدوا سوى ... كفَّ الصليب، غذاؤُها مبذولُ
وصلوا وأعينهم سؤال دامغٌ ... لو كان يدرك ما جرى المسؤولُ
أين الأحبة، يا صخورُ تحدثي ... هل من أخٍ يمحو الأسى ويُزيل؟ !
أين الأحبَّة، واستجاب منصَّرٌ ... لندائنا، في كفِّه الانجيلُ!
(هابيلُ) يرسم لوحةً من جرحه ... فمتى ينال جزاءه (قابيلُ) ؟ !
يا قومنا، إنَّا نرى جزَّارَنا ... وعليه من إِغضائكم إكليل
أو سنَّ هذا في الحياةِ (محمَّدٌ) ... أتلاه في قرآننا جبريلُ؟ !
يا إخوةً الإسلام، ساومنا على ... إيماننا مَنْ قلبُه مغلولُ
عُرضتْ قضيّتُنا وليس لمتنها ... شرحٌ يفيد، ولا له تذييلُ
يا إِخوةَ الإسلام، هذا ثوبُنا ... بدموعنا ودمائنا مبلولُ
عجباً، أتنتظرون أنْ تُمحى بكم ... أرضٌ، ويدعو الناسَ إسرافيلُ؟ !
عجباً، أتنتظرون أنْ يُلغى بكم ... في البحر، تعبثُ بالرؤوس ذيولُ؟ !
عجباً، وينطفئُ السؤال، وينمحي ... أثرُ الجواب، ويخطئُ التعليلُ
لا البدرُ أنشدنا الضياءً، ولا شدتْ ... فينا النجومُ، ولا استضاء دليلُ
كلاّ ولا روت الشموعُ حكايةً ... من نورها، أو أفصح القنديل
عذراً - أخا الإسلام - صوتك ظاهرُ ... لكنَّ سمع الغافلين ثقيلُ
شغلتْهم الأهواء عن أمجادهم ... فالَّشهمُ فيهم خائفٌ مخذولُ
عذراً - أخا الإسلام - إنَّا أمةٌ ... ما زال يقلب رأسها التطبيلُ
أجفانُ أمتنا تُكحَّل بالقذى ... أيراكَ جَفْنٌ بالقذى مكحولُ؟ !
أو ما رأيتَ رجالها قد هرولوا ... ووراءهم بالسَّوط (إسرائيل) ؟ !
كم أوَّلوا معنى السلام فأشرقتْ ... شمسُ الضحى فتهافت التأويلُ
يا مَنْ صلاحُ الدين منكم، لم أزلْ ... أرنو إليه، وسيفُه مسلُولُ
كسر الصليبَ وحرَّر الأقصى، فما ... عاش الصليبُ ولا استقرَّ دخيلُ
ما زلتُ أبصره يناجي ربَّه ... والنجمُ غافٍ، والهلالُ كليلُ
يدعو وقائمُ سيفه مُعْشَعوشبٌ ... بالمكرماتِ، وحدُّه مصقولُ
يدعو فتنتعشُ الدروب وينتشي ... (قدسٌ) ويفرح باللقاءِ (خليلُ)
يدعو فيُفْتَح كلُّ بابٍ مقفلٍ ... ويصُكُّ سمعَ الغافلين صهيلُ
ما زلتُ أبصره، وأبصر أمتي ... في عصرنا، وإزارُها محلولُ
فأكاد أخرج من ثياب عزيمتي ... وينالني بعد الثبات نُكولُ
عذراً - أخا الإسلام - إنَّ مشاعري ... نَهرٌ، خريرُ مياهه تبجيلُ
كم من أخٍ قتلوه ظلماً بينكم ... فكأّنما أنا، لا هو المقتولُ
هذا دليل أخوَّةٍ في الله لا ... يخفى ولا يتغيرُ المدلولُ
صبراً - أخا الإسلام - إنَّ نهارنا ... آتٍ يصول بنوره ويجولُ
طرقُ السياسة يا أخي معوَجةٌ ... كم ضاع فيها سائسٌ ودليلُ
الله مولانا ومولاكم وفي ... كَنَفِ المهيمن نصرُنا المأمولُ(52/51)
المسلمون والعالم
رسالة مفتوحة إلى المجاهدين الأفغان
الشيخ عبد الله بن حسن القعود
حضرات الإخوة الكرام قادة الجهاد الأفغاني:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو،
وأصلي وأسلم على رسوله محمد، وأهنئكم بما من الله به على المسلمين عامة من
خير على أيديكم، وفي مقدمته دحر الشيوعية الحمراء العفنة التي لا تؤمن برب،
ولا تحترم ما جاء الإسلام باحترامه من الضروريات الخمس وغيرها، والتي لاقى
منها المسلمون الأمرين خلال الحكم الروسي الذي دكت معاقله، وفرقت جموعه،
وأعلن إفلاسه بسبب جهادكم الميمون، ولاقت الجزيرة العربية وغيرها من الثورات
القائمة بها على مبادئه العنت الكثير والشر المستطير الذي لا يزال من بلى به يرزح
تحت ويلاته. فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وزادكم خيراً إلى خيركم،
ورشداً إلى رشدكم، وعزاً إلى عزكم، آمين آمين. وبعد: فأذكركم - لا أعلمكم -
بأن جهادكم قام لدحر الشيوعية - وقد دحرت والحمد لله - ولإقامة حكم إسلامي
حقيقي على أرض أفغانستان، ينطلق به من كتاب الله وسنة رسوله، ومدت إليكم
الأيدي بالأموال الطائلة جهاداً بالمال معكم، ودخل صفوفكم من تعلمونهم وممن لا
تعلمونهم من عرب وغير عرب من شتى أنحاء العالم، باعتباره جهاد المسلمين
عامة، ولقى ربه منهم من لقيه في ميادينكم الجهادية، وأطلقت الألسن بالخطب
والمواعظ والأشعار لدعمكم بالمال والرجال، وأعلنت الفتاوى الشرعية من علماء
من ذوي الصدارة في العالم الإسلامي والأهلية في الفتوى في سنوات الجهاد الأولى
بأن الجهاد معكم فرض عين، ومن أولئكم شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز،
والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، حفظهما الله وغيرهم. وأبليتم أنتم وأتباعكم في
هذا الجهاد من البلاء الحسن ما بدت ثماره تقطف - والحمد لله - أتم الله لكم جهادكم
وأقر أعينكم بتحقق ما أملتموه من قيام دولة إسلامية حقيقية لا اسمية، كما هي
الحال لدى بعض المسلمين، وكما يراد بكم الآن.
ولكن الشيء المفزع للمسلمين عموماً، ولمن شارككم في جهادكم بنفس أو مال
أو قول خصوصاً، ما يرى من مسعى عظيم لقطف ثمرة هذا الجهاد العظيم
والانتصار الهائل من غير أهله الحقيقيين من إبراز وتلميع رموز لإدارة حكمه
الجديد المنتظر لا يرجى منها أن تحقق الهدف الذي قام الجهاد ودعم بن أجله،
وحسبهم منقصة وصف الغرب وعملاؤه لهم بالمعتدلين، وإتاحتهم الفرصة لضرب
الميليشيا الشيوعية للمجاهدين، ومنهم من قلتم عنه أنتم الأربعة - سياف، رباني،
حكمتيار، يونس خالص وحضور مولوي محمد نبي - لما حضرت لديكم ببيشاور
قبل 9 سنوات بتكليف من سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وصحبة الشيخ
صالح السعود العلي والشيخ صالح المزروع للتقريب بين وجهات المجاهدين
واتحادهم أنه طرقي مبتدع، بدعته لا تجيز اتحاد المجاهدين معه! واليوم وأمس
ينصب لرئاسة الحكومة التي جاهدتم أنتم ومن تعاون معكم لإقامتها! سبحان الله!
إنها لخسارة إن لم تُتَدارك، ونكسه وقاكم الله شرها.
فيا إخوتي في الله وأحبتي فيه: أناشدكم الله وأعيذكم بالله أن تضيعوا جهود
المسلمين عموماً، ابذلوا الجهد فيما يحقق ما قصدتموه وأعلنتموه، وقاتلتم من أجله، حتى ولو أدى الامر إلى إستمرار الجهاد ضد أهل البدع المكفرة أو الأفكار
المنحرفة لغرب أو لبقايا شرق، مستعينين في ذلك بالله -سبحانه وتعالى- الذي
أوصلكم إلى هذا الأمر بعد أن كنتم مستضعفين باذلين في جمع كلمتكم وتوحيد
صفوفكم ما تملكون من نفس أو نفيس لتحقيق هدفكم الحق المنشود من إقامة حكم
إسلامي لا يد فيه لشرق، ولا لغرب، ولا لرافضي، ولا لطرقي، ولا لمن يأتمر
بأمرهم، منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله، وسير الملتزمين لهما بين أئمة الهدى.
نرجو الله الذي أفرحنا - نحن المسلمين - بانتصاركم على ألد خصم وأعنته
للمسلمين في الدنيا يوم أن بدأتم جهادكم معه قبل 14 سنة بعشرين رجلاً؛ أن
يفرحنا بقيام الدولة التي جاهدتم من أجل قيامها. وفقكم الله وجمع كلمتكم على الحق، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(52/56)
المخاض في أفغانستان
د. يوسف الصغير
لم يكن التدخل في أفغانستان بالنسبة للروس إلا حلقة من حلقات التوسع الذي
مارسوه بنجاح لعدة عقود، وبنفس الأسلوب تمَّ إنشاء ودعم مجموعات وأحزاب
شيوعية تتغلغل في السلطة القائمة وتبطش عن طريقها بخصومها ثم تنقض على
السلطة وتستولي عليها ثم تتبع ذلك بعملية تصفية للمجتمع القديم ثقافياً واجتماعياً
واقتصادياً مع فرض النظام الاشتراكي وربط البلد ربطاً تاماً بالمنظومة الشيوعية.
كانت أفغانستان منطقة صراع على النفوذ بين كل من بريطانيا العظمى
وروسيا القيصرية التي احتلت تركستان الغربية المحاذية لأفغانستان في الشمال ولم
تكن روسيا البلشفية (الشيوعية) إلا وريثاً للنظام - الاستعماري القديم حيث أعادت
احتلال تركستان بعد فترة من عدم الاستقرار وبدأت تتطلع إلى تنفيذ الحلم الروسي
القديم بالوصول إلى المياه الدافئة.
ولذلك بادرت لنشر المبادئ الشيوعية في المنطقة وتم لها ذلك حيث بدأ نشاط
الشيوعيين في أفغانستان منذ الثلاثينات الميلادية في هذا القرن. وبدأ التغلغل في
بنية النظام القديم ولما رأوا في أنفسهم قوه قرروا استلام السلطة من وراء الستار
فقاموا بانقلاب عسكري شيوعي في عام 1973 م ولكن باسم محمد داود ابن عم
الملك الذي كان رئيساً للوزراء لعدة فترات متعاقبة واستغلوا حقد محمد داود على
الإسلاميين فقاموا بضرب الحركة الإسلامية باسمه وحاول الإسلاميون توضيح هوية
النظام ولكن دون جدوى حيث أن العلماء التقليديون وعامة الناس لم يتصوروا أن
محمد داود سليل الأسرة الكريمة عدوٌ للإسلام وألعوبة بأيدي الشيوعيين الذين
يلبسون لباس العلمانية.
ولما أراد الله بهذه الأمة خيراً أوقع الشقاق بين محمد داود وحلفاءه الشيوعيين
فقد أحس بالخطر الشيوعي على نظامه فحاول التقرب من إيران وأمريكا فبادر
الشيوعيون إلى إسقاط النظام وقتل حليفهم محمد داود وجميع أفراد عائلته وتم
تنصيب محمد طراقي رئيساً للدولة وهنا بدأت تتضح الأمور للعامة قبل الخاصة.
وبدأ الجهاد يكسب التأييد الشعبي وقام النظام بعمليات قمع وحشية لم تزد
المجاهدين إلا قوة وإصراراً واضطر الروس إلى دعم النظام عن طريق المستشارين
والدعم الاقتصادي والعسكري وكانت أقدام الدب الروسي تغوص في الوحول
تدريجياً واكتشف الروس متأخرين أن الشيوعيين الأفغان قد أخطأوا في حساباتهم
ولكن التراجع كان غير ممكن نظراً لأن سياسة الكرملين كانت دعم أي نظام
شيوعي في العالم بكل وسيلة ومهما كانت التضحيات، وفي نفس الفترة كان الروس
يحاولون تثبيت النظم الشيوعية الجديدة في كل من أثيوبيا وأنجولا ونيكارجوا وذلك
بواسطة عملائهم الكوبيين ولكن في أفغانستان لا مفر من التدخل المباشر خاصة بعد
استفحال الصراع الداخلي بين الأجنحة الشيوعية حيث دبر انقلاب عسكري قتل فيه
محمد طراقي مما جعل بريجينيف ينتفض من الغضب على مدبره حفيظ الله أمين
ويأمر الجيش السوفييتي بالتدخل وقام الروس بقتل حفيظ الله وتنصيب بابراك
كارمل الذي جاءوا به من خارج أفغانستان على متن دبابة.
وكانت القوات الغازية مكونة في غالبيتها من الجنود القادمين من الجمهوريات
الإسلامية وذلك لتشابه الملامح في محاولة لخداع الرأي العام، ولكن أولئك الجنود
اكتشفوا أنهم لا يقاتلون الصينيين والأمريكان بل يقاتلون ثواراً مسلمين وبدأت نسخ
القرآن الكريم تتسرب إلى الجنود ومنهم إلى داخل الجمهوريات، ولذلك سارع
الروس بسحب هذه القوات وحلت محلها قوات قادمة من الجزء الأوربي أي روس
وأوكرانيون وغيرهم. وهنا بدأ الروس يحسون بالخسائر البشرية التي بلغت حداً
كبيراً نتيجة لتوسع الجهاد ومسارعة الشعوب الإسلامية لمده بالمساعدات، ثم
تدخلت الأطراف الدولية في الصراع وبدأت أمريكا ترى في أفغانستان فرصة
للانتقام من الروس الذين أذلوهم في فيتنام وبدأت الأسلحة الحديثة تصل إلى أيدي
المجاهدين عن طريق الوسطاء الإقليميين ومن أهمهم الباكستانيون وكان الهدف
الواضح هو إخراج الروس وليس أكثر من ذلك وبدأ الروس يعترفون بخطورة
الوضع وبدأت الدعوات لحل سلمي للقضية ولكن المشكلة هي: ما هو البديل
المقبول للنظام الشيوعي الذي لا أمل له في البقاء؟
* الملك ظاهر شاه: نعم إنه أمنية ليس فقط لمحبيه من الأفغان مثل مجددي
وجيلاني وبالتالي لأمريكا ولكن أيضاً هو أمل للروس، وقد أعلن نجيب استعداده
لمبايعة الملك ولكن المجاهدين وقفوا بالمرصاد لهذا الحل وبينوا أن الملك هو سبب
المشكلة وأنه منذ الانقلاب وهو قابع في إيطاليا وكأن الأمر لا يعنيه.
* نظام علماني صريح على النسق الغربي: نعم إنه مقبول من الروس
والأمريكان ومن شايعهم ولكن لا يمكن إنجاحه في أفغانستان فالمجاهدين لا يمكنهم
القبول به.
* نظام علماني ملبس بغطاء إسلامي خفيف وهو ما يقبله الكبار والصغار
ويمكن أن يُخدع به الكثيرون من الطيبين في داخل أفغانستان وقد يعارضه بعض
المجاهدين المتميزين أو الذين يسمونهم بالأصوليين.
وبدأت رحلة من التصعيد العسكري والغزل السياسي وطرح مبدأ المفاوضات
في جنيف وكان موقف المجاهدين أنهم لا يتفاوضون إلا مع الروس وأن حكام كابل
ما هم إلا عملاء لهم ورضخ الروس للأمر وبدأت المفاوضات على أنهم هم الطرف
الثاني في القضية وأعلنوا أنهم سينسحبون من أفغانستان. تم الانسحاب في 15
فبراير 1989 م وبدأت الأطراف الإعداد لما بعد الانسحاب [1] فمن الجانب
الشيوعي قام الروس بتكثيف دعمهم للجيش الأفغاني ودعموا ميليشيات قائمة على
الانتماء العرقي وسُلحت ميليشيات في مختلف المناطق وكانت فكرة شيطانية حيث
أنهم جموع من العوام الجهلة الذين يقاتلون لمن يدفع المال ولا يهمهم غير ذلك.
وفي الجانب الآخر كانت الجهود محمومة أيضاً، فقد فرض على المجاهدين
وحدة أُدخل فيها العملاء مع العلماء المجاهدين وتكونت حكومة مؤقتة بزعامة
مجددي لإتمام حل القضية وإسقاط النظام. ولكن تبقى مشكلة كبيرة، أن القوى التي
تسمى متطرفة هي القوية على أرض الواقع وهي التي تملك السلاح ولأنها هي
القادرة وحدها على القتال وغيرها يحسن التصريحات والخطب والمؤامرات وخوفاً
من امتلاك المجاهدين لكميات كبيرة من السلاح بعد انسحاب الروس فقد تم ترتيب
الأمور التالية:
- تدمير السلاح الذي كان في طريقه إلى المجاهدين عبر خطوات كان من
بينها تفجير مخازن السلاح المعد للتسليم للمجاهدين وقد وقع عدد كبير من القتلى
بين المدنيين بسبب ذلك.
- الضغط على الحكومة المؤقتة للمجاهدين وتوضيح أن أمريكا وحلفاءها لا
يمكن أن يعترفوا بحكومة لها وجود فعلي على أرض أفغانستان واستعجلوا
المجاهدين وأملوا عليهم طريقة إسقاط النظام، فزينوا لهم تحرير جلال آباد حتى يتم
الاعتراف بهم ووقعت الكارثة حيث إن المجاهدين قد أعدوا وسلحوا للقيام بحرب
عصابات فلما تم وضعهم أمام جيش نظامي وجهاً لوجه كانت التجربة مرة وفشل
المشروع من جهة المجاهدين ونجح الآخرون، فقد تم استهلاك كميات هائلة من
الأسلحة والذخيرة بدون طائل ومن بينها استشهاد كثير المجاهدين ومن بينهم كثير
من المجاهدين العرب.
وأياً كان سبب الفشل فقد كانت عملية جلال آباد من أهم أسباب صمود النظام
حيث ارتفعت معنويات أركانه وتبخرت آمال المجاهدين بنصر سريع كما هو متوقع
لو استمروا بحرب العصابات، وهنا تحمس أعداء الإسلام فبدأت الأم المتحدة
تطرح بقوة مبدأ حكومة موسعة يشترك فيها الشيوعيون، ثم تنازلوا وطرحوا فكرة
إدارة مؤقتة على أن تستمر (45) يوماً يعقبها عقد لوياجركا يتم عبرها انتخاب
حكومة مؤقتة. وقد رفضت الأحزاب الجهادية هذه الخطة (خطة سيفان) ، وقبلها
مجددي وجيلاني وقدما قائمة بأسماء مرشحيهم [2] .
وعلى الرغم من أن بنيون سيفان نفى أن تكون هذه القائمة ممن اختارتهم الأمم
المتحدة وذلك في مقابلة مع هيئه الإذاعة البريطانية فإن طائرة تتبع الأمم المتحدة قد
جلبتهم إلى إسلام آباد برفقة سيفان [3] في خضم نشاط الأمم المتحدة المحموم
لتجنب قيام حكومة إسلامية ولكن الأحداث تجاوزت كل هذه الأطروحات.
وقد بدأت الأحداث الأخيرة بقيام نجيب بمحاولة عزل بعض الجنرالات في
الشمال مما أدى إلى تمرد ثلاثة جنرالات وقامت المعارك بينهم وبين القوات الموالية
للحكومة فاستغل المجاهدون الفرصة فقاموا بتكثيف هجماتهم، وتم لهم احتلال مزار
شريف في 24 رمضان التي تعتبر العاصمة الاحتياطية عند سقوط كابل، وعندها
قام نجيب بالقاء خطاب يعلن فيه استعداده للاستقالة إذا تم تشكيل حكومة انتقالية
وذلك بعد لقائه مع سيفان مندوب الأمم المتحدة، وقد تردد أن الجنرال رشيد دستم قد
عرض على المجاهدين أن يمكنهم من السيطرة على منطقة مزار شريف شريطة أن
يعترف به كأحد فصائل المجاهدين [4] ، ويبدوا أن هذا هو الذي حصل مع أحمد
شاه مسعود وقد استمر تقدم المجاهدين إلى كابل وعندها أعلن في كابل عن تكوين
مجلس عسكري مكون من الجنرال محمد أمين عظيمي نائب وزير الدفاع والجنرال
بابا خان والجنرال آصف دويلاور والجنرال عبد المؤمن أحد الذين تمردوا على
نجيب في الشمال. وتعتبر هذه التحركات محاولة أخيرة من أركان النظام الشيوعي
للإبقاء على أنفسهم. وأما الميليشيات التي كانت رأس الحربة ضد المجاهدين فقد
أعلنت فقط قبل أيام من سقوط نجيب انضمامها لبعض المجاهدين أو بالأحرى
تحالفها معهم وقام كبار الضباط بالقيام بانقلاب وهمي لأن سقوط كابل كان مسألة
وقت حيث تم عزلها من جميع الجهات حتى اضطرت أمريكا أن تضغط على
باكستان لإرسال المؤن عن طريق الجو إلى كابل وكانت حركة مبعوث الأمم المتحدة
وقدوم بطرس غالي إلى المنطقة وزيارته باكستان وإيران هي محاولة لتكوين موقف
ضد الخطر الماثل ألا وهو قيام حكومة إسلامية من قبل المجاهدين، وكان التنافس
بين المجاهدين هو المدخل الذي دخل منه الأعداء حيث وقفوا مع طرف حتى
يضعفوا الطرف الآخر ثم ينقضوا على الجميع، وقد قامت طائرات النظام بنقل
القوات من الشمال سواء التابعة للميليشيات أو الجمعية وذلك حتى تسبق الحزب
الإسلامي وتستولي على كابل.
وتبين أن خطة الأمم المتحدة غير ممكنة التطبيق على الرغم من دعم باكستان
وإيران لها ومع ذلك فإن اليأس لم يتطرق للأعداء الذين حنوا رؤوسهم للعاصفة
مؤقتاً ليحققوا ما يستطيعون من مكاسب. فإنه لما اتفق المجاهدون على تشكيل
حكومة يرأس فيها الدولة رباني ويتولى حكمتيار فيها رئاسة الوزراء اقترح بعض
الأطراف أن تكون هناك حكومة مؤقتة لمدة شهرين بقيادة مجددي مما أعاد خلط
الأوراق حيث أن شخصية مجددي ليست هي الأمينة أو المؤهلة للقيام بهذه المهمة
المصيرية.
لم يقبل حكمتيار تعيين مجددي وأعلن أنه سيدخل كابل، ولكن أطراف
المجاهدين الأخرى لسبب ما وقفت مع أحمد شاه مسعود ومجددي ومن والاهم من
الميليشيات والمجلس العسكري، وقامت الميليشيات بخوض المعارك الطاحنة في
كابل لإخراج قوات الحزب الإسلامي التي دخلت كابل في وقت سابق وتعرض
حكمتيار إلى هجوم عسكري من الميليشيات وإعلامي في أجهزة الإعلام كافة التي
كانت تطبل لمجددي ومن حوله، وكانت إيران أكثر الأطراف حنقاً على حكمتيار
حيث أنها لا يمكن أن تتحمل قيام دولة سنية مجاورة لها فكشرت عن أنيابها،
وأعلنت إذاعة طهران أن إيران تتابع الوضع عن قرب، وأنها لن تقبل بغير صيغة
الأمم المتحدة إلا أن تتولى السلطة مجموعة مناسبة لها [5] ، وكان استقبال إيران
لبطرس غالي حافلاً، فأهدافهم واحدة وقد تنبه بعض قادة المجاهدين للدور الإيراني
وكان حكمتيار ويونس خالص أكثرهم وضوحاً.
أما باكستان التي كان لها موقف طيب من الجهاد نوعاً ما، فقد تبنت الحلول
المستوردة، وتردت علاقتها مع حكمتيار ومع الجماعة الإسلامية الباكستانية التي
خرجت من الائتلاف الحكومي.
وما أن وصل مجددي حتى كان في استقباله الجنرال محمد عظيمي ووزير
الخارجية الشيوعي عبد الوكيل وبدأ بدلاً من إقرار الأمن ودفع تعدي الميليشيات
بإصدار قرارت العفو عن الشيوعيين، والطلب من قوات الحزب الإسلامي أن يلقوا
السلاح، وبدأت الأصوات تعلو وتقول: إن الحزب خرج على الحكومة، وأنه لا
يمكن أن يقبلوا به رئيساً للوزراء، بل لقد صرح زعيم الجبهة القومية أحمد جيلاني
بأنه يرفض الاشتراك في حكومة للمجاهدين يتولى رئاستها زعيم الحزب الإسلامي، وعن رأيه في تركيبة الحكومة الحالية قال: ليست حسب رغبتي وطموحاتي
فمعظم المقاعد المهمة والحساسة ذهبت للمتطرفين، وعندما سئل هل يعتبر رباني
من المتطرفين راوغ ولم يجب [6] . واضطرت قوات الحزب أن تخرج من معظم
أنحاء كابل وسط التهليل العالمي لهذه الانتكاسة لرأس المتطرفين. ولكن الأمور
بدأت تتغير وتميل لصالح الحزب الإسلامي وذلك لعدة أسباب:
1- إخلاص بعض القادة الذين كانوا قد خدعوا من قبل، فما أن وصل يونس
خالص وسياف حتى ساءهم ما آلت إليه الأمور واقتنعوا بأن مع حكمتيار الحق في
رفضه للمليشيات وفي رفضه لمجددي، أما رباني فكانت اتصالاته مستمرة مع
حكمتيار لأنه يعي حقيقة أن الأمور قد تخرج من يد الجمعية إذا كانت الأمور بيدها
حقيقة.
2- عدم التناسق بين أطراف التحالف فأحمد شاه مسعود يقال أنه معتدل ولكنه
لم يصل إلى حد التفريط بالخيار الإسلامي، فسرعان ما تصادم مع دستم، ولكنه
يرى أنه مضطراً للتعامل معه ومع المجلس العسكري.
3- تسرع مجددي في تصرفات وتعيينات وإقدام على أمور ليست من
اختصاصه، مما يتبين أن له هدفاً مرسوماً ولكنه منفذ غير حكيم، فهو يهاجم بشدة
حكمتيار ويعفو عن الشيوعيين بل ولا يرى مانعاً من العفو عن نجيب، ومن جانب
آخر يسارع لتعيين أتباع حلفائه مثل تعيين الجنرال عبد الرحيم وردك الذي يتبع
جيلاني رئيساً للأركان بدون استشارة مسعود وزير الدفاع الذي هو الآخر له
حساباته فيصر على بقاء رئيس الأركان في منصبه، بل إنه لما رأى بوادر تقارب
بين مسعود وحكمتيار طار إلى مزار شريف والتقى مع دستم وعينه جنرالاً في
الجيش وامتدح جهاده لمدة ست سنوات (أي ضد المجاهدين) ، بل لم يتورع عن
التصريح في باكستان أنه يتحفظ على تطبيق الشريعة الإسلامية فوراً، وقبل ذلك
كان يكرر أن الشعب يحبه ويرغب في بقائه وأنه لا مانع لديه من البقاء لمدة سنتين
حيث أن الشهرين لا تكفي.
4 - براعة الحزب وعدم وقوعه في الشراك، فإنه تجنب المواجهة الشاملة
أولاً، وركز على أن مشكلته ليست مع الجمعية ولا مع مسعود بل مع الميليشيات
مما قوى موقفه وأضعف خصومه، وقد تم أخيراً اللقاء بين مسعود وحكمتيار وتم
الاتفاق بينهما على أمور نرجو أن يكون فيها كل الخير وأن يتم تطبيقها حيت أن
هناك كثيراً من الأطراف لا تريد أن يتم اتفاق بين المجاهدين لأنهم يعرفون أن
فرصتهم الوحيدة لتسيير الأمور هو اختلاف هذين القطبين.
5- صفاقة قائد الميليشيات دستم حيث عرض التقسيم على أساس عرقي في
أفغانستان وهذا ما لم يقبل به المجاهدون، وقد ردت الجمعية على ذلك ببيان طويل
وأيضاً فإن تصرفات الميليشيا في كابل أحرجت مسعود حيث إنهم يتصرفون
باستقلالية بل قال عبد المجيد نائب دستم من يستطيع أن يمنع الجنرال دستم إذا قرر
الذهاب الليلة إلى التلفزيون وإعلان نفسه رئيساً [7] .
اتفاق حكمتيار ومسعود:
بعد التأجيل لمرات عديدة بل وقيام قوات تتبع محمد بن محمدي حليف مجددي
بمنع مسعود من الوصول إلى مكان الاجتماع تم اللقاء المرتقب (24/11/1412)
وفيه تم الاتفاق على الآتي:
* عدم تمديد ولاية رئيس المجلس الانتقالي للمجاهدين.
* أن يتسلم برهان الدين رباني رئاسة الدولة.
* سحب قوات الميليشيات من كابل وإحلال قوات محايدة مكانها.
* إجراء انتخابات رئاسية في غضون ستة أشهر وبرلمانية في غضون سنة.
* تسليم أمن العاصمة إلى المجاهدين بإشراف وزارة الداخلية وتشكيل لجنة
لفض المنازعات [8] .
وإذا كان هذا الاتفاق بداية لتعاون نرجو أن يساعد في تجاوز هذه المرحلة
الصعبة بأكبر قدر ممكن من المكاسب وأقل حد ممكن من الخسائر فإن لنا كلمة يحب
أن نقولها:
قال تعالى: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ] [الأنفال 45] ، وقال تعالى: [إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام 159] ، ولا أظن أننا بعد هذه الآيات الواضحات بحاجة
إلى بيان خطر الفرقة والتنازع وأنها سبب الفشل والخذلان وهذا شيء ملموس ولكن
ليس معنى هذا أن ننسى أن الله جمعنا على دين وفرق بيننا على أساس الدين
والاجتماع ليس على أساس العرق أو القبيلة أو اللغة أو الحزب بل الأصل فيه هو
الدين، وهذا أمر يجب أن يعطى أكبر الاهتمام فبلاد أفغانستان بلاد واسعة كثيرة
الأعراق والقبائل فلا تجمعها لغة ولا قبيلة، بل لا يمكن أن تجتمع إلا على دين حق
وهذا يلقى على كاهل الدعاة والمربين مسؤولية كبيرة في جمع هذه الأمة المجاهدة
على اعتقاد سليم ومنهج منضبط وطريق مستقيم.
جدول الشخصيات التي اختارتهم الأمم المتحدة:
1-عبد الصمد حامد نائب رئيس وزراء في عهد ظاهر شاه
2-عبد القادر سيرت وزير عدل سابق في عهد ظاهر شاه
3-البروفسور أصغر ... وزير عدل سابق في عهد ظاهر شاه ورئيس
... ... ... ... ... ... بلدية كابل
4-الدكتور طبيبي ... وزير سابق وزير سابق في عهد ظاهر
... ... ... شاه
5- الدكتور ابراهيم حفيظي وزير صحة سابق في عهد ظاهر شاه
6-عبد الحكيم ... ... جنرال شرطة سابق ومسؤول عن أمن
... ... ... كابل
7-عبد الجبار ثابت ... ... مذيع في صوت أمريكا
8-اختر محمد بختري ... مسؤول سابق عن الطيران في عهد ظاهر
... ... ... ... ... ... شاه
9-يعقوب لالي ... وزير معادن في عهد ظاهر شاه
10-الدكتور يوسف ... رئيس وزراء سابق في عهد ظاهر
... ... شاه
11-عبد الوكيل ... وزير زراعة سابق في عهد ظاهر شاه
12-يحي نوروز جنرال سابق يعمل مستشاراً لمجددي حالياً
13-هاشم مجددي تاجر سابق يقيم في المدينة المنورة
14-شمس ... ... ... تاجر سابق يقم في ألمانيا
15-جمعة محمدي وزير سابق في عهد ظاهر شاه
16-رسول أمين رئيس اتحاد كتاب افغانستان الحرة
17- عبد السلام عظيمي رئيس جامعة كابل سابقاً ومدير مكتب جامعة ... ...
... ... ... ... نبراسكا الأمريكية في بيشاور حالياً
__________
(1) (صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض الأمريكي أن المحادثات بين الزعيمين الأمريكي والسوفيتي بشأن أفغانستان قد أظهرت وجود تشابه كبير في وجهات النظر للجانبين فيما يتعلق بالصورة النهائية التي يريدان أن تكون عليها) أفغانستان الحاضر والمستقبل 12 ذو الحجة 1410 هـ.
(2) انظر الجدول المرفق في نهاية المقال.
(3) الحياة 13/10/1412 هـ.
(4) الجهاد رمضان / شوال 1412هـ.
(5) الحياة 17/10/1412 هـ.
(6) الحياة 27/10/1412 هـ.
(7) الحياة 25/11/1412 هـ.
(8) الحياة 25/11/1412 هـ.(52/59)
أفغانستان
درس في السياسة الدولية
د. عبد الله عمر سلطان
في القرن المنصرم ثارت نار الصراع المحتدم بين بريطانيا والقيصرية
الروسية للسيطرة على أفغانستان، كانت الأمبراطورية البريطانية تحصد غنائمها
الهندية بعد سقوط آخر الممالك الإسلامية في شبه القارة.. كما كانت المستعمرات
المرتبطة بالمنجم الهندي الضخم تتهاوى تحت غطاء نيران بوارج الأسطول الملكي
من الخليج وحتى قناة السويس.. في ذات الوقت كانت القيصرية الروسية الأقل
تحضراً والأكثر تطرفاً في برنامجها الصليبي الأرثوذكسي تسعى للحصول على
حصة استعمارية ثمينة بعد نجاحات متراكمة في جمهوريات آسيا الوسطى أو ما كان
يعرف بتركستان ...
وبين الدب الروسي الجائع والمستعمر النهم، كانت أفغانستان هي الحديقة
الخلفية التي تنازع عليها (السارقان) ، فاللص الروسي الطموح يرى في أفغانستان
منفذه على القارة الهندية ومياه الخليج الدافئة التي تجعل من أسطوله قوة مرعبة،
أما المستعمر البريطاني المتمرس فقد كان يرى في سقوط ممر خيبر في أيدي
الروس بداية التسلل إلى المستعمرة الأهم في منظومة منهوباته العديدة (الهند) ....
وحدها أفغانستان لقنت القوتين الظالمتين درساً قاسياً لكل مستعمر زنيم.. فلا
بريطانيا العظمى نجحت في تطبيق قانون الانتداب والاستعمار السائد في ذلك
العصر على هذه البقعة الاستراتيجية، ولا روسيا القيصرية، بكل آمالها
وطموحاتها حققت نجاحاً يذكر في مغامرتها الأفغانية! .
كان قدر الأفغان ببساطتهم وإيمانهم ورجولتهم أن يبرهنوا للعالم الإسلامي
المتهاوي - في تلك المرحلة ولا يزال - أن البارجات والجنرالات والمندولين
الساميين بضاعة تزدهر في وحول المؤامرات ومستنقع أشباه الرجال.. من الذين
تسلموا مقاليد الأمور في سرايا الباب العالي وتصدوا للفكر والسياسة من تلاميذ
الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة وما تلاها من نسل كالح تمثل في حركات حصرت
نفسها في إطار رد الفعل كالثورة العربية الكبرى التي كان يديرها (لورنس) ؛ أسوأ
الأمثلة وأكثرها وضوحاً على إفلاس القيادات التي رحبت بأن تكون دمية (النظام
الدولي الجديد) الذي كان يلوح في الأفق! .
لقد كانت التجربة البريطانية في أفغانستان باهظة الثمن ولم تنته تلك التجربة
وما تلاها من فصول إلا ورياح الإخفاق والانحصار تحاصر (العجوز الإنجليزى)
وترمي بأول سهامها نحو نحره الذي ظل يتلقى النصال المتوالية حتى سقطت
الإمبراطورية العظمى بعد حين! لتصبح بريطانيا من دول الصف الثاني ... أو
الثالث.
هذا المصير المأساوي والنهاية الدرامية كانت من نصيب الدب الروسي بعد
قرن من زمن حينما خاض في الوحل الأفغاني مرة أخرى دون أن يتعظ من سلفه
البريطاني أو مغامرات أباطرته الأوائل!
الأطماع الروسية المستجدة:
كان سقوط الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى على يد لينين نهاية
الأحداث والحروب المتتالية بين الشمال الأرثوذكسي المتمثل بالإمبراطورية الروسية
والجنوب المسلم الذي تراجعت مناعته وقوته حين شاخت سلطنة آل عثمان وبرزت
الدولة الصفوية قوةً رافضيةً متعصبة استطاعت أن تحول إيران وأذربجيان إلى
سواد رافضي تقف على رأسه سلطة سياسية تهدف إلى زعزعة قوة الخلافة
الإسلامية عبر التحالف مع القوى الغربية لاسيما الاستعمارية لا سيما روسيا
القيصرية وبريطانيا ...
وبعد أن استكمل ستالين عمليات الضم القسري لمسلمي بلاد ما وراء النهر
كانت أفغانستان لا تمثل في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية هدفاً مباشراً،
لكن خروج الاتحاد السوفييتي منتصراً من حربه الكونية وما أعقب ذلك من
محاولات مستميتة لتصدير الثورة، وتلميع النموذج الروسي /الاشتراكي أصاب
أفغانستان داؤه ولو بعد حين..
وفي أفغانستان كما في أي قطر إسلامي كانت الفئات التقليدية (المحافظة)
على الوضع لا تدرك مدى شيخوختها وعجزها عن مجاراة النموذج الأيدلوجي
الشاب الذي يقف بجوارها.. كانت هذه الفئة التقليدية المحافظة تنظر إلى يومها ولا
تفكر بغدها..، تعيش هموم اللحظة وتستعر بينها نار الخلافات ويتطاير غبار
المعارك التي تجري من أجل الحصول على منفعة قريبة أو متاع حقير ... ، لم
تدرك هذه الفئات أن (الدين) الذي كانت تمارسه هو مجموعة من الطقوس الصوفية
والأفكار الإرجائية والعادات الاجتماعية التي لا تمت لجوهر الدين بصلة في حين
أنها تسلب هذا المعتقد أصوله وتقتلع جذوره الحقيقية مكتفية ببعض الأغصان ذات
الرائحة الطيبة والطعم المر! وكان ظاهر شاه مستغرقاً في اهتاماته الصغيرة محاطاً
بالفئات التقليدية والمنتفعين بوجوده بينما كانت الشيوعية البراقة آنذاك تشق طريقها
بتؤدة حتى استطاعت أن تستقطب بعض اقارب الملك وحاشيته كرئيس الوزراء
محمد داود ... في الجانب الآخر كانت أمريكا ترقب ما يحدث غير عابئة كثيراً
بتطورات الأوضاع الداخلية في أفغانستان أو بصراع القوى الدائر بالرغم من
المعلومات التي كانت تتوالى من المخابرات الأمريكية في إيران وأفغانستان عن
احتمال استيلاء الشيوعيين على السلطة.. وفي نهاية شهر ديسمبر 1959 وبعد
الانقلاب الشيوعي الأول دخلت أفغانستان بؤرة الاهتمام العالمي بتحولها إلى حديقة
خلفية للصراع المحتدم بين السوفيات وأخذت الأحداث تتسارع والضربات تشتد..
ومرة أخرى، كان ملفتاً للنظر أن قوة محلية صغيرة العدة والعتاد، واسعة
الأمل عميقة الثقة بقضيتها تنتفض على الواقع الثقيل والجحافل المسلحة بأشرس
وأعنف ما عرفته البشرية من آلات الموت ونتاج الدمار ...
في البداية كان اسم المجاهدين مثيراً للتساؤل والغرابة.. حتى من قبل أبناء
الحركة الإسلامية حيث كانت تجربة مجاهدي فلسطين تتحول أمام أنظارهم إلى
مصطلح بشع يتاجر به العلمانيون الفلسطينيون بقضية شعبهم الصبور ... ، وما هي
إلا أشهر قلائل حتى بدأت القضية الأفغانية تجتذب مشاعر وحماس وجهود المسلمين
من كل صقع..، وبعد أعوام قليلة، حينما وقف عبد رب الرسول سياف مخاطباً
مؤتمر القمة الإسلامي بالطائف، كان (المجاهد) عرفات يهزأ به وبطول لحيته
ويقول: (نحن نقف مع الحكومة الشرعية ضد هؤلاء المتمردين المتخلفين! ! ! !) ، كانت كلمات سياف معبرة عن مفهوم جديد لفهم المتغيرات الدولية حيث تستجيب
لتطلعات الشعب الأفغاني وآماله مع التعامل الحذر الذي يرفض الاستجداء
والتوظيف والتحالف مع القوى الخفية التي ترمي إلى استغلال جهد وعرق
المجاهدين، مع ما رافق ذلك من ظهور أمثلة العمالة والخيانة والرضى بالدنيا
متمثلة ببعض المشبوهين الذين لحقوا بقافلة الجهاد وهم المنحرفون منهجاً
والمشبوهون واقعاً.
ثم تكون عليهم حسرة:
(تجد الولايات المتحدة نفسها الآن رغم إنفاقها الملايين من الدولارات على
تسليح المجاهدين الأفغان، لا تملك أي تأثير فعلي على مجريات الأحداث في
أفغانستان مع بلوغ الحرب في أفغانستان عامها الرابع عشر، وأصبح دور الحكومة
الأمريكية التي استمرت في تسليح المجاهدين حتى وقت قريب مقتصراً على توجيه
النداءات بضبط النفس وإصدار بيانات تعرب عن تأييد جهود الأمم المتحدة السلمية، ويقر مسؤولون كبار بوزارة الخارجية الأمريكية بأنه ليس في استطاعتهم فعل
شيء يذكر بخلاف متابعة الأحداث وتمني تحسن الأوضاع! !) . بهذه الكلمات
لخص محلل وكالة رويتر الموقف الأمريكي في خضم الحديث عن النظام العالمي
الدولي الجديد وضرورة تطبيق مبادئ الشرعية الدولية، كما تريد أمريكا أن تفسر،
ويبرز المثال الأفغاني بمثابة الضوء الساطع الذي يعري حقيقة هذا النظام ومراميه،
ففي الوقت الذي تُوجه نداءات النظام الدولي الجديد للخائفين والمرتجفين بضرورة
تدمير هذا السلاح أو القبول الكامل لشروط المنتصرين تبقى بنادق المجاهدين
مشرعة وشامخة ومستعلية لإيمانها العميق وعدالة قضيتها منذ أن حركت جموع
الشعب الأفغاني في ذلك الشتاء القارس قبل 14 عاماً..
كانت خطة سيفان وقرارات الأمم المتحدة نمطاً آخراً ومثالاً شاخصاً لما يسمى
بالنظام العالمي الجديد وتطبيقاته في آسيا.. وها هي الولايات تقف متحفزة ومنتظرة
تطورات الأوضاع في أفغانستان بالرغم من زوال شبح الشيوعية وانتهاء الحرب
الباردة ... ذلك أن المجاهدين الأفغان في خضم معركتهم الكبرى مع روسيا فجروا
لغمين دوليين: انهيار الاتحاد السوفييتي بعد الهزيمة التي أذاقهم أياها أصحاب
اللحى الكثة والأيدي الخشنة والجباه الراكعة وتبع ذلك استقلال جمهوريات آسيا
الوسطى ذات الأغلبية المسلمة وما سيتركه المثال الأفغاني من استقلالية ورفعة
وانتصار ضد كل محاولات الترويض والهيمنة التي تدعي بأنها شرعية دولية أو
أنظمة دولية جديدة.
وبانتهاء الحرب بين المجاهدين والشيوعية أصبحت بصمات هذا الخيار الحر
تمتد وتنمو لتشكل نموذجاً مليئاً بالحياة مبيناً أن ما يسمى بالنظام الدولي الجديد إنما
يقبل الحياة ويرسم مستقبل الشعوب التي تؤمن في لحظة انكسارها وهزيمتها أن
هناك نظاماً مكتوباً ومعداً لهذه المنطقة أو تلك، وأن أفغانستان المسلمة حطمت
خرافة هذه الإدعاءات عندما صبرت وصابرت ورابطت وكسرت مؤامرات السلم
كما شمخت وقت الحرب وعواصفها أمام الضغوط الدولية والإقليمية.. وهذا درس
مجاني في السياسة الدولية والدراسات الاستراتيجية.
يبقى هذا الدرس رائداً حينما ندرك حجم الأخطاء وأثر الخلافات الداخلية
التي رافقت المنحى الإيجابي لهذا النصر التاريخي.. الذي شهد به محلل الوكالة كما
شهد به المفكر الأمريكي كريستفور أوقدين. حينما قال: (منذ عام 1980 أنفقت
واشنطن أكثر من 2 بليون دولار كأسلحة لقوات المتمردين الذين أسقطوا بواسطة
الصواريخ الأمريكية أكثر من 300 طائرة روسية.. لقد حاول الأمريكان أن يقوموا
بنفس الحركة مع ثوار الكونترا لكنها فشلت رغم أن الأفغان كانوا يواجهون الروس
مباشرة، لكن رغم تحقق الحلم بانهزام الشيوعيين في أفغانستان فإن التحدي الآن
هو في موقف المجاهدين الذين لا يشعرون بالمنة والود تجاه أمريكا، وبانهيار
الشيوعية يبقى الإسلام يمثل التحدي في المنطقة، إنه كالخميرة التي ستنضج في
وقت ما وعندها سنجده أمامنا ولا ندري إلى أين ستمتد قامته في وجود الأصوليين
كقلب الدين حكمتيار) ، إن ما قاله هذا المفكر الأمريكي يكشف حقيقة المعضلة حين
تقارن التجربة الأفغانية بتلك الذيلية التي تتلقى الرعاية وتلتزم بالولاء لأمريكا..
كما أنها تزيح الستار عن مدى الحنق والحسرة التي تنتاب المفكرين والساسة هناك
وهم يرون الدعم السابق يحمل في أحشائه التحدي القادم الذي سينفقون ما يقدرون
لاغتياله: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ
تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] .(52/70)
مسلمو بورما
بين ماض مزهر وواقع مؤلم
أحمد عبد العزيز أبو عامر
حقيقة هامة علمناها ديننا الحنيف وهي أن المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها كالجسد الواحد كما جاء في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-،
قال رسول الله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد ...
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وهذا شعور كل
مسلم تجاه إخوانه المسلمين مهما تباعدت بينهم البقاع أو تناءت بهم الديار. وما
عرفنا في تاريخنا الإسلامي المجيد قاطباً صلدة ومشاعر متحجرة ترى ما يفعله
الأعداء بإخوانهم في العقيدة من قتل وتشريد واضطهاد وكأن الأمر لا يعنيها إلا في
عصورنا المتأخرة. نعم إن جل ديار الإسلام تحكمها أنظمة ديكتاتورية لا تأبه
بالرابطة الإسلامية، ولا تهتم بما يجري لكثير من المسلمين في أنحاء العالم من ظلم
وتشريد.
إن واجب أصحاب الأقلام المشاركة في التعريف بإخوانهم وفضح كل
المؤامرات التي تحاك ضدهم من قبل الحكومات الظالمة ليعرف الجميع أحوالهم
وواجبهم حيالهم.. وفي ذلك فضح لأدعياء الديمقراطية المزعومة في العالم المتمدن
وإظهار حقيقة أدعياء حقوق الإنسان ومن يزعمون نصرة المظلوم من الظالم..
صحيح أنهم ربما ينصرون بعض المظلومين لكن بشرط ألا يكون مسلماً.. لكن
حينما يصب العذاب صباً على المسلمين ويضطهدون تحت سمع وبصر العالم كله
فإن الآذان تصاب بالصمم، والعيون تصاب بالعمى، والألسنة والأقلام تصاب
بالبكم، أما حين يتعرض شعب أو جالية بل ربما فرد من ذوي الدماء الزرقاء أو
تهان كرامته فإنهم حينئذ يعلنون الطوارئ وتستنفر الأقلام وتتحرك كل وسائل
الإعلام فتقيم الدنيا ولا تقعدها حتى يقتص ممن تعرض لأولئك البيض زرق العيون
شقر الشعر أما المسلمون فلا بواكي لهم لماذا؟
السبب بسيط أوضحه كاتب إسلامي متابع حيث قال: (إن الدماء الإسلامية
هي أرخص الدماء حينما أهدر رخيصاً وتواطأ العالم كله على إهداره دون أن يرفع
أحد في هذا العالم عقيرته بما يسمى بحقوق الإنسان.. هذا الدم الرخيص يحتاج إلى
دراسة مستقلة وافية تدين حضارة هذا العصر الذي يدعي أبناؤه التقدمية والحرية
العقائدية وحقوق الحيوان) .
وسيكون لي معك أيها القارئ الكريم إطلالة مع واقع شعب مسلم مضطهد في
(ميانمار - بورما سابقاً) في ماضيه الزاهر وواقعه ومستقبله المظلم. إن مسلمي
بورما المسمين (بالروهانجيين) وقبل بيان التفصيل انبه إلى ملاحظة هامة وهي
خطأ تصور الكثيرين إن معاناة شعب بورما المسلم إنما هي في (أركان) حتى جعلت
قضية مسلمي أركان هي قضية مسلمي بورما قاطبة. صحيح أن (مسلمي أركان هم
أكبر تجمع للمسلمين هناك) لكن توجد تجمعات أخرى كثيرة للمسلمين في كل من
(ماندلي وديفيو وشان ومكاياه والعاصمة رانجون) وغيرها.. وسيكون الحديث حول
هذا الموضوع ضمن العناصر التالية:
- ماضي المسلمين الزاهر، كيف تدهور منذ الاستعمار البريطاني.
- الواقع المأساوي لهم بعد الانقلاب الشيوعي.
- المشاكل التي يعانونها من اضطهاد وسلب حقوق.
- الجهاد والدعوة التي يقوم بها المسلمون ولماذا فشلت.
- المستقبل المظلم ولماذا وكيف الحل.
الماضي الزاهر:
دخل الإسلام هذه الدولة بعد ما جاء بعض الدعاة المسلمين من الخليج وجنوب
الجزيرة العربية ومن الهند وغيرها، وأعجب أهل بورما بأخلاقيات الدعاة فدانوا
بدينهم، وعملوا في الزراعة ثم هيمنوا على التجارة وتوطنوا في كثير من البقاع،
وأكبر تجمع لهم في (أركان) . وجاء اسم (الروهانجيا) الذي ينتسب له المسلمون من
اسم قديم لأركان وقد استقروا فيها قبل (الماغ) البوذيين ويمكن إثبات ذلك عن طريق
العديد من الوقائع التاريخية التي تدعم هذه الحقيقة، ومما يدل على قدم المسلمين في
هذه الدولة الآثار التاريخية مثل مسجد (بدر مقام) في (أكياب) عاصمة (أركان)
وكذلك (مسجد سندي خان) والذي بني منذ 560 عاماً ومسجد (الديوان موسى) الذي
بني عام 1258م ومسجد (ولي خان) الذي بني في القرن 15م. وكانت أحوال
المسلمين آنذاك جيدة، وكان لهم مكانتهم، بل أقاموا في أركان دولة إسلامية ما بين
عامي 1430-1784م وكان لهم عملات نقدية تتضمن شعارات إسلامية مثل كلمة
التوحيد، إلى أن احتلت أركان من قبل الملك البوذي (بورديابا) عام 1784م
وتعرض المسلمون بعدها لمذابح وطمست المعالم الإسلامية، وأحل الطابع البوذي
مكانها، وتعرض المسلمون لمذابح متواصلة حتى جاء الاستعمار الإنجليزي.
موقف المسلمين من الاستعمار الإنجليزي:
واجه المسلمون الاستعمار الإنجليزي بعنف مما جعل بريطانيا تخشاهم،
فبدأت حملتها للتخلص من نفوذ المسلمين بإدخال الفرقة بين الديانات المختلفة في
هذا البلد لتشتيت وحدتهم وإيقاع العداوة بينهم كعادتها في سياساتها المعروفة (فرق
تسد) فأشعلت الحروب بين المسلمين والبوذيين، وتمثلت تلك المؤامرات في عدة
مظاهر أساءت بها بريطانيا إلى المسلمين أيما إساءة ومنها:
1- طرد المسلمين من وظائفهم وإحلال البوذيين مكانهم.
2- مصادرة أملاكهم وتوزيعها على البوذيين.
3- الزج بالمسلمين وخاصة قادتهم في المسجون أو نفيهم خارج أوطانهم.
4- تحريض البوذيين ضد المسلمين ومد البوذيين بالسلاح حتى أوقعوا
بالمسلمين مذبحتهم عام 1942 حيث فتكوا بحوالي مائة ألف مسلم في أركان.
5 - إغلاق المعاهد والمدارس والمحاكم الشرعية ونسفها بالمتفجرات.
حال المسلمين بعد استقلال بورما:
نالت بورما استقلالها من بريطانيا في 4 يناير عام 1948 فتفاءل المسلمون
خيراً لما سيعقب الاستقلال في تصورهم من الأمن والاستقرار والمساواة بين شعوب
الدولة بغض النظر عن أديانهم، لا سيما وأن الدستور بعد الاستقلال ضمن حرية
المعتقد وحق القوميات العرقية ممارسة أديانها بحرية، لكن (مستر يونو) أول رئيس
وزراء جديد تجاهل جهاد المسلمين وقتالهم المستعمر والذي كان تحت ولاء (منظمة
برمن مسلم كنجرس) بقوله أن لا مسوغ لأن يكون للمسلمين عضوية في المجالس
النيابية، وعليهم أن يعملوا داخل (حزب بورما) (AFPFL) مع التخلي عن
منظمتهم آنفة الذكر.
ومع ذلك عاش المسلمون هنا عيشة جيدة حيث اشتهروا بالتجارة، وبنوا ما
يربو على 3000 مسجد ومدرسة، بل ساعدوا مساجد ومدارس المسلمين في القارة
الهندية، وكان في آخر حكومة وطنية قبل الانقلاب الشيوعي 3 وزراء مسلمين
منهم (السيد عبد الرزاق) الذي كان له أثره الذي لم يكن لأي وزير مسلم.
قانونا الجنسية في بورما:
سنت الحكومة البورمية عام 1948 قانونين كانا يكفلان الجنسية للمسلمين
هناك، وبعد سنوات أشاعت الحكومة أن في القانونين مآخذ وثغرات وقدمت في 4
يوليو 1981 مسودة القانون الجديد الذي ضيق على المسلمين وصدر عام 1982
وهو يقسم المواطنين كما يلي:
1- مواطنون من الدرجة الأولى وهم (الكارينون والشائيون والباهييون
والصينيون والكامينيون) .
2- مواطنون من الدرجة الثانية: وهم خليط من أجناس الدرجة الأولى.
3- مواطنون من الدرجة الثالثة: وهم المسلمون حيث صنفوا على أنهم
أجانب دخلوا بورما لاجئين أثناء الاستعمار البريطاني حسب مزاعم الحكومة
فسحبت جنسيات المسلمين وصاروا بلا هوية وحرموا من كل الأعمال وصار
بإمكان الحكومة ترحيلهم متى شاءت.
ثم اقترحت الحكومة البورمية أربعة أنواع من الجنسية هي:
1- الرعوي.
2- المواطن.
3- المتجنس.
4- عديم الجنسية.
وللفئتين الأولى والثانية التمتع بالحقوق المتساوية في الشؤون السياسية
والاقتصادية وإدارة شؤون الدولة.
أما الفئة الثالثة: فالجنسية إنما تؤخذ بطلب يقدم للحكومة وهو بشروط
تعجيزية، والفئة الأخيرة (عديم الجنسية) فيحتجز في السجن لمدة ثم تحدد إقامته في
(معسكرات الاعتقال) ويفرض عليهم العمل في الإنتاج فإذا أحسنوا العمل يسمح لهم
بشهادة تسجيل الأجانب على أن يعيشوا في منطقة محددة.
وبهذا القانون طاردوا المسلمين وأصبحوا كاليتامى على مائدة اللئام مما
عرضهم للاضطهاد والقتل والتشريد.
الواقع المؤلم بعد الانقلاب الشيوعي:
وفي عام 1962 م حدث الانقلاب الشيوعي بقيادة الجنرال (تي ون) والذي
أعلن بورما (دولة اشتراكية) وذكر علناً بأن الإسلام هو العدو الأول، وترتب على
ذلك حملة ظالمة على المسلمين وتأميم أملاكهم وعقاراتهم بنسبة 90% في أراكان
وحدها بينما لم يؤمم للبوذيين سوى 10% وسحبت العملة النقدية من التداول مما
أضر بالتجار المسلمين كثيراً حيث لم يعوضوا من قبل الدولة ثم فرضوا الثقافة
البوذية والزواج من البوذيات وعدم لبس الحجاب للبنات المسلمات والتسمي بأسماء
بوذية، وأمام هذا الاضطهاد المرير ارتد بعض المسلمين ليتمتع بحقوق المواطنة
الرسمية بعيداً عن الاضطهاد والتنكيل واضطر الكثيرون للهجرة القسرية من ديارهم
وأملاكهم إلى دول العالم الإسلامي وبخاصة (بنجلادش) بعد حملات عسكرية
إجرامية على أراضيهم وأماكنهم.
المشاكل التي يواجهها المسلمون هناك:
بالإضافة إلى ما سبق بيانه من إيذاء وقتل وتشريد، يعاني المسلمون الكثير
من المضايقات التي تتمثل فيما يلي:
1- تأميم الأوقاف.
2- تأميم الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والشهرية.
3- منع طباعة أي كتاب إسلامي، وسمح مؤخراً بذلك في حدود ضيقة.
4-إيقاف بناء المساجد.
5- منع الأذان للصلاة بعد رمضان 1403 هـ.
6- حجز جوازات المسلمين لدى الحكومة وعدم السماح لهم بالسفر للخارج إلا
بإذن رسمي.
7- رفض تعيين المسلمين في الوظائف الرسمية.
8- تأميم المساجد الخاصة بالعيد.
ماذا فعل المسلمون حيال إخوانهم في بورما:
قامت حركة نشطة من سلاح الشجب من بعض الحكومات الإسلامية ومما
يذكر فيشكر قيام بعض الجماعات والحركات والمنظمات الإسلامية بنجدة إخوانهم
المهاجرين إلى بنجلادش (السعودية والكويت وباكستان وغيرها) .
ومما يستحق التقدير الموقف الطيب من قبل الحكومات المتوالية في بنجلادش
حيال إيواء المسلمين البورميين النازحين إليها وإقامتها الخيمات وتقديم ما تستطيعه
من غذاء وكساء وخدمات وقامت بعقد اتفاقية مع الحكومة عام 1983 من أجل عودة
هؤلاء اللاجئين إلى ديارهم في بورما، ووضعت خطة لذلك وفعلاً عاد بعضهم
لكنهم وجدوا ديارهم وأملاكهم منهوبة من البوذيين ولما اشترك المسلمون هناك في
ترشيح ممثلي (المعارضة الديمقراطية) والتي فازت بانتخابات عام 1990 عادت
الحكومة الشيوعية البوذية إلى عادتها القديمة في اضطهادهم وشن الهجمات عليهم
فيما قامت بعض الجماعات المسلمة بالدفاع عن أراضيها وأموالها وأعراضها
وأعادت تلك الحكومة الوضع المأساوي السابق مما ساهم في هجرة الألوف المؤلفة
مرة أخرى إلى بنجلادش.
الجهاد والدعوة لدى مسلمي بورما:
ظهرت العديد من المنظمات والجمعيات الإسلامية الكثيرة ومنها:
1- منظمة التضامن الروهنجي الإسلامية (أركان) .
2- منظمة التحرير الإسلامية لولاية الكاريني.
3- منظمة الفرقة السابعة.
4- منظمة الفرقة الجنوبية.
5- حركة الشباب المسلم (رانجون) .
6- رابطة الطلاب المسلمين.
7- جمعية العلماء الروهانجيين.
8- جمعية علماء الإسلام.
9- جمعية مسلمي بورما.
10- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
وجل هذه الفصائل تعمل على تدعيم صف المسلمين هناك من أجل المحافظة
على حقوقهم وحريتهم والاحتفاظ بهويتهم الإسلامية وتحصينهم ضد حملات التنصير
وتهتم أغلب تلك الجمعيات بالتعليم بفتح مدارس إسلامية وحلقات لحفظ القرآن
وإرسال الدعاة إلى القرى والأرياف لمجابهة المنصرين وتقديم المساعدات للفقراء
والمحتاجين.
وحركة الجهاد في وضع خامد فليس هناك جهاد بالسلاح مع أن ظروف البلاد
الجبلية تحتم ذلك دفاعاً عن الأعراض والأملاك وصد هجمات الحكومة الشيوعية
بدون وجه حق.
ويرى أحد الباحثين أن سبب عدم نجاح تلك الجماعات في تحركاتها يعود لما
يلي:
1- توزيع المسلمين في بورما في بقاع معينة منها شمال (أركان) ونسبتهم
30% وكانت نسبتهم قبل الحرب العالمية الثانية 70% تقريباً مما أضعف تحركات
المسلمين وخصوصاً المنظمات والجمعيات.
2- لا يوجد اتفاق ولا إجماع بين المسلمين للقيام بالحركات التحريرية.
وكثرة هذه الحركات والجمعيات لا مبرر له لأن بعضها فعلاً نشأ لأغراض شخصية.
3- أغلب المسلمين الروهانجيين غير راضين عن هذه الجمعيات لعدم ثقتهم
بها.
4- أغلبهم غير معروف لدى مسلمي بورما.
المستقبل المظلم:
بالرغم من مواجهة المسلمين لنير الاضطهاد البوذي قبل الاستقلال ثم نير
الاضطهاد الشيوعي بعد ذلك وما عانوه من أذى وقتل وتهجير إلا أن أحداً في العالم
لا يسمع بما يعانونه من مشاكل فادحة ولم يستيقظ ضمير الغرب بعامة وأمريكا
بخاصة إلا بعد إلغاء الانتخابات الأخيرة وفرض الإقامة الجبرية على زعيمة
المعارضة (اولج سان سوكي) حينها فقط وبعد أكثر من أربعين سنة انتبهوا لإجرام
الحكومة البورمية ثم بعد المواجهة العسكرية بين وحدات من بنجلادش وبورما على
الحدود بعد أن قامت بنجلادش بحملة دبلوماسية للتعريف بما تعانيه من مشاكل إيواء
المسلمين البورميين النازحين، ومما يؤسف له أننا لم نسمع حتى الشجب من كثير
من الدول الإسلامية إلا بعد أن أدلى الناطق الرسمي باسم الوزارة الخارجية
الأمريكية مستنكراً عمليات القتل التي ترتكبها أي جهة في بورما، واستنكر ما
يتعرض له دعاة الديمقراطية من مضايقات وكذلك ما تعرض له المسلمون من
تهجير إلى بنجلادش.
سمعنا أيضاً (جمشيد أنو) أحد مديري المفوضية العليا التابعة هيئة الأمم
المتحدة حين وصف مأساة المسلمين البورميين بأنها إحدى أكبر مشكلات اللاجئين
في العالم.
وتكلم (بطرس غالي) سكرتير هيئة الأمم المتحدة بشجب الوضع المأساوي
الذى قامت به حكومة بورما ضد المسلمين على حدود بنجلادش. لكن لماذا لم
يرسل سكرتير هيئة الأمم مندوباً عنه، أو ممثلاً ليقف على الوضع المأساوي، ثم
يعقد مجلس الأمن لمعاقبة الحكومة البورمية على ما فعلته من جرائم لا إنسانية في
حق المسلمين بدون وجه حق؟ ولماذا لا يرسل هؤلاء المندوبون إلا للجهات
الخاصة مثل يوغسلافيا وأرمينيا مثلاً؟ ! ولماذا لا تقاطع حكومة بورما من قبل
الدول الكبرى حتى تذعن للحق وتكف جورها وإجرامها بحق المسلمين هناك.
إن مستقبل الإسلام والمسلمين هناك مع الأسف مظلم ما لم توقف بورما عند
حدها. ومما يؤسف له أكثر أن تظل الدول الإسلامية صامتة حيال ما يجري
لإخوانهم ولا تستدعي على الأقل سفراء بورما ولا تقدم الاحتجاجات ضدها وتهدد
بالمقاطعة إن لم تكف عن اضطهادها للمسلمين.
وإن الواجب أن تمد الدول الإسلامية يد العون لبنجلادش التي تنوء تحت ثقل
المشاكل الاقتصادية والفيضانات وضعف الاقتصاد وهي في أمس الحاجة، لذلك
يجب أن تقف الدول الإسلامية وقفة شجاعة للضغط على حكومة بورما أو مقاطعتها
وحينها سيحسب للمسلمين ألف حساب. فهل نسمع عن تشكيل لجان لدعم مسلمي
بورما على طول البلاد الإسلامية وعرضها في وقت لا يفيد فيه الشجب والتنديد
بالكلام فقط؟ ! .(52/77)
البوسنة - الهرسك
محاولات الإفناء والتهجير
تصدرت أحداث البوسنة-الهرسك واجهة الأخبار العالمية، وذلك لما يتعرض
له هذا الإقليم ذو الغالبية المسلمة من مذابح وحشية من قبل جنود ومليشيات الصرب، ووقوع هذه المذابح في القارة الأوربية وفي منطقة عرفت بأنها بؤرة للصراع
والخلافات.
نظرة تاريخية:
يبلغ عدد سكان جمهورية البوسنة حوالي 4850000 تقدر نسيه المسلمين
بأكثر من 44% وكانت هذه الجمهورية جزءاً من يوغسلافيا التي انفرط عقدها على
أثر الأحداث المهمة في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وبسبب التركيبة غير
المتجانسة للسكان، وقد كان هذا الإقليم خاضعاً للمجريين عندما تم فتحه من قبل
العثمانيين عام 1386م وأصبحت البوسنة مقاطعتة كاملة الانتماء عام 1463 م
وذلك بعد معارك طاحنة استقر الإسلام بعدها، بل أصبحت خلال القرنين السادس
عشر والسابع عشر الميلاديين المعقل الرئيسي للعثمانيين في صراعهم مع أوربا
الغربية وبعد أن ضعفت الدولة العثمانية كان من مقررات مؤتمر برلين عام 1877 م أن عهد بالبوسنة إلى الحكم في النمسا، ثم ضمت إلى مملكة الصرب في عام
1918 م وبعد الحرب العالمية الثانية وفي عام 1946 أصبحت إحدى جمهوريات
يوغسلافيا.
بدء الصراع:
عندما أعلنت منطقة البوسنة - الهرسك بأغلبية سكانها أنها دولة مستقلة
وانفصلت عن يوغسلافيا بدأ الجيش الفدرالي وحكومة صربيا وميلشيات الصرب
بمهاجمة المسلمين في البوسنة والقصد هو تشريد المسلمين وضم ما يحتلونه إلى
صربيا الكبرى كما يحلمون، كما أن قتالهم لسكان البوسنة جزء من إضعاف
المسلمين في القارة الأوربية، وهذا ما كان يوحي به الصرب إلى الغرب الأوربي
حتى لا يقف في وجهه ولكن وحشية الصرب جعلت الغربيين يضطرون للوقوف في
وجههم.
استخدم الصرب في سبيل أهدافهم أحط أنواع الجرائم فلم يسلم منهم النساء
والأطفال والمساجد والمستشفيات بل والقبور وكل يوم تطالعنا الصحف وسمعنا من
رئيس المجلس الإسلامي في البوسنة أخبار المذابح الجماعية للقرى المسلمة، وهذه
لقطات من أخبار هذا الصراع بين الإسلام وأعدائه.
- يقول الضابط محمد حافظيتش: (في مدن مثل براتونستا سقط ثلاثة آلاف
قتيل، وقد قامت القوات الصربية بإطلاق المرضى النفسيين (المجانين) من
مستشفى (الوكش) في مدينة درنبتا) الوسط 1/6/92.
- قصفت مدينة سارابيفو بتاريخ 16/6/92 قصفاً كان الأبشع منذ بدء القتال، عشرات الأشخاص قتلوا أو جرحوا، عشرات الأبنية تخترق، وقصفت
المستشفيات، الحياة 8/6/92.
- منذ بدء القتال قدر عدد الضحايا بـ 6000 قتيل و 21 ألف جريح، كما
نزح من السكان 650000 وقد تم تدمير أقدم مسجد في المدينة الذي يعود بناؤه إلى
عام 1462م (الحياة 8/ 6/92) .
هذه الأخبار تؤكد لنا أن القضية هي قضية اقتلاع المسلمين من جذورهم،
لماذا لم يفعل الصرب بالكرواتيين كما يفعلون الآن بالمسلمين؟ لماذا هبت دول
الغرب (وخاصة المانيا) لمساعده كرواتيا، ثم هل ستنتهي القصة عند البوسنة -
الهرسك، أم أن إقليم كوسوفو الإسلامي وغالبية سكانه من الألبان، هل سيكون
المحطة الثانية عند الصرب؟ إن ما نعلمه من شدة بأس مسلمي تلك الديار يجعلنا
نقول لن يستطيع الصرب - بإذن الله - ولا من يؤيدهم سراً القضاء على المسلمين
في تلك المناطق ولا على النهضة الإسلامية القادمة، وإننا نشكر كل من ساعد
ويساعد هؤلاء الذين يتعرضون للإبادة كما ندعو المسلمين إلى مزيد من التأييد
لمسلمي البوسنة، فإنهم في بلاء عظيم، من حرب صليبية مكشوفة.(52/87)
حركة الجهاد
نبع أصيل وركن ركين ولكن! !
عبد الله صالح علي
المتتبع للساحة الإرترية يرى العجب العجاب، وتتملكه الدهشة وذلك لما
يشاهد فيها من المتناقضات والجمع بين المستحيلات فيمن يمسك بزمام الأمور في
الثورة الإرترية منذ أن تمحورت وصيغت بالصيغة السياسية، وتحولت عن
صورتها المبسطة التي كانت تتمثل في: شعب سلب حقه الغاصبون، وقام
لاسترجاعه بكل ما يملك من سعة ومقدرة. وبعد أن تم تسييس الثورة، وتسربت
إليها أيد خارجية اختلط الحابل بالنابل، وزاد الخرق على الواقع إلى أن وصل
الأمر في تحكم زمرة من أبناء النصارى الحاقدين وقليل من أبناء المسلمين
المخدوعين بشعارات جوفاء إلى سدة الحكم.
وعندها جاءت قاصمة الظهر بالنسبة للشعب الإرتري المسلم الذي غلب على
أمره وذلك أنه كلما لاح له برقٌ حسبه ضوءاً وهرول نحوه مسرعاً ثم يجد آماله
تذهب أدراج الرياح إلى أن نبع النبع الأصيل والركن الركين بعد الله تعالى في
إرتريا متمثلاً في حركة الجهاد الإسلامي لتعبر عن رغبات الشعب الإرتري الأصيلة
ولتكسر الحاجز بين الشعب المسلم في إرتريا. ومن خلال المتابعة ورصد الأحداث
لا بد من التذكير بأمور تتعلق:
أولاً: بالشعب الإرتري المسلم نفسه.
ثانياً: بحركة الجهاد الإسلامي الإرتري.
فيما يتعلق بالشعب الإرتري المسلم ينبغي عليه أن يدرك كيف تسير الأحداث
وإلي أين تسير؟ وأخص من الشعب المتعلمين والمثقفين الإرتريين، أن يخلعوا
عنهم لباس اللامبالاة ويضطلعوا بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم مهما كانت
التضحيات جسيمة وكبيرة والذي يدعو إلى ذلك عده أمور منها:
1- إن الصراع الإرتري يختلف عن غيره من الصراعات في عالمنا
الإسلامي، فهو صراع حضاري قيمي، وليس صراع أرض فقط وتقف خلفه كل
قوى التبشير والتنصير العالمية وذلك لأهمية المنطقة وحساسيتها.
2- إن الذي أعطى القضية الإرترية كل هذا البعد السياسي هم المسلمون
فكيف بهم اليوم لا يعبأ بهم ولا يلتفت إليهم؟ !
3- إن سياسة (فرق تسد) التي تتبعها (الشعبية) في إرتريا وسحب البساط
من تحت أقدام بقية التنظيمات الإرترية أمر غريب ويدعو إلى التساؤل والاستفسار.
4- لا مبرر لتهميش دور أبناء المسلمين الموجودين داخل الشعبية وليس له
أي تفسير آخر غير أن الشعبية تريد من أبناء المسلمين أن يكونوا مستخدمين عندها
لتتخذهم أداة لتضرب بهم إخوانهم من أبناء المسلمين المعارضين للجبهة الشعبية
مهما كانت توجهاتهم، وإلا فلماذا لا يوضع أبناء المسلمين في الأماكن الحيوية
والحساسة من التنظيم (مثل الاقتصاد، الإعلام..) ؟ ! وحتى الذي يوجد ضمن
بعض المكاتب المتخصصة ما هو إلا دمية يحركها أحد أبناء النصارى سواء كان
نائباً أم مسؤولاً عنه.
5- ما هو الدافع الحقيقي من وضع برنامج التعليم للشعبية على أساس
اللهجات الإرترية وإبعاد اللغة الرسمية للمسلمين من شؤون الحياة الرسمية والتعليم،
فالنصارى في إرتريا لهجتهم واحدة وكون الشعبية تضع برنامجها التعليمي بهذه
الصورة يعني أنهم متحدون ولكن إذا نظرنا للمسلمين في إرتريا نجدهم يتحدثون
بلغات كثيرة ومتفرقة فما الذي يجمع بينهم إذا فرقت اللغة واتخذ كل لهجة خاصة
به؟ ! النتيجة معروفة وهي تمزيق المسلمين وتشتيت وحدتهم وبث النعرات القبلية بينهم ومما هو معلوم بأن اللغة تتأثر بالنظام السائد في أي بلد فالذين يحكمون شؤون الدولة هم الذين يفرضون لغتهم وثقافتهم على المحكومين.
6- لهذا يجب على الإرتريين أن يكونوا يداً واحدة لتفويت الفرصة على
المتربصين بالمسلمين الدوائر في إرتريا، ويتحملوا وعورة الطريق ويقفوا خلف
حركة الجهاد ويكونوا لها الساعد الأيمن لأنها أمل المسلمين الوحيد - بعد الله - في
إرتريا حتى لا نقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض أو الأسود، ولات ساعة ندم.
أما فيما يتعلق بالحركة فالأمور كثيرة جداً ويمكن إيجازها بما يلي:
1- أن تتمسك بالمبادئ والمنهج الذي رفعته منذ أول وهله والذي من أجله
استشهد الشهداء وأن لا تحيد عنه قيد أنملة وذلك بالأفعال لا بالأقوال.
2- أن تعلم تماماً بأن النصر على الأعداء والتمكين في الأرض ليس من
مهماتها هي، فالإعداد شرط والتمكين وعد من الله تعالى، فقد يحاول العاملون في
الدعوة الإسلامية تعجل قطف الثمار فيرتكبوا بعض الأخطاء على حساب المنهج
وعنده يتخلف النصر.
3- نريد من الحركة أن تكون مثلاً للثبات أمام كل الأعاصير والرياح
والتقلبات السياسية.
4- علَّموا العالم أجمع بأن المبادئ لا تشترى ولا تباع ولا يساوم عليها مهما
ادلهم الخطب.
5- في الشعب الإرتري من يراقب الحركة مراقباً متصيداً للأخطاء وكذلك
فيهم من يريد التأكد من صدق التوجه والنوايا والأخير هو الغالب فينبغي أن يحسب
لهذا حسابه.
6- أن يدركوا جيداً بأن هناك فرقاً بين المطلوب الشرعي والمقدور الشرعي، فليس كل مطلوب هو مقدر شرعاً وعليهم فقط الاستمساك بالتي هي أقوم مهما
طال الدرب.
7- أن لا تستهويهم عاطفة الجماهير العامة فيصنعوا قراراتهم وفق حماسهم
فقد قيل: (قلوب العامة مع الحق وسيوفهم مع الباطل) .
8- أن يأخذوا بالعزائم في كل أمورهم فهم يعيشون في زمن كله أخذ
بالرخص وأي حركة تغييرية تجديدية تأخذ بالرخص مصيرها الفشل في النهاية.
9- إن الساحة الإسلامية مليئة بالأحداث والمشاهد المتكررة فينبغي أن يستفاد
منها فائدة تامة.
10- السعي نحو تجييش الأمة على كافة الأصعدة والميادين، وعدم الاقتصار
على ميدان دون آخر. وأخيراً فإن المسؤولية عظيمة وجسيمة، وما على العاملين
في الحقل الإسلامي إلا السير على درب النبوة، فمن الأنبياء من يأتي يوم القيامة
وليس معه أحد ولا يعني ذلك فشل هذا النبي، حاشا لله. فلذلك ينبغي السير وأن لا
يتعجل العاملون النصر قبل استكمال شروطه، وإن المسؤولية تقع بالدرجة الثانية
بعد الإرتريين على عاتق المسلمين، على العالم الإسلامي أجمع؛ فعليهم القيام
بالواجب الشرعي تجاه إخوانهم في إرتريا بالنصح والتوجيه والإرشاد والدعم وعدم
الخذلان عملاً بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم، لا
يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره..) [رواه مسلم] ، والله الموفق.(52/89)
منتدى القراء
البناء العَلْماني وبداية السقوط
سعد بن عبد المجيد الغامدي
يتشكل البناء العَلْماني في البدء.. من أبنية عدة ترتبط فيما بينها بعلائق بنائية، وتشكل كل ذي فكر لا ديني كالماركسي الهالك أو الرأسمالي المتهالك، والحداثي
الماسوني وما بعده من ضروب الفكر الفوضوي الآخذ في التداعي البطيء نحو
حتمية النهاية المُريعة، نهاية كل فكر زائف مزيف.
ويلوح ذلك البناء بأفكاره وطروحاته وأنظمته، لصاحب العقل المُستعْمَر -
بتسكين العين وفتح الميم - والنفس الانهزامية، يلوح بناءً متماسكاً، وهاجساً
حضارياً يبعث على التوثب والانعتاق.
وهو لذي عقل رباني متحرر من علائق التبعية لكل فكر لا إسلامي دنيوي،
بناءٌ مادي موضوي - نسبة إلى الموضة - يتبدل تبدل الموضة وعروض الأزياء
المرهونة بطقوس الفصول الأربعة وجلبة القطعان الُمغرمة ببريق المظهرية الجوفاء. ويتبدى له أيضاً، عبر خطابه الفوسفوري، بناءً مشعاً.. بيد أن شعاعه زائف
سرعان ما ينطفئ لأنه يستمد لمعته من شعاع الآخرين!
وهو بناء يحمل في تجويفاته وأحشائه بذور التداعي والسقوط المتمثلة في
(الجهل بحقيقة الألوهية واتباع غير ما أنزل الله) ، واستعباد البشر والجناية على
أدمغتهم.. يأخذ هذا البناء في النمو وتنمو في ذات الوقت تلك البذور، وتتجذر
عروقها، وتمتد أغصانها في ثنايا البناء وتحل به لاحقاً سنّةّ الهلاك، ويسقط سقوطاً
مدوياً.. ولنا في سقوط البناء الشيوعي - مُحَطَّم الإرادات ومعطَّل العقول، وهو
أحد منظومات البناء العلماني - خير بشير ونذير.
وتباعاً.. فإن ثوابت هذا البناء الوضعي الجاهلي اللافطري ثوابت هزيلة
ترتعد فرائصه وتتهاوى لبناته أمام ثوابت البناء الإسلامي الرباني الخالد، رغم
الحصار الإبليسي المضروب حوله!
والخطوة الأولى نحو تقزيم البناء العلماني على طريق الصراع الحضاري
تكمن في تكثيف الخطاب الإسلامي الخالد وتوسيع دائرته ليشمل نواحي الحياة كلها، وذلك في ظل غياب الخطاب الشيوعي الماركسي. ثم تعرية الخطاب العلماني
وكشف زيفه وتناقضاته الفجة مع أبجديات الحرية وألف باء الحياة الكريمة التي
تحفظ للإنسان إنسانيته وإرادته المستقلة. وهذا منهج - شريطة الاستمرارية -
قمين بأن يُعيد للبناء العلماني مكانته الطبيعية كما لا بد أن يكون قابعاً في مزابل
التاريخ وأزقة الحضارة.
ويعود البناء الإسلامي الخالد، عبر عقيدة التوحيد وثورة فكرية ربانية تملآن
الفراغات وتحلاّن بديلاً عن منظومات المنطق المادي الكسيح، يعود كما كان وكما
لا بدّ أن يكون شامخاً في سماء الحضارة، ومناراً للأمم، وصانعاً للتاريخ، مصداقاً
لقول الحق خالق الخلق [والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] .
أجل! تلك سنة الله التي خلت في الأولين، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والحمد
لله رب العالمين.(52/93)
«بين الانضباط والسلبية»
عبد الله العنزي
يعاني كثير من المنخرطين في سلك الدعوة إلى الله أزمة حقيقية في تحديد
المصطلحات الدعوية وماذا يراد منها؟ فأنت ترى ذلك الشاب المتحمس للدعوة
يستمع إلى توجيهات من داعية كبير حول الانضباط ومضار الفوضى، تراه يستمع
إلى تلك التوجيهات وهو مستعد لتطبيقها فوراً في نفسه وفي دعوته، إلا أنه يواجه
إشكالية كبرى في تحديد ما يراد من مصطلح الانضباط، وقل مثل ذلك في باقي
المصطلحات.
وحتى أكون دقيقاً أكثر فإني لن أتحدث سوى عن جزئية مهمة في تحديد
مصطلح الانضباط ألا وهي الخلط الظاهر بين هذا المصطلح ومفهوم السلبية،
تاركاً باقي جزئيات هذا الموضوع لمشايخنا حفظهم الله.
فأقول إن كثيراً من الدعاة يفهمون أن معنى الانضباط هو ترك الانتقاد وبيان
الحق، وأتى هذا الفهم الخاطئ من رؤيتهم لواقع بعض الفوضويين الذين يتميزون
بكثرة الانتقاد حتى لم يسلم أحد من نقدهم وحيث أن نقيض الفوضى الانضباط فقد
فهم أولئك الدعاة بأن معنى الانضباط مخالفة كل ما عليه أولئك الفوضويون وأبرز
ما عندهم النقد.
وغني عن القول أن هذا فهم خاطئ فإن معنى الانضباط على تفسير أولئك
الدعاة هو السلبية، وهي داء يصيب أي عمل، بل يجب أن يشارك الجميع بعقولهم
قبل أعمالهم، وليس العمل الإسلامي بحاجة إلى آلات تنفذ ما يلقى إليها دون نقد أو
تمحيص.
إن النقد لا بد أن يكون ضمن القواعد التي شرعها الشرع الحنيف وأوضحها
علماء الشريعة، فإن الداعية المنتقد إن لم يفعل ذلك وقع فيما وقع فيه أولئك
الفوضويون.(52/94)
أيها الدعاة نحتاج لتذكيركم..
مريم السالم
تبقى صور البذل والعطاء للمرأة المسلمة مشرقة منذ بداية الدعوة الإسلامية
وحتى يومنا هذا، ومن فينا ينسى ذلك الموقف الرائع لأم المؤمنين عائشة بنت
الصديق -رضي الله عنهما- حين أتتها خادمة لها بمائة ألف ففرقتها في يوم واحد
وكانت صائمة في ذلك اليوم، فقالت لها الخادمة: أما استطعت فيما أنفقت أن
تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه، فقالت: لو كنت ذكرتني لفعلت [1] .
ومَنْ يتجاهل جُود النساء بُحليّهن حين بعثن به يعن به المسلمين في جهازهم
يوم العسرة. ولا زالت صور المرأة للإنفاق في سبيل الله ناصعة مشرقة يشهد لها
لذلك ما تستقبله المعارض والأسواق والمؤسسات الخيرية اليوم من بذلهن وعطائهن، ... خاصة إذا عرفنا أن المرأة ذات عاطفة قوية تدفعها للبذل والعطاء، وتجعلها أكثر
إحساساً بغيرها من الضعفاء والمعوزين، لكنها فقط تحتاج لتذكير، تحتاج المرأة
في هذا العصر إلى من يقف بين حين وآخر ليحدثها ويرغبها في الخير والعطاء،
وتحتاج لمن يحكي لها أحوال أخواتها المسلمات المحتاجات ويذكرها بواجبها تجاهن، وكلما ازداد تأكيد ذلك بالصوت والصورة ازدادت بذلاً وعطاء. ومسألة التذكير
هذه تحتاج هي الأخرى لمن يؤكد عليها وينبه لها، لقد أغفل الدعاة أمر التذكير -
إلا من رحم الله - ونسوا أننا في زمن ضعفت فيه القلوب، وطغت عليها جوانب
الحياة المادية، وتعلقت بالدنيا الفانية وأشربت حبها.
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف بنفسه ليعظ النساء
ويذكرهن، ويحثهن على الصدقة ويخصصهن بذلك في مجلس منفرد، قائلاً: (يا
معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار..) [2] مع أنه
في زمن هو خير القرون، ونساؤه أفضل النساء وأتقاهن والقلوب هناك معلقة
بالآخرة. فما أشدَّ حاجتنا لمذكرين ناصحين في زمن قل فيه المذكرون المخلصون
وكثرت فيه الفتن، وسايرت أحوال المسلمين وخارت قواهم وصاروا مستضعفين،
ونجحت فيه مخططات الأعداء لإفساد المرأة المسلمة وإشغالها عن قضايا أمتها -
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن على الدعاة وأهل الخير وأصحاب المؤسسات الإسلامية الإغاثية والدعوية
أن تسعى جميعاً لإيصال الصورة الصادقة لأحوال المسلمين وجراحاتهم في العالم
الإسلامي والتي يكاد كثير من نسائنا لا يعرفن عنها شيئاً، وعليهم أن يستخدموا في
ذلك وسائل العرض المؤثرة لإيقاظ النفوس الغافلة وحفز الهمم الفاترة لرفع الذل
والمهانة عن المستضعفين المضطهدين من أبناء المسلمين، وإن استجابة الناس
واستماعهم لداعي الخير كما هو مشاهد ليعطينا وثيقة صادقة بتقصيرنا في حق
إسلامنا وفي العمل لديننا، فإلى متى يبقى العمل الإسلامي محتاجاً لقلوب أبنائه
الحانية وإلى عروقهم النابضة بالعطاء، وسواعدهم القائمة بالبناء، وأرواحهم
المقدمة له فداء؟ !
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4/350.
(2) رواه مسلم 11/86.(52/96)
عندما يتحول الاختلاف
من تنوع إلى تضاد! !
سعد آل عبد اللطيف
كما أن العبادات تتعدد وتتنوع ما بين صيام وصدقة وصلاة - وهذا من رحمة
الله وحكمته - كذلك أيضاً تتعدد أساليب الدعوة ومجالاتها وتتنوع ما بين وعظ
وخطابة، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأليف وتصنيف وتربية وأعمال
خيرية وإغاثة ... ألخ.
وهذا التعدد في الدعوة والعمل والإسلامي ينصب في قناة (اختلاف التنوع)
حيث يعمل الجميع على محاولة سد حاجات المجتمع وتصحيح مساره بشتى
الأساليب وعبر جميع الوسائل والطرق في سبيل نهوض الأمة الإسلامية وإيقاظها
من رقدتها وسباتها العميق. ولكن تحول هذا الاختلاف - عند البعض - من تنوع
إلى تضاد وربما تعارض وصدام! حينما يتوقع البعض في مجاله الدعوي ويضخمه
ويرى أن الدعوة الإسلامية منحصرة في هذا المجال فقط وأن غير هذا المجال لا
يستحق الكثير من الاهتمام وبذل الجهد والوقت. وهذا غالباً يؤدي إلى ردة فعل من
أصحاب المجالات الدعوية الأخرى وينجم عنه تعصب كل واحد لمجاله الدعوى
الذي يعمل في ظله ويتقوقع حوله دون غيره ويؤدي هذا إلى ظهور التحزب
والتفرق ويصاحب ذلك شعور العداء والبغضاء بينهم رغم أنهم يستظلون تحت راية
الدعوة الإسلامية ومنهج أهل السنة والجماعة. وهذا داءٌ قديم أشار إليه شيخ الإسلام
ابن تيمية -رحمه الله- فقال: (.. والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو ويذكر
على وجه مشروع وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه وأهل بقعته، وقد تكون تلك
الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل، فجاء في الخلف من يريد أن يجعل
اختياره لفضله، فجاء الآخر فعارضه في ذلك ونشأ من ذلك أهواء مردية مضلة،
فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله فترى كل طائفة طريقها أفضل، وتحب
من يوافقها على ذلك، وتعرض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون ما سوى الله يبنه، ويسوون ما فضل الله بينه، وهذا باب من أبواب التفرق والاختلاف الذي دخل
على الأمة، وقد نهى عنه الكتاب والسنة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -
عن عين هذا الاختلاف في الحديث الصحيح - كما قررت مثل ذلك في (الصراط
المستقيم - حيث قال: (اقرأوا كما علمتم ... ) [1] .
بعد ذلك نسأل أنفسنا عن العلاج أو كيفية القفز فوق تلك الهوة التي هي من
صنع أيدينا؟ ! نرجع لابن تيمية وهو يصف العلاج بعد تشخيصه الداء قائلاً:
(والصواب أن يقال: التنوع في ذلك متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا
اتباعاً للسنة والجماعة، وإحياء لسنة وجمعها بين قلوب الأمة، وأخذا بما في كل
واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين، لم يداوم عليه النبي
لوجوه..) ، ثم ذكر تلك الوجوه منها على سبيل ما يهمنا في هذه السطور قوله: (أن ذلك - أي التنوع وعدم المداومة على نوع واحد من العبادات - -يوجب اجتماع القلوب وائتلافها وزوال كثير من التفرق والاختلاف والأهواء بينها..) [2] .
أما تلميذه ابن القيم -رحمه الله- فقد ذكر أصناف الناس ومذاهبهم في أى
العبادة أفضل وأنفع؟ فذكر الصنف الرابع قائلاً: (.. والصنف الرابع قالوا: إن
أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت
ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد، الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من
صلاه الليل وصلاة النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن..) ، ثم قال: (.. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف من قبلهم أهل التعبد
المقيد..) [3] .
ولكن قد يقال أن هذا في العبادات ويصعب تطبيقه في مجالات الدعوة والعمل
الإسلامي ولا سيما ونحن في عصر التخصص.
في هذه الحالة لا مانع من التخصص في أحد مجالات الدعوة مع مراعاة
قضيه الإتيان بالواجب العيني مع التخصص، فلا بد مثلاً من الإتيان بالواجب من
العلم والواجب من الزهد وهكذا. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (.. وأما قوله: ما
الأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها؟ هل يبدأ بالزهد؟ أو
العلم؟ أو بالعبادة؟ أم يجمع بين ذلك على حساب طاقته؟ فيقال له لا بد من
الإيمان الواجب والعبادة الواجبة والزهد الواجب ثم الناس يتفاضلون في الإيمان:
كتفاضلهم في شعبه وكل إنسان يطب ما يمكنه طلبه ويقدم ما يقدر على تقديمه من
الفاضل والناس يتفاضلون في هذا الباب فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد
ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما
فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير كما قال تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ..] وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل ويحصل له أفضل مما يحصل من
الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل ولا يطلب ما
هو أفضل مطلقاً، إذا كان متعذراً في حقه أو متعسراً يفوته ما هو أفضل له
وأنفع) [4] .
ويحكى أن العمري العابد كتب إلى الإمام المالك يحضه على الانفراد ويرغبه
عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله تعالى قسم الأعمال كما قسم
الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم وآخر فتح له في
الصدقة ولم يفتح له في الصيام وآخر في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر
العلم وتعليمه من أشرف أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله -عز وجل- فيه من
ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر،
ويجب على كل منا أن يرضى بما قسم له والسلام.
ولا بد من الحذر من التقليد والتبعية وزج النفس في مجالات ليست من أهلها
كمن يزج نفسه في تأليف الكتب والرسائل والكتيبات الصغيرة، أو في التحقيق أو
في نحو ذلك فلا بد من مراعاة القدرات الشخصية ومراعاة التمييز المثمر من غير
شذوذ أو طلب شهرة وقد عرف سلف هذه الأمة هذا التمييز المثمر بقول الذهبي -
رحمه الله-: الكتابة مسلمة لابن البواب، كما أقرأ الأمة أبي بن كعب، وأقضاهم
علي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالتأويل ابن عباس، وأمينهم أبو عبيدة، وعابرهم
محمد بن سيرين، وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن
حنبل، ولغويهم أبو عبيدة، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل، وحافظهم
سفيان الثوري، وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل، وخطيبهم ابن نباتة، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم
خالد بن الوليد رحمهم الله) [5] .
فلا بد من مراعاة القدرات والإمكانيات الشخصية، مع عدم إهمال المجالات
الدعوية الأخرى وأن يكون في أصحاب تلك المجالات اتصالات وتعاون في جو
يسوده المحبة والإخلاص والانصاف، قال تعالى: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إخْوَاناً] [سورة آل عمران 103] ، وقال تعالى: [مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ، [سورة الروم 31-32] .
__________
(1) الفتاوى 24/ 246 -247.
(2) الفتاوى 24/247-248.
(3) تهذيب مدارج السالكين ص 70- 71.
(4) الفتاوي 7/651.
(5) سير أعلام النبلاء 17/319.(52/98)
شعر
سهاد
حبيب بن معلا المطيري
نام الخلي وبتُّ الليل مضطربا ... أقلّب الفكر في أوطاننا عجبا
نصف الديار مناحات مجلجلة ... ونصفها أسدَلت من دونها الحجبا
ونحن في ذمة الأيام ملحمة ... تحكي التناحر والتضليل والكذبا
ونمتطي صهوات الشجب سابحة ... إن السلامة في الدنيا لمن شجبا
هذي الحوادث فينا لا زمام لها ... تمضي بلأوائها لا تعرف الحَدَبا
أوطاننا في إسار الذل كاسفة ... وقدسنا ينفث الأحزان والنوبا
والكفر يعبث فينا في كرامتنا ... ويستبيح حمانا كل من رغبا
ونحن نسرج خيل الوهم سخرية ... ونستجير بماضينا ومن ذهبا
وحالنا يعلم الرحمن ظلمتها ... آهات ظلم ونور العدل قد غربا
يا أمة من أصول المجد دوحتُها ... أرثي للعروبة أم أرثي لك العربا
يا أمة قد حباها الله مكرمة ... عزاً يطاول في عليائه الشهبا
ليل العمالة قد زادت كثافته ... والقلب يجرع غماً نافثاً وصبا
وفي الفؤاد أحاسيس مروعة ... فعاد منها يعاني الهم والنصبا
جرحان.. أشكوهما لله في لهف ... خلفَ المحب وغدراً بات مقتربا
ويزعمون سلاماً في لقائهمو ... يقوده الغرب بئس الحال منقلبا
أترتجين سلاماً لا يباركه ... دين وينكره عقل قد احتجبا
نعطي السلام على أرض سنفقدها ... أين العقول وأين السادة النُّجَبَا
تالله لا عز إلا بالجهاد ولا ... يكون مجد بغير العزم ملتهبا(52/102)
بريد القراء
- بعض الأخوة القراء يقترحون مشروع المساهمة في التبرع باشتراكات
لإخوانهم العاجزين عن الاشتراك نظراً لصعوبة التحويل أو لقلة مواردهم المالية.
والبيان يسرها فتح هذا الباب للإخوة المقتدرين، والله لا يضيع أجر المحسنين.
- الأخ أبو حمزة من المدينة يؤكد على أهمية طرح حلول للمشكلات التي
تواجه المسلمين دون الركون فقط إلى نقد الواقع.
البيان: نشاطرك الرأي والمسؤولية ملقاة على عاتق الجميع.
- الأخ عبد الرحمن آل عبد اللطيف يطلب التفصيل عن الحديث عن مشاكل المسلمين والأقليات الإسلامية نظراً لأهمية الموضوع.
البيان: نوافقك على فائدة التفصيل وسنقوم بذلك ضمن إمكانياتنا وعدد
صفحات المجلة المحدود، ونشركم على اقتراحاتكم.
- الأخ أبو مالك يقترح فتح باب مستقل للقضايا الفقهية بشكل متسلسل يكتب
فيه بعض طلبة العلم بشكل مختصر ونافع لعموم القراء، وكذلك صفحة للإجابة
على أسئلة القراء (الفتاوى) خصوصاً لمن هم خارج البلاد الإسلامية.
- الأخت رقية الوشمي تقترح حذف التاريخ الميلادي.
البيان: نذكر التاريخ الميلادي مقروناً بالتاريخ الهجري نظراً لاستعمال كثير
من المسلمين لهذا التاريخ وعدم معرفتهم بالتاريخ الهجري، ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
- الأخ منصور الحجي يقترح نشر مقالات د. أحمد إبراهيم خضر على شكل
كتيب لتعم بها الفائدة.
- الأخ هشام بن محمد خراز يعقب على قصيدة الشاعر محمود مفلح
ص 48 العدد 48 في قوله (.. الزمن الحقير) وهذا فيه سب للدهر مخالفاً لحديث: ...
(يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) متفق
عليه، وكذا في العدد 49 ص 55 السطر الخامس إحالة للهامش برقم (3) وهذا ...
الرقم هو للحديث الذي في السطر التاسع فهو المتفق عليه أما الأول فرواه أحمد وأبو داود وغيرهما وهو مما اختلف العلماء في صحته.
البيان: تشكر الأخ هشام على ملاحظاته، ونحيل ما يتعلق بالقصيدة إلى
الشاعر محمود مفلح لعله يُدلي بوجهة نظره في هذا الشأن، مع شكرنا للجميع.
- من الأخت أم بلال جاءتنا هذه الرسالة:
.. أشكركم على جهودكم التي تبذلونها وما زلتم من أجل خدمة المسلمين،
وكذلك أوجه الشكر الأول والتقدير إلى المنتدى الإسلامي في لندن والذي يبذل الجهد
الكبير والمال من أجل خدمة المسلمين ونشر الإسلام والدعوة إلى الله بكل ما
يستطيعون، أثابكم الله على ذلك وجعل هذا العمل في موازين أعمالكم. ويعلم الله
أننا فتيات المسلمين في هذه المنطقة بقدر ما نحذر من مجلات الفساد والرذيلة،
بقدر ما ندافع عن المجلات الإسلامية ونحض على شرائها والاشتراك فيها وقد
اشتركت مجموعة كبيرة من أخواتي في الله في مجلة البيان من أجل أخذ الفائده منها
والمساهمة في المنتدى الإسلامي، كذلك قمنا مع مجموعة من الأخوات والكثير من
الإخوان بجمع التبرعات للمنتدى الإسلامي بلندن عن طريق الشيكات وكذلك
التعريف بالمنتدى وتوعية الناس بأهميته.
وكلمة أخيرة أقولها: سيروا على بركة الله وشدوا العزم والعزيمة على
مواصلة السير في هذا الطريق وهو طريق الدعوة إلى الله ونشر الإسلام بكل ما
تستطيعون.
البيان: جزى الله خيراً الأخت أم بلال وأخوتها في مدينة عنيزة وأن شاء الله
تكون البيان وأسرة التحرير عند حسن الظن دائماً.
- الأخ عبد الله بن فهد السليمان
أرسل لنا مستفسراً عن انقطاع القصة القصيرة ومقترحاً التعريف بالمنتدى
الإسلامي.
البيان: أنشطة المنتدى تنشر في البيان وقد طبعت كتيبات للتعريف بالمنتدى
وأنشطته يمكنك طلبها من مكتب البيان - الرياض. أما انقطاع القصة القصيرة
فسببه قلة الإنتاج الجيد الذي يتناسب مع شروط المجلة.(52/104)
نداء عاجل إلى كل مسلم
قال تعالى: [ومَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]
أخي القارئ الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تجدون برفقة هذا العدد تقريراً حياً موجزاً
من اللجنة المنتدبة من قبل المنتدى الإسلامي يصور بعض مآسي إخواننا المسلمين
اللاجئين من الصومال نتيجة الحروب الأهلية والجفاف، وهو يناشدكم ويناشد جميع
المسلمين للوقوف مع إخواننا في محنتهم ومد يد العون بما تستطيعون وحث من
تعرفون للمساهمة في تفريج هذه الكربات وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه
قال: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم
القيامة) ، كما أن المنتدى الإسلامي يستقبل صدقاتكم وتبرعاتكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخوة الكرام في المنتدى الإسلامي حفظهم الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد..،
فنبعث لكم هذا النداء والمناشدة العاجلة لتبلغوه للمسلمين القادرين على مساعدة
إخوانهم المنكوبين بسبب ما تمر به المنطقة من حروب أهلية ومن جفاف.
أيها الأخوة، إن المأساة التي حلت بالشعب الصومالي المسلم لهي مأساة
عظيمة يعجز اللسان عن وصفها والقلم عن تصويرها ولا ندري من أين نبدأ بالكتابة، هل نبدأ بتصوير الجموع الفقيرة المتناثرة على مرمى البصر تحت شجيرات
صغيرة وضع فوقها قطع من الكرتون لا تقي من وهج الشمس؟ أم نبدأ بالحديث
عن تلك المسغبة التي طرحت النساء والشيوخ والأطفال على الأرض لا يستطيعون
حراكاً حتى كثرت بسببها المقابر؟ أم بماذا نبدأ؟ والله في المستعان.
أيها الأخوة، إن تلك الصحارى التي يتواجد بها أولئك اللاجئون لا توجد فيها
أي من مقومات الحياة الضرورية من غذاء أو ماء أو دواء، ولقد قمنا بزيارة بعض
الأماكن ورأينا - ويا لهول ما رأينا- أطفالاً وكأنهم ليسوا من بني الإنسان لأنهم
عبارة عن هياكل عظمية تكسوها جلود رفيعة ولا يستطيعون أن يتحركوا إلا
بصعوبة بالغة، رأيناهم يبحثون عن الحياة بأجسام فقدت نضارة الحياة ويهربون من
الموت ليواجهوا حياة هي أقسى من الموت أما آباؤهم وأمهاتهم فهم بين الجوع
والبكاء وإليكم - أيها الأخوة - أمثلة يسيرة جداً مما رأينا.
رأينا مثلاً في قرية صوفتو داخل الحدود الأثيوبية عائلة عبارة عن مجموعة
من العظام لا لحم ولا دم خرجوا إلينا من كوخهم يزحفون على الأرض من شدة
الإعياء وانعدام الغذاء، وهذا مشهد واحد من بين مشاهد لا تحصى ورأينا مثلاً من
الأطفال من انتفخت بطونهم بصورة كبيرة ومنهم من تشنجت أطرافهم بل وصل
الحالى أننا رأينا أطفالاً جمعوا من الصفات الآنفة الذكر أن ابيضت شعور رؤوسهم، ولم لا تبيض وهي تواجه هذه الأحوال؟ وقد أخبرنا بعض أهل المنطقة أن هذه
الحالة لم تمر عليهم منذ عشرات السنين، حتى أن هذه الحالة تسببت في هلاك أسر
بكاملها تساقطوا الواحد تلو الآخر في غضون أيام قليلة حتى وصل الأمر في مخيم
دولو أنهم ينتزعون الثياب البالية من ذلك الميت ليستفيد منها غيره ومن ثم يكفنونه
بالقراطيس أو الكراتين، بل ربما أدخلوه عارياً في قبره لعدم وجود الأكفان، هذا
إذا كان أهله يستطيعون حفر قبره فضلاً عن أن يجهزوه لأنهم ليسوا بأحسن حال
منه قبل وفاته، وقد قارب الوفيات يومياً مائتين شخص في هذا الخيم..
أما نقص المياه الصالحة للشرب بل انعدامها فحدث ولا حرج حيث أن الناس
يشربون من مياه ملوثة لا تصلح للبهائم فضلاً عن بني الإنسان، وهذا له أثره في
انتشار كثير من الأمراض، أما الأجسام العارية التي لا تجد ثوباً يسترها فهي من
المشاهد المألوفة لدى الأطفال بل تعدى الأمر إلى بعض البالغين، وباختصار فالحالة
سيئة جداً ونحن نبعث إليكم هذا النداء العاجل لإنقاذ من بقي على قيد الحياة من
هؤلاء لذا نوجز لكم أهم الضرورات وهي كالتالي باختصار:
1- الغذاء العاجل.
2- الدواء.
3- الماء (وذلك بحفر العديد من الآبار السطحية عندهم) .
4- الثياب، بما في ذلك الأكفان.
وأخيراً نسأل الله تعالى أن يوفقكم للوقوف إلى جانب إخوانكم المسلمين وأن
يعينكم على إيصال هذا النداء للمحسنين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
حرر في كينيا 25/11/1412هـ، الموافق 26/5/1992 م
لجنة الأنشطة الخارجية في المنتدى الإسلامي(52/107)
الصفحة الأخيرة
الصَحُّ آفة
محمد بن حامد الأحمري
في حلقة تلفزيونية في التلفزيون الفرنسي استضاف مقدم البرنامج كاتبين
جزائرين هما رشيد بوجدره ورشيد ميموني يناقش معهما كتابين أصدراهما
بالفرنسية حديثاً تزلفاً لأعداء الإسلام وتفريجاً عن حقدهما الأسود تجاه المسلمين في
الجزائر. الكتاب الأول (البربرية عامة والأصولية خاصة في الجزائر) ، والكتاب
الثاني (جبهة الحقد) يصفان فيهما المسلمين الجزائريين بالحقد والفوضوية والقذارة
وأنهم يحرموّن كل مباح على الناس، والصحافي المناقش لهما ممن يؤمن بحقوق
الإنسان والديموقراطية على طريقة اليسار الفرنسي أثبت للكاتبين الجزائرين مولداً
(للأسف) كذبهما حيث زعما تزوير الانتخابات، وعرض مشهداً للمظاهرات
المنظمة، والطفل يقرأ القرآن في غاية النظافة، وذكر لهم بأن جمهور الشعب
والمثقفين في الجزائر وأساتذة الجامعات مع المسلمين، ثم قال لهما لماذا لا تكتبان
عن السجون الصحراوية وانتتهاك حقوق الإنسان في الجزائر؟ فارتج عليهما ووقفا
في العقبة، وظهر للعيان من الحاسد والحاقد!
كثيرون أمثال هؤلاء تفتح لهم صحافة العدو العربية صفحاتها، ويصفون
أنفسهم بأنهم مفكرون ومعلقون سياسيون وروائيون وقصاصون وألقاب لا تنتهي،
وهم جيش من المرتزقة يأكلون بشتم الإسلام والمسلمين. وقد كان بعضهم أعضاء
في أحزاب سقطت شعبياً وفشلت فكرياً فكان سبيلهم اللعب بالكلمات الأعجمية
والمترجمة ترجمة سقيمة يرددون ببغاوية مصطلحات من أمثال أصولية، وصولية، إسلاموية، ظلامية، نفس الأسلوب الذي كان يواجه به محمد - صلى الله عليه
وسلم - والذين معه، محاولة إطفاء نور الله بألسنة حداد أشحة على الخير،
يتواصون بألا يستمع الناس للإسلام ويطالب بوجدره باتحاد لمحاربة الإسلام في
منطقة المغرب العربي كلها وكبت صوت الحق [وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا
القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت: 26] .
ويبقى الكذب والتزوير والارتزاق مهنتهم مهما كانت ألقابهم منذ القدم إلى اليوم، وعبثاً تحاول كاتبة جزائرية في جريدة (الصح آفة) [بالدليل
والبرهان لا بالقراءة في الفنجان، إسبوعية سياسية ساخرة] ، أن تذكرهم وغيرهم بمأساة الجزائر في العيد، أي عيد هذا حيث يطارد الرجال ويحاصرون في السجون وكل عائلة جزائرية حزينة على أحد أقاربها المعتقلين أو المطاردين ثم قالت هذه مواقف الرجال سُجنوا وطوردوا من أجلها، وليتني كنت رجلاً ولو في سجن من سجون الصحارى. هكذا كتبت هذه، الكاتبة المستقلة وليت (الأشباه) يسمعون.(52/112)
المحرم - 1413هـ
يوليو - 1992م
(السنة: 7)(53/)
الافتتاحية
حصاد عام
انصرم عام من تاريخنا الإسلامي الهجري وكان حصاده - في مجمله -
نصراً للإسلام والمسلمين. وبداية تشير إلى غروب شمس الباطل! وانهيار قواه.
إن الكثير من المسلمين لا يكادون يرون هذه الحقيقة، وذلك لأن المصائب
التي توالت على الأجيال، وتعدد آلام المسلمين الملمّة من وقت إلى آخر جعل
المسلمين لا يفرحون بما يُفرح ولا يشعرون أنهم حققوا نصراً وأثراً جباراً، لأن
يأسهم قد طال، وخابت آمالهم، فلم يعد يحمل الزمن لهم إلا مؤشر الحزن وانعدام
الأمل حتى حين يبزغ الفجر الصادق يقولون: لا إنه الفجر الكاذب.
أما إنه فجر صادق ولله الحمد، هو فجر للأمة المسلمة ونصر لها. ولم يعد
أمر الإسلام أمر أفراد بل أمة كاملة تعيش قضاياها وتحيا دينها وقد كان في الماضي
أمر قلة واعية داعية معلنة مرة ومستخفية غالباً.
عشرات الملايين من المسلمين في الجمهوريات الإسلامية نالت استقلالها
وانكسر جدار الشيوعية الذي سجنت فيه قرابة سبعين عاماً، وسقط الحكم الشيوعي
في أفغانستان، وتهاوت الأنظمة الشيوعية في البلقان، والتي خنقت مسلمي ألبانيا
ويوغسلافيا وبقية الأقليات المسلمة في أوربا الشرقية نحو نصف قرن من الزمان.
وهذه الأحداث بكل المقاييس انتصارات للشعوب المسلمة وبداية مرحلة جديدة
في تاريخ الأمة المسلمة، يفتح الطريق أمامها لتحديد هويتها ومعرفة انتمائها
العقائدي والسياسي، وإن كانت حالتها الآن تشبه حالة معظم العالم الإسلامي غداة
خلاصه من الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي حين وجد نفسه مباشرة في
مواجهة تقرير مصيره وهو لا يعرف نفسه وكان الكثير من قادة الاستقلال بلا هوية
ولا لون تتنازعهم القومية والشيوعية والتبعية الغربية أو الشرقية، وتجمعهم راية
واحدة هي فقدان الهوية حيث لم يجرؤ أحدهم بأن يقف موقفاً إسلامياً حقاً ويوفر
الوقت والجهد من الضياع.
هذا هو الذي تواجهه الشعوب الإسلامية الخارجة من السجن الروسي فهي
تذوق طعم الحرية لأول مرة ولكنه مخلوط بحرارة الاختلافات الداخلية والحروب
العنصرية وتناقض وجهات الولاء الجغرافي والعقائدي. في جوف هذه الشعوب
آلاف العملاء، وآلاف السذج، وآلاف من العنصرين القبليين وآلاف من الدعاة
الهداة المخلصين.
والخارج من السجن الطويل يصعب عليه جداً أن يحيا حياة الناس الطبيعية
فهو ينكر داره وينكر أهله، غريب في وجه جيرانه وهم غرباء في وجهه، لم يألف
الحرية. لم يعرفها ويتمنى الاستقرار والحياة الرتيبة حتى إن شابهت التي كانت في
السجن. لقد خرج من السجن فرحاً خائفاً لأنه يخاف من الخارج الغريب عليه
والذي لم يسبق أن تعامل معه ولا يدرك معنى واضحاً لحياته اليومية ولا لعلاقاته
الشخصية. لهذا تتملك الحدة هذه الشعوب ويغلب عليها الخوف من الغريب
وتضعف ثقتها في الدور الذي يمكن لها ممارسته.
وهذا القول يقع على القيادات التي كانت شيوعية موالية لروسيا وللقيادات
الوطنية الجديدة، أما الشعوب المسلمة فإنها بلا شك لديها إحساس - قد لا يكون
واضحاً - بهويتها وبإخوانها في العالم الإسلامي الواسع الذي بُترت منه ردحاً من
الزمن. وهذه المرحلة مرحلة عدم اتضاح التوجه وغبش الطريق مرحلة تكاد تكون
طبيعية لأمة بعد الطريق بها عن متابعها وقل المعين لها على الحق ولا تجد في
الواقع الإسلامي بدائل تقتدي بها ولا قيادة تهتد بها ولا تجمعاً دولياً إسلامياً يحترمها
ويستحق أن تعطى له الثقة والولاء.
على الرغم من كل تلك السلبيات في العالم الإسلامي مثل عدم استقرار الأمور
في أفغانستان وعلى الرغم مما يحدث للمسلمين في البوسنة والجزائر وتونس
وبورما والفلبين وغيرها، فإن هذه الأمثلة نفسها تحمل دلالات الخير والنصر في
نفس الوقت. هذه الأزمات حدثت في أغلبها لأن هذه الجماهير المسلمة في البلدان
المذكورة، حددت طريقها، واستجابت لنداء الحق وعرفت من هي وما هي هويتها
وبقي السجانون وجلاوزتهم يصرون على تدمير هذه الشعوب ومصادرة حقها في
الاختيار وسعيها لتحقيق أمر الله وشرعه، ولكن الباطل لن يستطيع أن يستمر في
المواجهة وقد هدمت رموزه الجبارة، وبقية رموز الباطل في تهاوٍ بإذن الله.
والمكسب الحق أن المسلمين عادوا إلى رشدهم وإلى كتاب ربهم وهدي
رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وهذا المكسب هو أعظم المكاسب في دنياهم
وآخرتهم وهبها لم تحقق كل آمال المسلمين في وحدتهم وانتصارهم المادي فإنهم حقاً
قد انتصروا وكسبوا حين وحدوا الله وآمنوا به واستسلموا لأمره وعملوا على ذلك.
وقد سبقهم أنبياء ورسل دعوا إلى الله وأقاموا شرعه في أنفسهم وفي قلة من اتباعهم
وقتلوا أو ماتوا دون أن يقيموا كيانات واسعة ولم تتبعهم أمم كثيرة، آمن معهم
الرجل والرجلان وذلك خير كبير وذلك نصرهم في الدنيا: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا
والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ
ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] [غافر: 51-52] .
للمسلمين اليوم أن يفرحوا بنصر الله، وخذلان أعدائه، وأن يتفاءلوا ويذكروا
أن رسولهم - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل ويكره الطيرة، وينقل لهم عن
ربه البشائر بانتصار الإسلام وبلوغه المشرق والمغرب وحصول المسلمين على
كنوز الأرض وهيمنتهم على الأمم وفتح عواصمهم.
وعلينا أن نسلك طريقاً عملياً تقوم به الشعوب وتبادر به وحين يكون الأمر
أمر أمة عاملة صادقة فإنه لا يقف في طريقها عائق، علينا أن نسارع في إحياء
الشعور الإسلامي بالأمة الواحدة والجسد المسلم الواحد وضرورة تقوية هذا الجسد
واهتمامه بذاته ونفي كل الأخطار عنه والحفاظ على لبنات الكيان الإسلامي الواحد
من خلال:
- التعارف بين المسلمين بزيارة دولهم والنشر عنهم وعن تاريخهم وبلدانهم
وثرواتهم وسكانهم ولغاتهم إذ أنهم عمق إسلامي مهم في كل جوانبه.
- العمل على نشر الوعي بكون المسلمين أمة واحدة من دون الناس.
- إيجاد المؤسسات العلمية والثقافية والتي تهتم بالتربية والنشر وأن نكون
أسبق من غيرنا إلى هذا.
- إيجاد الأسواق لبضائعهم والاستفادة من منتوجاتهم وليصبح التكامل
الاقتصادي في العالم الإسلامي أمراً مفروضاً على العالم أجمع وإن لم تتبنه الجهات
الرسمية.
- العمل على نشر اللغة العربية ومدارسها وكتبها وكل الإنتاج بها ومحاصرة
اللغات الغربية التي قطعت شعوبنا، وألغت التفاهم بينها وحملت إلينا الفساد بكل
أنواعه.
- الاستثمار المهم في عالم الإنسان وهو مقدم على الاشتغال بالبنيان، وإعطاء
الفرص التعليمية ونشر المدارس وقنوات الإعلام الإسلامي أولوية إسلامية لنا اليوم.(53/4)
التطور التاريخي لتدوين
العقيدة الإسلامية
عثمان جمعة ضميرية
إن من أكثر الكلمات والألفاظ تداولاً على الألسنة بين الناس كلمة (العقيدة)
وما يقاربها ويتفق معها في الاشتقاق، كالاعتقاد والعقائد.. وعلى كثرة استعمال هذه
الكلمة التي غدت مصطلحاً شائعاً، فإننا لا نجد لها استعمالاً في القرآن الكريم وفي
الحديث الشريف.
ولذلك يرى بعض الباحثين: أنها مستحدثة في العصر العباسي للمعنى الذي
استعملت فيه، وأن اللفظ المستعمل في القرآن الكريم والحديث الشريف هو ... (الإيمان) . وقد استعمل لفظ (العقيدة) أجيال من المسلمين، بمعنى: الأفكار الأساسية التي يجب على المؤمن بدينٍ أن يقبلها ويصدق بها. واستعمال السلف. من العلماء والأئمة لهذه الكلمة دليل على جواز ذلك وإطلاقها على هذا الجانب من ... جوانب الدين [1] .
ولعل هذا يدعونا إلى استقراء المصطلحات الفنية، بعد تدوين العلوم الإسلامية، التي بحثت هذه الأفكار العقدية من خلالها؛ لنبينِّ أصل استعمال كل منها في اللغة العربية، وفي لسان الشرع بعامة، ثم كيف أصبح ذا مدلول خاص بعد ذلك. وقد يترتب على استعمال مصطلح من المصطلحات آثار معينة، إيجابية أو سلبية، قد نُلْمِح إلى شيء منها دون تفصيل.
والاستقراء - وقد لا يكون تاماً - على حسب الوسع والطاقة، وبمقدار ما
أتيح لي من اطلاع على ما كتبه علماؤنا في جانب العقيدة، يرشدنا إلى
المصطلحات الآتية - والتي نعرضها تباعاً - وقد رتبتها بحسب أولية ظهورها
واستعمالها تاريخياً، حيث أذكر أول من استعمل اللفظ أو كتب فيه، ثم أتبعه بمن
تابعه على ذلك ولو في عصور متأخرة، مرتباً ذلك حسب وفيات المؤلفين، دون
استقصاء أو استيعاب.
وأول ما نجده من هذه المصطلحات عنواناً على الجانب العقدي من الدين هو
مصطلح (الفقه الأكبر) .
1- الفقه الأكبر
* قال العلامة اللغوي ابن فارس، في (معجم مقاييس اللغة) ...
(4/242) : (فقه - الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك ... الشيء والعلم به. تقول: فقهت الحديث أفقهه. وكل عالم بشيء فهو فقيه.. ثم
اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه. وأفقهتك الشيء، إذا بيَّنته لك) .
* وقال ابن منظور في (لسان العرب) (13/522) :
(الفقه: العلم بالشيء والفهم له. وغلب على علم الدين، لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كله..) .
* وقال الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن) ص (384) : ...
الفقه: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. فهو أخص من العلم، قال ... ...
تعالى: [فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] ، وقال: [ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ
لا يَفْقَهُونَ] إلى غير ذلك من الآيات.
والفقه العلم بأحكام الشريعة. يقال: فَقُه الرجل فقاهة، إذا صار فقهياً.
وفقه - أي فهم - فقهاً، وفقهه، أي فهمه، وتفقَّه: إذا طلبه فتخصّص به. قال تعالى: [لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] .
* من هذه النصوص اللغوية وغيرها، نستنبط أمرين اثنين:
الأول: أن الفقه في اللغة وهو الفهم والعلم بالشيء، أو هو فهم غرض
المتكلم خاصة. ومنهم من يجعله خاصاً بفهم وعلم الأمور الخفية الدقيقة التي تحتاج
إلى نظر وتأمل واستدلال [2]
والثاني: أن العرف قد خصَّ الفقه بعلم الدين، أو العلم بأحكام الشريعة كلها.
وهذا المعنى الشرعي العام هو الذي كان معروفاً عند السلف في العصور المتقدمة،
قبل أن يخصصه المتأخرون بمعرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها
التفصيلية، كما هو المشهور في تعريفه عند الفقهاء والأصوليين.
* وقد أوضح الإمام الغزالي هذا التخصيص لكلمة (الفقه) في حديثه عما بُدِّل
من ألفاظ العلوم إلى غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول، قال:
كان الفقه يطلق في العصور الأولى على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق
آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف
على القلب. ويدلك على هذا المعنى قول الله -عز وجل-: [لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ] [التوبة: 122] .
وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه، دون تفريعات الطلاق
والعتاق واللّعان.. فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل إن التجرد لهذه
التفريعات، والاشتغال بها على الدوام - دون أي ملحظ آخر - يقسّي القلب وينزع
الخشية منه، كما نشاهد من المتجردين له.
وقال تعالى: [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا] [الأعراف: 179] وأراد به معاني
الإيمان دون الفتاوى. ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد. وإنما
يتكلم في عادة الاستعمال به قديماً وحديثاً، قال تعالى: [لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي
صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ] [الحشر 13] ، فأحال قلة خوفهم من
الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه. وليس ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات
الفتاوى، وإنما هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم.
ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن
كان متناولاً لها بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع. فكان إطلاقهم له
على علم الآخرة أكثر [3] .
وكان تخصيص (الفقه) بمعرفة فروع الأحكام بعد أن ذهب أهل القرون
الفاضلة الأولون، وانقلبت العلوم كلها صناعات بعد أن كانت مقاصد وغايات! [4] . ...
* وعلى هذا المنهج في عموم كلمة (الفقه) جاء التعريف المنقول عن أبي ...
حنيفة - رحمه الله - بأنه:
(معرفة النفس ما لها وما عليها) . أي: ما تنتفع به النفس وما تتضرر به ...
الآخرة. أو ما يجوز لها وما يجب عليها وما يحرم. وهذا يتناول الأحكام الاعتقادية، كوجوب الإيمان ونحوه، والأحكام الوجدانية الأخلاقية، مما حثَّ عليه الإسلام ...
كالصدق والأمانة والوفاء ونحوها، ويشمل أيضاً الأحكام العملية كالصلاة
والصوم.. والبيع ونحوها [5] .
* ويُفَضَّل في هذا الاستخدام لكلمة (الفقه) بهذا المعنى، فإن كان للاعتقاديات سمي (الفقه الأكبر) لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية، التي تسمى (الفقه الأصغر) ؛ كما أن شرف العلم إنما يكون بشرف المعلوم، والاعتقاد يبحث في الإيمان بالله ووحدانيته وصفاته، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى، ولذلك سمي بالفقه الأكبر.
أ- وأول من استخدم مصطلح (الفقه الاكبر) ، هو الإمام أبو حنيفة النعمان
ابن ثابت (ت 150 هـ) فقد روي عنه كتاب بهذا الاسم، وهو مشهور عند أصحابه -
كما يقول ابن تيمية رحمه الله - رووه بالإسناد عن أبي مطيعٍ، الحكم عبد الله
البلخيّ.
وهو متن صغير يقع مطبوعاً في بضع ورقات، حدد فيه عقائد أهل السنة ...
تحديداً منهجياً [6] ، وردَّ فيه على المعتزلة والقدرية والجهمية والشيعة. ويشتمل
على خمسة أبواب في القدر والمشيئة والرد على من يكفرِّ بالذنب، والباب الأخير
في الإيمان.
وقد نال هذا الكتاب عناية كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين شرحاً له
ودراسة. وإن كانت بعض هذه الشروح محل نظر بالنسبة لأصحابها.
وأشير إلى أن الروايات للكتاب مختلفة، فمثلاً الرواية التي شرحها ملا علي
القاري (ت 1014هـ) تختلف عن الرواية المنسوب شرحها للماتريدي (ت 332 هـ) . ... مما جعل بعض الباحثين يتردد أو يشك في نسبة الكتاب للإمام أبي حنيفة.
ولكن شهرة الكتاب ونسبته قد تغني عن الإسناد، وإن كان ذلك لا ينفي أن بعض
المسائل ألحقت به في عصر متأخر، أو كانت من بعض الشارحين لم تتميز عن
أصل الكتاب. ولا يزال الأمر بحاجة إلى دراسة متأنية. وقد يطمئن بعض العلماء
إلى نسبة الكتاب أو إلى أن ما فيه يعبِّر فعلاً عن رأي أبي حنيفة فينقل منه مذهبه
في بعض المسائل كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[7] .
ب - وينسب كذلك للإمام الشافعي -رحمه الله- (204 هـ) كتاب بالاسم نفسه
(الفقه الاكبر) ، يقول عنه حاجي خليفة في (كشف الظنون) : وهو جيد ... جيداً، مشتمل على فصولٍ، قرأه بعض أهل حلب على الشيخ زين الدين الشماع، لكن في نسبته إلى الشافعي شك. والظن الغالب أنه من تأليف بعض أكابر العلماء.
ويرجح بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) أنه يرجع إلى أوساط إسرائيلية
متأسياً في ذلك بالمستشرق اليهودي غولدزيهر الذي يرجع كل أثر إسلامي إلى
أصول إسرائيلية!
وقد طبع الكتاب قديماً في القاهرة سنة (1900م) ، وتقع مخطوطته في ثلاث
وعشرين ورقة، تجد فيها أحياناً أسلوب الشافعي -رحمه الله-، ولكن تقف عند
بعض العبارات التي لم تكن مستعملة في عصره، مما جعل بعضهم ينسبه للفخر
الرازي، أو يقول عنه: (فيه أسلوب عصر فخر الدين الرازي، وإن كانت آراؤه ...
تمتُّ إلى كثير من آراء الشافعي في أصوله) .
وأراني قد أطلت في بيان هذا المصطلح لأنه أول مصطلح في التطور
التاريخي للتدوين والتأليف في العقيدة. فلننظر في مصطلح آخر يليه مباشرة.
2- الإيمان
* قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) (1/133-35) : ... ... ...
(أمن - الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما للأمانة التي هي ...
ضد الخيانة. ومعناها: سكون القلب. والآخر: التصديق والمعنيان متدانيان..
وأما التصديق فمنه قول الله تعالى: [ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا] [يوسف 17] أي
مصدق لنا. وقال بعض أهل العلم: إن (المؤمن) في صفات الله تعالى، هو أن
يَصْدُقَ ما وَعَدَ عَبْدَه من الثواب. وقال آخرون: هو مؤمن لأوليائه يؤمنهم عذابه
ولا يظلمهم. فهذا قد عاد إلى المعنى الأول ... ) .
* وقال الأزهري في (تهذيب اللغة) (2/451-52) :
(وأما الإيمان: فهو مصدر آمن يؤمن إيماناً. واتفق أهل العلم من اللغويين
وغيرهم على أن الإيمان معناه التصديق..) ، ثم قال: (وهذا موضع يحتاج الناس
إلى تفهيمه وأين ينفصل المؤمن عن المسلم وأين يستويان؟) وشرح ذلك باستفاضة. ...
هذا، والإيمان في لغة العرب يستعمل متعدياً ولازماً؛ فإذا استعمل لازماً كان
معناه أنه صار ذا أمن. وإذا استعمل متعدياً؛ فتارة يتعدى بنفسه فيكون معناه
التأمين. وتارة يتعدى بالباء أو اللام، فيكون معناه التصديق [8] .
وفي الاصطلاح الشرعي: كثيراً ما ترد كلمة الإيمان، ويراد بها المعنى
اللغوي نفسه، فتطلق على مطلق التصديق، سواء كان تصديقاً بحق أو باطل.
وكثيراً ما يراد معنى أخص صار في العرف الشرعي حقيقة جديدة، فيراد بها
خصوص التصديق بخبر السماء المنزل على الأنبياء.
وضابط ذلك: أن ننظر في استعمالها؛ فإن كانت متعلقة بشيء، كأن قيل:
إيمان بكذا، كانت بمعناها اللغوي البحت، أي مطلق التصديق. وأما إذا
ذكرت بدون متعلَّق فالمراد بها تلك الحقيقة الشرعية الخاصة، وهي التصديق بالحق
والانقياد إليه [*] .
وعندئذ فالإيمان عبارة عن ثلاثة أشياء:
الأول: هو الاعتقاد الجازم بكل ما ثبت بالضرورة أنه جاء من عند الله تعالى
على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم - ولا بد مع هذا من الرضى والارتياح
النفسي.
الثاني: إعلان هذه العقيدة بالقول أو غيره، من كل ما يدل عليها ظاهراً.
والثالث: العمل بكل ما أمر الله به من فريضة أو نافلة والانتهاء عمَّا نهى الله
عنه من حرام وشبهة صغيرة وكبيرة في سره وعلانيته بقلبه وجوارحه.
هذا، وكلمة الإيمان ومشتقاتها من أكثر الكلمات استعمالاً في القرآن الكريم
والسنة النبوية، والحديث عن الإيمان فيهما يتميز بأسلوب حيّ مؤثر يملك على
الإنسان جوانب نفسه، ويحمله على الطاعة والالتزام، فيكون له أثر في الفرد
والجماعة، ويختلف هذا الأسلوب عن أسلوب المتأخرين فيما بحثوه وشغلوا به
حول حقيقة الإيمان وأجزائه، وارتكاب الكبيرة وحكمها وأثرها على الإيمان.
وحسبنا هنا هذه الإشارة الموجزة..
* وتحت عنوان (الإيمان) بحث علماؤنا - رحمهم الله - جوانب من العقيدة
كما نجد ذلك في أبواب الإيمان من كتب الحديث، كما نجد ذلك في بعض كتب
التفسير، وخصص بعضهم كتباً مفردة للإيمان، نذكر أهم ما وصل إلينا منها، أو
ما عُرف منها حسب الترتيب التاريخي لوفيات مؤلفيها:
أ- (كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته) للإمام أبي عبيد القاسم ...
بن سلاَّم، البغدادي الهروي (ت 224 هـ) .
ب- كتاب الإيمان، للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة (225 أو235 هـ) ،
وكلاهما مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
ج- كتاب الايمان للإمام أحمد بن حنبل الشيباني (241 هـ) وحقق رسالة
جامعية في المدينة النبوية.
د- ثم هناك كتب أخرى تحت هذا الاسم، لمحمد بن أسلم الطوسي (242 هـ) والعَدَنيّ (243هـ) ، والطحاوي (321 هـ) ، وابن منده (395 هـ) وأبي يعلى
الفرّاء (458 هـ) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
وفي مقدمة التحقيق لهذه الكتب أو لما طبع منها محققاً، نجد دراسة عن كل
كتاب ومنهجه وميزاته. وفي العصر الحديث ظهرت كتب كثيرة تحت هذا العنوان
تعالج جوانب من العقيدة الإسلامية وآثارها في الحياة، وتدرس الإيمان دراسة نفسية
تحليلية، وفيها ما هو نافع ومفيد.
__________
(1) انظر الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية، للأستاذ محمد المبارك ص (75) .
(2) انظر: الصحاح للجوهري: 6/2234، ترتيب القاموس المحيط: 3/ 513، تعريفات الجرجاني ص (216) .
(3) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي: 1/32-32.
(4) شرح التوضيح على التنقيح للتفتازاني: 1/27-29.
(5) انظر التوضيح للتفتازاني: 1/19-20، كشف الأسرار علي أصول البزدوي: 1/8، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 1/41-42.
(6) نشأة الفكر الفلسفي للنشار: 1/234.
(7) انظر مجموع الفتاوى: 5/46-48، درء تعارض العقل والنقل: 6/ 263 - 264.
(8) انظر المفردات للراغب ص (26) ، المختار من كنوز السنة للدكتور محمد عبد الله دراز ص (69) .
(*) نفى ابن تيمية أن يكون التصديق مرادفاً للإيمان، لا لفظاً ولا معنى، وأتى على ذلك بأدلة لغوية وشرعية، ورد على ما ينبني على هذه المقدمة أيضاً من أن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان، وفصل القول في مسألة مهمة بما لا مزيد عليه ولا أشفى منه وهي: هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة؟ أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة، لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معناها يراجع كتاب الإيمان لابن تيمية ص 247-259 ط دار الكتب العلمية وحوالي ص 272-276 ط المكتب الإسلامي - التحرير -.(53/8)
كتب
الفرصة السانحة [*]
عرض: د. مالك إبراهيم الأحمد
يعتبر الكثير من النقاد والمحللين السياسيين كتاب نيكسون الأخير (الفرصة
السانحة) أهم كتبه التسعة على الإطلاق، ونظراً لما يمثله هذا الكتاب من أهمية بالغة سواء من حيث كاتبه وهو رئيس سابق للولايات المتحدة أو من حيث المادة
المعروضة وهي دراسة تحليلية لواقع العالم (ومن ضمنه العالم الإسلامي) ، رأينا
عرض هذا الكتاب للقارئ المسلم خاصة وأنه يعرض الفكر الغربي (الأمريكي على
وجه الخصوص) بشكل واضح وعميق، ولهذا أوصي أصحاب الاهتمام بقراءة هذا
الكتاب..
فصول الكتاب:
الكتاب يتكون من سبعة فصول، الأول بعنوان العالم الحقيقي ويقصد به العالم
الذي تسود فيه قوى الحرية بزعامة أمريكا. والفصل الثاني (الإمبراطورية
الشريرة السابقة 9 وهي إمبراطورية الاتحاد السوفييتي التي سقطت. وقد أشار في
توطئة الكتاب حول سقوط الاتحاد السوفييتي بقوله: منذ حوالي اثنين وثلاثين
عاماً قال لي خروتشوف في موسكو بشيء من الصلف: سوف يعيش أحفادك في
ظل الشيوعية، فأجبته قائلاً: سوف يعيش أحفادك في ظل الحرية) . ...
أما الفصل الثالث فهو بعنوان: (الوطن المشترك عبر الأطلنطي) أي أوربا. ... والفصل الرابع عن المثلث الباسيفيكي. والفصل الخامس عن العالم الإسلامي
والسادس حول نصف الكرة الجنوبي (نظرة تفصيلية لدول العالم الثالث اقتصادياً
وسياسياً) ، ويختم الكتاب بفصل تجديد أمريكا.
وسوف نتوقف في استعراضنا هنا عند الفصول الأول والخامس والأخير لما
لها من أهمية خاصة لنا كمسلمين.
يتصدر الفصل الأول دعوة ساخنة كي تلعب الولايات المتحدة الأمريكية
دورها في العالم (نعيش الآن في عالم ليس به إلا قوة عظمى واحدة وهي الولايات
المتحدة، وعلينا الآن تشكيل سياستنا الخارجية لكي تتلائم مع الوضع الجديد.
وينادي كثير من الأمريكيين سواء من اليمين أو اليسار بأنه على الولايات المتحدة
أن تتراجع وتنطوي على نفسها بعيداً عن العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولكن
الواقع يقول إنه يجب على أمريكا أن تقود العالم في السنين القادمة) .
ثم يشير إلى الحرب الباردة ويركز على دور الاتحاد السوفييتي الشرير في
العالم وما آل إليه أخيراً، ثم يرد على ثلاثة شعارات مطروحة:
الأول: التاريخ قد توقف وذلك بعد انهيار الشيوعية وأن السيطرة هي
للتكنولوجيا والاقتصاد والأفكار وليس للقوة العسكرية.
الثاني: القوة العسكرية ليس لها ضرورة وأنها لم تعد تشكل حجر الأساس في
السياسة الدولية.
الثالث: أمريكا في طريقها إلى التراجع بسبب الديون الضخمة والعجز
التجاري.
وفي رده المفصل على هذه الأطروحات يؤكد أن القوة الاقتصادية ليست بديلاً
بأي حال للقوة العسكرية ويضرب مثالاً على ذلك في أزمة الخليج حيث وقفت أكبر
قوتين اقتصاديتين وهما ألمانيا واليابان متفرجتين على الأوضاع بل اعتمدتا كلياً
على دور الولايات المتحدة. ثم يتساءل: (إذا لم تنعم الولايات المتحدة بقيادة العالم
فمن الذي يجب عليه ذلك؟ إن الدول الوحيدة التي تستطيع ذلك هي اليابان والصين
والاتحاد السوفييتي (سابقاً) وألمانيا. إن الولايات المتحدة ليس لديها فقط ما تملكه
هذه الدول، بل أيضاً ما لا تملكه، وهو عدم وجود تطلعات إمبريالية أو استعمارية
تجاه الدول الأخرى) .
ويحاول نيكسون أن يبرز إيجابيات تفرد الولايات المتحدة وحرصها على رفاه
وحرية العالم، وإن لم تكن لها مصالح من ذلك ويضرب لذلك مثال أزمة الخليج:
(لولا تدخل الرئيس بوش لكان صدام حسين يتحكم الآن في 50% من إنتاج البترول
العالمي، وبالرغم من أن أمريكا يمكنها الاستغناء عن نفط الخليج إلا أن أوربا
واليابان لا يمكنهما ذلك، ونحن نتأثر بما يصيب اقتصاديات البلاد الديمقراطية
الأخرى، ولذلك كان لا يمكننا أن نسكت على سيطرة العراق على نفط الخليج الذي
يمكن أن تتخذه وسيلة لتهديد العالم عن طريق التحكم في إنتاجه) .
ويناقش نيكسون بتفصيل القول الذي يدعو إلى انكفاء الولايات المتحدة على
نفسها ومحاربة مبدأ رجل البوليس الدولي مضيفاً عنصراً أخلاقياً - في زعمه -
لدورها: (إن انعزالنا يخالف مثلنا ومعتقداتنا الدينية التي تدعو إلى نشر الفضيلة في العالم أجمع، وهذا لا يعني أن علينا أن نتدخل في كل صغيرة وكبيرة في العالم، ولكن يجعل علينا التزاماً أدبياً في استخدام كل إمكاناتنا كدولة عظمى لحماية الحرية والعدل في البلاد التي يهمنا أمرها وهي مفيدة لنا) . ويشير إلى أن دور الأمم المتحدة - كحافظ للسلام الدولي - محدود جداً، ولا يمكن أن تحقق أي دور ما لم يتم اتفاق الدول الكبرى على رأي محدد سابقاً.
ويضرب لذلك أمثلة حيث لم تتخذ الأمم المتحدة موقفاً إيجابياً وعملياً من
حوالي مئة حرب في أنحاء العالم إلا في حالتين وهي الحرب الكورية وحرب
الخليج. وهذا بالطبع يدل على أن لا مناص من قيادة الولايات المتحدة للعالم.
ويتطرق في موضع آخر إلى قضية حيوية وهي: متى تتدخل الولايات
المتحدة في أزمات العالم. ويجيب بحسب مصالح الولايات المتحدة والتي يقسمها
إلى مصالح حيوية (ما كان يهدد مصالح الولايات المتحدة مباشرة) ومصالح هامشية
ومصالح حساسة (وهي التي تشكل تهديداً لإحدى النقاط الحيوية للولايات المتحدة) .
فالتدخل لازم في الحالة الأولى ومحتمل في الثالثة.
والولايات المتحدة - في نظر نيكسون - قادت العالم الحر ضد التهديد
الشيوعي سابقاً، وهي محل أنظار العالم لتقوده إلى الحرية والسلام والتقدم، وهي
قادرة على ذلك رغم ما يعتريها من مشاكل داخلية حادة من جريمة، مخدرات،
سوء تعليم، تفرقة عنصرية وغيرها. والفرصة سانحة لها لقيادة العالم فهل هي
فاعلة؟ ؟
في فصل العالم الإسلامي ينقل نيكسون التصور الخاطئ والمنتشر لدى ...
الأمريكان عن المسلمين والعالم الإسلامي مبيناً أنهم - في تصور الأمريكان -
أصحاب أشد الصور قتامة وأشد حتى من الصين الشيوعية.
ويشير إلى الصيحات والتحذيرات التي يطلقها البعض محذرين من الخطر
الداهم القادم من العالم الإسلامي، ذي الإمكانات البشرية الهائلة والمادية الضخمة،
ويرد على ذلك بأن الأمر أهون مما يتصورون، فالمسلمون - رغم إيمانهم بالدين
الإسلامي جملة - فإنهم يعانون تفككاً سياسياً ذريعاً ومشكلات مستعصية وتمزقاً
عقائدياً ومذهبياً.
ويتطرق في موضع آخر إلى الحضارة الإسلامية السابقة وإمكانية عودتها
مستقبلاً إذا استقرت الأمور في المنطقة بعيداً عن الحروب، (مع إسرائيل بالطبع) .
ويصنف الحركات السياسية في العالم الإسلامي إلى ثلاث مجموعات رئيسية:
1- الأصوليون (كما يسميهم الغرب) : ويمثلهم بشكل خاص الثوار الشيعة في
إيران ولبنان.
2- الرجعيون: وهم الدكتاتوريون الذين يؤمنون بالحزب الواحد أمثال صدام
العراق وقذافي ليبيا.
3- التقدميون: الذين يرون ربط المسلمين بالغرب وليس لهم نظرة عدائية
للغرب مثل تركيا، باكستان، ومصر.
ونظرة نيكسون نحو هذه المجموعات هو دعم التقدميين لما فيه من مصلحة
متبادلة، وكي يستطيعوا مقاومة الأصولية والرجعية. ويبين طريقة التعامل مع
جميع المجموعات سواء كانوا أصوليين في السلطة (مثل إيران) أو تقدميين يمكن
أن يكونوا شركاء منطقيين للولايات المتحدة (تركيا - باكستان - مصر اندونيسيا)
نظراً لثقل بلدانهم الاستراتيجي ولمقوماتهم البشرية والمادية.
أما أسلوب التعامل معهم (فيجب ألا تصل العلاقة بين أمريكا والدول الشريكة
إلى حد الوصاية، ويجب ألا نتعامل مع الزعماء في الدول التقدمية كأنهم مراسلون
بيننا وبين شعوبهم، بل علينا أن نعاملهم كشركاء متساويين، لأن أسرع طريقة
ندفنهم بها هي معاملتهم كأنهم أبواق للدعاية الغربية) .
ويضيف قائلاً: (علينا أن نتقبل في بعض الأحيان رفض أصدقائنا في العالم الإسلامي لبعض تصرفاتنا، التي تسبب لهم حرجاً سياسياً في بلادهم. فعندما ألقت الولايات المتحدة القنابل على ليبيا انتقاماً منها لمهاجمتها بعض الجنود
الأمريكيين قام كثير من الزعماء في المنطقة بلعننا على الملأ، وبالثناء علينا في سرهم. فيجب ألاّ يزعجنا أن تضطر الظروف أصدقاءنا أن يتفوهوا ببعض
السباب ضدنا إرضاءً لأعدائنا) .
ويمثل العالم الإسلامي - كما يرى نيكسون - واحداً من أكبر التحديات لسياسة
الولايات المتحدة في القرن القادم، وهناك قضيتان أساسيتان تمثلان حالة عدم
استقرار فيه، وهما النزاع العربي الإسرائيلي وأمن الخليج العربي.
ومن هذا المنطلق يحذر من محاولة وضع حل شامل للأمن في المنطقة، أو
محاولة وضع نظام للحد من الأسلحة، أو الانسياق وراء مقولة إعادة توزيع الثروة
بل يكتفي بوجود معاهدات أمنية ثنائية مشتركة مع دول المنطقة وتعاون على أوسع
نطاق أمام أية تحديات تواجهها هذه الدول. وعقدة المنطقة - أو أهميتها - كما يرى
نيكسون؛ هو وجود البترول الذي يجب أن يصل للغرب بانتظام وبأسعار معتدلة،
وإسرائيل التي يجب أن تكون في مأمن من أي اعتداء، مفصلاً ذلك بقوله: (إن
التزاماتنا نحو إسرائيل عميقة جداً. فنحن لسنا مجرد حلفاء، ولكننا مرتبطون
ببعضنا أكثر مما يعنيه الورق. نحن مرتبطون معه ارتباطاً أخلاقياً) .
وأنهم - أي أمريكا حكومة وأفراداً - لا يمكن أن يسمحوا لأحد - كائناً من
كان - بالتعرض لإسرائيل وتدميرها. ثم يفصل - من وجهة نظره - كيفية حل
الصراع العربي الإسرائيلي بشكل يضمن حقوق إسرائيل والفلسطينيين.
وننتقل إلى الفصل الأخير (تجديد أمريكا) الذي هو بمثابة خاتمة للكتاب
ويؤصل الكاتب فيه دور أمريكا القيادي للعالم وأهمية ذلك وأثره.
ويؤكد في بداية الفصل أن الدور الذي تقوم به أمريكا لا يمكن أن يقوم به
غيرها، نظراً لأنها تمتلك جميع مقومات القيادة وهي القوة العسكرية والاقتصادية
والسياسية، فضلاً عن المبادئ والمثل التي ترفع لواءها وتنتصر لها.
ويدعو نيكسون لمزيد من الاهتمام بالجانب الاقتصادي والتعليمي لأمريكا كي
تكون عند حسن ظن الآخرين وتوقعاتهم، ويتساءل خلال هذا الفصل: (هل
تستطيع الولايات المتحدة أن تقوم بدور القيادة للعالم؟ الجواب بكلمة واحدة: نعم،
ويمكن للعالم أن يتبع خطانا) .
أما كيف تقود أمريكا العالم فيبين أن: (الولايات المتحدة كأكبر قوة في العالم
من واجبها أن تقوده دون أن تفرض عليه آراءها أو مثالياتها. علينا أن نرعى نمو
الديمقراطية ما دام هناك مجال لها، وما دام الشعور القومي يتجاوب معها وتتجاوب
معها عاداته ومؤسساته، وعلينا أن نحذر من فرضها على أي شعب بالعنف) .
ويختتم بدعوته لأمريكا أن تتبوأ مكانها القيادي، وللعالم بأن يتبعها فهي منارة الأمن
والحرية والسلام في العالم أجمع وبدونها فالقطار قد يتوقف إن توقف ربانه،
والفرصة سانحة لقرن أمريكي ثان قادم فهل هم فاعلون؟
__________
(*) Seize the Moment تأليف الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون , ترجم بعنوان: الفرصة السانحة , ترجمة: أحمد صدقي مراد , الناشر دار الهلال 215 صفحة.(53/17)
خواطر في الدعوة
مواعظ القرآن
محمد العبدة
يحتاج المسلم بين الحين والآخر إلى من يذكره ويعظه في نفسه، ويرقق له
قلبه، ويضعه دائماً على الطريق السوي بلا إفراط ولا تفريط، وهذا التذكير إذا
قابل نفساً معتدلة فإنها تقبل وتتأدب، ولكن هناك صنف آخر من المسلمين قد ابتعد
كثيراً عن آداب الإسلام وأخلاقه، بل عن كثير من توحيد العبادة وما يليق بجلاله -
سبحانه وتعالى- من المحبة والتعظيم والخضوع والتسليم، فمثل هؤلاء لا بد لهم
من قوارع ومواعظ قوية تنبههم من غفلتهم، وتخرجهم عن غيهم، وليس أقوى من
قوارع القرآن الكريم، الذي أثر في العرب تأثيراً بالغاً ليس بنظمه المعجز فقط بل
بزواجره ونواهيه وطريقة عرض قصصه في كل سورة، فلماذا لا يقرع أسماع
هؤلاء بمثل هذه الآيات: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ
اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إن كَانَ
آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [التوبة 23-24] . وعندما سمع
أحد زعماء قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ عليه: [فَإنْ
أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وثَمُودَ] [فصلت 13] طلب من
الرسول - صلى الله عليه وسلم - التوقف عن التلاوة. وقد شدد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - القول فيمن رجع إلى أخلاق الجاهلية فقال: (مثل الذي
يعين قومه على غير الحق، مثل بعير تردى وهو يُجر بذنبه) [1] ، وكقوله في
الحديث: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلِّتون من يدي) [2] .
لماذا لا يصارح هؤلاء الذين استعبدتهم التقاليد والمظاهر التافهة وأصبحت
كلماتهم وأفعالهم أبعد ما تكون عن الإسلام، لماذا لا يصارحون بأن ما هم فيه إنما
هو من رخاوة عقد الدين وضعف الإيمان؟ !
إن كثيراً من الخطباء والوعاظ لا يلمس الداء ولا يضع يده على الجرح،
وإنما يداورون ويتكلمون من بعيد، وقد لا يفهم المخاطب أنه هو المعني بهذا الكلام، مع أن هناك فرقاً بين المصارحة وبين الشدة في القول التي تؤذي السامعين أو
تجعل عندهم ردة فعل. ومثل هؤلاء يشدد عليهم لفترة معينة حتى يعودوا إلى الله
ويؤوبوا وعندئذ يرجع الوعظ والكلام متنقلاً بين الخوف والرجاء.
إن النفس البشرية لا يكفيها مجرد تأليف الكتب ووضع الأنظمة، التي تقول
لهم: هذا حق وهذا باطل، أو هذا حلال وهذا حرام، بل لا بد أيضاً من الإذعان
الوجداني، والقناعة الداخلية والتأثير النفسي. وإن قصص القرآن وأمثاله
المضروبة وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كافية في إصلاح النفس
وردعها ووضعها على الصراط المستقيم.
__________
(1) صحيح الجامع الصغير /1016.
(2) صحيح الجامع الصغير /1020.(53/24)
أخلاق
[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ..]
إبراهيم بن علي العريني
إن من الصفات الذميمة التي ينبغي للمسلم الحذر من الاتصاف بها، والتي
جاء الشرع بذمها صفة الحسد. ذلك لأن الحاسد عدو لنعمة الله، متسخط لقضائه،
غير راض بقسمته بين عباده. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء حين
حسد إبليس أبانا آدم وزوجه وهو أول ذنب عصي الله به في الأرض حين حسد ابن
آدم أخاه حتى قتله.
وإنه لا يتصف بهذه الخصلة إلا ذوو النفوس الضعيفة، فذنب المحسود إلى
الحاسد دوام نعمة الله عليه ليس إلا. وشر الحسد عظيم، قال أبو الليث السمرقندي: (يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود، أولها: غمّ لا ينقطع، الثانية: مصيبة لا يؤجر عليها، الثالثة: مذمة لا يحمد عليها، الرابعة: سخط الرب، الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق) [1] .
قال الشاعر:
ألا قل لمن ظل لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه ... لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني ... وسدّ عليك وجوه الطلب
قال ابن المقفع: (أقلُّ ما لتارك الحسد في تركه أن يصرف عن نفسه عذاباً
ليس بُمدْرِكٍ به حظاً ولا غائظٍ به عدواً، فإنا لم نر ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد،
طول أسف ومحالفة كآبة، وشدة تحرُّقٍ، ولا يبرح زارياً على نعمة الله ولا يجدها
مَزَالاً، ويكدر على نفسه ما به من النعمة فلا يجد لها طعماً ولا يزال ساخطاً على
من لا يترضاه، ومتسخِّطاً لما لن ينال من فوقه، فهو مُنَغَّص المعيشة، دائم
السخطة، محروم الطِّلِبة، لا بما قُسِم له يقنع، ولا على ما لم يُقسَم له يَغْلِبْ،
والمحسود يتقلب في فضل الله مباشراً للسرور منتفعاً به مُمَهَّلاً فيه إلى مدة، ولا
يقدر الناس لها على قطع وانتقاص) [2] .
وإن مما يدعو للعجب من حال الحاسد أنه يحسد قرينه أو صديقه على نعمة
آتاها الله إياه مع أن كثيراً من الناس قد أوتوا مثل هذه النعمة وأكبر منها، لكنه لا
يحسدهم عليها وما ذلك إلا لشيء قام في نفس الحاسد وكُرْهٍ مستقر حمله لصاحبه.
ومع أن الحسد كله سيء إلا أن أسوأه الحسد الذي يقع من طلاب العلم والدعاة
تجاه أقرانهم، وذلك لأننا لا نستغرب كثيراً أن يقع الحسد من الجهال وضعاف
النفوس لقلة الإيمان في قلوبهم وقلة العلم في صدورهم، لكنا نستغرب بل نتألم
ونأسى كثيراً عندما يقع مثل هذا الأمر من أناس عرفوا شر الحسد وذمه، وحملوا
من العلم والإيمان ما كان حرياً أن يصدهم عن مثل هذا الجرم.
ولماذا يحسد طالب العلم قرينه؟ ! ألأنه طلب العلم واجتهد في تحصيله في
زمن قل فيه الجادّون في طلب العلم وحاز أكثر مما حاز هو؟ ! إن من حق هذا
القرين أن يدعى له بالتوفيق ويشد أزره ويدفع إلى المزيد من تحصيل العلم، وليس
من حقه علينا أن نتمنى زوال هذه النعمة عنه. لأننا إن فعلنا ذلك فإننا نتمنى
للمجتمع أن يُسلَب منه أحد الأفراد النافعين فيه فتكون بذلك قد تعدت جنايتنا إلى
المجتمع كله.
بل لماذا يُحْسَدُ الداعية النشيط الذي تأثر الناس بكلامه وتركوا ما كانوا عليه
من المعاصي وسلكوا طريق الحق على يديه؟ ! لماذا نحسده على ذلك ونتمنى زوال
هذه النعمة عنه ونحن أحوج ما نكون إلى أمثاله، فنحرم الناس من خيره وإرشاده.
بل الواجب على الحاسد أن يسعى بتكميل نفسه والاقتداء بمن هو خير منه وبمن
سبقه في مجالات الخير حتى يلحق بهم. وصدق الشاعر إذ يقول:
وترى اللبيب مُحَسَّداً لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وظلماً إنه لذميم
وإن من وسائل دفع الحسد واتقاء الاتصاف به:
- التفكر في وافر نعمة الله على العبد والنظر إلى من هو أدنى فيكون بذلك
حق النعمة الشكر لا الحسد.
- العلم بأن الحسد يفعل بالحاسد أكثر من فعله بالمحسود.
- قال أعرابي: الحسد داء منصف يفعل في الحاسد أكثر من فعله بالمحسود.
- قال الشاعر:
إن تحسدوني فإني لا ألومكم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولكم ما بي وبكم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
دعاء الله بصدق أن يطهر القلب من الحسد.
أسأل الله العظيم أن يطهر قلوبنا من الحسد، وأعمالنا من الرياء، وأعيننا من
الخيانة، وأن يصلح أحوالنا وذات بيننا.
__________
(1) المستطرف من كل فن مستظرف: شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي 1/457.
(2) عيون الأخبار: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري 1/12.(53/26)
إدارة
معرفة الرجال
من سمات القيادة الناجحة
سامي سلمان
إن من مسلمّات الإدارة الناجحة القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق،
والتميز لدى المرؤوسين بأفضل ما يمكن، ولكي يتحقق هذا كان لزاماً على القادة
والرؤساء ضرورة معرفة وتمييز هذه المكامن لدى مرؤوسيهم، وهو ما نعنيه
بمعرفة الرجال.
إن توفر الرجال (أولاً) ، والقدرة على- توظيفهم لخدمة أهداف رسمها لهم
القادة (ثانياً) ، لهما طرفاً المعادلة الإدارية التي ينتج عنها نجاح القادة، وكلما أحسن
المادة الاستفادة من هذا التوظيف كلما نتج عنه تفوق ونجاح. ومن هنا اعتبرت
القيادة فناً صعباً لارتباطها بالعنصر البشري الذي يصعب تحليله وفهمه ببساطة كما
هو الحال في العناصر الكيميائية الطبيعية. ومن خلال هذا التصور يمكننا فهم
صورة العلاقة بين نجاح القادة، وبين قدرتهم على معرفة الرجال. وينبغي ألا
ننسى أن نجاح القادة ينتج عنه تحقيق لأهدافهم في الواقع.
كتبت إحدى أكبر المنظمات العالمية هذه الكلمات لتعبر عن سر نجاحها
وتفوقها:
(لقد حققنا هذا النجاح من خلال تنظيم إداري وجو عمل يساعدان على
اجتذاب أفضل الكوادر البشرية، وتطوير وشحذ المواهب الفردية..) . ...
ونلحظ في هذه الكلمات عنصرين أساسين:
العنصر الأول: اجتذاب أفضل الكوادر البشرية.
العنصر الثاني: تطوير وشحذ المواهب الفردية.
ولا شك أنه ليس من الممكن تحقيق هذين العنصرين دون القدرة على معرفة
الرجال.
ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أرأف أمتي بأمتي ...
أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي،
وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل،
ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) [1] . إن من أسرار ... ...
العظمة التي تمتع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدرته على معرفة رجاله، وحسن توظيفه لهم، كلاً حسب قدرته ومواهبه، يقول أحد المفكرين: (إن معرفة ...
الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس واكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها،
إنها سر الرؤساء العظام) [2] . ومن المفيد هنا أن نحلل عظم الفائدة التي يجنيها ...
القائد المتمكن من معرفة الرجال.
أولاً: إن معرفة الرجال هي الطريق الأمثل لحسن توظيفهم ووضعهم في
المكان الذي يمكنهم أن يقدموا أفضل ما يكون في أنفسهم لخدمة أهدافهم.
ثانياً: إن توظيف المرؤوسين في مكانهم المناسب هو الحافز الحقيقي لإيجاد
روح الاستمرارية والعطاء للأفراد، حيث يحقق الأفراد ذواتهم بتميّزهم وتفوقهم من
خلال إمكاناتهم الحقيقية.
ثالثاً: إن القدرة على الارتقاء والإبداع لمن وضعوا في المكان المناسب نتيجة
إمكاناتهم هو ما أثبته الواقع والتجارب الحية، مما ينعكس على تمييز التنظيم الذي
يسير خلف القائد الناجح.
رابعاً: إن الإرباك وقلة الخبرة التي يظهرها أولئك الذين لم يتمكن المسئولون
من حسن توظيفهم لقلة معرفتهم بحقيقتهم، هي إحدى السلبيات التي يمكن القائد
الناجح تفاديها نتيجة معرفته برجاله.
خامساً: إن سد الثغرات بالمرؤوسين الأكفاء الذين أحسن القائد انتقاءهم يمكنه
من التفرغ والمراقبة عن كثب لمن هم بحاجة إلى توجيه، وبهذا يستطيع من خلال
معرفته للرجال سد الثغرات، والارتقاء بالآخرين دون عناء.
سادساً: إن درجة سيطرة القائد والرئيس على رجاله عملية مرتبطة ارتباطاً
وثيقاً بمدى تفهمه لشخصياتهم، ونفسياتهم، وقدراتهم، ولذلك فهو لا يستطيع أن
يقدر حجم المهام أو مستوى التكليف أو حدود الاستطاعة التي إذا تجاوزها تعرض
الانضباط للمخالفة دون أن يتمكن من معرفتهم حق المعرفة.
سابعاً: إن الاستعداد الذي يبديه المرؤوسون بالتعايش وبث الآلام وطلب
المساعدة لأولئك الرؤساء الذين استطاعوا فهمهم ومعرفتهم لهو أكبر بكثير مما يبديه
من لم يستطع رؤساؤهم تخمين ما يدور في رؤوس من يقودونهم ومن هنا يستطيع
القادة احتواء غيرهم بمعرفة أسرارهم، وآلامهم والعمل على القيام بدور الموجه
والناصح لهم، بعد أن امتلكوا قلوب مرؤوسيهم.
ولنقف وقفة مع هذا النص من واقع الخليفة الثاني: (كان الخليفة عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه، يشاور أفاضل الرجال في تعيين كبار موظفيه، فقال
لهم يوماً: أشيروا علي ودلوني على رجل استعمله في أمر قد دهمني، فقولوا ما
عندكم، فإنني أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم وإذا كان
فيهم وهو أميرهم كان كأنه واحد منهم، فقالوا: نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد
الحارثي، فأحضره وولاه. فوفق في عمله وقام فيه بما أربى على رجاء عمر وزاد
عليه، فشكر عمر لمن أشاروا عليه بولاية الربيع) [3] .
والناظر في هذا النص من خلال ما سبق وقدمناه من أهمية معرفة الرجال
يلمس الجوانب التالية:
1- فهم عمر -رضي الله عنه- لأهمية اختيار الرجال ومعرفتهم وذلك من
خلال تشاوره مع أفاضل الرجال في تعيين كبار موظفيه.
2- حرصه - رضي الله عنه - على وضع الرجل المناسب في المكان
المناسب فقد بين لمن استشارهم صفات الرجل الذي يريد، حتى يتمكنوا من اختيار
من يوافق هذه الصفات ليحقق هدف عمر.
3- حكمته - رضي الله عنه - في معرفة الرجال من خلال مواقفهم
وتصرفاتهم، لا من خلال أقوالهم وما يقال عنهم، فقد استطاع أن يجسد في نظر
مستشاريه مثال الرجل الحي الذي يريده.
وأخيراً بهذه المعاني المتقدمة تستطيع أن تفهم سر المواقف التالية:
1- يحكم على المرؤوسين بالذكاء والإنتاجية في مكان ما ثم يكتشف بأن لديه
طاقات كامنة من رئيس جديد.
2- يصف أحد الرؤوساء مرؤوساً بأنه جيد ويصفه الآخر بأنه سيء.
3- يهمل المرؤوس لأنه لا يصلح لشيء البتة، ثم يكتشف بأن لديه طاقات
كامنة من رئيس جديد.
4- يبذل المرءوس ويعطي عطاء أفضل عند رئيسه الجديد أكثر مما كان
يفعل مع رئيسه القديم.
وليس هناك من تبرير جيد إلا أن أحدهم أحسن القيادة بمعرفته مرءوسيه
والآخر فشل في ذلك.
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة 1224.
(2) فن القيادة ص 32.
(3) أقوال في الإدارة - إبراهيم عبد الله المنيف - دار العلوم للطباعة والنشر - 1403هـ.(53/30)
تأملات في واقع الحياة
جَلَد الفاجر وضعف التقي
محمد الناصر
يروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: (اللهم إني أشكو إليك جلَدَ الفاجر وضعف التقي) . فإذا كان أمير المؤمنين في زمنه
قد شكا من هذا الأمر فماذا نقول نحن أبناء هذا العصر؟ !
لقد كان حرص الخليفة شديداً في اختيار الرجال وفي تمحيص أصحاب
الكفاءات، ليطبق شرع الله كاملاً، ويحوله إلى واقع عملي ملموس على أيدي
أصحابه وقد تحقق له ذلك بفضل الله تعالى.
هذه المقولة تصور لنا صنفين من الناس:
* جَلَد الفاجر وصبره ودأبه، وتعاونه مع أمثاله لتحقيق ما تصبو إليه نفوسهم
من أهداف.
* وطيبة قلب التقي وحسن الظن لديه زيادة عن الحد المطلوب ثم التواكل
وعدم التعاون مع أمثاله في أغلب الحالات.
وها نحن في هذا العصر نرى قوة أهل الباطل وتعاونهم بينما نجد أن أهل
الخير والصلاح متباعدين، لا يأخذ التعاون من أنفسهم اهتماماً جاداً وإذا بدأوا مثلاً
بمشروع خيري أو مؤسسة طيبة الأهداف، فقلما يستمرون فيها، بل ربما آلت إلى
بعض الأفراد من الصنف الأول بسبب جلد هذا الصنف وإتقانه أسلوب التلون
مستغلاً حسن الظن أو التقاعس عند الناس الطيبين.
ومنذ مطلع هذا القرن الميلادي، نلاحظ أن أعداء الإسلام قد خططوا لحربنا،
ونجحوا في تحقيق كثير من أهدافهم مع الأسف. فالنصارى مثلاً دأبوا على تنصير
أبناء المسلمين مستغلين الفقر والجهل والمرض باذلين الأموال في سبيل هذا ...
الغرض. وإذا لم ينجحوا في تحويل أبناء المسلمين إلى النصرانية فقد شككوهم في
صلاحية دينهم وهيمنته على حياتهم.. وإذا سألت عن أموال المسلمين، فربما
وجدتها تصب في مصالح أعدائهم قصداً أو دون قصد. وكان أهل الباطل قد جندوا
قواهم في مطلع هذا القرن كذلك باسم القومية، ورفعوا شعارات منها: أن الدين لله
والوطن للجميع، وأن الأديان يجب ألا تفرق بين أبناء الوطن الواحد..
وبعد أن خدعوا أبناء أهل السنة وشكلوا الأحزاب العلمانية، إذا بقواهم تظهر
على شكل (ميليشيات) مسلحة وقد تنكروا لشعاراتهم الخادعة، وأعلنوها طائفية
حاقدة، وبات المسلمون من أهل السنة هم الطائفة المستهدفة الضعيفة، وها هو
لبنان خير شاهد على مأساة تتكرر في عدد من بلدان المسلمين.
إن داء الغفلة، وداء التواكل، والتسويف المميت، من أشد أمراض المسلمين
مع الأسف في هذه الأيام رغم أن ديننا هو دين العزة والقوة والمنعة إذا تحول إلى
واقع حي في نفوس أتباعه، إذ لا بد أن يتفاعل المسلم مع أحداث أمته تفاعلاً
إيجابياً، أن يتأثر ويؤثر من أجل تغيير هذا الواقع المرير.. والمسلم قوي بأخيه،
والتعاون على البر والتقوى من أهم مبادئ ديننا.(53/35)
البيان الأدبي
رواية الشعر
ومنهج التربية الإسلامية
د.مصطفى عليّان
لا مراء في أن الغواية وتبعيتها في قول الله -عز وجل-[والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الغَاوُونَ] [سورة الشعراء الآية 224] صفة ذات التصاق بالشاعر وشعره، من
حيث نوعيته المباينة للصدق الأخلاقي، المارقة عن موقف الحق الثابت ومنهجه
المطرد القويم، أو من حيث أهدافه التي تثير الأحقاد، وتغرز الفتن، وتبعث
الغرائز، وترغب في فعل المنكرات، وتهون من ارتكابها.. وما إلى ذلك من
أضرب الفساد وفنون الإغواء.
ولا يبتعد من راوية الشعر وروايته عن تبعية هذه الغواية إذا كان الراوية
رديفاً مشايعاً للشاعر في صفات شعره النوعية، وظهيراً مسانداً لأهدافه الفكرية، إذ
أن الرواية نشاط فكري يتجاوز حدود النقل والضبط والاتقان إلى الاستمالة والتأثير، بما يحكم الرواية انتخابه من شعر، وبما يبرع في استخدامه من وسائل فنية في
عملية التواصل والتوصيل بين المنتج والمتلقي.
ولخطورة هذا المجال الذي يجري فيه نشاط الراوية، خلع عبد الله بن
عباس -رضي الله تعالى عنه- الغواية عليه، وخصه بها حين قال: (الغاوون هم رواة الشعر) [1] .. أما الشعر الذي يحمل الخير ويعضد فعله، أو يزيّن الحق ويرغب في اتباعه، أو يرشد سلوك الإنسان وينظم علائقه مع الناس والحياة
والكون، على أساس من حب المودة، بلا صراع، أو عداء أو قلق أو حيرة أو شك، فإنه مرغوب في قوله، محضوض على روايته وحفظه. فقد كتب عمر ابن الخطاب - رضي الله تعالي عنه- إلى ساكني الأمصار: (أما بعد فعلموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر) [2] . ...
وإذا كان الحسن الذي هو اسم جامع لكل شرف وفضيلة قد جاء في هذه
الرسالة مجملاً موجزاً، فإن تفسيراً لأبعاده، وتعزيزاً لروايته، نجده في رسالة
أخرى بعث بها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه-، قال فيها: (مُر من قَبلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يحلُّ عقدة اللسان، ويشجع قلب ... الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحضُّ على الخلق الجميل) [3] . ...
ولنا أن نعد هاتين الرسالتين الديوانيتين، الصادرتين عن أمر الخليفة الراشد، وثيقتين هامتين في اعتماد الأدب، خاصة الشعر، عنصراً هاماً في تربية الجيل
المسلم وتنشئته. على أن فيهما ما يرتفع بأهمية هذا العنصر وقيمته في منهج إعداد
الفرد المسلم، إذ قرن التوجيه الرسمي في الرسالة الأولى تَعَلُّم الشعر بمهارة.
الفروسية والعوم، وفي هذا من الوعي بضرورة توازن أهداف المنهج التربوي ما
لا يخفى، فهو كما يهدف إلى إعداد الفرد جسمياً لا يغفل عن تعهده عقلياً وفكرياً
ونفسياً، مهما يكن شأن الحياة الجديدة وتبدل أحوالها، وتدفق خبراتها، وتعدد
متغيراتها الحضارية والاجتماعية.
فرواية الشعر والاجتهاد في تعلمه أمر مستحب في أبسط فهم للأمرية في
مطلب الخليفة الراشد -رضي الله عنه-، وقد يرتفع التوجيه والإرشاد في معناه إلى
منزلة يقترب فيها من الوجوب، إذا نظرنا إلى وقوع الأمر بالتساوي على تعلم
الشعر. واكتساب مرانة عدتي الحرب؛ العوم والفروسية. وقد يرشح هذا الفهم
بالوجوب، أن بعض العلماء عد قسماً من الشعر واجب الرواية لما فيه من الخير [4] .
ولا يزال الحض على تعلم الشعر وروايته أثيراً بأبعاده الأخلاقية وأهدافه
السلوكية عند خلفاء بني أمية ممن وعى هذا المنهج. فقد بعث زياد بن أبيه بولده
إلى معاوية بن أبي سفيان فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالماً بكل ما سأله عنه،
ثم استنشده الشعر فقال: لم أرو منه شيئاً، فكتب معاوية إلى زياد يقول: (ما منعك
أن تُرَوِّيه الشعر فوالله إن كان العاق ليرويه فَيَبَرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو،
وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل) [5] . وفي وصية معاوية لزياد كذلك، أدرك الآثار
التعليمية لرواية الشعر في تحقيق المهارات اللغوية في قوامة اللسان وفصاحة منطقه، والقدرة على تدفق التعبير وطلاقته، ومرونة استيعابه لعمق الفكر، وسعة أفق
العقل، يقول: (روّه فصيح الشعر، فإنه يفصح العقل، ويفصّح المنطق، ويطلق
اللسان) [6] .
أما عبد الملك بن مروان فقد جعل رواية الشعر مقوماً هاماً في بناء شخصية
المتعلم ومظهراً دالا على رفعة منزلته، إذ يقول لمؤدب ولده: (روهم الشعر
يمجدوا وينجدوا) [7] .
وزاد ذلك تنبيهاً إلى إحدى الوسائل المعينة على تحقيق بعض أهداف رواية
الشعر، حين خص بالعناية الشعر الرقيق في لغته، البسيط في تعبيره، قال عبد الملك: (أدّبهم برواية شعر الأعشى، فإن لكلامه عذوبة) [8] ، مصيباً بذلك
أثره النفسي، إذ في سهولته ما يُحسَّن موقعه من القلب، وفي عذوبته ما يعين على عظم غنائه في النفس وسرعة تحصيله في الذهن.
بهذه الأخبار المقتضبة يمكن القول إن منهج تعليم الشعر في القرن الأول
الهجري منهج سلوكي وظيفي، كما يعنى بقوامة اللسان وفصاحة تعبيره، فإنه يعنى
بترشيد سلوك المتعلم وغرائزه. فهو منهج تربوي تكاملي، فيه التعلم والسلوك
قرينان متلازمان، وبقدر ما في هذا المنهج من أصالة، فإن فيه إدراكاً عميقاً سابقاً
لإدراكنا الحديث في أن التعلم القويم النافع هو الذي يترك أثراً في المتعلم؛ سلوكه
وعقله.
النسبة والتناسب في الرواية
ومن المسلمات الثابتة التي لا تمس بحال، أن رواية الشعر في منهج التعليم
لا ينبغي أن تقايس بمحفوظ المسلم من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بل
إن الاقتصار في محفوظ المتعلم على رواية الشعر يوقع في قبح الصنيع الذي جاء
حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- مصوراً له في قوله: (لئن يمتلئ جوف
أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) [9] .
ويوضح حدود النسبة والتناسب في هذا الأمر موقف علي بن أبي طالب -
رضي الله تعالى عنه- من غالب بن صعصعة وابنه الفرزدق، وقد سأله عن الغلام
فقال: هذا ابني، قال: ما اسمه قال: همام، وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين
وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعراً مجيداً. قال علي بن أبي طالب: (علمه
القرآن فإنه خير له من الشعر) [10] . فقد أحس علي بقصور منهج غالب في تربية ابنه وتعليمه، فضلاً عن مفاخرته وسروره بقرب ولادته الشعرية، فأرشده - منبهاً له على تفريطه - إلى خير ما يملأ قلب ابنه ووجدانه، وأصدق ما يجري على لسانه؛ إلى آيات الله البينات المحكمات. ووقع صدق توجيه أمير المؤمنين في قلب الفرزدق وعقله، فقيّد نفسه وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن فكان له ما أراد [11] .
فمن التفريط إذاً أن يقتصر محفوظ المتعلم في منهج التعلم على رواية الشعر،
مهما تكن المبالغة في قيمته الأخلاقية والسلوكية، إلا أن من الإفراط كذلك إهمال
رواية الشعر من محصول المتعلم، لأن للشعر أثراً غير منكر في صياغة ذوق
المتعلم وتوجيه سلوكه والتسامي به.
فقد روي أن معاوية بن أبي سفيان سأل عبد الله بن زياد عما يروي من الشعر
فقال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدرى. قال معاوية: اغرب،
والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مراراً، ما يمنعني من الانهزام إلا
أبيات ابن الإطنابة حين يقول:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جَشَأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر مصالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح [12]
المطلق والمقيد في الرواية
رواية الشعر في مجال التعلم مطلقة غير مقيدة، شريطة أن يكون للراوية
موقف إيجابي مما يرويه؛ لأن هذا الموقف مخرج له من قبول ما يروي من شعر
فاسد أو منحرف في تصوره الفكري. ويستوي في ذلك المعلم والمتعلم، إذ كلاهما
مرتبط بالعملية التعليمية التعلميّة التي من أهدافها عدم قبول المعصية أو التحريض
عليها.
وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر ما دام ملتزماً بالشرط الذي قدمنا والغاية التي
حددنا، فرواية الشعر في مجال التعليم لا تزيد عن كونها ترداداً لألفاظ الشعر
وتكراراً لها، فهي مباحة إذا نبه الراوية على مواضع الانحراف فيها، من كفر أو
فحش أو فساد. ومن نافل البيان أن نلفت النظر إلى أن الوزر في هذا الشعر
المنحرف عن جادة القوامة إنما يقع على قائله لا على راويته.
أما رواية الشعر للمتعة الفنية فقائمة على نوعية الشعر، حيث أن حسنه حسن، وقبيحه قبيح، فهو كسائر الكلام فما كان فيه لمسلم أذى فهو مما لا يباح روايته،
لأن من قال في الإسلام شعراً مقذعاً فلسانه هدر، ومن روى هجاء مقذعاً فهو أحد
الشاتمين.
وترخص ابن قتبية - وهو من علماء السلف - في رواية ما كان رفثاً
لخروجه عن حدود الإثم، وفرّق بين روايته وما يحرم من شعر جرير والفرزدق
في الهجاء وقذف المحصنات فقال: (وإذا مر في حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو
فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع والتخاشع على أن تصعّر خدّك،
وتُعْرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض
وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب) ..
وأدرك ابن قتيبة بترخيصه رواية هذا اللون من الشعر النزوع النفسي نحوه،
والميل الفطري للطبائع إليه، دون أن يكون في ذلك مساس بدرجة تقوى المرء أو
صلاحه، إلا أنه لم يترك رواية الرفث مطلقة غير مقيدة، بل جعل الرخصة فيه
محدودة بالغليل العارض، وبالرواية التي تنقص رونقها الحكاية، ويذهب بجمالها
التعريض فقال: (ولم أترخص لك في إرسال اللسان بالرفث على أن تجعله
هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال، بل الترخص مني فيه عند حكاية
تحكيها أو رواية ترويها، تُنقِّصُها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض، وأحببت أن
تجري في القليل على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجيّة، والرغبة
بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزَّهت، وثلموا
أديانهم وتورعت) [13] .
ولا تعارض بين المتعة الفنية والفائدة العلمية، بل لا فصل بينهما في مجال
الرواية، على الرغم من أن المتعة لا تكون كاملة إذا لم تكن خالصة لذاتها؛ لأن
الفصل بينهما أمر مجاف لطبيعة التذوق الأدبي وحقيقة النقد الأدبي، الذي تأتي فيه
الفائدة العلمية نتاجاً حتمياً لتعمد المتعة الفنية.
وإذا كان الأمر بهذا التلازم فإننا نميل إلى القول بأن قيد الموقف الإيجابي
الذي قيدنا به إطلاق الرواية التعليمية يَحْسُن ألاّ يتخلى الراوية عنه في مجال المتعة
الفنية، فقد روى البخاري عن إسحاق قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا الوليد
ابن جميع عن أبي سلمة عن عبد الرحمن قال: (لم يكن أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - متحزقين ولا متماوتين وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم
ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق
عينيه كأنه مجنون) [14] ، ولا شك أن دوران حماليق العينين موقف تعبيري عن ...
السخط والرفض. ويزيد هذا الأمر وضوحاً موقف عبد الله بن عمر ابن الخطاب
من إياس بن خيثمة حين قال له: (ألا أنشدك من شعري يا ابن الفاروق قال: بلى، ولكن لا تنشدني إلا حسناً، فأنشده حتى إذا بلغ شيئاً كرهه ابن عمر قال له:
أمسك) [15] .
ولما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان الحياء في
شيء إلا زانه، ولا كان الفحش في شيء إلا شانه) [16] ، فقد قال هشام بن عروة: ... (لا ترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطُنَّ في الزنا تورطا) [17] ، ...
وحرص كذلك عبد الله بن مصعب ألا يدخل شعر عمر بن أبي ربيعة على نسائه
تجنباً للفتنة التي بعثها شعره. تقول فاطمة بنت عمر بن مصعب: (مررت بعبد
الله بن مصعب وأنا داخلة منزله وهو بفنائه، ومعي دفتر، فقال ما هذا معك؟
ودعاني فجئته وقلت: شعر عمر بن أبي ربيعة، فقال ويحك! أتدخلين على النساء
بشعر عمر بن أبي ربيعة، إن لشعره لموقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً، لو كان
شعر يسحر لكان هو، فارجعي به، قالت: ففعلت) [18] .
وصفوة القول: إن رواية الشعر بأهدافها المعرفية والسلوكية تحتل جزءاً هاماً
في منهج التربية الإسلامية، وهي مطلقة في التعليم والإمتاع إلا من قيد العقيدة،
الذي يوجب على الراوية أن يبرأ لدينه ونفسه، بموقف ينكر فيه ما انحرف أو فسد
من الشعر المروي.
__________
(1) سورة الشعراء لآية 224-227.
(2) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري، ط دار المعرفة بيروت، 19/78.
(3) البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، ط مكتبة الخانجي، 2/180.
(4) العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط المكتبة التجارية -القاهرة 1/30.
(5) فتح القدير للشوكاني، ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة، الثانية 1964 4/121.
(6) العقد الفريد لابن عبد ربه، تحقيق محمد سعيد العريان، ط الاستقامة 1953، 6/ هـ12.
(7) ديوان المعاني لأبي هلال العسكري، 1/114، نشر مكتبة الأندلس - بغداد.
(8) الأدب المغرد للبخاري، ط دار الباز، مكة المكرمة ص 127، والمزهر للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط عيسى البابي الحلبي، القاهرة 2/ 309-310.
(9) جمهرة أشعار العرب، ط دار صادر بيروت، ص 63.
(10) خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي، ط بولاق، 1/206، ومعجم الشعراء ص 466.
(11) معجم الشعراء، للمرزباني، ص 466.
(12) المزهر للسيوطي 2/310-311.
(13) المصدر نفسه ج 1 المقدمة ص م.
(14) الأدب المفرد ص 81.
(15) المصدر نفسه ص 88.
(16) المصدر نفسه ص 126.
(17) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، ط وزارة الثقافة والإرشاد بمصر، 1/ 74.
(18) المصدر نفسه 1/78.(53/38)
رسالة عزاء إلى البوسنة والهرسك
محمد بن عائض القرني
جرد السيف وألق القلما ... هذه البُسنةُ تنثال دما
ذبح الصربُ بها إخوتنا ... هتكوا العرض، أباحوا الحُرُما
سفر الباطل عن سحنته ... فخذوا الجد سبيلاً أَمَمَا [1]
وارفعوا ألوية الحق على ... قمم المجد وسيروا قدما
لا يصون الحق إلا وَهَجٌ ... من لظى القوة يجري حمما
لا يجلي الحق إلا رَهَجٌ ... يرتديه الأفق أرضاً وسما
أيها الصرب رويداً فلقد ... طفح الكيل سئمنا السأما
ظهرت أحقادكم سافرة ... وبدا من أمركم ما كُتِما! !
أطبق الكفر على أمتنا ... يزرع الخوف بها والألما
يسرق اللقمة من صبيتها ... يقتل العزم يميت القيما
فانهضي يا أمة الحق فقد ... عظم القيد وأدمى القدما
تلك أشتاتك من يجمعها ... أوَ من يبعث تلك الرمما
أمتي هل لك من مسَتنَدٍ ... فلكم ذقت الأسى والندما
أمتي هل لك من معتَصَمٍ ... فلكم ناديت.. وامعتصما
جربي الذروة [2] في ملتنا ... فبه النصر على من ظلما
إنه المارد ما أروعه! ... هل رأيت الليث لما كُلما! !
حطمي صلبانهم واثقة ... أن سيف الحق لن ينثلما
دمري أوثانهم صامدة ... إنها في ساعة الروع دمى
واسألي كابل في زينتها ... سلمت كابل قلباً وفما
خفقت عالية رايتها ... وتولى خصمها منهزما
مَثِّلِ العزةِ يا قدوتنا ... كلما زمجر هول وطمى
الدم الحر على تربتها ... لم يدع في قلب حر سقما
وبلاء الصيد في محنتها ... جذوة توقد فينا الشمما
ذكري يا أخت بدر ذمما ... غدر الناس وخانوا الذمما
ذكري ناشئة الجيل فما ... يكشف الجهل سوى من علما
أوقدي من عزمك الصارم ما ... يبعد الهم ويذكي الهمما
إن طغى السيل على أمتنا ... فسنبقى للمعالي قمما
وإذا احلولك ليلٌ فلنا ... قبس الوحي يبيد الظُّلَما
__________
(1) الأمم: القصد والسبيل الأمم: الطريق المعتدل غير المعْوَجّ، أو القريب.
(2) الجهاد ذروة سنام الإسلام.(53/47)
سراييفو.. حضارة أخيرة! ؟
د. سعد عطية الغامدي
لك الله يا أخت أشبيلية ... وتوأم كاديز والمرسيه
حضارتنا.. شادها الأولون ... وأرسوا مناراتها.. عالية
وضيعها صبية مترفون ... تديرهم الكأس والجارية
فعادت مساجدها بيعاً ... وآثارها.. دمناً خاوية
لك الله يا وهجاً في الصدور ... ريا كوكباً في سما بوسنية
تعانين وحدك - يا ويحنا ... وتلقين أسرابهم عارية
وتستنجدين صباح مساء ... وآذاننا - وقرت - واعية
ونبصر قصفهمُ جائراً ... يذيبك.. ناحية.. ناحية
يجرعك الصرب سوء العذاب ... وتستعر البطشة الطاغية
تساق العجوز إلى حتفها ... وتغتصب الحرة الزاكية
ويسقى الرضيع دماء الأسى ... ويطعم من جثة ذاوية
وتسمعى يد للجريح القتيل ... لتذبحه ذبحة الماشية
خذلناك.. إذ يثب الآخرون ... لأشياعهم.. وثبة ماضية
وخضنا على رسلنا في اجتماع ... ومؤتمر أمه هاوية
وقلنا: لينصرهم مجلس ال ... أمن في هيئة الأمم البالية
وننسى بأنهمُ يرقصو ... ن على لهب الهجمة الضارية
لك الله.. يا لهباً عارماً ... ويا صخرة لم تزل عاتية
نسوق إليك وعتوداً عرا ... ضاً وبالوهم نلبسك العافية
ونختال تيهاً بتلك الوعو ... د كما جرجرت ذيلها غانية
بأنّا.. وأنّا.. ولم ندر أنّا ... أضعناك في ليلة شاتية
وقد نذرف الدمع للزائرين ... إذا أزهقت روحك الغالية(53/49)
المسلمون والعالم
مأساة البلقان
الأقوياء يكسبون والضعفاء يُسحلون
د. عبد الله عمر سلطان
(النظام العالمي الجديد يواجه صعوبات جمة يتمثل أخطرها في رفع اللجام ...
عن قوى وأفكار واتجاهات ذات جذور عميقة وجدت نفسها في معزل عن ظلال ...
الحرب الباردة التي أوقفت من انفجارها لنصف قرن فقط) ، هكذا خلصت المجلة
الأمريكية الرصينة (فورين أفيرز) في عددها الأخير وهي تستشرف المستقبل ...
القادم وتتوقع ملامحه ومعالمه ... وتمضي لتقول: (صحيح أن هناك قوى دولية ...
تطمح للزعامة والقيادة كالتجمع الأوربي واليابان وصحيح أن هناك أفكاراً متداولة
تطرح تحدياً مقبلاً كالأصولية الإسلامية؛ إلا أن أكثر المعضلات المطروحة للنقاش
الآن هي ثورة الأقليات العرقية والحرب العنصرية التي تشهد البشرية أعنفها اليوم
في يوغسلافيا) .. هذه الحرب التي تحاول المجلة الأمريكية النخبوية أن تخلط
الجانب العنصري فيها بالعمق الديني المعروف هي مادة دسمة ومهمة لكثير من
الدراسات والتعليقات التي تناقش مأساة المسلمين في دولة البوسنة والهرسك
خصوصاً ودول البلقان عموماً..
ومنذ اليوم الأول بداء واضحاً أن المنطقة البلقانية ستعود إلى سابق شهرتها
وسمعتها لتحتل مرتبة لبنان في بشاعة التعصب والحقد وما يجره من حرب أهلية.
والبلقان تمثل بؤرة التهاب دائمة، لأنها منطقة تماس بين قوى دولية متعددة تقتات
على التباين الديني والعنصري الموجود في المنطقة. وفي نفس الآن تسعى هذه
القوى الكبرى لتغذية الصراع والإفادة منه.
ولكون المنطقة البلقانية مثالية لصراع داخلي/دولي منذ القدم فإن الحرب
الباردة قد رفعت الستار عن مشهد جديد من الحرب المستعرة في منطقة البلقان منذ
قرون.. ولا بد هنا من استحضار النقاط التالية عند تحليل الوضع الراهن:
* إن منطقة البلقان هي خط الالتقاء الفاصل بين ثلاث عوالم دينية وقوى
كبيرة في الماضي، وأن تاريخها وواقعها صُبغ بدرجة أو بأخرى بين التفاعل
والخصام بين هذه القوى المتنافرة، فالقوة الأولى هم المسلمون في البلقان والذين
نجحت عوامل التفكك والضمور الذي انتاب الدولة العثمانية في عهودها الأخيرة في
تفريقهم وإضعافهم من خلال إقامة كيانات هشة هدفها الرئيسي تشتيت التواجد المسلم
في البلقان ومنعه من الحصول على حقوق المسلمين فضلاً عن وصولهم إلى الحكم،
وقد أضاف الحكم الشيوعي جراحاً جديدة إلى واقع المسلمين هناك حيث ظن
المضطهدون أن سيادة المبادئ الماركسية كفيل بانهاء التسلط العرقي والمذهبي عن
كواهلهم، إلا أن الحقيقة هي أن القوى الأخرى استمرت في إضعاف المسلمين من
وراء اللافتة الحمراء الشيوعية، أما القوة الأخرى فهم الأرثوذكس الذين يمثل
الصرب سوادهم الأعظم وقد دعموا من روسيا القيصرية في السابق كما نصرتهم
اليونان التي تدين بنفس المذهب، وقد كان لهم دور كبير في صد الفتح الإسلامي
المتجه لأوربا في القرون المتأخرة حيث اكتسبوا خبرة عسكرية كبيرة ورصيداً هائلاً
من الحقد ضد المسلمين، كما أنهم تقاضوا ثمن الانتصار على الدولة العثمانية من
خلال سيطرتهم على دول البلقان، واليوم تعود نفس التحالفات القديمة بعد انهيار
الشيوعية، حيث تحتضن موسكو الأرثوذكسية أبناءها في البلقان وكذلك تفعل
أثينا.. أما الكاثوليك المتركزين في شمال البلقان (كرواتيا وسلوفينيا) والأقليات المتفرعة عنهم فإنهم امتداد للشمال الأوربي المسيطر على الساحة الدولية للقرون الخمسة المنصرمة ولا سيما أن تحالفهم مع النمسا وألمانيا اليوم يضرب بجذوره إلى فترة تاريخية بعيدة.
* إن المنطقة البلقانية لا تمثل في حساب المصالح الأمريكية اليوم مناطق
اقتصادية أو سياسية استراتيجية بحد ذاتها، لكن الرصيد التاريخي المتشابك وارتفاع
الحديث عن الزحف الأخضر الإسلامي القادم في الأوساط الغربية يؤدي إلى ... ...
تداعيات كثيرة لا سيما بالنسبة للدول الأوربية التي رأت بعينها خيول وكتائب ...
المسلمين تعبر البلقان قبل ثلاثة قرون لتحاصر (فيينا) خاصرة ورمز الحضارة
الأوربية، ومن هنا فإن اهتمام الدول الأوربية بالقضية له ما يبرره في حين أن
ارتخاء الولايات المتحدة في التعامل مع المشكلة ينطلق من بعد يوغسلافيا عن
المصالح الأمريكية المباشرة وما تمثله المنطقة للحليفات الأوربيات من أهمية، وإن
كانت أمريكا تسعى إلى توطيد دعائم نظامها الجديد في العالم حتى في مناطق النفوذ
التقليدية للحليفات الأوربيات.
* ونتيجة لثقل وأهمية اللاعبين الأوربيين لا سيما المانيا فإن حلفاءهم من
الكاثوليك كانوا الأقوى والأسرع إلى إقامة كياناتهم الخاصة في وجه التسلط الصربي
الذي استولى على مقاليد يوغسلافيا المتهالكة لا سيما أن الصرب قد نهبوا أموال
الحكومة الاتحادية وقبضوا على مقاليد الجيش الاتحادي مما فجر مشاريعهم التوسعية
باتجاه القوميات والأديان الأخرى.. ولكن نقول إن الكاثوليك في سلوفينيا وكرواتيا
والبوسنة والهرسك خرجوا بأقل عدد من الخسائر في الحرب الأهلية لوقوف ألمانيا
وأوربا من خلفهم.. أما المسلمون فإن الواقع الأليم في العالم الإسلامي جعل من
السند الخارجي لهم عاملاً هامشياً حين وجد الصرب أن الوقت قد حان لتصفية
حسابهم مع (الغزاة) الذين حطموا مملكة الأمير الصربي قبل خمسة قرون. ...
* إن السيناريو القائم في البوسنة والهرسك مرشح للانتقال في كل مساحة
بلقانية يشعر فيها الصرب وأمثالهم أن ضربتهم القادمة في ربوعها لن تستثير ردة
فعل إسلامي أو دولي حاسم، فمناطق تواجد المسلمين في دويلات البلقان تبقى هدفاً
متجدداً للتوسع خصوصاً إذا استمر الصمت الدولي والدعم المستتر للصرب من
روسيا واليونان وربما دويلات الاتحاد السابق التي تدين بالأرثوذكسية.. فالمعطيات
واحدة والمحصلات شبيهة لحد كبير..
* إن القوميتين الصربية والكرواتية ومنذ بداية هذا القرن تعاملت مع
المعطيات المحلية والإقليمية والدولية بصورة أفضل بكثير من المسلمين في البلقان،
وما كشفت عنه الأحداث الأخيرة من مذابح (وتنظيف) بشري للمسلمين على أيدي
الصرب وما تردد عن اتفاق كرواتيا عام 1939.. يقول المفكر الصربي ميلوفان
جيلاس أحد مؤسسي الحركة الشيوعية في يوغسلافيا سابقاً ورفيق تيتو في حرب
التحرير: (إن كرواتيا وصربيا اليوم يعيدان تفاصيل أحداث 1939 حينما توصل
قادة القوميتين إلى اتفاق تقسيم البوسنة وهم اليوم يحاولون إعادة سرقة البوسنة) ..
والحديث اليوم ينحصر في بشاعة أعمال الصرب أما الكروات فإن الإعلام الدولي
لا يكاد يتطرق لمشروعه القومي المتعصب البتة، جيلاس مرة أخرى: (الكروات
لا يخفون أطماعهم في المناطق الغربية والجنوبية من البوسنة وهم يحملون تعصباً
قومياً زاده التعصب الديني وشعورهم بحماية أوربا) .. أما المسلمون اليوم فهم
بشهادة أعدائهم: (إذا أخذنا المسلمين بشكل عام وعلي عزت بيكوفيش كزعيم فهم
لم يبدأو الصدام المسلح وقد حاولوا تجنبه منذ البداية) .
* بالرغم من كل تلك المعطيات البلقانية كان العالم يترقب من الذين تحدثوا
عن (عالم يسوده الأمن والسلام) و (نظام لا يسمح للقوي أن يفرض سيطرته على ... الضعيف) و (مفهوم لا يفرق بين دولة كبيرة وأخرى صغيرة أمام الشرعية الدولية
(أن ينقلوا هذه القوالب البلاغية إلى عالم الواقع.. كان هذا الترقب في محله والمذبحة ... الجماعية لمسلمي البوسنة على قدم وساق، حتى أصبحت صور الجثث
البشعة ورائحة الموت والتدمير والهلاك مساوية في الإثارة لأخبار الطقس أو كأس
الأمم الأوربية..! ! هذه الأمم الأوربية التي هبت قبل أشهر في وجه الصرب
كيف تعاملت مع مأساة المسلمين في البلقان؟ ؟
وهذه الشعارات الأمريكية المبشرة بنظام عالمي جديد كيف ترجمت إلى واقع
خلال مسرحية الحقد الصربي؟ ؟ .(53/52)
النظام العالمي الجديد ومجزرة البلقان
لخصت مجلة نيوزويك الصراع الأوربي الأمريكي حول مشكلة البلقان بأنه ...
(صراع يدعو للشماتة) وأنه حمل بذور الخلافات المستقبلية بين أمريكا وأوربا ... (لاسيما ألمانيا) والتي أشاحت عنها أحداث البلقان، فالولايات المتحدة كانت تدعو منذ بداية الأحداث إلى الإبقاء على يوغسلافيا الموحدة، لكن قادة ألمانيا والنمسا وإيطاليا (دول الطوق الكاثوليكي) خلصوا إلى ضرورة انفصال تلك المناطق ذات الكثافة الكاثوليكية عن يوغسلافيا، وتنقل المجلة أن لورنس إيجلبرجر نائب وزيرالخارجية الأمريكية كان هو عراب الفكرة الاتحادية بينما كان وزير الخارجية الألمانية السابق (غينشر) معارضاً قوياً لبقاء يوغسلافيا موحدة لدرجة أن الخلاف بين الرجلين أصبح معروفاً في الأوساط الدولية واصطبغ الخلاف بطابع شخصي (قذر) ..
وفي النهاية بدا واضحاً أن أوربا تسير خلف ألمانيا مما شكل هزيمة نكراء
للسياسة الأمريكية كما تقول المجلة، حيث ذهبت تصريحات بيكر التي أدلى بها في
بلغراد والتي كانت تدعو إلى بقاء كرواتيا وسلوفانيا ضمن سيطرة بلغراد أدراج
الرياح ...
لقد كانت هذه التصريحات بمثابة الضوء الأخضر [*] (لجزار البلقان) ...
ميلوفيتش حيث أخذ في تنفيذ سياسة الضم القسري لكرواتيا والتي فشلت بعد أن
تدخلت ألمانيا والأمم المتحدة لحماية الكروات وضمان إقامة دولتهم وكيانهم الخاص،
وإن كانت هذه الإشارة قد ظهرت ملامحها بعد أسابيع قليلة عندما هاجمت قوات
الصرب في البوسنة المدعومة من الجيش الاتحادي قرى وتجمعات المسلمين دون
أن تهب دول الطوق الكاثوليكي أو الأمم المتحدة لوقف نزيف الدم المسلم. ...
إن الصراع بين ألمانيا وأمريكا في قضية البلقان هو صراع مستتر ومغلف
بلهجة دبلوماسية هادئة، وهو يصب في مجرى المحاولات الألمانية / الأوربية
للتوسع وكسب الأسواق والحلفاء في عصر انهيار الشيوعية، وقد يكون الاهتمام
الألماني بقضية الأكراد شاهد آخر على هذا التوجه الاستعماري المغلف. والألمان
يدركون حتماً أن النظام العالمي الجديد يسمح لهم بالمناورة في هامش المصالح
الجانبية التي لا تشكل أهدافاً أمريكية مباشرة، والأمريكان بدورهم لا يودون التورط
في كل الصراعات الإقليمية لا سيما تلك التي لا تشكل أهمية اقتصادية وعسكرية
مباشرة وهامة، كما أنهم يراهنون على فشل الدور الألماني وتدخله في الصراعات
الدولية حيث ظلت ألمانيا بعيدة عن اللعبة الدولية الاستعمارية لفترة من الزمن،
فقدت خلالها كثيراً من خبراتها ومواهبها. في الوقت ذاته أثبت الأمريكان أن الدور
الألماني يبقى محدوداً، فبدون التبني الأمريكي لقرارات الأمم المتحدة ودفعها إلى
مواقف فعلية يبقى الدور الألماني هاماً وإن لم يكن حاسماَ.. ويبقى الدوران:
الألماني العاطفي والأمريكي المتردد من نزاع البوسنة رسالة مبطنة إلى سفاحي
العالم والقيادات الدكتاتورية والمنتشرة هنا وهناك تقول: (طالما أن المصالح
الأمريكية والغربية مصانة فلا ضير من العدوان واحتلال أراضي الآخرين ولا مانع
من بقر بطون النساء واغتصابهن، وسحل جثث الأبرياء كل لحظة، وتطاير
الخوف من عيون الأطفال خصوصاً إذا كانوا من أتباع الأمة الإسلامية.. هذه الأمة
الغائبة، أو قل المُغيَّبة) .
* هل هي صورة مكررة من تلميحات غلاسبي السفيرة الامريكية لصدام
حسين؟
__________
(*) هل هي صورة مكررة من تلميحات غلاسبي السفيرة الامريكية لصدام حسين؟ .(53/57)
البوسنة والهرسك
محنة شعب ومأساة أمة
د. يوسف الصغيّر
تاريخ دخول الإسلام:
كانت قبائل إيليريه (أسلاف الألبان) تسكن في الأراضي التي تعرف اليوم
ييوغسلافيا، وفي غضون القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) أخذت قبائل
صقلبية تغزو هذه المناطق، حتى قضت على الإليريين إلا في المناطق الجنوبية
الغربية. ومعظم سكان يوغسلافيا اليوم بما فيهم المسلمون ينحدرون من هؤلاء
الصقالبة، وكانت القبائل الصقلبية تنقسم إلى مجموعات أهمها الصرب الذين
اعتنقوا المذهب الأرثوذكسي الذي كانت تدين به الدولة البيزنطية، والكروات
والسلوفين الذين اعتنقوا المذهب الكاثوليكي، والبشناق الذين اتبعوا المذهب
البوغوميلي وكونوا الكنيسة البشناقية. وكانت الحروب الدينية الطاحنة تدور بين
الصرب والكروات، وكان مجالها أرض البشناق التي كانت محل نزاع بين الدولتين
حتى كون البشناق دولتهم في أوائل القرن السادس الهجري (عام 1137م) .
دخل العثمانيون الأراضي البشناقية لأول مرة حينما فتحوا جتيلو عام 1353 م
وهزموا الجيوش النصرانية المتحالفة سنة 1365 م قرب أدرنة وبعد عدة معارك
تمت هزيمة الصرب عام 792 هـ (1389م) في معركة كوسوفو الشهيرة التي
تعتبر نهاية دولة الصرب، وتم فتح بلغراد عام 1452 م ولم يفتح العثمانيون بلاد
البشناق بل اكتفوا بأخذ الجزية، ولما قامت الحرب الأهلية في بلاد البشناق بسبب
محاولة الملك الكاثوليكي إكراه الشعب البوغوميلي على اعتناق الكاثوليكية استنجد
زعماء البوغوميل بالمسلمين فقام محمد الفاتح بفتح بلاد البشناق وأعلن أن لا إكراه
في الدين، وبعد فترة بدأ البشناق بالدخول في الإسلام حتى عمهم وصاروا من أقوى
أنصاره، وكانوا درعاً حصيناً للدولة الإسلامية في تلك المناطق المضطربة، وتم
استكمال فتح بلاد البشناق والهرسك سنة 1481 م ثم معظم أوكرانيا سنة 1526 م
ووصل العثمانيون إلى سلوفينيا عام 1566 م غير أنهم لم يفتحوها.
وبعد دخول البشناق في الإسلام بدأوا عهداً جديداً وأخذوا يشيدون المدن
ويعطونها طابعاً إسلامياً بمساجدها ومدارسها وأسواقها، وأهم هذه المدن سيراجيفو
أو (بشناق سراي) ، وبلغت الحركة العلمية أوجها في نهاية القرن العاشر وبداية
القرن الحادي عشر الهجري حيث ظهرت مؤلفات كثيرة باسم علماء بشناق، ومع
استمرار الفتوحات العثمانية استوطن المسلمون وخاصة في البوسنة كثيراً من
المناطق المجاورة مثل صربيا والأجزاء الشمالية الشرقية والغربية للجبل الأسود
وسلافونيا وانطبعت كثير من المناطق بالطابع العثماني، فعلى سبيل المثال سجل
الرحالة التركي الشهير أوليا شلبي بأن المدن بودا (جزء من بودابست عاصمة
هنغاريا) وستولني بيوغراد وبوجفا وأوسيك ومدن أخرى في هنغاريا وسلافونيا في
القرن السابع عشر كانت تشبه المدن البوسنوية تماماً وهذا في المناطق التي لم
يستقر فيها العثمانيون أما المناطق التي استقروا فيها طويلاً مثل بلغراد عاصمة
الصرب فيقول أوليا شلبي الذي زارها عام 1600م: (كان سكانها 100 ألف نسمة
ثلاثة أرباعهم مسلمون وكان بالمدينة 270 مسجداً تقام في 33 منها صلاة الجمعة
وبها 17 تكية و 8 مدارس ثانوية إسلامية و 9 دور للحديث و 270 من الكتاتيب
القرآنية.
وكانت الحرب مستعرة بين العثمانيين الذين كانوا أقوى دولة عسكرياً في ذلك
الوقت وبين التحالف الصليبي في أوربا وعلى رأسهم النمسا والمجر (هنغاريا)
وبولندا، وتمكن المسلمون من فتح مناطق كثيرة وقد حاصروا فيينا عاصمة النمسا
مرتين كان آخرها عام 1095 هـ (1683م) وبعدها بدأوا في التقهقر أمام تكالب
الصليبيين خاصة بعد أن بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة، ومع هذا التقهقر
بدأت الإبادة الجماعية للمسلمين وذلك في الحرب الكبيرة أو في حرب الدفاع عن
فيينا من سنة 1683 -1699 م ففي هذه الحرب خسر العثمانيون الأراضي في
هنغاريا (المجر) وبلافونيا وليكا ودالماتسا وبوكا كوترسكا.
جميع المسلمين في هذه المناطق والذين لم يتمكنوا من الانسحاب إلى البوسنة
والهرسك ومناطق أخرى حولوا إلى الكاثوليكية فعلى سبيل المثال عاش في منطقة
ليكا حوالي سنة 1680 م سبعة آلاف عائلة مسلمة (أكثر من 300000 فرد) وخلال
الحرب اختفوا كلهم إما عن طريق التنصير الإجباري وإما عن طريق اللجوء إلى
البوسنة وتدل على إقامتهم اليوم بعض أسماء الأماكن وبعض الألقاب فقط.
وقد عمل النمساويون على استثارة النصارى الصرب الذين كانوا خير عون
لهم، ونجح النمساويون في احتلال بلغراد عام 1718 م وسرعان ما حولوا أول
مسجد بنى في بلغراد عام 1521 م إلى كاتدرائية ولكن تمت استعادة بلغراد عام
1738م وأعيد المسجد إلى سابق عهده. ونظراً لاستمرار التمرد الصربي في ولاية
بلغراد فإن المسلمين الذين يعيشون في القرى أحسوا بانعدام الأمن فكان المسلمون
مضطرين إلى التركيز في المدن التي توجد فيها حاميات عثمانية وكان من أهداف
التمرد الصربي طرد المسلمين من صربيا، وحدثت أولى حالات التصفية في
الأعوام 1711 - 1712 م في الجبل الأسود. وازدادت حدة خلال التمرد الصربي
الأول عام 1807م والثاني 1830م حيث تم الاتفاق على أن يهاجر المسلمون من
صربيا (ولاية بلغراد) خلال سنة من إصداره وتم تمديده إلى خمس سنوات ولكن مع
ذلك بقي عدة آلاف من المسلمين. وبعد 1830م أصبح الوجود العثماني في صربيا
رمزياً ونتيجة لحرب القرم 1876 -1878 حصلت الإمارتان ذواتا الحكم الذاتي
صربياً والجبل الأسود على استقلالهما عن الدولة العثمانية مع ضم بعض المناطق
إليهما بموجب قرارات مؤتمر برلين، وأيضاً حصل انقلاب آخر في أحوال
المسلمين حيث قرر المؤتمر أيضاً أن يعهد إلى النمسا بإدارة البوسنة والهرسك مع
الاحتفاظ بسيادة صورية للدولة العثمانية، ولم يقبل المسلمون وبدأت الحرب بينهم
وبين الجيش النمساوي الذي تمكن من دخول سيراجيفو في 19/8/1878م وعلى
أثرها بدأت موجة هجرة واسعة نتيجة سياسة الإفقار والتضييق الذي تمارسه قوات
الاحتلال، وكانت السلطات مرتاحة في البداية لهذه الهجرة حتى تتمكن من استعمار
المنطقة وكان أغلب المهاجرين من الفلاحين ولكن الضغوط خفت لأن الإدارة
انتبهت إلى أن الهجرة الجماعية للمسلمين ستؤدي إلى اختلال التوازن القومي
والديني في البوسنة والهرسك لصالح العنصر الصربي مما يعقد موقف النمسا في
البلقان، وخلال أربعين سنة من الاحتلال (1878-1918) بلغ المهاجرون بين
300 و 700 ألف.
وأخيراً ففي حرب البلقان (1912-1913م) التي أشعلها الصرب تحت شعار
(أن الدولة الواحدة تجمع بين الصربيين وإلا ستصبح البلقان مقبرة كبيرة) تم تقسيم
إقليم سنجق بين صربيا والجبل الأسود وضم إقليم كوسوفو ذي الغالبية الألبانية
للصرب.
الأحداث الحالية:
تمكن الصرب عن طريق الحزب الشيوعي من التغلغل في جميع مجالات
الحكم، فأصبحوا يمثلون أكثر من 80% من الضباط وأكثر من 80% من السلك
الدبلوماسي وممثلي الشركات اليوغسلافية في الخارج وغالب مدراء الشركات
ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات والمدرسين في جميع المراحل التعليمية.
والطالب الصربي يجد منحة دراسية وسكناً أينما ذهب ويجد عملاً بسهولة عند
تخرجه بخلاف الطلاب المسلمين وغيرهم.
وتصور أحداث كوسوفو في عام 1981م وما بعدها مدى طغيان الصرب فقد
كان الألبان يمثلون حوالي 95% من السكان وهم محرومون من كل حقوقهم فنظموا
مظاهرات وإضرابات قامت السلطات الصربية بمواجهتها بعنف وحكم على 6000
شخص بالأشغال الشاقة لمدد تصل إلى عشرين عاماً، وفصل أكثر من 80 ألف
عامل من وظائفهم، وبدأ استبدال المدرسين والأطباء والممرضات الألبان بصرب،
حتى أن النساء الألبانيات بدأن يلدن في البيوت خشية من قتل أولادهن أو تعقيمهن
من قبل الأطباء الصرب وأصبح أكثر من ثلث السكان بدون عمل، كما ألغيت
جميع امتيازات ولاية كوسوفو، ولم يعترف ببرلمانها الرسمي رغم موجة
الديمقراطية الحديثة التي لم يستفد منها الألبان شيئاً ولذلك أعلن الألبان أخيراً
جمهوريتهم المستقلة عن صربيا من جانب واحد.
بعد سقوط الشيوعية العالمية تراخت قبضة الشيوعية الصربية وسمحت
السلطات بنظام تعدد الأحزاب للتنافس على السلطة، فقامت أحزاب سياسية كثيرة
على مستوى يوغسلافيا، وأسرعت كل قومية إلى تأسيس أحزابها لتحقيق مطالبها
السياسية.
أسس المسلمون حزباً سياسياً سمي بحركة الجبهة الديمقراطية برئاسة الأستاذ
علي عزت وعلى الرغم من أن برنامجه ليس إسلامياً للظروف المحيطة فإنه يعتبر
حزب المسلمين.
ولما أجريت الانتخابات فاز الحزب الصربي الاشتراكي القومي بأكثر من
80% من الأصوات في صربيا، وفاز الحزب الكرواتي القومي في كرواتيا، والحزب السلوفيني القومي في سلوفينيا، والحزب المقدوني بالأغلبية في مقدونيا، وكذلك الجبل الأسود حيث فاز الحزب الصربي القومي.
أما جمهورية البوسنة والهرسك فجاءت النتائج فيها كما يلي:
* حصل حزب المسلمين على 38%.
* حصل الحزب الصربي القومي على 33%.
* وحصل الحزب الكرواتي القومي على 18 %.
فتحالفت الأحزاب الثلاثة لتشكيل الحكومة ولإسقاط الحكومة الشيوعية في
الجمهورية، واختير على عزت رئيساً وتم توزيع بقية المناصب على حسب نسبة
الأصوات. وتكونت حكومات قومية جديدة وكانت الحكومات في كرواتيا وسلوفينيا
تقترح أن تصبح يوغسلافيا مجموع دول مستقلة ويكون الرباط بينهما شكلياً بحيث
تبقى باسم دولة يوغسلافيا، ولكن صربيا أصرت على بقاء النظام المركزي القديم
للحفاظ على سيطرة الصرب مما جعل كلاً من سلوفينيا وكرواتيا تخطوان خطوات
فعلية نحو الاستقلال فكونت وحدات الجيش الشعبي واشتريت الأسلحة من الخارج
استعداداً للدفاع أمام هجوم الجيش الاتحادي المسير من قبل الصرب، وأيضاً قام
الصرب بتوزيع الأسلحة على الصرب مجاناً بواسطة الجيش الاتحادي في كرواتيا
والبوسنة والهرسك.
وبدأت الأزمة فعلياً بإعلان سلوفينيا استقلالها، فحاول الجيش تأديبها واندلعت
المعارك مع الجيش الشعبي، ثم تم الاتفاق على سحب الجيش الاتحادي مقابل تجميد
إجراءات الاستقلال لمدة ثلاثة شهور، كل هذا تحت ضغط الدول الأوربية.
وحصل الشيء نفسه مع كرواتيا إلا أن الحرب اتخذت أبعاداً أكبر فقد كانت
الحرب أشد عنفاً وقامت الحكومة الصربية بإثارة الأقلية الصربية في كرواتيا،
وأعلنوا رفضهم استقلال كرواتيا وسعيهم للاستقلال بمناطقهم وبدأت الحرب بين
الجيش الكرواتي من جهة وقوات المتطوعين الصرب يدعمهم الجيش الاتحادي عند
الحاجة، وأتم الصرب الاستيلاء على حوالي ثلث كرواتيا والتي هي ضمن نطاق
صربيا الكبرى ثم جاءت قوات الأمم المتحدة للفصل بين القوات وما زالت موجودة.
وبدأ الصرب الإعداد للمرحلة الثانية من صربيا الكبرى فبدأت القوات
الاتحادية المنسحبة من سلوفينيا وكرواتيا تتمركز في البوسنة والهرسك وقامت
بسحب المواد الغذائية والأدوية من الأسواق توقعاً للحرب ونظراً لتوقع المسلمين ما
سيحصل فقد حاول الناس التسلح، ولكن الحكومة لم توزع السلاح بل كان الناس
يقومون ببيع ما يملكون حتى يشتروا الأسلحة، ومقابل ذلك كانت صربيا وكرواتيا
تقومان بتوزيع الأسلحة على الصرب والكروات داخل الجمهورية.
وما إن أعلن البرلمان في البوسنة الاستقلال عن يوغسلافيا إذا انفصلت
سلوفينيا وكرواتيا حتى انسحب الصرب من المجلس وأعلنوا عدم اعترافهم
بجمهورية البوسنة والهرسك وبعدها أعلنوا عن استقلال أجزاء من البوسنة يكثر
فيها الصرب وانضمام تلك المناطق إلى صربيا الأم. وقبل استعراض الأحداث
الجارية في البوسنة والهرسك فإنه ينبغي إلقاء بعض الضوء على الوضع السياسي
في جمهورية صربيا.
صربيا الكبرى:
إذا كانت الشيوعية سقطت في يوغسلافيا فإن الملاحظ أن زعماء الصرب
الشيوعيين هم أنفسهم الذين يدغدغون عواطف الصرب القومية وتحولوا بين عشية
وضحاها من شيوعيين أمميين إلى قوميين على ما بين هذين المذهبين من تناقض
وذلك حتى يستمروا في مراكزهم وقد يكون الأصل فيهم التعصب القومي ولكن
الشيوعية كانت سبيلاً للسيطرة على بقية أجزاء البلاد ولما بدأت الجمهوريات في
الاستقلال عاد الزعماء إلى لبس ثيابهم الوطنية وكمثال لمن يحكم جمهورية صربيا
فهذه لمحة عن حياة وشخصية وسياسة رئيس جمهورية الصرب سلو بودان
ميلوسيفيتش.
ولد ميلوسيفيتش في بلدة بوناريفاك الصربية القريبة من بلغراد عام 1941م
وكان أبوه أستاذاً وأمه معلمة وكلاهما كان عضواً ناشطاً في الحزب الشيوعي وبعد
الحرب انفصل والداه وانتحرا لاحقاً.
التحق بكلية الحقوق عام 1960 ونمى صداقات كانت له خير معين في ارتقاء
سلم السلطة ومثلاً فقد التقى ايفان ستامبوليتش ابن شقيق أحد أقوى شيوعي ...
يوغسلافي، وقد أفاد من نجم إيفان الصاعد فكان يتولى تباعاً المناصب التي يخليها
إيفان وفي منتصف الثمانينات أصبح ستامبوليتش رئيساً لصربيا فيما تولى
ميلوسيفيتش المركز الثاني وهو رئاسة الحزب الشيوعي الصربي وفي النهاية دبر
انقلاباً أطاح بصديقه القديم الرئيس الصربي الذي لم يصدق ما حصل.
وكان معروفاً بحماسه للشيوعية حتى إنه عمد إلى زيادة صفوف الماركسية في
المدارس ولكنه كان يتغير مع الظروف فقد بدأ يظهر الميول القومية ابتداءً من
1986م وبعد توليه زمام الأمور في صربيا وطد سلطته في صربيا متجاهلاً حقوق
غير الصرب ثم حاول بسط نفوذه على بقية الجمهوريات ولكن الحزب الشيوعي
سقط وتم حله وهنا تحول كلياً إلى داعية قومي وفاز في الانتخابات.
اتبع ميلوسيفيتش في سبيل تحقيق حلم صربيا الكبرى استراتيجية بسيطة
وهي الحملات الإعلامية الدعائية التي ترتكز على الظلم الذي يلحق بالصرب
وتهييج العواطف ومنها أنه تم تصوير جثث مجموعة من المسلمين في البوسنة على
أنها لصرب قتلهم المسلمون ودعا الناس للدفاع عن إخوانهم وكذلك تركز الحملات
الإعلامية على أن صربيا يحاصرها الأعداء من كل مكان وأنهم يتآمرون عليها مثل
وكالة المخابرات الأمريكية، وألمانيا والنمسا والفاتيكان وحتى الشيوعية العالمية،
وعلى سبيل المثال بث التلفزيون مقطعاً قديماً لمقابلة بين هتلر وعميله الكرواتي
أثناء الحرب العالمية الثانية ثم اتبعت اللقطة بلقطة للرئيس الحالي لكرواتيا وهو
يصافح المستشار الألماني هلمت كول.
ويتبع الحملات الإعلامية بضغط عسكري وسياسي وهو عنيد لا يقبل التنازل
وقد قال عنه وزير الخارجية الهولندي بعد مقابلة معه استمرت خمس ساعات
لإقناعه بالسماح بإرسال مراقبين غير مسلحين من المجموعة الأوربية إلى كرواتيا:
(إننا نشفق على شعوب لها مثل هؤلاء القادة) وتسيطر عليه فكرة تحقيق حلم
صربيا الكبرى، ففي بداية الأحداث قال في خطاب له أمام مئة وخمسين من قادة
الصرب: (إن واجب صربيا الأول هو الدفاع عن الصرب المشتتين في ... ... جمهوريات يوغسلافيا الأخرى وإن عنى ذلك إعادة رسم خريطة البلاد بالقوة،
وأضاف أن لا معارضة سياسية ولا عويل حول التدهور الاقتصادي يستطيعان
الصمود أمام الدعوة الصربية إلى السلاح) وما كاد ينهي كلامه حتى دوت القاعة
بالتصفيق.
وجاء دور البوسنة والهرسك:
وما أن استقرت الأحوال في كرواتيا بمرابطة القوات الدولية في المنطقة التي
يسيطر عليها الصرب (حوالي ثلث كرواتيا) حتى انتقل ثقل الصراع إلى جمهورية
البوسنة والهرسك وما إن أعلن استقلال الجمهورية عن يوغسلافيا حتى بدأت
الميليشيات الصربية المدعومة من قبل الجيش الاتحادي بشن غارات على المدن
والقرى الإسلامية المتاخمة لصربيا وبينما كان الصرب مدججين بالسلاح كان
المسلمون بحاجة ماسة للسلاح وكانت نداءاتهم للحكومة في سيراجيفو بتزويدهم
بالسلاح لا تلقى استجابة مناسبة بسبب قلة السلاح ومعرفة الحكومة أنها ستحتاجه
للدفاع عن سيراجيفو نفسها عند تعرضها للتهديد وقد تقدم الصرب بسرعة في البداية
فاستولوا على مدينتين إسلاميتين في شمال شرق البوسنة. واستمر حصار وقصف
المدن سواء التي يشكل المسلمون أكثرية فيها أو التي يتقاسمونها مع الصرب حتى
أتموا احتلال حوالي 65% من أراضي الجمهورية، ومن المدن التي استولى عليها
الصرب بيلينا وزفورتيك وبراتوناتسك وفيشغراد وروغانتيسا وفوتشا وهذه تمثل
مناطق على الحدود الشرقية، وأيضاً فقد حقق الصرب جيوباً مهمة في مناطق فيها
أقليات صربية مثل سيراجيفو ومنطقة بوساتسكي برود وكوبريس وموستار، وأقام
الصرب جمهورية اسمية في الأراضي التي احتلوها في البوسنة والهرسك واتخذوا
من مدينة بانيالوكا عاصمة لهم.
وقد استفاد الصرب من الصدمة التي أصابت المسلمين وقاموا بعمليات قتل
وترويع يقصد منها تفريغ المنطقة من المسلمين حتى تكون خالصة لهم وعلى الرغم
من أن المجازر الرهيبة التي ارتكبوها قد نجحت في تهجير أعداد كبيرة من السكان
بلغت حوالي المليون سواء داخل الجمهورية أو في كرواتيا وسلوفينيا فإنهم يواجهون
مقاومة متصاعدة، فبينما صرح رئيس الحزب الديمقراطي الصربي في البوسنة
والهرسك في بداية الأحداث أن الصرب يستطيعون الاستيلاء على سيراجيفو خلال
ساعات فقط إذا أرادوا فإن الواقع يكذبهم حيث صمدت سيراجيفو حتى الآن أكثر من
شهرين، وأيضاً تمت استعادة بعض المناطق ومنها موستار كما أحرز عدد من
الانتصارات في المناطق الشمالية من الجمهورية وعلى الرغم من عدم ثقة المسلمين
بحسن نوايا الكروات فإنهم اضطروا إلى التباحث حول اتحاد كونفيدرالي مع كرواتيا
مع أن الكروات أيضاً لهم أطماع في الجمهورية بل ويرفعون علم كرواتيا على أي
منطقة يقومون بطرد الصرب منها، فإلى الله المشتكى..
البوسنة والهرسك والنظام العالمي الجديد
لقد أكثر دهاقنة النفاق السياسي من ترديد الشعارات البراقة، وبشروا بعالم
جديد يسوده العدل ويتم فيه الأخذ على يد الظالم، وأكبر مثال على ذلك ما حصل
في الكويت. وإذا تساءلت: ما بال أهل فلسطين يسامون الخسف على يد يهود،
تحس من الإجابة أن هذا النظام لا يعمل به بأثر رجعي ولكنه يخضع للتجربة أمام
المشاكل المستجدة، وحصلت الحرب بين الصرب والكروات فتدخلت الدول ...
الأوربية بحزم وقامت بمد كرواتيا بالسلاح والضغط على صربيا لوقف العدوان
وقامت الأمم المتحدة بإرسال حوالي 14 ألف جندي لحفظ السلام وكان مركز قيادتهم
في سيراجيفو ولكن ما إن انتقل الصراع إلى بلاد المسلمين حتى تحولت الأمم
المتحدة إلى حمل وديع لا تستطيع منع الصرب من العدوان، بل لا تفكر في إرسال
قوات لحفظ السلام، بل إنه حرصاً على سلامة جنود الأمم المتحدة يأمر بطرس
غالي بسحبها من سيراجيفو حتى يسهل على الصرب مهمة قصف المدينة وإبادة
أهلها، واصطدم بطرس غالي في سبيل ذلك مع جل الساسة الأوربيين بل
ومسئولي الأمم المتحدة الذين استنكروا موقفه لتناقضها مع مواقف أخرى له،
فتراجع قليلاً وأذعن بأن تنشر قوات حفظ السلام (1100 رجل) في سيراجيفو لفتح
المطار وإغاثة السكان المحاصرين الذين يتعرضون للمجاعة، ولكنه اشترط لذلك -
كما يقول المراقبون - شرطاً تعجيزياً وهو أن تقوم هدنة وتصمد لمدة 48 ساعة
على الأقل، وهذا معناه ضوء أخضر للصرب بالاستمرار بالقصف حتى لا تتدخل
الأمم المتحدة، ولكن السؤال: ما هو وزن بطرس غالي، بل ما هو وزن هيئة
الأمم المتحدة من أحداث العالم؟ إن الإجابة واضحة وهو أن الولايات المتحدة
الأمريكية هي الأمم المتحدة، وعندما تريد شيئاً تتخذ من هذه الهيئة غطاءً قانونياً
لتنفيذ أغراضها والحفاظ على مصالحها، وعندما لا ترغب في شيء من ذلك فإن
الأمم المتحدة تبقى مكاناً للخطب والقرارات غير الملزمة كما صرح بطرس غالي
بتقسيم قرارات الأمم المتحدة إلى قرارات ملزمة وأخرى غير ملزمة حسب هوى
البعض. وتجد في حالة البوسنة والهرسك أن الدول الأوربية وبضغط من ألمانيا
بدأت تنظر بريبة لتصرفات الصرب التي تعيد إلى الأذهان الأحوال في البلقان قبيل
الحرب العالمية الأولى حيث إنه لا يساند الصرب الآن إلا حليفتهم القديمة روسيا
الاتحادية التي ورثت روسيا القيصرية. وبرزت ألمانيا كقوة أساسية في أوربا وذلك
لمواقفها المتميزة من مشكلة يوغسلافيا وفي ذلك إحراج كبير للولايات المتحدة التي
يجب أن تدخل الساحة حتى لا تفوتها المكاسب وبالتالي اعترفت الأمم المتحدة
بالدول الثلاث ومنها البوسنة والهرسك، وتحركت الأمم المتحدة التي بعثت فيها
الحياة من جديد لفرض حظر دولي على صربيا والجبل الأسود، وبدأت الولايات
المتحدة بالتلويح بعمل عسكري محدود لإيصال المعونات لسكان سيراجيفو
المحاصرين وإذا حصل شيء من ذلك فهو لأسباب منها:
1- قرب العهد من أحداث الخليج والحرج الحاصل من اختلاف ردة الفعل،
على الرغم من أن ما يحصل في البوسنة والهرسك من الأعمال الوحشية لا يقارن
بما حصل في الكويت.
2- كون المسلمين في يوغسلافيا يغلب عليهم التفريط والانسلاخ الفعلي وهذه
التصرفات الصليبية قد تؤدي إلى تنامي تيار إسلامي يكبر في أوساطهم، أو بلغتهم
انتشار الأصولية بين المسلمين في أوربا وهذا ما لا يتحمله الغرب.
3- إفساح المجال للحكومات في البلاد الإسلامية لتقديم العون للمسلمين وذلك
لتخفيف استياء الشعوب مما يجري.
4 - محاولة تحجيم دور ألمانيا وفرنسا في الميدان الأوربي ولا يغيب عن
البال أن ميتران ذهب إلى سيراجيفو وهي تحت الحصار وأرسل المساعدات
الإنسانية إلى أهلها.
لا تنس أخي المسلم
أخي العزيز: إن ما سأذكره لك هو مصداق لقوله تعالى: [إن يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] ، وقال
تعالى: [لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً وأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ] [التوبة 10] .
إن ما يجري في بلاد البوسنة والهرسك هي عمليات إبادة يمارسها الصرب
ضد البشناق وهم من أصل واحد بل ويتكلمون لغة واحدة ولكن فرّق بينهم الدين.
أخي المسلم إننا لا نريد منك فقط أن تذرف الدمع الغزير تعاطفاً مع إخوانك، فهذا
لا يكفي، بل يجب أن تتذكر ولا تنسى أن ما جرى لهم اليوم قد جرى لهم مرات
ومرات قبل اليوم، وهو أيضاً ما حصل لغيرهم من المسلمين في مخيمات اللاجئين
في لبنان على يد الموارنة والرافضة وحصل للمسلمين في الهند على يد الهندوس
وفي بورما على يد البوذيين وفي سيلان على يد التاميل وفي وفي.. ولكننا أصبنا
بداء الوهن مضافاً إليه ضعف شديد في الذاكرة، وما نريده منك - أخي المسلم -
ألا تنسى هذه الأحداث وتعرض عليها كل ابتسامة من كافر وكل مجاملة من ملحد
وصدق الله حيث قال: [يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ]
[التوبة 8] .
* يروي شهود العيان القلائل الذين نجوا من سكاكين ومناشير العصابات
الصربية المسماة بـ شتنيك، يروون صوراً من أفاعيلهم البشعة. قام شتنيك
بإحراق المسلمين في مساجدهم وبيوتهم في مناطق جنوب شرق البوسنة وكانوا
يمثلون بالقتلى بعد ذبحهم بالسكاكين ويقطعون بها ثدي النساء بعد اغتصابهن
ويبقرون بطون الحوامل للتمثيل بالأجنة.
* في مدينة قوتشا الإسلامية المشهورة بمساجدها الجميلة التي بنيت في العهد
العثماني قام الصرب بالاستيلاء على بعض أحيائها ثم علقوا أعلاماً صربية على
مئذنة المسجد الجامع فيها وتسمع عبر مكبراتها أغان صربية تشتم مقدسات المسلمين
وتحرض على إبادتهم.
* في مدينة بيلبينا على الحدود مع صربيا حدث ما يلي: بعد آخر صلاة
تراويح في رمضان 1412 هـ وعند خروج المصلين من المسجد أخذت القوات
الصربية اثنين منهم وذبحتهما على باب المسجد وبدأت بإطلاق النار على الآخرين
وعندئذ هرع المصلون راجعين إلى المسجد ثم ألقى الصرب القنابل في داخله ليقتلوا
ما يزيد على مئة مصل ثم دخلوا المسجد وسلبوا المسلمين، وقضوا الحاجة على
جثثهم، والأدهى أن تلفزيون بلغراد بث هذا المشهد المروع في نشرته الرئيسية بعد
أن عرض القتلى في الكنيسة بدلاً من المسجد المهدم وعلق على الصورة بأن
المسلمين المسلحين المدعومين من الخارج هكذا يعاملون أفراد الشعب الصربي في
البوسنة والهرسك وهذا هو مصير ما يزيد على مليون صربي فيها ولحماية الشعب
الصربي في البوسنة من المسلمين المتطرفين نناشد جميع شباب صربيا سرعة
الالتحاق بمراكز المتطوعين لإنقاذ الصرب الأبرياء.
* والآن إليك محضر تحقيق أجري مع أحد المجرمين الصرب ونشر في أحد
صحف سيراجيفو وذلك بعد القبض عليه، ففي الرابع عشر من أيار في حي
سوكبونار في سيراجيفو ألقى أفراد الشرطة البوسنية القبض على الإرهابي الصربي
جيلكو كوفاشيفيتش، وفي الحال اعترف بالآتي مع حذف المعلومات غير
الضرورية:
- نشأت في عائلة من الطبقة العاملة، والدي ووالدتي افترقا عام 1975م،
أسكن أنا ووالدي في نفس المنزل.
- أخي ميلنيكو ولد عام 1967م يعمل كسائق شاحنة، حالياً ينتظم في
صفوف الميليشيات الصربية.
- في الرابع من أبريل استلمت دعوة للانتظام في احتياط القاطع العسكري
لمنطقة سوكولاتس، أخذت مكاني مع ثلاثين عنصراً في فصيل عسكري بقيادة
ضابط احتياط.
- في معسكر هان بيساك كنا حوالي 400 جندي بقيادة سبعة ضباط احتياط
من صربيا.
- تلقينا تدريباً عسكرياً يشمل تمرينات جسمانية، التدريب بالرصاص الحي
على أسلحة القنص، الرشاشات الأوتوماتيكية، المدافع وأسلحة أخرى.
- بعد التدريب أمرنا بالذهاب للدفاع عن سيراجيفو ولإنقاذ الشعب الصربي
المعرض للقتل والتنكيل من جانب منظمة الكوفيات الخضر (الإسلامية) . ...
- قائد الكتيبة الذي حضر من صربيا وقادة المعسكر الآخرون كانوا غالباً
يحدثوننا خلال دروس التوجيه السياسي كيف ينكل المسلمون والكروات بالصرب
ويطردونهم من بيوتهم ويقودونهم إلى جهات مجهولة.
- حوالي الساعة العاشرة من الثاني والعشرين من أبريل تحركنا بالشاحنات
والباصات العسكرية نحو سيراجيفو، وصلنا معسكر لوكافيتا بالقرب من سيراجيفو. قبل مساء ذلك اليوم انطلقنا من المعسكر إلى حي جربافيتا في سراجيفوا تلك الليلة، لم ندخل الحي لأسباب أمنية بل قضينا الليل في الحافلات.
- في صباح اليوم التالي وتحت حراسة عسكرية مشددة دخلنا جربافيتا.
قضينا الليلة الأولى في الهواء الطلق، ثم وجدنا بعض المنازل المهجورة فوقع
اختيارنا على منزل لأحد المسلمين واسمه يوسف في شارع زغرب.
- بانتظام كنا نحصل على التموين في ذلك المنزل من معسكر لوكافيتا التابع
للجيش الاتحادي. خلال النهار نستريح وخلال الليل نذهب إلى المواقع، كنا نمشط
ونفتش المنازل بحثاً عن السلاح. نعم لقد نهبنا مواد مختلفة، لقد أخذت من بعض
المنازل أجهزة كهربائية، ساعة يدوية وأشياء أخرى.
- قائدنا رايكو تسفييكش كان قد قال لنا أن ننهب أي شيء تقع عليه أيدينا
وبشكل خاص أن نحضر له جهاز فاكس من نوع (باناسونيك) . كنا نسرق
السيارات ونحملها بالمواد المنهوبة وننقلها إلى سوكولاتس.
- قبل سبعة أيام وبينما نحن سوية، فإذا بشاب يسير نحونا، أوقفناه فسأله
ماركوفيتش عن الهوية الشخصية، أعطاه الشاب هويته فوراً، وعندما عرف
ماركوفيتش اسم الشاب قال: انظر ابن ( ... ) نحن نبحث عن هؤلاء لنذبحهم.
بدأنا جميعاً بضربه بأيدينا وأرجلنا فسقط على الأرض فواصلنا ركله بأرجلنا دون
الالتفات إلى توسلاته، لكننا مع ذلك ضربناه أكثر وأكثر. عند ذلك بدأ الدم يسيل
من رأسه ووجهه فأجبرناه أن يقف على رجليه.
- ماركوفيتش طلب مني السكين فأعطيته، عند ذلك قال: الآن سأذبح ابن
( ... ) ، الغلام كان يتوسل لنا أن لا نفعل.. لكنه صاح بعد ذلك قائلاً: افعلوا ما بدا
لكم.. أنا لا أخاف الموت.. سوف تنالون جزاءكم يوماً ما.
- ماركوفيتش قال لنا عند ذلك بحدة: إن القائد تسفييتش أمر بذبح المسلم
بالسكين لأنه خسارة أن نطلق عليه رصاصاً غالي الثمن.
- في تلك اللحظة وقف خلف الغلام بإحدى يديه شد لحيته وباليد الأخرى
أمسك بالسكين.. ذبح الغلام! ! انتظرنا مدة خمس دقائق لنتأكد من موت الغلام.
كان يلفظ أنفاسه وماركوفيتش يقول:.. تعذب.. تعذب سوف نذبحكم كلكم بهذه
الطريقة.
- قبل أربعة أيام تحركنا نحن الأربعة باتجاه قراتشي، هناك رأيت رجلاً
يجلس أمام بيته في أحد الأزقة، ذهبت إليه وسألته عن هويته الشخصية، قال لي
إنه لا يملك هوية وإن اسمه رادي، لم أصدقه لأنه كان شبيهاً بالمسلمين وجهاً
وتعبيراً. سألته لماذا لا يذهب إلى الجيش إذا كان صربياً كما يقول، فقال: إن
الحرب لا تهمه وإنه لا يريد أن ينحاز لأي جهة، أغضبني جوابه كثيراً، فأمسكت
بلحيته من الخلف وبيدي الأخرى أخرجت سكيني من الجعبة فذبحته، سال دمه
بكثافة، انتظرت قليلاً وبعدها رجعت إلى رفاقي. وأضاف لقد قتلنا أو ذبحنا ما
مجموعه ثلاثة عشر مسلماً وأضرمنا النار في خمسة بيوت تابعة للمسلمين [1] .
__________
(1) نقلاً عن جريدة ASI البوسنية الصادرة بتاريخ 29/5/1992 م.(53/60)
الجهاد الأفغاني ومرحلة البناء
كم نتمنى أن ينتقل الجهاد الأفغاني بعد محنته الأخيرة مع مجددي وكيلاني
والتحالفات المشبوهة التي أرادت أن تسرق ثمرة الجهاد أو التي تخصصت في
استغلال جهود الآخرين لمصلحتها أن ينتقل إلى مرحلة البناء، ويا لها من مهمة
صعبة، تتطلب جهوداً مخلصة دؤوبة، جهوداً فيها صبر وحكمة واتخاذ القرار
الصائب، فبعد التخريب الشيوعي وجهل المسلمين بشكل عام وكثرة تفرقهم في مثل
هذه الأجواء قد يكون البدء من الصفر. إن أعداء الإسلام من أبناء جلدتنا خاصة
يراهنون على أن المسلمين إذا حكموا فلن يستطيعوا الاستمرار وإدارة البلاد،
ويقولون فلندعهم يحكموا حتى يظهر فشلهم. وهذه مقولة ماكرة مضللة ولكنها في
الوقت نفسه تضع المسلم في موقع التحدي، وخاصة في الظروف الدولية السائدة.
والتحديات كثيرة جداً ومن أصعبها توحيد الصف الإسلامي الذي جاهد طوال
السنوات السابقة، وتوجيه الشعب الأفغاني، الذي إن لم يتدارك الأمر فستمزقه
الصراعات القبلية والعرقية وإننا من موقع الأخوة والنصح والمشاركة في الرأي
نبدي بعض الملاحظات حول المرحلة الحالية.
1- نتمنى أن يستمر التعاون والتنسيق بين فصائل الجهاد الحقيقي والذي كان
قوياً في الأيام الأخيرة لمواجهة المؤامرة، بل لا بد من جمع فصائل أهل السنة ونبذ
أي نوع من التفرق (وهو داء عميق) ، ولا بد من تضميد جراح الشعب الأفغاني
والمسارعة في بدء التوطين والإعمار حتى يلتف هذا الشعب حول حكومته. ويجب
ألا يخطر ببال جبهة واحدة الانفراد بالأمور، ولا بد من إبعاد المنافقين وأصحاب
الأهواء وعدم تمكينهم من المراكز المهمة، فإنهم يفسدون أكثر مما يصلحون.
2- إن أهم ما يبدأ من جوانب الإصلاح والبناء هو التعليم وإعداد المناهج
المناسبة للأطفال والشباب، فهؤلاء الأجيال إذا أعدوا ديناً وخلقاً وعلماً وعملاً هم
حماة الدولة واستمراريتها، ولا ننسى مقولة الشاعر الهندي المسلم: (يا لغباء
فرعون كان بإمكانه أن يفتح المدارس ويخرب عقول شباب بني إسرائيل عوضاً أن
يذبحهم) ، فالتعليم هو الذي يصلح أو يفسد. ولا بد من الحرص على تعلم الشباب
شتى الاختصاصات التي تؤهله للمشاركة في الاستقلال الاقتصادي والسياسي عن
الدول الكافرة، وعند المسلمين كفاءات تربوية لإعداد المناهج المناسبة فيجب أن
يستفاد منها.
3- الاستفادة من التجارب الفاشلة للدول العربية ودول العالم الإسلامي بشكل
عام عندما رفعوا شعارات التصنيع وأهملوا موضوع الزراعة فلا هم أتقنوا الصناعة، ... ولا هم تركوا الناس يزرعون وأصبحوا يستجدون القمح من أمريكا، وذلك لأن
الشيء الطبيعي أن تبدأ الدول الصغيرة خاصة بالزراعة والصناعة تأتي في مرحلة
تالية.
4 - إن الذي يثبت أركان الدولة هو إقامة العدل ولا شك أن تطبيق الإسلام
فيه العدل الشامل، والشعب الذي يعامل بالعدل وتصان حريته وكرامته سيلتف حول
دولته ويكون معها في السراء والضراء، والشعب الذليل لا يقيم دنيا ولا دينا، وإن
كل المقولات التي تبرر الضغط على الناس وممارسة الاستبداد غير مقبولة.
5- لا يقولن أحد من ضعفاء النفوس إننا لا نستطيع في هذه الظروف إلا أن
ننحاز إلى إحدى الدول الغربية القوية. نعم يجب أن نتعامل مع الواقع حولنا،
ولكن استقلال القرار السياسي والإداري ليس صعباً وبشيء من الهدوء وضبط
النفس ومعرفة ظروف المرحلة وتقوية العلاقات مع الدول الصديقة، مع تماسك
الجبهة الداخلية تستطيع الدول أن تكون مستقلة القرار. وهناك أمثلة من القريب
والبعيد، فالسلطان عبد الحميد استطاع لمدة ثلاثين سنة أن يجنب الدولة ضربات
الغرب المتربصين وذلك لمعرفته بالظروف الدولية واستغلالها لصالحه.
هذه ملاحظات سريعة مشفقة، وأمر البناء أكبر من هذا وخاصة في مجال
بناء النفوس.(53/78)
أوضاع المسلمين في أسكتلندا
عمران العمراني
تقع أسكتلندا في الجزء الشمالي من بريطانيا، ويبلغ عدد سكانها خمسة ملايين ...
نسمة، وتعتبر مدينة (أدنبرة) عاصمة لها بينما تعد مدينة (جلاسجو) المدينة ...
الصناعية والتجارية ومن أهم مدنها دندي وأبردين وغيرها.
يمثل المهاجرون الباكستانيون والهنود والبنغال معظم سكانها المسلمين بل إنهم
أساس وجود المسلمين.. وهذه الهجرة كانت بعد الحرب العالمية الثانية وخلال
استعمار بريطانيا للهند أوائل هذا القرن وسببها طلب العيش والبحث عن فرص
أفضل للعمل.
أدنبرة:
هي العاصمة ويبلغ عدد المسلمين فيها حوالي خمسة عشر ألفاً، وبها ثلاثة
مساجد لأهل السنة، وبها أيضاً للشيعة وجود، ويبنى الآن مسجد جامع كبير ولا
يزال قيد الإنشاء.
جلاسجو:
عدد سكانها مليون نسمة منهم عشرون إلى خمسة وعشرين ألفاً من المسلمين
يعمل معظمهم بالتجارة، ويملك كثير منهم عقارات ومحلات بيع الجملة بل إن أكبر
محلات الجملة في جلاسجو ملك لرجل باكستاني. وهم بهذه المثابة غير مرغوب
فيهم من قبل سكان البلاد الأصليين لأنهم في نظرهم قد حصلوا على أحسن الوظائف
وتسببوا في الغلاء والتضخم، ولذلك ينادي كثير من الشخصيات الإسكتلندية بتحديد
الهجرة والتشدد في إجراءات الإقامة ومنح اللجوء وغيرها من القوانين.
المساجد والمراكز الإسلامية:
لأهل السنة خمسة مساجد رئيسية موزعة على النحو التالي:
- جماعة التبليغ مسجدان.
- الجماعة الإسلامية في باكستان ويمثلها الحركة الإسلامية في بريطانيا مسجد.
- جمعية اتحاد المسلمين مستقلة مكونة من بعض التجار وتشرف على المسجد
المركزي.
- جماعة دعوة الإسلام وهم من البنغال.
وهناك مسجدان تابعان لكل من جامعة جلاسجو وجامعة ستراتكلايد.
إلى جانب مساجد أهل السنة يوجد مسجد للقاديانيين وآخر للبريليويين واثنان
للشيعة.
وللأزهر مندوب يقوم بإلقاء خطبة باللغة العربية والإنجليزية يوم الجمعة في
المسجد المركزي وله علاقة طيبة بالباكستانيين.
ولجمعية الطلاب المسلمين في بريطانيا فرع تحت اسم (دار المسلمين) تقام
فيه حلقة أسبوعية يوم السبت ويقومون ببعض الرحلات خلال أيام الأعياد،
ويقيمون أياماً ثقافية في مقر الدار.
وأيضاً هناك جمعية (الرسالة) وتقيم حلقة أسبوعية يوم الأحد وتقوم بتنظيم
أيام ثقافية بالتعاون مع المسجد المركزي، وتقوم بالرحلات ونشاطات أخرى.
المسلمون الباكستانيون في الجملة ليس لهم تأثير على أبناء جلدتهم بل إن نظرتهم
للإسلام تكاد تنحصر في صلاة الجمعة واللحم الحلال وعدم أكل لحم الخنزير، أما
شرب الخمور وتضييع الصلوات فلا يعدونه منكراً أو كبيرة، وقد سألت أحد
أصحاب المحلات التجارية هل يوجد مصلّى؟ - لأنهم يعملون من الثامنة صباحاً
حتى التاسعة مساء بدون توقف - فأجاب: لا، قلت: وأين تصلون؟ فأجاب: إذا
رجعنا للبيت صلينا العشاء والفجر، فقلت: وبقية الصلوات؟ أجاب: لا نصليها.
فهم محتاجون إلى توجيه مركَّز ودعوة تعرف واقعهم وتعالجه بما يناسبه ولا
شك أن ذلك يحتاج إلى وقت وجهد ومال والله المستعان.
دندي:
يبلغ عدد المسلمين بها حوالي ألف وخمسمائة منهم مائة من العرب معظمهم
من الطلاب، ومعظم المسلمين هنود سكنوا ملاوي الأفريقية وهاجروا، وهم أقرب
إلى الإسلام من سكان جلاسجو وإدنبره.
يوجد بدندي مسجدان لأهل السنة، واحد للتبليغ والآخر تابع لجامعة دندي،
وللشيعة مسجد وكذلك للبريليوية.
أول من استوطنها أحد التجار الهنود ثم تبعه أقاربه الذين يبلغ عددهم الآن
حوالي خمسمائة فرد.
توصيات:
المسلمون في اسكتلندا يفتقدون التوجيه والمؤسسات التي تشرح لهم الإسلام
بطريقة تلائم واقعهم وتفهم حاجاتهم، ومحتاجون إلى دعم وتكوين بل وإيجاد فرص
عمل تستوعب الطاقات وهذا يحتاج إلى مال ورجال وبالإمكان الاستعانة بالطلاب
الباكستانيين الطيبين الذين يوجد عدد كبير منهم، وكملخص لما يمكن أن يوصى به
أقول:
1- مؤسسات دعوية يكون نشاطها موجه للجالية الباكستانية.
2- الاستفادة من طاقات الشباب الباكستاني.
3- التعاون مع الجماعة الإسلامية في باكستان.
4-التفكير في فرص عمل ولو محدودة.
5-تكثيف توزيع النشرات بالأوردو.(53/81)
آخر أخبار المعارك في الفلبين
تدور حالياً معارك ضارية في مديرية ملانج بمحافظة كوتباتو الشمالية.
بدأت هذه المعارك في الساعة السادسة والثلث تقريباً صباح يوم الثلاثاء الثامن
من ذي الحجة 1412هـ، حيث هاجمت المليشيا النصرانية الحكومية قرية
ليجاواسان الإسلامية بجوار المستنقعات الواسعة.
وكان مركز هؤلاء النصارى المعتدين هو قرية أنتباني النصرانية التي أقاموها
بعد اغتصاب أراضي المسلمين في المنطقة، وقد فاجئوا الأهالي المسلمين الآمنين
بالهجوم المبكر الذي دبر أثناء صلاة الصبح. فقد هاجموا المسلمين بعد خروجهم
من المسجد وقتلوا سبعة من هؤلاء المسلمين من بينهم شابان مثلوا بهما حيث قطعوا
رأسيهما ومزقوا جثتيهما لأنهما متهمان بالانتماء إلى جبهة تحرير مورو الإسلامية
وقتلوا الباقين.
وفي نفس الوقت قام مجاهدو جبهة تحرير مورو الإسلامية في معسكر عثمان
بن عفان بالهجوم المضاد بعد أن وصل إليهم خبر الاعتداء على المسلمين الآمنين
وألحقوا بالمليشيا النصرانية خسائر كبيرة ويقدر عدد قتلاهم بأكثر من عشرة قتلى،
وتصاعدت المعارك يوم العيد المبارك (الخميس العاشر من ذي الحجة 1412هـ) ولم
يتمكن المجاهدون في المنطقة من أداء صلاة العيد لانشغالهم بالقتال من الصباح
الباكر إلى آخر النهار. واستمرت المعارك إلى يوم الجمعة 11 ذو الحجة 1412
هـ.
جبهة تحرير مورو الإسلامية(53/85)
من مكتبة البيان
إعداد: عبد العزيز الحويطان
- صدر حديثاً كتاب بعنوان (ضوابط للدراسات الفقهية) للشيخ الداعية سلمان
بن فهد العودة، يأتي الكتاب في 130 صفحة من الحجم المتوسط، وهو محاولة
ناجحة لرسم خطة عملية متكاملة للدراسات الفقهية المعاصرة، تحدث المؤلف فيه
عن أهمية الفقه وضرورته، والملاحظات على الدراسات الفقهية قديمها وحديثها،
ثم تحدث عن الضوابط التي يجب أن يتحلى بها الباحث في هذا المجال، ثم ذيله
ببعض المراجع التي يحتاج إليها الباحث المتخصص.
أتى الكتاب قيماً متميزاً في عرضه وفكرته، والكتاب من توزيع دار الوطن
للنشر.
- (شرح العمدة في الفقه) لشيخ الإسلام ابن تيمية:
خرج الجزء الأول (كتاب الطهارة) من كتاب شرح العمدة في الفقه لشيخ
الإسلام ابن تيمية، بتحقيق الدكتور سعود بن صالح العطيشان وذلك في مجلد حافل
وضخم، والكتاب يكتسب أهمية من مؤلفه ابن تيمية - رحمه الله - الذي تميز
بسعة اطلاعه ومعرفته بالخلاف وقوة ترجيحه.
الكتاب لم يتمه شيخ الإسلام بل وصل إلى كتاب الحج، وهذا القسم - قسم
الطهارة - قدمه المحقق لنيل شهادة (الماجستير) من الجامعة الإسلامية وأخذ عليه
درجة امتياز والكتاب من توزيع مكتبة العبيكان.
- (مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها) :
هذا الكتاب للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الأستاذ المشارك بقسم
العقيدة - كلية أصول الدين بالرياض - كتاب قيم ونفيس، تكلم عن قضية كبرى مهمة في هذا الدين ألا وهي قضية العقيدة، عرف المؤلف من خلاله العقيدة ومعنى أهل السنة والجماعة، ثم ذكر تاريخ العقيدة وأصولها ومصادرها وخصائصها، ثم ذكر فصلاً مجملاً عن اعتقاد أهل السنة والجماعة، وأخيراً تحدث عن بعض النتائج والخواطر عن هذا الموضوع، وعلاقته بالحركات ...
الإسلامية المعاصرة وموقفها منه. ...
أتى الكتاب في (80) صفحة تقريباً، من توزيع دار الوطن للنشر.. ...
- صدرت أخيراً مجموعة من الكتب للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، مثل
(الرقابة على التراث) و (الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث) و (تحريف النصوص من مأخذ أهل الأهواء في الاستدلال) و (الرد على المخالف) و (معرفة
النسخ والصحائف الحديثة) و (التحديث بما لا يصح فيه حديث) . ...
وهي كتب جديرة بالقراءة والاطلاع، بذل فيها المؤلف جهداً طيباً من ناحية
الاستقصاء والبحث.(53/86)
منتدى القراء
الكلمة الهادفة الهادئة
أبو إبراهيم
كثيراً ما نرى في المساجد بعض الشباب الممتلئ حماساً وحيوية والذي يلمس
من نفسه شعوراً بالقدرة على صعود أعواد المنابر ومواجهة الناس للتكلم إليهم سواء
في خطبة جمعة أو كلمة تلقى على المصلين.
وتظهر مع بعض هؤلاء الشباب نبرة الصوت العالية التي هي - إن شاء
الله - خرجت من قلب مشفق محب للخير، ولكن قد يصاحب هذه النبرة بعض الكلمات الموجهة إلى شريحة معينة من المجتمع - كالعصاة الظاهرة معاصيهم - بعض الكلمات الجارحة مما يؤدي إلى نفور هذه الشريحة من المتحدث وعدم الأخذ بكلامه جملة وتفصيلاً وذلك لمصادمته لهم مباشرة وبأسلوب فيه غلظة في القول.
لا ندري لماذا لا يلجأ هؤلاء الشباب ومن على شاكلتهم إلى تلافي مثل هذه
المآخذ في كلماتهم وخطبهم، واللجوء إلى الكلمة الهادفة الهادئة. التي ترتكز على
عدم رفع الصوت أكثر مما ينبغي، وعلى محاولة كسب قلوب الناس وملاطفتهم
بالنصيحة، وذكر ما يناسبهم من الحديث، وعدم مصادمة مشاعرهم، وإطلاق
الكلمات الجارحة، والأخذ بمنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفه
ربه بقوله: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ] . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(53/88)
هل نسينا مسألة الوحدة
عبد العزيز العنزي
يعتبر أي مشروع نهضوي إسلامي لا يضع في مقدمة أهدافه تحقيق الوحدة بين
المسلمين مشروعاً فاشلاً، وليس سبب هذا الفشل فقط إغفاله للنصوص الشرعية
المتواترة القاضية بالحث على الوحدة وذم التفرق بين المسلمين؛ بل لأجل إغفاله
ضرورة عملية من ضرورات العمل الدعوي، ولا أظن أن هذه القضية تخفى على كل
ممارس للعمل الدعوي على أرض الواقع.
إذا تقرر ما تقدم فإن الناظر والمتأمل في واقع الدعاة يرى عجباً في هذا الجانب
فالقضية أصلاً لا تتناول إلا في نطاق ضيق، وإن تنولت فليس على مستوى الهم العام ...
لجميع الدعاة، ولم نصل بعد إلى مرحلة جعل هذه القضية من قضايا المسلمين العامة
التي لا يجهلها أحد.(53/88)
أين أجد لذة العبادة
أم قتيبة
تكالبت علي الهموم والأحزان، بسبب ما أسمع وأرى عن المآسي التي تمر
بها الأمة الإسلامية: حروب طاحنة، مجاعات رهيبة، فيضانات مدمرة، وما يكاد
يلتئم جرح حتى تنفجر جروح من بورما إلى كشمير إلى إرتريا إلى يوغسلافيا،
ولكنني أتساءل أين دور المسلمين على الساحة العالمية؟
فلما تكالبت علي هذه الأحزان، قمت بزيارة إلى البلد الأمين، لعلي أنسى
بعض همومي وعندما وصلت هناك، ورأيت الكعبة انهمرت من عيني الدموع
وهالني منظر الجموع المحتشدة، وتذكرت دعاء أبينا إبراهيم: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ
مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ
النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ] . وبعد أداء مناسك العمرة رجعت أدراجي إلى السكن لأستريح
قليلاً، ولكنني فوجئت بالنغمات الموسيقية تنطلق من الشقة المجاورة، وبعد قليل
دوى صوت الله أكبر الله أكبر فذهبت الحرم لأداء الصلاة. وهناك طلبت إحدى
الأخوات تسوية الصفوف، فانبرت أخرى بلسانها البتار، بشتائم مقذعة، وتعالت
الصيحات والعويل من الصفوف الخلفية، قلت في نفسي علَّ بعض النساء وصلتهن
أخبار محزنة، ولكنني علمت فيما بعد أن إحداهن حجزت مكاناً لأخرى فنازعتها
امرأة ثانية على ذلك المكان فقلت: سبحان الله أين نحن من حديث المصطفى -عليه
أفضل الصلاة والسلام-: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) .
ومكثت في مصلاي، وشد انتباهي تبرج بعض النساء من إبداء زينتهن،
وتذكرت قول رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - عن الصنف الذي لم يره،
وهن الكاسيات العاريات. فتساءلت أين ذووهن؟ ومن المسؤول عنهن، لماذا لا
يؤخذ على يد السفيه حتى لا يعمنا الله بعقاب، وما أفقت من تفكيري حتى لسعتني
أشعة الشمس ولسان حالي يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم ثبتنا على الإيمان.(53/89)
القراءة الناقدة
فيصل الذواد
لو تأملت ظروف تطور الفتن، قديمها وحديثها، فسوف تلاحظ أن عامة
الناس، بادي الرأي، الذين يجرون وراء كل ناعق، هم وقودها وسبب انتشارها،
لذا فإنهم في زمن الأمن قنبلة موقوتة، سهلة الاستعمال، قليلة التكاليف لأعداء هذا
الدين، ما لم تحصن عقولهم، وترم آراؤهم، ويقطع دابر الفوضى المستشرية في
أفكارهم وعقائدهم.
والمطبوعات بأنواعها من كتب، ودوريات وصحف ونشرات مختلفة
المشارب، والأهواء، تُضخُّ في عصرنا هذا بكميات هائلة، تجعل من الصعب
استيعابها، فما بالك بغربلتها، وإبراز ما فيها من عيب وخلل.
والناس يتعاملون مع هذه المطبوعات، على ضروب كثيرة، أبرزها ثلاثة،
نخص الأخير منها بهذه المقالة، أما الأول: فهو المتلقي الواعي، الذي يغربل ما
يقرأ، ثم يتأنى في قبول أو رد رأي يعرض عليه، فيعرف الغث من السمين،
ويراعي قبل ذلك، حال صاحبه أهو ثقة، أم مجهول لا يعرف منبته، وهذا
الضرب لا يخاف منه ولا عليه.
والثاني: هو الذي لا يقبل أي رأي، ولا يقتني أي مطبوع، إلا باستشارة من
يثق، وهذا أمره أهون، والخوف منه وعليه أقل.
أما الأخير فهو المستهدف، وإليه توجه السهام، فهو الذي يقبل ما هبَّ ودبَّ، ليس له رأي معين، وليس عنده مسلمات، ولا يعرف الثوابت، فهو طوعُ لكل
فصيح، فهذا مصدر الداء وأُس البلاء، وعَوْنُ الأعداء.
وكما الطحين بحاجة إلى غربال، يزيل عنه قشوره وشوائبه، فما يُقرأ أيضاً
بحاجة إلى عين ناقدة، تستخلص ذهبه من نحاسه، تلك القراءة الواعية المستنيرة
بنور الإيمان، وضياء القرآن وعدل الإسلام..(53/90)
في دائرة الضوء
نعم الإسلام هو البديل
كثيراً ما يتباهى الغربيون أنهم أهل الديمقراطية ودعاة الحرية العامة وحرية
الرأي بخاصة، وأنهم أكدوا ذلك في دساتير بلدانهم، وأنهم مع (حقوق الإنسان)
التي أصدرتها هيئة الأمم المتحدة، ويرون أنها من بدهيات الحقوق التي يجب أن
يتمتع بها الإنسان أياً كان، بل لأنهم يسالمون ويعادون على ضوء تلك الحقوق
الإنسانية. وكثيراً ما يكونون في صف أدعياء الفكر من الكتاب والأدباء الذين ألفوا
كتباً إلحادية بدعوى أن ذلك مما تكفله حرية الرأي للجميع. ولا يغيب عن البال
موقفهم من (سلمان رشدي) حينما ألف كتابه (آيات شيطانية) و (علاء حامد) في
روايته (مسافة في عقل رجل) .
إلا أننا وبمعرفتنا بالعقليات الغربية ومنطلقاتها الصليبية لا نشك في أن
مؤازرتهم لأمثال أولئك الكتاب ذوي الاتجاهات المنحرفة ليس إلا لكونهم طعنوا في
الإسلام عقيدة ومنهاج حياة، وإلا فلماذا أصدروا في (بريطانيا) قراراً بمصادرة
كتاب (صائد الجواسيس) ، وصودرت حرية الرأي حينما أراد أحد الباحثين أن
يدرس وينقض دعوى اليهود الصهاينة بادعائاتهم إحراق (هتلر لليهود) ؟ ! وحينما
تقدم الباحث برسالته العلمية التي تنقص تلك الدعوى التي ما زالوا يمتصون بها
الملايين بدعوى التعويض عن القتلى اليهود من قبل (النازية) رفضت الرسالة. في
الوقت الذي تباشر عمليات الاضطهاد لمن ينقد التوجهات الصهيونية للعدو
الإسرائيلي في أمريكا بدعوى عدم إثارة النزعة اللاسامية.
هذا كله مقدمة لحال السفير الألماني الدكتور (مراد ويلفريد هوفمان) الذي ألف
كتابه الجديد (الإسلام البديل) وتعرض بعده إلى حملة صحفية قادتها الجمعيات
النسائية، بدعوى أن الإسلام أهان المرأة. وتعرض للمساءلة من (الخارجية
الألمانية) ولومه لأنه خرج عن مهام وظيفته. ودعت نائبة في (الحزب الديمقراطي
الاشتراكي) إلى إقالته لأنه تجاوز حقوق المرأة في الدستور الألماني. هذه الحملة
المغرضة ضد السفير مع أن الدستور الألماني يعتبر الدين من الشؤون الشخصية.
والحقيقة خلاف ما قيل عن المؤلف المسلم وكتابه فهذا الألماني المسلم (عبد
الله رودلف بيريت) صديق المؤلف (هوفمان) يقول أن الحملة وجعل عنوانها
(الدفاع عن حقوق المرأة) ليس ذلك إلا مجرد عنوان والحقيقة هي الخوف من الكتاب وما تضمنه من أفكار تقدم (الإسلام كبديل من نمط الحياة الغربية) . فالمؤلف (هوفمان) سبق له أن ألف كتاباً سابقاً بعنوان (مذكرات مسلم ألماني) ولم يثر أي ردود فعل غير عادية، بل إن الكتاب موجود في السفارات الألمانية بالدول الإسلامية. وإن جريدة كبرى مثل (فرنكفورتر الجيامينيه) نشرت لذلك الكتاب عرضاً موضوعياً لكاتب غير مسلم. وما ذلك إلا لأن الكتاب الأول لم يكن فيه أي إثارة، ولما جاء الكتاب الجديد بأفكار تغييرية أثارت حمية القوم، وقامت قائمة الخائفين من عرض الإسلام بوجهه المشرق كبديل عن الأنظمة الأرضية، التي لم تورث إلا الفساد والدمار والانحراف.
ودعونا نستعرض الخطوط العريضة لكتاب (الإسلام البديل) ونحكم القراء
المسلمين بعامة وغيرهم بصفة خاصة. ثم لنتساءل هل لتلك الحملات الظالمة ضد
الكتاب أدنى وجه من الحق أم أنها حملة صليبية ليس إلا؟ ؟ ..
فالعناوين الرئيسية لفصول الكتاب الذي يقع في 220 صفحة تتلخص فيما يلي: ...
* الإسلام والغرب و (مفهوم الإيمان في الإسلام) والديانة المسيحية من وجهة
النظر الإسلامية.. الإسلام كدولة ووجهة نظر الإسلام في النظام الاقتصادي،
وحماية البيئة وحقوق الإنسان، والجهاد والحقوق الدولية، وفي الفصل الخاص
بالمرأة والذي آثار الضجة تناول المؤلف المرأة في المجتمع الإسلامي مدعماً رأيه
بالقرآن والحديث، حيث بينّ مكانة المرأة المسلمة ودورها الكبير في المجتمع كأم
ومربية ومحور للحياة والمجتمع، وناقش مسائل الزواج والطلاق وتعدد الزوجات
والميراث والحجاب، وما أكده الإسلام من العدل بين النساء وأحكام الطلاق
كضرورة اجتماعية، وشرح بموضوعية أحكام الإرث وشهادة المرأة، وحذر
المؤلف من أن يسيء الغربيون فهم أحكام الإسلام تلك لأنها لا تتلاءم مع واقعهم
الذي ركز عليه انتقاده، متسائلاً عن معنى إطلاق الحرية للإجهاض وقتل الجنين
في رحم أمه وانتشار الإباحية والتعري المفضوح، وأكد السفير في كتابه وجود
الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة وأن الإباحية ستدمر المجتمعات الغربية.
هذا ما أثار حفيظة هؤلاء وما حرك ضغينتهم بلا مبرر معقول؛ فأين الحرية
التي يدعون وأين الديمقراطية التي يزعمون، لماذا تكون الحرية حينما يكون ذلك
في حرب الإسلام وفي نقد قيمه ومثله، أما حينما تكون في عقائدهم هم ومنطلقاتهم
هم ودساتيرهم هم فإنها تصادر ويدعى إلى استئصالها بل إلى خوض معارك صليبية
ضد من يثير حولها التساؤلات..؟ !
لماذا لا يتاح المجال للفكر الحر النزيه أن يرى النور في مجتمعاتهم التي
يسمونها بمجتمعات النور! ... النور العنصري!
لماذا لا يتركون كل مفكر موضوعي أن يقول رأيه في وضح النهار؟ ! إن ما
قاله المسلم الألماني (عبد الله رودلف) هو الحقيقة وهو أنهم إنما جعلوا المرأة عنواناً
للحملة ولكن المقصود هو الخوف من جعل الإسلام هو البديل لحضارتهم. ...
ويوم يترك للإسلام المجال في النور لا شك سيرى فيه الناس المثل الأعلى
الذي يحل مشاكلهم ويستأصل أمراضهم وانحرافاتهم وهذا ما تنبأ به بعض عقلائهم.
نعم إن حل مشاكل الدنيا يوم يكون للإسلام الحاكمية كاملة، يوم يوقف أدعياء
الحرية محاولاتهم وأد الحرية المسؤولة خوفاً من البديل الذي يهز بيوت العنكبوت
التي يهتمون بها.(53/93)
مراجعات في عالم الكتب
الحياة السياسية عند العرب
دراسة مقارنة على ضوء الإسلام
تأليف: محمد حامد الناصر
عرض: عثمان جمعة ضميرية
الدراسات الأدبية التي تنحو منحى المقارنة على ضوء الإسلام قليلة أو نادرة،
وهذا الكتاب، الذي فرغت من قراءته، واحد منها، يرصد مفهوم الجاهلية كما
وردت في الشعر الجاهلي، ذلك الشعر الذي صوَّر لنا حياة العرب قبل الإسلام،
في حروبهم وثوراتهم وعاداتهم وعقائدهم وخرافاتهم.
وهذا الكتاب هو الأول في دراسة مطولة تشمل الحياة السياسية والأخلاقية
والاجتماعية والدينية في العصر الجاهلي، فتكتمل الدراسة في أربعة أجزاء، أولها
عن الحياة السياسية وما فيها من حروب وثارات وصراعات بين القبائل، وفيه
كذلك دراسة موسعة عن العصبية القبلية وتطورها، ثم ظهورها في العصور التالية، على صورة شعوبية حيناً أو وطنية حيناً آخر.
ولئن وجدنا في المكتبة الأدبية والتاريخية المعاصرة كثيراً من الدراسات التي
عنيت بجانب من تلك الجوانب السالفة، فإننا لا نجد فيها هذه الموازنة والمقارنة
بين مفهوم الجاهلية كما تبدت في الشعر الجاهلي الذي يعبّر عنها أصدق تعبير وبين
هدي الإسلام الذي أنقذ هذه الأمة من تلك الرواسب الجاهلية واستنفذ الفضائل التي
كان يتصف بها العرب قبل البعثة، ووجَّهها الوجهة البناءة، وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام الرذائل!
والميزة الثانية لهذا الكتاب: أنه يرصد آثار الجاهلية كلما ظهرت في جانب
من جوانب حياتنا المعاصرة، ويلحظ أن وجه الشبه قوي بين المظاهر العامة،
والمنطلقات في كل منهما.
وقد اتخذ الكاتب من الشعر الجاهلي مصدراً للبحث في القسم الذي يبحث فيه
عن الجاهلية، فرجع إلى المصادر الموثوقة له، مثل المفضليات والأصمعيات
والمعلقات، ودواوين الشعراء. ورسم الصورة المقابلة من المصادر الإسلامية،
فالقرآن الكريم، وحي الله المنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكتب السيرة
والتاريخ الإسلامي، فيها الغَناء كل الغَناء في هذا الجانب، ولذلك كان التركيز
عليها خلال المقارنة.
ويقع الكتاب في مقدمة وفصلين متتالين يسلم أولهما لثانيهما، ففي المقدمة
دراسة موجزة عن منزلة الشعر ومكانة الشعراء ثم بيان لمعنى الجاهلية.
أما الفصل الأول عن (الحياة السياسية عند العرب قبل البعثة المحمدية) ؛
ففيه خمسة مباحث تصور حياة الرعب قبل الإسلام، وتدرس أسباب الحروب
الجاهلية وأثرها على موضوعات الشعر، وتفرد مكاناً للثأر وآخر للأحلاف -
وكلاهما موجز - ثم تفصل الحديث عن أيام العرب وحروبهم، لتنتهى الدراسة
ببعض النتائج والملاحظات عن المقومات الأساسية في الحياة العربية.
ثم يأتي معظم الكتاب بعد ذلك، وهو الفصل الثاني: (الإسلام والجاهلية) ،
وفيه دراسة موازنة تقع في خمسة مباحث، تدرس التربية العقدية ودورها في
اجتثاث مقومات الجاهلية، والعصبية وموقف الإسلام منها، وفي المبحث الثالث:
وحدة الأمة بعد التفرق والتناحر، ثم سيطرة العادات واتباع الأهواء، وأخيراً يرفع
راية الجهاد في سبيل الله بدلاً من الحروب والثارات الجاهلية الدامية. وفي
تضاعيف كل مبحث من هذه المباحث أفكار ينبغي الوقوف عندها ودراستها. وقد
فعل ذلك، لينتهي البحث إلى التحذير من عودة مظاهر الجاهلية في حياتنا الإسلامية، ويرسم سبل الوقاية من ذلك ويحدد العلاج ووسائل التغيير.
وإلى أن تصدر سائر أجزاء هذه الدراسة الجديدة النافعة - إن شاء الله -
ندعو للكاتب ونسأل الله أن يوفقه للمزيد من البحث النافع الجيد، ليسدّ بذلك ثغرة
في المكتبات الأدبية الإسلامية.(53/97)
الصفحة الأخيرة
على قلوب أقفالها! !
عبد القادر حامد
كثير من العلمانيين من هو متخصص في علم الاجتماع، ومن ليس متخصصاً
به يدعي أنه قد اطلع على بعض قوانينه وشروطه. ولكن هؤلاء العلمانيين
يتجاهلون عمداً - أو لأن الله طبع على قلوبهم - مبادئ هذا العلم ونظرياته عندما
يسعون وراء سراب ما يسمونه (التغيير) في المجتمعات الإسلامية، فيمشون عكس
تيار هذه المجتمعات، وضد قوانين نموها، وينتشون بنسمة تحدِّ هو أشبه بالتحدي
الذي يعتري الصبية عندما يخالفون من حولهم. لكنه يخلو من براءة تحدي الصبية
لأنه ملوث بنزعة الاستظهار بالأجنبي وتسهيل الطريق له.
وشيء آخر يتميز به هؤلاء العلمانيون هو الإصرار على باطلهم بصلف قاتل، واستغلال محطات نجاحهم وفشلهم في سبيل هذا الباطل، ودفعه حتى يصبح شيئاً
معروفاً لا ينكره الأسوياء، بل يدافعون عنه وينكرون على من ينكره!
إن لهؤلاء العلمانيين ظاهر وباطن - وكلا ظاهرهم وباطنهم خبيث - فظاهر
دعوتهم الذي يدعون إليه ويحرقون حوله البخور هو: فصل الدين عن الدولة،
ولكن هل يكتفون بهذا؟ ! إن باطنهم الذي يظهر على شكل اندفاعات كالبراكين
المختَزَنة التي تخرج في المناسبات: حقدٌ على الإسلام: عقائده وأحكامه، وقوفٌ
في وجه رسالة المسجد وتعطيلها، دعوةٌ إلى التفلت من أي قيد إسلامي، ضيق
ذرع بكل رمزٍ يميز ديننا وناسنا - نحن المسلمين - تبرُّمٌ حتى بالمؤسسات
الإسلامية الرسمية التي استُوثِق منها بألف قيد وقيد، وحُمِّلت ألف بلية ورزية.
إن باطن هؤلاء العلمانيين يغلي غلياناً ويقذف بحمم الحقد والاشمئزاز من كل
ما يمت إلى الإسلام بصلة، هل نريد أدلة على ذلك؟ ! لِنلقِ نظرة عجلى على
أعمدة الصحف والمجلات والزوايا المتخصصة بالحديث عن الأصولية والتطرف.
إنها مرايا تنعكس عليها العلمانية في دنيا العرب قبحاً وافتراءً وغطرسة وإرهاباً
فكرياً، وإمعاناً في الاستهانة بالإسلام كدين، وبالإنسان كإنسان..(53/100)
صفر - 1413هـ
أغسطس - 1992م
(السنة: 7)(54/)
الافتتاحية
ما يحتاجه العرب
عبد القادر حامد
مَنَّ الله على العرب بنعم لا تحصى، وتفضل عليهم بما تحسدهم عليه قوى
الأرض جميعاً، وتتزاحم الدول القوية على حيازته والاستئثار به. ومن ذلك:
الموقع الجغرافي، والخيرات الظاهرة والباطنة، والعنصر البشري النشيط،
والتاريخ العريق، على أن أعظم هذه المنن، وأثمن هذه النعم؛ ما أكرمهم بهم بأن
جعل بلادهم مهبط، وجعل أجدادهم حملة الرسالة الإسلامية إلى العالم. لا شك أن
هذه المنة هي واسطة عقد النعم كلها، وإذا كانت كذلك، فإنها تستحق كل جهد
للمحافظة عليها، وإبقائها مشعّة مرفوعة. والله -عز وجل- يقول في ذلك: [لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ
ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [آل عمران 164] .
لكن هذه الحقيقة البسيطة غطى عليها ما يحجبها، فوقع الناس في الفوضى،
وفقدوا الاتجاه الصحيح، وتركوا للأفكار الوافدة تزيدهم فرقة واضطراباً، وتعيق
حركتهم، وتشغلهم عما هو مهم من إعادة بناء أمتهم، والتحرر مما كبلها، وقيد
خطاها عن العيش بين الأمم كما يليق بها.
لقد استوردنا مفاهيم غريبة، وأردنا تطبيقها في تربتنا، فلم نجن من ورائها
شيئاً نافعاً، بل تركت فينا آثاراً سيئة وزادتنا ضعفاً. ومن ذلك:
العصبية القومية، التي لم تكن مألوفة لنا بالصورة التي جاءتنا من أوربا، فقد
كانت بلادنا مجالاً يختلط فيه الناس على كافة أعراقهم وأجناسهم دون حساسية، ولا
موانع، تظلهم العقيدة الإسلامية واللغة العربية، لغة العلم والثقافة، فتجد العلماء
النوابغ الذين لم يبالوا - حيث ارتضوا الإسلام ديناً ولغة الإسلام رباطاً ثقافياً -
بأصولهم مهما كانت: فارسية، أو كردية، أو رومية، أو غير ذلك. ولكننا قابلنا
حماقة العنصريين من الترك فرددنا عليهم بحماقة توازن فعلهم، وعدو الطرفين -
أوربا - يراقب وينظر، يفرك يديه فرحاً، ويصفق للحماقات المتبادلة.
ولئن كان من دعاة القومية فريق مخلص عنده غيرة إسلامية، وتصدى لدعاة
الطورانية وفَرْضِ التتريك على الشعوب غير التركية؛ وتوخى في ذلك المحافظة
على ما يحاول هؤلاء العنصريون اغتصابه من حق العرب، ويقف عند حد إصلاح
الخلل الذي أحدثه هؤلاء؛ فلم يكن في نية هؤلاء أن ننتقل من تحكم الترك إلى
تحكم الأوربيين، وربما لم يكونوا يدركون أن نية زملائهم ممن يخالفونهم في الدين
هي القضاء على آخر ما يربط المسلم بأخيه المسلم وهو (رابطة الدين) ، ولم ...
تتكشف هذه النيات إلا بعد خراب كل شيء، وبعد أن وضعت أسس وهمية للترابط
والتناصر لم يستفد منها إلا الذين يحسنون العمل في الظلام، ويجيدون أساليب
الالتواء والتآمر: أعني تلاميذ المنصرين، خريجي المدارس التبشيرية، ومن
يرتبطون بالاستعمار وبأسباب كثيرة.
كان من آثار العصبية القومية أن انكفأ العرب على أنفسهم، وقطعوا الأواصر
التي كانت تربطهم بالمسلمين في العالم، واكتفوا بذلك السراب الذي سموه الرابطة
القومية التي لم تثمر في تاريخهم الحديث إلا الهزائم، ذلك لأن هذه الرابطة أراد
مروجوها أن تقوم على أطلال رابطة أكثر أصالة وعمقاً في نفوسهم، وكيف تكون
رابطة وهمية بديلاً عن رابطة أصيلة وعميقة، رابطة ربطها رب العالمين، وحث
عليها خاتم المرسلين؟ ! وانكمش الإسلام إلى أن يصبح شأناً شخصياً لا علاقة له
أبداً بالواقع تقويماً وتصحيحاً، بل حتى أن يكون شأناً شخصياً أصبحت مسألة فيها
نظر، فلا يترك المسلم وشأنه، فلا يستطيع مثلاً أن يلبس ما يملي عليه دينه، أو
ما يجده متلائماً مع ما اعتاده في بيئته، ولا يستطيع أن يمارس شعائر عبادته دون
أن يؤدي ذلك إلى التفرقة ضده واتخاذ المواقف في وجه ترقيته إن كان موظفاً،
ووضع العقبات في طريقه إذا كان عاملاً حراً ... ، وإذا عرفنا أن الإسلام هو دين
الصراحة والوضوح والبعد عن الدهاليز السرية في كل شيء: في شعائره وشرائعه
وآدابه ومظاهره كلها، وأن غيره من العقائد على العكس؛ أدركنا من الخاسر ومن
الرابح في الدعوة إلى أن يكون الدين أمراً شخصياً فقط.
وهكذا تحول المسلم إلى شخص غريب في بلده، يُشَكُّ بولائه إذا عرف أنه
يقوم ببعض الشعائر الإسلامية، وتوزن أعماله وتصرفاته على هذا الأساس؛ لأي
جماعة ينتمي، وبأي شخص يرتبط، ومن أين جاءه التأثير حتى فعل هذا وامتنع
عن ذاك؟ ! وتطرح هذه الشكوك والظنون على الصحافة فلا تكتف هذه الأداة
الخطيرة بتجريمه وتأثيمه؛ بل يلحق التجريم والتأثيم كل من يذكر في سياق البحث
عن المؤثرات والبواعث وتصبح مهمة إعادة الثقة إلى هذه الأسماء والهيئات عملية
مستحيلة، لأنها ضد الزمن وضد التاريخ وضد سير الأحداث، وهكذا يحيا المسلم
حياة انفصام وتمزق يعدو أثره في التشنجات والاحتقانات التي تطفو على سطح
الحياة الاجتماعية، ففريق يلوذ بتحدي المجتمع بكل سبيل، ويتمسك بدينه على
الرغم من كل شيء، وقد تصدر منه خلال ذلك أعمال غير مقبولة تزيد الحرب
ضده وتحرض عليه المجتمع فيزداد هو شعوراً بالنبذ، ويزداد المجتمع ظلماً له،
وفريق آخر يتطرف في خروجه على كل شيء له ارتباط بالدين، ويتمرد على كل
الأعراف حتى ينجو من شعور (المنبوذ) الذي يعيشه الفريق الأول، فترى هذا
الفريق يرتكب كل موبقة للوصول إلى ما يريد، وللحصول على براءة الانتماء
بقليل أو كثير إلى الفريق الأول، لأنه يدرك ثقل تكاليف هذا الانتماء.
ومن الشعارات المدمرة التي استوردناها، الاشتراكية، وفضلاً عن أن هذه
الاشتراكية أثبتت فشلها حتى في بلادها؛ فإن ما يضاف إلى أسباب فشلها الكامنة
في أصلها وأساسها عندنا أنها ظلت شعاراً خاوياً لا يؤمن به أحد حتى الذين
استوردوه، وبقيت شيئاً غريباً عن المجتمع وطاقاته، على الرغم من الدراسات
الكثيرة والطبل والزمر الذي أحاط بترويجها. نعم كان في مجتمعاتنا ظلم، وفيها
فقر، وفيها تسلط، وفيها عدم تكافؤ فرص، وفيها أمراض اجتماعية يصعب
علاجها - كأي مجتمع - ولكن لم يكن فيها صراع طبقات كالذي جاءت الشيوعية
تدعي معالجته.. كانت هذه الاشتراكية المستوردة وبالاً على المجتمع. نعم هناك
فئة أثرت بسبب هذه الاشتراكية وانتقلت من الفقر إلى الغنى ولكن هذه الفئة قليلة
بالنسبة لمجموع الشعب، وغناها لم يحل المشكلة الاساسية بل ولم يلغ الظلم
الاجتماعي، وإنما استبدلنا وجوهاً بوجوه، وأسماءً بأسماء، وزاد الظلم حبتين أو
ثلاث، فأصبحنا ممنوعين من أمور كثيرة لم نكن نمنع منها حتى في أقسى عهود
الاستعمار.
ذكرنا القومية والاشتراكية ونسختها السيئة كمثال، ولا نريد - هنا - محاكمة
ولا إدانة، وإنما نريد أن نشخص الأزمة التي يمر بها المجتمع العربي، ونريد من
الذين ساقونا إلى هذا الواقع الأليم أن يعترفوا بخطئهم ويتواضعوا. ومن اعترافهم
بالخطأ وتواضعهم أن يقروا بوجود أفكار أخرى وناس آخرين يعيشون معهم في
مجتمع واحد، تصيبهم النكسات مثلهم، ويتألمون كآلامهم، وعندهم من الغيرة
والتحرق على واقع بلادهم ما عند هؤلاء.
إن ما تحتاجه الشعوب العربية أن تعيش في سلام لا مع العدو، بل مع أنفسها، وأن تعطى فرصة تستقيل فيها من سفك الدماء ومصادرة الحريات، وتسكن فيها
الثارات والملاحقات، وأن يتنفس الناس شيئاً من هواء الحرية، ويخرجوا قليلاً من
الأجواء الملوثة، أجواء الكبت وعدِّ الأنفاس وتغذية الأحقاد، وحين يتحقق ذلك لا
بد من الاعتراف بأن الإسلام بين العرب ليس شيئاً شخصياً لا ينبغي أن يطلع عليه
أحد، وممارسة ذاتية وجدانية لا علاقة لها بواقع الحياة، لا، الإسلام عند العربي،
أكثر من المسيحية عند المسيحي، وأكثر من اليهودية عند اليهودي، وأكثر من
البرهمية والهندوسية والبوذية عند أتباعها، إنه أكثر بكثير من ذلك، ولا تأتي
أهميته من إدراك معتنقيه فحسب، بل منه هو ذاته كدين، هكذا أراده الله للعرب
الذين تشرفوا به، وأصبح لهم دور بعد أن حملوه للعالمين. وحين يضعونه وراءهم، فيهملون عقيدته ولوازمها، ويعطلون أحكامه، ويلاحقون أتباعه ملاحقة المجرمين
وقطاع الطرق - بل والله إن المجرمين وقطاع الطرق في مكانة من التكريم
والمعاملة يحسدون عليها مقارنة بمعاملة المتمسك بدينه هذه الأيام - نقول: حين
يكون هذا شأن العرب - رسمياً - مع الإسلام لا يضرون إلا أنفسهم ولا يضيفون
إلى ما هم فيه من ضعف إلا ضعفاً، وإلى أزماتهم التي هم فيها إلا أزمات جديدة.
إن ما يسمى بجهود التنمية ومشاريع التطوير لن تجدي شيئاً إذا كان المجتمع
لا يعيش في سلام مع نفسه، ولا يدرك ذاته، ولا يعرف عدوه من صديقه، ولا
يتعامل مع المشاكل والأزمات بعقل وحكمة، ومن الغريب أن في بلادنا كثيراً من
دعاة (العقلانية) وهؤلاء هم الذين يقودوننا حقيقة، وهم النخب المهيمنة - ولكن
تصرفات هؤلاء، وتقويمهم لأنفسهم وغيرهم لا يدركها عقل، ولا تتسق مع حكمة.
إننا نقول بكل الود والهدوء والثقة:
إن تكثير السجون والمعتقلات، وفتح المعسكرات في الصحاري اللاهبة للدعاة
إلى الله، وسومهم العذاب بالمئات والآلاف في أكثر من قطر عربي عار وشنار لمن
يقوم به، وتعطيل لطاقات المجتمع وإهدار لثرواته في سبيل إرضاء نزوات نفوس
مريضة ترى أنها محور الكون، وتخريب للحمة التي لا تبني المجتمعات والدول
والحضارات إلا بها، ولو وفرنا الأموال الطائلة التي تنفق على هذه المعتقلات وما
يتبعها من رواتب موظفين ومخبرين وحراساً ومستشاري تعذيب؛ لوفرنا مصدراً
من مصادر الثروة بلادنا في أشد الحاجة إليه، على أن الخسارة المادية ليست شيئاً
أمام الخسارة المعنوية التي تصيب مجتمعاتنا فتشلها عن الحركة، وتضربها بالشك
والتوجس، فتموت المثل العليا، وتحيا الفردية والأثرة والأنانية، كما هو حاصل
الآن.
إن المجتمعات لا تبنيها الحراسة، ولكن تبنيها الثقة، ولا تقوم على الملاحقة، وإنما تقوم على العدل.(54/4)
آية من كتاب الله
[وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ]
تساهم الكلمة إلى حد بعيد في إحياء الأمة الإسلامية، وبخاصة إذا ما تسربت
إلى القلوب فاستقرت فيها.. فالكلمة الصادقة الصادرة من القلب تثير عواطف
النفوس، وتحيي موات القلوب، وتدفع إلى التغيير بإذن الله. ومن هنا كان افتقاد
فقه الكلمة وأدب الحوار من الأمور التي تُفقد الدعوات روحها وتأثيرها، وتؤدي
بالمجتمعات إلى التفكك والانهيار. وفي هذا المقال نحاول الوقوف على بعض من
هذا الفقه.. فقه الكلمة..
القرآن ومسؤولية الكلمة:
يقول الله تعالى: [وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ
بَيْنَهُمْ..] ، يقولوا التي هي أحسن (على وجه الإطلاق وفي كل مجال فيختاروا
أحسن ما يقال ليقولوه، بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة، فالشيطان
ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت وبالرد السيء يتلوها، فالشيطان يتلمس من
الإنسان سقطات فمه وعثرات لسانه، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، وتحفظ حرم الإخوة
آمناً من نزغاته ونفثاته) [1] ، وهذا من أدب وفقه الكلمة بين المرء وأخيه.
هذا فيما بين المؤمنين، والأمر يتسع ليشمل ما بين المسلمين والمشركين،
فالمؤمنون مأمورون بقول: (الكلمة التي هي أحسن وألا يخاشنوا المشركين)
ذلك (أن الشيطان ينزغ بينهم) : يهيج بينهم المراء والشر، فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد فيأمر الله تعالى عباده أن يقولوا الكلمة الطيبة وألا يصرحوا لهم بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشر، بل يداروهم ويحتملوا منهم.
وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المسلمين فشكوا إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فنزلت الآية. وقيل شتم عمر - رضي الله عنه - رجل منهم فهم به
فأمره الله بالعفو [2] ، (وهو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله، يرحمك الله. وهذا قبل أن يؤمروا بالجهاد) [3] ، وهذا أيضاً من أدب وفقه الكلمة. ...
وربما اتسع الأمر ليشمل المشركين أنفسهم وكأن المعنى: (قل لعبادي الذين
اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد
والإقرار بالنبوة) [4] ، وهكذا يؤكد الله -عز وجل- على أهمية ومسؤولية الكلمة
لما لها من عظيم الأثر في حياة البشرية.
يقول سبحانه: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا]
[الأنعام 152] ، فيأمر الله تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب أو البعيد [5] ، (ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى) [6] .
الرسول القدوة.. والكلمة:
والمتتبع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد الأحاديث تتوالى
وتترى في الحض على مكارم الأخلاق وبلوغ التي هي أحسن، ففيها (الكلمة الطيبة
صدقة) [7] ، وفيها الربط بين الإيمان والخير من القول فهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) [8] ،
وفي سيرته الكريمة - صلى الله عليه وسلم - التنفير من إساءة استخدام الكلمة
فيقول - صلى الله عليه وسلم -: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة
الثرثارون , والمتشدقون، والمتفيهقون) [9] ، والقيامة هي التي يعمل ... مخافة السوء فيها العاملون، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحبيب الذي يبغى القرب منه المحبون فكيف لا يحسنون استخدام الكلمة وهي أمامهم وسيلة القرب والنجاة حتى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النجاة: (أمسك عليك لسانك) [10] ، ويقول: (من يتكفل لي ما بين لحييه ورجليه، أتكفل له بالجنة) [11] ، ويقول - عليه الصلاة والسلام-: (أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة
لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) [12] .
هكذا يرفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قيمة الكلمة ويثقل ميزانها..
ويبلغ الأمر منتهاه في تحديد مسؤولية الكلمة في قوله: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما
يتبين فيها - أي يتفكر أنها خير أم لا - يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق
والمغرب) [13] ، وهكذا كانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم أحسن،
وإذا صمت أبلغ، حتى كان هذا الخلق هو ما عايشه أصحابه منه فيقول أنس -
رضي الله عنه -: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما
قال لي أفٍ قط، ولا قال لشيء فعلته: لِمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟
وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً..) [14] .
وهكذا ربى أصحابه الكرام فعرفوا للكلمة حقها، وحفظوا لها قدرها، فكان
لسانهم منهم دائماً على بال حتى: (يضع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه-
الحصاة في فيه ويمنع نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول هذا الذي
أوردني الموارد..، وحتى يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: والله
الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان..، ويقول الحسن: ما
عقل دينه من لم يحفظ لسانه [15] ، ويقول ابن عمر - رضي الله عنه -: إن
أحق ما طهر الرجل لسانه، وحتى يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (من مزح استُخِفّ به) . هكذا كانوا، وبهذا حفظ لهم التاريخ تلك العلامات المضيئة
على صفحته. وهكذا يجب أن يكون كل من يريد أن يحمل تبعة التمكين لدين الله
في الأرض.
الدعاة والموعظة الحسنة
إن الله سبحانه يدفع عباده دائماً - والدعاة إليه منهم خاصة - ليقولوا التي هي
أحسن، وأن يتخلقوا بالقول اللين، فنجده سبحانه يأمر موسى وهارون -عليهما
السلام- وهما مرسلان إلى أعتى الطواغيت، أن يتخلقا به فيقول: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] [طه 244] ، (فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا
يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه إنه يوقظ القلب فيتذكر
ويخشى عاقبة الطغيان) [16] ، وهكذا فمن أدب وفقه الكلمة أن تعرف وتحسن كيف تدعو.
ثم الله سبحانه تعالى يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك التوجيه
الكريم، ولمن كان يرجو الله واليوم الآخر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أسوة حسنة. فيقول سبحانه: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل 125] ، فاللسان هو وسيلة البيان، ووسيلة
البلاغ، ولكن لا بد لهذا البيان وذلك البلاغ من أدب وفقه، (والله تعالى يرسي هنا
القواعد والمبادئ ويعين الوسائل والطرائق، ويرسم المنهج لمن كان في موضع
البلاغ.. فمن الحكمة النظر في أحوال الخاطبين وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في
كل مرة، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها
.. والموعظة الحسنة تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، ذلك
والجدل بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف، ولا إزراء به ولا تقبيح يجعله
يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع
والوصول إلى الحق) [17] .
(وهكذا فالناس دائماً في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة
سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم، وضعفهم، ونقصهم.. في حاجة إلى
قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه
ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية، والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا
كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة، وهكذا كانت حياته مع
الناس ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري [ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ] [آل عمران 159] ) [18] ،
أي (فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما لله تعالى) [19] .
فما أحوج الدعاة إلى الله إلى أن يعوا مسؤوليتهم ويحملوا تبعتهم وأن يضيئوا
طريقهم بهديه - صلى الله عليه وسلم -.
كلمة أخيرة
إن الكلمة وسيلة البلاغ، وإن للكلمة لفقهاً.. فعلى من يقف في موقف البلاغ
أن يعي (أن المبلغ عن الله (بين الله وعباده) يجب أن يكون أداة صالحة. ولذلك يقول ابن القيم في قول الله: [واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي] [طه 41] بمعنى الاصطفاء لموسى، قال ابن عباس: اصطفيتك لوحي ورسالتي.
وكون المبلغ عن الله أداة صالحة فإنها لا يجب أن تتجاوز حدود الأداة والسبب، فسببية الدعاة إلى الله تحمي الدعاة من ثلاثة أخطار:
أولاً: خطر الغرور، إذا تحققت الاستجابة. والاعتقاد أن الداعية مجرد سبب
في الهداية يحميه من هذا الشعور.
ثانياً: خطر اليأس، إذا كان الإعراض. ذلك أن الداعية يشعر أنه أدى ما
عليه وأن الأمر بيد الله.
والأمر الثالث: هو خطر الخروج بالدعوة عن موضعها بملاحقة من لا
يستحقون الدعوة، وإهمال دعوة من يستحقون الدعوة.
ويجب على الداعية المبلغ عن الله أن يجمع كل سنن التأثير في النفس
البشرية.. سنة العمل: فلا يخالف قوله عمله، وسنة القدوة: فيكون هو النموذج
العملي للمنهج، وسنة المنفعة: وهو تأليف القلوب وإقامة الحجة مثلما جاء من قصة
أصحاب الأخدود، التواضع ف (أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعجب
جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى
الضعفاء والخصوم بمعنى التحقير والازدراء، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها
مع ظهور فسادها) [20] ، وسنة القوة: إذ أن التخلف والضعف يصدان عن اتباع
الحق [21] .
ويجب على الداعية (أن يتلطف في إبلاغ الحق وأن يمهد له، وإن كان ثمة
شيء فيه شديد الغرابة على واقع الناس ومفهومهم فلا يفجأهم به) ، (فتأمل ذكره
سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر السبيبة وبلوغه السن الذي
لا يولد فيه لمثله من العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من
غير أب، فإن النفوس لما أنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة
سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب) [22] .
كذلك على الداعية أن يتسلل في إبلاغ الحق تسللاً منطقياً فلا يتقدم بأحكام ثم
يأتي لها بحيثيات ولكن يقدم المقدمات فتأتي بعدها نتائجها في غاية اليسر بلا
اعتساف ولا عنت، ثم عليه أن يراعي التدرج في إبلاغ الحق فالتدرج سمة
الجماعة المسلمة في نموها وتأمل قوله تعالى: [كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ] [الفتح 29] [23] ، كذلك على الداعية ألا يكتم شيئاً من العلم، وأن يختار لدعوته ما يناسبها ويحقق أهدافها عن طريق البيان الذي لا يدع الحق
ملتبساً على الناس، وإذا أحس من نفسه عدم القدرة على ذلك أحال من يحدثهم إلى
ما يستبينون به الحق من كتب، أو رسائل، أو عالم يقدر على البيان والبلاغ
المبين، هذا كله من أدب وفقه الكلمة ومسؤوليتها..
أخي الداعية.. قد يكون الحسن أن تدعو إلى الله وإلى دين الله ولكن الأحسن
أن تدعو إليه على بصيرة فتراعي الكيف والحال والمكان والزمان..
ما أحوجنا اليوم لذلك الفقه النادر (فقه الكلمة) حتى يكون لدعوتنا الأثر
الطيب.. وحتى تؤدي كلماتنا وظيفتها الاجتماعية.. ولنكون قبل ذلك وبعده
متخلقين بخلق القرآن الكريم الذي يأمرنا: [.. وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ
أَحْسَنُ..] .
__________
(1) الظلال في تفسير الآية - بتصرف -.
(2) البيضاوي في تفسير الآية - بتصرف -.
(3) القرطبي في تفسير الآية - رواية عن الحسن -.
(4) القرطبي في تفسير الآية.
(5) ابن كثير في تفسير الآية.
(6) الظلال في تفسير الآية.
(7) صحيح البخاري باب الجهاد.
(8) متفق عليه وفي رواية للبخاري ومسلم: (أو ليسكت) .
(9) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(10) صحيح البخاري ومسلم.
(11) صحيح البخاري.
(12) صحيح رواه أبو داود.
(13) متفق عليه.
(14) الصحيحين.
(15) موعظة المؤمنين.
(16) الظلال في تفسير الآية - بتصرف -.
(17) الظلال في تفسير قوله تعالى [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ]- بتصرف -.
(18) الظلال في تفسير قوله تعالى [ولَوْ كُنتَ فَظاً]- بتصرف -.
(19) البيضاوي في تفسير قوله تعالى [ولَوْ كُنتَ فَظاً]- بتصرف -.
(20) الشاطبي في الموافقات والاعتصام نقلاً عن الإمام الغزالي.
(21) قدر الدعوة - رفاعي سرور - بتصرف.
(22) أعلام الموقعين 4/163 - ابن قيم الجوزية.
(23) كتاب - حد الاسلام ص 7-8 - للشيخ عبد المجيد الشاذلي.(54/10)
تدوين العقيدة الإسلامية
في القرن الثالث الهجري
عثمان جمعة ضميرية
كانت بداية التدوين في علم العقيدة في القرن الثاني الهجري تحت عنوان
(الفقه الأكبر) ، وتلا ذلك في القرن الثالث الهجري مصطلح جديد هو (الإيمان) -
كما لاحظنا في العدد السابق - وفي هذا القرن أيضاً شاع مصطلح جديد، أصبح
عنواناً لكثير من الكتب في العقيدة الإسلامية، وهو (السنة) . وهذا ما سنلمح إليه
في هذا المقال.
3- السُّنَّة:
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) (3/ 60-61) :
(سن - السين والنون أصل واحد مطَّرد، وهو جريان الشيء واطراده في
سهولة. والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنُّه سَنَّاً، إذا أرسلته إرسالاً..
ومما اشتق منه: السنُّة، وهي السيرة. وسنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيرتُه. قال الهُذَليُُّّ:
فلا تَجْزَعَنْ من سِيرَة أنتَ سِرْتَهَا ... فأولُ راضٍ سنةً من يَسِيرُهَا
فالسنة في اللغة: هي الطريقة المسلوكة، محمودةً كانت أو مذمومة، ومنه
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر
من عمل بها من بعده..) [1] .
والسنة أيضاً: هي العادة، قال تعالى: [سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ] ، أي
هكذا عاداتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم
يأتيهم العذاب [2] .
وفي الشرع تطلق على معانٍ، منها الشريعة، وبهذا المعنى جاء قولهم:
الأولى بالإمامة الأعلم بالسنة: أي بأحكام الشرع.
ومنها الطريقة المسلوكة في الدين، فتنتظم المستحب والمباح، كما تنتظم
أيضاً الواجب والفرض.
وتطلق في عرف الفقهاء واصطلاحهم على الطريقة المسلوكة في الدين من
غير افتراض ولا وجوب.
والمراد بالطريقة المسلوكة في الدين: ما سلكها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وغيره ممن هم علم في الدين، كالصحابة - رضي الله عنهم - لقوله عليه
الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ..) [3] .
وتطلق عند علماء أصول الفقه على ما صدر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - من قول أو فعل أو تقرير. فهي هنا مصدر من مصادر التشريع، كالقرآن
الكريم.
وعلماء الحديث يريدون بالسنة: ما نقل عن النبي من قول أو فعل أو تقرير
أو صفة خَلْقِية أو خُلُقية أو سيرة، مطلقاً - أي قبل النبوة أو بعدها - وهي بهذا
مرادفة لمعنى الحديث.
كما تطلق السنة أيضاً: على ما يقابل البدعة، كقولهم: طلاق السنة كذا،
وطلاق البدعة كذا، وفلان على سنة وفلان على بدعة. وهاتان الكلمتان (السنة
والبدعة) تستعملان دائماً كلمتين متضادتين - كما رأيت - لأن السنة هي الطريق
الذي كان عليه الرسول وأصحابه، والبدعة هي ترك ذلك الطريق والانحراف عنه
وسلوك طريق آخر مخترع، فلهذا كانت الأولى هدايةً والثانيةُ ضلالة [4] . ...
ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن السنة تقتضي المواظبة والاستمرار، وهي
أعم من الحديث، لأنها تتناول الفعل والقول والتقرير، والحديث لا يتناول إلا القول، وهذا فارق ما بينهما.
ومن هذه الإطلاقات لمعاني كلمة السنة، يظهر أنها تطلق بمعنى شرعي عام
يشمل ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، من
الاعتقادات والأعمال والأقوال. وهذه هي السنة الكاملة. ولهذا كان السلف قديماً لا
يطلقون السنة إلا على ما يشمل ذلك كله. وروي معنى ذلك عن الحسن البصري
والأوزاعي والفضيل بن عياض [5] .
ثم إن كثيراً من العلماء المتأخرين يخصُ اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد فحسب، لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم [6] .
وعلى هذا المعنى الخاص جاء استعمال علماء السلف لكلمة (السنة) عنواناً
على جانب العقيدة وأصول الدين فيما كتبوه بياناً للعقيدة ابتداءً، أو رداً على الفرق
المخالفة، ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة.
وقد شرح ابن أبي عاصم هذا المعنى للسنة، وذكر أهم مباحثها، فقال في (كتاب السنة) (2/445-447) :
(السنة اسم جامع لمعان كثيرة في الأحكام وغير ذلك. ومما اتفق أهل العلم
على أن نسبوه إلى السنة: القول بإثبات القدر، وأن الاستطاعة مع الفعل للفعل..
والقرآن. كلام الله تبارك وتعالى.. والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإثبات
رؤية الله عز وجل.. وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب رسول الله بعده وهو
الخليفة خلافة النبوة، ثم عمر بن الخطاب.. ثم عثمان ابن عفان بعده ثم علي
بعدهم على مثل ذلك -رحمهم الله جميعاً -.
ومما قد ينسب إلى السنة -وذلك عندي إيمان- نحو عذاب القبر، ومنكر
ونكير، والشفاعة والحوض، وحب أصحاب رسول الله.. والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والتعاون) .
وقد ساد اصطلاح السنة في القرن الثالث الهجري في عصر الإمام أحمد بن
حنبل حين ظهرت الفرق وراجت عقائد المعتزلة والرافضة والصوفية وأهل الكلام.
فأخذ أئمة الإسلام - حينذاك - يطلقون على أصول الدين ومسائل العقيدة: (السنة)
تمييزاً لها عن مقولات الفرق..
وهذا - أي وصف العقيدة وأصول الدين بـ (السنة) - وإن كان معروفاً في
عصر الصحابة، إلا أنه لم يكن مشهوراً، إنما يدل عليه مثل قول عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه: (من ترك السنة كفر) فإن التكفير من الصحابة لا يكون إلا في أمر عظيم كأصول الدين وأمور الاعتقاد، كما يدل عليه قول عليّ - رضي الله عنه -: (الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه) ، فإن مثل هذا الحكم إنما يتأتى في أصحاب العقائد والأهواء والفرق الضالة) [7] .
وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل
السنة، مثل حمّاد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن عبد الرحمن
الدارمي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم في طبقتهم. ومثلها ما بوَّب عليه
البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم في كتبهم. ومثل مصنفات
أبي بكر الأثرم، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر الخلاَّل، وأبي القاسم الطبراني،
وأبي الشيخ الأصفهاني.. وسائر أهل العلم ممن صنَّفوا في السنة [8] .
ونجتزئ هنا ببعض المصنفات مرتبة حسب وفيات مؤلفيها، وكلها تحت اسم
(السنة) :
(كتاب السنة) لابن أبي شيبة (235 هـ) ، كتاب السنة للإمام أحمد ...
(241هـ) ، وللإمام ابن هانئ تلميذ الإمام أحمد (273 هـ) ، ولأبي علي حنبل بن إسحاق (273 هـ) ولأبي داود السجستاني صاحب السنن (275 هـ) ، ولابن أبي عاصم (287 هـ) ، وعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل (290 هـ) ، وللمرزوي (292 هـ) .
وممن كتب في العقيدة تحت عنوان (السنة) في القرن الرابع الهجري: أبو
بكر الخلاّل (311 هـ) ، والطحاوي (321 هـ) ، والعسَّال الأصفهاني
(349 هـ) ، والطبراني (360 هـ) ، وأبو الشيخ الأصبهاني (396 هـ) ، وابن شاهين (385 هـ) ، ومحمد بن نصر المروزي (394 هـ) ، ومحمد بن إسحاق بن منده (396 هـ) واللالكائي (418 هـ) .
وهذه المصنفات أُلِّفت للحض على اتباع السنة والعمل بها، وترك ما حدث
بعد الصدر الأول من البدع والضلالة والأهواء [9] مع بيان أصول العقيدة
الإسلامية أو جوانب منها.
ولو أخذنا بعض ما وصلنا من هذه المؤلفات في (السنة) لوجدنا قاسماً مشتركاً
في المسائل والأبحاث التي تشكل الركيزة الأساسية فيها، وقد ينفرد كتاب منها في
بعض المسائل دون سائر الكتب، وقد يتوسع بعضها ببسط الأدلة بينما يختصرها
كتاب آخر. وقد تذكر بعض هذه الكتب المسائل مجردة عن الأدلة، وقد نجد في
بعضها جملة من المسائل والقضايا التي تخرج عن موضوع البحث في العقيدة، أو
لا ترقى إلى أن تكون من مسائل الاعتقاد.
والمنهج الذي سلكه المصنفون في (السنة) يكاد يكون منهجاً واحداً، يتلخص
في أنه يترجم للباب ترجمة موجزة، وقد تطول في بعض الكتب، ثم يسوق جملة
من الآيات والأحاديث والآثار التي تتناسب مع العنوان، وقد يروي الأحاديث من
طرق متعددة، بإسناده، أو مجردة من الإسناد، كما أن بعضهم قد يتكلم في الرواية
وينقدها، وغالباً ما نجد في عناوين الأبواب إشارة إلى الرد على الفرق المخالفة،
بل نجد ذلك صراحة أيضاً. ومن خلال الردِّ والمناقشة تتضح الفكرة التي عقد
المصنف الباب من أجلها.
ولم يكن - فيما يبدو - من منهج هؤلاء الأئمة المصنفين في السنة أن يتحروا
الأحاديث الصحيحة في الباب، وإنما يجمعون الروايات التي وصلت إليهم في
المسألة، ولهذا أوقع في بعضها أو في كثير منها بعض الأحاديث الضعيفة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وفي سائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين؛ أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي قسمان: منها ما يكون كلاماً باطلاً، لا يجوز أن يقال، فضلاً عن أن يضاف إلى النبي.
والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض الناس،
ويكون حقاً، أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهباً لقائله، فيعزى إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي
وضعها أبو الفرج الأنصاري، وجعلها محنة يفرِّق فيها بين السني والبدعي! وهي
مسائل معروفة عملها بعض الكذابين وجعل لها إسناداً إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
وهذه المسائل - وإن كان غالبها موافقاً لأصول السنة - ففيها ما إذا خالفه
الإنسان لا يكون مبتدعاً، مثل: أول نعمة أنعمها الله على عبده..
فالواجب أن يفرّق بين الحديث الصحيح والمكذوب، فإن السنة هي الحق دون
الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة. فهذا أصل عظيم لأهل
الإسلام ولمن يدَّعي السنة خصوصاً) .
وبهذه الكلمات النيرة نقفل الكلام عن العقيدة في القرن الثالث الهجري، كيما
نرصد تطور الكتابة في القرن الرابع تحت عنواني (التوحيد) و (الشريعة) .
ونسأل الله العون والتوفيق.
__________
(1) قطعة من حديث اخرجه مسلم: 2/705.
(2) انظر تعريفات الجرجاني ص 161، تفسير ابن كثر: 3/54.
(3) أخرجه أبو داود 7/ 1، والترمذي 1/438، وابن ماجه 1/16، والدارمي 1/44، وصححه الحاكم 1/95 وابن حبان ص 56 من موارد الظمآن، وابن أى عاصم 1/17، واللالكائي 1/85، والبغوي في شرح السنة 1/205، وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 243.
(4) انظر: الكليات للكفوي: 3/9-12، كشاف اصطلاحات الفنون: 4/ 53-57، السنة ومكانتها في التشريع للسباعي ص 47-49، حجية السنة لأستاذنا الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله- ص 20-22.
(5) ومما ينبغي التنبيه إليه هنا أمران اثنان: أولهما: أن بعض الناس يقصرون التأسي على جانب واحد من السنة، وهو الجانب المظهري للمسلم، ويغفلون سائر الجوانب الأخرى، فيقولون (فلان سنيّ) لأنه أطلق لحيته مثلاً مع أننا لا نقلل من أهمية هذا الجانب، فإن هناك ارتباطاً وعلاقة بين المظهر أو الشكل والمضمون - وينسون الجوانب الأخرى وهي على غاية الأهمية، كالعقيدة السليمة، والعلم الشرعي، والأخلاق الخ وثانيهما: أن بعضهم يتساهل بالمشروعات مما هو في مرتبة السنة، بحجة أنها سنة - بالمعنى الفقهي - يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها مع أن العلماء قد نصّوا - بناء على أحاديث تحض على التمسك بالسنة - على أن من يعتاد على ترك السنة يعاقب، وأنه مسيء، وأن تارك السنن المؤكدة يعاقب، وقال بعضهم: ياثم بتركها انظر: كشاف اصطلاحات الفنون: 4/54.
(6) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (249) ، وانظر: الوصية الكبرى لابن تيمية بتحقيقي ص (60) ، كشف الأسرار على البزدوي: 1/8، دليل الفالحين لابن علاَّن: 1/415.
(7) مفهوم أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر عبد الكريم العقل ص 42- 43.
(8) الوصية الكبرى لابن تيمية ص 60-63.
(9) انظر: نموذج من الأعمال الخيرية، لمحمد منير الدمشقي ص 259.(54/18)
إلى الموقعين عن رب العالمين
الشيخ عبد الله بن حسن القعود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله
وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإلى أخوتي وأحبتي في الله، إلى من استشهد الله بهم على أجل وأعظم
مشهود عليه: توحيده الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وخلق الثقلين ليعبدوه
به، إلى من استشهد بهم على هذا الأمر، ولم يذكر لهم وصفاً غير وصفهم بالعلم،
لأن المفترض في طالب العلم أن يكون على حال تؤهله للشهادة بالحق وعلى الناس
يوم يقوم الأشهاد، لا لشهادة الناس عليه بالتقصير في البلاغ والبيان. إلى من
اصطفاهم الله لحمل شرعه، واستحفظهم كتابه، إلى من تفرش لهم الملائكة أجنحتها، ويستغفر لهم من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، إلى من
أخذ عليهم العهد بالبيان وألا يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، إلى من هم أعلم الناس
بالله وشرعه [وَيَرَى الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ] [سبأ] ، [وإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا
مِنَ الحَقِّ] [المائدة 83] ، [أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى..] [الرعد، 19] .. إلى من هم أعلم الناس وأدرك الناس لمدلول ومقتضى
نصوص المراقبة ومدلول ومقتضى نصوص إرادة الدنيا بعمل الآخرة كقوله سبحانه: [واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ] [البقرة 253] ، [يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ] [غافر 19] ، [وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ] [الملك 13] ، وكقوله سبحانه: [مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا
وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ] [هود 15] ، [مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن
نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً] [الإسراء 18] ، [وَلا تَشْتَرُوا
بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ] [البقرة 42] .
إلى هؤلاء أوجه تذكيري ونصحي، لا لأني أديت واجباً فأنا في مقدمة
المقصرين وصغار طلبة العلم؛ ولكن لتجربة مرت بي، فقد حصل لي نصائح ممن
هو أقل مني سناً وعلماً كان لها أثر في نفسي - جزى الله من أسداها إلي خيراً -
وقديماً قيل: قد يكون في النهر ما ليس في البحر.
قال -عليه الصلاة والسلام-: (رب مبلَّغ أوعى من سامع) ، وقال تعالى عن نبيه موسى أنه قال للخضر: [هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً]
[الكهف 66] ، وأخص بتوجيه نصيحتي بعد تعميمها الذي هو الأصل، ذوي الصلة
القوية بالسلاطين والمترفين، فإن الافتتان - حسب السنن - أسرع إليهم منه إلى
غيرهم، بل إليهم أسرع من السيل إلى منحدره - وقانا الله وإياهم شر الافتتان -
قال عليه الصلاة والسلام: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب ...
السلاطين افتتن) [1]- أي عرض نفسه للفتنة - وقال -عليه الصلاة والسلام -:
(ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه) [2] ، إلى هؤلاء وأمثالهم من المتسابقين إلى أعتاب المترفين ... والمبادرين بتأول أخطائهم وتبرير وتأييد ما هو محل نظر من أفعالهم، وإلى من يسعون كثيراً مع عالم مصلح ليعدل عن عمل بر بدأه، أو ليسكت عن منكر أنكره، فإني أخاف على نفسي وعليهم في موقف ما من خطورة مخالفة ما استحفظهم الله إياه أمثال: [ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة 12] ، [رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ] [القصص 17] ، [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكِيلاً] [النساء 109]
[واحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ] [المائدة 49] [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وإنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ ولِيُّ المُتَّقِينَ] [الجاثية 19]
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ] [محمد 19] .
فيا علماء المسلمين الموقعين عن رب العالمين: المفترض فيكم أن تكون
أعمالكم وأقوالكم ومعاملاتكم مادية أو أدبية بياناً وتفسيراً وإظهاراً لشرع الله، أقول
لكم مذكراً لا معلماً: تنبهوا جيداً لما يصدر منكم من أقوال أو أفعال أو تقريرات
حول الأمور العامة، وما يطلبه ولاة الأمر خاصة، فقد يؤخذ عنكم أمر يصعب
عليكم تداركه، وتحقيق قول الله فيه: [إلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا] [البقرة
160] فيما لو استبان لكم خطؤه بعد. فلا أخطر على الأمة أفراداً أو جماعات،
حكاماً أو محكومين من تأول أو تساهل أو زلة عالم - وقانا الله وإياكم شرها -
اذكروا في كل ما تأتون وما تذرون وخاصة في هذا الشأن، موقفكم أمام الله الذي لا
تخفى عليه خافية، الذي أوجدكم وعلمكم لتكونوا شهداء على الناس بالبيان والبلاغ
الحق يوم يقوم الإشهاد يوم لا خلة ولا شفاعة، يوم يتبرأ المتبوعون من التابعين،
فلقد وجدتم وعلمتم لتُتَّبَعوا بعلمكم لا لتتبعوا به، ولم يكن ذلك بالنسبة لكم محل
اختيار، فأوامر الله تقتضيه، وما يهدد به تلاحم العلماء، والتفاف الشباب حولهم
يستدعيه، فلقد أدركت قوى الشر أن ذلك قوة تهدد مصالحها فأخذت تعمل جادة
بأساليبها المتنوعة على خلخلة مكانة العلماء في النفوس أحياء أو أمواتاً لتفصل من
استطاعت فصله عنهم، كفصل عربات القطار عن غرفة قيادتها، مما يتطلب منكم
تضييق المجال أمامها ومواقف أسلافكم وتحفظاتهم معروفة لديكم، ومن أقربها
فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-، وبالأخص ما هو موجه
منها لولاة الأمر، أو يتعلق بالتوحيد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربط
الله خير أولكم بآخركم، وخير آخركم بأولكم، وجعلني وإياكم خير خلف لخير سلف، صدقوا ما عاهدوا الله عليه نصيحة أخ مشفق على نفسه وعليكم وعلى الأمة التي
خيرتها وحياتها العادلة السالمة من الغلو والجفاء في التأصيل بكم في كل أمر من
أمورها، أقر الله أعينكم بذلك وأبعدكم عن ضده مما أبرزه العلماء للعلماء تحذيراً لهم
من الوقوع فيه.
قال ابن رجب -رحمه الله- في شرحه لحديث ما ذئبان جائعان: واعلم أن
الحرص على الشرف يستلزم ضرراً عظيماً قبل وقوعه، في السعي في أسبابه،
وبعد وقوعه، بالحرص العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر
وغير ذلك من المفاسد، وقد صنف أبو بكر الآجري - وكان من العلماء الربانيين
في أوائل المائة الرابعة مصنفاً في أخلاق العلماء وآدابهم، وهو من أجل ما صنف
في ذلك، ومن تأمله علم منه طريقة السلف من العلماء، والطريق التي حدثت
بعدهم المخالفة لطريقتهم، فوصف فيه عالم السوء بأوصاف طويلة منها أنه قال:
وقد فتنه حب الدنيا: الثناء والشرف والمنزلة عند أهل الدنيا، يتجمل بالعلم كما
تتجمل بالحلية الحسناء للدنيا ... فتذلل للملوك وأتباعهم فخدمهم بنفسه، وأكرمهم
بماله، وسكت عن قبيح ما ظهر له من الدخول في إيواناتهم وفي منازلهم من أفعالهم، ثم قد زين لهم كثيراً من قبيح فعلهم بتأويله الخطأ ليحسن موقعه عندهم، فلما فعل
هذا مدة طويلة واستحكم فيه الفساد ولّوه القضاء فذبحوه بغير سكين، فصارت لهم
عليه منة عظيمة، ووجب عليه شكرهم فآلم نفسه لئلا يغضبهم عليه فيعزلوه عن
القضاء، ولم يلتفت إلى غضب مولاه الكريم.. إلى قوله عنه فالويل لمن أورثه
علمه هذه الأخلاق، وهذا العلم هو الذي استعاذ منه النبي - صلى الله عليه
وسلم ... وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع، إلى قوله: هذا كلام الإمام أبي بكر
الآجري - رحمه الله -، وكان في أواخر الثلاثمائة، ولم يزل الفساد بعده متزايداً على ما ذكرناه أضعافاً مضاعفة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال -رحمه الله-: - أعني بن رجب - ومن دقيق آفات حب الشرف طلب
الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به،
المحبون له، الذين يعادون له من جهال خلقه، المزاحمون لربوبيته وإلهيته، مع
حقارتهم وسقوط منزلتهم عند الله وعند خواص عباده العارفين به كما قال الحسن -
رحمه الله- فيهم: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل
المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.. وقال: ومن هذا الباب أيضاً
أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله ويثنى عليه بها، ويطلب من
الناس ذلك ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب
منه إلى المدح، وربما أظهر أمراً حسناً، في الظاهر وأحب المدح عليه وقصد به
في الباطن شراً، وفرح بتمويه ذلك وترويجه على الخلق، وهذا يدخل في قوله
تعالى: [لا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ] [آل عمران 188] ، فإن هذه الآية إنما نزلت فيمن
هذه صفاته وهذا الوصف - أعني طلب المدح من الخلق ومحبته والعقوبة على
تركه - لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له.
ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أعمالهم وما يصدر منهم من
الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له فإن
النعم كلها منه ... ا. هـ.
وبهذا وبأمثاله يتذكر طالب العلم أن قيمته في دنياه وأخراه في صيانة علمه،
وتقوى الله فيه، وبعده به أن يشتري به ثمناً قليلاً، وأنه كلما ابتعد عن المجالس
التي لا يقول في أهلها قولته فيهم أمامهم كما يقولها فيهم إذا خرج من عندهم وابتعد
كذلك عما تطوق به الرقاب وتخرس به الألسن من أعطيات خاصة به مادية أو أدبية
كلما كان أثبت لجأشه وأكثر لاحترامه وأدعى لقبول قوله، وإنه بفقدان ذلك يهون
هواناً عظيماً أشبه بهوان اليد التي كانت ثمينة لما كانت أمينة ولما خانت هانت.
وليعتبر علماؤنا بموقف الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، حين دخل
عليه الجبار إبراهيم باشا وكان في حلقة العلم مع طلابه ماداً رجله، فما غيَّر جلسته، وما أَبَه لهذا الداخل الذي كانت تهتز لمروره الأرض، ثم بعد خروجه أرسل له
رسولاً معه صرة من المال ليقدمها إليه هدية من الأمير يستعين بها على قضاء
حوائجه فقال للرسول: قل للأمير، إن من يمد رجله لا يمد يده! [3]
وأختم النصح بأنه إذا كان لطالب العلم في أي عصر أو مصر مكانة وصدارة
حقة يؤدي فيها وبها واجب النصح الحقيقي المأخوذ به العهد فغشيان أبوابهم لنصحهم
وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أولى من البعد عنهم. أما من لم يكن كذلك
فيفر منهم فراره من الأسد حفاظاً على نفسه من الافتتان.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا] [آل عمران8] [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ
واتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] [آل عمران 53] . وصلى الله وسلم على
عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح الجامع 6122.
(2) حديث صحيح رواه أحمد والنسائي وغيرهما.
(3) والقصة في كتاب: رجال من التاريخ، لعلي الطنطاوي.(54/26)
خواطر في الدعوة
التجمعات الصغيرة
محمد العبدة
لا ضير على من يتصدى للدعوة أن يتكلم عن الأخطاء والأمراض التي توهن
العمل وتضعف الصف، فإن الكلام في مثل هذه الأمور ليس من التشاؤم ولا من
التثبيط، ولكنه من الإصلاح الذي تحتاجه الدعوة باستمرار.
داء قديم سرى إلى التجمعات الإسلامية كنا نسميه مشكلة (الشِلَلْ) وهو أن
يتجمع عدد قليل ممن تتقارب أسنانهم أو ثقافتهم أو جمعهم الأقليم الواحد، وقد يكون
هذا طبيعياً في البداية، ولكن بسبب انسجام آرائهم، يتطور الأمر ليشكلوا أداة
ضغط على العمل ويتعصبون لبعضهم، ويقدمون الخدمات لأنفسهم، ويحاولون
كسب الأنصار، ولا مانع عندهم من وضع الناس في غير مواضعهم وعلى حساب
الكفاءة والإخلاص، وتسير الأمور بهذه الطريقة وتصبح كأنها ظاهرة طبيعية فيشار
إليها ضمن العمل الكبير ويقال: مجموعة فلان أو (شلة فلان) . وهذا المرض إذا لم
يتنبه له في البداية يستفحل ويؤثر تأثيراً سلبياً على الدعوة.
وعودة إلى السيرة النبوية وفقهها ترينا كيف منع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - مثل هذه التجمعات التي تبنى على القرب الجغرافي أو الانسجام في
النفسيات، وذلك بأن استفاد من الطاقات المبدعة ووضع كل إنسان موضعه،
وشغلهم بالنافع والمفيد، ولم يقرب أحداً لقرابة أو لمغنم أو مغرم، فالكل يرى نفسه
منسجماً مع الدعوة له مكان فيها، ولكن عندما تقع أخطاء مثل هذه من الكبار فمن
الطبيعي أن يكون رد الفعل انحرافات مثلها، فيتجمع العدد القليل ليثبتوا أنهم
موجودون وأن لهم تأثيراً وفاعلية.
وقد يكون من الطبيعي أن ينسجم عدد محدود مع بعضهم على ألا يؤدي هذا
إلى عمل جيوب داخل الجماعة، وعلى من يمارس عملاً مثل هذا أن يتقي الله،
ويشعر بالمسؤولية ولا يزكي أحداً إلا على أساس الكفاءة والاخلاص.(54/33)
لقطات
من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم
محمد بن عبد الله الدويش
هذه وقفات يسيرة مع هديه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم، ولا شك أن
هذا الباب واسع ويحتاج لاستقصاء وجمع لا يتيسر لأمثالي، لكن هذا غاية ما
توصلت إليه في بحثي القاصر، ورحم الله من أفادنا بملاحظة، أو إضافة، أو
توجيه.
عنايته بتعليم المنهج العلمي:
ففي تربيته العلمية لأصحابه ما كان يقتصر على تعليم أصحابه مسائل علمية
فقط، بل ربى علماء ومجتهدين، وحملة العلم للبشرية. ولقد ظهرت آثار هذه
التربية على صحابته في مواقفهم بعد وفاته من حادثة الردة، وجمع القرآن،
وشرب الخمر، واتخاذ السجون، والخراج وغير ذلك من المسائل التي اجتهد فيها
صحابته -رضوان الله عليهم-، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوازل التي واجهتهم، واستطاعوا أن يتوصلوا فيها للحكم الشرعي، كل ذلك كان نتاج التربية التعليمية
التي رباهم عليها - صلى الله عليه وسلم - ومن معالم تعاليمه المنهج العلمي:
1- كان يعودهم على معرفة العلة ومناط الحكم:
فلما سئل عن بيع الرطب بالتمر، قال: (أينقص الرطب إذا جف؟) ، قالوا
نعم، فنهى عن ذلك [1] . وحين نهاهم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قال لهم: ... (أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟) [2] . وحين قال: (وفي بضع ...
أحدكم صدقة) ، قالوا له: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: (أرأيتم ...
لو وضعها في حرام أكان عليه وزر) ، قالوا نعم، قال: (فكذلك إذا وضعها في ...
حلال كان له أجراً) [3] .
ففي هذه النصوص علم أصحابه علة الحكم ومناطه، ولم يقتصر على الحكم
وحده.
2- كان يعودهم على منهج السؤال وأدبه:
ففي موضع يقول: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل ... عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته) [4] ، و: (إن الله كره ... لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال) [5] فها هنا يذم السؤال، ... ... لكنه في موضع آخر يأمر بالسؤال، أو يثني عليه. (ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما ... شفاء العي السؤال) [6] ، (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث ... أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث) [7] .
3- كان في إجابته لا يقتصر على موضع السؤال بل يجيب
بقاعدة عامة:
سأله رجل: إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإذا توضأنا به عطشنا،
أفنتوضأ بماء البحر؟ فلم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - في إجابته على قوله نعم، ... وإلا كان الحكم قاصراً على الحالة موضع السؤال وحدها، إنما أعطاه حكم ماء ...
البحر وزاده فائدة أخرى يحتاج إليها حين قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته [8] ، ويعني هذا أن ماء البحر له سائر أحكام الماء الطهور، وليس فقط يجوز ... الوضوء به في هذه الحالة. وسئل: ما يلبس المحرم من الثياب؟ ، فقال: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين) [9] ، فلم يعدد له ما يجوز للمحرم لبسه بل أعطاه قاعدة عامة فيما يحل وما لا يحل للمحرم لبسه.
4- تربيته لأصحابه على منهج التلقي:
عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول
الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن ...
تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجد) [10] ، وقال في وصف
الطائفة الناجية: (من كانوا على ما مثل أنا عليه اليوم وأصحابي) [11] . وحين ...
رأى مع عمر صحيفة من التوراة غضب، ونهاه عن ذلك، وقال: (لو كان موسى
حياً ما وسعه إلا اتباعي) [12] .
5- تربيتهم على منهج التعامل مع النصوص:
خرج على أصحابه وهم يتمارون في القدر، هذا ينزع آية، وهذا ينزع آية
فغضب حتى كأنما فقىء في وجهه حب الرمان من الغضب. وقال: (بهذا أمرتم،
أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ ! ، انظروا إلى ما أمرتكم به فاتبعوه، وما
نهيتم عنه فاجتنبوه) [13] .
6- تعويدهم على الاستنباط:
سأل أصحابه يوماً: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، ... فحدثوني ما هي) . قال ابن عمر - راوي الحديث - فوقع الناس في ... شجر البوادي، قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: (هي النخلة) [14] .
تربيته لأصحابه على القيام بواجب العلم
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) [15] . ...
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (بلغوا عني ولو آية) [16] . وقال - صلى الله ...
عليه وسلم -: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ ...
أوعى من سامع) [17] . وقد روى هذا الحديث (24) من أصحابه مما يشعر أنه
قاله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من مناسبة.
وانظر إلى أثر هذه التربية في قول أبي ذر -رضي الله عنه-: (لو وضعتم ...
الصمصامة - السيف - على هذه - وأشار إلى رقبته - واستطعت أن أنفذ كلمة
سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن تجهزوا علي لأنفذتها) [18] .
ترغيبه أصحابه في العلم
ولا شك أن لذلك الترغيب دوراً كبيراً في إيجاد الحماسة لدى طالب العلم
للتعلم، والاستزادة من ينابيعه. فحين جاء ثلاثة نفر وهو جالس مع أصحابه فجلس
أحدهم خلف الحلقة، والآخر رأى فرجة فجلس فيها، وأما الثالث فأعرض، فقال -
صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: (أما الأول فآوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا
فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه) [19] .
تشجيع الطالب والثناء عليه:
سأله أبو هريرة -رضي الله عنه- يوماً: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال -
صلى الله عليه وسلم -: (لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك
لما علمت من حرصك على الحديث) [20] ، فتخيل معي أخي القارئ موقف أبي
هريرة، وهو يسمع هذا الثناء وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ -
صلى الله عليه وسلم -، بحرصه على العلم بل وتفوقه على الكثير من أقرانه،
وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص أو الاجتهاد.
وحين سأل أبي بن كعب: (أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟) ، فقال ...
أبي: (آية الكرسي) ، قال له: (ليهنك العلم أبا المنذر) [21] . ...
الجمع بين التعليم الفردي والجماعي:
في كثير من النصوص نقرأ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً مع
أصحابه، بينما كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا نموذج للتعليم
الجماعي. وأما التعليم الفردي فنماذجه كثيرة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-:
(علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه) [22] . ومن
ذلك ما ورد من غير واحد من أصحابه: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -. ومن ذلك حديث معاذ: (كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم -
على حمار فقال: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله..) [23] . ...
معرفة قدرات تلامذته وإدراكهم العقلي:
فهو يقول لأبي هريرة حين سأله عن الشفاعة لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن
هذا الحديث أول منك لما أعلم من حرصك على الحديث [24] .
التوجيه للتخصص المناسب:
روى البخاري تعليقاً والترمذي عن زيد بن ثابت: أن قومه قالوا للنبي -
صلى الله عليه وسلم -: ها هنا غلام من بني النجار حفظ بضع عشرة سورة،
فاستقرأني فقرأت سورة ق، فقال إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو
ينقصوا، فتعلم السريانية. فتعلمها - رضي الله عنه - في سبعة عشر يوماً.
العناية بتعليم المرأة:
فحين صلى العيد - صلى الله عليه وسلم - اتجه إلى النساء فوعظهن وأمرهن
بالصدقة [25] ، بل تجاوز الأمر مجرد استغلال اللقاءات العابرة، فعن أبي سعيد
الخدري -رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك) ، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن ...
وأمرهن فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار) ، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: (واثنين) [26] . ...
استغلال المواقف في التعليم
قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي، فإذا امرأة من السبي تحلَّبَ
ثديها تسقي؛ إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال:
(أترون هذه طارحة ولدها في النار) ، قالوا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه،
قال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها) [27] .
التشويق والتنويع في عرض المادة:
فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: (أتدرون ما الغيبة) [28] ، ...
(أتدرون من المفلس) [29] ، (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي) [30] ولا شك أن السؤال مدعاة للتفكير ... وتنميته، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يكون أرسخ في الذهن.
وأحياناً يغير نبرات صوته: (كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا ... صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم) [31] .
وأحياناً يغير جلسته كما في حديث أكبر الكبائر: (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا ... ...
وقول الزور، ألا وشهادة الزور) [32] .
استعمال الوسائل التعليمية:
أ- فهو يشير تارة بقوله: (أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بأصبعه ... السبابة والوسطى) [33] ، وقوله: (الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان) وأشار بيده إلى المشرق [34] .
ب- وتارة يضرب المثل، أو يفترض قصة: (مثل القائم في حدود الله
والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، ... وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا ...
خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، ... وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً) [35] . وكما في قوله: (لله أفرح بتوبة ... ...
عبده من أحدكم سقط على دابته وقد أضلها في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه ...
فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فقام فإذا هي عند رأسه) [36] . ...
ج- وتارة يستعمل الرسم للتوضيح فقد خط خطاً مستقيماً وإلى جانبه خطوط، ... ... ...
وقال هذا الصراط وهذه السبل. ورسم مربعاً وقال هذه الإنسان.. [37] . ...
د- وأحياناً يحكي قصة واقعية من الأمم السابقة، كما في قصة الثلاثة الذين ...
آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم [38] . وقصة الذي قتل تسعة ...
وتسعين نفساً [39] ، وأمثالها كثير.
مراعاة الفروق الفردية
كما ورد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب فدخل رجل فقال: يا ... ...
رسول الله رجل غريب يسأل عن دينه، فترك خطبته ودعا بكرسي فجلس يعلمه ثم ...
عاد لخطبته [40] .
العناية بالتعليم:
كما في الحديث السابق، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه فجاء ...
رجل فسأل عن الساعة فمضى في حديثه. فقال قوم: سمع ما قال فكره ما قال،
وقال قوم: لم يسمع. ثم سأل مرة أخرى: متى الساعة؟ فمضى في حديثه، فلما ...
انتهى من حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة، فقال: أنا، فقال - صلى الله ...
عليه وسلم -: إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما إضاعتها؟ قال: إذا
وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة [40] ، فهو - صلى الله عليه وسلم - رغم
أنه لم يقطع حديثه لم ينسَ هذا السائل ولم يهمله.
وحين خطب في حجة الوداع قال أبو شاه: اكتبوا لي , فقال: اكتبوا لأبي
شاه [41] .
تأكيد ما يحتاج التأكيد:
فقد حلف على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين: (والله لا يؤمن.. والذي
نفسي بيده.. وأيم الله..) وغيرها كثير.
مراجعة العلم والحفظ
فقد أوصى حفاظ القرآن بتعاهده والعناية به: (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي
بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها) [42] ، وكان جبريل يدارسه القرآن [43] .
وحين علم - صلى الله عليه وسلم - البراء دعاء النوم قال: أعده علي , فقال: ...
وبرسولك - الذي أرسلت فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل وبنبيك الذي
أرسلت [44] . ... ... ...
__________
(1) رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي والحاكم.
(2) رواه الشيخان وابو داود وابن ماجه من حديث أنس.
(3) رواه مسلم وأحمد.
(4) رواه أحمد والشيخان وأبو داود من حديث سعد.
(5) متفق عليه من حديث المغيرة، ورواه مسلم وأحمد عن حديث أبي هريرة.
(6) رواه أبو داود من حديث جابر وصححه الالباني في الإرواء (105) .
(7) رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
(8) رواه الأربعة وصححه البخاري وابن خزيمة والترمذي وابن المنذر.
(9) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر.
(10) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح.
(11) رواه أبو داود غن ابن عمرو وحسنه الألباني.
(12) رواه أحمد والدارمي وحسنه الألباني بشواهده في الإرواء.
(13) رواه أحمد وابن ماجه وصححه أحمد شاكر.
(14) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عمر.
(15) رواه أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة.
(16) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو.
(17) حكى السيوطي والكتاني والزبيدي تواتره.
(18) رواه البخاري تعليقاً.
(19) رواه مالك والبخاري عن أبي واقد.
(20) رواه البخاري عن أبي هريرة.
(21) رواه مسلم.
(22) متفق عليه.
(23) رواه أحمد والشيخان عن أنس.
(24) رواه البخاري.
(25) رواه البخاري عن ابن عباس.
(26) رواه البخاري عن أبي سعيد.
(27) متفق عليه من حديث عمر.
(28) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة.
(29) رواه أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة.
(30) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عمر.
(31) رواه مسلم عن جابر.
(32) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أبي بكرة.
(33) رواه أحمد والبخاري وأبو دادو والترمذي عن سهل.
(34) متفق عليه من حديث ابن عمر.
(35) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن النعمان بن بشير.
(36) متفق عليه من حديث أنس.
(37) رواه البخاري والترمذي عن ابن ماجه.
(38) متفق عليه من حديث ابن عمر.
(39) متفق عليه من حديث أبي سعيد.
(40) رواه مسلم وأحمد عن أبي رفاعة.
(41) رواه البخاري عن أبي هريرة.
(42) رواه أحمد والشيخان عن أبي موسى.
(43) رواه البخاري والنسائي وأحمد.
(44) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي من حديث البراء.(54/35)
تأملات في واقع الحياة
الأُخوة
بين النظرية والتطبيق
محمد الناصر
كثيراً ما يستشهد الدعاة إلى الله، بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، خلال
خطبهم ومحاضراتهم، وذلك حق لا غبار عليه.
إذ استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين، وشاطروهم الأموال وساكنوهم في
الديار، ثم بذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله. ولذلك كان حب الأنصار
جزءاً من عقيدة الإسلام وبات بغضهم نفاقاً يزري بصاحبه. قال تعالى: [والَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] .
وفي الحديث الشريف: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق ... بغض الأنصار) (صحيح البخاري، كتاب الإيمان) .
بهذه الأخوة قام المجتمع المسلم في مدينة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -.. إذ تجاوز هذا التآخي النظريات والشعارات إلى عالم التطبيق الجاد.. ذلك أن المغترب بدينه يشعر بفرحة عجيبة تنسيه آلام الغربة وفراق الديار والأحباب، وتخفف عنه طغيان الجاهلية التي تطارده أينما توجه لتفتنة في دينه وتؤذيه في عرضه وأبنائه..
واليوم كم من المشردين المسلمين، الذين يهيمون على وجوههم هرباً بدينهم
من نيران الجاهلية المعاصرة أو طغيان الأنظمة الفاجرة! فهل يجد هؤلاء من
إخوتهم الناصر والمعين؟
لا شك أنه توجد حفنة من المؤمنين الأخيار في كل بلد، يخففون من المأساة،
ولكن كم تبلغ نسبة هؤلاء الطيبين؟ ! إن الغالبية مع الأسف تنظر إلى هؤلاء
المنكوبين بمقياس الربح والخسارة في التعامل، لأن جوانب الحياة باتت تلف كثيراً
من قطاعات المجتمعات في ديار المسلمين. وإلا فما معنى أن يعرض على خريج
الجامعات ومن يحمل الاختصاصات العليا راتب لا يزيد عن أجر العامل أو سائق
السيارة، مستغلين حاجة هذا الأخ، دون تقدير لوضعه وكرامته ومؤهلاته؟ ! حجة
هؤلاء أن العرض أكثر من الطلب وأن المؤسسة هذه قد لا تتاح لها الأرباح
الخيالية.. شأن بقية المؤسسات والشركات..
أخي القارئ، عندما نقول: إن الأنصار توسعوا لإخوانهم في بيوتهم، ثم نجد
أن كثيراً من العمارات خالية طوال السنة، وأن كثيراً من إخوة العقيدة ربما لا يكفي
دخلهم أجور مسكنهم، ثم نطلب منهم أن يستمعوا إلى حديثنا عن آفاق التآخي في
مدينة رسول الله، فهل يجد هؤلاء لكلامنا معنى؟ أم أن الواقع المرير يغني عن كل
مقال [1] ؟ ! .
عندما يأتي الإخوة الصغار يطلبون من أحدنا عوناً ما مادياً أو معنوياً، فهل
نعطيهم من وقتنا ومن أنفسنا ما يشعرهم بلحمة التآخي، ومعاني الموالاة بين
المؤمنين؟ ! أم أننا نعتذر بكثرة المشاغل وثقل التبعات وتعقيد أمور الحياة؟ !
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستوقفه المرأة تسأل أو الرجل
صاحب الحاجة، وكذلك كان خلفاؤه وأصحابه فلا تذمر ولا شكوى.
وعندما يواجه بعض إخوة الدين مشكلة ما؛ هل نعطيها من وقتنا وتفكيرنا ما
تستحقه؟ أم أن اللامبالاة تكون هي الرد الطبيعي، مما يصفع كثيراً من هؤلاء؟ !
إن المسؤولية ضخمة، وما علينا إلا أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا.
أن نتقي الله في حمل الأمانة، فقد أصبح الانفصام بين النظرية والتطبيق أمراً
مخيفاً منفراً..
إننا لكي نساهم في بناء مجتمع مسلم قوي؛ فلا بد من تآخٍ يعيد للمسلمين
الصورة الناصة للإخوة بعيداً عن الكلام والنظريات.
__________
(1) هذا مقال يوضح الفجوة بين الكلام النظري في الإخوة وبين التطبيق، ولا يراد منه أن تسكن البيوت بدون أجرة
- البيان -.(54/45)
سنن الفطرة وآثارها التربوية
صالح أبو عرَّاد الشهري
إن الإسلام دين الفطرة التي قال فيها الحق سبحانه: [فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا] وتتمثل هذه الفطرة في طهارة المسلم ظاهراً وباطناً، فأما طهارة
الباطن فهي متعلقة بالقلب وتعني تطهير النفس الإنسانية من الشرك بالله، وتتطلب
إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والقيام بالأعمال الصالحة والأفعال الخيرة.
وأما طهارة الظاهر فهي الفطرة العملية التي تشتمل على كل ما كان متعلقاً بجمال
المظهر عند الإنسان المسلم وحسن سمته. لما في ذلك من ملاءمة للفطرة السوية
التي خلق الله الإنسان عليها، والتزام بهدي النبوة المبارك. فعن ابن عباس -
رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الهدي الصالح
والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) رواه أبو
داوود.
ولأن الإسلام هو دين الفطرة الذي عرف أسرارها، وكشف خباياها، وسبر
أغوارها، فقد قدم لها ما يُصلحها وما يصلح لها من تعاليم وسنن وتوجيهات جاءت
كالثوب المناسب لمختلف الأعضاء، والملائم لشتى الأبعاد. لذلك كله جاءت سنن
الفطرة لتشكل رافداً من روافد التربية الجمالية في حياة المسلم، ولتعرض نموذجاً
مثالياً لحياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كما إنها تحقق معنى التوازن
الذي تفتقده جميع الفلسفات البشرية التي عرفها الإنسان قديماً وحاضراً حيث إنها
ترتكز مرة على الجانب الجسدي، وتارة على الجانب العقلي، وأخرى على الجانب
النفسي وهكذا..
كل هذا يعني أن سنن الفطرة تضع الشخصية المسلمة في وضع متوازن عادل
يمثل الوسطية المطلوبة فلا إفراط ولا تفريط. وليس هذا فحسب بل إن هذه السنن
في مجموعها تمنح الإنسان تكريماً إلهياً يأتي كأبدع ما يكون التكريم.
وهذا البحث يقدم من خلال سنن الفطرة نموذجاً للتربية الإسلامية يتحقق في
كرامة الإنسان المسلم الذي أراد الله -جل وعلا- أن يكون خليفة في الأرض،
ويتمثل في توازن شخصيته في جوانبها المختلفة، كما يتحقق فيه أيضاً هدف
التربية الغائي في استقامة الإنسان واستقامة الحياة، وذلك أسمى ما تصبو إليه
التربية، عند بنائها لشخصية الإنسان المسلم.
سنن الفطرة نموذج تربوي نبوي:
تحتاج كل تربية إلى نموذج واضح يجسد معالم هذه التربية ويوضح تعاليمها
بصورة واقعية تنقل المجرد إلى محسوس، والقول إلى عمل، والنظرية إلى تطبيق.
وفي التربية الإسلامية لا يوجد أعظم ولا أكمل ولا أفضل من شخصية
محمد - صلى الله عليه وسلم - لتكون نموذجاً حياً، وقدوة حسنة للإنسان المسلم في كل زمان ومكان. ولا ريب فهو من اصطفاه ربه -جلا وعلا- وقال فيه:
[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] [الأحزاب 21] . وهو الذي بعثه الله لأمته معلماً ومزكياً ومربياً. قال تعالى: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ] [آل عمران 164] . وهو الذي مدحه ربه سبحانه بما منحه فقال له سبحانه في كلمات موجزات: [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم 4] . فكان كل خلق فاضل وسلوك سليم
متمثل في حياة رسول الله وشخصيته المتكاملة التي استوعبت كل جوانب الحياة.
وبذلك جسَّد الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهج التربية الإسلامية السامية
في الواقع العملي لحياته متمثلاً في سنن الفطرة. من هنا كان للمحافظة على هذه
السنن أثر تربوي عظيم يتمثل في أن التزام المسلم بها وتطبيقه لها في واقع حياته
يدل على أمرين هما:
* التصديق بما ورد في سيرة الرسول والتقليد والاتباع لهدي التربية النبوية
في كافة الأعمال وجميع التصرفات. وهذا بدوره كفيل بتعود المجتمع المسلم بمن
فيه من أفراد على السمع والطاعة والامتثال لأوامر الله والرسول - صلى الله عليه
وسلم -، لا سيما وأن في الناس نزعة فطرية لتقليد ومحاكاة من يحبون، وليس
هناك أحب عند المسلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* اتخاذ القدوة الحسنة من المعلم الأول والمربي الأعظم - صلى الله عليه
وسلم - كشخصية فذة متكاملة متوازنة. وتتضح هذه القدوة في اهتمامه بالجوانب
المتعلقة بالجانب الجسمي والنظافة العامة حينما يتفقد المسلم أظافره فيقصها، وفمه
فينظفه، وأسنانه فيسوكها، وشاربه فيقصه، وإبطيه فينتفهما ... إلخ.
وهذا بدوره ينفي الزعم الباطل القائل بأن الإسلام لا يهتم بالناحية الجسمية بل
ويؤكد قضية التوازن في اهتمام التربية الإسلامية ورعايتها لمختلف الجوانب
الجسمية والروحية والعقلية، فلا يستغرب بعد ذلك أن يعرف المسلم لأول وهلة
حين يرى سمته ووقاره، وهيئته الخارجية وشكله العام الذي يميزه عن غيره من
الناس. لأن هذه السنن في مجموعها جعلت له شخصية مميزة، ومظهراً خاصاً،
ونموذجاً فريداً يقتدي فيه بإمام الطاهرين وقدوة الناس أجمعين - صلى الله عليه
وسلم -.
سنن الفطرة والتربية الجمالية:
تدعو التربية الإسلامية دائماً، وتحث على الاهتمام بالمظهر الشخصي ...
والناحية الجمالية، ليكون المسلم جميلاً في مظهره، متناسقاً في هندامه، بعيداً عن
الدروشة والقذارة والإهمال. قال تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ] [الأعراف 31] . فالله سبحانه كما جاء في الحديث: (جميل يحب الجمال) . ...
وليس هذا فحسب بل إن في ذلك إشباع لحاسة الجمال في نفس المسلم، فيتولد في
أعماقه إيمان شديد بعظمة الخالق سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي
صورنا فأحسن صورنا، وخلقنا في أحسن تقويم.
ومن عناية الإسلام بالمظهر الحسن والهيئة الجميلة أمره للمسلم وحثه إياه
للالتزام بسنن الفطرة التي تربي المسلم تربية جمالية تتمثل في:
* الطهارة الحسية الجسدية، وهي مما يحبه الله سبحانه. قال تعالى: [واللَّهُ
يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ] [التوبة 108] . ولما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال: (تنظفوا فإن الإسلام نظيف) رواه ابن حبان. ويتمثل ذلك في تطهير ...
البدن بالوضوء والغسل فينعكس ذلك بدوره على المظهر الخارجي.
* الطهارة المعنوية التي تغرس في النفوس تطهير الضمير كعبادة وطاعة
وامتثال لأوامر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه التربية الجمالية تؤدي بدورها إلى تطهير النية والعمل والسلوك،
فنظافة المظهر مدعاة لنظافة الجوهر، ونظافة الشكل مدعاة لنظافة الضمير،
ونظافة الفرد مدعاة لنظافة المجتمع. وبذلك يتحقق بعد تربوي إسلامي عظيم متمثل
في طهارة المجتمع المسلم طهارة معنوية من الفواحش والمعاصي والذنوب والآثام،
فترتفع النفس المسلمة من رجس الفوضى وأوحال الوحشية إلى نظافة الأخلاق
وتهذيب السلوك. ومن ثم يتم تطهير الحياة الاجتماعية عامة حتى تصبح التربية
شاملة للنفس والعقل والجسم.
وليس هذا فحسب بل إن في هذه السنن مدعاة لتأليف القلوب ومد جسور
المحبة والمودة، وتوطيد الصلة بين الإنسان المسلم وزوجه، فتكون حياتهما مبنية
على الرحمة والمودة، وقائمة على السكن والراحة والقبول. وليس أجمل من أن
يكون - كلا الزوجين مناسباً للآخر، وملائماً له، مقبولاً عنده في شكله وهيئته لأن
ذلك مدعاة للائتلاف والرضى، وسبب مباشر لقناعة كل منهما بالآخر. وهذا بدوره
سيؤدي إلى استمرارية سعادتهما الزوجية.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة تحتذى في هذا الشأن. يقول
ابن الجوزي: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظف الناس وأطيب الناس) . وقد قالت الحكماء: من نظف ثوبه قلّ همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، ومن ...
طال ظفره قصرت يده. ثم إن المسلم بالتزام سنن الفطرة يقرب من قلوب الخلق،
وتحبه النفوس لنظافته وطيبه. كما أن سنن الفطرة تنمي لدى الإنسان الإحساس
بالجمال، وتنمي طاقاته وملكاته المستشعرة لمعنى الجمال في خلق الله سبحانه.
وأحسب أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله جميل يحب
الجمال) إنما هو دعوة إلى التخلق والتحلي بالجمال الذي هو البهاء والحسن وجمال ...
الصورة وجمال المعنى على حد سواء.
سنن الفطرة والتوازن في شخصية المسلم:
مما لا شك فيه أن الكيان البشري يشتمل على عدة وحدات هي: الجسم،
والعقل، والروح. ولذلك فإن التربية الإسلامية حرصت على الربط بين هذه
الوحدات لتجعل منها كياناً واحداً مترابطاً، واختطت لذلك منهجاً فريداً في إحاطته
بجميع الجوانب الإنسانية، فجاء هذا المنهج متوازناً مهتماً بالذات الإنسانية في كل
حالاتها. ولا ريب فهي تربية للإنسان كله جسمه وعقله، روحه ووجدانه، خُلقه
وسلوكه، سرائه وضرائه، شدته ورخائه، أي أنها تشمل كل الجوانب الشخصية
دون قهر أو كبت أو فوضى أو تسيب أو إفراط أو تفريط.
ولذلك جاءت شخصية الإنسان المسلم متوازنة سوية متكاملة، لا يطغى فيها
جانب أو يهمل على حساب الجانب الآخر. وهذا هو ما نلمسه في هذه السنة هي
التي إلى جانب كونها من المظاهر الدنيوية فهي عبادة يثاب عليها المرء، وتكسبه
الأجر والثواب متى قصد بها وجه الله سبحانه والاقتداء بهدي النبوة. وهذا بدوره
يربط بين الهدفين الديني والدنيوي للتربية الإسلامية. وبذلك يتحقق التوازن في
شخصية الإنسان المسلم حينما نرى أن التزامه بهذه السنة يجعل الجسم يحظى بحق
من العناية والرعاية والاهتمام فيما يخص المظهر الخارجي والشكل العام اللائق
المقبول. فيدل ذلك على أن الإنسان ينعم بعقل راجح وتفكير سديد، ومدارك واسعة
وفهم عميق لحقائق الأشياء وجوهرها. الأمر الذي يدفعه من ثم إلى السمو الروحي
والرفعة الإنسانية والتعالي عن سفاسف الأمور وصغائرها وحطامها المادي الحقير.
كما أن اتباع المسلم لما يسمى بسنن الفطرة يؤدي إلى ما يسمى بالقبول
الاجتماعي للفرد. حين يقترب منه الناس ويطمئنون إليه ويعاملونه بكل حب وتقدير
واحترام لأنه يفرض ذلك عليهم بحسن مظهره وحسن تدبيره. لذلك كله نقول ونؤكد
أن دين الإسلام هو الدين الوحيد القادر على ربط الإنسان بخالقه وإصلاح حاله في
كل زمان ومكان حينما يمشي على الأرض بجسم، ويتوجه بروحه إلى السماء
ليستمد منها أنوار الهداية والمعرفة فيحكم عقله فيها ويختار منها ما يناسب حاله،
ويوافق قدراته، ويلبي حاجاته، فتسير حياته وفق منهج مستقيم وهدي قويم.
سنن الفطرة دليل تكريم الله للإنسان المسلم:
لما كان الدين الإسلامي هو المنهج الرباني المتكامل والمناسب للفطرة
الإنسانية، لأنه جاء من عند الخالق -عز وجل- لصياغة شخصية الإنسان صياغة
متوازنة متكاملة، لا ترفعه إلى مقام الألوهية، ولا تهبط به إلى درك الحيوانية أو
البهيمية، وإنما لتجعل منه خير نموذج على الأرض؛ فقد خصه -جل وعلا-
بتكريم يليق به لكونه جُعل في الأرض خليفة ليعمرها وينشر منهج الله بين ربوعها
ويقيم شريعته فيها. ثم لأنه - جلا وعلا - خلقه في أحسن تقويم فكرمه بالصورة
الحسنة والمظهر الجميل، فكانت سنن الفطرة عاملاً مهماً في إبراز هذا الجمال
والمحافظة عليه. وليس هذا فحسب بل إن الله كرم الإنسان بأن نفخ فيه من روحه، قال تعالى: [إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ
* فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [سورة ص 71-72] .
فكان ذلك تكريماً للكائن البشري وتمييزاً له عن سائر المخلوقات، إضافة إلى ما
خصه الله به من نعمة العقل. فكان للجانب العقلي انعكاس على سلوكه وتصرفاته
تجعله يحكم ذلك العقل كثيراً، لا سيما وأن ذلك العقل يعد مناط التكريم الإلهي
للإنسان.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن في هذه الخصال والسنن النبوية نمطاً تربوياً إسلامياً
يتناسب مع مسئوليات هذه الخلافة ووظائف تعمير الكون، إلى جانب كونها تحقق
مبدأ التكريم الإلهي للإنسان في هذه الحياة الدنيا. وهو أمر يتميز به الإنسان عن
غيره من الكائنات الحية الأخرى لقوله تعالى: [ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي
البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]
[الإسراء 70] . ففي قص الأظافر مثلاً تمييز للإنسان المسلم عن غيره من الكائنات
ذات المخالب من كواسر وقوارض ونحوها. وفي حلق الشعر وقصه ونتفه تمييز
للإنسان المسلم عن غيره من المخلوقات ذات الشعور المرسلة، والمسدلة على
أجسادها بلا ترتيب ولا انتظام. وفي السواك والمضمضة تمييز للإنسان المسلم عن
غيره من الكائنات التي لا تنظف أفواهها ولا تعتني بنظافة أسنانها.. وهكذا.
وهذا فيه رفع لمستوى الإنسان المسلم وتكريم له على غيره من الكائنات
والمخلوقات الأخرى لذا كان على الإنسان المسلم أن يحترم هذه المكانة التي أنزله
الله إياها، وألا يهبط بها عن مستواها الإنساني الرفيع الذي خصه الله به عمن سواه. ... ومن هنا نرى أن سنن الفطرة دليل على تكريم الخالق سبحانه للإنسان المسلم
لأمرين هما:
* إن تكريم الله سبحانه للإنسان نابع في الأصل من كون هذا الإنسان يحمل
منهج الله في الأرض، وأن هذا المنهج يعتمد على مصدرين رئيسيين أحدهما متمثل
في اتباع الهدي النبوي والسنة المطهرة.
* أن من السنة الاقتداء برسول الله، وهذا يحصل للمسلم عن طريق محافظته
على سنة الفطرة.
سنن الفطرة والاستقامة الإيمانية:
من المسلمات أن التربية الإسلامية تسعى إلى تحقيق غاية عظمى، وهدف
أسمى يتمثل في استقامة النفس البشرية على نهج الإيمان الواضح الصحيح الذي لا
تشوبه شائبة، وذلك أمر لا يمكن تحقيقه إلا بممارسة شرائع الإسلام واتباع تعاليمه، والانقياد لأوامره والابتعاد عن نواهيه. فالاستقامة إذاً مرحلة ثانية تأتي بعد
الإيمان لأنها أثر من آثاره ونتيجة من نتائجه. قال تعالى: [ومَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ
أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً] [النساء: 125] . وقال -
صلى الله عليه وسلم -: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم. فهذه الاستقامة ...
الإيمانية لا تتحقق إلا بالفقه الشرعي ومعرفة أمور الدين، والإحاطة بتعاليمه،
ورعاية الأخلاق وتطبيقها في واقع الحياة ليصبح الإنسان المسلم بذلك كله قدوة
صالحة وأسوة حسنة. ثم لأنه متى استقام قلب المسلم على معرفة الله سبحانه وعلى
خشيته وتقواه في كل لحظة وفي كل صغيرة وكبيرة؛ استقامت جوارحه كلها على
الطاعة والامتثال.
وهذا يؤهل من قام به والتزمه ليكون من حملة الرسالة الخالدة الذين قال الله
سبحانه فيهم: [إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا
ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] [فصلت 30] .
ومن هنا يمكن القول بأن من ثمرات التزام المسلم بسنن الفطرة ما تحققه من
ملامح الاستقامة الإيمانية عنده حينما يطبها بشكل مناسب ومقبول يعتمد في المقام
الأول على الاعتدال والاتزان والاتباع لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - دونما
إفراط أو تفريط. إضافة إلى تربية المسلم على الاستمرارية والمواصلة والمحافظة
على هذه السنن المباركة والخصال الحميدة لما فيها من خير للفرد وصلاح المجتمع.(54/48)
هوية الأمة الإسلامية
محمد محمد بدري
لكل أمة من الأمم (ثوابت) تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة. وفي طليعة هذه
الثوابت تأتي (الهوية) باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي
يستقطب حوله أفراد الأمة. ولا تستحق أمة من الأمم وصف (الأمة) حتى تكون لها
هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم. وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه
الأفراد حول (هوية) ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك
أفرادها، وتكيف ردود أفعالهم تجاه الأحداث، ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة
بهويتهم، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسر تعاونهم في
سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى.
كما أنه من البديهي أيضاً، أن الأمة إذا فقدت (هويتها) ، فقدت معها استقلالها
وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد
حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في
الأمة، وتموت الأمة، بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما
تجذب جثة الثور الميت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطع أوصاله، مع أنها
كانت في حياته تمتلئ رعباً من منظره! !
وهذا ما يحدث للأمة في ظل فقدان الهوية.. حيث السقوط الحضاري..
وتداعي الأمم. فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة (الميتة) ، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن
يكشف عن هوية هذه الأمة، ويجلي أبعاد خصوصيتها بين الأمم، ليساعد ذلك في
الدفع النفسي والشعوري إلى إحياء مجد الأمة التليد، والمساهمة الفعالة في السبق
الحضاري من جديد.
هوية الأمة الإسلامية:
ليس تحديد (الهوية) ترفاً فكرياً، أو جدلاً فلسفياً بل هو أمر جاد يتعلق - بل
يقرر - طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها (إذ أن الإنسان لا يستطيع أن ...
يحدد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ ومن يكون؟ وماذا
يريد؟ وبدون هذا الحسم (للهوية) الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعال من أي
قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة) [1] ولذلك لا بد أن نسأل أنفسنا: ... من نحن؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟ .. فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا على ضوء ذلك
إلى تحديد ماذا نريد؟ .. ومن ثم كيف السبيل؟ وإذن فتحديد الهوية يعرفنا بأهدافنا
التي نريدها، والأسلوب الذي نتوصل به إلى هذه الأهداف..
فما هي هويتنا؟
لا شك أن هويتنا الأصيلة هي الإسلام، وأن (الإسلام (كانتماء) هو القاسم
المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبرى، ولا شيء غيره ... وإذا ما نحينا الإسلام جانباً، ... فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك
لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتداداً للإسلام) [2] الذي هو الهوية الراسخة ...
في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي
الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة
الإسلامية ... وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية؟ ! ...
فأمّا إنها عبرة التاريخ: (فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية لا إله ...
إلا الله محمد رسول الله.. وكان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في
بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو
كلمة التوحيد، فكلما حل أرضاً وجد فيها له أخوة في الإيمان، وإن كانت الألسنة
مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات
الجاهلية) [3] .. ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من (شاطئ ... المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادئ، ولم يعتبر في قطر مر به أجنبياً، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً، ولم يراقب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه) [4] ... فقد كان أفراد الأمة في تحركهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيرات دخول أو خروج، لأن الإسلام بلور (هويتهم) الحقيقية، ومنحهم (الجنسية) الإيمانية، وزودهم بروح الأخوة والمودة.
لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يرى
أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء. ولذلك لم تكن له قابلية للشعور
بالغضاضة في أن يعيش على أرضه، بل ويحكمه (مسلم) من بلد آخر.. فصفة
الإسلام تجب ما عداها، ورابطة الدين تغني عما سواها.
ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه (كانت نظرة المصريين دوماً إلى المماليك -
وهم ليسوا أولي جذور مصرية - نظرة المسلمين إلى المسلمين، الذين قد تكون لهم
كحكام مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدت ذلك إلى اعتبارهم وافدين على
الوطن) [5] .
ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلى العالم من حوله،
نظرة إسلامية محددة، يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام
الإسلامي، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الإسلام) .. وأن الأرض التي لا
يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الحرب) .
.. وبقي الدين عنصراً بارزاً في وعي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو
المُشَكّل لهوية الأمة الإسلامية.. فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وإن شابه بهوت في بعض المفاهيم.. وهو الذي ينشط حركة الفرد في محيطه
الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..
(وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها على الفرنسيين ... وهم يعدون العدة للتعامل مع الشعب المصري، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلى المصريين كان باب الدين.. الذي استغله نابليون منافقاً، بصورة ساذجة وسطحية. فهذا هو المنشور الذي وجهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، ثم يقول: يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا للمغتربين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله -سبحانه وتعالى-، وأحترم نبيه والقرآن الكريم.. ثم يضيف كاذباً: أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرنلجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي: محبون للمسلمين المخلصين) ! !
ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري،
بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول - عنده، قدمهم (كمسلمين مخلصين) أو على
أقل تقدير (محبين للمسلمين المخلصين) ! !
لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل - رغم كل ما شاب
وجوده الحقيقي من خلل - سمتاً غالباً في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع
وسبب الدولة [6] . ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوها ...
بوصفهم (مصريين) إزاء (فرنسيين) .. وإنما بوصفهم (مسلمين) يقاتلون (الكفار)
الذين يحتلون أرضهم والدليل على أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد (الصليبيين)
أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصب على الأزهر بوصفه
عنصر المقاومة للغزو الصليبي.. وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان (الحلبي) الذي
قتل كليبر لم يكن (مصرياً) ، إنما كان (مسلماً) دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة
الصليبية الموجهة إلى أرض إسلامية.
وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن
الإسلام (كهوية) للأمة، كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر
صلابة في مواجهة أعدائها.. وذلك المثال هو ثورة 1919 م في مصر..
لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال..
واشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد.. وكانت الجماهير تستمع إلى خطباء
الأزهر الذين يشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاصب ...
وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية، ويرون في ذلك الخطورة البالغة،
كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله: إن الثورة تنبع
من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة.. أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى
القاهرة [7] .
وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها [8] ثورة (إسلامية) .. وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف تدور حول ضرورة الثورة ضد (الكفار) المغتصبين..
وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة (الخلافة) .. وكان الناس
يرون أن (الأزهر) هو الجدير - في حسهم - أن يقود الثورة الإسلامية. ...
وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو
الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ..
وكانت (الهوية الإسلامية) هي الحافز الرئيسي الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها،
سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حروب الفرنجة، أو غيرها..
حيث كانت الأمة تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية، فسرعان ما تنهزم
قوى الباطل ويعود المسلمون إلى امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في
العالمين.. هذه هي عبرة التاريخ..
وأما درس الواقع.. فقد (أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن ...
الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها
النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، ... وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة
في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستغلة، على الرغم من غزو الحضارة
الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها) [9] ، ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج
الذي يمثل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلى أهدافها
الحضارية..
وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله.
بالفكر والسلوك.. الساعية إلى إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة وقيادة
البشرية.
إن الإسلام وحده هو (هوية الأمة الإسلامية) وهو عصب حركتها ومحور
اجتماعها، وهو القوى الدافعة التي تفجر طاقات الأمة وتقوي وقفتها في مواجهة
أعدائها. ويوم أن كان الإسلام هو هوية هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض
بحق وصدق وعدل.. وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها
التقدم، وهي القشور والخداع.
وبكلمة: لقد بلور الإسلام (هوية الأمة الإسلامية) ، ومنح أفرادها (الجنسية)
الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد.. ولم
يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل
سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة
الجبرية.. حيث تلغى إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر
هويته! !
... واليوم يبقى الإسلام هو (وحده) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة
ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية.. ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية) .
__________
(1) ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - ص 139.
(2) فقه الدعوة - ملامح وآفاق: عمر عبيد حسنة ص 72.
(3) الولاء والبراء - محمد سعيد القحطاني ص 415.
(4) الإسلام والمدنية الحديثة - أبو الأعلى المودوي ص 44.
(5) تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 45.
(6) تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 46-47.
(7) مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب.
(8) قبل أن يحولها سعد ورفاته من ثورة إسلامية إلى ثورة وطنية لاعلاقة لها بالدين.
(9) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري - د محسن عبد الحميد ص 41.(54/58)
منهج الطبري في تاريخه
د. محمد آمحزون
بدأ الإمام الطبري حياته العلمية بدراسة الحديث، فكان حرياً أن يتأثر بمنهج
المحدثين في جمع الرواية التاريخية والاهتمام بسندها، فكان يجمع مأثور الروايات
ويدونها مع إسنادها إلى مصدرها مثل: شيخ تتلمذ عليه، أو عدل شارك في
الحادثة أو كان له علم بها، أو كتاب تدارسه بالسند المتصل قراءة وسماعاً وإجازة.
فكان في الغالب يلتزم وجهة المحدثين في الاهتمام الذي ينصب على الإسناد حيث
يثبته في معظم الأحيان في الروايات.
يقول في هذا الشأن في مقدمة تاريخه: (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن
اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا
ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول
واستنبط بفكر النفوس.. إلا القليل اليسير منه) [1] .
وهكذا أكد الإمام الطبري حرصه على إسناد كل خبر إلى قائله وأنه سوف لن
يسمح لحجج العقول وفكر النفوس أن تتدخل في التفسير والاستنباط، في الكتابة
والتدوين أثناء جمع المادة، وما ذاك إلا حرصاً منه على جمع ما قيل كله أو جله
من وجهات نظر متعددة إن كانت، وبعد ذلك محصل الموازنة والمقارنة،
والاستنباط والقبول والرد لمن يريد.
ولما كان تاريخ صدر الإسلام - خصوصاً فترة الفتنة - أكثر حساسية من
غيره، إذ فيه روايات أملتها عاطفة الرواة أو الاتجاهات السياسية أو اختلاف
وجهات النظر والفهم، ونظراً لأن الروايات تتأثر بعوامل مختلفة كالنسيان والميول
والنزعات فيصعب الجزم بدقتها وسلامتها، فإن هذا مما يجعل إبداء الرأي فيها أو
إصدار حكم بشأنها يبدو معقداً للغاية.
ولهذا قام الإمام الطبري -رحمه الله - وهو يعرض وجهات النظر المختلفة
لرواته ومصادره باتباع طريقة جمع الأصول وتدوينها على صورة روايات،
المسؤول عنها رجال السند أي الرواة الإخباريون. وقد برهن على ذلك في قوله:
(فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما ينكره قارئه
أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في
الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا،
وأنا إنما أدينا ذلك عن نحو ما أدي إلينا) (1/8) .
ومن منهجه أيضاً الحياد، فهو يعرض مختلف وجهات النظر دون تحزب أو
تعصب، وإن كان له رأي خاص فيظهر أحياناً في اختياره للروايات وإيراد بعضها
وترك البعض الآخر، متجنباً إعطاء حكم قاطع في القضايا التي يتعرض لها، حتى
أنه لا يفضل رواية على أخرى إلا نادراً.
وقد أدى به التزام هذا المنهج إلى الحرص على إيراد الروايات المختلفة
للحادث أو الخبر الواحد، وعند المقابلة بين الروايات يستعمل تعبير: (واختلف
في كذا) ثم يعقبه باستعراض الروايات المختلفة لرواته كقوله: فقال ...
بعضهم.. وقال بعضهم.. وقال هشام بن الكلبي..، وكقوله: وذكر عن فلان أنه قال.. وحدثنا فلان.. وقال آخرون.. وقال بعضهم.. (4/174)
إلا أن النقد والمقابلة يظهر جلياً في عدد من الأخبار التي ترد في نهاية
الحوليات كالوفيات والصوائف وتعيين ولاة الأقاليم وأمراء الحج، ومثال ذلك في
قوله: (وفي سنة كذا توفي أبو العباس يوم.. بالجدري. وقال هشام بن ... محمد الكلبي - توفي يوم.. واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته. قال بعضهم.. وقال بعضهم.. وقال الواقدي.. (4/470) ، وقوله:) وغزا الصائفة في سنة كذا فلان، وقال الواقدي أن الذي غزا الصائفة في هذه السنة فلان (8/241) .
وهكذا إذا كان للحادث روايات مختلفة اعتقد الإمام الطبري بوجوب ذكرها
لتكتمل الرؤية عنه. لكن مع اجتهاده في تدوين كل ما يمكن تدوينه من الروايات
والأقوال من الخبر الواحد، فإذا وصل إلى موضوع مطول مختلف فيه قطعه ليذكر
مواضع الاختلاف مشيراً إليها (4/ 466، 468، 469) . فإذا ما انتهى منها عاد
إلى المتن - أي إلى الموضع الذي وقف عنه - فيمهد للكلام بإشارة تدل على
استئنافه كأن يقول: (رجع الحديث إلى حديث فلان..) (4/470) .
وما يلاحظ أن هذه الطريقة تربك القارئ، فتنسيه الحادث الأصلي، إذ تشكل عقبة أمامية أمام الوحدة الموضوعية للحادثة التاريخية، وربما كان الأفضل عرض كل رواية عرضاً متكاملاً من أولها إلى آخرها، الواحدة تلو الأخرى، وبهذا العرض الكامل تتكون لدى القارئ فكرة واضحة عن الموضوع وعن الأوجه المختلفة فيه، فيستطيع أن يوازن بين جميع الآراء، ويرجع بعضها على بعض، فتتكون بذلك لديه نظرة إيجابية عن الموضوع.
وقد راعى الإمام الطبري في ترتيب تاريخه تسلسل الحوادث، فرتبها على
حسب وقوعها عاماً بعد عام منذ الهجرة إلى نهاية عام 202 هـ (914 م) . فذكر
في كل سنة ما وقع فيها من الأحداث التي رأى أنها تستحق الذكر.
ويختلف حجم الحوليات لديه حسب كثرة وقوع الحوادث فيها أو قلتها وأهميتها
وبلوغ أخبارها إليه، فيطيل ويقصر وفق ذلك، فبعض الحوليات لا تعدو أسطراً
(سنة25) ، وبعضها صفحة أو صفحتان (سنة 29، 48، 0 7) ، والبعض الآخر
يزيد طوله على مائة صفحة (سنة35، 36) ، وإذا كانت - الحادثة طويلة فيجزئها
حسب السنين التي تستغرقها.
أما طريقته في سرد أحداث كل حولية فليست على نسق واحد، فتارة يذكر
الحادث التاريخي ثم يبدأ في ذكر تفصيله والروايات فيه (4/442) ، وتارة يذكر
جملة الأحداث التي كانت هذه الحولية ثم يعود إلى تفصيل بعضها (4/317) ،
وتارة ثالثة تقتصر الحولية على جملة من الأحداث في بضعة أسطر (4/250) ،
وفي ختام الحولية يذكر بعض من توفي في تلك السنة من المشهورين، لكن هذا
ليس مضطرداً، أما الذي لا يكاد يتركه غالباً في ختام كل حولية فذكر أسماء عمال
الأقاليم أو أمراء الحج أو هما معاً في تلك السنة، وفي الحوليات التي أعقبت حركة
الفتوح يحرص على ذكر أخبار المرابطين على الثغور للجهاد، كما يسمي
الصوائف والشواتي، والحصون والمدن التي استولى عليها المسلمون.
وبالنسبة للأخبار التي لا ترتبط بزمن معين كالسير مثلاً، فقد كان يختم بها
الحديث عن كل خليفة عند وفاته، فبعد أن يذكر الأحداث في عهده مرتبة على
السنين يختمها باستعراض سيرته دون التقيد بعامل الزمن.
وما يذكر أن الإمام الطبري لم يتقيد بطريقة الحوليات في كل كتابه، وإنما
اتبعها في الحوادث الخاصة بتاريخ الإسلام.
أما في القسم الرابع - أي منذ الخليقة إلى الهجرة - فقد اتبع منهجاً آخراً في
عرض الحوادث فلم يرتبها على حسب وقوعها عاماً بعد عام، إذ كان ذلك متعذراً،
ولكن سار على النهج الذي سلكه أكثر المؤرخين القدماء بالبدء بالخليقة ثم بالأنبياء
ثم التعرض للحوادث التي وقعت في أيامهم، وذكر الملوك الذين كانوا يعاصرونهم
وأخبارهم، وكذلك الأمم المعاصرة لهم والتي جاءت بعدهم إلى ظهور الإسلام وبعثه
المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
ويكثر الإمام الطبري في تاريخه من تسجيل النصوص التاريخية من رسائل
وخطب ومحاورات ولا سيما الشعر رغبة في توثيق الحوادث أو التشويق إليها.
كما أنه حاول ضبط النصوص التي يرويها دون تبديل أو تغيير إلى درجة أنه كثيراً
ما تبقى الكلمات والألفاظ غير العربية كما هي (2/51، 54، 62) .
أما منهجه في إثبات المصادر، فإنه إذا ما نقل من كتاب ما فإنه قلما يذكر
عنوانيهن، وإنما يذكر اسم مؤلفه كقوله مثلاً: (قال الواقدي) أو (قال أبو مخنف.. (وإذا سمع من أحد مشافهة قال: (حدثني فلان..) فإذا اشترك مع راوي محدثه في السماع آخر أو آخرون قال: (حدثني فلان قال.. حدثنا فلان وفلان.. ثم سلسل السند إلى مصدره الأصلي) .
وكان يعتمد أحياناً على المراسلات فيقول: كتب إلى السري عن شعيب عن
سيف (4/262) وقد حرص في الغالب على السند المتصل إلا في بعض المواقع ...
كقوله: (وقد قيل) أو (ذكر عن فلان) (5/172) .
وكان يضع العناوين لأحداثه وخاصة المهمة منها في بداية كلامه عن بدء كل
سنة تحت عنوان عام مثل قوله: (ثم دخلت خمس وثلاثين، ذكر الخبر عما كان
فيها من الأحداث المشهورة) أو (ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها) أما ...
الأحداث الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة أسطر، فإنه يذكرها متعاقبة تحت عنوان:
ثم دخلت سنة كذا، وذكر الأحداث التي كانت فيها.
أما فيما يتعلق بعدالة الرواة، فإذا كان الإمام الطبري لا يتقد بالقيود التي
تمسك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضعفاء، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي
وابنه هشام والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضعفاء المتهمين
بالكذب والوضع في الحديث، فإن ذلك يرجع إلى اتباعه منهجاً معلوماً عند علماء
الحديث وغيرهم حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده، فالصحيح يؤخذ وغير
الصحيح يعرف ويرد وفق ضوابط الشرع وقواعد الرواية..
وهكذا لم يكن الإمام الطبري بذلك العمل مغفلاً أو جاهلاً عندما يورد مئات
الروايات عن الضعفاء والمتروكين، لكنه يتبع منهجاً مرسوماً عند علماء الجرح
والتعديل لا يلزم من إيراد أخبار المتروكين والضعفاء وتدوينها في كتاب من الكتب
للاحتجاج بها كقولهم: (يروي حديثه ولا يحتج به) و (يذكر حديثه للاعتبار) ، (يكتب حديثه للمعرفة) ، (ولا يجوز الرواية عنه إلا للخواص عند الاعتبار) [2] . ...
وفي هذا الصدد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني بأن الحفاظ
الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم
الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عهدته، وأسندوا
أمره إلى النظر في إسناده. [3]
ولكون الإمام الطبري من علماء الحديث فقد سار على هذا النهج في تاريخه،
فهو ليس صاحب الأخبار التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته
بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية،
ففيها الصحيح والضعيف الموضوع، تبعاً لصدق الرواة أو كذبهم ومنزلتهم من
الأمانة والعدالة والتثيبت، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه.
وبناء على ذلك لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على تاريخ الإمام
الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها، لأن من أسند
فقد برىء من العهدة.
ومما يلاحظ أيضاً أن الطبري لم يرد الاقتصار على المصادر الموثوقة، بل
أراد أن يطلع قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ من مصادر أخرى قد لا يثق
هو بأكثرها إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية؛ فقد تكمل بعض ما فيها من
نقص، أو تقوى الخبر باشتراكها مع المصادر الصحيحة في أصل الحادثة.
إن مثل الإمام الطبري ومن على شاكلته من العلماء الثقات الأثبات في إيرادهم
الأخبار الضعيفة كمثل رجال القضاء إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية، فإنهم يجمعون
كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها مع علمهم بتفاهة بعضها أو
ضعفه اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره.
ولهذا فقد كان لا يفرط في خبر مهما علم من ضعف ناقله خشية أن يفوته
بإهماله شيء من العلم أو الفائدة ولو من بعض النواحي، إلا أنه يسند كل خبر إلى
رواية ليقف القارئ على قوة الخبر أو ضعفه من كون رواته ثقاة أو مجروحين،
وبذلك يرى أنه أدى ما عليه، خصوصاً وقد وضع بين أيدي القارئ كل ما وصل
إلى يده من نصوص وطرق مختلفة للخبر. ومن فوائد إيراد الخبر الواحد من طرق
شتى وإن كانت ضعيفة ما قاله ابن تيمية:
(إن تعدد الطرق مع عدم الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول - أي بالقدر المشترك في أصل الخبر - لكن هذا لا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين - أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم - وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيء الحفظ.. ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذا ويقولون أنه يصلح للشواهد والاعتبار، وما لا يصلح لغيره، وقال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره) [4] .
وتحسن الإشارة إلى أن اتساع صدور أئمة السنة من أمثال الإمام الطبري
لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم دليل على فهمهم وأمانتهم ورغبتهم في
تمكين قرائهم من أن يطلعوا على كل ما في الأمر، واثقين من أن القارئ اللبيب
المطلع لا يفوته بأن العلم مثل أبي مخنف وابن الكلبي وغيرهم هم موضع تهمة فيما
يتصل بالقضايا التي يتعصبون لها، مما ينبغي معه التحري والتثبت لاستخلاص
الحقائق المختلطة بالإشاعات والمفتريات.
أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم أو لجهلهم بمنهج الإمام الطبري ولا
يتعرفون إلى رواتها ويكتفون بالإشارة في الحاشية إلى أن الطبري روى في صفحة
كذا من جزء كذا.. ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء قد يظلمون الإمام
الطبري بذلك ويسيؤون إليه، وهو لا ذنب له بعد أن بين لقرائه مصادره، وعليهم
معرفة نزعات وأحوال أصحاب هذه المصادر ليعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على
أقدار أصحابها.
وهذا المنهج لا يمكن استعماله إلا عن طريق الإلمام بعلم الجرح والتعديل الذي
يهتم بفحص أحوال الرواة ويبين شروط الانتفاع بأخبارهم، كما ينبغي أيضاً مراعاة
المقاييس التي وضعها العلماء في نقد متون الأخبار، وخصوصاً وضع الملامح
العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته في الحسبان، ويعتبر ذلك كله من لوازم الاشتغال
بالتاريخ الإسلامي [5] .
__________
(1) تاريخ الطبري 1/7-8.
(2) الذهبي في الميزان 3/173.
(3) لسان الميزان 3/75.
(4) الفتاوى 13/253.
(5) ولهذا فإن تدريس مصطلح الحديث كمادة أساسية في أقسام التاريخ في جامعاتنا يعتبر أمراً ملحاً.(54/66)
يا تائهون على الدروب
د. عبد الرحمن بارود
غرباء، لكنْ ربُّنا اللهُ ... الله! نِعْمَ الناصرُ اللهُ
ما يَنْقِمُ الحجرُ الضَّريرُ مِنَ ال ... .. قَمَرِ الُمنيرِ؟ وفيمَ عاداه؟
عَلَتِ المنازلُ يا بُدورُ على ... مَنْ لَمْ تَزَلْ في الوحْلِ رِجْلاهُ
والنهرُ يَضْحَكُ للرودِ وفي الصَّ ... خْرِ الأَصَمِّ يَشُقُّ مَجْراهُ
مُلِئَتْ خَفافيشُ الدُّجى هَلَعاً ... وضفادعُ السَّبئيِّ إياهُ
جُنَّ اليهودُ وقد رأوا عُمراً ... قَدْ عادَ حَرْبَتُهُ بيُمْناهُ
هذا الزمانُ زُمانُنا ... قَدَراً ... وإذا الظَّلام أَبى حَرَقْنَاهُ [1]
يا للشهيد! كأئَّهُ ملَكٌ ... دُنياهُ شامخةٌ وأُخراهُ
لله درُّ أبيهِ من بَطَلٍ ... كالكوكب الدُّرِّيِّ تَلْقاه
مِسْكُ الجِنانِ يفوحُ مِنْ دَمِهِ ... والبدرُ يسطعُ مِنْ مُحَيَّاهُ
في الأرض نَدْفِنُهُ وفي قممِ ال ... فِردوس عندَ اللهِ مَحْياهُ
ليلاهُ حَورْاءُ الجنانِ إذا ... كلُّ امْرىءٍ شَغَفَتْهُ ليلاهُ
هذا الشهيد ... ألسْتَ تعْرفُه؟ ... ألعِزُّ بين يديهِ والجاهُ
الأرضُ في عينيه خَرْدَلةٌ ... وعلى عبيدِ الأرض نعلاهُ
سَقْياً لأوَّلِنا وآخِرِنا ... ولمنْ بظَهْرِ الغيْب نَهْواهُ
سَقْياً لوَحْدتنا وفطْرتِنا ال ... بيضاءِ والصفحاتُ أشباهُ
إذْ كالمجرَّة نحنُ تَقْدُمُنا ... أقمارُ مكةَ صانها اللهُ
كنا الحَيَا ما حَلَّ في بَلَدٍ ... إلا بإذنِ اللهِ أحياهُ
كمْ مزَّقَ النِّيْرُ الرقاب فَلَم ... تَكُ ساعةٌ حتى سَحَقْناهُ
وكلامُ ربعيِّ؛ أَتَذْكُرُه؟ ... طيِّبٌ تمنّى الطِّيبُ رَّياهُ
العِزُّ في كَنَفِ العزيز ومَنْ ... عبَدَ العَبِيْدَ أذَلَّه اللُه
__________
(1) كذا! ولا يستعمل هذا الفعل متعديا بنفسه بل بالهمز أو التضعيف ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
-التحرير-.(54/75)
المسلمون والعالم
البيان الصادر عن ندوة علماء الأزهر
[هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ ولِيُنذَرُوا بِهِ]
تغشى العالم الإسلامي في هذه الأيام غاشية من التراجع والانكسار، وهو
انكسار لم يشهد مثله على مدى تاريخه كله، اللهم إلا ما جرى أيام المغول
والصليبيين! فقد تداعت عليه الأمم، واصطلح على عداوته العالم أجمع، وبات
يئن تحت مطارق خصومه العاتية التي تنهال من كل ناحية، لا تنقضي منها واحدة
حتى تبادر الأخرى في تتابع محموم لا يهدأ له أوار! !
ومبعث الخطورة في هذا الانكسار أنه يأتي وقد اخترق العقل الإسلامي
واخترقت الثقافة الإسلامية، ونبتت نابتة على أرضنا أشربت في قلوبهم مفاهيم
الغرب عن الدين والدولة وعلاقة الدين بالحياة، ونزع القداسة عن كل ما اتصل من
الدين بشئون الدولة، وإطلاق العنان للأهواء البشرية بلا قيود ولا حدود، وباتت
هذه الشرذمة تحمل من الولاء لهذه المفاهيم أضعاف ما تحمله لدينها وتراثها
وتاريخها كله! رغم أنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا! فحرث هؤلاء الأرض أمام
كل ما دبر لهذه الأمة في الظلام!
ولقد كان عهدنا لهذه الشرذمة هو التخفى والالتفاف والمناورة لما يعلمون من
خروج دعوتهم على محكمات الكتاب والسنة التي لا تزال موضوع تقديس من الكافة، إلا أنهم قد تجاوزوا ذلك مؤخراً، وأخذوا يستعلنون بهذه الزندقة، فراحوا يجلبون
بخيلهم ورَجِلِهم على مرتكزات الشريعة الإسلامية، ويطعنون في مرجعيتها
وصلاحيتها للتطبيق، كما تواصوا بذلك في أحد محافلهم المشبوهة التي قرروا
فيها - فيما قرروا - استعمال ما سموه الحل الهجومي الإيجابي، والتكتل في جبهة موحدة لمواجهة العمل الإسلامي المعاصر في جرأة لا يحسدون عليها! ! ضاربين عرض الحائط بحقائق الكتاب والسنة وما استقر تقديسه في ضمير هذه الأمة! !
لقد وجدنا منهم من يعلن بملء فيه رفضه المطلق لتطبيق الشريعة، وتبنيه
للفصل المطلق بين الدين والسياسة، واستعداءه السافر على حملة الشريعة بل وعلى
الشعائر الإسلامية في ذاتها، حتى أصبح يرى في إذاعة الأذان في التلفزيون أو
إيراد حديث نبوي بعده اختراقاً للإعلام وخطراً على مدنية الدولة، وتراجعاً أمام
المتطرفين! ويرى في شرح بعض الآيات القرآنية التي تناقش عقيدة التثليث قنبلة
زمنية موقوتة، وخطراً داهماً يتهدد الوحدة الوطنية!
بل رأيناه يسود المقالات في الاستعداء على دولة إسلامية مجاورة بسبب
توجهها الإسلامي في الوقت الذي يعلن فيه في بعض هذه المقالات أن ملف الصراع
الحضاري مع إسرائيل بصدد أن يغلق، وإن نزاعنا معها في سبيله إلى الانتهاء،
بحيث يمكن اعتبار جبهتها جبهة آمنة! ويدعو إلى التفرغ لمواجهة السودان
والجزائر وإيران!
لقد رأيناهم يغتالون التاريخ الإسلامي كله فلا يرون فيه إلا سلسلة من المجون
والمظالم! ! بل لم يسلم من سهامهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار،
فرأيناهم يرون في أبي بكر الصديق مغتصباً لحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم -!! مستحلاً لقتال المسلمين بما خاضه من حروب الردة! ! وينتصرون لإخوانهم
المرتدين! ! ناقلين في ذلك أحاديث الإفك من المستشرقين، ضاربين عرض
الحائط بحقائق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
بل رأينا منهم من يحاول الاقتراب من شخص النبي في غمزات وطعنات
فاجرة يدسونها في ثنايا ما يقدمونه من دوريات وأدبيات، وإن كان النضج السياسي
يقتضي - في تقديرهم - تأخير الإعلان بهذه المرحلة إلى حين! ولكنهم يدعمون
وينصرون كل من استباح هذا الحرم الأقدس! ! واجترأ على الإعلان بذلك - كما
رأيناهم مؤخراً وقد جاءوا يركضون يتكتلون لنصرة صاحب رواية (مسافة في عقل ...
رجل) بدعمهم وأموالهم وأقلامهم في مظاهرة لا تخطئها العين!!
إننا من جانبنا نعلن - إبراء الذمة - أن مثل هذا التصرف العلماني ثورة على
دين الأمة! ! وعدوان سافر على مرجعيتها المقدسة كتاباً وسنة! ! كما أنه إساءة
بالغة إلى وجه مصر الإسلامي، وإلى علاقتها ببقية بلاد العالم الإسلامي التي ما
فتئت تنظر إلى مصر الأزهر باعتبارها قلعة الإسلام، بل وإلى حكام هذه البلاد
الذين ما فتئوا يعلنون أنهم مسلمون وأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام!
كما أنه من ناحية أخرى يولد تطرفاً مقابلاً نشهده في حوادث العنف التي
تتابعت على مسرح الحياة المصرية في الآونة الأخيرة. وإننا بقدر ما نعلن إدانتنا
للتطرف الذي ينسب إلى الدين، وإنكارنا على ما يقع في هذا الجانب من أحداث
دامية، فإننا ندين وبنفس القدر هذا الغلو في معاداة الإسلام، ورفض شريعته،
وتزييف تاريخه، وتشويه رموزه وأعلامه.
إن مصر هي سفينتنا جميعاً، وإن مثلنا ومثل هؤلاء كمثل قوم استهموا في
سفينة، فأصاب فريق منهم أعلاها وأصاب آخرون أسفلها، فإذا الذين في أسفلها
يحاولون أن يخرقوا في نصيبهم خرقاً ليستقوا منه الماء، فلو تركوا وما يريدون
لغرقت السفينة بمن فيها أجمعين! !
إن هذا الذي تشهده الساحة المعاصرة من استطالة دعاة العلمانية واستماتتهم في
عزل هداية الإسلام عن مسيرة هذه الأمة، والزج بها في مجاهل الأرض وخوادع
السبل يعد خيانة عظمى لهذه الأمة وللحقيقة المجردة! ! وإن التمكين لذلك يعد إعانة
على هذه الخيانة، ومسلكاً عدائياً لا تصلح به دنيا ولا يبقى معه دين!
إن حقائق الوحي وحقائق التاريخ لتؤكد بأن السبيل لهذه الأمة إلى الخروج من
هذا التيه الذي نتجرع مرارته ونكتوي بنيرانه إنما يبدأ بإصلاح ما اندرس من
علاقتها بربها، وتجديد ما اندرس من شعائر دينها وشرائعه، ثم ببذل الأسباب
المادية بأقصى ما وسعها الجهد لتتكفل يد القدرة بعد ذلك بما عجزت عنه وقصرت
دونه إمكاناتها المتاحة!
ولكننا - على النقيض من ذلك - لا نرى من دعاة العلمانية إلا إمعاناً في
الشرود عن منهج الله -عز وجل-، ومزيداً من التحريف والتزييف لحقائق الشرع
وحقائق التاريخ، الأمر الذي ينذر بشقاء المستقبل أكثر من شقاء الماضي إن لم
نبادر بتوبة صادقة نصوح! !
إن ثوابت هذه الأمة ومحكمات هذه الملة قد أصبحت عرضاً مباحاً لهؤلاء
يتخوضون فيه طعناً وتسفيهاً وتشويهاً وتزييفاً بلا حريجة دينية أو خلقية! !
إننا نعلن برائتنا إلى الله -عز وجل- من كل دعوة تخاصم شريعة الله تعالى،
وتجاهر أحكامها بالعداء، ونعلن أن مثل هذه الدعوات امتداد للوجود الاستعماري في
بلادنا! وأنها لا تجتمع مع أصل الإسلام بحال من الأحوال! !
كما ندعو الصحف المصرية جميعها: القومية [1] منها والمعارضة أن لا
تسود أعمدتها بإشاعة أحاديث الإفك التي يتداولها هؤلاء، فإن أبت إلا أن تفعل فلا
أقل من أن تتيح لحملة الشريعة ودعاة الإسلام من المساحة ما يكفي لدفع التهمة
بالحجة، ومقارعة الكلمة بالكلمة إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، واتقاء لسخط الله -
عز وجل-، فإن هذا هو أدنى ما يمكن قبوله منها باعتبارها تصدر في بلاد لا تزال
تنتسب إلى الإسلام.
وقد آلينا على أنفسنا - نحن الموقعين على هذا البيان - أن نقوم بواجبنا تجاه
ديننا وأمتنا وأن نصدع بكلمة الحق لا نخاف في الله لومة لائم، كما اتفقنا فيما بيننا
على التصدي لكل ما يثار حول الإسلام من شبهات ومفتريات من خلال الحوارات
والمناظرات العلمية الجادة لكل من يرغب في الحوار والمناظرة، لتكون نوعاً من
استفاضة البلاغ وإقامة الحجة على الكافة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحى من حي
عن بينة، مسترشدين بقول المولى سبحانه: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل 125] .
كما ندعو الأمة جميعاً إلى أن تكون على بينة من أمر هؤلاء الذين يحرثون
الطريق أمام أعدائها في الدنيا، ويجرونها بدعوتهم إلى جحيم الخلد وشقاء الأبد في
الآخرة!
[فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] ... [غافر 44] .
هذا بلاغ لكم والبعث موعدنا وعند ذي العرش يدري الناس ما الخبر
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أ. د. / عبد الغفار عزيز ... رئيس ندوة العلماء
أ. د / محمود حماية ... ... ... الأمين العام للندوة
أ. د. / حلمي صابر ... ... ... عضو الندوة
أ. د / محمد البري ... ... ... ... عضو الندوة
__________
(1) القومية هنا معناها: الحكومة، وهو اصطلاح خاص بمصر.(54/78)
المأساة الصومالية
مذكرات شاهد عيان
أحمد بن عبد الرحمن الصويان - كينيا
يمر الشعب الصومالي بمأساة كبيرة واسعة النطاق، حيث تستمر الهجرة
الجماعية منذ أشهر عديدة هرباً من رحى الحرب القبلية التي تدور على أرض
الصومال، ويقدر عدد اللاجئين الصوماليين في الأراضي الكينية بحوالي أربعمائة
ألف نسمة، وفي الإحصاءات الرسمية الكينية الصادرة في شهر يونيه من عام
1992 م بلغ عدد اللاجئين يومياً 550 شخص.
وقد قمت بتيسير الله بزيارة إلى مواقع اللاجئين في مواقع عديدة من المدن
الكينية، مثل منديرا، وعيلواق، وبانيسا، وإيفو، وليبوي. كما زرت أيضاً في
الأراضي الأثيوبية مخيمي صوفتو ودولو، وزرت داخل الأراضي الصومالية مدينة
حواء، فرأيت في هذه المخيمات ما يجل عن الوصف، ويعجز القلم عن ذكره.
عشرات من الأطفال يتساقطون يومياً بسبب الجوع وسوء التغذية، عشرات من
النساء والعجزة أهلكهم المرض والحزن ... فكل أسرة تحمل مأساة تنهد لها الجبال،
وإذا فاتحت أحد اللاجئين عن حاله سرد لك حكاية طويلة من الأسى والعنت. فهذا
أحدهم يحدثني عن أسرته بأنها كانت قبل شهرين عشرة أفراد، وأما اليوم لم
يصبحوا إلا أربعة. وطفل آخر لم يبلغ العاشرة من عمره رأيته ملقى على الأرض
ينتظر منيته، وحدثوني أنه حافظ لجزئي عم وتبارك ولم يبق من أسرته أحد
سواه.. ومآسٍ كثيرة وكثيرة يطول ذكرها ويصعب حصرها.
وفي مدينة منديرا مات في يوم واحد أثناء وجودنا فيها أكثر من ثلاثين طفلاً
بسبب الجوع والمرض، ورأينا عدداً غير قليل من الأطفال والنساء في حالة
الاحتضار، ومن المحزن أن 80% تقريباً من النساء الحوامل يمتن أثناء الولادة
لعدم وجود الرعاية والعناية بهن، ولهذا استحدث الناس بجوار كل مخيم مقبرة
جديدة.. وفي عدد من الأماكن التي نذهب إليها كان الناس يقولون لنا: لا نريد منكم
طعاماً ولا شراباً، ولكن نريد منكم أكفاناً نكرم بها موتانا! !
بل حتى لباس الأحياء لا يتوفر عند بعضهم، فالعري أصبح ظاهرة طبيعية
خاصة بين الأطفال، وكم من امرأة لا تستطيع أن تخرج من كوخها لأنها لا تجد ما
تستتر به! وقد رأيت في مخيم -إيفو- وهو أحد المخيمات القليلة التي وزعت فيها
الخيام - ينزعون البطانة الداخلية لخيامهم، ويلبسونها النساء والأطفال لعدم توفر
الكساء..
وزاد الأمر سوءاً وقسوةً الجفاف الشديد الذي أصاب الأراضي الكينية
المجاورة للصومال، مما أدى إلى موت المواشي والحيوانات التي هي مصدر
الرزق الوحيد لعامة الناس. وهذا أدى إلى هجرة جماعية لأهالي البادية الكينية،
وقد زرت مدينة وجير الكينية فوجدتها أكثر سوءاً من بعض مناطق اللاجئين
الصوماليين. ففي مخيم واحد مات حوالي 20% من الأطفال تحت سن خمس
سنوات خلال شهر أبريل من عام 1992 م فقط، وهم كلهم مسلمون ... ! !
والمياه إحدى المشكلات الأساسية التي تعاني منها المنطقة، حيث لا تتوفر
الآبار بشكل كاف، ففي مدينة وجير الكينية على سبيل المثال يوجد سبعة وأربعون
بئراً ارتوازياً، لا يعمل منها الآن إلا سبعة عشر بئراً فقط. وقد وصل الحال
ببعض الناس أنهم يسيرون أكثر من خمسين كيلو متراً بحثاً عن الماء، وفي بعض
مواقع اللاجئين رأيت الناس يصطفون إلى منتصف النهار لكي يحصلوا على إناء
من الماء لا يكفيهم ليوم واحد..! !
وبسبب انعدام أبسط المتطلبات البشرية انتشرت الأمراض انتشار النار في
الهشيم، ومن أبرز الأمراض التي رأيتها:
1- أمراض سوء التغذية، حتى لا ترى إلا هياكل عظمية لا تقوى على
الوقوف أو الحركة من شدة الإعياء.
2- أمراض نقص البروتينات وخاصة بين الأطفال - وهؤلاء بطونهم منتفخة
بصورة عجيبة جداً، حتى أصبح هذا المرض ظاهرة متفشية بشكل كبير جداً، وقد
رأيت في مخيم عيلواق طفلاً لم يتجاوز الخامسة من عمره وانتفخ وجهه وبطنه
وأصبح كأنه من عالم آخر..!
3- الأمراض الجلدية بأنواعها المختلفة، حتى إنني رأيت في مخيم دولو
الأثيوبي أشكالاً عجيبة تقرحت جلودهم وتغيرت أشباههم.
4- كما انتشرت بينهم أمراض السل والملاريا والحصبة والإسهال.
أما الأحوال في داخل الصومال فهي أشد مرارة وقسوة، حيث مارست القبائل
المتناحرة دورها بكل صلف وفوضوية، تغير وتقتل وتحرق الأخضر واليابس..
والناس يفرون من أرض إلى أرض بحثاً عن الأمن.. وقد بلغ الوضع بالناس إلى
حال شديدة لا تتصور، ففي مدينة جلب ومركة وقُربولي بدأ الناس يطبخون جلود
الحيوانات ويأكلونها لأنهم لم يجدوا غيرها..! !
وعلى الرغم من أن اللاجئين الصوماليين في كينيا مسلمون 100% إلا أن
التنظيمات التنصيرية غزت الساحة بصورة مذهلة جداً، فالنشرات التنصيرية
أصبحت بأيدي الناس، وقد رأيت بنفسي بيد أحد الأطفال قصة مصورة باللغة
الصومالية محتواها أن المسيح هو المخلص والمنقذ..! ورأيت في مخيم وجير
منصرة بريطانية تقدم مساعدات غذائية للمتضررين وتساعدهم في بناء منازلهم من
القش.. ولكي تستطيع أن تؤثر في صفوفهم سمت نفسها بعائشة..! !
ومن أبرز المنظمات التنصيرية العاملة في الميدان:
1- الصليب الأحمر.
2- منظمة كير Care الكاثوليكية البريطانية.
3- منظمة أطباء بلا حدود MSFالهولندية.
4- منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية.
5- منظمة أوكسفام البريطانية للإغاثة.
6- منظمة العون الأمريكي.
7- منظمة الرؤيا العالمية.
8- منظمة جي تي زت الألمانية.. وغيرها.
والعجيب أن هذه المنظمات التنصيرية تريد أن تحتكر العمل بأكمله، وتضيق
على المنظمات الإسلامية العاملة في الميدان، فبالتنسيق مع منظمة غوث اللاجئين
التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) احتكرت منظمة كير الكاثوليكية توزيع المواد
الغذائية، كما احتكرت منظمة (MSF) الفرنسية الأعمال الطبية، وتحاول هذه
المنظمات أن تعيق أعمال الهيئات الإسلامية وتعرقلها، ولكن يأبى الله ذلك. فعلى
الرغم من هذا الزخم التنصيري المتلبس بلباس الإغاثة؛ إلا أن الناس - بحمد الله
تعالى - لا زالوا يشعرون بهويتهم الإسلامية - ويفرحون فرحاً شديداً إذا رأوا رجلاً
مسلماً. ومن المواقف التي أسعدتني في مخيم عيلواق أن الناس اجتمعوا حولنا ولما
أردت الخروج من بينهم دفع أحد الأطفال أخته الصغيرة قائلاً لها: ابتعدي عن
طريقه أتظنين أنه نصراني. إنه مسلم! فأظهرت استبشاري بذلك لأحد العامة،
فقال لي والأسى يعصر قلبه: لقد كنا في بادية الصومال نسأل الله -عز وجل- أن
لا يرينا كافراً. وكان الناس لا يشربون في الإناء الذي شرب فيه الكافر إلا بعد
غسله بالتراب! ثم قال: وأما الآن فأصبحنا نفرح بمشاهدتهم ونجري من وراءهم
لنبحث عن لقمة العيش التي لم نجدها إلا منهم، ثم ذرفت عيناه وهو يقول: فأين
أنتم يا مسلمون..؟ ! !
وأجمل في آخر هذا التقرير الاحتياجات العاجلة للاجئين بالنقاط التالية:
1- المواد الغذائية بمختلف أنواعها، وخاصة حليب الأطفال المجفف الذي لا
يتوفر في كينيا.
2- المياه النقية وهذا يتطلب حفر آبار ارتوازية عديدة.
3- توفير الأطباء والأدوية.
4- توفير الملابس والخيام.
وأخيراً ...
هذا نداء عاجل أبعثه باسم اليتامى الذين فقدوا آباءهم فلا تسمع إلا صراخهم،
باسم الثكالى اللاتي أنهكهن المرض فلا ترى إلا دموعهن. باسم الشيوخ والعجزة
الذين أسقطهم الجوع فلا تسمع إلا نحيبهم.. باسم مسلمي الصومال الذين يموتون
في كل ساعة وما من مجيب.
نداء أبعثه إلى كل مؤمن بالله تعالى يهمه أمر المسلمين..
إلى كل مؤمن مصدق بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أعط
منفقاً خلفاً..) وبقوله: (ما نقص مال من صدقة..) ..
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.. اللهم فاشهد(54/84)
ماذا يجري في تونس؟
أظهرت كبار الصحف والمجلات الصادرة باللغة العربية الشماتة بما يجري
للمسلمين في تونس فتكلمت عن (الصيف الحار) للمسلمين في بلدان من شمالي
أفريقيا، وكانت العناوين البارزة (279 أصولياً في قفص الاتهام) ، (التزام
بمصالحة شبه مستحيلة بين الأصولية والديمقراطية) ، (الأصولية والسياسة من
خلال نموذج النهضة في تونس) .
وهؤلاء الشامتون من العلمانيين أو الحاقدين على الإسلام يظنون أن الساحة
ستخلو لهم إذا أبعد المسلمون أو وضعوا في السجون.
ولكنهم لا يفقهون أن هذه المحاكم الصورية الظالمة إن هي إلا ابتلاءات
وتمحيص، وأنهم لا يستطيعون الفكاك من الشعوب التي تريد الرجوع إلى هويتها
وعقيدتها وأن الإسلام قادم بإذن الله.
وهنا نريد أن نوجه سؤالاً للعقلاء من هذه الأمة: ما هي المصلحة من ضرب
الدعوة الإسلامية في تونس وغيرها من الأقطار، إنه بالتأكيد ليس هناك مصلحة إلا
مصلحة واحدة لا غير وهي أن ما يجري هو لحساب الغرب الأوربي، وحتى
يرضى السادة عن العبيد، هذه هي خلاصة القصة منذ أربعين سنة وحتى الآن،
والدليل على ذلك أن زعماء النهضة صرحوا في المحاكمات التي تجري هذه الأيام
أنهم لم يأمروا بقتل أحد، ولم يصرحوا بذلك ولا أسروا، وإنما هي أعمال فردية
كما ذكرت ذلك قيادة النهضة وأنهم قدموا إلى وزارة الداخلية أربع طلبات متوالية
للحصول على ترخيص للعمل كحزب علني، ويقولون: (اتفقنا على رفض العمل
السري، وهذا اقتناع فكري عندي..) .
وعندما سأل القاضي أحد المتهمين عن الأسلحة قال: (عليك أن تسأل من
صودرت عندهم إذا اعترف أحد مهم بأن المكتب السياسي أعطاه أي توجيهات فنحن
مدانون) . وأشار عنصر قيادي إلى هذا عندما نفى (وجود خطة انقلابية وأن الحركة التزمت في الفترة الأخيرة طريقة المراوحة بين الضغط السياسي والحوار مع الحكم) . وقال عن أعمال العنف: إنها من الشباب ومبادرات فردية فقد أعطت الحركة هامشاً واسعاً لفروعها في التحرك وتتخذ المبادرات من نفسها، فوقعت أخطاء ونظن أن ما صرح به هؤلاء القادة ينسجم مع توجهات حركة النهضة فلماذا إذن يوضع الآلاف في السجون ويحاكم (300) من قادة الحركة، ويتعرض بعضهم (علي العريض) لتعذيب من النوع المعروف في البلاد العربية الأخرى فذكرت صحيفة الحياة أن المتهم وضع في زنزانة انفرادية وضعوا فيها كاميرا للتصوير ودسوا له المواد المخدرة حتى يدمن على المخدرات ولما تفطن للأمر أضرب عن الطعام لمدة (15) يوماً وافتعلوا شريط فيديو يدعي أنه يمارس الفاحشة، هذه خبرات رجال الدولة الأشاوس وهذه أوضاع البلاد التي ابتليت بأمثال هؤلاء الذي يدمر أحدهم وطنه في سبيل أن يرضى الغرب عنه.
إن ما يجري في تونس ليس غريباً، ولكنه مؤلم: فإلى متى يقتل أو يوضع
في السجون خيار هذه الشعوب، وإلى متى تستلب هوية الأمة، ونعيش حياة ممزقة
محزنة ليس فيها إلا الذل والهوان؟ !(54/90)
البوسنة..
هل تصبح فلسطين ثانية؟
بدأت صورة الوضع العام للمسلمين في البوسنة تتضح أكثر فأكثر، فالصرب
مستمرون في القصف والتهجير وهدم المساجد (300) مسجد وقتل العلماء،
وحصار المدن والقرى المسلمة، أو التي فيها أكثرية مسلمة، والحيلولة دون
وصول الغذاء والكساء لهم. والغرب يرى أن المشكلة مشكلة إغاثة فقط! وهذا
يعني أن مسلسل التهجير مستمر، وحتى قبول المسلمين المنكوبين كلاجئين
أصبحت الدول الغربية تجادل فيها، وتعتذر بأعذار كثيرة واهية، وكل ذلك من
أجل أن هؤلاء اللاجئين مسلمون، ففي باريس قال مصدر عسكري: إن القوى
الغربية تدرس إمكان إقامة مناطق لجوء آمنة (على نمط ما فعل به الأكراد) وفي
إيطاليا قال قائد القوات الأمريكية: إن لديهم أوامر بعدم القتال.
وفي تصريح لوزير خارجية البوسنة قال: إن أعمال الولايات المتحدة لا
تكفي، غريب جداً أن تعطينا المساعدات من ناحية، ومن ناحية أخرى تقبل
باستمرار النزف الذي يحصد الأبرياء كل لحظة بل يشير وزير خارجية البوسنة
إلى أن الحصار المفروض على البوسنة ليس من الصرب فقط بل من المجتمع
الدولي، فيقول: (فوجئنا بأن كل العواصم المحيطة والدول المعنية ترفض إفساح
المجال لنا للحصول على السلاح، إننا نستغرب هذا الحصار علينا) .
ونحن نقول لوزير الخارجية: لماذا هذا الاستغراب؟ أليس الشعب الذي
تجري حوله هذه المساومات، وتضرب حوله هذه العراقيل شعباً مسلماً؟ إن تحويل
قضية خطيرة تحتاج إلى حل سريع وحاسم إلى مشكلة جانبية، والتركيز على
الجانب الذي لا يعالج أصل المشكلة ظلم شنيع وتهرب مقصود من المواجهة العلنية
التي تستحقها، وهي الضغط بكافة الوسائل على الصرب المعتدين. ويؤكد هذا
التصرف المريب، تصرف الأمين العام للأمم المتحدة الذي رفض فكرة نزع السلاح
الثقيل من أيدي المتحاربين، وهذا في مصلحة المسلمين لأن السلاح الثقيل بأيدي
الصرب.
إن الشعوب الإسلامية قامت بواجبها تجاه الشعب البوسني، وهذا الذي في
وسعها، وسكتت كل الدول عما يجري ولعل هذه الأحداث تجعل المسلمين في
كوسوفو وألبانيا يدركون ما يدبر لهم ويدرك المسلمون والحركات الإسلامية أن
المعركة طويلة ومستمرة..(54/92)
مكتبة البيان
محمد الحسيني
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة
د. ناصر بن عبد الله بن علي القفاري
والبحث قدم كرسالة لنيل درجة الماجستير في 6/7/1398 هـ، ناقش
الكاتب معنى مصطلح أهل السنة، وناقش اعتقادات الشيعة بتفصيل طويل، ثم
عرض لمحاولات التقريب عبر التاريخ إلى زماننا. ويرى الكاتب (أن المنهج
السليم للتقريب هو: أن يقوم علماء السنة بجهد كبير لنشر اعتقادهم وبيان صحته
وتميزه عن مذاهب أهل البدع، وكشف لمؤامرات الروافض وأكاذيبهم وما يستدلون
به من كتب أهل السنة) ص 280 ج 2.
(الكتاب يقع في جزئين، 831 صفحة، الناشر: دار طيبة الرياض)
فلسطين بين المنهج الرباني والواقع
دكتور عدنان علي رضا النحوي
يناقش الكاتب التصور الإسلامي للقضية الفلسطينية وصلة الإسلام والمسلمين
بهذه البقعة من الأراضي الإسلامية تاريخياً وشرعياً ثم يتعرض لمواقف المعاصرين
من المسلمين وغيرهم، بخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
(140 صفحة، الناشر: دار النحوي للنشر، 1412 هـ، 1992 م)
جذور الصراع في ليبيا
فتحي الفاضلي
من خلال نسق تاريخي يبدأ به المؤلف منذ ما قبل البعثة إلى اليوم ناقش
المؤلف فيه قضايا مهمة في تاريخ ليبيا دار حولها الصراع. وكانت غالباً هي
صراع الإسلام مع أعدائه سواءاً كانت الغزوات الصليبية من الخارج، أو صراع
الحكومة مع الإسلام في العقدين الأخيرين، والذي كان جوهره التخلص من سنة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإثارة الشبه حولها حتى يخلو المجال
للديكتاتورية لتخرج بفهم خاص للإسلام يرعي مصالحها. كما عرض في الكتاب
للمعارضة وفصائلها، وللمواجهة مع الإسلام في السنوات الأخيرة بشكل موجز.
(173 صفحة)(54/94)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
متى نتخلص من الفُرقة؟
لن نتخلص من الفرقة ولن نعود إلى القوة، ما لم تتحدد لنا شخصية محددة
بحدود وضوابط هي ما اختطه السلف الصالح لنا من منهج قويم يقِّوم الانحراف،
ويدفع إلى الأمام في كل مجالات الحياة ويجود علينا بخير الدنيا والآخرة.
محمد العبدة - طارق عبد الحليم
مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم
من هم أهل السنة؟
سئل بعض الأئمة عن السنة؟ فقال: ما الاسم له سوى (السنة) يعني: أن
أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها.
فمن الناس: من يتقيد بلباس لا يلبس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس
في غيره، أو مشية لا يمشي غيرها، أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما، أو عبادة
معينة لا يتعبد بغيرها. وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره.
وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه، فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب
الاعلى، مصدودون عنه. قد قيدتهم العوائد والرسوم، والأوضاع والاصطلاحات
عن تجريد المتابعة. فأضحوا عنها بمعزل، ومنزلتهم منها أبعد منزل.
ابن قيم الجوزية
مدراج السالكين 3/184
دعوة الإيمان
إن المشكلة الكبرى التي نعانيها اليوم هي تصحيح إيمان المسلمين تصحيحاً
يتناول الفكر والوجدان والسلوك والعمل، وذلك قبل أي إصلاح آخر، تأسياً برسول
الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
إن كثير ممن ينادون بأنواع من الإصلاح: تعليمي واقتصادي وصحي
واجتماعي وما إلى ذلك.. ولم يبدأ - صلوات الله وسلامه عليه - بشيء من ذلك،
ولكنه بدأ بالإصلاح الإيماني فكان كفيلاً بأن يتبعه كل إصلاح، ولا نعني إيقاف هذه
الأنواع من الإصلاح، ولكننا نعني أن يكون منطلقها ودعاتها والمهيمن عليها دعوة
الإيمان.
د. محمد أمين المصري
سبيل الدعوة الإسلامية(54/96)
حشو الصحافة
محمد الخريف
لا يخفى أن الصحافة كوسيلة من وسائل الإعلام الحديثة تضطلع بدور مهم في
المجتمع، فهي ميدان رحب الأفكار والمحاورات الفكرية والعلمية الجادة وصولاً إلى
الرأس السديد والحقيقة المطلوبة، إلى جانب دورها في البحث عن أخبار الأحداث
العالمية والمحلية من مصادرها وتزويد القراء بكل جديد يحدث بصدق وصراحة،
كما أن لها دوراً كبيراً في التأثير على الرأي العام لأفراد المجتمع، وإحداث
التصورات المطلوبة عن الخبر أو المعلومة التي تطرحها وفق صياغة معينة فيما
يخدم المصلحة العامة الحقيقية.
إلا أن أهم أدوار وسائل الإعلام عامة، والصحافة على وجه الخصوص هو
التعبير عن مشكلات وقضايا الناس وإيضاح احتياجاتهم وأوجه معاناتهم، بشكل
صادق وأمين. مع المطالبة والضغط في سبيل تحقيقها وإيجاد الحلول الجذرية لها.
ويتم ذلك عن طريق النقد البناء والتقويم السليم لكافة الأوضاع والظواهر الاجتماعية
بهدف المشاركة في الإصلاح وإيصال الصوت الخافت الضعيف إلى آذان المعنيين.
إضافة إلى الدور الريادي الفعال الذي يجب أن تقوم به الصحافة في مجال
الدعوة الإسلامية وممارسة رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة
الحكيمة العلمية المبنية على الدليل والمعلومات الصحيحة.
وإن المتأمل في الصحافة العربية بعد هذا العرض الموجز الذي سقناه عن
رسالة الصحافة ودورها في المجتمع سيجد كماً هائلاً من الصحف، والمجلات
اليومية والدورية ذات الورق الفاخر بصفحاتها التي سودت بكلام كثير، يمنحك
ولأول وهلة شعوراً بالغبطة والسرور على هذا الانفتاح والحرية التي سمحت بكل
هذا الكم الورقي والكلامي في الكتابة والتعبير.
ولكنك ما تلبث وبعد تمعن وفحص دقيق لمضمون هذه الإصدارات أن يتحول
شعورك الوقتي السابق إلى أسىً عميق وحزن ثقيل على هذا الوضع المتردي،
حينما تجد هذا الحشو الرخيص المبتذل وقد سودت به هذه الإصدارات في كل عدد
تغرق به سوق التجارة! غير متمسكة بمبدأ نبيل أو هدف سام، تقرأها من الغلاف
إلى الغلاف فلا تخرج بفائدة، إن لم يحصل لك ضرر.
وأنا أتكلم عن واقع حي مشهود لا ماض مندرس، فهي صحافة تبعية تتلقف
بغباء أو سوء نية معلوماتها، وتستقي أخبارها الهامشية من وكالات الأنباء العالمية
التي تسيطر عليها قوى الشر العالمية: الصهيونية والصليبية، تفرغها نصاً دون
تمحيص أو تدقيق، ولا تجد منها من يطلب الخبر من مظانه ومصادره الأصلية،
لأن هدفها الغالب تجاري بحت، لا تلقي بالاً لأمانة المسؤولية.
أما أخبارها المحلية فأخبار سطحية مكررة، تبرز المحاسن وتضخمها،
وتتفاعل عن الظواهر والمشكلات التي يعاني منها المجتمع، تتحرى بفارغ الصبر
الدعم الدوري من الجهات الرسمية، حتى لا تفلس، وتواصل الإمعان والتضليل
والتجهيل والتوجيه المعكوس. فإن أوردت خبراً ذا بال حرفته وأسقطت مضمونه
وإن احتوت على تحليل أو مقال، كان مضمونه بعيداً عن قضايا المجتمع، يدور
في فلك كاتبه انعكاساً لفكره الضيق، إن لم يكن منصباً في وادي التغريب والمسخ
الفكري الذي يمارس على قدم وساق من زمن بعيد عبر هذه الوسائل وغيرها.
ويدلك على تيه هذه الصحافة وبعدها عن دورها الحقيقي تلقفها لأخبار القطط
والكلاب وتفصيل حكاياتها مع خدمها الغربيين! مع تركيزها على أخبار وصور
الفنانين والفنانات وعرض حياتهم للمجتمع لتكريس الاقتداء بهم ومحاكاتهم. تجهد
في عرض الصور العارية والأخبار والمغامرات الرديئة لجذب المشترين من الغثاء
وإشباع شهوات الفارغين من كل فكر سليم، مع طرح موضوعات هامشية تلقى
اهتمام الرعاع كأخبار الرياضة والفن العفن..
إن رواج هذه الصحافة واستمرارها في الصدور يدل وللأسف على وجود من
يتلقى ما تطرحه من غثاء، وهذا الوضع يمثل ظاهرة مرضية يعاني منها المجتمع
تستحق من الدعاة والغيورين دراستها ومحاولة إيجاد الحلول الملائمة لمعالجتها عن
طريق إيجاد البدائل الفعالة القادرة على إعادة صياغة عقول أبناء الأمة وإصلاح
أفكارهم مما علق بها من تلوث فكري نتيجة متابعتها الطويلة لما تطرحه وسائل
الإعلام بوضعها الراهن، وإن ترك هذا الوضع على حاله ينذر بخطر عظيم يتطلب
تضافر الجهود لتغيير واقع الصحافة حتى تعود إلى ممارسة دورها المنشود ولن
يتأتى ذلك إلا حينما ينخرط أبناء المجتمع من ذوي الفكر السليم في هذا المجال بقوة
وفعالية تمكنهم من فرض وجودهم على الساحة الإعلامية متبنين طرح قضايا الأمة
وتوفير المعلومات والأخبار الصحيحة من مصادرها مع الاستفادة الكاملة من كافة
الوسائل والتقنيات الحديثة في مجال الاتصالات والإعلام والإخراج الفني الرفيع
حتى تعود للأمة هويتها وذاتيتها المستقلة ولا بد لتحقيق كل ذلك أن يصاحبه تطور
في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانعكاس كل جانب على
الجوانب الأخرى.(54/98)
الغرب وقضية البوسنة - الهرسك
إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم التركي
لو سأل إنسان نفسه: ما هي أسباب هذا الاهتمام بالمسلمين في البوسنة، هل
جاء هذا الاهتمام الغربي بالأخص الأمريكي من منطلق الضمير الإنساني الحي؟ أم
تراه بنصرة المظلوم والدفاع عنه؟ أم هو الدفاع عن حقوق الإنسان؟ أم هو
الوقوف في وجه الظلم والعدوان؟
ترى أين هذه العاطفة الإنسانية الغربية الأمريكية الجياشة عما يحدث للمسلمين
الآن في كشمير وفي فلسطين وفي الفلبين، في غيرها من بلاد المسلمين؟
إذا أمعنا النظر والتأمل في الأحداث ومجريات الأمور وظروفها نستطيع
معرفة بعض هذه الأهداف ولعل منها ما يلي:
1- أهمية المنطقة: ويكفي دليلاً على أهميتها أنها كانت السبب المباشر
والشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى وذلك فيما كان ولي عهد النمسا في
زيارة لعاصمة البوسنة والهرسك سراييفو فقام مجموعة من الشباب الصرب المنتمين
إلى منظمة الكف الأسود باغتيال ولي عهد النمسا فقامت على أثر ذلك الحرب بين
النمسا والصرب وهكذا بدأت الحرب العالمية الأولى.
2- الخوف من قيام الجهاد في أوربا: فإن صمود المسلمين وتوجه قيادتهم
الإسلامي والدعم الشعبي الإسلامي، وإذا قام الجهاد في هذه المناطق لا شك أنه
سيكون شوكة في خاصرة أوربا.
3- إثارة هذه الأحداث للشعور الإسلامي بالجسد الواحد يتمثل ذلك في الدعم
الشعبي الكبير للمسلمين هناك والذي تمثل في شعوب المنطقة العربية والمسلمين
بشكل عام.
فمقتل آلاف من المسلمين هناك يؤدي إلى سريان روح الجسد الواحد في الأمة، بينما قبل حوالي ثمانين عاماً وفي الحرب العالمية الأولى يباد هناك 250 ألف
مسلم ولا بواكي لهم. فهو تطور خطير خلال 80 عاماً في نظر الغرب.(54/101)
الطريق إلى الله
فهد أبو عمرو
هل أحسست مرة وأنت تقدم مساعدة لشخص لا تعرفه، فتقيله من عثرة، أو
ترفع له حملاً لا يقوى على رفعه، أو تناوله شيئاً لا تناله يده، أو تدلُّه على حل
لإحدى مشكلاته، أو تقوم له بعمل هو في حاجة إليه.. هل أحسست بالخِفة تملأ
نفسك، فتكاد تحمل جسمك حملاً في الهواء؟ هل أحسست روحك ترفرف عالية
مستبشرة، ونشوة خفية تملأ جناحيك؟ إنها الطريق إلى الله.
.. هل أحسست نحو إنسان أنك تحبه؟ تحبه ولست في حاجة إليه ولا تنتظر
نفعاً على يديه؟ تحبه بلا ضغينة له في نفسك ولا غيرة ولا حقد؟ تحبه فلا تقيس
نفسك - سراً -إليه وتقول: ألم أكن أنا أولى منه بما هو فيه؟ تحبه فلا تحسده على
مزاياه ومواهبه بل تحبها كأنما هي ملكك، وتتمنى له المزيد؟ أنها الطريق إلى الله.
هل أحسست بالألم يعتصر فؤادك؟ ألم من كل نوع.. آلام شتى كلها مؤلم
وكلها شديد.. هل أحسست أنك تتهاوى تحت وطأتها وأنك لا تستطيع احتمالها؟
هل أحسست وخزها يدفعك إلى الصياح.. إلى التأوه.. إلى الانفطار.. إلى انهيار
الأعصاب وانهيار السلطان على النفس؟ وهل تمالكت نفسك رغم هذا، وقلت
تواسي نفسك وتجمع شتاتها تصبِّرها: فليكن ذلك في سبيل الله؟ إنها الطريق إلى
الله.
هل أحنقك الشر يمرح في الأرض؟ هل أحسست بهزة الغضب وأنت ترى
الظلم يقع عليك وعلى غيرك من بني البشر.. هل ضاقت نفسك بالحياة فما عدت
تطيق آلامها وقسوتها؟ هل تملكك الضجر واليأس، وأحسست بالحاجة إلى الشكوى؟ هل تلفت حولك فلم تجد من تشكو إليه؟ لم تجد الصفي الذي يخلص لك حتى
لتفتح له نفسك دون تحرج وتطلعه على كل خفاياك؟ أو لم تجد راحة في شكواك
إلى الناس؟ ثم هل تطلعت إلى السماء وانفجرت بالشكوى؟ هل وجدت الله
وشكوت له بثك ونجواك؟ ، إنها الطريق إلى الله.(54/102)
حول مصطلح التطرف
زكريا بن عبد الله الزامل
إن التلاعب بالمصطلحات قديم قدم المصطلحات ذاتها، ويكثر هذا النوع من
التلاعب في هذا الزمان، حتى وصل إلى حد الإرهاب بأنواعه، وحتى أصبح
وظيفة لبعض من رواد الصحافة أن يطلقوا الأحكام على خلق الله، فإذا تمسك
المسلم ببعض السلوك الإسلامي وصم بالتطرف والأصولية، وإذا طالب بإقامة حكم
إسلامي رمي بأنه متطرف وصولي، وإذا طالب بإحياء فريضة الجهاد في سبيل
الله وصف بأنه راديكالي، وإذا طالب بالعودة إلى الكتاب والسنة وترك حثالة الآراء
وصف بأنه نصوصي حرفي، وهكذا تنتقى المصطلحات المناسبة من قاموس
الصحافة المستوردة مع إمكانية استيراد مصطلحات جديدة لما يستجد في الساحة من
ظواهر.
ونحن لا نعجب ولا نستغرب هذا العداء لأننا نعلم أن هذه الفئة من الناس إنما
هي عالة على الفكر الغربي المتطرف ذي البعد العدائي للإسلام والمسلمين، ولأنهم
الوجه الآخر للاستعمار فهي شنشنة نعرفها من أخزم، لكن عجبنا أن يكون من حملة
الأقلام الإسلامية وممن يعد من حماة الدين والذابين عنه عندما يقعوا في ذلك المزلق
الخطير، وإن كانوا يملكون من ثقة القراء ما يعذرون به إلا أنهم في المقابل يوقعون
نوعاً آخر من القراء في دوامة وحيرة.
ومن المصطلحات التي أصبحت مجالاً للتلاعب والخداع مصطلح (التطرف
الديني) حيث شاع ذكره والكلام عليه هذه الأيام، لذا وجب علينا معرفة حقيقة التطرف وما يتعلق به ومن ملابسات.
إن هذا المصطلح دخيل لا تعرفه قواميس اللغة المعتمدة، فهو غربي النشأة
يُرمى به كل من يدعو للعودة إلى الكنيسة والكتاب المقدس ويستعمل القوة والعنف
في ذلك كما هو حال الكنيسة في العصور الوسطى لأوربا كقولهم radical,
fundamental, fanatic، ومعناها على الترتيب متعصب، أصولي، متطرف، فترجمت هذه المصطلحات لتكون أسلحة مضادة للمصلحين.
لذا فنحن لا نعرف شيئاً اسمه تطرف ديني، ولكن نعرف شيئاً اسمه الغلو في
الدين، هذا من حيث اللغة. أما من حيث المفهوم فإن المعنى المتبادر لمفهوم
التطرف الديني يختلف عن المعنى المتبادر لمفهوم الغلو في الدين، حيث إن
استعمال مصطلح التطرف بدلاً من الغلو ينتج عنه فجوة إن لم يكن عداء بين عامة
الناس وعلمائهم من جهة، وبين من يسمون المتطرفين من جهة أخرى، ولا يخفى
خطر ذلك على كلا الفريقين، أما مصطلح الغلو فإنه لا يقصد منه خلق فجوة أو
العداء أو الوقيعة أو الإرهاب أو حتى التندر، بل إننا عندما نستعمل مصطلح
الغلو - وهو مصطلح إسلامي - نريد منه الإصلاح والتحذير ومعالجة هذه ... الظاهرة
والرفق بأصحابها والحرص عليهم.
وأيضاً فقولهم التطرف الديني تجُّوز في العبارة، إذ إن الغلو أو التطرف -
على حد تعبيرهم - يكون في أسلوب التدين وليس في الدين ذاته، لذا فنحن نقول:
الغلو في الدين ولا نقول الغلو الديني، وقد أشار إلى ذلك بعض الباحثين، وإن كان
وجد من العلماء السابقين من استعمل لفظ التطرف تجوزاً إلا أن الأصل هو المرجع
اللغوي، وأيضاً فهؤلاء العلماء لم يكونوا يقصدون من ذلك الاستعمال التشويه أو
الاستهزاء بل كان مجرد تجوز في الاستعمال كما ذكرت، هذا من جهة التطرف
كمصطلح.
أما من جهة استعماله وتوظيفه فإننا نجد العجب العجاب ممن يكيل بمكيالين
حيث نجد من الكتاب المحسوبين على الإسلام من يستعمل مصطلح التطرف الديني
ويقيم المظاهرات الإعلامية عليه وأنه أشد أنواع التطرف خطراً وضرراً على الفرد
والمجتمع وأن أصحابه يتطرفون في آرائهم ويتجرأون على الفتيا في الدين بغير
علم، ويوزعون أحكام التكفير والتفسيق مع الناس دون تمييز ويتعصبون لآرائهم
ويسفهون غيرهم ويصبحون أحاديي النظرة، ولا يعرفون من الألوان إلا الأبيض
والأسود، وإذا ما حازوا على منبر عام وصلوا إلى حد الإرهاب.. الخ من أنواع
الشتائم.
ففي حين وضع التطرف الديني تحت قائمة هذه الاتهامات لا نجد هؤلاء
الكتاب يتكلمون عن التطرف السياسي الذي لا يتكلم إلا بالحديد والنار وأعواد
المشانق، وهو أشد خطراً وضرراً على الأمة. أما التطرف الفكري فهو عند هؤلاء
الكتاب أقل شأناً وأهمية ولا يعتبر ذا خطورة بالغة مقابل التطرف الديني مع أنه
يضل كثيراً من الناس، وقد يخرجهم من دائرة الإسلام. وما العلمانية وقبلها
المعتزلة وأخواتها من الفرق الضالة إلا نتاجاً طبيعياً لهذا النوع من الغلو أو التطرف.
فمن هو الذي يتطرف في رأيه ويتجرأ على الفتيا في الدين بغير علم،
ويوزع أحكام التطرف والأصولية والخروج عن الدين على خلق الله دون تمييز
ومن هو الذي يسفه آراء غيره؟ ومن هو أحادي النظر؟ ومن هو الذي إذا حاز
على منبر عام وصل إلى حد الإرهاب؟ أليسوا هم أولئك الفئة من الناس التي
تطاولت على الإسلام وحاكمته بمحاكمة حملته، ورمته بالجمود والتخلف؟ في
مقابل تصفيقها ودعوتها للثقافة الغربية والفكر الغربي.. وأيضاً ما هو السبب في
نشوء هذا الغلو في الدين؟ أليس هو الممارسات السياسية والفكرية المتطرفة.
فلماذا توضع اللائمة على هؤلاء دون هؤلاء ويحاكم هؤلاء دون هؤلاء، أم أننا
أصبنا بداء الغلو أو التطرف في دراسة هذه الظاهرة وتحليلها وإصدار الحكم عليها. وإنني بذلك لست أدافع عن الغلو أو التجاوز في التعامل والسلوك أو اعتذر له أو
عنه، فإننا نعلم من ديننا بالضرورة - وهو دين الوسطية - النهي عن الغلو في
الدين، وأنه سبب في هلاك الأمم، ولكني أدعو بذلك إلى نقد ذاتي بناء بعيداً عن
تدخلات الآخرين المتلهفين إلى نقد كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وأدعو إلى نقد
خالص بعيد عن الاتهامات أو التجريح أو التناقضات أو عدم الإنصاف، نقد يقصد
منه النصح للأمة، وهذا النقد يكون نابعاً عن إحساس الأمة بالنقص والخطأ
واتجاهها إلى التصحيح بعيداً عن ردود الأفعال.
وعلينا ألا نكون ضحية لسياسة الأمر الواقع، أو أن نستقطب فكرياً من
الأعداء فيما نكتب، وأن نجعل فكرنا ونقدنا حراً طليقا في إطار أصالتنا بعيداً عن
مؤثرات الأعداء وإيعازات المخربين.(54/105)
الورقة الأخيرة
من الرطانة إلى المسخ
محمد بن حامد الأحمري
هناك معارك تعترك فيها اللغات كما تعترك الجيوش على حدود الدول وفي
أعماقها وقد لا تراها العيون، ولأن الناس يصلون نار المعارك العسكرية وتسيل
الدماء وتهلك الجموع؛ فلا يهتم أحد بالمعارك الثقافية الأخرى، وبخاصة معارك
اللغات..
اليوم تنكمش اللغة العربية، وتحاصر في كل ركن، وتحل محلها اللغة
العبرية والإنجليزية والفرنسية. فدول المشرق العربي تعيش نهباً للغة الإنجليزية
وأحياناً الفرنسية، في القرى النائية وأعماق الصحراء تجد اللوحات باللغة
الإنجليزية في الوقت الذي لم يقف على أبواب هذه الأماكن متحدث بهذه اللغة. بل
وصل الأمر بشركتين عربيتين في بلد عربي أن تكتبا العقود بينها بالإنجليزية
وتمنعا عمالها من الحديث بالعربية، وبلغ الجهل والتخلف بهؤلاء أن تكون جميع
اللوحات الإرشادية بالإنجليزية، وأحياناً نصف اللوحات.
وفي دول المغرب العربي مشروع فرنسة شامل، ففرنسا تقوم بمعونات ثقافية
مجانية بإرسال مدرسي اللغة الفرنسية وإغراق الأسواق بالكتب والأفلام الفرنسية
بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية. وأوقف مشروع التعريب في هذه البلدان بحجة
أن التعريب أدى للأصولية.
ويوم ينتهي النفوذ السياسي والاقتصادي للفرنسية والإنجليزية - وقد يكون
قريباً - هل سترثها اللغات المتخلفة جداً كاليابانية والصينية والهندية وندرسها في
مدارسنا ونحول وسائل إعلامنا لها، أم أن المستقبل للعبرية والتي تتزايد شهرتها
واهتمام العالم بها، لأن اليهود احترموا لغتهم ففرضوها على العالم، ولم يكن أحد
يتحدث بها إلا كهنة معابد اليهود وكانت العبرية والديانة اليهودية أهم وسائل تكوين
دولة مترابطة، لأن اليهود قدموا من شعوب شتى ولغات شتى فجمعتهم العبرية
والديانة اليهودية.
إننا لنلوي ألسنتنا بعجمتهم ورطانتهم في كل بلدانهم حيث لا يحترمون لنا لغة
ولا ذات، ويوم يدخلون بلداننا ترانا نستبق تحت أقدامهم لنترجم لهم خدماً طيعين
بلا أجر، بل ونحرص ألا تعكر مزاجهم كلمة عربية واحدة، بل إن المريض في
الدول العربية عندما يشتد به المرض قد لا يفكر في الذهاب إلى المستشفى لأنه لا
يستطيع أن يشرح مرضه بلغة أخرى، وهم لا يفهمونه بل ربما أمرضوه أو قتلوه
لأنه لا يعرف لغتهم ولا يعرفون لغته.
لقد انهارت الثقافة الإسلامية وعلومها العربية يوم أن كانت اللغة التركية لغة
ثانية بل لغة مسيطرة في البلاد العربية، وعشنا زمناً طويلاً من الانطواء وضعف
العلوم والثقافة، لأن اللغة المهيمنة لم تكن لغة المجتمع فلم تكن العربية، ولم
يتعرب الأتراك، واليوم سيكون بقاء اللغات الأجنبية مسيطرة في بلاد المسلمين
علامة انهيار ثقافي وتبعية سياسية شاملة، فمجتمع يعيش بلغتين ويحيا ثقافتين
مجتمع مصيره المسخ والانهيار، فاختاروا لكم حياة ثقافية وحضارية واحدة، إما أن
تكون العربية، أو الفرنسية، أو الإنجليزية، وتجنبوا مشاريع التقليد الفاشلة قديماً
وحديثاً. ونحن اليوم نعيد تجربة العهد التركي الفاشلة ثقافياً مع أنها حمت المسلمين
عسكرياً زمناً طويلاً، نعيد التجربة مع الغربيين. لقد آن لنا أن نعي ثقافتنا ونعرف
أهمية لغتنا وألا نحيا حياة المسوخ، وليس في هذا منع لوجود مختصين ونقلة لما
نحتاجه من الغرب أو الشرق، فتكون هناك حاجة دائماً لمن يعرف هذه اللغات
سواء اليابانية أو الصينية أو العبرية أو الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن ليس بهذه
العملية الماسخة لشعوبنا، الممزقة لها سياسياً وثقافياً، آن لنا أن نتخلص من هذا
الاستعمار الفكري المزري.(54/109)
ربيع الأول - 1413هـ
سبتمبر - 1992م
(السنة: 7)(55/)
الافتتاحية
نحن والإعلام الغربي
محمد بن حامد الأحمري
كتب أحد أدباء كينيا يصف الحال التي أوصلتهم إليها مرحلة الاستعمار فقال:
(جاؤوا إلينا يحملون البندقية والإنجيل، فأمطرونا بالرصاص، ثم غمموا أعيننا،
ووضعوا أيدينا على المحاريث نقلب لهم الأرض ونزرعها، وبعد عناء طويل فتحنا
أعيننا لنجد بأيدينا الإنجيل وبأيديهم الأرض والثروة، وكنا قد نسينا استعمال السلاح، فنحن اليوم نقلب الإنجيل، ونتقلب في المجاعة والتبعية) .
تلك خلاصة حال المستعمرات التي عانت من عماء طويل ونهب منظم أشد
خطراً على الأمة من الهزائم العسكرية التي تلحق بها مؤقتاً، حيث يهب الناس بعد
ذلك لتغيير ما حل بهم، ولكن هذا التغيير مشروط بوجود الوعي العام لدى الأمة.
وقد سارعت القوى الغربية لإيجاد عوازل كثيفة بين الناس وبين سبل الوعي، وجعلت من الإعلام الذي يفترض أن يكون هو وسيلة التوعية والفهم جعلت منه
وسيلة لاستمرار الجهل والتخلف في دول العالم الثالث حيث يمارس هذا الإعلام
دوراً رئيسياً في تعمية الشعوب وصرفها عن طريق الحق والخير. وكلما تطورت
الصناعة الإعلامية في عصرنا سارع المشوهون للمفاهيم والعقول إلى استخدامها
لكبح وعرقلة طريق الوعي للأمة. وشاهد ذلك ما يحيا عليه المسلمون من مشرق
العالم إلى مغربه من وسائل إعلامية تعرض وتكتب في كل الأوقات مادة واسعة
حول شئون العالم، ولكنه حين يقف أمام هذا الكم الهائل لا يجد الصحيفة التي تهتم
به وبشئونه، ولا يرى ولا يسمع من يعبر عن وجهة نظهره، ولا يسمح له بالتعبير
عن رأيه ولذا فقد صودرت أبسط حقوقه في الرؤية أو السماع أو القراءة. ...
إن إرغام العالم الإسلامي بجماهيره الواسعة على سماع وتقبل وجهة النظر
الغريبة في كل الأحداث لا يمكن أن يجعله قابلاً لها ومُسلِّماً بها، بل إن هذا
الإصرار الغربي الشديد على رأيه في إسماع العالم صوتاً واحداً ورأياً واحداً فقط في
كل مسألة يدفع المسلمين إلى تكوين وجهة نظرهم الخاصة المضادة والتي قد
تنحرف أو يسودها العنف في بعض الأوقات حين لا يتوفر لها حرية الإقناع
والاقتناع وذلك لأن الشعوب الإسلامية أصبحت هامشاً مهملاً لا حق له ولا صوت
ولا رأي.
وإذا سمح بقسط أوسع من الحرية والكرامة للشعوب نضجت عامتها وخاصتها، وأصبح لذوي القرار قدرة ووعي وتوفر للمعلومات أكثر في حال تنوع مصادرها
وتنوع التحليل. ولا يمكن أن توجد لديهم هذه القدرة حين ترى وسائلهم الإعلامية
العالم من خلال المنظار الغربي فقط، ومن خلال زوايا ضيقة يسمح بأن ينظر
الناس من خلالها.
والإعلام الغربي عجوز قديم سبر الشعوب الصغيرة التي تحبو على أبواب
عالم اليوم وتحاول أن تدخل محافله وأن تؤثر في قراراته، ولكن خبراته تحاول أن
تجعل من الشعوب الصغيرة - أو التي هي في طرقها للتصغير لا للكبر - أبواقاً
للحن العام مشاركة في فريق الإنشاد ملتزمة بكل تفصيلات الإيقاع، فهذه الشعوب
آلات صغيرة يجب أن تلتزم بدور هامشي في المهرجان العالمي، وأن تكتفي فيه
بدور المصفق والمشاهد المغبون الذي يكدح وتوضع يده على المحاريث ويغطى
بصره، ثم بعد عناء طال أم قصر تزول الحجب وتكون عاقبته كعاقبة الأفارقة لا
يجد في يديه إلا (النظام العالمي القديم) خرافة يقلب فيها نظره فلا يعرف لها معنى ...
ولا تقيه من حر ولا قر.
واليوم يواجه مسلمو البوسنة المجازر والتهجير وإنهاء الوجود وتصفية دولتهم
التي اعترف بها العالم والأمم المتحدة، ويترقب المسلمون ويقلبون أيديهم فلا يجدون
إلا مؤامرات ومؤتمرات تكون عاقبتها كعاقبة مؤتمر فلسطين أو أسوأ [1] .
لهذا فحقيقة الشعارات والمظاهرات الإعلامية خديعة للضعفاء والمنقسمين. إذ
لا يصنع السلام إلا السلاح والقوة، والقادر على الحرب هو القادر على السلام وهو
الذي يلهي الضعفاء بالخداع والشعارات والضجة الإعلامية ثم يشرب المهزومون
السراب.
إن المسلمين اليوم لا يستفيدون من الانغلاق الإعلامي وإحكام المنافذ ضد
المعرفة أو الوعي بما يدور في العالم، وهم كذلك لا يستفيدون من جعل أنفسهم
مستهلكين فقط للمادة الإعلامية الغربية. فلا بد مع الانفتاح الإعلامي العالمي الذي
يحياه المسلمون اليوم من المشاركة الإسلامية البديلة، بل لا بد من فرض البدائل
وفتح المجال لها مهما بدأت صغيرة واهنة قليلة الأنصار محدودة الدعم، فإنها -
بإذن الله - هي الوارثة وهي التي تملك جذورها في الشعوب المسلمة؛ في قلوبهم
وأيديهم وألسنتهم وأموالهم، فهي لسانهم الناطق ومنبرهم المعبر عن آمالهم، ويمنعنا
نحن المسلمين عن هذه المشروعات المهمة أمور كثيرة منها ما هو بأيدي أعدائنا
ومنها ما نحن سببه، كبخلنا وعجزنا وترددنا وخوفنا من الأعمال المؤثرة. ومتى
تغلبنا على هذه المثبطات في أوساطنا فلا يملك العالم إلا الاعتراف بالصوت المؤثر
والخبر الصادق.
أما أن المسلمين سيستفيدون من الانفتاح العالمي فهذا مما لا شك فيه لأن الله لم
يخلق شراً محضاً. فالمسلمون بواسطة الإعلام الغربي والوكالات الغربية يعرفون
ما يحدث في أرجاء العالم ويتجاوبون معه قدر المستطاع. وحين يرون ما يقوم به
إخوانهم في بلدان بعيدة من عمل لإعزاز دين الله ونصرته فإن ذلك يثير العزائم
ويقوي الآمال ويحث المسلمين أجمعين على تقوية الصلة ومناصرة قضايا المسلمين
على الرغم من انحياز اللغة التي يُنقل بها الحدث. وكثير من قضايا الإسلام
والمسلمين في العالم ما كان للمسلمين أن يعرفوها بسهولة لو لم توصلها لهم أجهزة
الإعلام الغربي على ما فيها من تشويه.
ترسخت لدى الغرب صناعة إعلامية تجعل له تأثيراً وقابلية، ويشارك بدور
أساسي في صناعة القرارات ذلك لأنه إعلام مستقل إلى درجة كبيرة عن نفوذ
الحكومة المباشر، ورقيب عليها وعلى سير عملها بما يخدم مصلحة الشعوب. ثم
هو إعلام تنافسي تتنافس فيه هذه الوسائل على السبق الخبري، والتحليل المؤثر
والأسلوب الجذاب، وبالتالي تحصل الوسيلة الإعلامية على الإعلانات والمال
وجماهير المتابعين لتلك الوسيلة الإعلامية مرئية كانت أو مسموعة أو مكتوبة.
وقد تنافست هذه الوسائل في إعطاء صورة لمجازر المسلمين في البوسنة
وكان لهذه التغطية الإعلامية أثرها العالمي في كشف هدف الصرب وهو إخلاء
أوروبا من الإسلام. وفي هذه المرة بقي القرار السياسي العالمي يلعب بكلمات
الحرب العرقية والعنصرية وتجنب الدخول فيها. وقد كان أحد الصحفيين يحاور (جون ميجر) ليستخرج من فمه كلمة تصف هذه الحرب بأنها حرب نصرانية، ولكنه كان يهرب تماماً من أي إشارة إلى هوية الحرب الدائرة حتى يتجنب ما يبنى على هذا الوصف من موقف سياسي أو عسكري لا يريد النصارى اتخاذه ضد إخوانهم الصرب ويكتفى بإرسال الطعام للقتلى! !
وهذا نموذج للمصطلحات والتسميات التي يتداولها الإعلام من أسلحة الكلمة
المؤثرة، حيث يبتدعون تسميات ومصطلحات جديدة محملة بالمعاني التي يريدون
نشرها.
مثال ذلك مصطلح (الشرق الأوسط) الذي اخترعوه ليكون بديلاً (للمشرق
العربي) ، الذي يعني كون هذه المنطقة الجزء الشرقي من بلاد العرب المسلمين، ...
أما (الأوسط) فإنه يحمل دلالات أخرى منها أن هذه المنطقة للعرب ولغيرهم؛
للمسلمين واليهود والنصارى، ثم هي وسطى بالنسبة لغيرنا وليس لنا. وقد أشيع
هذا المصطلح وقبل به حتى أصبح وكأنه الأصل.
ومن المصطلحات التي يراد نشرها مصطلح الأصولية، والتطرف،
والأيديولوجية، بدائل عن الإسلام ولمزاً للمسلمين. وهذه شنشنة نعرفها من قديم،
منذ وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بأنهم صابئون، وأنهم ...
مسحورون، ووصفت أمم أخرى أنبياءها بأشنع من هذا. وهذه المصطلحات من
إشاعة الإعلام الغربي ومن حصائده وسلبياته الكبيرة التي تصغر أمام فوائده.
وقصارى القول إننا لا نملك الغياب عن العالم والحياة ولا أن نجعل من هذا
زمن العض على أصل شجرة ما دام بإمكاننا أن نعمل وأن نؤثر في مسيرة العالم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط ...
الناس ولا يصبر على أذاهم) [2] ، ولا نلجأ للعزلة الإعلامية فهي وهم، بل ... إن استخدام هذه المادة الإعلامية السيئة وإعادة صياغتها في المرحلة الأولى بما يناسب أوضاع المسلمين مطلب ملح حتى يأتي ذلك اليوم الذي نصنع فيه الخبر ابتداءاً.
ولا يفهم من هذا القول أن تكون بيوتنا وحياتنا ساحة للإعلام الغربي، ولا أن
تُسلم الأمة لهذه الهيمنة الإعلامية، فقد نهينا عن الاستماع لأهل الباطل والقعود معهم
حين يخوضون في باطلهم ويستهزئون بالحق الذي معنا. وهم يتربصون بنا
ويخادعوننا ويحاولون الاستحواذ على عقولنا وألسنتنا، وللحق في ليل الظلام نجوم
تهدي ذوي البصائر، الذين لا يقفون في صف من يقول: [إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ] وسدوا عليكم الأرض والسماء والأعين والأبصار، ولكنهم من الذين لا
يحزنهم الذين يسارعون في الكفر، وإنما يدفعهم هذا إلى بذل الجهد لإيجاد منابر
للحق جديدة وتدعيم ما هو موجود منها.
__________
(1) ملف البوسنة في هذا العدد ناقش بتوسع العديد من جوانب القضية البوسنية.
(2) رواه أحمد والترمذي والبخاري وصححه الألباني.(55/4)
مقابلة
البيان تحاور الدكتور
جعفر شيخ ادريس
الدكتور جعفر شيخ ادريس علم من أعلام الفكر الإسلامي ومن رواد الدعوة
الإسلامية في هذا العصر وقد زار المنتدى الإسلامي محاضراً في الملتقى الثالث
عشر وقد اغتنمت البيان هذه الفرصة لإجراء هذا الحوار:
* البيان: نود أن نبدأ الحوار معكم من زاوية الهم الثقافي، فهل أنتم راضون
عن المستوى الفكري للعمل الإسلامي بعد مرحلة الستينات، مرحلة سيد قطب
والمودودي؟ وهل هناك من جديد أو من تقدم في هذا المجال أم لا؟
* من ناحية كتب الثقافة العامة لا أظن أن هناك كتباً في مستوى هؤلاء الرواد
الأوائل، لكن الذي حدث - وهو شيء حسن نحمد الله عليه - نشر كثير من كتب
السلف، وانتشرت بين كثير من الشباب، خصوصاً في السعودية - البلد الذي
أعرفه - وأعرف أنه حصل شيء مماثل في بعض البلاد العربية الأخرى كمصر،
وهذه من الظواهر الجديدة التي لم تكن موجودة سابقاً. هذه الكتب الفكرية لها فوائد، وكتب السلف أيضاً لها فوائد، والشيء الأمثل أن يوجد هذا وهذا.
فنحن لا نريد أن نعيش فقط على كتب التراث، بل نريد أن نستفيد أيضاً من
هؤلاء الأئمة ومن مناهجهم، ونواجه مشكلاتنا بمستوى ثقافي وعلمي رفيع نرجو
أن يتحقق.
* البيان: تعني: لم يتحقق تطور قوي في هذه الفترة
* أظن هذا والله أعلم.
* البيان: لا شك أنه حصل رجوع إلى الأصالة، فأقبل الشباب على
الاستزادة من العلم الشرعي، مما أسهم في تصويب مسيرة العمل الإسلامي إلى حد
كبير. ولكننا نلاحظ أن مواجهة المسائل المتعلقة بفقه الواقع لا تزال دون المستوى
المطلوب.
* لقد كررت هذا الكلام كثيراً وأقوله الآن. أنا متصل بالحضارة الغربية وأنا
عندما أنتقد، أنتقد أيضاً نفسي لأني كنت من الذين يُتوقع منهم شيء في هذا السبيل. وأنا ما زلت أقول لإخواني: ينبغي أن لا نخدع أنفسنا ونظن أن الغرب يعدنا
تحدياً فكرياً، أنا لا أظن إلى الآن أن الغرب يعدنا تحدياً فكرياً، ربما بعض
المستشرقين الذين درسوا الإسلام وعرفوه قد يعتبرونه تحدياً فكرياً، لكن عامة
المثقفين الغربيين كانوا يعدون الماركسية تحدياً فكرياً ويناقشونها، وتجد أن بعض
الطلاب والأساتذة صاروا ماركسيين، لكن لأن الماركسية أيديولوجية غربية انتقدت
الرأسمالية، وانتقدت الحياة الغربية بمستوى فكري كبير. أما نحن فإلى الآن لا
توجد لدينا كتب تضاهي كتب الأقدمين في نقد النصرانية أو في نقد الفلسفة، ككتب
الغزالي وابن حزم وابن تيمية وغيرهم في مواجهة الفكر غير الإسلامي، حتى
كتابات الدعاة الكبار التي ذكرناها لا تكفي، لا يوجد لدينا شيء يمكن أن يقرأه
المثقف الغربي ويعتبره نقداً قوياً فينبهر به ويقول: إن هذا نقد قوي.
* البيان: أظن أن هناك نوعاً من التبسيط لقضية فهم الغرب وتحديه، الآن (شعار المسلمون قادمون) رفعته مجلات في أمريكا وكتبت مقالات رئيسية في المجلات اليمينية المعروفة، وأساتذة جامعيون كتبوا أن المسلمين قادمون، والإعلام سواء المسموع أو المكتوب اهتم بهذه القضية. وهناك نوع من الأحاديث عن الوحدة الأوربية وأثرها في ضبط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المستقبل، وهناك نوع من الكلام والتحركات السياسية والعسكرية وغيرها للمحافظة على النفوذ في العالم الإسلامي في المرحلة القادمة خوفاً من الإسلام، فهل من المناسب الآن أو هل من الحق أن نقول: إنهم لا يشعرون بالتحدي الفكري، أظن أنهم يشعرون أن الإسلام كمجتمعات تشعر بهويتها، ويمكن أن تتحد سياسياً ويمكن أن تكون قوة مواجهة يمثل تحدياً فهم يضايقهم أن الصين ليست في صفهم فكيف إذا ولد عالم إسلامي.
* قلت: أنهم لا يشعرون أنه تحدٍ فكري، أما كونه تحدياً سياسياً اقتصادياً
فطبعاً، يمكن لأي قوة أن تصير تحدياً والذي أقوله أنهم لا يعدوننا تحدياً فكرياً.
وصورة الإسلام عندهم ليست هي الصورة الصحيحة، حتى الصحفيون الذين
يكتبون عن أحوال العالم الإسلامي وعامة المثقفين وحتى الذين يهتمون بالشرق
الأوسط والعالم الإسلامي؛ ليست صورة الإسلام عندهم هي الصورة الصحيحة،
والذي يخيفهم ليس هو الإسلام الذي نعرفه. وهذا أمر طبيعي فإذا كانت صورة
الإسلام ليست هي الصورة الصحيحة حتى في قلوب وعقول معظم المسلمين؛
فكيف نتصور أنها تكون هي الصورة الصحيحة عند الغربيين؟ ! أنا لا أقول إنهم
لا يعتبروننا تحدياً أو لا يخافون من الإسلام أو أنهم لا يعدون العدة لمواجهة الإسلام؛ لكن أقول أولاً: هذا الإسلام الذي يخيفهم لا يعدونه تحدياً فكرياً. وثانياً: الصورة
التي يخافون منها هي في غالبها ليست الصورة الإسلامية الصحيحة وعندهم خلط
عجيب، فلا تراهم يفرقون بين رجل يفهم الإسلام وتطبيقه، وبين صدام حسين
مثلاً.
* البيان: نحن متفقون على أنه في الوقت الحاضر عندنا تراجع في إنتاج
دراسات فكرية، أو في تكملة ما بدأه بعض المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، وعندنا الآن فقر فكري شديد، لا شك في ذلك، ما سبب ذلك؟ هل الموضوعات
التي تصلح أن تكون مدار بحث ودراسة أم أن هناك أسباباً أخرى طرأت كفقدان
الحرية مثلاً؟
* أنا أقول: إن جزءاً منها راجع إلى الأفكار؛ فهؤلاء الرواد الأوائل عاشوا
في أجواء من الحرية، نحن الآن قد لا نتمتع بها، وتثقفوا وكونوا أنفسهم، وهذا
التكوين كان شخصياً فالمودودي، وحسن البنا وسيد قطب.. هؤلاء عاشوا في
أجواء ديموقراطية نسبية، وكونوا أنفسهم، وهناك سبب قد لا يرضى عن ذكره
المتأثرون بالعقليات الحزبية، وهو أن هؤلاء كونوا أنفسهم خارج التنظيمات،
ولكن المؤسف أن حركة هؤلاء الرواد التي تحولت إلى تنظيمات كانت هي من
أسباب الركود الفكري، لأن كثيراً من الشباب اكتفوا بالحركة اليومية والمواجهات
السياسية، وظنوا أن ما كتبه الرواد يكفي، والمهم أن نقوم بشيء عملي! مع
الأسف عملهم هو الذي أدى إلى هذا الركود.
* البيان: لكن إذا قلنا أن التنظيمات هي من الأسباب؛ هناك من الناس
خارج التنظيمات وهم مفكرون وعندهم قدرات لماذا لا يكتبون؟ إذاً العامل الرئيسي
هو الجو المخيم، انعدام الحرية وحالة اليأس الفاشية بين المسلمين الآن، يقولون:
ما الفائدة من الكتابة؟ الإسلام مهدد في عقر داره.
* نعم هذا السبب الأول الذي قلناه، وهو سبب إضافي، والذي قلته عن
التنظيمات هو شيء معروف ليس فقط في التنظيمات الإسلامية، بل حتى في
التنظيمات الأخرى، أحياناً التنظيم يصور للشخص المنتمي إليه أن مجرد الانتماء
إليه عمل عظيم، ويكتفي بهذه الاجتماعات، كان بعض الغربيين قد لاحظوا تشابهاً
بين الحزب الشيوعي والكنيسة الكاثوليكية، قالوا: إن كثيراً من المفكرين ضاقوا
بالكنيسة الكاثوليكية لأنها تخنقهم، فخرجوا منها، وأن الحزب الشيوعي قد أخذ
كثيراً من مواضعات الكنيسة الكاثوليكية فصار قرار الحزب عندهم جزءاً من
الشيوعية، كما أن قرار البابا جزء من الدين، وإلى حد ما لولا أن الإسلام فيه كلام
واضح عن أن مصادر الدين هي الكتاب والسنة فإن بعض الأحزاب كادت تجعل
قراراتها جزءاً من الدين، وإن لم تقل ذلك صراحة؛ لكنها تهتم بالالتزام بها أكثر
من اهتمامها بالالتزام بكثير من نصوص الكتاب والسنة، وتجد كثيراً من الشباب
المنتمين إلى التنظيمات يلتزم فعلاً ولا يداخله شك في وجوب الالتزام بقرارات
التنظيم، وإن داخله شك في الالتزام في بعض النصوص الشرعية أو أنه يتسامح
في بعض الأمور الشرعية أكثر من تسامحه في الامور التنظيمية، على كل حال
غاية ما يقال أنه سبب من الأسباب وليس هو السبب الرئيسي..
* البيان: ذكرتم في الحديث عن الغرب وقضية المواجهة أن في الغرب الآن
عودة إلى الإيمان بالخالق، كيف هذا، وهل نعتبر هذه نقلة تساعدنا في دعوتهم
للإسلام؟
* استقر في أذهان الغربيين في الماضي أن مسألة وجود الخالق هذه مسألة
انتهت، عندما كنت طالباً أدرس الفلسفة (الغربية) ؛ كان الشيء الشائع بين الفلاسفة
أن هذا الموضوع انتهى، لكن الذي فتحه الآن ليس الفلاسفة وليس رجال الدين،
بل رجال الفيزياء، الفكرة ببساطة أنه في الماضي كان يقال بحسب النظرية
الفيزيائية القديمة أن هذه المادة أزلية لم تخلق ولا تنعدم، فالسؤال من أين جاءت لا
يطرأ، وهذه هي التي بني عليها الإلحاد الأوروبي تقريباً ولا سيما الإلحاد الماركسي، النظرية الحديثة التي يسمونها الانفجار الكوني العظيم تقول: إن الكون كله كان ...
في شكل ذرة صغيرة وأن هذه الذرة مسبوقة بالعدم، فصار السؤال: من أين
جاءت، - سؤالاً مشروعاً - ففتح الباب بهذه الطريقة، لكن مع الأسف من الأشياء التي نحن ملامون عليها أنهم عندما بدأوا بمناقشة هذا الكلام لم يجدوا عندهم شيئاً إلا كتابات فلاسفتهم وفيها الكثير من الخلط الفكري، وأنا حاولت في مقال سينشر في شكل رسالة صغيرة أن أجمع حججهم الحديثة التي يدافعون بها عن الإلحاد بالرغم من حدوث المادة، وجئت بكلام العلماء المسلمين كالغزالي وابن تيمية في رد الحجج العقلية الشائعة بين الفلاسفة، تستغرب أن عقل إنسان يقول لهم أن شيئاً يأتي من العدم، القرآن يقول: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ] ، يعنى إما أحد هذين أو أن له خالقاً، وكل من هذين مستحيل لذلك جاء ذلك في القرآن بصيغة سؤال استنكاري [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) خلقوا أنفسهم؟ ! هذا مستحيل، الذي يقوله الآن كبار هؤلاء الفيزيائيين والفلاسفة هو أحد هذين: إما أن يقول المادة خلقت نفسها، أو يقول أنها جاءت من العدم، وقليلون هم الذين يقولون ليس هناك مخرج إلا في وجود خالق، فلو أن الفكر الإسلامى كان متصلاً بهذه المسائل، ولو أن المسلمين شاركوا لربما ساعد ذلك على أن يعود هذا العلم الشارد إلى الله، وقد شجعت بعض الإخوان الذين أعرف أنهم متعمقون بعلم الفيزياء ولهم معرفة حسنة بدينهم أن يكتبوا في هذه القضية التي أصبحت الآن مفتوحة.
* البيان: لا يسمحون، فهم لا يعترفون بعالم عربي أو مسلم فيزيائي أحب
أن يكتب بحثاً في هذا الموضوع. لا أظن أن هناك دورية أو مجلة تنشر له هذا
البحث.
* ما داموا هم يكتبون تستطيع أن تناقشهم، وبعض الإخوة الآن يكتبون في
المجلات الفيزيائية في الاتجاه العادي، أما الموضوع الديني فقد أصبح موضوعاً
شائعاً بينهم، والمهتمون بعلم الفلك وأصل الكون يسمحون، ولا يشترط أن أقول
لهم هذا إسلام أو غير إسلام، الحجج التي عرفتها من الدين وعلماء المسلمين
أذكرها وأبطل بها حججهم.
* البيان: لكن أنت سوف تتعرض لأشياء إسلامية استقيتها من القرآن الذي
نعتقد - نحن المسلمين - أنه وحي من السماء، وهم يرون أنك تتحدث عن أمور
هي عندهم غيبية وليست عالمية.
* لا ينبغي أن أطرح هذه المسألة، لأن المناقشة عقلية: هل الكون له خالق؟ ومن المفروض أن أواجهه بما عندي من حجج عقلية أخذتها من كتاب الله وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو بحسب ما وسعها علماء المسلمين وشرحوها، طبعاً لا أواجهه بأن القرآن قال كذا أو السنة قالت كذا. لأنه لا يؤمن بالأصل
حتى إني قرأت منذ أيام كلاماً لشيخ الإسلام فحواه أن الخطاب في مكة كان: يا أيها
الناس، لأن الكلام كان عن أصول الدين، والذي لا يؤمن بالأصول لا يخاطب
بالفروع، وما نزلت] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا [إلا في المدينة ومعها أيضاً] يَا أَيُّهَا
النَّاسُ [فنحن الآن في عصر نقول فيه يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا، فعندما
نقول يا أيها الناس نواجههم بأصول الدين وبحججه العقلية والعلمية لا بالاستناد إلى
مصدرها.
- يتبع -(55/10)
تدوين العقيدة في القرن الرابع الهجري
عثمان جمعة ضميرية
إذ انتهى بنا البحث في تدوين العقيدة الإسلامية إلى القرن الرابع الهجري،
وهو ما أسماه بعضهم بـ (عصر النهضة في الإسلام) ، فإننا نجد مصطلحاً شاع ...
استعماله كثيراً، ولا يزال، حتى أصبح عَلَماً على هذا الجانب الذي نؤرِّخ له،
وهو (التوحيد) ، وبجانبه مصطلح آخر هو (الشريعة) مع مصطلحات أخرى.
نقف لها هذه المقالة المختصرة، لعل فيها بعض الغَناء عن كثير من التطويل
والإسهاب.
4- التوحيد:
قال ابن فارس في (معجم المقاييس) [1] :
(وحد - الواو والحاء والدال، أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك: ...
الوحدة. وهو واحد قبيلته، إذ لم يكن فيهم مثله. قال الشاعر:
يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير
ولقيتُ القوم مَوْحَد مَوْحَد، ولقيتهُ وحدَه. ولا يضاف إلا في قولهم: نسيج
وحده، وعيير وحده.. والواحد: المنفرد..) .
وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات) [2] : ...
(الوحدة: الانفراد. والواحد - في الحقيقة - هو الشيء الذي لا جزء له ... البتة. ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به.. ...
فالواحد لفظ مشترك يطلق على ستة أوجه) وذكر هذه الوجوه.
وقال ابن منظور في (اللسان) [3] :
(قال ابن سِيْده: والله الأوحد المتوحد وذو الوحدانية. ومن صفاته: الواحد
الأحد. والفرق بينهما - كما قال الأزهري وغيره -: أن (الأحد) بني لنفي ما ...
يذكر معه من العدد، و (الواحد) اسم بني لمفتتح العدد ... ولا يوصف شيء ...
بالأحدية غير الله تعالى) .
والتوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد، وهو على
وزن التَّفعيل، وهذا النوع من الفعل يأتي متعدياً، إلا أحرفاً جاءت لازمة، كقولهم: روَّض الرَّوْضُ، إذا تمَّ حسنه ونضارته..
وهذه الصيغة لها معنيان: أحدهما: تكثير الفعل وتكريره والمبالغة فيه،
كقولهم: كسَّرت الإناء، وغلَّقت الأبواب.
والوجه الثاني: وقوعه مرة واحدة كقولهم: غدَّيت فلاناً وعشَّيته.
ومعنى وحَّدته: جعلته منفرداً عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته.
والتشديد فيه للمبالغة، أي: بالغت في وصفه بذلك.. وقولهم: وحَّدت الله، أي
علِمْتُه واحداً منزَّهاً عن المثل في الذات والصفات. وقال بعض العلماء: التوحيد
نفي التشبيه عن ذات الله وصفاته وألوهيته [4] .
وبعد هذا التعريف اللغوي نشير إلى المعنى الاصطلاحي الشرعي، فإن
التوحيد هو أساس دعوة الإسلام، وهو دين جميع الرسل والأنبياء، وهو إفراد الله
تعالى بالربوبية والطاعة أو العبادة، ويشمل ذلك أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد
الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهي كلها متلازمة
مترابطة.
وتطلق كلمة (التوحيد) أيضاً: على العِلْم الذي يدرس الجانب العقائدي من
الدين، وعندئذ عرفه العلماء بأنه: علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن
يثبت له من صفاته، وما يجوز أن يوصف به وما يجب، وما ينفى عنه، ويبحث
عن الرسل لإثبات رسالتهم وما يجوز أن ينسب إليهم وما يمتنع. وسمي بهذا الاسم
تسمية له بأهم أجزائه، فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ولما أصبح التوحيد لقباً لهذا العلم، وجدنا عدداً من العلماء كتب فيه تحت هذا ...
العنوان مثل: (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل -) لابن خزيمة (306 هـ) ، و (التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته على ... الاتفاق والتفرُّد) لابن منده (395 هـ) ، و (الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة) للحافظ قوَّام السنة الأصبهاني (535 هـ) ، و (التمهيد لقواعد التوحيد) لأبي المعين النسفي (508 هـ) وهكذا وضعت كتب بهذا العنوان في عصور تالية، لن نستقصيها ونتحدث عنها، لأن ذلك يخرج بنا عما أرد ناه من إيجاز [5] .
5- الشريعة:
قال ابن فارس في (معجم المقاييس) [6] :
(شرع - الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شىء يُفْتح في امتداد يكون
فيه، من ذلك: الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء. واشتق من ذلك: الشرعة في
الدين والشريعة) .
وقال ابن منظور في (اللسان) مادة شرع [7] :
(الشريعة والشرعة: ما سنَّ الله من الدين وأمر به، كالصوم ... والصلاة.. مشتق من شاطئ البحر. ومن قوله تعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً] قيل في تفسيره: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق..) . ...
والشريعة - كما قال الكَفَوي - اسم للأحكام الجزئية التي يتهذب بها المكلَّف
معاشاً ومعاداً، سواء كانت منصوصة من الشارع أو راجعه إليه.
ومما ذكره العلماء من تعريف للشريعة نجد أنها تطق على معانٍ متعددة:
أ- فالشريعة هي: كل ما أنزله الله تعالى على أنبيائه، وهي تنتظم الاعتقاد
والأحكام العملية والأخلاق. فهي ما شرعه الله من الاعتقاد والعمل. وبهذا تلتقى مع
مفهوم السنة الذي سلف بيانه فيما سبق [8] .
ب- وتطلق كذلك على ما خص الله تعالى به كل نبي من الأحكام لأمته، مما
يختلف من دعوة نبي لآخر، من المنهاج وتفصيل العبادات والمعاملات، ومن هنا
نقول: إن الدين في أصله واحد، والشرائع متعددة.
ج- وتطلق أحياناً على ما شرعه الله تعالى لجميع الرسل من أصول الاعتقاد
والبِّر والطاعة مما لا يختلف من دعوة نبي لآخر، كما قال تعالى: [شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ ومَا وصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى]
[الشورى 13] .
د- وتطلق الشريعة بخاصة على العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان. مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه
ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق.. وأنهم لا يكفرِّون أهل
القبلة بمجرَّد الذنوب.. فسمَّوا أصول اعتقادهم: شريعة..
والشريعة في هذا كالسنة، التي تقدم الكلام عليها، فقد يراد بها ما سنَّه
وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنَّه من العمل، وقد يراد بها كلاهما [9] .
وممن كتب في اعتقاد أهل السنة والجماعة باسم الشريعة: الإمام الآجري
(360 هـ) ، وابن بطة العكبري في كتابه (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) وتوفي ابن بطة سنة (387 هـ) . وطبع الكتاب ... الأول أكثر من مرة، وحقَّق رسالة علمية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، قدمها الشيخ عبد الله الدميجي، وحقق الثاني كذلك الشيخ رضا معطي، رسالة جامعية في الجامعة نفسها ثم طبع القسم المحقق منها في مجلدين.
6- العقيدة:
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) [10] :
(عقد - العين والقاف والدال، أصل واحد يدل على شدٍّ وشدَّةِ وثوقٍ. وإليه
ترجع فروع الباب كلها. من ذلك: عقد البناء، والجمع أعقاد وعقود.. وعقدْتُ
الحبل أعقده عقداً، وقد انعقد، وتلك هي العقدة. وعاقدته مثل عاهدته. وهو العقد، والجمع عقود.
والعقد: عقد اليمين، ومنه قوله تعالى: [ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ] . وعقدة كل شيء: وجوبه وإبرامه. وعقد قلبه على كذا فلا ينزع عنه. واعتقد
الشيء: صَلُب. واعتقد الإخاءُ: ثَبَتَ..) .
وقال الراغب في (المفردات) [11] :
(العقد: الجمع بين أطراف الشيء. ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد ...
الحبل وعقد البناء. ثم يستعار ذلك للمعاني نحو: عقد البيع والعهد وغيرهما،
فيقال: عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت يمينه..) .
وفي (المصباح المنير) : (اعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة ما يدين به الإنسان. وله عقيدة حسنة: سالمة من الشك) . ومن هذه النصوص اللغوية نلاحظ أن مدار كلمة (عقد) على الوثوق والثبات والصلابة في الشيء.
ومن هنا جاء تعريف العقيدة والاعتقاد - كما في المعجم الوسيط - حيث قال: (العقيدة) : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.
ومن هذا المعنى اللغوي أخذ تعريف العقيدة في الاصطلاح الشرعي، فقال
الشيخ حسن البنا - رحمه الله - في تعريف العقائد - بصيغة الجمع -: (هي
الأمور التي يجب أن يصدِّق بها قلبك، وتطمئن إليها نفسك، وتكون يقينا عندك،
لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك) .
فهي إذن اعتقاد جازم مطابق للواقع، لا يقبل شكاً ولا ظناً، فما لم يصل العلم
بالشيء إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة. وإذا كان الاعتقاد غير مطابق
للواقع والحق الثابت ولا يقوم على دليل، فهو ليس عقيدة صحيحة سليمة، وإنما
هو عقيدة فاسدة، كاعتقاد النصارى بالتثليث وبألوهية عيسى -عليه السلام-.
والناس في هذا الاعتقاد يتفاوتون، وهم في العقيدة على مراتب، كما أن آثار
هذه العقيدة تختلف من شخص لآخر حسب ما يقوم به بنفسه منها، واستيقانه بها
وفهمه لها وتفاعله معها.
والدراسة التحليلية للعقيدة تشير إلى أنها تعتمد على جوانب نفسية وجدانية
وإرادية وعقلية في حياة الإنسان، وتتصل بها كلها اتصالاً وثيقاً، بها تتكامل
شخصية الفرد، وبها ينتفي التضارب والصراع بين قواه المتعددة.
هذا، وقد أصبحت كلمة (العقيدة) اسم عَلَمَ على العلم الذي يدرس جوانب
الإيمان والتوحيد - التي سبقت الإشارة إليها - وأصبح كل من يكتب في هذا
الجانب يُطلق على ما كتبه اسم العقيدة، فيقال: عقيدة الطحاوي، وعقيدة فلان من
العلماء.. وأصبحت هذه الكلمة مضافة إلى الإسلام عنواناً على المادة الدراسية في
المعاهد والكليات وغيرهما، فيقال (مادة العقيدة الإسلامية) .
وأقدم من عرفته ممن استعمل هذه الكلمة عنواناً لما كتبه هو الإمام الحافظ
اللالكائي (418 هـ) في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) . ويقع الكتاب في ثمانية أجزاء طبعت بتحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان. وفي القرن ... نفسه كتب الإمام أبو عثمان الصابوني (449) رسالته باسم (عقيدة السلف ... أصحاب الحديث) . وكتب الجويني (478) كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) . وقد سبق كتاب (الحجة في ترك المحجة وشرح عقيدة التوحيد) للحافظ قوَّام السنة الأصفهاني. وهناك كتب كثيرة تحت هذا العنوان نكتفي بما ذكرناه منها.
7- أصول الدين:
والأصل في اللغة: ما يبتنى عليه غيره من حيث أنه يبتنى عليه، حسياً كان
أو عقلياً. ويطلق عند الفقهاء والأصوليين على معان: أحدها: الدليل، فيقال:
الأصل في المسألة الكتاب والسنة. ويطلق على القاعدة الكلية، كقاعدة لا ضرر ولا
ضرار. ويطلق بمعنى ثالث: وهو الراجح والأولى، كما يطلق على المستصحب.
والأصل في الدين هو التوحيد، والأصل في الاعتقاد هو الإيمان بالمبدأ أو
المعاد.
وعلى هذا فأصول الدين هي: ما يقوم الدين عليه ويعتبر أصلاً له. وهو ...
يقوم على عقيدة التوحيد، ومن هنا سمي علم التوحيد بـ (أصول الدين) كما سماه ... ...
بعضهم علم (الفقه الأكبر) أو علم (الأصول) . وهي ألفاظ متقاربة. وعرَّ فه ...
بعضهم بأنه: علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية، بإيراد الحجج لها، ودفع ...
الشُبَهِ عنها [12] .
وهكذا أصبحت كلمة (أصول الدين) لقباً لعلم العقيدة، وقد استخدمه الشافعي ...
في كتابه (الفقه الأكبر) ، ولم يشتهر وقتها. ثم وضع الإمام الأشعري (329هـ) ...
كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة) ، ولابن بطة العكبري (387 هـ) : ... (الإبانة عن أصول السنة والديانة) ، وللإمام أبي منصور عبد القادر البغدادي ...
(429هـ) كتاب (أصول الدين) ولأبي عثمان الصابوني كتابه السابق في العقيدة، يمكن أن نسلكه هنا، حيث قال فيه: (سألني إخواني أن أجمع لهم فصولاً في أصول الدين..) ثم ذكر هذه الأصول. ولإمام الحرمين الجويني كتاب (الشامل في أصول الدين) . ...
وغير ذلك من الكتب لغيرهم.
__________
(1) 6 / 90-91.
(2) 514-515.
(3) 3/450-451.
(4) انظر: التعريفات للجرجاني ص (96) ، الحجة في بيان المحجة للأصفهاني: 1/305-306.
(5) انظر بالتفصيل: محاضرات في العقيدة، لكاتب هذا المقال ص (67- 70) .
(6) 3/262.
(7) 8-176.
(8) انظر العدد (54) من مجلة البيان، ص (18-20) .
(9) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه: 19/306-307.
(10) 4/86-87.
(11) ص 341.
(12) أبجد العلوم لصديق خان: 3/67 وانظر فيما سبق: الكليات للكفوي 1/ 188، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه: 19/134.(55/18)
خواطر في الدعوة
ثقافة الكتاب
محمد العبدة
من الظواهر الملفتة للنظر في حياتنا الثقافية هذه الأيام مزاحمة الشريط
المسموع للكتاب المقروء، وخاصة عند جيل الشباب الذي ضاق وقته في زحمة
الدراسة وزحمة العمل. وهذا العصر هو عصر السرعة، فهو يستمع للشريط في
غدوه ورواحه، وربما في المنزل وهو يقوم بأعمال أخرى، والسماع أسهل من
القراءة، فالقراءة بحاجة إلى صفاء في الذهن واستجماع طاقة التركيز، ولهذا بدا
وكأن الكتاب - وبخاصة إذا كان من الحجم المتوسط أو الكبير - ثقيل الظل على
هؤلاء الشباب.
وقبل أن نتكلم على أهمية الكتاب لا بد من القول أن الشريط الإسلامي الذي
يتضمن المحاضرات والدروس القيمة والخطب المؤثرة الصادقة، قد ساهم مساهمة
كبيرة في نشر الوعي بين صفوف طبقات كثيرة من الناس - وأعطاهم ثقافة لا بأس
بها، وهو وسيلة فعالة لأسباب كثيرة منها: سهولة التلقي، وسهولة الشراء،
وسرعة الانتقال، ولكن هل يغني هذا كله عن الكتاب؟ خاصة للشاب المسلم الذي
يؤهل نفسه ليكون داعية، والجواب: لا. ذلك لأن الشريط وإن كان يتضمن علماً
مثل الكتاب أحياناً، ولكن طريقة السماع لا تعطي العمق الذي تعيه القراءة،
والمعلومات التي في الكتاب لا يستطيع الشريط استيعابها، وفي الكتاب تعيش مع
المؤلف ومع الكلمات فتعطيك روحاً من روحها، ونحن نتكلم عن الكتاب المعاصر
الذي لا يوجد في شريط والذي يتحدث عن قضايا مهمة جداً من قضايا العصر،
فهل يهمل لأن حجمه فوق المتوسط، فكيف إذا انتقلنا إلى كتب الأمهات والأصول
مما كتبه الأجداد، وهو ذخيرة وأي ذخيرة في فهم الكتاب والسنة، ولا بد من
الرجوع إليها وخاصة التي تعتبر وحيدة في فنها، ولا نتكلم عن الكتيبات التي
زاحمت الكتاب أيضاً، وهي وإن كانت وسيلة ناجحة لطبقات معينة لكن يخشى أن
تصبح هي الأصل ويستسهل الناس أمثالها، وينفرون من الكتاب حتى ولو كان من
الحجم المتوسط.
لا يبني الداعية شخصيته بهذه الثقافة وحدها، لا بد أن يعيش مع الكتاب،
ومع الكتاب النافع المهم، ويتذكر أنه قبل كل شريط كانت هناك قراءة وكتابة، وأن
العالم أو الداعية الذي يستمع له قد أفنى حياته في القراءة قبل أن يقدم الشريط الجيد، وأما الاعتذار بضيق الوقت فهو حجة واهية، لأن الذي ينظم وقته لا بد أن يجد
وقتاً كافياً يعيش فيه مع الكتاب، ونقول له أخيراً: إن القراءة متعة بحد ذاتها، وإن
أول ما نزل من القرآن:
[اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ] .(55/27)
دعوة للإنصاف
محمد بن عبد الله الدويش
حين نلقي نظرة سريعة على الجهود المبذولة لإحياء واقع الأمة نجد إنتاجاً ثراً
متنوعاً.
فهذا يعني بالعلم ونشره قد أخذ على عاتقه إزالة غشاوة الجهل عن جسد الأمة، والآخر سلك سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسخر وقته لإنكار المنكرات المتفشية، وأعلى لذلك نفيس وقته وعصارة جهده. والثالث قد تألم لواقع
من استهواهم الشيطان وساروا في طريق الانحراف فرأى أن أفضل ما يعني به
وخير ما يقدمه استنقاذ هؤلاء من براثن الفساد والانحراف، والرابع قد رق قلبه
للأكباد الجائعة، والبطون الخاوية هنا وهناك، فأصبح ينفق من خالص ما يملك،
ويجمع النفقات من فلان وفلان. والخامس قد استهوته حياة الجهاد فودع وعاش
هناك ينتقل من أرض إلى أرض مجاهداً مقاتلاً في سبيل الله، والسادس رأى أن
هذا الدين دين الناس جميعاً فسخر طاقته لدعوة غير المسلمين، والثامن قد سخر
قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والدخلاء من
المتحدثين زوراً باسمه. وآخرهم رأى أن عدة الأمة في شبابها وأن تربيتهم
وإعدادهم من خير ما يقدم للأمة، فصار هذا شأنه.
إنها كما ترى أخي الكريم جهود خيرة مطلوبة لا تستغني عنها الأمة، وهي
كذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد، أو جماعة واحدة، وهي مهما اختلفت مراتبها
وأولوياتها مطلوبة في هذه المرحلة.
وحين نتجه للواقع العملي بعد ذلك نرى التخصص قد حوله البعض إلى تنافر، فتراه يحشد الأدلة، ويسوق الحجج لبيان أن هذا الطريق الذي اختاره هو خير ما
ينبغي عمله، وأن ما سواه لا يعدو أن يكون اشتغالاً بالدون، وانصرافاً عن المنهج
السديد.. ويغدو صاحبنا ينظر نظرة احتقار إلى من سد غير ثغره، واعتنى بغير
بابه، ويتحسر على جهود هؤلاء المساكين الذين يضيعون أوقاتهم فيما لا فائدة فيه.
ولكن حين ندرك:
أولاً: سوء واقع الأمة، والهوة الساحقة بينها وبين ما أراده الله لها وهو أن
تكون خير أمة أخرجت للناس، ولم تكن هذه الهوة نتيجة قفزة واحدة بل قد تضافر
عليها جهود جبارة مغرضة، ناهيك عن المدى الزمني لهذه الجهود المتضافرة لإفساد
الأمة.
ثانياً: اتساع رقعة الانحراف لتشمل كافة الجوانب العقدية، والفكرية
والسلوكية.. فمن تحدث عن الانحراف العقدي، أو عن انحراف المفاهيم
والتصورات، أو عن الانحراف السلوكي أو عن الخلل في الجوانب العبادية، أو
عن انتشار الجهل وندرة العلم، وجد في جانب واحد فقط مما يتحدث فيه ما يثري
حديثه، ويستهلك وقته وقلمه.
ثالثاً: أمر آخر يرتبط بأدوات التغيير، وهم البشر، فلقد خلق الله الناس
معادن، ومواهب وطاقات، فمن يصلح لأمر لا يصلح لأمر آخر. ومن يسد ثغراً
قد لا يسده غيره. قال الامام مالك -رحمه الله-: (إن الله قسم الأعمال كما قسم
الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في
الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل
أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه،
وأرجو أى يكون كلانا على خير) .
رابعاً: وهب أن هذا الفرد أو هذه الجماعة أصبحت تملك قدرات خارقة
وخيالية، فتجيد كل الجوانب من تصحيح العقيدة، ونشر العلم، واستنقاذ المنحرفين، وتربية النشء، ودعوة المرأة، والجهاد.. إلى آخر هذه القائمة، هب جدلاً أن
هذا الفرد، أو أن تلك الجماعة أطاقت الأمر كله فهل يعني أنها سدت الثغرة وقامت
بالأمانة؟ !
خامساً: لا بد للجيش من رجل في الساقة، ورجل في الميمنة، ورجل في
الميسرة، ورجل في الحراسة، ورجل يعد الطعام، بل ورجل يخلف أهل من سار
للجهاد، وهي منازل متفاوتة، ولكن حين نحتكم إلى المنطق نفسه، والنظرة إياها،
فسيعيب من كان في الساقة من كان في الحراسة، ومن كان في الميمنة سينتقد من
كان يعد الطعام، وأما صاحب الميسرة فسينعى على من خلف الغزاة في أهلهم،
وكأنه لم يسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من خلف غازياً في أهله بخير فقد
غزا) .
فهلا نظرة منصفة، ورؤية واقعية، تضع الأمر في نصابه، فيسد كل ثغرة
ويلزم مكانه، ومع ذلك يحترم جهود الآخرين، ويشعر أن الجميع يسعى لهدف
واحد، وأن ما فيه غيره ليس بدون ما هو فيه؟(55/29)
تراث
هجوم على العمالقة
محمد عبد الله آل شاكر
- 1 -
قال لي صاحبي يوماً وهو يحاورني: لقد أجمعت أمري على أن أفاجئ العالم
باختراع جديد، وسَبْق فريد، أسجِّل حقوقه، فلا يعتدي أحد عليها بالسطو أو
التقليد.. قال هذا، وعلامات الجد ترتسم على محياه، فما عهدت منه إلا الصرامة والجد. فلا بد - إذن - أن شيئاً جديداً نافعاً يفكر فيه صاحبنا كيما يقدم للأمة ما قد يكون سبباً في رفعتها وتقدمها الماديّ والمعنوي، فتغدو وقد بزَّت غيرها من الأمم، وتربعت على كرسي الزعامة والريادة.
وبادرت صاحبي بالسؤال عن هذا الاختراع الفريد؟ ! فقال: إنه جهاز
لضغط العمالقة الكبار، لتحويلهم إلى أقزام صغار! فضحكت حتى وقعت لقفاي
وفحصت برجلي..: جهاز لضغط العمالقة! ضحكت، أولاً، لطرافة الفكرة
وغرابتها، وضحكت ثانية: للنكتة تجري على لسان صاحبي - فقد ظننتها نكتة -
وما عرفته كذلك. فإذا به ينتهرني لأكفَّ عن ضحكي، فالموقف غاية في الجد
والخطورة، فليست هذه نكتة، ولكنها فكرة جديدة، لها سوابق تاريخية واقعية
تعطيها صفة المشروعية.
فقلت في نفسي: أَمَا وإنّ الأمر جدّ خطير، فينبغي أن أحذِّر صاحبي من هذا
العدوان المبيَّت على العمالقة. فما أظنهم يتركونه يعبث بسمعتهم عندما يفكر
بتحويلهم إلى أقزام، فضلاً عن أن يتركوه يمضي في تحقيق ما يريد! وإن تواضع
العمالقة فسكتوا، أو إن ترفعوا فأغضوا؛ أفيسكت عن ذلك كله دعاة حقوق الإنسان؟ ويغضي عنه أناس لا تزال في رؤوسهم نخوة وحمية للإنسانية، وعندهم أثارة
من علم بعواقب هذا البغي والظلم للآخرين..؟
إذ هذا العدوان حرام آثم بحكم الشرع، وممقوت بغيض بنظر الإنسانية،
ومخاطرة كبيرة بنظر الواقع!
فقال آمناً مطمئناً: ومن ذا الذي حرّمه عليّ وأباحه لغيري؟ فتعجبت من
إصراره، وازددت عجباً من دعواه أن غيره أبيح له ذلك ففَعَله! فما سمعنا ولا
قرأنا - على الأقل في صحفنا العربية العتيدة - خبراً عن هذا الذي قام به غيره.
وحتى لا يتركني صاحبي في حيرة من أمري، وحتى لا أسترسل في عجبي
واستغرابي، اقتادني من يدي ليريني شاهد الصدق على ما يقول، واقعاً مشاهداً،
نراه بأم أعيننا، ونلمسه بأيدينا، ونتحسسه عن قرب.. فإذا وقع هذا، فلا أدلَّ
على المشروعية من وقوعه، ومن ثم فهو دليل وسابقة تدل على مشروعية ما يفكر
به صاحبي ويعزم على إنفاذه.
-2-
دخلت مع صاحبي إلى مكتبته، فأخذ يتناول بعض ما فيها من مجلدات
وكتيبات، ثم يضعها أمامي، وكأنه يقول: هذا هو الدليل العملي الذي أريد أن
أقدمه بين يدي مشروعي ليدل على صوابه وجوازه، أي هذه هي السوابق التاريخية
التي أصبحت حجة، لأن أحداً لم يعترض عليها، فدل ذلك على الموافقة أو
الإجماع السكوتي على الأقل.
هذا هو كتاب (المغني) لابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) ، موسوعة ... ضخمة في الفقه الإسلامي، تباهي به المكتبة الإسلامية، ويعتز بها الفقهاء، حتى ... قال عنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام - وهو من هو في الإمامة في العلم والاجتهاد - قال عنه: (ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل (المحلى ... والمجلى) لابن حزم، وكتاب (المغني) للشيخ موفق الدين بن قدامة، في جودتهما وتحقيق ما فيهما، ولم تطب نفسي بالفتيا حتى صارت نسخة من المغني عندي) . ...
وما أظنني بعد كلمة العز هذه بحاجة إلى الحديث عن مكانة هذا الكتاب
الضخم، الذي بلغ عشر مجلدات كبار، وفي بعض الطبعات أكثر من هذا، ولكن
أحد الأساتذة المشاركين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قام باختصاره وسماه (المقني في اختصار المغني) ، رأيت منه مجلدين اثنين، ينتهي الأول منهما بنهاية
كتاب الجنائز، قال فيه صاحبه: (ولعل كبر الكتاب وتوسعه قصر الاستفادة منه -
إلى حد كبير - على المتخصصين. ورغبة مني في المشاركة في خدمة هذا الكتاب
الجليل، ومن أجل تعميم الاستفادة منه، وتقريب تناوله أقدمت على اختصاره..)
ص (5) .
وعجبت لعمل الأخ الأستاذ، مرات.
أولاً: لأنه أستاذ في الجامعة الإسلامية التي كانت ولا تزال ولن تزال - إن
شاء الله تعالى - مركز إشعاع ونور وهداية، والتي نتوسم فيها وفي أساتذتها
ومشايخها أن يكونوا سداً منيعاً أمام سيل المختصرات والتشويهات التي بدأت تغمر
ساحتنا الفكرية، وأن يقولوا كلمة الفصل للتفريق بين هذا العبث وبين تذليل العلم
لطالبيه.
ثانياً: العجب من فكرة الاختصار نفسها بهذا الشكل؛ فإن هذا الكتاب الكبير،
لم يكتبه مؤلفه - رحمه الله - لعامة الناس من غير المتخصصين الذين نريد التيسير
لهم، ولهذا فإن عبارة الدكتور: (ولعل كبر الكتاب وتوسعه قصر الإفادة منه - إلى
حد كبير - على المتخصصين) لم تضف جديداً، مع أن هذا القول غير مسلم؛
فالمغني بعبارته السهلة التي تنساب انسياباً يمكن أن ينتفع به كثير من القراء الذين
يراجعون أمثال هذه الكتب، بَلْه المتخصصين من طلاب الشريعة. وهذا التوسع
في الكتاب هو ميزته الفذة.
أَوَليس هناك طريقة أخرى لخدمة الكتاب وتيسير الانتفاع به، كالفهرسة،
وإبراز بداية الفصول والأبواب والمسائل بخط واضح مثلاً يشير إلى موضوعها بما
يغني عن إدخال العناوين الجانبية في صلب الكتاب؟ !
وإذا كان هذا المختصر يقع في ثماني مجلدات - كما علمت - فكيف يكون
تيسيره للقراء وتعميم الاستفادة منه وهو بحجم يعادل حجم الأصل، فإن كان ذلك
بتيسير شرائه، فإن القادر على شراء المختصر بهذا الحجم قادر على شراء الأصل
الذي يقاربه، ومن يقرأ في هذا لا يعجز عن القراءة والفهم في الأصل.
ثالثاً: طريقة الاختصار، التي ذهبت بجلّ حسنات وميزات (المغني) وله
من اسمه نصيب فهو المغني حقاً، يغني طالب العلم عن كثير من كتب الفقه، ولا
يغني عنه كثير منها، فهو كتاب (في فقه المسلمين كافة) كما يقول الشيخ محمد
رشيد رضا، يذكر أقوال علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين،
كالأئمة المتبوعين وغيرهم، ويحكي أدلة كل منهم.
فقام الدكتور بحذف (التفريعات النادرة الوقوع، والأقوال الضعيفة أو ... الشاذة) . وما كان ينبغي له أن يفعل ذلك؛ فشذوذ القول لا يبيح لنا حذفه من ... الكتاب، ووجوده هو الذي يثبت القاعدة الأصل. وكذلك الأقوال الضعيفة، فكم من قول ضعيف في المذهب مثلاً، نجده راجحاً عند إمام آخر في المذهب، أو عند واحد من علماء الترجيح، وكثيراً ما نجد في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ... ترجيحاً لواحدٍ من هذه الأقوال.
أما (الاكتفاء من الأدلة بالأصح والأصرح) ، فكان يغنينا لتحقيق ذلك كتاب
مختصر في الفقه، مما يُعنى بالدليل، لأنه عندئذ لا يستدل إلا بما هو صريح غالباً، ... وبما هو صحيح كذلك من حيث الاستدلال، وتبقى ميزة المغني في أنه يستوعب
الأدلة الصريحة وغير الصريحة، وهذه الأخيرة تشد الدليل وتقويه كذلك. ...
ومن ميزات المغني كذلك: أنه يعرض لفقه مجموعة كبيرة من علماء السلف، فاكتفى فضيلة الدكتور (بذكر من قال بالمسائل من أصحاب المذاهب المشهورة
غالباً..) وفي هذا حرمان لطالب العلم من معرفة آراء غير المشهورين، وقد يكون
لها قيمتها ومكانتها.
عجبت للأخ الدكتور حين يقول: (أثبت نصوص الأحاديث من كتب ...
الأحاديث..) . فهل معنى ذلك: أن ابن قدامة، رحمه الله، لما أثبت الأحاديث واستدل بها في كتابه أخذها من غير كتب الحديث؟ أم أنه يقصد أن فيها ... اختلافاً عما يجده بين يديه من كتب الحديث؟
فإن كانت الأولى، فأين الدليل؟ . وإن كانت الثانية؛ فإن أقل ما يقال: إن
هذا من اختلاف النسخ والروايات، وهذا معلوم وقوعه كثيراً.. وحتى لو كان غير
ذلك فيمكن الإشارة إلى هذا في حاشية الكتاب.
وأما العناية الكبيرة والإطالة في التخريج، حتى تبلغ التعليقة أحياناً ثلثي
الصفحة بخط دقيق، فهي تتنافى مع فكرة الاختصار، وتناقضها أيضاً.
ويزداد العجب أيضاً من قول فضيلة الدكتور في مختصره: (لم أُعْنَ
بالتعريفات أو المصطلحات أو المفردات شرحاً أو توثيقاً حتى لا أخرج عن طبيعة
الاختصار) فهو قد خرج عن الطريقة قبل قليل. ولو خرج هنا لكان ذلك جائزاً،
فإني أعلم أنه أستاذ جامعي يتلقى الطلبة على يديه أصول البحث العلمي والمنهج
الصحيح، في مواد الشريعة وعلومها، بين جدران كليات الجامعة الإسلامية، ولا
أظن طالب عالم ينازع في أن المصطلحات والتعريفات - في كل علم - من أول ما
ينبغي أن نعنى بها وأن نحددها تحديداً صحيحاً واضحاً، وإلا وقع الالتباس
وضاعت المفاهيم، وتنازعنا فيما نحن متفقون عليه حقيقة.
وأما الاعتذار عن إهمال الشرح والتوثيق للمفردات حتى (لا يخرج عن
طبيعة الاختصار، هذا مع سهولة الوصول إليها، لمن أراد التوسع فيها، في كتب
شروح الفقه والحديث والغريب واللغة) هذا الاعتذار يأتي حجة على صاحبه في
القيام بالاختصار، لأنه يعيدنا ثانية إلى كتب الشروح والحديث.. فكان ينبغي أن
يخفف العناء، فيترك (المغني) لمن أراد هذا التوسع، دون المسخ والاختصار،
ومن لا يريد التوسع فأمامه المختصرات، فهي تكفيه.
إن اعتراضنا على فكرة الاختصار وأسلوبه له ما يسوِّغه، فإن كثيراً من
طلبة العلم سيقتحمون هذه المخاطرة إذا وجدوا من مشايخهم من يستدلون بعمله،
وعندها تكون الفوضى بأجلى صورها، وها نحن نسمع أن أحدهم قد شرع
باختصار (المجموع شرح المهذب) !(55/32)