السعي في حاجة المسلم
خولة درويش
الحياة قاسية، وأهوالها كثيرة ومصائبها جمة، والإسلام دين الحياة الاجتماعية
السليمة، يريد من اتباعه أن يكونوا كالطود الشامخ بل كالجسد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وفي ظل تلك الحياة يشعر المسلم بالطمأنينة والهناء، وترفرف عليه السعادة
لشعوره بأنه لا يواجه الحياة بمفرده في خطوبها الجليلة، فإن إخوته المؤمنين
يمسحون آلامه ويقيلون عثراته، يعينونه برأيهم وهم له ناصحون ويمدونه بمالهم
وهم عليه مشفقون، ويسعون معه بجاههم وهم لخيره راغبون وفي كل ذلك
يلتمسون الأجر والقرب منه تعالى.
روى الحاكم وقال صحيح الإسناد: «لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء
حاجته، وأشار بأصبعه أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين» .
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف» رواه البخاري ومسلم.
فالمسلم يساعد أخاه المسلم. بقدر إمكانياته بيده، بماله، بجاهه ولا يضيق به
مؤثراً السكينة وقد أخلد إلى الراحة.. بينما نجد غيره من إخوته تؤرقهم الهموم،
وتقض مضاجعهم المحن.. وبإمكانه أن يمسحها بشيء من الإيثار ولو على حساب
راحته. قد تحل بأحد المسلمين مشكلة فماذا يكون موقف الآخرين منها؟
لن نتحدث عن ضعاف الإيمان وإنما نتحدث عن الصفوة التي نأمل منها
الكثير.. وكثير من هؤلاء يواجهون المشكلة بهز الكتفين ولسان حال أحدهم يقول:
مالي ولهذا الأمر. فأشغالي أجل منها. وفي أحسن حالاته يحوقل ويتأوه وكأنه يقول: ليس بالإمكان أحسن مما كان.
إن السلبية واللامبالاة لن تحل أمور المسلمين، وهذه التصرفات لابد أن نؤاخذ
عليها. فالنعمة التي خولها الله للعبد سيسأل عنها فيم وضعها؟ فكيف إذا سئل العبد
يوم القيامة إن فلاناً المسلم كان في ضائقة وكان بإمكانك مساعدته، وخذلانك له في
هذه الحاجة قد ألجأه إلى الرشوة ليحصل على حقه، إنك لو سعيت له في جاهك
الذي حباك الله إياه لقضيت مصلحته ويسرت أمره وحلت دون لجوئه إلى الرشوة.
وكم من شاب قد ينحرف عن دينه لقضاء مصالحه عن طريق غير المسلمين
إذا ساعدوه في المال لإنهاء دراسته!
وكم من أسرة تضرع بالدعاء إلى من مد لها يد العون وقد يكون من أعداء
الإسلام! .. وهذا ما يقوم به المنصرون في كثير من ديار المسلمين الفقيرة،
وأندونيسيا خير شاهد على ذلك.
كم من أسرة ناشئة بنيت على غير مرضاة الله للتقصير في مساعدة الشباب
على الإحصان الذي يدعو له الشرع! كل ذلك في غيبة الوعي الفعلي والتقدير لقيمة
العون.
والله تعالى يقول: [مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ
شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا] [النساء 85] . فلا تظن أخي المسلم أن العبادة
مقصورة على نوع من القربات يرسمها خيالك، إنها كل ما يحبه الله من قول أو
عمل.
إن سيرك في حاجة أخيك المسلم إن أحسنت النية واحتسبت الأجر من الله قد
تكون من أفضل العبادات.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في معرض ذكره للآراء في أفضل العبادات:
(ومنهم من رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعدٍ. فرأوه أفضل من
ذي النفع القاصر. فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم
ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» رواه
أبو يعلى.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النافع متعدٍ إلى الغير (أين
أحدهما من الآخر؟) .
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
واحتجوا أن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما
دام نفعه الذي سعى إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في
معاشهم ومعادهم، ولم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والرّهب) ولعل في
هذا القول ما يشفي ويكفي.
فإلى قضاء مصالح المسلمين ينبغي أن ينشط الدعاة المخلصون في كل مكان،
ولا تشغلهم عنها كثرة التبعات. وما قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع
المرأة التي كانت في حالة وضع، ومساعدة زوجها في طهي الطعام عنا ببعيدة.
إن الفطرة السوية لن تنسى اليد التي امتدت إليها ساعة المحنة.
أيها الأخ المسلم يا من تريد النجاح في الدارين: إن الأمر سهل ميسور، إذا
عودت نفسك على قضاء مصالح إخوانك ذوي الحاجات، ولن تنفع الخطب
والمواعظ إذا تقاعست عن أداء حق الأخوة والدين.
وأنت أيتها الأخت المؤمنة: تذكري كلما حببت إليك نفسك الراحة والسكون:
أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.(38/57)
الشورى هل نلتزم بها؟
محمد العبدة
الحديث عن الشورى في الإسلام يكتسب أهمية بالغة وذلك لخطورة هذا
الموضوع أولاً، وللمعاناة التي عاناها ويعانيها المسلمون من أثر الاستبداد ثانياً،
هذا الاستبداد الذي طال كل شيء: الفرد، والأسرة والتجمعات والدولة، وقد كتب
الكثير حول الشورى، وسيكتب لأنها لم تترسخ بعد نظرياً فضلاً عن أن تترسخ
عملياً، والمقصود هو التطبيق العملي.
إن إعادة الكتابة عنها هو من باب التأكيد والتذكير حتى تصبح قاعدة من
قواعد الدعوة والعمل، ولا يقال هنا: ما الفائدة وصورتها التطبيقية لم تأت بعد،
وحتى تأتي الحكومة التي تقبلها نكتب عنها. والحقيقة أننا لا نكتب عن الشورى
للدولة فقط، بل للدعوة الإسلامية، فالشورى قاعدة مهمة وأصيلة من قواعد بناء
الأمة سواء على مستوى مؤسسة أو دولة أو أي تجمع يريد الخير.
منذ بداية ما يسمى (عصر النهضة) أي من مائة عام تقريباً وأصحاب الغيرة
على الأمة الإسلامية يدندنون حول هذا الموضوع، وسواء أصاب بعضهم أم أخطأ
وسواء خلطوا معها مفهوم الحرية والديمقراطية الغربيين أم كانوا واضحين، المهم
أن الموضوع كتب عنه لأنه من أساسيات النهضة ولم يترسخ بعد، لم يتحول القرار
الفردي إلى قرار جماعي، لم تتحول المؤسسة التي تقوم على جهد جماعة وبدلاً من
تطبيقه عملياً، راح بعض الكتاب يجادلون هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ مع أن
أمر الشورى أكبر من هذا الجدل، فنحن لم نحقق الخطوة الأولى وهي الإصغاء إلى
أهل الخبرة والعلم، لم نتعلم فن الاستشارة، قبل أن ننتقل إلى الشورى كممارسة
لصنع القرار في شؤوننا العامة، إن التشاور بحد ذاته عمل مهم وهو فن لم نتعود
عليه، ولم نتقنه بعد، وقد أدبنا الله سبحانه وتعالى بهذا الأدب في لفتات من كتابه
الكريم، ولكن يغفل عنها الغافلون.
(ففي قوله تعالى للملائكة: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ليعلم عباده أن
أحدهم ولو عظم سلطانه وسما في العلم مكانه، لا يحول ذلك بينه وبين أن يعرض
الأمر على من هو دونه، وقص القرآن علينا من أمر بلقيس أنها قالت للملأ من
قومها بعد أن اتصلت بكتب سليمان عليه السلام [يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا
كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ] والقرآن لا يقص علينا القصص للتفكه بالوقائع
التاريخية، ولكن ليتعلم الجاهلون) [1] ...
ويقول الإمام الطرطوشي منبهاً على أهمية الشورى:
(ولا يمنعنك عزمك على إنفاذ رأيك وظهور صدام لك عن الاستشارة ألا ترى أن إبراهيم -عليه السلام- أمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها فيحمله حسن
الأدب على الاستشارة فيه فقال: [يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا
تَرَى] .
وعدم المشورة يعني الاستبداد (والعمل بالرأي الواحد مذموم ولو بلغ صاحبه
ما بلغ من الكمالات والمعارف ولا يسوغ أبداً أن يسلم أمر الدولة لإنسان واحد
بحيث تكون سعادتها وشقاؤها بيده ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلاً، وأوسعهم
علماً) [2] .
وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم
فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد،
استخذاء تحت سوط الجلاد وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتسيطر حين يتاح لها
شيء من النعمة والقوة) [3] .
ومن التصوير الدقيق لأثر الاستبداد على النفوس وكيف ينزل بها إلى مستوى
هابط ما ذكره الكوكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) يقول:
(وقد يبلغ من نتائج الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي
إلى طلب (التسفل) بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من
النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها) [4] ...
فإذا كان الاستبداد يصل بالأمة إلى هذه الدرجة فإن ما قصه القرآن الكريم عن
بني إسرائيل وفساد فطرتهم بسبب خضوعهم الطويل لفرعون مصر لهو أكبر شاهد
على ذلك.
ولابد من الرجوع للقرآن الكريم لنرى ما قال المفسرون حول آية الشورى.
ما قيل في آية الشورى:
قال رشيد رضا في تفسير قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (وشاورهم في ...
الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك
من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب
(غزوة أحد) وإن أخطأوا الرأي فيها، فإن الخير كل الخير في تربيتهم على
المشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صواباً لما في ذلك من النفع لهم في
مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من
الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد
وأكبر) [5]
ويقول سيد قطب: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] بهذا النص الجازم يقرر الإسلام
هذا المبدأ في نظام الحكم وهو نص قاطع لم يدع للأمة الإسلامية شكاً في أن
الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.
لقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة (معركة
أحد) أمام ما أحدثته من انقسام في أوج الظروف ولكن الإسلام كان ينشئ أمة
ويربيها ويعدها لقيادة البشرية وكان الله سبحانه وتعالى يعلم أن خير وسيلة لتربية
الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى، وأن تدرب على حمل التبعة ولو
كان وجود القيادة الرشيدة يمنع الشورى لكان وجود محمد -صلى الله عليه وسلم-
ومعه الوحي كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى ولكنه لم يبلغ
هذا الحق [6] .
ويقول الطرطوشي: (إذا قيل: كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم وواجب
عليهم مشاورته. قلنا هذا أدَبٌ أدَّبَ اللهُ تعالى نبيه عليه السلام به؛ ومن أقبح ما
يوصف به الرجال ملوكاً كانوا أو سوقه الاستبداد بالرأي وترك المشورة) [7] .
قال الرازي في تفسيره: (إنما أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك
ليقتدي به غيره في المشاورة، ولأنه إذا شاورهم اجتهد كل واحد منهم في تحصيل
أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على
حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة
الجماعة أفضل من صلاة المنفرد) [8] .
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره: (فإن في الاستشارة من
الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره، منها: أن المشاورة. من
العبادات المتقرب بها إلى الله ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب، فإن
المشاور لا يكاد يخطئ في فعله) [9] .
__________
(1) محمد البشير النيفر: نبراس المرشدين في أمور الدنيا والدين ص 235 طبعة الدار التونسية للنشر.
(2) د فهمي جدعان / أسس التقدم عند مفكري الإسلام ص 133 والكلام لخير الدين التونسي في كتابه (أقوم المسالك) .
(3) سيد قطب / في ظلال القرآن 1/72.
(4) أسس التقدم عند مفكري الإسلام ص 297.
(5) المنار 4/199.
(6) في ظلال القرآن 1/52.
(7) سراج الملوك ص 94.
(8) مفاتيح الغيب 3/120.
(9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/445.(38/60)
وهلك لويس عوض
خالد بن صالح السيف
لم أشأ أن أكتب عنه، ولا أحسبني قادراً على إرغام قلمي على إعادة الكتابة
عنه مرة ثانية، بيد أن هلاكه أولاً وما حظي به من أزلامه اضطراني إلى أن أكتب
محتسباً، وخائفاً من التأثم، إذ أمنحه مساحة لا يستحقها البتة، ولست أدري أتخفى
طوية مثل هذا ... ربما! !
إذن فالأمر واجب، وعندها أجد المسوّغ
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
مداخلات:
1- يهب المستريبون أنفسهم دلالات تمنحهم بعداً يأخذ بتلابيب السذج،
ليمارسوا التصفيق والمكاء احتساباً وتزلفاً لمقام المريدين، هم أنفسهم جردوا سيوفهم
المتثلمة ليعلموها في رقاب الحروف المستقيمة، تعبيراً صلفاً إزاء مواقف زان
أربابها لباس التقوى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] [الأعراف 26] .
2- أحسب أن أمتنا التهمها (تنين الحداثيين) فقُدَّ قميصها من دبر ورأت
حسناً ما ليس بالحسن! ! وبانت السوءة! ! من لدن المستغربين سفاهة.
وفي هذا المعترك انخرمت قاعدة (الولاء والبراء) فاتسع خرق (العطب) فلم تعد روئيتنا تحسن التفريق بين الهادي والهاذي!! بل انطفأت حدقة الرؤية..
فألفينا الشمس في رابعة النهار (قرص خبز احترق) ورحنا نتعزى (وقد كلمنا)
بقول بشار عن نفسه:
عميت جنيناً والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلاً
وغاص ضياء العين للقلب فاغتذى ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصلاً [1]
معالم هويته:
ما كان (لويس عوض) نكرة ولم يكن أيضاً مستغرقاً في علميته بيد أنهم ...
أرادوا له أن يتجاوز صخراً.. وإن رغم أنف الخنساء -رضي الله عنها- فكان لهم
ما أرادوه قسراً! ! تحقيقاً لمآربهم وكان من حينها ومن قبل متجذر الانتماء لأصله
وملته! ! فلم لم يكن ذلك كذلك؟ !
لا ريب.. فقد كان! ! وانتصب صنماً لحقب تولت.. بزَّ هُبَلاً! !
في أتون المعارك:
وإفرازاً لعطائه المنتن وتجاوزاته المريبة (حيث النزعة الإقليمية.. والعمالة
التبشيرية.. وأبعاد النزعة الطائفية) كانت ثمة معارك في أواخر السبعينات ومن
أشهر الكتاب الذين ناوشوه في معارك ضارية على اختلاف مشاربهم وعدم رضانا ...
عن بعضهم فكراً وعطاءً:
توفيق الحكيم.. أحمد بهاء الدين.. د. حسين فوزي ... يوسف إدريس ...
وحيد رأفت ... د. محمد إسماعيل علي.. وعبد العظيم رمضان..
بيد أن أفضلهم وأشدهم غيرة وصدقاً أستاذنا وشيخنا محمود شاكر في سفره
العظيم الذي سلخ فيه لويس عوض وعراه قبالة الملأ وقد وسمه بـ (أباطيل
وأسمار) جزءان في مجلد واحد. يقول في رسالة الكتاب: (ولهذه الفصول غرض
واحد وإن تشعبت إليه الطرق. وهذا الغرض هو ما قلت للأخ الصديق الأستاذ
محمد عودة: (هو الدفاع عن أمة برمتها هي أمتي العربية الإسلامية، ... وجعلت طريقي أن أهتك الأستار المسدلة التي عمل وراءها رجال فيما خلا من الزمان، ورجال آخرون قد ورثوهم في زماننا وهمهم جميعاً كان: أن يحققوا للثقافة الغربية الوثنية كل الغلبة على عقولنا، وعلى مجتمعنا، وعلى حياتنا وعلى ثقافتنا، وبهذه الغلبة يتم انهيار الكيان العظيم الذي بناه آباؤنا في قرون متطاولة وصححوا به فساد الحياة البشرية في نواحيها الإنسانية والأدبية والأخلاقية والعملية والعلمية الفكرية وردوها إلى طريق مستقيم علم ذلك من علمه وجهله من جهله) [2] ... أحسب أن شيخنا كفانا مؤنة الإسهاب قي إبانة طوية لويس الفرعوني والذي راح ... أبناء أمتنا يأسفون لهلاكه ويبكون دماً. ...
الإسلام في عُرفه [3] :
محصلة رؤيته تجاه الإسلام أوجزها بالآتي:
1- لم يهزم الإسلام الصليبية إلا أنه دين علماني وأكثر علمانية مما كانت
عليه مسيحية القرن السابع.
2- ليس للإسلام نظام سياسي خاص به. كل ما يمكن قوله إن إسلام الأوائل
(حين كان الإسلام شديد النقاء) كان نوعاً من الجمهورية الكالفانية! !
3- كل الذين يحلمون بنظام حكم إسلامي يؤكدون على الأبعاد الروحية
واللاهوتية والبلاغية للإسلام وهذا لا يمكن إلا أن يلغي كل أمل قد يذهبون إليه في
أن ينافس نظام الحكم الإسلامي النظم الغربية.
4- الصحوة الإسلامية ليست إلا تراجعاً تاريخياً تعرقل الجهود الحقيقية
لنهضة قومية.
هذا هو الإسلام كما يراه هذا الهالك ولا يخرجه عن هذه الأطر وأحسبه موقفاً
معروفاً عنه منذ ذي قبل بيد أن التباكي عليه اضطرني إلى نبشه مرة ثانية وحسبي
أنه ضرب من الواجب إذا راحت الأقلام تنعاه وكأن الخطب جلل.
تعريته لنفسه:
يأبى أولئك الحانقون إلا أن يبينوا عن حقيقة أنفسهم بتلقائية المسوق بقدر الله
تعالى، وتلك نعمة، فيدان من فيه، وليس ثمة تحامل من الأخيار كما يُزعم! !
ففي عام 1985 م قال عن نفسه (أنه وجيله من الكتاب قد أصبحوا من الأشباح وأنهم انتهوا بهزيمة يونيو..) [4] غير أن تباشير الصحوة ... الإسلامية أقضت فانعتق من (شبحيته) المشبوهة ليمارس تجاه هذا الطود الشامخ حرباً مني فيها وجيله من الأشباح بهزيمة نكراء أركستهم في شبحيتهم [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] . ورغم هذا العطاء الذي أدركت حقيقته يأسرك العجب ساعة أن تعي موقفه تجاه عطائه وقد رضي عنه ... كل الرضا فدونك موقفه حيث يقول: (أنا الآن على بعد خمسين عاماً من هذه الأحداث التي استرجعها في تأمل حزين وعلى الرغم من خمسين عاماً من العلقم جرعتها حتى الثمالة فلست نادماً على اختيارات حياتي مع أني اقتربت من القبر ولا أملك شيئاً من متاع الدنيا غير لقمتي وسترتي)
[أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن
يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] [فاطر 8] .
__________
(1) ديوان بشار بن برد.
(2) أباطيل وأسمار- رسالة الكتاب ص 10.
(3) نتاج لقاء أجرته معه مجلة صباح الخير عدد 1630.
(4) نقلاً عن مرافئ الأستاذ حمد القاضي المجلة العربية عدد 128 رمضان 1408 هـ.(38/64)
المسلمون في العالم
النظام العالمي الجديد:
الوجه الآخر للاستعمار
-1-
د. أحمد عجاج
تجتاح العالم فرحة غامرة، وتسوده حالة من الارتياح والاسترخاء عقب انتهاء
حرب الخليج أو ما أصبح يعرف بحرب (تحرير الكويت) ، فالمعتدي، وهو هنا
طبعاً العراق، قد لقن درساً قاسياً ورد على أعقابه، والمنطقة بدأت تتنفس من جديد
هواء الحرية الذي حرمت منه في الأشهر الأخيرة.
فالمستقبل يحمل كل بشائر الخير للمنطقة، وعلامات الرضى والتفاؤل بدأت
تظهر ملامحها من خلال تصريحات المسؤولين الغربيين والمتجلية في إعادة ترتيب
أوضاع العالم والمنطقة بشكل خاص.
فنادراً ما نجد صحيفة أو مسؤولاً عربياً إلا ويتحدث عن الترتيبات الجديدة
التي من شأنها أن تنقل المنطقة بلمسة سحرية من حالة الفوضى وعدم الأمن إلى
واحة الاستقرار والحرية.
وجوهر هذا التفاؤل يرجع أساساً إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش في
خطابه الشهير أمام جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب في كانون الثاني حيث
أعلن صراحة ودون مواربة رغبته في بناء نظام عالمي جديد للعالم، وهذا النظام
سيتم بناؤه بإرادة الولايات المتحدة الأمريكية لأنها (هي الدولة الوحيدة بين دول
العالم التي لديها المبدأ الأخلاقي والوسائل المتوفرة لتنفيذه) .
إن ترديد معزوفة النظام الجديد، لم تعد محصورة في إطار التصريحات
السياسية، بل تعدتها إلى الدوائر الثقافية والاجتماعية حتى أصبحت تردد على ألسنة
العامة، دون أن يدرك بالفعل مكنونها ونتائجها. هذا الواقع بالذات يستدعي البحث
لكشف جوهر هذا النظام العالمي الجديد والأسباب التي أدت إلى ظهوره ونتائجه
المتوقعة على العالم ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. ولتبيان ذلك فإنه ستتم
دراسة هذا النظام.
1- النظام الحالي أو ما يعرف بالنظام الثنائي:
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شهد العالم مرحلتين من التغيير، تميزت
المرحلة الأولى بانحسار نفوذ الإمبراطوريتين العظميين بريطانيا وفرنسا بشكل
ملحوظ وتدريجي إلى أن بلغت ذروتها عقب حرب السويس عام 1956 والتي
توجته بانسحابهما من منطقة الشرق الأوسط.
وبدأت المرحلة الثانية مع ظهور الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية
دولتين عظيمتين في الساحة الدولية، وبظهورهما ابتدأ العالم يعيش مرحلة جديدة
تختلف كلياً عن سابقتها. ولعل من أبرز صفات هذه المرحلة أو الفترة ظهور النظام
القطبي الثنائي على مسرح السياسة الدولية.
وما يقصد بكلمة القطبي الثنائي هو سيطرة دولتين فقط على مقاليد القوة
والزعامة في العالم دون مشاركة غيرهما. فالاتحاد السوفييتي الذي ظهر كقوة
يحسب لها حسابها عقب الحرب العالمية الثانية اعتنق الفكر الماركسي كعقيدة يسير
ضمن نمطها ونواميسها ويلتزم بموجبها بتقديم كل الدعم لحركات التحرر العالمية
التي تناضل من أجل حريتها وسيطرة الطبقة العاملة على مقاليد السلطة. فما يميز
السياسة السوفييتية هو الالتزام التام بدعم نظرية الصراع الطبقي الهادفة إلى تقليص
نفوذ البورجوازية في العالم، والسيطرة على حركات التحرر والعالم.
في الجبهة المقابلة ظهرت الولايات المتحدة التي دخلت الساحة الدولية بعد
فترة من الانعزال والانكماش كقوة عظمى استطاعت أن تحطم الآلة العسكرية
الألمانية شر تحطيم.
فالولايات المتحدة الأمريكية اعتنقت النظام الرأسمالي القائم على الحرية
والمبادرة الفردية في امتلاك وسائل الإنتاج والتوزيع. وهكذا فإن كلا النظامين
مناقض للآخر بطبيعته ويسعى كل منهما لإلحاق الهزيمة بالآخر. هذا الواقع دفع
الرئيس الأمريكي ترومان إلى القول أن العالم منقسم إلى قسمين: أحدهما: ... (ديمقراطي مبني على حكم الأكثرية) والآخر: (دكتاتوري مبني على حكم الأقلية التي تفرض نفسها على الأكثرية) لذلك فإن واجب الولايات المتحدة الأمريكية هو أن تقدم (الدعم للأحرار من الشعوب الذين يتحدون الخضوع للقلة الحاكمة التي تفرض نفسها عليهم عبر الدعم الخارجي) . وهكذا يتضح أن الصراع بين هاتين الدولتين هو صراع عقائدي ومصلحي في آن معاً؛ لأن انتصار أي منهم هو تهديد لأمن ومصالح الآخر. لذلك كان من الطبيعي جداً أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقليص النفوذ السوفيتي في أية بقعة من بقاع العالم من أجل تدعيم موقفها، والسيطرة على مقاليد الزعامة التامة.
غير أنه رغم ضراوة هذا التنافس وشدته فإن هناك ضوابط ومعايير ونظماً
تحكم نمط أو أطر سياسة كل منهما بالآخر. وجوهر هذه الضوابط والنظم يتمثل في
اعتماد الدولتين العظميين نظرية الدمار المتبادل كمرتكز أساسي في سياستهما.
ومفاد هذه النظرية أن نتيجة السلاح النووي المتكدس في ترسانتها - والذي هو من
القوة والتدمير بمكان إذ يسمح بتدمير الكرة الأرضية خمس مرات إن هو استعمل-
تحتم على الفريقين حسب هذه النظرية تجنب أية مواجهة عسكرية مباشرة، لأنها
ستؤدي فعلاً إلى كارثة بشربة تنهي العالم. وبالفعل فإن الدولتين العظميين استطاعتا
عبر عقود من الزمن أن يتجنبا المواجهة المباشرة عن طريق تذليل أية عقبات مهما
عظمت أو تفاقمت، ولا تزال أزمة الصواريخ الروسية في كوبا مثلاً حياً على ذلك، إذ انتهت بسحب الصواريخ الروسية مقابل سحب الصواريخ الأمريكية في جنوب
تركيا، وتعهدت الولايات المتحدة الأمريكية بعدم التدخل بشؤون كوبا البلد الحليف
للاتحاد السوفيتي. إلا أن هذه المواجهة لم تمنع كلا الدولتين من الاتفاق على مناطق
نفوذ خاصة بينهما. فأوروبا الشرقية هي حكر خاص للاتحاد السوفيتي يفعل بها ما
يشاء دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة، وما اجتياح الاتحاد السوفيتي
لتشيكوسلوفكيا والمجر وغيرها إلا دليل ساطع على اعتراف الولايات المتحدة
بسلطته المطلقة على البقعة، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي
سيطرت على أمريكا اللاتينية دون أي تدخل مباشر من الاتحاد السوفييتي. إلا أن
هذا الاعتراف لم يمنع الدولتين من التسابق والتزاحم على الزعامة في العالم الثالث
وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الخاصة لكل من الدولتين. إلا أن
هذا الصراع يبقى مرتبطاً ارتباطاً جذرياً بنظرية الدمار المتبادل التي تمنع أي
تطور في المجابهة من شأنه أن يقود إلى حرب مباشرة، وذلك من أجل الحفاظ على
مصالحها المشتركة.
هذا النظام استطاع أن يؤمن نوعاً من التوازن في العلاقات الدولية تستطيع
الدول الأخرى بموجبه أن تلعب دوراً عن طريق الالتفاف حول دولة دون الأخرى
من أجل تأمين مصالحهم. وهذا الواقع استطاع أن يستمر فترة طويلة من الزمن منذ
قمة مالطا عام 1945 بين الدولتين العظميين إلى أن تسلم الرئيس السوفييتي
غورباتشوف مقاليد السلطة والزعامة في الكرملين، حيث ادخل تغييرات جذرية
على نظرية الدمار المتبادل، مما أدى إلى زوال النظام القطبي الثنائي.
2- التغييرات الجديدة في النظام القطبي الثنائي:
ما إن تسلم الرئيس السوفيتي غورباتشوف مقاليد السلطة حتى سارع إلى
عملية إعادة النظر في السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي، فالزعيم السوفيتي نتيجة
لأوضاع محلية واقتصادية متردية وغياب تام للحرية الفردية بدأ مرحلة من التطوير
البطيء في هيكلية السياسة الخارجية والداخلية لبلده، ذلك التحول بدأ بهدم السياسة
القديمة، والمبنية على دعم حركات التحرر من أجل نصرة الصراع الطبقي
والتصدي للإمبريالية، واستبدالها بنظرية الوفاق الدولي والتعاون الاقتصادي
خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيجابية هذه النظرية الجديدة تتلخص في
تقليل الدعم المادي للحركات الثورية وإعادة استخدامه ضمن مشاريع اقتصادية داخل
الاتحاد السوفييتي من أجل دفع عجلة التنمية التي يحتاجها بصورة ماسة. إضافة
إلى ذلك فإن الاتحاد السوفيتي لم يعد يرى نفعاً في التسابق مع الولايات المتحدة
الأمريكية، لأن من شأن هذا التسابق أن يلحق الضرر بالطرفين وأن يهدد أمن
العالم في لحظة ما، لذلك رأى الاتحاد السوفيتي في الاعتماد على منظمة الأمم
المتحدة مدخلاً إيجابياً ومهماً في تطوير العلاقات الدولية وتوظيفها في خدمة السلام
العالمي، وهكذا فإن الاتحاد السوفييتي بسياسته الجديدة قد تخلى عن نظرية الدمار
المتبادلة لمصلحة إحلال التعاون والتبادل الاقتصادي بين الدولتين العظميين كبديل
واقعي ومنطقي. هذا التفكير قد لخصه المحلل للعلاقات الدولية (ولندر) في مقالة
عن الاتحاد السوفيتي حيث قال: (الدول العظمى لا يمكن أن تحمي أمنها ... عن طريقة المواجهة، لأن أية محاولة إلحاق الضرر بأي منها سيدفع الآخر إلى الرد، وهكذا فإن الحرب تصبح حقيقة. لذلك فإن حالة التصعيد المستمرة والبحث المتبادل عن إلحاق الهزيمة بالآخر سيؤديان إلى نقل الصراع من حرب غير مباشرة إلى حرب مباشرة بين طرفين لم يختاراها طائعين) .
وهكذا فالاتحاد السوفيتي، يكون قد تخلى عن سياسته القديمة تماماً، ولا
عجب إذن أن نجد كاتباً في صحيفة (إزفستيا) السوفياتية مقرباً من الرئيس
غورباتشوف يقول: (من الممكن جداً أن توجد حالة يضحي بها الاتحاد السوفييتي
بمبدأ الصراع الطبقي من أجل مصلحة أعم وأشمل) . وما يقصده بتلك المصلحة
هو زيادة التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من أجل
الحصول على مساعدات اقتصادية لدعم الاقتصاد السوفيتي المنهار.
هذا التحول الهائل في سياسة الاتحاد السوفييتي لم يقابله أبداً حدوث أي تغيير
في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية على الإطلاق، فالولايات المتحدة
لم تتخل مطلقاً عن تفكيرها القديم الهادف إلى تقزيم النفوذ السوفييتي في العالم على
الصعيدين الأيديولوجي والعسكري. فعلى الصعيد الأيديولوجي توجته أمريكا بانهيار
النظرية الماركسية والتي اعترف بها قادة الاتحاد السوفيتي أنفسهم. أما على
الصعيد العسكري فقد اغتنمت الولايات المتحدة الفرصة ووظفتها لتقوية نفوذها
السياسي عبر السيطرة العسكرية، وتوظيف الطاقة العسكرية هو ناتج طبيعي
للسياسة الأمريكية التي أصابتها أيضاً بوادر الضعف والانحسار.
فأمريكا بعد عقود من الزمن قضتها في التصدي للشيوعية أصبحت دولة
منهكة اقتصادياً مما أجبرها على التراجع في ميادين المنافسة الاقتصادية التي هي
عنصر هام من عناصر القيادة العالمية. فالولايات المتحدة التي تصاعد نجمها بعد
الحرب العالمية الثانية تميزت بنمو اقتصادي سريع انعكس في زيادة فائض كبير في
رأس المال استطاعت أن توظفه في أوربا عبر مشروع مارشال الذي بلغ حوالي
13-15مليار وأن تمول به حلف شمال الأطلسي لمواجهة الاتحاد السوفييتي. إلا
أن النجم الأمريكي لم يتسن له أن يستمر في التطور الاقتصادي السريع نتيجة
ظهور قوى اقتصادية أخرى حدَّت من التقدم الاقتصادي الأمريكي. ففي الفترة
الممتدة بين عامي 1945-1958 استطاعت أوربا الغربية واليابان أن تظهر بقوة
على الساحة الاقتصادية، مما أثر بشكل بالغ على الناتج الإجمالي للاقتصاد
الأمريكي من إجمالي الناتج العالمي حيث تدهور من نسبة 27% عام1950 إلى 18
% عام 1984
فالتردي الاقتصادي أجبر الرئيس الأمريكي نيكسون في فترة السبعينات
وبالتحديد عام 1971 وبقرار منفرد ودون الرجوع إلى صندوق النقد الدولي إلى
وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب حسب اتفاق بريتون وودز لأن استمرار هذا
التعهد سيؤدي في النهاية إلى فقدان الولايات المتحدة الأمريكية رصيدها من الذهب
وبانتهاء عصر (بريتون وودز) فقدت الولايات المتحدة الأمريكية سلطتها في مجال
النقد الدولي إذ أن معظم التحويلات النقدية بدأت تتم خارج صندوق النقد الدولي
الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا انقلبت المعادلة فأصبحت الولايات المتحدة مع مرور الوقت دولة مدينة
بدل أن تكون دائنة. فحسب الإحصاءات الرسمية والموثوقة فإن ديون الولايات
المتحدة قفزت من 112 مليار عام 1985 إلى 263. 6مليار دولار عام 1986.
ومما زاد أزمة الولايات المتحدة الأمريكية سوءاً مبادرة الرئيس غورياتشوف
القائمة على نزع فتيل التفجير مما أدى إلى تقليل الدور العسكري الأمريكي لدى
الدول الغربية واليابان، إضافة إلى ذلك فإن عامل الانفجار الدولي أدى إلى تخفيض
الاتفاق العسكري الأمريكي مما هدد قطاع الصناعة العسكري الذي يلعب دوراً هاماً
في عجلة الاقتصاد. هذا العامل من الأهمية بمكان إذ أن تخفيض الإنفاق العسكري
سيؤدي إلى خلق نسبة عالية من البطالة في قطاع الصناعة الحربية مما ينعكس سلباً
على الوضع الاقتصادي والسياسي.
هذه المعطيات المتمثلة بتخلي الاتحاد السوفييتي عن سياسته القديمة
والصعوبات الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية دفعت الأخيرة إلى
التركيز على الدور العسكري من أجل تثبيت هيمنتها والتأكد من اندحار النظرية
الماركسية من أجل تكريس دورها في صناعة نظام جديد تستطيع من خلاله أن
تتخطى الصعوبات الاقتصادية، وتتابع دورها في العالم، وقد تسنى لها أن تحقق
ذلك الحلم عبر ما يعرف بأزمة الخليج.
(يتبع)(38/69)
الأزمة الحالية في يوغوسلافيا
مازن عبد الله
عام 1918 كان عام ظهور يوغوسلافيا إلى الوجود. لقد بدأت يوغوسلافيا
حينذاك رحلتها السياسية باتباع نظام ملكي، وكانت مؤلفة من ثلاثة عناصر أساسية، هي العنصر الصربي، العنصر الكرواتي والعنصر السلوفيني. لقد بقيت
يوغوسلافيا تحت النظام الملكي حتى نشوب الحرب العالمية الثانية حيث انهارت
تلك المملكة (الصربو - كرواتية - سلوفينية) .. ولكن إبان الحرب، جاء الجنرال
جوزيف تيتو ليقود حركة التحرير الشعبية ويحرر البلاد من الاحتلال ويعيد بناءها
حسب نظام فيدرالي مختلف تماماً عن سابقه، تحت اسم اتحاد الجمهوريات
اليوغوسلافية الاشتراكية.
إن النظام السياسي المتبع في يوغوسلافيا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى
الآن، هو نظام فيدرالي يضم اتحاداً لست جمهوريات هي جمهورية صربيا،
جمهورية كرواتيا، جمهورية سلوفينيا، جمهورية البوسنة والهرسك، جمهورية
مكدونيا وجمهورية الجبل الأسود، بالإضافة إلى إقليمي كوسوفو وفويفودينا اللذين
يتمتعان بحكم ذاتي واستقلال إداري..
لقد ذكرنا سابقاً بأن الزعيم اليوغوسلافي جوزيف تيتو استطاع أن ينهض
بالبلاد إبان الحرب العالمية الثانية، ويجمع كل الجمهوريات اليوغوسلافية تحت
صيغة اتحادية فيدرالية، فاجتمعت البلاد وتوحدت في ظل النظام الاشتراكي الجديد، ولكن التركيبة الاجتماعية للبلاد بقيت على حالها التي كانت عليها قبل الاتحاد ولم
تتغير. وتلك التركيبة الهشة التي صمدت تحت الحكم الاشتراكي 45 سنة، كانت
نقطة الضعف الرئيسية التي رافقت البلاد طوال تلك الفترة، وكانت الأرضية
الأساسية لأي خطر ممكن أن يهدد الاتحاد اليوغوسلافي في أي وقت؛ فالجمهوريات
اليوغوسلافية عبارة عن تجمعات لعدة قوميات وديانات مختلفة؛ فجمهوريتا الصرب
والجبل الأسود معظم سكانها من الأرثوذكس، وجمهوريتا كرواتيا وسلوفينيا معظم
سكانها من الكاثوليك، أما جمهورية البوسنة والهرسك فأغلبية السكان من المسلمين..
لقد انتهت الحرب الباردة بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ومع
سقوط النظام الشيوعي في عقر داره، بدأت الأنظمة الشيوعية تنهار في الخارج.
الواحد تلو الآخر، وسقط النظام الشيوعي في يوغوسلافيا. وما إن سقط النظام
الشيوعي حتى بدأت الأصابع الأمريكية بالتدخل. مستغلة الحدث الذي لم تكن بعيدة
عنه ... فلقد ذكرت بعض المصادر أنه قبيل البدء بالانتخابات العامة والرئاسية
والمحلية في الجمهوريات اليوغوسلافية مؤخراً، فوجئ الرأي العام بإصدار وزارة
الخارجية الأمريكية وثيقة تضمنت اثني عشر شرطاً على اليوغوسلافيين أن يلتزموا
بها في انتخاباتهم حتى تكون النتائج مقبولة من قبل الولايات المتحدة، فتوافق فيما
بعد على تقديم مساعدات اقتصادية. لقد استنكر اليوغوسلافيون واعترضوا على هذا
التدخل السافر في شؤونهم الداخلية، ولكن ضعف حيلتهم جعلهم يرضخون في نهاية
الأمر. وجرت الانتخابات تحت الرقابة الأمريكية المباشرة، فكانت النتيجة فوزاً
كاسحاً للأحزاب الليبيرالية، اليمينية المتطرفة، والقومية المتعصبة. فلقد أسفرت
الانتخابات في كرواتيا وسلوفينيا عن تأييد كاسح من قبل المواطنين لإعلان
الاستقلال والسيادة الكاملة. فأقامتا فعلاً جميع مؤسساتهما الديمقراطية والتمثيلية،
وأكملتا أيضاً الانتقال الاقتصادي من المركزية إلى السوق الحرة. ففي سلوفينيا،
فاز تحالف أقصى اليمين المنضوية في إطار جبهة ديموس وسيطر على الأغلبية
الساحقة في البرلمان وعلى رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة وأعضائها. وفي
كرواتيا، فاز أيضاً تحالف أحزاب أقصى اليمين بزعامة الرئيس الحالي للجمهورية
(فراينو توجمان) الذي يرأس أيضاً الحزب الليبرالي الكرواتي الحر، أما على
صعيد صربيا (أكبر وأهم الجمهوريات) ، فلقد فاز فيها الحزب الاشتراكي (الشيوعي
سابقاً) بالأغلبية المطلقة في البرلمان كما فاز زعيم الحزب، رئيس الدولة
(سلوبودان ميلوسيفيتش) في انتخابات رئاسة الجمهورية.
لقد أتت نتائج الانتخابات هذه لتشكل تصعيداً في المواجهة بين الجمهوريات
اليوغوسلافية وخاصة بين صربيا وبين الجمهوريتين كرواتيا وسلوفينيا. فهاتان
الجمهوريتان ذات الأغلبية الكاثوليكية، تدعوان وتعملان على قيام جمهوريات
مستقلة، ذات سيادة كاملة وفق الحدود التي رسمها تيتو في دستور 1974، مع
الاعتراف بحقوق الأقليات في كل جمهورية وقيام دولة كونفدرالية يوغوسلافية تشبه
الدولة الأوربية الموحد التي ستقوم عام 1992. أما جمهورية الصرب، ذات
الأغلبية الأرثوذوكسية، فتعتبر المعقل الرئيسي للخط المتشدد في يوغوسلافية الذي
يعارض التوجه نحو تحويل الاتحاد بين الجمهوريات الست والإقليمين المتمتعين
بالحكم الذاتي، إلي كونفدرالية من دول ذات سيادة، كما يعارض بشدة التحول من
الخط الاشتراكي المتميز الذي عرفت به يوغوسلافيا، إلى الخط الرأسمالي، ويدعو
إلى الإبقاء على النظام الفيدرالي وإعطاء صلاحيات أوسع لصربيا باعتبارها
الكبرى، وإعادة توزيع الثروات والمصالح بما يتفق وتضحيات صربيا وتحسين
مستويات المعيشة في الجمهوريات الفقيرة. أما بالنسبة للجمهوريات الثلاث الباقية،
فجمهورية الجبل الأسود تؤيد المشروع الصربي تأييداً تاماً، وتتحالف مكدونيا
مرحلياً مع صربيا لكنها تدعو للحوار لإيجاد صيغة وسطى بين الفيدرالية
والكونفدرالية، أما جمهورية البوسنة والهرسك فتقف على الحياد بسبب موقعها
الجغرافي الخطير بين صربيا والشمال وتكوين سكانها العرقي الفسيفسائي الذي يضم
أقليات متقاربة العدد من جميع شعوب يوغوسلافيا، وتؤيد هذه الجمهورية مشروع
اتباع القومية الإسلامية الذين يشكلون أكبر أقليات الجمهورية والذين يدعون
للمحافظة على وحدة يوغوسلافيا وإقامة نظام أقرب إلى الصيغة التي يطرحها رئيس
الحكومة (ماركوفيتش) ولكنهم يركزون على استقلال البوسنة والهرسك في حال
انهيار يوغوسلافيا ويرفضون اقتسام الجمهورية بين دولة صربيا والدولة الشمالية.
(تجدر الإشارة هنا بأن مشروع الوزراء أنتي ماركوفيتش، الذي يستند إلى حركة
سياسية أنشأها مؤخراً وتضم المثقفين والعقلاء من كل الجمهوريات الداعيين لنبذ
التطرف القومي والتعصب العرقي والديني، يدعو لإلغاء الحدود نهائياً بين
الجمهوريات وتطبيق نظام ديمقراطي على جميع المواطنين والمساواة واحترام
حقوق الإنسان بصرف النظر عن العقيدة والقومية) .
لقد دخلت يوغوسلافيا خلال الأسابيع القليلة الماضية في نفق مظلم، والحالة
الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد في تردٍ مستمر. فعلى الصعيد الاقتصادي
يذكر أن يوغوسلافيا تعاني حالياً من معدل تضخم سنوي نحو 120 في المائة.
ويتدنى الإنتاج الصناعي فيما يهدد العمال بتنظيم إضرابات عامة. ويبلغ مجموع
الديون الخارجية المترتبة على يوغوسلافيا 18بليون دولار..
وعلى الصعيد السياسي، فالعلاقات بين الجمهوريات اليوغوسلافية تتدهور
باستمرار والمؤسسات القوانين الفيدرالية تنهار وتخترق على نحو يدفع البلاد إلى
مزيد من انبعاث مشاعر التعصب القومي والتطرف المصحوب بالعنف.. أما على
الصعيد الأمني فعقب النزعات المستمرة بين كرواتيا وصربيا، أخذت الأمور تتفاقم
حتى بدأت الصدامات التي كانت الأسوأ في مدينة باكاراتش في كرواتيا. فلقد
اندلعت الاضطرابات عندما اقتحمت قوات الشرطة الخاصة الكرواتية باكاراتش في
2/3/91. إثر إعلان القوميين الصرب استقلال المدينة عن الحكم الكرواتي
واستلائهم على المركز الرئيسي للشرطة. وكانت الصدامات عنيفة، حدثت خلالها
عمليات إطلاق نار متبادلة أسفرت على عدة إصابات بين الطرفين مما اضطر
الجيش إلى التدخل ونشر قواته ودباباته في الشوارع الرئيسية في المدينة، من دون
أن تحصل أي مواجهة بينه وبين قوات الشرطة الخاصة الكرواتية التي سحبت قسماً
من قواتها من المدينة بعد أن خف التوتر فيها. ونذكر هنا أن المجلس الرئاسي
اليوغوسلافي كان قد أصدر إنذاره إلى جمهوريتي كرواتيا وسلوفينيا في
9/1/1991ممهلاً إياهما عشرة أيام لحل كل التنظيمات المسلحة فيهما، ومن ضمنها قوات الشرطة الخاصة، أو مواجهة تحرك من الجيش اليوغوسلافي لتنفيذ ذلك بالقوة. ولكن المهلة انتهت، فمددت فانتهت ولم يحصل شيء. لقد نزح نتيجة لتلك الصدامات أكثر من خمسة آلاف صربي معظمهم من النساء والأطفال، ولجأوا إلى صربيا وإقليم فويفودينا. ويخشى الصرب الآن الذين يشكلون أحد عشر في المائة من سكان كرواتيا البالغ عددهم ة 44 مليون نسمة، تكرار مجازر الحرب العالمية الثانية التي ارتكبها الكرواتيون بحقهم.
لقد دامت الاضطرابات في كرواتيا ثلاثة أيام، بدأت الحياة بعدها تعود ببطئ
إلى طبيعتها، ولكن بعد أربعة أيام فقط من انتهائها عادت الاضطرابات والصدامات
لتنفجر من جديد، ولكن مع انتقال الكرة هذه المرة من الملعب الكرواتي إلى الملعب
الصريي. ففي 9/3/91 انفجر الوضع الأمني في بلغراد، عاصمة صربيا، عندما
وقعت اشتباكات عنيفة بين شرطة مكافحة الشغب وعشرات الألوف من المحتجين
المناهضين للشيوعية، أسفرت عن مصرع شخصين على الأقل أحدهما من الشرطة
وإصابة ما لا يقل عن 75 بجروح. ولقد امتدت الاشتباكات إلى مناطق عدة في
العاصمة، وأسفرت عن إحراق عدد كبير من السيارات وتحطيم نوافذ مئات المتاجر، وعلى أثر تلك الاشتباكات، تدخل الجيش اليوغوسلافي وأنزل دباباته إلى شوارع
المدينة، معززة بعدة آلاف من أفراد شرطة مكافحة الشغب، واستطاع أن يسيطر
على الوضع، وأعاد الهدوء إلى المدينة، ولكن لم تمضي 24 ساعة على تدخل
الجيش وإعادة الأمور إلى طبيعتها، حتى جاء قرار من المجلس الرئاسي بسحب
الجيش، وتم سحبه فعلاً من شوارع المدينة في وقت متقدم من ليلة الأحد 10/3/91
وفي اليوم التالي لانسحاب الجيش تجددت الصدامات بين الشرطة والمتظاهرين
المعادين للشيوعية مما أدى إلى المزيد من الأضرار. ومع بزوغ فجر الثلاثاء
12/3/91 انسحبت وحدات شرطة مكافحة الشغب وسمح للمتظاهرين بالتجمع في الساحة المركزية للمدينة التي تدفقت إليها عشرات الألوف من المتظاهرين الذين راحوا يهتفون ضد الحزب الاشتراكي الحاكم وضد الشيوعية.. لقد شكلت تلك التظاهرات الضخمة ضربة قوية للسلطة الصربية التي وجدت نفسها مضطرة إلى الرضوخ لبعض مطالب المعارضة والإفراج عن زعيمها الذي كانت قد اعتقلته منذ أيام.. إن الوضع الأمني في جمهورية الصرب حالياً متوتر جداً، والأجواء المشحونة والاضطرابات ما زالت على حالها، ويبدو أن الكرة التي استطاعت القوى التحررية الديمقراطية أن تقذفها إلى الملعب الصربي، ما زالت هناك وستبقى، حيث إن اللعبة التي لعبتها تلك القوى كانت موفقة وناجحة وذلك طبعاً بفضل ضغوطات القوى الخارجية وخاصة الأمريكية. فالمراقب للتطورات الدولية، يرى جلياً بأن الأحداث والاضطرابات التي اندلعت في الفترة الأخيرة في يوغوسلافيا، لم تبدأ إلا بعد انتهاء أزمة الخليج التي كانت المطابخ الأمريكية مشغولة بها ...
أخيراً، فإن الساحة الدولية الآن، ومع انتهاء حرب الخليج، تشهد تغييرات
جذرية وخاصة على الصعيد السياسي حيث إن المعركة بين النظامين الرأسمالي
والاشتراكي اللذين ولدا في نفس المطبخ مع نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا؛
انتهت لمصلحة النظام الرأسمالي. وعلى هذا الأساس فيبدو أن المعركة في
يوغوسلافيا الآن، وكما حسمت في غيرها من دول أوربا الشرقية، سوف تحسم
لمصلحة القوى الرأسمالية والتحررية ... السؤال المتبقي الآن، هو عن كيفية حسم
تلك المعركة، وان كان الحل السلمي هو المرجح فهل بناء دولة كونفدرالية جديدة
سيكون البديل عن الفيدرالية القديمة؟ وما هو مصير الجمهوريات الصغيرة
والأقليات القومية وخاصة الإسلامية في هذه الحال؟(38/76)
هل تضرب إسرائيل
المفاعل النووي الباكستاني؟
عدنان محمد عبد الرزاق
نسأل الله تعالى ألا نكون عن عدونا غافلين ولا نكون كذلك من المهولين، فقد
ذاق العرب سابقاً وبال أمرهم إذ كانوا من الغافلين والمستهينين بقدرة عدوهم، وبعد
ذلك انقلبوا مهولين خائفين من قوته وهذا ما أراده العدو لهم بل ما أرادوه لأنفسهم.
والحقيقة أن إسرائيل تخطط وتعمل ليل نهار وتنفذ بالوقت المناسب، وما عملية
ضرب المفاعل النووي العراقي وقصر المنظمة في تونس وإنقاذ الرهائن في
عنتيبي (أوغندا) .
والذي لا بد من قوله: أن الإستراتيجية الغربية (إنكلترا سابقاً وأمريكا لاحقاً)
حين ساعدوا إسرائيل في البناء ساعدتها لتكون جزءاً منها فأي اعتداء على إسرائيل
أو تهديد لن ترضى عنه دول الغرب والعكس كذلك، وهذا الربط يقودنا إلى السعي
الجاد والمستمر الذي تسعاه أمريكا للضغط على باكستان من أجل إيقاف أو تأخير أو
إفشال برنامجها النووي.. لماذا تلهث أمريكا وراء ذلك وهي الساكتة عن برامج
الهند النووية وإسرائيل؟ وهذا لا يخفى على أحد من أن الخوف أشد الخوف من أن
يتمكن الباكستان من صنع تلك القنبلة والتي يمكن أن تهدد أمن إسرائيل بشكل أو
بأخر.
والباكستان وإن كانت عن الإستراتيجية الغربية ليست بعيدة، إلا أنها عن
استراتيجيتها وهواجسها الخاصة وتاريخها ومستقبلها في المنطقة يفرض عليها أن
تكون قوة متوازنة مع أعدائها وفي مقدمتهم الهند.
هذا ما يفسر لنا أن من أهم أسباب دعم الباكستان للمجاهدين الأفغان لعل
أفغانستان تصبح عمقاً استراتيجياً لباكستان إزاء الهند وهذا ما لا ترضاه أمريكا
وكان من نقاط الخلاف مع القادة البكستانيين ابتداء من ضياء الحق حتى اليوم.
وأمريكا وإن كانت تدرك تماماً ظروف باكستان ولا تذهب مذهب إسرائيل من
أن هذه القنبلة سوف تهدد أمن إسرائيل إلا أنها (أمريكا) تخشى أن يفلت الأمر من
يدها وهذا ما نشهد بداياته الآن؛ فأمريكا التي كانت تحتضن الباكستان وتدعمه
وتؤدبه عند الغرور فقد عجزت رغم كل ثقلها عن إنجاح بي نظير بوتو لتفوز
كرئيسة للوزراء، والبكستانيون وإن كانوا من أقل الشعوب تأثراً بالأحداث التي
تدور في العالم اليوم إلا أن رياح التغيير لامست وجوههم فأفرزت الانتخابات
الأخيرة التي توقع لها الشعب أن تضع حلولاً لمشاكلهم المستعصية وثار غضب
أمريكا وخشيت أن يتسلل للسلطة بعض الإسلاميين وحذرت إن لم توقف الباكستان
برنامجها النووي فسوف تقطع عنها المساعدات ولكن كما ذكرنا سابقاً هذا موضوع
غير قابل للنقاش وفعلاً قطعت أمريكا مساعداتها العسكرية والغذائية وبدأت في
باكستان مرحلة ضائقة اقتصادية خانقة حبست الحكومة في اعتباراتها الأولى وهو
بداية الأزمات التي تخطط لها أمريكا وحلفاؤها ومع تشابك الخيوط في الخليج وما
حوله ومع فشل محاولات الضغط الأمريكية على باكستان يصبح الخيار العسكري
والذي كانت تطالب به إسرائيل قائماً وهو ضرب المفاعل النووي الباكستاني والذي
قد خطط له سابقاً بمعاونة فنية من الهند والتي كانت تدعو إسرائيل له وهذا الأمر لن
يفاجئ باكستان إذ أنها هددت إسرائيل سابقاً من أنها سترد رداً مؤلماً ولكن المضحك
المبكي أن تهدد باكستان (120 مليون نسمة) وعلى بعد آلاف الأميال من إسرائيل
وتخشاها وتحتج كما تحتج على الحكم الشيوعي في أفغانستان حين تسقط على
أراضيها صواريخ سكود ويقتل عشرات الأبرياء إلى متى ذلك أما آن الأوان لكي
نُهَدِدْ ولا نُهَدَد ونخيف ولا نخاف والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:
«نصرت بالرعب مسيرة شهر» فهلا نتبع خطاه وننصر وليس أمام الباكستانيين إذا أرادوا العزة في الدنيا والآخرة غير تقنين شرع الله فالدنيا الآن تجاهر بكفرها فعلينا أن نجاهر بتطبيق شرع ربنا القائل [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] .(38/82)
تربية
ملاعبة الأطفال والرأفة بهم
خولة درويش
هؤلاء الأطفال ذوو النفوس الصافية، أحوج الناس إلى الرحمة بهم، والعطف عليهم، فهم يحسون بحسن المعاملة حسب مداركهم، ويهتمون بمن يوادهم منذ نعومة أظفارهم.
فاللعب حق من حقوق الصغار، وهو رمز لحيويتهم ونشاطهم، ويرى
(فروبل) أن الطفل الذي يلعب بنشاط، ولا ينفك يلعب حتى يصيبه الإجهاد فيكف؛
هذا الطفل سيكون في مستقبل حياته شخصاً ذا إرادة وعزيمة يكافح ويستميت في
النضال لخيره وخير غيره [1] ..
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يداعب الأطفال، ويرأف بهم ويحسن
ملاعبتهم ومن ذلك مواقفه مع أحفاده ومع أبناء الصحابة -رضوان الله عليهم -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قبّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر رسول الله إليه ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم» [2] .
فالأطفال هم الأطفال، اللهو وحب اللعب من طبيعتهم، والإسلام يعطي
الطفولة حقها ويراعي الفطرة الإنسانية فلا يكبتها.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «دخل علي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأنا ألعب بالبنات (أي اللعب) فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: خيل سليمان ولها أجنحة فضحك» .
كان هذا والسيدة عائشة جارية صغيرة السن، يراعي رسول الله سنها
ودواخلها الفطرية، فلا ينهرها كما يفعل بعض الجفاة، ولذا هي بقلبها الكبير
النابض بحب الخير، تصبح من أمهات المؤمنين اللواتي يتسع عقولهن لمختلف
فنون العلم والتي قد يعجز عن مثلها الرجال. فما كان لهو الطفولة سبباً يباعد بينها
وبين النبوغ.
وقد جاء في الإصابة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يداعب الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ويمشي على يديه وركبتيه وهما يتعلقان به من الجانبين فيمشي بهما ويقول: «نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما» . وهكذا فمن أهم واجبات المربي ولا سيما الأم أن تلعب مع أطفالها بمرح وحبور بعيداً عن الأنفة والكبر، يقول معاوية -رضي الله تعالى عنه-: (من كان له صبي فليتصاب له) .
ولا يفوتنا أن الغرض من اللعب ليس التسلية فقط ولا تمضية الوقت وبعثرته
وإنما نهدف إضافة إلى الترويح والتسلية أهدافاً نبيلة مفيدة تجعل اللعب في خدمة
المثل، توجهها الأم الحكيمة الوجهة التي تريدها وترضي ربها.
ففي اللعب التمثيلي يتعلم الأطفال الآداب الإسلامية التي تحرص على تمثلها
والعمل بها فيتعلم الأطفال آداب الحديث والزيارة والاستئذان والطعام والشراب،
وفي تمثيل الطبيب تشيع البهجة بين الأم وأطفالها، ويتعلم الطفل مساعدة المحتاج،
وكذا تمثيل رجل المرور حيث يتعلم آداب السير.
هذا وليست العبرة في كثرة الألعاب، أو غلاء ثمنها.. إن ميزاناً يعمل للطفل
من أغطية العلب الفارغة ويبيع فيه في دكانه له أثر كبير في تنمية خياله وتوجيهه
إلى أدب التعامل بما يتناسب مع طفولته.
ومن روائع ملاعبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأطفال، أنه مر بعبد
الله بن جعفر وهو يبيع مع الصبيان (أي يلعب لعبة البيع) فقال: «اللهم بارك له
في بيعه» .
ومع إتاحة الفرصة للأطفال في اللعب، لا يصح أن نمكنهم من الألعاب
المحرمة حتى لا يعتادوها: (مر ابن سيرين على غلمان يوم العيد بالمربد وهم يتقامرون بالجوز فقال: يا غلمان لا تقامروا فإن القمار من الميسر) .
وفي اللعب الجماعي وانتظار الدور يتعلم الأطفال الصبر واحترام رغبات
الغير، والبعد عن العزلة والحرية المنضبطة، والابتعاد عن الخطر، وتعلم وسائل
الأمن والسلامة والبعد عن الأنانية.
كما يزداد محصول الطفل اللغوي ونموه العقلي إذ يتفتح ذهنه في كل لحظة
على جديد، ويتعلم الطاعة وفن القيادة، ونصرة المظلوم.
توجيهات أثناء اللعب:
يحسن بالمربي أن يعامل الأطفال خلال ألعابهم حسب القوى التالية:
1- عدم التدخل في شأن الطفل أثناء انصرافه إلى اللعب إلا إذا استلزم نظام
طعامه أو نومه ذلك، أو إذا تعرض الطفل للخطر. على أن نكون مستعدين
لتشجيعه وتقدير أعماله وتقديم العون له إذا طلبه إلينا فقط.
2- أن نتقبل الفكرة أو الخطة التي يرسمها الصغار للعبهم، ولا نفرضها
عليهم، من أجل استفادتهم وللوقوف على أسلوبهم في التفكير وهكذا نستطيع أن
نوجه نشاطهم في لباقة تبعد بهم عن الفوضى والعبث.
3- مشاركة الطفل بين حين وآخر في لعبه تعليماً له وتفريحاً.
4- لا يعطى الأطفال لعباً كثيرة دفعة واحدة حتى لا يزهدوا فيها جميعاً أو
يعبثوا بها.
5- الموازنة بين اللعب الجماعي والفردي لإبعاد الطفل عن الانطواء،
وتعليمه أسلوب التعامل مع الغير واحتمال الأذى والتعرف على وجهة النظر
المخالفة
6- اللعبة الجيدة هي التي يستطيع الطفل أن يستخدمها بأوجه مختلفة وتندمج
مع تصوراته الخيالية، أما اللعب الميكانيكية فهي قليلة الأهمية في مرحلة الرضاعة
والطفولة المبكرة لأنها تثير الخوف في نفس الرضيع ولا تترك له شيئاً حتى يعمله
بنفسه.
وليست العبرة في غلاء اللعبة وارتفاع ثمنها فقد يعزف الطفل عنها ليلعب
بكرتونة فارغة أو نحوها، وقد تتصرف الأم بالألعاب القديمة فتجعل فيها حركة
وحيوية تثير فرح الطفل وتسعده أكثر بكثير من الألعاب ذات الثمن المرتفع. وهكذا
بالإمكان أن يعيش الأطفال في أجواء مريحة منشطة ومفيدة دون تكاليف تذكر.
7- مراعاة الأمن في اللعب وعدم إرهاق حسه بكثرة التعب فيه، وكذا عدم
اللعب في الليالي عند العشاء فعن جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفوا صبيانكم عند العشاء فإن للجن انتشاراً أو خطفة» [3] .
__________
(1) تربية الطفل قبل المدرسة ص 259 سعد مرسي كجك /كوثر كوجك.
(2) متفق على صحته / شرح السنة 13/ص 34.
(3) رواه البخاري في (الأدب المفرد) .(38/84)
امرأة وموقف
أم سليم بنت ملحان
مؤمنة الشلبي
أنصارية خزرجية من بني النجار، تسمى الرميصاء، وهي غصن نضر من
شجرة طيبة المنبت، فأخوها حرام بن ملحان أحد القراء السبعين الذين غدر بهم
المشركون في بئر معونة فقال قولته المؤمنة: فزت ورب الكعبة.
وأختها أم حرام شهيدة البحر، وابنها أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أما هي فقد بشرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة حين
قال: «دخلت الجنة فسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الرميصاء بنت
ملحان أم أنس بن مالك» .
وقد كانت الرميصاء -رضي الله- عنها تمتاز برزانة وذكاء نادرين، وخلق
كريم. ومن أجل هذه الصفات العظيمة سارع أبو طلحة رجل الغنى والسؤدد إلى
خطبتها بعد وفاة زوجها مالك بن النضر (والد أنس) وعرض عليها من المهر ما لا
تحلم به بنات جنسها، إلا أن المفاجأة أذهلته بعد أن رفضته -رضي الله عنها-
بعزة المؤمنة وكبريائها وهي تقول له: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل
كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، إلا أن تسلم فذاك مهري ولا أسألك
غيره، وكان لأم سليم ما أرادت وهدى الله على يديها أبا طلحة وكان صداقها
الإسلام رضي الله عنها.
الموقف:
إن القلم ليحار عند اختيار موقف متميز لأم سليم -رضي الله عنها- فحياتها كلها مواقف متميزة تستحق أن تكون نموذجاً طيباً لكل امرأة مسلمة. وبعد تردد وقع الاختيار على الموقف التالي:
تذكر كتب السيرة أن ابناً لأم سليم واسمه أبو عمير مرض، وشغل الأبوين
به فكان أبوه أبو طلحة إذا عاد من السوق سأل عن صحته ولا يطمئن حتى يراه.
وخرج أبو طلحة مرة إلى المسجد فمات الصبي، فهيأت أم سليم أمره وقالت:
لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، وجاء أبو طلحة فتطيبت له وتزينت
وتصنعت وجاءت بعشاء، فقال: ما فعل الصبي؟ فقالت له: هو أسكن ما يكون.
فتعشى وأصاب منها ما يصيب الرجل من أهله، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا
طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم فهل لهم أن
يمنعوها عنهم؟ فقال: لا قالت: فما تقول إذا شق عليهم أن تطلب هذه العارية بعد
أن انتفعوا منها؟ قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك كان عارية من الله، فقبضه
إليه فاحتسب ابنك. فقال أبو طلحة: تركتني حتى إذا تلطخت أخبرتني بابني! فما
زالت تذكره حتى استرجع وحمد الله. ولما غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فأخبره بما كان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بارك الله لكما
في ليلتكما» .
تحليل الموقف:
تأملي معي يا أختاه هذه الأم التي ليست كسائر الأمهات، كيف ترى صغيرها
وفلذة كبدها وهو يذبل كالزهرة، ويرتعش ارتعاشته الأخيرة كالعصفور الصغير بين
يديها، وهي تنظر إلى وجهه النضير كيف غدا وقد فارقته الحياة وتتفجر في قلبها
ينابيع الأسى وتنهمر دموع الشفقة والعطف والرحمة من عينها، ولكنها -رضي الله
عنها- لم تفعل إلا ما يرضي ربها متجهة إليه بالاسترجاع والاستغفار والذكر تبغي
في ظلالهما الراحة والصبر والسلوان، ولم تفعل كما تفعل كل امرأة ثكلى من
أمهات الجاهلية الحديثة من النياحة والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب.
ولم تسارع كما تفعل نساء اليوم باستدعاء من يأتي بزوجها من عمله ليشاركها
مصيبتها فتضيف إليه هماً جديداً إلى جانب ما يكابده ويعانيه من هموم، ويرتفع
صوتها بالندب والعويل كما هي عادة الجاهليتين القديمة والحديثة ليسمعها القرب
والبعيد فيأتي لمشاركتها ندبها وعويلها.
أجل.. لم تفعل -رضي الله عنها- شيئا ًيغضب الله عز وجل، وإنما قامت
بما تمليه عليها عقيدتها الراسخة تجاه هذا الحدث الجلل، فقامت إلى صغيرها الغالي
فغسلته ثم كفنته وسجته وغطته بعد أن شمته وطبعت على وجنتيه قبلة أم ثكلى
أودعتها كل ما تملك من حزن وألم ودموع، ثم التفتت إلى أهل البيت قائلة: (لا
تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه) .
فمن أي طراز هذه المرأة والأم العظيمة؟ وهل تملك الدنيا بأسرها أما مثلها! ! ومن ثم تأملي يا أختاه موقف الزوجة الصابرة وهي تنتظر زوجها بعد أن جففت
دموعها وابتلعت أساها خلف ابتسامة مشرقة تصنعتها لتستقبل زوجها كعادتها وتدخل
السرور إلى نفسه المليئة بالهموم من خارج البيت، وعندما يسألها عن حال ابنه
تقول بذكاء وفطنة: هو أسكن ما يكون، ويظن الزوج أن ابنه قد عوفي ففرح لذلك.. وما إن كان آخر الليل حتى أخبرته بأمر ابنه دون أن تفجعه أو تفقده ثواب
الصابرين وأجرهم.
فبالله عليك يا أختاه من أي طراز هذه المرأة الصالحة التي تحرص على ألا
يراها زوجها إلا بأحسن وأجمل صورة حتى في أحلك الظروف وأشدها، بينما نرى
نساءنا وقد أهملن أنفسهن فتستقبل الواحدة منهن زوجها ورائحة المطبخ تفوح منها،
وتظل مرتدية ملابس المطبخ متجاهلة الآداب الزوجية وما يترتب على ذلك من
عواقب وخيمة، فإذا كان هذا حالهن - في سائر الأيام فكيف بهن وقد وقعت
المصائب واشتدت.
ومن أي طراز هذه الزوجة الصالحة التي تحرص على أن لا تؤذي زوجها
بهموم قد تفقده قوة الإيمان وصلابته وأجر الصابر وثوابه.
فيا فتاة الإسلام هل لك أن تعتبري فتتعظي من مواقف أم سليم رضي الله عنها
فتضعينها نصب عينيك وتكوني نموذجاً للفتاة المسلمة التي لا تتباهى بغلاء مهر
وإنما كل همها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاءكم من ترضون
دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» .
وهل لك أن تكوني يا أختاه نموذجاً للأم حين تفقد ولدها ... فالصبر والتجلد
عند الصدمة الأولى.
وهل لك أن تكوني نموذجاً للزوجة الصالحة الوفية الودود التي تسر زوجها إذا
نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها، وتهيئ له أسباب الراحة
ليستطيع أن يقوم بواجب نشر الدعوة إلى الله تعالى.(38/88)
بريد القراء
* الأخ مهدي بن نزال المهدي أرسل إلينا كلمة يشكو فيها حال أمته ويقول: ...
الناظر البصير.. والمدقق الجليل في أحوال الأمة الإسلامية - اليوم - وما
هي عليه من فتور وضعف.. وعدم إدراك وفهم.. ليجد لذلك أسباباً وأسباباً..
أهمها وقائدها الجهل بواقعها.
ولعل ما حصل في هذا الزمان من فتنة عظيمة وتصرف بعض أفراد الأمة
تجاهها والقول فيها ما ليس بصحيح لعل ذلك يوحي بأن الأمة وما قيل فيها من جهل
وضعف كان هو الصحيح، ولذلك لابد لخير أفراد الأمة.. الداعية والعالم.. أن
يبثا للأمة ما جهلته وما حصل فيها من خطأ وذلك بالبحث في قاموس معرفتهما
وتفسير كل حدث يقع في ساحة الأمة.
* * *
* الأخ عبد الرحمن عبد الله سيف - أبها
أرسل لنا هذه الكلمة: ماذا يراد منك يا فتاة الإسلام.
إن حقداً عظيماً ويداً ماكرة تتداعى عليك لتخرجك من عفافك تخرجك من دينك.
مؤامرة دنيئة تدبر لك يا فتاة الإسلام لتمسخك وتعبث بك، إن هناك من ينادي
بل ويسعى ويجتهد من أجل هدم صرح الإسلام وذلك من خلال هدم الفضيلة في
قلوب بناتنا وذلك بأساليب مختلفة. هم يريدون مسخ الفطرة وإفساد الأخلاق
لتخرجي سافرة أمام ناظريهم وذلك من أجل التشكيك في إيمانك وزلزلة عفتك
وشرفك، إنه حقد دفين يريد تحطيم المجتمع الإسلامي ويجعلك يا فتاة الإسلام
تجرين وراء سراب السعادة الخادعة.
والمرأة الحسناء تبكي حسنها ... إن ضاع منها عزها وإباءها
فامضي على درب الرشاد فإنه ... زاد وللنفس السقيم شفاءها(38/92)
منتدى القراء
هموم مدعو
أبو خولة
نازعه في مراحل المراهقة نداء الفطرة ونداءات الهوى والصحبة، واستمر
النزاع فترة طويلة من الزمن، وكان بعقليته تلك يتصور أن جميع من في عمره
سائرون خلف الهوى والشهوة.
وفي يوم من الأيام وقفت عيناه على شباب يلتزم بدينه، ويناجي ريه، ويتألم
لواقع أمته، جلس معهم وكأنه في حلم وخيال، أيكونون بهذه الصورة وهم في ذروة
سن الصبا! أيكونون بهذه الصورة وهم أمام سيول من الملاهي والمغريات!
سبحانك يا رب!
وما أن عاش معهم فترة من الزمن حتى تحول قلبه الميت القاسي إلى قلب حي
راسخ، وتحول تفكيره في نفسه إلى تفكيره في أمته، وبدأ يفهم الحياة لأنه يعيش
لله ولأمته ولا يعيش لنفسه..
وتيقظ الفتى بعد غفوة وبدأ يعمل ويدعو الناس وهو يؤمل بالفأل القريب،
ويستبشر بالحلم الكبير، واستمر الفتى على ذلك وهو يترقب الفأل والأمل كيف لا
والشباب المتدين أصبح ينتشر ويسود.
وفجأة.. اصطدم حلم صاحبنا بما لم يكن بحسبانه، وتحول فأله السار إلى
خيبة وانحسار، عندما أدرك أن الطريق طويل وطويل، لا يريد أن يعيش حياة
اليأس في أمته، ولا يريد أن يخادع نفسه بما حققته من عز وتمكين، وقام يجاهد
نفسه ويرغمها على العمل.(38/93)
الداعية الصدوق وترك الشائعات
أبو موسى المكي
إن الأنظار -إلى الداعية أسرع، والآذان إليه أسمع، والخطأ منه أوقع،
والنقد عليه أشد وأوجع ودعوته يجب أن تكون بحاله قبل مقاله، لذلك فتخلقه بالخلق
الكريم أوجب وألزم قياماً بحق ما جعل الله على كاهله من الأعباء الجسام، وحماية
للدعوة وأهلها من ألسنة المغرضين وأقلام الخصوم الشانئين وأوهام الغفل المتعجلين.
فنحن بحاجة إلى دعاة يتجملون بالخلق الكريم، حتى إذا أبصر الناس منهم
هذا هتفوا: هذه أخلاق الأنبياء.
فنحن نحتاج إلى نمط من الدعاة آثروا الصدق في أقوالهم وأفعالهم حتى أصبح
الصدق سجية تجري في عروقهم وتطل من طلعات وجوههم، إن صدقنا في حمل
دعوتنا هو الذي يجعل الناس يتقبلون ديننا، يقول عبد الرحمن بن مهدي: (لا
يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع) فليس ما سمعه الفرد
المسلم كله حقاً، بل لا بد من أن يتخلله بعض من الروايات الواهية، فإذا ما حدث
بكل ما سمع أصبح ولا بد كاذباً، فعلى الداعية أن يجنب نفسه مواطن الشبه بترك
بعض ما سمعه وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «دع ما يريبك إلى ما
لا يريبك» ومن ترك ما يريب ترك نشر الشائعات وترك كل خبر إن لم يثبت
مأخوذ من وكالة (يقولون) فكم بهم من شائعة قُصِدَ أن يكون مروجوها الشباب
الموسوم بالصلاح، حتى إذا بان زيفها قالوا: (هؤلاء مروجوها هؤلاء يريدون
إثارة البلبلة) ، فعلى الداعية ترك ذلك وعدم نشر ما سمع إلا بتيقن وجزم. والداعية
لابد أن يكون صادق الكلمة واضح المعنى متجنباً للغموض والتلبيس.(38/94)
رسالة إلى أهل الحسبة
عبد الرحمن إبراهيم العتل
إلى أولئك الرجال الذين باعوا أنفسهم لله، وسهروا لننام، وتعبوا لنستريح،
وأوذوا لنسعد، أوجه هذه الرسالة:
يا باذلين نفوسهم كي نسعدا ... طوبى لكم ملء القلوب ترددا
نامت جوارحنا وأنتم في الدجى ... عين أبت أن تستريح وترقدا
جاهدتم الأشرار كل دقيقة ... ودحرتم الشيطان كي لا يفسدا
في كل حي غيرة يقظانة ... نزعت فتيل الشر واقتطعت يدا
يا أيها الماضون في ركب الهدى ... يا أيها الساعون في طلب الردى
يا أنفساً حازت من الرتب العلى ... طبعت على حب المكارم والندى
تقضي النهار مع العلوم تعلَّماً ... والليل تحيي جانبيه تهجُّداً
فطرت على التوحيد جلَّت فطرة ... نادى بها الرسل الكرام على المدى
لله درّ فعالكم يا إخوتي ... جعلت على الميزان لم تذهب سدى(38/95)
الصفحة الأخيرة
من حسنات هذه الكارثة
عبد القادر حامد
من حسنات هذه الحرب - إن كان لها حسنات - أنه أصبح بالإمكان للكاتب
أن يكتب منتقداً نظام الحكم في العراق بعد أن أصبح ظاهر الضعف تعصف به
العواصف، بعد أن كان من الصعب توجيه كلمة لوم له في العلن، لا خوفاً منه في
كثير من الأحيان؛ بل خوفاً من الروح (التضامنية) التي كانت تربط الأنظمة
العربية، وحرجاً من كسر خواطرها. أما الآن فأمام الكتبة فرصة ذهبية ليبدءوا
ويعيدوا في إظهار مخازي هذا النظام، ويجمعوا الصحيح إلى الباطل من الاتهامات.
وقد يبدو مثل هذا العمل دلالة على الجبن وقلة الفروسية حيث إن (ضرب
الميت نذالة) ، ولا فائدة من الإنذار بعد وقوع الكارثة! لكن الروح (التضامنية)
التي كانت سائدة تعطي هذا الفعل دلالة أخرى قد يكون فيها بعض الفائدة، فكثير
ممن يكتب عن الأنظمة بعد سقوطها لا يقصدها هي بعينها فيما يكتب، وإنما يقصد
مثيلاتها من الحالات الراهنة، على مبدأ: (إياك أعني واسمعي يا جارة) !
إن مأساة الحرية في عالمنا المنكوب تجعل الإنسان يرضى بالقليل، وما أجدر
الحرية التي نفتقدها بقول جميل في بثينة:
وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلابله
بلا، وبأن: لا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجوِّ قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول، تلتقي ... أواخره - لا نلتقي - وأوائله(38/96)
ذو القعدة - 1411هـ
مايو - 1991م
(السنة: 5)(39/)
الافتتاحية
الغمرات.. ثم ينجلين
هل طول الغمة يُطمع في انقضائها؟ ، وهل كثرة المصائب وتكالب الأعداء
واشتداد الأزمة يوحي بانفراجها؟ جاء في السيرة النبوية أنه عندما تكالب الأحزاب
على المسلمين ونقضت يهود قريظة العهد وتألبت مع من تألب، واشتد الأمر على
المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً قال -صلى الله عليه وسلم- «أبشروا يا معشر
المسلمين» [زاد المعاد 3/272] .
لقد طال ليل الغمة على المسلمين، ومفاجآت المنطقة العربية لا تنتهي فبعد
أزمة الخليج وخروج الأمة مثخنة بالجراح، جاءت مشكلة الأكراد لتضيف مأساة
أخرى كمأساة فلسطين، ويغرق العرب بوعود أمريكا لحل مشكلة فلسطين بعد
الحرب ثم يبدأ التنصل والمراوغة، وكانت الشعوب تأمل من الحكومات أن تستفيد
من أحداث الخليج ومن التغيرات العالمية وتخفف من قيودها على الناس ولكن ما
من مجيب ويبقى السؤال الملح بعد حالة الذهول وعدم التوازن، ما المخرج؟
هل فكرنا كيف قوي هذا الغرب، حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، لقد بدأ
التفكير بالتغيير عند الأوروبيين عندما اصطدموا بالحضارة الإسلامية بعد الحروب
الصليبية فهل هذه الصدمات المتوالية تجعلنا نفكر بعمق كيف يبدأ التغيير؟ لابد أن
نرجع قليلاً إلى الوراء لنرى المحاولات والتجارب التي جرت على جسد أمتنا
المنهكة من تحديث محمد علي باشا ورفاعة الطهطاوي إلى الدول القطرية التي
كرست التبعية للغرب والشرق، إلى العسكرتاريا التي حطمت شخصية الفرد المسلم، بل شخصية الإنسان كإنسان إلى التيارات العصرانية والعلمانية التي لاتزال تنفخ
في قربة مقطوعة، مما يؤدي دائماً إلى تعطيل الدورة التاريخية للاجتماع الإسلامي.
في مثل هذه الأجواء القاتمة لابد من عمل قوي يعيد للمسلم الثقة، لابد من
مراجعة النفس ونقد الذات والاعتراف بالخطأ، لابد من اجتماع الدعاة والعلماء
الصادقين، وترك الإحن والحزبية التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، لقد عاش
المسلمون حالة تفاؤل لما يجري في أطراف العالم الإسلامي وقالوا: لعل الفرج يأتي
من هناك، ولكن داء التفرق والمواقف غير المنضبطة أضعفت هذه الآمال، فهل
يتوحد المسلمون لنرى يوماً من أيام الله..
وأما هذا الغرب وعلى رأسه أمريكا، فإن مطالعة سنن التاريخ تعلمنا أن
الدول عندما تصاب بداء الغطرسة فإن ذلك بداية أفولها، وإصابة أمريكا بهذا الداء
عبر عنه عضو مجلس الشيوخ الأمريكي (ألبرت بيفردج) عندما قال: «إن
الأمريكيين جنس فاتح ولابد أن نطيع دماءنا، ونحتل أسواقاً وأرضاً جديدة إذا لزم
الأمر، ولابد أن تختفي الحضارات الوضيعة، والأجناس المتعفنة أمام الحضارات
السامية للإنسان الأقوى والأعظم نبلاً» [1] ، كما عبر عنه الرئيس روزفلت في
عام 1943 إثر اجتماعه برئيس الوزراء البريطاني تشرشل في الدار البيضاء، قال: «إن الحلفاء سوف يقاتلون حتى يستسلم أعداؤهم دون أي شروط» يعلق الكاتب
(ولبرايت) على هذه العبارة: «إنها طفرت من أعماق روح التعصب، ومبدأ
الاستسلام غير المشروط مبدأ غير حكيم..» [2] .
وهذا لا يعني أن الغرب سينهار بسرعة، ولكنها دعوة إلى معرفته ومعرفة
الأسباب العميقة لضعفنا، ودعوة إلى التفاؤل وتغيير أساليب تفكيرنا.
__________
(1) د أحمد صدقي الدجاني / التغلب على غواية غطرسة القوة، مقال بمجلة الهلال عدد أبريل 1991م.
(2) المصدر السابق.(39/4)
من كنوز السنة
الاعتدال في الحب والبغض
ستر الجعيد
الاعتدال والتوسط سمة من سمات هذا الدين، يدخل في كثير من الأشياء،
بل يمكن القول أنه قاعدة مطردة.
والمتأمل في أحوال كثير من الأمم والأفراد، يجدهم بين غالٍ ومسرف،
ومتهاون ومضيع، وبين معتدل ومتوسط سالك لطريق الأمة الوسط قال تعالى:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] .
والتوسط الذي يجري في حياة الأمة كما هو في تفكيرها وفقهها، ومعالجتها
لكثير من قضاياها يجعلها إذا التزمت به تحصل على فضائل جمة وخصال حميدة
تجني عليها من المفاسد وعدم الاعتدال بقدر ما تفرط في التوسط والاعتدال،
والأمثلة على ذلك كثيرة في حياة الأفراد والأمم بل وحتى الدعوات، ومناحي
التوجيه، والتعليم، والتربية، ولكن لو نظرنا في الحب والبغض لوجدنا ذلك
واضحاً، فالناس بين مشتط في البغض لأمور لا تستحق ذلك البغض أو على الأقل
لا تستحق تلك الدرجة من البغض، وآخر متساهل فلا يبغض على أشياء تستحق
البغض بل أحياناً البغض فيها واجب مفروض، وقد تجد من يضع الحب مكان
البغض المطلوب.
فتجد من هو مقيم بحب بلغ فيه درجته القصوى، وإعجاب يسيطر على
مشاعره وتصرفاته في الوقت الذي تجد أن حباً أقل من ذلك يكفي في هذا الموطن
مما يجعل الأثر يظهر في معالجة كثير من القضايا.
ومع أن التوسط والاعتدال قاعدة مطرودة يفهم من فروع كثيرة لكن رسولنا -
صلى الله عليه وسلم- نص عليه ونبه على أثر تركه في هذه المسألة بالذات لأنها
ذات أثرٍ بالغٍ وينشأ عن الإخلال بها مفاسد كثيرة، كما ينشأ عن التمسك بها مصالح
جمة. فقال محذراً وموجهاً: «أحبِبْ حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك
يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» [1]
«ومعنى هوناً ما: أي حباً مقتصداً لا إفراط فيه وإضافة ما إليه تفيد التقليل، يعني لا سرف في الحب والبغض فعسى أن يصير الحبيب بغيضاً والبغيض
حبيباً فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم ولا في البغض فتستحي»
فما أعظم الإسلام، وما أعظم توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهلا
من فقه صحيح، وتحرٍ واضح لهذه المسألة ومعرفة لحدود الحب والبغض حتى
تصلح أحوال الأفراد والأمم والجماعات والدعوات، وتدرأ كذلك مفاسد كبيرة تنشأ
من غياب هذا الفقه الصحيح في الواقع، وبالإضافة إلى ما سبق فإن هذا الحديث
ينبه على بعض جوانب من قضايا علم النفس التي ذكرها رسولنا -صلى الله عليه
وسلم- ضمن توجيهاته وأقواله، فهل من دراسة جادة لها وتوضيح لمقاصدها،
وبناءً لهذا العلم على أسس صحيحة بدلاً من تجارب فرويد ومن لهث وراءه
بنظريات جوفاء خطؤها أكثر من صوابها، فهي لا تعدو أن تكون تفكيراً من كافر- في جوانب لا يصلح فيها التفكير وإنما جاء بيانها ممن خلق الإنسان - أو تجربة
على حيوان أو على بيئة لا تتفق مع أحوال المسلمين في كثير من القضايا،
وبالتالي جاءت ثمارها غير متفقة بل ونكدة في غالبها.
أرجو الله أن يوفق المختصون للاهتمام بذلك ولا يأخذهم التعصب لتخصصهم، وليعيدوا النظر في كثير من أمور التربية وعلم النفس فهي بحاجة إلى إعادة النظر
وإرجاع إلى أصول صحيحة وأسس قويمة.
__________
(1) صحيح (أخرجه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة وغيره) صحيح الجامع 1/97 رقم 178.(39/7)
دفاع البوطي
عن دعاة وحدة الوجود
عبد القادر حامد
سننقل للقارئ حاشية طويلة من حواشي البوطي، لما تمثله من تلخيص جيد
لمنهجه العلمي، وما تشتمل عليه من مميزاته التي أشرنا إليها في ثنايا ما كتبناه
سابقاً، وهذه الحاشية دفاع منه عن ابن عربي، وهجوم (سماه هو دفاعاً) على ابن
تيمية وعلى من يقلده وينهج نهجه، وسنرد على بعض ما جاء في هذه الحاشية،
ولن نلزم القارئ بشيء، ولن نلح عليه بتصديق ما نقول، وإلا فهو غير «محرر
قلبه من شوائب العصبيات والأهواء» !
إن صاحب المنهج الحق لا يستجدي موافقة الآخرين وتصديقهم له؛ فإن فعلوا
فهم على الحق، وقلوبهم متحررة من شوائب الأهواء والعصبيات وإن لم يفعلوا
كانوا عكس ذلك. إنه يبين منهجه، ويقول كلمته، ويفصل بحججه ما وسعه
التفصيل، ويثق بعقول قرائه دون وصاية أو إغراء أو تحذير.
يقول البوطي في صدد دفاعه عن القائلين بوحدة الوجود وتشنيعه على من
ينتقدهم:
« ... وخلاصة المشكلة أنه (أي ابن تيمية) ومن يقلده في نهجه يظلّون
يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم، دون أن يحملوا أنفسهم على التأكيد من
أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم الذي تصوروه.
أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب
الكفر، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه. وأمّا أن يدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن ابن
عربي كافر، وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية) ، من أصل كفري هو
نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه. فإن كتب
ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة المكررة التي تناقض هذا الأصل الكفري. هذا
بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً أن طائفة معلومة من الزنادقة الباطنية دسوّا
ما شاؤوا أن يدسوّا في كتبه. ذكر ذلك المقري في (نفح الطيب) ، وأكده ابن عماد
في (شذرات الذهب) ، وأكده في قصة طويلة الإمام الشعراني في (اليواقيت
والجواهر) ، وذكره الحاجي خليفة في (كشف الظنون) ، ولا نشك في أن ابن تيمية
ينبغي أن يكون في مقدمة من يعلم ذلك.
ولست في هذا منطلقاً من عصبية لابن عربي أو غيره. بل إن الميزان
الوحيد عندي في ذلك هو القاعدة الشرعية التي يجب اتباعها عند الإقدام على تكفير
أناس أو تضليلهم، وهي قاعدة معروفة لأهل العلم جميعاً وفي مقدمتهم ابن تيمية -
رحمه الله -.
ولقد حكّمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية، قبل تحكيمها في حق ابن عربي،
فلقد نقلت فقرات من كلامه الذي يتضمن إقرار الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي
للمادة، وبوجود قوة طبيعية مودعة في الأشياء بها تحقق فاعلياتها وتأثيراتها، بل
يتضمن الدفاع عنهم، في ذلك ودعوى أنه الحق الذي لا محيض عنه. وقد ثبت
للعلماء جميعاً أن الفلاسفة اليونانيين وقعوا في الكفر لثلاثة أسباب، في مقدمتها،
قولهم بالقدم النوعي للعالم. ولا يرتاب مسلم أن الكفر بدعوى قدم العالم، أو بدعوى
وجود قوة مودعة في الأشياء بها يتم التأثير، ليس أقل خطورة وجلاء من الكفر
الذي تتضمنه عبارات واردة في كلام ابن عربي.
ولكنا مع ذلك لم نجنح، لهذا السبب، إلى تكفير ابن تيميه ولا إلى تضليله،
بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها، فلقد لاحظنا الأمر
ذاته الذي لاحظناه في كتب الشيخ ابن عربي -رحمه الله- إذ رأينا لابن تيمية كلاماً
آخر في أكثر من موضع يناقض كلامه الباطل الذي أيّد فيه الفلاسفة في ضلالهم
الذي كان سبباً من أسباب كفرهما، بحيث لو أردنا أن نردّ على ابن تيمية هذا
الباطل الذي تورط فيه، لما وجدنا كلاماً نرد به عليه، خيراً من كلام ابن تيمية
ذاته الذي كرره في عدة مناسبات أخرى.
فاقتضانا ذلك أن نَعْرِفَهُ بالحق الذي تكرر في كتبه وكلامه، لا أن ننعته
بمقتضى الكلمات الباطلة التي دار بها قلمه أو تحرك بها مرة لسانه. ومهما كان
السبيل إلى حسن الظن بأهل القبلة ميسراً، فهو الواجب الذي لا محيد عنه، وما
أيسر أن تزاح العبارات المشكلة عن السبيل إلى ذلك بأنواع من التأويل والاحتمال.
وإذا كان لابد من تأويل العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن
ظننا بصاحبها، أو من تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل، فنجعله معتمدنا في
إساءة الظن به، فإن مما لا يرتاب فيه المسلمون قط أن الواجب هو تأويل الباطل
بما يتفق مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس. لأن حسن الظن هو الأمثل
بحال الرجل الصادق في إسلامه، وهو الذي يقضي به قول الله عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] [الحجرات: 12] .
وإذا أبى ابن تيمية -رحمه الله- إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالاً
بالكفريات الموجودة في كلامه، والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها
وتردّ عليها في مختلف كتبه وأقواله، فإنها لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره هو
الآخر استدلالاً بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها، وأن نعرض عن كلامه الآخر
الذي يناقضها ويبرئه من مغبتها. ولكني أشهد أن دين الله عز وجل يأبى أن ندعو
بهذه الدعوة، كما أنه يحذر من الانصياع لها.
ولعل كل متدبر للحق، محررٍ قلبه من شوائب العصبيات والأهواء، لا يعجز
عن تصديق ما أقول، وعن اليقين بأنه المتفق مع كتاب الله، والمنسجم مع هدي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» [كتابه ص 204، 205، 206] .
القول ولازم القول:
يبدأ البوطي موهماً باستخدام بعض عبارات العلماء، فيشير إلى القول ولازم
القول، ولكن لا يوضح لقرائه - وهم بحاجة إلى ذلك - القول ولازم القول؟ حتى
نعلم: أصحيح أن ابن تيمية - ودعك ممن يقلده في نهجه - يأخذ ابن عربي وأمثاله
بلازم أقوالهم، دون أن يحمل نفسه على التأكد من أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم؟
معنى هذا أنه ليس في كتب ابن عربي ما يدل دلالة واضحة على هذا الذي
أُخذ عليه، وإنما هي تخرصات تخرصها ابن تيمية عليه، لكن هذا الزعم ينقضه
البوطي نفسه في عبارته التالية مباشرة:
«أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة
ويستوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه» .
هذا طرف المعادلة الأول! وطرفها الثاني هو: «وأما أن يدل ذلك دلالة
قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية) من أصل
كفري هو نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه» ... ما دليل البوطي على فقدان ابن تيمية وغيره الدليل عليه؟ ! دليله ما يلي: «فإن كتب ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة! المكررة! (كما نقول نحن اليوم: الإحصائيات المفصلة!) التي تناقض هذا الأصل الكفري» .
ودليل آخر:
«وهذا بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً (لا نقاش في هذا المعلوم
والمؤكد الذي كأنه معلوم من الدين بالضرورة عند الشيخ!) أن طائفة معلومة (!)
من الزنادقة الباطنية دسوا ما شاؤوا أن يدسوا في كتبه (ما أسهل الدس في كتب
المشبوهين!) . من ذكر ذلك؟ ذكره صاحب (نفح الطيب) ! وأكده صاحب
شذرات الذهب! وأكده في قصة طويلة! الإمام الشعراني، (لماذا الشعراني إمام؛
والمقَّري وابن عماد ليسا إمامين؟ !) وأين أكده الإمام الشعراني؟ في (اليواقيت
والجواهر) ، وذكره الحاجي [1] خليفة في (كشف الظنون) ، بل وقاصمة الظهر أن
ابن تيمية في مقدمة من يعلم أن تزويراً ودساً حصل في كتب ابن عربي، (وهذا لا
يشك فيه البوطي!) لكن ما الذي يمنع ابن تيمية من الاعتراف بهذا الذي لا يشك
فيه البوطي؟ ! ليس غير حبه للتجني على غيره، وكتمان الحق المعلوم، والتشبت
بالتخرصات التي لا دليل عليها؛ أو شيئاً في معنى هذا!
ذكر الشيخ البوطي أسماء كل من صاحب» نفح الطيب «وصاحب
» شذرات الذهب «وصاحب» اليواقيت والجواهر «وصاحب» كشف الظنون «
فيمن أكد الدس في كتب ابن عربي، ووجدنا - لدى رجوعنا إلى ترجمة ابن عربي
في نفح الطيب، الذي يعتبره الشيخ البوطي مصدراً يرجع إليه في هذا المجال - ما
يلي:
» ومما نسبه إليه - رحمه الله تعالى - غير واحد قوله:
قلبي قطبي وقالبي أجفاني ... سري خَضِري وعينه عرفاني
روحي هارون وكليمي موسى ... نفسي فرعون والهوى هاماني
وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما
فإنه يبرأ بإذن الله تعالى قال: قال وهو من المجربات! وقد تأول بعض العلماء
قول الشيخ -رحمه الله تعالى- بإيمان فرعون النفس، بدليل ما سبق، وحكى في
ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ -رحمه الله تعالى- «. [نفح
الطيب 2/372-1373]
وقد عثرنا في نفح الطيب على غير هذه الطرفة مما لا نستطيع أن ننقله هنا
لما فيه من نبو عن كل ذوق، فليُرْجَع إليه في الجزء 2/383 من نفح الطيب،
وتبين لنا مما ينقله هذه المؤلف أنه لا يصح أن يعتمد قوله في هذه المسألة لأنه ناقل
عن الشعراني فلا يصح أن يقال: ذكر ذلك المقري وذكره في قصة طويلة الإمام
الشعراني، فما عند المقري حول ابن عربي مصدره الشعراني وغيره من المخرفين.
أما الشعراني فشهادته في ابن عربي لا تقبل لأن ما يقال في منهج ابن عربي
يقال في منهجه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو متأخر عن ابن عربي، فبين
وفاتيهما حوالي 335 سنة فهل نتعلق بالشعراني ونذر مؤرخاً ثقة كالذهبي مثلاً؟ !
يقول الذهبي في ابن عربي:
» ومن أردأ تواليفه كتاب «الفصوص» فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا
كفر - نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله! وقد عظمه جماعة وتكلفوا لما صدر
عنه ببعيد الاحتمالات، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز
الدين بن عبد السلام يقول عن ابن عربي: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، لا
يحرم فرجاً.
قلت: (أي الذهبي) : إن كان محي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد
فاز، وما ذلك على الله بعزيز «.
ونحن هنا لا نحقق بل نشير فقط إلى أولية من أوليات البحث العلمي وهي:
إذا أردنا اعتبار آراء في شخصية ما فأول ما يجب أن ننظر فيه مدى قرب هذه
الآراء من حيث الزمن من الشخصية المتناوَلة، ثم مدى وثاقتها وذلك بمعرفة درجة
أصحابها وقيمة آرائهم في ميزان العلم، فلا نقبل مثلاً بتزكية صاحب بدعة لرأس
في بدعته، كما يرفض رأي المتحامل فيمن عرف بالتحامل عليه، فلا بد من النظر
في الجذور، وفي أقوال أهل العدالة والضبط ممن لا تعنيهم الأسماء أيا كانت، بل
يعنيهم الحق ويدورون معه حيث دار.
وقد كان على الشيخ البوطي - حفظه الله - قبل أن يشير إلى صاحب نفح
الطيب وصاحب شذرات الذهب وصاحب اليواقيت والجواهر، وصاحب كشف
الظنون أن يذكر لنا رأي ابن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والذهبي، وابن حجر، ولا عليه بعدها أن لا يتعرض لابن تيمية من قريب ولا من بعيد، لماذا لم يفعل
ذلك؟ هل يتمذهب هؤلاء النفر الكرام بالسلفية التي اعتبرها بدعة طارئة تمزق
وحدة المسلمين؛ وتقف حجر عثرة أمام المد الإسلامي؟ !
ثم إنه يفهم من هذه الحاشية أنه يعتقد أن ابن تيمية يكفر ابن عربي، اعتماداً
منه على رأيه في هجوم ابن تيمية على تكفير العلماء لأدنى شبهة، وقد بينا خطأ
هذا الرأي في المقالة السابقة وأن ابن تيمية من أكثر الناس احتياطاً ودقة في هذا
المجال، ولعل الذي يدفع البوطي إلى هذا الاعتقاد عدم تفريقه بين قول: هذا القول
لفلان كفر أو فيه كفر، والقول بأن فلاناً كافر.
إن القول الذي هو في نفسه كفر؛ أو المؤدي إلى الكفر ينبغي أن يبين غاية
التبيين، ويحذر منه أشد التحذير -وهذا ما يفعله ابن تيمية عادة في نكيره على هذه
الأقوال ومناصريها، وذلك أنه يرنو من خلال كل كتاباته وآثاره إلى قضية جوهرية
هي الجانب العملي من الفكر الإسلامي، والبعد عن الترف الفكري، والخوض فيما
لا فائدة منه، والدفاع عن عقائد الإسلام وأحكامه ضد المؤثرات الدخيلة الضارة،
ووضع المسلمين على الجادة الصحيحة التي يفهمون فيها دورهم، ويدركون ما
اختصوا به من دون الأمم. وعلى هذا ينبغي أن يفهم إنكاره التالي على القائلين
بوحدة الوجود، وعلى من يلتمس الأعذار لهم:
» وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة فإنه من رؤوسهم وأئمتهم،
فإنه إن كان ذكياً فإنه يُعَرَّف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقداً لهذا باطناً
وظاهراً فهو أكفر من اليهود والنصارى.
فمن لم يُكَفِّر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث
والاتحاد أبعد «. [مجموع الفتاوى 2/133]
أما عن ابن عربي بالذات فيقول:» مقالة ابن عربي في فصوص الحكم:
وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد
كثيراً ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما
هو قائم مع خياله الواسع، الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى والله أعلم بما
مات عليه «. [مجموع الفتاوى 2/142] .
فانظر كيف يفرق بين المقالة وبين صاحبها، وكيف ينصفه فينسب إليه كثرة
الجيد في كلامه، وبأنه لا يثبت على الاتحاد مثل غيره من القائلين بوحدة الوجود،
وكيف أنه لا يغمطه حقه ولا، يهضمه مميزاته التي امتاز بها كسعة الخيال، وكيف
يجوز أنه قد يكون تاب من أقواله المنكرة تلك.
أوهام على قواعد وهمية:
إن الشيخ فيما يكتب لا يرمي إلى دفاع عن هذا العالم أو ذاك، وليس هو
بصدد الإحسان إلى الغزالي أو ابن حزم أو ابن عربي؛ إنما يرمي إلى هدف محدود
جداً يعرفه كل من تصفح كتابه هذا، وهو الهجوم على قوم خطَّؤوه وعقبوا على
قول أو أقوال له، وقد اشتهروا بأشياء، فهو يظن أنه إذا تتبع هذه الأشياء وحاول
أن يهوِّن من شأنها سيصيب ضالته، وهي إخماد صوت هؤلاء وتشويه صورتهم،
فتراه يعنِّي نفسه هذا العناء، ويخوض مخاضات تكشف دعاواه، وهو لا يحاول أن
ينجو من واحدة إلا ويرمي نفسه في أخرى، هدانا الله وإياه.
لو كان يرمي إلى تجلية شبهات، والرد على أخطاء، والدفاع الصحيح عمن
يدعي الغيرة عليهم والغضب لهم لكان هناك طريق آخر لذلك يتمثل في تحديد
القضية المختلف عليها، وإزالة الإبهام عنها عن طريق نقل آراء كل من الفريقين
فيها، ومناقشة كلام كل منهما» حسب منهج المعرفة وقواعد تفسير النصوص «
التي دندن بها كثيراً في كتابه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل.
والعجيب منه أنه يوهمك أنه ينطلق في أحكامه هذه من قواعد؛ حيث لا
قواعد! ويضع نفسه في مكان القاضي الذي يمسك بالميزان الذي يزن به ابن تيمية
مرة؛ وابن عربي مرة، أسمعه يقول:
» ولقد حكمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية، قبل تحكيمها في حق ابن
عربي «ما هذه القاعدة الشرعية؟ وهل مر لها ذكر؟ ! وبناء على هذه القاعدة
الوهمية يرى أن ابن تيمية يقر الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي للمادة (وقد تبين
لنا مبلغ هذه الدعوى من الصحة في المقال السابق) ثم يؤكد بصلافة أن ما توصل
إليه؛ مما يحلو له أن يلصقه بابن تيمية ليس أقل خطورة وجلاءً من الكفر الذي
تتضمنه عبارات واردة في كلا ابن عربي! لماذا هذا التعسف كله؟ هل يريد أن
يأخذ ابن تيمية رهينة؛ فيهدده بالكفر والتضليل إن لم يقلع أتباعه عن القول بابن
عربي ما يقولون؟ ! هذا ما تدل عليه حاشيته.
لكنه يحاول أن يظهر للقارئ شيئاً من الفروسية والعفو عند المقدرة، وإن
شئت فشيئاً من الورع عن التقحم بالقول بلا علم، وذلك حين ينكص عن التكفير
والتضليل تبعاً للقاعدة أو القواعد الشرعية الموهومة التي حكمها فتراه يقول:
(ولكنا مع ذلك لم نجنح، لهذا السبب (لا ندري أي سبب؟ !) إلى تكفير ابن تيمية
ولا إلى تضليله، بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها!
(ليلاحظ القارئ أنها كانت قاعدة، ثم فرخت فأصبحت قواعد! وليحل بنفسه هذه
الأحجية، بل هذه المعجزة، ولا يستغرب كيف تصبح القاعدة قواعد؛ فلعل هذا
التكاثر حدث بانشطار الخلايا! ولا ينسى المعجزة الكبرى، وهي أن القاعدة
الشرعية الأولى لا وجود لها؛ ومع ذلك فقد ولدت قواعد! من قال إن أدب
اللامعقول لم يترك في الفكر الإسلامي الحديث بصمات؟ !)
تسوية:
إن البوطي يحس بالمشكلة التي تحيط بالمقلدين الذين ربطوا أنفسهم
بالأشخاص، فأصبحوا أسرى لكل ما يصدر عن هؤلاء الأشخاص، فبينما يحاول
جاهداً أن يضع بين يديك منهجاً يعصمك من الخطأ، ويعترف انطلاقاً - من منهجه
هو - أن في كتب ابن عربي كلاماً كثيراً يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب الكفر؛ (وهذه عبارته) تراه يلتف على هذا الاعتراف بطريقة بهلوانية لتفريغه من مدلوله
ومحتواه، وذلك:
1- بالإشارة إلى ما يناقضه من (البيانات المفصلة المكررة) الموجودة في
كتب ابن عربي [2] .
2- وبترداد خرافة الدس في كتب ابن عربي.
3- وبأن ابن عربي ليس بدعاً في أن يوجد في آثاره كفر وإيمان؛ فابن تيمية
مثله عنده هذا وهذا!
ولا شك أن هذه النقطة الثالثة اكتشاف جديد فتح الله به على الشيخ البوطي،
وهو يحس بهذا الفتح، فتراه يبدئ فيه وبعيد، وكأنه يتصور أن هذا الفتح هو الذي
سيلجم الخصوم، ويلقمهم حجراً لن يستطيعوا بعده كلاماً ولن يحيروا جواباً! وهو
في غمرة نشوته بهذا الفتح الذي ادُّخر له إلى هذا العصر يسترسل في جلاء هذه
النقطة حتى لا يبقى على عينها قشة! فيأتي ببدائع أخرى ما نظن أنه سُبق إليها،
فقضايا الكفر والإيمان داخلة في مبدأ حسن الظن، والعقائد والعبارات الدالة عليها
خاضعة - في رأيه - لأنواع من التأويل والاحتمال،» وإن كان لا بد من تأويل
العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن ظننا بصاحبها، أو من
تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل فنجعله معتمدنا في إساءة الظن به، فإن مما لا
يرتاب فيه المسلمون قط (لاحظ هذا الجزم) أن الواجب هو تأويل الباطل بما يتفق
مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس «.
إن هذا العبث الذي يلبسه البوطي ثوب الجدية يلتقي مع العبث الذي يهذي به
اللادينيون الذين يهيمنون على أجهزة التوجيه والثقافة في ردهم على دعاة الإسلام،
مع فرق واحد وهو أن البوطي يجعل من هذا الكلام قاعدة يريد تطبيقها على ابن
عربي وأمثاله، وهم يطبقونها على أنفسهم، ويطاردون بها من يقف في وجه
ميوعتهم وزندقتهم، حيث إن كثيراً منهم يحمل أسماء إسلامية، وقد يقوم ببعض
الشعائر الإسلامية، في الوقت الذي يلاحق فيه كل قضية إسلامية عملية وحيوية،
فإذا ما قال لهم أحداً لا؛ جابهوه بهذا الكلام الذي يختلط فيه الحق بالباطل،
ويستشهد فيه بالحق على الباطل، والذي ينبع خطره من التوائه وغموضه
واستشهاده بمسلَّمات إسلامية من أجل التحلل من الإسلام. وهؤلاء العلمانيون
اللادينيون لا يخفون إعجابهم بمثل ابن عربي الذي يهتف بمبدئهم ودينهم:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائف ... وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبَّ أَنَّى توجهتْ ... ركائِبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني [3]
إن هذه السنة التي يستنها البوطي؛ وهي وجوب تأويل الباطل ليتفق مع
الحق؛ فيها من الجرأة بقدر ما فيها من الجهل، فضلاً عن أنها مستحيلة عند
التطبيق، حتى من قبل الدعاة إليها. فسلوك البوطي مع خصومه مخالفة عملية لهذه
السنة التي يرفع لواءها، فهل هو يحمل باطل خصومه على ما يعرفون به من حق
حين يطلق لسانه فيهم وينعتهم بما ينعتهم به؟ ! وهبه اطلع على ما نكتبه حول
كتابه الذي ما أحببنا - والله - أن يكون قد كتبه، لما فيه من الإساءة إليه وإلى لقبه
العلمي، ووددنا لو تصدق فيه أسطورة أن هذه الترهات قد دُسَّت عليه، كما يصدِّق
هو هذه الأسطورة في كتب ابن عربي،.. نقول: هبه اطلع على هذه المقالات في
نقد ما كتب؛ فكيف سيستقبلها؟
هل سينشرح لها صدره ويحسن الظن بكاتبها؟ ! إن ما عرف به مخالف لهذه
السنة التي يبشر بها.
إن هذه الدعوة هدم لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إماتة للفكر
الصحيح البعيد عن الزغل في دنيا المسلمين، وإشاعة لمبدأ:» أغمض عينيك
واتبعني «، وترك الحبل على الغارب لكل من يقول قولاً دون الالتزام بمبدأ خير
القرون، فمهما قرأ المسلم أو سمع عن شخص قال كذا وكذا - مما فيه نظر -
فليس له أن يستجلي حقيقة هذا القول بل عليه أن يذهب ويفتش ملف هذا الشخص:
هل فيه شيء من الخير، فإن وجد خيراً فليسكت، حملاً لما سمع من الباطل على
ما وجد من خير و (ظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر) ، وإلا فهو سيئ الظن بالناس،
متعرض لما لا يعنيه، وهكذا لن يبقى هناك من يشار إلى أنه أخطأ في مسألة، أو
ترتب على رأي غير سديد له مشكلة، أو سرت آثار بدعته في الأمة حتى اتسع
الخرق على الواقع، وأصبح اقتلاع هذه البدعة متعسراً أو متعذراً، وهكذا سيجلس
أمثال: الجعد بن درهم، والحلاج، وابن عربي، وابن الراوندي، والنصير
الطوسي، مع مثل: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن المبارك،
والليث بن سعد.. إخواناً على سرر متقابلين! حيث إنه من» المعلوم والمؤكد «
أن كل من قيل فيه أو أنكر عليه شيء في التاريخ الإسلامي لا يخلو من جانب من
جوانب الخير، حتى اللصوص وقطاع الطرق والظلمة والطغاة في كل عصر لا
يخلون من ذلك، بل إن البدعة لا يصعب تمييزها ويقع الناس فيها إلا لخفائها عليهم
من جراء اختلاطها بجانب من جوانب الخير، فهل نترك القول في ذلك حتى لا
نرمى بإساءة الظن، وهل ترك هو النكير على مما سماه (بدعة السلفية) حتى يكون
لدعوته وثاقة؟ ليتذكر القارئ ركن:» التخبط والتناقض «من أركان منهج
البوطي.
ألا يعلم الشيخ أن علماً قائماً بنفسه، خاصاً بالمسلمين، ومفخرة من مفاخرهم
قد قام على ما يخالف دعوته هذه، وهو علم الجرح والتعديل؟ وهل على ما
استشهد عليه يُسْتَشْهَدُ بالآية الكريمة: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ
إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] ؟ !
ابن تيمية تحت طائلة التهديد:.
ثم يختم حاشيته بتهديد ابن تيمية بأن يضعه تحت طائلة التكفير، أو بكف
الإشارة إلى كفريات ابن عربي، لأنه إن لم يفعل ويرتدع عن التعرض لابن عربي؛ يكون قد جنى على نفسه بنفسه (والبوطي لا ذنب له في ذلك) ودعا الناس (بلا
ريب) أن يكفروه بسبب ما عنده من ضلالات فلسفية! لكن يا لهول هذه الخاتمة ويا
لسوء عاقبة من يأخذ بها! إنه الورع يأخذ بحجزة الشيخ البوطي أن يقتحم هذه
المخاضة! وهو الورع نفسه يفتقده ابن تيمية فيأبى إلا أن يحملنا على تكفير ابن
عربي. هذا وجه من وجوه فهم عبارة الشيخ!
ولكن مهلاً، هناك وجه آخر؛ كيف يتورع البوطي ويتحرج من شيء لا يد
له فيه ولم يفعله هو، بل هو» دعوة بلا ريب من ابن تيمية «إلى تكفير ابن تيمية؟ ! أرأيت؟ ! ابن تيمية يدعو الناس إلى تكفيره ويلح عليهم أن يدعوا إلى تكفيره ولكن الشيخ البوطي يشهد:» أن دين الله عز وجل يأبى أن ندعو بهذه الدعوة، كما أنه يحذر من الانصياع لها «.
فالورع إذن ليس من أجل سواد عيني ابن تيمية خوفاً من أن يظلم أو يُفترَى
عليه؛ بل تورعاً عن استجابة دعوته الملحة للناس أن يكفروه! فأي جريمة وأي
ذنب يماثل ذلك؟ ! وكيف يقدم مثل البوطي على ذلك؟ هاهنا الورع يتدخل، فيحل
المشكلة!
هذا كلام له خَبئٌ ... معناه ليست لنا عقول!
وبقي غموض يسير يحتاج إلى تجلية وهو مرجع الضمير في الفعل» نكفره «من قوله:» فإنها لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره «فقد رجعته حينما شرحت
كلامه إلى الناس (ومنهم البوطي) ، وقد يكون مرجعه الشيخ البوطي نفسه فقط! كما
يقال: نحن الملك، أو نحن رئيس الجمهورية نرسم بما يلي، وأي المعنيين اختار
القارئ فهو مصيب، ويصعب على الناقد الحكم: أي المعنيين أبلغ!
عود على بدء:
ولكن عجباً! يبدو الشيخ البوطي وكأنه يكتب رسالة تهديدية إلى ابن تيمية،
وبينهما قرون طويلة! ألا يعلم الشيخ - أطال الله عمره - أن ابن تيمية الآن في
مقام الذي لا يستطيع أن يقبل أو يرفض فيوجه إليه هذا الإنذار النهائي؟ !
إنه الأدب يا صاحبي.
ومن صَحِبَ الليالي عَلَّمَتْهُ ... خداعَ الإلفِ والقيلَ الُمحالا
وغيَّرت الخطوبَ عليه حتى ... تريهِ الذرَّ يحملنَ الجْبالا
خاتمة التعليق على الحاشية:
أنت - أيها القارئ الكريم، أمام البوطي - أحد رجلين:
1) إذا لم تعجز عن تصديق ما يقول؛ وساعدتك قواك العقلية والنفسية على
الإيمان بأن قوله هو المتفق مع كتاب الله، والمنسجم مع هدي رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فأنت متدبر للحق، محرر قلبك من شوائب: العصبيات والأهواء.
2) وإذا - لا سمح الله - عجزت عن ذلك لسبب من الأسباب - والأسباب
كثيرة! - فأنت على الضد من ذلك، يقول:» ولعل كل متدبر للحق، محرر قلبه
من شوائب العصبيات والأهواء، لا يعجز كل عن تصديق ما أقول، وعن اليقين
بأنه المتفق مع كتاب الله، والمنسجم مع هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم «.
إنها دعوة تهديدية للموافقة، فمن يحب أن يكون معرضاً عن الحق؟ ، مملوءاً
قلبه بشوائب العصبيات والأهواء؟ ! لا خيار لقارئ الشيخ البوطي، وكأن هذا
الأسلوب التسلطي متأثر بالمناخ الذي يخيم على بلادنا العربية وشعوبنا الإسلامية،
والاستفتاءات التي تطالعنا كل بضع سنين، والتي لا خيار لك فيها إلا أن تقول:
نعم، وإلا فأنت عميل، أو خائن، أو طابور خامس، أو غير ذلك مما في معاجم
تجار الشعارات من الأوصاف المقززة وعندها فالويل والثبور لك!
وقد تكرر منه أمثال هذه العبارات التي تدل بمنطوقها ومفهومها على أن طرق
المعرفة كلها ينبغي أن تُسَدّ، إلا ما يوصل إليه، مع أنه ينعى على هذا الأسلوب
التسلطي الذي يمنيك وينعم عليك بكريم الأوصاف تحريضاً على موافقته على
استنتاجاته، فإن لم تفعل وكان عندك تحفظ ما؛ سلّط عليك عكس تلك الأوصاف
صراحة أو بمفهوم المخالفة.
في العدد القادم الحلقة الأخيرة
__________
(1) لا ندري لماذا أضاف (ال) التعريف لهذا الشخص؟ لعله ليزيده تعريفاً وإلا فهو مشعور بدون (ال) ، أو لعل الـ هربت من ابن العماد إلى حاجي خليفة.
(2) يا ليت الشيخ ذكر لنا بياناً واحداً على سبيل المثال فقط، ليكون قد قدم خدمة جُلَّى لمن لا يقرؤون لابن عربي! .
(3) ترجمان الأشواق لابن عربي ص 19.(39/9)
خواطر في الدعوة
الحلقة المفقودة
محمد العبدة
قال صاحبي: عجيب أمر هذه الشعوب، كيف تسكت على الظلم، وترضى
بالهوان بل بالفقر والجوع، وكيف تسير مع أجهزة لإعلام أنَّى سارت!
قلت له: مع أنه هناك فرق بين بعض الشعوب إلا أن كلامك في الجملة
صحيح، ولكنك يا أخي تذكر الشعوب ومن يظلمها أو يسيرها بأجهزة إعلامه
المرئية والمسموعة وتنسى حلقة بين هذين الطرفين وهي إن كانت موجودة
فوجودها ضعيف غير مؤثر، وهي التي كان باستطاعتها أن تكون لها الكلمة
المسموعة. نسيت يا أخي العلماء، هؤلاء هم زعماء الأمة، وورثة النبوة، وهم
الموجهون لها، وهم الذين يحولون بين العشب وبين سقوطه فريسة الاستبداد، وهم
الذين تتطلع إليهم الأمة في الملمات والشدائد وحين تطل الفتن برأسها وحين تختلط
الأمور، وأعني بذلك العلماء المستقلين الذين يجمعون بين العلم والدين ويتكلمون
كلمة الحق دون خوف أو وجل من قطع راتب أو تنحية عن منصب، هؤلاء قلة
نادرة الآن، بل في بعض البلدان لا تجد لهم أثراً. ومن هذه القلة النادرة أناس
عندهم حظ وافر من العلم والتقوى، ولكنهم غمطوا أنفسهم فابتعدوا عن مجالات
التصدي لزعامة الناس وكأنهم ظنوا أن هذا من طلب الشهرة، ولهؤلاء نقول:
إن علاقة العلماء بجماهير الأمة ستجعل لهم وزناً ويحسب لرأيهم حساب،
«فهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقاً، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم واقتصاص أوامرهم والانكفاف عن مزاجرهم» [1] .
لقد بذلت الحركات الإسلامية جهوداً في محاولة استئناف حياة إسلامية ولكنها
لم تملأ هذا الفراغ بإبراز عدد من العلماء الربانيين الذين يفزع الناس إليهم
ويسمعون منهم ويتبعونهم، وهؤلاء هم الذين يبعدون الشعب عن اتباع كل ناعق،
هؤلاء العلماء إذا لم يكونوا موجودين في قطر من الأقطار فيجب علينا إيجادهم ونعد
لهذا باختيار الطلبة الأذكياء ودفعهم إلى تعلم العلم الشرعي والتبحر فيه ومعرفة
الواقع ليصبحوا محط أنظار الشعب يسألهم عما يفيده في دينه ودنياه، وعما ينجيه
من النار ويدخله الجنة.
__________
(1) الغياثي لأبي المعالي الجويني ص 95.(39/26)
من مفاهيم العبودية
دعاء الاستخارة
معن عبد القادر
الدعاء عند الاستخارة صلة بين العبد وربه في كل أمر يقدم عليه، يستعينه
ويستهديه ويسترشده، وفيه آداب إسلامية جمة. وفوائد نفيسة، وقد حرص،
الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يعلمه أصحابه.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر
فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك
بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام
الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - وتسمه باسمه - خير لي في ديني
ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاقدره لي (ويسره لي، ثم بارك لي فيه) [*] ،
وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله
فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به» [1] .
فوائد الحديث:
أولاً: آداب الدعاء
في هذا الحديث جملة من آداب الدعاء أولها:
أن يقدم المسائل بين يدي دعائه ثناءً على الله عز وجل بما هو أهله والله
سبحانه يحب المدح والثناء من عباده وهذا أدب لا يكاد يخلو منه ذكر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ودعائه ومنها أن يقدم بين يدي حاجته عملاً صالحاً كما أرشد
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الداعي أن يركع ركعتين قبل دعائه، وهناك أمثلة أخرى مشابهة كصلاة التوبة وصلاة الحاجة..
«قال ابن أبي حمزة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد
بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك
ولا شيء لذلك أنجع ولا لأنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه
والافتقار إليه مآلاً وحالاً. وقال النووي في (من غير الفريضة) » لو دعا بدعاء
الاستخارة عقب راتبة صلاة الظهر مثلاً أو غيرها من النوافل، الراتبة والمطلقة،
سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ «قال ابن حجر معقباً» إن نوى تلك
الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معاً أجزأ بخلاف ما إذا لم ينو.. ويبعد الإجزاء
عمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة لأن ظاهر الخبر أن تقع، الصلاة والدعاء
بعد وجود إرادة الأمر «.
ومن آداب الدعاء بين يدي الله أن يظهر العبد فقره وعجزه وانكساره وذله
وحاجته إلى ربه كما في الحديث» فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم «.
ومنها رد الحول والقوة إلى الله، وفي الحديث تطبيق فعلي لمعنى» لا حول
ولا قوة إلا بالله «التي كثيراً ما يرددها المسلمون وقل ما يفهمون معناها، فانظر
كيف يتبرأ العبد من الحول ويرده كله إلى الله حين يسأله أن يقدر له الأمر إن كان
خيراً، ثم يبارك له فيه، فإن كان شراً يصرف الأمر عنه ويصرفه عن الأمر ثم
يقدر له بدل خير ويرضيه به فالحول كله لله.
ومن أعظم الآداب سؤال الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى بما يتناسب مع
الحاجة، وهذا أحفظ لحرمة أسماء الله وصفاته وأقوى في تدبر معانيها فإن القائل
» يا جبار يا منتقم اغفر لي «أنَّى له أن يفقه معنى المغفرة والجبروت، وهو أيضاً أدعى للإجابة وفيه تربية للنفوس على التجاوب مع مقتضيات الأسماء والصفات.
فتأمل ما أشد مناسبة صفات العلم والقدرة والفضل لطلب الخير في أمر ما،
فإن السائل حين يطلب أن يُكتب له الأمر إن كان خيراً وأن يُصرف عنه إن كان
شراً وأن يُقدر له الخير حيث كان فمثل هذا لا يتحقق إلا إذا كان المسؤول عليماً بما
هو خير للسائل وما هو شر له، وقديراً حتى يقدِّره ويجعل للعبد قدرة عليه ثم كريماً
متفضلاً حتى يعطيه.
ومن طريف ما يروى في هذه المناسبة أن رجلاً من الأعراب كان يستمع إلى
الأصمعي يتلو [والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ
والله غفور رحيم] فقال كلام من هذا، قال الأصمعي كلام الله، قال لا والله ما هذا
كلام الله، فأعادها الأصمعي وقرأ [واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] فقال نعم عز فحكم فقطع
ولو غفر ورحم لما قطع.
وانظر - يا أخي -كيف يعلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نبدأ
بسؤال الخير في الدين، فإنه لا خير أعظم من سلامة الدين ولا مصيبة أطم من
المصيبة فيه. فالواجب على العبد أن يعتني بدينه اعتناءه بسائر أموره، بل أشد.
ثانياً: الاعتناء بالاستخارة:
كما في الحديث» يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن «قال
ابن حجر» قيل وجه التشبيه عموم الحاجة في الأمور كلها إلى الاستخارة، كعموم
الحاجة إلى القراءة في الصلاة «وقال ابن أبي جمرة:» التشبيه في تحفظ حروفه
وترتيب كلماته، ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه، ويحتمل
أن يكون من جهة الاهتمام به، والتحقيق لبركته والاحترام له.. قال الطيبي: فيه
إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تِلْوَيَّن للفريضة
والقرآن «. فلا تفرط - أخي في الله - فيما أرشدك رسولك لأن تحرص عليه مثل
هذا الحرص.
ثالثاً: في أي شيء يستخير:
جاء في الحديث» في الأمور كلها «قال ابن أبي جمرة:» هو عام أريد به
الخصوص فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما والحرام والمكروه لا
يستخار في تركهما «ذلك أن الله قد خار لنا في ذلك حين شرع لنا أمر ديننا [ومَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] . فإذا أقدم المسلم على أمر سأل عن حكم الإسلام فيه، فإن كان للإسلام حكم فيه
بفعل أو ترك فقد قضي الأمر وما على المسلم إلا أن يمتثل، ويشمل ذلك الأمور
المستحبة، فلا يستخير لقيام الليل ولا لصيام الاثنين والخميس، إذ في ذلك خير
حتماً، فتبقى الاستخارة في كل الأمور المباحة التي لا يقطع بكونها خيراً أو شراً إلا
عالم الغيب. كم من الأمثلة على أمور ظن الإنسان فيها خيره فإذا فيها ضرره
والعكس، والله يقول: [وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا
شَيْئاً وهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] فلا ينبغي للمسلم أن يزهد في
الاستخارة في أي أمر» ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير
يترتب عليه الأمر العظيم «وتكون الاستخارة أيضاً (في المستحب إذا تعارض منه
أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه) .
ولا يقدم الكثير على الاستخارة إلا في حال التردد، أما حين يظهر له الخير
في أمر فإنه يغفل عن الاستخارة ويمضي في أمره معتمداً على علمه متكلاً على
حوله وقوته، معرضاً عن هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
رابعاً: وماذا بعد الاستخارة؟
فإذا استخار المسلم ربه فإنه يمضي عازماً على أي أمر يراه، متوكلاً على الله
في تحقيقه جازماً أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس شرطاً أن يأتيه بعد
استخارته إلهام أو رؤيا صالحة أو أمر لا يعتاده وإن كان شيء من ذلك قد يقدره الله.
ولما ظن بعض الناس ذلك ولم يجدوه بعد الاستخارة، ذهبوا إلى تكرار
الاستخارة مرة بعد أخرى وإن كان تكرار الاستخارة في المسألة الواحدة قد أفتى
بعض العلماء بجوازه من الناحية الفقهية، ولكن تكرارها بدافع التجربة والمحاولة
ليس جيداً، بل قد يوقع الإنسان في اليأس والقنوط وسوء الظن بالله. ولذلك فإن
بعض من أفتى بجواز التكرار قيده بقيد من لم تطمئن نفسه لصلاته الأولى.
فالاستخارة -في جوهرها- تربية إيمانية قلبية يقدم الإنسان على أمره بعدها
واثقاً بأن ما يمضي فيه هو الخير، لأنه قد استخار ربه وهو يحسن ظنه بربه أنه
قد خار له، وحينئذ حتى لو واجه عقبات وصعوبات ومشاكل فيما أقدم عليه فإنه لا
يسيء الظن بربه لأنه أولاً لا يدري ما كان سيجده لو قدر له الأمر الآخر، وثانياً
فالمؤمن لا يقيس الخير بالماديات وإنما بما يكون في عمله من بركة في الدنيا وأجر
في الآخرة. فلعل المصائب هي الخير له إذ فيها تكفير للذنوب ورفع للدرجات حين
الصبر عليها.
وحين يصل المؤمن إلى هذا الفقه لمعنى الاستخارة وما يترتب عليها، فحدث
كما شئت عن مدى ارتياحه واطمئنانه وصبره على جميع أموره إذ يؤمن - وقد
سبق أن استخار ربه بصدق - أن ما هو فيه هو خيرة ربه له، وذلك يورث من
الاطمئنان والرضا بما يكون فوق ما يورثه شعوره أنها مجرد قدر الله له، فلا يندم
ولا يتحسر ولا يقول لو ... لو.
وينعكس أثر هذا على شخصيته، فيظهر دائماً واثقاً عازماً لا متردداً قلقاً.
هذه بعض الآداب والتوجيهات في هذا الحديث العظيم الذي هجره كثير فن
الناس وأعرض عنه زهداً فيه وغفلة عن لجوئهم إلى ربهم. اللهم توكلنا عليك
وفوضنا أمورنا إليك، إلهنا دبر لنا فإننا لا نحسن التدبير وخذ بأيدينا إلى كل خير.
__________
(*) زيادة من رواية في كتاب التوحيد.
(1) رواه البخاري في كتاب الدعوات 11/183 باب الدعاء عند الاستخارة.(39/28)
الشورى.. هل نلتزم بها؟
(2)
محمد العبدة
لا يرتاب عاقل أن من أشد الأمراض فتكاً بالأمة مرض الاستبداد، واستمراء
الشعب للذل والخنوع أمام دول متجبرة متكبرة.
وقد جاء الإسلام مضاداً لكل هذه الأدواء ومزيلاً لها. كانت شعوب المناطق
التي فتحها الإسلام خاضعة لرؤساء السياسة والدين خضوعاً مذلاً، فأزاح الإسلام
هذا الداء بتكريم الإنسان والتشنيع على المتبوعين الذين يوردون شعوبهم موارد
الهلاك، ولكن عندما ضعفت قليلاً روح الإسلام الحقيقية رجع هذا الداء لأنه كان
مستحكماً من قبل، وعادت الكسروية والقيصرية.
وفي محاولتنا الآن للنهوض واستئناف حياة إسلامية لا بد من معالجة هذا الداء
الذي أصاب كل شيء «إذ لا يعقل أن ترقى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها
مظلومة» [1] .
والدواء هو الشورى بكل معانيها بدءاً من الاستشارة والاستفادة من كل رأي
حكيم، وحتى الشورى بمعناها السياسي الإداري.
ومتابعة لما سبق نكمل سرد ما قيل في آيتي الشورى، ونذكر تطبيقات
الشورى في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين.
جاء في تفسير الكشاف للزمخشري:
«إذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك
على الأرشد الأصلح» [2]
ابن عطية:
«والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم
والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه» [3]
[وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] : «أي لا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه» [4]
والشورى صفة من الصفات المميزة للمسلمين ذكرها الله عقب الصلاة وقبل
الزكاة في قوله تعالى: [والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] وهذا يدل على بالغ أهميتها [5] . وقد جاء في السنة
عن عبد الرحمن بن غَنمْ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو اجتمعتما
على مشورة ما خالفتكما» [6] يعني بذلك أبا بكر وعمر. وروي عن أبي هريرة
قوله: «ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لأصحابه» .
التطبيق العملي لمبدأ الشورى في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
1-في غزوة بدر:
استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في قتال قريش وذلك قبل
بدء المعركة وهو في طريقه إلى بدر، فتكلم كبار الصحابة كأبي بكر وعمر والمقداد
ابن الاسود وسعد بن معاذ وسُرّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كلامهم وقال لهم: «سيروا وأبشروا» [7] .
2- غزوة أحد:
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إلى قريش أم يمكث في
المدينة ويقاتلهم في الطرقات، وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، ولكن كثيراً من
الصحابة وخاصة الشباب منهم ألحوا عليه في الخروج، فعزم على الخروج والتقوا
عند سفح أحد [8] وبعد هذه الغزوة نزلت آية [وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] تأكيداً لمبدأ
الشورى.
3- غزوة الخندق:
لما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمسيرة الأحزاب إليه وتألبهم على
المسلمين، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر
الخندق [9] وعندما بلغ الضيق بالمسلمين ما بلغ أراد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- التخفيف عنهم، فعرض على رؤساء غطفان - وهم من الأحزاب - أن
يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا ويتركوا القتال، واستشار رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا: يا رسول الله إن كان الله
أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيئاً تصنعه لنا فلا حاجة لنا به، والله لا
نعطيهم إلا السيف، فصوّب رأيهما [10] .
غزوة بني المصطلق:
في هذه الغزوة وقع حديث الإفك الذي تولى كبره زعيم المنافقين عبد الله بن
أبي ابن سلول، وأبطأ الوحي في براءة عائشة رضي الله عنها، فشاور الرسول -
صلى الله عليه وسلم- علياً بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فيما رمى أهل الإفك
عائشة، فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، وأما علي فقال: لم يضيق
الله عليك والنساء سواها كثير، واسأل الجارية تصدقك [11] .
صلح الحديبية:
عندما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قريشاً جمعت له الجموع
وأنهم سيصدونه عن البيت وقد جاء معتمراً قال: أشيروا عليّ أيها الناس، أترون
أن أميل إلى عيال وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ فقال أبو
بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا ضرب أحد فتوجه
له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: فامضوا على اسم الله [12] .
وعندما تم الصلح على أن يرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه
هذه السنة، أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بالنحر والحلق والتحلل
من العمرة، فلم يقبل أحد ما أمر به فدخل على أم سلمة وكلمها في ذلك، فأشارت
عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، ويحلق ويذبح، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل
بعضهم يحلق بعضاً [13] .
فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المسدد بالوحي المبلغ عن
الله شرائعه ودينه، وهو من هو في كمال صفاته البشرية، ومع ذلك يكثر من
المشاورة في الأمور العامة - فيما لا وحي فيه - وفي الأمور الخاصة، فالعجب
ممن يجعل الشورى من المندوبات إن شاء أقامها الحاكم وإن شاء تركها، وهذا في
الاستشارة فقط، فكيف يتكلم عن الإلزام بها، وكيف يستقيم حال أمة تحب الاستبداد! !
تطبيقات الشورى في عهد الراشدين:
لم ينص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على من يخلفه في حكم المسلمين
وإن كانت هناك إشارات واضحة على أن أبا بكر -رضي الله عنه- هو المؤهل
لذلك، وبعد المداولات التي وقعت في سقيفة بني ساعدة تم اختيار أبي بكر، ثم
بويع البيعة العامة في اليوم التالي فاختيار أبي بكر كان عن مشورة من الصحابة
وهم أهل الحل والعقل في عالم الدولة الإسلامية.
وأراد عمر -رضي الله عنه- أن يرسخ مبدأ الشورى ويقطع ألسنة الذين
يظنون أن بيعة أبي بكر كانت برجل أو رجلين ويمكن أن يفعلوا مثل هذا ففي
الحديث الطويل في البخاري من رواية ابن عباس أن عمر قال: «.. ثم إنه بلغني
أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول
إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا..» [14]
ويقصد الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- أن بيعة أبي بكر لم يحضر لها
ويمهد لها، وأنها تمت في ظروف صعبة كان لا بد أن يختار الخليفة حتى لا يقع
الشقاق خاصة وأن الأنصار اجتمعوا ليبايعوا خليفة منهم، فتمت مبايعة أبي بكر -
رضي الله عنه- ووقى الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- شر الخلاف، ولكن
أبا بكر بويع بيعة عامة في اليوم التالي.
__________
(1) محمد بن الحسن الحجوي / الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 1/14.
(2) الكشاف 1/226.
(3) تفسير ابن عطية 3/280.
(4) التفسير الكبير للرازي 14/178.
(5) انظر الإسلام وأوضاعنا السياسية / عبد القادر عودة النظريات السياسية الإسلامية / محمد ضياء الدين الريس.
(6) رواه أحمد ورجاله ثقات واختلف في صحبة عبد الرحمن بن غنم الأشعري، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين.
(7) مرويات غزوة بدر لأحمد محمد باوزير /144.
(8) انظر زاد المعاد 3/192.
(9) المصدر السابق 3/271.
(10) المصدر السابق 3/273.
(11) إبراهيم بن إبراهيم قريبي / مرويات غزوة بني المصطلق / 234- 261.
(12) د حافظ حكمي / مرويات غزوة الحديبية /165.
(13) المصدر السابق / 226.
(14) وقوله (تغرة) أن يقتلا: أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل وذلك لمخالفة جماعة المسلمين وجمهورهم وانفرادهما واستعجالهما بالأمر دون مشورة عامة المسلمين.(39/33)
من هدي السلف
النظر في مآلات الأفعال
د. حسن حسن إبراهيم
اعتبار المآل أصل من أصول الفقه جارٍٍ على مقاصد الشريعة، ولا شك أنه لا
بد لنا من معرفة هذا الأصل لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ .. متى نصرّح؟
ومتى نلمَّح؟ متى نواجه؟ ومتى نكون من وراء الستار؟ .. وحتى لا نكون عبئاً
على الحركة الإسلامية، أو ثغرة تؤتى الحركة من قبلها!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية «مررت أنا وبعض أصحابى في زمن التتار
بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له: إنما
حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن
قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم» . [1]
يعلمنا ابن تيمية مراعاة مآلات الأفعال فإن كانت تؤدي إلى مطلوب فهي
مطلوبة وإن كانت لا تؤدي إلا إلى شر فهي منهي عنها. ويعلمنا أيضاً أن الغاية من
إنكار المنكر هي حدوث المعروف فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فإنه
لا يسوغ إنكاره.
ويقرر الإمام الشاطبي نفس الأصل فيقول: «النظر في مآلات الأفعال معتبر
مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة [*] .. وهو مجال للمجتهد صعب المورد
إلا أنه صعب المذاق، محمود الغب (العاقبة) ، جار على مقاصد الشريعة» [2] .
ويقول في موضع آخر بعد أن يقرر أنه ليس كل حق ينشر، وبعد أن يحكي
كراهية الإمام مالك للكلام فيما ليس تحته عمل يقول: «فتنبه لهذا المعنى وضابطه
أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة
إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على
العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول
على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك
هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية» [3]
والأعمال بالنسبة لمآلها أربعة أقسام:
1- ما يكون أداؤه إلى الفساد قطعياً: كمن حفر بئراً في طريق المسلمين
بحيث يقع فيه المارة.
فهذا ممنوع بإجماع الفقهاء.
2- ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً: كزراعة العنب مع أنه قد يُتخذ خمراً
فهذا حلال لا شك فيه.
3- ما يكون أداؤه إلى المفسدة من باب غلبة الظن كبيع السلاح وقت الفتن
وبيع العنب للخمار وهذا ممنوع أيضاً.
4- ما يكون أداؤه إلى المفسدة دون غلبة الظن كالبيوع التي تُتَخذ ذريعة للربا
وهذا موضع خلاف. [4]
وينبني على هذا الأصل القواعد الآتية: [5]
1) قاعدة سد الذرائع: وحقيقتها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل
على المشروعية لكن مآله غير مشروع ومن الأمثلة على ذلك:
* قوله تعالى: [ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ
عِلْمٍ] فالآية تمنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل لا يجوز [6] .
* أمر الشارع بالاجتماع على إمام واحد حتى في صلاة الخوف مع كون
صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول الأمن وذلك سداً لذريعة الاختلاف والتنازع
وهذا من أعظم مقاصد الشرع وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق حتى في
تسوية الصف في الصلاة [6] .
* نهي المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد لأن مصلحة حفظ نفوسهم ودينهم
راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة [6] .
* جاء في الحديث عن علي «حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يُكذب الله
ورسوله» [7]
قاعدة الحيل -:
وحقيقتها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة فإبطاله نظر في المآل.
قاعدة الاستحسان:
وحدها الأخذ بمصلحة جزئية في مقابله قياس كلي وحقيقتها منع القياس الذي يؤدي إلى قبيح أو بمعنى آخر ترك العسر لليسر، وهذا نظر في المآل.
إقامة المصالح الشرعية وإن عُرض في طريقها بعض المناكر: كطلب العلم
وإن كان في طريقه مناكر تُسمع وتُرى وكشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا
لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور
عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المقصود من المقاصد الشريعة
فجيب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما
يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة
ما تقرر إن شاء الله، والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال.. فاعتبارها
لازم في كل حكم على الإطلاق.
أخيراً: من يتأمل ما جرى غلى الإسلام في الفتن الكبار والصغار يرى أنها
من إضاعة هذا الأصل ويرى مدى الحاجة إلى تلك القواعد الشرعية لتخليص الفكر
والواقع الإسلامي من النزعة الشكلية التي أعجزته عن مواجهة الواقع مواجهة فعالة.
__________
(1) أعلام الموقعين ابن القيم ج 3 ص 5.
(*) فقد يكون العمل في الأصل ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة.
(2) الموافقات الشاطبي ج 4 ص 194.
(3) الموافقات الشاطبي ج 4 ص 191.
(4) أصول الفقه لأبي زهرة ص 289 باختصار.
(5) الموافقات الشاطبي ج 4 ص 198 بتصرف.
(6) أعلام الموقعين ابن القيم ج 3 ص 137 وما بعدها.
(7) الموافقات الشاطبي ج 3 ص 189.(39/38)
لمحات في طرق نقل التقنية
والتخلف التقني في العالم الإسلامي
د. عبد الله بن صالح الضويان
إن التجارة بالتكنولوجيا أسهل بكثير من مهمة امتصاصها من قبل الدولة
المستوردة لها. وأنه مع حلول السبعينات اتضح أن سياسة نقل التقنية إلى الدول
النامية لم تنجح فقد تضخمت ديون هذه الدول وبدأت مشكلاتها الاجتماعية تتفاقم
وآلت مشروعاتها إلى الهبوط.
ماذا نعني بنقل التكنولوجيا:
يمكن فهم نقل التكنولوجيا على مستوين [1] :
1- المستوى المحلي: ونقل التكنولوجيا على هذا المستوى يعرّف بأنه تحويل
خلاصات البحوث العلمية التي تقوم بها الجامعات والمعاهد إلى منتجات وخدمات
ويطلق على هذا النوع من النقل (النقل الرأسي) للتكنولوجيا.
2-المستوى الدولي: ونقل التكنولوجيا من دولة متقدمة قادرة على تحقيق
(النقل الرأسي) فيها إلى دولة أقل تقدماً لم تستطع بعد إنجاز (النقل الرأسي)
للتكنولوجيا فيها ومثل هذا النقل من الدولة المتقدمة إلى الدولة الأقل تقدماً يأخذ في
أبسط أشكاله نقل طرق وأساليب التكنولوجيا دون إجراء أية تعديلات لتكييف هذه
الطرق والأساليب مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية السائدة في الدول
النامية. ومثل هذا النقل يطلق عليه عادة (النقل الأفقي) للتكنولوجيا. وبقدر ما يتم
تعديل أو تكييف النقل الأفقي مع الظروف المحلية بقدر ما يكتسب درجة أعلى من
نمط (النقل الرأسي) وبالتالي درجة أعلى من النجاح في التوطّن.
ولقد وجد (مانسفيلد وآخرون) في بحث لهما أخيراً أن عمر التكنولوجيا
المنقولة (من أمريكا إلى دولة متقدمة أخرى مثل بريطانيا) هو ست سنوات (وهي
المدة بين إنتاج سلعة وخدمة معينة بالولايات المتحدة ونقلها إلى الدولة المتقدمة
المستوردة للتكنولوجيا) ، ويصل هذا العمر إلى 13 عاماً حينما لا يكون النقل عن
طريق شركات أمريكية ولكن بطرق أخرى. أما في حالة الدول النامية فيتطلب ذلك
فترة تتراوح بين عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن [2] . فمثلاً يرى الدكتور عزّى [3] أنه من أجل صناعة متكاملة في النقل البحري في بلد مثل السعودية فنحتاج إلى
20 سنة نكون بعدها قادرين على امتلاك جزء من التكنولوجيا بجهد ذاتي وقادرين
على الانتقال الرأسي.
أنواع التكنولوجيا:
يمكن التفريق بين ثلاثة أنواع من التكنولوجيا [4] وهي:
1- تكنولوجيا مادية (Hardware) متمثلة بالأجهزة والأدوات والمواد.
2 - المعلومات (Information) متمثلة بالمعرفة المسجلة أو المسموعة
والتصاميم والمواصفات والاجراءات والأساليب الخاصة بتطوير التكنولوجيا
واستعمالها وتشغيلها وادارتها وتمويلها والتدريب عليها.
3- الخبرة الفنية (Know-how) متمثلة بالاستخدام السليم للمعلومات
وبالاتصالات الشخصية اللازمة لتشخيص المشكلات وتقديم الحلول لها.
قنوات وطرق نقل التكنولوجيا:
هناك عدة طرق وقنوات توصل التكنولوجيا إلى الدول النامية بعضها يلعب
دوراً أساسياً في النقل والبعض الآخر يحظى بدور ثانوي (فأساليب النقل تعتمد على
التقنية المراد نقلها) .
ومن أهم القنوات ما يلي:
1 - الاستيراد:
فمن الممكن الحصول على أجهزة وآلات ومصانع جاهزة إذا توفر رأس المال
ومعدات تتجسد فيها إلى حد بعيد التكنولوجيا التي انتجت بها. ومن محاسن هذه
الطريقة أن المستورد عادة ما يكون حر التصرف فيما يشتري إلى حد ما عندها
تستطيع الدول النامية الكشف عن التكنولوجيا بطرق شتى، منها فك الآلات
والأجهزة إلى أجزائها ودراسة تركيبها وإعادة بنائها كما فعلت اليابان بنجاح من قبل. وفي حين أن درجة من هذا التقليد حاصلة في بعض دول جنوب شرق آسيا
(تايوان، هونج كونج، كوريا الجنوبية) فإن الكثير من الدول النامية لا يملك حتى
هذه القدرة على تفكيك وإعادة تركيب مثل هذه السلع كما أن تجربة اليابان لم تكن
تقليداً أعمى بل جاءت جزءاً من مشروع حضاري متكامل لنهضة اليابان.
2- الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول النامية:
تتخذ الدول المتقدمة هذا الأسلوب في كثير من المشروعات التي تتم في
البلدان النامية، لكن لا بد من ممارسة دور كبير من الحيطة من جانب الطرفين،
المصدر والمستهلك، لجعل هذه الوسيلة مجدية بما يعود بالفائدة على الطرفين.
وعندما تقوم الشركة (من الدول المتقدمة) باستثماراتها المباشرة في الدول النامية
دون مشاركة من أي طرف محلي، فإنها تجلب معها (عدتها) الكاملة لإقامة
مشاريعها يعها بما في ذلك الحزمة التكنولوجية (Technological package)
التي تحتاج إليها وتشمل دراسة الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروع والقيام
بالأعمال الهندسية والتصاميم وإحضار الخبراء والفنيين والإداريين والمعدات
والآلات والإشراف على إنجاز المشروع وعلى مباشرته في الإنتاج والتسويق.
وسلكت بعض الدول النفطية طريق الدخول في المشاركة مع الشركات التي تقوم
بالمشاريع، ويمكن أن يكون الطرف المحلي هو حكومة الدولة النامية نفسها أو
إحدى مؤسساتها أو أحد أصحاب رؤوس الأموال. وأصبحت الدولة النفطية تلح
على امتلاك أكثر من 50% من أسهم المشروع المشترك أملاً في الحصول على
أكبر قدر من التأثير في سياسة الشركة مقابل تقديم الخدمات الأساسية (الغاز -
الكهرباء - الهاتف) ويأخذ الطرف الأجنبي على عاتقه المسائل المرتبطة بإقامة
المشروع وتشغيله وصيانته وإدارته وتسويق منتجاته [5] .
3- الشركات المتعددة الجنسيات:
إن معظم الاستثمارات في الدول النامية يتم عن طريق الشركات المتعددة
الجنسيات (Multinational Corporation) وهي من أهم قنوات نقل
التكنولوجيا إلى البلدان النامية، لكنها تعتبر أكبر محتكر للتكنولوجيا على المستوى
الدولي من خلال مختلف القنوات المتاحة لها (مثل الاستيراد، الاستثمارات
والخدمات الاستشارية، العلاقات التجارية) والتي سنأتي عليها. إن تاريخ هذه
الشركات قديم فمثلاً عرفت الشركة البريطانية للهند الشرقية عام 1600م، وكان
سوق هذه الشركات بلدانها الأصلية أولاً ثم اتخذت طابع العالمية ليبرز هذا الاسم
(متعدد الجنسيات) للاستثمار خارج موطنها. ففي عام 1937م مثلاً كانت 187
شركة أمريكية قد نجحت في إقامة 715 فرعاً صناعياً خارج أمريكا، 330 في
أوروبا، 169 في كندا، 114 في أمريكا اللاتينية والباقي موزع على دول العالم
وأصبحت أرباح تلك الشركات في الفترة الأخيرة خيالية فمثلاً بلغت مبيعات شركة - اكسون الأمريكية للنفط - أكثر من 103 مليار دولار في عام 1980م وربح قدره
6. 5 مليار دولار. وبلغت مبيعات 35 شركة أمريكية في عام 1980م حوالي
732. 6 مليار دولار وربح صافي قدره 40 مليار دولار [6] .
إن احتكار هذه الشركات للتكنولوجيا أدى إلى قلق الدول النامية كما أسلفنا
حيث أن هدف هذه الشركات الربح فقط. إن إنتاج هذه الشركات يزيد بمعدل
ضعف معدل نمو الاقتصاد الداخلي لكل من روسيا وأمريكا ومن المتوقع أن يكون
لنحو 400 إلى 500 شركة من هذه الشركات (جنرال موتورز، شل، آي بي أم
IBM، فيليبس.. الخ) قبل نهاية القرن الحالي ملكية مالا يقل عن ثلثي مجموع
الأصول الثابتة في العالم بأسره وأن تقوم بإنتاج أكثر من نصف الإنتاج العالمي.
إن تعريف هذه الشركات مختلف فيه فمن قائل بأنها تلك التي ينتمي فيها مالكو
الشركة الأم إلى جنسيات مختلفة، وآخرون يرون أن الجنسيات تعني أعضاء
مجلس الإدارة للشركة الأم ومديري الشركة الأساسيين. وبالإجمال هي شركة كبيرة
الحجم يصل نشاطها وفروعها الانتاجية إلى عدة دول. ومن الملاحظ بروز شركات
أصحابها من مواطني الدول النامية وهذه أنواع منها من استفاد مؤسسوها من طفرة
مالية في ذلك البلد وجمعوا ثروات شخصية بشتى الطرق وهذه فقط تملك رأس مال
كبير. ومنها تلك الشركات الحكومية مثل ما فعلت شركت النفط الوطنية الكويتية
بشرائها شركة «سنتافي» العالمية مع أن الإدارة من مواطني الدولة الأم للشركة.
ومنها من يكون أصحابها مواطنين من الدول النامية استفادوا من مزايا وطنية في
بعض القطاعات مثل شركة البناء الكورية. [7]
إن من عيوب وأضرار نقل التكنولوجيا عن طريق هذه القناة أنها تعمق علاقة
التبعية والضمنية في العالم بعيداً عن تحقيق تكامل دولي حيث تعيد جزءاً كبيراً من
أرباحها إلى الدولة الأم (عادة دولة متقدمة) . كما أنها تصدر تكنولوجيا مكلفة رأس
المال غير مراعية لظروف البلد التي يعاني أهلها من البطالة حيث أن أهداف هذه
الشركات الربح السريع والضخم.
كما أن من عيوبها أنها تطوع الأذواق والمعطيات المحلية للدولة النامية بدلاً
من أن تتكيف معها وذلك بالحملات والإعلانات الضخمة الأمر الذي يخلق ميلاً
هائلاً عند هذه الشعوب للاستهلاك بينما قدرتها الإنتاجية متواضعة. كما أنها تساهم
في هجرة العقول بإغرائهم بالمال ونمط الحياة الراقي في بلد الشركة الأم ولا تنسَ
كذلك أثر هذه الشركات على البلد النامي من حيث إغراقه في ديون وخفض عملته
المحلية فمثلاً سحبت هذه الشركات عام 1974م أكثر من 16 مليار دولار من
الأرباح من الدول النامية في حين أنها لم تستقدم من الخارج أكثر من 7 مليار دولار. وتسيطر هذه الشركات على 80% من عمليات النقل في العالم حالياً.
4- قد يأخذ نقل التكنولوجيا شكل الدخول في عقود ورخص وبراءات اختراع
وعلامات تجارية بين شركة محلية في دولة نامية وبين شركة (في الغالب) متعددة
الجنسيات (غير قادرة أو راغبة بالقيام باستثمارات مباشرة في دولة نامية ما لأسباب
معينة) . هنا تسمح الثانية للأولى باستغلال الرخص أو البراءة أو العلامة التجارية
حسب شروط وقيود يتفق عليها مسبقاً (مثلاً: حرمان الشركة المحلية من التصدير
والاكتفاء بالسوق المحلية، أو منعها من الجمع بين علامات تجارية لشركات
منافسة ... إلخ) .
إن العلامات التجارية وبراءات الاختراع تمثل معاً حقوق ملكية صناعية غير
ملموسة وكلاهما يمنحان الشركة التي تملكهما درجة من الاحتكار.
__________
(1) العرب أمام تحديات التكنولوجيا د أكرم.
(2) مجلة المنهل، صفر- محرم 1403 هـ ص 47.
(3) العالم إلى أين د ب عزّى 1983 م.
(4) المجلة العربية للإدارة - المجلد 11 العدد 4 ص 23 1987 م.
(5) العرب أمام تحديات التكنولوجيا د أكرم ص 82.
(6) العرب أمام تحديات التكنولوجيا د أكرم ص 100.
(7) نفس المرجع.(39/42)
علماء معاصرون
الشيخ أحمد محمد شاكر
حكمت الحريري
هو الأستاذ العلامة المحدث أبو الأشبال الشيخ أحمد بن محمد شاكر بن أحمد
ابن عبد القادر. ولد -رحمه الله- بعد فجر يوم الجمعة في التاسع والعشرين من
شهر جمادي الأخرة سنة 1309هـ الموافق 1892م بمنزل والده بالقاهرة، ثم
ارتحل مع والده إلى السودان حيث كان قد عُينَ قاضياً فيها.
درس الشيخ أحمد شاكر في السودان بكلية «غوردن» ثم بعد رجوعه إلى
مصر درس بالإسكندرية، ثم التحق بالأزهر الذي صار والده وكيلاً لمشيخته سنة
1328هـ.
وانتقال الشيخ إلى الأزهر كان بداية عهد جديد من حياته، فقد استطاع أن
يتصل بكثير من العلماء وطلبة العلم الموجودين في القاهرة ثم بدأ ينتقل في مكتبات
القاهرة ويستفيد من العلماء ويكثر من المطالعة وقد حاز على الشهادة العالمية من
الأزهر سنة 1917م وعمل في التدريس لمدة أربعة أشهر فقط، ثم عمل في سلك
القضاء حتى أحيل على التقاعد سنة 1951م.
ولم ينقطع خلال فترة اشتغاله بالقضاء عن المطالعة والتصنيف، بل إنه أثرى
المكتبة الإسلامية بأبحاثه القيمة وتحقيقه لأمهات الكتب المفيدة.
وكانت وفاته في السادس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1377هـ
الموافق 1958م.
أشهر شيوخه:
تربى الشيخ أحمد شاكر في بيئة علمية، فوالده كان وكيلاً للأزهر، وجده
لأمه العالم الجليل هارون عبد الرزاق؛ بالإضافة إلى وجود الأزهر الذي كان
يستقطب كبار العلماء من شتى بلدان العالم الإسلامي مما أتاح للشيخ فرصة أن ينهل
من معين العلم والعلماء.
ومن أشهر العلماء الذين استفاد منهم:
1- والده العلامة محمد شاكر، وكان أعظم الناس أثراً في حياته.
2- الشيخ عبد السلام الفقي، وقد تعلم منه كتب الأدب واللغة والشعر.
3- الشيخ محمود أبو دقيقة، وتعلم منه الفقه وأصوله بالإضافة إلى أنه تعلم
منه الفروسية، والرماية، والسباحة.
4- علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
5- علامة المغرب ومحدثها الشيخ عبد الله بن إدريس السنوسي، وقد أجازه
برواية صحيح البخاري وبقية الكتب الستة.
6- الشيخ طاهر الجزائري من كبار علماء الشام.
7- العلامة محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وغيرهم من جهابذة العلم.
جهوده في خدمة السنة:
أهم المصنفات التي حققها وعلق عليها:
1- تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي تحقيقاً علمياً نافعاً ينم عن غزارة
علمه وسعة اطلاعه، وهو أول كتاب عرف به الشيخ أحمد.
2- تحقيق (الجامع) للترمذي عن عدة نسخ، وصل فيه إلى نهاية الجزء
الثالث.
3- تحقيق وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وقد شرع بخدمة هذا الكتاب
من 1911م حتى بدأ بطباعته سنة 1946م، فهرس أحاديثه حسب الموضوعات،
وخرجها وشرح مفرداته وعلق عليه تعليقات هامة ومفيدة، ولكنه لم ينته من تخريج
كامل أحاديث المسند بل وصل إلى ثلث الكتاب تقريباً، وعدد الأحاديث التي حققها
[8099] وقدم للكتاب بنقل كتابين جعلهما كالمقدمة بالنسبة للمسند هما: «خصائص
المسند» للحافظ أبي موسى المديني «والمصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد»
لابن الجزري.
4- تحقيق مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، ومعه معالم السنن
للخطابي، وتهذيب ابن قيِّم الجوزية، بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي،
وطبع الكتاب في ثمانية مجلدات.
5- تحقيق صحيح ابن حبان: حقق الجزء الأول منه فقط.
6- شرح ألفية السيوطي في علم الحديث، وطبع الكتاب في مجلدين.
7- الباعث الحثيث شرح «اختصار علوم الحديث» للحافظ ابن كثير.
8- تحقيق كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم.
9- عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير اختصره وحذف منه الأسانيد،
والروايات الإسرائيلية والأحاديث الضعيفة، وتفاصيل المسائل الكلامية، وهو
أفضل المختصرات التي طبعت لتفسير ابن كثير.
10- تخريج أحاديث من تفسير الطبري: شارك أخاه محمود شاكر في
تخريج أحاديث بعض الأجزاء من هذا التفسير وعلق على بعض الأحاديث إلى
الجزء الثالث عشر.
11- تحقيق كتاب «لباب الآداب» للأمير أسامة بن منقذ المتوفى سنة 584 هـ.
12- تحقيق كتاب شرح العقيدة الطحاوية. هذا بالإضافة إلى كتب أخرى
قيمة في الأدب واللغة، وبحوث مفيدة في الفقه والقضايا الاجتماعية والسياسية كتبها
في مجلة «الهدي النبوي» حينما كان رئيس تحرير لها، وقد جمعت بعض هذه
المقالات ونشرت في كتاب بعنوان «كلمة الحق» .
جهوده في المجال السياسي والاجتماعي:
عاش الشيخ أحمد شاكر في فترة امتازت بكثرة الأحداث وتواليها، والدول
الإسلامية تئن تحت نير الاستعمار الإنكليزي والفرنسي، وخور المسلمين وعجز
معظم العلماء عن القيام بواجبهم، بل كانوا يشعرون بالانهزامية والصغار أمام
هجمات الصليبيين وتلامذتهم من المستشرقين الفكرية وطعنهم في هذا الدين،
والتركيز على مصر المركز العلمي للعالم الإسلامي، واليهود يخططون لاحتلال
فلسطين، وأحكام الشريعة الإسلامية أقصيت عن حياة الناس بفعل الفساد
والتخطيط الصليبي الماكر ضد هذه الأمة، حتى صار التدين والتمسك بدين الإسلام، وصمة عار وتخلفاً ورجعية.
وأمام هذه الموجات المتلاطمة والعواصف الجارفة التي تهب بالفساد وقمع
الصالحين من العباد، ونصبوا لذلك رايات في كل هضبة وواد.
فلا يقوى على الصمود والمواجهة إلا العظماء من الرجال، وما دام أنه كما
يقال: لكل زمان دولة ورجال، فقد هيأ الله سبحانه وتعالى الشيخ ليذود عن حياض
هذه الأمة ويدافع عن شرفها وعزتها التي لا تكون أبداً إلا بتمسكها بكتاب الله وسنة
رسوله عليه الصلاة والسلام، فانبرى الشيخ للتصدي لكل الأفكار الهدامة متمسكاً
بكتاب الله ملتزماً بعقيدة السلف، يقارع الأعداء وتلامذة الغرب من المستشرقين دون
أن تلين له قناة أو تخور له عزيمة، مع قلة من أمثاله من الرجال.
وصار يدبج ببراعه مقالات نفيسة وتعليقات مفيدة على بعض ما حققه من
الكتب، ومن ذلك تعليقاته على تفسير ابن جرير الطبري، وعمدة التفسير مفصلاً
القول عن آيات الحاكمية وتكفير من لا يحكم بشريعة الله، وتعليقاته لا تزال مصدراً
هاماً لمن جاء بعده من العلماء المجاهدين الذين فتح الله بصيرتهم ولا أريد للقارئ
لمقالتي هذه أن يعيش في جو التصور النظري، بل أنصح والدين النصيحة
بالاطلاع على كتاب «كلمة الحق» فليس من سمع كمن رأى وعندها يتعرف
القارئ على مدى مقدرة الشيخ على البيان وفصاحته، ودفاعه عن هذا الدين الحنيف، وتصديه للمبتدعين، والخرافيين وللمستشرقين وغيرهم.
وأريد أن أخص بالذكر من بين المقالات الهامة للشيخ ثلاثة مقالات هي:
«أيتها الأمم المستعبدة» ، «بيان إلى الأمة المصرية خاصة وإلى الأمم العربية
والإسلامية عامة» ، والثالثة «تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين» .
ستلاحظ من خلالها مواقفه الحازمة وبغضه لأعداء الله، وتحريض الأمة على
جهاد المستعمر الذي نهب خيرات البلاد ونشر في الأمة الفساد.
منهجه في تصحيح الأسانيد:
غلب على الشيخ في مجال البحث العلمي الاهتمام بتخريج الأحاديث ودراسة
أسانيدها خاصة في تخريجه لأحاديث المسند.
وعند تتبع الأسانيد التي حكم عليها بالصحة، يلاحظ أن أهم القواعد التي
يسير عليها في تصحيح إسناد حديث ما هي كالآتي:
1- إذا ذكر البخاري الراوي في «تاريخه الكبير» وسكت عنه، ولم يذكره
في الضعفاء فإن الشيخ يعتبر سكوته توثيقاً للراوي.
2- إذا ذكر ابن أبي حاتم الراوي في «الجرح والتعديل» وسكت عنه أيضا، فإن الشيخ يعتبر سكوته عن الراوي توثيقاً له.
3-كان يعتمد على توثيق ابن حبان فالرواة الذين ذكرهم ابن حبان في كتاب
«الثقات» ثقات عند الشيخ أحمد شاكر.
4- توثيقه لـ (عبد الله بن لهيعة) بإطلاق.
5- توثيقه للمجهول من التابعين قياساً لحالهم على حال الصحابة.
ومما أخذ على الشيخ أمور:
الأولى: معظم الكتب الهامة التي قام بتحقيقها أو شرحها لم يكد يتممها وكأنه
كان يشتغل بأكثر من كتاب في وقت واحد، فالترمذي والمسند وصحيح ابن حبان
وتفسير ابن كثير وتفسير الطبري، وغيرها، لم تكتمل، ولو أكملها لكانت الفائدة
أوسع وأكثر، فلا تكاد تجد من يسد هذا الفراغ الذي تركه الشيخ، فمنهجه وأسلوبه
يختلف عمن جاء من بعده.
الثانية: في نقد منهجه في تصحيح الأسانيد بناء على أهم القواعد المذكورة
آنفاً. فالبخاري في «التاريخ الكبير» وكذا ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل»
لا يعتبر سكوتهما عن الراوي تعديلاً له، فقد يذكر البخاري في كتابه راوياً ضعيفاً
ويسكت عنه، وقد يسكت عن بعض الرواة المجهولين، ويسكت أحياناً عن بعض
الرواة الذين لم يعرفهم ولم يفرق بين أسمائهم. وأما ابن أبي حاتم فقد يسكت عن
الرواة الذين لم يتمكن من معرفة أحوالهم فقد قال في مقدمة كتاب الجرح والتعديل:
«على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشتمل
الكتاب على كل من روي عنه العلم وجاء وجود الجرح والتعديل فيهم فنحن ملحقوها
بهم من بعد إن شاء الله تعالى» .
أما اعتماده على توثيق ابن حبان، فابن حبان كان متساهلاً في التوثيق فما كل
من ذكرهم في «كتاب الثقات» بثقات.
وقد تكلم عن تساهل ابن حبان في التوثيق العلامة عبد الرحمن المعلمي
اليماني في كتاب «التنكيل» وكذا الشيخ ناصر الألباني في مواضع من السلسلة
الضعيفة. فكان مما قاله الألباني: «إن ابن حبان متساهل في التوثيق، فإنه كثيراً
ما يوثق المجهولين حتى الذين يصرح هو بنفسه أنه لا يدري من هو ولا من أبوه» .
وتساهله نابع من اصطلاحه في تعريف العدل، فالعدل عنده من لم يعرف منه
الجرح إذ الجرح ضد التعديل، فمن لم يعلم بجرح فهو عدل إذا لم يبين ضده إذ لم
يكلف الناس معرفة ما غاب عنهم [1] .
وأما توثيقه لعبد الله بن لهيعة بإطلاق فهو موضع انتقاد أيضاً.
إذ أن عبد الله بن لهيعة ضعفه أكثر العلماء الذين يعتد بقولهم كابن معين،
والنسائي وابن المديني، والجوزجاني، وابن حبان، والذهبي، وابن خزيمة، لأنه
اختلط في آخر عمره بعد احتراق كتبه وأما من روى عنه قبل الاختلاط فروايته
صحيحة، والذين رووا عنه قبل أن يختلط وقبل احتراق كتبه هم العبادلة. «عبد
الله ابن المبارك، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المقرئ» وفي غير رواية
هؤلاء عنه فهو ضعيف.
وأما توثيقه للمجهولين من التابعين فليس بصحيح، وإنما فعل ذلك قياساً لحال
هؤلاء على حال الصحابة، والفرق واضح، فالصحابة مشهود بعدالتهم وثقتهم وقد
رضي الله عنهم ورضوا عنه، وليس حال التابعين كذلك، قال الحافظ ابن حجر:
«ثم إن من بعد الصحابة تلقوا ذلك منهم وبذلوا أنفسهم في حفظه وتبليغه، وكذلك
من بعدهم إلا أنه دخل فيمن بعد الصحابة في كل عصر قوم ممن ليست لهم أهلية
ذلك وتبليغه، فأخطأوا فمما تحملوا ونقلوا، ومنهم من تعمد ذلك فدخلت الآفة فيه من
هذا الوجه، فأقام الله طائفة كثيرة من هذه الأمة للذب عن سنة نبيه -صلى الله عليه
وسلم- فتكلموا في الرواة على قصد النصيحة» [2] .
لكن الشيخ أحمد شاكر إذا مر بتابعي وكان مجهولاً، فكثيراً ما يكرر العبارة
الآتية: «وهو تابعي، فأمره على الستر والعدل حتى يتبين فيه جرح» .
__________
(1) مقدمة كتاب الثقات.
(2) لسان الميزان: 1/3.(39/48)
شعر
دمعة حزن في مقلة عروس
عبد الرحمن صالح العشماوي
تروح بنا مصائبُنا وتغدو ... فما يُرعى لنا في الناس عَهْدُ
ونحبو في طريق العلم حَنْواً ... وعَالمُنَا على قدميه يعدو
ويخطب (باقلٌ) في كل نادٍ ... فيا (سحبانُ) قولُك لا يُعَدُّ
ويحرق ثوبه عمرو بن هندٍ ... ولو علمتْ لما احتضنته هندُ
ولو أبصرت يا كعب (سعاداً) ... لما ناديتها وكفتك (دَعْدُ)
ويا (حسّانُ) بعدك ألف صوتٍ ... من الشعراء، بالنعرات تشدو
كأنّا قد نسينا ألف عامٍ ... ونصفَ الألف، وانتفضتْ (مَعَدُّ)
وهبّتْ ريح (ذبيان) و (عبسٍ) ... فثار لها غطارفةٌ وأُسْدُ
كأنَّ عقولنا ممّا اعتراها ... مساحاتٌ من الصحراء جُرْدُ
تقول الحربُ: ها أنذا بسيفي ... أمدُّ يدي فقوموا واستعدّوا
وبعض رجال قومي في يديهمْ ... حبالٌ لا تُلَفُّ ولا تُشَدُّ
وأنذرت الخطوب، فليت تشعري ... متى يلوي ذراع الغيِّ رُشْدُ
غضبتُ لأمتي ممّن يغنّي ... لها وفؤاده دَنَسٌ وحِقْدُ
يبادلها حديث الحبَّ جهراً ... وفي أعماقه خصمٌ ألدُّ
سلوني عن دكاترةٍ كبارٍ ... لهم في فكرنا أَخْذٌ وردُّ
تُعيرهمُ الصَّحافةُ مقلتيها ... فهم في عُرفها الركنُ الأَشدُّ
لهم عَبْرَ الإذاعةِ ألفُ صوتٍ ... وفي التِّلفاز أذرعةٌ تُمَدُّ
دكاترةٌ لهم فكرٌ غريبٌ ... وأحلامٌ عراضٌ لا تُحدُ
على وطنيَّةِ التفكير قاموا ... وتحت غطائها قبضوا ومدُّوا
وباسم ثقافة العصر استباحوا ... حمى الفكر الأصيل وعنه نَدُّوا
أقول لهم: ثقافتكم هباءٌ ... وليس لغيمكم برقٌ ورَعْدُ
أقول لهم: كتابُ اللهِ فيكم ... إلى يَنبوعه الصَّافي المَرَدُّ
تعبتم في ملاحقة الدّعاوى ... وجرحُ فؤادِ أمتكم يجِدُّ
لنا وطنيَّةٌ ليست نَشازاً ... فما تجفو الكتابَ ولا تَنِدُّ
لنا البيت الحرام، لنا حراءٌ ... نعم، ولنا تهامتُنا ونَجدُ
لنا أرض الجزيرة قام فيها ... من الإسلام دون البَغي سدُّ
لنا الأقصى، لنا شام ومصرٌ ... لنا يَمَنٌ وبغدادٌ وسِنْدُ
لنا في المغرب العربي أهلٌ ... وأحبابٌ، وفي كابولَ جُنْدُ
لنا الإسلام يجمع شمل قومي ... وإنْ ورمتْ أنوف من استبدُّوا
ولا وطنية لدعاة فكرٍ ... دخيلٍ، من سوانا يُسْتَمَدُّ
إذا صارتْ روابطُنا تُراباً ... عليه حبال أمتنا تُشَدُّ
فلا تعجبْ إذا اضطربتْ خطانا ... وساومنا على الأمجادِ وَغْدُ
ولا تعجبْ إذا صارت رُؤانا ... تَغيم، وقصر فرحتنا يُهدُّ
ألا يا سائلي عما أعاني ... معاناتي لها في القلب حَشْدُ
تعالَ لكي ترى غاراتِ قومي ... على قومي وتبصرَ ما أعدُّوا
ولا تسألْ، فليس لنا جوابٌ ... وليس لأمتي في الأمر قَصْدُ
مضى زمن عليها وهي تحبو ... ولم يُقدحْ لها في المجد زَنْدُ
عروس لا تُزَفُّ إلى عريسٍ ... وليس لجيدها القمريِّ عِقْدُ
ولا مُنحتْ أساورَ من نضارٍ ... ولم يُغْرسْ لها في الدرب وَرْدُ
عروسٌ جُلِّلتْ بثياب حزنٍ ... وطاف بها على الشَّارين عَبْدُ
مراكبُها تُسيِّر في بحارٍ ... ولا هدفٌ على الشطآن يبدو
نقول لأجلها حقاً، ولكن ... يواجهُنا من الأحباب صَدُّ
نُقَابَلُ بالتجاهل والتغاضي ... وينسى القوم أنَّ الأمرَ جدُّ
إذا لم يحكم الإسلامُ قومي ... فمهْدُك أيُّها المولودُ لحْدُ(39/55)
تربية
الشعور الديني عند المراهق
عثمان جمعة ضميرية
إن مرحلة المراهقة من أخطر المراحل التي تواجه كل من يقوم بالتربية،
وذلك لأنها مرحلة انتقال جسمي وعقلي وانفعالي واجتماعي، بين مرحلتين
متميزتين هما: مرحلة الطفولة الوادعة، الساذجة الهادئة، ومرحلة الشباب التي
تُسْلمِ المراهق إلى الرشد والنضوج والتكامل والرجولة الكاملة. وهي مرحلة طبيعية
في النمو، يمر بها المراهق كما يمر بغيرها من مراحل العمر المختلفة، لا يتعرض
لأزمة من أزمات النمو، مادام هذا النمو يجري في مجراه الطبيعي، فهي ليست -
بحد ذاتها - أزمة، وإنما هي مرحلة انتقال وتغيير كلي شامل، وإن حصلت الأزمة
فإنها إنما تنشأ بسبب عوامل مؤثرة غيرها، أو بسبب معالجة مشكلات المراهق.
والمراهقة هي: الفترة من بلوغ الحلم إلى سن الرشد [1] والمراهق هو الغلام
الذي قارب الحلم.
ولن نعنى في هذا المقال بدراسة التغيرات النفسية والعقلية والجسمية التي
تطرأ على المراهق، وإنما نُلْمَعْ إلى الشعور الديني عند المراهق وتطوره لبيان
اتجاهات المراهقين الدينية والأخلاقية.
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان على فطرة التوحيد والإيمان، وقد أخذ العهد
على بي آدم مذ كانوا ذرية في ظهور آبائهم وأشهدهم على أنفسهم: [ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا] [الأعراف: 172]
وفي الحديث القدسي «.. إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم وإنهم أتتهم الشياطين
فاجتالتهم عن دينهم» .
فالإنسان مؤمن بفطرته، يتجه إلى الله عز وجل وحده بالعبادة والخضوع،
ولكن هذه الفطرة قد يغشاها ما يغشاها، أو قد تنحرف وتمرض، بتأثير بعض
العوامل كالوالدين أو البيئة الكافر أهلها، ففي الصحيحين عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو ينصِّرانه
أو يمجِّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟» ثم يقول
أبو هريرة -رضي الله عنه-: واقرؤوا إن شئتم [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] .
وإذا كان الطفل منذ نعومة أظفاره يدرك عدداً من المعاني الدينية بتأثير هذه
الفطرة التي أودعه الله إياها، فإن هذا الإدراك هو شعور غير محدد، فهو يبدي
عدداً من الانفعالات ويطرح جملة من الأسئلة عن الله خالق الكون، خالق الشمس
والقمر.. منزل المطر من السماء، عن الرعد والبرق، وعن الجنة والنار.. فإن
المعاني الدينية تتضح أكثر عند المراهق، بسبب نضجه العقلي. الذي وصل إليه،
فلا تكاد مرحلة المراهقة تبلغ أوجها حوالي السادسة عشرة تقريباً حتى تكون
مستويات المراهق الإدراكية قد تفتحت وتسامت، وذكاؤه قد بلغ أوجه، كما تتحدد
في هذه المرحلة اهتمامات المراهق، ويتحرر من الشطحات والخيال ويميل إلى
القراءة والاطلاع، ويصبح قادراً على التجريد وإدراك المعنويات، وتجاربه في
البيت والمدرسة والمجتمع قد تنوعت.
كل تلك العوامل العقلية والاجتماعية، إضافة إلى النضج الجنسي، تتضافر
في إيجاد وعي ديني عند المراهق، يختلف عن الاهتمام الديني عند الأطفال.
فعندئذ يبدأ بتكوين فكرة عن الحياة والمصير والغاية، ويفكر في الخالق سبحانه وفي
صفاته، وهذا يكوِّن لديه يقظة دينية تثير نشاطاً عملياً، كالعبادة التي تترجم عن
إيمانه، وكالجهاد في سبيل الله، وتحمل المطالب والمسؤوليات تجاه دينه،
والاستهانة بالعقبات التي تقف أمامه.
والمراهق -كغيره - يجد في الدين أملاً مشرقاً بعد يأس مظلم، ويجد فيه أمناً
من خوف، وفكراً يسدّ فراغه النفسي وقلقه الانفعالي. وهذا كله يدفع بالمراهق إلى
المبالغة في العبادة والتعمق فيها أحياناً.
وهذا الوعي الديني عند المراهق، يجب توجيهه وجهة سليمة صحيحة، تتفق
ومقدرته العقلية وتكوينه النفسي والانفعالي، ليكون فهمه للدين - منذ البداية - فهماً
صحيحاً، بعيداً عن الأوهام والخرافات والتعصب. فلا يجوز أن يفهم بعض آيات
الكتاب الكريم على نحو غير صحيح استناداً إلى أنه لا يستطيع الآن أن يدرك
معانيها الحقيقية كما ندركها نحن مثلاً، أو بحجة استغلال عاطفته الدينية خوفاً من
موجات الشك والإلحاد، أو انتصاراً للدين على العلم -كما يفعله بعضهم -أو بأي
حجة أخرى.
فإن تلقين المعاني والأفكار الدينية للمراهق بشكل منحرف أو خرافي يؤدي
إلى ناحية سلبية، فينكر الدين إلحاداً وازدراءً، أو ينكر العلم جهلاً وتعصباً!
ومن هنا، كان من الواجب توجيه المراهق توجيهاً سليماً واضحاً، ووجب
الابتعاد عن السطحية والضحالة في تقديم الأفكار الدينية له وتعليمه إياها؛ إذ يجب
في هذه المرحلة أن نوسِّع ثقافته - وهو في دراسته في هذه المرحلة في مستوى
الدراسة المتوسطة والثانوية - من الناحية الدينية حتى ننهض بمستواه الروحي،
ونرى أثر هذه الثقافة في أخلاقه وسلوكه.
كما يجب على كل من يُعنى بتربية المراهق أن يفتح له قلبه بفتح باب
المناقشة الهادئة الواعية الدقيقة، وأن يعوِّده على ذلك، وأن لا يضيق أو يتبرم
بمناقشته وأسئلته، لأنه يميل في هذه المرحلة إلى مناقشة كل فكرة تُعرض عليه فهو
لم يعد طفلاً يأخذ كل شيء بالتسليم المطلق، وإن كان هذا لا ينفي أن نزرع في
نفسه أيضاً التسليم المطلق لله تعالى والانقياد لأوامره وأحكامه، وأنه سبحانه وتعالى
إنما شرع شرعته لمصلحة لنا، قد يدركها العقل، وقد يعجز عن دركها ومعرفتها
أحياناً ولكنه - بكل تأكيد - ما من حكم شرعي إلا وهو ينطوي على مصلحة للبشر. وهذا ما أشار إليه وفصَّله الإمام المحقق الشاطبي في كتابه العظيم «الموافقات»
والعز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام» .
وهذا هو الطريق السوي السليم - فيما أحسب - في توجيه المراهق دينياً،
بحيث نبعث في نفسه السكينة والاطمئنان، والثقة بالنفس، مع القناعة العقلية
والوجدانية، والمباعدة بينه وبين الغرور، وبهذا نحفظه من رياح الإلحاد
والاستهتار والانحلال.
وفي دراسة إحصائية لخبرات المراهقين، أجراها الدكتور عبد المنعم المليجي
في مصر، اقترح تصنيفاً للمراهقين حسب الاتجاه الديني الذي يغلب عليهم، إلى
فئات أربع:
1- فئة يلتزمون قواعد الدين حرفياً دون مناقشة، وهذه فئة المؤمنين إيماناً
تقليدياً - حسب تعبيره -.
2- فئة تأخذ الدين بجدية أكثر، فتندفع إلى تبرير الدين والتحمس له. وهذه
فئة المتحمسين للدين.
3- فئة تأخذ الدين جدياً، لكن تميل إلى اتجاه نقدي أكثر وهي فئة المتشككين.
4- فئة تنكر الدين إنكاراً صريحاً.
وفيما يلي جدول يلخص توزيع الاتجاهات الدينية، مستخلصاً من أجوبة
المراهقين على الاستفتاء الذي صممه الدكتور المليجي وأجراه في مصر، ونظرة
سريعة إلى هذا الجدول تبين لنا تناقص عدد الأفراد كلما بعدت فئاتهم عن الاتجاه
التقليدي في التدين -كما أسماه - ويتبين من النسب المئوية وجود ارتباط موجب
بين اتجاه البنين واتجاه البنات الدينية:
------------------------------------------------------------------------------
الاتجاهات الدينية [*] بنين ... ... بنات
عدد النسبة المئوية عدد النسبة المئوية
------------------------------------------------------------------------------
إيمان تقليدي 50 50% 42 61.5%
حماس ... 25 25% 18 25.8%
شك 24 24% 9 12.8%
إلحاد 1 1% - -
المجموع 100 100 70 100
----------------------------------------------------
ويتبين من الجدول أن المراهقات أقلُّ من البنين نزوعاً إلى التحرر من الدين
وأكثر منهم سلبية، ولا نجد بين البنات إلحاداً قط، في حين نجد نسبة ضئيلة لدى
البنين، كما نجد أن نسبة الإيمان التقليدي بين البنات تفوقها لدى البنين بمقدار 5,10 % (المليجي ص 214) .
وحبذا لو أجريت استفتاءات أخرى في بعض البلدان الإسلامية، لمعرفة مدى
الرصيد الإيماني لشبابنا المراهقين الذين تحاصرهم كثير من التغيرات، وتغزوهم
وسائل الإعلام التي يزيد الهدم فيها ويفوق البناء، وبذلك نرصد اهتمامات شبابنا
وتوجهاتهم، ويمكن معالجة ما قد يقع من انحراف، وتصويب ما يمكن تصويبه من
أخطاء.
وكذلك يقف المراهق - والمراهقة أيضاً - موقفاً إيجابياً من الأخلاق، بعكس
ما كان عليه عندما كان طفلاً، فهو لا يتقبل أي موقف أخلاقي دون مناقشة أو تقليب
النظر.
إن المراهق والمراهقة يناقشان في صراحة - أحياناً - كل ما يصدر عن
الوالدين من أعمال ويحاولان أن يُصدرا أحكاماً على هذه الأعمال، فكل منهما يقبل
عندئذ ما يروقه وما يتمشى مع منطقه، ويرفض ما يتعارض مع مُثُلِه العليا،
ويجادل والديه في هذا كله.
وهناك ظاهرة أخرى في سلوك المراهق الخلُقي ج إذ باستطاعته، الآن
التفكير في صيغ عامة، وأن يكوِّن لنفسه «مُثُلاً عليا» هي تجمع لخبراته السابقة
في الطفولة.
ومن الأمثلة القريبة على هذه المثل العليا والأخلاق السامية عند المراهق:
أولئك الفتيان الذين ينشطون دائماً في جمع التبرعات للمنكوبين أو المشرّدين، دون
أن ينتظروا من وراء ذلك كسباً مادياً أو نفعاً دنيوياً عاجلاً.
مثال آخر يدل على شهامة المراهقين ومثاليتهم العالية: أولئك الطلاب الذين
اشتركوا في حرب فلسطين عام 1948م أو في معركة القنال بمصر بعد إلغاء
المعاهدة المصرية الإنكليزية عام 1926م، وكان الكثير من هؤلاء في سن المراهقة، ذهبوا وضحَّوا بأنفسهم في سبيل مبدأ جليل دون رهبة أو وجل، يدفعهم إلى ذلك
إيمان بالله قويٌّ، وأخلاق عالية سامية.
وإذا ارتقينا في تاريخنا الإسلامي إلى عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-
وجدنا أمثلة كثيرة تعزُّ على الحصر، تؤكد ذلك، فأولئك الشباب من الشهداء في
عهد النبوة، وأولئك الذين جاهدوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مثال رائع لذلك، وكان فيهم من لا يتجاوز الخامسة عشرة من العمر، ومنهم من ردّه الرسول -
عليه الصلاة والسلام- ولم يُجِزه في الاشتراك في الجهاد، لصغر سنِّه!
وحسبنا هنا أن نشير إلى مَثَلٍ واحد رواه الإمام مسلم في صحيحه عن
عبد الرحمن بن عوف وهو يحكي قصة معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن
عفراء - غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما - في سؤالهما عن عدو الله أبي جهل، إذ كل واحد منهما قد عاهد الله «لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا» .
إنها مثل رائع للبطولة الشامخة والإيمان القوي.
وبعد؛ فقد يجد المراهق أن مثاليته هذه بعيدة عن الواقع وصعبة التنفيذ،
عندما تتسع الدائرة التي يتعامل معها، وتد يساوره شيء من الشك في قيمة تلك
المُثُل العليا، أو قد يعتبرها رياءً، لا معنى لها، فينتهي إلى الانطواء على النفس
واحتقار الذات، أو الاندفاع في غمار الحياة لتحقيق رغباته وإشباع دوافعه الفطرية، دون احترام للمبادئ الأخلاقية، ما لم يكن هناك وازع من الدين والتربية القويمة
التي تربط هذه القيم الأخلاقية بعقيدة المراهق وإيمانه بالله تعالى، ووجوب الالتزام
بشرعه، وبضبط النفس بين دوافعه وضوابطه، وطموحاته وواقعه، وهي
مسؤولية عظمى تقع على عاتق كل من جعله الله تعالى داعياً لأولئك الأفراد،
تحتاج إلى عون من الله تعالى، وإلى كثير من الجهد والصبر والمصابرة [والَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] .
__________
(1) المعجم الوسيط: 1/378.
(*) (البيان) : هذه الإحصائية متفقة مع العينة التي أجري عليها البحث، والأمر يختلف من مجتمع لآخر، فلا نستطيع التعميم بنتائج هذه العينة بإعطاء حكم عام على حال المراهقين عموماً.(39/58)
المسلمون في العالم
النظام العالمي الجديد: الوجه الآخر للاستعمار
(2)
د. أحمد عجاج
أزمة الخليج وظهور النظام القطبي الواحد:
إن اجتياح الجيش العراقي لدولة الكويت قد سرَّع عملية التحول الدولية، حيث سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استغلالها خير استغلال. فإزاء رفض العراق لكل النداءات بالانسحاب عمدت أمريكا إلى تدعيم وجودها في المنطقة تحت شعار أمن دولي الخليج وتثبيت منطق الشرعية الدولية. فالولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لضعف الاتحاد السوفياتي سارعت إلى استغلال منظمة الأمم المتحدة لتثبيت دورها الجديد في المنطقة.
وفعلاً سارع الاتحاد السوفياتي عبر وزير خارجيته إلى إدانة العراق الحليف
الدائم، إلى أن وصل أخيراً إلى حد التهديد بالتدخل عسكرياً إذا لم يسارع العراق
إلى الإفراج فوراً عن المدنيين السوفيات المحتجزين في بغداد. فالاتحاد السوفياتي
لأول مرة يطبق عملياً نظريته الحديثة حيث أكد شيفردنادزه أن دعم العراق من شأنه
أن يضر بالانفتاح الدولي، ويجلب عبئاً مادياً على الاقتصاد السوفياتي، ناهيك عن
الأضرار المادية التي يمكن أن تنتج عن هذه السياسة.
وبهذا يتضح أن الاتحاد السوفياتي لم يعد قادراً على تبوء منصب الدولة
الكبرى ومناوأة الولايات المتحدة الأمريكية. فهذا الضعف قد بدا واضحاً جداً خلال
الأيام القليلة التي سبقت الهجوم البري الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية
وحلفاؤها على العراق فالاتحاد السوفياتي مدفوعاً برغبته في الحد من الخسائر
السياسية لسياسته الخارجية سارع إلى إعلان خطة سلام بموجبها يلتزم العراق
بالانسحاب من الكويت على أن يتولى الإشراف على الانسحاب دول محايدة. إلا أن
هذه الخطة قد رفضها الرئيس الأمريكي مباشرة ولم يرضه أيضاً الاقتراح الثاني
الذي قدمه غورباتشوف لحل الأزمة سلمياً. فالولايات المتحدة الأمريكية رأت في
الاقتراحين تقليصاً لدورها في المنطقة وفي العالم. هذا الدرر الذي توج عملياً
بالانهزام الروسي من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط.
فالاتحاد السوفياتي خسر سوريا التي تربطه بها علاقات دفاعية واستراتيجية
وذلك بانضمامها إلى حلف الولايات المتحدة الأمريكية، والآن يشرف بنفسه على
تدمير العراق الدولة الحليفة في المنطقة وهكذا فإن الاتحاد السوفياتي لم يعد له
موطىء قدم في المنطقة بل أقصى طموحاته تجلت في تصريحات المسؤولين
السوفيات الذين حرصوا على القول عقب تحرير الكويت بأن سياستهم كانت حكيمة
وصائبة مع التركيز على ضرورة عقد مؤتمر سلام دولي يشارك فيه الاتحاد
السوفياتي لحل مشاكل المنطقة والصراع العري الإسرائيلي.
وبانتهاء حرب الخليج وما رافقها من تطورات يتضح جلياً بأن النظام القطبي
الثنائي قد اختفى من خارطة السياسة الدولية، واستبدل بنظام قطبي واحد تسيطر
فيه الولايات المتحدة الأمريكية على مجريات السياسة والاقتصاد في المنطقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أخيراً القوة الوحيدة القادرة على التهديد
والضرب ووضع المقاييس التي تراها مناسبة لأوضاع المنطقة والعالم.
انعكاسات ونتائج النظام القطبي الواحد:
إن انعدام التوازن في النظام الدولى الراهن سيؤثر حقاً تأثيراً بالغاً على العالم
ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت الطرف
الأوحد، وبإمكانها أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه خلال عقود من الزمن تميزت
بصراع دائم مع الاتحاد السوفياتي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بالذات.
فالاتحاد السوفياتي أصبح ملتزما بحتمية التعاون مع الولايات المتحدة
الأمريكية كنتيجة منطقية وليس بوسعه بعد الآن الابتعاد عن اشعاعات الولايات
المتحدة بعد أن خسر أوراقه في المنطقة الواحدة تلو الأخرى. فأوروبا الشرقية
تسعى جاهدة لتستظل بالمظلة الأمريكية وقس على ذلك جميع دول الشرق الأوسط
بدءاً بمصر وانتهاءً بسوريا بعد أن دمر العراق الذي يعيش الآن حروباً داخلية من
الممكن أن تؤثر على مجرياتها ونتائجها الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا فإن
الاتحاد السوفياتي قد تحول إلى دولة محدودة الأهمية، إذ أنه الآن ينتظر بلهفة
المساعدات الاقتصادية الأمريكية من أجل إنعاش اقتصاده ولم شتات شعوبه التي من
الممكن سريعاً أن تكسر جليد الخوف لتنطلق نحو الحرية والاستقلال مهددة بذلك
كيان الاتحاد السوفياتي كدولة كبرى مترامية الأطراف، ومؤشرات تلك النهاية بدأت
تظهر ملامحها والتي بدأت تتبلور عبر تصريحات المسؤولين الأمريكيين والتي
تدعو الاتحاد السوفياتي إلى منح جمهوريات البلطيق حقها في الانفصال والاستقلال.
إن من نتائج هذا الاختلال هو التأثير الأمريكي المباشر على دول الشرق
الأوسط وبالذات دول الخليج بالإضافة إلى أوروبا واليابان. فوجود القوات
الأمريكية في المنطقة مصحوباً بسيطرتهم على مفاتيح السياسة الدولية النابعة من
اختفاء الاتحاد السوفياتي كقوة مواجهة يجعلهم يتربعون براحة تامة على أغنى بقعة
اقتصادية على وجه الأرض تلك الحقيقة تعطي الولايات المتحدة دوراً لم تكن لتحلم
به أبداً فهي الآن تتحكم في مصادر الطاقة والتي بمقدورها أن تضخ الحياة في الجسد
الاقتصادي الأمريكي الهالك. فأهمية الطاقة في السياسة الأمريكية تحتل مرتبة أولى، ولا عجب أن يقول الرئيس الأمريكي بوش عشية تتويجه لصحيفة نيويورك تايمز
الأمريكية بالحرف الواحد «أنا أصوغها بهذه الطريقة لقد حظي الأمريكيون برئيس
قدم من مؤسسات النفط والغاز وهو يعرف ذلك تماماً بل يعرفه جيداً» [1] . وفعلاً
سارع الرئيس الأمريكي إلى حشد أكبر جيش عرفه التاريخ من أجل منع سيطرة
العراق على منطقة النفط التي يعرف الرئيس الأمريكي أهميتها جيداً.
فمسؤول الطاقة الأمريكي السابق كتب في مجلة الشؤون الخارجية
«Foreign affairs» ما يلي: «بضربة واحدة أخذ الرئيس العراقي دولة
الكويت وبهذا فقد قلب قواعد النفط الدولية» وتابع قوله ليستخلص «أن أزمة
الخليج أعادت إلى الصدارة الحاجة إلى إعادة التفكير في أفضل الوسائل من أجل
إعادة تنظيم الشؤون النفطية» . بالإضافة إلى هذا العامل فقد استطاعت الولايات
المتحدة أن تمهد لشركاتها التجارية المناخ المناسب لتأخذ حصة الأسد من العقود
التجارية الموقعة مع بلدان المنطقة بعد أن دمرتها الآلة الحربية الأمريكية تحت
شعار تحرير الكويت. ولم يقتصر الأمر على العقود التجارية بل تعداها إلى العقود
العسكرية والتي قدرت حسب آخر الإحصاءات بمبلغ 30 بليون دولار أمريكي.
إن من شأن هذه العقود أن تبعد شبح البطالة عن المصانع العسكرية لمدة
طويلة وتدفع عجلة الاقتصاد الأمريكي المتردي.
ومن النتائج الأخرى الناتجة عن التغيير في النظام الدولي أن النفوذ الأمريكي
امتد ليشمل أوربا واليابان اللتين عجزتا عن أن تلعبا دور الشريك في مسرح
السياسة الدولية. فأمريكا تدرك خطورة اليابان وألمانيا الاقتصادية خصوصاً بعد
توحيد الأخيرة لذلك عمدت إلى تهديدهما عبر السيطرة على مصادر الطاقة التي هي
عصب الحياة لكل من البلدين، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبح بمقدورها أن
تفرض عليهما من الآن ثمن أتعابها في المنطقة وليس بمقدورهما أن يرفضا.
فالمتتبع للأخبار يدرك حجم المبالغ التي دفعتها كل من ألمانيا واليابان للولايات
المتحدة الأمريكية في حملتها العسكرية لتحرير الكويت. والصورة واضحة ليس
فيها لبس ولا غموض فوزير الدفاع الأمريكي أعلن أمام لجان مجلس الشيوخ
الأمريكي «إننا نتوقع أن نقتسم المسؤوليات الدولية بصورة أكثر إنصافاً مع حلفائنا
وشركائنا الذين يزدادون قوة وهو ما يتفق مع زعامتنا» وأضاف قائلاً: «إن
عملية عاصفة الصحراء تعد نموذجاً طيباً للتعامل مع الأزمات التي قد تنشب
مستقبلاً» .
تلك المعطيات المتمثلة في انحسار الدور السوفياتي وضعف الموقف الأوروبي
والياباني وخضوعهما للسياسة الأمريكية، من شأنها أن تجعل الدور الأمريكي في
منطقة الشرق الأوسط دوراً فريداً من نوعه. فالولايات المتحدة الأمريكية إضافة
إلى سيطرتها الاقتصادية والعسكرية على المنطقة تستطيع أن ترسم سياسة المنطقة
وتحديد سبل حل الصراع العربي - الإسرائيلي بشكل لا يتفق مع المصالح العربية
والإسلامية. فرغم كل التفاؤل الذي أبدته الأوساط الأمريكية ببزوغ عصر جديد في
العلاقات الدولية يتمثل في إحلال العدل والحربة والسلام لكل شعوب المنطقة؛ لا
يوجد مؤشر إيجابي يؤكد صدق هذه الادعاءات. فإسرائيل التي تحدث ما يسمى
بالشرعية الدولية وضربت بعرض الحائط كل قرارات الأمم المتحدة وانتهكت حقوق
الإنسان في كل من فلسطين ولبنان لا تزال تتلقى المساعدات والدعم المالي من
حامية هذه الشرعية. فالشعب الفلسطيني ليس له أولوية في حساب الإدارة
الأمريكية على الإطلاق. ففي تصريح لأحد المسؤولين الأمريكيين السابقين أفاد أن
المؤتمر الدولي لحل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتم انعقاده إلا في حال تحقق
شرطين أو حالتين تتلخصان في زوال عقدة الخوف عند الإسرائيليين، وتقليص
الآمال العربية الكبرى. فإذا صح هذا التنبؤ فإن هذا يعني أن إسرائيل لكي تكون
آمنة وتزول عنها عقدة الخوف يجب أن تحتل أراضي غيرها، وعلى هؤلاء أن
يعلقوا آمالاً كبرى على استرجاعها.
والحقيقة أن هذا ليس جديداً على منطقة الشرق الأوسط فإسرائيل تحتل
المرتبة الكبرى في السياسة الأمريكية، بل هي المفتاح الرئيسي إلى المنطقة
والسيف المسلط على شعوبها، وليس بوسع الإدارة الأمريكية أن تكسر أو ترمي
جانباً هذا المفتاح. إن أقصى ما تبغيه الإدارة الأمريكية بعد أن سيطرت على
المنطقة هو تأمين اعتراف عربي وإسلامي بدولة إسرائيل وزرع فرضية جديدة في
عقول الأجيال العربية والمسلمة مفادها أن إسرائيل دولة وجدت لتبقى. وهذه
الحقيقة ليست أبداً مجرد تخمين بل هي بديهية ثابتة في سلم أولويات الإدارة
الأمريكية بعد أن تخلصت من الاتحاد السوفياتي وأخضعت أوروبا واليابان،
وسيطرت عسكرياً على المنطقة. فالنظام العالمي الجديد الذي ينادي به رئيس
الولايات المتحدة الأمريكية هو نظام صنعته أمريكا، وأرسته كما تشاء، وأجبرت
الشعوب على قبوله لأنه يخدم مصالحها، وهي تمضي قدماً في تطبيقه باسم العدالة
بلا خجل أو حياء.
__________
(1) The independent (British Newspaper) 3 February 1991.(39/66)
سقوط خوست
هل سيدفع للحل العسكري أم الحل السياسي؟
أحمد موفق زيدان
بعد الجمود العسكري الطويل الذي أصاب الجهاد الأفغاني تمكن المجاهدون
الأفغان مؤخراً من تحرير حامية خوست العسكرية والواقعة على بعد 70 كلم عن
الحدود الباكستانية وجاء هذا التحرير بعد اتفان من كافة مجموعات المجاهدين في
المنطقة تحت قيادة الشيخ جلال الدين حقاني والتابع للشيخ يونس خالص، وكوّنت
فصائل المجاهدين في المدينة مجلس الشورى من 21 عضوا واتفقوا على شن
عمليات عسكرية منسقة وموحدة على المدينة.
أهمية خوست العسكرية: وفقا لما قاله الشيخ حقاني لـ (البيان) من مقر
إقامته في خوست فإن سقوط خوست كان ضربة معنوية للنظام في كابل، إضافة
إلى أنها قطعت طرق الإمداد عن منطقة باكتيا التي تنتمي خوست لها من الحدود
الباكستانية فقد كانت القبائل الشيعية الباكستانية في منطقة (خرم) و (وزيراستان)
الباكستانية تقوم بدعم وتزويد وتموين المحاصرين في خوست، ويضيف الشيخ
حقاني فيقول: (لقد قبضنا على 400 عنصر شيعي في داخل مدينة خوست وهم
باكستانيون ويقاتلون إلى جانب الحكومة العميلة) . وبخصوص ما حدث في مديرية
(جاجي ميدان) يقول الشيخ حقاني: (لقد استسلمت المدينة للمجاهدين أما المتشددون
والمتطرفون من الشيوعيين الأفغان فقد استسلموا لقبائل الشيعة الباكستانية) .
وكان شيعة باكستان قد لعبوا دوراً مهما لصالح (نجيب الله) في هذا الجهاد
خاصة القبائل الشيعية المحاذية للحدود الأفغانية، وقد تكشف أثناء معارك خوست
مؤامرة شيعية باكستانية لاغتيال الزعيم (حقاني) لكن الأمر انكشف قبل حدوثه.
ويأتي هذا التقارب الشيعي مع (نجيب الله) بعد التغير الصريح والواضح
للقيادة الإيرانية حيال دعم ومساندة نجيب ضد المجاهدين، حيث تم استقباله في
مشهد، وتقديم الدعم الإغاثي والمادي لنظام نجيب، وكان آخر ذلك ما قاله السفير
الإيراني في إسلام اباد (جاويد منصوري) بأن التدخل الخارجي سيعقد المشكلة
الأفغانية مثيرا بذلك للاتهامات التي وجهها نظام كابل ضد باكستان في تدخلها
بمعارك خوست الأخيرة، وقد أرسل نجيب رسائل إلى الرئيس الإيراني للتدخل
لدى باكستان في تورطها المزعوم بشأن خوست.
أما حكمتيار فقد قال لـ (البيان) (إن انتصار خوست قد أفشل الدعايات
الشيعية ضد المجاهدين بأنهم عاجزون عن النصر) ، وقد أصيب النظام بإحباط وفقد
توازنه بعد السقوط خاصة وأن نجيب خطب قبل الفتح وقال: (إذا استطاع حكمتيار
من تحرير خوست فأنا مستعد للتخلي عن كابل) .
اهتزاز أسطورة ميليشيا " جلم جمع ":
أفرزت معارك خوست أمراً كان في غاية الأهمية لدى المجاهدين من رفع
معنوياتهم عندما استسلم حوالي 700 عنصر ميليشيا يتبعون للجنرال (عبد الرشيد
دوسة) ويلقب لدى الأفغان بـ (جلم جمع) أي الذي يجمع السجاد ويسرقه من أي
مكان حتى ولو من المساجد وقد نسجت حول هذه الميليشيا الأساطير، حتى أن
نجيب يعتبرها فوق الجيش والاستخبارات ورواتبهم عالية جداً، وتقول الأنباء بأن
عددهم في خوست كان أكثر من 300 عنصر ولم يعلم أين هربوا، وتنتمي هذه
الميلشيات للعرق الفارسي والطاجيكي وترسل إلى مناطق البشتون لقتال غير أهل
عرقهم حتى لا يكون في قلبهم رحمة أو رأفة وزيادة في الصراع والخلاف العرقي
الطاجكي والبشتوني وهي نفس خطة فرنسا عندما كانت تأخذ المغاربة وغيرهم
للقتال إلى جانبها في بلاد الشام، وبهذا يتعمق الخلاف بين الشعوب ويقول
المجاهدون الذين شاركوا في الهجوم على خوست بأن الميليشيات لعبت دوراً
محورياُ في تأخير النصر عن المجاهدين حيث استماتت في الدفاع عن المدينة،
والعجيب أن عناصر هذه الميليشيات تتراوح أعمارهم بين 15- 30سنة فقط وكثير
منهم صغار في السن تركوا دراستهم للقتال والدمار.
غنائم المجاهدين:
غنم المجاهدون غنائم ضخمة جداً في هذه المعارك خاصة وأن الحامية
استسلمت بعد حصار وقتال طويلين فقد غنموا طائرتي هيليكوبتر سليمتين
وطائرتين مقاتلتين وحوالي عشرين دبابة و150 عربة عسكرية و600 قطعة
كلاشنكوف و600 مدفع مضاد للطيران و200 جهاز لاسلكي وكثيراً من المواد
الغذائية ومعدات السيارات.
أما الطائرات فقد أحصيت بنفسي دمار 24 طائرة عسكرية نقل في مطار
خوست القديم وعدداً من الدبابات والشاحنات والعربات العسكرية.
الخطة القادمة:
تتباين وجهات نظر المجاهدين حيال المعركة القادمة فقد طالب المهندس
حكمتيار بالتركيز على كابل وعدم تشتيت الجهود ويتردد بأنه طلب من أتباعه في
لوجر القريبة من كابل أن يستعدوا لهجوم شامل وحاسم على المدينة، وعين
حكمتيار جيشاً منظماً في لوجر باسم (لايشكا ايثار) أي (جند الإيثار) ويتدربون على
مستوى جيد، ويقوم حكمتيار بنفسه بتدريبهم معنوياً عبر إلقاء المحاضرات
والدروس عليهم ويبلغ تعدادهم 6000 جندي، وتردد بعد تحرير خوست من
حصول انقلاب عسكري في العاصمة بقيادة الجنرال (محمد نبي عظيمي) مع 40
ضابطاً آخرين ولكن تمكن النظام من القبض عليهم، أما القائد جلال الدين حقاني
فيركز على تحرير (كارديز) عاصمة (باكتيا) حتى يصبح ظهر المجاهدين محمياً
عند التوجه نحو كابل ولكن يقول الشيخ حقاني بأنه لابد من التشاور وتبادل وجهات
النظر.
الشيخ يونس خالص الذي قضى أيامه الأخيرة في (جلال أباد) يقول المقربون
منه بأنه يعد لهجوم على المدينة حيث يتمتع بقوة في جلال أباد.
وعلى الجانب الآخر يعتبر البعض أن انتصار خوست سيكون دافعاً للحل
السياسي، فلدى سؤال الشيخ حقاني هل سيكون انتصار خوست دافعاً للحل السياسي
أم العسكري أجاب: (كليهما) ، أما الشيخ حكمتيار فلم يجب على السؤال بصراحة.
(بير جيلاني) من المؤيدين لظاهر شاه طالب بالحل السياسي بعد انتصار
خوست.
ويرى البعض أن الأوراق الأفغانية قد اختلطت خاصة بعد اختلاف برز
مؤخراً بين القادة السياسيين السبعة والقادة الميدانيين الذين شكلوا مجلساً باسم
(مجلس شورى القادة الميدانيين) ويضم أغلب القيادات الميدانية في داخل أفغانستان
ويعدون لإدخال العلماء ورؤساء القبائل في هذا المجلس الذي يتوقع أن يكون بديلاً
عن القيادة السباعية أو قيادة موازية له، ويتولى هذه الفكرة حسب قول حكمتيار
الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لتقسيم أفغانستان، وبهذا تستطيع اللعب بأوراق
متعددة، ويبدو أن باكستان قد رضخت للفكرة أخيراً، أما في السابق فلم تكن
تتحمس لها، خاصة أثناء حكم الجنرال ضياء الحق، وتولي أخطر عبد الرحمن
الملف الأفغاني، ورئاسة الاستخبارات العسكرية الباكستانية المعنية بأفغانستان.(39/72)
انتخابات بنغلاديش وسقوط اللوبي الهندي
بانعقاد الانتخابات العامة في بنغلاديش أخيراً تكون الدولةالوليدة التي انفصلت عن باكستان عام 1971 بتواطؤ دولي هندي أمريكي سوفياتي، قد دخلت مرحلة جديدة من حياتها السياسية، حيث قضت الفترة الفائتة تحت حكم الأحذية
العسكرية حيث تعاقب عليها ثلاثة جنرالات أولهم (مجيب الرحمن) العميل الهندي
الذي تآمر مع الهند ضد باكستان وتربع على حكم بنغلاديش حتى عام 1975 عندما
قام بعض ضباط جيشه باغتياله، والثاني الجنرال (ضياء الرحمن) الذي تم تصفيته
على يد أحد المقربين له الجنرال (محمد إرشاد) رئيس هيئة أركان الجيش سابقاً وقد
اختاره وفضَّله على عدة جنرالات ليكون رئيساً لهيئة الأركان ولكن انقلب عليه عام
1981، وأواخر العام الماضي قامت مظاهرات شعبية تولاها طلبة الجامعات
والمدارس وغذتها المعارضة الحزبية بقيادة (خالدة ضياء) أرملة الجنرال (ضياء
الرحمن) وزعيمة الحزب القومي البنغلاديشي، والجماعة الإسلامية، و (حسينة
واجد) ابنة الجنرال (مجيب الرحمن) وزعيمة حزب الرابطة القومية اليساري
التوجه.
ولن ندخل في هذا المقام بمسألة الحكم الشرعي في تولية المرأة فذلك أمر
واضح لا تعقيب عليه إذ أنه في الإسلام لا تتولى المرأة منصب رئاسة الدولة،
ولكن الملفت للنظر في منطقة جنوب وشرق آسيا أن كثيراً من الرؤساء نساء ولعل
في هذا مادة للباحثين الاجتماعيين والتاريخيين وعلم السلالات عن أسباب ذلك ففي
بنغلاديش امرأتان تتزعمان المعارضة، ووصلت إحداهن الآن إلى السلطة، وفي
باكستان تمكنت بي نظير بوتو من الوصول للسلطة، وفي الهند وصلت (أنديرا
غاندي) وكذلك في (سري لانكا) سابقاً، وأيضا في الفلبين.
سقوط اللوبي الهندي:
إن أكثر ما يميز هذه الانتخابات هو سقوط اللوبي الهندي والتي تتزعمه
(حسينة واجد) ابنة الشخص السالف الذكر الذي تولى كبر انفصال بنغلاديش عن
باكستان بتواطئ هندي كما ذكرنا آنفاً، وقد أسفرت الانتخابات التي عقدت في 28/
2/1991 عن نجاح (خالدة ضياء) والتي يدعمها المسلمون لأنها أقرب للباكستان
وعقيدة البلاد من (حسينة واجد) الموالية للهند وحصلت خالدة على 140 مقعد من
أصل 300 مقعد، بينما حصل حزب (حسينة) على 83 مقعد، وفاز حزب الرئيس
المخلوع (إرشاد) بـ 35 مقعد في الوقت الذي حصلت الجماعة الإسلامية على 18
مقعد وحصل المستقلون على 4 مقاعد وتكون (خالدة) بذلك قد حصلت على 42%
من نسبة أصوات المنتخبين وهي قريبة من الأغلبية المطلقة بينما لم تحصل
(حسينة) إلا على نسبة 28% وقد دعمتها الأقلية الهندية الموجودة في بنغلاديش
وتشير التقارير بأن المخابرات الهندية قد ألقت بثقلها إلى جانب (حسينة) ضد
منافستها (خالدة) المحسوبة على عدوة الهند التقليدية باكستان وهذا سيعزز من وضع
باكستان في المنطقة حيث تملك حليفاً مسانداً لها في بنغلاديش ومعادياً للتوجه الهندي
المنافس لباكستان، وسيكون الأمر مقلقاً للهند عندما تقدم (خالدة) على الاشتراك في
حكومة مع (الجماعة الإسلامية) وهو الخيار الوحيد أمامها حتى تتمكن من إنشاء
حكومة حسب عدد المقاعد الواجب توفرها لذلك.
ولم يجد اللوبي الهندي بزعامة (حسينة) ذريعة لفشلهم سوى اتهام (خالدة)
بتزوير الانتخابات تماماً كما فعلت بي نظير بوتو وفشلت في انتخابات أكتوبر
الماضي فاتهمت التحالف الجمهوري الإسلامي بالتزوير، ويذكر هناك بأن حوالي
(60) مراقباً دولياً أشرفوا على سير انتخابات بنغلاديش وأكدوا على نزاهة وعدم
تزوير الانتخابات.
ويبقى أن نقول بأن الأيام القادمة صعبة جداً لهذا البلد الإسلامي المتضور
جوعاً فملفات عديدة تنتظر أي حكومة قادمة بدءاً من الاقتصاد المتدهور، والجهل
والأمية وانتهاءً بالأمراض والوضع الصحي المتدهور والفياضانات الموسمية التي
لا تبخل الهند في ان تكون مسببتها من خلال التحكم بالسدود المقامة على الأنهار
التي تعبر بنغلاديش من الهند.(39/76)
القضية الكردية.. هل انتهت
من المؤكد أن قراء البيان يذكرون ما نشر في العدد (35) تحت عنوان (القوى
العظمى تعد لحرب شرق أوسطية) وقد ذكر الكاتب في هذا المقال الاهتمام
البريطاني بمشكلة الأكراد في شمالي العراق ودورهم في إساءة العلاقات بين تركيا
والعراق، وتأتي الأحداث الأخيرة لمشكلة الأكراد لتؤكد هذا الكلام، وأن هناك
اهتماماً خاصاً من بريطانيا وفرنسا لهذه المشكلة، وعندما قدم رئيس وزراء
بريطانيا مشروعه (الجيب الأمني) للدول الأوربية وافقت عليه، ثم قدم إلى مجلس
الأمن وكان تجاوب الولايات المتحدة معه بارداً وكذلك روسيا لأسباب خاصة بها،
ثم وافقت أمريكا مجاملة لتحقيق الانسجام مع حلفائها، هذا الاهتمام من بريطانيا
وفرنسا ليس لعاطفة إنسانية ولكن لتبقى المنطقة أشلاء ممزقة يمسك الغرب
بخيوطها، وإذا كان الغرب يتباكى الآن على مشكلة هو أحد أسبابها فإننا من جانبنا
مع الشعب الكردي المسلم، وقد ساءنا جداً ما وقع له من تشريد وقتل ومجاعة وإننا
ضد الظلم من أي مصدر كان، وفي محن كهذه يجب أن نرتفع فوق العواطف
ونبين مكمن الداء والمشكلة ليست مع الشعب الكردي المسلم ولكن مع زعمائه، مع
البرزاني والطالباني، ولابد من الرجوع قليلاً إلى الوراء لنرى ما هي الصلة بين
هؤلاء وبين مخططات بريطانيا وفرنسا، وربما ونحن نكتب هذا المقال، يكون
هؤلاء الزعماء قد اتفقوا مع نظام العراق على حل المشكلة بنظرهم، ولكن من
وجهة نظرنا لا تحل المشكلة إلا بالرجوع إلى تاريخها وليس هناك حل في النهاية
سوى الرجوع إلى هويتنا وجذورنا إلى الإسلام.
بعد الحرب العالمية الأولى كانت خطة الغرب المنتصر تمزيق النسيج
الاجتماعي والسياسي للدولة العثمانية «ففي مؤتمر الصلح الذي عقد في سان ريمو
عام 1919م أدرجت مذكرتان وخريطتان كمسودة مشروع لإقامة كيان سياسي خاص
للأكراد [1] ولكن تركيا أفشلت هذه المعاهدة، وجاءت معاهدة (سيفر) عام 1923م
خالية من الإشارة إلى دولة كردية، وبعد المقايضة بين فرنسا وبريطانيا حول مدينة
الموصل أصبحت أوراق القضية الكردية بيد بريطانيا، وبعد انتهاء الحرب العالمية
الثانية تقدم الأكراد بمطلبهم إلى هيئة الأمم المتحدة ولكن لم تجد أذناً صاغية،
فاهتبل الاتحاد السوفييتي الفرصة وعزز وضعه بين صفوف الأكراد وذلك لانحياز
تركيا وإيران نحو أمريكا، وهكذا رعى الاتحاد السوفييتي عام 1946 مؤتمر (باكو)
عاصمة أذربيجان، وأسست جمهورية مهاباد التي لم تعش طويلاً، وتركها مصطفى
البرزاني ليؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني [2] وفي عهد عبد الكريم قاسم
انتقل البرزاني إلى العراق، وحاول مع الحكومات المتعاقبة الحصول على مطالبه
في الاستقلال الذاتي، وفي هذه الفترة تلقى الدعم من الغرب ومن إسرائيل، وفي
السبعينات حصل الأكراد على شكل قانوني معين ومشاركة فعالة في حكم العراق،
ولكن يبدو أنها لم تنفذ عملياً وهي التي تجري المفاوضات حولها هذه الأيام.
إن وسائل تدخل بريطانيا باسم (الجيب الآمن) وغيره من المشاريع يعيد بنا
الذاكرة إلى أساليبها عندما دخلت مصر، فقد» صاحب عملية الغزو سيل من
التصريحات الرسمية البريطانية من يولية إلى أكتوبر عام 1882 أن ليس لبريطانيا
مطامع في مصر وأنها لا تنوي فتحها، وأن هدفها الوحيد من إنزال جنودها هو
إعادة الأمن فيها والمحافظة على النظام، ولمدى سنين طويلة استمرت هذه
النغمة.. « [3]
بعد هذا الاستعراض السريع نعود إلى الأحداث الأخيرة لنرى أن زعماء
الأكراد (البرزاني - الطالباني) تحركوا نتيجة لوعود من الغرب، وقام الغرب
بدعمهم في البداية ثم تخلى عنهم، لأن أمريكا والدول المحيطة لا تريد دولة كردية، وانساق هؤلاء الزعماء وراء الأحلام والأماني وتعاونوا مع الشيطان في سبيل
مآربهم، وهنا سنلاحظ أنه لا فرق بين البرزاني وغيره.
نشرت مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 1/4/1991م الخبر التالي» البرزاني -
إسرائيل، عادت حليمة إلى عادتها القديمة: صحيفة (الفيغارو) عدد 26 آذار مارس
نشرت تقريراً من مراسلها في القدس في صدر صفحتها الخاصة جاء فيه أن مسعود
البرزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني قام بن بزيارة سرية إلى تل أبيب
من أسبوعين طالباً دعماً تسليحياً من الدولة اليهودية وكانت صحيفة معاريف
الإسرائيلية المقربة من الحكومة أول من أشار إلى زيارة البرزاني «
وتتابع مجلة الأسبوع العربي فتقول:
عادت حليمة إلى عادتها القديمة، والعادة القديمة أن اتفاق 1975 بين العراق
وإيران أنهى دعم تل أبيب و (C.I.A) وإيران لمجموعات (البشمركة)
البرزانيين، وقبل ذلك كان مدربون إسرائيليون يلقنون هؤلاء البشمركة فنون القتال
الحديث عامي 1965-1967 وفي هذه الفترة كان مصطفى البرزاني يتردد إلى
إسرائيل» .
كيف تتبع الشعوب المسلمة أمثال هؤلاء الزعماء الذين يقودونهم دائماً إلى
الخراب، ولماذا تسلم هذه الشعوب قيادها إلى زعماء لا يؤمنون بالإسلام منهجاً
وسلوكاً، إن الحل ليس مع البرزاني والطالباني، الحل في الرجوع إلى الإسلام،
وهذا يستوي فيه العرب والأكراد وغيرهم من الأعراق المسلمة، ومشكلة العرب
السنة هي مشكلة الأكراد والسنة فالجميع تحت حكم الطغيان والاستبداد وعدم تحكيم
الشريعة الإسلامية، والقومية العربية لا يرد عليها بالقومية الكردية وإنما يرد
بالدعوة إلى تطبيق الإسلام.
وقد يعتب علينا إخواننا الأكراد أن نتكلم في مشكلتهم وهم في محنة، ونعود
لنؤكد أن مشكلتنا واحدة وهي مشكلة الشعوب العربية الأخرى، والذي يعصمنا من
هذه المزالق هو التعلق بالثوابت التي يدعونا إليها الإسلام ومنها وحدة المسلمين
وعدم تفرقهم على أساس عرقي أو لغوي.
إننا نتمنى أن توجه قوة الأكراد لمصلحة الإسلام وليس لمصلحة البرزاني
وأمثاله.
__________
(1) مجلة الشراع 15/4/1991 م.
(2) المصدر السابق.
(3) طارق البشري / دراسات في الديمقراطية المصرية / 20.(39/78)
الصومال بعد رحيل سياد بري
محمد عبده آدم
لقد استبشر الصوماليون والعالم معهم بسقوط الطاغية «سياد بري» والذي
حكم بالنار والحديد طيلة عقدين من الزمن والذي أخر الصومال إلى الوراء أكثر من
عشرين قرناً، وهذا التأخير والتخلف ليس خاصاً في مجال معين دون مجال آخر،
بل عم جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وغيرها من
المجالات، حيث إنه لم يخلف للصومال شيئاً من مقومات الأمة، فهو لم يترك جيشاً نظامياً يحمي البلاد من الأخطار الخارجية ولا بوليساً يقوم بمهمة حفاظ الأمن الداخلي ولا ترك أي مرفق آخر من مرافق الحياة الضرورية..
وبالتالي يمكن القول أن الصومال أصبح أمة بلا كيان مهددة بالانقراض
والزوال واختفاء دورها الإسلامي في المنطقة حيث تخلو الساحة للدول الأخرى
ذات الطابع المسيحي والتي تقف اليوم متفرجة وشامتة بما يجري في الصومال
وذلك لأن الصومال يعتبر المنافس الوحيد للدول المسيحية المجاورة في المنطقة
ثقافة وعقيدة فالصومال دولة إسلامية عربية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا بعد سقوط سياد برِّي؟
لقد كان هناك عدة جبهات تحارب ضد سياد بري وكل واحدة منها تهدف إلى
إسقاطه وتخليص البلاد منه، وكان الشرط الأساسي المشترك لهذه الجبهات لوقف
إطلاق النار والحروب الأهلية الدائرة في البلاد، وكان شرطهم الوحيد ذهاب سياد
برِّي أو إسقاطه حيث أن وجوده في رأس السلطة يعتبر عقبة كؤوداً أمام أي تصالح
وطني أو قومي.
ولكن لماذا لم تتوقف النار والحروب الأهلية وأن الأمن والأمان لم يرجعا بعد، وأن اجتماع المعارضة الصومالية في مؤتمر وطني لم يحدث بعد، بل وصل
الأمر أن حصل الاشتباك وتبادل النيران بين فصيلتين من أكبر فصائل المعارضة.
والمعروف أن المعارضة الصومالية كانت تنادي وتجاهر علنا بأنها سوف
تجتمع وتعقد مؤتمراً وطنياً مشتركاً فور سقوط سياد بري لتشكيل حكومة مشتركة
ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل بعد رحيل سياد بري حيث تبرأت كل جبهة من
الأخرى، وزعمت كل منها أنها هي المسؤولة عن الأقاليم التي تسيطر عليها مما
يؤدي إلى قيام دويلات في الأقاليم المختلفة من البلاد على أساس قبلي.. ولكن ما
السر في عدم اتفاق الجبهات وعدم تطبيق البيانات التي كانوا يصدرونها معاً؟ ؟
المعروف أن معظم هذه الجبهات بدأت معارضتها مع سياد بري بعد الثمانينات
وأنها تشترك في النقاط التالية:
أولاً: أنها جميعاً حركات عرقية قبلية حيث أن كل جبهة تنتمي إلى عشيرة
معينة من عشائر الصومال، والمعروف أن القبلية في الصومال واقع سلبي وأنها
الداء العضال الذي ابتلي به الصوماليون الذي يفرق ويشتت بعد أن اشتركت جميع
عوامل الاتحاد الأخرى من عقيدة إسلامية ولغة وأرض ومصالح مشتركة أخرى..
ومن ناحية أخرى فليس هناك حد تنتهي إليه القبلية حتى تصل إلى أبناء الأب
الواحد المختلفين في الأم لتفرقهم.. وهكذا يتضح لنا أن القبلية لا يمكن أن تكون
كياناً سياسياً أو قومياً بل إذا كان للقبيلة المركز الأول فلن تقوم للصومال قائمة
وستستمر - لا سمح الله - هذه الحروب الأهلية القائمة حالياً في حال رفع لواء
القبلية المنتنة..
ثانياً:أنها جميعاً حركات علمانية لا ترى للدين دوراً أساسياً وريادياً والمجتمع
الصومالي المسلم لا يرضى منهجاً غير منهج الإسلام، فالمعروف أن رجال حركات
المعارضة هم رجال سياد بري الذين كانوا يرددون بالأمس اسم سياد بري ويشيدون
بذكره وهم بطبيعة الحال ساهموا بشكل أو بآخر في تخريب البلاد مع سياد بري فهم
وزراء سياد بري وضباطه بالأمس، فارتداؤهم ثوباً نظيفاً أبيض خالياً من السقطات
والعثرات شيء لا يصدقه ولا يقبله الشعب الصومالي المسلم، والمعروف أنِّ أي
جبهة أو حركة علمانية ترفع شعار الإسلام في بداية طريقها وقبل وصول هدفها،
ولكن عندما تصل هدفها وأغراضها الدنيوية تتنكر لذلك، وتجعل محاربة الإسلام
هدفها، وهذا فعلاً ما هو حادث في الصومال فمن المعروف أن كل حركة كانت
تستعطف الشعب بأنها سوف تطبق الشريعة الإسلامية عندما تستولي على السلطة
من سياد بري، ولكن هاهم بعد سياد بري ولما يصلوا إلى هدفهم كاملاً بعد؛ وقد
اختفت كلمة تطبيق الشريعة الإسلامية، بل قد صرح بعضهم بإبعاد الدين عن الحياة، حيث قال إسماعيل محمود هره رئيس اللجنة السياسية للحركة الوطنية الصومالية
في مقابلة أجرتها معه جريدة الشرق الأوسط بعددها رقم 4456 الصادر صباح
السبت 9/2/1991م قال: «إننا لا نرغب في أن نسيء الدين بإدخاله إلى سوق
السياسة كما يفعل غيرنا..» ، ومدلول هذه الكلمة معروف لدى الجميع وهو فصل
الدين عن الدولة، وإبعاده عن واقع الحياة وهو كذلك تبنى مبدأ العلمانيين الموروث
من الكنيسة «ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فعليك أن تتدبر قوله تعالى [أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] وقوله تعالى [قُلْ إنَّ صَلاتِي
ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] فالإسلام منهج للحياة كلها بما فيها
السياسة.
وقال في معرض تبريره أن توجههم إسلامي قال: «إن دستورنا ينص على
أن الإسلام هو دين الدولة» ولكن ألا يعلم «هره» أن أول فقرة في دستور سياد
بري كان هذا البند الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة وهو كذلك كلمة
تستفتح للتبرك في جميع دساتير الدول العلمانية المتمسلمة ولكن لا يعدو أن يكون
حبراً على ورق حيث أن الواقع يثبت خلافه.
ثالثاً: إنَّ معظم هذه الحركات نشأت وترعرعت تحت رحمة إثيوبيا
وحضانتها العدو اللدود التاريخي للأمة الصومالية والإسلامية والتي لها مطامعها
التوسعية في الأراضي الصومالية الإسلامية، والصراع بين المسيحية والإسلام قديم
في القرن الإفريقي قدم الإسلام في تلك الديار.
لذا فإيواء إثيوبيا لحركات المعارضة وتسليحها ضد الحكومة الصومالية أو
حتى التسليح فيما بينهم يستهدف أولاً وقبل كل شيء إضعاف مركز الصومال
وإحداث الفوضى والبلبلة في داخله حتى لا تقوم للصومال قائمة بعد هذا الانهيار،
ثم يستهدف هذا الإيواء لحركات المعارضة تسليم السلطة في الصومال إلى رجال
موالين وعملاء في نفس الوقت لإثيوبيا كي لا تطالب الصومال مرة أخرى
بالأراضي الصومالية الي تحتلها إثيوبيا (أوغادين) والتي تعتبر مصدر التوتر بين
الدولتين، وتحقيق هذا الهدف سرعان ما ظهر في تصريحات رجال المعارضة
حيث يرددون في هذه الأيام بأنَّ العهد الجديد سوف يتسم بقيام علاقات ودية
وسياسية خارجية منسقة مع إثيوبيا.
ومما يوضح هذا ما قاله إسماعيل هره رئيس اللجنة السياسية في الحركة
الوطنية الصومالية في المقابلة التي أجرتها معه جريدة الشرق الأوسط في عددها
الذي ذكرناه آنفاً، قال: «نحن لا نحب تسمية أوغادين بل نفضل بدلاً عنها اسم
الأراضي الإثيوبية التي يسكنها الصوماليون، وأوغادين اسم إحدى قبائل تلك
المنطقة وسياد بري هو الذي اخترع هذا الاسم» .
أظن أنَّ هذا الكلام لا يستحق الاهتمام أو التعقيب عليه إذ لا يعدو أن يكون
مجرد ادعاء وإنكار الحقائق الواضحة كوضوح الشمس وتجنٍ على التاريخ وعلى
القضايا الإسلامية، وحتى يكون القارئ على علم من أمر تلك المنطقة نعطي نبذة
قصيرة عن تاريخها في السطور التالية.
تعتبر قضية أوغادين في القرن الإفريقي بمثابة قضية فلسطين في الشرق
الأوسط وأوجه التشابه بينهما متعددة ولكن أهمها أن كل منهما اقتطاع أرض عربية
إسلامية لمصلحة دولة مسيحية أو يهودية، وتعاون إثيوبيا مع إسرائيل والصهيونية
العالمية شيء ضارب في الجذور، وخير دليل على هذا ما نشهده في هذه الأيام من
العلاقات الثنائية الطيبة بينهما، وليس تهجير يهود الفلاشا إلى أرض فلسطين
وإرسال الخبراء العسكريين إلى إثيوبيا إلا جزءاً من تآمر القوتين على الإسلام
والمسلمين في كل مكان.
وقد كان مع بداية مأساة هذه المنطقة عندما قسم الاستعمار الغربي الصومال
الكبير إلى خمسة أجزاء وكان من نصيب الحبشة «إقليم أوجادين» وقد ضمت هذا
الإقليم انجلترا إلى إثيوبيا عام 1948م، وبعد استقلال بعض الأجزاء الصومالية
وتكوينها دولة مستقلة ظلت هذه المنطقة والمناطق الأخرى المحتلة موضع اهتمام
الحكومة الجديدة حيث لا يمكن أن تحظى أي حكومة بتأييد الشعب ما لم تهتم
وتطالب بالأجزاء المحتلة من الأراضي، وفعلاً لم يقصر الصومال بمطالبة
الأراضي المحتلة ولم يتنازل عن شبر، وكان الصومال البلد الوحيد الذي رفض
مبدأ القبول بالحدود الموروثة عن الاستعمار في المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة
الإفريقية الذي عقد في العاصمة الإثيوبية عام 1963م وكانت الحروب تقوم من
وقت لآخر لتحرير المنطقة من الاحتلال، وكان من أشهر هذه الحروب حرب
1977م المشهورة بحرب أوغادين والتي ألحقت بجميع الأطراف المشتركة خسائر
مادية وبشرية هائلة. وتعتبر هذه المنطقة مقر الحركات التحريرية الصومالية وكان
من أشهر هؤلاء المجاهدين الإمام أحمد جوري، الذي ولد في مقاطعة هرر عام
908 هـ والذي حارب ضد الأحباش النصارى في القرون الوسطى حتى كاد
يستولي عليها وقد قال عنه المؤرخ الفرنسي «رينه باسه» (إن أشهر دور من
أدوار التاريخ الأثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة لدى الغربيين هو «أحمد
جوري الصومالي» الذي كاد يسحق النصرانية الحبشية ويعيدها كبلاد النوبة إلى
الإسلام) ومن هؤلاء المجاهدين الذين انجبتهم تلك المنطقة المجاهد الكبير «السيد
محمد عبد الله حسن» والذي حارب ضد الكفار المستعمرين أكثر من عقدين من
الزمن وألحق بهم خسائر وهزائم عديدة، وهكذا يتضح لنا أنَّ هذه المنطقة جزء لا
يتجزأ من تاريخ الصومال وكيانها ولا يمكن إنكاره أو منحه لمكافأة عدو الإسلام
والصومال مقابل إيوائها لبعض حركات المعارضة لأغراض معروفة لدى الجميع.
ولا عجب أن تكون هذه القضية قضية أساسية وبديهية لرجل الشارع
الصومالي، ولكن العجب العجاب أن تكون هذه القضية غامضة لدى رجل يدعي
أنه سياسي ومناضل وطني ومسؤول من مسؤولي الحركات المعارضة.
إنّه حقاً موقف مخز ووصمة عار في جبين الحركة الوطنية الصومالية ما لم
تتبرأ من هذا التجني على التاريخ وعلى الأمة الصومالية. أمّا تسمية المنطقة باسم
«أوغادين» فصحيح أنه اسم لإحدى قبائل تلك المنطقة ولكن يعتبر اسم الشهرة
التي اشتهرت في أوساط الباحثين والسياسيين في العالم، وهذا ليس شيئاً ذا أهمية
فالمعروف أن الأسماء والأعلام لا تعلل وأنّه لا مشاحة في الاصطلاحات، وإنما
المهم هو جوهر القضية الذي هو احتلال الأراضي الإسلامية الصومالية من قبل
نصارى الحبشة التي أنكرتها أنت يا سعادة (هره) واعتبرتها أرضاً إثيوبية.
أمّا قولك: إن سياد بري هو الذي اخترع هذه التسمية فهو أيضاً مغالطة
أخرى لحقائق معاصرة، فالمعروف أن سياد بري أسمى هذه المنطقة باسم الصومال
الغربي بدلاً من أوغادين، وهذا معروف لدى الجميع حتى أن الجبهة التي أسسها
سميت «بجبهة تحرير الصومال الغربي» .
وهكذا يتضح أن القاسم المشترك بين حركات المعارضة الصومالية المسلحة
أنها حركات قبلية وعلمانية وموالية لإثيوبيا، وعليه فإنها بصورتها الحالية غير
مؤهلة للتحول إلى حزب سياسي بل هي نوع من التكريس للتقسيم القبلي الذي يهدد
البلاد بالحروب الأهلية التي تلتهم الأخضر واليابس، وبالتالي فإنها لا تستطيع أن
تنقذ الصومال مما هو عليه من الويلات والتفكك ولا تقدر أن تقود السفينة إلى
شاطئ الأمان.
ولكن ما المخرج والمنقذ ممّا تعاني منه الصومال من المآزق والويلات؟
أعتقد أن إجابة هذا السؤال لا تحتاج منا إلى تفكير أو البحث عنه، حيث إنِّ
الحل الوحيد الذي يستطيع أن يحل المشاكل المستعصية في الصومال هو الإسلام،
الإسلام الذي ظلمناه واعتقدنا أنه كلمة تقال في اللسان فقط، والمعروف أنّ الشعب
الصومالي شعب مسلم بنسبة 100% وأنه تأكد تماماً فشل جميع المذاهب والمناهج
غير الإسلامية، فقد بدأ الشعب الصومالي المسلم بالنظام الرأسمالي وانتهى إلى
النظام الاشتراكي وقد وصل إلى ما وصل من التدهور والانحلال حتى الانقراض أو
الذوبان تماماً، وأعتقد أن تجربة ثلاثين عاماً وزيادة تؤكد لنا فشل تلك المذاهب
والمناهج المنحرفة، ولم يبقى للصوماليين إلاّ أن يأخذوا مأخذ الجد «المنهج
الإسلامي» وأن يطبقوه في شؤون حياتهم جميعاً لإنقاذ مما هم فيه ليسعدوا في الدنيا
والآخرة وليسوا مخيرين في هذا الاختيار فالله عز وجل يقول: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] .
وأوجه النداء الأخير إلى الشعب الصومالي المسلم أن يتحد ويتعاون لحل
مشاكله، وأن ينسى مخلفات العصر الجاهلي، وأن يستعيد التآخي والتآلف الذي
كان رائداً قبل أن يفرقهم الطاغية الراحل الذي مارس ضدهم سياسة «فرق تسد» وعلى الشعب الصومالي أن ينضم تحت لواء الحركة الإسلامية المباركة في
الصومال والتي تعتبر نظيفة من الأمراض والعيوب الموجودة لدى الحركات
الأخرى التي ذكرنا، كما أنهم يعتبرون أول من عارض الرئيس المخلوع حيث أنهم
وقفوا ضده في أيام شوكته وقوته وقدم كثير منهم روحه لصالح الإسلام والمسلمين
في الصومال.(39/81)
اليهود من الداخل
جعفر أحمد الفوال
الناظر إلى ما يجري حوله في العالم من وقائع سياسية وعسكرية وتخريبية
وقتل واختطاف يلحظ وجود علاقة بين ما يحدث ومواقف اليهود تجاه غيرهم على
ضوء المخطط العالمي السياسي والعقائدي المرسوم أصلاً وأساساً في المصادر
الثلاثة:
1- التوراة 2- التلمود 3- بروتوكولات حكماء صهيون.
فهي أسلوب العمل السياسي في تحويل جملة من المعتقدات اليهودية إلى خطة
عمل يجابهون بها العالم.
1- اليهودية أمام المرآة:
«الجهل بالحق» من الأسباب الغالبة على أكثر النفوس المعاندة له.. فإن
انضاف إلى ذلك السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له كان المانع من القبول
أقوى، فإن انضاف إلى ذلك إلفه ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع، ...
فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه ...
كما وقع لهرقل ملك النَّصارى بالشام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
ازداد المانع من قبول الحق قوة.
ومن أعظم الأسباب «الحسد» فإنه داء كامن في النفس ويرى الحاسد
المحسود قد فُضِّل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون
من أتباعه وهل منع إبليس من السجود لآدم إلاّ الحسد؟
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى عليه السلام وقد علموا علماً
لا شك فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بالبينات والهدى فحملهم
الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه وهم أمة فيهم الأحبار
والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والأمراء.
ثم إنهم حسدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- حسداً شديداً فحسدوه مرتين:
مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب وهم لم يكونوا يشكون في صحته، وحسدوه
لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.
وقد جاء المسيح بحكم التوراة، ولم يأت بشريعة يخالفهم ولم يقاتلهم، وإنما
أتى بتحليل بعض ما حُرِّم عليهم تخفيفاً ورحمة وإحساناً وجاء مكملاً لشريعة التوراة، ومع هذا اختارت طائفة منهم الكفر على الإيمان.
فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع مبكتاً
لهم بقبائحهم ومنادياً على فضائحهم ومخرجاً لهم من ديارهم وقد قاتلوه وحاربوه وهو
في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم ويعلو هو وأصحابه، وهم معه دائماً في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم.
2- اليهود ... ووحدة الصف:
توقع اليهود أن يعتبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -خارج نظام دعوته
وأن يقصر الدعوة على الأميين فقط من العرب فلما أن وجدوه يدعوهم - أول ما
يدعوهم - إلى كتاب الله بحكم أنهم أعرف به من المشركين وأجدر بالاستجابة له
من المشركين، أخذتهم العزة بالإثم، وعدّوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة..
هذا بجانب حسدهم فكان موقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى، فزاد شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه
القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضاعف! أو يستجيبوا للدعوة الجديدة،
ويذوبوا في المجتمع الإسلامي، وهما أمران في تقديرهم أحلاهما مر.
ذلك فيما كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة
وخصام وهي البيئة التي يجد اليهود فيها دائماً لهم فيها عمل.. فلما أن جاء الإسلام
سلبهم هذه المزايا جميعاً فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن
عليه، فأزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم، ووحد
الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون
بالأنصار والمهاجرين، وألفّ منهم جميعاً ذلك المجتمع المسلم المتضامن المتراحم
الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيراً على الإطلاق.
3- وهكذا يعملون:
كانت الماسونية في العالم الإسلامي هي الإطار الواسع، الذي تحركت فيه
اليهودية التلمودية فأفرزت الصهيونية وقد أدخلها اليهود في الدولة العثمانية
ونشروها في كل أجزاء البلاد العربية وخاصة الشام ومصر، وأعلن قادتها إسلامهم
تقية، ومن خلال مراكزهم التي أقاموها في الدولة العثمانية استطاعوا السيطرة على
حركة الاتحاد والترقي (تركيا الفتاة) وأفسحوا لها في محافلهم التي كانت بعيدة عن
رقابة الدولة، حتى أنهم جعلوا دعوتهم القومية موجهة ضد الإسلام والوحدة
الإسلامية ودولة الخلافة، فكانوا هم أعوان الصهيونية في هدم الدولة العثمانية
وتمزيق الرابطة بين العرب والترك وإيقاد نار الخصومة بينهما حتى خططوا
لاتجاههم والذي تم على مراحل على الوجه الآتي:
أولاً: السيطرة على الحكومة وإسقاط السلطان عبد الحميد الذي رفض قبول
اليهود في فلسطين ولم يزحزحه الوعد، أو الوعيد عن خطته وإقامة الحكومة
الاتحادية التي أفسحت لليهود الدخول إلى فلسطين والإقامة فيها وشراء الأراضي.
ثانياً: إيقاع الصراع والخصومة بين عنصري الدولة العثمانية تمهيداً لتدمرها
وإدخالها في الحرب العالمية دون حاجتها إلى ذلك حتى يمكن تمزيقها والاتفاق مع
العرب لموالاة البريطانيين في سبيل إقامة دولة لهم ثم الوقيعة بين العرب والترك.
ثالثاً: إثارة روح العرق والعنصر في الأتراك تحت اسم الطورانية ومحاولتهم
تتريك العرب، وتغيير لغتهم وثقافتهم بما يدفع العرب إلى الدعوة القومية العربية، ...
واحتواء الدعوتين بمفاهيم غربية.
رابعاً: خداع العرب بعد وعدهم بالدولة وتمزيقهم إلى احتلالين فرنسي لسوريا
وبريطاني للعراق، ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وإعلان وعد بلفور
لليهود بإقامة الوطن القومي.
وهكذا تحققت للماسونية الخطة التي استطاعت بها إقامة الصهيونية على
أرض فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل على مرحلتين:
الأولى: بعد الحرب العالمية الأولى بإدخال أعداد ضخمة من المهاجرين
وإقامة الكيان الصهيوني لها.
الثانية: بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بإعلان دولة إسرائيل وإجلاء العرب
الفلسطينيين عنها.. ثم توالت الخطوات حتى استطاعت إسرائيل أن تسيطر على
القدس عام 1967 وهكذا.. يعملون.
4- كيف السبيل:
إن الضراعة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى: [إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
تستلزم المنافسة العامة بين عباد الله فما يصلح دنياهم وأخراهم، يتنافسون في نيل
الدرجات العلى في الحياتين، يتنافسون أولاً بتلاوة القرآن حق تلاوته بحفظ ألفاظه
وتدبر معانيه، ويتنافسون في فهمه من جميع النواحي، ثم يتنافسون في الانطباع به
والتأثر حتى يتشرب في قلوبهم ويتغلغل في شرايينهم، ويتنافسون في الاقتداء بسنة
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم يتنافسون بحمل الرسالة بالدعوة والتبليغ،
وتوزيع هداية الله وتصدير أنواره في مشارق الأرض ومغاربها وتعميم الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وكل ما يقتضيه
موجب التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فيسود السؤدد الصحيح والقوة التي لا
تغلب، التي تجمع الأهل وتشد بعضهم إلى بعض في هدف رباني سماوي، تتجلى
فيه عبودية الله بمعانيها ومبانيها فتنقي النفوس من الشح والهوى ويمنع عنهم
عناصر الفرقة ويقيهم من أسباب الفساد ويلهب حماسهم للقيام بواجب الله سبحانه
وتعالى.
ثم بصدق نياتهم مع الله، وإخلاصها لله، وطهارة جوارحهم وصلاح أعمالهم، يستمطرون رحمة الله بمدد السماء وحصانته التي لا يغلبها غالب أبداً.
وهذه الحقيقة لا يفهمها إلا حملة تلك الرسالة الذين تمتلئ قلوبهم بتعظيم الله
بدلاً من تعظيم المادة؛ صدق معنى الحديث المروي عن علي -رضي الله عنه-
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتنة قلت: ما المخرج منها يا
رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس
بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو
حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به
الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، هو
الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: [إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ] من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه
هدي إلى صراط مستقيم» [1] .
وعليه نقول: لن يكون للإسلام وجود إلا بهذه العزمة ... عزمة العبودية لله
ومرضاته المحققة للوحدة والأمن الصحيح والعيشة الراضية في الدارين التي لا
تحصل إلا عن طريق الوحيين، كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
التي تخرج العصبة المسلمة المؤمنة العابدة لربها التي تجدد مجد أمتها وتعيد تاريخها
وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(1) حديث ضعيف جداً كما بينه الشيخ الألباني في شرح العقيدة الطحاوية ص 71 وكذلك في سلسلة الأحاديث الضعيفة، حديث: 1776.(39/89)
منتدى القراء
عبد الله بن إبراهيم الرميح
لقد اطلعت على ما نشرته مجلة البيان العدد «33» ص 14 موضوع:
(أحاديث الفتن والفقه المطلوب) وطلب الكاتب البحث في أحاديث الفتن واستثارة
همم القادرين من أهل العلم للكتابة عنها؛ وأقول إن الشيخ صالح بن عبد العزيز آل
الشيخ ذكر في شريط بعنوان «الضوابط الشرعية للفتن» عدة ضوابط منها:
1- الحلم والأناة والرفق.
2- العدل والإنصاف وعدم الظلم واتباع الهوى في الحكم.
3- تصور المسألة تصوراً كاملاً صحيحاً وفهمها والحكم عليها وفق الكتاب
والسنة.
4- الحرص على الجماعة والائتلاف والوحدة بين المسلمين.
5- معرفة الراية التي يقف المسلم تحتها.
6- ليس كل ما يعلم يقال «حدثوا الناس بما يعرفون ... »
7- أن الله أمر بموالاة المؤمنين.
8- معرفة الفرق بين التولي والموالاة والاستعانة بالكفار.
وطلب الدكتور أن يستفيد المسلمون والجماعات الإسلامية والدول الملتزمة
بالإسلام من أحاديث الفتن للتخطيط للمستقبل وأقول: لقد ذكر الشيخ صالح الضابط
الأخير عند وقوع الفتن وهو - أي أحاديث الفتن - لا تطبق على الواقع أثناء الفتنة
بل بعد وقوعها وقال ما نصُّه: إن أحاديث الفتن لا تطبقها أخي المسلم على الواقع
أبداً فإنه يحلو للناس عند ظهور الفتن أن يراجعوا أحاديث النبي - صلى الله عليه
وسلم - في الفتن ويكثر في مجالسهم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا هذا
وقتها، والسلف علمونا أن أحاديث الفتن لا تطبق على الفتن في وقتها وإنما يظهر
صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أخبره من حدوث الفتن بعد حدوثها
وانقضائها فمثلاً بعضهم فسر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفتنة تكون من
تحت رجل من أهل بيتي بأنه فلان بن فلان؟ أو قول النبي - صلى الله عليه
وسلم - حتى يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع بأن المقصود به فلان بن
فلان أو قول النبي - صلى الله عليه وسلم- ستصالحون الروم صلحاً آمناً وما
يحصل بعد ذلك فإنه في هذا الوقت؛ وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع وبثِّ
ذلك في المسلمين ليس من منهج أهل السنة والجماعة وإنما أهل السنة والجماعة
يذكرون الفتن وأحاديثها محذرين منها مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو القرب منها
لئلا يحصل بالمسلمين فتنة ولأجل أن يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي -صلى الله
عليه وسلم-.
ولقد قابلت الشيخ وسألته عن مراجع هذه النقطة وأدلتها فذكر منها الفتاوى
لابن تيمية عند حديثه عن الخوارج.
أما الأدلة فهو ما حصل لعلي - رضي الله عنه - أنه ما طبق معاملة الخوارج
إلا حين ظهرت العلامة التي أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي ذو الثدية، وكذلك قتل عماَّر من قبل الفئة الباغية.
وكذلك ذكر أن تطبيق أحاديث الفتن قبل وقوعها منهج غير سديد لذلك أحببت
التنبيه وأطلب أن يقوم أحد العلماء المتخصصين في العقيدة ومنهج أهل السنة
بدراسة هذا الموضوع دراسة قوية وتبيين أقوال العلماء فيها.(39/94)
ثغرات خفية
مهدي بن نزال المهدي
أخي الداعية المربي إننا بحاجة ماسة إلى من يخرج بجهوده جيل فريد من
نوعه ليسير على درب الهدى وينفع أجيالاً أُخر.
لكن ما هي الثغرات التي تقف أمام الجيل الجديد لكي ينحرف عن درب
الهدى.. وما هي أخطاء جهود الداعية المربي في ذلك؟ !
إن من الأخطاء:
1) عدم إدراك أفكار وشعور الأجيال المستقبلية:
من المعلوم أن الأفكار والمعتقدات تقع في عقل الإنسان ويصعب على المرء
معرفة ما يكنُّه رفيقه في قلبه من آلام وأحلام.. وكل إنسان له أفكار مستقبلية..
وكذلك الجيل الجديد.
وما إن يعرف الجيل الطريق السوي ومعه أفكاره ومعتقداته المستقبلية التي
يبني عليها حياته إلا ويأتي دور الداعية المربي لتوجيهه وارشاده.. وهنا يقع الخطأ
في التوجيه!
من تلقين العلم والعمل زمراً زمراً من غير دراسة لأفكاره المستقبلية.. فما إن
يرى الجيل هذا النوع من المعاملة وعدم موافقتها لما يدور في خلده إلا وتكثر
مجاملته لمعلمه وعدم اهتمامه بهذا الطريق السوي ظناً منه أنه ممل.. ويتدرج هذا
الشعور إلى التفكر في السقوط ثم السقوط بعد ذلك.
2) الإحاطة بمجتمع الجيل:
«الناس أجناس» ، والمجتمع فيه السيئ والمحسن.. والجيل يندرج تحت
غطاء السيئ أو المحسن في مجتمعهم.. وبعد تمسك الجيل بدرب الهدى يأتي خطأ
الداعية المربي حينما يفرض عليهم أعمالاً وأفكاراً هي في نظر المربي سهلة معتادة
في مجتمعه ولكنها في نظر الطرف الآخر عكس ذلك كله في مجتمعه.. وتأتي
المجاملة لتحل هذا لموقف الحرج.. ولكنها لا تجدي وبالتالي لابد لذلك الفرد السير
خلف مجتمعه إن كان ضعيفاً أو الوقوف محتاراً.. ويأتي حصاد السقوط بعد هذا.
3) بين الأمر والإجابة:
إذا عرف الإنسان طريق الخير وطريق الشر عرف على إثر ذلك الأعمال
الموافقة لهما والمنافية لهما.. وللمربي الحق في أمر الجيل بأمر متوجب شرعاً على
انفراد بعد ما يبينه له في سابق زمان.. وأما أمور الخير عامة فينبغي للداعية
المربي عدم إلزامه بها ولكن له أن يعرضها في قالب جميل من الحكمة وأن يجعل
من نفسه صورة معكوسة لأمور الخير عامة.
إن الإلزام بشكل عام بحكمة ورزانة لأمر مستحب ومستحسن ولكن إذا طغى
هذا الجانب على الجيل وأصبح يشغل حيزاً كبيراً من شعوره فإنه ما إن يحاول ترك
طريق الهدى مع معرفته له.. لا سيما إذا كان الجيل في أول طريقه للخير فإنك
ترى التقهقر والرجوع ينتابه.(39/96)
قديم وجديد
تعصب الغرب
عن حاضر العالم الإسلامي
تعليق: شكيب أرسلان
كانت غرناطة آخر المعاقل التي سقطت في الأندلس، وقبل رحيل آخر
ملوكها عقد معاهدة مع ملك إسبانيا على أن يترك للمسلمين حريتهم في دينهم ولغتهم، ولكن الإسبان نكثوا عهودهم ومارسوا سياسة البطش لتحويل المسلمين إلى
النصرانية. يقول العالم محمد بن عبد الرفيع الذي حضر هذه المأساة وأنجاه الله
منها:
«أطلعني الله على دين الإسلام بواسطة والدي - رحمة الله عليه - وأنا ابن
ستة أعوام وأقل، مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم
أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسني حين
حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام. فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز كأني أنظر الآن
إليه مملَّساً من غير طَفَل ولا غيره، فكتب لي فيه حروف الهجاء في كرّتين. فلما
فرغ من الكرة الأولى أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي وجميع
قرابتنا، وأمرني أن لا أخبر أحداً من الخلق ثم شدد علَّي الوصية، وصار يرسل
والدتي إليَّ فتسألني ما الذي يعلمك والدك فأقول لها: لا شيء فتقول أخبرني بذلك
ولا تخف لأني عندي الخبر بما يعلمك: فأقول لها: أبداً ما هو يعلمني شيئاً.
وكذلك كان يفعل عمي وأنا أنكر أشد الإنكار. ثم أروح إلى مكتب النصارى، وآتي
الدار فيعلمني والدي إلى أن مضت مدة فأرسل إليَّ من إخوانه في الله الأصدقاء فلم
أقر لأحد قط بشيء، مع أنه -رحمه الله تعالى- قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن
أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة. لكن أيدنا الله سبحانه وتعالى بتأييده وأعاننا على
ذكره وشكره وحسن عبادته بين أظهر أعداء الدين» .
قلت (شكيب أرسلان) فهمنا من هنا أن هؤلاء الجماعة كانوا أُجبروا على
النصرانية طراً، وإنما كانوا باقين في الغالب على الإسلام سراً، وكانوا مضطرين
أن يرسلوا أطفالهم حتى من سن أربع سنوات إلى مكاتب النصارى، ولم يكن يباح
لهم أن يعلموا أولادهم شيئاً عن الإسلام، ومن كان يقدم على ذلك وكانت الحكومة
تعلم به كان يحرق بالنار. وبرغم هذا كله كان بعضهم حريصاً على تعليم أولاده
عقيدته الإسلامية ولغته العربية فكان يعلمهم ذلك مع أشد الاحتياط والامتحان خشية
أن السلطة تأخذ سر الأمر من الأولاد فتحرق أولئك الوالدين بالنار كما هو قرار
ديوان التفتيش الكاثوليكي.
ويتابع ابن عبد الرفيع:
«وقد كان والدي -رحمه الله تعالى- يعلمني حينئذ ما كنت أقوله عند رؤيتي
للأصنام وذلك أنه قال لي: إذا أتيت إلى كنائسهم ورأيت الأصنام فاقرأ في نفسك
سراً قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] و [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ] إلى آخرها وغير ذلك من الآيات
الكريمة وقوله تعالى [وبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا
المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ومَا قَتَلُوهُ ومَا صَلَبُوهُ ولَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وإنَّ الَذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ومَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ
اللَّهُ إلَيْهِ وكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] .
فلما تحقق والدي -رحمه الله تعالى- أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب
فضلاً عن الأجانب أمرني أن أتكلم بإفشائه والدتي وعمي وبعض أصحابه الأصدقاء
فقط. وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع، فلما رأى حزمي
مع صغر سني فرح غاية الفرح وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام
فاجتمعت بهم واحداً واحداً» .(39/100)
الصفحة الأخيرة
فئران.. للتجارب
حسن القارئ
لي صديق.. يدرس سلوك الحيوان..
يقول.. إننا أحياناً نحقن الفأر بمادة تستفزه.. ثم ندرس إمكانية أن يكون الفأر
صالحاً للتجربة بمعنى أن نتعرف عليه وعلى إمكاناته.
ذهب بي التفكير مذاهبه.. وتساءلت هل من الممكن أن يصبح الإنسان
فأراً.. للتجربة.. بل يصبح مجتمع بأسره فئران تجارب؟ ! تذكرت حادثة.. وأنا أسرح في مذاهب التفكير.. حدثت في بريطانيا.. وأصبح لها ضجيج
عجيب.. وذلك أن رجلاً تافهاً لم يكن معروفاً أخرج كتاباً يشتم فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتكلم في القرآن.. فأصبح اسم هذا الكاتب على كل لسان.. خرجت مظاهرات لم تشهدها مدن بريطانيا من قبل.. وكانت مظاهرات احتجاج من المسلمين في بريطانيا، ثم تتابعت الأيام وإذا بوسائل الإعلام تكشف أمراً عجيباً.. وخصوصاً في ظل أحداث أزمة الخليج.. لقد استفادوا من ذلك الكتاب.. وذلك المؤلف.. كما يستفيد الباحث.. يحقن الفأر.. لكي يتعرف عليه.. لقد حقنوا المسلمين بكتاب رشدي فثارت ثائرة المسلمين وتحركوا
ونظموا.. وكان الباحث آنذاك يراقب السلوك يحدد الإمكانيات والبواعث وحجم الخطر ومواطن الضعف والقوة.
قسماً أيها القارئ؛ إنني لا أضخم الأمر إنهم يراقبون.. ويدرسون..
ويخططون. ونحن لا نراقب.. ولا ندرس.. ولا نخطط.. بل جل أمرنا أن
ننفعل.. أن نصيح هنا وهناك.. نستنكر.. ونشجب وتتحرك المسيرات.. ثم ماذا بعد ذلك، ليس هناك هدف.. لأنه لم تكن هناك مقدمات.. دراسة.. وتخطيط.. فسرعان ما يخبو اللهب.. وينطفئ.. وتعود المياه إلى مجاريها.(39/104)
ذو الحجة - 1411هـ
يونيو - 1991م
(السنة: 5)(40/)
الافتتاحية
... ولا هم يذَّكَّرون
في مساء يوم الجمعة 14 أيار (مايو) من عام 1948 وقف الصهيوني بن
غورين ليقرأ بيان الاستقلال وقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وكانت
البداية مؤتمراً عقد في مدينة (بازل) في سويسرا الذي كتب عنه هرتزل في مذكراته
«لو أردت أن أختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة - وهذا ما لن أفعله - لقلت:
في بازل أسست الدولة الصهيونية، ولو أعلنت اليوم ذلك لقابلني العالم بالسخرية
والتهكم، ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال، وبعد خمسين سنة على وجه
التأكيد سيرى هذه الدولة جميع الناس»
وما بين هذا التخطيط وقيام الدولة كانت هناك مؤامرات وأساليب ماكرة
ومساعدات قوية من الغرب، قابلها من العرب والمسلمين حركات جهادية عفوية
قليلة العدد والعدة، أو لجوء إلى منطق الضعفاء: الشكوى والشجب، وتصديق ما
يقوله الغرب ويكثر فيه من الوعود وإرسال اللجان للتحقيق وطرح المشاريع التي لا
يقصد منها إلا التسويف والخداع، حتى يتمكن العدو ويقوى مع الأيام. والعجيب أن
الغرب وإسرائيل استمرا على هذه السياسة، والعرب أيضاً استمروا على سياستهم،
فقد قاتل العرب مع الإنكيلز ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى طمعاً في
أن تتكرم عليهم بريطانيا بدولة عربية، ولكن بريطانيا كانت في واد آخر، كانت
تخطط مع فرنسا لابتلاع البلاد العربية، وفي هذه الفترة أعطت اليهود هدية ثمينة
وهي (وعد بلفور) لمساعدتهم على إنشاء وطن قومي، وفي عام 1921 زار وزير
مستعمراتهم (تشرشل) مصر فقدم له عرب فلسطين شكوى عن اليهود وتصرفاتهم! ! واستمرت هذه السياسة إلى الآن. وفي عام 1946 جاءت لجنة لتقصي الحقائق في فلسطين، وأوصت ببقاء الانتداب البريطاني، وفي عام 1947 جاءت لجنة من الأمم المتحدة واقترحت تقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية، واعتبار القدس وبيت لحم منطقة دولية، واستمرت اللجان والمشاريع المطروحة من التقسيم إلى مشروع (روجرز) ، إلى (شولتز) و (بيكر) .
وفي عام 1937 عندما أنشب عبد القادر الحسيني القتال مع اليهود، أرادت
بريطانيا الالتفاف حول هذه الحركة، فاقترح أحد ساستهم (مكمايكل) : «أن يدخل
المسرح حكام البلاد العربية المجاورة الأكثر ميلاً للتعاون، كما اقترح إجراء
مفاوضات مع رؤساء بلديات العرب» .
وما يجري الآن وفي السبعينات هو عين ما جرى سابقاً، العرب يفرحون في
كل مرة انتظاراً للوعود، وسياسة إسرائيل والغرب من ورائها لم تتغير؛ ففي عام
1978 قاد موشى ديان وزير خارجية إسرائيل أمريكا: «كي لا تكون القدس
عاصمتنا لا يكتفي بقرار مجلس الأمن، بل عليهم كتابة التوراة من جديد، وتغيير
أحداث آلاف السنين» [1] .
واليوم يقول (شامير) الكلام نفسه، وسياسة أمريكا تقوم على ثوابت لم تتغير
وهي: رفض إقامة دولة فلسطينية، رفض أي تغيير في الضفة الغربية لا ينسجم
مع سياسة إسرائيل، رفض أي وفد فلسطيني مستقل لمباحثات السلام التي يعدون
بها.
لقد قدمت أمريكا أثناء حرب الخليج الوعود ذاتها لحل ما يسمى بـ (الصراع
العربي-الإسرائيلي) وبدأت زيارات (بيكر للمنطقة) وبدأت الآمال تتبخر يوماً بعد
يوم، وحتى لو كانوا صادقين، فإن هذه الجولات والمباحثات ستستمر سنين،
فكيف ونحن نعلم أنهم غير صادقين، وفي مقابلة تلفزيونية مع (وليم كوليي) ،
رئيس المخابرات الأمريكية السابق قال بمناسبة زيارة بيكر الثالثة: «إن ما ندعوه
بمبادرات السلام لا يستهدف حل النزاع العربي الإسرائيلي فهذا نزاع لا يمكن حله
الآن، وإنما الهدف الاستمرار في عملية السلام..» [2] .
وما زيارة وزير خارجية الاتحاد السوفياتي للمنطقة إلا تأكيداً لتضامنها مع
أمريكا، فقد صرح هذا الوزير في الأردن أن سياسة الاستيطان اليهودية تنسف
جهود السلام، ولكنه عندما زار إسرائيل لم يتفوه بكلمة حول هذا الموضوع.
وموقفه هذا يذكرنا بتنسيق روسيا مع أمريكا عشية حرب حزيران 1967
عندما أبلغت روسيا بواسطة سفيرها في القاهرة، أبلغت مصر بألا تكون البادئة في
الحرب مع إسرائيل، ويالها من نصيحة ثمينة.
فإذا كان الموقف الأمريكي لم يتغير، و (شامير يعمل بالفكر التوراتي ولا
يريد أن يقدم في آخر حياته تنازلات - بزعمه - للعرب، فلماذا هذا الركض وراء
(السلام) ؟
الحقيقة أن هؤلاء اللاهثين وراء الصلح هم فاشلون في الحرب وفاشلون في
السلم، وبما أن أمرهم ليس بأيديهم، فلم يبق أمامهم سوى هذه المسرحية السخيفة.
__________
(1) مذكرات دايان: أيبقى السيف يحكم؟ /131.
(2) جريدة القدس العربي 18/5/1991.(40/4)
بعضَ عنائك يا شيخ
عبد القادر حامد
لِمَ كل هذه الحملة المرهقة، والمعاناة الناصبة التي يتكلفها الشيخ البوطي؟ لم
هذا الحشد المنظم لهذه الأفكار المضطربة حول تيار لازال يشق طريقه بتصميم
وعزيمة جادة في ثنايا الحياة الإسلامية، وهذا التصميم وهذه العزيمة تناسب
الصعوبات المبثوثة في طريقه، وعلى الرغم من هذه الصعوبات فإن المؤمنين بهذا
التيار يعتقدون أن أمره جد، لأنه دين، وأنهم بهذا الاعتبار ليسوا ثلة قليلة منعزلة،
ولا جماعة مشاغبة همها التفريق - كما يحاول الشيخ البوطي أن يصوره - بل
جموع جرارة متعطشة إلى عودة الإسلام ليظلل حياة الناس من جديد.
إن المسلمين في كل البقاع ملوا من اللافتات التي ترفع باسم الإسلام هنا
وهناك، وضاقت صدورهم بالإسلام «الرسمي» الذي قيد بالقيود والسلاسل
والأغلال، الذي يقدم إليهم على أنه هو الإسلام الذي أنقذ به الله البشر، وصموا
آذانهم عما يلق عليهم من فتاوى هذا الإسلام «الحكومي» ، وفروا إلى تاريخهم
وسير رجالهم لعلهم يجدون فيها شيئاً من السلوان عن هذا الظلام المخيم، فهل
وجدوا السلوى؟
نعم وجدوا.. فإن قراءة فكر ابن تيمية تكشف عن رجل كانت حياته وأفكاره
تمثيلاً لقضايا المسلمين المصيرية، وشرحاً عملياً ونظرياً لقوة ونصوع الإسلام؛
وللعقبات والصعوبات التي تعترض سبيله لينتشر ويسود. بل وجدوا فيه أكثر من
ذلك؟ وجدوا فيه رجلاً عاش عصره وتفاعل مع مشاكله تفاعل المعتز بدينه،
الواثق به، على رغم كل المصاعب، وتصدى لجبهات كثيرة، فما طأطأ لها رأساً، ولا لانت له قناة. هذه الجبهات التي قد يبدو التصدي لها لبعض الناس - ومنهم
علماء - أمراً لا طائل تحته، ولا ثمرة منه غير التعب الذي يجني على صاحبه
ويسيء إليه. ولكن تصدي ابن تيمية لها بهذه الروح من أبرز بواعث الحياة في
حقل الدعوة الإسلامية فيما بعد عصره إلى اليوم. وذلك لأن مقصود هذه الجبهات
في حربها للإسلام واحد وهو تغييبه عن مسرح الحياة، أو تحييده وتجميده على
الأقل. بل إن ذلك هو أوضح دليل على وحدة المنهج الفكري والتطبيقي عند ابن
تيمية، فالسلبيات التي تعترض سبيل الإسلام يجب أن تبين أصولاً وفروعاً،
وأعداء الإسلام التاريخيون ينبغي أن يرشد المسلمون إلى أساليبهم ومواصفاتهم،
دون مواربة ولا مداهنة. والبدع التي طرأت على مسيرة المسلمين لابد من كشف
جذورها، ومصادر حياتها، وأخطارها، دون غمغمة ولا مجاملة.
صورة التيار السلفي عند البوطي:
يرى البوطي أتباع هذا التيار أنهم مجموعة تحاول اختلاق مذهب جديد
والانغلاق عليه. وأنهم جماعة تريد تفريق كلمة المسلمين، بل وتصد عن الإسلام،
وأن كلمة «السلف» تضم الصالح والطالح، ولم تعرف هذه الكلمة، ولم يستخدمها
المسلمون للدلالة على جماعة لها مواصفات معينة. «كيف ولو أنهم عبروا عن
كينونتهم الجماعية ووحدتهم المذهبية بهذا الشعار إذن لدخل معهم في تلك الكينونة
الجامعة سائر تلك الفرق الجانحة عن الحق الشاردة عن كتاب الله وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، إذ إنهم جميعاً (أي الفرق الجانحة عن الحق) مصبوغون
بصبغة هذا الشعار، سواء انتموا أم لم ينتموا إليه (هكذا بالإكراه!) ، بل إنهم
السلف أنفسهم لا المذهب الذي ينتمي إليهم (يا ناس!) ، فهم بكل فئاتهم وأشتاتهم
أصل هذا المذهب وجذوره، دون أي تفريق بين مهتد وزائغ، وبين صالح
وطالح» [1] .
ويرى أن ظهور شعار «السلفية» كان في مصر إبان الاحتلال البريطاني
لها، وأيام ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها وحمل لواءها كل من جمال
الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثم استحلى أتباع (المذهب الوهابي) هذا الشعار؛ لما
بين أتباعه وبين حركة الأفغاني ومحمد عبده من قاسم مشترك! وهو لا ينسى أن
يعرض بدعوة محمد بن عبد الوهاب مدعياً «بأن ينبوع مذهبه - بكل ما يتضمنه
من مزايا وخصائص - يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ، وهي عبارة
ملتوية لو طولب البوطي بشرحها لدار وناور، ولكان له موقف منها حسب هوى
من يكلمه فيها.
ويرى أن ضيق وتبرم أتباع ابن عبد الوهاب بكلمة (الوهابية) جعلهم
يستبدلون كلمة (السلفية) بها، ليوحوا إلى الناس بأن أفكار هذا المذهب لا تقف عند
محمد بن عبد الوهاب، بل ترقى إلى السلف، وأنهم في تبيينهم لهذا المذهب،
أمناء على عقيدة السلف وأفكارهم، ومنهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه [2] . [236
من كتابه] .
ويضع تعريفاً طريفاً للسلفي فيقول:
«والسلفي اليوم كل من تمسك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة (!) دافع
عنها، وسفه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع، سواء منها ما يتعلق بالأمور
الاعتقادية، أو الأحكام الفقهية والسلوكية» [3] [ص237] .
ويقول أيضاً في كلام كأنما يصف نفسه: «فكل من حصر الحق في الرأي
الذي انتهى إليه، وعد صاحب الرأي الثاني مبتدعاً أو زائغاً، على الرغم مما
وضحناه من أن كلا الرأيين نابتان في حقل المنهج المتفق عليه، فهو المبتدع حقاً [4] ، وهو المفرق لجماعة المسلمين، والمتسبب لإثارة البغضاء فيما بينهم دون أي
موجب أو عذر، وهو المتنكب عن إجماع المسلمين..» ، [ص 238] .
ويرى أن (السلفية) مذهب جديد مخترع في الدين، وهو مجموعة آراء
اجتهادية في الأفكار الاعتقادية والأحكام السلوكية، انتقيت من مجموع آراء اجتهادية
كثيرة مختلفة، قال بها كثير من علماء السلف وخيرة أهل السنة الجماعة، لكن
على غير أساس علمي، بل «اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة
بهم» [5] ، بل ويختم هذه التخرصات بالإعلان أن هذه البدعة لا سابقة لها في أي
عهد من عهود السلف أو الخلف، و «من أشنع مظاهر البدع الدخيلة على الدين»
بل ويقسم بحياته أنه لا يعرف للبدعة معنى غير ابتداع لفظة السلفية فيرفع
عقيرته قائلاً: «ولعمري، لئن لم يكن هذا كله ابتداعاً في الدين، فما هو المعنى
المتبقي للبدعة إذن، وفي أي مثال أو مظهر يبرز ويتجسد؟ !» [كتابه
ص 242]
وقد سقنا هذه العبارات والفقرات ليتضح لنا تصور الشيخ لهذه الكلمة التي
أطارت النوم من جفونه وكلفته هذا العناء، ولا نريد مناقشة ما جاء به من تعريفات
وتأكيدات حتى لا يطول الكلام، ولكن نكتفي بطرح النقاط التالية:
لا شك أن الشيخ على علم بالعبارة المأثورة عند أمثاله ممن يدرسون ويدرسون
العقيدة على طريقة المتكلمين وهي: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم) [6] ، ألا تعني هذه العبارة أن هناك شيئاً اسمه مذهب السلف، وشيئاً اسمه مذهب
الخلف؟
هل الشيخ متأكد أن الناس قبل هذا العصر لم يستخدموا كلمه السلف ليدلوا
على تيار معين في المسلمين؟ وليضرب صفحاً عن آثار ابن تيمية وابن القيم
وأتباع هذه المدرسة؛ ألا يجد في كتب الحديث والتراجم شيئاً يدل على ذلك؟
أما نحن فنجد ذلك واضحاً كل الوضوح، وأن التيار المتمسك بالكتاب والسنة
وفهمهما كما فهمهما الصحابة والتابعون وتابعوهم (وهم خير القرون) تيار واضح
القسمات في كتب العلم.
قال الخطابي: «هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان
مذهب السلف فيها: الإيمان بها وإجراءها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها» [7] .
وجاء في الأعلام للزركلي، 8/6: «نبا بن محمد بن محفوظ القرشي،
المعروف بابن الحوراني، الشيخ أبو البيان، شيخ الطائفة البيانية، من المتصوفة
بدمشق، قال ابن قاضي شهبة: كان عالماً عاملاً، إماماً في اللغة، شافعي المذهب، سلفي العقيدة، له تآليف ومجاميع وشعر كثير» .
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي عن الشيخ جمال الدين القاسمي: «كان سلفي
العقيدة، لا يقول بالتقليد» [8] ، فهل الشيخ الزحيلي مبتدع في استخدامه هذا
المصطلح؟ وإذا كان كذلك فما هو المقابل لهذه الكلمة في وصف عقيدة الشيخ جمال
الدين القاسمي يا ترى؟ !
وقد غفل البوطي أو تغافل - في حمى حملته على خصومه - أن «السلفية»
مصطلح يختلف معناه الاصطلاحي بين قوم وقوم، فأعداء الإسلام عرباً وعجماً،
على اختلاف مشاربهم وتعدد نظرياتهم؟ يطلقونه على كل من يتمسك بدينه ولا
يتنازل عن عقيدته، ولا يتخلى عن الأصول التي لا يجوز التخلي عنها بحجة أنها
قديمة، فالشيخ البوطي عند هؤلاء سلفي؛ لأنه يعتقد أن في الإسلام واتباع منهجه
نجاة البشرية وهدايتها، ولا يفرقون بين مسلم ومسلم، سواء في جزيرة العرب أو
بلاد الشام أو شمال إفريقيا أو شبه القارة الهندية أو في أوروبا وأمريكا.. إذا كان
هؤلاء المسلمون يعتزون بدينهم ويرونه منهجاً كاملاً شاملاً يحكم الحياة ويصلح دنيا
البشر وآخرتهم.
والبوطي والمتصوفة وكثير من المشايخ المتأثرين بالمدارس ذات المناهج التي
كانت سائدة في عهد المماليك، ثم عهد الدولة العثمانية يحصرون هذا المصطلح
بأتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تأثر بها، وبأفكار شيخ الإسلام ابن
تيمية وتلميذه ابن القيم.
أما «السلفيون» أنفسهم الذين كرّس البوطي جهاده ضدهم، فلا يرون أنهم
يخترعون ويبتدعون مذهباً جديداً، وإنما يقولون: إن هناك تياراً لازال موجوداً منذ
عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا هذا، يعتمد جعل الكتاب والسنة
وإجماع الصحابة المنهج الذي يجمع المسلمين كافة، وهذا المنهج كان واضحاً كل
الوضوح في عصر الصحابة والتابعين، وهو المنهج الذي سار عليه أكابر علماء
الأمة فيما بعد ذلك، وقد عكر على هذا المنهج مؤثرات غريبة عنه تسللت بأسباب
وأساليب شتى، وما زال الأمر كذلك، حتى ظهور مدرسة ابن تيمية وتلاميذه التي
أحدثت هزة عنيفة في ذلك الوقت، وعلى الرغم من وقوف الحكومات وعلماء
السلطة في وجه هذه المدرسة وعملهم المستميت في كبت صوتها، إلا إن القوة التي
تميز بها هذا الصوت لم تتلاش ولم تندثر، بل بقي الصدى يتردد هنا وهناك، ولا
نرى حاجة في تفصيل أسباب ذلك وآثاره هنا، بل نقول: إننا نرى الجهود التي
تصدت لمنهج ابن تيمية في السابق هي هي الجهود التي تحتشد لاجتثاث هذا المنهج
من حياة المسلمين، ولكن هل يمكن ذلك؟ هذا سؤال متروك لأصحاب هذه الحملة
ليجيبوا عليه بالقول الصريح، أو بالفعل المقنع.
وأتباع هذا المنهج لا يدعون العصمة، كما أنه إذا بدا في سلوك بعضهم ما
يغضب غيرهم؛ فماذا في ذلك؟ إن من طبيعة النفس البشرية أن يضيق صدرها
بما يخالف ما هي عليه، والإنسان عدو ما يجهل، وكذلك فإن الخطأ والظلم من
هؤلاء ممكن ومتصور؟ أليسوا بشراً؟ وقد قال الله عز وجل: [إنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا
الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] [الأحزاب 72] .
وإنه «ما من طائفة إلا وفي بعضهم من يقول أقوالاً ظاهرها الفساد. وهي
التي يحفظها من ينفر منهم، ويشنع بها عليهم، وإن كان أكثرهم ينكرها ويدفعها» [9] ... وهذا ما فعله الشيخ البوطي عندما استضافته «رابطة العالم الإسلامي» عام 1406 هـ شاكى هو، وكثير من ضيوف الرابطة الذين جاءوا من أوروبا ...
وأمريكا وآسيا وإفريقيا، تشاكوا بمرارة وأسى مشكلة وحيدة هي الخلافات
والخصومات الطاحنة (!) التي تثيرها بينهم جماعة السلفية [10] ! هذا ولعله من
رحمة الله بالمسلمين، ومن فضله وستره على السلفيين؛ أننا منذ ذلك التاريخ
المشار إليه - وهو تاريخ حضور الشيخ البوطي لذلك الموسم الثقافي الذي دعت
إليه «رابطة العالم الإسلامي» - لم نسمع بعدها عن شيء مما أشار إليه الشيخ
والشاكون إليه، فها نحن منذ عام 1405هـ وإلى الآن - قرب نهاية عام 1411
هـ - نعيش في بلد أوربي فيه عدد لا بأس به من المسلمين من مختلف الأصقاع
والمشارب، لم نسمع عن شيء من هذه «الخلافات والخصومات الطاحنة» التي
يتقلب البوطي منها على مثل جمر الغضا..! وهل على أحد لوم إذا ما ذكرته هذه
العبارة «الطاحنة» بأبيات زهير التي يصف فيها الحرب من معلقته:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ ... وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً ... وتَضرَ إذا ضرَّيتموها فَتَضْرَمِ
فَتَعرُكُكُم عَرْك الرحى بثِّفالها ... وتَلْقَحْ كَشافاً ثم تُنْتَجْ فتُتْئِم
وقبل أن نضع القلم نحب أن نتوجه بكلمتين إلى شيخنا البوطي.
الكلمة الأولى:
في الناس من يقرأ لابن تيمية ولغيره، وفيهم من له عقل يستطيع أن يميز
بين السقيم والسمين، وبين النافع والضار، وهذه كتب العلم لم تزل مبذولة تشهد
على كاتبيها، وقد أصبحت منتشرة أكثر والوصول إليها أسهل بحمد الله؛ فمن يا
ترى من العلماء يرشح لنا الشيخ البوطي حتى نتخذ منه نافذة نطل بها على تراثنا
الإسلامي العظيم نقلاً وعقلاً وفهماً واستنباطاً، ومن كتب في مناحٍ المسلمُ أحوج ما
يكون إليها في هذا العصر الهائج المائج؟
سيقول الشيخ: وهل تدعون أن أحداً من العلماء أحاط بكل ما يحتاجه
المسلمون، وأجاب عن كل تساؤل يعرض لهم؟ إذا كنتم تدعون ذلك فقد أبعدتم
النجعة، وبالغتم مبالغة مذمومة، وبلغتم بابن تيمية أو غيره ممن تتعصبون له درجة
لا تطاق ولا تقرون عليها! إن هذا العلم قدر مشترك لكل علماء المسلمين، وكل
منهم ساهم في هذا البناء المتماسك.
فنقول: نعم، لا ندعي لأحد الإحاطة، ولا نغمط أحداً حقه ولا نبخسه ما
وهبه الله، يأبى علينا الإنصاف ذلك، ولكننا - مع اعترافنا لكل ذي حق بحقه -
ننظر إلى ما هو موجود، وإلى نفعه للمسلمين من الجانب العملي، وإلى مردوده
على ما نتطلع إليه من الانتقال بحالهم من التراجع والضعف؛ إلى النظر إلى
المستقبل بثقة وثبات، وإلى تحويل إمكاناتهم من قوة كامنة إلى قوة دافعة، أي كتب
تقترحها علينا نطل من خلالها على الإسلام الصافي بقوة حججه، وسمو أخلاقه،
ووضوح أفكاره، وحرارة الإيمان، وفاعلية العقيدة فيه:
الفتوحات المكية أم اقتضاء الصراط المستقيم؟ !
فصوص الحكم أم منهاج السنة النبوية؟ !
اليواقيت والجواهر أم الصارم المسلول؟ !
إرشاد المغفلين من الفقهاء والفقراء إلى شروط صحبة الأمراء! أم السياسة
الشرعية؟ !
الكبريت الأحمر وشرح وصية المتبولي أم درء تعارض العقل والنقل [11] ؟
الكلمة الثانية:
هناك مجال ما أجداه على الدعوة الإسلامية لو اقتحمه الشيخ البوطي، فبدلاً
من اقتصاره على الحديث ناقداً ومشنعاً على إخوانه أتباع الكتاب والسنة، وشنه هذه
الحملات المتكررة عليهم في داخل بلده وخارجه؛ حبذا لو خرج من هذه الدائرة
المغلقة والتفت إلى تربية الدعاة والاهتمام بنشر العلم الشرعي الذي استؤصلت
معالمه بشكل مقصود وأساليب ملتوية مفضوحة، إلا بقايا من الجهود الفردية التي لا
تفي بالحاجة ولا تقوى على التحديات المحيطة، وإن في إمكانات الشيخ البوطي -
«التي لا نحب أن نرتاب فيها» - البركة، فهو في حال - من البحبوحة الكلامية، وحرية التحرك - يغبطه عليها الكثير، وله قدم صدق عند أصحاب الحل والعقد،
فلم لا يستثمر هذه الفرصة بما يعود على الإسلام والمسلمين بالخير، وينشِّط
«الصحوة الإسلامية» التي نوه بها بقوله مرة: «إن معين الصحوة الإسلإمية من الشام، وهي من الشام تنتشر، وسرها في الشام، وقد كان ذلك فيما مضى، واليوم، وسيبقى بعد اليوم» [12] . بشره الله بالخير، ولو أزال الشيخ الغموض الكامن في عبارة «وسرها في الشام» لأجاد وأفاد، ووفى بالمراد، ولشكر له المنتظرون سماع هذه التطمينات شكراً لا مزيد عليه. وكذلك قوله الآتي في كلمته تلك فيه غموض يحتاج إلى تفصيل وشرح، ولا يقدر على ذلك سواه - حفظه الله - فهلا فعل؟ ! يقول:
«إن المكائد تضاعفت ليس من أفراد فقط أو جماعات؟ بل من حكومات
تعادي الإسلام ... وإذا كانت الشام منبع أعداء الإسلام فلتنهض الشام نهضتها،
ولينهض الشعب متعاوناً مع رئيسه» [13] . كيف يكون معين الصحوة في الشام؛
ومنبع أعداء الإسلام من الشام؟ ! ومن الأفراد، ومن الجماعات، ومن الحكومات
التي تعادي الإسلام؟ ولم لا تضع دليلاً يستخدمه أهل الشام لاكتشاف هؤلاء الأفراد، والجماعات، والحكومات؟ ! كل ذلك يحتاج إلى تجلية وبيان من أجل النشء
الذي وقفت جهودك لتوعيته، لتستبين سبيل المجرمين. فضع إصبعك على
الجروح الناغرة يا شيخ، ولا تخف، وخذِّل عن المسلمين، ولا يكن همك كهمِّ
المتنبي فقط؛ ضيعة أو ولاية [14] ، فما أنت فيه خير من الضيعة أو الولاية،
وكن على ذكر من كلمة إبراهيم بن أدهم أو غيره: «لو يعلم الملوك ما نحن فيه
لجالدونا عليه بالسيوف» . واعتبر بأصحاب الضيعات حواليك - ضباع تتهارش
على الجيف في العاجلة، وتذهب - مخلفة روائح الجيف ورائها - إلى الآجلة.
*انتهى*
__________
(1) خاتمة هذه العبارة تذكر بعبارة شمشون الجبار: عليَّ وعلى أعدائي ياربَّ! .
(2) كلام خطير يبين دخيلة البوطي على حقيقتها وموقفه ممن لا يرون رأيه المريض في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث يريد أن يقطع - بتفسيره المدخول - صلة هذه الدعوة بجذور العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومع أن كلامه هذا ظاهر التهافت؛ وهو يحس بذلك؛ لذلك فقد قال في الكلمة التي وشح بها ظهر غلاف كتابه: إنما أخرجت هذا الكتاب لناشئة الأمة، ولكن من أين له أن يغطي الشمس غرباله؟ ! .
(3) ألا ينطبق هذا التعريف عليه؟ ! .
(4) مر قبل كلامه هذا أنه يعتبر السلفيين مبتدعين بلا ريب، وأن الابتداع ثابت في اتخاذ كلمة (السلفية) هذه، وعلى الرغم من قذفه وشتائمه المتكررة فإنه لم يستطيع أذ يثبت بكلمة موثقة أن السلفيين الذين يشهر بهم بأوصافه هذه يقولون بهذه الآراء واللوازم التي يتخايل بها.
(5) سبحانك هذا بهتان عظيم.
(6) نحن نستشهد بهذه العبارة على سبيل الإلزام، لا اقتناعاً بفحواها؛ بل نرى أن مذهب السلف أسلم وأحكم.
(7) جلاء العينين ص 404.
(8) بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2/235.
(9) مجموع فتاوى ابن تيمية 17/362.
(10) ليلاحظ القارئ الكريم أن هذا التشاكي لم يكن جماعياً بل كل واحد من الضيوف كان يشكو للشيخ البوطي على انفراد من هذه المحنة.
(11) الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، كتابان لابن عربي واليواقيت والجواهر، وإرشاد المغفلين والكبريت الأحمر، ووصية المتبولي كتب للشعراني الصوفي وهي كتب مشهورها كمجهولها في الضرر أو قلة النفع عند العقلاء.
(12) صحيفة تشرين 18/4/1990.
(13) صحيفة تشرين 18/4/1990.
(14) إشارة إلى قوله في مدح كافور الإخشيدى:
إذا لم تَنط بى ضيعة أو ولاية ... ... فجودك يكسوني وشغلك يسلُبُ.(40/7)
من أدب الأخوة
عبد الرحمن العقل
للأخوة أدب جمّ وخلق رفيع ارتقاه سعيد بن العاص، فقال: «إني لأكره أن
يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه» [1] .
وللأخوة آداب تمنح الأخوة رونقاً وبهاءً وجمالاً..
فمن هذه الآداب:
1- الابتعاد عن الإطراء وترك المدح:
حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإطراء والمدح، صيانة للأفراد
من الغرور والإعجاب بالنفس، وصيانة للعلاقات الأخوية، وحفاظاً على المجتمع
الإسلامي، عن أبي موسى قال: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يثني
على رجل ويطريه في المدح فقال: «أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل» [2] .
بل إن من لوازم الأخوة ترك الثناء والمدح. قال عبد الرحمن بن مهدي:
«إذا تأكد الإخاء سقط الثناء» [3] . وقال الحجيي لرجل: «حبي لك يمنع من الثناء عليك» [4] .
2- الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية:
فاحتلافك مع أخيك في الرأي لا يؤثر على مودته في قلبك، ولك في الإمام
أحمد قدوة، يقول الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن الإمام اسحاق بن راهويه:
«لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في
أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً» [5] .
«إنه التمازج الروحي والأخوة الحقة بين المؤمنين التي يلتمس فيها المؤمن
الحقيقة عند أخيه وإن كان له مخالفاً» [6] .
3- فن الاستماع:
تظهر لأخيك تلذذك بحديثه، ولا تصرف بصرك عنه، ولا تقاطعه في حديثه، حتى ولو كنت تعلمه. يقول الإمام سفيان الثوري - رحمه الله تعالى -: (إن
الرجل ليحدثني بالحديث قد سمعته قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب أن
أسمعه) [7] .
4- لا انتقام ولا تشفٍ:
موقف رائع بين القاضي سعيد بن سليمان المساحقي المالكي والقاضي ابن
عمران الطلحي.. يصوره ابن الماجشون بقوله: «شهد سعيد بن سليمان عند ابن
عمران الطلحي وهو قاض، فرد شهادته، فلما ولي سعيد شهد عنده ابن عمران،
فنظر سعيد في شهادته ففكر قليلاً ثم قال لكاتبه: أَجِزْ شهادته يا ابن دينار، فإن
المؤمن لا يشفي غيظه» [8] .
5- ترك التكلف:
«حتى لا يشعر الأخ أنه غريب عن أخيه، ولا يلجئه إلى الاعتذار دائماً،
بسبب هفوة صغيرة، وكلمة عابرة، ويحاسبه على النقير والقطمير، وليتذكر قول
الشاعر:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟ [9]
وكان جعفر بن محمد الصادق يقول:» أثقل إخواني علي: من يتكلف لي
وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي « [10]
6 - الهدية:
الهدية.. سهم صائب يقع في القلوب مباشرة..
كم منقبض أثرت فيه الهدية، وكم من تائه قربته الهدية، وكم من حاقد ألفته
الهدية، لها تأثير عجيب وعجيب. وكما قيل: الهدية هي السحر الظاهر.
* تأثير الهدية:
» قال سفيان: لما قعد أبو حنيفة، قال للناس مُساور الوراق:
كنا من الدين قبل اليوم في ... سعة حتى بلينا بأصحاب المقاييس
قوم إذا اجتمعوا صاحوا كأنهم ... ثعالب ضبحت بين النواويس
قال: فبلغ ذلك أبا حنيفة، فبعث إليه بمال، فقال مساور - حين قبض المال -: ...
إذا ما الناس يوماً قايسونا ... بآبدة من الفتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيح ... مصيب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفة [11]
وللهدية أثر واضح في تصفية القلوب من الأدغال والأحقاد، يقول الرسول -
صلى الله عليه وسلم - «تهادوا تحابوا تذهب الشحناء» [12] .
7- الدعاء بظهر الغيب:
لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب
مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا له بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك
بمثل» [13]
* أبا حمدون لِمَ لم تسرج مصابيحك الليلة؟
عن عبد الله بن الخطيب: «أن الطيب بن إسماعيل أبا حمدون وهو أحد
القراء المشهورين كانت له صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو
لهم كل ليلة فتركهم فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون لِمَ لم تسرج مصابيحك
الليلة؟ ، قال: فقعد فأسرج، وأخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ» [14] .
وقال أحد الصالحين: «أين مثل الأخ الصالح؟ إن أهل الرجل إذا مات
يقسمون ميراثه ويتمتعون بما خلف، والأخ الصالح ينفرد بالحزن، مهتماً بما قدم
أخوه عليه، وما صار إليه يدعو له في ظلمة الليل، ويستغفر له وهو تحت أطباق
الثرى» [15] .
8- لا تزيد الصلة ولا تنقص بالانقطاع:
والأخوة الصادقة ثابتة لا تتغير مع مضي الوقت فلا تزيد بالبر والصلة، ولا
تضعف أو تتلاشى بالانقطاع والجفاء.
يقول يحيى بن معاذ الرازي: «حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص
بالجفاء» [16] . وعدم رؤية الإخوان لبعضهم، وانقطاعهم عن بعض لا يسوغ
الهجر ولا اختلاف القلوب. عن اسحاق قال: «كان بين عبد الرحمن بن مهدي
ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء فكانت تمر السنة عليهما لا يلتقيان، فقيل
لأحدهما في ذلك فقال: إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام» [17] .
وكذلك ما روي أن يونس بن عبيد «أصيب بمصيبة فقيل له: ابن عوف لم
يأتك؟ فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخينا لم يضره أن لا يأتينا» [18] .
* مودة مدخولة:
فكل أخوة تزداد بالالتقاء وكثرة المجالسة فهي تحتاج إلى إعادة نظر، يقول
الحسن بن صالح: «كل مودة لا تزداد إلا بالالتقاء مدخولة» [19] .
9- لا ترفع أخاك فوق منزلته:
ومن أدب الأخوة أن تضع أخاك في مكانه المناسب، حتى تصفو الأخوة
وتدوم، قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ما رفعت أحداً فوق منزلته إلا وضع مني
بقدر ما رفعت منه» [20] .
*ابن حزم يحذرك:
يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس
فيك، لأنه نبه على نقصك، وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك، لأنه نبه على
فضلك، ولقد انتصر لك من نفسه بذلك، وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة» [21] .
10- بين الانقباض والانبساط:
فكن مع الناس بين المنقبض والمنبسط، فلا تخض مع الخائضين ولا تنعزل
مع المنعزلين، كما قال الشافعي: «الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة،
والانبساط إليهم مجلبه لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط» [22] ،
وكذلك الأخ مع إخوانه لا ينبسط معهم انبساطاً يذهب فيه الاحترام ويقل فيه الأدب،
ولا ينقبض عنهم انقباضاً يشعرون معه بالجفوة، ويحسون بحاجز يمنعهم من
الاقتراب منه وتحقيق معاني الأخوة معه فهو بين بين..
11- الصبر واحتمال الأذى:
إن خلق الضجر، وعدم الصبر والتحمل بين الإخوان هو طريق للتفرق
والاختلاف، وطريق لزوال الإخاء والود.. ولهذا كان احتمال الأذى من أدب
الأخوة.
* بضاعة الصديقين وشعار الصالحين:
«وأما احتمال الأذى فهو الصبر ولكنه أشق، وهو بضاعة الصديقين،
وشعار الصالحين، وحقيقة أن يؤذى المسلم في ذات الله سبحانه وتعالى فيصبر
ويتحمل، فلا يرد السيئة بغير الحسنة، ولا ينتقم لذاته، ولا يتأثر لشخصيته؛ ما
دام ذلك في سبيل الله، ومؤدياً إلى مرضات الله، ولم يبتل في طريقه إلى الوصول
إلى الله..» [23]
12- مراعاة النفسيات:
النفس البشربة كالبحر، تارة يكون هادئاً راكداً، وتارة يكون هائجاً متلاطماً،
فوجب مراعاة هذه النفس ومعرفة تقلباتها وتحولاتها.. والنفوس تختلف باختلاف
أصحابها فما يصلح لهذه لا يصلح للأخرى، ولله در شبيب بن شيبة حينما قال:
«لا تجالس أحداً بغير طريقه، فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم، واللاهي بالفقه، والغي بالبيان آذيت جليسك» [24] .
13- لا تكن جافاً:
فلا تكن جافاً في تعاملك الأخوي ولا بليداً لا يتحرك لك وجدان، فإذا ما أخطأ
عليك أخوك، وجاء يستسمحك فلا تشمخ بأنفك؛ لكي لا ينطبق عليك وصف الإمام
الشافعي.. يقول الربيع: سمعت الشافعي يقول: «من استغضب فلم يغضب فهو
حمار، ومن استرضي ولم يرض فهو حمار» [25] .
14 - لا تكن ثقيلاً:
وهذا أدب ظرفي يضفي على الأخوة طابعاً جميلاً..
وحقيقته: خفة في النفس ولباقة في التعامل ومراعاة لظروف الإخوان
ومشاعرهم، فلا يكون ثقيلاً في زياراته وفي أفعاله وكلماته.
* المؤمن قد يكون ثقيلاً:
الثقل صفة لا علاقة لها بالإيمان وعدمه. «سئل جعفر بن محمد عن المؤمن، هل يكون بغيضاً؟ قال: لا يكون بغيضاً، ولكن يكون ثقيلاً» [26] .
* الثقلاء عند العلماء:
«قال الحسن البصري في قوله تعالى: [فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا] [الأحزاب
53] قال:» نزلت في الثقلاء « [27] . وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله، قال: [رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ] [28] [الدخان 12] .
وقال ثقيل لمريض: ما تشتهي؟ قال: أشتهي ألا أراك. وإن كنت تصرّ
على مخالفة هذا الأدب.. فاصبر على مخاطبة الشاعر:
... أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل
أنت في النظرة إنسان ... وفي الميدان فيل [29]
15- عدم مواجهة الأخ بالعتاب:
وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً بعنوان: من لم يواجه الناس بالعتاب. وعن عاثشة -رضي الله عنها- قالت: صنع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
شيئاً فرخص فيه فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخطب، فحمد الله ثم قال:» ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني
لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية « [30] .
ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- هو ألطف الناس وأحسنهم خلقاً، لم يفضحهم
على رؤوس الخلائق، بل عاتبهم وأنبهم من غير جرح لمشاعرهم وأحاسيسهم.
ولا يفهم من فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ترك العتاب، بل يفهم:
عدم المواجهة، يقول ابن حجر - رحمه الله -:» أما المعاتبة فقد حصلت منه بلا
ريب، وإنما لم يميز الذي صدر منه، ستراً عليه، فحصل منه الرفق من هذه
الحيثية لا بترك العتاب أصلاً « [31] .
__________
(1) العقد الفريد2/429.
(2) فتح الباري / 6060.
(3) آداب العشرة ص 52.
(4) آداب العشرة ص 52.
(5) تهذيب تاريخ ابن عساكر 2/414.
(6) نفائس الحلة في التآخي والخلة ص 73.
(7) تاريخ دمشق 1/409.
(8) ترتيب المدارك 1/295.
(9) مجلة البيان العدد 23 ص 46.
(10) إحياء علوم الدين 2/188.
(11) روضة العقلاء ص 243.
(12) مالك في الموطأ ص 1642.
(13) أخرجه مسلم (شرح مسلم 17/50) ، أحمد 5/195، ابن ماجه (2895) .
(14) تاريخ بغداد 9/163.
(15) منهاج المسلم ص 112.
(16) طبقات الشافعية 6/51.
(17) الآداب الشرعية 3/565.
(18) روضة العقلاء ص 89.
(19) روضة العقلاء ص 116.
(20) حلية الأولياء 9/146.
(21) الأخلاق والسير ص 38.
(22) حلية الأولياء 9/122.
(23) منهاج المسلم /139.
(24) آداب العشرة /47.
(25) حلية الأولياء 9/143.
(26) بهجة المجالس 2/733.
(27) بهجة المجالس 2/733.
(28) المصدر السابق.
(29) بهجة المجالس 2/734.
(30) فتح الباري 10/172 حديث (6101) .
(31) فتح الباري 10/513.(40/18)
خواطر في الدعوة
حسداً من عند أنفسهم
محمد العبدة
من الشبه التي يرددها أعداء الإسلام كثيراً، بل قد تنقدح في نفس المسلم
أحياناً، هي شبهة التفرق وشدة الخصام والجدال، يقولون: إذا كان الإسلام هو
الحق الذي لا ريب فيه، فلماذا هذا التشتت وهذه الكثرة من الفرق، والمسلم
الضعيف يقول: لماذا لا نجتمع ولو على أي شكل من الأشكال وندع هذا الخصام
والأخذ والرد ونستريح من هذه المشاكل.
وللرد على هذه الشبه نقول: لابد أن يعلم المسلم أن الشيء الثمين والتحفة
النادرة تغري بالحسد والعداوة، فكيف إذا كان هذا الشيء سلعة معنوية وليست مادية؟ والإسلام في غاية الحسن والكمال، فعندئذ تنبعث النفوس التي ملئت بالحقد على الإيقاع به من الداخل، والتلبيس على المسلمين، ومحاولة التحريف والتبديل، حتى لا يبقى جوهر الإسلام صافياً.
لقد شَرِقَ اليهود والنصارى والفرس بحمل العرب لهذا الدين ونشره في الآفاق، وهيمنته على سائر الملل والنحل، وهو من الوضوح والقوة الداخلية فيه أن نوره
يبهر الأبصار، عندئذ كثرت سهامهم إليه وكثرت المؤامرات التي تريد اقتلاعه،
وجاس عبد الله بن سبأ وأتباعه خلال الديار، وانتشرت الباطنية تتستر بالإسلام،
وتأثر بهم أصحاب الأهواء أو ضعاف العقول فكثرت الفرق، وإذا كان الإسلام قد
أزاح عروشاً سياسية فإنه أزاح أيضاً رئاسات دينية من الكهنة والأحبار، خدعوا
الشعوب وأكلوا أموال الناس بالباطل، وهؤلاء حقدهم أشد، وعداوتهم أقوى، كل
هؤلاء قاموا بإثارة الشبهات فتلقفها ضعاف الإيمان فكثر الخلط، وأما المسلمون
الضعاف الذين لا يدفعون الشبهات بالإيمان القوي والثقة بهذا الدين أو النظر إلى
مواقع القدر الشرعي والكوني؛ هؤلاء الذين يتمنون في داخل أنفسهم أن لو يجتمع
المسلمون تحت اسم (الإسلام) ، ولو كان أحدهم يحمل من البدع الكبيرة والصغيرة
ما يصل إلى درجة الكفر، هؤلاء نقول لهم كما قال أحد العلماء:
«إن الحق لا ينقلب باطلاً لاختلاف الناي فيه، ولا الباطل يصير حقاً لاتفاق
الناس عليه، وسلامة الإنسان عن الخطأ ليس بمطموع فيه، ولكن الطمع في أن
يكثر صوابه» ..(40/26)
تراث
أوقفوا هذا العبث!
محمد عبد الله آل شاكر
إن تراث كل أمة من الأمم هو ما يتناقله الخلف عن السلف، من علوم
ومعارف متنوعة، في الدين والفكر والأخلاق، وفي سائر جوانب الحياة العلمية.
وكل أمة من الأمم التي تعنى بحضارتها؛ تعتز بتراثها، وتقف حياله وقفة
إكبار وإجلال؛ فهو يربط حاضرها بماضيها بسلسلة من النسب العريق. ولذلك
يحتل مكانته التي تليق به، وتسمو مكانة هذا التراث وتعظُم أكثر عندما يتصل
بعقيدة الأمة وفكرها الديني، ويقوم على الوحي الإلهي مصدراً وغاية. وعندئذ
يكون من حق هذا التراث على أبناء الأمة الغيورين، أن يحافظوا عليه، فيصدُّوا
عنه غارات المغيرين، وينفوا عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال
المبطلين؛ وأن يأخذوا على أيدي العابثين الذين يعملون فيه معاول الهدم والتخريب، شعروا وقصدوا ذلك أو لم يشعروا أولم يقصدوا.
وقد كان ذلك؟ فهيأ الله تعالى لتراث أمتنا حراساً أمناء، اعتنوا به عناية فائقة، وقاموا بجهود كبيرة مشكورة، يدفعهم إلى ذلك: إيمان بقدسية هذا التراث،
وغيرة على منهج الأسلاف.
ومع النهضة المعاصرة والصحوة الإسلامية التي تفتحت عليها أعين الجيل،
اشتدت العناية بالتراث، والذي يتابع حركة النشر وما تدفعه المطابع، يجد كمّاً
كبيراً أو سيلاً من المطبوعات، يدفع إلى إبداء بعض الملاحظات التي لا يخطئها
النظر. أحببت أن أعرضها على قراء «البيان» لعلهم يرون فيها رأياً، أو
يصححون فيها خطأ، أو يشاركون بجهد.
والذي آمله من الإخوة القراء وغيرهم: أن يكون مستقراً في الأذهان؟ أن
هذا لا يعني انتقاصاً - بأي حال من الأحوال - لجهد طيب يبذله مؤمنون صادقون، يعرفون للكلمة قدسيتها، وللتراث قيمته، فيعكفون على خدمته: دراسة وإشاعة
في الأمة، في حلة زاهية وثوب قشيب، بعد جهد ومعاناة، يتعانق فيهما الشكل مع
روعة المضمون.
كما لا يعني إبداء هذه الملاحظات - أو النصائح - أن كاتبها يجعل من نفسه
حكماً على غيره، يقوِّم أعمالهم وجهدهم.
ولكنها ملاحظات على ظواهر نراها بارزة، ونسعى للتخلص منها؛ تجويداً
للعمل وتصويباً للطريقة.
ولست في هذا بمبتدع، فقد سبق كثير من الباحثين والكتاب الأفاضل، برصد
بعض الظواهر وإبداء ملاحظاتهم، ورفعوا عقيدتهم بصيحات مخلصة -إن شاء الله
تعالى - تهدف إلى وقف الخطر على تراثنا.
تجد هذا في ما تقرؤه في كتاب «التعالم، وأثره على الفكر والكتاب»
لفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وفي «أخطار على المراجع العلمية لتراث
أئمة السلف» للشيخ عثمان عبد القادر الصافي، وفي مقالات بمجلة «البيان»
الغراء، آخرها في العدد السادس والثلاثين. فعزز ذلك عندي إبداء هذه الملاحظات
التي تتبعتها وسجلتها منذ سنوات، ولعلها تكاملت في معظمها الآن، فعلى بركة الله
وتوفيقه نعرضها على الإخوة الكرام.
«التحقيق» : بذل عناية خاصة بالمخطوط لتقديمه صحيحاً كما وضعه
مؤلفه. وتكاد كلمة المحققين والمعنيين بالتراث تُجمِع على أن الجهود التي تبذل في
كل مخطوط يجب أن يتناول البحث فيها: أولاً تحقيق عنوان الكتاب، ثم تحقيق
اسم المؤلف، ونسبة الكتاب إلى مؤلفه، ومن بعد: تحقيق متن الكتاب [1] ، ولكن
هذه القاعدة المسلَّمة أو البديهة، يضرب بها بعض المحققين عرض الحائط،
ويجعلونها تحت أقدامهم، ودبر آذانهم، فيبيحون لأنفسهم تغيير اسم الكتاب وعنوانه، ويستبدلون به اسماً آخر موهماً، مع أن الكتاب قد عرف منذ قرون واشتهر باسمه
الصحيح، فيأتي محقق مجتهد ومعلق بارع، يجانبه الصواب، ويجانب الأمانة
العلمية والخلق الإسلامي، فيعدو على تراث الأمة وحقوق العلماء، فيعمل في
مؤلفاتهم تشويهاً وتحريفاً.
والأمثلة على ذلك كثيرة تعزُّ على الحصر وهذه إشارة إلى بعضها:
* للعلامة بدر الدين بن عبد الله الشبلي (توفي 769 هـ) كتاب أسماه:
«آكام المرجان في أحكام الجان» وهو منذ سبعه قرون معروف بهذا الاسم
بين العلماء وطلبة العلم، وفي فهارس الكتب باسمه كاملاً ومختصراً. ومنذ سنوات
ظهر في سوق الكتب كتاب بعنوان تجاري يستهوي الباحثين عن العجائب والغرائب
في عصر العجائب الكثيرة التي نعيشها اليوم. هو «غرائب وعجائب الجان كما
يصورها القرآن والسنة» ، تحقيق وتعليق إبراهيم الجمل، (مكتب الخدمات
الحديثة بجدة، عام 1982م) ، وكأن القرآن الكريم أنزله الله تعالى ليكون كتاب
عجائب وغرائب، وكذلك وردت السنة النبوية!
والذي يتبادر للذهن أنه كتاب غير الكتاب الأول بكل تأكيد، للمفارقة التامة
بين العنوانين، فالأول أحكام، والثاني عجائب.. وهذا يدفع لاقتناء الكتاب،
وخاصة لمن يتابع القراءة في مثل هذه الموضوعات أو يبحث فيها. ثم يفاجأ بأن
الكتاب نفسه عنده بعنوان آخر.
ولن تحتاج إلى جهد كبير لتقف على معرفة الجاني الذي عدا على الكتاب
بالمسخ وتغيير هويته، فستطالعك مقدمة محقق الكتاب بكل صراحة ووضوح:
«.. فغيَّرنا اسمه إلى: عجائب وغرائب.. ليلائم روح العصر» . (أقول: لا عجب أليس الإسلام ملائماً وصالحاً لكل عصر؟) وهذا التعليل أَعْجَبَ ناشر الكتاب
فقال مادحاً المحقق، مزكياً عمله: «وقد أحسن المحقق (!) إذ عدَّل في عنوان
الكتاب فجعله: غرائب وعجائب الجان.. حتى يعكس العنوان حقيقة المصدر الذي
اعتمد عليه المؤلف، فيطمئن القارئ إلى أنه سيقرأ كتاباً مستمداً من نور القرآن
الكريم والسنة المطهرة، خالياً من الشعوذة والخرافات التي عمّ انتشارها عن الجن
وأحوالها وعلاقتها بالناس» ! !
ولست أدري - ولا أخال عاقلاً يدري - كيف يطمئن القارئ إلى ما يقرأ،
وكيف يثق بالنص أمامه وهو يجد الإقرار على التحريف والتزوير الذي سماه
المحقق «تغييراً» ، وسماه الناشر «تعديلاً» ، كيف يطمئن لصحة النص وهو
يجد ذلك منذ وقعت عينه على غلاف الكتاب ثم على الورقة الداخلية، ويجد الإقرار
ممهوراً بتوقيع الجاني وشهادة الناشر!
فهل يظن حضرة المحقق أو الناشر أن هذا التراث نهب لكل من أراد، أو أنه
مزرعة آلت إليه ملكيتها بالإرث من أحد آبائه، وهو الوارث الوحيد، فله الحق أن
يفعل فيها ما يشاء دون رقيب أو حسيب؟ فماذا لو كان هناك وارث آخر وبدا له أن
يغير العنوان مرة ثانية (لأنه شريك في التركة) بعد سنوات ليكون ملائماً «لروح
العصر» أيضاً؟
ثم ما هذا التدليس والتغرير بالقراء بهذه العبارة: «كما يصورها القرآن
والسنة» ، أهي متاجرة بالدعوة للعودة إلى المصادر الأولى: الكتاب والسنة، بين
جيل الصحوة الذي يجد في هذه الدعوة تحقيقاً لأمله؟
أما اطمئنان القارئ إلى أنه سيقرأ كتاباً معتمداً على الكتاب والسنة، فيكفيه أن
يكون الكتاب عنوانه «أحكام الجان» فإن الأحكام في الإسلام مستمدة من الكتاب
والسنة والمصادر التبعية الأخرى، بينما العجائب والغرائب التي حشرها المحقق
ليست كذلك. فما كان جديراً بالمحقق ولا الناشر أن يتاجرا بهذا الكلام ويطمسا
الحقيقة. وأي شعوذة أو خرافة أكثر من هذا العمل في علاقتها بهذا الكتاب!
* وليس هذا الكتاب الوحيد الذي يتلاعب «الأستاذ الجمل» به، فيبدو أنه
استمرأ العملية هذه واستملحها، وساعده على ذلك ناشرون آخرون، فإن ابن غانم
المقدسي له كتاب اسمه: «مجموع منتخب في مصايد الشيطان، وذم الهوى»
فسطا عليه المحقق وعبث فيه، فجعل عنوانه: «مصائد الشيطان وذم الهوى،
مختصر إغاثة اللهفان لابن القيم» لابن غانم المقدسي (مكتبة القرآن، القاهرة،
1982 م) .
وبالتأكيد لم يكن هذا سهواً أو جهلاً بحقيقة اسم الكتاب، بل كان عن عمد
وقصد، والشهادة على هذا بالزنكوغراف في الكتاب وفي صورة الصفحة الأولى
من المخطوط، والعنوان واضح فيها وضوح الشمس في رابعة النهار!
* للحارث بن أسد المحاسبي كتاب اسمه «العقل، وفهم القرآن» وقد نشره في بيروت الدكتور حسين القوتلي، (دار الكندي 1402 هـ) ولكن محقَّقاً آخر هو- الأستاذ أحمد عطا، نشر الكتاب ثانية في القاهرة بعنوان:
«المسائل في أعمال القلوب والجوارح والعقل» تضمن كثيرً من السهو والخطأ
والاجتهادات الشخصية في تغيير النص.. ويستطيع القارئ اكتشاف ذلك كله بالمقارنة بين النشرتين للكتاب. (مقدمة القوتلي ص 7) .
* ثم ظهر كتاب آخر للإمام الآجري - رحمه الله - بعنوان: «أخلاق أهل
القرآن» محققاً في بيروت بإشراف المكتب السلفي لتحقيق التراث (!) وعنوانه
الصحيح الذي وضعه له المؤلف «آداب حملة القرآن» وحقَّقه تحقيقاً نفيساً وقدم له
بدراسة قيمة فضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ، وجدير بالقارئ أن يقرأ ما كتبه
الدكتور عبد العزيز في هذا المجال عن الكتاب وعن تحقيقه. وحسبنا هنا هذه
الإشارة.
ومنذ زمنٍ وجدنا الشيخ محمد منير الدمشقي - رحمه الله - يرفع عقيرته
بالشكوى من «العوام الذين يقرؤون ويكتبون وليسوا بعلماء ولا متعلمين، وهؤلاء
كثيرون جداً في جميع الممالك الإسلامية والبلاد العربية، وهم أغلب باعة الكتب
التي تروج بين غالب أهل الإسلام، وهؤلاء أهل مادة فقط، فكلما أرادوا نشر كتاب- كثر طلابه وتكرر استجلابه وقامت سوقه - تهافتوا عليه تهافت الفراش بدون
نظر لنفعه أو ضرره، وصحته أو سقمه، حتى إنهم ربما نسبوا الكتاب إلى غير
مؤلفه أو غيروا اسمه، وزيد عليه اسم آخر مخترع، يرغب سامعه ويشوق شاهده، وليس بغريب من أمثال هؤلاء العوام مثل ذلك، بل الذي يعجب منه ويستهجن:
إقرار العلماء على ذلك وإصرارهم على السكوت وعدم التعرض لذلك كتابة ونشراً،
ولو نبه العلماء على ذلك وبينوا أن هذا خيانة وتصرف فيما للغير بغير إذنه لا
يجوز بحال، لارتدع الناشر والطابع والمنفق، ولما تجاسر أحد على أمثال ذلك،
وإذا لم يكن العلماء يحافظون على مثل هذا وينبهون عليه، فمن المكلَّف بذلك؟»
(انظر كتابه: نموذج من الأعمال الخيرية ص 78) .
وللحق لم يكن عمل هؤلاء الذين ذكرهم الشيخ باسم التحقيق الذي يتبجح به
الناس اليوم، وإنما كان الدافع لهم الحرص على التجارة الخاسرة أو الجهل والعامية، فما بال محققي القرن العشرين اليوم؟ ! ثم إن أولئك عوام وهؤلاء متعلمون!
ثم يفْجَأ القارئ أو طالب العلم، بعد ذلك، عناوين جديدة لعلماء معروفين،
فيظنها كتباً جديدة تنشر للمرة الأولى، فيسارع إلى اقتنائها فيجد عجباً، إذ هي
منتزعة من كتب أخرى أو مسلوخة منها سلخاً، طبعت في كتاب مستقل بعنوان
جديد، فيقال مثلا: «خصائص يوم الجمعة» تأليف شمس الدين محمد بن أبي
بكر بن قيم الجوزية. هكذا: «تأليف» ، باللفظ الصريح دون الكناية أو التلميح.
وعندئذ يقطع الناشر أو المحقق قول كل قائل، إذن فالكتاب بهذا الشكل والمضمون
كتاب من تأليف فلان. ويمضي هذا التدليس دون أي إشارة إلى ذلك على غلاف
الكتاب أو صفحة العنوان الداخلية، وقد تجد شيئاً من هذا أحياناً في المقدمة على
خجل واستحياء، أو على خوف من اكتشاف التلاعب وبوار الكتاب. وقد لا تجد
هذا ولا ذاك، فتعرف الحقيقة بمجرد الاطلاع على الكتاب ومعرفة كتب المؤلف.
وهذا العمل فيه تدليس وتلبيس على القارئ، ونسبة كتاب جديد لمؤلف لم
يكتبه بهذا العنوان أو الشكل، فكأنه ينسب لرجل ولداً جديداً لم يلده!
ونجد كثيراً من الأمثلة على هذه البدعة الجديدة، يتأكَّل فيها بعض «المحققين» و «الناشرين» و «المشرفين» بأسماء أعلام كبار كابن تيمية، وابن القيم، وابن
حجر، والغزالي، والرازي وغيرهم، ويتولى كِبْرَ هذا العمل الخاطئ أصحاب
مكتبات يستغلون أسماء لها مكانتها ووقعها في نفوس المسلمين، ويشوهون بذلك
صورتهم الوضيئة في نفوس الناس، لارتباط هذا العبث باسمهم، فتجد «مكتبة
الصحابة» «مكتبة التراث الإسلامي» ، «المكتبة القيمة» .. وانظر ما شئت
من هذه الأسماء التي تزين أغلفة الكتب «المسلوخة» بأقلام «أبي فلان»
و «أبي علان» (عفا الله عنهما) .
وحتى لا يظن أحد أنني ألقي الكلام على عواهنه، أسوق بعض الأمثلة لهذه
التآليف المزعومة:
* «كتاب التوبة» تأليف ابن قيم الجوزية، تحقيق صابر البطاوي مكتبة دار
السنة، الدار السلفية للنشر، بالقاهرة الطبعة الأولى 1410هـ. وهو من كتاب
«مدارج السالكين» المطبوع في ثلاثة أجزاء.
* «خصائص يوم الجمعة» تأليف ابن القيم، المكتبة القيمة بالقاهرة وهو
فصل من «زاد المعاد» .
* «حكم الإسلام في الغناء» لابن القيم. وعليه اسم: أبو حذيفة إبراهيم بن
محمد (وهذه المرة ليس فيها كلمة تحقيق ولا جمع ولا إعداد) مكتبة الصحابة
(رضوان الله عليهم) طنطا 1406 هـ. وهو فصل من كتاب «إغاثة اللهفان» .
* «معجم التداوي بالأعشاب والنباتات الطبية» لابن القيم (أيضاً) مكتبة
التراث الإسلامي لصاحبها عبد الله حجاج، ويبدو من المقدمة أنه الذي فعل ذلك
فقال بعد أن ذكر كتاب «الطب النبوي» : قال: «.. سلخت (ما شاء الله على
هذا السلخ!) منه هذه المفردات الطبية التي وردت على لسانه -صلى الله عليه
وسلم- ... » الخ.
* «السحر والكهانة والحسد» ، للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، جمع
وإعداد عبد الله حجاج - هو نفسه - مكتبة التراث الإسلامي. وهو مأخوذ من
أبواب عدة من كتاب «فتح الباري شرح صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني
-رحمه الله-.
* «المسيح الدجال وأسرار الساعة» تأليف العلامة محمد السفاريني، مكتبة
التراث الإسلامي، الناشر عبد الله حجاج (شاطر يا حجاج) .
وكلمة تأليف تعني أنه ألّف كتاباً بهذا الاسم، وهذه هنا أكثر تدليساً. وهو
مأخوذ من الجزء الثاني من كتاب «لوامع الأنوار البهيَّه» للسفاريني ص 65 وما
بعدها. ولم يُشر حضرة الناشر إلى ذلك.
وكذلك أُخذت فصول ومباحث كثيرة من «إحياء علوم الدين» للغزالي،
و «التفسير الكبير» للفخر الرازي.. ونشرت بكتب مستقلة مثل «الموت وعذاب
القبر» ، و «السحر وحقيقته..» الخ، حتى طال الأمر، وعجزت عن تتبع
ذلك كله، مما ينبئ أن في الأمر خطورة وإلى الله المشتكى.
وليس هذا كل ما في الأمر، فإن هناك ملاحظات أخرى يضيق عنها المجال
الآن، فلنرجئها إلى مقال آخر، بإذن الله تعالى.
__________
(1) راجع: تحقيق النصوص ونشرها، د عبد السلام هارون، قواعد تحقيق المخطوطات للدكتور المنجد، محاضرات في تحقيق النصوص للدكتور أحمد الخراط.(40/28)
اجتماع
علماء الاجتماع والعداء للدين
وللصحوة الإسلامية
(1)
د. أحمد إبراهيم خضر
لماذا يعادي رجال الاجتماع في بلادنا الدين والصحوة الإسلامية وحركاتها؟
إن موقف علماء اجتماع الغرب المعادي للدين بصفة عامة، وللإسلام
وللصحوة الإسلامية وحركاتها بصفة خاصة لا يحتاج إلى مزيد عناء للكشف عن
أسبابه ودوافعه. أما أن يعادي رجال الاجتماع في بلادنا دينهم والصحوة الإسلامية
في بلادهم، فإن هذا الأمر يحتاج إلى وقفات.
أشاد رجال الاجتماع في بلادنا بما قام به أتاتورك فيما يسمونه بعملية تخليص
الشؤون الدنيوية من الدين بمنع التربية الدينية في المدارس، واعتماد القانون
الأوربي بعد إلغاء الشريعة الإسلامية، وتأميم الأوقاف، وتقليص قوة علماء الإسلام، ومنع أي إشارة إلى الإسلام في الدستور [1] ، ورأوا في ذلك إنجازاً كبيراً رسم
لهم طريقاً رائداً في تخريب النسيج الاجتماعي في عالمنا العربي [2] .
وبينما استمر رجال الاجتماع في المشاركة في عملية تخريب النسيج
الاجتماعي في بلادنا باغتتهم الصحوة الإسلامية وحركاتها التي عمت كل المجتمعات
العربية بلا استثناء، واستهدفت إعادة تركيب النسيج الاجتماعي بصورة مكثفة وفق
المقياس الأوحد والمعترف به وهو الإسلام.
يقول علي الكنز أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر: (وفي هذا السياق نجد
بأن الموقف يستهدف إعادة تركيب البنى الاجتماعية والسياسية في المجتمعات
العربية وكذلك الذهنيات الجمعية والفردية وفق منظور محوري وهو الإسلام.. هذه
الحركة الجديدة التي تخضع لها المجتمعات العربية دون استثناء تشكل في الأساس
عملاً داخلياً مرتبطاً بهذه المجتمعات، ومستهدفة إعادة تركيب نسيجها الاجتماعي
بصورة مكثفة، وفق المقياس الأوحد المعترف به وهو الإسلام. وتتسم هذه الحركة
الجديدة في بنيتها وفي تطورها مع بعض الاختلافات الطفيفة بالمميزات الأساسية
نفسها في مختلف المجتمعات العربية) [3]
وحينما أفاق رجال الاجتماع في بلادنا من صدمة مباغتة الصحوة الإسلامية
لهم تساءلوا أين كانوا وقت حدوثها؟ لم يكن رجال الاجتماع على امتداد عالمنا
العربي يتوقعون هذه الصحوة، كانوا يعتقدون أن تجارب التنمية في هذا العالم وما
يسمون بانتصاراته الوطنية قد شهدت ميلاد ثقافة جديدة خلفت الدين وراءها لتساير
ما يسمونه بالتطور الاقتصادي والاجتماعي في كل بلد.
يقول علي الكنز متحسراً: (من كان يظن أيام ميثاق القاهرة بأن مصر
الثمانينات سوف تواجه كمجتمع وكدولة تلك المسألة التي أصبحت محورية، ألا
وهي طبيعتها الإسلامية، وأن سيد قطب في مواجهته لعبد الناصر سيصبح يوماً ما
شهيد الجماهير، وأن حزب حسن البنا (الإخوان المسلمون) سيحظى يوماً ما في
أوساط بعض الشبان الجزائريين بمعرفة تفوق معرفتهم لتاريخ جبهة التحرير
الوطني) .
ويستمر علي الكنز قائلاً: (والسؤال الذي يفرض نفسه علينا اليوم هو: أين
كان الخيال السوسيولوجي من كل هذا في وقت عرف كبريات التجارب التنموية
لآمال معقودة عليها مثل سلسلة الإصلاحات التي توالت في مختلف البلدان العربية،
وكذلك التأميمات الكبرى، انطلاقاً من قناة السويس عام 1956 إلى المحروقات في
الجزائر عام 1971، والانجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الهائلة، مثل
سد أسوان - ومركبات الحديد والصلب، وكبريات الجامعات العلمية والتقنية؟) [4]
وعن عدم توقع رجال الاجتماع للصحوة الإسلامية يستطرد علي الكنز قائلاً:
(نقول بأن هذه الظاهرة غير متوقعة؛ لأن الانتصارات الوطنية التي شهدها الوطن
العربي في الخمسينات، وظهور حكومات وطنية كما كانت الحال في كل من سوريا
والعراق والجزائر شهدت ميلاد ثقافة جديدة كانت مسايرة للتطور الاقتصادي
والاجتماعي في كل بلد، على الرغم مما عرفه كل بلد من نزاعات عديدة بين
مختلف المجموعات المتصارعة، مثل الوطنيين والشيوعيين والليبراليين) [5]
كان رجال الاجتماع في بلادنا يتصورون أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية
ومهام التنمية في عالمنا العربي قد قلصت من مكانة الدين، وحولته إلى مسألة
شخصية لكنهم فوجئوا، بأن الدين يستعيد حيويته ويفرض هيمنته على جميع
جوانب الحياة.
يقول علي الكنز معترفاً: (كنا نعتقد ببساطة أن المشاكل الاقتصادية
والاجتماعية المعروفة وأن المهام المعقدة للتنمية سوف تقلص تدريجياً من مكانة
الدين في الضمير الجمعي فيصبح في النهاية قضية شخصية بحتة تماماً مئلما حدث
في مجتمعات أخرى، وبخاصة الغرب البرجوازي، غير أننا ها نحن اليوم أمام
هذا النموذج الكلياتي وهو يستعيد حيويته ويستهدف فرض هيمنته على جميع
جوانب الحياة) [6]
اعترف رجال الاجتماع بأن «القومية» و «الوطنية» ليستا بقادرتين على
البقاء أو جذب الجماهير للالتفاف حولهما؛ لأن الإسلام أصبح المكافئ الوظيفي لهما.
يقول سعد الدين إبراهيم أستاذ الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة:
(إن الإسلام الثوري للجيل الحالي من أبناء الطبقة الوسطى والصغيرة في
الأمة العربية هو المكافئ الوظيفي للقومية العربية منذ جيل مضى، كما أنه مكافئ
للوطنية المناهضة للاستعمار منذ جيلين سبقا على الطريق) [7]
ويعترف سمير نعيم أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة بذلك في مقالة
شديدة العداء للجماعات الإسلامية في مصر فيقول: (شهدت مصر منذ تشرين
الأول / أكتوبر 1972 ما يمكن أن نطلق عليه تلازماً بين ما سموه بالصحوة
الإسلامية، والتنظيمات الإسلامية العلنية والسرية، وبين غياب القضية العامة التي
تلتف حولها الجماهير أو المشروع الحضاري أو التنموي) [8] .
أسقطت الصحوة الإسلامية تلك العقلانية التي تعلق بها رجال الاجتماع لفهم
الواقع الاجتماعي والسياسي بعد أن سقطت تلك الأحزاب والتنظيمات التي حملتها
الواحد تلو الآخر، بالرغم من سيرها وفق الخطوط التي رسمت لها لتحل محلها
التنظيمات الإسلامية التي اعتقد رجال الاجتماع أنها تنظيمات غريبة تجاوز التاريخ
إلى الأبد.
يقول علي الكنز متحسراً: (من كان يظن بأن كبريات الأحزاب الوطنية
المنجزة كقوى عقلانية لهذه التحولات العميقة لكل من الطبقة والمجتمع مثل حزب
البعث في سوريا والعراق، والاتحاد الاشتراكي في مصر، والدستور في تونس،
وجبهة التحرير الوطني في الجزائر سوف يأتي يوم ينهار فيه الواحد تلو الآخر؟
وما هو ملفت للانتباه حقاً في هذا الشأن هو أنه لم يحل مكان هذه الأحزاب تنظيمات
أخرى على يسار أو على يمين النهج المرسوم بالنسبة للكل، وإنما تنظيمات غريبة
وثقافة كان يعتقد آنذاك أن السير الموضوعي للتاريخ قد تجاوزها إلى الأبد) [9] .
جاءت الصحوة الإسلامية لتثبت لرجال الاجتماع أن هذه (العقلانية) التي
علقوا عليها آمالهم لفهم الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي قد أصبحت عاجزة
على الصعيدين النظري والمنهجي في فهم هذا الواقع، ولتصيب هذا التفكير
(العقلاني) بأزمة عميقة وخيبة أمل.
يقول علي الكنز معترفاً:
(إن اقتحام التفكير الديني للأيديولوجية العربية المعاصرة بهذه الشدة ليدل في
الحقيقة على أزمة عميقة تمر بها مجتمعاتنا اليوم، وهذا ما يراه كثير من المحللين
ويعتمدونه في دراساتهم، غير أن هذا الأمر قد يتعلق أيضاً بمؤشر أو بمبرر لأزمة
عميقة أصبح يعاني منها التفكير العقلاني، وكذلك عجز هذا التفكير على الصعيدين
النظري والمنهجى في فهم واقع اجتماعي وثقافي وسياسي لم يتوقع حدوثه من قبل) .
وعن خيبة الأمل التي أصيب بها رجال الاجتماع يقول علي الكنز في إحدى
دراساته [10] :
(إني أريد من خلال تدخلي هذا أن أقوم بمساهمة متواضعة في تحديد هذا
المجال الجديد للبحث الذي يفرضه علينا ما عرفناه من خيبة أمل في تاريخنا الفعلي، وفي قدرتنا على معرفته علمياً) .
لم تكن العقلانية فقط هي التي سقطت مع ظهور الصحوة الإسلامية وإنما
سقطت معها كل شعارات التحديث والعلمنة وبناء المجتمع وضمان الرفاهية التي
دخلت هي نفسها في أزمة خانقة عميقة وحادة أيضاً.
يعترف (الهرماسي) أستاذ الاجتماع بالجامعة التونسية:
(لقد جابهت الإنسانية في أواخر هذا القرن عدة أزمات مختلفة، كأزمات
الغذاء والطاقة والفقر، وما من شك في أن مثل هذه الأزمات قد حد من قدرة البشر
على إيجاد حلول ناجعة لمجمل المشاكل المطروحة عليهم، حتى عندما تكون هذه
المشاكل واضحة تمام الوضوح، وبالتالي فإن الأيديولوجية العصرية التي ما انفكت
تحمل شعارات التحديث والعلمنة، والتي اضطلعت ببناء الدولة العصرية، ونحت
معالم المجتمع الحديث وضمان الرفاهية دخلت هي نفسها في أزمة خانقة عميقة
وحادة) [11]
لقد نجحت الصحوة الإسلامية تلك التي لم اعتقد رجال الاجتماع أنها لا تتفق
مع متطلبات العصر في إحباط ما أسموه بالمحاولات الجريئة للفكر العربي المعاصر، وساهمت في الأزمة التي آل إليها.
يقول علي الكنز معترفاً:
(إن هذا المنظور الجديد للوطن العربي والعالم الإسلامي يبدأ أولاً وقبل كل
شيء كظاهرة لم نكن نتوقعها وغير متفقة مع متطلبات العصر، ومن حيث هو
كذلك فقد ساهم بقسط وافر في الأزمة التي آل إليها الفكر العربي المعاصر الذي
يشهد اليوم إحباط أقل محاولاته جرأة) [12] .
راقب رجال الاجتماع في بلادنا هذه الصحوة الإسلامية عن كثب على أمل
يراودهم وهو محاولة التحكم فيها، وسجلوا على أنفسهم بأنهم يقومون بهذه المحاولة
مسترشدين بنفس الإطار الغربي الذي يرصد هذه الصحوة باهتمام بالغ.
يقول محمد شقرون أستاذ الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالمغرب: (إن
المشكل الأساسي الذي يطرح بالنسبة إلى البحث في هذه الظرفية الجديدة هو التحكم
في الاتجاه الجديد الذي يريد أن يرى في الدين كل شيء، ويمكن أن تعتبر المكانة
التي أصبحت تحظى بها دراسة الحركات الدينية الجديدة في سوسيولوجيا الدين
الانجلوسكسونية مادة خصبة للتفكير في هذا الإطار) [13]
توصل رجال الاجتماع في بلادنا في تحليلاتهم للصحوة الإسلامية وحركاتها
إلى ما يلي:
أولاً: أن الحركات الإسلامية تسعى إلى تحقيق هدف أساسي كان ولا يزال
ينحصر في محاولة العودة بالمجتمع العربي الإسلامي إلى النموذج الذي وجد في
صدر الإسلام أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين [14] .
ثانياً: أن هذا الهدف الذي تسعى لتحقيقه هذه الحركات كان ولا يزال يستمد
شرعيته وتبريره من الإيمان الراسخ لدى منظري وقادة هذه الحركات، وغالبية
المسلمين من جهة أخري بأن الإسلام نظام حياة شامل يصلح لكل زمان ومكان،
ولذلك كانت هذه الحركات تصر على أسلمة المجتمع وعلى اعتبار الإسلام ديناً
ودولة [15] .
يقول (عاطف عضيبات) أستاذ الاجتماع في جامعة اليرموك بالأردن في لهجة
تحد وعداء: (إن التاريخ العربي-الإسلامي برمته يشهد على استحالة الرجوع إلى
الوضع الذي كان قبل العام الأربعين للهجرة، وجميع المحاولات للعودة إلى بدء
عهد الدعوة الإسلامية أو إلى مزج الزمني بالروحي مصيرها الفشل في يومنا هذا،
كما كان حالها بالأمس وكما ستكون غداً. [16]
ويقول عضيبات في موقع آخر: (وكلما تقدمت الأزمنة بالعرب المسلمين
زادوا من إضفاء المثالية على تلك الحقبة التاريخية التي لم تتجاوز نصف قرن،
وكلما ألهمت سيرتها خيال ووجدان الرافضين للواقع المعاش إلى المجتمع
الفاضل) [17] .
ثالثاً: ترجع الحركات الإسلامية باستمرار إلى الكتاب والسنة لفهم كل
المشاكل التي تطرحها علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة والانتاج والفكر والثقافة
والمجتمع والقانون.. الخ. فكل تفكير سواء أكان علمياً أم غير علمي، جمالياً،
أخلاقياً، وسياسياً هو في النهاية مجرد عمل تفسيري وتأويلي لما جاء في الكتاب
والسنة [18] .
يقول علي الكنز بلهجة ساخرة: (في هذا السياق نجد حركة الأصوليين تمجد
العصر الذهبي الأول حيث يصبح الأسطورة المؤسسة للتاريخ الفعلي، أي للإسلام، كما هو موجود فعلاً -إن صح التعبير- هذا الإسلام الذي يجب أن يفرض بصورة
مطلقة وشاملة باعتباره المعيار الأوحد لتصور ما حدث في التاريخ وما سيحدث في
المستقبل) [19] .
رابعاً: ترفض الحركات الإسلامية أن ينحصر نشاطها في المجال الديني فقط، وهي لا تقر بالفصل بين الدين والحياة الاجتماعية بصورة عامة، وتعتبر هذا
الفصل موقفاً غريباً لا يمت إلى الإسلام بصلة، وإن التمييز بين ما هو ديني
ودنيوي غير وارد بالنسبة لهذه الحركات التي ترفض كل علمنة وتعتبر نفسها في
الوقت ذاته حركة دين ودنيا ودولة [20] .
خامساً: تقوم الحركات الإسلامية على أساس الشرعية الإسلامية، بمعنى
تطبيق الشريعة الإسلامية ووترفض أن تطرح هذه الشرعية على أساس آخر،
ويعني هذا عند رجال الاجتماع أن هذه الحركات تتجاهل كل الثقافة العصرية التي
تعتبرها أجنبية وغريبة بما فيها مسألة الديمقراطية والصراع الطبقي.
سادساً: تسعى الحركات الإسلامية إلى إقامة الخلافة الإسلامية، كما أنها
تنظر إلى العالم على أساس ثنائية دار الإسلام ودار الحرب. وهي تهمل بذلك -
كما يرى رجال الاجتماع - الإشكالية العصرية المتمثلة في الدولة الوطنية،
وتجارب التنمية الوطنية المختلفة التي شهدها الوطن العربي.
وبإسقاط الحركات الإسلامية مسائل الديمقراطية والصراع الطبقي والدولة
الوطنية وتجارب التنمية من حساباتها تكون قد سحبت من يد رجال الاجتماع
مرتكزات أساسية يعتمدون عليها في تبرير وإثبات وجودهم وأهميتهم للجماهير.
سابعاً: يبدأ الإعداد لهذه الحركات في المدارس والجامعات؛ ليمتد بعد ذلك
إلى نشاطات تستهدف مراقبة المجتمع انطلاقاً من المساجد لينتهي في الأخير إلى
المواجهة المعلنة مع الدولة والنظام السياسي من خلال أحزاب في سياسية تتخذ
الإسلام قاعدة لها.
ثامناً: انتقلت الحركات الإسلامية من موقف دفاعي إلى موقف هجومي بفضل
تطور القضايا التي رسمت علامات حركتها كالإصلاحات التربوية والتنديدات
الأخلاقية والانتقادات السياسية عبر المساجد والمؤسسات والأحزاب السياسية.
تاسعاً: لا تختلف الموضوعات التي تتمحور حولها الحركات الإسلامية من
بلد عربي إلى آخر، وتتسم هذه الموضوعات بالبساطة، وتتبلور حول مسائل لا
تضيف في حد ذاتها أي جديد ملفت للانتباه، بل تكمن أهميتها في طريقة عرضها
وفي فعاليتها الأيديولوجية.
عاشراً: تمكنت الحركات الإسلامية من التغلغل في القطاعات الاجتماعية
المختلفة، وكونت قاعدة اجتماعية واسعة لمواجهة الأنظمة القائمة، ومحاولة العودة
بالمجتمع الإسلامي إلى منابعه الأصيلة [21] ، كما نجحت في اختراق التنظيمات
الطلابية وسيطرت على اتحاداتها وامتد تأثيرها إلى أعضاء هيئة التدريس
بالجامعات [22] ، وذلك بسبب مرونتها وعموميتها التي جعلتها قوية وقادرة على
استيعاب قوى اجتماعية متباينة [23] يعني ذلك في نظر رجال الاجتماع أن
الحركات الإسلامية لا تقر التمايز الطبقي في المجتمع، وأنها تتعدى الطبقات
وتحتويها كلها في الوقت ذاته على عكس الأيديولوجيات والأنظمة الفكرية التي
ظهرت ابتداءً من القرن التاسع عشر والتي تصور المجتمع على أنه قائم على وجود
طبقات ومصالح اجتماعية [24] ، وتنظر الحركات الاجتماعية إلى المجتمع على
أنه كيان توحده العقيدة وليس كياناً يرتبط بمجرد مصالح عملية وعلاقات إنسانية
سطحية، وإذا أخذت هذه الحركات هذا التمايز في اعتبارها فإنها تفعل ذلك من أجل
التنديد بآثاره.
حادي عشر: الحركات الإسلامية متعددة الأبعاد تكتسح المجال الاجتماعي
عبر موجات متتالية تغمر بالتدريج كل جوانب الحياة الاجتماعية من تعليم وآداب
واقتصاد وسياسة، ولا ينجو منها أي جانب، حتى الهندام وكيفية الضحك والحب
يمكن أن يخضع لها في وقت ما، وهذا يعني في نظر رجال الاجتماع أنها حركة
شاملة وشمولية.
__________
(1) علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1990 ص 95.
(2) جلال أمين، بعض مظاهر التبعية الفكرية في الدراسات الاجتماعية في العالم الثالث.
(3) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 92.
(4) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 95-96.
(5) نفس المصدر ص 95.
(6) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 96.
(7) عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1990 ص 152.
(8) سمير نعيم، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990 ص 231.
(9) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 96.
(10) نفس المصدر ص 96-97.
(11) عبد الباقي الهرماسي، علم الاجتماع الديني، المجال والمكاسب والتساؤلات، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990 ص 30.
(12) على الكنز، الإسلام والهوية ص 94.
(13) محمد شقرون، الظاهرة الدينية كموضوع للدراسة، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990 ص 132.
(14) عاطف عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي ص 154.
(15) نفس المصدر ص 154.
(16) عاطف عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي ص 161.
(17) ننس المصدر ص 154.
(18) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 93-94.
(19) المصدر السابق ص 93.
(20) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 92.
(21) عاطف عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي ص 154.
(22) سمير نعيم، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني ص 233.
(23) علي الكنز نقلاً عن سمير أمين، الإسلام والهوية ص 92.
(24) علي الكنز، الإسلام والهوية ص 92.(40/36)
محاضرات
الجامعة في مجهر القراءة المعاصرة [*]
د. مصطفى السيد
أريد بمصطلح القراءة الوارد في عنوان هذه المحاضرة «نظرية القواعد التي
تحكم تأويلاً من التأويلات، أي تحكم تفسير نص من النصوص أو تفسير مجموعة
من العلامات التي يمكن النظر إليها بوصفها نصاً» .
(والسبب وراء شيوع مصطلح القراءة بمثل هذا التصور في ثقافتنا العربية
المعاصرة راجع إلى الرغبة في تأكيد الطابع التفسيري لكل فعل من أفعال القراءة
في مختلف المجالات الثقافية من جانب، وتأكيد الدور الذي يقوم به القارئ في
عملية القراءة من جانب ثان، وتأكيد الطبيعة المعرفية التي تصل القارئ بالمقروء
في عملية إنتاج معرفة جديدة من جانب ثالث) [1] .
هذه القراءة الإنتاجية هي نقيض للقراءة الاستهلاكية، والقراءة الإنتاجية فعل
حضاري وسلوك مدني، وهي بتوفيق الله السبب القوي لتغيير المواقع والواقع في
أي أمة، وهي معيار الحكم في الخلف في كثير من القضايا التي لا يكون الموضوع
سبب الاختلاف، بل يعود إلى الكم والكيف القرائي حول هذا الموضوع، ومثل هذه
القراءة لم تمت ولن تموت في عالمنا الإسلامي، ولكن الذي مات ولم يعد له جمهور
هو الكلام المكرر والفكر المبتسر، ولابد أن أشير إلى أن من لوازم هذه القراءة
الاطلاع المتكامل على العناصر، لأن المقروء وإن كان واحداً في النتيجة، فهو
ليس وحيداً في المسببات والمقدمات، أقول هذا لما يكتنف الحديث عن الجامعة
محاذير لا حد لها، ولعل أدهاها هو خطر السقوط في التنظير الأخلاقي المجاني
السهل، وهو أمر تميزت به كثير من القراءات وتوكأت عليه، وأرجو من الله أن
تربأ عنه هذه الدراسة، وقبل البدء نلقي هذا السؤال:
ما هي الجامعة؟
في المعجم الوسيط: (الجامعة مجموعة معاهد علمية، تسمى كليات تدرس
فيها الآداب والفنون والعلوم) [2] .
ويلحظ على هذا التعريف غياب العلوم الشرعية عن مفرداته، وفي ذلك
إخلال واضح بالصورة التاريخية للجامعة كما كانت عليه في تراثنا الجامعي المتمثل
في جامعة الأزهر؛ لأنها أقدم جامعة على وجه الأرض، حيث أنشئت عام 970 م، بينما أقدم جامعة غربية لا يتجاوز عمرها القرن الثاني عشر الميلادي، هذه
الجامعة الأزهرية كانت تحمل عبء الدراسة الشرعية واللغوية عبر القرون ولله
در أمير الشعراء أحمد شوقي القائل في فضل الأزهر [3] :
يا معهداً أفنى القرون جداره ... وطوى الليالي ركنه والأعصرا
ومشى على يبس المشارق نوره ... وأضاء أبيض لجها والأحمرا
وأتى الزمان عليه يحمي سنة ... ويذود عن نسك، وبمنع مشعرا
وهناك تعريف آخر «المؤسسة التي تتولى التعليم العالي» :
أما في الغرب فالكلمة مأخوذة من universitas، وقد أطلقت في العصور
الوسطى، كل المؤسسات التعليمية الجديدة وتعني: رابطة أو اتحاد بين مجموعة
بين الأفراد ينظمون بأنفسهم شؤون مهنة معينة) [4] .
ولكن من المهم ان نلاحظ أن الجامعة قد تحولت عن مفهوم كونها جامعة
أحادية الوظيفة لتصير قائمة على التعددية في الوظائف والأقسام، وهذا ما عبروا
عنه بالإنجليزية multiuniversity a to university From
وفي تعريف غربي معاصر للجامعة هي بالمعنى الدقيق:
(المؤسسة التي تعلم الطالب العادي أن يكون شخصاً مثقفاً وعضواً ناجحاً في
مهنة ما) [5] .
ولقد كان تعريف الجامعة ودورها يتطور في الغرب تبعاً للنظير الحضاري
والمعرفي، لأن الجامعة جزء من البنيان الفوقي للمجتمع، وتتأثر بالبنيان التحتي
وتؤثر فيه.
هي إذاً في متن الحياة العامة أوثق حلقاتها قربى وأكثرها أهمية [6] ؛ لأنها
(تحرض على الإبداع، وتستثير كوامن القلق، وتبعث هاجس العطاء الأصيل
المنفرد) [7] .
وأما اختيار الجامعة لهذه القراءة فلأنها تأتي في طليعة التشكيلات التي تحمي
عقيدة الأمة ووجودها الثقافي والعلمي، وتقف على خط الدفاع الأول ذائدة عن
حدودها الفكرية وتطلعاتها الثقافية، وجندها في ذلك فئة اجتماعية تعرف «المثقفة» التي تصوغ وعي الأمة وتقودها، وهي التي تتلقى مشاعر الأمة وآمالها النابعة
من عقيدتها، وحاجاتها الراهنة والمستقبلية والمتأثرة بتاريخها وتراثها، تتلقاها
وتحولها إلى وعي، وتحول الوعي إلى إرادة، وتحقق الإرادة في إنجازات.
إن النخبة من مدرسي الجامعة (إذ تقود الأمة فهي تنقل نشاطها في المقابل،
من حيز العلم الموضوعي اليومي الغارق في الجزئيات إلى مستوى العمل الإرادي
الفاعل النابع من رؤية شمولية) [8] .
وهي تفعل ذلك كله من خلال وظيفتها الرئيسية وهي:
«التحليل النقدي لعمليات إنتاج المعرفة ونشرها وتطبيقها» [9] .
وبذلك تكون الجامعة أحد المعالم الرئيسية لمؤسسات الأمة، كما في أدائها
لدورها المدخل الرئيسي لعمليات التنمية المعنوية والمادية للمجتمع المثالي المطلوب
إحداثه، من هنا مسؤولية الجامعيين، وكل القيمين على الجامعة في أن يكونوا
بمستوى حقيقة الجامعة ووظيفتها، ولا يمكن للجامعة أن تحقق سيادة العلم في وطنها
إذا لم تكفل سيادتها في داخلها أولاً، ولا أن تبعث القوى الخيرة في مجتمعها إذا لم
تكن هي قد حققت هذه القوى في صميمها، ولا أن تسهم في بناء حياة وطنها على
المبادئ والقيم، إذا لم تشد هي بنيانه ذاته على نفس هذه القواعد، وبقدر ما تكون
الجامعة ممثلة لهذه الحقائق على أرض الواقع، بقدر ما تكون النتائج متحققة حسب
التطلعات والآمال المرجوة منها.
في بحث لأستاذ العلاقات الاجتماعية بجامعة هارفارد بعنوان (فيروس العقل)
أجراه على أربعين بلداً وصل إلى هذه النتيجة: (وهي أنه كلما ازدادت مواد القراءة
في المؤسسات التعليمية التي تبحث على الأمل والعمل جاءت النتيجة بعد ذلك بنحو
عشرين عاماً زيادة في النمو الاقتصادي، والعكس كذلك صحيح، وكان من أهم ما
لاحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تقدمت بعد حين أنها احتوت على العلاقات
الاجتماعية التي تجعل الفرد يعمل من أجل نفسه ومن أجل سواه في آن معاً، كما
كان من أهم ما لاحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تدهورت بعدئذ أو واصلت
طريق التدهور أنها بالغت في الإشادة بالطرائق التقليدية في الفكر والسلوك) [10] ،
والتقليدية (اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقداً الحقيقة فيه من غير نظر
وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الخير أو فعله قلادة في عنقه) [11] .
ومن الطرائق التقليدية: الطريقة التلقينية التي تؤدي إلى الانقطاع بين
المجتمع ومضمون المواد الدراسية، لأن المعارف التي تلقن سواء منها ما ينتمي
إلى التراث، أو ينقل من العلم الحديث معارف غير مبيأة عربياً، غير معدة للغرس
والاستنبات في المجتمع؛ لاعتمادها أسلوب التلقين، ولقد كانت التلقينية التي
تسلسلت إلى العقل المسلم والثقافة الإسلامية حيناً من الدهر، وتقدمت المذهبية على
حساب المنهجية، كانت شذوذاً تأباه طبيعة الإسلام وعقيدة الإيمان التي دعت المسلم
إلى القراءة في كتاب الله المسطور هو القرآن، قال تعالى: [ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] وقال سبحانه: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ، فالارتباط واضح بين تحمل
المسؤولية وبين تأسيسها على القراءة المتأنية، كما دعته إلى التأمل في كتاب الله
المنشور، وهو الكون الواسع، قال تعالى: [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ
واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا أَنزَلَ اللَّهُ
مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] [البقرة 64] .
فالثقافة التي تقدمها الجامعة ليست حشداً للمعلومات عن طريق التلقين (بل هي
تفاعل بين الإنسان والعقيدة والفكرة، ويظهر أثره في السلوك، فقد يحفظ الإنسان
معلومات كثيرة، ولكن سلوكه الاجتماعي غير مقبول، فنظرته للآخرين فيها
استعلاء واحتقار، وتقويمه للمواقف مبني على الأنانية وحب الذات، وتذوقه
للجمال ضعيف يدل على بلادة المشاعر، وضعف الإحساس، وكلامه خال من
المشاعر الرقيقة والمشاعر الطيبة ولا تظهر فيه آثر المعلومات التي يكتنزها، فمثل
هذا ليس مثقفاً، بل هو جهاز كمبيوتر من نوع بسيط ورخيص لقدرته المحدودة
على الاستيعاب والحفظ) [12] .
والإسهام في الثقافة هو إذاً غاية العمل الجامعي وكماله، وللإسهام هذا صيغ
وميادين تتنوع وتتعدد وتتمايز لكنها تتفق جميعاً في كونها إضافة أصلية متفردة.
الإسهام أن يضيف أو يقدم جديداً، والجديد متاح في ميادين الثقافة كلها، والعجز
عن الإضافة لا يعني العجز عن ولوج بوابات المستقبل فحسب، بل يعني كذلك
فشل الاحتفاظ بلحظة الحاضر، والكينونة التي لا يضاف إليها تخسر من ذاتها،
فتتراجع إمكاناتها وتنحط حتى الصدأ فالمرض فالموت، وتبقى في النهاية فيما لو
بقيت قفراً قاحلاً مجدباً، ذلك هو مصير جامعة لا تضيف إلى الثقافة جديداً،
ومصير طلاب وأساتذة يمضغون نظريات ويرددون اجتهادات خلف اجتهادات،
ويبقون خارج همّ الإضافة وعظمة الإبداع، الإضافة هي إعلان الحق بدخول
المستقبل) [13] .
وخير عون للجامعة على تحقيق رسالتها بعد توفيق الله حرية النقد المنهجي،
إذ كيف يمكن لمسيرة العلم والثقافة عموماً أن تتعزز ما لم يطلق العنان لنقد صادق
حر، لا يخضع إلا لسلطة النص الشرعي، أو الحقيقة العلمية، أما إذا أسقطنا
حرية النقد المنهجي «فإن ذلك يورث معرفة بائسة هجينة ملفقة، أدنى من أن
تستجيب لشروط الثقافة التي اؤتمنت الجامعة عليها. الجامعة مطالبة إذن إدارة
وهيئات بتشجيع ذلك اللون من النقد، فتحث عليه وتطلبه دوماً، فلا يطغى على
البحث التلقين ولا على النقاش التصديق الآلي، ولا تقدم المعرفة أياً كانت جاهزة
ونهائية، فالكلمة الأخيرة - ما عدا ثوابت الشريعة - اصطلاح لا محل له في العلم
والمعرفة، وإذا كان هناك كلمة أخيرة حقاً فهي للتجربة والاختبار والتاريخ [14] .
ولنا في المنهج القرآني مستند عظيم، فقد أعطى خصوم العقيدة فرصة التعبير
عن نظريتهم الكفرية، ليتبع ذلك نقدها، ومن ثم نقضها تأسيساً للحقيقة وتوجيهاً
للعقول السليمة إلى حرية الاختيار القائم على الأدلة الواضحة، قال تعالى: [أَمَّنْ
خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا
كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ] [النمل 60] .
وإذا كان أداء الجامعة لدورها يشكل صمام الأمان لعقيدة الأمة ومستقبلها
المؤسس على العلم، فإن إخفاقها يعد كارثة عظيمة، ولقد قرأت مرة هذه الكلمة:
إذا أخفق المزارع فالخسارة ضياع موسم زراعي، وإذا أخفق المصنع فالخسارة
ضياع حفنة من الدراهم، ولكن إذا أخفقت الجامعة فالخسارة ضياع الجيل، وفي
شعر مترجم لشاعر مسلم هندي أنثرها لكم، تتبين فيه خطورة انحراف الجامعة عن
دورها حيث يقول:» يا لبلادة فرعون الذي لم يصل تفكيره إلى تأسيس الكليات،
وقد كان ذلك أسهل طريقة لقتل الأولاد، ولو فعل ذلك لم يلحقه العار وسوء
الأحدوثة في التاريخ «. أجل فالكليات الجامعية قد تكون بفضل الله معبر الأمة إلى
حياة أفضل، وقد ترافقها بعض السلبيات فتحرفها عن منهجها، لتلقي بالجيل ومن
ورائه الأمة في مهامه الردى وسباسب الهلاك.
إن ثمن خطأ أحد ركاب القطار قد لا يدفعه إلا هو، أما إذا أخطأ قائد القطار
فالركاب وعربة البضائع سيواجهون الردى والعطب، وهكذا يكون حال المجتمع إذا
كثرت سلبيات الجامعة؛ لأن منزلة الجامعة من المجتمع تشبه من بعض الوجوه
وظيفة القائد للقطار الذي ينقل الناس إلى محطات الأمان والآمال.
ولعل من أخطر السلبيات التي تحاقبت مع نشأة المؤسسات الجامعية في العالم
الإسلامي، وتزامنت مع بداية نشاطها، أنها أخذت تمارس دورها تربية وتعليماً
منطلقة من الخلفية الثقافية الغربية التي ارتكزت عليها الجامعة في الغرب، يقول
بعض الباحثين العرب:» إننا في الواقع ورثة جامعات فرنسا وبولونيا « [15] .
ويقول الدكتور أكرم ضياء العمري الرئيس السابق لقسم الدراسات العليا في
الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية:
» نشأت معظم الجامعات في العالم العربي والإسلامي على أسس علمانية،
وذلك بحكم تسلط القوى الاستعمارية على العالم الإسلامي في وقت تكوينها، فطبعت
بطابع الحضارة الغربية، ونقلت إلى الطلاب نظريات العلماء الغربيين في حقول
الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس، نقلت إليهم على أنها مسلمات علمية وأنها العلم لا
سواها، وهكذا درس طلابنا ويدرسون «: سان سيمون - أوجست كونت -
دوركايم - ليني بريل - ديفيد هيوم - آدم سميث - هويز - هربرت سبنسر -
فرويد - ماركس - أنجلز - بافلوف - ديوي - برتراند راسل - هارولد لاسكي،
وكلهم ينطلق من أساس غير ديني في تفسير نشأة الخليقة والإنسان والمجتمع، وقد
لا يمر على مسامع الطلاب اسم الإسلام وأسماء علمائه [16] . أَمَا عَلِمَ جامعيونا أن
فقرنا أمام الفكر الغربي فقر معاصر، وأن نقلنا المباشر عنه في كثير من الأحيان
يصبح مهزلة فكرية. إذ إن ما نقلناه عنه جزء من أصيل تراثنا الذي نجهله جهلاً
مؤسياً [17] .
إن مثل هذه الأنهاج التعليمية قد أعطت الإسلام دوراً هامشياً في تكوين ثقافة
الجامعي، تاركة للطالب حرية التعاطي مع الدين، ومؤمنة له حق الولوج والخروج
منه متى شاء وكيف شاء، عاملة على تثبيت الازدواج في المعتقد والسلوك وإضفاء
الشرعية العلمية الغربية القائلة بقصر الدين على بعض النشاط الفردي دون أن
يكون له وجود أو دور فيما هو أبعد من ذلك.
ولقد كان الكثيرون من هؤلاء الخريجين من أمثال هذه الجامعات عقبة أمام
طلائع الصحوة الإسلامية لدفاعهم عن القيم الجامعية التي تلقوها والتي تتناقض
أحياناً مع عقيدة الأمة وهمومها.
ولكم سمعنا من جامعيين مرموقين وجامعات مرموقة كلمات مثل: هذا أمر
ديني وذاك مدني، أو علمي، أو نظامي، ولكل دائرته ودوره ودورته الحياتية،
وتأسس على مثل هذه المفاهيم الخطيرة، دعوة خاطئة وهي توجيه الجامعة إلى
توكيد التخصصية بكل وسيلة دون أن تفسح المجال للإسلام أن يشارك مشاركة فعالة؛ حماية لهذا التخصص من مزالق الخطأ، وحملاً على توظيفه توظيفاً لا يصطدم
مع المصالح العامة للأمة، هذه الدعوة إلى التخصص الأصم المبتور عن عقيدة
المجتمع وعن وحدة الثقافة تحصل في كثير من الجامعات العربية بالرغم من أن
رسالة الجامعة تقوم على وحدة المعرفة، على أساس أن المعرفة هي في الأساس
بنيان واحد متكامل من الحقائق المترابطة، كما يوجد في الغرب صوت يدعو إلى
توحد التخصصات وتوحيدها، بل توحيد روحها وجوهرها وأصولها في شخص
واحد، لإزالة التنافس، أو التعارض القائم بينها - لدى تفرقها في أفراد - هذا
التعارض الذي تدفع البشرية ثمناً له من أمنها واستقرارها، بل وحتى استمرارها.
وفي الولايات المتحدة أيضاً نجد جيمس كونانت رئيس جامعة هارفارد
1978 - 1983 م يلج بوابة التربية من عالم الكيمياء، ميدان تخصصه الدقيق،
ليترك منطلقاً من تخصصه الكيميائي مشاريع تربوية عملية تبنتها الحكومة
الأمريكية، ولقد كان في التطبيق الرسمي لآراء كونانت ردم للثغرة التي حدثت في
الثقافة الأمريكية عشية سبق روسيا لأمريكا في إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء
عام 1975 م، فإذا تبين لنا أن هذين الباحثين وكثيرين غيرهم يدعون للتصالح بين
التخصصات لأمن الإنسان وراحته، فالتصالح بين العلم والإسلام لم يعد مطلباً
جمالياً، بل ضرورة يقتضيها تاريخ الأمة، وجغرافية الأفكار فيها؛ لأنه لا يمكن
للمثقف أن يحصر معلوماته في قضية واحدة من قضايا الفكر إذا أراد أن يبقى مثقفاً. والتخصص المعمق والثقافة الموسوعية من السمات البارزة في تاريخ العلم
الإسلامي، فابن حزم ترك عشرات المؤلفات في شتى موضوعات المعرفة،
وأثارت في عصرها وعصرنا ما تثيره الثقافة الحية في متلق واع، وابن خلدون في
مقدمته ليس بعيداً عن ابن حزم.
وإذا عبرنا إلى المشرق نجد لدى ابن تيمية مشروعاً ثقافياً متكاملاً لمواجهة
التآكل في عقل الأمة وثقافتها، والتراجع في عقيدتها، كما كان حضوره على جبهة
الفكر اليوناني بما كان يمثله من بريق بهر كثيراً من معاصريه، فلم يجد بداً من أن
يجابه هذا الإعصار اليوناني، فكتب الرد على المنطقيين، ودرء تعارض العقل
والنقل، وفي الساحة الثقافية الداخلية كتب العقيدة التدمرية والواسطية والإيمان،
وفي الفقه السياسي السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ونقد الفكر القائم
في عصره بكل موضوعية وتجرد، أشخاصاً وموضوعات. ولم يعان عقدة نقص
أو تمذهب متعصب، وسرت في كتاباته روح الوعي والإشفاق على الأمة حكاماً
ومحكومين، ومن يقلب صفحات الفتاوى يشعر أنه أمام عالم فقهي، ومصلح
اجتماعي، وفقيه لغوي، تعقب سيبويه وكتابه، وسجل عليه بعض الملاحظات،
وتتبع سائر المؤسسات القائمة في مجتمعه، فداخلها وحاورها باذلاً النصح
والإخلاص فيه، لقد كان أمة في ثقافته ودوره، كان في عصره بوصلة مجتمعه،
وبعد عصره تتجلى جهوده بمنهجه الذي خلفه وراءه، وتخرج به كوكبة من كبار
العلماء.
فلنقارن بين حضور ابن تيمية في حياتنا وفكرنا، والنهضة العربية المعاصرة
التي نبحث الآن عن خطوط البداية فيها.
إن المفاهيم النهضوية الغربية التي فرضت على الكثير من جامعاتنا جعلتنا
لنتوهم أننا قد أنتجنا نهضة حقيقية، لقد كنت أطالع في بعض المجلات المتخصصة
مقالاً عن النهضة العربية الحديثة، أفكارها ورجالها، فوجدت كاتب البحث ينتهي
إلى القول: وبعد مائتي عام من النهضة ما زلنا نقرأ أهم الكتابات عن مجتمعنا
وتاريخنا على يد المستشرقين، ومازلنا عاجزين عن إنتاج ما نستهلك [18] .
والجذر اللغوي للجامعة لا يباين الجذع الألسني للجامع، إذ بينهما في الاشتقاق
والدور غير وشيجة وأكئر من صلة، والجامعات الإسلامية التي تحدرت أصولها
من الجامع، ولدت تلبية لمطامح شرعية، واحتياجات اجتماعية وعقلية، وشكلت
خلال مراحل تطورها في أكثر الأحيان إنجازاً رائعاً، ولقد قامت هذه الجامعات في
العالم الإسلامي لتؤكد على أصالة الأمة، وتوثيق ارتباطها بماضيها الإسلامي المجيد، وتبني شخصيتها على هدي الكتاب الكريم والسنة المطهرة، فصارت أملاً يرتجى، ومطمعاً للخيرين. وجامعة الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس خير مثالين
للجامعة القادمة من قيم المسجد الجامع ورسالته التربوية والتعليمية ولولا خشية
الإطالة لذكرت نماذج للأزهريين والزيتونيين الذين أدوا دوراً عظيماً في تحقيق
الترابط بين عقيدة الأمة وثقافتها وحاضرها ومستقبلها، ويكفي جامعة الزيتونة فخراً
أن تخرج رجلاً مثل عبد الحميد بن باديس 1889 -1940م الجزائري ليعود إلى
بلاده ليقود أمة ترزح تحت الفكر الغربي والكفر الفرنسي، فيؤلف ويحاضر
ويخطب ويناظر ويسافر في طول المغرب العربي وعرضه، حاملاً رسالة الإسلام
جاعلاً حياته كلها للإسلام، كما قال في أحد مذكراته، إن جهود ابن باديس بفضل
الله أثمرت رفض مسلمي الجزائر لفرنسا، وأشعلت الحرب ضد هذا الوجود الكافر.
إن ابن باديس والزيتونة مثال للجامعة والجامعي الذي يعرف موقعه ودوره في
نهضة أمته وخدمة عقيدته، في مثل هذه الجامعة ذات الأصول المسجدية.
يقول الله عز وجل: [ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ
مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]
[التوبة602] ، في هذه الآية يحث القرآن الكريم على طلب العلم بوصف النفرة
(فلولا نفر) ، وذلك يجعل العلم والجهاد في موقع واحد، كما أن سياق الآية وسياقها
يضع التعبئة الفكرية على قدم المساواة مع التعبئة العسكرية.
روى الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال:» من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان
كالمجاهد في سبيل الله «.
ورضي الله عن عمر الفاروق القائل عن العلماء:» بذلوا أموالهم ودماءهم
دون هلكة العباد «.
ويرحم الله ابن القيم القائل: تبليغ سنته -صلى الله عليه وسلم- إلى الأمة
أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن الجهاد قد يستطيعه كل أحد أما العلم
فليس له إلا أهله.
وأخيراً:
لأن الجامعة تقوم في متن الوطن وتحيا هموم أهله، ولأنها تلامس وتعي
خصوصية محيطها وحاجاته، بات عليها أن تمتلك مشروعها الثقافي الذي لا
يستجيب لخصوصية اللحظة فحسب، وإنما يدفع بها كذلك في سياق البعد الإنساني
الأرحب والجامعة تستطيع ذلك، إذ لها من خبرتها وخبرة مدرسيها ما يسهم في
توفير انفتاح أكبر على المجتمع والدخول معه بوابات المستقبل، والجامعة عندما
تتنازل عن مشروعها بسبب بعض العقبات فذلك يعني التنازل العلمي عن الماضي
والحاضر والمستقبل.
وهناك عقبات داخل الجامعة وخارجها تحجم من دورها وتعمل على اختزاله
واختصاره منها:
1- غياب الصلة الأخلاقية والأبوية بين الطلاب والمدرسين في الغالب، مما
أدى إلى اهتزاز دور المدرس الجامعي الذي تشكل هذه العلاقة بينه وبين الطلاب
العمود الفقري في الحياة الجامعية.
2- الانفجار السكاني الذي دفع إلى الجامعة بأعداد من الطلاب أكبر من
طاقتها، وكثيراً ما يكون استقبالهم على حساب سمعة الجامعة ومكانتها، ولهذا يتعين
على الجامعة أن توازن بين حاجات السوق وأهدافها الاستراتيجية.
3- الاستفادة السلبية من الغطاء الجامعي من قبل بعض المدرسين للترويج
للفكر المضاد لثقافة الأمة وعقلها، والشعر الحداثي أوضح الأمثلة في هذا الميدان،
فهو نتاج بعض الجامعيين. قولاً ونقداً، هذا الشعر ألغى نفسه وفقد قراءه، وهو
في كثير من نصوصه ليس إلا إحياء للكهانة الوثنية تحت مسميات مختلفة، غير أن
أنكى ما في الأمر التغطية الجامعية له.
4- غياب الصلة بين الجامعة ومراكز البحث العلمي.
5- تواضع المكتبة الجامعية كماً وكيفاً ومساحة ومسافة وزمناً وعدم افتقار
البحث العلمي إلى التأصيل والدراسة المكتبية المعمقة.
إن الروح الجامعية لا تخالطنا وتلازمنا، لكوننا موجودين في الجامعة عمداء
ومدرسين وطلاباً، بل بكون الجامعة متلبسة فينا، قيماً خلقية، وموسوعية علمية،
ونهماً معرفياً، نرى اكتمالها في سعيها الدائم نحو الكمال.
إن الأمة التي ترسل إلى الجامعة بفلذات أكبادها، وجزء من دخلها، تفعل
ذلك واثقة من أن الجامعة سترد هذا العطاء عقولاً مؤهلة، وأرواحاً متوثبة لنقل
الأمة خانة أو أكثر في مراتب التقدم المنشود.
__________
(*) محاضرة ألقاها الدكتور مصطفى السيد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم.
(1) قراءة جديدة لتراثنا النقدي 1/111-113.
(2) المعجم الوسيط 1/135.
(3) الشوقيات 1/151.
(4) مجلة الفكر العربي عدد 20.
(5) مجلة الفكر العربي عدد 20 ص 152و 151/158.
(6) نفس المصدر.
(7) نفس المصدر.
(8) مجلة الاجتهاد عدد5 ص 5 بتصرف 1989م.
(9) نفس المرجع ص 210.
(10) هذا العصر وثقافته د زكي نجيب محمود.
(11) الكليات لأبي البقاء الكوفي.
(12) التراث والمعاصرة د أكرم العمري ص 110.
(13) نفس المصدر ص 156 - 160.
(14) نفس المصدر ص 156 - 160.
(15) التراث والمعاصرة ص 121.
(16) المصدر السابق.
(17) جدلية الخفاء والتجلي د كمال أبو ديب.
(18) مجلة الاجتهاد عدد5 ص 15 1989م.(40/46)
البيان الأدبي
رسالة إلى قلب الدين حكمتيار
(شعر)
أحمد بن راشد بن سعيّد
[رسالة إلى كل مجاهد أفغاني علمنا معنى العزة في زمان كثر فيه الخائبون
والأتباع]
اضرب فديتك بالقنابل
اضرب قلاعهم الحصينة
بالمدافع.. بالمعاول
لا تبق فيهم من يخون
ولا تصالح من يشاكل
اضرب - هديت -
فما بنى الطاغوت محض باطل
اضرب
ولا شلت يمينك.
واتَّبع نهج الأوائل
اضرب
فلا نام الجبان
ولا استطاب العيش خامل
اضرب
ونحن جنودك الأبرار
عشاق المحافل
لبيك نعلنها ونأتي
جحفلاً يتلو جحافل
اضرب فأمتنا تحن إلى ضياء الصبح
تستسقي الهواطل
اضرب فأنت لها تقاتل
اضرب فلا عاش التخاذل
هل أنت إلا عزة تصحو
وتاريخ يناضل
هل أنت إلا يقظة الأجيال
تجتاح المعاقل
اضرب فديتك بالقنابل
لله أنت
وزفَّ بشرى الفتح
وانهض بالجلائل
هذا أوان الفتح
كي تنساب في الكون الفضائل
هذا أوان الغرس
كي تزكو ربى الدنيا خمائل
هذا أوان العتق والتحرير
فاعصف بالسلاسل.
واضرب فديتك في المقاتل
هذا أوان الفصل
يا شيخي
وترتيب المسائل
لا، نحن لن نبقى وسائل(40/60)
أدب
أزمة الشعر الحديث
عبد الله بن إبراهيم الزهراني
كان الشعر وما يزال ميداناً رحباً من ميادين الثقافة، وله دور فاعل في الحياة
الثقافية المعاصرة، ولكن كثيراً، من المثقفين ومن أساتذة كليات الآداب العربية
بدأوا، يشكون ويتذمرون بشكل واضح مما ينشر هذه الأيام في الصحافة والمجلات
الأدبية، ويقولون بصوت واحد: لم نعد نفهم هذا الشعر الذي تقولون أيها الشعراء.
والشعراء بدورهم يلقون باللائمة على القارئ.
ترى ما السبب الذي أدى إلى ظهور هذه الأزمة تجاه الشعر الجديد؟
هنالك عوامل عدة أدت أو ستؤدي حتماً إلى خروج الشعر بمستواه الحالي -
الذي تسوّد به كثير من الصحف والمجلات العربية - من دائرة الثقافة، ويرجع ذلك
في نظري إلى أن هذا الشعر يمر بعدة أزمات منها:
1- أزمة فكرية:
إن ما يسمى بالشعر الجديد نشأ أول ما نشأ على يد أناس متهمين فكرياً بدءً
بالسياب ونازك الملائكة، وعبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور.. وانتهاءً
بسعدي يوسف ومحمود درويش، والأفراخ الجدد ممن تربى بين أحضان تلك
المدارس.
ولا زالت القضية الفكرية هي المحور، فإن الانفصام الثقافي بين أولئك
الشعراء، وبين الطبقة التي تمثل الأكثرية في العالم العربي ممن يؤمن بدور،
الشعر التثقيفى، بل والتغييري، ومنهم روّاد في الثقافة - أدى ذلك إلى وجود أزمة
للقصيدة الجديدة، إذ تلقاها الجمهور المثقف على أساس أنها تمثل تياراً مناقضاً
للموروث بكل أشكاله، فرفضت ولفظت من هذا الجانب بكل قوة، إذ أنها بما تمثله
من تيار فكري غريبة تلقى أصحابها فتات الثقافة الأخرى.
والحق أن الانحراف الفكري لمنظري القصيدة الجديدة بلغ درجة لا تطاق،
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومن يلقي نظرة على إنتاج تلك الفئة يجده بيناً،
وعلى سبيل التحدي من أمثال البياتي، والسياب، وأدونيس، والمقالح، وبلند
الحيدري.. الخ.
حتى أصبحت قضية المفارقة الفكرية سمة ملازمة للقصيدة الجديدة وتنضح
بعبارات الإلحاد وشعاراته، مما يرفضه حس الإنسان المسلم.
2- أزمة في الغموض:
هذه هي الأزمة الثانية التي تردت فيها القصيدة الجديدة وبخاصة في جيلها
الثالث.
والمقصود به الغموض الذي يصل إلى حد الأحاجي والألغاز، إذ أضحى
الشعر عند هذه الفئة نوعاً من الحذلقة، والتصنع في رص ألفاظها والتراكيب،
حتى أصبح الغموض سمة الشعر الجيد عند هذه الفئة، لدرجة لا يكاد يفهمه صاحب
النص، مما حدا بأدونيس أن يقول عن فهم الشعر: «ليس من الضروري لكي
نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكاً شاملاً؛ لأن مثل هذا الإدراك قد يفقدنا هذه
المتعة..» .
ويقول أحد المعجبين بأدونيس: «إن الشاعر المعاصر لا يتيح لهؤلاء
الآخرين فرصة الولوج إلى عالمه بسهولة، بل يرى قمة المجد ألا يكون
مفهوما» ، فهذا الضرب من التنظير النقدي، وفتح باب التجريب على صراعيه أديا بكثرة كاثرة من الجيل الثالث أن يتسلق هذا السلم كل من أراد الظهور والشهرة، وكان لبعض المجلات والجرائد المختصة دور تخريبي لا يغفل. ويأتي الغموض
تحت شعار تجديد اللغة الشعرية، وإصرارهم على الإتيان بصور غريبة يأباها
الذوق العربي، إذ هي بعيدة كل البعد في تركيبها عن العربية.
من ذلك مثلا قول «أدونيس» :
هذه ناري
لا تبق آية، دمي الآية
هذا بدئي
ونحوه قول «أنسي الحاج» :
المدينة الحاضرة جيب صادق
يهدل لحم الليل
يتفسخ يتطاير محروقاً
وشظايا نار
مدّها قحط السنوات
من حاملي الألوية.
وعلى نفس المنوال يقول - أحمد عبد المعطي حجازي:
وبعد صمت لم يطل
الطائر الأخضر طار
الغصن ما زال بسحره يميل
كأنني شجرة من الشجر
مرت بها الأمطار
فسار في أعماقها حلم الثمر
وانحلت الأشرار
بعد طفولة طويلة بعد انتظار
فهي كما يقول الدكتور يوسف عز الدين «ولكن هذا الإيحاء غامض،
غموض الغموض..» .
ولنا أن نتساءل ما الفائدة من الشعر إذا لم يتذوقه المفكر ويفهمه الأديب
والمثقف.
على أنه ينبغي القول إن الشعر لا بد أن يكون فيه نوع من الغموض الواضح
إن صحت التسمية لئلا ينزلق الشعر إلى السطحية، بل إن الشاعر قد يلجأ إلى نوع
من الرمز والغموض ليعبر عن قضاياه تجاه قوى القهر والظلم، والشاعر الذي
يمتلك الموهبة والثقافة يستطيع أو يوازن بين الغموض والوضوح.
3- أزمة المتلقي:
لعل أشد الأزمات قتامة مني بها دعاة الشعر الجديد هو المتلقي، إذ يتشكى
كثير منهم من انفصام العلاقة بين كاتب القصيدة ومتلقيها، وذلك يرجع في نظري
إلى السببين السابقين، إذ أديا إلى النفور العام من القصيدة الجديدة، برغم محاولة
كثير من الشعراء والمثقفين لهم من النقاد الإلقاء باللائمة على الجمهور المتلقي،
لأنهم كما يزعمون ظلوا أسرى التخلف في مطالعاتهم، مما نتج عنه عدم تفاعلهم مع
الجديد، وهذا القول فيه مجافاة للحقيقة، فقد وجدنا أساتذة الأدب الحديث يقفون
حيارى مشدوهين أمام كثير من النصوص لعجزهم عن فك طلاسمها.
والشعر إذا لم يتقبله الجمهور المثقف الواعي يفقد هدفه، لذا فالأفضل أن
يخرج من دائرة الثقافة عامة، ومن فن الشعر خاصة.
على أن هنالك أزمات كثيرة تمر بها القصيدة الجديدة مما قد يطول المقام
عندها كأزمة اللغة، والإيقاع، والسرقة.. الخ.
ولأن هذا الشعر منبوذ من قبل الأمة لمضامينه المنحرفة التي تعيش على
فتات الأفكار المنحرفة يعجب المرء من هذا الغي والتمادي في الباطل.(40/62)
خاطرة أدبية
قارئ الفنجان
سعد بن محمد عبد اللطيف
جلس الحلاج على كرسي في مقهى التاريخ.. يحمل معه كتاب «الثابت
والمتحول» صفق بيده الغليظة.. جاء يركض صبي القهوة ملبياً ذاك التصفيق،
تقدم الصبي إلى الحلاج قائلاً: ماذا تريد يا سيدي؟
الحلاج: أريد فنجاناً من القهوة الساخنة\.. أسرع الصبي ليجيب الطلب،
فضاء المقهى يعج بالدخان.. راح الحلاج يتأمل الطريق المؤدي إلى جمعية
التحرر-الثقافي الذي هو عضو فاعل فيها. وهي تقع خلف المركز التجاري -
الكبير. لابد من إصدار صحيفة تنادي للفجر الجديد.. لمحاربة المتعصبين
والأصوليين المتطرفين.. أصحاب الأفق الضيق الذين يحاربون الرأي الآخر
والحوار، أصحاب التسلط والإرهاب الفكري الأحادي.. أتى الصبي يحمل فنجان
القهوة، يضعه على الطاولة المتسخة.. ينقطع تأمل الحلاج وتفكيره ويقبل على
الفنجان يرفعه إليه ينظر إلى الفنجان.. يمارس هوايته.. قراءة الفنجان ليطلع على
مستقبل الفكر وحريته، وآخر أخبار البيت الأبيض والكرملين؟ !
يتطلع في الفنجان باهتمام مشدوداً إليه.. شيئاً فشيئاً تتهلل قسمات وجهه
وينفرج فمه عن ابتسامة صفراء،.. «ها هم أو هم سيأتون في زمن ما ولكنهم
سيأتون.. جيوش جرارة من المثقفين لا التقدميين.. يتصدرون المجالس
والمنتديات.. ولكن ما هذا الهذيان الأدبي وال1فكري الذي لا أفهمه.. لعلها تشبه
بعض إبداعاتي الطليعية.
ولكن كلام هؤلاء يغلب عليه الغموض وشبيه بطلاسم وأساطير الهند والفرس.. أهم وصلوا إلى قمة الإبداع وجوهره؟ أم هو الفيض والعلم اللدني؟ !
يعود إلى النظر في الفنجان.. يرى أحدهم اعتلى منبراً.. يلقي قصيدة..
يحرك يديه بانفعال كأنه يريد أن يمسك بذباب يضايقه» لو قال أحد أو لقي مثل هذا
الكلام من مجانيننا وادعى أنه شعر وأدب لكان جزاؤه اللطم على الخدود والركلات
على الرؤوس.. «.
يعود إلى النظر في الفنجان» أواه إني أرى أمريكا.. الحضارة.. الثقافة..
التحرر.. وذاك تمثال الحرية الشامخ. لكم تمنيت أن أصنع وأضع مثله في أرض
الجزيرة أو الشام.. هم وصلوا إلى سطح القمر وأطلقوا؟ الأقمار الصناعية والناس
هنا يتناقشون حول الحيض والمسح على الخفين.. «.
» على كل حال البركة في هذا الجيل القادم الذي رأيته في الفنجان قبل قليل.. حقاً ما أروعهم وما أروع هذا الجيل وهذا الجو المتخم بالحرية والديمقراطية،
أين كل هذا من واقعنا الحاضر.. من هذا التطرف والتعتيم الإعلامي.. «.
يبدأ بشرب القهوة بعد تلك الخواطر.. يخرج من تأملاته.. لكنه يتذكر: غداً
سألقي محاضرة في جمعية المرأة المثقفة بعنوان» دور المرأة المثقفة المتحورة في
التنمية «وسأقوم بقص الشريط لفتح معرض الشيكولاته والكعك، وسيكون ربح
هذا المعرض لجمعية المعوقين» .
يتشاغل الحلاج بنظر إلى زبائن المقهى.. يمر بائع الصحف.. يصيح
الحلاج: ناولني صحيفة اليوم.. يطالعها بلهفة.. «ما هذا، لا أصدق؟» لم أجد
ذلك عند قراءتي للفنجان.. «يخرج نظارته.. يلبسها مرتبكاً.. يتأكد.. يتمتم من
هؤلاء.. تبتلعه الدهشة.. يسقط مغشياً عليه على أرضية المقهى المملوءة بأعقاب
السجائر.. الناس حوله يتجمهرون.. يستفسرون» احملوه إلى المستشفى «قال
أحدهم.. يتفرق الجمهور يلتقط أحدهم الصحيفة، يرى السبب ويعلن الخبر.. يقرأ..» فاز الحلاج بجائزة نوبل لهذا العام. ومن المتوقع أن يكون هو حكم البلاد
اللاحق «!(40/66)
المسلمون في العالم
الصراع العربي - الإسرائيلي
وأكذوبة السلام
مازن عبد الله
لقد انتهت حرب الخليج بانتصار دول التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي خرجت من تلك الحرب كقوة عظمى وحيدة خاصة بعد سقوط منافسها الاتحاد
السوفييتى وانحسار نفوذه على الساحة الدولية. ولقد ظنت الولايات المتحدة
المنتصرة في الحرب التي أعدت وجندت لها وقادت دول التحالف فيها، وفكرت
بأن تلعب دور الشرطي الدولي، فقرر رئيسها صاحب القرار وبطل العملية،
وطموحاً منه في أن يدخل التاريخ وينظم إلى مجموعة عظمائه، قرر أن يقوم بعمل
يتوج فيه نصره ويذكره التاريخ عليه، فوعد بنظام عالمي جديد ينهي به عهد الظلم
والظلمات ويحكم على أساسه بالعدل والإنصاف.. وكان لابد له، ولكي يصبح
لكلامه هذا معنى ومصداقية، بأن يبدأ بترجمة كلامه بحل مشكلة الشرق الأوسط،
منبع الاضطرابات وعدم الاستقرار في المنطقة والعالم. فكان القرار، وكما جاء
على لسانه في خطاب له بعد انتهاء حرب الخليج مباشرة، أمام الكونغرس الأمريكي.. «لقد حان الوقت لعقد سلام شامل في الشرق الأوسط يقوم على
مبدأ الأرض مقابل السلام وعلى قراري الأمم المتحدة رقم 242 و 338» .
لقد مضى على بوش هذا أكثر من شهرين. وقبل أن نبدأ بتقييم الخطوات
العملية لهذا القرار التي تم تنفيذها حتى الآن، نود أن نستذكر بعض الأحداث.
والتطورات السابقة المتعلقة بهذا الموضوع، ذلك أن قراراً كهذا لم يكن الأول ولن
يكون الأخير ...
في حزيران عام 1967، قامت إسرائيل بعدوان على الدول العربية واحتلت
سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان، فما كان من الدول العربية إلا أن لجأت إلى
الأمم المتحدة في الشهر التالي من العدوان، فتقدمت دول أمريكا اللاتينية بمشروع
القرار المعروف بالمشروع اللاتيني، والذي يقوم على أساس مبدأ الأرض مقابل
السلام، إلا أن الدول العربية رفضت القرار وقتئذ باعتباره يقدم مزايا سياسية
لإسرائيل. وفي شهر أيلول من نفس العام تم طرح الموضوع مجدداً أمام مجلس
الأمن، فأصدر هذا الأخير وبعد مناقشات دامت شهرين تقريباً قراره رقم 242
وذلك في 22 تشرين الثاني 1967؛ لقد تبنى مجلس الأمن الدولي وبالإجماع هذا
القرار الذي قضى بانسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها
في النزاع الأخير. فلقد صدر هذا القرار إذن، بغية إنهاء العدوان الإسرائيلي على
الدول العربية، ولكنه لم يتعرض لا من قريب ولا من بعيد للقضية الفلسطينية.
ولقد حرص السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة حينذاك على تسمية هذا العدوان
نزاعاً، وذلك لاعتبارات قانونية إذ أن اعترافه بالعدوان الإسرائيلي، يستتبعه قبوله
تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات على إسرائيل،
وهو ما تم تطبيقه على العراق لعدوانها على الكويت. إنه وبالرغم من تجاهل هذا
القرار للقضية الفلسطينية، فلقد ضربت إسرائيل به عرض الحائط ولم تنفذ شيئاً
منه ولم تلقى أية ضغوطات لتنفيذه.
في 16 كانون الثاني 1969، أرسلت فرنسا خطاباً إلى كل من الولايات
المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا تقترح فيه أن يلتقي مندوبو الدول الأربع
لبحث قضية السلام في الشرق الأوسط، فوافقت الدول على اقتراحها، وظل
المندوبون الدائمون الأربعة في مجلس الأمن يلتقون طوال عام 1969 في نيويورك، ولكن من دون جدوى، فلقد باءت محاولاتهم ولقاءاتهم - هذه بالفشل.
في 22 تشرين الأول 1973 وخلال حرب أكتوبر تبنى مجلس الأمن الدولي
القرار وتم 338 بأغلبية 14 صوتاً مقابل لا شيء. ولقد دعا هذا القرار جميع
الأطراف المشتركة في القتال إلى وقف إطلاق النار. والبدء فوراً بتنفيذ قرار
مجلس الأمن رقم 242 بجميع أجزائه. ولكن القرار الجديد هذا لم يكن أوفر حظاً
من سابقه، فلقد ذهبت كلماته أدراج الرياح.
مع بداية عام 1990، وعقب انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد
السوفييتي ولقاء رأيسيهما في مالطا طرحت مسألة الشرق الأوسط مجدداً كونها من
أهم النقاط الساخنة، وتم الاتفاق على إقامة مؤتمر دولي تشارك فيه جميع الأطراف
تحت رعاية الأمم المتحدة. وبدئ فعلاً بالعمل والتحضير لهذا المؤتمر وكلف بهذه
المهمة وقتئذ جيمس بيكر نفسه الذي يقوم بنفس المهمة الآن بعد انتفاء حرب الخليج
والذي قدم مشروعاً من خمس نقاط لحل تلك المشكلة، ولكن في النهاية كل تلك
المحاولات والمشاريع باءت كسابقاتها بالفشل.
لقد انتهت الحرب في السادس من آذار 1991 بخروج أمريكا سيدة للموقف
الدولي، فعاد رئيسها للنغمة القديمة، ووعد بحل مشكلة الشرق الأوسط. ولقد عين
لهذه المهمة وزير خارجيته جيمس بيكر الذي بدأ فعلاً بجولات مكوكية على
الأطراف المعنية وكانت الخطة الأمريكية في بادئ الأمر تقضي بسحب موافقة
جميع الأطراف على عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة وحل النزاع على أساس
القرارين رقم 242 و 338. لقد قابل العرب والفلسطينيون هذا القرار بالقبول في
الترحيب بعد ما رفضه معظمهم في الماضي، فأيدوا مساعي بيكر وشجعوه على
المضي قدماً في طريق البحث عن سلام عربي إسرائيلي في ضوء تلك المبادئ التى
أعلنها بوش، وخاصة مقايضة الأرض بالسلام، والاعتماد على «الشرعية الدولية
» وكما تسمى، ممثلة في القرارين رقم 242 و 338. وشجعهم على ذلك أكثر
فأكثر، مواقف أوروبية أخرى كان أهمها موقف الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران
الذي، بالإضافة إلى موافقته على مبدأ الارض مقابل السلام وتحكيم «الشرعية
الدولية» في حل النزاع؛ عاد ليذكر بقرار الأمم المتحدة القديم بتقسيم فلسطين إلى
دولتين، واحدة إسرائيلية وأخرى عربية، وهو القرار الذي ترفضه إسرائيل
وتتجاهله أوروبا وأمريكا منذ الأربعينات وحتى اليوم ... أما بالنسبة لإسرائيل، فلقد
رفضت الخطة الأمريكية رفضاً قاطعاً، ورفضت فكرة عقد مؤتمر دولي، كما
رفضت إعطاء أي دور للأمم المتحدة ومجلس أمنها؛ خوفاً من أن تحاول تلك
الأخيرة ممارسة أي ضغط أو فرض أية حلول عليها، وعزت رفضها هذا لعدم
ثقتها بالأمم المتحدة التي تتهمها بالتحيز عندما قررت مساواة الصهيونية بالعنصرية. فلقد قال مرة «أبا إيبان» وهو أول مبعوث لإسرائيل في الأمم المتحدة، ويؤيد
قيام الأمم المتحدة بدور ما في عملية السلام.. «لو أن العرب اقترحوا مشروع
قرار يقول أن الأرض مسطحة، فسيحصلون على موافقة أغلبية ثلثي أعضاء
الجمعية العامة» .
في 10 نيسان 1991 أعلنت وكالات الأنباء، وعلى أثر مقابلة بيكر مع
وزير خارجية إسرائيل دافد ليفي، أنه تم الاتفاق بين أمريكا وإسرائيل على العمل
على عقد مؤتمر إقليمي للسلام في الشرق الأوسط برئاسة الولايات المتحدة ومشاركة
الاتحاد السوفياتي والدول العربية على أن لا يكون الهدف النهائي لعملية السلام،
إنشاء دولة فلسطينية. ولقد اشترطت إسرائيل في هذا الاتفاق أن يتم التعامل مع
المشكلة الفلسطينية على أساس خطة إسحاق شامير التي قدمها عام 1989 والتي
تقضي بإجراء انتخابات محلية في المدن والقرى العربية تمنح الفلسطينيين في
الضفة الغربية وقطاع -غزة حكماً ذاتياً محدوداً، تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة
على الأرض والموارد والدفاع، وتمتد فترة الحكم الذاتي هذه لثلاث سنوات، تعقبها
محادثات لاحقة حول الحل النهائي، بشرط أن لا تجبر إسرائيل على قبول ما لا
يناسبها. واشترطت إسرائيل أيضاً أن يتم تشكيل وفد فلسطيني يتفق حوله معها،
ويكون من داخل الضفة والقطاع فقط، كما اشترطت الاعتراف بوجود أكثر من
تفسير لقرار مجلس الأمن رقم 242 وإعلان واشنطن حق إسرائيل في التفسير
المناسب لها؛ وتفسر إسرائيل قرار مجلس الأمن بأنه يدعوها إلى الانسحاب من
أراض احتلتها في حرب عام 1967، وليس من الأراضي التي احتلتها في حرب
عام 1967، وتعتبر أنها التزمت بهذا القرار ومنذ وقت طويل وذلك عندما انسحبت
من شبه جزيرة سيناء في إطار معاهده السلام التي وقعتها مع مصر عام 1979م.
وعلى صعيد اشتراك الاتحاد السوفياتي إلى جانب الولايات المتحدة في اللقاء،
اشترطت إسرائيل على موسكو أولاً إعادة العلاقات الديبلوماسية كاملة معها، وثانياً
الإقرار بنقاط اللقاء الإسرائيلي الأمريكي سابق الذكر حول شكل وهدف المؤتمر.
تجدر الإشارة هنا إلى أن إسرائيل وخاصة اللوبي الصهيوني التابع لها داخل
الكونغرس الأمريكي، لعبت دوراً مهماً وأساسياً في الضغط على الاتحاد السوفياتي
من أجل إعادة العلاقات الديبلوماسية كاملة معها، ومن أجل إرغامه على تسهيل
هجرة اليهود السوفيات إليها؛ فلقد ذكرت وكالات الأنباء في 17/4/91 أن وزارة
الخارجية الأمريكية أصدرت بياناً جاء فيه أن الرئيس الأمريكي جورج بوش أوضح
عندما وقع الاتفاق التجاري الأمريكي السوفياتي خلال اجتماع قمة واشنطن، ومرة
أخرى عندما أوقف مؤقتاً العمل بقانون جاكسون - فانيك، الذي يحظر تقديم أية
قروض إلى الدول التي لا تسمح بحرية الهجرة، أنه لن يقدم الاتفاق التجاري
للكونغرس إلا إذا طبق الاتحاد السوفياتي قانوناً جديداً للهجرة. ولقد أعرب المؤتمر
القومي بشأن اليهود السوفيات في أمريكا وقتئذ عن قلقه العميق بشأن التقرير عن
تأخر صدور هذا القانون. وكان هذا المؤتمر قد حث الولايات المتحدة على تخفيف
القيود التجارية على موسكو عندما خففت القيود على الهجرة.
أخيراً، فإن فكرة المؤتمر الإقليمي هذا الذي طرحته إسرائيل وتبنته الولايات
المتحدة، حتى هذه الفكرة حمّلتها إسرائيل من الشروط ما يشجع العرب على
رفضها. بل يجعل من المستحيل القبول بها. ولكن وبالرغم من كل هذا، قبلت
بعض الدول العربية بها؟ فلقد اعتبرتها مصر ووصفتها بأنها «مفيدة جداً» ،
وتخلت بذلك عن طلبها، الذي تقدمت به خلال زيارة الرئيس السوري حافظ الأسد
إلى القاهرة بمشاركة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في هذا المؤتمر. ولقد ذكر مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 11/4/1991 أن
السعودية أبلغت بيكر أنها أوقفت الدعم المالي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن
الأمير سعود أبدى اهتماماً كبيراً بالاقتراع الأمريكي بعقد مؤتمر إقليمي للسلام بين
إسرائيل والدول العربية والفلسطينيين بإشراف الولايات المتحدة والاتحاد
السوفياتي ... وكانت سورية قد أصرت على التفاوض مع إسرائيل على الأسس التي اتفقت عليها المجموعة الدولية، بما فيها أمريكا، وتنفيذ قراري مجلس الأمن في إطار مؤتمر دولي تشارك فيه كافة أطراف النزاع بها فيها الطرف الفلسطيني.
ومن المسلم به أن إسرائيل ترفض فكرة المؤتمر الدولي والانسحاب حسب
قرارات الأمم المتحدة. وهذا ما حدا بوزير الدفاع الأمريكي ريتشرد تشيني، في
29/4/91 إلى الحد من توقع حل مبكر لأزمة الشرق الأوسط، فأعلن أن
«الانتصار في حرب الخليج يجب ألا يعني في شكل تلقائي أن علينا أن نتوقع أن في استطاعتنا خلال مدة قصيرة إزالة كل النزاعات ومصادر عدم الاستقرار في المنطقة» . وفي رد له على سؤال في مؤتمر عقده معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى من بعد ظهر ذلك اليوم عما إذا كانت تستطيع الولايات المتحدة تحمل الفشل في التوصل إلى سلام بعد كل الجهود التي بذلتها، أعرب عن أمله بالتوصل إلى حل سلمي للمشاكل في الشرق الأوسط وقال: «ولكنني أعتقد بأن علينا ألا نكون بسطاء للاعتقاد بأن الأمر سيكون سهلاً، وأننا نستطيع في الضرورة حل المشاكل الموجودة في المنطقة» .
أخيراً يبدو واضحاً من خلال متابعة التطورات والتصريحات الرسمية التي
رافقت جولات بيكر، أن إسرائيل ترفض مبدأ الأرض مقابل السلام، ولن تقدم
تنازلات، ولن تتخلى عن الضفة الغربية أو غزة أو الجولان، ولن تقبل بدولة
فلسطينية مهما كان شكلها ووضعها، وتصر على استبعاد الدول الأوربية والأمم
المتحدة، ولا تريد إلا مؤتمراً إقليمياً وبجلسة واحدة تمهد لمفاوضات مباشرة تقتصر
على إسرائيل وكل من الدول العربية على حدة.. فالذي ينظر إلى العقلية
الإسرائيلية بعمق، ويفكر بالنظرية الصهيونية ومنهجيتها العملية بعقلانية، يعلم
ويتيقن بأن تلك الفئة من المخلوقات، عندما تتحدث عن أمن أو سلام، إن هو إلا
ذر رماد في العيون. وأن هؤلاء الذين عملوا وجهدوا طوال عشرات السنين وفي
جميع الظروف والحالات ليصلوا وبكل الوسائل إلى هدفهم الموعود «إسرائيل
الكبرى» ، عندما يتكلمون عن مؤتمرات إقليمية أو غير إقليمية ومفاوضات مباشرة
أو غير مباشرة، وعندما يتحدثون عن إمكانية تقديم تنازلات أو استحالتها، إنما
يتبعون أسلوباً ذكياً مبنياً على تخطيط مسبق بعيد وعميق، يعملون ويقتسمون
الأدوار على أساسه، فهذا يميني وذاك يساري، وهذا متطرف وذاك معتدل، وهذا
يريد السلام وذاك لا يريده، فالقضية مناورات بمناورات، والمسألة تمثيل بتمثيل،
وفي النهاية تجدهم متفقين على الهدف النهائي.. لقد ذكرت - صحيفة «هآرتس»
أن رئيس حزب العمل شمعون بيريز تحفظ على تصريح النائب يوسي بيلين بشأن
تأييد الحزب للحكومة في حالة انسحاب الأحزاب اليمينية منها إذا ما وافق رئيس
الوزارة على تقديم تنازلات بشأن السلام. وقال بيريز: «ما كنت لأقول كما قال
بيلين لأن تصريحاً كهذا كان سيخلق انطباعاً بأن شامير مستعد فعلاً لتقديم تنازلات» ، وهو لا يريد أن يخلق انطباعاً بأن هذا ما سيحصل. وأضاف أن على الولايات
المتحدة أن تمارس الضغط على العرب وليس على إسرائيل «فالعرب يهذون في
أحلامهم ويبالغون في طلباتهم» .. فبيريز هذا، وهو زعيم المعارضة في إسرائيل، لا بأس عنده في أن يعارض وينتقد شامير في مسألة مبتوتة سلفاً وقطع شوطاً في
تنفيذها كمسألة الاستيطان وبناء المستعمرات، أما عندما تكون المسألة متعلقة
بقرارات عملية لها علاقة بمستقبل إسرائيل، فلا معارضة ولا خلاف. وتجدر
الإشارة هنا بأن شارون وزير الإسكان الإسرائيلي ومدبر ومخطط عملية غزو لبنان
بدأ بتعجيل برنامج إسكان ضخم في الأراضي المحتلة ليجعل من الانسحاب منها
تحت ضغط من جانب واشنطن أمراً مستحيلاً. وهذا البرنامج يشمل خطط لبناء
13000 مسكن جديد في الضفة الغربية خلال العامين المقبلين.
أخيراً، أجد من المناسب أن أختتم هذا المقال بكلام لوزير العلوم الإسرائيلي
يوفال نئمان في مقابلة أجرتها معه مجلة (جيروزالم ريبورت) «وصف فيها
المسيرة السلمية كحيلة خطيرة لإجبار إسرائيل على تقديم تنازلات خطيرة. قال:
» إن اليهود تدبروا أنفسهم بدون سلام على مدى مائة سنة وبوسعهم أن يتدبروا
أنفسهم بدونه مائة سنة أخرى « ...(40/69)
من مانغستو إلى غاندي
ماذا تعني هذه الأحداث
ما وقع أخيراً من الأحداث المتسارعة في دول آسيا وإفريقيا، قد يبدو في
الظاهر أنه لا يجمعه جامع ففي الهند اغتيل زعيم حزب المؤتمر راجيف غاندي
الذي ورث زعامة الحزب عن والدته وجده، وفي الحبشة فرّ منغستو متجهاً إلى
زيمبابوي تاركاً بلاده إلى أزلامه المقربين، بعد حكم دموي دام أربعة عشر عاماً،
وفي تونس ألقت الحكومة التونسية القبض على كثير من زعماء وأعضاء حركة
النهضة الإسلامية، وذلك بتهمة التآمر والانقلاب على الدولة.
ماذا تعني هذه الأحداث، وما هو الشيء المشترك بينها، أول ما يتبادر إلى
أن الذهن أن أكثر دول إفريقيا وآسيا (العالم الثالث) لا تزال في مرحلة تخلف
واضطراب، ولم تستقر على حال بعد، وكل الحكومات المتعاقبة لم تسر على
خطى صحيحة، وتعمل في سبيل مصلحة بلدها، وأولى الخطوات هي إعطاء
الإنسان الكرامة التي يستحقها، فالظلم يؤدي إلى الخراب الاقتصادي، والخراب
الاقتصادي يؤدي إلى الفساد الاجتماعي.. وهذه الدول لاتزال تعيش عقلية القرون
الوسطى الأوربية، فالذين قتلوا راجيف غاندي إنما يريدون منه أن يكون أكثر
تعصباً ضد المسلمين وهو لا يختلف عنهم إلا أنه ناعم الملمس، ومنغستو لا يقر
بأي حق للمسلمين في بلاده، بل إن مواطنيه يقولون: لن يتغير شيء بعد رحيله؛
لأنه ترك أزلامه في السلط. [1] .
وحركة النهضة الإسلامية كانت في البداية تداري وتؤيد الحكومة الجديدة على
أمل الحصول على حقوق الإنسان الأساسية، ولكن أمور الحكم تسير دائماً وكأنهم
يريدون تفجيرها ليهدموا البيت علىساكنيه، وتبقى البلاد في حالة مزرية من
الضعف والتمزق، وقد عبر راجيف غاندي لأحد الصحفيين قبل مقتله بقليل عن
إحباط الناس في الهند، فقال: «إن إحباطاً هائلاً يتولد بين الناس؛ لأن النظام لا
يحقق طموحاتهم» [2] ، وطبعاً هو جزء من هذا النظام، فقد حكم هو وأسرته
فترة طويلة.
إن - هروب منغستو، وهروب سياد بري وسقوط غيرهم من المفسدين في
الأرض يجعل أكثر الناس غباءً يعتبر وينزجر، وليكن يبدو أنه قد ران على قلوبهم.
__________
(1) الحياة 22/5/91.
(2) القدس العربي23/5/1991.(40/76)
حوار
دور المرأة المسلمة
وجهت البيان مجموعة من الأسئلة إلى الأخت الفاضلة خولة درويش. وكان
الحوار يدور حول مكانة المرأة المسلمة ودورها في الأسرة والدعوة إلى الله،
فأجابت مشكورة.
س: لا نستطيع أن نقول أن هناك مشكلة في الإسلام اسمها المرأة، لأن هذا
الدين من عند الله ولا يظلم ربك أحداً، وكل له مكانه ومكانته في حدود ما يسر له.
ولكن السؤال من ناحية واقع المسلمين، هل هناك مشكلة للمرأة؛ وما أسباب
هذه المشكلة؟
ج: حقاً لا توجد مشكلة للمرأة في الإسلام ... أما من حيث واقع المسلمين،
فواقعهم يزخر بالمشكلات لكل من المرأة والرجل على السواء: من بناء الأسرة إلى
طريقة الكسب، طريقة الإنفاق، التعلم، العمل لخدمة الإسلام ...
والمرأة المسلمة تعيش الأوضاع نفسها التي يعيشها الرجل المسلم، فهي بلا
شك تعاني نفس المشكلات أيضاً، يضاف لها المشكلات المفتعلة والتي يصورون
سببها رئاسة الرجل للأسرة.
وفي ظل الالتزام بأمر الله تعالى، لن تكون هناك مشكلة أبداً، وسبب ذلك أن
الله تعالى خالق الذكر والأنثى وكرمهما جميعاً قال تعالى: [ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]
شرع ما فيه خير الجميع من رجل أو امرأة، ولا يحابي في تشريعة الحكيم أيا منهما.
هذا وإن جعل التشريع الحكيم القوامة للرجل.. لكنه قيده بضوابط شرعية
تمنعه من النكاية بالمرأة وإلحاق الضرر بها.
وفي غيبة تطبيق الشريعة الربانية تبرز الأنظمة البشرية التي تقصد مصلحة
أحد الطرفين لا محالة، وهنا فقط تكون المشكلة من تضييق على المرأة باسم
القوامة ليحرمها من حقها المشروع.. إلى تسيب المرأة تحت دعوى الحرية
والمساواة.
س: بالنسبة لمشكلة التعليم، إلى أي حد تساهم المناهج الآن في تشكيل عقلية
المرأة وإعدادها لدورها المطلوب؟ وما هي حدود تعلم المرأة التي تتناسب ودورها
وشخصيتها؟
ج: إن عدم إلمامي بجمع مناهج البلاد العربية يجعل الجواب صعباً، وفي
حدود معلوماتي فإن المناهج الحالية لها بعض الفائدة في تعليم البنات ما ينفعهن في
حياتهن. لكن يعكر على هذه الفوائد كثير مما لا فائدة حقيقية منه، بل ومآله ضرر
محقق.
أما الاهتمام بدورها الأسري، وإعدادها لتكون زوجة واقعية وأماً مربية
فالمناهج لا تفي بهذا المقصود المهم. أما الشطر الثاني من السؤال، وهو حدود
تعلم المرأة: فالعلم المفروض هو ما تحصل به معرفة أمور دينها التي لا يتم
الإسلام إلا بها. أما ما زاد على ذلك فالمرأة تتعلم ما قدر الله لها من العلم وما
ترغب فيه ويتناسب مع استعداداتها وذكائها ما دام ذلك بحدود الشرع. في كون
العلم دون اختلاط أو خلوة.. ونحو ذلك وكذا نوعية العلم الذي تدرسه، فالعلم الذي
هو ترف فكري لا ينفعها في دينها أو دنياها، ويعتبر مضيعة للوقت وتحاسب عليه
أمام الله عز وجل.
ومن أكثر ما يهم المرأة المسلمة ويجب أن تسعى لتعلمه: معرفة أسس
الشريعة التي تؤهلها للعبادة، معرفة قواعد الصحة العامة، التدبير والاقتصاد
المنزلي، أسس التربية، وكذا ما ينفعها في مهنتها المشروعة (كأن تنمي معلوماتها
التي تختص بالتعليم وإن كانت تعمل معلمة، أو تجدد اطلاعها إن كانت طبيبة..
وهكذا) .
س: من الملاحظ أن المرأة كان لها دور كبير في أوائل الدعوة فما دورها
الآن؟ وهل أتحنا لها أن تقوم بهذا الدور في مجتمعاتنا الدعوية المعاصرة. ومن
يتحمل مسؤولية إبعادها عن هذا الدور؟
ج: لا شك أن كل منصف يقدر للمسلمة في فجر الدعوة دورها ومساهمتها في
تبليغ رسالة السماء، ونتطلع إلى الاقتداء بأولئك النساء الفضليات. أما دورها الآن، فأرى أنه شبه مفقود، وإن وجد فهي محاولات ذاتية وقليلة للقيام بهذا الواجب
الشرعي. ونرجو لهذه المحاولات أن تنمو على أسس شرعية سليمة.
أما مسؤولية إبعادها عن هذا الدور:
- فتتحمله الأوضاع الجائرة في كثير من البلاد الإسلامية.. فهي قد أبعدت
الرجال عن القيام بهذا الواجب فضلاً عن النساء.
- وتتحمله الموروثات الخاطئة عن مهمة المرأة في الحياة، حيث ينظر إليها
على أنها أداة لحفظ النسل.
- وتتحمله أنانية كثير من الرجال أو ضيق أفق بعضهم، لشعورهم بذاتهم في
غيبة وعي المرأة وعملها في الدعوة.
وتتحمله المرأة نفسها؛ إذ للأسف يصعب على البعض الموازنة بين الحق
والواجب فيجمح بها الغرور، ويحول الكبر والغطرسة التي قد يخلفها العمل دون
تقدير رأي الزوج مما يحول البيت إلى جحيم لا يطاق.
وأرى أن الحل هو في التربية الإسلامية المتوازنة التي تدعو إلى إعطاء كل
ذي حق حقه أولاً، ومن ثم الدعوة إلى الخير والتناصح.
س: ضمن التناول المتطرف للأمور يأتي موضوع المرأة بين من يريدون
مساواتها بالرجل في أمور الدعوة وبين من يحتصرون دورها ومهمتها في المطبخ
والأثاث والملابس.. الخ ما رأيكم في هذا؟
ج: إن الدعوة قد تستلزم السفر أو الخروج من المنزل، وقد تستلزم الذهاب
إلى بيوت الأخريات أو قدوم النساء إلى بيت المرأة، كما وأنها تحتاج إلى بذل
وإنفاق. وهذه الأمور جميعاً ينظمها الشرع ويجعل الرأي فيها جزءاً من قوامة
الرجل على المرأة. أي أن مساواتها بالرجل في أمور الدعوة تنافي الدعوة التي
تريد أن تتصدر لها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تكون مهمتها الطبخ والأثاث ونحو ذلك،
فهذه مهام تقوم بها أي امرأة أو حتى الرجل إن كان خادماً، فلماذا أوصى الشرع
بحسن اختيار الزوجة؟ وإلا ما الفرق بين امرأة وأخرى.
والناظر في دور المرأة المسلمة في هذا المجال عبر التاريخ، يجد أنه كان
لدعم عمل الرجل، ولا يصح بحال أن يستهان بهذا الدور، فمواساة السيدة خديجة
للرسول -صلى الله عليه وسلم- في بدء الدعوة شدت أزره وأذهبت روعه حين
تحملت معه المصاعب في الشعب وواسته بمالها، فكان موقفها يعجز عنه الرجال.
فالمرأة في كونها السكن النفسي لزوجها تؤدي دوراً دعوياً مهماً. ذلك لأنه
مشغول البال والفكر، لا يمكن أن ينهض لحل مشكلاته الخاصة فضلاً عن دعوة
الغير إلى الخير. وأنّى له أن يجد الراحة وقد تحول بيته إلى مكان لتنغيص العيش
وإثارة الهم.
وباختصار فالرجل المسلم لا يكبتها فيحطم كيانها وبنفس الوقت لا يترك الحبل
على الغارب فيفسد دينها ودنياها، والمرأة المسلمة تعلم أن عملها في المطبخ ليس
مجال أنفة وكبر، وإنما هو مجال للثواب، ورجلها المسلم إذا أمكنه لا يبخل عليها
بإحضار بعض الآلة المريحة التي تشعرها، بكيانها، وتوفر جهدها ووقتها لتقوم
بمهام دعوية جليلة.
س: هل تستطيع المرأة المسلمة توظيف موضوع الزيارة مع الأقارب أو
الجيران أو أخواتها المسلمات دعوياً لإيجاد تطلعات إلى الحياة الإسلامية؟
ج: إذا كانت مسلمة حقاً فبالتأكيد تستطيع ذلك وهو جزء من واجبها الديني.
ذلك أن نظرة الناس إلى الدين إنما تبنى بالنظر إلى تصرفات المتدين.
ودعوتها تبثها في كونها قدوة حسنة في كريم أخلاقها، اعتدال لباسها واحتشامه،
همومها، تطلعاتها، معايشتها للآخرين ومشاركتها لهم في آلامهم وأفراحهم، حسب
ما يبيحه الشرع. كل ذلك تأتي به طبيعياً دون تكلف، فضلاً عن الدعوة المقصودة
في انتهاز الفرص المناسبة للدعوة والتوجيه على أن لا يكون في ذلك مبالغة، وعلى
أن تراعي أحوال المدعوات وإلا كان الكلام ممجوجاً ثقيل الظل. وبالتالي تمقت
المبادئ التي تدعو لها.
س: أين تقف المرأة المسلمة الآن من مؤسسة الأسرة وهموم هذه المؤسسة؟
ج: للأسف قد تزف الكثير من فتياتنا إلى بيت الزوجية، والواحدة منهن
تحمل أوهاماً كثيرة.. تظن أنها ستذهب للراحة والتدليل، وما درت أن هذه بداية
المسؤوليات، فقد ذهب دور الأخذ الأسري الطفولي وجاء دور العطاء العاطفي
والتضحية بالراحة والرغبات لمصلحة كل من الزوج وأهله والأصحاب والجيران.. ومن ثم الأولاد.
وتبدأ المشاكل حين تصطدم الفتاة بالواقع الذي لم تهيأ له، وقد يطول لسان
المسكينه لتثبت أنها ليست بأقل من رجلها، فتحول دون الهناءة المنتظرة ويتعلم
أطفالها ذلك.
والمرأة الداعية لدينها تعلم أنها إن احترمت زوجها وأحسنت عشرته احتساباً
للثواب من الله فهي في عبادة تؤجر عليها.
وإن حفظته في أهله فراعت حقهم وأحسنت إليهم، وإن حفظته في ماله
فوضعت كل درهم في موضعه المشروع فهي في عباده. وهي إن ربت أولادها
فأحسنت أدبهم فهي في عبادة يبقى أجرها لما بعد الموت، تعرف أطفالها حق الله،
وتتابعهم في أداء الصلاة، تعودهم على مراقبة الله والعمل على مرضاته، تعرفهم
حق الوالدين، فلا تسمح لأحد بذكر كلمة سوء عن الأب، حتى ولو كانت في أشد
حالات الغضب. وإلا فهي التي ستتلقى التهجمات من ابنها نفسه فيما بعد؛ لأنها قد
أورثته العقوق، تحببهم في العلم ومصاحبة الكتب..
وهكذا تجعل من بيتها واحة عطرة تفوح بالخير والفضيلة في أرجاء المجتمع، والمسؤولية للنهوض، بالمرأة (فيما أرى) موزعة بالتساوي على أسرنا وإعلامنا
ومناهج الدراسة.
س: ما هي الكتب والموضوعات التي تبني شخصية المرأة وتنميها في
الأمور التي نرى أنها مهمة لها كمسلمة تعيش في ظروف المجتمعات الإسلامية الآن؟
ج: الكتب كالدواء فكما أنه يوصف لكل مريض ما يناسبه، ويضر به أن
يعب من الصيدلية أي دواء. كذلك فلكل امرأة ما يناسبها من الكتب حسب ثقافتها
واستعداداتها والغاية التي تريد أن تقرأ لأجلها. وعلى العموم فالكتب التي يشترك
الجميع فيها قد تكون:
- المرأة بين الفقه والقانون لمؤلفه، د. مصطق السباعي -رحمه الله-
- كتاب الحجإب - تفسير سورة النور، لأبي الأعلى المودودي -رحمه الله-
- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي.
- واقعنا المعاصر، محمد قطب -حفظه الله-
- قولي في المرأة، مصطق صبري -رحمه الله-
- الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد محمد حسين -رحمه الله-
- المجلات الإسلامية كالبيان مثلاً.
س: باعتبارك تشرفين على المدارس الأهلية للبنات، فما انطباعاتك عن هذه
المدارس؟ وما دورها في تربية أبناء المسلمين تربية إسلامية هادفة؟
ج: للمدارس الأهلية دور كبير في التغيير الاجتماعي سلباً أو إيجاباً، وقد
عرف المبشرون والعلمانيون ذلك، فتخرج من مدارسهم أناس أداروا دفة التوجيه
والقيادة في كثير من بلادنا الإسلامية.
واليوم ولله الحمد قد أدرك الكثير من المسلمين أهمية المدارس والتربية فيها،
فنشطوا ليسدوا بعض الثغرات، وليقوموا بأمانة تربية الأجيال المسلمة، وأصبح
كثير من هذه المدارس يسعى إلى غرس المثل الإسلامية، والقيم الخلقية السامية
رغم العقبات التي تلقاها، من قلة الكوادر المؤهلة في الإدارة والتعليم حيناً، أو
الصعوبات المالية حيناً آخر أو تدخل الأنظمة في أكثر بلدان المسلمين؛ لتحد من
انطلاقة المدارس الجادة نحو تحقيق أهدافها المرجوة الخيرة.
ومهما يكن الأمر فهي معقد الأمل للتربية الإسلامية المنشودة، جزى الله
القائمين عليها خيراً.
س: وأخيراً هل لديك نصيحة تريدين توجيهها إلى الفتاة المسلمة؟
ج: نعم أرجو من كل فتاة مؤمنة أن تكون على مستوى مسؤوليتها،
فالمؤامرات تحاك ضدها فلا تنخدع.
وأن تشعر أنها على ثغر خطير من ثغور الإسلام، فلا يؤتين من قبلها.
أن ترتفع فوق جواذب الأرض والتفاهات الفارغة، والموضات الخداعة
القاتلة، لأنها ذات رسالة وأية رسالة! إنها إعداد الأجيال المؤمنة، لَبِنات الحياة
الإسلامية، والمجتمعات الجادة على طريق سلف هذه الأمة وما ذلك على الله بعزيز.(40/78)
تربية
من وحي التربية النبوية للأطفال
مؤمنة الشلبي
إذا كانت معظم الحضارات السالفة التي ازدهرت قبل ظهور الإسلام، قد
عرفت ألواناً متعددة من التربية طبعت حياتها بطابع يعكس فلسفة كل أمة من تلك
الأمم.. فإن الأمة الإسلامية قد انفردت عن غيرها من الأمم بنظام تربوي متميز
قادر على تكوين أجيال مسلمة متوازنة، قادرة على تحمل المسئولية الكاملة في
تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المربي الأول الذي قام بهذه
المهمة التربوية فرسم نماذج تربوية للطفولة لم يسبق لها مثيل في عالم الرعاية
بالأطفال، حيث كان يشرف بنفسه وبأسلوبه الفريد في تنشئة تلك البراعم التي لم
تتفتح، والأغصان التي لم يشتد عودها بعد.
ولم تكن هذه التربية النبوية قاصرة على من يعيش في كنف النبي الكريم -
صلي الله عليه وسلم-، أو من يعيش تحت سقف بيته، بل كان ذلك مبدءاً تربوياً
ينتهجه لأمته عامة، ويرسخه لكل الأجيال من بعده ليقتفوا أثره ويسيروا على
منهجه التربوي عملاً بقوله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ] [الأحزاب: 21] .
ولو تتبعنا مراحل المنهج التربوي النبوي في عالم الطفولة لرأينا أن مرحلة
التربية تبدأ منذ أن يكون الطفل سراً في عالم الغيب، وذلك ليضمن الأصل الصالح، والمنبت الطيب، والمحضن الأمين، فدعا الزوج لاختيار الزوجة الصالحة التي
ستكون مصدر عزة الطفل ومربيته على الفضائل.
فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تخيروا لنطفكم، فأنكحوا
الأكفاء وانكحوا إليهم» [1] وقال -عليه السلام-: «تنكح المرأة لأربع: لمالها،
ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» [2] . كما دعا -
عليه الصلاة والسلام- المرأة وبنفس القوة إلى إيثار الزوج الصالح الذي سيكون أباً
لأطفالها وقدوتهم ومصدر عزتهم، فقال تعالى: [ولَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ولَوْ
أَعْجَبَكُمْ] [البقرة: 221] . كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاءكم من
ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد، قالوا: يا
رسول الله وإن كان فيه؟ ؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه..
ثلاث مرات» [3] ، وما أن يتم عقد الزوجية حتى يتمثل الزوجان قول الله عز
وجل: [رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً]
[الفرقان: 74] .
وقبل المباشرة يردد الزوج ما أرشده إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا» متفق عليه.
وهذا من باب الأخذ بأسباب التربية الصالحة التي تبعث في الزوجين
الطمأنينة على مستقبل أطفال أصحاء روحياً وجسدياً.
وما إن تستقر النطفة في رحم المرأة، وتبدأ مرحلة تكوين الجنين في بطن
أمه حتى يوصي الإسلام بالعناية بالحامل عناية كبيرة من أجل سلامتها وسلامة
جنينها، فيأمرها بالأخذ بالأسباب العلاجية، والوقائية، والنفسية، والروحية،
لدرجة أنه يعفيها من فريضة الصيام أثناء الحمل [4] ، كما أنه يحثها على قراءة
القرآن، والدعاء المستمر، فقد أثبتت التجارب العلمية والعملية أن المرأة المتزنة،
والمطمئنة نفسياً، يتصف وليدها بطبيعة هادئة ومتزنة على عكس المرأة
المضطربة نفسياً والتي تمارس العادات السيئة.
وبعد الولادة حيث يستقبل الطفل بالفرح والبشارات ومع بداية هذه المرحلة
الهامة من حياة الطفل الذي يكون فيها جاهزاً لكل ما يعرض عليه من مكارم
الأخلاق، ومحاسن الصفات، سنَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نبدأ
هذه المرحلة بغرس جذور العقيدة وكلمة التوحيد والشهادة من خلال الأذان في أذن
المولود اليمنى. فقد أذن النبي الكريم في أذن الحسين بن علي، فعن عبيد الله بن
أبي رافع قال: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن في أذن الحسين حين
ولدته فاطمة» [5] .
وحين يبلغ الطفل يوم سابعه يوصي الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتكريمه
والاحتفاء به حين يقول: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه
الأذى» [6] .
فيأكل الفقير والأقارب من هذا الاحتفال بقدوم المولود، ويحلق شعره ليماط
الأذى عن رأسه، ويتصدق بوزنه من الفضة على الفقراء، والمساكين،
والمحتاجين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة - رضي الله عنها -
حين ولدت الحسين: «احلقي رأسه فتصدقي بوزنه من الورق على
المساكين» [7] .
وفي هذا اليوم أيضاً ندب -عليه الصلاة والسلام- تسمية الطفل واختيار الاسم
الحسن له حيث قال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «أحب الأسماء إلى الله تعالى
عبد الله، وعبد الرحمن» [8] ، فكانت هذه أيضاً مكرمة للطفل تساعده على
الابتهاج حين يدعى باسم حسن، وتجنبه الاعتزال والخجل فيما لو أسماه اسماً قبيحاً.
ومن أجل ذلك حرص - عليه السلام - على إبدال الأسماء القبيحة بأسماء
حسنة، كما بين لنا أحب الأسماء وأصدقها، وأقبحها.
وهكذا تتدرج العناية بالطفل والاهتمام به، وتربيته بكل أنواع التربية الشاملة
من خلال توجيهات نبوية كريمة في كل مرحلة من مراحل نمو الطفل نفسياً،
وجسدياً، - بدءاً من التربية العقدية السليمة، ومروراً بالتربية الاجتماعية والخلقية، والعاطفية.
ولكن المهم الذي لا بد من ذكره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان نموذجاً
فريداً للأبوة الكريمة في حياة البشرية. يفرح بقدوم الأطفال، ويشارك في اختيار
أسمائهم، ويحنو عليهم فيمازحهم، ويلاعبهم، ويضمهم إلى صدره الكريم، ويقبلهم
بفمه، فإن هذا يعطيهم الجو النفسي للحياة الإنسانية السوية، رحمة، وحباً، وإخاء.
وبذلك كان من ثمار هذه التربية الفذة أن أنشأت جيلاً مثالياً حقاً في إيمانه،
وعبادته، وتفكيره، وأخلاقه، ومعاملته.
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1067.
(2) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في النكاح (9/115) ومسلم برقم 1466.
(3) أخرجه الترمذي برقم 1085 في النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.
(4) (البيان) : الإسلام لا يعفي المرأة الحامل من الصيام إلا إذا خافت على نفسها أو ولدها من الضرر فالأمر مقيد والله أعلم.
(5) أخرجه أحمد في المسند (6/9) وأبو داود برقم 5105 والترمذي برقم 1514 وقال: حسن صحيح.
(6) أخرجه البخاري (9/509) كما في الفتح، وأبو داود برقم 2839 والترمذي برقم 1515.
(7) أخرجه أحمد (6/290 و 292) والبيهقي في سننه (9/403) وسنده حسن.
(8) أخرجه مسلم برقم 2132.(40/85)
ركن الأسرة
عرض لكتاب كيف تخشعين في الصلاة
تأليف: رقية بنت محمد بن محارب
عرض: سمية عبد العزيز
لقد أنسانا هذا العصر المادي - عصر السرعة والجري المتواصل - الغرض
من الصلاة، فالكثير منا يصلي، والقليل منا يخشع مع الأسف الشديد.
نتساءل: ما معنى الخشوع؟ وما الهدف من الخشوع؟ ... والأهم من هذا كيف يتحقق الخشوع؟
نجد الإجابة عن هذه الأسئلة في هذا الكتاب: «كيف تخشعين في الصلاة» .
الكتاب يقع في حوالي الثمانين صفحة من القطع المتوسط، خمسة موضوعات
رئيسية بعد المقدمة.
وقد خصص الموضوع الأول منه في فضل الخشوع، ثم تلاه الثاني في ذكر
الخشوع قبل الصلاة، ثم الاستعداد للصلاة قبل الصلاة، ثم في أثناء الصلاة وأخيراً: خشوع السلف.
وعند حديث المؤلفة عن أصل الخشوع ذكرت قول ابن رجب: «لينُ القلب، ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره ورقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع
الجوارح والأعضاء لأنها تابعة له» .
ثم تقول: «والخشوع يتأتى غالباً للعبد إذا ما بذل أسبابه، كما أن القلب
يقسو ويغفل إذا ما تركت أسباب الخشوع» .
وبعد ذلك يمضي الكتاب ذاكراً أسباب الخشوع، حيث يخص موضوعاً لذكر
ما يجب فعله استعداداً للصلاة قبل الصلاة. ثم يذكر ما يجب على المصلي أثناء
الصلاة.
ففي هذا الموضوع تقول: «أول ما يبدأ به المصلي تكبيرة الإحرام أما كيفية
الخشوع بتكبيرة الإحرام فإن عليك أيتها المصلية أن ترفعي يديك حذو منكبيك أو
حيال أذنيك متوجهة بباطن الكفين إلى القبلة ممدودة الأصابع ضامة لها، تشعرين
وأنت بهذا الحال بالاستسلام التام لرب العباد، واستشعري أنك إذ ترفعينها
تستسلمين لله الذي خلقك وهو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه
سبحانه، كيف بمن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه،
يأمرك أن تستسلمي وتقفي بين يديه ذلاً وخضوعاً له، رافعة يديك معلنة التسليم
التام له. متخلية عن كل شيء في يديك أو تملكينه، فالأمر أعظم من أن تتمسكي
بشيء من أمور الدنيا، فهذا وقوف بين يدي من بيده كل شيء كيف يمر عليك
التكبير والمال هكذا بسهولة.
ثم تنطلق كلمة التسبيح والحمد لمن هذا شأنه، فتقولين:» سبحانك اللهم
وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك «.
وأنت في قيامك هذا تقفين موقف الذليل الخاضع، تضعين يدك اليمنى على
اليسرى على صدرك بكل استكانة لمن أوقفك هذا الموقف، وسيوقفك الموقف
الرهيب يوم القيامة، تنظرين إلى موضع سجودك بكل إطراق وتفكر، فما توردين
من ألفاظ مقتدية بنبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان إذا صلى طأطأ رأسه
ورمى ببصره نحو الأرض.
تخشين أن ينصرف الله عنك وتستحضرين قوله -عليه الصلاة والسلام-:
» فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت «، وقوله:» لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه «.
ويمضي الكتاب في ذكر الأسباب الجالبة للخشوع أثناء الصلاة سواء في
القراءة أو في الركوع أو في السجود أو في التشهد، ثم تذكر الأذكار التي تقال بعد
السلام.
هذه نبذة يسيرة علها تكون دافعاً لقراءة هذا الكتاب القيم.(40/89)
إعلام
قليلاً من العاطفة ...
ودعونا نفكر أكثر!
أحمد بن راشد بن سعيّد
بعد غزو صدام للكويت كان الرد الإعلامي في الدول العربية المستهدفة من
الغزو عاطفياً إلى حد كبير.. وكانت الصحف والمجلات لا تكف عن نقد صدام
حسين والتشهير به.. وأغفلت كثيراً التحليل الموضوعي، والمعالجة المنهجية
للأزمة.
وقد يكون مفهوماً أن يستجيب الإعلام عاطفياً للأزمة في أيامها الأولى، فيبدي
امتعاضه واستهجانه للغزو والقائمين به، ولكن هذا لا يكون هو الشغل الشاغل
للصحافة طوال أيام الأزمة.. وقد لاحظنا كماً هائلاً من رسوم (الكاريكاتير) الساخرة
بشخص صدام حسين، وقصائد نبطية تملأ أعمدة الصحف.. وكان استمرار نشر
هذه الرسوم والقصائد بعد انقضاء الأيام أو الأسابيع الأولى للصدمة أمراً لا يخدم
القضية.. وكان الأولى هو تنبيه الرأي العام إلى أن القضية ليست شخصاً يظهره
(الكاريكاتير) على أنه حيوان أو مجنون، وإنما القضية قضية حكم فردي دموي
جائر، يتبنى طروحات وعقائد دخيلة على المسلمين.
كانت مساحات التحليل والنقاش، ومعالجة أسباب الأزمة واستقاء الدروس
محدودة جداً، وتكاد تكون غائبة إذا قورنت بمساحات الغضب والانفعال والتهكم
بحكم العراق ومؤيديه.
غير أن هناك نوعاً من الإعلام برز خلال الأزمة، واتسم بالموضوعية
والتعقل والطرح المتوازن، وهو إعلام المساجد أو الخطب والمحاضرات التي
ألقاها بعض المشايخ وطلبة العلم حول الأزمة.. وقد استقطب هذا الإعلام اهتمام
الجمهور، وكسب احترامه، مما حفز كثيراً من الناس لتسجيل أشرطته وتداولها..
لكن بعض الصحفيين والكتّاب الذين تسوقهم العاطفة أكثر من التفكير التحليلي أو
المنهجي، لم يعجبهم انتشار وشعبية الإعلام «المسجدي» ، وحاولوا مقاومته
والتحريض عليه باسم العقلانية والمنهجية، وكان أحد هؤلاء الدكتور عبد الله
الفوزان.
فقد كتب الدكتور في مجلة اليمامة (العدد 1123 7ربيع الأول 1411هـ) ،
مقالاً عن أزمة الخليج بعنوان: «كفى عواطف.. ودعونا نفكر» .. حذر فيه من
خطورة ما وصفه «بالإعلام السري» الذي «يتسرب في الظلام فلا يراه أحد» .. ومثل له «بالأشرطة» .. وعزا انتشار هذا النوع من الإعلام إلى ضعف ما
وصفه «بالإعلام العملي الرسمي» .
ووضح الدكتور الفوزان رأيه أكثر فقال: إن أحاديث بعض الإخوة في
(المساجد وحلق الذكر والمجالس الخاصة) «لا تصمد للعقل الفاحص» و «تحمل
قدراً كبيراً من الخطر على بعض السامعين البسطاء الذين يثقون أكثر مما
يفكرون» .. وعبارات الدكتور تشير بشكل واضح إلى أحاديث لبعض المشايخ وطلبة العلم حول الأزمة، وتحذر من تأثير سلبي محتمل لهذه الأحاديث على عامة الناس، لسبب جوهري وهو «مصداقية» هؤلاء المشايخ وتقبل الناس لكلامهم. ودعا الفوزان إلى مناقشة آراء هؤلاء في وسائل «الإعلام العقلي» ، حتى يتحصن الناس ضد ما وصفه «بالآراء الخاطئة والتحليلات البعيدة عن الصواب، التي يبثها الإعلام العقلي السري» .
وقد تجاهل الفوزان - تحت تأثير عاطفته المحضة - أن المساجد كانت
ولاتزال أماكن اجتماع المسلمين، وملاذهم في الخطوب، يناقشون فيها مشكلاتهم،
ويقترح فيها العلماء والخطباء حلولاً لهذه المشكلات، صادرين عن أصلين عظيمين
هما الكتاب والسنة، ومستشهدين بالتاريخ والآثار وأحوال الأمم الغابرة والحاضرة.. فإذا كان الدكتور قد عنى بالإعلام العقلي التحليل الموضوعي، والنقاش المبني
على المسببات والنتائج، والحلول والدروس، فإن المسجد هو المكان الأصلي
والطبيعي لمثل ذلك، إذ أنه أقدم وأشهر وسيلة إعلامية في التاريخ «الإسلامي..
وهذا بالطبع لا يعني التقليل من أهمية وتأثير الإعلام الحديث، إذ ينبغي أن تعمل
الصحيفة والإذاعة والتلفزيون جنباً إذ جنب مع المسجد في أداء وظيفة الإعلام
والاتصال وتبادل وجهات النظر.. ولا ضير أبداً من حديث أهل العلم في المساجد
وحلق الذكر، ولا خوف على الناس عامتهم وخاصتهم من ذلك، بل الخوف هو من
هذه النظرة الدونية إلى إعلام المساجد، والتي تقلل من فرص الإبداع والحوار،
والمشاركة الجماعية، وإثراء الرأي العام.
والغريب في الأمر أن الدكتور وأمثاله من دعاة العقلانية والمنهجية، يدعون
إلى تكرير هيمنة إعلام واحد فقط، ويحذرون من آثار سلبية مزعومة للإعلام
الأصلي النابع من ديننا وحضارتنا، وهو تحيز يقف بلا شك ضد العقلانية السوية!
إن عبارات» الإعلام السري «الذي» لا يصمد للعقل الفاحص «
و» يتسرب في الظلام فلا يراه أحد «.. هي عبارات مشحونة بالعاطفة والهوى، وليس فيها من العقل الفاحص ولا الناقص ذرة.
إن الدعوة ينبغي أن تكون لتوسيع نطاق الاعلام» المسجدي «والسماح له
بإثراء الرأي العام، وتصحيح الأخطاء القائمة.. كما ينبغي أن تكون لتصحيح
مسار الصحافة المغرقة في التنفيس العاطفي، وتوجيهها لكي تفسح مساحات أكبر
للنقاش الموضوعي، والنقد الذاتي، ووجهات النظر الأخرى.
لقد كشفت أزمة الخليج عن ضحالة كبيرة في الإعلام العاطفي وضيق أفق لدى
بعض أربابه، لا الذين يريدون وأد أصوات العقل والعاطفة، المنضبطة بحدود
الشرع.. كما كشفت عن قدرة الإعلام المسجدي (الذي تتميز به الأمة الإسلامية)
على الاتصال بالناس، والحوار معهم، وتحفيز مشاركتهم، وتوعيتهم وتثبيتهم.
بقي أن نقول: إن مهمة الاتصال بالمجتمع ليست حكراً على مؤسسة واحدة،
ولا» دكتور «أو» رئيس تحرير «بعينه، لا سيما إذا كانت الآراء التي يراد
إيصالها شاذة مستوردة، ومن النوع التحريضي العاطفي الصرف.
قليلاً من العاطفة إذن..
ودعونا نفكر أكثر!(40/91)
مفارقات
المواعيد
د. خالد الموسى
سبحان الله لقد أصبح مثلاً أن يتخاطب شخصان عن موعد بينهما بتساؤلات
غريبة:
هل هذا الموعد عربيٌ أم افرنجي؟
ذلك لأن الموعد العربي (حسب زعمهم) متصف دوماً بالتأخير واللامبالاة
والاستهتار، بل والإخلاف بالوعد على نقيض الموعد الإفرنجي أو الانكليزي
بالتحديد الذي يعني دوماً وللأسف دقة الموعد وضبطه.. حتى صار مجالاً للمدح
والإطراء..
إنه لمؤسف جداً أن يتسم أعداء الإسلام ببعض صفات الخلق الاجتماعي
كالوفاء بالوعد والالتزام بالاتفاق وأقول للحق إن هذا الأمر فيما يخص المواعيد
واللقاءات وتحديد الزمن فيها موجود عند غالبيتهم العظمى..
ومقارنة لهذا النظام السائد بينهم وبين غيرهم نجد العكس تماماً فغالبية شعوبنا
لا قيمة للوقت عندهم.. سواء تأخر الشخص ساعة أو ساعات أحياناً أو يهمل
الموعد وينساه أو يتناساه، وما أكثر ذلك.. وسيان عنده الأمر إن حضر للموعد
والتزم بالوقت أو تأخر أو غاب عنه وتخلف.. ويقول لك: ماذا يعني هل خربت
الدنيا واندثر العالم بهذه المخالفة وهذا التأخير.. فيأبى في أعماق نفسه حتى عن
الاعتذار وإظهار الأسف عن التأخر أمام الآخرين مراعاة لشعورهم وأحاسيسهم
وتحرجهم وإحراجهم من هذا التأخير وهذا الارتباط بالموعد..
نسي الكثيرون أن الوقت ليس ملكهم خاصة.. وأن المواعيد ملك للمتعلقين
بهذا الوعد.. وقد يترتب عليها مفسدة بل مفاسد وأضرار تضر بالمصالح العامة أو
الشخصية.. قد تلغي أو تؤجل اجتماعات.. وقد يترتب عليها خسارات مادية
واعتبارات شخصية.. وخلل اجتماعي ... ويكفي أن يتصف هذا الشخص أو ذاك
بأنه كذاب وأنه يخلف الوعود.. وهذه صفة من صفات المنافقين.. يقول -عليه
الصلاة والسلام-: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا
اؤتمن خان» .
وللإنصاف نقول من جهة أخرى: ما زال البعض وخاصة من حملة الرسالة
وحملة الدعوة الصادقين الملتزمين يحترمون هذه الأوقات ويلتزمون المواعيد
والارتباطات ويحثون الناس على احترام المواعيد والمواثيق. وتجدهم أسوة حسنة
ومرآة ناصعة أمام الجميع.
إنها لمفارقة عظيمة أن نستمر في هذه الفوضى وأن نعيش بعيداً عن معتقداتنا
ومنهجيتنا وسلوكنا القويم وتربيتنا الصحيحة السليمة. إنها لمفارقة أن نعترف
لأعدائنا بأنهم يتسمون بالنظام وضبط المواعيد ولأنفسنا بالفوضى واللامبالاة
والتخلف عن الموا عيد..
مفارقة أن لا نحاول ترك الكذب والمراوغة في حياتنا وسلوكنا اليومي وأن
ندع الآفات الاجتماعية برمتها تتراكم متثاقلة فوق أجسادنا وترسخ بكامل وزنها
وثقلها فوق عاتقنا حتى توصلنا إلى مرحلة اليأس من التغيير، والإذعان للأمر
الواقع.
إنه لجديرٌ بنا ونحن أمة القرآن وأمة الإسلام أن نسترد عزيمتنا ونقوم سلوكنا
ونربي أنفسنا ونغير منهجنا لما لا يرضي الله عز وجل ووفق منهج الحق،
والصلاح والاستقامة وأن ننشئ الجيل القادم على الفضيلة والصدق والوفاء وأن
نتمثل ذلك فينا لنكون قدوة حسنة وأسوة طيبة.
إنه لحريٌ بكل منا أن يغير ويبدأ الإصلاح بنفسه ويعاهد الله بالالتزام
بالمواعيد والتقيد بها بدقة أن تجاهد نفسه على تنظيم أوقاته، وارتباطه مع الآخرين، ووالله سيجد لذة ومتعة حينما يجد نفسه التزم مع الآخرين والتزم الآخرون معه،
وعرف قيمة الوقت وتنظيم الساعات.. وهذا لا يكلف الكثير.. مرات ومرات من
المحاولة والاعتياد. فيجد نفسه سار في درب النظام وتعود على دقة المواعيد
وأصبحت جزءاً من حياته اليومية وأصبح قدوة لغيره.
قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] .(40/94)
منتدى القراء
أزمة الخليج.. حولها ندندن
عبد الحليم صالح البراك
مع أن هذه الأزمة كانت فتنة، ولكن قد تلوح الحمرة قبل الفجر، وأمل المسلم
بالله كبير.
إن الذين حاولوا استخدام الدين لمصالحهم الشخصية، أو لإبعاد تأثيرات
الأزمة إنما كانوا يعلمون أن الإسلام في الحقيقة هو محرك الشعوب، وهو الذي يهز
المشاعر وقبل هذا ما كانوا يأخذون رأي الدين.
حتى أن (بوش) حاول إبعاد الدين عندما قال: «الحرب ليست حرب أديان
أو حرباً مقدسة..، وذلك لعلمه بتأثير الدين وكل يتكلم من زاويته التي يراها
مناسبة.
إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وما جاءت هذه الفتنة إلا لأن الصحوة
الإسلامية عمّت واشتد عودها واستوت على سوقها، واشتدي أزمة تنفرجي..(40/96)
ضوء في طريق الغرباء
بدأ الوحي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتلك الهزة الشديدة العنيفة،
وكأنها تهيئة له -صلى الله عليه وسلم- لاستقبال ذلك الأمر الضخم ليكون -عليه
الصلاة والسلام- في قمة الانتباه والصحو.
ثم يأتي أول أمر، أول توجيه، أول كلام الله عز وجل إلى رسوله الكريم
وإلى البشر أجمعين [اقْرأْ] ، يأتي دعوة قوية للقراءة والعلم.. قراءة الكون
والحياة، قراءة الإنسان والكائنات، قراءة السنن والأوضاع والأحوال. قراءتها
على هذا النحو [بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ] باسم الله سبحانه الخالق المبدع، اقرأ هذه
الآيات ولكن بالنظرة الجديدة بالإخلاص الكامل والتجرد لله الواحد، اقرأ كل هذه
الآيات ولكن من خلاله سبحانه بالتصور الذي يوحيه ويرضاه، اقرأ وزن ولكن
بميزان الله، وانظر وشاهد ولكن من خلاله سبحانه.. إخلاص كامل، ونقلة بعيدة..
هذا هو الطريق وتلك أولى خطواته، طريق تقوم خطواته منذ بدايتها على
الجادة واليقظة والانتباه بل على قمة هذه المعاني تسير يدفعها الإخلاص والتجرد لله
سبحانه.. هذا هو الطريق إخواني فهل نحن سائرون؟ !
نعلم إخواني إن الاستمرار على الجادة شيء صعب، وإن الارتقاء ومداومة
اليقظة والصحو شيء كذلك صعب يحتاج إلى عزيمة لا تنضب، كما أن الإخلاص
ومتابعة النفس وشهواتها والتجرد لله تعالى شيء يحتاج إلى صلة دائمة بالله تبارك
وتعالى وذكر دائم، وأن كل هذا في إجماله يحتاج إلى صبر لا ينفذ.
لهذا فأول ما يحتاج إليه الإنسان بعد أن يضع قدمه على الطريق ويخلص النية
والقصد ذلك هو الزاد.. فتعالوا معي إخوتي لنرى ما الذى وجه الله تعالى إليه نبيه
الكريم ليستطيع حمل التبعة والأعباء العظام. تعالوا لنرى ثم لنحاول أن نحمل
أنفسنا على مثله، عسانا نصدق في اقتفاء الأثر الكريم لذي الخلق العظيم على درب
رب العالمين. في محاولة لبعث الأمة من جديد بعد إزالة الغربة على طريق
التمكين لدين الله ربنا رب العالمين.
كان من أول التوجيهات تلك التي جاءت في أول سورة المزمل وأول سورة
المدثر، فكانت دعوة إلى قيام الليل والتهجد، وترتيل القرآن الكريم كلام الله رب
العالمين، وكانت دعوة لذكر أسماء الله وصفاته والتسبيح والتبتل إليه والخضوع
لجنابه، وكانت دعوة للتوكل عليه والخلوص إليه سبحانه فهو مالك الملك رب
المشرق والمغرب بيده الأمر كله وهو فعال لما يريد، ثم كانت الدعوة إلى الصبر
والاحتمال، هذا مع الإعراض عن سبيل المجرمين وفي الحقيقة أن كل هذا من قيام
وترتيل وذكر وتبتل وحسن توكل يحتاج إلى صبر تتقاصر دونه الهمم الضعيفة
وترتعد منه الأوصال الهزيلة في حين أن من يقوم بتلك الأعمال فإنه يزداد يقينه
وتثبت أقدامه وبالتالي يزيد صبره فهي حلقات يسلم بعضها إلى بعض، وهي في
مجملها الزاد والنبع الذي لا ينضب.(40/97)
آخر يوم في حياة الداعية
سعيد بن محمد القحطاني
إن الدعاة إلى الله لهم منزلة من أعلى المنازل، ذلك لأنهم لا يستوحشون من
قلة السالكين ولا يغترون بكثرة الهالكين، عرفوا أن الأمة الإسلامية جاء دورها
لتحقيق ما أراده الله منها، وإذا كان الداعية بهذه المثابة فما هو آخر يوم في حياته؟
إنه اليوم الذي يتخلى فيه عن أعز ما يملك، يتخلى عن دعوته إنه يوم مظلم قاتم،
لأن سقوط الداعية سيتعدى ضرره إلى غيره ويثقل كاهل الدعوة ويزيد من أعبائها،
عدا ما تحدثه هذه الظاهرة من شروخ وتصدع في بنية العمل الإسلامي، ولعلي
أذكر سبباً من أسباب هذا النكوص فمنها:
1- ضعف في الجانب التربوي حتى تطغى الجوانب الإدارية والسياسية على
كل شيء مما يجعل الإداريين مقطوعي الصلة بالتربية والشؤون التربوية نظرياً
وعلمياً.
وهنا يبرز صنف يقال عنهم بأنهم فوق التربية إنهم تجاوزوا مرحلة التربية،
وهذا غير صحيح.
2- عدم وضع الفرد المناسب في المكان المناسب مما يؤدي إلى الفشل أو
الخسارة.
3- عدم متابعة التأهيل التربوي إما تكاسلاً أو أن القاعدة العريضة من
الجماهير أكبر من الإمكانيات.
4- طبيعة غير انضباطية، فهو لا يطيق القيود، ويريد المحافظة على كيانه
وشخصيته كما هي وما فيها من عيوب ونقائص.
5- الوهن والخوف على الرزق، أو حب الدنيا والتكالب عليها.
6- حب الظهور وقديماً قيل «حب الظهور يقصم الظهور» وهذا الغرور
يقوده إلى التطلع للرئاسة ويرى أنه أفضل الموجودين.
7- ضغط المحن والأهل والأقربين.
وأخيراً لابد من ذكر بعض القواعد الهامة:
1- إن الداعية لا يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة من العمل للدعوة.
2- إن من سن سنة الله عز وجل أن هذا الدين لا يتحقق في واقع البشرية إلا
بالجهاد البشري، وذلك يجعلنا نسعى دائبين لتحقيق هذه السنة الربانية.
3- إن هذا الدين عزيز وغال لا ترتقي إليه همة الضعفاء العاجزين.
4- إن الله تكفل بحفظ هذا الدين ولو كره الكافرون، طال الزمن أو قصر.
5- إن نكوص البعض عن الدعوة لا يزيد النفوس المؤمنة إلا مضاء وثباتاً،
وهذه هي طريق الأنبياء.(40/98)
ظلم الكتاب ومؤلفه
أبو مالك - الأردن
التقيت قبل مدة بمجموعة من الشباب الطيب، الذين نحسبهم يحبون الدعوة،
ويبذلون في سبيلها كل غال ورخيص (ولا نزكي على الله أحداً) ، فأحببت أن أقدم
إليهم كتاباً قيماً يستفيدون منه في حياتهم الدعوية، فسألني أحدهم عن اسم المؤلف
فقلت: فلان بن فلان وبعد أن علم أنه غضب وقال: ألا تعلم من هذا إنه كذا وكذا،
وبدأ يذكر مساوئ ذلك المؤلف، قلت له متسائلاً: أقرأت للمؤلف كتاباً ولاحظت فيه
تلك الأمور؟ قال: لا فأنا لا أقرأ له ولكن سمعت فلاناً يقول ذلك.
عند تلك اللحظة تذكرت ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
في قصة الشيطان الذي حاول أن يسرق من مال الصدقة، أنه قال لأبي هريرة
«إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنك لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح» ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه صدقك وهو كذوب» .
وكان مما يستفاد من ذلك الحديث أمرين:
الأول: أن أبا هريرة -رضي الله عنه-، قد استفاد من الشيطان، وهو
شيطان رجيم مدحور مذموم، فكيف الشخص يترك مؤلفاً لا لسبب، إلا لأن أحدهم
قد ذم المؤلف أمامه! ! فكيف إذا كان هذا المؤلف من الدعاة الصادقين ولكن بعض
الناس لجهل أو لحسد يتكلمون فيه. اللهم هذا ظلم لا نرضاه.
الثاني: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد وقف وقفة الحق فقال قد
صدقك في هذه يا أبا هريرة ولكنه كذوب.(40/100)
أخبار حول العالم
زار تونس في الأيام الأخيرة الجامعي الفرنسي المختص في العلوم السياسية
الأستاذ موريس ديفيرجيه، وشارك في الندوة التي انتظمت هناك عن: «التحولات
الديمقراطية في العالم اليوم» . وكان ديفيرجيه المتدخل غير العربي الوحيد الذي
تعرض للحركات الإسلامية في أحد تعقيباته التي استرعت الانتباه. قال: «إن
ظاهرة الحركات التمامية» (Integrisme) المتنامية عندكم (يعني في المجتمعات
الإسلامية) تشبه كثيراً ما عاشته أوروبا خلال الفترة الفاصلة بين الحربين عندما
برزت على السطح الحركات الفاشية والنازية أو الستالينيه. وقد انتهت هذه
الحركات إلى القضاء على الديمقراطية. لهذا أرى أن مسألة الاعتراف بالتنظيمات
الإسلامية الأصولية مرهون بحجمها. فإن كانت محدودة التأثير صغيرة الحجم فلا
خوف من تشريكها. لكن إذا بلغت من النمو ما من شأنه أن يهدد ميزان القوى
السائد، يجب إقصاؤها، حتى لا تستفيد من النظام الديمقراطي الذي تؤمن به.
(مجلة منبر الحوار) .
تعليق: ويبدو أن حكومة تونس قد أخذت بهذه النصيحة الغالية التي يقدمها
«ديفيرجيه» وتعمل بكل أمانة على وضعها موضع التطبيق، وبقدر قيمة الناصح
يكون الحرص على تطبيق نصيحته، ولا أحد أعز ولا أليق من أن توضع نصائحه
على الرأس والعين - عند علماني تونس وتلاميذ بورقيبة من رجل فرنسي المولد
والنشأة والهوى.
* * *
في تونس اكتشفت مصلحة الجمارك شبكة لتهريب الذهب إلى روما وباريس
ويشرف على هذه الشبكة يهود في داخل تونس، ويهود أوربيون وكانوا يجمعون
الذهب في جزيرة جربة، ثم يصدرونه إلى إيطاليا وتتوقع الحكومة أن يكون هناك
عدد أكبر من هذه الشبكة ضالعين في العملية.
الأسبوع العربي 15/4/91(40/103)
الصفحة الأخيرة
مثل البالون المثقوب!
حسن القارئ
تعجبت من أمرنا.. وأنا أسمع يوماً خطيب الجمعة يخطب وقد انتفخت
أوداجه واحمرت عيناه من الغضب والحماس.. وجزاه الله خيراً على ذلك.. إلا
أنني فكرت في الأمر فوجدته لا يعدو أن يكون مثل النفخ في بالون مثقوب..
وأعني بذلك أن من عادة الناس أن يقف بعضهم حماساً وتجاوباً مع الخطيب وهو
يخطب.. ولكن سرعان ما يخبو ذلك الحماس، كما يخرج الهواء من ثقب في
بالون منفوخ..
والأمر في الحقيقة له جانبان:
الجانب الأول: الخطيب نفسه.. فهناك فرق بين خطيب معلم مربي وبين
خطيب جل أمره انتفاخ أوداج واحمرار عينين ...
فالأول يسير في أمره بحلم ورفق وأناة.. يرسم إطاراً ومنهجاً ثابتاً يكون
ارتفاع الحماس فيه وانخفاضه ضمن ذلك الإطار وذاك المنهج.. فيشد الحبل متى
أرخوا ويرخي الحبل متى شدوا.. خشية أن ينقطع.. فلا يعود يستطيع توصيل
وإبلاغ الحق.
والثاني.. يسير في أمره نتيجة انفعالات وانبعاجات نفسه.. فإن أصيب
بإحباط نقل في خطبته مشاعر الإحباط.. وإن أصيب ببلوى في نفسه أو أهله أو
ماله صور الدنيا وكأنها دار خربة لا خير فيها.. وإن طابت نفسه وزان عيشه
توردت وجنتاه وطابت كلماته وخفت وطأتها على النفوس ...
والجانب الثاني.. السامع للخطيب.. فهو إما موسوس يظن الخطيب يعنيه،
وإما عاطفي يلهبه الحماس وليس بعد الخطبة عمل فسرعان ما يخبو، وهؤلاء كثير، وإما ناقد لا يعجبه العجب، أو عاقل حليم يترك الغث ويأخذ السمين.. يرتجف
قلبه وترتعش مشاعره ولكن تدمع عيناه ويزيد إيمانه.. أن الفرج مع الكرب وأن
النصر مع الصبر..(40/104)
المحرم - 1411هـ
يوليو - 1991م
(السنة: 6)(41/)
الافتتاحية
قالوا وقلنا
قالوا: إن الأوطان تبنى بالمشاركة وتعاون جميع فئات المجتمع، ولا يتصور
قيام مجتمع إلا بمساهمة كل أفراده -كل حسب طاقته وتخصصه - في عملية البناء
والتنمية.
قلنا: نعم، وهذا هو عين ما نفتقده في مجتمعاتنا الإسلامية التي لا يصنف
الإنسان فيها على حسب جدارته ومواهبه الفردية، بل على حسب أمور أخرى:
كالنسب، والجاه، والمال، ومدى قربه من أصحاب السلطان ... ولذلك فإن الوقت
قد حان للخروج من أسر هذه المعوقات والمثبطات التي أصبحت غير صالحة في
هذا الزمن الذي اقتنع فيه جل سكان الأرض أن هذه المقاييس لا تبني بل تهدم،
وهذا المعنى هو الذي يلح عليه العاملون في الحقل الإسلامي في كل مكان، مع
اختلاف بينهم وبين غيرهم في أنهم يريدون تحكيم الإسلام واستلهام مبادئه وآدابه.
قالوا: ولكن من يفسر الإسلام؟ ، ولماذا تنصبون أنفسكم متحدثين باسم ...
الإسلام؟
قلنا: إن الإسلام - بحمد الله - دين محفوظ الأصول، ويفسره علماؤه الذين
ترتضيهم الأمة. وليس لأحد أن يحتكر حق التحدث باسم الإسلام، بل كل مسلم
أنس من نفسه القدرة على التوجيه والنصح فله ذلك - إذا كان منضبطاً بالأصول
المتعارف عليها - فإن أخطأ رد الناس عليه، وبينوا خطأه.
لكننا نرى أن هذه العبارة: (احتكار التحدث باسم الإسلام والوصاية عليه) قد
أصبحت قالباً جامداً من القوالب الجاهزة التي ترمى في وجه كل من يدعو إلى
الإصلاح ومحاربة الفساد مستنداً إلى تعاليم الإسلام، فكلما أمر بمعروف أو نهى عن
منكر قوبل من يستند إلى هذا الأمر المشروع بهذه التهمة = تهمة الاحتكار
والوصاية، وهذا أسلوب معروف في المداورة والمناورة، فعندما لا تستطيع نكران
الحق إلى تجريد من ينطق به من الشرعية التي يستند إليها، وعندما تفعل ذلك
سوف لن تظل وحدك في مواجهة هذا الحق؛ بل سينضم إليك جموع وأفراد من
دعاة الحق أنفسهم، وهذا هو ما يفعله العلمانيون في حربهم للإسلام ودعاته في
بلادنا، وهكذا فإن هؤلاء العلمانيين لا يحبون ألا يظهروا وحدهم في جبهة، ودعاة
الإسلام في جبهة أخرى، بل يفضلون أن تكون المعركة في صورتها الظاهرة بين
فرقين أو أكثر من المسلمين، وفي الوقت الذي يورِّثون نار العداوة بين طوائف
المسلمين ويذكونها بشتى الحيل، يظهرون بمظهر الآسف أحياناً لما يجري،
وبمظهر الحكم الذي (تدارك عبساً وذبيان بعدم تبزل بين العشيرة بالدم) [1] .
قالوا: إن ما ترونه معروفاً أو منكراً قد تخالفكم طبقات من الناس في اعتباره
ذاك، وعندما تلجأون إلى إقرار ما ترونه حقاً ومعروفاً وإنكار ما ترونه منكراً
وباطلاً فإنكم تتدخلون في حرية الآخرين، وهذا هو الإرهاب الفكري.
قلنا: إذن هو اختلاف على تحديد معاني الألفاظ، ونحن نرضى أن يكون
للألفاظ التي نستخدمها معانٍ محددة لا رجراجة، ونكره التلاعب بالألفاظ والرضا
بمعانيها في حال أخرى، والنكوص عن الاعتراف بها في حال أخرى، وهذا ما
ننقمه على أصحاب الشعارات التي ترفع ثم تفرغ من محتواها، وما نكرهه في لغة
السياسيين تلامذة (ميكافيلى) والشيطان، فنحن لا نبتكر معروفاً من عند أنفسنا ولا
نختلق منكراً، كما لا نحوِّل محرماً إلى معروف، ولا حقاً إلى منكر. بل المعروف
والمنكر معنيان لهما في حس المسلم وشعوره معانٍ وجذور لا تزيلها السفسطة، ولا
تمحوها الأجهزة الإعلامية على اختلافها وجبروتها، فهي من الحق القديم الذي لا
يمحوه الباطل بهيله وهيلمانه، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنكر ما أنكره الشرع. وهذه حقيقة بسيطة وسهلة، وكلما حاول المحاولون الدوران حول هذه الحقيقة،
أو استبدالها بتعريف لا تعرفه الأمة، ولا يلامس شعورها؛ فإن عاقبة ذلك مزيد من
عدم الثقة، ومزيد من المعاناة لأكبر عدد من أفراد المجتمع، وباختصار؛ كل
محاولة لاستيراد مفاهيم جديدة لا عهد للأمة بها، ولا تمثل شيئاً لما سوف ينعكس
أثرها آلاماً وفقدان أمن، وركوداً في جميع المجالات.
قالوا: أنتم لا تريدون الديمقراطية، وإنما تستغلونها من أجل الوصول إلى
الحكم، فأنتم قوم متعطشون ضد السلطة، وتتخذون من الديمقراطية سُلَّماً لذلك،
وإذا وصلتم إلى ما تريدون سوف تحكمون حكماً استبدادياً، وسوف تتسلطون على
غيركم، وتنتهكون حقوق الإنسان، ولهذا فمن الطبيعي والمشروع لمؤسسات
المجتمع والدولة أن تقف في وجهكم.
قلنا: هذا هو أسلوب فرعون في الجدل، الذي قصه الله-عز وجل- علينا
بقوله: [وقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ
عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ *
واسْتَكْبَرَ هُوَ وجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ
وجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] [القصص: 38- 40] .
إن في قولكم هذا من المغالطة قدراً كبيراً، وكأنكم حينما تلقون بهذا الكلام
تصفون أنفسكم بغيركم، وتنتزعون صفات المظنون من المحقق.
أما المظنون: فهو أن يكون من يلحون بتحكيم الإسلام لهم شأن مؤثر
بمؤسسات الحكم في هذا القرن الأخير على الأقل، فقد أبعدوا وأهملوا قسراً وعمداً، وعملت القوى التي ترى في الإسلام عدوها الأول على تشويه صورتهم بكل ما
أوتيت من قوة وحنكة ووسائل.
وأما المحقق: فعلى العكس من ذلك، إذ ولِّيت الأمور إما إلى من ليس يعنيه
شأن الشريعة الإسلامية بقليل أو كثير، وإما من اعتبر أن مهمته الأساسية كبت هذه
الشريعة ومحاربتها، واعتقدَ أن الأمة لن تنهض إلا بتخليصها من كل أثقال
الماضي ورواسبه المتخلفة بزعمه. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن الشعوب العربية
والإسلامية كانت بعيدة عما يرمي به العلمانيون المسلمين من نزوع إلى التسلط
والاستبداد، فإن هذه الشعوب قد جربت أبشع أنواع الاستبداد والقهر في ظل هذه
الحكومات التي تسلمت حكم البلاد بعد الرحيل الصوري للمستعمر الغربي، وعانت
من فقدان الحرية بعد فترة الاستعمار ما جعل كثيراً من أفراد هذه الشعوب - ممن
جرب العهدين -يتحسر على عهود الاستعمار، ويتمنى لو رجع هذا الغربي الغريب
ينقذهم من ظلم ذوي القربى، فقد شاهدوا كيف تنحر الحرية باسم الحرية، وكيف
يسود الظلم بدعوى محاربة الظلم، وكيف تمزق الأوطان بدعوى الحفاظ على
الوحدة الوطنية، وكيف تتعطل أحكام الإسلام باسم الإسلام، وكيف تتحول أغلبية
الناس إلى عبيد في عصر حرمت فيه تجارة الرقيق.
فكيف يُرمى الداعون إلى الإسلام بالتسلط والاستبداد وهم لم يحكموا؟ ! !
وكيف يحرمون من حق الاختيار وهم بشر؟ ! وكيف تفرض عليهم وجهات النظر
الأحادية في العصر الذي يدعي (المتحضرون والمتنورون) فيه أن حرية العقيدة
وحرية التفكير مكفولة؟ وأي حصانة لمن ينتهك كل المحرمات ثم يرمي البرآء
بانتهاك حقوق الإنسان؟ وأي شرعية هذه التي يستند عليها من يداه ملطختان بالدماء
فيتهم الناس جزافاً أنهم ظلمة فجرة، ويسخر مؤسسات المجتمع والدولة للوقوف في
وجههم؟ والمؤسسات والدولة ما احتاج الناس إليها إلا إقراراً للعدل لا تثبيتاً للظلم،
وحرباً للباطل، لا تمرداً على الحق، وللأخذ على يد الظالم المستهتر، لا لتقييد
الداعين إلى ضمان الحقوق وسيادة التشريع الذي يتساوى جميع الناس أمامه! :
[إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ
مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] [آل عمران: 21] .
إن أجهزة الدول ومؤسساتها ليست حكراً على مجموعة تستخدمها لمصالحها
الشخصية وضمان استمرار تسلطها، بل هي مرفق عام لدفع الضرر عن المجموع
وجلب المصالح لهم. وما دمتم قد ارتضيتم الديمقراطية سبيلاً لإدارة الشؤون العامة؛ فلماذا لا تدعونها تجري مجراها، وعندما تتكرمون بمنحها للشعب؛ فلماذا لا
تصحبونها بتعريف محدد يزيل عنها الغبش والإبهام، فتقولون مثلاً: نريدها
ديمقراطية بطول كذا، وعرض كذا، وارتفاع كذا! وكل مجاوزة لهذه الأبعاد سوف
تجعلنا نسحب هذه (العطية) من أيدي الذين أعطيت لهم، ونعيدها إلى مخازنها
للحفاظ عليها من الجروح والخدوش؟ !
لكن مهلاً، إن (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) [2] . هذا إذا سلمنا
أنكم تملكون ما وهبتم، فكيف بمن يَمُنُّ بما لا يملك؟ ! لقد آن لمن يتعسفون في
استخدام ما بأيديهم من وسائل الإذلال أن يدركوا أن الناس قد شبت عن الطوق،
وأنه لا سبيل للخروج من المآزق التي يجدون أنفسهم فيها إلا بأن يعاملوا المسلمين
كبشر، فيريحوا ويستريحوا.
__________
(1) تضمين لمعنى بيت زهير في معلقته في مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف:
... تداركتماً عبسا وذبيان بعدما ... ... ... تبزَّل ما بين العشيرة بالدمِ.
(2) صحيح ابن ماجه 2/47، وصحيح النسائي 2/786.(41/4)
علماء الاجتماع والعداء للصحوة الإسلامية
(2)
الاعتراف بفشل التحليلات الماركسية
د. أحمد إبراهيم خضر
تعرضنا في الحلقة الأولى لبيان كيف أن الصحوة الإسلامية قد باغتت رجال
الاجتماع في بلادنا ولتساؤلهم لأنفسهم أين كانوا وقت حدوثها؟ وكيف كانوا يعتقدون
بأن ما يسمونه بالانتصارات الوطنية والقومية قد خلفت الدين وراءها؟ ، ثم
اعترافهم بعدم قدرة الوطنية والقومية على البقاء أو جذب الجماهير حولهما،
واعترافهم كذلك بأن (العقلانية) التي علقوا عليها آمالهم في فهم الواقع العربي قد
أصبحت عاجزة على الصعيدين النظري والمنهجي، وأن التفكير العقلاني أصيب
بأزمة عميقة وخيبة أمل، ثم اعترافهم بسقوط شعارات التحديث والعلمنة وبناء
المجتمع الحديث. ثم عرضنا أخيراً لتشخيصهم لسمات الحركة الإسلامية التي سعوا
إلى رصدها أملاً في التحكم فيها.
وسنخصص هذه الحلقة لبيان اعترافات الماركسيين العرب من رجال الاجتماع
في بلادنا بفشل تحليلاتهم عن الصحوة الإسلامية والدروس التي تعلموها منها.
في كلمات بسيطة وموجزة حسم الأستاذ (محمد قطب) القضية التي قضى
رجال الاجتماع من الماركسيين العرب زمناً في دراستها. يقول الأستاذ محمد قطب: (جاءت الصحوة الإسلامية في موعدها المقدور من الله.. وكانت مفاجأة ضخمة
لكثير من الناس) وعن الذين باغتتهم هذه الصحوة يقول: (هؤلاء قد أغفلوا حقيقة
ضخمة تندرج تحتها حقائق كثيرة لا تسير حسب حساباتهم، ولا تستطيع حساباتهم
أن تصل إليها، لأن الله قد جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقراً.. أغفلوا بادئ
ذي بدء أن الذي يدبر الأمر في هذا الكون العريض كله ليسوا هم وليس غيرهم من
البشر، إنما هو الله) . [1]
الماركسيون من رجال الاجتماع العرب ليس مرجعهم (الله -عز وجل-) ،
إنما مرجعهم ماركس ولينين وماكس فيبر وألتوسير وغرامشي وسمير أمين وطيب
تيزيني وعابد الجابرى وحسين أحمد أمين ومحمد أركون وعبد الله العروي.. الخ.
يقول (علي الكنز) أستاذ الاجتماع في جامعة الجزائر في تفسيره للصحوة
الإسلامية: (لتفسير صحوة وانتعاش التوجه الديني الذي تعرفه المجتمعات العربية
المعاصرة استعملت العديد من فرضيات البحث، لكل واحدة منها فعاليتها النظرية
الخاصة. وباختلاف هذه الفرضيات من حيث التناول والطرح فهي ساعدت على
كشف واقع التشكيلات الاجتماعية العربية الراهنة. هذه الفرضيات العديدة
والمختلفة وضعت من قبل الكثيرين من أمثال: سمير أمين والطيب تيزيني ومحمد
أركون وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وغيرهم من الذين زودوا الانتاج
العلمي بإنتاجهم الذي لا يستهان به من حيث نوعية التحليل وثراؤه) . [2] ...
وفي إحدى الحواشي لدراسته عن الإسلام والهوية يذكر أنه تبنى عنوان كتاب
حسين أحمد أمين: دليل الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين [3] ، وفي
حاشية أخرى يقول: (ونستطيع هنا أن نردد الطريقة اللينينية المتعلقة ... (بالحلقة الأكثر ضعفاً) ، أو بطريقة غرامشي (الزمن التاريخي) ، أو حتى المقولة الألتوسيرية المستوحاة من التحليل النفسي [4] .
هؤلاء هم مراجع الماركسيين العرب من رجال الاجتماع في تفسير الصحوة
الإسلامية. وسنعرض فيما يلي اعترافاتهم الصريحة بإخفاق تحليلاتهم وتفسيراتهم
لهذه الصحوة، وما تضمنته هذه الاعترافات من تأكيد على خيبة أملهم في
(العقلانية) [5] التي ظنوا أنها ستساعدهم في فهم الواقع العربي.
أولاً: قولهم بارتباط الدين بالتراجع والتقهقر، وارتباط العقلانية بالصعود
والتطور.
الدين عند رجال الاجتماع تعبير عن الحزن وانعكاس لبؤس العالم وشقائه،
أما الفكر العقلاني فهو تعبير عن حيوية الوعي الجماعي الذي يعكس تطور العالم
وازدهاره.. ومن ثم فإن الصحوة الإسلامية وما يسمونه بانتعاش التوجه الديني هو
عندهم تراجع وتقهقر إلى الوراء.
يقول علي الكنز: (.. فهل يمكن لنا أن ندلي بأن الوعي الديني أو التشبث
بالدين هو مُزامن للفترات التراجعية والمراحل المتقهقرة، وأن الفكر العقلاني يزامن
الفترات التصاعدية أو المتطورة، ونقول أن ذلك هو تطبيق للقانون التاريخي..
وعليه؛ فإن الدين هو بمثابة تعبير عن الحزن، وبالتالي فهو انعكاس لبؤس العالم
وشقائه، وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلاني بمثابة تعبير عن حيوية الوعي الجماعي
الذي يعكس هذه المرة تطور العالم وازدهاره) [6]
اعترف الماركسيون العرب من رجال الاجتماع بعد مراجعة حساباتهم بفشل
تصوراتهم عن الارتباط بين الدين والتقهقر، وبين العقلانية والصعود، وساقوا
الأسباب الآتية لبيان فشل هذا الارتباط: -
1- أن هذا الارتباط يأخذ تاريخ الغرب على أنه النموذج الأصلي والمرجعي
لتاريخ البشرية وهذا غير صحيح باعترافهم.
2- أن هذا الارتباط يعتبر أحكاماً مسبقة لا أساس لها من الصحة لكونها غير
مبنية على وقائع تاريخية أو براهين استدلالية.
3- أن هذا الارتباط يمثل في رأيهم سقوطاً فيما يسمونه (بغي الأيديولوجية
الوضعية [7] ، والعلموية [8] التي أنتجتها الثقافة الغربية) ، بمعنى أنه: (استهلاك
لقراءة غربية يستهلكها الفكر العربي باسم العقلانية) ، وبصورة أخرى: أنه (تبنٍ
لايديولوجيات وفكر ونظريات أنتجت خارج المجتمعات العربية) ، وذلك حسب
تعبيراتهم ذاتها التي أوردوها في ثنايا اعترافهم [9] .
ثانياً: قولهم بالقدوم المظفر والمنتصر لرجل التقنية وزوال ما يسمى (برجل
الدين) .
من المعروف أنه ليس هناك رجال دين في الإسلام وإنما هناك علماء،
فمصطلح (رجال الدين) ، انتقل إلينا من النصرانية، وشاع استخدامه في بلادنا
بسبب التأثر بحضارة الغرب.
اعتقد الماركسيون العرب من رجال الاجتماع نقلاً عن عبد الله العروي بأن ما
يسمى برجل الدين قد اختفى وزال من الساحة بسبب القدوم المظفر والمنتصر لرجل
التقنية لكنهم عادوا يعترفون بعدم صحة ذلك مؤكدين في نفس الوقت اعترافهم بفشل
العقلانية وأشكال تحليلاتها.. وساقوا بأنفسهم أيضاً أدلة عدم صحة افتراضهم السابق
على النحو التالي: [10]
1- ان الاعتقاد بزوال ما يسمى برجال الدين مغالطة لا تشاهد في التاريخ،
يقول علي الكنز معترفاً: (إن التحليل السوسيولوجي الذي جاء به عبد الله العروي
وتبنيناه نحن بدورنا.. ما هو في نهاية الأمر إلا مغالطة يمكن أن تكون انطلقت من
حالة تلبس صامتة وهي مغالطة لا تشاهد في التاريخ) .
2- أن إيمانهم بزوال ما يسمى برجل الدين كان سببه تبنيهم للعقلانية كشكل
إيديولوجي جعلهم يرون ما يريدون هم رؤيته، وهو زوال ما يسمى برجل الدين،
يقول علي الكنز معترفاً: (وهل اختفى رجل الدين عن الساحة فعلاً، أم أن إداركنا
الإيديولوجي لهذه الساحة هو الذي أوحى لنا بذلك تحت أشكال عقلانية، حتى
أصبحنا نؤمن بالوهم القائل بزوال رجل الدين؟ إنها صورة مزيفة جعلتنا نشاهد ما
نريد نحن مشاهدته) ، ويعترف علي الكنز مرة أخرى: (وبناءً عليه وبما أنه من
المحتمل جداً عدم اختفاء رجل الدين عن الساحة؛ فإنه يجب أن نتساءل، بل نسأل
أنفسنا ليس عن هذا الاختفاء بما أنه لا وجود له على الإطلاق، بل عن عدم قدرتنا
على كشف حضور رجل الدين بين فجوات الأيديولوجية المسيطرة حالياً) . [11]
ثالثاً: قولهم بأن الصحوة الإسلامية ظهرت بسبب عدم نضوج التركيبة
الطبقية العربية:
يعلل الماركسيون العرب ظهور الصحوة الإسلامية يما يسمونه عدم نضوج
وعدم اكتمال تكوين التركيبة الطبقية في العالم العربى التي من شأنها إذا كانت كاملة
منسجمة وناضجة أن تؤدي إلى ظهور إيديولوجية علمانية وعقلانية، وأنها إذا كانت
غير كاملة ومذبذبة ستؤدي إلى ظهور إيديولوجية دينية ولا عقلانية. ولهذا فإن عدم
اكتمال ونضوج هذه التركيبة الطبقية في العالم العربي -كما يتصور الماركسيون
العرب - الذين وصفوها بأنها عاجزة ومشوهة أدى إلى فراغ، هذا الفراغ هو الذي
أدى لظهور الصحوة الإسلامية.
ويستند الماركسيون من رجال الاجتماع العرب هنا إلى فكرة (محمد أركون)
القائلة بأن المجتمعات العربية لا يوجد لديها ما يقابل أو يعادل طبقتي (البورجوازية
والبيروليتاريا) في المجتمعات الغربية، بمعنى أن هاتين الطبقتين اللتين تضامنتا
وتصارعتا عملتا على إظهار الأيديولوجية العلمانية في الغرب، لكن ضعفهما
الملحوظ في عالمنا العربي ساعد على ظهور الصحوة الإسلامية. هذا ويضيف
الماركسيون العرب أسباباً أخرى لظهور الصحوة الإسلامية منها: الفشل الاجتماعي
والاقتصادي للمجموعات التي أزالت الاستعمار وقامت بالتنمية الوطنية، ومنها
أيضاً: وجود مجموعات متحالفة مع الغرب وأخرى طفيلية ظهرت وانتشرت
أخيراً. [12]
ثم يعود الماركسيون العرب من رجال الاجتماع إلى الاعتراف بفشل هذا
التحليل، استناداً إلى ما يلي:
1- أن هذا التحليل اعتمد على المماثلة والقياس بالغرب، بمعنى أنه يعتبر أن
الفئات التي ظهرت وتصارعت قديماً في أوربا، وأنها تشبه الطبقات الرئيسية بها
وخاصة البورجوازية والبروليتاريا. هذه المماثلة - باعترافهم - غير صحيحة لأن
هاتين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمعات العربية تختلفان من حيث السلوك عن
النموذج الأصلي لهما، ومن ثم - نعتوهما - بعدم النضوج واللاعقلانية الذي مهد
لظهور الصحوة الإسلامية [13] ، ويلخص الماركسيون العرب من رجال الاجتماع
هذه النقطة بقولهم: (إن هذا الفكر التحليلي سجن نفسه في إطار محدد وحبس نفسه
في حقل تاريخي واجتماعي غريب عنه) . [14]
2- أن واقع المجتمع العربي لا يتفق مع ما يريده الماركسيون ولا يخضع
أفراده (لقيم الإنتاج) التي يتحدثون عنها، ويعني هذا: أن الناس لا تربطهم
المصالح الاقتصادية دائماً وإنما الدين هو الذي يسيطر عليهم. [15]
3- الخطاب الديني - باعترافهم - خطاب متفوق وليِّن، يجتاز ويؤثر على
جميع الفئات الاجتماعية، بما فيها تلك الفئات التي يأملون أن تقوم بالتغيير
كالبورجوازية والبروليتاريا، بالإضافة إلى فئات صغار وكبار الموظفين [16] ،
وفي عبارات صريحة تحوي اعترافاً صريحاً بفشل نموذج التحليل الماركسي،
وبإخفاق واضطراب الفكر العقلاني، وبسعي كل الطبقات إلى تطبيق الشريعة
الإسلامية وممارسة الشعائر الدينية، يقول علي الكنز: (نحن اليوم أمام فشل نموذج
التحليل، وأمام قلق واضطراب الفكر العقلاني، وإذا كنا ننتظر على الأقل تأثرات
الطبقة العاملة والبورجوازية أن تتبلور وتتجسد داخل الحركة الاجتماعية، فنحن
نلاحظ هروب هذه الطبقات عن كل الفاعلين: شعائر دينية وأصول عرقية
والتحريض لتطبيق الشريعة الإسلامية في قانون الأسرة.. الخ، إنه إخفاق في
نظري يضع الفكر التحليلي أمام البديل) . [17]
رابعاً: اعترافهم بأن نظرية الصراع الطبقي مسؤولة عن الدمار الذي
يتخبطون فيه، لا زال الماركسيون العرب من رجال الاجتماع يصرون على أن
فكرة الصراع الطبقي فكرة صائبة، بالرغم من أنهم اتهموا هذه النظرية بأنها
مسؤولة عن الدمار الذي يتخبطون فيه. كما يعترفون بأن بعض المحللين العرب
أرادوا قراءة الواقع العربي ماضياً وحاضراً انطلاقاً من معطيات المجتمعات الغربية
وفي ضوئها. ويعترفون كذلك بأنه في هذا التاريخ الأوربى الذي يتخذونه كنموذج:
نادراً ما تطاحنت الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الرأسمالية، وأنها لم تكن
فاعلة مباشرة، ولم تتمكن من فرض نفسها كطبقات..
كما يعترفون بأنهم تسرعوا في الحكم على الواقع العربي لأنهم لم يراجعوا
نظرية الصراع الطبقي في فئاتها المرجعية المستعملة وفي منطلقاتها النظرية ولم
يتأكدوا من صحتها ومدى ملائمتها ومدى صحة وقابلية أدواتها، بل اعتبروا أن هذه
النظرية هي الواقع الوحيد، واحتقروا الحركة الإسلامية لأنها لم تتطابق مع
نموذجهم المرسوم [18] .
وسجل هذه الاعترافات علي الكنز بقوله:
(لقد تسرعنا في مشاهدة الطبقات وفئاتها، وكذلك البورجوازية والبروليتاريا
والبورجوازية الصغيرة والفلاحين، داخل الحركات الاجتماعية والسياسية التي
زعزعت بلدان العالم الثالث، وقد تم هذا التسرع دون مساءلة المنطلقات النظرية
والفئات المرجعية المستعملة، وحتى التأكد من صحتها ومدى ملائمتها. وهكذا قمنا
بالمعاينة دون التفكير في مدى صحة وقابلية تلك الأدوات، بحيث أصبحت النظرية
العلمية للطبقات هي المرجع الوحيد، وعندما نشاهد الطبقات الاجتماعية حيث لم
تكن موجودة حتى وإن تم ذلك على حساب الحركة الاجتماعية واحتقارها لا لشيء
إلا لأنها غير مطابقة للنموذج المرسوم) . [18]
خامساً: اعترافهم بعدم ارتباط ظهور الجماعات الإسلامية بانحطاط وتدهور
الظروف الاقتصادية والاجتماعية أو تطورها.
تبني بعض الماركسيين العرب من رجال الاجتماع فكرة أن هزيمة 1967
وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي السبب الرئيسي لظهور الجماعات
الإسلامية، ومن ثم رأوا أن ما يسمى بالفهم العلمي السليم لما يسمونه بهذه الظاهرة
والتصدي لها بجدية لا يتحقق إلا بفهم البنية الاجتماعية التي ظهرت فيها، وفهم
مجموعة الظروف الاقتصادية والسياسية السائدة، بمعنى أن الصحوة الإسلامية
ظهرت كرد فعل لحالة أزمة حادة وعامة على المستوى الاجتماعي، وأن وجود
أزمة حادة وعامة كان ولا يزال الشرط الضروري اللازم لظهور واندفاع ما يسمونه
بالحركات الدينية والاجتماعية ذات الطابع التعبيري.
يقول (عضيبات) أستاذ الاجتماع بجامعة اليرموك بالأردن: (هذا ويلاحظ
خلال التاريخ العربي أن ظهور الحركات الدينية الاجتماعية كان ولا يزال مرتبطاً
بفترات الاضطراب الحاد، التي يكون فيها بقاء المجتمع وتماسكه واستمراره مهدداً، لذلك كانت هذه الحركات الدينية الاجتماعية ولا تزال بمثابة استجابات للأزمات
الروحية والاجتماعية والسياسية الحادة التي شهدها ولا يزال يشهدها مجتمعنا العربي
الإسلامي) . [19]
واستشهد (عضيبات) بالأزمة التي مر بها المجتمع العربي الإسلامي خلال
فترة حكم معاوية، والتي مهدت لعمر بن عبد العزيز إعادة توجيه الحكم بما يتفق
والمبادئ الإسلامية، كما استشهد أيضاً بتجربة الإخوان المسلمين التي أسسها (حسن
البنا) ، والأزمات التي كان يعانيها المجتمع في عهده، ليصل في النهاية إلى القول
بأنه (من المؤكد أنه في ظل الظروف البالية والقلقة التي يعيشها الآن مجتمعنا
العربي الإسلامي، فإن نشاط الحركات الدينية مستمر لمواجهة هذه الظروف) [20]
أخذ سمير نعيم أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة كمثالٍ، سعى فيه
جاهداً ليثبت أن سبب انتشار الدين والجماعات الإسلامية كان مرتبطاً بالخلل الذي
أصاب النظم الاجتماعية في مصر على كافة المستويات.
تعرض نعيم لفساد النظام الاقتصادي الذي قال: أن مفاتيحه قد أصبحت في يد
الغرب الذي يملك في أي لحظة إحداث انهيار في هذا الاقتصاد؛ إذا ما تهددت
مصالحه، أو تعارضت القرارات القومية المصرية مع هذه المصالح، كما كشف
عن تراجع الصناعات التحويلية والزراعة، وتراجع دور الدولة في إقامة
المشروعات الكبرى التي تستوعب الطاقة العاملة، وتحدث عن ظهور واستشراء
الفئات الطفيلية التي شهدت ثراء فاحشاً من خلال عملية تخرب الاقتصاد المصري،
وانتشار تجار العملة، وزيادة معدلات التضخم، واشتداد أزمة الإسكان، وبطالة
الشبان المتعلمين، وكذلك انتشار الفساد والانحلال الخلقي، وتراجع قيم الشرف،
وأن المال أصبح هو القيمة العليا، وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة حتى لو كانت هذه
الوسيلة هي بيع الشرف أو الدعارة.
وعن تدهور النظام التعليمي؛ أوضح نعيم: أنه نظام يعتمد على التلقين القائم
على حشو ذهن الطالب خلال مراحل الدراسة بمعلومات عليه أن يحفظها دون أن
يشغل عقله بالتحليل والنقد، ودون أن يشجع على المعرفة والفكر أو المطالعة في
المكتبات.
وعن فساد الثقافة والإعلام؛ بيَّن نعيم كيف أن الثقافة تحولت إلى سلعة
تجارية واستثمارية تهتم بالربح وبالمظهر أكثر من الفائدة والمضمون، وأشار أيضاً
إلى الفن الهابط والمبتذل في المسارح، المتاح فقط لمن يقدرون على تحمل أثمان
دخول هذه المسارح، ولتلك الفئة من الشباب التي تتفق قيمها وميولها مع ذلك النوع
من الفن المشجع على الانحراف. أما وسائل الإعلام: فإنها تعرض لجماهير
الشباب صوراً متنوعة وبكثافة عالية للإنفاق البذخي والمظاهر الاستهلاكية، التي
تعجز غالبية الشباب عن مجاراتها كما أنها تعرض نماذج سلوكية وثقافية غريبة
مبتذلة، بما يثير نقمة واشمئزاز الكثير من الشباب، أو يمثل غواية لهم للانحراف.
أوضح نعيم: أن نتائج فساد كل الأنظمة من اقتصادية وسياسية وتربوية
وثقافية، تصب في الأُسرة التي تقوم بالتنشئة الاجتماعية الأولى للإنسان، ثم تحدث
عن المشكلات اليومية التي تواجهها الأسرة المصرية من مواصلات وإسكان وغذاء
وملبس وتعليم وصحة وتلوث وضوضاء وفوضى واضطراب وتسيب وفساد،
وحصار إعلامي ودعائي.. الخ [21] .
انتهي سمير نعيم من كل ذلك إلى القول: بأن كل هذه الظروف أدت إلى
ظهور الجماعات الإسلامية التي انضم إليها الشباب لمواجهة هذا الفساد وهذا الخلل
في النظم الاجتماعية، وأن هذه الجماعات قد سارعت لملء الفراغ الثقافي الذي
تسبب عن فساد الثقافة والإعلام بطبع كتب وصحف ومجلات وأشرطة وفيديو
كاسيت بحجم ضخم، واعترف نعيم كذلك بزيادة حجم الإقبال على هذا المنتج. كما
أشار إلى دور هذه الجماعات في بيع ملابس المحجبات والكتب والدروس
الخصوصية بأسعار رمزية زهيدة، وأنها قامت بخدمات إنسانية اجتماعية عبر
الساجد، كالعلاج الصحي في المستوصفات والدروس المجانية للطلاب، أو
المساعدات الاجتماعية، ودور الحضانة.. الخ. [22]
تؤكد الشهادة السابقة لعضيبات وسمير نعيم هذا الدور الإيجابي والبنَّاء
للجماعات الإسلامية في موجهة الخلل والفساد الذي حل بالنظم الاجتماعية وأصابها
في الصميم، ومع ذلك يصر رجال الاجتماع على مهاجمة هذه الجماعات ومناصبتها
العداء؛ لا لشيء إلا لأن ماركسيتهم تعادي الدين وكل ما يرتبط به من حركات
ورموز.
ومع كل هذا؛ فإن الصحوة الإسلامية لم تظهر بسبب تدهور البنية الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية للمجتمع، وإنما جاءت كما يقول الأستاذ محمد قطب: (في
موعدها المقدور من الله) ، ونأتي هنا إلى اعترافات البعض الآخر من الماركسيين
العرب من رجال الاجتماع بخطأ الربط بين ظهور الصحوة الإسلامية وتدهور
الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
يرى (علي الكنز) أن ربط انتشار الدين بالانحطاط أو التطور الاقتصادي
والاجتماعي منزلق وقع فيه رجال الاجتماع، واستدل الكنز لإثبات ذلك بالماضي
الأوربي ذاته الذي ظهرت فيه الرأسمالية في الأصل في وقت عرفت فيه البلدان
الأوربية إصلاحات دينية، وربطت التنمية بانتشار الأيديولوجية الدينية كما حدث
في كل من بريطانيا وأمريكا الشمالية وهولندا..
استدل الكنز أيضاً باليابان في الحاضر المعاصر التي تربعت على عرش
الاقتصاد العالمي مقابلة بالصين، فاليابان ربطت الدين بالمجتمع والدولة ربطاً
عضوياً، وفعلت الصين المستحيل لمنع ذلك [23] .
ويشير الكنز في مثال آخر إلى الكاثوليكية التي أثارت العمال والشعب
البولوني لمحاربة الطبقة الحاكمة، وإلى الإيرلنديين ومناهضتهم للبروتستانت
الإنجليز، ويوجز الكنز ملاحظاته هذه معترفاً بقوله: (وبإمكاننا تعداد هذا النوع من
الملاحظات اللامنتهية، وتوضح اليوم -كما في الأمس- بأن البعد الديني قد ساهم
دوماً بشكل أو بآخر في تبلور الهوية الجماعية، وبأن انتشاره لم يرتبط في كل
زمان ومكان بفترات الانحطاط أو التطور الاقتصادي الاجتماعي [24] .
ويعطي (فرحان الديك) مثالاً آخر من الواقع العربي على خطأ هذا الربط؛
فيقول: (.. فظهور مثل هذه الحركات لا يمكن رده كما يفعل البعض إلى تردي
الوضع الاقتصادي، وربط ظاهرة الصحوة الدينية بالأزمة الاقتصادية؛ لأن ما
يسمى بالمد الديني ظهر وتطور في الفترة الزمنية نفسها التي تميزت أيضاً بالطفرة
أو الفورة الاقتصادية التي عرفتها -ولكن بدرجات متفاوتة بالطبع- كل المجتمعات
العربية [25] .
إلا أن المثير للدهشة والعجب أن يدعي رجال الاجتماع بعد كل اعترافاتهم
بفشل تحليلاتهم أن التيارات الوطنية والليبيرالية واليسارية والقومية هي المحاصرة
في بلادنا، وأن هناك تضييقاً على دعاتها وتنظيماتها، وأنه لهذا السبب فإن الساحة
ستظل شبه خالية أمام الحركات الدينية الاجتماعية، وسيملأ فكرها وتنظيماتها
الفراغ القائم [26] .
لا أحد يشك في عدم صحة هذا الادعاء، ولا أحد ينكر أن التنظيمات
الإسلامية هي المحاصرة من الداخل والخارج، وأن هناك تضييقاً على دعاتها،
وأن الساحة ليست خالية تماماً أمامها، ولا يرد هذا الادعاء إلا اعترافاتهم أنفسهم
بفشل تحليلاتهم وتفسيراتهم وافتراضاتهم، وعلى رأسها نظرية الصراع الطبقي.
جاءت هذه الاعترافات للماركسيين العرب من رجال الاجتماع إثر دروس
قاسية تعلموها من الصحوة الإسلامية، كان أقسى هذه الدروس عليهم أن تاريخ
الوطن العربي ليس هو إعادة ولا تكرار لتاريخ أوربا في القرن العشرين، عبر
الماركسيون عن ذلك بمرارة في قولهم: (وبكل قساوة تمكن الفكر العربي العقلاني
اليوم من اكتشاف هذا الدرس الجدلي) [27] ، أما الفكر العقلاني ذاته فقد أصيب كما
أوضحنا سابقاً بأزمة عميقة أجبرت أصحابه على ضرورة التفكير في نقده نقداً
جذرياً، مع الاعتراف بأن هذا الفكر العقلاني مأخوذ من الثقافة الغربية بطريقة
سيئة جداً بنص عباراتهم.
علمتهم الصحوة الإسلامية: أن عليهم التخلي عن الوضعية التي غلفت لهم
بغطاءات ماركسية متدنية ورديئة بنص عباراتهم أيضاً، وأن الجماعات الإسلامية
ليست بطبقات اجتماعية، وأن عليهم أن يلاحظوا هذه الصحوة بكل رصانة وبكل
سكينة -بنص عباراتهم كذلك -، على أساس أن هذا هو أول شرط للتحليل
العقلاني الذي أجبرته هذه الصحوة على أن يعيد النظر في افتراضاته ومنطلقاته
النظرية، وحتى إشكالياته ومنهجياته، على أمل زائف من أن يتمكنوا من ضبط ما
يسمونه بالواقع التاريخي.
الصحوة الإسلامية عند الماركسيين العرب من رجال الاجتماع (تحديد سالب
لكيان اجتماعي يستعيد حيويته، ويتبلور في حركة سياسية) [28] ، تصور رجال
الاجتماع أنه لا زال بإمكان الفكر العقلاني مواجهة هذه الصحوة إذا نوَّع مجالات
بحثه وانفتح على هذه الصحوة، واعترف بها كواقع، وأن يتخلى عن منهجيته
القائمة على أساس عالم متخيل. إلا أنهم رغم ذلك يرون أن الصحوة الإسلامية هي
انحراف للوطن العربي عن مساره الطبيعي وتجميد لتطوره، ذلك لأن هذه الصحوة
رفضت رفضاً كلياً الحداثة والعلمانية والليبيرالية والتقدمية؛ ولهذا رموها
بالانحراف والجمود.
اعترف رجال الاجتماع بأن فشل التجارب التنموية والوطنية تسببتا في ثغرة
أدت إلى ما أطلقوا عليه بالهجمة الواسعة للتوجه الديني الذي غاص في هذه الثغرة
وحقق نجاحاً لامعاً وسريعاً.
تعلم الماركسيون العرب من الصحوة الإسلامية درساً قاسياً آخر هو: أن
الدين يمكن أن ينوب عن رمزيتهم العقلانية والعلموية التي تشهد -كما يقولون -
أزمة عميقة.
تعلموا أيضاً: أن الإسلام بصفة خاصة يمكن أن يستفيد بشدة من الاضطراب
الذي تسبب عن التقنية الغربية وأزمة الأنظمة السياسية الغربية [29] .
تعلموا أيضاً: أن الإسلام لا العقلانية هو المطابق للوسط الثقافي المحلي،
وللمرجع التاريخي الحضاري للشعوب وأخلاقياتها، أما الإسلام السياسي - كما
يسمونه - فهو كالحوت في البحر بنص عباراتهم [30] ، وأنه يتميز باستراتيجية
وبتكتيك وبتقنيات الخطابة والدعاية، وأنه يستمد سلطته من الجماهير [31] .
علمتهم الصحوة الإسلامية أن الدين يمكن أن يتغلب على غيره في كل
الفترات، سواء أكانت فترات صعود نحو العلمانية والعقلانية، أو فترات انحطاط
وتدهور كما يتصورون؟ .
ودرس آخر شديد القسوة تعلموه من الصحوة الإسلامية هو: قدرة الإسلام
على الانتشار الواسع المحلي والوطني، وقدرته على إفشال الأحزاب والحركات
السياسية العلمانية التي تأسست في خضم حركات التحرر والتشييد الوطني، وقدرته
على التحول بسرعة خاطفة إلى أحزاب جماهيرية تستطيع توجيه أسلحتها الثقيلة
حسب عباراتهم نحو مسألة شرعية السلطة السياسية وأنظمتها القائمة على الوطنية
والتنموية [32] ، يقول علي الكنز:
(لقد بنيت الأنظمة العربية اليوم على أسس الوطنية والتنموية، ونراها اليوم
تنحسر وتنهار بوطنيتها وتنميتها في الوقت ذاته) [33] .
- يتبع -
__________
(1) محمد قطب، واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة، جدة 1989، ص364.
(2) علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1990، ص 97.
(3) تابع ص 100.
(4) تابع ص 108.
(5) انظر تعريف العقلانية، الحلقة الأولى، حاشية رقم 9.
(6) علي الكنز ص 99.
(7) أول من استخدم مصطلح الوضعية هو سان سيمون ليشير به إلى منهج علمي يمتد ليشمل الفلسفة أيضاً، ثم تبناه بعد ذلك أوجست كونت ليؤسس به حركة فلسفية ك بيرة انتشرت بقوة في كل بلاد العالم الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين، تقوم الإلزامية الوضعية على مبدأ أن العلم هو المصدر الصادق والوحيد للمعرفة والحقائق وتتخذ الوضعية موقفاً عدائياً من الدين، ولهذا فهي تنكر كل جوهر يذهب وراء حقائق وقوانين العلم، وترفض أي نوع من الميتافيزيقيا، واستبدلت الدين المعروف بدين وضعي، كما وضعت أخلاقاً وسياسة وضعية انظر: Nicola Abbagnano, Posivitism, The Encyclopedia of Philosophy Macmillan Publishing N Y Q London p 414 هذا وأطلق الشيخ مصطفى صبري على هذه الفلسفة بالفلسفة الوضعية (الإثباتية) : الالحادية، وعاب على علماء الأزهر انخداعهم بها وعدم إدراكهم لإلحادها، انظر: مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت [ج ا / ص148 -149، ويعتبر الشيخ فريد وجدي من أبرز العلماء في الأزهر الذين خدعتهم هذه الفلسفة إلى درجة أنه قد توافقها مع الإسلام، وكتب عنها قائلاً: (هذا هو رأى الفلسفة الوضعية التي أساسها الدليل المحسوس الذي لا ينقض في أي عهد من العهود المستقبلة، وهو يعتبر أساس الحكمة الإسلامية:] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ [انظر: محمد فريد وجدي، السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة- مجلة الأزهر ج 3 ربيع الأول1364/1945، مجلد 16، ص100.
(8) العلموية أو النزعة التعالمية مصطلح يعني: أن العلم يستطيع أن يزود الجنس البشري بفلسفة شاملة في الحياة، وبحل لجميع المشكلات، وينظر إليه كأيديولوجية تشتمل على أرفع القيم وأرقاها انظر: محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية ص 403.
(9) على الكنز: ص 99-102.
(10) على الكنز: ص 99-102.
(11) على الكنز: ص 99-102.
(12) على الكنز: ص 99-102.
(13) على الكنز: ص 99-102.
(14) على الكنز: ص 99-102.
(15) على الكنز: ص 99-102.
(16) على الكنز: ص 99-102.
(17) على الكنز: ص 99-102.
(18) على الكنز: ص 99-102.
(19) عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العرب الإسلامي، الدين والمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 155.
(20) تابع ص 157.
(21) سمير نعيم أحمد، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الدينى، الدين والمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ص 223، 235، 237.
(22) تابع ص 234.
(23) علي الكنز ص 105.
(24) تابع 105-106.
(25) فرحان الديك، الأساس الديني في الشخصية العربية، الدين في التجمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 118.
(26) عضيبات ص 160.
(27) علي الكنز ص: 100-109.
(28) علي الكنز ص: 100-109.
(29) علي الكنز ص: 100-109.
(30) علي الكنز ص: 100-109.
(31) علي الكنز ص: 100-109.
(32) علي الكنز ص: 100-109.
(33) علي الكنز ص: 100-109.(41/9)
منهج أهل السُّنة في النقد
والحكم على الآخرين
(2)
هشام بن إسماعيل
العدل في وصف الآخرين
وهي جزء من القاعدة السابقة، ولكن لأهميتها أفردت لوحدها. والأصل في
هذه القاعدة قوله تعالى: [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود: 85] . ...
والمقصود بالعدل في وصف الآخرين هو: العدل في ذكر المساوئ
والمحاسن، والموازنة بينهما.
وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل ابن آدم خطَّاءٌ، وخير
الخطاءين التوابون» [1] .
فلا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تدفن محاسن المرء لخطأ، كما أن
الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث. [2]
ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين
من يصفه، فالله عز وجل قد أدبنا بأحسن أدب وأكمله، فقال سبحانه: [وَلاَ
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود: 85] . وإنك لتجد كثيراً ممن يذم غيره بذكر
مساوئه، ويغض الطرف عن محاسنه، بسبب الحسد والبغضاء، أو لتنافس مذموم
بينهما.
ولكن المنصفون هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه
حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد، أو في المذهب والانتماء.
ومن العلماء الذين برز إنصافهم لغيرهم: الحافظ الذهبي -رحمه الله- فمن
خلال كتابه القيم: (سير أعلام النبلاء) ، والذي ترجم فيه لعدد من العلماء الأجلاء، وكذلك لعدد ممن اشتهر بين الناس وكان من أهل البدع أو الفسق أو الإلحاد، تجده
لم يبخسهم ما لهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم.
وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، منها:
1- قال عن عبد الوارث بن سعيد: (وكان عالماً مجوداً، ومن أهل الدين
والورع، إلا أنه قدري مبتدع) السير (8/301) .
2- وقال عن الحكم بن هشام: (وكان من جبابرة الملوك وفساقهم،
ومتمرديهم، وكان فارساً، شجاعاً، وكان ذا دهاء وعتوٍّ وظلم، تملك سبعاً
وعشرين سنة) السير (8/254) .
3- وقال عن الواقدي: (والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق
اللسان، كبير القدر) ، السير (7/142) .
4- وقال عن المأمون الذي تبنى فتنة القول بخلق القرآن وامتحن علماء أهل
السنة بذلك: (وكان من رجال بني العباس حزماً، وعزماً، ورأياً، وعقلاً، وهيبة، وحلماً، ومحاسنه كثيرة في الجملة) السير (10/273) .
5- وقال في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي: (العلامة، المتبحر، ذو
الفنون.. وكان أحد الأذكياء.. وكان ماجناً، قليل الدين، له نوادر) السير (11/
256) .
6- وقال عن قرة بن ثابت: (الصابئ، الشقي، الحراني، فيلسوف عصره.. وكان يتوقد ذكاء) السير (13/ 285) .
7- وقال في ترجمة الخياط المعتزلي: (شيخ المعتزلة البغداديين، له ذكاء
مفرط، والتصانيف المهذبة.. وكان من بحور العلم، له جلالة عجيبة عند
المعتزلة) [السير 14/220] .
وهناك أمثلة كثيرة غير هذه، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة سير أعلام
النبلاء، يجد بغيته -إن شاء الله-.
ومنهج الذهبي في العدل في وصف الآخرين، منهج علمي دقيق، وهو منهج
أهل السنة والجماعة في أحكامهم على غيرهم، وهو نابع من قوله تعالى: [وَلاَ
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود: 85] والآيات المشابهة لها.
ولذلك ينبغي لكل من رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي، وأن
يتقي الله-عز وجل- في وصف غيره، ويتكلم بعدل وإنصاف.
العبرة بكثرة الفضائل:
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، فمن غلبت فضائله هفواته، اغتفر
له ذلك.
يقول ابن رجب الحنبلي: (والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير
صوابه)
وكلمة ابن رجب بمثابة منهج صحيح في الحكم على الشخص الواحد، لأن
كل إنسان لا يسلم من الخطأ، ومن قل خطأه وكثر صوابه، فهو على خير كثير.
ومنهج السلف هو: اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ،
والنظر إليه بعين الإنصاف.
يقول الحافظ الذهبي: (ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من
الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة
المحاسن) [3] .
وقال الذهبي في ترجمة ابن حزم: (وصنف في ذلك - نفْي القياس -كتباً
كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل
فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن
تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى
بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها
الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون،
ومن تفرده يهزؤون، وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل،
ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد
زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد
أثنى عليه قبلنا الكبار) [4] .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة لطيفة: ولكن كثير من الناس من يرى المثالب، ويعمى عن المناقب، وفي ذلك يقول الشعبي -رحمه الله-: (والله لو أصبت تسعاً
وتسعين مرة، وأخطأت مرة، لأعدوا على تلك الواحدة [5] .
وقد قيل: كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
يمكن أن تعتبر قاعدة مهمة في هذا الباب، يقول فيها: (العبرة بكمال النهاية
لا بنقص البداية) [6] .
ومن نفيس كلامه في هذا الباب قوله: (وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه
أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى
ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك
بعض السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل
بعض الحسنات السنية البرية، فهذه طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً
بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان) [7] .
(ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم من وجه، ويعذب ويبغض
من وجه آخر) [8] .
(ومن سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم، وأحبه وولاه،
وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له
حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج، والمعتزلة، ومن
وافقهم) [9] .
__________
(1) أخرجه أحمد (3/198) ، والترمذي (4/659) ، وابن ماجه (2/1420) ، وانظر (صحيح الجامع) برقم (4515) .
(2) هو لفظ حديث أخرجه الدارمي (737-738) ، والدارقطني (1/21-22) وغيرهما، وقد أفاض ابن القيم في دراسته في تعليقه على (سنن أبي داود) ، انظر عون المعبود (1/106-125) ، وانظر: إرواء الغليل (1/60) .
(3) انظر سير أعلام النبلاء (20/46) .
(4) نفس المرجع (18/186-187) .
(5) نفس المصدر (4/308) .
(6) انظر منهاج السنة النبوية (8/412) .
(7) الفتاوى (10/366) .
(8) الفتاوى (15 / 294) .
(9) منهاج السنة النبوية (4/543) .10......(41/24)
تراث
عبث المجهول والمعلوم
محمد عبد الله آل شاكر
كل عمل علمي صورة عن صاحبه، وهو الذي يتحمل مسؤولية ما فيه من
خطأٍ، وينسب إليه الفضل فيما أجاد فيه، كما يتحمل اللوم إن كان ملوماً في عمله
أو مقصراً.. وهذا يعني أن صاحب العمل ينبغي أن يكون معروفاً غير مجهول؛ إذ
لا يؤخذ العلم عن المجاهيل والنكرات، كما أن لأصحاب السمعة الحميدة في العلم
والدين مكانة في النفوس، تحمل القارئ على الاطمئنان لما يقولون ولما يصدر
عنهم - عندئذ - منزلة لا تعدلها منزلة آخرين.
وكما يصح هذا القول هنا، يصح أيضاً في التحقيق العلمي للتراث الإسلامي، إذ ينبغي أن ينسب كل تحقيق لمن قام به ويكون معروفاً بمؤهلاته التي تؤهله
للقيام بهذا العمل. ولكن هذه القاعدة لا يلتزم بها بعض المحققين، فتجد على بعض
الكتب والرسائل الصغيرة أمثال هذه العبارات: (حققه بعض طلبة العلم) ، أو:
(جماعة من المحققين) ، أو: (فئة من الجامعيين) ، وعلى بعضها أمثال: «كتبها
أحد طلبة الشيخ» ، «جمعها أحد طلبة الشيخ» . (وما أدراك ما طلبة الشيخ! !) .
ويبحث القارئ حتى يتعرف على هذا (البعض) أو (بعضه) ، أو على هذه (الفئة) مَنْ هُم؟ وما هي مؤهلاتهم ومكانتهم وتجربتهم التي خولتهم القيام بتحقيق تراثنا؟ ، وما مدى التزامهم بما ينبغي أن يلتزموا به..؟ تبحث، فلا تجد شيئاً، لأنك أمام مجهول، وحُقَّ للناس أن يخافوا دائماً من (المجهول) .
وحتى لا أطيل على القارئ، أجتزئ بمثالين اثنين:
الأول: (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) لأبي محمد، عبد الحق
ابن عطية الأندلسي، وهو كتاب نال ثناء العلماء؛ حتى قال أبو حيان الغرناطي: ... (هو أجلّ من صنف في علم التفسير، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه مع التحرير) .
ويصدر الكتاب عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب العربي،
(ووصل في علمي إلى المجلد الثالث عشر، وعلى غلافه عبارة: (تحقيق المجلس
العلمي بفاس) . فحسب.
وقد يكون أعضاء المجلس العلمي الموقرون معروفين بأسمائهم وأعيانهم
وعضويتهم في المجلس نفسه، ولكن لم لا ينسب العلم والجهد لأهله، فيعرف مَنْ
منهم شارك في التحقيق والجهد؟ (وإن كان هذا التحقيق برمته يحتاج إلى إعادة
نظر وتحقيق)
ثم طبع ثمانية أجزاء من الكتاب في (قَطر) بتحقيق وتعليق: الرحالي
الفاروقي (رئيس المجمع العلمي بمراكش) ، وعبد الله إبراهيم الأنصاري (مدير
الشؤون الدينية في قطر) ، والسيد عبد العال إبراهيم، وسيد الشافعي صادق. فكان
ذلك- فيما يبدو - سبباً لاستخراج مجهول في الطبعة المغربية (وإن كان التحقيق
الجديد أيضاً لم يغن شيئاً عن القديم) .
المثال الثاني: (تهذيب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين) تأليف العلامة الشيخ: محمد جمال الدين القاسمي (رحمه الله) . وهو مطبوع أكثر من طبعة، ثم طبع عام 1394 هـ وعام 1405 هـ وعلى جلده وصفحة عنوانه الداخلية تحت اسم الكتاب والمؤلف هذه العبارة: (راجعه وحقق أحاديثه طائفة من الجامعيين) .
من هم هؤلاء الجامعيون؟ أهم طلبة مبتدئون في الجامعة، أم هم خريجوها؟ أو لعلهم أساتذة جامعيون؟ ، فكل هؤلاء يصدق عليهم أنهم جامعيون. وفي أي
جامعة؟ وبأي كلية جامعية هم؟ أهي كلية الشريعة وأصول الدين مثلاً؟ أم كلية
الهندسة بفروعها؟ ، أو كلية فنون جميلة؟ عِلْم ذلك كله عند الله تعالى (ثم عند من
يعرفهم) .
وهذا المثال الأخير، يُسْلمنا إلى ملاحظة أخرى عن التحقيق الذي أصبح
بمفهوم بعضهم مرادفاً للعبث والتلاعب بالنصوص (المسكينة) : حذفاً وإضافة
وتصرفاً. وفي هذه خيانة للأمانة وعدوان على التراث العلمي لسفنا الصالح،
وافتئات على المؤلفين، وهو داخل ضمن الكذب والزور [1] ، ومجانب للصواب
في عملية التحقيق التي تعني: (تقديم النص كما يريده المؤلف) دون أي تحسين أو تعديل أو تصويب [2] .
ونأخذ أمثلة على ذلك من (تهذيب موعظة المؤمنين) أولاً، ثم من غيره ثانياً.
قالت الطائفة من الجامعيين تحت عنوان: (عملنا في هذا الكتاب) :
(لقد اعتمدنا هذا المختصر في دراستنا وتحقيقنا، (وهنا إضافة جديدة وهي
الدراسة) وهو مع علو شأن مختصره، احتوى على العديد من الأحاديث غير
الصحيحة، فحذفناها على الغالب لعدم الفائدة من ذكر الأحاديث الضعيفة
والموضوعة، ولو بالتعليق عليها، خشيةً من بلبلة المبتدئين، وحققنا الصحيح من
هذه الأحاديث كما هو واجب على كل باحث.. واستدركنا على الحافظ العراقي في
الأحاديث التي اكتفى بعزوها إلى كتب (السنن) فقط، مع أن فيها العديد من
الأحاديث غير الصحيحة) .
وليت شعري! هل أصبح حذف الأحاديث غير الصحيحة من الكتاب لعدم
الفائدة منها، هل أصبح داخلاً في حدود عملهم الذي قالوا عنه: (أولاً: المراجعة
وتحقيق الأحاديث) ؟ أو أنه من مقتضيات التحقيق؟ وكيف يحققها وقد حذفها من
الكتاب! ولو كان عملهم الاختصار أو التهذيب أو الحذف، لكان هناك من يسوغ
لهم هذا ويفتي به، أما وإن الكتاب مطبوع باسمه الذي وضعه المؤلف، فلا يجوز
بعد ذلك هذا التصرف فيه.
وإننا نحمد - صادقين - للمحققين غيرتهم على المبتدئين، وخشيتهم من
(بلبلتهم) ، وأما (الصحيح من هذه الأحاديث) التي حققوها فهو جهد متطوع ... بعد صحتها (كما قلتم) - فإذا كانت صحيحة فما داعي تحقيق صحتها؟
وأما استدراككم على الحافظ العراقي-رحمه الله- فليتكم ضربتم مثلاً واحداً له، ولست أدري ما أقول في هذا؟ ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. وغفر الله لي
ولكم.
ثم تقول فئة الجامعيين:
(2- وكذلك حذفنا العثرات التي أشار إليها ابن الجوزي، وقد ذكرنا كلامه
في أول هذه المقدمة، مع أنه أبقى بعضها في (مختصره!)
ومرة ثانية: حذف العثرات (ونسأل الله أن يتجاوز عن عثراتنا) ليس داخلاً
في جُبَّة التحقيق ولا في عمامته، ولا في ثوبه ولا في كُمِّ الثوب، لا في التحقيق
ولا المراجعة. ولا يجيز ذلك أيضاً اضطراركم (للقيام بهذا المشروع نصرة للإسلام، وتسهيلاً لمهمة الخطباء والمدرسين، ورغبة في إرشاد المسلمين، وسعياً لتثقيف
أنفسهم بأنفسهم) . (وقلتم: إن الكتاب للمبتدئين الذين تخشون من بلبلتهم بالعثرات،
فكيف لا تخشون عليهم من تثقيف أنفسهم بأنفسهم؟ ، أليسوا بحاجة إلى من يعلمهم
ويثقفهم ويربيهم، أم أن الكتاب بعد جهدكم فيه، أصبح فيه غَناء لهم؟) .
(3- وحذفنا أيضاً من كتاب (موعظة المؤمنين) المسائل المتعلقة ... بأحكام فقهية عن الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، كما حذف أكثرها الإمام ابن الجوزي أو المقدسي، لأنها مستفيضة في كتب مخصصة لها، وهي موضع خلاف بين المذاهب) .
عجبٌ لا ينقضي من هذه المراجعة والتحقيق، فإن هذا الذي حذفه الجامعيون
من مسائل الكتاب مما لا ينبغي أن يجهله المسلم، لأنه متعلق بأركان الإسلام، فمن
أول ما ينبغي معرفته بعد الشهادتين والإقرار بهما: الطهارة والصلاة؛ حتى يؤدي
ذلك كله عن علم وفقه.
وهو أيضاً خارج عن طبيعة عمل التحقيق -كما سبق -، وإن كان ابن
الجوزي أو المقدسي حذف أكثرها فلأن ذلك يتسق مع منهجه وعمله وهو الاختصار
والتهذيب، ولا يتسق مع منهجكم الذي زعمتموه. فهذا يختلف عن ذاك. ولئن كان
ابن الجوزي قد حذف أكثرها، لقد أبقى على أقلِّها لفائدةٍ؛ تحرمون القراء منها!
وأما التعليل لهذا التصرف فهو عليل، لأن استفاضة هذه المسائل في الكتب
المخصصة لا تبيح لكم حذفها، وإن كان فليكن تطبيق القاعدة عاماً، ويحذف من
الكتاب كل ما هو مسطور في كتب مخصصة من غير هذه الأحكام.
وما أظن - ولا أي عاقل يظن - أن كل ما هو (موضع خلاف بين المذاهب)
لا ينبغي حذفه من الكتب عند التحقيق، بل إن التحقيق يقتضي إثباته وتحرير
محل النزاع فيه، وبيان الصواب مثلاً مع الأدلة - إن اقتضى الأمر -، ولعلكم
تعرفون أن الخلاف في الأمور الفقهية واقع منذ عهد الصحابة ومَنْ بعدهم، وكتب
الحديث -والمصنفات بخاصة- كلها آثار تبين ذلك ويظهر فيها الخلاف، فهل
تحذف أيضاً عند التحقيق؟
ثم يأتى البند رقم (4) في مقدمة المحققين إقراراً آخر بافتئاتهم على المؤلف،
بإثبات وإضافة ما هو مفيد - برأيهم - في صلب الكتاب، وكان بإمكانهم أن
يضيفوا ما يرونه مفيداً في حاشية الكتاب، قالوا:
(4- وأثبتنا بعض مباحث وأحاديث وأشعار رأيناها مفيدة، وقد حذفها الشيخ
القاسمي) .
فماذا لو رأى غيركم من المحققين أن هذا الذي أثبتموه غير مفيد؟ هل يعيد
حذفه ثانية كما فعل أولاً الشيخ القاسمي؟ وهو قد فعل ذلك، لأن عمله تهذيب
للكتاب وليس تحقيقاً له وللأحاديث كما زعمتم.
ثم تتابع الطائفة من الجامعيين (بالطبع هي غير الفئة الباغية) فتقول:
(5 - ومن أهم ما قمنا به: أننا ذكرنا بحثاً في الجهاد، ليأتي الكتاب كاملاً،
فإن الإمام الغزالي لم يتطرق إلى موضوعه على الرغم من خطورته وعظمته ... ) .
وبالتأكيد ليس هذا هو كل ما أضافه (المحققون) إلى الكتاب (المفترى عليه)
حتى يكون كاملاً، وإنما هذا الذي نبهوا عليه في مقدمة التحقيق. فقد أضافوا في
ص (186-208) بحثاً عن شمائله-صلى الله عليه وسلم-.
وأهمية الجهاد مما لا يخالف فيها مسلم قط، لا تبيح إضافته إلى كتاب
المؤلف؛ (لئلا تختلط جهود العلماء والمحققين؛ فيضيع النسب، وتهدر الحقوق) ،
فيمكن المحققين أن يكتبوا كتاباً عن الجهاد وينشروه بأسمائهم - ويأخذوا أتعابه -،
ويبقى الكتاب كاملاً كما وضعه مؤلفه، لا كما أراد حضرات المحققين الماسخين
للكتب.
فإذا جاوزنا المقدمة التحقيقية هذه إلى الصفحة الثالثة من الكتاب (مقدمة
القاسمي -رحمه الله-) نجد تعليقات وتحقيقات غريبة تدعو إلى الاستفهام عن هوية
الجامعيين -كما سبق -؛ ففي متن الكتاب ص 3 جاءت هذه العبارة: (.. ويكون
وافياً بحاجاتهم (2) ، آتياً على جميع كمالياتهم..) ، وقد وضع رقم الإحالة (2)
فوق كلمة: (بحاجاتهم) ؛ وفي أسفل الصفحة التعليق التالي: (2- في الأصل:
حاجياتهم) (!) .
وهذا الذي جعلوه في المتن هو الخطأ بعينه، والصواب هو ما حذفوه أو
أنزلوه مكاناً ومكانةً إلى الحاشية؛ فإن (الحاجيات) نسبة إلى (الحاجّي) لا إلى
(الحاجة) ، وهي متسقة مع السياق بدليل ما بعدها وهو قول القاسمي: (آتياً على
جميع كمالياتهم) . ولكن جزى الله العجلة والتبجح كلَّ شرٍّ.
وفي الصفحة التي تليها، بعد صفحة فارغة، جاء في الكتاب: (.. وأما
الأخبار؛ فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -: «من يراد (هكذا، وهو خطأ
مطبعي صوابه: يُرِدْ) الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده» مع إحالة رقم
(1) ؛ ثم يقول في الحاشية:
(1- ولفظ الحديث كما في البخاري ومسلم: «من يرد الله به خيراً يفقه (كذا) في الدين» ، دون زيادة: (ويلهمه رشده) . ومعنى يفقهه في الدين: أي: يعلمه القرآن والسنة) .
دع عنك كثرة الأخطاء المطبعية التي تدل على مبلغ اهتمامهم وتحقيقهم للكتاب، فأمرها قد يكون سهلاً، ولكن عد إلى التخريج للحديث، حيث تكرمت اللجنة
بتخريج لفظ لم يذكره المؤلف، وتركت ما نصَّ عليه، ولم تشر إلى الزيادة أين هي ...
في غير الصحيحين؟ إذ فيهما أصل الحديث فحسب دون الزيادة. وهل هناك من
رواها بهذا السياق؟
(وللفائدة فحسب، وعلى عجل، قال العراقي في (تخريج أحاديث الأحياء)
(1/21) طبعة دار العاصمة بالرياض: (وأما قوله: ويلهمه رشده، فعند الطبراني
في الكبير) . وقال الزبيدي: (ورواه مع هذه الزيادة أيضاً: أبو نعيم في (الحلية)
عن ابن مسعود، وسنده حسن. وفي (الصحيحين) و (مسند أحمد) بعد قوله:
(في الدين) زيادة: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على
أمر الله) . (المصدر نفسه) .
فكيف بعد هذا، لو قلبنا بعض الصفحات لنتعرف على قيمة ما فيه من
تعليقات وتحقيقات، ولا يفوتنك أيضاً: أنه قد يأتي ناشرٌ آخر فيحذف مقدمة
المحققين -كما يفعله كثير منهم اليوم وسيأتي أمثلة على هذا -، وعندئذ لا يمكن
تمييز أصل الكتاب الذي طالته يد التحقيق والمراجعة والدراسة المزعومة.
وإذا كان ذلك مثالاً على عبث المجهولين، فإن أمثلة أخرى تتمثل في تغيير
بعض العبارات في النصوص المحققة، قام بها بعض أبناء هذا التراث، ولم يكن
عندهم ما يمنع من ذكر أسمائهم (إذ الحقوق محفوظة لأصحابها) .
فأحدهم يبيح لنفسه حذف بعض الكلمات مثل صيغة الدعاء والترحم والترضي
عن بعض العلماء، بسبب مخالفة فقهية، أو بسبب عداوة أو غباوة، وكأنه لا يجيز
أن يدعو بالرحمة للإمام الشافعي مثلاً، أو لأبي حنيفة - رحمهما الله تعالى -؛ لأنه
يخالفهم في شيء من الرأي. وأظن أن التصريح هنا باسم من يفعل ذلك ليس فيه
شيء من المصلحة الآن، فلندعُ له بالهداية.
وقد يحذف نص من كتاب مثلاً في باب معين لضعف رأي أو خطئه، فمثلاً
في طبعة الرياض لكتاب (الأذكار) للإمام النووي - تحقيق الشيخ الأرناؤوط -
حذفت حكاية العتبي في الأعرابي الذي جاء إلى قبر النبي-صلى الله عليه وسلم -
ودعا. وهي حكاية بلا إسناد، ويرويها البيهقي في (الشُّعب) بإسناد مظلم، وهي
موجودة في سائر طبعات (الأذكار) وفي كتب الفقه (كالمغني) وغيره، فليس لأحد
الحق في حذفها بحجة التحقيق أو لأنها حكاية ضعيفة، وإنما يعلق عليها في الحاشية
ويبيِّن الصواب والحق.
ثم قد علمت أن إسقاط هذه القصة إنما كان تصرفاً من مراقبة المطبوعات في
دار الإفتاء بالرياض، وليس من المحقق نفسه. وهذه أعجب!
وسبقت الإشارة أيضاً إلى تصرف الأستاذ أحمد عطا، واجتهاداته الشخصية
في تغيير نص كتاب (العقل) للحارث بن أسد. وهذا كله يتنافى مع الأمانة العلمية،
ومع الدقة التي يتصف بها علماؤنا في آداب تصحيح النص واحترامه، حتى قال
العلموي: (إنه لا يجوز أن يصلح كتاب غيره بغير إذن صاحبه) ، ويعجب من عمل يشبه عمل محققينا الذين سبقت الإشارة إليهم فيقول: (وقد تجاسر بعضهم فغيَّر ما الصواب إبقاؤه) [3] .
__________
(1) اقرأ ما كتبه الشيخ الصافي في كتابه: (أخطار على المراجع العلمية) ص 57-59، طبع دار الفاروق، بالطائف.
(2) راجع على سبيل المثال (محاضرات في تحقيق النصوص) ، للدكتور أحمد الخراط، ص8.
(3) انظر: مناهج البحث عند علماء المسلمين، تأليف روزنثال ص 60 وما بعدها.(41/29)
من واقع الحضارة الغربية
(1) السفر إلى المشرق
أبو البراء عبد العزيز بن محمد
(سوزان ليليث) طفلة أمريكية في الثانية عشرة من العمر، تقول: إنني لا
أرى والدي كثيراً، وهو مرهق باستمرار، وكذلك أمي، عندما أبلغ الثامنة عشرة
أريد أن أهاجر وحيدة إلى الهند..، المدرِّسة قالت لي: إن البيوت هناك كثيرة،
وإن الناس يجلسون في الطرقات ويتحادثون، المدرسة قالت لي أيضاً: إن الهند
يقدسون البقرة، وأنا لم أر بقرة في حياتي إلا على شاشة التلفزيون أو في الكتب..، لا أريد أن أبقى هنا..، لا أريد أن يتجعد وجهي مثل أمي، إنني أنوي السفر
إلى المشرق.
(2) الوحدة القاتلة
(بيتو لاهايت) عجوز في الخامسة والسبعين من أصل إرلندي، وتعيش منذ
خمسين عاماً في مدينة (أوتاوا) الكندية، تقول:
إنني أعيش وحيدة.. أولادي وأحفادي يعيشون في مونتريال، أتلقى منهم
الرسائل بانتظام، وأشعر أن عملية تناول الرسائل باتت (ميكانيكية) ، لأنها خالية
من الود الحقيقي..، هذا ليس ذنبهم..، أعود ستين عاماً إلى الوراء، عندما
كانت حياتنا أشبه بالمهرجان الدائم، الآن تبدل كل شيء، ويبدو أن الناس كلهم
يسيرون (في جنازة هم الأموات فيها)
(3) العائلة والموت
[ (أنقذوا العائلة من الموت) هذا النداء (الدراماتيكي) أطلقه العالم الاجتماعي ...
الفرنسي (برنارد أوديل) ، وهو النداء الثالث الذي يطلقه خلال الثلاثين سنة
الماضية.
كان الأول: (أنقذوا العائلة من الاستلاب)
وكان الثاني: (أنقذوا العائلة من التفتت)
وهو يطلق النداء الثالث، لأن المعطيات التي توفرت لديه حول وضع العائلة
في الغرب تثبت جميعها أنه قد حان الوقت لكي تقرع أجراس الإنذار في كل بيت
من نصف الكرة الغربي] .
(4) القرآن أقوى من فرنسا
[في ذكرى مرور مائة عام على احتلال فرنسا للجزائر، وقف الحاكم
الفرنسي في الجزائر يقول: (يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم.. ونقتلع
اللسان العربي من ألسنتهم؛ حتى ننتصر عليهم)
وبعد ذلك بسنوات قلائل:
قامت فرنسا - من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر -
بتجربة عملية؛ فتم انتقاء عشرة فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة
الفرنسية في المدارس الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً.
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود، هيأت لهن حفلة تخرج رائعة دعي إليها
الوزراء والمفكرون والصحفيون ...
ولما ابتدأت الحفلة، فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن
الإسلامي الجزائري..
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية، وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر
إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاما؟ !
أجاب (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي: (ماذا أصنع إذا كان القرآن
أقوى من فرنسا؟)(41/37)
خواطر في الدعوة
من سنن الاجتماع والجماعات
محمد العبدة
عندما يبرز علم أو داعية أو زعيم، ويشتهر أمره، تحوطه عادة جموع كثيرة
من الناس: منهم المخلصون وهمهم طلب العلم أو المشورة أو المساعدة في أمر
الدعوة، ومنهم المتملقون بالتقرب منه والذين يتظاهرون بالسؤال وحب الدعوة،
ومنهم الفضوليون الذين يحبون الشهرة بالسير في ركاب هذا أو ذاك، وأخلاط من
الناس تستمع ولكن الفائدة المرجوة قليلة، وفي غمرة حرص الداعية أو القائد على
نشر هذا الخير وتكثير سواد المسلمين قد يبتعد عن المقربين المخلصين من غير
تعمد منه لذلك، وهذا مما يكسر خواطرهم، ويضعف الفائدة المرجوة من التجمع
والتناصر، وفي العادة فإن المخلصين يبتعدون عن التزلف ويتحاشون القرب الدائم، فإذا غلبهم العامة أو المتملقون فقد وقعت المصيبة، وقد كان الصحابي الجليل عبد
الرحمن بن عوف مدركاً لهذه الناحية عارفاً بأمور الناس والزعامة، عندما نصح
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بألا يتكلم في (منى) أثناء الحج عن أمور تخص الخلافة والاستخلاف، وكان عمر -رضي الله عنه- قد سمع قولة قائل:
(لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً) ، يظن أن البيعة بهذه السهولة، يبايع من شاء دون مشورة لأهل الحل والعقد، وكأنه ظن أن خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- كانت هكذا، فغضب عمر ثم قال: (إني -إن شاء الله- لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين؛ لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً) ، واستجاب عمر - رضي الله عنه- لنصيحة عبد الرحمن بن عوف وقام هذا المقام في المدينة.
ونقول للدعاة الذين يشار إليهم بالبنان: لا يجوز أن يغلب المتملقون
والمتطفلون على أوقاتكم، ويجب أن يقرب المخلصون من تلامذتكم، وهذا من
آداب القيادة وسنن الاجتماع كما قال تعالى على لسان نوح- عليه السلام-: [ومَا
أَنَا بِطَارِدِ الَذِينَ آمَنُوا] ، يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية: هذا مبني
على سنن الاجتماع في الزعامة والعصبية وتأليف الجماعات، وكون ثباتها وظفرها
رهناً بإيمان الجماعة التي تألفت لأجله، وولاية بعضهم لبعض بصفة يكون فيها
الزعيم خير قدوة للأفراد بتفضيله أدنى المؤمنين فيهم على أعظم الكبراء من
خصومهم [1] ؛ فهل يعي هذه النصيحة الذين يتصدون للناس ولا ينسون الدعاة
الصادقين الذين لا يتزلفون للزعيم.
__________
(1) المنار (12 / 241) .(41/40)
حديث عن المنهج
د. طارق عبد الحليم
الحديث (حول) منهج أهل السنة والجماعة حديث تطمئن إليه قلوب
المؤمنين وتنشرح له صدورهم؛ فهذا المنهج هو طريقهم السوي إلى بر الأمان في
خضم تلك البدع والأهواء والفتن المتلاطمة التي يجر بعضها بعضاً للقضاء على
زمرة أهل الحق.
لكن الحديث (حول) المنهج أمر، والحديث (عن) المنهج أمر آخر… ...
فالحديث حول المنهج، الذي اطمأنت به نفوس المؤمنين في السنوات الماضية قام
على الدعوة للرجوع إلى هذا المنهج القديم وتحبيب الناس فيه، والتركيز على أنه
لا منهج سوي سواه، ولا منجى مما يحيق من فتن إلا به.. فهو المنهج الذي أسسه
محمد-صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي سار عليه أعلام الصحابة والتابعين وأئمة
المسلمين من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، ما انحرف عنه أحد إلا دخلته
بدعة وفارقته سُنة، وبعد عن القصد، وقرب مما ليس فيه مصلحة.
أما الحديث (عن) المنهج فهو يعني: بيان أسس ذلك المنهج.. تقعيد قواعده
وتفريع فروعه.. بيان مبادئه وتفصيلاته، وشرح كلياته وجزئياته.. وهو ما
يحتاجه مسلمو اليوم ممن اطمأنوا إلى ضرورة اتباع هذا المنهج والسير على خطاه..
إن (منهج) أهل السنة والجماعة ليس هو (فتاوى) أهل السنة والجماعة أو
(مذهب) أهل السنة والجماعة الفقهي أو الحركي.. إنه (أسلوب) في النظر إلى الأمور الثلاثة التي تشكل مسار الدنيا، والتي يختلف عليها الناس في كل آن ومكان: الأفكار، والأشخاص، والأحداث.
المنهج هو: (طريقة) في البحث والتحري عن الحقيقة - أو بالأحرى: عن
الحق - تضيِّق نطاق الخلاف حول تلك الأمور الثلاثة التي ما فتىء الخلاف حولها
يهدد كيان المسلمين ويزعزع بنيانهم، وأهم من ذلك أنه الوسيلة التي تجعل النية
والقول والعمل موافقاً لسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، أو قل إن شئت:
(هو تلك الأسس والقواعد الشرعية والعقلية التي يدرب عليها عقل المسلم؛ فتكون
قالباً تُصاغ من خلاله حركاته وسكناته.. أقواله وأفعاله.. إقدامه وإحجامه في كافة
شؤون حياته) .
إذن، ما هو ذلك المنهج أو الأسلوب أو الطريقة التي ما زلنا نتحدث عنها
وندعو إليها؟
سؤال يحتاج أن تتجرد له عزائم الرجال، وتتفرغ له أوقاتهم، وتشحذ عقولهم
لوضع تفاصيل ذلك المنهج وحدِّ حدوده ورسم معالمه.
أنواع المناهج:
نوعان من المناهج يتبعها الباحثون في المجالات العلمية أو النظرية، تجدر
الإشارة إليها كأحد المعالم الهادية إلى تحديد نوعية المنهج المراد؛ وهما:
أولاً: تلك المناهج التي توضع تفصيلاتها وتحدد معالمها قبل البحث المقصود
إليه أو المراد إنشاؤه، ويطلق عليها (أسلوب البحث) إن تعلقت بمبحث علمي، أو
(خطة البحث) إن تعلقت بأمر عملي فيزيقي، أو (خطوات البحث) إن تعلقت بأمر عمليّ في مجال الأعمال والتجارة وغيرها. هذه المناهج غالباً ما تكون مقصورة على البحث الذي وضعت لأجله.
ثانياً: تلك المناهج التي تستشف معالمها وتستنبط مبادئها من واقع حالٍ
وظروف قائمة وأحداث واقعة - سواء في الماضي أو الحاضر - لتكون هيكلاً في
البحث وطريقة في النظر؛ تتبع فيما يستحدث من وقائع أو ظروف أو أحداث في
المستقبل، وهو ما نرمي إليه في الحديث عن منهج أهل السنة والجماعة. وأقرب
ما وجدناه من معنى يعبر عن ذلك في معجم المباحث الغربية هو كلمة SCEME.
هذا النوع من المناهج هو ما استعمله (ديكارت) في كتيبه الشهير الموسوم
بـ: (مقال في المنهج) ، وهو الذي نبتت أفكاره من بذور الفكر الذي ساد تلك
الحقبة من الزمن، والذي قامت على أساس هدم الفكر الديني الكاثوليكي، وفصل
الدين عن السياسة، والوقوف في وجه طغيان الكنيسة وسيطرتها على مصائر
الناس، مما أشاع فكر (التحرر) وضرورة (الشك) في المسلمات السائدة. ذلك
المنهج الديكارتي هو الذي سيطر فمما بعد على مجالات الفكر النظري والعملي
الغربي، وأنشأ قواعد الفكر الغربي الحديث.
بين المنهج والقانون:
ومما يجب أن نلفت إليه النظر هو: ضرورة التفريق بين القانون أو النظرية
وبين المنهج، إذ أن الخلط بينهما يؤدي إلى أخطاء كثيرة في البحث والتطبيق
جميعاً.
فالقانون أو النظرية مع اختلافهما في درجة التوثيق هما قالب تفسر فيه
أحداث واقعة، سواء في الماضي أو الحاضر، تحت ظروف محددة خاصة،
وتنطبق أوصافهما وتتحقق نتائجهما كل مرة تتحقق فيها تلك الظروف أو الشروط،
كما في النظريات والقوانين العلمية بشكل عام.
فهي قوالب كلية استنبطت من جزئياتها [1] من جهة، ثم فسرت بها
الجزئيات المستحدثة، بعد ذلك من جهة أخرى.
أما المنهج فهو وإن كان قالباً أو هيكلاً للبحث يقوم على أحداث ووقائع كما
ذكرنا، إلا أنه أسبق في الوجود الذهني وأعلى في الدرجة من الكليات والقوانين؛
إذ على أساس منه وفي حدوده ومن خلاله تستنبط تلك الكليات والقوانين التي تفسر
من خلالها الوقائع وتقدم الحلول والنتائج، أو الأحكام الشرعية والفتاوى في التعبير
الشرعي.
فهو إذن مصدر الكليات والقوانين، لا بأعيانها وذواتها، وإنما بذلك التحديد
الذي تضعه فرضياته ومبادئه لتحكم به مسار الفكر واتجاه البحث الموصل إلى تلك
القوانين والكليات.
ولنضرب مثالاً على ما نقول:
فإن القاعدة الكلية - أو القانون إن شئت - (رفع الضرر) قد استنبطت من
جزئيات عديدة تكررت في مواضع عديدة من الشريعة مؤدية لذلك المعنى.
فقد قال تعالى: [لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا] ، وقال: [ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً
لِّتَعْتَدُوا] ، وقال-صلى الله عليه وسلم -في الحديث: (الجار أولى بالشفعة) أي:
أن الشريك أو الجار أولى بالشراء من الغريب عند رغبة البيع، حتى لا يأتي من
يضر المالك في ملكه أو جواره.
كذلك الرد بالعيب في البيوع، وحكم الحجر على السفيه، وشرع القصاص؛
فإن فيه رفع الضرر عن العباد بكف أذى المعتدين. بذلك جاء في الحديث: «لا
ضرر ولا ضرار» ، وهو مروي في (الموطأ) مرسلاً، كذلك أخرجه الحاكم في
(المستدرك) والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من
حديث ابن عباس، وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن معناه صحيح مقرر في أماكن عديدة
من الشريعة.
كل ما سبق هي جزئيات أدت إلى استنباط قانون عام كلي هو (رفع الضرر) .
والمنهج الذي أدى إلى استنباط تلك القاعدة من جزئياتها ففرضياته المتعلقة بها
عديدة، منها العملية ومنها الشرعية، نذكر منها:
فرضية عقلية: أن الوقائع المتكررة في معنى واحد تؤكد ذلك المعنى وتقرره.
فرضية شرعية:
* أن الأحكام الشرعية إنما قصد بها جلب مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.
* أن مقصود الشرع هو تحقيق (أفضل) الحلول الممكنة حسب الواقع لا
الخيال.
* تساوي الناس في حق تحصيل المنفعة ودفع المضرة.
وماذا بعد؟
في إطار ما قدمنا يحق للقارئ أن يتساءل: إذن ما هي مصادر منهج أهل
السنة والجماعة؟ ، ما هي معالمه ومبادئه؟ وما هي حدوده؟ ثم ما هي قواعده
وتفاصيله؟ أيطابق منهج أهل السنة في النظر والاستدلال منهجهم الحركي أم يغايره
في بعض تفصيلاته؟ إلى آخر تلك التساؤلات التي آن لها أن تجد أُذُناً صاغية
وعقولاً واعية.
ولأن الغرض الأساسي من حديثنا هذا عن المنهج هو إلى شحذ الفكر، وطرح
السؤال أكثر منه إلى إملاء الفروض وتقرير الجواب، فإننا نكتفي بهذا القدر،
وندعو إلى المشاركة في وضع تلك المعالم والتفصيلات. فقد آن لنا ذلك،
والمسلمون بحاجة شديدة إلى مثل هذا العمل، والله الموفق والهادي إلى سواء
السبيل.
__________
(1) ونعني بالجزئيات: الوقائع والأحداث التفصيلية التي تشكل بمجموعها قانوناً عاماً أو كلية كما يعبر عنها في أصول الفقه.(41/42)
انتشار الإسلام
التعليم في أفريقيا
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
انتشرت الصحوة الإسلامية بفضل الله تعالى في أقطار عديدة من الأرض
شرقاً وغرباً، وشمل هذا الانتشار قارة إفريقيا السوداء.. إلا أنَّ حظها من هذه
الصحوة لم يكن كغيرها لظروف فكرية واجتماعية وبيئية تعيشها هذه القارة، لكن
العقد الأخير أظهر انتشاراً سريعاً للوعي الإسلامي فيها؛ مما يبشر بخير كثير -إن
شاء الله-.. وإن من أبرز مجالات الدعوة الإسلامية في تلك القارة: مدارس التعليم
الإسلامي بمراحلها الابتدائية والإعدادية والثانوية.. إذ أن الجمعيات الإسلامية
اهتمت بهذا الجانب أكثر من غيره لأسباب كثيرة، من أهمها: انتشار الجهل
الشديد في تلك القارة، وكانت بداية تلك المدارس رد فعل للمدارس التنصيرية أو
العلمانية، التي تسعى لمسخ الهوية الإسلامية في نفوس الناس. وقد نجحت بعض
المدارس الإسلامية في حماية بعض شباب الأمة من الوقوع في براثن التغريب
والتنصير.
وقد قمت بزيارة لمدارس عديدة في دولتي السنغال وجمهورية غامبيا في
الغرب الإفريقي، ووجدت أن المدارس الإسلامية الجادة قليلة جداً، ومع ذلك فهي
لا تخلو من عيوب كبيرة، ولمست بعض العوائق التي تؤثر سلباً على مسيرة
التعليم في تلك المدارس، ومن أهمها:
أولاً: المناهج الدراسية:
تعتمد المدارس الإسلامية - في أغلب الأحوال - على المناهج المقررة في
الدول العربية، وخاصة مقررات المملكة العربية السعودية.. ومن هنا تبدأ المشكلة، إذ أن تلك المناهج ألفت لتتناسب مع العقلية العربية والخلفية الفكرية الاجتماعية
للطلاب، وصيغت بأسلوب يتلاءم مع أناس يعرفون العربية قراءة وفهماً.. ومن
ثَم فإن نقل هذه الكتب إلى بيئة اجتماعية وفكرية مختلفة تماماً سوف يؤثر حتماً على
مستوى التعليم، خاصة أن بعض تلك الكتب ألفت لمناقشة بعض الأوضاع التي
تناسب المكان المقرر فيه.. ومن الطريف أنني دخلت أحد الفصول الدراسية
للمرحلة الإعدادية ورأيت المدرس يشرح لتلاميذه تضاريس دولة الإمارات
العربية..! ...
وفي فصل آخر: رأيت أحد المدرسين يُعلِّم تلاميذه مسألة التعصيب في علم
المواريث من كتاب مقرر في المعاهد العلمية السعودية.. مع أني أجزم بأن كثيراً
من الطلاب لم يتعلم في تلك المرحلة أساسيات العبادات والمعاملات..!
وأحياناً تجد في المدرسة الواحدة بل في الفصل الواحد منهجاً من وزارة
المعارف السعودية، ومنهجاً آخر من مناهج المعاهد العلمية، وثالثاً من الأزهر،
ورابعاً من الكويت.. وهكذا لينتج خليطاً غير متجانس من المقررات المبعثرة التي
قد لا يربطها رابط.. مع أن بعض المدارس قد تعتمد بعض الكتب المنهجية التي لا
تخلو من انحرافات عقدية بدعية لأنها هي المتوفرة لديهم! ! هذا إذا توفرت النسخ
للطلاب، حيث تعاني معظم المدارس الإسلامية من ندرة الكتب المقررة التي لا
توجد إلا في يد المدرس، ومعه عدد قليل من الطلاب، وأذكر أني رأيت في إحدى
المدارس السنغالية كتاب التفسير في يد أحد المعلمين من مقررات وزارة المعارف
السعودية المطبوعة في عام 1384 هـ!
وهذا التشتت في المناهج المتعلقة بالعلوم الإسلامية واللغة العربية، ولو انتقلنا
إلى العلوم التجريبية والتكنولوجية لوجدنا الكثير من المضحكات والمبكيات، إذ أن
كثيراً من المدارس الإسلامية لا تهتم بتدريس مواد العلوم والرياضيات، وإن درست
فهي تدرس بشكل بدائي لا يكاد يؤثر تأثيراً بيِّنا في المستوى العلمي للطلاب..
ولهذا فالغالب أن المدارس الإسلامية غير معترف بها حكومياً. بمعنى: أن
المتخرج من المدارس الإعدادية الإسلامية لا يستطيع أن يلتحق بالمدارس الحكومية
الثانوية، وعلى ذلك فقس في بقية المراحل. بل إن المتخرج من المدارس
الإسلامية لا يُقبل للعمل في القطاعات الحكومية المختلفة، لأنه لم يدرس اللغة
الرسمية للبلد، ولم يتعلم الثقافة العصرية، فأصبح الأطباء والمهندسون
والإعلاميون والاقتصاديون من غير المسلمين، أو ممن تربى في المدارس العلمانية
أو التنصيرية.
وهذا الأمر أوجد هوَّة واسعة بين تلك المدارس وبين القطاعات الرسمية، مما
جعل المسلمين المتميزين بعيدين تماماً عن قيادة المجتمع من الناحيتين الفكرية
والإدارية. من أجل ذلك أصبحت المدارس الإسلامية في أغلب الأحوال وقفاً على
الفقراء والمساكين الذين لا يملكون قيمة الرسوم في المدارس الحكومية، فيلتحقون
بالمدارس الإسلامية لأن الرسوم منخفضة ميسورة. أو يلتحق بهذه المدارس الطلاب
الذين لم يستطيعوا الاستمرار في المدارس الحكومية لضعف مستواهم العلمي.
وهكذا يدور الطلاب في حلقة مفرغة، يأتي الطالب من الحقل أو المرعى
ليدرس، ثم يتخرج، ليعود مرة أخرى للحقل أو المرعى.. وإن يسر الله له منحة
إلى بلد عربي وأخذ الشهادة الجامعية؛ رجع لمدرسته - إن استطاع - ليدرِّس فيها
جيلاً آخر، أو عاد كغيره للحقل أو السوق، ليعمل في التجارة الخفيفة.
وهذه المشكلة دفعت بعض الجمعيات الإسلامية إلى افتتاح معاهد للتدريب
المهني، لتدريب الشباب على النجارة والحدادة وأعمال الكهرباء.. وهذا أمر جيد
بلا شك، لكنه يبقي المسلمين بعيداً عن معترك القيادة والتوجيه للمجتمع، فلا أظن
أنَّ المقصود فقط هو تأمين لقمة العيش فحسب - وإن كان ذلك مطلوباً - بل
المقصود: قيادة المجتمع وتوجيهه الوجهة الإسلامية المتكاملة.
ثانياً: المدرسون:
تعاني المدارس الإسلامية في إفريقيا من قلة المدرسين الأكفاء تربوياً وعلمياً.. ولابد أن يظهر أثر هذا الضعف على مستوى الطلاب. فبعض المدارس
الإسلامية تعتمد على مدرسين يحملون الشهادة الإعدادية لتدريس الطلاب في
المرحلة الابتدائية، ومدرسين يحملون الشهادة الثانوية للتدريس في المرحلة
الإعدادية.. وهم يفعلون ذلك لقلة المدرسين المتخصصين، ولأن أولئك أقل تكلفة
من الناحية المالية، وعلى أحسن الأحوال فهم يعتمدون على خريجي الجامعات
العربية لتدريس جميع المواد لجميع المراحل. حتى أن بعض المدرسين المتخرجين
من الجامعات الشرعية قد يكلفون بتدريس مادتي الرياضيات والعلوم.
ونتيجة لضعف المستوى العلمي للمدرسين أصبحوا يهتمون بتحفيظ الطلاب
تحفيظاً مجرداً ولا يهتمون بتاتاً بالمحتوى العلمي الشرعي أو التجريبي.. وإذا
قرنت بين مشكلة المناهج الدراسية وعجز المدرسين عن توصيل تلك المناهج على
ما فيها من العيوب.. فلك أن تتصور مدى الضعف العلمي والتردي الفكري الذي
يصيب الطلاب على وجه العموم.
ويتبع ذلك القصور الإداري والتنظيمي في كثير من تلك المدارس، فكثير
منها يفتقد التخطيط والدراسة والتنظيم.
ثالثاً: التميُّز:
التميز في المدارس الإسلامية ظاهر والحمد لله إذا قورنت بنظيراتها من
المدارس الحكومية أو التنصيرية، لكن يظهر هناك قصور في عدة جوانب، أذكر
منها:
1- الاختلاط: الاختلاط في الدول الإفريقية سمة طبيعية لتلك المجتمعات،
بسبب الخلفية الاجتماعية والظروف الاستعمارية والتغريبية التي مرت عليها.
والعجيب أن معظم المدارس الإسلامية - إن لم تكن كلها - لم تسلم من ذلك الداء،
ولا أعني المدارس الصوفية أو غيرها.. بل أعني: المدارس ذات الاتجاهات
الفكرية الجيدة.. صحيح أن بعض المدارس تلزم الطالبات بما يسمى بالحجاب
الإسلامي.. وصحيح أن الطالبات يوضعن في طرف والطلاب في طرف آخر. إلا
أن الاختلاط متحققٌ قطعاً.. وتكمن الخطورة في المرحلة الإعدادية والثانوية.
وقد لمست من حيث الجملة: قلة اهتمام من الطالبات بالحجاب، وضعف
متابعة من المدرسين لهذه القضية. وقد يحتج القائمين على تلك بحجج منها:
أ- أنهم لا يستطيعون بناء مدارس مستقلة للنساء لضيق ذات اليد.
ب - حتى لو تم بناء مدارس خاصة للنساء، فيصعب عليهم توفير معلمات
قديرات، ولهذا قد يضطرون إلى الاستعانة بالرجال.. وهذه أشد.
والقائمون على تلك المدارس يعلمون جيداً أنهم قادرون على تجاوز هذه
العقبات لو كانوا جادين في طرح المشكلة والاهتمام بها.
2- تعتمد المدارس الإسلامية على النظام الحكومي في بداية وانتهاء العلم
الرسمي.. وبسبب الخلفية الاستعمارية اعتمدت الدولة يومي السبت والأحد عطلة
رسمية، وتبعتها على ذلك المدارس الإسلامية في السنغال، مع أنها غير ملزمة
إدارياً بذلك.. ولا أظن أن هذه المسألة هينة فيما قد يبدو، حيث إن في ذلك تذويباً
لقضية الولاء والبراء، وتهاوناً في مخالفة النصارى.
ومع تلك الملاحظات إلا أن المدارس الإسلامية تقدم جهداً مباركاً في توعية
الناس وتعليمهم أمور دينهم، وتحميهم من حبائل المنصرين وشراكهم. ولتجاوز
تلك العقبات؛ أطرح هذه التوصيات:
أولاً: إعداد مناهج جديدة للعلوم الشرعية وتعليم اللغة العربية، تتناسب مع
خلفيات بلادهم الفكرية والاجتماعية، لنعالج المشكلات الإسلامية والحياتية التي
يعاني منها أهل تلك المنطقة، وتحتاج هذه المناهج إلى دراسات واعية ومتعددة
تخضع لتجارب ميدانية متزنة، وبذلك نضمن نشر اللغة العربية وتعميق الوعي
الشرعي بين الطلاب، بالإضافة إلى تحصينهم من شبهات النصارى والقاديانيين.
وأقترح أن تكون هذه المناهج من المراحل الأولى، ثم ينتقل بالطلاب تدريجياً
من مرحلة إلى أخرى، مع التقويم المستمر لكل مرحلة تربوياً وعلمياً ولغوياً.
ثانياً: اعتماد المناهج الحكومية الأخرى في الرياضيات والعلوم وغيرها،
وتدرس باللغة الرسمية للبلد، وبذلك نضمن التواصل بين المدارس الإسلامية
والمجتمع من حولهم، وبهذا نيسر للطلاب المسلمين المتميزين الدخول في الجامعات
التكنولوجية، ليكون لهم دور في الطب والهندسة، وغيرها من المجالات التي توجه
البلد وتدير دفته.
ثالثاً: محاولة تشجيع وتبني الطلاب المسلمين المتميزين الذين تيسر لهم
الدخول في جامعة داكار لدراسة العلوم التجريبية الحديثة، وتثقيفهم بالثقافة
الإسلامية اللازمة، وتعليمهم اللغة العربية قراءة وكتابة.
رابعاً: إعداد دورات مستمرة لتدريب المعلمين وتثقيفهم في شتى مجالات
المعرفة العلمية والتربوية القادرة على الإنتاج البنَّاء في هذا المجال.
ويتبع ذلك إعداد دورات مستمرة للإداريين لنضمن حسن الإدارة والتنسيق
والتنظيم.(41/47)
عقيدة
من لهذه الوثنية المتعددة؟
الشيخ/ إسماعيل بن سعد بن عتيق
(من المعلوم من الدين بالضرورة: أن تحقيق كلمة التوحيد لا يتم بمجرد ... الإيمان بالله.. بل لابد مع ذلك من الكفر بالطواغيت والتبرؤ منها.. ...
وهذا المقال يعالج جانباً مما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم، مما يناقض هذه البديهية.. و (البيان) وهي تفسح المجال للكشف عن هذا الجانب انطلاقاً من منهجها لتتطلع إلى علماء هذه الأمة، ومن نفس المنطلق أن يكشفوا زيف الطواغيت الأخرى التي غرق الناس في عبادتها.. كمن يشرع ويحكم بخلاف حكم الله ويطيعه الناس في ذلك.. وكمن يحلل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، وكالأهواء والأفكار التي سادت أذهان الناس واتخذوها موجهاً ودليلاً لتصوراتهم في الكون والحياة والإنسان.. والحسن والقبيح، والحلال والحرام.. وغير ذلك من أمثال هذه القضايا الخطيرة التي تهز العقيدة من أساسها) .
- البيان -
كتب الله لي أن أزور كثيراً من عواصم العالم الإسلامي، ورأيت في كل
صقع من أصقاعه من يتهافت على تلك الأوثان حباً وتعظيماً وخشيةً وإنابة وتضرعاً
وافتقاراً، ولا حرج في التمثيل وذكر بعض أمثلة لتلك الدول التي تبنت الإسلام
شعاراً لا عقيدة، ومع الأسف فهي محسوبة على الإسلام! ! والله المستعان.
وأترك أسماء المدن لفطنة القارئ ليستنتج مواقع هذه الأوثان ومواطنها.
1- قبر مزعوم للحسين، يحج له الناس ويتقربون إليه بالنذر والقربات،
وتجاوز ذلك إلى الطواف به والاستشفاء، وطلب قضاء الحاجات عند الملمات.
2- السيد البدوي، له مواسم في السنة أشبه بالحج الأكبر، يقصده الناس من
خارج البلاد وداخلها، وسُنة وشيعة، وهذان نموذجان في دولة واحدة من أقدم
الدول العربية والإسلامية في التعليم النظامي، وفيها أكبر مؤسسة تعليمية نظامية
منذ القرن الثالث الهجري، والتي كان لدعاتها وعلمائها الأثر الطيب في نشر
الإسلام والدعوة إليه، ولكن كما قيل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... الماء فوق ظهورها محمول
3- جلال الدين الرومي الذي كتب على قبره ومزاره: صالح للأديان الثلاثة، المسلمين واليهود والنصارى، ويدعى هذا الوثن بالقطب الأعظم، وفعلاً كان
قطباً تدور عليه أفلاك أرباب المصالح الدنيوية طلاب الشرف باسم الدين المزور،
وقد لقي كل تشجيع وتقديس من الأيدي الخفية لإبقاء شعلة الوثنية وقَّادة في العالم
الإسلامي، فقبر جلال الدين الرومي في دولة ضمت الإسلام ثمانية قرون على أيدي
السلاطين المسلمين، ليسوا بالعرب ولا العرب منهم، ولكنهم المسلمون الذين تنبأت
الرسالة المحمدية بظهورهم، فكان في ظهورهم دلالة من دلائل النبوة، وغير جلال
الدين الرومي كثير وكثير في هذه الدولة التي أضحت دولة علمانية تحارب كل ما
هو إسلامي، حتى أصبح الإسلام غريباً في بحور المادة.
4- محيي الدين بن عربي صاحب (فصوص الحكم) ، والمعتقد بوحدة
الوجود والحلول والاتحاد، وزعيم الفلاسفة القائلين بهذه البدعة المكفرة، أقول: إن
مزاره وثن يعبد ويقدس في عاصمة دولة كانت عاصمة الخلافة الأموية، ولا يزال
في أهلها الخير -إن شاء الله-، غير أن الفتنة بهذا الوثن تزداد يوماً بعد يوم،
وقفت على باب القبة لأرى وأعتبر، وكنت أحمل حذاءً في يدي؛ فأنكروا عليَّ
بالإجماع: كيف تقرب من المقام وفي يدك حذاؤك، احتراماً وتقديساً للولي؟ ! إنها لعبرة وعظة لأهل التوحيد والإيمان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
5- (داتا) صاحب (مقبرة علي هجويري) في المشرق الإسلامي، ينتابها
الزوار في كل صباح ومساء، ومن عجيب ما شاهدتُه: أن له يوماً في العام تراق
عليه الألبان حتى لا نجد في الأسواق لبناً يباع ويُشترى، وله يوم في العام يغسل
بماء الورد والطيب أسوة بالكعبة المشرفة، يتشرف بتغسيله الساسة والقادة في البلاد، وليتك ترى ما يصنع حول هذه المقبرة من منكرات أخلاقية، فضلاً عن العقيدية،
وحولها الرقص والدف والاختلاط، والتبرك بسدنة هذه المقبرة، يُفعل ما لا يجوز
ذكره، وفي هذه الدولة حزب سياسي يزعم أنه إسلامي قد فتح باب الخرافة والبدع
على مصراعيه، ويحكى: أن وزير أوقاف هذه الدولة شكى لرئيس الدولة عجز
الميزانية في وزارته؛ فاتفق الرأي على إيجاد باب الجنة يتفتح دخوله الأعيان
والرؤساء، ثم تباع التذاكر للسواد الأعظم من جهلة المسلمين على أن من دخل هذا
الباب فقد دخل الجنة، وبهذا زال العجز المالي بفضل هذه التذاكر وصكوك الغفران!
ولعل القارئ يتساءل كيف يحصل هذا في دولة نالت استقلالها لتقيم حكم الشريعة في دولة إسلامية مثالية في المشرق الإسلامي؟ كيف يحصل هذا في دولة
ضحت بالكثير في سبيل الاستقلال ومحاولة تطبيق الشريعة الإسلامية؟ ولا أكون
مبالغاً إذا قلتُ: إن نسبة أهل البدع والخرافة تزيد على (80%) ما بين متصوف
وقبوري وأصحاب نحل تنتمي إلى الإسلام كالقاديانية والبهائية والإسماعيلية الباطنية، أمَّا وثنية القبور فكثيرة، ومنها مدينة تعرف بمدينة القبور والتمور والفقر
والإفلاس، أعاذنا الله وإياكم من خسارة الدين والدنيا، ولا أريد أن أستطرد، فهذا
مثال للعبرة والفطنة لنقول: من لهذه الأوثان المتعددة؟ ثم انتقل بك إلى قطاع آخر
في عالمنا الإسلامي.
6- مقبرة أحمد التيجاني، زعيم طائفته، ورائد التضليل، الذي شرع للناس
بمشورة الفرنسيين الطريقة المنسوبة إليه، والقائل: إن جوهرة الكمال أفضل من
القرآن الكريم سبعمائة مرة، وكذا صلاة الفاتح، وهما وردان ترددهما الطائفة
التيجانية صباحاً مساءً، ويكتفون بقرائتهما وتلاوتهما عن القرآن الكريم. مقبرة
زعيمهم أحمد التيجاني وثنٌ يُعبد من دون الله، ويحج له الناس تعبداً لنيل البركات.
7- مقبرة عثمان فيدو الذي صمم على قبره بناية أشبه بالكعبة وكسيت
بالحرير الأسود، وحينما سئل أحد أحفاد هذا المصلح؛ قال: وضعت هذا أسوة
بقبر أحمد التيجاني، ومع أن الإمام عثمان فيدو كان ممن أقام به الله الدين، وتبنى
دعوة الإصلاح أشبه بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أن طريقته قادرية،
ثم تحول أتباعه إلى الطريقة التيجانية..
وبعد؛ فهذه سبعة نماذج من المشرق الإسلامي ومغربه وأوسطه، تعطي أمثلة
من اتجاه العالم الإسلامي وعقيدة الإسلام الصحيحة، ولا ننكر أن هناك منظمات
وجمعيات وأحزاباً، كلها تدعو إلى الإسلام، ولكن أي إسلام هو؟ اتجهت طائفة
إلى محاولة إيجاد الدولة الإسلامية لتنفيذ التشريع والأحكام، وكانت أخرى تتبنى
السلوكيات والتعبد من غير دخول في السياسة ولا شعابها الملتوية، وهاتان
الطائفتان فشلتا في تطبيق شمولية الإسلام والإيمان بقاعدته -التوحيد -، والعالم
ينتظر منطلقَ الدعوة المحمدية المبنية على توحيد الله وطاعته واتباع رسوله -
صلى الله عليه وسلم - في كل دق وجل. والدولةَ الإسلامية المنفذة لأحكام الله
وشرعه على أساس من التوحيد والتصديق والتجرد من كل شائبة بدعة أو شرك.
أقول مرة أخرى: من لهذه الوثنية المتعددة؟ ونرجو أن يكون هذا المقال
فاتحة خير ونافذة أمل في العمل على إبطال الوثنية في العالم كله، والله من وراء
القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(41/53)
كتب
مدخل إلى وحدة العمل الإسلامي
تأليف: جمال سلطان
عرض وتلخيص: د. حسن حسن إبراهيم
اختلاف الفكر حقيقة ثابتة.. فكما أنه لكل إنسان بصمة أصبع، كذلك لكل
إنسان أيضاً بصمة فكرية، من صفاتها: أنها (متحولة) . فقد تعرض على الكافر
كافة البراهين التي تدفعه للإيمان، إلا أنه يحجم، ثم يأتي لحظة تقلب موقفه الفكري
رأساً على عقب، فيقرر الإيمان.
فقه الخلاف في الجيل الراشد:
في هذا الجيل تم توظيف ظاهرة الاختلاف توظيفاً بناءاً لم يحدث في أي جيل
آخر. وكان ذلك ثمرة تربية الرسول-صلى الله عليه وسلم- لصحابته ونتيجة
لتمسكهم بهديه. فعندما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال
لهما: «تطاوعا ولا تختلفا» [1] ، أي: لا يصر كل منكما على رأيه واجتهاده؛
ويصعد الخلاف حوله، وإنما يتساهل فيه ليقدم وحدة العمل على اختلاف
الاجتهادات والآراء.
وجاء في بيعة الصحابة للرسول -صلى الله عليه وسلم-: «وعلى ألا ننازع
الأمر أهله، إلا أن نرى كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان» [2] ، فهذا النص يبين
مبلغ حرصه -صلى الله عليه وسلم- على وحدة الأمة، حتى أنه لم يعد ينقضها إلا
نقض الإسلام ذاته.
وعندما خرج النبي-صلى الله عليه وسلم -على بعض أصحابه وقد تماروا في
آية من القرآن حتى ارتفعت أصواتهم؛ فأخذ يرميهم بالتراب وقد احمر وجهه-صلى
الله عليه وسلم-، ويقول: «مهلاً يا قوم؛ بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على
أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً،
بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى
عالمه» [3] ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض لقضية: (الصواب والخطأ في اختلافهم) ، وإنما عرض لحسم مادة الشقاق برفع كل الخلاف والانشغال عنه بغيره.
والخلاف في الإسلام نوعان:
- الخلاف التخصيبي: هو ذلك الاجتهاد الجاد الذي يبحث ويتفحص لكي
يخرج برأي يزيد الآخرين تبصراً بأبعاد الموقف، ويزيدهم فهماً للقضية محل
النظر، دون إملاء هذا الرأي على الآخرين كحل نهائي لا يجوز خلافه، وهذا
خلاف محمود.
- الخلاف التفريقي: وهو ذلك الخلاف في الرأي الاجتهادي، الذي يتعدى الموقف الفكري ليتشخص في موقف عملي يلزم الآخرين باتباعه، ويؤسس على ذلك سلوكاً يشكل خطراً على وحدة الأمة المسلمة. وهذا خلاف مذموم.
الخلاف في واقعنا الإسلامي المعاصر:
هو خلاف تفريقي مذموم، متجه إلى شق الصفوف وتفريقها، وأسبابه هي:
1- ضعف المحصلة العلمية: وهذا يؤدي إلى تعظيم الصغائر، وتصغير
العظائم، كمن تنازعوا قديماً في دم البعوضة واستباحوا دم أصحاب رسول الله-
صلى الله عليه وسلم-، وكهؤلاء الذين عندهم استعداد لتدمير الحركة كلها من أجل
خلاف فقهي بسيط.
2- عدم فهم مقاصد الشريعة: فيؤدي ذلك إلى عدم فقه ترتيب الفروض وهو
فقه غزير لا سيما الآن، حيث يصعب أن تقيم فريضة إلا على حساب أخرى، وأن
تحقق مقصداً شرعياً إلا بتفويت آخر.
3- الهوى والاستبداد: ويتمثل ذلك في تقديم الولاء للحركة على الولاء
للإسلام، مما يؤدي إلى إقامة حاجز بين أفراد هذه الحركة وبين غيرهم من
المسلمين.
4- عقم العقل المبدع: الذي يبحث عن الأفكار الجديدة ويولد القضايا العملية
الجادة التي تشغل العقل بدلاً من أن ينشغل بالجدل وبما لا يجدي من قضايا، كما
هو حادث الآن، فيؤدي هذا إلى انشطار الصف.
5- غياب المشروع الحركي المتكامل: أو ما يطلق عليه (استراتيجية
الحركة) ، فالكثير من الفصائل الإسلامية يتحرك بعشوائية وحسب الظروف، فتكون عرضة للاختراق والتدمير من الداخل والتورط والانزلاق والغرق أحياناً.
6- أوهام الورع التي تصل بالبعض إلى حد الوسوسة؛ فيصير بذرة للفتنة،
خاصة عندما يبدأ في إعلان انتقاداته للسلوكيات المخالفة للمستحب، فيرسِّب ذلك
حزازات في النفوس تنبه روح التمرد.
7- العجز عن إدراك طبيعة حركة الفكر وقوانينها: ومن أهم هذه القوانين قانون: الحرية، فلا فكر بلا حرية، والمفكر اليوم عليه مراجعة نفسه ألف مرة قبل إطلاق فكرته، لأنه سوف يهتم بالتبديع والتجهيل والتضليل ثم الاتهام بالعمالة. وقانون آخر يهمل وهو قانون: تراكم الخبرة المعرفية وتلاقح الأفكار، فالفكرة الآن ترفض دون أن تنقد أو تهذب أو يضاف إليها.
العلاج:
لن يكون إلا بطريقة تربوية شاملة تراعي التوجيه الفني الذي يلفت ولا يصدم، وينصح ولا يحرج، ومن ذلك:
1- تربية العاملين على التجرد لقضايا الإسلام العامة، وأن حفظ الإسلام
أقدس من حفظ الحركة.
2 - توظيف الطاقات في ضبط الرؤية الفكرية وفي ضبط منهج العمل.
3- إحياء وممارسة أدب الاختلاف في الإسلام، فالسلفية ليست مجرد ثراء
فقهي، ولكنها في المقام الأول تأسٍ تربوي وأخلاقي وسلوكي بما كان عليه سلفنا
الصالح. ونحن في حاجة أولاً إلى (فقه الخلاف) ، بتحليل ظواهره والكشف عن ...
أسبابه، ثم نفهم التناول الشرعي له، وبعد ذلك يأتي (أدب الاختلاف) .
4- ترسيخ قاعدة الشورى في العمل الإسلامي، حتى يدرك كل مسلم رأيه
محترم وله دوره وفعاليته، وأحيانا قد يحسم المسألة.
5- إحياء وتوسيع أبحاث (فقه السيرة) ، خاصة فقه السيرة في الخلاف
وكيف عالجته السيرة.
6- تعميق الفهم في أبعاد ظاهرة الخلاف وكيفية التعامل مع كل بعد.
7- تربية الأفراد على ضبط قواعد الحوار واحترامها، وفي مقدمة هذه
القواعد: السماع الجيد للرأي الآخر، وتجريد عرض الفكرة بعيداً عن المزايدات،
وتحديد نقطة الخلاف بدقة.
8- الاهتمام بالنقد الإيجابي البنَّاء، الذي يعطي البديل لما يُرفض لا الذي
يقف عند حد الرفض المجرد.
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد.(41/57)
تحزيب القرآن
وهدي السلف في ذلك
محمد عبد الله الدويش
إن القلوب تصدأ وتقسو، والنفس تضعف، وتهبط بها دواعي الشهوات
وهواتف الدنيا، والإنسان يعيش في هذه الدار في معركة مع النفس والهوى
والشيطان. ولئن كان المقاتل يحتاج للسلاح المعنوي والمادي؛ فالذي يخوض في
معركة المصير أولى بأن يعتني بإصلاح نفسه.
والذي يحمل لواء الدعوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها، وصلتها بالله-عز وجل-، وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة.
وما تقرب إلى الله بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده؛
فحريٌّ بنا أن نضرب من ذلك بسهم وافر، ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم: أن
شرع لهم ما يتعبدون به إليه سبحانه.
ولما كان تحزيب القرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة -عند كثير من
طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس. في حين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند
السلف، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا.
لذا رأيت أن أجمع بعض ما ورد في ذلك لعل الله -عز وجل- ينفع به.
تمهيد: قال ابن فارس (2/55) :
(الحاء والزاي والباء أصل واحد وهو: تجمع الشيء، فمن ذلك الحزب
وهو الجماعة من الناس، قال تعالى [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] . والطائفة من
كل شيء حزب. يقال: قرأ حزبه من القرآن)
وقال في (النهاية) (1/376) : (الحزب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرد، والحزب النوبة في ورد الماء. ومنه حديث أوس ابن حذيفة: (سألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن) .
ومعنى ذلك: أن يجعل الإنسان لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه،
بحيث يختم القرآن في كل شهر، أو عشرين، أو خمسة عشر، أو عشر، أو سبع، أو غير ذلك.
1- وقد ورد في السنة النبوية استعمال ذلك المصطلح في قوله-صلى الله
عليه وسلم-: «من نام عن حزبه» ، وقوله: «إنه طرأ على حزبي من القرآن» .
وقد بوب غير واحد من الأئمة بتحزيب القرآن. وقال عقبة بن عامر: (ما
تركت حزب سورة من القرآن) . وقال نافع: (لا تقل: ما أحزبه) . وسوف يأتي
تخريج هذه النصوص إن شاء الله- عز وجل-.
2- واستعمل عند السلف بلفظ الجزء، فقد ورد في كلامه-صلى الله عليه
وسلم-: «قرأت جزءاً من القرآن» . وقال عبد الله بن عمرو: (هذا جزئي الذي ...
أقرأ به الليلة) . وعن عائشة: (إني لأقرأ جزئي) . وعن ابن عباس وابن عمر:
(أنهما كانا يقرآن أجزاءهما بعدما يخرجان من الخلاء) .
3- واستعمل بلفظ الوِرد، فعن ابن عمر قال: (كنت في قضاء وِردي) ،
وعن الحسن: (أنه كان يقرأ ورده من أوَّل الليل) .
المسألة الأولى: بعض فضائل تلاوة القرآن:
إن النصوص الدالة على فضل القرآن أشهر من أن تورد، إنما نورد هنا
بعض فضائل تلاوته؛ قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ
وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
ويَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ] ، وقال -عز وجل-: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ
الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ *ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] .
أما من السنة: فالأدلة على فضله كثيرة، ومن فضائله:
1- أن الماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يتتعتع فيه له أجران؛ كما
في حديث عائشة عند الشيخين والترمذي وأبي داود.
2- أنه يقال له يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا) ؛
كما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا النسائي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً.
3- أن له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها كما أخرجه الترمذي
والدارمي من حديث ابن مسعود.
4- أن الآية منه خير من الخلفة السمينة، كما أخرجه مسلم من حديث أبي
هريرة.
5- أن مثل المؤمن الذي يقرؤه مثل الأترجة، كما رواه الستة إلا ابن ماجه
عن أبي موسى الأشعري.
6- أنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، كما رواه مسلم عن أبي أمامة.
7- تنزل السكينة لقراءته، كما رواه الشيخان من حديث البراء.
8- أنه يقود قارئه يوم القيامة لتاج الكرامة ورضا الله-عز وجل-، كما
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.
المسألة الثانية: مشروعية تحزيب القرآن:
1- حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث طويل مشهور، رواه جمعٌ من
الأئمة بينهم الأئمة الستة. ولفظه عند مسلم: (كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل
ليلة؟) ، قال: فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإما أرسل لي،
فأتيته، فقال: (ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟) فقلت: بلى يا
نبي الله؛ ولم أرد إلا الخير، قال: (فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ثم قال: (واقرأ القرآن في كل شهر) ، قال: قلت: يا نبي الله: إني أطيق
أفضل من ذلك، قال: (فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ... ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً) ، قال: فشددت؛ فشدد علي، قال:
وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-: (لعلك يطول بك العمر) ، فصرتُ إلى
الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة
النبي-صلى الله عليه وسلم-.
2- حديث: «من نام عن حزبه» وقد أخرجه مسلم (747) ، وأبو داود
(1313) ، والنسائي (1790) ، والترمذي (581) ، وابن ماجه (1343) ، ومالك
في (الموطأ) (1/ 200) ، وأبو عبيد في (فضائل القرآن) (285) ، وعبد الرزاق
في (مصنفه) (4747) ، وابن حبان في (صحيحه) كما في الإحسان (2634) .
ولفظه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه؛ فقرأه فيما بين صلاة الفجر
وصلاة الظهر: \كتب له كأنما قرأه من الليل) .
3- ما رواه أبو داود (1396) والمرزوي في (قيام الليل) كما في
(المختصر) (157) عن ابن الهاد قال: (سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي:
في كم تقرأ القرآن؟ ، فقلت: ما أحزبه، قال لي نافع: لا تقل (ما أحزبه) ؛ فإن
رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: (قرأت جزءاً من القرآن) ، وصححه
الألباني في (صحيح أبي داود) .
4- حديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه: (قدمنا على رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- في وفد ثقيف، فنزَّلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول
الله-صلى الله عليه وسلم- بني مالك في قبة له، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء؛
فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يُراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه
من قريش، ويقول: (ولا سواء، كنا مستضعفين مستذلين، فلما خرجنا إلى المدينة
كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، ندالّ عليهم ويدالُّون علينا) ، فلما كان - ذات ليلة
أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله: لقد أبطأت علينا الليلة؟ قال: (إنه طرأ علي حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه) ، قال
أوس: فسألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن؟
قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب
المفصل) .
والحديث قال فيه أحمد شاكر فيما نقله في (تهذيب السنن) (2/113) عن ابن ...
عبد البر: أن ابن معين قال: (حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تحزيب
القرآن ليس بالقائم) . وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث، كما في (ضعيف ابن
ماجه) (283) . لكن حسنه الحافظ العراقي في (تخريج الإحياء) (1/276)
والحافظ ابن حجر كما في (الفتوحات) لابن علان (3/229) . وأورده الحافظ ابن ...
كثير في (تفسيره) محتجاً به على أن المفصل يبتدئ من سورة (ق) . واحتج به
شيخ الإسلام ابن تيميه في حديثه عن التحزيب بالسور والأجزاء كما سيأتي.
وتد تواتر ذلك عن السلف -رضوان الله عليهم -؛ فعندما تقرأ في ترجمة
أحدهم تجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا، وسيأتي بعض هذه الآثار.
المسألة الثالثة: هدي السلف في تحزيب القرآن:
أولاً: ذكر من روي عنه الختم في سبع:
أخرج أبو عبيد في (فضائل القرآن) (291) بإسناده عن عائشة - رضي الله
عنها - قالت: (إني لأقرأ جزئي - أو قالت: سبعي - وأنا جالسة على فراشي أو
على سريري) .
وأخرج الطبراني كما في (المجمع) (2/269) وقال: رجاله ثقات، عن
الأحوص قال: قال عبد الله. (لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، اقرأوه في سبع،
ويحافظ الرجل على حزبه) . وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (502/2) دون قوله:
(وليحافظ) ..
وأخرج أبو عبيد في (فضائل القرآن) (263) ، والبيهقي في (السنن) (2/
296) عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: (أنه كان يختم في غير رمضان من
الجمعة إلى الجمعة) .
وقال الحافظ: أخرج ابن أبي داود: عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري:
(أنهم كانوا يختمون في سبع) بأسانيد صحيحة.
وأخرج أبو عبيد (266) عن إبراهيم: (أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع) ،
وكذا رواه ابن أبي شيبة (2/501) .
وأخرج ابن أبي شيبة (2/501) ، والفريابي (138) : عن هشام بن عروة
قال: (كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع) .
وأخرج أيضاً (2/501) عن أبي مجلز: (أنه كان يؤم الحي في رمضان،
وكان يختم في سبع) .
وأخرج ابن أبي شيبة بإسناده (2/501) : عن إبراهيم قال: (كان عبد
الرحمن بن يزيد يقرأ القرآن في كل سبع، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في
خمس والآخر في ست، وكان إبراهيم يقرأه في سبع) .
وقال ابن قدامة في (المغني) (2/611) : (قال عبد الله بن أحمد كان أبي
يختم القرآن في النهار في كل سبعة، يقرأ كل يوم سبعاً، لا يكاد يتركه نظراً،
وقال حنبل: كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة) . وقال إسحاق بن
هانىء في (مسائله) (506) : (وسئل: في كم يقرأ القرآن؟ قال: أقل ما يقرأ في
سبع) .
ثانياً: ذكر من روي عنه الختم من الثلاث إلى السبع:
سبق عن علقمة والأسود: (أنهما يقرآن في خمس وست) .
قال ابن علان (3/230) : (قال الحافظ: أخرج ابن أبي داود من طريق
مغيث بن سمي قال: كان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربع. ومن طريق بلال
ابن يحيى: لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة، فإذا أصبحت قال بعضهم:
لقد خففتَ بنا الليلة) .
ثالثاً: ذكر من روي عنه الختم في أقل من ثلاث:
وذكر ابن علان (231/2) : عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسود بن يزيد: (أنه كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين) وقال: سنده صحيح، وأخرج
الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير: (أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين) قال: وأخرجه ابن أبي داود، قال: وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك. ومن طريق واصل بن سليمان قال: (صحبت عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين) .
*يتبع*(41/61)
قصة
إمارة أبي صالح
د. مصطفى السيد
[قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْماً *
آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ومَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا
رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإذَا جَاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وكَانَ وعْدُ رَبِّي حَقاً] .
أطبق أبو صالح المصحف على كره، فهو لا يتذكر منذ أمد بعيد أنّه لم
يستكمل تلاوة سورة الكهف يوم الجمعة.
- ما بال هؤلاء الزوار الدائمين قد استعجلوا الحضور إليَّ؟
ربها أكون أنا الذي أخَّرت موعد التلاوة، أياً كان المسؤول، ليس مهماً،
المهم والمطلوب: أن أقوِّم هذا اللقاء نفسه والذي بات شبه يومي، هل يعقل أن
يستمر على نفس الوتيرة، وعواصف التغيير أشبه بإعصار يضرب كل شيء
بعنف حولنا محاولاً استئصالنا من الجذور؟
- وعليكم السلام ورحمة الله. ادخلوا، يسترجع آية الكهف في سره، ثم
يجهر بـ: [وكَانَ وعْدُ رَبِّي حَقاً] .
- أبو صالح اليوم على غير مألوفه، إنه يغرق وجهه في بحر لجي من
الصمت، لكأنما طرقات الباب قد أصابت منه لوحة التفكير بعطب شديد.
- لم أع ما قلت يا دكتور خالد، ماذا تقول؟ لم أكن معكم، إن أحدنا يوشك
أن يتهم سمعه وعقله بعد هذه الحرب الضروس في منطقة الخليج، إن ما يجري في
المنطقة يجعلنا مشدوهين، مأخوذين، عاجزين عن التفسير.
- سيأتي يوم تستطيع فيه معرفة الأمور على حقيقتها..
- عجباً لك يا دكتور خالد، كثيراً ما كنا في هذا المجلس نذُمُّ انصرافك إلى
قراءات نعتقد خطرها عليك، أو على الأقل عدم فائدتها لك. ولكن الآن نتهم
مقروءنا، لأنه لم يسعفنا في النوائب، ونجد في مقروئك تأويل غربتنا وتعبير
عزلتنا.
- أما وقد اعترفتم بأن ثقافة مجلسكم تعاني خللاً بنيوياً ومفصلياً، أو
باصطلاحكم: ليست (جامعة مانعة) ، وأصبحتم بالتالي تتقبلون رأيي، وهذه إحدى
فوائد حرب الخليج، فاعلموا - هداكم الله -: أننا لن نحصل على كل شيء
بالقراءة وحدها..
- إن أبا صالح لم يؤخذ فقط بما سمع من الدكتور خالد، بل هو فيما يبدو قد
ذهل عن نفسه وعن عاداته، فلأول مرة منذ خمس عشرة سَنة يقدم الشاي مُرَّاً قبل
القهوة المُحلاَّة.
- إنك يا محمد تقيس حياتك ارتفاعاً وعمقاً بالشاي والقهوة، بل لا ترى لك
وجوداً خارجهما أو في غيابهما.
- لقد رأيت ثقافة الشاي والقهوة، واسمحوا لي أن أضيف إليهما علم الذبائح،
وطبقات فارِهِ السيارات، وشاهق العمارات، وجدت مثل هذه الثقافات تضمن لأهلها
حياة مأمونة وعيشة راضية. ومن وجهة نظركم تُعدُّ سجناً، لا بأس، ولكنها سجن
مريح، يجعلك في الفعل والحضور والحجر سواء، (وحسبك من غنيٍّ شبع وريّ) ، إن هذا المذهب لم يكن شأني وديدني فحسب، بل هو أمر معروف عند كثير من
الناس الذين يرون فوائد هذا المذهب.
- فوائد؟ ! لا حول ولا قوة إلا بالله، أول مرة في حياتي أسمع إنساناً يُفلسف
عبوديته، ويفتخر بتحرره من مسؤوليته ورجولته.
- هوِّن عليك يا أبا صالح، فأنا مسجون قبل أن أولد، (وسجيني في دمي،
كيف الفرار؟)
آلة الفكر تعطلت تماماً، كأن تيار التشغيل لم يتصل بدورة الحياة، وكان
جدي بين أفراد القبيلة كلها أحد أوثق الرواة وأوعاهم وأجمعهم لتجربة القبيلة، كان
ديوانها مكتوباً على جبينه، مخطوطاً في سلوكه، ولم يكد يمر يوم في حياتنا، دون
أن يقرأ علينا شيئاً من فلسفة هذا المذهب؛ تنشئةً لنا على مناقبه وتأسياً لجيلنا على
فضائله.
وكان مما حفظتُ من الوالد فيما وعاه من فم الجد:
[إن الحياة لا تستحق من مغامرة كبيرة، ولا تستدعي أن يتجاوز حضورنا
فضيلة الصمت أو تشغيل العقول، فنحن كفينا بعقول من سبقونا، ولم لا يعلن عن
جراج لبيع العقول أو تأجيرها تحت عنوان: (عقول مفروشة للإيجار، مؤسسة
تتَّجِرُ بثقافة الاحتضار ومعلبات الأفكار) .
لِم يُستنكر هذا العرض؟ ، ما دامت الجهات الأربع قد قُنْبِلَتْ بدساتير
الممنوعات (لم يعد الأصل الإباحة) ، ولُغِّمت بنظم المحرَّمات، وأصبحت الخرائط
بلا عالم (والناس في المدن الكبرى عدد) ، إننا بأمسّ الحاجة إلى لغة شديدة
الاختصار، لأن لغتنا باتت فضفاضة مترهلة، أوسع من أمنياتنا، وأوفر من
حاجاتنا، انظروا إلى جبال الكتب وجيوش الكُتَّاب التي تسد الأفق أو تكاد، وتوشك
الحيلولة بين نور الشمس والعباد، انظروا إليها وقد غدت معارض للغة الخاوية،
وكان والدي كجدي من أولئك الرجال القادمين من المستقبل إلى الماضي، يعتقد أن
مسيرة الحياة قد انتهت، وكل إبداع آت ليس إلا ابتداعاً، إنه بحفاري القبور أشبه،
وأفكاره أقرب إلى أن تكون أكفاناً نواري فيها عزائم التجديد بعد وأدها.
- لم لا تخرج أفكار الوالد هذه بحاشية جديدة يحشَّى بها كتابه.
- أرجوك يا دكتور خالد لا تقاطعني، دعني أكمل، ولعلك تقوم بهذه المهمة
ما دمت قد وقفت على أصول المخطوطة، وكان الولد -رحمه الله- يرى أن فلسفة
التاريخ تتمثل بحركة دائرية تنتهي من حيث ابتدأت، فهو يدور حول نفسه، أو
حول عقولنا، وفي كل دورة تاريخية تتوسع أمداء السجن وفضاؤه، وتعلو جدرانه
علواً يُلْغِبُ المتسوِّرين، كان يرفض تناسخ الأرواح ولكن يعتقد بتناسخ الأفكار.
كانت لغته مسكونة بالماضي، مصادرة في أبهائه وأطلاله، يتغنى:
لهفي على الزمن القصير ... بين الخورنق والسدير
جادك الغيث إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل بالأندلس
الفعل الماضي المسند إلى واو الجماعة يشكل معجمه اللغوي، كانوا عاشوا
الإشارات المتلهفة، أولئك كان يتقن استحضار الماضي دون أن يستشعر أي دور
مستقبلي، كيما يكون نقطة توصيل أو جسر تواصل بين الماضي والحاضر.
إنها أكثر من شجاعة، لأن الإنسان عندما يعي سجنه يكون أكثر وعياً من
إنسان يقتات حرية زائفة.
- عجبا لك يا دكتور خالد، كيف تستطيع أن ترى بقعة خضراء وسط هذه
الظلمات المتكاثفة، وفي مثل هذه البانوراما الكالحة التي عرضها الأخ (محمد)
على مسامعنا.
- لا ضير أن أصارحكم بأننا بيننا وبين هذه القبيلة أعظم من وشيجة الرحم
وأكثر من صلة القربى.
- يا أبا صالح هذا ليس شعورك وحدك، بل يخامرنا جميعاً مثل هذا
الإحساس، إن طبيباً يشخص أمراضنا بحق لا يقارن بطبيب يسوق في مسامعنا
جملاً مستهلكة، مثل هذا الطبيب الثاني، يعجز عن مواجهة مشكلة في مبتدئها،
ليجعلنا عما قليل في مواجهتها وقد صارت معضلة يتعسر حلها، بعد أن أنضجها
الزمن الذي يسعفه جهل المعالجين أو تجاهلهم المسنود إلى جهل المعالَجين المفقود،
وحضورهم المختزل إلى أبعد الحدود، في طريقه إلى المسجد أنشأ أبو صالح يثني
على الله-عز وجل-، أن يتجاوز مجلسه ما غرقت فيه كثير من المجالس، من
كونها باتت ملتقى لتبديد الوقت، وبث اليأس، وتصنيع الفراغ تمهيداً لتسويقه -
في سوق العجز - تحت أسماء مختلفة، وشرع يدعو ربه تضرعاً وخيفة أن يجعل
من هذا المجلس مثابة للحائرين، وأن يضاعف الله في قطرات الأمل التي أخذت
تتلألأ على تلكم الوجوه من رواد المجلس، وردد بفرح غامر وبهجة متنامية:
] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [
] الحديد: 17 [.
آه كم كنت أظن أن المقبرة هي الوصف الأليق بمجلسنا، ليت كل مسلم
يعرف أن لديه ما يعطيه، وعنده ما يقدمه ليبزُغ في الكون فجرٌ جديد.
آه ليت تجربة هذا المجلس تطير إلى كل أرجاء المعمورة، وتابع أبو صالح
محدثاً نفسه:
لكَم تأملت عندما كان الدكتور خالد يحدثنا عما يجري في العالم من أحداث
مهمة ولها تأثير في عالمنا الإسلامي.
إني إذا تذكرت ذلك الآن انتفضت من الأعماق، واسترجعت قول رسولنا-
صلى الله عليه وسلم-: «وليس وراء ذلك مثقال ذرة من إيمان» ، ولعل هذا
الحديث يعيد الحياة إلى دستور اللاءات الإسلامية المعطل، لعلَّ ...
لم يعد لقاء الجمعة في قهوة أبي صالح مجرد فرصة للتفنن في الهروب من
أعباء الحياة الجادة ومسؤوليات العقيدة الحية، بل أخذ المجلس يُحَدِّد روَّاده ويتحدد
بهم، وجعل المترددون والمتشردون يشعرون ألا مقام مطمئناً لهم إلا في جنباته،
وصار الحوار الذي يدور بين جدرانه الأربعة يتردد في جهات البلاد الأربع،
تهاوت الجدر، وأخذت الحياة تولد من جديد، والشمس تشرق على البطاح النائمة،
لتوقظها برفق، جاعلة من كل يوم ميلاداً جديداً، اكتست الأشجار خضرة جديدة،
وباتت الطرق تنتهي بالمرتادين إلى أهداف محددة، اتصلت الخطوط المقطوعة
بأرجاء الكون الفسيح، وحضر المقهورون الغائبون الذين كُتِّمت أصواتهم وتقطعت
بهم الأسباب من المسلمين، حضروا مجلس أبي صالح، وتقدم الحديث عنهم،
القضايا التقليدية التي قُتلت درساً، واستهلكت الأعمار بلا منتوج ولا مردود.
ابن تيمية بعث حياً، أخرج من سجن الغربة والاختزال، أعيدت قراءته عبر
مجاهر جديدة، وطرح مشروعه الإسلامي المتجدد، لم يعد ذكره ينتزع مجرد دعاء
له بالرحمة، وحوقلة العجز، واسترجاع اليأس، بل بات فكره دليل العمل وبوصلة
تحدد للمجلس اتجاهه.
لقد سقط الذين التمسوا في ابن تيمية أدلة تعاجزهم، فلم يروا منه إلا ما
سمحت به مصالحهم وأباحه لهم هواهم.
كما سقط يا دكتور خالد أولئك الذين ظنوا أن كتب الرجل وفكره مجرد زينة
وتنويع في إيقاع معزوفة الفكر المخملي.
- الفضل لله ثم لهذا المجلس الذي أحيا الله به فكر ابن تيمية، هذا المجلس
الذي يحلو للبعض أن يسميه حقاً: إمارة أبي صالح.
- غفر الله لك يا دكتور خالد، وهل نحن النموذج الوحيد لذلك؟
- لم أقصد سوءاً يا أبا صالح، ولكن قصدت أن مجلسك يمثل نظرة واقعية
للأمور، فالمعروف أن الكثيرين لا يسهمون في الخير، أو لا يساهمون في البناء
إلا إذا رأوا كل شيء ممهداً وميسراً أمامهم، وهذا مقتل من مقاتل البذل، إما كل
شيء أو لا شيء، نكون أو لا نكون، إن جيلنا يؤدي خدمة عظيمة إذا تمكن من
طرح المشروع الإسلامي بوعي وعمق، ويسدي يداً لا تنسى إذا هيأ الأرض
الإسلامية للاستنبات وطهرها من عقابيل العقم واللامبالاة.
- ما لي أراك واجماً يا أستاذ محمد؟
يا أبا صالح إن الدكتور خالد لم يترك لمتردد مكاناً يأوي إليه، ولا فكراً يعتمد
عليه.
- أين بات مخطوطك الطويل عن السجن ومرافعتك العصماء عنه؟
- يا أبا صالح في طريقي إلى هذا المجلس في الأيام الأخيرة أخذ يلازمني
شعور غريب، وبدأت أدرك أن العالم يتغير، وأن إرادته أكبر من سجني، كنت
أول الأمر عاجزاً عن الفهم، صرت أرى في وجوه رواد المجلس ما لم أكن أرى
من قبل، لغتهم تغيّرت ونظراتهم، وفي بيوتهم أخذت الحدائق تطارد اليبوسة
والعبوس، الماء يسمع خريره، الكتب تزاحم الأثاث، هطل المطر بغزارة هذا
العام، كنت لا أفكر إلا سهواً، ولا أناقش إلا غفلة، أشعر أن كوابيس السجن
تتهاوى، الحياة تفتح ذراعيها ابتهاجاً بالعائدين، ليمارسوا حضورهم بأنفسهم لا
بغيرهم، وبذواتهم لا بمسترقيهم ومصادري آرائهم، بهموم عصرهم لا بتراكمات
العقد ومشاكل الآخرين. أن تكون على الحق هو النصر الكبير، أن تكون على بينة
من ربك هو الفوز العظيم.
] هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإذَا جَاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وكَانَ وعْدُ رَبِّي حَقاً [
لم تدعني يا أبا صالح أكمل سفر مولدي.
- ابتهاجي بخروجك من الضيق الذي كنت فيه أنْساني حديثك أن أذكره.(41/68)
قصيدة
دمعة على شهيد
خالد بن سليمان القوسي
لم يكن ذلك الصمت، وذلك النور ليوهب إلا للصادقين أمثال: مصعب
العوشن، لله درُّك يا مصعب، ما أفصح صمتك، وما أبلغ هدوءك، لم تكن تريد
الشهرة [في زمن الاستماتة لنيل الشهرة] ، ولم تكن لتنالها لولا استشهادك، فلله
درك، كتبت أحرفك بدمك، وأن يكتب الإنسان تاريخه بدمه فذلك قمة المجد في
الدنيا.. والآخرة.
خطبوا فجادوا بالبيان وأطنب ... فأبنت أنك بالمواضي أخطبُ
ما كل من ركب البيان يسوسه ... عجُمت قوافيهم وأنت المُعْرِبُ
" يا مصعب " أوّاه كم نطقتْ بها ... شفتاي.. قلبي.. أدمعي " يا مصعبُ "
إيهٍ نديَّ الصوت أنشدتَ الربى ... شعراً فروحاً للمعالي تدأبُ
طاب القعود لنا فأما أنتمُ ... فرأيتم أن الشهادة أطيب
عذبت لنا الدنيا وأما أنتم ... فرأيتمُ أن القَضيَّةَ أعذبُ
بسمتْ لنا الدنيا ضحىً وازَّيَّنَتْ ... ما كنتَ تنعمُ والجنان تثوِّبُ
نُعمى الحياة سحابةٌ صيفيَّةٌ ... والباقيات سحابُهُنَّ الصيِّبُ
بعتَ الحياة رخيصة لما عشق ... تَ الباقيات وعشقهنَّ المكسبُ
من ذا يقود المرء من نعمائه ... من ذا يشوِّقه لكي يتغرَّبُ
من ذا يقود الناس نحو حتوفهم ... راح الصبيُّ وراح قَبْلُ الأشيبُ
عجبٌ -وربِّك- بذلُهم لنفوسهم ... لكنَّ ما يرجون منها أعجبُ
في ليلة يخشى الأبيُّ مصابها ... لم تثنه أغوالها والأذؤب
لقي المنون مشمراً متفانياً ... في ساعة منها العقول تغيب
بيمينه قرآنه، وسلاحه ... بشماله وفؤاده متوثب
يتلو كتاب الله يكسوه التقى ... ويلفه الصمت " الشتاء " الغيهب
عينان لا يصلاهما حرُّ اللظى ... عين بكت لله دمعاً تسكب
وحسيبة جفت المراقد تمتطي ... شم الجبال وللعدا تترقب
تخذ البسالة منهلاً لحياته ... أكرمْ به من منهلٍ لا يجدب
كفكف دموعك يا محبُّ فإنه ... لو قيل ماذا تشتهي يا مصعب؟
لوجدته يهوى الشهادة مرةً ... أخرى فبحر يقينه لا ينضب
ستراه بين جنانه فدع البكا ... ما مات من نحو الجنان سيذهب(41/76)
دكاكين جديدة
يمتد الشارع الإسلامي الثقافي السياسي وعلى جانبيه تفتح الدكاكين أبوابها،
تعرض بضاعتها وتقدمها للزائرين.. كان هذا الشارع مجهولاً، وكان زواره
ومرتادوه قلة قليلة، فيما كانت الشوارع الأخرى تلقى رواداً وزواراً، وتلقى
بضاعتهم رواجاً، كالشارع القومي، والشارع الشيوعي والذي يتفرع منه الشارع
الاشتراكي، وأزقته التقدمية والثورية والناصرية.. الخ، وهناك أيضاً الشارع
الليبرالي التحرري..، أما الآن فقد قلَّ الزوار والمرتادون، وأغلقت بعض
الدكاكين وارتحل روادها، والبعض ظل في دكانه القديم ولكنه فتح فرعاً له في
الشارع الإسلامي الذي يشهد افتتاح أعداداً كبيرة من الدكاكين، وارتفعت لوحات
الإعانات الكبيرة المضاءة.. واشتدت المنافسة بين الجميع، لا على مستوى
الدكاكين فقط بل مستوى بعض المؤسسات والشركات الأهلية، وقبل ذلك على
مستوى الدوائر الحكومية كالبلدية ووزارة الأوقاف الخ
فالبلدية على استعداد لرصف الشارع والقيام بأعمال النظافة، والنظافة من
الإيمان، فالبلدية إذن مشهود لها بالإيمان؟ !
أما وزارة الأوقاف فهي على استعداد لإقامةالسرادقات الطويلة للاحتفال بالمولد
النبوي، مقابل الاحتفال بمولد الزعيم والثورة؟ ! أما وزارة الخارجية فهي على
استعداد لإقامة مؤتمرات على حسابها الخاص، ولكن على أصحاب الشارع تأييد
مواقف الوزارة وتمجيدها، ووزارة الزراعة ستقوم بتشجير الشارع، وستكتب على
كل جذع شجرة اسم الحاكم واسم الوزارة! ! ، وهكذا.
أما عن الشركات والمؤسسات الأهلية: فقد أقامت المشاريع التجارية في
الشارع الإسلامي تحت شعار: (إسلامي) ، فهناك دور أزياء للمحجبات فقط،
وتسريحات شعر إسلامية، وهناك شركات تأمين إسلامية، وهناك موسيقى وغناء
إسلامي.
أما الدكاكين: فبضاعتها متنوعة ومتعددة المصادر، كلها تحت لافتة
(إسلامي) ، وتحت هذه اللافتة تروج تلك البضائع والسلع الكاسدة، كسلعة (القومية)
و (العلمانية) ، وربما (الباطنية) ، على أن أكثر السلع رواجاً في السوق هي سلعة
(الديمقراطية) ، وهناك سلعة (الإنسانية) وسلعة (العقلانية) .
وقد قرر بعضهم إقامة سوق مركزي (سوبر ماركت) مفتوح، يعرض فيه
جميع أنواع البضائع والسلع رغم اختلافها وتباينها، وسيحمل السوق اسم (حوار
الثقافات) .
وهناك مشروع وهو إيجاد قاعة للمؤتمرات.. تضم طاولة مستديرة وكراسي.. يناقش فريق الشارع الإسلامي مع الضيوف الكرام القادمين من إحدى الشوارع
(الصديقة) ، وسيكون اسم القاعة (الحوار والرأي الآخر) ، حيث الاستماع إلى
الآراء والأطروحات من كلا الطرفين، وحول الطاولة المستديرة وعلى الكراسي
الوثيرة مناقشات حول تطبيق الشريعة وإمكانية ذلك.. وحكم الإسلام في
الديمقراطية.. والضيوف الكرام يمطرون الفريق المضيف بوابل من التهم والأسئلة
الحرجة، ليقع الفريق المضيف في الفخ.. ليقدم التنازلات.. تلو التنازلات.. تلو
التنازلات، يتراجع الفريق المضيف خطوة، ويتقدم الفريق الآخر خطوة ونصف
الخطوة، وفي آخر الشارع هناك دكان منزوٍ بعيداً عن الكثير من الجمهور.. حيث
تجارته مع الله لا يريد جزاءً ولا شكوراً من الناس. يقدم ما لديه، يريد سلعة الله
الغالية، على نهج سليم وصراط مستقيم.. إنها طائفة الظاهرين على الحق، لا
يضرهم من خذلهم. وبين هذا الدكان وتلك الدكاكين يوم الجنائز! !(41/78)
المسلمون في العالم
مأزق الجزائر
الذين يتابعون أخبار الجزائر، يتابعونها وأيديهم على قلوبهم، فهم محبون لهذا
البلد المجاهد، ولهذا الشعب الذي يمتلىء حمية إسلامية، وهم خائفون عليه من
المأزق الذي وقع فيه، فالحكومة كانت تريدها نصف ديمقراطية مفصلة على مقاس
معين، فلما اختار الشعب الإسلام بدأت الضغوط العلنية والخفية، الخارجية
والداخلية، لمنع وصول الإسلام إلى موقع القرار. فتأجلت الانتخابات ثم تأجلت
مرة ثانية، والحكومة لا تريد الصدام، كما أن الإسلاميين لا يريدونه، فكلا
الطرفين ليس من مصلحته الوصول إلى الطريق المسدود.
إن من ينادي بالحرية والديمقراطية لا يجوز له أن يحتال على الانتخابات كي
يمنع الآخرين من الوصول، وإذا كانت الحكومة تعلن، وكذلك الغرب الذي
يحرض على الإسلاميين إذا كانوا يؤمنون بحق الشعوب في الاختيار، فلماذا لا
يدعون الانتخابات تسير حسب الأصول المتفق عليها [1] .
وإذا كانوا يخافون من الأصوليين كما يسمونهم، وإذا كانوا قد اتفقوا على
(مواجهة الأصوليين) في مؤتمراتهم المغلقة، فهل يستطيعون مواجهة الإسلام؟
فالمارد الذي خرج لا يستطيعون إرجاعه إلى القمقم، وكان الأولى بهم توفير دماء
شعوبهم إن كانوا يحبون أوطانهم، ويقال لهم كما قالت قريش لعثمان بن الحويرث
عندما أراد أن يتملك عليهم بمساعدة قيصر الروم، قالوا له: (إن مكة حي لقاح؛
لا تدين لملك) [2] ، فيقال لهم: إن هذه الشعوب اختارت الإسلام، وليس هناك رجوع إلى الوراء.
وعلى الإسلاميين تجنب هذا المأزق بالطرق الصحيحة التي لا تنازل فيها ولا
استدراج إلى حلبة الصراع، والقضية أولاً وأخيراً هي: قضية الشعب الجزائري.
__________
(1) استعمالنا كلمة الديمقراطية لا يعني إيماننا بها، ولكننا نخاطبهم بمنطقهم.
(2) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام ص 70.(41/81)
موقف الصحافة الدولية
من أحداث الجزائر
رمضان بوشلوي
إن الموقف الذي وقفته الصحافة العربية من أحداث الجزائر كان موقفاً مخزياً
للغاية، وخاصة إذا قورن بموقف الصحافة الغربية، هذه الأخيرة التي ما كنا ننتظر
أن تكون موضوعية في تحليلاتها، وأمينة إلى حدٍ ما في نقل الأخبار، وهذا ليس
مدحاً لها، وإنما حقيقة تفرض نفسها.
وسأذكر بعض ما جاء في بعض هذه الصحف من تحاليل وأخبار وتعاليق:
كتبت صحيفة (Le Monde) الفرنسية في الصفحة الأولى من عددها
الصادر في 6/10/91، مقالاً تحت عنوان: (فوز كبير للإسلاميين الجزائريين) .
ثم أردفته بمقال آخر على الصفحة الخامسة من نفس العدد تحت عنوان (الفوز الهام
للإسلاميين الجزائريين) . وكان مضمون المقال سرداً للأحداث، واعترافاً بفوز الإسلاميين، مع وصف الشيخين (علي بلحاج) و (عباسي مدني) بأنهما يتمتعان باستراتيجية قوية ورؤية عميقة للأوضاع.
ولنا هنا وقفة لابد منها:
ونحن نعرف تاريخ هذه الجريدة وحقدها الدفين على المسلمين، ولا يفوتني
هنا أن أشير إلى أن جُلَّ المسؤولين في الجزائر يقرؤون هذه الجريدة يومياً، وقد
أثرت عليهم تأثيراً بالغاً، حتى أصبحت تحدد تفكيرهم واتجاهاتهم، وأصبحت
عندهم من العدول الذين لا يقبلون الجرح.
ونفس العنوان تقريباً عنونت به جريدة (The Times) البريطانية مقالاً لها
بعد الأحداث؛ ومن الطريف كذلك ما ذكره مبعوث جريدة (Independent)
البريطانية بالجزائر في وصفه للذين استشهدوا خلال الأحداث فيقول: (they
died smiling) أي: (ماتوا مبتسمين) .
وهذا قليل من كثير، وإن كانت لهجة الصحافة الأجنبية قد تغيرت بعد فوز
الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات البلدية والولائية في شهر حزيران 1990،
ولعلها ترى أنه ليس من المصلحة الاستراتيجية التعرض بلهجة طائشة لحزب قوي
الجزائر.
وأما الصحافة العربية (كعادتها) فقد حاولت منذ بداية الإضراب وصفه بأنه
فاشل، وأن الشعب لم يستجب لنداء الجبهة الإسلامية، بينما كان العكس هو
الحاصل، فقد ذكرت مجلة (الوطن العربي) (التي طلقت صدام حسين) في عددها
220 الصادر في 7/6/91: أن الإضراب قد فشل فشلاً ذريعاً، وأن عباسي مدني
يقود الإسلاميين إلى الانتحار السياسي، وألقت بالمدح على الرئيس الشاذلي بن
جديد، ووصفته بأنه انتهج خطة طويلة النفس هزمت الإسلاميين! !
وهذا الكلام جاء ليؤكد حقد القوميين والعلمانيين وغيرهم من أذناب الغرب
على الإسلام والمسلمين.
وأكبر دليل على تهافت هذا الادعاء: نزول الجيش إلى الشوارع ليفض
الإضراب بقوة السلاح، وحل الوزارة، ووعود الدولة التي أطلقتها من أجل ضبط
الأمر، وعدم خروجها من أيديها.
وإن كان تشكيل الحكومة الجديدة هو: التأجيل والاستعداد لجولة أخرى، ولا
يفوتني هنا أن أشير إلى أن هذا القانون (قانون الانتخابات الجديد) كان لفرنسا يد
فيه (هذا للذين يقولون: إن الجزائر بلد مستقل) ، وأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول: أنه استُعمل علم الإحصاء (Statistics) وعلم الكمبيوتر لإعداد هذا القانون،
وذلك من خلال نتائج الانتخابات السابقة.
وخلاصة ما جاء في الصحافة العربية وخاصة الجرائد اليومية منها هو:
تجاهل للحقائق، وتحريف للواقع، وتحريض سافر مَرَّة ومبطن مرات للدولة من
أجل ضرب جبهة الإنقاذ الإسلامية، وتشويه سمعتها، بوصفها بأنها تهدد الأمن
والاستقرار، وأنها تهدد الديمقراطية، وأنه يجب ألا نقبل بديكتاتورية باسم الدين.
وبمحاولة خلق أكاذيب ونشر بعض الشائعات مفادها: أن هناك خلافات داخل
مجلس الشورى للجبهة، ووصف الشيخ علي بلحاج بأنه متشدد ومتطرف، وأن
الشيخ عباسي مدني معتدل، وذلك عملاً بسياسة (فرِّق تسُد) .
وأخطر تهمة هي ما جاء في جريدة (الحياة) نقلاً عن وكالة الأنباء الجزائرية
بأن الفرنسيين اللذين اعتقلا حيث وجد في حوزتهما أسلحة وخرائط، الخ.. كانت
لهما علاقة بالشيخين علي بلحاج وعباسي مدني، وأنهما أتيا للجزائر ليدافعا عن
إخوانهما، حيث أن أحدهما أعلن إسلامه! !(41/82)
هجرة اليهود إلى فلسطين
حشود بشرية بانتظار الجولة المقبلة
مازن عبد الله
لقد حاربت إسرائيل العرب وتحدت المسلمين طوال الفترة الماضية وبقلة
بشرية قليلة، كانت تعتمد فيها على تفوقها الاستراتيجي الذي استطاعت به أن
تعوض عن نقطة ضعفها بشرياً وجغرافياً في محيط بشري وجغرافي عربي كبير،
فكانت كلما خاضت حرباً ربحتها، وكانت معنويات العرب حينذاك مرتفعة.. أما
الآن؛ فإن الأجواء قاتمة، وإذا سارت الأمور على ما هي عليه، وبقي العرب
يتخبطون في حالتهم الراهنة، فإن ذلك نذير خطر ماحق ومخيف، وستجري
الرياح بما لا تشتهي سفن العرب والمسلمين، فحالة العرب اليوم مؤسفة، وضعهم
مُخْزٍ، والتآمر عليهم من كل جانب، بينما تتزاحم الدول على خطوبة ود إسرائيل،
فتُغلق الأبواب بوجههم وتُفتح بوجه إسرائيل، تُنزع الأسلحة من أيديهم، وتُعقد صفقات الأسلحة المتطورة مع إسرائيل، تجهض كل حركة للخروج بالعرب مما هم فيه، ويضرب الإسلام في بلاده، ويقدم الدعم وتعطي الحرية لإسرائيل، وتتدفق موجات الهجرة عليها …
في عام 1835: كانت الطائفة اليهودية في فلسطين تقدر بحوالي عشرة آلاف
شخص (وفقاً لتقديرات نيفل) [1] . وكانت هجرة اليهود إلى فلسطين وقتئذ ضئيلة
جداً، ولم تزد بل ولم تبدأ بشكلها المنظم والمدروس إلا بعد قيام الصهيونية على يد
تيودور هرتزل، الذي أخذ على نفسه العهد بأن يكافح ضد الاندماج اليهودي في
المجتمعات التي يعيشون فيها، ويدافع بحماس عن هذه الفكرة، وطالب بفصلهم
ليكونوا دولة خاصة بهم، لقد بذل هرتزل كل ما بوسعه لتحقيق هدفه هذا، فاتصل
بكل المسؤولين الفاعلين في لندن عاصمة الدولة العظمى وقتئذ، وأقنعهم بضرورة
المساعدة على تحقيق هذا الهدف الذي يريح اليهود ويريحهم. ولقد تحدث لنفس
الغرض مع وزير خارجية ألمانيا (فون بولوف) ومع (غليوم الثاني) ، واتصل
بالقيصر الروسي نيقولا الثاني، وبوزير داخليته (بلهف) الذي كتب له رسالة جاء ...
فيها: (إن الصهيونية التي تشجع اليهود على الهجرة في روسيا ستلقى الترحيب،
ولكن شريطة ألا يشجع ذلك على قيام قومية أجنبية في روسيا..) .
لقد كان للاضطهادات التي حلت باليهود في أوربا في روسيا ورومانيا
وبولندة، ومن ثم في ألمانيا فائدتها وأثرها الطيب عند تيودور هرتزل، كما أن
حركة (معاداة السامية) كما يسمونها وموجات العداء التي انتشرت في تلك المجتمعات ضد اليهود، ومن ثم الدعوة، للانتقال للقتال لإنقاذ الإيمان اليهودي
والثقافة اليهودية ورسالتها. كان لكل تلك العوامل مردودها الطيب عند هرتزل،
حيث أنها ساعدته كثيراً في تشجيع وإقناع اليهود بضرورة بناء وطن قومي ومستقل
لهم، وبضرورة الهجرة إلى فلسطين.
وفي سنة 1897: استطاع هرتزل أن يجمع غالبية القوى والحركات اليهودية
في مؤتمر (بال) بسويسرا، وتم على أثر هذا المؤتمر وضع مخطط عملي،
وحددت الخطوط العريضة التي يتعين على كل المشاركين في هذا المؤتمر العمل
على تنفيذها وبدقة، من أجل الوصول إلى إقامة الدولة اليهودية. وقد كان هدف
الوكالة اليهودية الأساسي حينذاك: العمل على إنشاء (الوطن القومي اليهودي) في
فلسطين، وتنظيم الهجرة إليها. وأخذت على عاتقها مهمة تحقيق هذا الحلم، وبدأت
فعلاً بتجنيد كل ما تملك من طاقات من أجلها، فكانت حلقة الوصل بين يهود
فلسطين وحكومة الانتداب، وبينهم والعرب، وبينهم ويهود العالم..
في أواخر القرن التاسع عشر كان هناك أقل من (50000) يهودي في
فلسطين، وفي الفترة ما بين عامي: 1920و1932 وفِد إلى فلسطين حوالي
118300 يهودياً، جاءوا بمحض إرادتهم، ولكن طبعاً بفضل الدعاية الصهيونية
وتشجيع الحاخامات المستمر، وفي عام 1910: بعثت الوكالة اليهودية إلى اليمن
واعظاً صهيونياً ادعى الاشتراكية، اسمه (وارشفسكي) ، ولقد أطلقوا عليه لقب
الحاخام.. لقد بذل هذا الواعظ جهوداً كبيرة في اليمن؛ أسفرت في النهاية عن إتمام
عملية استيراد لليهود اليمنيين في عام 1948، العملية التي أطلق عليها اسم (بساط
الريح) ، والتي نفذت على مرحلتين: الأولى في ديسمبر 1948 إلى مارس 1949، والثانية: في يوليو 1949 إلى سبتمبر 1950، تكلفت 5ر5 مليون دولار.
فلقد أنشأت المخابرات الإسرائيلية أول جسر جوي بين عدن وتل أبيب، تم
بواسطته نقل حوالي 000,600 يهودي يمنيّ إلى إسرائيل، ولقد استغلت
إسرائيل وقتئذ فترة انشغال العالم الذي كان خارجاً من الحرب العالمية الثانية لتمرر
هذه الصفقة وبصمت وسرية تامة لم يفطن إليها أحد.
لقد تم الجزء الأول من عملية (بساط الريح) بنجاح تام، ولكن بالرغم من
هذا، فإن حركة الهجرة إلى إسرائيل كانت مازالت ضعيفة نسبياً، الأمر الذي
أزعج زعماء الصهيونية، فجاء خطاب (بن غوريون) في 31/8/1948، وفي
حفل استقباله لمجموعة من اليهود الأمريكيين، حيث قال: (رغم أننا حققنا حلمنا
بإقامة دولة يهودية، فإننا مازلنا في بدء العملية، وليس في إسرائيل اليوم سوى 900.000 يهودي، في حين تتواجد أغلبية الشعب اليهودي خارج إسرائيل،
يجب أن نجلب جميع اليهود إلى إسرائيل) .
لقد بدأت وعلى أثر كلمة (بن غوريون) هذه عمليات تنشيط مفتعلة في كل
المناطق التي يوجد فيها اليهود، سواء كانت شرقية أم غربية. وبدأت الدعاوي
والنداءات من قِبل كبار الصهاينة والحاخامات المسؤولين عن تلك المناطق،
لتشجيع اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، مستعملين كل الأساليب الترغيبية
والترهيبية؛ من أجل الإسراع بتلك العملية. وهكذا كان، فلم تمض عدة أشهر حتى
استطاعت الوكالة اليهودية من استكمال عمليتها التي بدأتها في ديسمبر 1948،
حيث نقلت حوالي 20.000 يهودي يمني من عدن إلى تل أبيب، وكان ذلك في
عام 1950.
في عام 1948: كان عدد الطائفة اليهودية في العراق حوالى 110.000
شخص. وكانت جذور هؤلاء في العراق مغرقة في القدم، وكانوا يتمتعون بنفس
الحقوق التي يتمتع بها العرب. ففي عام1950، ولما رفض حاخام العراق وقتئذ
(خدوري ساسون) الانصياع لمطالب بن غوريون ودعاوى الصهاينة، بدأت أعمال
الإرهاب ضد يهود العراق؛ فنظمت المخابرات الإسرائيلية خلايا سرية كلفتها
بمهاجمة اليهود هناك، وإلقاء القنابل عليهم، واغتيالهم؛ مما أدى إلى نشوء حالة
من الذعر والخوف بين صفوف اليهود، الذين ظنوا بأن العرب هم وراء أعمال
العنف هذه، فاندفعوا تحت تأثير هذا الرعب ليهاجروا إلى إسرائيل، لقد تولت
الوكالة اليهودية عملية نقل يهود العراق إلى إسرائيل، العملية التي أطلق عليها اسم
عملية (علي بابا) ، والتي تم فيها نقل حوالى 100.000 يهودي عراقي عبر
جسر جوي تم فتحه خصيصاً بين بغداد وتل أبيب.
في عام1956: وبناء على موافقة ملك المغرب على هجرة يهود بلاده، تم
نقل 67.000 يهودي مغربي إلى إسرائيل. وتجدر الإشارة هنا بأن أكثر
التجمعات اليهودية في البلاد العربية كان موجوداً في المغرب، ولقد استطاع العديد
منهم الوصول إلى مناصب حكومية بارزة، وكانت تربط بينهم وبين حاكم البلاد
علاقات طيبة، فهم يكنون احتراماً كبيراً للملك محمد الخامس، والد الحسن الثاني،
بسبب رفضه تسليم اليهود المغاربة للنازيين أثناء الحرب العالمية الثانية..
وبالإضافة إلى موجات الهجرة الرئيسية هذه، كانت هناك عدة هجرات أخرى
لليهود من البلاد العربية، ولكنها كانت تتم بأساليب أقرب إلى الشكل الفردي منها
إلى الشكل المنظم والجماعي ... أما على صعيد دول أوربا، فلقد تمت عدة هجرات
مماثلة، ولكنها كانت ضعيفة نسبياً ولم تكن بالشكل المطلوب. فإنه وبالرغم من
الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية في تلك المناطق لتشجيع الهجرة، لم تستطع
هذه الجهود أن تحقق سوى القليل مما خططت وتعمل عليه. وتجدر الإشارة هنا إلى
أن أكثر التجمعات اليهودية في أوربا موجودة في فرنسا وبريطانيا، فيوجد حوالي
450.000 يهودي في بريطانيا، وحوالي 550.000 يهودي في فرنسا، ثلثهم ...
من يهود شمال أفريقيا الذين هاجروا إليها من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا منذ
عدة سنوات.
لقد انتبه زعماء الصهيونية لتلك المشكلة، فراحوا يطلقون الصيحات
والتصريحات، مطالبين إخوانهم المشتتين بالعودة إلى وطنهم (أرض الميعاد) ؛
لمؤازرة إخوانهم هناك، والعمل معهم من أجل الوصول إلى ما (وعدوا به) .. ففي
تصريح لبن غوريون، نشرته مجلة نيويورك تايمز في 2 شباط 1959، قال:
(وإن انتصار إسرائيل النهائي سيتحقق عن طريق الهجرة المكثفة، وإن بقاء
إسرائيل يعتمد فقط على توافر عامل هام هو: الهجرة الواسعة إلى إسرائيل) .
لقد ساهم بن غوريون كثيراً في دفع حركة الهجرة إلى إسرائيل، وخاصة بعد
الإعلان عن قيام الدولة اليهودية، ومع المجهود الكبير الذي قام به رفاقه من
الصهاينة وكبار الحاخامات الذين انتشروا في كل بقعة علموا أن فيها بعضاً من يهود
الشتات، تدفق اليهود وبكميات هائلة إلى إسرائيل، وفي خلال ثلاث سنوات فقط
ارتفع عدد السكان اليهود في فلسطين إلى الضعف. فعند قيام دولة إسرائيل كان
عدد سكانها اليهود حوالي 650 ألف فقط، أضافت إليهم الهجرات الكبرى هذه
حوالي 750 ألف يهودي، هاجر معظمهم من أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية
وفي آسيا والدول العربية، ولقد ساعد في دفع عمليات الهجرة هذه أيضاً قانون
العودة الذي صدر في 15 يوليو 1950، والذي أضفى على عمليات الهجرة الصفة
الدينية، وذلك عندما سمى الهجرة إلى إسرائيل (العودة إلى بلادهم) ، وعندما أطلق
في مادته الثانية على موجة الهجرة لفظ (عليا) ؛ أي: الحج والصعود إلى أرض
الميعاد، ويعطي هذا القانون الحق لكل يهودي في أن يهاجر إلى إسرائيل،
ولأغراض هذا القانون اعتُبر يهودياً كل شخص أمه يهودية أو اعتنقت الدين
اليهودي، أو حتى لو تحول هو إلى اليهودية، بشرط أن يكون تحوله هذا بموافقة
حاخام من الأصوليين.
لقد لعبت الصهيونية إذن بكل الأوراق المتاحة لديها، فكانت تغري اليهود
بالمال وبالمستقبل المشرق الذي ينتظرهم في إسرائيل تارة، وتثير المشاعر الدينية
والقومية لديهم تارة أخرى. وكانت تنظم الخلايا السرية لضرب اليهود الذي
يجتمعون في بلاد تسمح لهم بالهجرة ويرفضون مغادرتها، وينظمون الحملات
الإعلامية عن (محاسن أرض الميعاد) لجذب اليهود. وعن تعذيب اليهود لكسب
تأييد الشعوب وتعاطفهم وموافقتهم على هجرة اليهود الذين يتجمعون في تلك البلاد
التي لا توافق على الهجرات الواسعة أو تضيِّق عليها.. وفي جميع الأحوال،
عرف هؤلاء كيف يستغلون كل التطورات والتغييرات المحلية والإقليمية والدولية،
من أجل تنشيط عمليات الهجرة وتحقيق أهدافهم؛ فبعد انتصار إسرائيل في حرب
1967 لعبت الدعاية الصهيونية دوراً كبيراً في إبراز إسرائيل كقوة جبارة لا تقهر،
الأمر الذي جذب آلاف الشباب المتحمسين الذين هاجروا إلى إسرائيل وبأعداد
ضخمة بعد فترة الحرب ولقد قال (أبا إيبان) وقتئذ: (لو كنا أربعة ملايين يهودي في إسرائيل اليوم لكان لمطالبنا في الصراع القائم وزن كبير، وإن تنشيط الهجرة اليهودية من شأنه أن يعزز مكاسبنا في الحرب، فاحتلال الأراضي وحده ليس كافياً، فنحن بحاجة إلى استيطان هذه الأراضي) .
في 6/11/1970: نشرت صحيفة (دافار) الإسرائيلية تصريحاً لغولدا مائير
تقول فيه: (ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر أكثر من أي شيء آخر، هو:
الهجرة. توجد أمور كثيرة نحلم بشأنها، ولكن لقلة الرجال وبسبب الحروب
المفروضة علينا لا نستطيع أن ننجزها إلا إذا أتى المزيد من الرجال) . لقد كان
لندائنا هذا الأثر الكبير في دفع عملية الهجرة إلى الأمام؛ فلقد هاجر إلى إسرائيل
في الفترة ما بين عامي 1970 و1973، أي: خلال ثلاث سنوات فقط، ما يقارب
189.000 يهودي.
في9/11/1977: أعلن أنور السادات وفي مجلس الشعب المصري عن
رغبته زيارة القدس المحتلة (وغزو العدو في عقر داره) ؛ في 21/11/1977:
غزا السادات القدس، والتقى بمناحيم بيغن رئيس الوزراء آنذاك، وفي17/9/
1978: تم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل..
لقد استغلت الدعاية الصهيونية هذا الحدث (التاريخي) وبذكاء، لتلعب دوراً
آخر بإعلانها عن انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وذهاب شبح الحرب، وتبشر
بازدهار اقتصادي وتجاري لإسرائيل بعد تحقيق الأمن والاستقرار. ولقد كان لهذه
الدعاية أثر كبير في جذب الكثيرين من اليهود، وخاصة أصحاب رؤوس الأموال
من الأوربيين، فبلغ عدد المهاجرين من اليهود في الفترة ما بين1977و1979
حوالي 000ر80 هاجروا إلى إسرائيل، وكانوا عوناً لها وسنداً في كثير من
المجالات، فساعدوا في إنمائها وإعمارها، وساهموا في تقدمها اقتصادياً وسياحياً
وحضارياً.
* يتبع *
في الحلقة القادمة
هجرة اليهود السوفييت الفلاشا..
__________
(1) - كتاب (المسألة اليهودية) ، لثيلان هاليفي، باريس 1981، ص 17.(41/85)
ماذا يدبَّر للمسلمين في إرتيريا؟
الأحداث الأخيرة التي وقعت في الحبشة والموقف في إرتيريا، وما الذي
سيكون بين النظام الجديد والجبهة الشعبية التي تحاول فرض نفسها كممثل وحيد
للشعب الارتيرى، هذه الأحداث بحاجة إلى وقفة طويلة، فهذا الشرق الإفريقي ليس
بعيداً عن الأحداث الساخنة في المنطقة العربية الإسلامية، وليس بعيداً عن البحر
الأحمر والدول المحيطة به، وهذا من أسباب اهتمام الغرب ومجلس الكنائس
العالمي بهذه المنطقة، حتى أنهم كلفوا الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر بمهمة
الاتصال والإشراف على المباحثات بين الجبهة الشعبية والحكم في الحبشة، ومن
خلال هذا الاهتمام الغربي برزت هذه الجبهة التي يقودها نصراني (أسياسي
أفورقي) ، رغم أن المسلمين هم الذين بدأوا القتال للاستقلال عن الحبشة منذ ثلاثين
سنة.
لماذا الاهتمام بالحبشة؟
الحبشة من الدول النصرانية العريقة في إفريقيا، رغم أن نسبة المسلمين فيها
أكثر من 50%، وأصبحت أخيراُ مصدراً بشرياً لإسرائيل، فعملية نقل الفلاشا
مستمرة، وكان آخرها عملية (سليمان) التي كلفت أمريكا 50مليون دولار، وهناك
دول غربية أخرى تساعد على نقل اليهود، منها فرنسا، وهكذا ترضي أمريكا
اليهود، وتظهر هي والغرب أمام العالم أنهم دائماً مع الأقليات التي يريد أن يبتلعها
المحيط العربي الإسلامي.
إن رحيل الطاغية (منغستو) أمر لا يؤسف له، ولكن الغرب يأخذ
الاحتياطات مسبقاً، حتى لا يفاجأ بشيء لم يعدّ له، فهو يساعد حركات جديدة حين
يرى النظام السابق أخذ في الضعف، وهكذا دب النشاط في جبهة القوى الثورية
الديمقراطية، وساهم ضباط إسرائيليون في تدريب جماعة (التيغراي) ، كما كانت
صلة السفير الإسرائيلى قوية بكبار المسؤولين المحيطين بمنغستو، كل هذا يدل
على الخطة الموضوعة، وهي: أن لا تنفرد دول عربية بالبحر الأحمر، فإرتيريا
إذا استقلت وكان توجهها عربياً إسلامياً فإنها تطل على البحر الأحمر لمسافة
(1000) كم، وإسرائيل ويساعدها الغرب تريد منفذاً إلى إفريقيا عن طريق البحر
الأحمر، وإحاطة العرب بدول عميلة، وهي الآن موجودة في جزيرة (دهلك)
المقابلة لساحل ارتيريا واليمن. (مجلة الأسبوع العربي 17/6/91) .
وبعد أحداث الحبشة، ما هو المتوقع؟ هل تطالب الجبهة الشعبية بالاستقلال
الذاتي أو الاستقلال الكلي أو يطلب منها الاتحاد الكونفدرالي مع الحبشة؟ كل هذا
مطروح الآن، وما إبراز (أسياسي أفورقي) إلا ليكون ليناً مع الأحداث المستقبلية،
أما أن ترجع ارتيريا عربية مسلمة فهذا بحاجة إلى دعم حركة الجهاد الإسلامي
هناك، حتى تستمر في تعبئة الشعب وتوعيته ومقاومة الطغيان، والطريق طويل.(41/92)
أخبار الدعوة الإسلامية
في الفلبين
بجانب العمليات الجهادية التي تقوم بها الجبهة المخصصة للدعوة إلى الله
بعمليات الدعوة المكثفة لدى القبائل الوثنية أو اللادينية والقبائل النصرانية أيضاً،
وقد اعتنق الإسلام خلال هذا الشهر (شوال 1411هـ عدد كبير من تلك القبائل
المذكورة، وفيما يلي بعض التفاصيل.
في يوم السبت 13 شوال 1411 هـ أشهر أكثر من مائتي شخص إسلامهم
في مديرية (كالامانسيج) بمحافظة (سلطان قدرات) على يد الداعية الدكتور محمد
كاناكان، وهو أحد دعاة جبهة تحرير مورو الإسلامية، ويضم هؤلاء خمسين عائلة
وثنية أو اللادينية، والدكتور المذكور هو أحد دعاة الجبهة الناجحين في كسب
النصارى والوثنيين، وذلك بفضل من الله تعالى ثم بفضل إلمامه بلغتهم وثقافتهم.
وفي محافظة بوكيدنون -حيث معظم سكانها من الوثنيين -: أسلم أيضاً خلال
هذا الشهر عدد كبير من هؤلاء الوثنيين على أيدي دعاة جبهة تحرير مورو
الإسلامية العاملين هناك، وكذلك في كل من محافظة دابا والشرقية ومحافظة
زامبوانجا الشمالية: أسلم أيضاً عدد كبير من الوثنيين والنصارى في المحافظتين
خلال هذا الشهر، والأمل كبير جداً -إن شاء الله تعالى- في كسب عدد كبير من
النصارى والوثنيين في المنطقة إلى الإسلام.(41/94)
الخيرية
بين الحسبة والضبط الإداري
أحمد بن صالح السيف
تعد ولاية الحسبة في الدولة الإسلامية الأداة التي من خلالها تحقق دورها
المنشود لتأدية رسالتها إلى البشرية جميعاً.
[وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً] [البقرة: 142] .
وهي القناة المؤدية إلى امتثال الغرض المحتم عليها، وتحصيل الخيرية
والقيمة المرجوة منها، والتي أخرجت لتكون في الطليعة بين الأمم، [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]
[آل عمران: 110] .
فالحسبة قد وردت بعدة تعاريف ومفاهيم من قبل العلماء المتقدمين والمتأخرين، الجامع بينها:
(أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله، يقوم به والٍ مختص من قبل الدولة) [1] .
وبهذا فالقائم بأمر الله لابد له من سلطة، يأمر وينهى من خلالها (سلطة تقوم
على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر، سلطة تجمع وحداتها وترتبط بحبل الله
وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله
في حياة البشر، وتحقيق هذا المنهج يقتضي (دعوة) إلى الخير يعرف منها الناس
حقيقة هذا المنهج، وتقتضي سلطة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قائمة على
التعاون بين أفراد الأمة والمسؤولين ولا يتخلف أحد عن واجبه؛ لأن ذلك أشد نفعاً
وتأثيراً، إذ أنه لا مكلف إلا ويجب عليه هذه الشعيرة، إما بيده أو لسانه أو بقلبه،
وعلى كل أحد دفع الضرر عن نفسه.
ولما كان هذا الأمر الملقى على عاتق الأمة لتحقيق خيرتها وأداء دورها ليس
بالأمر اليسير، لكونه صدعاً بالحق في وجوه بعض النفوس المريضة في المجتمع
الباغية إشباع شهواتها ونزواتها وحباً منها في أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا،
مما لا يجدي معهم الحكمة والموعظة الحسنة، ولا ينفع معهم إلا الردع والقسر كما
قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) ، وروي عن عمر -رضي الله عنه- مثله: (واعلم أنه لا قيمة لحق لا نفاذ له) [2] ، لذا وجدها أعداء هذه الأمة فرصة سانحة لإقصاء الأمر الإلهي بدعوى الحضارة
والرقي إلى مصاف الدول المتقدمة - بزعمهم -، وجعلوا اللحوق بركبهم ضداً لا
يجتمع مع الشريعة الإسلامية، أي: النداء إلى علمنة هذا التشريع السماوي، حيث
إنه بزعمهم جامد لا يتحرك ولا يواكب التطور، وها هو (كرومر) ينفث في روع
المستغربين: (إن الإسلام ناجح كعقيدة ودين، ولكنَّه فشل كنظام اجتماعي) [3] .
فلابد من فصل الدين عن الدولة والحكم بغير ما أنزل الله في مثل أغراض
الحسبة، وتقديم الدين عقيدة ونسك بدون سلوك دنيوي.
فما كان من هذه النفوس المريضة إلا أن انساقت خلف هذه الشعارات
والمقولات البراقة، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، باسم النهوض بالأمة
والتقدم بها. [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ]
[المائدة: 50] ، ليعيشوا بعد هذا في ضعف مزر وفرقة، واستعباد وسيطرة من
الأعداء عسكرياً وسياسياً وفكرياً، فجاء إقصاء أعداء الله لشرعه بصورة مهذبة من
خلال ما ينعتونه بالضبط الإداري بديلاً عن الأمر الإلهي: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] آل عمران: 104 [.
سرقوه من زادنا الثرّ ثم شوهوه ودسوا فيه سمهم الزعاف، وما أدراك ما
الضبط المزعوم في نظرهم، وهل له من اسمه نصيب؟ .
فالضبط الإداري جاء عند القانونيين بعدة تعاريف، الجامع منها: أنه (حق
الإدارة في أن تفرض على الأفراد قيوداً تحد بها من حرياتهم، بقصد حماية النظام
العام بالعناصر الثلاثة: الأمن العام، والصحة العامة، والسكينة العامة) ] 4 [.
ويمارس هذا الضبط التشريعي من خلال قوانين ولوائح وقرارات تستهدف
بزعمهم حماية النظام العام وصيانة استقراره وتقدمه.
فالسلطة التشريعية واسعة النطاق، حيث يجوز لها أن تنظم أي نشاط تقدر
أن من المصلحة تنظيمه بواسطة الضبط التشريعي، وأن تسند القيام به إلى أي جهة
تراها] 5 [.
وذلك بتشريع بشري ناقص نابع من الهوى والميل لتحقيق مبتغاهم وإشباع
نزواتهم، ولم يعلموا أن هذا تمرد على حق الله تعالى في التشريع، فهو المشرع
الأول العالم بالخير بما يصلح أحوالهم.] إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [] يوسف: 40 [.
وإذا استعرضنا واقعهم لنرى هذا الادعاء المزعوم من أن تشريع هذا الضبط
بصورته الطاغوتية يكفل المحافظة على الآداب والسكينة والأمن والاستقرار. فنجده
الانفلاتَ الأخلاقي ظاهراً للعيان، وانتشارَ الجريمة بشتى صورها، وشيوعَ القمع
الناجم عن ممارسات الإرهاب.
وهكذا عندما استجابت الأمة لتلك الدعاوى الملفقة وأصابها ما أصابها من
هزيمة نفسية ونكوص على عقبيها، ها هي اليوم تعايش ما يعايشه أعداؤها من
نتيجة للحكم بغير ما أنزل الله من واقع مزر متفكك وفقد للخيرية والتمكين] سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [] الأحزاب: 62 [.
فالأمر من جلله حدى بالعلامة ابن خلدون إلى عقد فصلٍ في مقدمته: (فصل
في أن العرب لا يحصل لهم مُلك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم
من الدين على الجملة) .] 6 [
__________
(1) انظر مجمل التعاريف في: (الأحكام السلطانية) لأبي الحسن الماوردي، الطبعة الثالثة 1392هـ، ص 240 - (الأحكام السلطانية) لمحمد بن الحسن الفراء، الطبعة الثانية، ص 584 - إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، ط دار المعرفة للطباعة -بيروت، ص 15 - الحسبة في الإسلام، لابن تيمية، دار الكاتب العربي، ص9.
(2) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب] ج 1- ص 444 [، دار الشروق، و (صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم) ، الشيخ عبد الرحمن الدوسري، المجلد الرابع، الطبعة الأولى 1405هـ، ص 270- 276.
(3) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، محمد محمد حسين، مكتبة الآداب، الطبعة الثالثة، 1400هـ، ص240.
(4) انظر في تعاريف الضبط الإداري: - الوجيز في الحقوق الإدارية، د عدنان العجلاني، مطبعة دمشق، 1385 هـ، ص 168 - مبادئ القانون الإداري، د سلمان الطحاوي، ص 620 - القانون الإداري، ماجد راغب الحلو، دار الكتب للطباعة والنشر، الكويت، ص 73.
(5) انظر في ذلك: دروس في القانون الإداري، د عبد الفتاح حسن، معهد الإدارة العامة، ص 314.
(6) انظر مقدمة ابن خلدون، ص 136، ط دار الشعب.(41/95)
رسالة إلى الدعاة
عبد الله الراشد
بين يدي هذه الملاحظات أقدِّم قول الشيخ عبد الرزاق عفيفي -حفظه الله -
وهو يتحدث عن بعض الأخطاء الفقهية: (إن الذين لديهم ذكاء حاد لا يقبلون الصواب إلا إذا كان من عند أنفسهم، وذلك أن الله أعطاهم قدرات وطاقات عالية
وفقوا بسببها إلى كثير من الصواب الذي أخطأ فيه الناس، ولذلك فلديهم من الثقة
بآرائهم ما يصعب على الناس إقناعهم بغيرها) .
لهذا أتمنى على من يقرأ هذه الملاحظات من أصحاب الذكاء الحاد أن يتفكر
فيها بنفسه دون أن يطيل النظر في العبارة أو الأسلوب. والله الموفق لكل خير.
أولاً: في مجال التربية والإعداد الجهادي:
إن ساحة أفغانستان مدرسة تربوية عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من عاش
فيها فترة من الزمن، إذ (ليس الخبر كالمعاينة) ، وهو ميدان تبرز فيه الطاقات
الكامنة في الأفراد.
إن معظم من يسيرون في طريق الدعوة إلى الله بحاجة ماسة إلى العيش فترة
من حياتهم في هذا الجو الجهادي حتى تستقيم نفوسهم على الطاعة والعبادة. ويكفي
في مجال التربية شعور الداعية بدنو أجله وكتابة وصيته حتى تطهر نفسه من
أخطائها وأدرانها وأمراضها. ويكفي في مجال التربية الشعور بالأخوة في الله في
أعلى صورها.
ويكفي في مجال التربية والإعداد الجهادي والتدريب على مختلف الأسلحة؛
مما يصقل الداعية ويطرد عنه عقدة الخوف المبتلى بها كثير من الناس اليوم.
لكن بقي أن نقول: أن هناك طائفة بارزة من الدعاة قد لا يكونون بحاجة
ماسة إلى هذا الجو، نظراً لما حباهم الله من طاقات وقدرات عالية، إذ لديهم
الاستعداد للمواجهة والتضحية في سبيل الله والصدع بكلمة الحق مهما كانت آثارها
عليهم، لكن لنتذكر جيداً أن هذه الفئة قليلة وقليلة جداً بالنسبة لعموم السالكين لدرب
الدعوة، ويجب عليهم أن يعلموا أن معظم الدعاة ليسوا على نفس المستوى الذي هم
عليه.
وإن نظرة شاملة إلى حالة الدعاة في مختلف القطاعات، سواء في التعليم أو
في المؤسسات أو في مواقع العمل المختلفة يتبين لنا منها ما تتعرض له النفوس من
الأسن والتقهقر.
وفي ظني أن العيش في جو الجهاد كفيل بإزالة الصدأ المتراكم، وكفيل بدفع
الداعية إلى النماء والعطاء والبذل والتضحية.
ثم إن المسلم الداعية الذي لم يعرض نفسه للجهاد لا يدري عن مقدار إيمانه
الذي بين جنبيه، إذ أن الجهاد فضحٌ للمنافق حيث قال المصطفى -عليه الصلاة
والسلام-: (من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من
شعب النفاق) .
والله -جل وعلا -يقول: [وَلَو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِن كَرِهَ اللَّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ] ، ولقول سبحانه: [إلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذَاباً أَلِيماً ويَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ... ] الآية.
فهل كل القاعدين عن الجهاد من الدعاة سالمين من مقتضى هذه الآيات.
ومن العجيب أن بلاداً مثل سويسرا (وهي الدولة المحاطة بالأمن من جميع
الجهات) يفرض على الفرد الذي يتراوح عمره بين الخامسة عشرة والخامسة
والأربعين الالتحاق بدورة تدريبية عسكرية مدتها قرابة الثلاثة أسابيع يعيدها سنوياً
وبشكل مستمر. بحيث يستطيعون خلال ساعتين (وعددهم لا يتجاوز الستة ملايين)
تحضير جيش مسلح قوامه ستمائة ألف مقاتل. أليس الدعاة أحق منهم بهذا الإعداد؟
ومن الخطأ الشائع: ما ذكره لي أحد العلماء الأفاضل من أن الإعداد العسكري
يمكن أن يتم في حالة نشوب الحرب، وأنه حيثما كانت الحرب وجدت معسكرات
التدرب والإعداد، وأقول لشيخنا الفاضل الحبيب: ترى لماذا لم يفكر السويسريون
بهذا المنطق؟ .
إن الإعداد العسكري للجهاد في وقت قصير من السنة لن يؤثر مطلقاً على
سير الدعوة وطلب العلم الشرعي، بل ولا على الأعمال والوظائف.
كما أن الإعداد المستمر للجهاد لا يقتضي مطلقاً الحماس غير المنضبط والذي
يؤدي إلى النكسات المتوالية للدعوات.
ثانياً: علاقتنا بالتيار الجهادي:
1- التيار الجهادي متكون من الشباب المتحمس الراغب في بذل نفسه لله
ينقصه العلم الشرعي، ولكنه قابل تماماً للتوجيه والإرشاد والتعليم، فمن الواجب
علينا أن نستفيد من هذه الطاقات الهائلة ونوجهها التوجيه الصحيح. لقد رأيت أحد
الشباب يستمع إلى شريط لأحد المشايخ ويقول لي: هذه رابع مرة أستمع فيها إلى
هذا الشريط، فقلت في نفسي: ترى لو كان الشيخ بينهم كم سيكون تأثيره فيهم؟
2- هذا التيار الجهادي يشعر بالنفور ممن يثبطون عن الجهاد في أفغانستان،
ولهذا سيعرض عن الإقبال على الأفكار والمحاضرات الدعوية؛ لأن أصحابها لا
يحثون على الجهاد، وبهذا نكون قد وضعنا عوائق بيننا وبين هذا التيار.
3- إن الإعراض عن الشباب المجاهد القاصر في علمه الشرعي يؤدي إلى
أن تتلقفه الأفكار المبتدعة ومناهج الخوارج؛ فتتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال،
وإذا تبنى هذا الشباب المتحمس مثل هذه الأفكار وتلك المناهج فلا تسأل عما يحدث
بعدها من الفساد.
كلمة أخيرة:
هذه الملاحظات المكتوبة ممن يعرف قدر نفسه إنما نشأت من قلب محب يشهد
بفضل من وجهت لهم وسبقهم في البر والتقوى.
وإن لهم على الأمة فضلاً لا ينكره إلا الجاحدون، فهي ليست إلا من قبيل
قول القائل:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام(41/99)
الصفحة الأخيرة
تجربة شخصية مع شريط
حسن القارئ
ذكر صديقٌ لي يوماً تجربة مرت به، فقال: (توقفت يوماً أستمع لشريط
حول أزمة الخليج.. والقضية هنا ليست الأزمة.. وانما تجربتي مع الشريط.. لقد
علمت أن المتكلم من اتجاه إسلامي آخر.. ولكن لم يؤثر ذلك فيَّ كثيراً، وإن كان
حماسي لم يعد كما كان في البدء قبل معرفتي لانتماء المحاضر.. (وهي ظاهرة
ينبغي للمسلم مجاهدة نفسه على الحق فيها، لأن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى سمعها
أخذها واستفاد منها) .. إلا أنني استمعت إلى الشريط.. وكانت تدور في نفسي
أمور عجبتُ لها.. لقد كنت أستمع بذهن متحفز ناقد أكثر من ذهن مهيأ للتلقي
والاستفادة.. فكنت كلما ذكر أمراً.. قلت في نفسي: هذا أمر ليس فيه جديد!
وذاك أمر كان ينبغي أن لا يقوله بتلك العبارة.. والحديث الذي ذكره في الموضع
الفلاني حديث أظنه ليس بصحيح. وهكذا انتهى الشريط وخرجت بانطباع: أن ما
قاله لم يكن صالحاً بالدرجة الكافية لتبنيه ونشر الآراء التي وردت فيه.. ولأهمية
الأمر سأضرب مثالاً تفصيلياً ورد في الشريط وكان لصاحبنا جولات ذهنية ونفسية
معه.. أورد المحاضر بعض التصريحات والتحليلات جزم صاحبنا حينها أنه قرأها
في مجلة إسلامية صدرت قبل تاريخ كلامه.. يقول صاحبنا: (فقلت مشمئزاً: لِمَ
لَمْ ينسب هذه التحليلات إلى أصحابها.. إن هذا الفعل ليس من الأمانة مطلقاً)
(وكانت المجلة التي يظن صاحبنا أن المحاضر أخذ منها التصريحات والتحليلات
مجلة تمثل اتجاهاً ينتمي إليه أو يتعاطف معه) .. وزاد الأمر سوءاً حينما سمعه وهو
يردد - عقب ذلك - رأياً لأحد المثقفين غير الإسلاميين، ومن ثم ينسب المقالة إليه
باسمه، بل ويضيف أنه أحد المثقفين اليساريين الذين لديهم تمكن في المتابعات
والتحليلات السياسية..
هناك احتمالاً أن المحاضر قد لا يكون كما ظن صاحبنا،.. لكنه لو ثبت أنه
تجاهل ذكر المجلة الإسلامية لأنها تمثل اتجاهاً آخر، ونوه بذكر رأي اليساري
بنسبته إلى صاحبه فقد وقع في ظلم عجيب.(41/104)
صفر - 1412هـ
أغسطس - 1991م
(السنة: 6)(42/)
الافتتاحية
ولا تهنوا ولا تحزنوا..
ليس أضر على الدعوات من أن يتسرب اليأس إلى أفرادها، أو يصيبهم
الوهن والضعف بسبب محنة أو ابتلاء، فهذا مرض قاتل حذر الله المسلمين منه بعد
غزوة أُحُد فخاطبهم قائلاً [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
[آل عمران: 139] ، فإن من سنة الله في الدعوات أن تنتصر وتنهزم، وتُبتلى
بالمصائب ونقص الأفراد والأنفس؛ لتكون دروساً قاسية يتعلم فيها المسلم أشياء لم
يكن ليتعلمها بالوعظ والكلام.
لقد ابتليت الدعوات في هذه الأيام بتسلط الظالمين المفسدين يؤُزّهم من ورائهم
شياطين الإنس من كل ملة ودولة، بل إن المتتبع لما يجري على الساحة في أنحاء
العالم الإسلامي لَيجد تصميماً عجيباً على إقصاء الإسلام وإبعاده عن الفعل والتأثير، ويقابل ذلك دعوات مخلصة ولكن مع تفرق في الصف الإسلامي وضعف في
الأخذ بالسياسة الشرعية المناسبة لكل حدث ومعرفة سنن الله في التغيير.
وقد علَّمتنا دروس التاريخ القديم والحديث أنه بعد الفتن والمحن يخرج
أصناف من الناس إذا عرفنا توجهاتهم فلعلنا نخرج بأقل الخسائر.
هناك صنف من الناس سيصاب بإحباط شديد وبصدمة عنيفة، فهو لم يتوقع
أبداً ما يحدث ولم يُعد للأمر عدته، ولم يتعود إلا على سماع الأخبار التي يحبها،
ذلك لأنه عاطفي خيالي، فهو يرى أن دولة الإسلام قاب قوسين أو أدنى لما يرى
من كثرة المقبلين على هذا الدين ولما سمع من أن الإسلام قادم (وهو قادم بإذن الله) ، هذا الصنف لا ينقصه الإخلاص ولكن تنقصه التجربة والوعي العميق بتاريخ
الدعوة وتاريخ الدول، وأسباب النجاح والفشل.
وسيخرج صنف يفكر تفكيراً معوَّجاً، سيقول: لا فائدة من الدعوة والعمل
والكلام ... ولا يحل المشكلة إلا القوة، فهذا في الظاهر شجاع ولكن في الحقيقة
يقوم بعملية هروب، ولكنه هروب إلى الأمام! ، وهو صنف لا يملك في الغالب
الفقه العلمي والعملي، وتاريخنا الإسلامي في القديم والحديث يعلمنا أنه قد نبتت
نابتة مثل هذه عقب الفتن وعدم وضوح المنهج أو عندما لا تُدرأ الفتن بالسنن
الربانية.
وصنف ثالث مخالف تماماً للصنف السابق، إنه في الطرف الآخر، فهو يرى
أنه لا داعي إلى التضحيات والعمل الدعوي والتعاون مع إخوانه في سبيل الحق،
فالقضية تحتاج إلى نفس طويل، وعودة إلى الكتب والقراءة من جديد والفكر،
والحوار، وعدم العنف (والجهاد - عند هؤلاء - عنف!) ، وهذا الكلام ظاهره
فيه شيء من الحق وباطنه الهروب من الاستمرار والمواجهة.
إن العودة للنقد الذاتي والتعمق في فهم أخطاء الماضي شيء طيب، ولكن هذا
الصنف - مثل المرجئة - إنما يريد الهدوء وراحة البال.
وسيظهر صنف ر ابع هو من أخطر هؤلاء، هذا الصنف كان يكتم حب
الظهور والرئاسة لأن الوقت غير مناسب أو كان مندساً بين الصفوف، وقد لاحت
الآن الفرصة ليتقرب من أصحاب الشأن، ويقدموا له فتات الموائد، وإن من فوائد
المحن وحِكم الابتلاء ظهور مثل هذا الصنف حتى تتمحص الصفوف ويُعرف
الكاذب الدعي من الصادق المخلص.
سيبقى أعداد كثيرة - بإذن الله - على الحق سائرون، لا يضرهم ضعف أو
تخاذل أو إظهار الشماتة والحقد، ونقول للذين تسرب اليأس إلى قلوبهم: إن هذا
الأمر لايتم إلا بالصبر والمصابرة والرجاء بنصر الله ووعده الأكيد، ومن أكبر
أسباب الظفر ذكر الله والثقة به؛ قال تعالى: [واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [الجمعة: 10] ، قال المفسرون: (وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن
ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً، وأكثر ما يكون هماً وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك) ،
ومن أكبر أسباب الظفر معرفة سنن الله في التغيير، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر؛ لأن أعداءهم لا يفقهون [وإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لاَّ يَفْقَهُونَ] [الأنفال: 65] وهذا يعني أنه من المفروض على المسلمين فقه أسباب
النصر والاستعداد له من الناحية المعنوية والمادية، وقد جاء في القرآن على لسان
موسى - عليه السلام - عندما أراد أن ينقذ قومه من بطش فرعون [قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ] [الأعراف: 128] ، فهذه الأرض لله وليست رهن تصرف الظالمين
وأنها تدوم لهم بل سنة الله أن يسلبها منهم عندما يتقي المؤمن أسباب الضعف
والهلاك، واليأس من روح الله ويتقي التخاذل والتنازع، ويعمل بضدها من
الأخلاق الإسلامية من الاستعانة بالله والصبر على المكاره، ويتفقه بسنن الله في
التغيير وتأثير العقيدة والاجتماع للتمكين في الأرض.(42/4)
علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية
(3)
المتديّنون والمرض العقلي
د. أحمد إبراهيم خضر
عرضنا في الحلقة الماضية للاعترافات الصريحة لعلماء الاجتماع في بلادنا
عن فشل وإخفاق التحليلات والتفسيرات الماركسية عن الصحوة الإسلامية كقولهم
بارتباط الدين بالتراجع والتقهقر، وارتباط العقلانية بالصعود والتطور، وقولهم
بزوال ما يسمونه برجل الدين بسبب القدوم المظفر والمنتصر لرجل التقنية،
وقولهم بأن الصحوة الإسلامية نتجت عن عدم نضوج التركيبة الطبقية العربية ثم
اعترافهم بأن نظرية الصراع الطبقي مسؤولة عن الدمار الذي يتخبطون فيه،
واعترافهم كذلك بعدم ارتباط ظهور الجماعات الإسلامية بانحطاط وتدهور الظروف
الاقتصادية والاجتماعية أو تطورها.
ونتناول في هذه الحلقة قضية اتهام رجال الاجتماع لشباب الجماعات
الإسلامية بأنهم مرضى عقليون ويمثلون شخصيات مريضة.
لرجال الاجتماع في بلادنا مقولات تثير الدهشة والاستغراب منها ما يدل على
دهاء ومكر شديدين كقول (عضيبات) الذي أشرنا إليه في الحلقة الماضية - بأن
التيارات الوطنية والليبرالية واليسارية والقومية محاصَرة في مجتمعاتنا، وأن هناك
تضييقاً على دعاتها وتنظيماتها، وأن الساحة شبه خالية أمام الحركات الدينية التي
سيملأ فكرها وتنظيماتها الفراغ القائم. [1]
ومنها ما يدل على سطحية وسذاجة تفُوق الحد، يقول سمير نعيم (أستاذ
الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة) بأن الجماعات الإسلامية جزء من مخطط
إمبريالي صهيوني تسانده قوى إقليمية ومحلية تهدف إلى ضرب التماسك الاجتماعي
وتفسيخ المجتمع من جهة وتكريس تخلفه تدعيماً لتبعيته من جهة أخرى. [2] رغم
أن أبسط الحقائق تقول إنه لا خطر أشد على الإمبريالية والصهيونية والقوى
الإقليمية والمحلية من الصحوة الإسلامية وحركاتها وجماعاتها.
وحقيقة الأمر أن الموقف العدائي لرجال الاجتماع في بلادنا من الصحوة
الإسلامية يرتبط ارتباطاً لا ينفصم بموقفهم العدائي من الدين.
الدين - كما يراه رجال الاجتماع في بلادنا - (وهم) و (خيبة أمل الزمن
الراهن) و (رد فعل سلبي للضمير الجمعي) و (عصاب نفسي) و (مأوى لموت
بطيء) ! . [3]
طالب رجال الاجتماع في بلادنا علناً وبلا حياء ترك الاعتقاد بالدين. يقول
علي الكنز أستاذ الاجتماع بجامعة الجزائر: (قبل كل شيء علينا ترك الاعتقاد
بالدين لأنه لم يبرهن على أن الدين أصبح بمثابة رؤية للعالم أو فهو وظيفة عكسية
للتطور التاريخي والاجتماعي) [4] أما هؤلاء الذين يدخلون في دين الله من خارج
مجتمعاتنا - في الوقت الذي يخرج رجال الاجتماع منه - فهم في نظرهم أفراد
منعزلون ولهذا فالإسلام عندهم لم يظفر بمسلمين جدد والصحوة الإسلامية بناءً على
هذا التصور نوع من التراكم المكثف للتجربة الإسلامية شأنها شأن تراكم رأس
المال [5] وكما أشرنا من قبل فإن أحد الأسباب الرئيسية لكراهية رجال الاجتماع في بلادنا للصحوة الإسلامية هو رفض هذه الصحوة المفاهيم الجديدة إجمالاً منظومة الحداثة ورفضها للعقلانية كنمط للتفكير وكمشروع مجتمعي كما أشار إلى ذلك (الهرماسي) أستاذ الاجتماع بالجامعة التونسية الذي اعترف بفشل هذه المفاهيم في قوله: (.. لا لسبب إلا لأنها فشلت في بعض الميادين) [6] .
هؤلاء الذين يقولون إن الجماعات الإسلامية جزء من مخطط إمبريالي
صهيوني ورموا هذه الجماعات بالتطرف اشتقوا تعريفاتهم للتطرف من كُتاب يهود
كتبوها في قواميس ودوائر المعارف الفلسفية وأضفوا عليها الطابع العلمي، ولهذا
كان التمسك والالتزام بالدين أو العودة إليه - كما اعتبره رجال الاجتماع العرب نقلاً
من كتاب يهود مثل (روزنتال ويادين) - جموداً عقائدياً وانغلاقاً عقلياً. وهذا هو
التطرف عندهم الذي اعتقدوا أنه جوهر الفكر الذي تتمحور حوله كل الجماعات
الإسلامية التي هي الآن وبناءً على هذا التصور جماعات متطرفة. [7]
وطبقاً لتعريفات الكتاب اليهود عن التطرف فإن رجال الاجتماع في بلادنا
يرون أن الشاب الذي لا يقبل معتقداً غير الإسلام والذي يعتقد أن الإسلام صادق
صدقاً مطلقاً وأبدياً وأنه صالح لكل زمان ومكان وأنه لا مجال لمناقشته والبحث عن
أدلة تؤكده أو تنفيه، هذا الشاب الذي يرى أن المعرفة كلها بمختلف قضايا الكون لا
تُستمد إلا من عقيدة الإسلام والذي يدين كل عقيدة تخالف عقيدة الإسلام هو (شاب
متطرف) ! . ومن ثم كان الالتزام بالإسلام وتعاليمه تطرفاً لأنه - كما يرى سمير
نعيم - حنين إلى الماضي وعودة إلى الوراء، ومنحًى رجعي يجر العلاقات
الاجتماعية إلى أوضاع بالية لا تتناسب مع تقدم العصر. هذا هو الإسلام في نظر
رجال الاجتماع. [8]
أما الحجاب (الذي شرعه الله تعالى) والنقاب واللحى والجلابيب القصيرة
(التي في بعضها اتقاء للفتنة والتزام بسنة رسول - الله صلى الله عليه وسلم -)
وكذلك منع الاختلاط والمناظرات بين الإسلام والنصرانية فهي عند - سمير نعيم -
مظاهر سلوكية تعبر عن التطرف [9] . لكن التبرج وحلق اللحية وارتداء الأزياء
الأوربية بمختلف تقاليعها والاختلاط بين الرجال والنساء وسيادة النصرانية وعبادة
الصليب والتثليث على الإسلام فهي عين الاعتدال عنده.
أما أشد مقولات رجال الاجتماع إثارة للدهشة والاستغراب فهي وصفهم لشباب
الجماعات الإسلامية بأنهم يمثلون شخصيات مريضة وأنهم مرضى عقليون يعانون
من الجنون الدوري أو جنون الاضطهاد والعظمة على حد تعبيرات سمير نعيم. [10] ...
وتمسك هذا الشباب المتدين بتعاليم الإسلام المتعلقة بالمرأة - عند سمير نعيم - مرض عقلي يعاني أصحابه من أوهام حيوانية الرجل وشهوانيته تجاه المرأة
وأنهم - أي هذا الشباب - يشكُّون في أنفسهم وفي الآخرين، وأن نظرتهم إلى
المرأة تُسقط ما في أنفسهم من مشاعر شهوانية مكبوتة ومشاعر دونية وعدم ثقة
بالنفس. [11] بهذه الأوصاف الحادة والعنيفة ذات الطابع الفرويدي شن - سمير
نعيم - هجومه الضاري على شباب الجماعات الإسلامية الذين يريدون أن يحفظوا
للمجتمع نقاءه وطهارته، وأن يقفوا في وجه تيارات خطف واغتصاب النساء وفساد
العلاقات بين الجنسين واعتبار المرأة سلعة للعرض والمشاهدة وإثارة المتعة على
الأصعدة كافة من المنزل إلى الشارع إلى الإعلام إلى المجتمع.
إذن ما هو البديل عند رجال الاجتماع في بلادنا إذا لم ينضم الشباب إلى
الجماعات الإسلامية؟ .
هذه هي اعترافات سمير نعيم ذاته عن هذا البديل. يقول سمير نعيم: من
ملاحظة الواقع الاجتماعي وما تنشره الصحف اليومية يتضح ما يأتي:
1- يلجأ البعض إلى الهجرة إلى الخارج هروباً من الضغوط الاقتصادية
والمشكلات الاجتماعية التي يعانونها، وهي بالطبع حلول فردية، ولكن من الثابت
أنها غير متاحة لجميع قطاعات الشباب، فالفقراء منهم عاجزون حتى عن ذلك الحل
الذي يتطلب اتصالات وعلاقات للحصول على عقد عمل في أحد الأقطار العربية
ونفقات سفر لا تتوافر للجميع، والبعض الآخر يظل يحلم بالهجرة كأمل زائف
لمواجهة مشكلاته.
2- يلجأ البعض الآخر إلى ممارسة أعمال غير مشروعة كالاتجار في
المخدرات أو في العملة والرشوة والتهرب.. الخ.
3- يلجأ فريق آخر إلى الجريمة التقليدية أو غير التقليدية حيث تنتشر
سرقات المساكن والسيارات والمحلات التجارية والنصب والاحتيال والاغتصاب
والاعتداء على الأراضي الزراعية وعلى أملاك الغير والدولة.. الخ.
4- يتجه آخرون إلى إدمان المخدرات كحل هروبي انسحابي للمشكلات التي
يعانونها.
5- يصاب البعض - عندما يعجز عن كل من الحلول المشروعة وغير
المشروعة نظراً إلى ما يتمتع به من قيم إيجابية قوية - بالاضطراب النفسي
والعقلي وبالتالي فإن المجتمع المصري يشهد تزايداً في هذه الأمراض. [12]
تُعنى السطور السابقة باعتراف سمير نعيم أن البديل لانضمام الشباب إلى
الجماعات الإسلامية هو الهجرة أو التفكير فيها أو ممارسة الأعمال غير المشروعة
كالاتجار في المخدرات أو العملة أو الرشوة والتهريب أو ممارسة الجريمة التقليدية
أو غير التقليدية أو إدمان للمخدرات.
ونقف قليلاً عند النقطة الخامسة التي تعتبر أيضاً من المقولات المثيرة للدهشة
والعجب، وهي القول بأن القيم الإيجابية القوية التي يتمتع بها الشباب يمكن أن
تؤدي بهم إلى الإصابة بالاضطراب النفسي والعقلي حيث يريد سمير نعيم هنا أن
يثبت أن شباب الجماعات الإسلامية الذي لم يلجأ إلى السلوكيات اللاسوية ولجأ إلى
الدين - مصاب باضطرابات نفسية وعقلية بسبب هذه القيم الإيجابية التي يتمسك
بها لأن رغبة هذا الشباب في العودة إلى نموذج المجتمع الفاضل باللجوء إلى الدين
ما هي إلا هروب من الواقع ورفض له وتعلق بأمل كاذب في الخلاص من
المشكلات التي يواجهها. [13]
الخطأ الفادح الذي وقع فيه سمير نعيم هنا - وهو ربطه بين التمسك بالقيم
الإيجابية والإصابة بالاضطرابات النفسية والعقلية طعناً في شباب الجماعات
الإسلامية - كشف وشهد به عن أن معلوماته في علم النفس وتشخيص الاختلالات
العقلية وقفت عند حدود الخمسمينيات. لم يطَّلع سمير نعيم على جهود جمعية الطب
النفسي الأمريكية (A. P. A) التي بدأت منذ عام 1983 في محاولة طموحة
مثيرة الجدل للإسراع بتطوير علوم وتشخيصات الأمراض العقلية لإعادة تنقيح
كتيبها عن هذه الأمراض، وقد أثمرت هذه الجهود بإصدار كتيب جديد في عام
1980 شارك في إعداده المئات من العلماء والمهنيين في ميدان الصحة العقلية.
ويعرف هذا الكتيب (بالوجيز التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية - الطبعة
الثالثة) ويشار إليه اختصاراً (D. S. M. 111) . ويعتبر هذا الكتيب تطوراً
عظيماً في حقل التصنيف والوصف العلمي لهذه الأمراض، وكان له أكبر الأثر في
علاج مختلف أنواع الاختلالات العقلية. الذي يهمنا في شأن هذا الكتيب - الذي لم
يتابع سمير نعيم مراحل تطوره فاتهمَّ شباب الجماعات الإسلامية بالتطرف
وبالاختلال العقلي - هو هذا الإسهام الذي اعتبره المختصون في هذا الميدان من
أعظم اكتشافاتهم وهو (الفصل بين الأمراض العقلية والسلوكيات) تلك التي جدد منها
الكتيب مباشرة وبوضوح (سلوكيات التطرف) التي يرى الكتيب أنها مشتقة من
المعايير المجتمعية وليست ناتجة بالضرورة عن الأمراض العقلية. [14] فماذا
عسى أن يقول سمير نعيم بعد ذلك؟ .
نسجل بعد ذلك على سمير نعيم شهادته واعترافه بأصالة القيم التي يحملها
شباب الجماعات الإسلامية، واعترافه أيضاً بأن التجاء هذا الشباب إلى الدين حماه
من الدمار الشامل الذي أصيب به غيره من الشباب:
أولاً: يعترف سمير نعيم بأنه بالرغم من أن شباب الجماعات الإسلامية يعيش
في مناطق تعاني من التخلف والفقر والحرمان من إشباع الحاجات الأساسية،
وبالرغم من انسداد طرق الهجرة أمامهم لصغر سنهم وقلة خبرتهم وعجزهم عن
توفير مصاريف السفر وعدم الحاجة إليهم في البلاد النفطية، وبالرغم من صعوبة
إمكانية حدوث أي تغيير في أوضاعهم وأوضاع أسرهم وقراهم، وبالرغم من أنهم
يخبرون الفقر والمعاناة طوال سِنِي حياتهم مع مشاهدتهم للتفاوت الهائل في حظوظ
البشر في مصر واختلال توزيع الثروة بها لصالح الأغلبية الميسورة، بالرغم من
كل ذلك فإن القيم التي يتمتع بها هذا الشباب منعته من الانخراط في الأعمال
الإجرامية وغير المشروعة واللاأخلاقية. [15]
هذا ويحاول سمير نعيم جاهداً أن يربط بين انضمام الشباب إلى الجماعات
الإسلامية وبين حالة الفقر والحرمان والمعاناة التي يواجهونها، ولما وجد أن
افتراضاته ستسقط بوجود شباب ينتمي إلى أسر ميسورة الحال من بين شباب
الجماعات الإسلامية فسر ذلك بقوله: (.. وفي رأينا أن هؤلاء جميعاً - مهما
ارتفعت دخولهم -فهم يعتبرون من ذوي الدخل المحدود (موظفي حكومة) ويعانون
أيضاً الإحباط بفعل التضخم وارتفاع الأسعار والتطلعات الطبقية والاستهلاكية
والتفاوت الاجتماعي الحاد) أي أنه أرجع انضمام هذا الشباب إلى الجماعات الإسلامية إلى تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما أبطلناه في الحلقة الماضية. لكنه اعترف هنا مؤكداً أصالة القيم التي يتمتع بها هذا الشباب فقال:
(.. وامتناعهم عن مسايرة دروب الفساد المختلفة كالرشوة والاختلاس.. الخ استناداً
إلى ما يتمتعون به من قيم أصيلة.) [16] .
ثانياً: اعترف سمير نعيم بأن الالتجاء إلى الدين كأسلوب لمواجهة المشكلات
الشخصية والمجتمعية دون غيره من الأساليب اللاسوية التي أشار إليها - هو حماية
من الدمار الشامل.. يقول سمير نعيم: (إن اللجوء إلى هذا الأسلوب لمواجهة
المشكلات الشخصية والمجتمعية دون غيره من الأساليب السابق ذكرها إنما هو -
في رأينا - وسيلة دفاعية لحماية الذات من الدمار الشامل وذلك باللجوء إلى
المخدرات أو الجريمة أو الجنون أو الفساد) . [17]
إلا أن عداء سمير نعيم للدين جعله يصور التسلح بالتعاليم الدينية مصيدة
دمار للشباب وللمجتمع [18] وجعله يرى أن المساجد تقوم بأدوار تضليلية. [19]
هذا وقد كشف رجال الاجتماع عن خشيتهم من أن يتسبب نمو وتعاظم التيار
الإسلامي في مصر إلى أن تتحول مصر إلى مجتمع يسوده الطابع الإسلامي،
خاصة بعد أن لاحظوا تأثر العاملين المصريين وأبنائهم في السعودية بهذا الطابع
الإسلامي الذي يحملونه معهم إلى مصر بعد عودتهم. هذا، وعبر رجال الاجتماع
عن عدائهم الصارخ لهذا الطابع الإسلامي على النحو التالي، يقول سمير نعيم:
(ومن اللافت للنظر حقاً المقابلة بين اتجاه حركة التيار الإسلامي المتطرف
أو حتى المعتدل في الفترتين، ففي الفترة الأولى تحركت هذه الجماعات وتلك
الاتجاهات إلى خارج مصر فهرب أعضاؤها أو لجأوا إلى أقطار عربية وبخاصة
السعودية فاتسمت تلك المرحلة بطرد هذه التيارات. وفي الفترة الثانية تحركت هذه
التيارات والجماعات من الخارج إلى الداخل فجاءت ومعها (أكثر التيارات رجعية
وتطرفاً من تلك المناطق العربية) إلى داخل مصر فاتسمت هذه المرحلة بالغزو
والتغلغل والجاذبية الداخلية) . [20]
ويعتبر رجال الاجتماع أن الطابع الإسلامي طابع غريب عن المجتمع
المصري وليس أصيلاً فيه، ولهذا فهم يخشون من تأثير الطابع الإسلامي الذي
يحمله العائدون المصريون وأبناؤهم منها على الأسر والأبناء الذين لم يذهبوا أصلاً
إلى السعودية، فينتقل إليهم هذا الطابع عبر التداخل الأسري، وتقديم النماذج
السلوكية.
يقول سمير نعيم: (ومما لا شك فيه أن الآباء أنفسهم الذين يذهبون إلى
الأقطار العربية يعودون وقد تشبعوا هم أنفسهم باتجاهات دينية كانت غريبة عنهم
وعلى المجتمع المصري بما يتبع ذلك من نماذج سلوكية جديدة ولا تنعكس تأثيرات
ذلك على أسر المهاجرين وحدهم بل تمتد لتشمل أسر غير المهاجرين أيضاً. ومن
خلال ما يعقده أفراد الأسر الأخيرة من مقارنات بينهم وبين أفراد الأسر المهاجرة
وما يقدم أعضاؤها من نماذج اتفاقية وسلوكية من جهة ومن خلال التداخل الأسري
من جهة أخرى) . [21]
* يتبع *
__________
(1) عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإسلامي، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة، بيروت، 1990، ص155.
(2) سمير نعيم أحمد، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 98.
(3) علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص98.
(4) تابع ص105.
(5) تابع ص91.
(6) عبد الباقي الهرماسي، علم الاجتماع الديني، المجال والمكاسب والتنازلات، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص30-31.
(7) سمير نعيم، تابع ص217.
(8) تابع ص218-229.
(9) تابع ص218-229.
(10) تابع ص218-229.
(11) تابع ص218-229.
(12) تابع ص218-229.
(13) تابع ص218-229.
(14) Josef Julian and William Kamblum,Social Problems,Practice,Hell Inc ,New Jersy,1982,P48.
(15) سمير نعيم، تابع ص229.
(16) تابع ص230-237.
(17) تابع ص230-237.
(18) تابع ص230-237.
(19) تابع ص230-237.
(20) تابع ص230-237.
(21) تابع ص230-237.(42/7)
شعر
إلى الحبيبة الغائبة
مصطفى بكري السيد
(1)
حبيبتي مشغولة بالحب والمحَار
حاضرة حاضرة بوجهها المُعار
منفيّة عن يومها وفجرها الجديد
مقهورة بوأْدها في عشها البعيد
(2)
وكلما تدانت البروق والرعود
وأثقلت بغيمها وخصبها الموعود
وأوشك العشاق أن يجاوزوا الحدود
تسارعت معاول الظلام والوغود
وأُذبلت أحلامهم تذابل الورود
(3)
حبيبتي تنافس الجمال والربيع
وترتدي لعرسها وحلمها البديع
... ... ... ملابس القِيَان والإماء
... ... ... وتترك الحرير والفراء
... ... ... معلقاً بمشجب الزمان
(4)
... ... ... حبيبك المولّه المحزون
... ... ... يواجه الشكوك والظنون
تتابعت من عمره القرون
يعايش الهموم والصعاب
ويرقب النجوم والسحاب
ويرتجي من رحلة الغياب
أن يحتفي بعرسه وحلمه القديم
فوق تخوم المجد والهضاب
(5)
حبيبك لن يسأم الوعود
حبيبك لن يهجر الوجود
سيقهر الوشاة والأُسود
وينثر الزهور والورود
لعرشك وعزك الموعود(42/16)
في إشراقة آية
[وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ..]
يقرر المتخصصون في علوم الأحياء والسلوك ووظائف الأعضاء أنه - وفي
كثير من الأحياء - يفوق الإحساس بالألم جميع الأحاسيس الأخرى، مثل الإحساس
بالجوع والعطش والمتطلبات العضوية الأخرى.
بمعنى آخر، أن هذه الأحياء قد يوقفها الألم عن طلب ما تسد به جوعها
وعطشها حتى عند الضرورة، يقررون ذلك بناءً على عدد كبير من التجارب على
حيوانات مختلفة وحتى الإنسان. وعادة ما تتم هذه التجارب بوضع حاجز يسبب
ألماً شديداً للكائن الحي عند محاولة اجتيازها للوصول إلى الطعام والشراب. فقد
لوحظ أن كثيراً من هذه الأحياء تتردد كثيراً قبل اجتياز هذه الحواجز، وقسم كبير
منها أدى به الجوع والعطش إلى محاولة هجر المكان تخلصاً من هذا الضغط
العضوي، وعند الفشل بمغادرة المكان، قد يقرر الكائن الحي اجتياز الحاجز
وتحمل الألم في سبيل سد هذه الحاجة العضوية المهمة. في حين أن هناك قسماً من
الأحياء تصل به عدم القدرة على تحمل الألم إلى الموت.
نفهم من هذا السلوك أمراً مهماً هو أن أي مطلب أو حالة عضوية تؤدي
بالكائن الحي إلى تجاهل أو تحمل الإحساس بالألم فلابد وأن يكون ذلك المطلب أو
تلك الحالة العضوية من القوة بحيث تعطل، ولو مؤقتاً، أو تقلل - على أفضل
تقدير - إحساس الكائن الحي بالألم.
وفي تجربة شخصية على عدد من الأحياء البحرية، وُجد أنها تتوقف تماماً
عن تناول الغذاء في حالة حصول عطب شديد. أو لا عادي في الظروف المحيطة
بالأحياء. وقد يتوقف الكائن الحي عن القيام بعدد غير قليل من الوظائف العضوية
تؤدي به إلى الموت التدريجي إذا زاد العطب والفساد في المحيط من حوله.
ونظرة تفكر فيما تقدم وفي قوله - تعالى - يصف حالاً مشابهاً لحال الأحياء
التي تتجاوز مرحلة الإحساس بالألم للحصول على شيء أكثر أهمية، أو قل أكثر
إلحاحاُ، هو قوله - عز من قائل -: [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ]
[يوسف: 31] ؛ إذ تشير الآية إلى واقع حال تجاوز فيه الإحساس بمطلب معين (وهو هنا الانبهار برؤية النبي يوسف - عليه الصلاة والسلام -) الإحساس بألم قطع اليد، هذا الألم الذي يعرف الجميع ضرورة شدته بسبب تركز خلايا الحس في هذا الجزء من الجسم. إذاً فقد أدى ذلك المؤثر إلى تعطيل إحساس النسوة بألم قطع السكين ولو جزئياً..
والواقعة - كما هي معروفة من القرآن في سورة يوسف - تخبر عن
مراودة امرأة العزيز لفتاها المملوك عن نفسه. تلك المراودة التي خطط لها أحسن
تخطيط وتحرز لها كل الحرز على أن تتم بدون علم بشر [وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وقَالَتْ
هَيْتَ لَكَ] [23] ولكن خبر المراودة والمحاولة انكشف بإرادة الله واطلع عليه مَن
اطلع داخل البيت وخارجه. فطار الخبر للخارج - من غير جهة يوسف عليه
السلام - بسرعة حتى أن نساء المدينة أصبحن يلُكن وينقلن الخبر في كل مكان
ومجلس [وقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُباً]
[30] ؛ حتى رجع الخبر إلى مصدره الأصلى الذي بُهت فيما يبدو من عظم ما
يُحاك من مكر في الخارج [فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ] [31] ، وكأن حال لسان نسوة
المدينة يقول إننا لا نجد لها عذراً؛ فهي مَن هي مركزاً ومقاماً وجاهاً، وأنه لابد
وأن يكون قد أصابها شيء إذ تفعل ذلك [إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [30] ، أي
أننا لنستقبح منها ذلك الفعل، فما كان من امرأة العزيز إلا أن صممت أن تجرب
بهن نفس السلاح الذى عطل عندها أو أفقدها الإحساس بكل القيم العليا. وفيما يبدو
من سياق الآيات الكريمة أن امرأة العزيز لم تزل قادرة على مراودة يوسف - عليه
السلام - والخلوة به مع علم زوجها، الذي كان قليل الغيرة أو عديمها، ولهذا لما
اطلع على مراودتها أول مرة قال [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ
كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ] [29] ، فلم يعاقبها ولم يفرق بينهما، وهو كان له دور في
تيسير دعوة يوسف للفاحشة من قبل نسوة المدينة. وكان أن كانت نتيجة التجربة
أنهن قطعن أيديهن بسبب الرغبة الجنسية التي فاقت إحساسهن بالألم، تلك الرغبة
الجماعية منهن جميعاً والتي بيَّنها يوسف - عليه السلام - في قوله (تعالى) [وَإلاَّ
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ] [33] ، وقوله [ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ
النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ] [50] ، فهن قد راودنه عن
نفسه لأنفسهن ولامرأة العزيز!
سبحان الله! ، إن رؤية الرجل الحسن مؤثر عظيم القوة عطل لدى المرأة
الإحساس بالطهر والعفاف وكل معايير إكرام المثوى وحسن الضيافة وحفظ الزوج
وحقوقه. هل يبقى شك بعد هذه الآيات بخطورة الاختلاط وعدم غض البصر؟ هل
يبقى بعد هذا تساؤل عن المقصود من قوله - تعالى -: [وقُل لِّلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ
مِنْ أَبْصَارِهِنَّ] [النور: 31] ، أو قوله [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ]
[النور: 30] ، أو قوله - عز من قائل عليم -: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ...
وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ]
[الأحزاب: 59] .
ومن فوائد هذه الآيات من سورة يوسف أن الله - تعالى - يروي للأمة
تفاصيل قصة حصلت في السر أو هكذا خُطط لها بصورة فردية أعقبها فتنة عظيمة
على مستوى نساء المدينة وبصورة علنية وعامة. وقد بلغت السرية كمالها عند
إغلاق الأبواب والتي كانت سبعة أبواب (القرطبي) ، حيث الإرادة أن يتم المنكر
معها وحدها، لكن إرادة الله شاءت أن يطلع على ذلك الشهود وزوجها ونساء المدينة
وكأنه - تعالى - أراد لهذا الدرس عنواناً آخر هو أن مَن يهتك الستر الذي بينه
وبين الله يهتك الله السر الذي بينه وبين الناس وأن من يتقِ الله يجعل له مخرجاً.
هذا ليعلم أن الفتنة والمكر قد يبدأ بصورة فردية أو حالة سرية هنا وأخرى
هناك أو تساهل في مسألة ومسامحة في أخرى، ولكن شر الفتنة لابد أن يعم
المجتمع جُله إما بصورته المباشرة، كما هو في كثير من المجتمعات متمثلة بانتشار
الأمراض التي يعم شرها الصالح والطالح، ذلك إذا لم يؤخذ على يد الفتنة والمكر
من أوله وحال حدوثه، والضابط في ذلك كله الشرع الإسلامي.
ومن الفوائد الأخرى ملاحظة خطورة إهمال البيوت والمجتمعات مما يجلبه
الاختلاط والسفور والتبرج من فتن يمكن أن تعصف بالمجتمعات المسلمة، فإنه من
باب تشابه الميول والطبع بين النساء كما فطرهن الخالق كذلك، فإن ترك باب
الاختلاط والفتنة مفتوحاً على مصراعيه وإهمال الضوابط الشرعية في ذلك سيكون
له - كما كان الحال مع امرأة العزيز - ردود فعل قد لا يسلم منها كثير من نساء
ورجال المجتمع المسلم مما يودي إلى انتشار ما لا يحمد عقباه من أمور تضيع الدين
وتخل ببنيان وحدات بناء المجتمع.
وكطباع الصالحين الذين وقاهم الله السيئات، فإن يوسف - عليه السلام -
عندما تعرض للفتنة، فإنه اندفع ليهجر مكان الفتنة لينجو بدينه وعفته. ونستفيد من
ذلك درساً عظيماً هو أن هجر المكان الذي يشاع ويظهر فيه الفساد - خصوصاً عند
عدم القدرة على ردها أو اصلاحها أو إنكارها عملياً - قد يكون واجباً بحق الكثير
منا. على أن هجر المنكر وداره ليس دائماً مستطاعاً للجميع؛ فإن الطواغيت غالباً
ما تلجأ إلى سد المنافذ [قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ] [25] .
أليس هذا ما يعمله طواغيت اليوم بالصالحين من سد منافذ الهجرة وفتح أبواب
السجون وسد الأفواه والعيون بالأموال والآمال. وأما مَن لم يستبق الباب - وهو
قادر على ذلك ورضي أن يكون في مكان السوء والفحشاء واطمئن من غير أن
يحرك ساكناً وهو قادر على ذلك - فأخشى أن يكون ممن قال فيهم خالقهم [إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ
مَصِيرًا] [النساء: 97] . ولكن حسبنا الله، فحتى من يملك القوة على الهجرة قد سد الطغاة في الأماكن الأخرى أبواب أرض الله الواسعة فسُقط في أيدي الكثير من الصالحين وإلله المستعان.
ثم إن أساليب الطغاة تتجدد ولا تتبدل. فإن نبي الله يوسف - عليه السلام -
لما أنجاه الله من الفتنة الأولى وأظهر طهره وبراءته نصبوا له فخاً آخر أشد قوة
ومعه التهديد بأن يكون من الصاغرين، فما كان منه -عليه السلام - إلا أن قدم
نفسه للسجن [رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ] [33] . وكانت له المكافأة
هناك في السجن حيث قيض الله - تعالى - له جواً مناسباً للدعوة وإيصال دين الله
لمن لم يمكن له - لولا السجن - طريقاً للوصول إليه. ذلك ليعلم طواغيت اليوم أن
تكميم أفواه الدعاة أمر مستحيل حتى داخل الزنزانات والحديد. ولنا في أئمة
الإسلام - بعد رسل الله - أسوة حسنة.
وعودة إلى نبي الله يوسف نلاحظ أنه - عليه الصلاة والسلام - قد حقق كل
مراحل الهجرة، فقد هجر الكفر [إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ
هُمْ كَافِرُونَ] [37] وهجر الكبائر [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ] [23] وهجر الصغائر [قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] [92] .
وفائدة عظيمة أخرى أن وعد الله متحقق بأن يجعل لمن يتقيه رزقاً من حيث
لا يحتسب؛ فهذه براءة يوسف - عليه السلام - تأتي من عدة وجوه وطرق:
فيشهد له خالقه أولاً أنه من عباده المخلَصين وأنه صرف عنه السوء، ويشهد شاهد
من أهلها، وتشهد نسوة المدينة، ويشهد الملك فيما بعد وفيما قبل، ثم هي تشهد
ببراءة ونزاهة نبي الله. فقد سخر الله هذه الجنود لتقدم دليلاً تلو الآخر على حفظ
الله لنبيه وعباده الصالحين عموماً [ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ] [المدثر: 31] ،
ذلك إذا علم الله منهم صدق القلوب ثم كان التمكين في الأرض لدين الله وعباده وهي
الجائزة التي يرجوها كل مَن يشري مرضاة الله.(42/18)
أخلاق
أثر العقيدة في توجيه السلوك والأخلاق
محمد الناصر
إن الإيمان الصادق يصنع الأعاجيب، فمتى استقر في القلب ظهرت آثاره
واضحة في المعاملة والسلوك.
(والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية؛ إذ إنها بمجرد تحققها في عالم
الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج وتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في
عالم الواقع) . [1]
والمسلم إذا تمكنت العقيدة من نفسه تبرأ من المشركين وما هم عليه من عقائد
وأفعال وسلوك، وإذ تخرّج على التربية الإيمانية نموذج فريد من الرعيل الأول،
كانوا قمماً شامخة؛ ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية ومفاتن الدنيا وما فيها من مغريات.
وسارت الأجيال المسلمة تنهل من التربية المثلى التي غرسها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ومن الأخلاق الفاضلة التي لم تتغير من فرد إلى فرد، ولا
من مجتمع إلى آخر بل هي قيم ثابتة تزداد ثباتاً كلما مرت الإنسانية في تجاربها
خلال هذه الحياة.
وهي أخلاق متكاملة تحتضن جميع الفضائل والأعمال الخيرة لصالح الفرد
والمجتمع وني جميع لا الميادين. [2]
وقد يتساءل البعض قائلاً:
ما علاقة العقيدة بالأخلاق؟ ألا يمكن أن يكون للناس أخلاق طيبة بلا عقيدة؟ ! نعم، قد يوجد أخلاق عالية مُثلى كانت عند عرب الجاهلية وعند المجتمعات
غير المسلمة أحياناً ولكن هذا سببه أن النفس تحتجز رصيدها الخلْقي بحكم العادة
والتقليد أمداً طويلاً، بعد أن تكون قد فقدت الإيمان كجزء من العقيدة؟ .. وقد
تحتجزه فترة على وعي منفصلاً عن العقيدة، على أنه شيء ينبغي في ذاته أن يقوم.
ولكن النتيجة الحتمية واحدة في النهاية..
إنه ما دامت العقيدة قد انحرفت فلا بد أن تنحرف الأخلاق أخيراً وما دامت
الأخلاق قد انفصلت عن العقيدة فلا بد أن تموت. وإن هؤلاء المخدوعين - حسبوا
بتأثير الجاهلية - أن التصورات قد تنحرف ثم يستقيم السلوك.
إن هذا وهم من أوهام الجاهلية، لأن هؤلاء الناس قد ضُلّلوا عن حقيقة الشر
الذي يعيشون فيه.. وأن الحياة البشرية ذاتها مهددة بالدمار من ضخامة هذا الشر
وعنفوانه ومن ضخامة تمكُّنه من الحياة الواقعية للناس. [3]
وغاية المسلم الأساسية في أخلاقه، أن يحقق مرضاة ربه، ذلك أن هدف
المؤمن الأول من أعماله كلها هو ابتغاء وجه الله - جل وعلا - فقد أمره - سبحانه
وتعالى - بذلك، وعده بالجزاء الأوفى على أعماله الخيرة يوم القيامة.
قال-تعالى-: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً
يَرَهُ] [الزلزلة: 7-8] .
كما أن المسلم يحقق سعادته في الدنيا؛ يقول - تعالى -: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً] [النور: 55] .
فالسرور ثمرة عملية لمن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والطمأنينة القلبية
والشعور بخيرية الذات وخيرية المصير من ثمرات الانسجام بين الإيمان والأخلاق
وذلك نتيجة طبيعية؛ لأن الإنسان عندما يتصرف بمقتضى عقيدته - فيؤدي
الواجبات كما ينبغي أداؤها ويتجنب المحرمات - يشعر بأنه إنسان خيِّر قوي الإرادة.
ومن يقرأ للملاحدة والكتاب الوجوديين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يعلم مدى ما يعانون من الاضطراب النفسي والقلق والحيرة في أعماقي قلوبهم.
ذلك أن في طبيعة الحياة الإنسانية جانباً لا يُملأ إلا بالإحسان.. وكثيراً ما
يدفع القلق هؤلاء الحيارى إلى محاولات الانتحار. [4]
وإذا تفحصنا العلاقات الاجتماعية في حياتنا المعاصرة نجد أن الاضطراب في
السلوك هو الظاهرة السائدة، وأن الابتعاد عن الاستقامة مما تعج به أكثر المجتمعات
الحديثة، وهذا دليل واضح ومؤشر قوي على ابتعاد الناس - حتى كثير من
المسلمين - عن صفاء عقيدتهم المؤثرة والتزامهم المنضبط بتوجيهاتها.
سوء الخلق دليل على ضعف الإيمان:
ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطاً قوياً، ونلاحظ ذلك في نصوص
كثيرة مثبتة في الكتاب والسنة.
ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [5]
وقوله - صلى الله عليه ومسلم -: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً» . [6]
إن قرن الإيمان بحسن الخلق، والسلوك الرفيع أمر يلفت النظر إلا أن كثيراً
من المسلمين يهملون هذا الجانب أيامنا هذه مع الأسف الشديد.
فبينما كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا آية فيها تكليف سارعوا إلى تطبيقه،
وإذا نزل تحريم لأمر انتهوا عند ذلك من صدق الإيمان وصلابة العقيدة..
وقد عرفنا من كتب السيرة في قضية تحريم الخمر، كيف أسرع المؤمنون
إلى إراقة الخمور في شوارع المدينة المنورة.
وهنا سؤال مهم يطرح نفسه: وهو إذا كان للعقيدة هذا الدور الفعال في توجيه
السلوك. فلماذا لا نرى ذلك الأثر في واقع المسلمين الآن؟ !
إننا نجد البون شاسعاً بين ما يدّعون من عقيدة وبين ما يسلكون ويتصرفون به
في المعاملات والسلوك.
والحقيقة: أن الدعوى شيء والإيمان الحقيقي شيء آخر؛ إذ إن الإيمان
حقيقة وكل حقيقة لها علامة، وعلامة الإيمان العمل به، وإذا دخل الإيمان القلوب، واستقر فيها نبضت بالحيوية، ودفعت النفوس إلى العمل بموجبها..
وهؤلاء ممن [يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] [آل عمران: 167] ؛
لأن معيار صدق الإيمان هو العمل الصالح، والإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه
العمل، والاعتقاد الصحيح يدفع إلى السلوك الطيب. [7]
إن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، فالرجل المعوج
السلوك، الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد [8] يصف الرسول - صلى الله عليه
وسلم - حاله بأنه بعيد عن الإيمان بعيد عن الحياء، يقول - عليه الصلاة والسلام: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال:
الذي لا يأمن جاره بوائقه» [9] ويقول - صلى الله عليه وسلم - تقريراً لهذه
المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق،
وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال: إني مسلم! ، إذا حدث كذب، وإذا وعد
أخلف، وإذا أؤتمن خان» رواه مسلم.
لقد أصبحت الشكوى مريرة لما أصاب الناس في العصور المتأخرة من انهيار
في الأخلاق، واضطراب في الموازين، فالجار يشكو جاره، والأمانة ضاعت بين
الناس، والمراوغة راجت سوقها، والتعلق بمتاع الدنيا فاق كل القيم عند كثير من
البشر، وإنه لخطر عظيم ينذر بالشرور والفوضى، وإن ذلك لدلالة واضحة على
فساد التصور وضعف الإيمان، فظهر بسبب ذلك انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم
الإيمان ومقتضياته.
ومن هنا يلزم الدعاة والمربين أن يتنبهوا لهذا الخطر، وأن يبينوا للناس
حقيقة ما هم فيه، وأن الإيمان الصادق لا يعني حفظ بعض المتون في العقيدة أو
حتى تعلُّمها إذا لم يتمثل المرء أخلاقياتها..
لابد من تمثل العقيدة وتشرُّبها، وأن تتحول إلى واقع عملي في الحياة
والتعامل بين الأنام.. تأسياً بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين
تحولوا إلى نماذج فريدة سلوكاً وإخلاصاً وطهراً.
__________
(1) في ظلال القرآن: 4/2525.
(2) انظر: كتاب (التربية الأخلاقية الإسلامية) ، د مقداد يالجن، ص88- 90.
(3) جاهلية القرن العشرين، الأستاذ محمد قطب، ص94-95 وما بعدها.
(4) انظر الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: د مقداد يالجن (الصفحات: 79، 121، 328) .
(5) هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخارى: 2/155.
(6) صحيح: المستدرك للحاكم النيسابوري 1/53.
(7) التربية الأخلاقية الإسلامية: ص184-185.
(8) انظر: (خلق المسلم) ، محمد الغزالي، ص14-18.
(9) رواه البخاري.(42/23)
خواطر في الدعوة
مَن لهذه المنابر؟
محمد العبدة
رغم الأهمية البالغة لخطبة الجمعة والتي يحضرها المسلمون أسبوعياً، في
أعداد لا تجتمع في غير هذه المناسبة، بل يتمنى أعداء الإسلام جمع عُشر مثل هذا
العدد لينفثوا أباطيلهم، رغم هذا فإنها لم تُعْطَ العناية الكافية من الدعاة: ما هو
الأسلوب الأمثل في مخاطبة الناس؟ ما هي المواضيع المناسبة؟ وكيف نرقى
بالناس إلى فهم دينهم فهماً واعياً؟ كيف نقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً؟ كيف نعالج
مشكلات حياتهم؟ كل هذا يجب أن يبحث ويكتب فيه، فإن غالب الخطباء إما أن
يتكلم بعواطف فائرة دون تبليغ فكرة أو معالجة مشكلة معينة، أو تكون خطبة هادئة
جداً تصل إلى درجة البرود، ومع ذلك فإن هذا الصنف يفتقر غالباً إلى المادة
العلمية القوية.
ومن الظواهر الجلية في الدعوة الإسلامية في هذا العصر أن الخطباء الذين
يملكون الحنجرة القوية والكلمات الطنانة الفضفاضة، استطاعوا صياغة شخصيات
كثير من أصحاب النوايا الطيبة في العمل للإسلام، وكثير من الشباب المتحمس
للدعوة. فأصبحت جموع كثيرة لا تحب التفكير الهادئ المتزن ولا تحب التعمق في
فهم المشاكل والصعوبات، ويكفيها أن تعيش على أحلام الخطب الحماسية التي
تشبع رغبتها.
نحن لا ننقص من قدر العاطفة وأهمية حشد الجماهير؛ فالرسول - صلى الله
عليه وسلم - عندما كان يخطب وكأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم، ولكننا
نريد الجمع بين هذه الحماسة وبين تقديم العلم النافع والفكرة الصحيحة، حتى يجتمع
لنا رأي عام بين صفوف المسلمين يؤيد الدعوة ويحبها ويدافع عنها، نريد الخطيب
المفكر والخطيب المؤثر، نريد الذي يجتمع عنده أصناف الناس من متعلم وعالٍ
وعامي، والكل يرجع وقد استفاد من موعظة قلبية أو فكرة هادفة.
أليس عجيباً أنك إذا زرت مدينة عربية لا تجد في كل المدينة إلا الخطيب أو
الخطيبين، ممن يجتمع علية الناس؟ وتجمع خطبه بين العلم والعاطفة والتأثير
القوي؟ .
هلاّ اعتبرنا بقول أحد زعماء الأحزاب التي تحارب الإسلام في بلادنا: (آه
لو عندي مثل هذه المنابر) ؟ !(42/28)
تراث
تعددت الأساليب.. والعبث واحد!
محمد عبد الله آل شاكر
(1)
لا يزال الكلام موصولاً بما سبق في العددين السابقين عن بعض ألوان العبث
بتراثنا. وإن مما يتصل بالتصرف في النصوص المحققة ونشرها، أن تجد ذلك
مقروناً بخيانة الأمانة وسرقة جهود الناشرين والمحققين السابقين، حيث يقوم ناشر
جديد فيطبع بعض الكتب القديمة بطريقة التصوير عن الطبعة الأصلية ويحذف من
الصورة اسم الناشر الأول أو المحقق أو اسم كليهما، وقد بذل كل منهما جهداً كبيراً
في الحصول على الأصول الخطية التي طبع عنها الكتاب، ثم قام بمقابلة
مخطوطاته وضبط الكتاب وتفصيله.
وهذه الطريقة تضيع حقوق الآخرين وتنكر جهدهم، فيُنسى فضلهم الذي
سرقه المتاجرون بكتب العلم، الذين يأكلون حقوق الناس ظلماً فيجعلونه باباً من
أبواب الرزق الحرام، ولكن الأثر يكون أكثر أهمية بالنسبة لتوثيق النصوص عند
الباحثين والمعنيين بحركة النشر ومتابعتها..
وأنت واجد أمثلة كثيرة لهذا اللون من التزوير؛ فقد كان الأستاذ حسام الدين
القدسي - رحمه الله -وقف جهده وعلمه ومكتبته، التي أنشأها في القاهرة بعد
هجرته من بلاد الشام، على تحقيق وطباعة كثير من الكتب الأمهات، في الحديث
وعلومه، وفي اللغة والتاريخ والتراجم.. وتوفي القدسي، ثم جاء تجار الكتب في
بيروت ليعيدوا طباعة كتبه سرقة، وضنوا على صاحب الجهد الأول بإثبات اسمه
أو اسم مكتبته على الكتاب، فأصبحت تجد (مجمع الزوائد) للهيثمي - بأجزائه
العشرة - وتحت عنوانه: (منشورات دار الكتاب العربي - بيروت جميع الحقوق
محفوظة..) .
وبالطبع الحقوق محفوظة لغير أصحابها، أي للسارقين! درن اي إشارة إلى
عمل القدسي حتى المقدمة التي قدم بها للكتاب، وفيها وصف المخطوطة ليس فيها
اسمه.
والحال نفسه بالنسبة لكتاب (شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب) لابن عماد
الحنبلي - الذي طبعه القدسي أيضاً - وسرقته (دار إحياء الكتاب العربي في
بيروت) بطبعات متوالية، ولم تكن (دار الكتب العلمية) أقل حظاً من غيرها في
التزوير والادعاء، فهي تعيد طبع الكتاب وعلى صفحته الداخلية تحت العنوان تجد
هذه العبارة من الطبعة السابقة وفيها إيهام للقارئ، تقول مثلاً: (عن نسخة دار
الكتب المصرية العامرة، مع إتمامها ومقابلة بعضها بنسخة كوبريلي محمد باشا
بالأستانة) وهو ما تجده في كتاب (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء) لابن
عبد البر الذي نشره القدسي سابقاً؛ فتظن أن دار الكتب العلمية أو صاحبها أو لجنة
التحقيق فيها - قد قامت بجمع النسخ ومقابلتها حتى أخرجت الكتاب مقابلاً مصححاً
ومفهرساً أيضاً!
وهكذا الحال أيضاً مع كتب الخانجي والحلبي والساسي المغربي، التي طُبعت
أولاً في مصر ثم عثر عليها الآخرون من الناشرين الجدد! .
(2)
وإن كان بعض الناشرين (السارقين) يبقون على اسم المحقق، لصعوبة إخفائه، نظراً لطبيعة العمل الذي فيه وعدم تصديق أحد أن الناشر الجديد يمكن أن يقوم بما ليس من شأنه؛ فإنهم يحذفون اسم الناشر الأول أو اسم المطبعة فحسب، أشرت إلى أن هذا له أثره في عملية التوثيق، فقد أخرج المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية كتباً كثيرة منها (موطأ الإمام مالك، رواية محمد بن الحسن) تعليق وتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. ثم أعادت طبعه بالتصوير المكتبة العلمية، مع حذف اسم المجلس فأصبح الكتاب يُعرف بطبعة (المكتبة العلمية) ! .
وبهذا الأسلوب نفسه طبع (تفسير الطبري) بتحقيق محمود شاكر وتخريج
أحمد شاكر، الذي أخرجته دار المعارف بالقاهرة، وصدر الجزء الأول منه عام
1374 هـ، وتوقف المشروع عند المجلد الخامس عشر هذا الكتاب نشرته منذ
عامين في القاهرة نفسها (على عينك يا تاجر!) مكتبة ابن تيمية (رحمة الله
على ابن تيمية) مع حذف اسم الدار وإضافة عبارة (الناشر: مكتبة ابن تيمية)
وبذلك انتهى دور دار المعارف مشكورة غير مأزورة.
وليس هذا كل ما تجده من أمثلة، ولكن حسبنا هذه الإشارة التي تغني عن
الإطالة، وإلا فإن الأمر تجاوز الحد وعجزنا عن الحصر، لنأخذ لوناً آخر من
العبث الذي لا يجوز السكوت عليه بحال.
(3)
يزداد الضرر أكثر عندما يقوم ناشر جديد، أو محقق تاجر، على طبع كتاب
قديم بنصه وفصه، مع حذف مقدمة التحقيق السابقة والإبقاء على الكتاب كما نشره
المحقق الأول، كما تجد في كتاب (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال
والحفدة والمتاع) للمقريزي - الجزء الأول - الذي صححه وشرحه الشيخ أحمد شاكر، ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، وفي صدره مقدمة للشيخ شاكر ثم كلمة لرئيس لجنة النشر.
هذا الكتاب أعيد تصويره على نفقة إدارة الشؤون الدينية بدولة قطر، وعلى
غلافه عبارة: (عُني بنشره وطبعه: خادم العلم عبد الله إبراهيم الأنصاري) .
واستبدل مقدمته بمقدمة الشيخ شاكر - وليته لم يفعل - فأضاع على القارئ والباحث
فائدة كبرى، يجنيها من معرفة أصل الكتاب والقسم الموجود فيه وطريقة عمل
المحقق وجهده وما نبه عليه في مقدمته. وإن كان له فضل يشكر عليه في إشاعة
الكتاب (رحمه الله) .
وقد يتجاوز بعضهم كثيراً، فيسرق الكتاب مع حذف اسم المحقق والناشر
والإبقاء على تعليقات وشرح الكتاب بنصها؛ فقد طبع الشيخ منير الدمشقي كتاب
(تجريد التوحيد المفيد) للمقريزي وعلق عليه الشيخ طه الزيني، وأعادت طبعه مكتبة القاهرة، حتى جاءت (مكتبة السلام) فأعادت طبع الكتاب مع جل التعليقات والتخريجات وحذفت اسم (طه الزيني) مما يوهم أن العمل في الكتاب- تعليقاً وشرحاً- إنما هو للناشر الجديد.
(4)
وقد يلجأ بعضهم إلى طريقة أخرى، يتظاهر فيها بالظرافة (فإن اللص
الظريف لا تقطع يده، كما يقولون) فيعمدون إلى إعادة تنضيد حروف الكتاب
المحقق دون الحواشي أو الشروح، فراراً من المساءلة والملاحقة؛ لأن الحقوق
محفوظة. وعندئذ يقع في أخطاء كثيرة فاحشة، تفسد المعنى وتغير الأحكام؛ إذ
يحتاج الكتاب إلى تصحيح دقيق من صاحبه أو من لجنة تصحيح، وهذه الكتب
المسروقة - وخاصة المراجع الكبيرة - من ذا الذي يقوم ويجاهد في تصحيحها؟ !
فلو سقط حرف نفي مثلاً من العبارة أخل بالمعنى وجعل الحلال حراماً، فمثلاً
(ولا يجوز بيع مطعوم، مكيل أو موزون، بجنسه إلا مثلاً بمثل) فسقط حرف
النفي أو أداة الاستثناء.. هل تجد الكلام مستقيماً من الناحية الشرعية؟ .
وتعظم هذه المصيبة عندما ينتشر الكتاب بين أيدي الطلبة والمتفقهين الذين
يتلقون علمهم عن الأوراق دون معلم، ويقتنون هذه الكتب بأخطائها. وتجد أمثلة
على هذا في كتاب (الكافي) لابن عبد البر، وفي (منار السبيل) الذي طبعته
مكتبة المعارف بالرياض بأخطاء كثيرة، وفي كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير،
أو (تفسير القرطبي) الذي لم يصور عن طبعة دار الكتب وإنما أعيد طبعه بشكل
جديد في بيروت.
(5)
ويتشبع بعضهم بما لا يملك، فيلبس أثواباً من زور، وينسب لنفسه محمدة
ليست له، صراحة أو ضمناً ويندرج عمله تحت عموم قوله - تعالى -: [لا
تَحْسَبَنَّ الَذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ
مِّنَ العَذَابِ] [آل عمران: 188] .
للحافظ ابن الجوزي كتاب (القواعد في الفقه الإسلامي) عثني فيه بجمع
القواعد الفقهية العامة، وما بني عليها من الفروع الفقهية وهو كتاب قيم نفيس.
وحتى يتم الانتفاع به بسهولة ينبغي وضع فهرس له يجمع مسائله مرتبة مبوبة وقد
فعل ذلك الشيخ (جلال الدين نصر الله الحنبلي البغدادي) ، فصنع له فهرساً جمع
فيه مسائل الكتاب مرتباً لها على أبواب الفقه، حسب تشكل المسائل ومناسبة بعضها
لبعض، لا على ترتيب المؤلف، فصار الكتاب أداة طيبة تكشف للباحث سريعاً
عما يريد. (انظر: الأموال ونظرية العقد، د. محمد يوسف موسى، ص58) .
وقد طُبع الكتاب بمصر طبعة جديدة عام 1392 هـ مكتبة الكليات الأزهرية
ومكتوب على جلده: راجعه وقدم له وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد - ولا
يعنينا الآن التعليقات المزعومة -! وهذا الأمر يوحي بأن المحقق المعلق المراجع
هو الذي صنع الفهرست الذي أُلحق بآخر الكتاب، كما اعتاده المحققون والمعلقون،
ولكن كل من عرف الشيخ طه وعمله في كتبه الأخرى أدرك الحقيقة وعرفها.
وأما الطريقة الظريفة أكثر فهي: أن يأتي أحدهم لكتاب محقق فيقرن اسمه مع
اسم المحقق ثم يزاحمه حتى ينفرد وحده بالكتاب - اسماً - تحقيقاً ونشراً.
منذ عشر سنوات - في 1401 هـ - قرأت إعلاناً نشرته (مكتبة النهضة
الحديثة بمكة) على بعض كتبها، تقول فيه: (ترقبوا صدور (المتجر الرابح في
ثواب العمل الصالح) تأليف الحافظ الدمياطي (توفي سنة 613هـ) ، كتاب قيّم مفيد،
يطبع لأول مرة عن نسخة مكتبة الأزهر المخطوطة. حققه وأشرف على طبعه
جماعة من العلماء) انتهى الإعلان.
وكان الشيخ رضوان محمد رضوان قد طبع الكتاب هذا في القاهرة منذ حوالي
نصف قرن (وكان وكيلاً للجنة إحياء المعارف النعمانية بمصر، ويقيم في حي
السيدة زينب بالقاهرة، وقد اهتديت إلى منزل إقامته منذ سنوات وعلمت بوفاته
رحمه الله) ، وصدر الكتاب عن مكتبة النهضة عام 1403 هـ بمجلد ضخم، وعلى جلده عبارة: (قرأه وأمر بطبعه عبد الملك بن دهيش - ابتغاء مرضاة الله) دون اسم رضوان محمد رضوان، إلا أنه نسي أن يحذفه من آخر صفحة في الكتاب، ففيها: (بلغ مقابلة على نسخة رواق الأتراك بالأزهر الشريف..) ثم تحتها (رضوان) . (وهذا فسَّر جماعة من العلماء.. وبقي دليلاً على الصدق) .
ولم تنتهِ القصة بعدُ؛ فإليك تمامها:
صدر الكتاب بطبعة تالية مكتوب عليها: (نسخه وضبطه وقابله: عبد الملك
ابن عبد الله بن دهيش، ورضوان محمد رضوان - من علماء الأزهر الشريف)
(سبحان مَن يحيي الأموات! يبدو أن رضوان قد أعاده الله - تعالى - حتى ينسخ
ويحقق مع الشيخ من علماء الأزهر! - وكلمة (يحقق) هذه من عندنا) .
وتحمل الأيام لنا طبعة أخرى أيضاً من الكتاب نفسه بشكله السابق - تصويراً
أنيقاً - وعليه هذه العبارة: (تحقيق عبد الملك بن دهيش - ومحمد رضوان) (يبدو
أن رضوان لم يحسن عمله فاستعان الشيخ بأبيه محمد) ، وتحت ذلك: (مكتبة
النهضة..) وفي الداخل: (الطبعة الثالثة 1406 هـ، طبعة منقحة وتمتاز بزيادات مفيدة، وفيها مقدمة، في صفحة واحدة، كتبها الفقير إلى عفو ربه عبد الملك بن عبد الله بن دهيش) وعلى الغلاف: (الناشر عبد الملك بن دهيش) .
هذه خطوات متدرجة على طريقة سياسة الخطوة خطوة [ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ] [الأنعام: 142] ، فما أدري ما دلالة هذا التصرف بهذا الترتيب وهذه
المراحل المتدرجة في العبث؟ وهل يثير ذلك في ذهن القارئ شيئاً؟ !
وعلى كل حال: ليست هذه آخر الملاحظات، فلا يزال هناك أمور أكثر
خطورة، والله المستعان.(42/30)
الإنسان بين العبادة والحضارة
د. نعمان عبد الرزَّاق السَّامَرَّائي
حضرت ندوة حول (المشاكل التربوية) في عالمنا المعاصر، وقد وجدت
الانقسام واضحاً، فهذا يركز على الفرد، وذاك على المدرسة، وثالث على الإعلام، ورابع على الوضع السياسي، وخامس على الاستعمار، وسادس على الشيطان ...
كما وجدت البعض يقول بأن الحل معرفة العلوم الشرعية، وينادي آخر بتعلم
العلوم كافة وهكذا.
وأريد أن أطرح سؤالاً ثم أنطلق منه؛ إذ من المعروف أن الإنسان (مخلوق
ثقافي غائي) ، فهو منذ نعومة أظفاره يتساءل لماذا نفضل كذا؟ لماذا نترك كذا؟ .
والسؤال: لماذا خُلق الإنسان؟
1- هل صحيح ما قاله (ماركس) إن المبدأ الذي يحكم جميع العلاقات بين
البشر هو إنتاج الوسائل التي يحددون حياتهم، وبعد ذلك يأتى تبادل ما أنتجوا،
وأن الإنسان يعيش أولاً ثم يفكر بعد ذلك. والذي أريده (تحديداً) هل هذه النظرية ...
كاشفة لواقع أم مقررة لحقيقة ابتداءً؟ ؟
بمعنى آخر: هل نظر ماركس للإنسان في الغرب فوجده كذلك، أم هي حقيقة
توصِّل إليها عن طريق البحث والاستقصاء؟
والأمر الآخر: لنفرض أن الإنسان إذا جاع أو عطش استبد به ذلك بحيث
صار كل همه أن يصل إلى الطعام أو الشراب، ولكن بعد أن يأكل أو يشرب ماذا
يفعل؟
هل يبحث عن قضايا واهتمامات جديدة أم يبقى محصوراً في دائرة (الإنتاج ...
وتبادل ما أنتج) ؟ ...
في العالم الرأسمالي الذي رآه - (ماركس) وعايشه - كان الإنسان والدولة ...
والمجتمع إلى حد كبير مشغولاً بالإنتاج وتوزيعه، حتى قال نيتشه: (اجمع اجمع ...
ذلكم هو الشريعة والقانون) أي اجمع المال فذلكم هو الهدف، من هنا صار (رأس ...
المال) ديناً جديداً، حتى قال برنارد شو الفيلسوف الساخر: (إن الشعب البريطاني ...
يعبد الله يوماً في الأسبوع) ويعبد (بنك باركليز) ستة أيام! .
ومن هنا جاءت قناعة (ماركس) ، فهي مأخوذة من الواقع متأثرة به، ولكن
تلاميذ (بني التلمود) ينكرون ذلك ويعطون أفكار الرجل الشمولية، علماً بأن
ماركس يرى أن الواقع ينطبع في ذهن الإنسان فتتحول الفكرة إلى مجرد صدى
للواقع ليس إلا، وهكذا كانت أفكار ماركس صدى لما رآه وعاشه من تكالب
استعماري وتطاحن حول ثروات الشعوب ونهبها.
2- هل نذهب مع سارتر فيلسوف الوجودية في عبثيته إذ يقول: (إنهم
يكتشفون في وقت واحد، أن كل الأفعال الإنسانية سواء - وأنها بحتمية مبدئية -
محكوم عليها بالفشل ... وهكذا يستوي آخر الأمر أن أثمل بالشراب في وحدتي أو
أن أقود الشعوب) .
أما صاحبته (سيمون دوبوفوار) فتشرح هذه الفكرة بقولها: افعلْ ما ينبغي
لك وليكن ما يكون! .
فهل الحياة مسرح لتمثيلية (عبثية) لا يعرف الكاتب ولا المشاهد الهدف منها؟ . ...
3- هل نقول بأن الإنسان حيوان قد سبق (إخوانه) وهو لم يبتعد كثيراً عن
الحيوانية في أهدافه وغاياته، فهو يأكل ويتناسل ثم يموت ولا شيء بعد ذلك ولا
فوق ذلك؟
إن الإنسان مخلوق غائي، خُلق لتحقيق أهداف كبرى يمكن ردها إلى:
1- عبادة الله - تعالى - كما أمر دون شرك، والعبادة - كما هو معلوم -
تطلق بإطلاقين:
فمَن يشتغل في بحث علمي أو رياضي أو أي عمل دنيوي يقصد به وجه الله
فهو في سبيل الله.
2- العبادة بمعناها الخاص من صلاة وصيام وزكاة، وهذه أساسها النص
الصريح، وهي غير قابلة للتصرف بالزيادة أو النقص، أو التوجه لغير وجه الله
(تعالى) .
- عمارة الأرض: فقد ذكر الله - تعالى - في سورة هود [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ
الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: 61] ؛ فعمارة الأرض - كما يسميها ابن خلدون - هي إقامة الحضارة، وهي من مهمات الإنسان الأساسية الكبرى، وقد قام بها
الإنسان جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وكلما تعبت أمة تلقت الراية أمة فتية،
وتجد تضافرت جهود الأمم، وراح اللاحق يبني على جهود سلفه ويزيد ويطور.
فمَن أراد العمران فعليه أن يتعلم علوم عصره كلها، حتى قال علماؤنا في
(فروض الكفاية) أن الأمة كلها تصير آثمة إذا وجدت صنعة أو علم وليس في الأمة
من يعرفه أو يمارسه.
أما العبادة - بالمعنى الخاص - فعلى صاحبها تحري النص الصحيح والاتباع
والبعد عن الغلو والابتداع، فإن فعل ذلك فقد حقق الأهداف التي من أجلها خلق
وفاز في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم.
وللشهيد سيد قطب كلمة يقول فيها [1] ( ... لقد غابت الأمة المسلمة عن
الوجود وعن الشهود دهراً طويلاً، وقد تولت قيادة البشرية أفكار وأمم أخرى
وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى فترة طويلة، وقد أبدعت العبقرية الأوربية في
هذه الفترة رصيداً ضخماً من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد
ضخم تقف البشرية على، ولا تفرط فيه ولا فيمن يمثله بسهولة، وبخاصة أن العالم
الإسلامي يكاد يكون عاطلاً من كل هذه الزينة ... إن هذه الأمة لا تملك الآن وليس
مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي، تحني له الرقاب،
ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية فالعبقرية الأوربية سبقته في هذا المضمار
سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر - خلال قرون على الأقل-التفوق المادي عليها،
فلابد من مؤهل آخر، المؤهل الذي تفقده هذه الحضارة.
إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا
ولكن لا بوصفه المؤهل الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة، وإنما
بوصفه (ضرورة ذاتية) لوجودنا كذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا
(التصور الإسلامي) الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض ويجعلها تحت شروط خاصة عبادة لله وتحقيقاً لغاية الوجود الإنساني، لابد إذن من مؤهل آخر لقيادة
البشرية غير الإبداع المادي ولن يكون هذا المؤهل سوى (العقيدة) والمنهج الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية، تحت إشراف العقيدة والمنهج في تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم) .
ربما كان هذا الطرح المتوازن للقضية هو خير الطروحات، فلا نأخذ
الحضارة الغربية ومفرزاتها كلها كما دعا بعض الأتراك وطه حسين ولا نرفضها
كلها ونستغني عنها ولكن نأخذ بقدر ونطرح بقدر عارفين ما نحتاج وما لا نحتاج.
نحن وهذه الأهداف:
لقد مررنا بعدة مواقف من هذين الهدفين (العبادة والعمارة) يمكن تفصيلها
على الوجه التالي:
1- في الجاهلية لم نكن نعبد الله ولا نساهم في الحضارة باستثناء ما قدمه أهل
اليمن ومصر والعراق، من مساهمات معمارية.
2- في الإسلام عبدنا الله حق العبادة ثم رحنا نساهم في بناء الحضارة حتى
حملنا الراية بجد وجدارة، وراح العالم يقتبس منا وينقل عنا وقد شكا قسس ورهبان
مر الشكوى من تعلُّم أبنائهم في الغرب لغتنا وعلومنا.
3- بعد قرون اكتفينا بالعبادة وأهملنا الحضارة، وساهم التصوف والنكبات
السياسية وغيرها في هذا التوجه، ثم مع الأيام دخل العبادة الكثير من الدَّخَن، حتى
لا نجد مسجداً كبيراً يخلو من قبور، وشاعت زيارة القبور والتبرك بها ودعوة
أصحابها وطلب شفاعتهم، وهكذا صرنا مبتدعين في العبادة مقلدين في الحضارة،
وكان المطلوب العكس (الاتباع في العبادة والإبداع في الحضارة) .
4- لقد أهملنا الحضارة حتى لم تعد من بين همومنا ولا من تطلعاتنا.
وضاقت دائرة العلم وراحت معاهدنا تضيق يوماً بعد يوم من العلوم المفيدة، والتي
خلت من الإبداع، تخلو من الجدة وتبعد عن الحياة.
5- أعقب ذلك مرحلة أهملنا حتى العبادة، فصار الفرد منا بعيداً عن معانيها
(الواسعة والضيقة) ويكتفي أن يقال عنه إنه مسلم دون أن يتكلف شيئاً، وساعد على
ذلك رواج فكر (المرجئة) حتى صار جمهور الأمة منها دون أن يدعوه أحد، فكل
مسلم يدَّعي أنه عامر القلب بالإيمان، وهذا في نظره يكفي، وقد يفلسف الأمر
فيدعي طهارة القلب وعفة اللسان، وإنه أفضل من كثير ممن يمارس العبادة.
إن الأمة إذا كانت قوية تطلعت إلى الأمور الكبيرة، فإذا ضعفت تحاول فلسفة
ضعفها وهزائمها؛ لذا كانت أفكار (المرجئة) والمتصوفة أفضل فلسفة تناسب هذه
المرحلة.
6- أخيراً وبعد الصحوة الإسلامية رجعنا للعبادة مرة ثانية، ولكن مازال
جمهور الأمة غائباً عن الاهتمام بأمر الحضارة.
فليس من الحضارة أن تركب سيارة لا تعرف عنها سوى القيادة، وليس من
الحضارة أن تأكل فواكه أمريكا وأوربا، ولكن أن تساهم في علوم العالم وصناعته،
وعلى رأس كل ذلك أن تساهم في تقديم فكر متميز، لا يكون عالة على أحد ولا
تبعاً لأحد.
يرى الكاتب مالك بن نبي - رحمه الله -[2] أن لكل حضارة منتجاتها، فهي
متولدة عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجاتها، فشراء ما تنتجه
الحضارة الغربية من كل دول العالم لم يجعلها تكسب حضارة، فشراء المنتجات هو
كسب وتحصيل للهيكل والجسد وليس للروح، والحضارة ليست تكديس منتجات بل
هي فكر ومُثُل وقيم لابد من كسبها أو إنتاجها.
والأنكى من ذلك أن أمراض الحضارة يمكن أن تضرب أولئك الذين يتعاملون
معها في الأخذ والاقتباس، فتطحنهم أمراضها قبل أن تصلهم خيراتها. ومن لا
يصدق ذلك فما عليه الا أن يزور إفريقية ليرى مصداق ذلك في أمراض الجنس
وتعاطي الخمور والمخدرات، وعدم وصول شيء من حضارة الغرب إليهم.
7- قد يقول البعض إنه يريد الآخرة، ويكفيه في ذلك العقيدة الصحيحة
والعبادة السليمة..
والجواب: نعم، قد يصل المسلم الجنة عن هذا الطريق، لكنه لن يكون له
نصيب في الدنيا ولا في الحضارة، أو نصيب هامشي لا قيمة له وبالمثل فإن
الإنسان في الغرب يشكل الوجه الثاني (للعملة) فهو لا يعرف الله - تعالى - وإن
عرفه فهو يفصل بينه وبين الحياة فالإنسان في الغرب جعل دينه (الحضارة) كما
جعلها كل شيء في حياته، وقد قفز بها قفزات كبيرة، ولن يستطيع أحد تجاوز ذلك، أو جحوده، ولن تفرط البشرية في منجزاتها الحضارية، وأن حضارة اليوم تطلق
قوى كالذرة قد تكون سبباً في دمار الحضارة والقضاء عليها، وما تلوث البيئة،
والخراب الذي لحق بمفاعل (تشرنوبيل) وانتشار الأمراض إلا ثمرة من ثمار هذه
الحضارة إلى جانب المنجزات الكثيرة.
8- تبقى ألوف الملايين من البشر تدب على هذه الأرض لا تعرف الله تعالى
ولا تعبده، ولا تساهم في الحضارة من قريب أو من بعيد، وفيهم وفي أمثالهم
يصدق قول الله - تعالى -[أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ] [الأعراف: 179]
وأقبح من الكل تلك الملايين من البشر التي تعجز حتى عن إطعام نفسها، وتطالب
الآخرين أن يطعموها ويداووها ويبنوا لها المساكن.
في العالم اليوم ملايين من الكسالى ليس لديهم الاستعداد لعمل شيء، حتى
الخبز تريده مبلولاً وربما مدهوناً وعليه سكر. والأمة الإسلامية مدعوة بكل جد
وقوة لعبادة الله كما أمر، وعدم الشرك مهما صغر، وكذلك المساهمة في الحضارة
دون أن تفلسف كسلها وعجزها وتخلفها.
إن العالم يموج بالأقوياء، ومَن لا يكون قوياً بفكره واستقلاله فإنه يعيش على
الهامش، كما تعيش بعض القوارض، وستظل الدنيا محكومة بالأقوى فكراً وإنتاجاً
وتحضراً، ولن يكون فيه مكان للكسالى المتواكلين، ولن يجدوا (خبزاً مبلولاً) ولا
سكناً جاهزاً ولا قبراً جاهزاً.
__________
(1) معالم في الطريق، ص8، طبعة10.
(2) شروط النهضة، ص42.(42/36)
مقال
درس من يوغوسلافيا
كان دعاة القومية والعلمانية في أوائل هذا القرن يضغطون باتجاه إقامة نظام
الدولة على أساس تجاهل النزعة الدينية، متخذين من ضعف الدولة العثمانية وفساد
مؤسساتها أدلة على وجوب تنحية الدين أن يكون عاملاً له أهميته في بناء الدول
وحياة الأمم.
ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه ساطع الحصري الذي يشكل مجموع آرائه مرجعاً
لدعاة القومية والعلمانية، وعلى الرغم من صيرورة معظم هذه الآراء موضع شك
من خلال التطبيق؛ إلا أن القيمين الذين ورثوا آراء الحصري لا زالوا في ضلالهم
القديم، ولم تفدهم الحوادث ووقائع التاريخ الحديث عبرة، وهذا (مركز دراسات
الوحدة العربية) يشرف على إعادة طباعة مؤلفات ساطع الحصري تحت عنوان: (سلسلة التراث القومي) .
وهذا المركز على الرغم من أنه يعلن من جملة أهدافه أنه: (يهدف إلى
ايصال نداء الوحدة للجماهير العربية والأوساط الفكرية على تعدد اتجاهاتها) - إلا
أنه يتبنى الوجهة القومية والعلمانية التي كان يؤمن بها ساطع الحصري بحذافيرها،
ولم نجد له ما يناقض ذلك سوى إحساس باهت بفشل كثير مما طرحه أنصار تلك
الأفكار؛ ولذلك فإنه تبنى إقامة عدة ندوات اشترك فيها أصحاب الاتجاه القومي
والعلماني ومن انتقاهم ممن يتحدثون عن الإسلام وبالإسلام. ولكن المراجع لهذه
المناقشات يكتشف بسهولة ويسر أين يقف هذا المركز وما هي الأفكار التي يروج
لها.
وقد يظن ظان أننا ضد شيء يسمى الوحدة العربية، وهذا وهم يؤمن به من
يجهل الحقيقة أو من يقصد تشويه السمعة والتلاعب بالعواطف. فإذا كان هناك
فريق يرى الاتحاد ونبذ الفرقة أصلاً من أصول العقيدة لا مبدأً ثبت بالتجربة
البشرية فائدته فقط فهم المسلمون، ولكن الخلاف هو حول الأساس والرابطة التي
تجتمع عليها هذه الشعوب التي توالت على حكمها جهات مختلفة، فبينما يذكر
القوميون عناصر اختاروها ليؤكدوا على أهميتها ويتجاهلون الدين كعامل أساسي في
هذا المجال، بحجة أن الدين يفرّق والقومية تجمّع، وهذا القول يقصد به إهمال
دين الأغلبية، وتحييده أن يلعب دوره الطبيعي في الحياة، وإلا فإن كثيراً من
هؤلاء - مع إعلانهم وتوكيدهم هذه المزاعم - لا يهملون أديان الأقلية، بل يُولُونها
كل التقدير والاحترام ويعطونها ما لها وما ليس لها من التجلة والتبجيل، بل إن
الهجوم القولي والعملي على دين الاغلبية يصب في مصلحتها وينعكس امتيازات
وتقوية مركز لأتباعها.
واللوم لا يتوجه إلى أتباع أي دين أن ينصروا أهل دينهم، ويقفوا إلى جانبهم
في السراء والضراء - فهذا شيء طبيعي - ولكنه يتوجه إلى من يتنصل من دينه
وينخلع منه إرضاءً لمن يبقى في قرارة نفسه وفياً لمبادئه ينصرها بالحق والباطل،
إن هذا الضرب من الناس يتحول إلى عدو شرس يذيق أبناء جلدته المر، ويسومهم
أنواع النكال ولا يشفي غليله إلا أن يصبحوا مثله في إهمال دينهم والحملة عليه،
وكل ذلك من أجل إرضاء (إخوانه في الوطنية!) فيغيظ الألوف المؤلفة ويقطع
أواصره معهم من أجل حفنة يحرص على رضاها والحصول على ثقتها، وليس
بقادر على ذلك مهما فعل. هذا هو منطق القوميين الأعوج الذي يتجاهل التاريخ،
ويناقض الفطرة البشرية.
إن القوميين - في غلوائهم لإثبات آرائهم - يدوسون الحقائق، ويغمضون
أعينهم عن الوقائع الناطقة التي قد تخرس تكلفاً لا طبعاً، إن الإنسان ناطق بطبعه،
وقد يعرض له ما يعقل لسانه فيمنعه من الكلام، فهو في هذه الحالة أبكم لمن يراه،
ولكن الناظرين إليه يتمايزون فئتين:
فئة ترى أنه أبكم طبعاً.
وفئة ترى أنه كذلك لعارض عرض له.
وهذا هو مثل يوغوسلافيا. فقد رأى القوميون فيها نموذجاً يُحتذى لإقامة
الدول على أساس قومي، يقول ساطع الحصري: (إن هذه الدولة الجديدة اصطدمت في بادئ الأمر بمشاكل داخلية كبيرة؛ لأن اختلاف التربية والتقاليد
الإدارية والثقافية التي سادت المقاطعات المذكورة منذ قررن عديدة - انضم إلى
اختلاف الثقافة فأوجد نزعات إقليمية عرضت كيان الدولة إلى مخاطر جدية.
إن الكروات والسلوفن كانوا أرقى من الصرب من وجهة العلم والثقافة. ولكن
الصرب كانوا أرقى من هؤلاء من حيث التشكيلات الحكومية والتنظيمات العسكرية.
فكان من الطبيعي أن يحدث تنافس وتنازع بين هذين العنصرين لتولّي الحكم
وكان من الطبيعي أن تتعرض الدولة التي تتكون منهما لأزمات خطيرة، ولكن
الشعور بالوحدة القومية كان كفيلاً بالتغلب على هذه المشاكل كلها وبالقضاء على
النزعات الإقليمية بأجمعها.
وهذا ما حدث فعلاً: بعد زوال أزمات الحكم الأولى، وتلاشي نزعات
الإقليمية المختلفة، رأى القوم أن يتركوا الاسم المركب الأول، وأن يسموا الدولة
باسم مختصر يكون أكثر دلالة على الوحدة القومية من الاسم الأول واختاروا لذلك
اسم (يوغوسلافيا) بالنسبة إلى اللغة التي تربط جميع العناصر بعضها ببعض،
والدولة اليوغوسلافية التي تأسست بهذه الصورة وبعد اجتياز مرحلة الولادة العسيرة
أصبحت متحدة ومتماسكة بكل معنى الكلمة.
ومن المعلوم أن شدة هذا التماسك والاتحاد بهرت الأنظار وأدهشت الأذهان
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها) . [1] ...
ونحن نرى هذا التحليل التاريخي الاجتماعي لقيام يوغوسلافيا قاصراً ولا
يجيب على أسئلة تنبع من سياقه، وهو تحليل أُحادي وليس شاملاً، وقد صِيغ بلغة
تبشيرية [2] فهو يشير إلى اختلاف المذاهب، وهذا يعني الاختلاف بين الصرب
الأرثوذكس وبين الكروات والسلوفين الكاثوليك، لكن ماذا عن الإسلام الموجود في
يوغوسلافيا؟
وهو يقول: (ولكن الشعور بالوحدة القومية كان كفيلاً بالتغلب على هذه المشاكل كلها، وبالقضاء على النزعات الإقليمية بأجمعها) . هل صحيح أن المشاكل كلها والنزعات الإقليمية بأجمعها قد زالت من وغوسلافيا بعد أن سُميت بهذا الاسم المختصر؟ !
وكذلك القول: إن الدولة اليوغوسلافية (أصبحت متحدة ومتماسكة بكل معنى
الكلمة. ومن المعلوم أن شدة هذا التماسك والاتحاد بهرت الأنظار وأدهشت الأذهان
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها) .
فادعاء التماسك والاتحاد بكل معنى الكلمة يأتي الواقع العملي اليوم ليكشف ما
فيه من المجازفة والإصرار على الأوهام، فحال يوغوسلافيا لا تنبّئ بذلك بل
بعكسه (بكل معنى الكلمة) وتكاد الأزمة الحالية تنجلي عن استحالة أن تعود أجزاء
يوغوسلافيا إلى الالتئام ثانية.
وكذلك الاعتماد على ما حدث في يوغوسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية وما
بعدها كدليل على ثبات هذا الاتحاد.
فقد يتعاون الأعداء وأصحاب المصالح المتعارضة من أجل دفع عدو آخر،
وهذا ما حدث عند الاحتلال النازي والفاشي ليوغوسلافيا، تناسى هؤلاء
اليوغوسلاف إِحَنهم الداخلية المتأصلة لإخراج الغزاة من أرضهم، لأنهم لا يمكنهم
ذلك إلا بهذه الطريقة، وهذا يذكّرنا بحالة التحالف بين دول مختلفة لإخراج
العراقيين من الكويت، فلا أحد يدَّعي أن قوة ذلك التحالف هي نتيجة لوجود وحدة
قومية بين أعضائه في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فإن وجود شخصية مهيمنة مثل (تيتو) قد غطى على هذه المشكلة. وإن ظن الكثير من المخدوعين وأصحاب الأفكار الآنية أنه حلها إلى الأبد، وهذا
الأمر له دلالة ثانية، فالكبت والقهر لا يقتلع المشاكل، وإن بدت غائبة عن الأنظار
بل يجمدها أو يجعلها تتوارى تحت السطح مثل الهوام وخشاش الأرض في مرحلة
البيات الشتوي، حتى إذا جاء (سعد الخبايا) وزالت العوائق خرجت الخبايا من
الأرض لتتمتع بالدفء وتحيا حياتها الطبيعية من جديد.
إن الهدوء الذي كان يخيّم على يوغوسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية،
وخلال الحكم الشيوعي في عهد تيتو لم يكن نهاية المطاف، وإنما هو بَكَمٌ عارض
وصمت مصطنع فرضته عوامل وقتية، وقد زال بزوالها.
__________
(1) ساطع الحصري، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ص84.
(2) كل ما كتبه ساطع الحصري متأثر بهذه اللغة التبشيرية ونعني بها اللغة التي تدعو الناس إلى اعتناق شيء من خلال إظهار محاسنه والحماسة في الحديث حوله، مقابل الإهمال والتجاهل والاشمئزاز مما يراد لهم إهماله وتجاهله.(42/43)
تحزيب القرآن
(2)
محمد بن عبد الله الدويش
وروى أبو عبيد (277) وابن أبي شيبة (2/502) عن السائب بن يزيد أن
رجلاً سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبد الله فقال إن شئت
أخبرتك عن صلاة عثمان قال نعم قال قلت لأغلبن الليلة على الحِجْر - يعني
المقام - فقمت فلما قمت إذا أنا برجل متقمع يزحمني فنظرت فإذا عثمان بن عفان فتأخرت عنه فصلى فإذا هو سجد سجود القرآن حتى إذا قلت هذه هوادي الفجر أوتر بركعة لم يصلِّ غيرها ثم انطلق، ولابن أبي شيبة (2/503) فتنحيت وتقدم فقرأ القرآن كله في ركعة ثم انصرف. وصححه ابن كثير في فضائل القرآن (50) .
وأخرج أبو عبيد (278) وابن أبي شيبة (1/367، 2/503) عن نائلة بنت
الفرافصة الكلبية حين دخلوا على عثمان ليقتلوه فقالت: (إن تقتلوه أو تدعوه فقد
كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن) وحسنه ابن كثير في فضائل القرآن
(50) .
وأخرج أبو عبيد أيضاً (279) وابن أبي شيبة (2/502) عن تميم الداري أنه
قرأ القرآن في ركعة. وكذا أخرجا عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في
البيت وصححهما ابن كثير (50) .
وأخرج أبو عبيد (281) والفريابي (140) عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة
طاف بالبيت أسبوعاً ثم أتى المقام فصلى عنده بالمِئِين، ثم طاف أسبوعاً ثم أتى
المقام فصلى عنده بالمئين، ثم طاف أسبوعاً ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية
القرآن. وصححه ابن كثير (50) ورواه ابن أبي شيبة (2/503) مختصراً بلفظ أنه
قرأ القرآن في ليلة بمكة.
وأخرج أبو عبيد (282) وابن أبي شيبة (3/502) عن سليم بن عتر التجيبي
أنه كان يختم القرآن في الليلة ثلاث مرات.
ونقل النووي في التبيان والأذكار جملة من ذلك فقال في التبيان (46) (ومن
الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سليم بن عمر - رضي الله عنه - قاضي مصر
في خلافة معاوية - رضي الله عنه -. وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم
في الليلة أربع ختمات. قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي - رضي الله
عنه -: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: كان ابتن الكاتب - رضي الله
عنه - يختم بالنهار أربع ختمات، وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة. وروى
السيد الجليل أحمد الدروقي بإسناده عن منصور بن زادان من عُباد التابعين -
رضي الله عنه - أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضاً فيما
بين المغرب والعشاء في رمضان ختمتين، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى
أن يمضي ربع الليل، وروى أبو داود بإسناده الصحيح أن مجاهداً كان يختم القرآن
فيما بين المغرب والعشاء وعن منصور قال كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب
والعشاء كل ليلة من رمضان، وعن إبراهيم بن سعد قال كان أبي يحتبي فيما يحل
حبوته حتى يختم القرآن، وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم ... ) [1] .
المسألة الخامسة: أقل ما يُختم فيه القرآن:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث» . أخرجه أبو داود (1394) والترمذي (2950) والنسائي وابن ماجه (1347) ... وأحمد (2/ 164، 165) وأبو عبيد وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه النووي في التبيان (ص48) .
وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والمروزي عن معاذ بن جبل - رضي الله
عنه - أنه كان يكره (أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث) وصححه الحافظ ابن كثير.
وأخرج ابن أبي شيبة (2/502) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -
أنه قال: (اقرأوا القرآن في سبع ولا تقرأوه في ثلاث) وأخرج سعيد بن منصور
وابن أبي داود - كما في الفتوحات (231/3) - عنه (رضي الله عنه) أنه قال:
(لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث) . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو عبيد والطبراني في
الكبير كما في المجمع (2/269) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال:
(من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز) . وقال أبو عبيد: (إلا أن الذي أختار من ذلك أن لا نقرأ القرآن في أقل من ثلاث للأحاديث التي ذكرناها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الكراهة لذلك) .
وقال النووي في التبيان (ص48) : (وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في
يوم وليلة، ويدل عليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي
الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يفقه من قرأ القرآن في
أقل من ثلاث) وقال الحافظ ابن كثير: (وقد كره غير واحد من السلف قراءة
القرآن في أقل من ثلاث) كما هو مذهب أبي عبيدة وإسحاق بن راهويه وغيرهما
من الخلف أيضاً) .
وقال شيخ الإسلام: (فالصحيح عندهم أنه أمره - عبد الله بن عمرو - ابتداءً
بقراءته في الشهر، فجعل الحد ما بين الشهر إلى الأسبوع.. ولا يلزم إذا شرع
فعل ذلك أحياناً - التثليث - لبعض الناس أن تكون المداومة على ذلك مستحبة،
ولهذا لم يُعلم من الصحابة على عهده مَن دوام على ذلك؛ أعني على قراءته دائماً
فيما دون السبع؛ ولهذا كان الإمام أحمد - رحمه الله - يقرؤه في كل سبع) .
أما ما نقل عن السلف مما ذكرنا طرفاً منه فقد اختلفت مسالك العلماء في
الإجابة عليه، فمنهم من حمل ذلك على أنه لم يبلغهم النهي ومنهم مَن رأى أنهم لم
يحملوا الحديث على المنع من ذلك، ومنهم مَن رأى أن ذلك يختلف باختلاف
الأشخاص.
وها هنا أمور لعل بها يتضح وجه المسألة:
أولاً: أن ورود ذلك عن السلف والصحابة بوجه أخص لا يعني المداومة عليه؛ خاصة أن الكثير ممن روي عنه ذلك - كعثمان وتميم وغيرهم - رُوي عنه أنه
كان يختم في سبع، بل قد نفى ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله - وهو من أعلم الناس
في مثل ذلك فقال: (ولهذا لم يعلم في الصحابة على عهده من دوام على ذلك أعني
قراءته دائماً فيما دون السبع) .
ثانياً: علل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بعلتين الأولى عدم الفقه،
والثانية قوله لعبد الله (فإن لزوجك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً ولأهلك عليك
حقاً) . فالرجل عليه مسؤولية تجاه أسرته ومنزله وضيفه وكذلك عليه الرفق
بنفسه. وختم القرآن في أقل من ثلاث على حساب ذلك غالباً.
ثالثاً: يجب أن يربط ذلك بالنصوص الأخرى التي تحث على القصد
والمقاربة (إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة
بعمله) . وفي رواية الإمام أحمد لحديث عبد الله بن عمرو (6477) : (فإن كل
عابد شرّة ولكل شرة فترة، فإما إلى سُنة وإما إلى بدعة، فمَن كانت فترته إلى سنة
فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) .
رابعاً: أن خير الهدْي هديه - صلى الله عليه وسلم - وهو أعبد الناس
وأخشاهم لله وقد غضب على الذين تقالُّوا عبادته، وفي رواية أحمد لحديث عبد الله
ابن عمرو أنه قال له: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأمس النساء فمَن
رغب عن سنتي فليس مني» وروى مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها -
أنها قالت: (ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة،
ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان) ونحن متعبدون
باتباع سُنته وهديه. مع ما نكنّه في نفوسنا من تقدير وإكبار وإجلال لسلف الأمة.
ولذلك قالت عائشة - رضي الله عنها - لما قيل لها إن رجالاً يقوم أحدهم القرآن في
ليلة مرتين أو ثلاثاً - (قرأوا أو لم يقرأوا كنت أقوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب ولا بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ) والحديث ذكره في الفتوحات (2/231) ونُسب للحافظ أنه قال: (والحديث حسن أخرجه ابن أبي داود
وأخرج أحمد المرفوع منه فقط) .
خامساً: هناك وظائف شرعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والدعوة إلى الله وإصلاح الناس، والتي هي من فروض الكفاية ومن أفضل الأعمال
الصالحة والأمة لا تستغني عن جهود أبنائها في ذلك. ففي التفرغ لتلاوة القرآن
على هذا النحو تعطيل لهذه الوظائف خاصة في هذا العصر، وقد أشار النووي -
رحمه الله - إلى شيء من ذلك حين قال في التبيان (ص48) : (وكذا مَن كان
مشغولاً بنشر العلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين فليقتصر على قدر لا
يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له) .
سادساً: في مقابل هؤلاء الذين نقل عنهم الإكثار من ختم القرآن نقل عن
غيرهم بل أكثر السلف التسبيع، فَلِمَ يكون رأي أولئك أَوْلى بالقبول من هؤلاء وهم
أكثر وفعلهم يتأيد بالسنة الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم -.
المسألة السادسة: هل يكون التحزب بالسور أو الأجزاء؟
عقد شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة فصلاً في الجزء الثالث عشر من
مجموع الفتاوى ورأى أن التحزيب المشروع هو أن يكون بالسور للأمور الآتية:
1- أن المنقول عن الصحابة هو التحزيب بالسور لا بالأجزاء وذكر حديث
أوس بن حذيفة، وقد سبق في أول البحث.
2- أن الأجزاء والأحزاب محدثة وفيه حديث أوس أنهم حزّبوه بالسور،
وهذا معلوم بالتواتر فإنه قد علم أن أول ما جُزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية
وعشرين، وثلاثين، وستين هذه الأجزاء التي تكون في أثناء السورة، وأثناء
القصة ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده وروي أن الحجاج أمر بذلك. ومن
العراق فشا ذلك ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك (13/409) .
3- أن هذه التحزيبات تتضمن دائماً الوقوف على بعض الكلام المتصل بما
بعده حتى يتضمن الوقوف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ
في اليوم الثاني مبتدئاً بمعطوف كقوله - تعالى -: [والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] [النساء: 24] وقوله [ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ]
[الأحزاب: 31] وأمثال ذلك، ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض - حتى كلام المتخاطبين - حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني بكلام المجيب كقوله تعالى: [قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً] [الكهف: 72] ومثل هذا الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي، ولهذا لو ألحق بالكلام عطف أو استثناء، أو شرط ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ ذلك بلا نزاع.
4- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عادته الغالبة وعادة أصحابه أن
يقرأ في الصلاة بسورة ك (ق) ونحوها وكما كان عمر - رضي الله عنه - يقرأ
بيونس ويوسف والنحل.. وأما القراءة بأواخر السور وأواسطها فلم يكن غالباً عليهم.
وقال: (وإذا كان تحزيبه بالحروف إنما هو تقريب لا تحديد، كان ذلك من
جنس تجزئته بالسور هو أيضاً تقريب، فإن بعض الأسباع قد يكون أكثر من بعض
في الحروف وفي ذلك من المصلحة العظيمة بقراءة الكلام المتصل بعضه ببعض،
والافتتاح بما فتح الله به السورة، والاختتام بما ختم به، وتكميل المقصود من كل
سورة ما ليس في ذلك التحزب. وفيه أيضاً من زوال المفاسد الذي في ذلك
التحزيب ما تقدم التنبيه على بعضها) .
وبعد هذه الوقفات السريعة أرى أنه لا يليق بشاب مسلم طالب للعلم، يحمل
بين كاهليه هم الإصلاح والتغيير ودعوة الناس - لا يليق به أن لا يكون له حزب
من كتاب الله قل أو كثر. ومهما ادعى الإنسان المشاغل فهذه الدعوى تحتاج للبينة
ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم. وهذا دليل على قلة
اهتمامه، ومتى كانت تلاوة كتاب الله وإصلاح النفس وعبادة الله - عز وجل - مما
لا يفعل إلا في وقت الفراغ.
ففي التحزيب تأسٍ بالسلف - رضوان الله عليهم - وفيه علاوة على ذلك
تحقيق لهديه - صلى الله عليه وسلم- في المداومة على العمل الصالح فقد كان عمله
دائماً، وكان يقول: (إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) . وفيه أن الإنسان
يُكتب له حزبه إذا شغله عنه مرض أو سفر.
وفيه أيضاً تعاهد القرآن كما أمر بذلك - صلى الله عليه وسلم - فعن أبي
موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعاهدوا
القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها» .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقّلة إن عاهد عليها أمسكها وإن
أطلقها ذهبت) .
__________
(1) لا شك أن في ذلك مبالغة وتساهلاً في التصحيح لعلة منطلق من باب التساهل في تصحيح أو تحسين الأحاديث في فضائل الأعمال وفي الترغيب والترهيب وراجع التعليلات بعد ذلك.(42/48)
قصيدة
قراءة في وجه امرأة شوهاء
د. عبد الرحمن العشماوي
بدتْ بوجهٍ قبيحِ اللونِ محروقٍ وقد علتْ فيه أصواتُ المساحيقِ
وقد جرتْ فيه للأصباغِ معركةٌ عنيفةٌ واعتلى صوتُ (البطاريقِ)
لها فمٌ واسعُ الشدقين تملؤُهُ أسنانُ غُولٍ فلا تسألْ عنِ الرِّيقِ
ولا تَسَلْ عن جبينٍ بارزٍ رسمتْ فيه الخيانةُ تكذيبَ المواثيقِ
ولا تسلْ عن لسانٍ ساءَ منطقُه إذا تحدَّثَ ألغى صرخةَ البُوقِ
فصوتُها غُنَّةٌ شوهاءُ مؤذيةٌ كأنَّها قد أُصيبتْ بالخوانيقِ
رَنَتْ بعينينِ كالثقبينِ قد مُلِئَا غَدْراً، وقد عَانتا من شدةِ الضيقِ
كأنما رُبطتْ أطرافُها، فبدتْ كعَينِ إبليسَ في جفنٍ وفي موقِ
أهدابُها كغصونِ الشوكِ أظهرها فصلُ الخريفِ بلا ريْن وتزويقِ
بيضاءُ، لكنها سوداءُ قاتمةٌ لمَن يراها بعينٍ ذاتِ تدقيقِ
تمشي فتحسَبُ أنّ الخُبْثَ في جسدٍ يمشي أمامك مفتوحَ المغاليقِ
حديثُها كذبٌ محضٌ، حقيقتُه مأخوذةٌ من أباطيلِ الغرانيقِ
تُباع في كلٍّ سوقٍ للضلالِ، فلا تسأل عن التاجرِ الكذابِ والسوقِ
ولا تتسلْ عن دنانيرٍ مزورةٍ وعن عقودٍ جرتْ من غير توثيقِ
وعن سماسرةٍ باعوا ضمائرَهم وذوَّبوا العقلَ في نارِ الأباريقِ
لها على منهجِ التضليلِ هَيْلمَةٌ وهَيْلَمَانٌ، وقولٌ غيرُ موثوقِ
خبيرةٌ في ادعاءِ العدلِ جاهدةٌ في وصْفِ آثارِهِ من غير تطبيقِ
تُبدي خصالاً من الإيمان كاذبةً وفي مشاعرِها إحساسُ زنديقِ
سمعتُ عنها حديثَ العاشقين لها فاستفت عن عاشق لاهٍ ومعشوقِ
أتيتُها فإذا همِّي يحاصرني كأنني طائرٌ في بطنِ صُندوقِ
يا هَمّ قاسمتَني ليلي سلكتَ إلى أعماقِ نفسي طريقاً غيرَ مطروقِ
مَن دَلَّ ركبَك، مَن أعطاكَ تذكرةً على (خطوطِ) الأسى القاسي لتطويقي
مَن هذه المرأةُ الشوْهاءُ، أحسِبُها وقد تراءتْ أمامي، شرَّ مخلوقِ
بدتْ أمامي بسَمْتٍ لا نظيَر له الوجهُ مستحدثٌ والعقلُ إغريقي
أجابني ساخراً مني: أتجهلُها هذي العظيمة ذاتُ الخيلِ والنُّوقِ
هذي التي تتغنى بالسلامِ ولا يهزُّها أن ترى مليونَ مسحوقِ
وتدعي أنها ترعى العبادَ، وكم مُجَنْدَلٍ بين رجليْها ومخنوقِ
هذي التي يعرض الإعلامُ صورتَها فثوبُها أسودُ الأكمامِ والزِّيقِ
وبيتُها أبيضُ الجدرانِ، كم عُقدتْ فيه اللقاءاتُ نقضاً للمواثيقِ
لها جواسيسُها في كل ناحيةٍ فلا تسلْ عن إشاراتٍ وتحديقِ
ولا تسل عن سُؤالاتٍ موجهةٍ إلى الضحايا وأوراقٍ وتحقيقِ
تغزو الفضاءَ غروراً، لا تريدُت به إلا التسابقَ في مَلْءِ الصناديقِ
هذي العظيمة - يا هذا - فألجمني صمتي، وجفَّ لما أدركتُه ريقي
بَرِئتُ منها [ولَن تَرْضَى ... ] [*] تؤكِّدُ لي أنَّ البراءةَ منها فِعلُ صِدِّيقِ
__________
(*) انظر سورة البقرة آية 120.(42/55)
المسلمون في العالم
حوار مع زعيم الحزب الإسلامي في أفغانستان
قلب الدين حكمتيار
أجرى الحوار: أحمد موفق زيدان
* الحكومة الائتلافية تضم بعض المنسوبين للجهاد والفارين إلى أوربا
والحزب الشيوعي.
* الخيار العسكري هو الحل الذي نراه.
* إنهم لا يتركون الشعب الأفغاني يقرر مصيره ويختار حكومته دون ضغط
خارجي.
* على الحركات الإسلامية التنبه لمزلق الاعتماد على المساعدات الخارجية.
قال السيد قلب الدين حكمت يار زعيم الحزب الإسلامي الأفغاني بأن سياسة
الولايات المتحدة الأمريكية تتركز عل إنشاء قوى حقيقية لحماية الخطة التي تعمل
لها من أجل تشكيل حكومة ائتلافية بين المعتدلين ونجيب الله ويكون على رأسها
الملك المخلوع ظاهر شاه وأضاف الزعيم الأفغاني الذي كان يتحدث في حديث
خاص وشامل (للبيان) من مقر إقامته في بيشاور بأن هذه القوى قد بدأت في
الظهور فعلياً وحقيقياً المتمثلة في تشكيل مجلس للقادة الميدانيين عندما سحبوهم من
منظماتهم وكذلك مجالس القبائل بغية حماية الحكومة الائتلافية التي يعدون لها.
ولنترك القارئ الكريم مع حصيلة الحوار الذي دار معه واستغرق أكثر من
ساعة.
البيان: في ضوء التحركات السياسية المتعددة والظروف المتغيرة في
أفغانستان إلى أين يتجه الجهاد الأفغاني وخاصة في الجانب السياسي منه؟ .
حكمتيار: أعتقد أنه بعد انتصارات المجاهدين الأخيرة في الشمال والجنوب
قد أصبح بحوزة المجاهدين خطة للهجوم على كابل وأن وضع الحكومة ضعيف
للغاية ولا تستطيع الصمود أمام المجاهدين، كل هذه العوامل دفعت للتحرك
السياسي من قبل دول لا ترغب في انتصار المجاهدين عسكرياً، وبعض هذه الدول
تريد تكوين حكومة ائتلافية بين مجموعات المجاهدين المعتدلين والفارين إلى أوربا
وأمريكا والحزب الشيوعي في أفغانستان وذلك بتكوين جبهة ائتلافية يعقبها حكومة
ائتلافية ولكن هذا غير عملي، وتكوين حكومة ائتلافية أمر مستحيل، ولا أحد
يستطيع قبول نجيب كطرف أو الحزب الشيوعي كطرف في الحكومة أو في أي
انتخابات عامة، وهذا أيضاً غير عملي ولا يمكن تنفيذه، ولا أحد يستطيع ويجرؤ
من المجاهدين أن يتحدث بهذا أمام الشعب.
وحتى الذين التقوا مع نجيب لا يعلنون هذا أمام الشعب خوفاً، ومع أن بعض
الدول ترغب في تكوين حكومة مؤقتة بدلاً من حكومة نجيب وموقفهم أن لا يستقيل
نجيب لوحده ويبقى الحزب الشيوعي.
أما الأمريكان والروس فأرى أنهم يريدون تكوين حكومة ائتلافية، وتريدها
أمريكا تحت قيادة ظاهر شاه وكذا الروس، ولكنه أيضاً غير عملي، ولا يمكن
فرض حكومة كهذه على الشعب الأفغاني وكما تعرفون أن أمريكا حاولت في السنتين
الماضيتين بكل إمكانياتها تهيئة الظروف لهذه الحكومة وكانت تعتتبر المنظمات
الجهادية عقبة في تنفيذ هذه الخطة، وأخذت على عاتقها إضعاف هذه المنظمات
وضربها من الداخل وتكوين قوة للدفاع عن حكومة كهذه، مثل تكوين مجالس
شورى القبائل والقادة الميدانيين وإبعاد هؤلاء القادة عن منظماتهم، وبذلك تكون هذه
المجالس القومية وراء دعم هذه الحكومة ولكن لم تستطع تحقيق هذا.
البيان: ليس من السهولة أن يتخلى الروس عن دولة تجاورهم وتشاطرهم
أكثر من ألف وخمسمائة ميل عبر التفاوض السياسي خاصة وأن الوضع الداخلي
الروسي ينذر بالتشرذم والتفتت فكيف إذا وصلت حكومة إسلامية تشاطر عقيدة
وتاريخ ولغة الجمهوريات الإسلامية الست الواقعة فى روسيا، في ظل هذا الوضع
كيف ترون السبيل للوصول لأهدافكم؟ .
حكمتيار: الحل العملي لهذه القضية هو الخيار العسكري، ووضع الحكومة
في كابل سيئ جداً، وحتى الآن لا نرى حلاً آخر سوى التركيز على الحل
العسكري، وأعتقد أن موسكو لا تستطيع الاستمرار في دعم حكومة كابل ولا
يقدرون على مواصلة دعمها، ولو وجدنا أنهم يتركون للشعب الأفغاني أن يقرر
مصيره ويكوّن دولته بدون تدخل أو ضغط خارجي لما لمسنا ضرورة التركيز على
الحل العسكري، ولكننا نرى أنهم ليسوا على استعداد لترك الشعب الأفغاني يقرر
مصيره بنفسه في ضوء عقيدته ليكوّن دولته الإسلامية التي يريدها، ولكنهم يسعون
ويريدون فرض حكومة مقبولة لهم على الشعب الأفغاني عن طريق المؤامرات،
ولهذا فليس لدينا خيار آخر إلا الاستمرار بالجهاد وهم يريدون تكوين حكومة
ائتلافية، وعقد مجلس (لوياجركا) [1] لهذه الحكومة لتكون حكومة دائمة؛ لأنهم
يعرفون أن الشعب مع المجاهدين ولو جرت الانتخابات لن تكون في صالحهم، ولو
جرى إسقاط حكومة نجيب وتحل محلها حكومة مؤقتة يقبل أعضاءها الشعب مثلما
حدث في بنغلاديش عندما أعلن رئيسها الجنرال محمد إرشاد استقالته وطلب من
المعارضة أن تتفق فيما بينها على شخصية. فاتفقوا على قاضٍ ثم جرت الانتخابات، ولو حدث هذا لكان سهلاً أن يوافق عليه المجاهدون.
البيان: لو حصل تشكيل الحكومة الائتلافية، وغدت أمراً واقعاً ماذا سيكون
ردكم عليها؟ .
حكمتيار: لا يمكن فرضها، وتكوينها غير عملي وسنستمر في الجهاد وليس
أمامنا خيار سوى المقاومة.
البيان: العديد من المتابعين يرون أن الحزب الإسلامي تعرض لخضات بعد
خروج بعض أعضاء اللجنة التنفيذية من القيادة وبقائهم كأفراد، إضافة إلى تعرض
الحزب لبعض التصفيات في داخل أفغانستان كيف يرى حكمت يار هذا الوضع؟
حكمتيار: الحزب الإسلامي في أحسن وضع منذ تأسيسه، ومع جميع هذه
الضغوط على الحزب الإسلامي لم يخرج أحد منه؛ حيث يقوم على مبدأ الشورى
والقرارات بالأغلبية وليس لأحد الحق في الاعتراض على مواقف الحزب إلا في
مكانه ولو يقوم أي رجل بالدعاية السيئة ضد الحزب بعد اتخاذ القرار فهذا دليل على
إخراجه من الحزب وقد اتفقنا في لوائح الحزب بأنه لا يحق لأي شخص مسؤول أن
يعارض سياسة الحزب خارج مجلس الشورى أو اللجنة التنفيذية بعد أن اتفق عليها
بالأغلبية.
البيان: يتحدث حكمتيار كل مرة عن هجوم كبير على كابل، متى سيحصل
هذا الهجوم وهل اتفقت الأحزاب الأخرى على هذا الهجوم وماذا لو لم تشترك هذه
الأحزاب هل تستطيعون تحقيق شيء؟
حكمتيار: الهجوم على كابل قريب - إن شاء الله - ونأمل أن يوافق القادة
الميدانيون على الاشتراك وإن شاء الله سيحقق الحزب شيئاً كما حقق في الماضي،
وأقول بأن الانتصارات التي حصلت بعد الشتاء كانت بسبب العمليات التي حصلت
من قِبَل الحزب أثناء الشتاء عندما سيطر الحزب على 60 موقعاً عسكرياً للنظام
حول كابل.
البيان: الحركة الإسلامية في أفغانستان أصبحت لديها تجربة في مسألة تلقّي
المساعدات الخارجية، ما رأيكم بموضوع تلقي المساعدات من الدول بشكل عام؟
وخاصة من الدول الكبرى الذين هم أعداء الإسلام.
حكمتيار: من الخطأ أن نعتمد على المساعدات الخارجية، وعلى جميع
الحركات الإسلامية التنبه لهذا.
البيان: مرة أخرى - حسب تجربتكم - هل ترى أن العامل العسكري لدى
الحركات الإسلامية يطغى على العامل الاقتصادي مما يجبرها أن تبقى أسيرة
سياسات دول وأطراف أخرى؟
حكمتيار: لا أعتقد أن أي حركة إسلامية تهمل الجانب الاقتصادي، والذي
رأيناه بأن الحركات الإسلامية تهمل الجانب العسكري، والحقيقة أن أول تجربة
عسكرية رأيناها كانت في أفغانستان، وأعتبرها تجربة ناجحة، ولو نستفيد من هذه
التجربة ونصحح الأخطاء فأرى أننا أهملنا الجانب العسكري وركزنا على الجانب
الثقافي ونرى أن معظم الحركات الإسلامية تتضامن مع عدوها وتفاوضه وعندما
يستفيد منها يتحين الفرصة لضربها وأظن أن هذا هو سبب الهزيمة.
البيان: هل تدعو لإنشاء تحالف بين الأحزاب الإسلامية المستقلة في
أفغانستان؟ .
حكمتيار: أعتقد لو ركزنا على الجانب العسكري أكثر وأكثر، وتركنا مسألة
تكوين الحكومة، ويكون التحالف عبارة عن تنسيق بين هذه المنظمات، ثم تشكل
حكومة بعد إسقاط نجيب وتُعقد الانتخابات ونأمل أن نتفق على مثل هذا.
البيان: كيف يستشرف حكمت يار دور أفغانستان في منطقة آسيا مستقبلاً؟ .
حكمتيار: إن جميع الشعوب الإسلامية تشعر بحاجة للتنسيق والتعاون
لمواجهة الأعداء، ولو استطعنا تكوين حكومة إسلامية فلعلنا نقوم بدور في ترسيخ
هذه الوحدة.
البيان: السؤال الأخير كيف ترون السياسة الباكستانية حيال أفغانستان بعد
استقبال المسؤولين فيها ولأول مرة بشكل علني مندوبين عن ظاهر شاه؟ .
حكمتيار: باكستان واقعة تحت الضغوط الأمريكية ولكن لها مواقف
استراتيجية لا يمكنها التخلي عنها، وصعب عليها أن تقبل بشيء يرفضه
المجاهدون، ومن الصعب بقاء حكومة شيوعية مجاورة أو حكومة تضم المعتدلين
وظاهر شاه وتضغط أمريكا على باكستان بأن تتخذ خطوة لا يرغب بها الشعب
الأفغاني.
__________
(1) البرلمان.(42/59)
عودة الجزائر إلى الحظيرة
يقول الله - عز وجل - في كتابه الكريم: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] ...
[الحجرات: 10] ومن منطلق هذه الإخوة الإيمانية فإنه يسوءنا ويسوء كل مسلم أن يزج بالأعداد الكبيرة من المسلمين في المعتقلات ويعتدي على حقهم في الحرية والتعبير عما يؤمنون به، وتكال لهم التهم من كل جانب ولا يسمح لهم أن يدافعوا عن أنفسهم علناً كما يُشتمون ويُتهمون علناً.
لقد تكررت المحن ضد العاملين للإسلام في العصر الحديث، وكادت تصبح
عملاً روتينياً من أعمال الذين يطاردونهم، يتعسفون في استعمال السلطة التي
يتمتعون بها. حتى أصبحت صنوف المحن التي تجري على أيدي خصوم العاملين
في الصف الإسلامي لا تثير أحداً، ولا تحرك شعوراً، وكثير من المسلمين
المخلصين أصبح يستمرئ هذا الروتين ويتقبله بسلبية وتسليم يساء تطبيقه وتفسيره. فأن يصبر المسلم على قدر الله شيء وأن يرضى بالدُّون والهوان يصب على
رأسه وعلى رأس مَن يشاركه في العقيدة شيء آخر.
وإننا من خلال متابعة الأحداث وتطورها في الجزائر لاحظنا بقلوب يملؤها
الأسى كيف تُجر (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) جراً إلى ما آل إليه أمرها، وكيف
تجتمع خيوط الخطة في الداخل والخارج لتشكل مسار الأحداث التي أفضت إلى
اعتقال قادتها ومئات بل آلاف من أنصارها.
إن هذا الأسلوب في دفع الأحداث، وهذا النوع من (الديمقراطية) يجعل
المراقب الحيادي يعجب من جرأة أصحاب الفكر الأحادي على اختلاق التهم، ولا
يثق - من جهة أخرى - بأي وعد يقطعه مثل هؤلاء للناس بالعيش الكريم في ظل
سلطة تحترم الرأي المخالف وتحنو على المعارضين مثل حنوّها على الموافقين.
إن المسلمين يستحقون أن يعيشوا كبشر، وأن يتمتعوا بما يتميز به البشر،
أعني حرية الرأي وأن يكون لهم رأي فيمن يحكمهم وفي الأسلوب الذي يحكمون به. وهذه أول ضمانة وأهم ضمانة لمخلوقات يطلب منها أن تبني أوطاناً وتساهم في
الحضارة، وإذا لم تتوفر هذه الضمانة لأي شعب فاقرأ عليه وعلى بلاده ومَن
يحكمونها السلام.
لم تكن المحنة التي حلت بالجبهة الإسلامية للإنقاذ مفاجئة لمن يراقب الأمور
بعمق ولمن يقرأ التاريخ بعقل واعٍ، بل كانت المفاجأة التصريح بادئ ذي بدء
للجبهة بالعمل السياسي العلني، وقد أصابت هذه المفاجأة العاملين في حقل الدعوة
الإسلامية وخصومهم على السواء.
أما العاملون في حقل الدعوة الإسلامية فعندهم من قراءاتهم واطلاعهم
وتجاربهم ما يجعلهم لا يغيرون قناعاتهم أن (سعداً أخو سُعيد) فما عدا مما بدا؟ !
لابد أن في الأمر شيئاً وهذا الأمر لا يتم، وستعلمنَّ نبأه بعد حين.
وأما خصوم الدعوة الإسلامية فهم أيضاً وقعوا بين الشك واليقين، فمنهم غير
المصدق لما يسمع: الجزائر، ذات التاريخ النضالي العريق! بلد (جميلة بو حريد)
وجبهة التحرير و (بن بِلَّة) و (بو مدين) ، والنضال ضد وضد..، ومعلمة التقدمية ... (تخرج عن مدارها) وتزري بها الأيام حتى تسمح لهؤلاء الظلاميين بالحركة وفتح الفم؟ ! يا ويلاه! إنها لإحدى الكُبَر!
ومنهم من رأى أن الأمر جد، ولا وقت للبكاء وفغر الفم، فلنعمل على إنقاذ
ما يمكن إنقاذه، متعلقين ببارقة أمل وهي أى المعقل الأخير لم يخرج من اليد بعد،
ومراهنين على سلبيات الإسلاميين من جهة، وعلى أسلوب (بطرس الراهب) في
الاستنفار والتهويل في الدوائر الغربية.
وهكذا كان ... عاد الكوكب إلى مداره، وعادت الجزائر إلى حظيرة أخواتها! والآن - بعد هذا العرض الذي قدم فيه كل طرف ما يحسنه - فقد وصل المسلمون
إلى منعطف يجب أن يتساءلوا فيما بينهم ويسألوا أنفسهم عما ينبغي فعله.
على العاملين في صفوف الجبهة الإسلامية للإنقاذ وغيرهم ممن يشاركونهم
المبادئ والأهداف أن لا يتركوا للمفاجأة وقسوة المحنة أن تثنيهم عما يريدون، فلابد
من التحضير لمثل هذه الأوقات وذلك بإظهار التصميم والإصرار يقابل الإصرار
من الطرف المقابل على التصفية، وإشعاره أن القضية ليست قضية بضعة أفراد
مشاغبين أخلّوا بالأمن، فتصرف معهم أهل القانون بما أعاد الأمن إلى نصابه، لا، إن القضية هي قضية تيار كاسح له الحق الشرعي و (الوطني) أن يكون ممثلاً
أصدق تمثيل في المشاركة في بحث مشاكل وطنه:
* التركيز - وبوضوح لا غموض فيه - على نبذ الإرهاب واستخدام السلاح
واللجوء إلى العنف، (وهذا ما كانت تؤكد عليه الجبهة الإسلامية للإنقاذ) .
* التأكيد على مطلب حرية التعبير الذي هو حق لكل إنسان كرمه الله.
* وعلى حرية أن يتمسك المسلم بعقيدته، وأن يرجع إلى مَن يوثق به في
تفسيرها وتوضيحها لا مَن تشتريه الدول ليكون لساناً لها يشوه العقيدة ويضلل الناس.
إن وثيقة حقوق الإنسان ضمنت هذا الحق لكل العقائد الفاسد منها وغير الفاسد. والمسلمون يجب أن يؤكدوا على حقهم في هذا المجال، ويطلبون من خصومهم
الوقوف عنده، لا أكثر من ذلك.
* وعلى حقهم في المشاركة السياسية، دون وصاية أو خضوع، فهم ليسوا
طارئين على هذا المجتمع، كما أنهم ليسوا (حركيين) ، وحقهم هذا لا يقبل
التشكيك أو المساومة.
وليعلم المسلم أنه مبتلى، وأن حياته سلسلة من الابتلاءات والمواجهات، هذا
ما تقتضيه سنة الله في الصراع الدائم والمدافعة المستمرة بين الحق وبين الباطل،
[ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
العَالَمِينَ] [البقرة: 251] .(42/64)
فرنسا ما بعد ديغول
تدفن أسطورة مساندتها للعرب
تحليل مترجم عن " الجارديان ويكلي "
إن شبح الجنرال شارل ديغول الذي أرسى مبدأ مساندة العرب، ونغمة
معارضة أمريكا في سياسة فرنسا الخارجية في الستينيات قد وُوري التراب وإلى
الأبد في جزيرة مارتنيك خلال القمة الأمريكية الفرنسية في 14/3/1991، وقد
اختار الرئيس ميتران بشكل يدعو للاستغراب إقليماً فرنسياً ليعلن خضوع بلده للقوة
العظمى الوحيدة (أمريكا) وليدفن أسطورة مساعدة فرنسا لنضال العرب ضد إسرائيل. وكل من بوش وميتران في مؤتمرهما الصحفي - الذي عُقد بعد 90 دقيقة محادثات - قد عبرا عن تصميمهما على الاستمرار بالوفاق الذي ظهر بين واشنطن وباريس خلال حرب الخليج. لقد كان دور فرنسا ثانوياً لكنه بالغ الأهمية في مساندة الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق. لكن حكمة الوفاق قد تعني التغطية على الخلافات، وقد ذهب ميتران إلى أبعد من ذلك عندما قال: (إن بلاده مستعدة لتأييد موقف أمريكا في سياستها تجاه الشرق الأوسط) .
وقد ذكرت صحيفة (هيرالد تريبيون) أنه بدلاً من التأكيد على وجهة نظر
فرنسا السابقة - وهي أن ترعى منظمة الأمم المتحدة مؤتمراً دولياً للسلام في الشرق
الأوسط كخطوة أولى - فإن ميتران أيد بوش في اتخاذ موقف عملي واستطلاعي
بدون تحديد مسبق.
وقد حيت الصحافة الفرنسية تراجع ميتران هذا واعتبرته صفحة جديدة في
العلاقات بين أمريكا وفرنسا. فقد قالت جريدة (لوموند) : لقد تبنت فرنسا بلا شك
مسؤولية تحمد عليها وهي موقفها الجديد من واشنطن.
وأضافت الصحيفة أن الرئيس ميتران قد اقتنص كل فرصة سانحة ليزيل
تحامل الرأي العام الفرنسي على الولايات المتحدة.
وقد مهد وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما الطريق أمام إعلان ميتران
الرسمي التحالف مع الولايات المتحدة.، وذلك خلال المقابلة الطويلة مع جريدة
لوموند في 11/3/1991، حيث قال: إن باريس ستقف إلى جانب الجهود
الأمريكية في العمل على حسم النزاع العربي الإسرائيلي. وقد انتقد سياسة فرنسا
الخارجية خلال حكم الجنرال ديغول ووصفها بأنها كانت سلسلة من الأوهام. وقد
كان أهم عنصر في تلك السياسة تجنب التعاون المفتوح العلني مع الولايات المتحدة، وبناء عناصر تأثير ديبلوماسية في العواصم العربية.
لقد التزمت الحكومات الفرنسية المتعاقبة سياسة ديغول هذه التي واءمت بين
إرضاء أمريكا سراً، وإرضاء العرب في العلن. ولعل رولان دوما هو أول
مسؤول فرنسي ينتقد هذا الأسلوب علناً؛ فقد أعلن أن فرنسا ليست مقيدة إلي الأبد
بفكرة المؤتمر الدولي تحت إشراف مجلس الأمن من أجل بحث المسألة الفلسطينية.
لقد دعت فرنسا مراراً خلال أزمة الخليج لانعقاد هذا المؤتمر من أجل تهدئة غضب
المسلمين من سكانها، وإرضاءاً للحكومات العربية.
وحيث انتصرت أمريكا انتصاراً ساحقاً في هذه الحرب، وحيث اشترك في
هذه الحرب عدد لا بأس به من الحكومات العربية فقد وجدت فرنسا في الانضواء
تحت إرادة أمريكا فوائد أكبر من تأييدها للأهداف الفلسطينية.
ومعلوم أن الولايات المتحدة - على تعاقب إداراتها - تفضل سياسة الاقتراب
خطوة خطوة لانعقاد المؤتمر الدولي، هذا المؤتمر الذي يمكن أن يعطي الاتحاد
السوفييتي دوراً ما في الشرق الأوسط، الأمر الذي لا توافق عليه واشنطن.
لم يكن ديغول صديقاً مخلصاً للعرب أو للمسلمين، فيما يخص هذا الأمر،
وقد كان موقفه ذاك مجرد تلاعب بالألفاظ لإظهار باريس قوة دولية مستقلة عن
الولايات المتحدة التي تهيمن على المؤسسات الغربية بما فيها منظمة حلف الأطلسي، والجنرال الذي تخلى عن حلف الأطلسي لهذا السبب أعلن تأييده الكاذب للهدف
الفلسطيني بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب الأيام الستة
عام 1967، ولم تحقق باريس من تعاطفها كله ذاك إلا الوهم الذي سمته استقلالاً
في سياستها الخارجية، وسرقة ملايين الدولارات من الدول العربية دُفعت مقابل
أسلحة ومعدات لا يمكنها هزيمة ترسانة الأسلحة الإسرائيلية. والنتيجة الوحيدة
المحسوسة لسياسة فرنسا المسانِدة للعرب كانت في إقناعها لدول السوق الأوربية
المشتركة إصدار إعلان البندقية عام 1980 مع أن ذلك الإعلان ظل حبراً على
ورق منذ إعلانه؛ لأنه لا فرنسا ولا غيرها من دول المجموعة الأوربية كانت
مستعدة لتحدي الولايات المتحدة في تعهدها بتمويل وتسليح الدولة الصهيونية،
وبدون ضغط دولي مؤثر على الولايات المتحدة لوقف مساندتها لإسرائيل، فإن هذه
لا ترى حاجة للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وعلى أي حال فإن الاتجاه الدولي قد تحول لمصلحة الولايات المتحدة بعد
انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، وبعد تطلع أمريكا المقنّع للهيمنة كقوة وحيدة.
وقد اعترفت كل من فرنسا والاتحاد السوفييتي بهذه الهيمنة باتباعهما الخط
الأمريكي في الحرب على الرغم من محاولتهما معاً تقديم خطط سلام اللحظة الأخيرة
قبل الهجوم على العراق وقد كانت جهودهما الديبلوماسية غير الجدية لإنقاذ العراق
للحفاظ فقط على صورتهما كقوتين عظميين ذواتي تأثير في العواصم العربية. إن
حرص فرنسا للتعاون مع واشنطن يعكس هذه الحقيقة الدولية الجديدة.
تغير آخر في موازين القوى في أوربا وهو (إعادة توحيد ألمانيا) قد بعث
الخوف الفرنسي من أن تكون بون هي القوة الجديدة المهيمنة في أوربا بدلاً من
فرنسا.
إن ألمانيا الموحدة في وضعها الجديد تحاول أن تجد مكاناً بين الدول دائمة
العضوية في مجلس الأمن التي لها حق النقض، وأي مراجعة لدور مجلس الأمن
لإحلال ألمانيا فيه سوف يؤثر بالتالي على فرنسا.
وفي مقابلة دوما مع (لوموند) كان واثقاً من أن مساعدة فرنسا للولايات المتحدة في حرب الخليج ثم مساندة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يحمل أمريكا على معارضة أية جهود ألمانية لدخول العضوية الدائمة، سوف يجعل أمريكا توافق على جهود ألمانيا لإطفاء دور فرنسا في مجلس الأمن، فألمانيا لم ترسل قوات لتحارب في الخليج.
وقد أشار دوما إلى أن الانشقاقات في العالم العربي التي أسفرت عنها حرب
الخليج كانت الأساس لمراجعة سياسة فرنسا في الشرق الأوسط.، إن الوحدة
العربية التي بُنيت عليها فكرة سياسة ديغول المؤيدة للعرب أظهرتها هذه الحرب
كخرافة، وفي الحقيقة فإن سياسة الجنرال كانت مزدوجة.
إن الحديث عن شيء اسمه (عرب) هو أسطورة كما يقول دوما، والحديث
عن شيء اسمه سياسة عربية موحدة أسطورة أخرى، وسياسة ديغول العربية كانت
سلسة من الأوهام، بالرغم من ذلك فقد ظل السياسيون متشبثين بها رغم خرا فتها.
وهناك دلالة أخرى لتقارب فرنسا مع الولايات المتحدة وهي قرار فرنسا في
15 من آذار الماضي الانضمام إلى مجموعة دراسة ومراجعة وتجديد استراتيجية
الحلفاء فيما يحصل بعد الحرب الباردة. وقد تألفت هذه المجموعة بعد قمة لندن
لحلف الأطلسي في تموز عام 1990.
ولم تُنتخب باريس لتشارك في جدول الأعمال الذي كان مقصوراً على الأمور
العسكرية. ومع هذا فسوف تظل فرنسا تدعو إلى الأمن والاستقرار والسلام في
الشرق الأوسط من أجل العواطف العربية للحصول على عقود إعادة البناء في
الكويت والعراق ولبيعهم السلاح، ولكن دعوتها هذه سوف تظل غير مسموعة؛
لأن واشنطن في وضع يجعلها تمنع أي عقد بين فرنسا من جهة وبين حلفاء أمريكا
في المنطقة.
ولعل أكبر مفارقة ساخرة قامت بها فرنسا هي دخولها في حرب ضد حليفها
القديم الذي ساعدت على تسليحه خلال علاقتها المميزة معه في الخمس عشرة سنة
الأخيرة؛ فقد احتكر الفرنسيون العقود المدنية والعسكرية فى العراق، وربحوا من
ذلك بلايين الدولارات، هذه العلاقة بين فرنسا والعراق بدأت عام 1974 على زمن
رئيس الوزراء جاك شيراك، لكن قدرة العراق على الدفع مقابل الأسلحة والمعدات
الفرنسية تناقصت بشدة خلال سنوات الحرب مع إيران التي استهلكت إنتاج العراق
من البترول، ونتيجة لذلك أصبحت بغداد مدينة لباريس بحوالي 2. 5 بليون جنيه
إسترليني بالإضافة إلى بليون جنيه إسترليني فوائد، وهكذا لم يعد العراق زبوناً
جذاباً كغيره في هذه الظروف.
عن " غارديان ويكلي " 15/4/1991(42/67)
أخبار حول العالم
بعد عملية سليمان
أي فلاشا جدد بعد الفلاشا الأثيوبيين؟
رئيس وكالة الهجرة اليهودية في إسرائيل سيمحا دينيتز - وهو الذي
أشرف على تنظيم (عملية سليمان) لنقل اليهود الأثيوبيين من أديس أبابا إلى تل
أبيب - أوضح في باريس أن الولايات المتحدة وفرنسا ودولاً أخرى تساعد على
نقل اليهود من سورية واليمن والعراق.
وكشف أن عملية سليمان كلفت 50 مليون دولار. وقال: (في سورية 3
آلاف يهودي، وفي العراق ألفان، وفي اليمن مئات عدة وفي إيران 30 ألفاً ونريد
نقلهم جميعاً) .
الأسبوع العربي 10/6/1991
الكوماندوس حاول تخريب كاهوتا ...
هل تصل يد التخرب الإسرائيلية إلى مفاعل (كاهوتا) وهو المنشأة النووية
الباكستانية الرئيسية؟
المعلومات الوثيقة تفيد بأن القتيل الإسرائيلي الذي سقط في ولاية كشمير
الهندية كان من ضمن مجموعة كومندوس، مؤلفة من 7 سياح كُلفوا بمهمة تخريب
مفاعل كاهوتا الذي لا يبعد أكثر من 20 كيلو متراً من الحدود مع كشمير الهندية.
وتردد أن الاستخبارات الهندية نسقت مع الموساد من أجل نسف كاهوتا حيث
الخطة لتصنيع قنبلة ذرية قطعت شوطاً بعيداً. ولهذا السبب قالت الخارجية
الباكستانية: (نحن قلقون لهذا الوضع، ويصعب تصديق أن هذا العدد من الأجانب
كان هنا لمجرد الاستمتاع بالمنظر الطبيعي للوادي، في ظل الوضع الحالي) .
الأسبوع العربي 8/7/1991
وزير إسرائيلي في آذربيجان
بناءً على طلب من رئيسها
بدأ وزير العلوم والتكنولوجيا الإسرائيلي يوفال نعمان زيارة إلى الاتحاد
السوفياتي بدعوة من أكاديمية العلوم. وعقد في العاصمة الآذربيجانية باكو أمس
اجتماعاً مع رئيس الجمهورية اياز مطّلبوف الذي دعاه شخصياً إلى لقائه وأعلن
مطلبوف بعد الاجتماع عن قرب افتتاح خط جوي مباشر بين باكو وتل أبيب.
وذكرت وكالة (إنتر فاكس) المستقلة أمس أن مطلبوف أكد أن هناك (آفاقاً واسعة
للتعاون الاقتصادي بين آذربيجان وإسرائيل) وأشار نعمان إلى أنه (ذهل)
للاهتمام الذي تبديه القيادة الآذربيجانية بحل مشاكل الطائفة اليهودية المحلية.
جريدة الحياة 29/5/1991(42/72)
الإسلام في تركيا
عبد المنان جولحة
بعد إبطال المادة رقم 163 من القانون التركي - التي كانت عائقاً كبيراً أمام
أي نشاط إسلامي - استطاع المسلمون في تركيا كسب مواقع جديدة، فتُرجمت كتب
لم يكن يسمح أن تترجم أو ترى النور، مثل كتب ابن تيمية وابن القيم وابن كثير،
ومن ناحية أخرى بدأت أصوات ترتفع منادية برفع القانون الذي يحمي الأتاتوركية، وظهرت الوثائق التي تكشف التزوير والتضليل الذي مارسته الأتاتوركية خلال
السنين السابقة وفي مدينة أزمير التركية أقيم مهرجان خطابي في يوم 29/5/91
حول فتح القسطنطينية (إستامبول) على يد القائد المسلم محمد الفاتح وكانت الكلمات
تتحدث عن سيرة الفاتح وأخلاقه وبطولاته ودعوة للشباب للاقتداء بهذا البطل
والتمسك بالإسلام، وقد حضرت هذا المهرجان وفود من أوزبكستان وطاجكستان
وتركستان من الاتحاد السوفييتي، ومن البوسنة والهرسك بيوغوسلافيا كما حضرت
وفود من إفريقية وأسيا.(42/74)
تعقيب على مقال
" وقفة مع عمل المرأة المسلمة "
أم عبد الله
اطلعت على مقال (وقفة مع عمل المرأة المسلمة) شاكرة للأخت (أم عبد الرحمن) حماسها الطيب ومحبتها للخير ورغبتها في تعميمه والدعوة إليه.. مثنية بالشكر على مجلتنا (البيان) لاهتمامها بقضايا الأمة دقيقها وجليلها، سدد الله على الدرب خطاها.
ثم أما بعد.. فهذا تعقيب على مقال الأخت كتبته من باب التجربة ومعايشة
الواقع الحي ولا ألزم أحداً في قبوله [إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ]
[هود: 88] ، وسأجمل القول في النقاط التالية:
أولاً: نحن كمسلمين ملتزمين بأمر الشرع تعترضنا قضايا لا يبدو فيها الحكم
واضحاً ليس من حيث الحل والحرمة ولكن من باب خير الخيرين!
وهنا المرجع إلى القواعد الكلية للشريعة السمحة، تلك الضوابط التي مَن
أتقنها اتضحت السبل أمامه وأبصر سبيله.. ومن فقدها تعثر.. بل ربما هلك وهو
يحسب أنه يحسن صنعاً!
وفي هذه القضية عمل المرأة - وبالأخص مشاركة المرأة الملتزمة في الدعوة
إلى الله واستغلالها مجال التدريس لهذا الهدف - لعل الناظر إليه برويَّة وأمل
واستقراء لقواعد الشرع يرى أن الأمر فيه تفصيل.
1- فإن كانت المرأة عازبة - أرملة أو مطلقة ولديها من العلم والتقى والمنهج
السليم نصيب - فبها ونعمت! تدعو إلى الله تأمر وتنهى.. وترشد وتنصح بعلمها
وسلوكها وشخصيتها المتميزة ونيتها المتجردة فيعظم النفع ويضاعف الأجر [ومَنْ
أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت:
33] ، وهي في هذا مستشعرة واجب الدعوة (بلِّغوا عني ولو آية) [1] واضعة
نصب عينيها (اغتنم فراغك قبل شغلك) [2] .
فحيَّاها الله أخت مباركة أينما كانت وتقبَّل عملها وبارك فيه وزادها من هداه
[والَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] [محمد17] .
2- فإن تزوجت ولم تُرزق أطفالاً فكذلك تستطيع بعون الله التوفيق بين عملها
ورعيتها بحسن تنظيم الوقت والاستعانة بالله (تعالى) .
3- فإن رزقت أطفالاً فالحال تختلف تماماً! أولئك أمانات استُودعت إياهم
والله سائلها أحفظت أم ضيعت.. سائلها عنهم قبل شؤون الدعوة المتشدق بها في
هذه الحالة، فلتفقه المرأة الداعية هذا ولتلزم بيتها ولتحفظ رعيتها موقنة بأنها تربي
الجيل المسلم.. وتعده وأنها تشارك الأمة في عملية البناء وهي في مملكتها.. وهي
مرابطة على ثغرها! !
مستشعرة عظم العبء الذي تنوء به كأم مربية داعية وأفلحت إن شعرت!
إنه ليؤسفنا أن تنظر الأخت الملتزمة إلى (البيت) هذه النظرة الرائجة..
وكأنه آخر ما تفكر فيه فما هذا عهدنا بذوات الخدور القانتات الحافظات للغيب!
[وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] [الأحزاب: 33] عبودية يحبها الله فأحبِّيها.. وأحيي
شرع الله يحيي الله قلبك بالإيمان.
وهنا سؤال قد يطرحه البعض:
ماذا أربي في طفل وليد أو لم يبلغ سنة أو سنتين هل أنقطع من أجله؟ !
وهنا نحيلها على كلام الأستاذ محمد قطب (شبهات حول الإسلام) - فصل
الإسلام والمرأة ص138-139 ط. الشروق و (منهج التربية في الإسلام) ،
لمحمد قطب 2/108-109، ط. الشروق.
إن الأمومة رسالة لا تقبل المزاحمة بعمل آخر يمتصها معظم النهار في أنظمة
علمانية تعامل المرأة كالرجل. (حيث تبدأ دوامها من الساعة السابعة صباحاً حتى
الثانية ظهراُ، بل قد تبدأ المصلحة من السادسة والنصف؟
فبربِّكم أين يُترك الأبناء؟ ! إنها خيارات مُرة فما المُلجِئ لها؟ !
أعند الخادمات وهذا هو الملاحظ عند كثير من الأخوات الملتزمات، حيث
يرين أنفسهن داعيات للحق ومريدات للخير.. لا يردن أن يتركن المكان شاغراً
لأهل الباطل.. تراهن قد وقعن في استقدام الخادمات من شتى البلدان.. وحكم ذلك
الاستقدام لا يجهله مبتدئ في العلم والدعوة.. بل مسلم من العوام يحفظ حديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو
محرم) .
أم يترك عند الجدات اللاتي آن الأوان لبِرّهن وإكرامهن!
أفمن الإحسان إليهن وقد بلغن من العمر عتياً أن يبدأن رسالة جديدة هي
حضانة الأحفاد؟ !
أين الالتزام [وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [البقرة: 83] . لقد انقضت أعمارهن في
كدح وشقاء وشظف عيش.. أفلم يأنِ لهن أن يتفرغن لذكر الله والتقرب إليه!
لقد أدَّين رسالتهن وكفى!
شكر الله لهن ورزقهن الشكر لهن [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا] [سبأ: 13] .
أو في الحضانات.. وأحيلها كذلك على المرجع السابق (شبهات حول الإسلام) .
ثانياً: وفي هذه الحالة - وهي التفرغ لتربية الأطفال وهي في حد ذاتها
عبودية - فلن تفتر الدعوة كما ذكرت الأخت (أم عبد الرحمن) أو تنقطع بل أراها
ستوجه وجهة أخرى تناسب الحال..
يقول ابن القيم - رحمه الله -: (لله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب
رتبته، سوى العبودية العامة التي سوَّى بين عباده فيها، فعلى العالِم من عبودية
نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما ليس على
الجاهل.. وعليه عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره وعلى الحاكم من
عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على
المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير،
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على
العاجز فيهما..) [3] والشاهد هنا أن على الأخت المتفرغة ما ليس على المنشغلة
بأمومة وزوجية ورعاية بيت! !
ولكن أيضاً (عبودية الدعوة إلى الله) تقوم بها (الأخت الأم) حين توجه
المسار! فلا تزال على الدرب وإن شُغلت، وبين رعاية الحقوق مع الضر
ورعايتها مع العافية بون بعيد [4] .
فأين الأخت الملتزمة الداعية من اجتماعات النساء بأنواعها من أعراس وولائم
وزيارات ولقاءات لِمَ لا تحييها بالكلمة الطيبة؟ !
أين الأخت الملتزمة من الاجتماعات العائلية لِمَ لا تحولها إلى رياض من
رياض الجنة تتخللها بالكلمة الهادفة [وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: 214] .
أين هي من الجارات بل من الحي بأكمله إن كانت مارست التدريس وغُرست
فيه؟ لِمَ لا تجعل له درساً دورياً مستشعرة أن أعظم الإحسان إلى الخلق الإحسان
إليه بالعلم والهدى مستعينة بالكتاب الإسلامي والشريط الإسلامي وكل ما يخدم
الدعوة وييسرها، لقد جُرب هذا فأثمر.
ثالثاً: أن التدريس كوظيفة لها التزاماتها.. ويعرف هذا كل من مارس التعليم
الحكومي، الكثير من الأخوات لم يتركن التدريس كمجال للدعوة إلا بعد أن عانين
الأمرّين من ارتباك حياتهن الأسرية تحت ضغط أنظمة وقوانين لا تعامل المرأة
كمرأة! فكأن لسان حالهن يقول: (ما خرجنا إلا لله وما قعدنا إلا لله) ! .
ومعاناة أخرى تعانيها الأم المدرّسة الداعية فكيف ستكون سكناً للزوج الداعية
المرهق؟ !
إنها أمور جُربت وخُبرت.. ومن ذاق عرف!
فإذا كانت الدعوة عبودية، فالزوجية كذلك.. والأمومة كذلك، فلتوزن الأمور
بموازينها وليُعطَ كل ذي حق حقه.. ولنسرْ على الدرب بخطى مدروسة لا نقبل
أنصاف الحلول ولا نعالج الخطأ بالخطأ مستضيئين بقواعد هذا الشرع.
أما أن نترك بيوتنا وأطفالنا ورعايانا لنزاحم أهل الباطل في مواقعهم.. هكذا
بلا تفصيل فلا يقول به إلا مَن جهل الواقع.. أو تجاهل؟ ! ومَن تناسى الفطرة
والتبس عليه الخيران.
إن ترجيح الفاضل على المفضول قد يفوت بالحماس اللامنضبط بضوابط
الشرع، وذلك أمر يقع فيه الكثير إما لقصر النظر أو سطحيته أو استعجال النتائج
بغض النظر عن العواقب البعيدة!
وإن الزج بكل طيبة لمجال التدريس لتدعو إلى الله - بصرف النظر عن
حالها (أُماً كانت أم لا) - فيه نظر.. فليست القضية يا أختي (شؤون بيت) يساعد
فيها الزوج ويحتسب! فذلك أمر تقوم فيه الآلة بدور ولله الحمد.. ولكن القضية
المعمى عليها (قضية الأبناء) فهل نفقه؟ !
إن الأبناء والعناية بهم أعظم مجال تنصرف إليه المرأة وأشرف ما صرفت
فيه الجهد، وقضت فيه الوقت ولا يعادله أي مجال آخر، وهذا ما اعترف به
العقلاء والمنصفون في المجتمعات الغربية التي استهانت بهذا الدور؛ فحُرمت
السكينة.
فلتقم الأم بدورها متعبدة لله بذلك ولتقم الأخت الآنسة بدورها ولتدعو كل منهما
بما يناسب حالها فذاك الذي يُرضي ربها [والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] [الأعلى: 3] .
وختاماً، فليست هذه الكلمات تثبيطاً للهمم بل أحسبها تصحيحاً للمسار ونبراساً
[لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] [الملك: 2] .
__________
(1) من حديث رواه الحاكم في المستدرك 4/306 عن ابن عباس وصححه وافقه الذهبي.
(2) جزء من حديث اغتنم خمساً قبل خمس صحيح الجامع 1/355 رقم 1088.
(3) إعلام الموقعين، 2/157-158.
(4) الفوائد لابن القيم (حكم وعظات) .(42/75)
ركن الأسرة
قبل أن تكوني داعية
اختيار: مريم سعيد
يقول الله - عز وجل - في كتابه العزيز [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] [النحل: 125] .
جزء من آية يعبر عن معنى عظيم مهما حاول الإنسان أن يغوص في أعماقها
ليستخرج المعنى المناسب لها لا يستطيع ويبقى وكأنه على السطح أو على الشط لم
يتجاوزه. ولنحاول أن نأخذ معنى من هذه المعاني الكبرى التي تحتويها الآية
العظيمة: (الدعوة إلى الله) .
أختاه: أقول لكِ بعض كلمات أرجو أن تغرسيها في قلبك وأن تزرعيها في
عقلك وأرجو أن تجد لها مكاناً في قلبك وأن لا يطويها النسيان.
إن المسلم الحقيقي إذا قيل له: ألّف أجساداً تتجمع حولك وعيوناً تنظر إليك
وآذاناً تستمع إليك يقول: لا؛ إني أريد أن أؤلف قلوباً تتجمع وعقولاً تعي ويداً
تعمل وتبني. إن هم المسلم الصادق هو كيف يستطيع أن يحول القلب القاسي إلى
ينبوع من الحنان يتدفق وإلى شلال من العواطف تنساب، أن يمسح عن القلب
الغبار الكثيف الذي خلفه ركام الزمن. إن أسعد الناس حالاً في هذه الحياة أولئك
الذين منحهم الله نفساً جميلة مادة يحبها الناس وتثق بها النفوس وتأنس لها الأرواح.
يا أختاه، إن كثيرات من المسلمات بحاجة إلى قلب وعاطفة ومشاعر فكوني
أنتِ القلب لهن وأحبِّيهن بعاطفتك ومشاعرك، إن الإنسان الذي يعيش بلا قلب
مؤمن حي ولا مشاعر عفيفة صادقة لا يستحق الحياة، إن المؤمنة الصادقة هي التي
لا تفقد قلبها الطفل العطوف، وحتى لو أحست من قِبل أخواتها بقسوة فتتحمل،
وليس هناك شيء ذو قيمة حقة يمكن أن يُشترى بلا آلام وأنت تطلبين الجنة! .
فإن المسلمة الحقة هي التي تلوم نفسها على التقصير بينما التافهة هي التي
تلوم الآخرين، يا أختاه، إن في هذه الأمة مناجم من قلوب لا يحجبها عنا إلا غبار
الزمن، فامسحي بيدك على هذه القلوب لتتفتح كالزهور وتورق كالياسمين وهذه هي
فراسة المؤمن.
إن الإنسان يقاس بقدر المهمة التي يسعى إليها، فكلما ارتفعت ارتفعت قيمته
وسمت، إياك أن تكوني سطحية في الحكم وفي التفكير بل غوصي في الأعماق
لتستخرجي اللؤلؤ وإياك أن تهتمي بالأخطاء الصغيرة وتتوقفي عندها لتحكمي على
صاحبتها بالفشل (فالأخطاء كالقش تطفو على وجه الماء) فمن أراد البحث عن
اللؤلؤ فليغص في الماء ليستخرجه، فإن الشجرة التي تلامس السماء نمت
وترعرعت من أصغر بذرة وكما يقولون (ولولا ظلمةُ الأخطاءِ ما أشرقَ نورُ
الصوابِ) .
لابد أن نسير في طريق الدعوة مهما كانت شائكة، وعلينا أن نقطع الطريق
إلى القمة الشاهقة إلى الفردوس الأعلى مهما أدمت أقدامنا الأشواك ومهما جرح كلام
المستهترين القلوب. إنني كم كنت أحزن على ذلك الشباب المستهتر المغرور الذي
يظن الحياة للهو والمرح ومرتعاً للميوعة والعبث، أكره منهم تلك الأنانية المفرطة
التي تطغى على شخصيتهم وذلك الاستعلاء الفارغ الذي يطل من عيونهم، وتحت
مظهرهم الأرستقراطي الجذاب، كنت ألمح نفوساً دنيئة لا يراها أولئك الذين غرتهم
الحياة وغرتهم الأموال والشهوات.
إن وجودك - يا أختاه - متمسكة بأخلاق دينك وبمبادئك معجزة تدب على
الأرض؛ إذ كيف تشب هذه الفتاة أو هذا الشاب في واقع تذوب فيه الصخور
ويصهر فيه الحديد. وكثير من الناس - وا أسفاه! - ليس لهم من الإنسانية إلا
نقاط الالتقاء مع الحيوان، إنني أعرف أن كثيراً من الإخوة والأخوات الشباب
عقولهم من أذكى العقول، وقلوبهم من أطهر القلوب، يريدون التذكير والدعوة
ليصبحوا عاملين. ولو كان شبابنا وشاباتنا من هذا الطراز لطوينا حياة التخلف والانهيار التي نحياها في بلادنا.
فيا أختاه، ثقي بنفسك وبإيمانك وبدينك؛ فإن لك لغة مؤثرة لو لامست
الصخر الأصم لَلان واستمع، ولتعلمي أن سلب الأجسام أرواحها ليس بأسهل من
سلب النفوس غرائزها وميولها، وإني لأعلم أن في هذا مشقة ولكن قد كُتب لهؤلاء
العاملين على وجه الأرض في مجال الدعوة أن يعيشوا فيها عيش الأشجار في
الصحاري تظلل الناس بوارف ظلها وهي تصطلي حر الشمس.(42/81)
امرأة وموقف
أسماء بنت يزيد بن السكن
مزنة محمد
صحابية جليلة وأنصارية وراوية ثقة ومجاهدة صابرة. فمَن تكون هذه التي
جمعت هذه الصفات النبيلة واختُصت بها؟
إنها أسماء بنت يزيد بن السكن الأشهلية، ابنة عمة معاذ بن جبل - رضي
الله عنهما - أسلمت وبايعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان
وروت عنه أحاديث وشهدت معه فتح خيبر. ولقد لُقبت (برسول النساء) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا اللقب قصة يحسن بنا أن نذكرها لما فيها من الفائدة لعامة النساء.
روى مسلم بن عبيد أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين
أصحابه فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله -
عز وجل - بعثك إلى الرجال والنساء كافةً، فآمنا بك وبإلهك وإنا - معشر
النساء - محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم- معشر الرجال - فُضلتم علينا بالجُمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله - عز وجل - وإن الرجل إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً، حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم الأجر والثواب؟ !
فالتفت النبي إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط
أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة
تهتدي إلى مثل هذا.
فالتفت النبي إليها فقال: افهمي أيتها المرأة وأَعلِمي مَن خلفك من النساء أن
حسن تبعُّل [1] المرأة لزوجها وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله،
فانصرفت المرأة وهي تهلل [2] .
يا لها من رسالة خالدة.. ومسؤولية عظيمة.. فتنال المرأة أجر الجهاد وهي
في مخدعها.. وتنال ثواب الجماعة وهي في غرفتها.. وتكسب شرف الجراح
والاستشهاد في سبيل الله وهي لمَّا تغادر بيتها! ! ، فجزاك الله عنا خيراً يا أسماء؛
فقد كنت سبباً في تعليم النساء أقرب الطرق إلى الجنة ومن أقصرها وهو سبيل
الطاعة.
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أشرف على بيوت بني عبد
الأشهل - بيت قومها - يقول: ماذا في هذه الدروس، الخير! هذه خير دور الأنصار.
شهدت أسماء فتح خيبر مع مَن خرجن من النسوة لمداواة الجرحى ومناولة
السهام وطبخ الطعام وخرجت مع جيش خالد بن الوليد لملاقاة الروم في معركة
اليرموك وقتلت بعض جنود الروم بعمود خبائها. فلله درُّك يا أسماء فقد نلتِ أجر
الجهاد مرتين: الأولى وأنت في بيتك والأخرى في ساحة الوغى.
امتدت بها الحياة حتى شهدت انتهاء الخلافة الراشدة وتكوين الدولة الأموية
وتوفيت في خلافة معاوية في السنة الرابعة والخمسين للهجرة.
رحم الله أسماء ورضي عنها فقد صدق فيها حديث رسول الله: (رحم الله
نساء الأنصار لم يمنعهن حياؤهن من التفقُّه في أمور دينهن) .
__________
(1) أي حُسن مصاحبتها له.
(2) أُسْد الغابة، 6/19.(42/84)
مراجعات في عالم الكتب
كتاب دراسات في أصول المداينات
وكتاب دراسات فقهية
تأليف: أ. د. نزيه حماد
مراجعة: عثمان جمعة ضميرية
على كثرة ما تدفع المطابع من الكتب والمطبوعات، قد لا تجد في المائة كتاباً
جديراً بالعناية والدراسة، فإذا وقعت على دراسة دقيقة عميقة موثقة في أي فرع من
فروع العلم، فأنت إذن تقبض على كنز ثمين، ينبغي أن لا تفرِّط فيه.
أقول هذا، وقد فرغت من قراءة كتابين جديدين من منشورات دار الفاروق -
الطائف وتأليف الأستاذ الدكتور نزيه حماد، أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في كلية
الشريعة جامعة أم القرى، وهو المعروف بين إخوانه وطلابه بمحاضراته الجامعية
وبحوثه العلمية التي تتسم بالعمق والجدية، فهو لا يرضى بالسهولة والسطحية في
البحث، أو الخطف في الكتابة والتحقيق، وكتبه المحققة والمؤلفة، وإشرافه على
الرسائل الجامعية، ومناقشاته، وبحوثه المقدمة للمؤتمرات والمجامع الفقهية، فيها
الدليل الصادق لمن أراد.
الكتاب الأول: دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي
وهو مجموعة دراسات فقهية مقارنة في موضوع المداينات في التشريع
الإسلامي، كان قد ألقى أصولها محاضرات على طلبة قسم القضاء بكلية الشريعة،
عندما عهد إليه بتدريس مادة (الدَّيْن وطرق ثبوته) ، ونشر جُل مباحثها في بعض
المجلات العلمية والنشرات الجامعية؛ مما يحصر الإفادة منها بفئة من الباحثين
والقُراء فكان من الخير أن تُجمع في كتاب، منظومة في عقد واحد، نظراً للوحدة
الموضوعية التي تؤلف مباحثها وتجمع بين مسائلها وجزئياتها، وبعد أن أعمل فيها
يد التحرير والتنقيح، وأضاف إليها إضافات علمية ذات أهمية.
ويضم الكتاب بين دفتيه ستة بحوث:
البحث الأول:
حقيقة الدين وأسباب ثبوته، تناول فيه الكلام بالتفصيل عن حقيقة الدين في اللغة والاصطلاح الفقهي، وحقيقة الذمة، نظراً لارتكاز فكرة الدين على فكرة
الذمة وارتباطها بها، ثم بين أسباب ثبوت الدين في الذمة.
البحث الثاني:
توثيق الدين في الفقه الإسلامي وهي دراسة من أهم الأمور المتعلقة بمداينات الناس وعقودهم التي تتضمن ثبوت الدين في ذمة أحد المتعاقدين أو تسببه؛ لأن غرض الشرع ومقصده أن يحفظ لصاحب الدين حقه بأن يمكنه من بلوغه والحصول عليه، وأن يدفع عنه مفسدة هلاكه أو جحوده، أو العجز عن إثباته واستيفائه.
البحث الثالث:
التصرف في الدين في الفقه الإسلامي؛ فدرسها دراسة مقارنة، فهي من أهم موضوعات المعاملات المالية، وأكثرها عمقاً ودقة وشمولاً، بل إن مباحثها ومسائلها تعتبر بمنزلة العصب الساري في هيكل العقود والمعاملات. ومما يزيدها أهمية وشأناً أن كثيراً من صور التعامل المالي المعاصر - كالتحويلات المصرفية، والبريدية، والكمبيالات، والسحب على الحساب الجاري.. - إنما يرتكز تخريجها الفقهي، وتبنِّي أحكامها على أساس فروع وقواعد التصرف في الدين.
البحث الرابع:
تغيُّر النقود وأثره على الديون؛ وهذا البحث يعالج مشكلة اقتصادية عاصرة تمس الفرد والجماعة في أغلب دول العالم اليوم وهي مشكلة التضخم وما يرافقه من تأثير على النقود، كما أن التأثير قد يكون ناتجاً عن تخفيض دولة ما عملتها النقدية أو قد تلغيها وتستبدلها بغيرها.. فلذلك من الأهمية بمكان دراسة ما يتصل بالمعاملات المالية عند تغير أحوال النقد وأثر ذلك على الديون في الذمم أياً كان سببها ومنشؤها.
وهذا الجانب لم يغفله علماؤنا - رحمهم الله - وكان لهم نظرات مهمة جديرة
بالعناية، وقد جاء هذا البحث ليبين ذلك، فيدرس تغييرات النقود الذهبية والفضية، والنقود الاصطلاحية، وفي هذه الأخيرة فرَّق بين خمس حالات وهي: الكساد
العام للنقد، والكساد الإقليمي للنقد، وانقطاع النقد، وغلاء النقد ورِخصه. وحكم
كل حال من هذه الحالات، ثم يبحث حالة التضخم والانكماش.
البحث الخامس:
بيع الكالئ بالكالئ (بيع الدين بالدين) ، وحظْر بيع الكالئ بالكالئ من أبرز الأصول الشرعية في المعاملات، فكان لابد من تحرير القول فيه، وضبط معاقده وبيان أحكامه.
والبحث الأخير:
المؤيدات الشرعية لحمل المدين المماطل على الوفاء، وبطلان الحكم بالتعويض المالي عن ضرر المماطلة.
فقد ذهب الأستاذ مصطفى الزرقا في مقال له بمجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي
بجدة عام 1405 هـ إلى أنه يجوز الحكم على المدين المليء المماطل بتعويض
مالي يدفعه للدائن مقابل ما فوَّته عليه من منافع بسبب تأخير الوفاء.
ونظراً لبطلان هذا الرأي شرعاً، لضعف الأساس الذي ارتكز عليه، وفساد
الاجتهاد الذي نحا إليه، فقد جاء هذا البحث لتفنيد تلك المقولة وبيان أوجه الغلط
فيها لئلا يغتر بها أحد، مع بيان العلاج الشرعي الصحيح للمماطلة، والتعريف
بالمؤيدات الشرعية لحمل المدين المماطل على الوفاء بدينه.
* * * ...
أما الكتاب الثاني: دراسات فقهية
وهي مجموعة فقهية منهجية في موضوعات متنوعة تكمل الكتاب الأول،
وتضيف جوانب أخرى، قد لا يجمعها مع سابقتها وحدة موضوعية، ولكنها تناقش
قضايا فقهية مهمة، وانتظم الكتاب ستة بحوث وهي: الصلح في الأموال، اللُّقطة
في البلد الحرام، الوعد، القبض الحقيقي والحكمي للأموال، الهجرة، القنوت.
والكتابان دراسة فقهية مقارنة دقيقة للمسائل، تقوم على منهج علمي دقيق،
يحرر فيه المسألة ومحل الوفاق والخلاف، من خلال عرض المذاهب الفقهية
والاستدلال لها، مع المناقشة والترجيح، وقد يترك للقارئ من خلال العرض يختار
ما يراه أقوى ومتفقاً مع الدليل ومقاصد الشريعة.
ونلحظ الدقة في عزو الآراء، وتوثيقها بشكل دقيق أمين، وفي خاتمة كل
بحث بيان بمراجعه ومصادره، وهي طريقة تربي في طالب العلم الملكة الفقهية،
وتعوده على البحث الدقيق في الدراسات الإسلامية الفقهية.
وللمؤلف خالص الدعوات، و (للبيان) خالص الشكر والثناء أن فسحت.(42/86)
قديم جديد
الأوروبيون والكيل بمكيالين
شكيب أرسلان-حاضر العالم الإسلامي 4/67-68
جاءني مرة - وأنا منذ سنتين في برلين - اثنان من سفارتين من سفارات
الإنكليز الكبرى في أوروبا، يريدان أن يباحثاني في المسائل الشرقية، فكان من
جملة ما قال لي أحدهما: قُلْ لنا هل تعتقد كوْن هذه الشعوب الشرقية القائمة كلها
بطلب الاستقلال هي أهلاً له. فأجبته: قل لي هل بلاد اليونان منذ قرن والبلغار
منذ 40 سنة والجبل الأسود والصرب كانت أرقى مما هي عليه مصر وسورية
وتونس الآن؟ فلماذا يطلب لتلك الاستقلال مع مساعدة جميع أوروبا وأثناء تصفيقها
وابتهاجها وينكر على هذه بحجة أنها لم تصل إلى درجة الكفاءة؟ !
قال الإنكليزي: أفلا تعترف بكوْننا أقدر على إدارة مصر من أهلها. وإن
وجودنا فيها أضمن لمرافقها المادية. قلت له: أفلا تعترف بأن النمسا أقدر على
إدارة يوغوسلافيا من الصرب وأنها أرقى بدرجات من الصرب؟ أفلا تعترف بأن
النمسا هي التي هذبت ورقت مستوى جميع تلك الأمم التى انسلخت عنها بمساعدتكم؟ أفلا تسلم بكون الرومان الذين كانوا في المجر هم أرقى من رومان نفس رومانيا
وأن حكومة بودابست هي أعلى مراراً من حكومة بوخارست؟ أفلا تقر بكون
الألمان هم أقدر من البولونيين على إدارة سليزيا العليا؟ وأن مرافق سليزيا العليا
تكون تحت إدارة ألمانية مضمونة أكثر مما تكون تحت إدارة بولونية؟ فلماذا إذا
سلختم يوغوسلافيا عن أوستريا وترانسيلفانيا عن المجر وقسماً من سليزيا عن ...
ألمانيا؟ ربما تقولون لملاحظات أخرى وطنية واعتبارات قومية لابد منها؛ إذ
كل أمة لها حق في أن تدير نفسها بنفسها فلماذا هذه الاعتبارات القومية والوطنية تبقى مرعية ما دامت في أوروبا فإذا كانت المسألة في الشرق لم يبقَ هناك من سبب يجب اعتباره سوى حسن الإدارة؟ قلت له: أنا لا أشك في أنه لو استولت ألمانية على أستونية أو ليتوانية أو لاتفيا لإدارتها أحسن مما يديرها أهلها اليوم، ولو استوليتم أنتم على البرتغال لكانت حال البرتغال المالية والإدارية أحسن ... منها في أيدي البرتغاليين وهَلُمَّ جَرَّا، أفتسمح أوروبا لألمانية بحجة علوية ... الإدارة أن تستولي على بلاد البلطيك أو لكم بأن تستولوا على البرتغال؟ لا أظن ذلك. ... فلماذا بحجة أفضلية الإدارة تتمسكون بالبقاء بمصر ولا تنظرون إلى ما هنالك من العوامل القومية والوطنية؟ ولماذا جمهورية أريفان الأرمنية تستحق الاستقلال وكرجستان هي أهل للحرية، ومصر وسورية لا تستحقان الاستقلال ولا الحرية؟ أترى أريفان هذه بل كرجستان أرقى من مصر أو سورية أو العراق أو تونس؟ كلا. فلماذا تحللونه عاماً وتحرمونه عاماً. وأغرب من هذا أن آذربيجان التي هي أرقى جداً من أريفان لم نجد دولة من دول أوربا طلبت لها الاستقلال
وهن بأجمعهن يطلبنه لأريفان. مع أن آذربيجان أربعة ملايين وأريفان أربعمائة ألف وآذربيجان متمدنة وأريفان بجانبها تعد متوحشة. وكذلك جميع الدول
مهتمة بدفع البولشفيك عن أريفان وكرجستان وليس من واحدة تطلب دفعهم عن
آذربيجان والطاغستان، هل في ذلك سبب إلا كوْن الأوليين مسيحيتين والآخريين مسلمتين؟ أفبمثل هذا العدل وهذه المساواة تطمع أوروبا أن يكون بينها وبين الإسلام سلام؟ .(42/90)
إلى علماء الأمة
سعود بن محمد آل عوشن
إن العلماء في كل زمان ومكان هم مصابيح الأمة وسراجها المنير وقدوتها
وقادتها؟ .. ويجب أن يتولوا توجيهها إلى سبيل الرشاد غير أن البعض منهم بَعُدَ
عن الميدان وتكاسل مما أدى بدخول مَن لم يكن أهلاً لذلك؛ مما دفع الأعداء إلى
استغلال هذه الأصناف من البشر يهدمون الإسلام باسم أهله، دخلوا الميدان
الإعلامي فاستغلوه لنفث سمومهم وترويج مبادئهم وسلعهم وتنشئة أبنائنا عليها؟ ..
فهل أنتم غافلون؟ أم متنصلون من المسؤولية؟ لا شك أنكم مسؤولون عن ذلك أو
محاسبون على كتم العلم أو عدم تعليمه وتبليغه للبشرية بصفة عامة؟ .. فأين تبليغ
للإسلام؟ وأين الدعوة إليه؟
بل أين المؤلفات العصرية التي يمكن أن يبلغ الإسلام بها؟ وتبين محاسنه
ومبادئه وما يقتضيه من إسعاد للبشرية؟ .. وأين الكتب المبسطة لمن دخل الإسلام
لتعلُّمه تطبيقه؟ وغير ذلك مما هو شاغر من ميادين الإسلام وأعماله بينما امتلأت
المكتبات والأرفف بالقصص الماجنة والخزعبلات الضالة؟ .. أين أنتم من هذا
الخضم في الأسواق من الصحافة الضالة والمؤلفات الكثيرة والأفكار الهدامة وما
يسخر في سبيل ذلك من طاقات وجهود وأموال الأمة الإسلامية؟ .
سادتي الأفاضل: إنها الغيرة على الإسلام وأهله وعلى الأمة الإسلامية وما
تعاني من ويلات ومشاكل؟ وندم على ما نشاهد من تفكك في أهل الخير وتباعدهم،
وتضحية عند أهل الباطل لباطلهم وتخاذل وتهاون بين أهل الحق.
إن أموال الأمة نلعب بها كلاب البشر في ملاهيهم وباراتهم ونواديهم وغير
ذلك من ألوان الفسق والكفر بينما نرى البعض مُخلدين لحب الدنيا والدرهم لا
يسألون إلا عن أنفسهم وأكلهم ومعاشهم وتجارتهم وما يتعلق بهم؟ وكأنهم يعيشون
في الوجود وحدهم أو ليسوا مسؤولين عن غيرهم ولا حتى بالمشاركة الوجدانية.
سادتي الأفاضل: هل أدركتم وضعكم وما يجب عليكم وما يحيط بكم وما
يحاك لكم وكيف حال أمتكم وإخوانكم في مشارق الأرض ومغاربها؟ .. فلماذا لا
تعلمون حال أمتكم وتشاركونها وجدانها آلامها وأحزانها تفزعون لمصائبها وتسعدون
لسعادتها وتجاهدون في الذود عن حياضها.
لماذا نبرئ أنفسنا من مسؤوليات مشاركة إخواننا في الجهاد في آلام الجوع
والعري وغيره ونحن نعاني من آلام التخمة الكثير والكثير.
سادتي الأفاضل: أنا لا أعني بخطابي هذا أولئك العلماء الذين سخروا
جهودهم في خدمة الأمة الإسلامية في أي ميدان؟ ، سواء في الدعوة أو التعليم أو
التربية أو غير ذلك في مجالات الخدمة العامة، إنما أعني بذلك أولئك الذين قبعوا
في دورهم؟ .. أو جمدوا على كراسيهم يعدون الشهر باليوم والليلة حتى يحين
موعد المعاش أو العطاء أو الدَّيْن أو الربح أو غير ذلك من أهداف الدنيا الفانية غير
مبالين بعلمهم وعملهم وحياتهم وإذا عملوا لا يعملون إلا لأنفسهم ويذلونها في سبيل
طلب الدنيا، فقد يركع البعض منهم لطواغيت الأرض أو يقبّل أطرافه بانحناء؟ ..
تزلُّفاً إليه وتقرباً منه طمعاً في مادته وعطائه وخشية من سطوته وإبعاده.
فيا علماءنا أفيقوا من هذه الغفلة أو الرقدة الطويلة واغتنموا ما بقي من العمر
القصير، واعلموا أن التاريخ يسجل عليكم كل صغيرة وكبيرة وسينشر صحائفه
للملأ في الدنيا وأن القرين يسجل ذلك أيضاً ليوم الحساب والعذاب أو الثواب وسيقدم
سجله لملك عادل لا تخفى عليه خافية.
فكفانا غفلة وإهمالاً وكفانا كسلاً وخذلاناً.. ولنبدأ الحياة من جديد بعمل جاد
أكيد نغسل به ما مضى ونستدرك به ما بقي فنقول الحق ونطلب الحق ونسعى لأجل
الحق، لا نخشى في الله لومة لائم ولا نخاف إلا من الله ولا نرجو إلا هو وتؤدى
رسالته فنخدم عباده وأمته ونفيض بالعلم والخير عليها ونسخر كل طاقاتنا المادية
والمعنوية علمية أو عملية في بناء الأرض وعمارتها بالعمل الصالح، فتعود للأمة
الإسلامية قوتها وعزتها وللإسلام علوه ومكانته فوق الأديان والأمم وما ذلك على الله
بعزيز.(42/92)
منتدى القراء
أسباب رفع البلاء أو تخفيفه
أم عبد الرحمن
ذكر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم أن المصائب والكربات التي
تصيب المؤمنين من عباده هي من عند أنفسهم سواء كانت هذه المصائب فردية أو
جماعية، قال - عز وجل -: [ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو
عَن كَثِيرٍ] [الشورى: 30] ومن رحمته - سبحانه - أنه جعل هذه الكربات أو
البلايا التي يصيب بها عباده المؤمنين بمثابة الدواء المر الذي يتجرعه المريض
ليشفي من مرضه، وهذا المرض هو الذنوب التي تتراكم في صحائف أعمال العباد
فتأتي هذه المصائب لتكفر الذنوب، ولتنبه ذوي القلوب الحية إلى العودة إلى الله
بالتوبة إن أراد الله بها خيراً.
وقد يستطيع المؤمن أن يفعل بعض الأسباب التي - بمشيئته - يرفع الله بها
بلاءً كتبه عليه أو يخففه عنه بهذه الأسباب.. ومن هذه الأسباب وأهمها:
(1) التقوى:
ومعنى التقوى كما هو معروف: هو فعل أوامر الله واجتناب معاصيه الظاهرة
والباطنة ومراقبة الله في السر والعلن في كل عمل.
قال - سبحانه وتعالى -: [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً] [الطلاق: 2] .
جاء في تفسير ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير
هذه الآية: أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقال الربيع بن خُثيم:
[يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً] : أي من كل شيء ضاق على الناس.
ويأتي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس ليوضح
نتيجة هذه التقوى أو أثرها في حياة المؤمن حين قال له: (يا غلام، إني معلّمك
كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء،
يعرفك في الشدة) .
ومعنى احفظ الله: أي احفظ أوامر الله ونواهيه في نفسك.
ومعنى يحفظك: أي يتولاك ويرعاك ويسددك ويكون لك نصيراً في الدنيا
والآخرة.
قال - سبحانه -: [أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ]
[يونس: 62] .
(2) أعمال البر (كالإحسان إلى الخلق بجميع صوره) ، والدعاء:
ونستدل هنا على ذلك بقصة الثلاثة الذين انسدَّ عليهم الغار بصخرة سقطت
من الجبل، فقالوا: (إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم)
فكلٌّ دعا بصالح عمله فانفرجت الصخرة وخرجوا جميعاً، وهذا الحديث رواه
البخاري ومسلم.
وقد جاء في الحديث من صحيح الجامع الصغير: (صدقة السر تطفئ غضب
الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء) .
وجاء في الدعاء من صحيح الجامع الصغير: (لا يرد القضاء إلا الدعاء،
ولا يزيد في العمر إلا البر) .
فليثق بالله كل مؤمن ومؤمنة لهما عند الله رصيد من أعمال الخير، فليثق كل
منهما أن الله لن يخذل من يفعل الخير خالصاً لوجهه الكريم وأنه سيرعاه ويتولاه.
فكما قالت خديجة - رضي الله عنها - للرسول -صلى الله عليه وسلم - عندما عاد
إليها من غار حراء وهو خائف بعد نزول جبريل - عليه السلام - مذكِّرة له
بسجاياه الطيبة، وأعماله الكريمة وأن مَن تكون هذه سجاياه وأعماله فلن يضيعه الله
وسيرعاه ويتولاه بحفظه.
قالت له: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك تصل الرحم،
وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على
نوائب الحق» .
ومن أمثلة أثر الدعاء في رفع البلاء قبل وقوعه: قصة قوم يونس. قال -
تعالى -: [فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا
عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ] [يونس: 98] . وذكر ابن
كثير في تفسير هذه الآية: أنه عندما عاين قوم يونس أسباب العذاب الذي أنذرهم
به يونس خرجوا يجأرون إلى الله ويستغيثونه، ويتضرعون إليه وأحضروا أطفالهم
ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله أن يرفع عنهم العذاب؛ فرحمهم الله وكشف عنهم
العذاب.
وتحدث ابن قيم الجوزية في كتابه (الجواب الكافي) عن الدعاء قائلاً:
(والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله،
ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد،
ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منها صاحبه) .
وقال أيضاً: (ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله
ورسوله، وأفقههم في دينهم، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم،
وكان عمر - رضي الله عنه - يستنصر به على عدوه وكان يقول للصحابة: لستم
تنصرون بكثرة، وإنما تُنصرون من السماء) .
(3) الإكثار من الاستغفار والذكر:
قال - سبحانه -: [ومَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] [الأنفال: 33] .
وقد كشف الله الغمة عن يونس - عليه السلام - وهو في بطن الحوت لكثرة تسبيحه
واستغفاره، قال - سبحانه - في سورة الصافات: [فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ وهُوَ مُلِيمٌ *
فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] [الصافات:
142-144] وكان من استغفاره - عليه السلام - وهو في بطن الحوت قوله: [لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] [الأنبياء: 87] وقال- صلى الله عليه وسلم - عن هذا الدعاء: «دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له» .
وهكذا سيجد المؤمن والمؤمنة - بإذن الله - أثراً محسوساً في حياتهما بهذه
الأسباب السالفة الذكر إن فعلاها وبالأخص في وقت الرخاء «تعرَّف إلى الله في
الرخاء يعرفْك في الشدة» وأن يُراعَى فيها إخلاص النية لله؛ عندئذ تؤتي ثمارها
بمشيئة الله وتكون كالرصيد المالي المدخر الذي تظهر منفعته وقت الحاجة إليه.(42/94)
الصفحة الأخيرة
المجتمع المخملي
الذي يتابع بعض المجلات العربية- وخاصة التي تصدر في الخارج والتي
توصف بأنها سياسة إخبارية مصورة - يجد أنه برغم تباين اتجاهاتها ما بين يمين
ويسار، ورغم اختلاف أغراضها، فإنها متفقة على شيء واحد يظهر في الصفحات
الأخيرة منها وهي صور حفلات (عِلية القوم) من أغنياء ووزراء، وأصحاب
شركات وأصحاب أقلام صحفية مغموسة بالرياء والنفاق.
حفلات في أفخم الفنادق في أوربا والبلاد الغربية ينفق عليها الآلاف بل
الملايين، تظهر فيه هذه الفئة (المترفة) على حقيقتها، من حب الظهور
و (الفخفخة) والتفاهة، إنهم يعيشون في وادٍ والشعوب العربية في وادٍ آخر.
عندما ترى هذه المناظر (المنكرة) تشعر كم هي سحيقة الهوة بين طبقات
مجتمعنا، فلماذا تلوم هذه الصحف الشباب الذي يبحثون عن العمل، عن الشقة،
عن إعفاف نفسه بزوجة مستورة الحال فلا يجد إلى ذلك من سبيل.
لماذا يعجبون أن يصبح الشباب في حالة نفسية غير سوية، ويتصرفون
تصرفات غير صحيحة؟ ! ، إن هؤلاء الصحفيين الذين يتباكون على مشاكل البلاد
العربية، ويظهرون الشفقة على مستقبلها يشجعون (المترفين) على الإنفاق حتى
يصيبهم شيء منه، إن هذه المفارقات الصارخة ستؤدي إلى الكوارث، وإنها مناظر
مؤذية مؤذية.(42/104)
ربيع الأول - 1412هـ
أكتوبر - 1991م
(السنة: 6)(43/)
الافتتاحية
هل هذا من السياسة
إذا أردنا لحياتنا الفكرية أن تستقيم ويكون للكلمة معنى وتأثير، فلا بد من أن
نحدد المصطلحات التي يثار حولها الجدل أو تستعمل في غير معناها الحقيقي، وإن
كلمة (سياسة) من هذه المصطلحات التي يمارس باسمها كل أنواع التهريج والعسف
والخسف. وقد قرأت للمفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- تفريقاً دقيقاً بين
كلمتين: (السياسة) و (البوليتيكا) فالكلمة الأخيرة وإن كانت تعني في اللغات
الأوروبية: السياسة ولكن، بعض الناس أطلقوها على الذين يتقنون فن التهريج
والمكر والكذب على الشعوب، أو يتخبطون في الأحلام والأوهام، وأطلقها هذا
المفكر على الساسة المعاصرين له الذين يمارسون (البوليتيكا) وبظنون أنهم
يمارسون السياسة.
السياسة توجيه محدد وأهداف واضحة، وفعل الممكن، هذا عند من يعتمد
على ثقافة معينة وتجارب تاريخية، وأما عند المسلم فهي «استصلاح الخلف
بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة» [1] . فهي سياسة شرعية مبنية
على أصول ثابتة من القرآن والسنة وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
وسيرة الخلفاء الراشدين. وما كتبه العلماء حول هذا الشأن. ونحن عندما نفرق بين
السياسة القائمة على أصول ثابتة مع مراعاة المصلحة الشرعية وظروف الواقع
وبين ما يسمى سياسة: فلأننا ندرك حجم المأساة التي جرتها ممارسة (البوليتيكا)
على الدعوة والدعاة في العصر الحديث حيث المواقف المتناقضة، والدخول في
الصراعات التافهة بين الأحزاب. ويحق لنا أن نتسائل: هل من السياسة أن تعقد
عقداً أو تهادن عدواً ثم تنقضه في السر بحجة المصلحة وتظهر أمام الناس أنك تكيل
بمكيالين وتتناقض مع مبادئك؟ والإسلام لا يبيح هذا، جاء في سورة الأنفال:
[وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ] [الأنفال: 58] .
أي إذا خفت «وتوقعت من قوم خيانة بنقض عهدك، وهذا يظهر لك بالدلائل
القوية فاقطع عليهم طريق الخيانة بأن تنبذ إليهم عهدهم أي تعلمهم بفسخه على
طريق سوي واضح لا خداع فيه ولا استخفاء ولا خيانة حتى تكون أنت وهم في
العلم سواء، والحكمة في هذا النبذ أن الإسلام لا يبيح لأهله الخيانة مطلقاً، وقد
روى البيهقي في شعب الإيمان عن ميمون بن مهران قال:» ثلاثة المسلم والكافر
فيهن سواء، من عاهدت فوفِّ بعهده مسلماً كان أو كافراً، ومن كان بينك وبينه
رحم فَصِلهْا مسلماً كان أو كافراً، ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلماً كان أو
كافراً « [2] .
وفي معرض ولاية المؤمنين بعضهم لبعض وأن الذين لم يهاجروا إلى دار
الإسلام فليس لهم ولاية وحقوق كمن هاجر [والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن
ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا] واستثنى من ذلك إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم
لأجل دينهم فيجب على دولة الإسلام والمسلمين في دار الإسلام نصرتهم [وإن
استنصركم في الدين فعليكم النصر] ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقال:
[إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] يعني» إذا استنصركم فانصروهم إذا كانوا في دولة كافرة محاربة، أما إذا كانوا في دولة كافرة ولكنها معاهدة فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود والمواثيق « [3] .
وجاء في صحيح مسلم عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان قال:
» ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي: حُسيل، قال: فأخذنا
كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة،
فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر فقال: «انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم» [4] .
إلى هذا المرتقى يرتفع الإسلام ويراعي العهود والعقود، ونتساءل مرة ثانية:
هل من السياسة ما يفعله البعض من إمساك العصا من الوسط ويعتبرها سياسة دائمة
له ويظن أن هذا منتهى الكياسة أو يطلق التصريحات العائمة الغائمة فلا يدري
السامع ماذا يريد؟ وماذا يعني؟ وهل من السياسة رفع شعارات لا يؤمن بها
صاحبها، وما رفعها إلا إرضاء للعامة وغوغاء الناس أو إرضاء لفئة من الناس
يحبون العيش فترة من حياتهم في أحلام اليقظة أو تستثيرهم التصريحات العاطفية.
قد يضطر المسلم للتورية أحياناً أو يصرح تصريحات عامة في ظروف معينة، ولكن أن يكون هذا ديدنه فهذا أقرب إلى الضعف والخور يلبسهما لبوس السياسة
بزعمه. ونحن نعتقد أن الحرب خدعة وأنه قد يستعمل المكر مع الأعداء ولكن هذا
يختلف عن التصريحات الكاذبة أو نقض العهود. إن بعض أسباب ممارسة هذه
(البوليتيكا) واضحة لمن يتأمل واقع المسلمين، فهذا الذي يتحدث، ويطلق
التصريحات الفضفاضة والتي هي أكبر منه، وهذا الذي يقود ويتزعم ... هؤلاء
ليسوا من رجال الفطرة الذين يملكون الشجاعة والروح الوثابة والروح الإيمانية
الغامرة التي تدفعهم للتغيير، ذلك لأنهم نشأوا في ضعف وهزيمة، الواحد منهم لا
يملك الاستعداد للأمور العظيمة، فهو دائماً في منتصف الطريق، وهو دائماً يمسخ
المشاريع الكبيرة ليحيلها إلى (سياسة) حسب مفهومه فهو مستعد «لنصف جهد،
ولنصف اجتهاد ونصف طريق» [5] .
وبعضهم لم يكن يتصور في يوم من الأيام أنه سيقود الجموع وتفتح له أبواب
الجاه مشرعة فلما وسد إليه الأمر، لسبب وجاهته أو فصاحته أو ... لم يكن يصدق
ذلك فرجع إلى طبيعته من الضعف واستغل هذا لتحقيق أهدافه الدنيوية التافهة.
إذا أردنا التغيير فلابد من رجال الفطرة الذين يفهمون السياسة الشرعية فهما
دقيقاً ويكفون عن ممارسة (البهلوانية) والظهور بوجهين، وإطلاق التصريحات
العاطفية ويواجهون الواقع بحذر وحزم وعزم.
* * *
«فليس للانحراف طرق مرسومة نظرياً ولكن له دروباً مظلمة يتعثر فيها
السائر في كل خطوة» .
مالك بن نبي
__________
(1) التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون 1/665.
(2) رشيد رضا/تفسير المنار 10/53.
(3) المصدر السابق 10/108.
(4) صحيح مسلم 3/1414 كتاب الجهاد/1787.
(5) مالك بن نبي شروط النهضة/110 665/1.(43/4)
علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية
(4)
رجال الاجتماع ومهمة تفكيك الدين
د. أحمد إبراهيم خضر
تناولنا في الحلقة الماضية قضية اتهام رجال الاجتماع في بلادنا لشباب
الجماعات الإسلامية بالتطرف، وبأنهم مرضى عقليون يمثلون شخصيات مريضة
تعاني من الجنون الدوري، أو جنون الاضطهاد والعظمة، وبينا سقوط هذا الادعاء
على أساس ما توصل إليه مائة متخصص ومهني من علماء الطب النفسي في عام
1980 بالولايات المتحدة من أنه لا علاقة بين الإصابة بالأمراض العقلية
والسلوكيات وخاصة التطرف. كما عرضنا لاعتراف رجال الاجتماع بأن البديل
لانضمام الشباب إلى الجماعات الإسلامية هو إما الهجرة أو ممارسة الأعمال غير
المشروعة: كالاتجار في المخدرات، أو الرشوة، أو التهريب، أو ممارسة
الجريمة التقليدية، وغير التقليدية. كما سجلنا على رجال الاجتماع اعترافهم
بأصالة القيم التي يحملها شباب الجماعات الإسلامية، وبأن التجاءهم إلى الدين قد
حماهم من الدمار الشامل الذي أصيب به غيرهم من الشباب.
ونتناول في هذه الحلقة الأسباب التي تكمن وراء سعي رجال الاجتماع في
بلادنا لتفكيك الدين، ودور الدولة في تمهيد الطريق لإنجاح هذه المهمة.
لماذا يرى رجال الاجتماع في بلادنا أن تفكيك الدين ضرورة؟
يدرك رجال الاجتماع في بلادنا تمام الإدراك أن الإسلام يقدم تصوراً معرفياً
لتفسير العالم الاجتماعي، وأنه لا يمكن تصور استقلالية لهذا العالم إلا في حدود
(المشروع الرباني) الذي يمنحه إياها - هكذا قالوا بنص عباراتهم - كما يدركون
أيضاً أن هذا الإسلام يشكل نمطاً للبناء الاجتماعي وإطاراً مرجعياً يلجأ إليه الناس
بطريقة تلقائية للتفكر في هذا العالم الذي يعيشون فيه. ويرفض علم الاجتماع ذلك
لأنه يريد أن يقدم معطيات الحياة الاجتماعية من عنده تحت غطاء تعرية هذه
المعطيات، ولهذا السبب كان انتقاد علم الاجتماع للدين جزءاً لا يتجزأ من طبيعة
تكوينه، وكان صدامه مع الدين أمراً لا مفر منه، وإذا التقيا فإن التقاءهما لا يمكن
أن يتم إلا عبر صراعات.
يقول محمد شقرون أستاذ الاجتماع في جامعة محمد الخامس بالمغرب:
«تدخل السوسيولوجيا في هذا المجال في صدام مع الدين، إنها تصطدم به من جهة، لأن الدين يشكل نمطاً للبناء الاجتماعي للواقع، ونسقاً مرجعياً يلجأ إليه الفاعلون الاجتماعيون بكيفية تلقائية لتفكر العالم الذي يعيشون فيه. ويشكل هنا انتقاد الدين جزءاً لا يتجزأ من تعرية المعطيات التلقائية للتجربة الاجتماعية، حيث تكون الوقائع السوسيولوجية ملتصقة. وتشكل هذه التعرية نقطة عبور لا مفر منها في عملية موضعة هذه المعطيات. وتلتقي السوسيولوجيا بالدين كذلك في الوقت الذي يعتبر الدين تصوراً عرفانياً لتفسير العالم الاجتماعي والذي لا يمكن أن يتصور استقلالية لهذا العالم إلا في حدود المشروع الرباني الذي يمنحه إياها، لهذا فإن التقاء السوسيولوجيا بعلم اللاهوت لا يمكن أن يتم إلا عبر صراعات» [1] .
يريد رجال الاجتماع في بلادنا إخضاع الدين لتحليلاتهم وتفسيراتهم
وتصوراتهم. وفي أذهانهم اعتقاد خاطئ بأن الدين كان ولا يزال ينافس العلم في
العالم العربي، وغاب عنهم تماماً أن الدين والعلم في الإسلام متساندان وليسا في
تصارع وصدام كالحال في بلاد الغرب. ويعبر محمد شقرون عن هذا الاعتقاد
الخاطئ فيقول: «إلا أنه لا يمكن أن نتجاهل الإشارة إلى هذا الصراع الأولي
عندما نتكلم عن الشروط التي جعل العلم فيها الدين موضوعاً له، لأنه قبل لم أن
يصبح الدين موضوعاً من بين مواضيع السوسيولوجيا فإنه كان المنافس لها وما زال
ينافسها في مجتمعاتنا العربية الحديثة العهد بالعلم الحديث» [2] .
انبثاقاً من هذا التصور الخاطئ بتصادم الدين والعلم في بلادنا قياساً على ما
تعلمه هؤلاء من الغرب فإنهم قد أعلنوا ثورتهم على عقيدة الإسلام صراحة،
ووقوفهم إلى جانب العلم تماماً، وقالوا أنهم إذا خيروا بين عقيدة تحدد لهم أصل
الإنسان ومصيره وعلة وجوده؛ وبين علم يقدم لهم ما يتصورونه أنه معارف
وحقائق متاحة أمامهم فإنهم سيختارون طريق العلم بالرغم من اعترافهم بأن إسهام
الأخير إسهام محدود.
يقول محمد الجوهري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة [3] : «.. ومن
الممكن أن نجيب على هذا السؤال.. الأشياء التي يقدر الإنسان على تحقيقها وما
هو مدى قدرتها على التكيف بطريقتين مختلفتين الأول (كذا) : على أساس عقيدة
دينية أو دنيوية تحدد لنا المسائل المطلقة والنهائية في حياة البشر. عقيدة تحدد لنا
أصل الإنسان ومصيره وعلة وجوده.. الخ والطريقة الثانية: أن نجيب على أساس
المعارف والحقائق العلمية المتاحة لنا.. وفي الحالة الثانية يتحتم علينا الإقلاع تماماً
منذ البداية عن محاولة الوصول إلى أي إجابة عن مثل هذه التساؤلات النهائية
والمطلقة ونقصر أنفسنا على كل ما هو متاح (امبيريقيا) [*] ، أي ما يمكن أن
نتوصل إلى إدراكه من الواقع ونستطيع تحليله تحليلاً مفهوماً مقبولاً، ومن الواضح
أننا - المشتغلين بالعلم - لا نفكر سوى في هذا الطريق الثاني طريق المعلم
والتأسيس على العلم. كما أننا لا نستطيع كمتخصصين اجتماعيين أن نقدم في هذا
الطريق سوى إسهاماً محدوداً، وهذا قيد نعرفه ونسلم به منذ البداية» .
لم يكتف رجال الاجتماع في بلادنا بناء على هذا التصور الخاطئ بتصادم
الدين بالعلم بإعلان ثورتهم على عقيدة الإسلام ولكنهم اتجهوا أيضاً إلى مهمة أخرى
وهي تفكيك الدين سعياً وراء وهم اسمه (استقلالية العلم) ، أو بمعنى آخر:
الانفراد بتفسير شؤون الحياة الاجتماعية وفصلها تماماً عن الدين.
تصور رجال الاجتماع أن ممارستهم لهذا العلم لن تتحقق ولن تتم إلا إذا
طرحوا قضية تفكيك الدين بجرأة وصراحة كضرورة واضحة لهذه الممارسة
المزعومة.
يقول محمد شقرون: «إن ضرورة تفكيك الدين من أجل التحرير الضروري
لمجال الفكر، وذلك لإنتاج تأويل علمي عن الاجتماعي لم تطرح بصراحة وجرأة
في الوطن العربي كضرورة واضحة لممارسة العلم بصفة عامة وممارسة العلوم
الإنسانية بصفة خاصة، ويرجع هذا بالطبع إلى غياب حقل علمي يتمتع بكامل
الاستقلالية عن السياسي وعن الدين نفسه» [4] .
وربط رجال الاجتماع بين شرعية ممارستهم للعلم واستمرار صدامهم مع الدين
لتحقيق هذه الاستقلالية التي يطمحون فيها، إلا أنهم رأوا أنه يمكن أن يقبلوا بين
صفوفهم - تواضعاً - أي عالم مؤمن شريطة ألا يتحدث عن إيمانه وبهذا كان
إقصاء الدين شرطاً ضرورياً لممارسة العلم.
يقول محمد شقرون: «ومازالت شرعية العمل العلمي مضمونة بالإحالة إلى
هذا الصراع من أجل استقلالية المعرفة العلمية: يقبل عالم مؤمن في مجموعة
العلماء شريطة ألا يتحدث عن إيمانه. إن كبر سنه وشهرته هما اللذان يسمحان له
بـ (اعترافات) ذاتية بعيدة عن الممارسة العلمية» [5] .
ولو توقف طموح رجال الاجتماع في بلادنا عند حد السعي لاستقلالية العلم
لهان الأمر، لكنهم لا يكتفون بذلك بل جعلوا مهمة تفكيك الدين - كما أوضحنا -
ضرورة لتأويل وتفسير الحياة الاجتماعية وفقاً لترهاتهم التي يطلقون عليها (علماً) ، إنهم لا يكنون أي احترام للدين الذي يريدون التعامل معه مثلما يتعاملون مع أي
وقائع أخرى، ولا زالوا يصرون على التمسك بأسطورة (العقلانية) رغم
اعترافهم - كما أوضحنا سابقاً - بسقوطها وإشارتهم هنا على استحياء بأن هذه العقلانية عليها مآخذ.
يقول محمد شقرون: «وطموح السوسيولوجيا الدينية يمكن تعريفه في هذا
الإطار مهما تكن المآخذ على العقلانية العلمية. ويمكن تلخيص هذا الطموح بكيفية
بسيطة: إن الأمر يتعلق فقط بمعاملة الوقائع الدينية كما تعامل الوقائع الاجتماعية
الأخرى من الناحية السوسيولوجية، أي بناء هذه الوقائع وتصنيفها ومقابلتها
ومعالجتها بمفهومي العلاقات والصراعات» [6] .
ينتظر رجال الاجتماع في بلادنا ما يسمونه (بتراجع الدين) ، يأملون أن تأتي
العقلانية - رغم اعترافهم بفشلها - بثمارها مثلما حدث في الغرب. يتوقعون
مواجهة منسجمة بين الدولة والإسلام مثلما حدث بين الدولة والكنيسة في الغرب.
يطمحون أن تسجل بحوثهم شهادة على تراجع الدين ممثلة في قلة الممارسة الدينية
وتطبيق الفروض الدينية وتفكك الشعائر الدينية تحت ضغط التمدن والتصنيع مثلما
حدث في الغرب. يشكل هذا التراجع الذي يطمحون إليه بالنسبة إليهم أفقاً فكرياً
وثقافياً يسمح لهم بالعبث في النسيج العقيدي لبلادنا وتخريبه. لا يريد رجال
الاجتماع في بلادنا أي مقاومة من علماء الدين لمواجهة هذا التخريب، ويسعون إلى
الانفلات من قبضتهم مثلما أفلت الغربيون من ضغوط الكنيسة، إن نجاحهم في
الإفلات من قبضة علماء الدين سيسمح لهم بعمل مميز في علم الاجتماع ألا وهو -
نقد الدين - الذي يمثل أول خطوة في تفكيك الدين.
يقول محمد شقرون: «وإذا كان الإرث الفلسفي للعقلانية قد أثر في تطور
السوسيولوجيا الدينية في المجتمعات المتقدمة الغربية فإن ذلك يرجع إلى التجانس
الخاص بتاريخ المواجهة بين الكنيسة والدولة في هذه المجتمعات من جهة، ويرجع
ذلك من جهة أخرى إلى كون البحوث المقامة حول الوضعية الدينية في هذه
المجتمعات قد قدمت إثباتاً أساسياً لمسلمة تراجع الدين في العالم الحديث: قلة
الممارسات الدينية وتطبيق الفروض الدينية، تفكك الشعائر التقليدية تحت ضغط
التمدن والتصنيع، تقلص نسبة الرجال والنساء الذين ينخرطون في الرهبانية..
الخ وعملية تراجع الدين الذي هو الأفق الفكري والثقافي الذي تفترضه الحداثة [**]
كانت تشكل في هذه البحوث ظاهرة ملاحظة ومقاسة.. من هنا جاءت ضرورة
إفلات الممارسة السوسيولوجية من تأثير رجال الدين، إن هذه الإرادة في الإفلات
أو الانعتاق من ضغوط الهرمية الكنسية ومن احتواء رجال الدين، كانت تمثل
الشكل الأول لمتطلبات النقد التي تميز كل عمل سوسيولوجي» [7] .
جاءت الصحوة الإسلامية لتصيب أماني وطموحات رجال الاجتماع في بلادنا
في تراجع الدين وأحلام نقده وتفكيكه ثم اختفائه في الصميم، وبينت لهم المآل
الحقيقي للحداثة، وأثبتت لهم أن الطريق الذي سلكوه ليس طريقاً سهلاً، وفوجئ
رجال الاجتماع بأن الدين بدلاً من أن يختفي فإنه يقاوم ويتحول ويمتد إلى قطاعات
كانوا يسيطرون هم عليها. أصبح رجال الاجتماع أمام هذا الموقف الجديد في
موقف الدفاع مع المقاومة الشديدة التي واجهتهم في ظروف غير مواتية لهم، لكنهم
لازالوا يصممون على الكفاح من أجل الحفاظ على ما يسمونه الطموح في نقد الدين.
يقول محمد شقرون: «إن الأهمية القصوى التي أصبح يحظى بها الحدث
الديني في المجتمعات الحديثة في أوساط المهتمين بالسياسة وفي أوساط المثقفين
الذين يتحدد دورهم في فهم مآل الحداثة لا تسهل الوضع الفكري لعلماء اجتماع الدين
تجاه موضوعهم. فقد بين هؤلاء منذ زمن بعيد أن الدين عوض أن يختفي، يقاوم
ويتحول ويستولي على موضوعات جديدة لا صلة لها بالدين، وأنه بإمكانه أن يخلق
ما هو جديد ولكنه يبدو أن مجموع هذه الظواهر (المقاومة، التحويل، التعويض،
التجديد.. الخ) تأخذ قيمة جديدة في النظرة السوسيولوجية، فقد أصبحت
السوسيولوجيا اليوم وخاصة في المجتمعات العربية أمام وضعيه الكفاح من أجل
الحفاظ على طموحها النقدي في ظرفية تتميز بتبني كل أشكال المقاومات الدينية
واستخدامها لمصلحة اللاعقلانية» [8] .
يدرك رجال الاجتماع في بلادنا أن طموحاتهم في نقد الدين وتفكيكه لا تزال
قائمة ما دامت الدولة تقاسمهم هذه المهمة وتشترك معهم في التآمر ضد الدين.
تعطي الدولة وزناً كبيراً للعلوم الإنسانية لا يماثل هذا الوزن الذي تعطيه للعلوم
الطبيعية، حيث تظهر العلوم الإنسانية أن سلوك الإنسان بما فيه (السلوك الديني)
يخضع لتأثير معطيات نفسية واجتماعية، كما تبرهن العلوم الاجتماعية وخاصة علم
الاجتماع وعلم النفس والتحليل النفسي أن القوى والدوافع التي تتحكم بالآراء
والمعتقدات والإرادات هي قوى ودوافع ذات طبيعة متغيرة تبعاً لدرجة تطور
المجتمعات، أي (لا تأثير للدين والعقيدة فيها) وتبين هذه العلوم (للدين) كما يقول -
فرحان الديك - أن الإنسان تابع لنظام اجتماعي يرتبط فيه التفريق بين الديني
والدنيوي. أي فصل الشؤون الدنيوية عن الدين..
ومن هنا لا نستغرب أن نجد أن عداء رجال الاجتماع في بلادنا مرتبط ومحتم
بعداء الدولة للدين التي اتخذت منذ زمن بعيد خطوات محددة مهدت الطريق لرجال
الاجتماع لأداء مهمتهم في تفكيك الدين، وقد كان أبرز هذه الخطوات الآتي:
أولاً: التركيز على القومية كهدف أعلى وغاية أسمى، والعمل على ترويض
الإنسان ومحاولة الاستئثار به كلياً وإبعاده عن الدين مع تشديد الدولة على رعاياها
بالتأكيد على عدم الخلط بين الدين والدنيا، وتحرير السلطة السياسية من وصاية
الدين، وتطوير أخلاق سياسية لا تمت بصلة إلى أي معيار سماوي، ولا تترك
الدولة للإنسان فرصة اختيار موقف محايد في الصراعات الاجتماعية والسياسية
القائمة بتطبيقها، بل تصر على مبدأ (من ليس معنا فهو ضدنا) .
يقول فرحان الديك: «في الماضي غير البعيد بالنسبة إلى المجتمع العربي
كان الدين الإسلامي يتغلغل كلية أو في محمل حياة الفرد وفكره. وعلى هذا الأساس
كانت سيادته كأفق ثقافي للفرد، لكن عندما حلت الدولة بمفهومها الحديث محل الدين
في مناخ صراعي حدث تنافس بين الدين والمجتمع، فالأمة عندما تكف عن
الخضوع للدين ومنذ أن تصبح القومية الهدف الأعلى وتعد الغاية الأسمى تصبح
بالضرورة عدوة للدين، فهي تتطلع إلى ترويض الإنسان لتجعل منه غرضها
وشأنها وإبعاده عن الأجواء التقليدية لتستأثر به كلياً [9] .
ثانياً: تطبيق سياسة العلمنة كتحد شامل وعام للدين خاصة لأن الدين في
الإسلام ليس قضية خاصة أو مجالاً أو حيزاً محدداً بدقة مستقلاً ومفصولاً عن
المجالات الأخرى، وإنما يغطي بشمول كبير المحيط العائلي والاجتماعي والسياسي
والقانوني، لا يترك حيزاً من الحياة الفردية والجماعية دون أحكام وقواعد، وتمتد
فروعه إلى كل مجال، وتأثيره حاضر باستمرار. ولتحقيق هذا الاستقلال
والانفصال بين شؤون الدنيا والدين قامت الدولة بما يلي: [10]
1- توطيد المؤسسات العلمانية التي تؤسسها، والتي تأخذ الطفل والشاب إلى
جو يختلف كلية عن جو الأوساط الدينية، وإدخال الفرد في عدة جماعات ذات
أهداف مستقلة لا تفكر مطلقاً في الدين أو اليوم الآخر. وتفرض الدولة على الفرد
الانتقال باستمرار من المحيط الديني إلى محيط يجهل كل شيء عن الدين، أو يكن
له عداءً مكشوفاً، ويتمركز أصلاً حول المصالح الدنيوية المادية، إلى أن ينتهي
الأمر بالفرد إلى اعتبار الدين مؤسسة شبيهة بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، لا
يكرس له من وقته ونفسه إلا حيزاً محدوداً.
2- العمل على تحقيق العلمنة الفعلية للمجتمع بتأسيس منظمات وجمعيات
ثقافية ونقابية وحزبية وتنظيمية (كالنادي الرياضي، أو التنظيم المهني، أو
الجماهيري، أو السكني) تتوسط بين الفرد والمجتمع دون ضرورة للمرور على
المؤسسات الدينية كما كان الحال في الماضي. وبتأسيس هذه المنظمات يضعف
اعتماد الفرد في تفسير أمور حياته على القيم الدينية. وتتسع هذه المنظمات إلى لا
تقيم اعتباراً لقيم الفرد الدينية، ولا تهتم إلا بمصلحة الفرد في ضوء هدفها الذي
تسعى إلى تحقيقه، ومن ثم يتحول الدين إلى مسألة خيار شخصي لا يعنيها ولا
يهمها.
3- فصل المجالات الاقتصادية عن الدين، بإعادة بناء المجتمع وفقاً
لمقتضيات ومتطلبات الإنتاج والاستهلاك، بحيث تكون الكلمة العليا للربح والدعاية
والتنافس وتقنيات الإنتاج والتسويق والإدارة، ولا يكون هناك تأثير مطلقاً للأخلاق
الدينية، ويكون القرار في يد أولئك الذين يملكون سلطة سياسية واقتصادية وسيطرة
لا حد لها. ومن هنا تختلف خيارات الإنسان المرتبطة بتصوره وحاجاته عن
التصور الذي ينبثق من مبادئ وقيم الدين، بحيث يشتد التركيز على الجانب المادي
من الحياة وعلى السعادة الدنيوية، دون وضع اعتبار لقيم الدين كالقناعة والابتعاد
عن الغش والاحتكار.. الخ.
4- التركيز على سياسة تحديد النسل وتدخل السلطات الرسمية فيها، وهي
تعلم أنه مجال يلقى معارضة شديدة من الدين وعلمائه. تؤكد الدولة للإنسان بأن له
حق التصرف في جسده، كما تقوم بإدخال معطيات ديموغرافية وفيزيولوجية
ونفسية وطبية وسياسية في مسألة الإنجاب، وهي معطيات من شأنها أن تقوض
المرتكزات الدينية التي تقوم عليها هذه المسألة..
ثالثاً: تصوير الحضارة الصناعية على أنها حضارة منافسة للدين متحدية له
بما تقدمه من إمكانيات العلم والتقنية، وبتصويرها للإنسان على أنه سيد للطبيعة
وأن على الإنسان أن يتكيف لهذه الحضارة بسبلها المادية والفكرية معاً، وهذا
يستلزم منه أن يعيد النظر في أفكاره الدينية التي تكونت عبر مراحل تنشئته
الاجتماعية. وتؤدي هذه العملية إلى أن يصبح العالم الفكري للإنسان (عقلانياً) فلا
يحتاج بالتالي إلى الدين الذي ينظر إلى هذه الحضارة -كما يتصور فرحان الديك -
نظرة ترقب وتجاهل.
رابعاً: الاستفادة من انتشار العمران والحراك الجغرافي والاجتماعي بالتأكيد
على التجديد والابتكار وبتعددية المواقف ونسبية الخيارات، كل ذلك بقصد ألا
تنطلق المواقف والخيارات من الدين وحده، مع تأكيد النظرة إلى المسجد على أنه
أحد القطاعات التي تضمها المدينة أو القرية الريفية، والعمل ألا يختلط المسجد
بالحي أو بالوسط الريفي مثلما كان سائداً في الماضي مع تحجيم دوره بالصورة التي
تمنع هذا الخلط.
__________
(1) محمد شقرون، شروط إمكانية قيام سوسيولوجيا دينية في المجتمعات العربية، الدين والمجتمع العربي، مركز الدراسات العربية بيروت 1990 ص 128.
(2) تابع ص 128.
(3) بوتومور، تمهيد في علم الاجتماع، محمد الجوهري وآخرون دار المعارف سلسلة علم الاجتماع الكتاب الرابع 1987 ص 16.
(*) الامبيريقية Empricism مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية Empeira وترجمتها إلى اللاتينية Experientia بمعنى التجربة، والامبيريقية على عكس العقلانية هي النظرية التي تقول أن التجربة وليس العقل هو مصدر المعرفة بمعنى أن كل ما نعرفه إنما يرتبط مباشرة بالخبرة الحسية أو يشتق منها بوسائل تجريبية تعتمد على الإدراك الحسي انظر: D w Hamlyn Empricism the Encyclopedia of Philosophy , Paul Edwards, Macmillan Publishing ,New ... York , London P 499
وحسبنا في بيان تعارض الامبيريقية مع العقيدة شهادة رجال الاجتماع في بلادنا في قولهم (أن الامبيريقية تستند إلى ما يسود العلوم الاجتماعية بوجه عام من اتجاه علماني ومن اهتمام بمسائل علمانية) ولأن الامبيريقية تعتمد فقط على الأساليب الفنية فإنها ترفض أي فكر وتبدأ بالواقع وترى بصراحة (إن كل ما لا يخضع للتجريب فهو باطل) انظر: محمد عاطف غيث، دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية بيروت 1975 ص 284 *- وعن الامبيريقية يقول رجال الاجتماع في بلادنا: أنها تلفيقية تلقيطية جزئية عديمة اللون والطعم، تعتمد على الموقف الخبري المبسط الذي يلاحق الظاهرات مبعثرة مسقطة من حسابها الإطار النظري الشامل الذي يحتويها وتعتمد البحوث الامبيريقية على جمع فكرة من هنا وأخرى من هناك ثم اختيار عينة عشوائية عمدية في معظم الأحيان ثم تصميم استمارة بحث يعرض الباحث نتائجها في صورة جداول إجابة المبحوث فيها هي التي يريدها الباحث، موقفها مفتعل ونتائجها مفتعلة أيضاً انظر عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، المجلس القومي للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1981 ص 273- 278.
(4) محمد شقرون تابع ص 129.
(5) تابع ص 128.
(6) تابع ص 128-129.
(**) الحداثة كمفهوم وكحركة نقلها الببغائيون العرب إلى مجتمعاتنا العربية من الغرب ولهذا لا يمكن فصل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية باعتراف الحداثيين العرب أنفسهم يقول محمد براده (إن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين) انظر محمد براده في اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، فصول مجلد 4 عدد 1983 ص 11 أشار براده إلى ذلك أيضاً في الفقرة التي اقتبسها من جون بودريان في قوله (تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة متجانسة مشعة عالمياً من الغرب) نفس المصدر ص 12 والحداثة كما تعرفها الموسوعات الغربية هي أي نظرة تقوم على الاقتناع بأن العلم والتقدم العلمي الحديث تتطلب إعادة تقييم أساسي للعقائد التقليدية ومن ثم لا تنظر إلى الدين على أنه صياغة دقيقة لسلطة جديرة باعتماد وقبول للحقائق المنزلة من الله وعلي أنه مقولات لمشاعر وخبرات دينية عاشها بعض الرجال عبر حقبة تاريخية معينة ولهذا تكون الحقائق الدينية عرضة لعملية تطوير مستمر كجزء من الخبرة المتقدمة للجنس البشري وتستلزم هذه العملية إدخال مفاهيم عديدة وجديدة كشيء متطلب للتغيير عن الفكر والتقدم الحديث وليس الوحي في مفهوم الحداثة إلا مجرد خبرة شخصية حسية لمجموعة حقائق (عن) الله أكثر منه موضع اتصال لحقيقة شاملة (من) الله انظر: Modernism: in the Encyclopedia , Americana , American Corporation , N Y ,1967 ,P2891 وترجع جذور الحداثة كحركة عامة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اتجهت هذه الحركة إلى تطبيق المناهج النقدية على التوراة والإنجيل وتاريخ العقائد مما أدى إلى الحط من قدرها والنظر إلى الله (تعالى) على أنه ليس فوق الوجود المادي انظر: Modernism: in the new Columbia Encyclopedia , Columbia University Press , U S A , 1970 , P1801 ويشير جون بوتي في الموسوعة الأكاديمية الأمريكية إلى أن هذا المصطلح قد استخدم في العصر الحديث لنقد الدين بصفة عامة انظر: John Booty , Modernism in Academia American Encyclopedia , Arete Publishing Comp Inc , Princeton , Newjersey , 1980 , P 490 بهذه المفاهيم التي نقلها الببغائيون العرب من الغرب شنوا هجومهم الضاري على الإسلام مفترضين عن جهل تصادم الإسلام مع العلم كالحال في بلاد الغرب فراحوا يقيّمون ويعدّلون في الإسلام والوحي والرسالة وفق أهوائهم ومن أبرز المعاصرين الذين حملوا على عاتقهم هده المهمة (حسن حنفي) أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة دعا حسن حنفي إلى إخضاع القرآن للنقد وللمنهج النقدي مثلما فعل (سبينوزا) مع التوراة والإنجيل، رافضاً تفسير قوله تعالى: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] بمعنى أنه حفظ للنص متهماً النظرة القائلة بأن معنى الآية حفظ للنص الحرفي المدون بأنها نظرة (لاهوتية صرفة تهرب من -النقد- وتلجأ للسلطة الإلهية) انظر: أحمد إبراهيم خضر، وقفات مع اليسار الإسلامي، مجلة المجتمع عدد 901 وما بعده 17 جمادي الآخرة ص 1406/ 4 2 يناير 1989 وعن رفض الحداثيين العرب (لله) و (للدين) وتشبثهم بالفكر العلماني والنظر إلى الإنسان على أنه محور الوجود وليس الله، يقول كمال أبو ديب: (الحداثة انقطاع معرفي ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني وكون الله مركز الوجود الحداثة انقطاع، لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني وكون الإنسان مركز الوجود) انظر: كمال أبو ديب، الحداثة، السلطة، النص، مجلة فصول مجلد 4 عدد 3 عام 1984 ص 37.
(7) محمد شقرون تابع ص 129-130.
(8) تابع ص 131-132.
(9) فرحان الديك الأساس الديني في الشخصية العربية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 117.
(10) انظر فرحان الديك تحت (تحديات حضارة المجتمع الصناعي للدين وتراجع الدين في الحياة الاجتماعية) المرجع السابق ص 111-125.(43/9)
خواطر في الدعوة
أمراض القلوب
(2)
محمد العبدة
من يتأمل النفس البشرية ويسبر غورها فسيجد العجب العجاب من مداخلها
ومساربها، فهي إذا كرهت تبعد صورة من تكره بألف حيلة وتشوهها بألف لون،
وإذا أحبت فمثل ذلك أن تلجم وتفطم عن مثل هذه المداخل.
حدثني أحد الأخوة عن لقاء عابر مع صديق له وهو من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، قال: فوجئت بهذا الصديق يغمز ويلمز بأحد الدعاة الذين حسبهم من أهل العلم والصدق - ولا نزكي على الله أحداً - وكان يغمز ويلمز بطريقة ذكية استعمل فيها التلميح دون التصريح. وتعجبت من تلميحاته وكرهه لهذا الداعية، وهو لم يلتق به من قرب ولم يقرأ له. فقلت لهذا الأخ: لا تعجب، إنه الحسد والمعاصرة، أليس هذان الاثنان من بلد واحد ومن منطقة واحدة؟ قال: بلى. قلت: إذن سأسمعك ما كتبه أبو بكر الرازي في هذا الموضوع - والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها -:
«إننا نرى الرجل الغريب حكماً في بلد ما، متحكماً في أهله، ومع ذلك فلا
يكادون يحسون نحوه بكراهية أما أن يحكمهم رجل من أهلهم فالأغلب أن تنصب
عليه الكراهية، مع أنه قد يكون أرأف بهم من الحاكم الغريب، وسر ذلك هو محبة
الإنسان 0لنفسه، مما يجعله تواقاً إلى أن يكون سباقاً لسواه من أبناء قومه، فإذا
رأى الناس أن من كان بالأمس منهم قد أصبح اليوم سابقاً لهم، مقدماً عليهم،
اغتموا لذلك وصعب واشتد عليهم سبقه إياهم، أما المالك الغريب فمن أجل أنهم لم
يشاهدوا حالته الأولى لا يتصورون قصورهم في كمال سبقه لهم وفضله عليهم،
فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم» [1] .
والرازي ضرب مثلاً للحاكم ونحن ننقل هذا المثل لما يقع الآن مع الدعاة
والعلماء، فنجد الرجل صاحب العلم والفضل يتكلم في أقرانه أو من أهل بلده ما
لا يتكلم فيه الآخرون، وما يقطع هذا المرض القلبي إلا أن يفكر المسلم، ماذا
يستفيد من هذا الحسد في الدنيا غير وباله في الآخرة، ويفكر في نفسه أن فضل الله
يؤتيه من يشاء، ولا حرج في المنافسة في الخير والمزيد من العلم، وربما استطاع
أن يسد ثغرة في جانب من الجوانب لا يسدها أخوه المحسود!
إننا نسمع هذه الأيام من يفرح بأخطاء أخيه ليجمعها ويؤلف فيها كتباً! !
أهكذا أمر الإسلام أتباعه؟ أوهكذا تُضيّع الأوقات، إنها مصيبة - والله - أن تهدر
الطاقات ولا يتنبه الذي يصّب نفسه داعية لأمراض قلبه وإحن صدره، ويعالجها
بالدواء الشافي كما يعالج بدنه إن أصابه شيء، فيكون مرضياً عند الله وعند الناس.
__________
(1) الطب الروحاني لأبي بكر الرازي، نقلاً عن كتاب: عن الحرية أتحدث /73 زكي نجيب محمود.(43/21)
إلى خطباء الجمعة
الشيخ عبد الله بن حسن القعود
إلى إخوتي في الله خطباء الجمعة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد ...
الله تعالى وأصلي وأسلم على رسوله محمد بن عبد الله وبعد:
فتعلمون (وفقكم الله) أهمية خطبة الجمعة ومكانتها بين العبادات وما يتطلب ويتأكد فيها من إحياء وإظهار ما شرعت له، من عظة القلوب، وملامسة المشاعر التي أمرت هي من جانبها أن تتهيأ قلباً وقالباً جسماً وروحاً لاستماع الخطبة، الأمر الذي كماله المطلوب وتمامه الواجب الجاذب للقلوب، والشاحذ للهمم أن يكون الواعظ فيه قد اتعظ، والأمر قد ائتمر، وأول ما يتطلب الاتعاظ به في هذا الأمر حمايتها وحفظها من أن يتطرق إليها أو إلى شيء من أجزائها ولو ألفاظ الدعاء فيها ما ينقض الإخلاص فيها ويضعف التقبل لها. وأن تكون وفق منهجه صلوات الله وسلامه عليه فلا يخرج بها عنه.
وبتتبع منهجه صلوات الله وسلامه عليه نجد أن خطبه مليئة بالثناء على الله
وتعظيمه وبتذكير الناس بآلائه عليهم، بل وبأيامه وسننه فيهم ثواباً وعقاباً. قال ابن
القيم -رحمه الله- في ذكر خصائص يوم الجمعة: (إن فيه الخطبة التي يقصد بها
الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-
بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته وتوصيتهم بما يقربهم
إليه وإلى جناته، ونهيهم عن ما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة
والاجتماع لها) [1] .
ومن هذا يعلم أن ما بدأ يظهر في خطب الجمعة في عالمنا المعاصر من تقليل
الثناء على الله فيها، بحيث يكاد يقف القول فيه في بعض الأحيان عند أقل ما يجب، بل ومن جعلها في بعض الأحيان مادة للثناء على أقوام بأعيانهم، أو النيل من
أقوام كذلك بأعيانهم، أمر مخالف لما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه وما كان
عليه أتباعه بإحسان -رضي الله عنهم- وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وخذوا مثلاً المقارنة فيما يتعلق بالتركيز في خطب الجمعة ونحوها على الثناء
على الله سبحانه والارتباط فيها بمضمون ما شرعت له مما أجمله ابن القيم -رحمه
الله- خطب ابن القيم نفسه في مقدمات كتبه المنبىء عن منهجه في الخطب -رحمه
الله-، وخطب 0الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- المطبوعة ونحوهما،
خطب بعض الناس اليوم وما طرأ عليها في بعض الأحيان وقارنوا بينهما -أخذاً في
الاعتبار البحث عن روح التوحيد الخالص - لتروا أن أولئكم -رحمهم الله- لم
يسودوا ولم يؤموا ولم يبقوا بيننا بذكرهم المعطر للمجالس بتسخير أقلامهم وخطبهم
في مواقف محضة للثناء على المخلوقين وإنما الثناء على خالق المخلوقين.
ولا شك أن ذلك إدراك منهم -رحمهم الله- لروح التوحيد ولمراد الله سبحانه في قوله: [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] وفسر الذكر بالخطبة، ويشهد له حديث
(وحضرت الملائكة يستمعون الذكر) وفسر بالصلاة، ولا مشاحة فالأمر بالسعي للخطبة أمر بالصلاة ولن تكون الخطبة بالمعنى المطلوب الذي يصدق عليه أنه في جملته ذكر إذا تضمنت مدح أقوام بأعيانهم، أو ذم أقوام بأعيانهم، ولذا كان بعض السلف -رحمهم الله- يستسيغ لنفسه الكلام أثناء خطبة خطيب الجمعة إذا خرج فيها عن مقتضاها. قال صاحب المغني -رحمه الله-: (وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وإبراهيم بن مهاجر وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنَّا لم نؤمر أن ننصت لهذا) [2] .
وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: (فإن قلت كيف يفسر ذكر
الله بالخطبة وفيها غير ذلك؟ قلت ما كان من ذكر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو
في حكم ذكر الله، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء
لهم وهم أحقاء بعكس ذلك فهو من ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على
مراحل) [3] .
ولا جرم أن يخرج هذا النفس من هذا العالم الجليل، فإن أمراً جعل شرطاً
لصحة صلاة الجمعة واعتبر جزءاً من مجموعها ومعلوم وجوبها العيني أنه يتعين
الاهتمام به وحمايته وأداؤه وفق المشروع كي لا يتطرق إليه نقص، فينسحب نقصه
عليها.
فيا اخوتي في الله القائمين على هذا الثغر العظيم، ثغر توجيه وإبلاغ وإمامة
وشهادة على الناس يوم يقوم الأشهاد: اعرفوا لهذا الموقف حقه، واذكروا به موقفكم
أمام الله يوم تستشهدون على الناس، اسلكوا فيه الطريق السوي الذي لا غلو فيه ولا
جفاء، فاستعمال الخطبة للنيل من أقوام بأعيانهم خروج بها عن الوسطية المطلوبة
فيها، والمبالغة فيها بالثناء على أقوام بأعيانهم خروج كذلك عن الوسطية المطلوبة
فيها. قال جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: «صليت (يعني الجمعة) مع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» ، رواه مسلم
وغيره، والقصد الاعتدال، فالمطلوب في خطب الجمعة ونحوها على وجه التقريب
والتمثيل أن يختار الخطيب أوصافاً وأعمالاً فاضلة مما وصف به المؤمنون في
القرآن الكريم والسنة المطهرة، فيحث عليها، ويرغب فيها، أو أوصافاً ذميمة
وأعمالاً سيئة من أعمال وأوصاف الكفار أو المنافقين أو فجار المسلمين، فيحذر
وينذر منها، أو منكراً ظاهراً؛ فيذكره بأوصافه دون تسمية أهله في مثل هذا المقام
المشترك في التقرب إلى الله بين المتكلم فيه والمستمع له، مبتعداً في لفظه عن
وحشي الكلام ومبتذله، بادئاً بتقرير وبيان التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به
كتبه، وبيان ما يناقض أصله أو كماله الواجب، فأصول الإيمان وأركان الإسلام،
فالفضائل والمسائل، وبإمكانه أن يربط الموضوع الذي يريد علاجه بتلك الأوصاف
لا بأعيان أهله كما فعل -صلى الله عليه وسلم-، عن عائشة -رضي الله عنها-
قالت:
«جائتني بريرة. فقالت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي
فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجاءت من عندهم،
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس. فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم
فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرت
عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقال» خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما
الولاء لمن اعتق «ففعلت عائشة -رضي الله عنها-، ثم قام رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في الناس، فحمد وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى. ثم قال» أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى؟ ما كان من شرط
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط
الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق « [4] .
وليعلم أن هذا التوبيخ لأشخاص في مخالفة قد لا تعد كبيرة، أما في الكبائر:
الشرك فما دونه، فقد قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-» كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،
حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم «رواه مسلم. وفي باب الكبائر وما
ذكره العلماء حولها مادة واسعة للخطباء عند ظهور أي منكر، فلا يكاد شيء من
المنكرات الظاهرة يخرج عنها، وخذوا مثلاً كتاب الكبائر للذهبي -رحمه الله-،
وكتاب الكبائر للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وكتاب الترغيب
والترهيب للمنذري -رحمه الله- ونحوها، وما أسلفته من انتقاء الأوصاف
الممدوحة من الكتاب أو السنة والحث عليها، أو المذمومة والنهي عنها، وربط
الموضوع المراد علاجه بها لا بأسماء أو أعيان أهلها كما سلف. فلنأخذ كذا المنهج
مخلصين متبعين عسى أن يتقبل الله منا هذه الطاعة وغيرها، وأن يحقق بذلك
المعنى العظيم الذي شرعت له الخطبة، من تعاهد الناس بين الفينة والأخرى
بالتذكير والتبصير، بل التعرف على مشاكلهم وأمراضهم أمراض شهوة أو شبهة،
لمحاولة علاجها بما جعله الله دواء وشفاء لها في قوله سبحانه:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى
ورَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) زاد المعاد ج1 ص 398.
(2) المغني ج2 ص 320.
(3) تفسير القرطبي ج18 ص 107.
(4) متفق عليه، واللفظ للبخاري.(43/23)
في الدعوة والواقع
مطلبان للدعاة
د. سليمان التميمي
يلاقى الدعاة إلى الله صنوف الأذى بدءاً من مضايقتهم، والتجسس عليهم،
والتصنّتِ على كل مكالماتهم، ومراقبة أعمالهم، وتتبع حركاتهم، وإحصاء أنفاسهم
وأقوالهم، وروحاتهم وغدواتهم، وأصحابهم وجلسائهم، وانتهاءً باعتقالهم وسجنهم،
وضربهم أو قتلهم، وأخذهم بصورة لا تليق بكرامة الإنسان. ويستقبل الدعاة هذا
كله برحابة صدرٍ، وصبر واحتمال، وهم يعلمون أنّ العاقبة للمتقين، والبشرى
للصابرين، وأَنّ نصر الله - لا ريبَ - آتٍ والعجلة لا تقدّمه، كما أن التريث لا
يؤخره، محتسبين ما يجري عليهم من ظلمٍ وإفك، وأذى واضطهادٍ عند الله، ولله.
وهم مع هذا متمسكون بدينهم، لا يتقهقرون عن دعوتهم، ويطلبون أن يخلى
بينهم وبين الشعوب الإسلامية لدعوتها وإصلاحها، قياماً بالواجب الذي افترضه الله
على عباده المؤمنين:
[ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]
وهم في حالهم تلك لا يسألون الناس أجراً، يفرحون بهداية المهتدين، وعودة
التائبين:
[وجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا
مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وهُم مُّهْتَدُونَ]
هذا وصف داع للإجابة، دالٌّ على الصدق:
[ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ]
ويتحملون ما يأتيهم من الأذى والاضطهاد ممَّن يدعونهم، ولا يؤاخذونهم على
ما يصدر منهم من أذى، بل يعرضون عنه كأن لم يسمعوا ولم يروا:
[فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا]
والإعراض- هنا- ليس هو ترك الدعوة، ومقاطعة المعرضين، بل عدم
مؤاخذة المدعوين، بما يصدر عنهم من أذىً، مع الاستمرار في الدعوة والبلاغ،
والحرص على الخير.
وفيما هم على هذه الحالة، يعترض طريقهم المتنفذون من أصحاب الجاه
والدنيا، يقطعون عليهم طريق الدعوة إلى الله، ويحاربونهم من أجلها، لا يطلبون
أن يميّزوا بمعاملة خاصة، أو يعطوا شيئاً ليس لهم - وهم أقرب الناس إلى الزهد
فيما هو من حقهم، ولهم - بل يطلبون مساواتهم بالمجرمين، من قطاع الطرق،
والسراق، وغيرهم - وهو أمر مع ما يحمله من الظلم البين والإجحاف مطلبٌ
يمنعه أصحاب السلطان - وذلك بإحالتهم إلى القضاء. إذ أن هؤلاء إذا قُبض عليهم
أحيلوا على الشرع لإقامة حكم الله فيهم، بخلاف الدعاة الذين يحالون إلى الجلادين
من الشرط ورجال الأمن والاستخبارات بطريقة لا تمت إلى الإنسانية، فضلاً عن
الإسلام بصلة. أليس هذا الطلب عادلاً، بل متواضعاً، بل ظالماً، ومع ذلك يرض
به من نذروا أنفسهم ومالهم ووقتهم لدعوة الناس إلى الخير.
ويا لها من أمةٍ منكوبة، جعلت دعاة الإسلام يتواضعون إلى هذا الطلب
الجائر، على حين أن الواجب أن يجعل الدعاة فوق الهام، وأن يؤخذ برأيهم، وأن
يقدموا في كل شيء.
هذه حال الدعاة في الدول التي تدعي الإسلام. أمّا الدول التي أعلنت براءتها
من الإسلام، وانخلعت من ربقته بجعل التحكم إلى الجاهلية، والقوانين الوضعية،
والبراءة من الإسلام في دساتيرها، فالأمر فيها أسوأ، فإن مطلب الدعاة فيها أن
يعاملوا معاملة إنسانية، تليق ببني آدم، على وفق ما تنادي به دول الكفر التي
تدعي الديموقراطية، ورعاية حقوق الإنسان التي من أبسطها في نظرهم حرية
التعبير.
وللدعاة مطلب آخر من حملة العلم والمؤمنين من عباد الله بأن يؤازروهم
ويقفوا معهم، ويشاركوهم في دعوتهم التي كلف بها كل مؤمن، ويدفعوا عنهم كل
إفك وزور، وكل شر يتربص بهم، وإن لم يكن هذا فعلى الأقل أن يقفوا موقف
مؤمن آل فرعون الذي قال:
[أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وإن يَكُ كَاذِباً
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن
جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [1] .
فأين المشايخ وحملة العلم من هذا الموقف؟ ! إن الدعاة يتوقعون من هؤلاء
أن يقفوا هذا الموقف على أقل تقدير، إن لم يكن منهم قيادة للدعوة وتصدر وزعامة، ويرجون أن لا يأتي منهم خذلان في وقت الحاجة إليهم. وقد قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا
يحقره» رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ألا فليعلم هؤلاء المتنفذون أصحاب الجاه، المتحكمون في شئون أمة محمد -
صلى الله عليه وسلم- أن للباطل جولة، يعود بعدها الحق إلى الظهور، ثم تكون
الغلبة له، وأن هذا الدين ما جعله الله آخر الأديان إلا ليعمَّ الأرض كلها:
[هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ
المُشْرِكُونَ]
وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ
الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزٍ عزيز، أو بذلٍ ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» رواه ابن حبان.
وأن الله قد وعد بإعلائه ونصره على الرغم من كيد الكائدين وعداوة الكفار
والمنافقين، وسيكتب الخزي على المنافقين والمرجفين:
[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ]
ألا فليعلم الذين يخادعون الله أن الله خادعهم، وأن الصدق والوضوح خير من
النفاق والخداع، وأن الشعوب تعلم حقيقة أمرهم، وأنهم قد فقدوا مصداقيتهم أمام
شعوبهم، وقد قال رسول الله -صلى الله علمه وسلم-: «إنها ستكون أمراء
يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا
منه، وسيرد عليَّ الحوض» أخرجه الإمام أحمد عن أربعة من أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم، وهم أبو سعيد الخدري، وكعب بن عجرة، والنعمان بن بشير، وحذيفة بن اليمان.
ولا أظنُّ عصراً تجلى فيه الكذب مثلما تجلى في هذا العصر، بوسائل
إعلامه من إذاعة وتلفاز وصحف، وغيرها. حتى صار في مقدور هذه الوسائل أن
تحول الظلم إلى عدل، والنهب إلى رجولة وذكاء، والباطل إلى حق، والكذب إلى
صدق، والخيانة إلى أمانة، ولكن هذا كله يبق محصوراً في فئة من الناس وفي
مكان محدود، وفي زمان معين ثم تنكشف الحقائق ولو بعد حين، فيعود كل شيء
إلى أصله ووضعه الطبيعي، ويتصور هؤلاء أن حقيقتهم لن تكشف، وبواطنهم لن
تظهر، وسرائرهم لن تعلن وقد أخطأوا في هذا الظن وسيقال لهم:
[وذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ] [2] .
ألا فليعلم هؤلاء المخذلون ممن نسبوا إلى العلم الشرعيّ، وحسبوا عليه أن ما
هم فيه محض ابتلاء والله ناصر دينه بهم أو بغيرهم:
[وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [3] .
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- تلا هذه الآية، قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا
استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم
قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس «قال ابن
كثير: تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد وقد تكلم فيه بعض
الأئمة والله أعلم به.
ألا فليعلم، ثم ليعلم هؤلاء أن الدين دين الله، وأنه لابد غالب والعاقبة للمتقين، وأن الله هو الذي يختار له أنصاره والمؤمنين به:
[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ومِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] [4] .
وأن العاقبة تكون لهم ولمن ناصرهم في الدنيا، ويوم لا تنفع نصرة ولا
شفاعة:
[إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا
يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] [5] .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(1) غافر 28-29.
(2) فصلت 23.
(3) محمد 38.
(4) فصلت 23.
(5) محمد 38.(43/28)
خُدعة الصدام المتعجل
محمد محمد بدري
قد نرى في الطرقات رجالاً يطاردون مجموعة من الأطفال لأن هؤلاء الأطفال قد نادوهم بألقاب معينة تثيرهم وتخرجهم عن وعيهم واتزانهم، فماذا- تظنون نظرتنا لهؤلاءالرجال؟ إننا نراهم حقاً جديرين بالرثاء لأن الأطفال استطاعوا أن يتحكموا في انفعالاتهم! !
وقد يذهب بعض الناس إلى إنسان يريدون إثارته فيذمون له رأياً أو يستخفون
بشيء من معتقداته حتى تغلي مراجل قلبه فيخرجونه عن سمته وهديه واتزانه..
لماذا؟ لأنهم كشفوا فيه موضع ضعفه فضغطوا على هذا الموضع ليثيروه، ولكن
لنفرض أن هذا الذي أراد الآخرون إثارته جاءه من يخبره بقصدهم فماذا ستكون
النتيجة؟ إن أغلب الظن أنه يستطيع بوعيه بقصدهم أن يتماسك أمام لعبتهم
فيرجعهم فاشلين! !
وهذا بالضبط هو مقصدنا من هذه الكلمة القصيرة مع إخواننا العاملين للإسلام، مقصدنا هو محاولة زيادة الوعي بسبيل المجرمين في خدعة جديدة وهي (الصدام
المتعجل! !) فما هي تلك الخدعة؟
إن هناك شرذمة تدربوا على استدراج الدعوة الإسلامية وإثارتها ليؤدوا دورهم
في الوقت المحدد.. فإذا جاء هذا الوقت ضغط هؤلاء على نقاط الضعف فأثاروها
وأخرجوها عن توازنها، واستدرجوها إلى الصدام معهم قبل الإعداد له وقبل وجود
القاعدة الإسلامية الواعية، وعلى إثر هذا الصدام يقوم هؤلاء بضرب العمل
الإسلامي ضرباً مؤلماً، أو يظهرونه في صورة السفيه الذي يجب بأن يحجر عليه.
وهكذا تقوم حملة على المسلمين والناس غافلون عن حقيقة المعركة، وعن
كون هؤلاء المجرمون إنما يعملون عداء للإسلام ذاته لا رداً على عمل بعينه؟ !
ولذلك يعتبر الاندفاع في اتجاه الصدام وفقدان الصبر على مواجهة تحديات
الأعداء مظهراً من مظاهر الضعف وليس القوة.. والشرع والعقل يفرض على
الدعوة الإسلامية في مثل هذه الظروف تفويت الفرصة على العدو حتى لا يحطم
الحركة، مع الالتزام بالصبر والسيطرة على المشاعر والانفعالات والتفكير
والتركيز في عمل دائب لصنع القاعدة المسلمة الواعية التي تحمي الدعوة.
قد يقول قائل: إن حياة المسلم لا تنفصل عن الابتلاء.. وهذا حق.. وهذا لا
يعني أن لا نأخذ حذرنا كما أمرنا عز وجل [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]
ونخطط في عملنا آخذين في اعتبارنا الاستهداء بنور القرآن الكريم دون إهمال
الأسباب المادية حتى لا نسقط ثمرات عملنا الإسلامي قبل أوانها..
فليست القوة بالحماس والانفعال بل بالسعي الدائب للوصول إلى الهدف
والتخطيط لذلك وضبط النفس أمام التحديات الخارجية التي تحاول أن تنحرف
بالدعوة عن خطتها من خلال الضغوط التي تُمارس ضدها من تشريد وقلق وعدم
استقرار..
وقد يقول قائل: وهل نقف مكتوفي الأيدي ونترك الطغاة يفعلون ما يريدون؟ ! إنهم لا يجدون في السكوت إلا مظهراً من مظاهر الخوف والذعر أمام قوتهم! !
ونحن لم نقل أبداً إننا سننسحب، ولم نقل أننا نريد ليناً مع الأعداء يحفظ
علينا أرواحنا، بل نقول إننا نحاول الاستمرار حى نصل إلى هدفنا بتوازن يحكم
إحجامنا كما يحكم إقدامنا؛ فلا نستسلم لزهو البطولة الانفعالي الذي يدفع الإنسان
إلى اتخاذ المواقف من خلال سياسة اللحظة السريعة لا من خلال سياسة النفس
الطويل..
فالقوة الحقيقية هي في الصمود أمام التحديات العاطفية. وعدم الوقوع ضحية
عقلية الفروسية الفردية.
أما أن نفسح المجال أمام أعدائنا ليثيروا انفعالاتنا ويجرونا إلى مواقف
محسوبة عندهم لمصلحتهم أو يدفعونا إلى معارك لم نعد لها، فهذا هو الضعف
الحقيقي بل الصبر في مثل هذه المواقف هو مظهر القوة.. الصبر على تحمل درء
الآلام.. والصبر على الإعداد الطويل للمستقبل. والإصلاح لا يتم في ليلة واحدة،
والخير لا يأتي دفعة واحدة، وسنة الله في خلقه التدرج والنماء وصيحة الحق التي
نريد أن تدوي في العالم لابد لها من أطوار تمهد لها.. وواجب. الفئة المستنيرة في
مثل هذه الأيام أن تقوم بهذا التمهيد.. وليس هذا التمهيد بالشيء اليسير إنه خطوة
في سبيل انتزاع الأمة المسلمة من الوحدة التي وقعت فيها.. وهو عمل طويل
وشاق ومجهد ويحتاج إلى تضحيات كبيرة.(43/33)
منهج أهل السنة في
النقد والحكم على الآخرين
(3)
هشام بن إسماعيل
«تكلم الكاتب في الحلقات السابقة عن قواعد أهل السنة في النقد، وذكر منها: حسن الظن بالمسلم، والخوف من الله والعدل في وصف الآخرين. ويتابع في هذه الحلقة بقية القواعد ... »
- البيان -
القاعدة السادسة
العدل في المفاضلة بين الناس
والأصل في هذه القاعدة قول الله تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]
[الحجرات 13] وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل: أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» [1]
والتفضيل بين الناس يكون على وجهين:
1- تفضيل مطلق.
2- وتفضيل مقيد.
أما التفضيل المطلق بين الناس فيكون على أساس التقوى، وقوة الإيمان -
ولنا الظاهر والله يتولى السرائر - فمن ظهر لنا أنه على تقوى أعظم من غيره كان
أحب إلينا.
وأما التفضيل المقيد: فهو بحسب قيده، فإن الناس يتفاضلون في أمور
ومواهب وقدرات، فالناس يتفاضلون في العلم، وفي الذكاء والفهم، وفي قوة
الحفظ، أو حسن الإدارة والتنظيم، وأمثال ذلك فهنا المفاضلة تكون بحسب الحاجة
إليها، وهي مفاضلة مقيدة لا علاقة لها بالأفضلية عند الله تعالى وإنما فيما يظهر
للناس.
فهذا السهروردي يقول عنه الذهبي: (كان يتوقد ذكاء، إلا أنه قليل
الدين) [2] والأمثلة من ذلك كثير.
وقاعدة السلف - رضوان الله عليهم - أنا لا نقدم إلا من قدمه الله ورسوله،
ولا نؤخر إلا من أخره الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. كما ينبغي هنا الإشارة
إلى أن أعمال القلوب والتفاضل فيها يرفع أصحابها منازل عليا عند الله تعالى؛
(فإنك ترى الرجل الفاضل ذا الهمة العالية، والعمل الدؤوب. في نشر الإسلام،
وكثرة العبادة مع طول عمره، ثم تجد من هو أقل منه نشاطاً وعملاً، أو أقصر منه
عمراً أحب إلى الله تعالى من الأول) .
وأما من جهة كثرة العمل والعبادة، ومفاضلتها بما في القلب فقد وجد من
العباد من اشتهر بكثرة الصلاة والصيام والإنفاق في سبيل الله تعالى، وملازمة
التقوى والخوف من الله تعالى، كالحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسفيان
الثوري، والإمام أحمد وغيرهم، وهم في أفرادهم بل في مجموعتهم لا يصلون
رتبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، بل الأمة كلها لا تصل إلى رتبة
الصديق -رضي الله عنه- لأنه جمع خصائص لم تجتمع لغيره بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك ينبغي أن يكون التفضيل بين الأشخاص قائماً على العدل والإنصاف
واعتبارات الشرع لا على الهوى والتعصب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق
حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق) [3] .
كما أن التفضيل المطلق في كل الأمور يصعب الحكم به في كثير منها، وذلك
لاشتمال كل واحد منهما على فضيلة لا توجد في الآخر فيلجأ حينئذ إلى التفضيل،
لأن التفضيل بدون التفصيل لا يستقيم.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: (الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة، أو
فاطمة أفضل، إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً، فالتفضيل بدون التفصيل لا
يستقيم، فإن أُريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل فذلك أمر لا يطلع عليه إلا
بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح، كم من عاملين
أحدهما أكثر عملاً بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة وإن أريد بالتفضيل
التفضل بالعلم، فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدت للأمة من العلم ما لم
يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل
وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل، فإنها بضعة من النبي -صلى الله عليه
وسلم- وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخوتها، وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة
نساء الأمة، وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم
وعدل، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل، ولم يوازن
بينها، فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم
بالجهل والظلم، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل
التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي؛ فمنها أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر
على الفقير الصابر أو العكس، فأجاب بما يشفي الصدور فقال: أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.. ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة
أمي المؤمنين أيهما أفضل؟ فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام،
ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين،
وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما
لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها. فتأمل هذا الجواب
الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقاً لم تخلص من المعارضة.. فعلى المتكلم في
هذا الباب:
1- أن يعرف أسباب الفضل أولاً (بتعلم العلم الشرعي من مظانه) .
2- ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها ثانياً.
3- ثم نسبتها إلى من قامت به - ثالثاً - كثرة وقوة.
4- ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعاً.
فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالاً لغيره، بل كمال غيره بسواها؛
فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه، وكمال
أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا.
فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل. وتفضيل الأنواع
على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعد من الهوى
والغرض.
وههنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله: وهي أن كثيراً ممن يتكلم في
التفضيل يستشعر نسبته وتعلقه بمن يفضله ولو على بعد، ثم يأخذ في تقريظه
وتفضيله، وتكون تلك النسبة والتعلق مهيجة له على التفضيل، والمبالغة فيه،
واستقصاء محاسن المفضل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضل
عليه بالعكس ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا، وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضى بغيرها.
ومن هذا التفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ كل
منهم لمذهبه وطريقته أو شيخه، وكذلك الأنساب والقبائل والمدن والحرف
والصناعات، فإن كان الرجل ممن لا يشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة
أخرى: وهو أنه يشهد حظه ونفعه المتعلق بتلك الجهة، ويغيب عن نفع غيره
بسواها، لأن نفعه مشاهد له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضل ما كان نفعه
وحظه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه، فهذه نكت جامعة مختصرة
إذا تأملها المنصف عظم انتفاعه بها واستقام له نظره ومناظرته) [4] ...
القاعدة السابعة
المنهج الصحيح في الحب والبغض
من المسلمين من يجتمع فيه أمران: أمر من الخير فيحب بسببه ويمدح عليه، وأمر من الشر فيذم بسببه ويبغض من جهته. وأما الحب والولاء بإطلاق فهو
للمؤمنين، والبغض والبراء بإطلاق - أيضاً - فهو للكافرين، فإن الحب والبغض
من أوثق عرى الإيمان، كما ثبت ذلك في الأثر [5]
وإنما القاعدة في المسلم الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً أنه يحب من جهة
عمله للصالحات، ويمدح لذلك، ويبغض من جهة عمله للسيئات، ويذم لذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل
الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما
تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض
السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض
الحسنات السنية البرية، فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً
بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان [6]
ويقول في موضع آخر: (ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم
ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر) [7]
ويقول الذهبي -رحمه الله- عن أبي جعفر الباقر: (ولقد كان أبو جعفر إماماً
مجتهداً، تالياً لكتاب الله، كبير الشأن، لكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير [8]
ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة
قتادة وابن شهاب، فلا نحابيه، ولا نحيف عليه، ونحبه في الله لما تجمع فيه من
صفات الكمال) [9] .
وينبغي هنا التنبيه إلى أمر مهم، وهو: أن من الناس من يبني الحب
والبغض على مدى موافقة الآخرين له، فتجد من يحب فلاناً من الناس لأنه على
مذهبه أو طريقته في الدعوة، أو لأنه ضمن جماعته؟ ! وأمثال ذلك، وبعض
الآخرين إذا خالفوه في رأي فقهي اجتهادي، أو نظري عملي، أو ما شابه ذلك،
وهذا كله دليل على اختلال الإيمان في القلب، لأن هذا الأمر مبني على أوثق عرى
الإيمان، فإن كان محملاً في الواقع، فهو كذلك في القلب.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله،
وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه،
فإن فعل ذلك لطلب الرئاسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره، كان ذلك حمية لا
يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً، ثم إذا رد
عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار
لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر
على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق
معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو
رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون
الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب
الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا
حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم
يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله
ورسوله.
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال تعالى: [وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] [الأنفال 39]
فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة. [10]
وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله،
والعبادة لله، والاستعانة بالله ...
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك،
ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل
يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه،
ويكون جمع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو
الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن
قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه
وطائفته، أو الرياء، ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو
لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي
يدعي الحق والسنة كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق
وباطل وسنة وبدعة؟ !
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وكفّر بعضهم بعضاً،
وفسّق بعضهم بعضاً، ولهذا قال الله تعالى فيهم: [ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ
إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ]
الخلاصة:
من خلال ما تقدم على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في نقده وألفاظه،
ويخلص النية لله ويتجرد عن الهوى وحظوظ النفس، ولا يتكلم إلا بعلم وعدل
وإنصاف ويقدم حسن الظن بالمسلم، ويوازن بين المحاسن والمساوئ، ويجعل
لكثرة الحسنات أو قوتها اعتبارها، ويتذكر أن الشخص الواحد غالباً ما يجتمع فيه
أمران، فيحمد ويحب بسبب أحدهما، ويذم ويبغض بسبب الآخر، ثم تكون ألفاظه
مهذبة ويبتغي بذلك وجه الله تعالى.
فمن سلك هذا السبيل، فيرجى له الصواب والسداد، وعدم التبعة يوم القيامة
بما يقول، ومن أخل بشيء مما سبق. فقد وقف على حفرة من حفر النار فلينظر
موقع قدمه أن تزل وهو لا يشعر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعلى شباب الدعوة إلى الله أن يستفيدوا من كلام السلف الصالح عند عرض
سير أعلام النبلاء فإنهم إذا كان لا بد لهم من الحديث عرضوا ما للشخص وما عليه. وإلا كفوا عن ذلك وشغلتهم عيوبهم عن عيوب غيرهم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3353) (4689) ومسلم (4/1846) .
(2) انظر سير أعلام النبلاء (21/207) .
(3) انظر منهاج السنة النبوية (4/543) .
(4) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (3/161-164) .
(5) انظر مسند الإمام أحمد (4/286) ، وحسّنه الألباني في السلسلة (1728) .
(6) الفتاوى (10 / 366) .
(7) الفتاوى (51 / 294) .
(8) المقصود ابن كثير الذي هو أحد القراء، وليس ابن كثير صاحب التفسير الذي هو من أقران الذهبي.
(9) انظر سير أعلام النبلاء (4/402) .
(10) منهاج السنة النبوية 5/254-256 باختصار.(43/36)
وقفات مع
التحقيق والمحققين
محمد عبد الله آل شاكر
-1-
منذ قرون بعيدة أدرك العلماء أهمية تحقيق النصوص وتصحيحها، وعلموا
أنها مسؤولية عظمى تحتاج إلى جهدٍ كبير وإلى درايةٍ ومهارة، فقال الجاحظ في
مقدمة كتاب (الحيوان) : «ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً أو كلمةً
ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعنى، أيسر عليه من
إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام» .
ثم دار الزمن دورته، وجاء أناس يزعمون لأنفسهم التحقيق والضبط
والمراجعة، وقد انقلبت عندهم المفاهيم رأساً على عقب، وابتدعوا طريقة في
التحقيق جديدة، لم يعرفها السابقون، ولا يرضى عنها المعاصرون. بل إن عملية
التحقيق نفسها أصبحت عند بعضهم " هلوسة "، كلهم يريد أن يحقق، كلهم يريد أن
يحقق كل شيء، حتى القرآن الكريم!
ومن عجيب ما وقع في يدي من هذا اللون كتاب بعنوان (دليل آيات العبادات ...
والأحكام الشرعية) جمع وتحقيق ذخر الدين شوكة، عميد كلية الشريعة ... بالجامعة الأردنية، الطبعة الأولى 1403 هـ، طبع جمعية المطابع التعاونية في عمّان. وهو يحتوي على مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة مصورة من المصحف ويقابلها ترجمة معانيها بالإنكليزية، من كتاب «تفسير آيات القرآن
الكريم» لمحمد بكتال، الذي قامت بطبعه رابطة العالم الإسلامي، عن طريق مكتبها الدائم في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك! (انظر صفحة 1 من مقدمة الكتاب) .
رأيت هذا الكتاب في معرض للكتاب، فدعاني ذلك لسؤال صاحب المكتبة
مازحاً: هل عندك القرآن الكريم محققاً؟ وأبدى المسكين تأسفه لعدم وجوده! !
واستكمالاً لما سبق نشره في أعداد سابقة من البيان الغراء، حول تراثنا
وطريقة التعامل معه، أشير في هذه المقالة إلى بعض الملاحظات، والله الموفق.
-2-
اضطرب مفهوم التحقيق عند بعض الدارسين الذين استهواهم هذا الاسم، فغدا
التحقيق في عملهم شرحاً لمتن، أو حاشية على الشرح، أو تقريراً على الحاشية،
يستعرض فيه أحدهم قدرته على تتبع كل كلمة في النص وشرحها. ومن أعجب ما
رأيت من هذا اللون من التحقيق ما أسميته بـ (التحقيق الأزهري) ، (وللأزهر في
نفوسنا مكانة، فهو مقصد طلاب العلم والعلماء) ، فقد لفت نظري إعلان عن كتاب
استهواني موضوعه، ولي فيه نوع اهتمام، وهو (تحرير المقال فيما يحلُّ ويحرم ...
من بيت المال) للحافظ تقي الدين، أبي بكر محمد بن محمد البلاطُسُني، تحقيق ودراسة: فتح الله محمد غازي الصباغ، منشورات دار الوفاء بالمنصورة الطبعة الأولى، 1409 هـ. واستعنت بالله ولم أستكثر الجنيهات التي دفعتها ثمناً له، فهو رسالة ماجستير قدمت لكلية الشريعة بالأزهر، وبإشراف أحد الدكاترة «الذي كان له الفضل في أن يسير البحث في خطواته الصحيحة (ليته كان) حتى وصل إلى الصورة التي عليها الآن» (كما يقول صاحب التحقيق والدراسة ص 16) .وتجاوزت المقدمة والدراسة التي بلغت ثمانين صفحة، ووصلت إلى متن الكتاب نفسه، وأُصبت بصداع، وأظلمت الدنيا في عيني، وأسفت على الحال التي وصل إليها التحقيق ... فالمحقق وضع عنوان الكتاب في سطر واحد، وأمام كل كلمة رقم إحالة، وفي الهامش شرح لكل كلمة في العنوان: تحرير ... القول ...
الحلال ... الحرام ...
واستغرق هذا الجهد ستة وعشرين سطراً بحرف صغير حتى أتى على شرح
العنوان كله في ص (85) . وفي الصفحة التالية: تعليقات ثمانية على سطرين
اثنين يشرح فيها المحقق لفظ (المقدمة) .. ولماذا بدأ المؤلف بالبسملة والحمدلة،
ثم شرح لمعاني المفردات! وفي ص (130) شرح للكلمات الآتية: الباب،
الفصل ... الخ
ثم قلبت ورقة واحدة، فوجدت هذا العنوان: (سبب تأليف الكتاب) وفي
الهامش مع الإحالة هكذا: (المحقق) ، (يقصد أن العنوان من عمل المحقق) كثيراً
ما تطالعك هذه التعليقة البارعة. وبمناسبة ورود كلمة، (بدعة) في المقدمة، بدأ
صاحبنا يشرح معناها وأنواعها نقلاً عن الشاطبي والعز بن عبد السلام، -رحمهما
الله تعالى-. وعجبت من هذا الأسلوب في التحقيق أشد العجب، وقلت في نفسي:
لا ضير، فلكل شيخ طريقة، ولشيخنا هذا طريقة أقره عليها المشرف على الرسالة، ويبدوا أنهما لم يفرقا بين التأليف والشرح والتحقيق. ومن الطريف أن صاحبنا
رقَّم على غلاف الكتاب: (تحقيق ودراسة) وفي آخر الإهداء في ص (5) التوقيع: ... (المؤلف) ، فهل هو محقق الكتاب أم المؤلف؟ أم أن الإهداء من البلاطسني
لوالديّ المحقق ولكل من يؤمن بالإسلام طريقاً للنجاة..؟ !
وليت صاحبنا اقتصد في عمله، وقرأ كتاباً في أصول تحقيق النصوص
ونشرها إذن لأفاد واستفاد، وأراح واستراح.
وسار على هذا المنهج في التحقيق آخرون كما نجد في (المنتخب) للحافظ
عبد ابن حميد، تحقيق وتعليق أبي عبد الله مصطفى بن العدوي شلباية، الجزء
الأول، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى 1459 هـ. وأين هذا مما كان يفعله
علماؤنا في التحقيق وضبط النص، رغم أنهم لم يتبجحوا بهذه الكلمة التي ابتذلت
في أعمال كثير من الناس اليوم؟ ومن أراد معرفة ذلك فلينظر إلى كتب أدب الطلب، وليقرأ مقدمة كتاب «إرشاد الساري بشرح البخاري» للقسطلاني ص (39-41) ، أو مقدمة الملاَّ علي القاري لكتابه (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) !
-3-
وإذا أردت صورة أخرى من التعالم في (التحقيق والضبط والمراجعة) فستجد
أمثلة كثيرة لذلك في الكتب التي أفسدها المحققون والمراجعون الأدعياء، الذين
يضعون أسماءهم على أغلفة هذه الكتب المظلومة المفترى عليها باسم التحقيق، وقد
شحنوها بالأخطاء الفاحشة والنقص والسقط، ولم يقابلوا نسخها المخطوطة، وهي
قريبة منهم وفي متناول أيديهم ولم يكلفوا أنفسهم عناء القراءة المتأنية للكتاب، ولم
يصححوا فيه خطأ، أو يضعوا عليه تعليقاً مفيداً، أو أن يصنعوا له الفهارس التي
تيسر الإفادة من الكتاب.
ولكي لا نكون ممن يلقى الكلام على عواهنه، نأخذ مثلاً على ذلك، وهو
كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام -رحمه الله-، الذي
نشرته مكتبة الكليات الأزهرية من حوالي عشرين سنة، نشرة سقيمة سيئة جداً، ثم
أعادت نشره بطبعة جديدة (مضبوطة منقحة) (هكذا زعم الناشر أو المحقق) في
شهر صفر عام (1388) هـ، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد.
وهذا الكتاب النفيس وأمثاله له مكانة في نفسي، وتستهويني قراءته التي
أشعر بلذتها، ويعكر علي هذا أنني أقف عاجزاً عن فهم كثير من المواطن في
الكتاب.. واتهمت نفسي وفهمي، وأحسنت الظن بغيري، إلى أن حصلت على
صورة من النسخة الخطية المحفوظة بالمكتبة الأزهرية (وهي على بعد أمتار من
ناشر الكتاب!) وأخرى من مكتبة الحرم المكي، وثالثة من دار الكتب المصرية
بالقاهرة. ورجعت إلى بعض النصوص التي كنت بحاجة إليها، فهالني ما رأيت،
عندما قابلت المطبوع بالمخطوط، فلم أجد صفحة واحدة، بل مقطعاً واحداً،
وأحياناً سطراً واحداً في صفحة، خالياً من الأخطاء والتصحيفات والنقص، حتى
ليكاد النقض في المطبوع يربو على عشر ورقات ذات وجهين، ومثاله في الجزء
الثاني ص (27) ، ويقابله في النسخة الخطية المكية الورقة (179) وما بعدها.
وحتى التعليقات على الكتاب، وعددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في
كتاب يزيد عن الخمسمائة صفحة، هذه التعليقات مسروقة عن الطبعة الأولى
(المكتبة الحسينية، 1353هـ) المأخوذة أو المقابلة على نسخة الشنقيطي، وهي
الطبعة التي اعتمدها محقق الكتاب، ونشرها من جديد بنصها وفصها، دون أن
يشير إلى ذلك. فما أدري، ما الذي بقي من جهد أو عمل لهذا المحقق المحترم؟ !
وليت شعري، كيف يثق القارئ - بعد ذلك - بهذه الكتب التي أخرجها، أو أخرجت باسمه، وقد يقع الكتاب منها في مجلدات ذوات عدد مثل:
«الروض الأنف» بشرح سيرة ابن هشام للسهيلي، وهو من أعظم شروح السيرة وأدقها وأكثرها فوائد، و «تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام» لابن فرحون، وهو عمدة الدارسين في القضاء والسياسة الشرعية،
و (القواعد الكبرى) لابن رجب الحنبلي، وغيرها. فلا بد من إعادة النظر في طبعاتها كلها.
-4-
وعلى هذا النهج من التحقيق يسر الدكتور الطبيب (!) عبد المعطي أمين
قلعجي، في تحقيقاته المزعومة، كتحقيقه لكتاب الحازمي «الاعتبار في الناسخ
والمنسوخ من الآثار» دار الوعي بحلب، الطبعة الأولى، القاهرة 1403 هـ.
وإن تعجب من تحقيقه، فعجبك أكثر من تخريجه للحديث! والطبيب المحقق هذا،
يبدو أنه يستحل جهود الآخرين وأتعابهم، فيأخذ منهم كتباً ليطبعها لهم، أو يكلفهم
بالعمل على تحقيقها بالاشتراك ثم يطبعها باسمه وحده، وقد حدثني بذلك أحد كبار
أساتذة الأزهر، فقد وقع هو في أحابيله، وجّرأه على ذلك كِبَر سن الشيخ وعدم
قدرته على متابعة الطبيب المحقق!
وأما تحقيقات «محمد صادق قمحاوي» عضو لجنة مراجعة المصاحف
بالأزهر الشريف، والمدرس بالأزهر الشريف، (كما هو مثبت على صفحة
العنوان لكتاب (أحكام القرآن) لأبي بكر الجصاص، طبعة دار المصحف بالقاهرة، الطبعة الثانية) .. وهذه التحقيقات، طراز آخر من التحقيق، لا تجد فيه ضبطاً
لكلمة، ولا شرحاً لمصطلح، ولا تعليقاً على رأي مثلاً، ولا توثيقاً لنص ولا
تخريجاً لحديث، بل ولا تجد علامة من علامات الترقيم، ولا إخراجاً فنياً يساعد
القراء على القراءة والفهم حتى إنه ليصعب عليك أن تميز الآية التي يستشهد بها
المؤلف عن الآية التي يشرحها، وقد بخل على الكتاب والقارئ باسم السورة إلى
يفسرها المؤلف. أما صنع الفهارس المتنوعة للكتاب فهذا أبعد من نجوم السماء
وكأنه بدعة ضلالة!
ولئلا نبخس الرجل أو نهضمه حقه، فإن جهده - ولعله جهد المطبعة - يتمثل
في أنه أخرج الكتاب في خمس مجلدات بدلاً من الثلاثة في طبعة الآستانة. ووجدت
له كذلك تعليقين في الجزء الأول من الكتاب، أحدهما في الصفحة الخامسة، يقول
فيها: «المراد بهذه المقدمة التي ذكرها المصنف - الكتاب الذي ألفه في أصول
الفقه» . وفي ص (30) عند قول المؤلف عن نافقاء اليربوع: «لأن له أجحرة
يدخل بعضها عند الطلب ... » قال المحقق: «هكذا في النسخ التي بأيدينا،
وصوابه جِحَرة» (بكسر الجيم المعجمة وفتح الحاء) وكفى الله المؤمنين القتال!
وكفى الله القارئين الجهد والتعب!
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (يتبع)(43/44)
إدارة
الهدوء وضبط النفس
سمة القيادة الناجحة
سامي سلمان
أقصد بالقائد الشخصية القادرة على اختيار الرجال، وفرض احترامه عليهم،
والحصول على محبتهم ومعرفة إمكاناتهم واستغلالها، ووضع كل منهم في المكان
الذي يلائمه، وبث فكرة القوة والمساواة بينهم، وتوزيع المسؤوليات عليهم،
وإشراكهم جميعاً في خدمة هدفٍ سامٍ على أن يتمثل فيه إيمان جاد بالمهمة التي يقوم
بها.
وسوف أشير هنا إلى عنصر واحد من عناصر سمات القيادة الناجحة وهو
الهدوء وضبط النفس، وهي صفة جلية في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
جميع أحواله، إن الهدوء وضبط النفس موهبة فطرية وسمة خلقية تكتسب كذلك،
ولا بأس بذكر موقفين له - صلى الله عليه وسلم - تتبين فيهما هذه الصفة:
أولاً: في معركة حنين عندما فوجئ المسلمون بهجوم قوي من الكفار (هوازن
ومن معها) وفر من فر ممن أسلم بعد الفتح، وتراجع المسلمون عشوائياً، في هذه
اللحظات الحرجة والصعبة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثابت الجأش
هادئ الأعصاب يقول: أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ويقول لعمه العباس: ناد أصحاب الشجرة، وبفضل الله ثم بفضل هذا الثبات من
الرسول - صلى الله عليه وسلم - آب المسلمون إليه ورجعوا يتجمعون حوله
وانتصروا بعدئذ بإذن الله.
هذا الموقف يحتاج إلى تأمل، ففيه الشجاعة وحسن التصرف، وفيه هدوء
النفس وعدم الهيجان، وفيه التوازن مع ما في الحدث من شدة انعكست على الألوف
ممن سار في الجيش، يذكرني هذا الهدوء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقول أحدهم: «لكي يحافظ القائد على هدوئه، عليه أن يعتاد على معالجة الأمور
المفجعة وكأنها عادية، بدلاً من معالجة الأمور العادية وكأنها فواجع» [1] ، ويقول
كذلك: «على القائد الذي يود أن يكون أهلاً للقيادة أن يبدأ بقيادة نفسه ولا يمكن
لمن لا يسيطر على نفسه أن يسيطر على الآخرين» [2] .
إن استقبال أي حدث مهما كانت درجة عظمته بهدوء وضبط نفس. يمكّن
المسؤول والقائد من عدة أمور منها:
أولاً: استيعاب الحدث بمعرفة حجمه الحقيقي، فكم من موقف استقبلناه بشدة
وغلظة بينما هو أبسط وأصغر من أن يواجه ويستعد له على حساب أمور أخرى-
والعكس صحيح فكم من حدث ظهر لنا بسيطاً فلم يحسب له أي حساب فلما تبين لنا
أنه كبير ويحتاج إلى موقف سريع منا لم نتمكن من استيعابه، ففي كلا الحالتين
ضبط النفس وهدوءها يعين القائد على دراسة حجم الأحداث.
ثانياً: استيعاب الحدث بمعرفة مسبباته، الأسباب التي من شأنها أن تؤدي
إلى وقوع الحدث يعين على معرفة أفضل المواقف التي ينبغي اتخاذها.
ثالثاً: استيعاب الحدث بمعرفة أبعاده المستقبلية، فما من حدث إلا وله ما
وراءه، والهدوء وضبط النفس مما يعين القائد على الاستعداد لمواجهته بعقلية
الواعي لما يدور حوله.
فبمثل هذه الأمور الثلاثة وغيرها يوحي القائد والرئيس والمسؤول للآخرين
ممن حوله أنه متمكن من الموقف وممسك بزمامه فلا يظهر عليه الخوف والارتباك، فالقائد الحقيقي هو الذي لا يعرف الخوف ويتقن إخفاءه عندما يشعر به. ليوحي
لمرؤوسيه بأنه دائماً أصلب من الخطر. فإن تجنَب ردود الفعل العصيبة وكبح
جماح نفسه واستقبال المتاعب بروح مرحة، وتقبل المخاطر بصبر، طمأن بهدوئه
مرؤوسيه ودفع عنهم الهلع الذي يعتبر في الأزمات أكبر الأخطار.
يقول (كورتوا) : (ينظر المرؤوسون في ساعات الخطر غريزياً إلى وجه
رئيسهم، فإذا اكتشفوا لديه قلقاً أو توتراً عصبياً، انتشر هذا الشعور بينهم بسرعة
تزداد بمقدار ما يكون هذا الرئيس محبوباً وموثوقاً. [3]
وحتى لا يظن القارئ أن الحاجة إلى مثل هذه السمة قاصرة على المعارك
مثلاً نسوق هنا موقفاً آخر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففي غزوة حنين
نفسها غنم المسلمون غنائم كثيرة جداً، فأعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
من هذه الغنائم أعطيات كبيرة للمؤلفة قلوبهم من أهل مكة وبعض زعماء الأعراب،
فوجد الأنصار في أنفسهم شيئاً لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعطهم،
وظنوا أنه قسّمه في قومه، فجمعهم رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- في مكان
وخاطبهم قائلاً: «يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها علي
في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغنكم الله، وأعداء فألف الله بين
قلوبكم؟ قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل!
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟
لله ولرسوله المن والفضل. قال -صلى الله عليه وسلم-:» أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقكم: أتيناك مُكَذِّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت
بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب
الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذى نفس محمد بيده لولا
الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً
لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً
وحظاً. ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا [4]
وأنقلك أخي القارئ إلى مظهر أحد الرؤساء وهو في حالة ضيق وهيجان
وعصبية عندما نُقل له تذمر أحد مرؤوسيه أو جماعة منهم على تصرف أو تصريح
بَدَرَ منه فما كان منه إلا أن أصدر قراره العاجل بالحكم عليهم بسوء الفهم وقلة
الإدراك وبدا يخطط لتأديبهم بالسبل المختلفة. وأنا أطالب القارئ أن يقارن بين هذا
الموقف الذي اتخذه هذا الرئيس وبين موقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الذي يظهر فيه الهدوء وضبط النفس الذي مكنه من استيعاب الموقف خير استيعاب. ولنمضي جميعاً ونحلل موقف هذا الرئيس فنسأله:
1- هل راجعت نفسك في صحة ما بدر منك من عدمه؟
2- هل تأكدت من صدق ما نقل لك ومدى دقة هذا النقل؟
3- هل فكرت في سبب تذمر مرؤوسيك مما بدى منك؟ .
4- هل فكرت في أفضل السبل لإيجاد حل للموقف؟
5- هل هناك مضاعفات للموقف تحتاج أن تلم بها؟
وسوف تجد أن الذي لم يتحلَّ بالهدوء وضبط النفس لن يتمكن من سؤال
نفسه مثل هذه الأسئلة بل ينساق وراء ما تمليه عليه نفسه المضطربة من وقع
الموقف. وما أجمل ما قاله أحد الخبراء: «لا يتأثر الرئيس الفعّال لأن شخصاً
خالفه أو انتقد رأيه بل يعتبر هذا الشخص عنصراً جديداً من عناصر المعضلة
الواجب حلها» .
ومما تقدم يبرز أثر انعدام صفة الهدوء والقدرة على ضبط النفس من سلبيات
وخيمة في ميزان القيادة الحكيمة وإن من المسلمات في علم الإدارة أنه لا يمكن
لرئيس عصبي سريع الانفعال أن يقوم بمهمته الأساسية وبشكل مشوق وهو في
الحقيقة مثال للقلق والرعونة، تلك الأمور التي عليه أن يحاربها لدى الآخرين.
يقول صاحب كتاب فن القيادة: «يوحي الهدوء بأن صاحبه ذو إرادة لا
تتحول عن هدفها وتسبب نظرة الرئيس الهادئة العميقة شعوراً من القلق لدى
المشاغبين ومثيري المشاكل من المرؤوسين، وإحساساً غريزياً بأنهم أمام قوة لا
تقهر» .
__________
(1) لمحات في فن القيادة ج كورتوا الطبعة الثالثة 1986م.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) السيرة النبوية لابن هشام، دار القلم الجزء الرابع ص 85.(43/50)
أخلاق
شيوع الأخلاق النفعية
في العصر الحديث
محمد الناصر
إن ظاهرة الأخلاق النفعية أضحت أمراً مقلقاً ولافتاً للنظر في هذا العصر..
وقد أدت إلى نتائج خطيرة في التعامل بين الأفراد والجماعات.. بل أصبح المرء
يصاب بإحباط شديد وخيبة مريرة لما يجده من ازدواجية عند صنف من الناس،
وتزداد الغرابة عندما نلمس ذلك عند بعض مَنْ يتخذون ظاهرة التورع والتدين
وسيلة لمآربهم الخاصة.
وبعد أن يضمحل أثر الإيمان في النفوس، يستمد الناس قيمهم في التعامل من
الهوى والمصلحة الشخصية، بل تصبح هذه المصلحة هي الشاغل الأول لأمثال
هؤلاء، ومن هنا فلا يرجى من أعمالهم خير مهما تلبسوا بالصلاح، لأن الإخلاص
والتجرد لله من أعظم خصائص هذا الدين، قال تعالى: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] [البينة 5] . ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه.
ويقول ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المجال: «والأعمال الظاهرة لا تكون
صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده ... ولهذا
قال -صلى الله عليه وسلم-:» ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؟ ألا وهي القلب « [1] .
فالإخلاص يبعث في نفس المؤمن كريم البواعث، فيعمل جاهداً على إشاعة
الخير والتعاون والعدل بين الناس. إلا أن هذه النزعة، نزعة الأنانية والنفعية
غزت مجتمعاتنا بعد أن سادت أخلاق الغربيين من خلال غزوهم الفكري لبلادنا.
سيادة الأخلاق النفعية في ديار الغرب:
لقد غزت فلسفة الغربيين مجتمعاتنا المسلمة، ويرى أصحاب هذه الفلسفة
(النفعية) أن السعادة الحقة هي التي يشعر بها الإنسان نتيجة لإشباع دوافعه الطبيعية
وغرائزه الحسية دون التقيد بدين أو خلق قويم.
» وأصبحت الأخلاق الحديثة تُستمد من القيم المادية النفعية تحدوها ميكافيلية
صريحة، وأضحى التعامل الاجتماعي قائماً على رابطة المصلحة وحدها، على
الأخلاق التجارية.
لقد كفرت أوربا بالدين والأخلاق، ونبذ المجتمع كل مقوماته المستمدة من
هذين الاتجاهين « [2] .
تطور هذا الاتجاه النفعي في أوربا وأمريكا، وأخذ صوراً مختلفة، يمكن
إيجازها في ثلاثة مذاهب [3] . لعل ذلك يوضح لنا ما نحن في صدده، وأثر هذه
الأخلاق في سياسة القوم.
المذهب الأول: مذهب المنفعة الشخصية، وله صورتان:
صورة دعا إليها أحد تلامذة سقراط» أرستبوس «وقد فسر السعادة لدى
أستاذه باللذات العاجلة بدلا من الآجلة، وأن إشباع الدوافع في حينها أمر ضروري
لأن تأخيرها يؤدي إلى الشعور بالحرمان والكآبة، فلا حياء ولا خجل في طلب
اللذات في آية صورة كانت، ويعتبرون أن السلوك الذي يحقق هذه السعادة سلوك
أخلاقي.
والصورة الأخرى: تتمثل في الفردية التي دعا إليها» هوبز «ومن سلك
مسلكه، فقد ادعى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أنانية تعمل لمصلحة الذات، وقد
اخترع الإنسان المبادئ الأخلاقية ليتخذها وسيلة يحقق فيها منفعته الشخصية.
ومن هنا يرى أن الأخلاق ما هي إلا وسيلة لتحقيق المنفعة وليست طبيعة في
الإنسان.
المذهب الثاني: مذهب المنفعة العامة.
قال أصحابه: على الإنسان أن ينشد منفعة البشر عامة حتى الحيوانات،
واعتبروا أن إقرار المنفعة غاية للأفعال الإنسانية، ومعيار للأخلاق، وتقاس
أخلاقية الفعل بنتائجها لا ببواعثها.
المذهب الثالث: مذهب النفعية العملية» المذهب البراغماتي «ويمثله جون
ديوي، ويهتم البراغماتي عادة بماله من قيمة معنوية.
والخطورة في هذا المذهب أن ديوي أرجع المثل الأخلاقية إلى نتائج الظروف
الواقعية للإنسان، فهي ليست مبادئ مطلقة ثابتة يضعها الفلاسفة، كما أنها ليست
من وضع المجتمع، ولا من وضع السماء.
ثم أنكر أن تكون للأخلاق غاية عليا سامية وثابتة، وأن لها مبادئ مطلقة لا
تقبل التغير، ذلك لأن الحياة متطورة [4] .
لقد سيطرت هذه الفلسفة بمذاهبها المختلفة على أخلاق الناس والحكومات في
أوربا بقسميها وفي أمريكا، فاهتزت الأخلاق واضطربت الموازين، وسيطرت
المنفعة والأنانية، وتحول الناس إلى ذئاب بشرية، ومن ثم طغت الروح الرومانية
والفلسفة الإغريقية على أوربا من جديد.
وصارت بعض القيم، كالصدق والأمانة والاستقامة مثلاً لا تطبق إلا في حدود
القومية ومصلحة البلاد على أساس ما تجلبه من النفع لحاملها، وتبطل إذا بطلت
المنفعة القريبة أو البعيدة.
وهاهي المواثيق تعقد وتوثق، وفي لحظة غادرة تنقض وتصبح حبراً على
ورق مجرد أن تلوح المصلحة القومية في نقض الميثاق.
ويمر الناس بهذا الأمر غير مبالين، لأن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر
بموجب فلسفة الجاهلية اليونانية [5] .
وقد عانت أمتنا من هذه الأخلاق الأمرّين خلال الاستعمار القديم وأثناء التعامل
المعاصر من ازدواجية مريرة في قرارات الأمم وما يسمى بمجلس أمنها.
» إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، والحاكم المقيد بالأخلاق ليس
بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ على عرشه « [6] .
هذا ما ينصح به أشرار اليهود في خططهم. وهذا ما يفسر لنا سياسة
المستعمرين.
» كان الاستعمار يتوسل بكل سفالات الأرض ليوطد سلطانه، ويمتص دماء
الناس، ولا يرى في ذلك انحرافاً فالغاية تبرر الوسيلة، ولا يهم عندهم أن تكون
الغاية ذاتها نظيفة « [7] .
وهذا ما أشار إليه الشاعر العربي إذ يقول:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
... ... ... وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
ورغم ذلك كله فقد فتن بعض المسلمين في القرن الحالي بحضارة أوربا وظنوا
أنها ذات ركائز تصلح لأن يُقتدى بها، ونسي كثير منهم أن يميزوا بين التقدم
المادي والتخلف العقدي والأخلاقي، فتنوا ببعض ما يبدو من صدق وأمانة حيناً،
لأنها عند القوم تؤمن لهم ثقة ووقتاً، إلا أن أخلاقهم هذه ستتغير إذا لاحت منفعة
أشد، ومصلحة أقوى.
فالأخلاق النفعية سمة بارزة من سمات الجاهلية المعاصرة، بينما كان للعرب
في جاهليتهم بعض الترفع والإيثار كإغاثة الملهوف ونجدة الصريخ والذب عن
حرمات الجيران.
الغاية لا تبرر الوسيلة:
هذا مبدأ إسلامي أصيل، إذ لا بد أن تكون الوسائل الأخلاقية سامية كالغايات
تماماً ولابد أن يكون العمل خالصاً وصواباً حتى يتقبل، ولهذا قال الأصوليون:
الغاية لا تبرر الوسيلة، واتخذوا ذلك قاعدة تشريعية مستدلين بقوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ وجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ] [المائدة: 35]
فالآية ترسم طريق الفلاح بأن يتقي المسلم ريه بترك المحرمات وأن يتقرب
إليه تعالى بأداء الواجبات والتمسك بالقيم الأخلاقية، ولا يمكن التقرب إليه
بالمحرمات. [8]
نتائج وملاحظات:
1- المعروف أن المجتمعات الإسلامية تتميز بالمحبة والتآخي والإخلاص،
ومقاومة الأهواء.
وأن الإيثار والتضحية والشهامة من أخص أخلاق العرب في جاهليتهم
وإسلامهم.. وأن الأنانية والنفعية أخلاق وافدة على أمتنا قد غزتها بعد أن ضعف
وازع العقيدة ودواعي الإخلاص.
2- النفعية أخلاق غربية بنيت على مذاهب فلسفية تنسجم مع تطلعات
أصحابها ومعتقداتهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان، وهي أخلاق دخيلة غريبة
على أمتنا.
3- لابد للمربين والدعاة إلى الله أن يهتموا بمعالجة هذه الظاهرة من خلال
التربية والتوجيه؛ بإبراز النماذج الرائدة عند سلف هذه الأمة، وأن يضرب الدعاة
والمربون من واقع حياتهم أمثلة صادقة بالمعايشة والقدوة الحسنة.
4- إن النفعيين والانتهازيين خطرهم جسيم، في المؤسسات التجارية والعلمية
والدعوية، لأنهم سيتجاوزون كل القيم في سبيل مطامعهم وطموحاتهم، ومن تمعن
في أحداث التاريخ أسعفته الشواهد، والعاقل من اتعظ بغيره، والحذر يجنب
صاحبه المزالق والندم قبل فوات الأوان.
5- لابد أن يتميز الداعية إلى الله، والمربي الجاد بصفات الإيثار والتضحية
وكرم النفس بعيداً عن الجشع والمراوغة والاحتيال، عسى أن يساهم في البناء
العقدي والأخلاقي المتماسك لهذه الأمة بإذنه تعالى.
__________
(1) الفتاوى 11/381.
(2) العلمانية د سفر الحوالي ص 410.
(3) انظر الاتجاه النفعي: من كتاب الاتجاه الأخلاق في الإسلام د مقداد يالجن ص 27-39.
(4) تجديد الفلسفة: جون ديوي ص 273 نقلاً عن الاتجاه الأخلاقي في الإسلام مقداد يالجن.
(5) جاهلية القرن العشرين: الأستاذ محمد قطب ص 159-162.
(6) بروتوكولات حكماء صهيون: البروتوكول الأول ص 32 ط 2.
(7) جاهلية القرن العشرين ص 153.
(8) الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: مقداد يالجن 296.(43/55)
البيان الأدبي
دور المرأة في القصة والرواية
د. عبد الله الخلف
ما الدور الذي يمكن أن تمثله المرأة في القصة القصيرة أو الرواية؟ وهل من
الضروري أن يسند إليها دور معين فيها؟
إن القصة قصيرة كانت أو طويلة لا بد أن ترتبط بواقع الحياة بصورة ما،
والمرأة تمثل دوراً هاماً وأساسياً في حياة البشر، لذلك كان من الطبيعي أن يكون
لها مكانها الذي تمثله في هذا العمل الأدبي.
وإذا نظرنا في قصص القرآن الكريم فسوف نجد من بين شخصياتها عدداً من
الشخصيات النسائية. فأم موسى قامت بدور الأم المؤمنة المستسلمة لقضاء ربها.
ومثلت امرأة فرعون دور المؤمنة الصابرة على الأذى في سبيل الله. ومثلت امرأة
العزيز دور المرأة الفتنة التي يمكن أن يتعرض المؤمن للامتحان بها. ومثلت حواء
بالمشاركة مع آدم -عليها السلام- دور الإنسان عندما يتعرض للابتلاء ولإغواء
الشيطان فينهزم أمامه، ثم يدرك أنه لا ملجأ من الله إلا إليه فيعود إليه تائباً منيباً.
وقد ورد ذكر نساء أخريات أو تمت الإشارة إليهن في بعض قصص القرآن.
وهكذا نجد أن المرأة كانت حاضرة في ذلك القصص، وهو أمر يدل على أن
لها مكانها ودورها الهام الذي يمكن أن تقوم به في القصة.
وإذا ما نظرنا إلى الأعمال الروائية في العصر الحديث فسنجد أن المرأة
دخلتها من أوسع أبوابها، واحتلت مكاناً بارزاً فيها، غير أن الكثير من كتاب
الرواية قد أدخلوا المرأة في أعمالهم لا بوصفها عنصراً فنياً تقتضيه الضرورة الفنية
للعمل الأدبي، بل بوصفها عنصراً يساعد على جذب القارئ وشد انتباهه لمتابعة
الأحداث، أو لإغرائه باقتناء الرواية وقراءتها، وكأنهم يلتقون في ذلك مع شركات
الدعاية والإعلان، التي تظهر المرأة في إعلاناتها، ولو لم يكن لها أي صلة بالمادة
المعلن عنها، مستغلة إياها في جذب المشاهد ومداعبة غرائزه. لذلك نجد الدور
البارز الذي لعبته المرأة في تلك الروايات يدور حول العلاقات الغرامية أو الجنسية
المثيرة.
وإذا كان هناك عدد كبير جداً من كتاب الرواية قد أسندوا إلى المرأة مثل هذه
الأدوار، فإن منطلقاتهم لم تكن دائماً واحدة. فمنهم من كان قصده إشاعة الفساد
والانحلال من غير أن ينظر إلى مدى أهمية ما قام به من الناحية الفنية.
ومنهم من هو متأثر بالآراء والنظريات والدراسات النفسية الحديثة ولا سيما
نظريات فرويد التي تعطي الجنس الأهمية الكبرى في حياة البشر، وترى أنه
المؤثر الأعظم في سلوكهم.
ومنهم من يشعر بضعف القيمة الفنية لعمله، ويدرك أنه لا يستطيع اجتذاب
القراء، فيجعل في تناوله لهذا الجانب وسيلة لاجتذابهم وشركاً يصطادهم به.
ونتيجة لشيوع إسناد مثل هذه الأدوار إلى المرأة في القصة الحديثة ظن
البعض أن ذلك مقوم من مقوماتها وعامل فعال من عوامل نجاحها، وشرط أساسي
لبلوغها المستوى المطلوب. وظنوا أنه لا غنى للكاتب ولا مفر له من أن يضمن
قصصه شيئاً من ذلك، وإلا فقد عمله قدراً كبيراً من قيمته وجاذبيته.
ويبدو أن هذا الظن تسرب إلى بعض كتاب القصة من ذوي الاتجاه الإسلامي، فأسندوا إلى المرأة أدوارا غرامية، وأصبح الهيكل العام لبعض رواياتهم قائماً
على أساس وجود هذه العلاقة بين بطل القصة وبطلتها، دون أن يكون لهذا مغزى
جوهري أو قيمة فنية، نجد مثل ذلك عند نجيب الكيلاني، وعلي أحمد باكثير.
وإذا كان هذا الأسلوب قد أدى إلى جذب بعض القراء فإنه أدى أيضاً إلى نفور
طائفة أخرى. وهو أسلوب لا يخلو من آثار سلبية ونتائج عكسية.
أما الظن بأن إسناد مثل هذه الأدوار إلى المرأة تقتضيه الضرورة الفنية فإنه
ظنٌ بعيد عن الصواب، وهناك من الروايات ما نال الإعجاب الكبير، ونال به
صاحبه شهرة واسعة على الرغم من خلوه من النموذج النسائي. فرواية الشيخ
والبحر للأديب الأمريكي أرنست همنجواي من أشهر الروايات، وترجمت إلى كثير
من اللغات، ونال عليها صاحبها جائزة نوبل للآداب مع أنه ليس من بين
شخصياتها أي شخصية نسائية. وهي رواية تبرز قيمة العمل والكفاح والمثابرة
والاعتماد على الذات.
ومن الروايات المشهورة رواية الطاعون للأديب الفرنسي ألبير كامو الحائز
على جائزة نوبل، وهي أيضاً تخلو من الحديث عن الحب والغرام وأبرز
الشخصيات النسائية فيها لعبت دور الأم.
لذلك يمكننا القول بأن القيمة الفنية للعمل الأدبي لا تتوقف على نوع الأحداث
أو الشخصيات، إذ أن الكاتب القدير يستطيع أن يحول أحداثاً بسيطة وشخصيات
مألوفة إلى عمل فني جميل قادر على أن يحوز على إعجاب النقاد، ويترك أعمق
الأثر في نفوس قرائه.(43/62)
شعر
جزائر الخير
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
جزائرَ الخير أين الرائح الغادي أين «ابنُ باديسَ» أين الغصن والشادي
جزائرَ الخير تاه اللحن في شفتي وضاق عن حسراتي ثغرُ إنشادي
ووثَّق الحزن في قلبي روابطه وقد رأى من جراحي خيرَ إمدادِ
جزائر الخير لا ظلٌ ولا ثمرُ ولا خُزامى ولا فُلُّ ولا كادي
تصَّحرت أرضُ أحلامي، فقافلتي تسير فيها بلا ماءٍ ولا زادِ
نام الخليُّون في أحضان رغبتهم ونحن في أرقٍ مُضنٍ وتَسهادِ
نخشى على أَّمةِ الإسلام حين نرى قوافل الخير تمضي دونما حادي
نخشى من الراكبين الوهمَ، ما قطعوا شوطاً، ولا فتحوا باباً لإنجادِ
تعمى بصائرهم عن كلِّ منحرفٍ ويرصدون ذوي التقوى بمرصادِ
ما بالهم سلبوا عينيكِ نورَهما وكبَّلوكِ بأغلالٍ وأصفادِ
ما بالهم جعلوا الأبواب مشرعةً للغرب مغلقةً في وجه أجدادِ
ما بالهم جعلوا باريس قدوتهم ووجَّهوا نحوها وجدانَ منقادِ
ما للصحافة تجري في أعنّتها على مساحاتِ أوهامٍ وأحقادِ
ما بالُها لا ترى إلا الظلامَ ولا ترى معالم إنقاذٍ وإرشادِ
جزائرَ الخير ما بال الربيع شكا موت الزهور وصَمْت البلبل الشادي
ما لي أرى تلمسان الحبِّ واجمة وفي الجنوب أرى إطراقةَ الوادي
تدفُّقُ النور من كفيك أفزعهم والنور يُفزع من يَسعى لإفسادِ
وأبصروا من شباب الحقِّ همّتَه ما بين حافظ قرآنٍ وسَجَّادِ
فاستوقفوكِ على أبواب حيرتهم وحرَّكوا ألفَ كوهينٍ وحدَّادِ
تسعين في طرق الإيمان جاهدةً وتشرئبّين في شوقٍ إلى الهادي
وتنشدين لنور الفجر أغنيةً تسجلين بها تاريخَ ميلادِ
وهم يغنون ألحان الضياع وقد ملَّت ترانيمَهم أوتارُ أعوادِ
جزائرَ الخير ما هانت روابطُنا ولا خضعنا لأعداءٍ وحُسَّادِ
ولا خُدِعْنَا بأقوالٍ ملفقةٍ تُدار ما بين خرَّاز وزرَّادِ
بين المشاعر جسرٌ من عقيدتنا وبين أفواهنا جسرٌ من الضادِ
ما زلتُ أذكر مليوناً جماجهم شواهدُ العزِّ في تاريخِ أمجادي
روت دماؤُهم الأرضَ التي كسرتْ طَوْقَ الخضوعِ لأمر الغاصب العادي
جزائر الخير، هذا نَهْرُ صحوتنا ما زال ينبع من قافٍ ومن صادِ
ما زال يغلسنا من كل منقصةً فينا، لبسنا بها أثوابَ إخلادِ
غداً - بإذن إله العرش - سوف نرى كتائب الحق تمحو كلَّ إلحادِ
وسوف نمسح عن أجفان أمتنا ما خَلَّف الدمع من آثار إجهادِ
جزائرَ الخير، إني سوف أُعلنها صريحة ذات إبراقٍ وإرعادِ
الظالمون سواءٌ كيفما اختلفتْ أوصافُهم، كلَّهم «جزَّارُ بغداد»
تعدّدتْ رتب الأقوام واختلفوا وجمَّعتْ بينهم أوصافُ جلادِ
هذا ندائي فيا دنيا اسمعي وخذي وبلِّغي، وافهمي معناه وازدادي:
يا ساسةَ القمع: هذا صوت أمتنا يقول: لا تقتلوا بالظلم أولادي(43/65)
قصة قصيرة
أين الكعبة
أبو سهل البخاري
وأنا أسير في ساحة الحرم متجهاً إلى الكعبة، سمعت صوتا ينادي (حاجي،
حاجي! ! !) فالتفت فإذا بحاج قد بدت في وجهه آثار الجهد والإرهاق، كانت
هيئة وملامح وجهه تدل على أنه من بلاد ما وراء النهر، قال لي بالأُزبكية مع
حركات يديه الكثيرة محاولاً إفهامي: كم علي أن أطوف بالبيت؟ فأجبته بالأُزبكية، (وهي كل ما تبقى لنا من ذكريات بلادنا المنسية) : عليك أن تطوف سبعة أشواط. فرأيت السرور داخله بمعرفتي لغته، ثم ما لبث أن قال باستعجاب: سبعة أشواط! وهل تستطيعون ذلك، لقد بلغ الجهد مني مبلغه من أول شوط حول بيت الله
وأشار إلى مبنى الحرم الخارجي، ففهمت سبب تعجبه من كلامي ومدى ما أصابه
من إرهاق، لقد ظن هذا المسكين أن هذا المبنى هو الكعبة فشرع في الطواف حول
الحرم كله دون تردد، يا الله! ... لم ير البيت قبل الآن! ! !
فقطع تفكيري صوته قائلاً: استعين بالله وأكمل الطواف، ثم أخذ في
الانصراف، فوجدتها فرصة سانحة للتعرف على ما يدور داخل بلاد المسلمين
فاستوقفته عارضاً عليه مساعدته، فرحب مسروراً.
ذهبنا سوياً إلى داخل الحرم وأشرت إلى الكعبة المشرفة وقلت له: هذا هو
بيت الله، لا الذي طفت حوله قبل قليل،
فما هي إلا لحظات حتى رأيت الدموع تنهمر من عينيه،
وقال: يا الله! ... هذا هو بيت الله، سمعت به كثيراً ...
ولم أره إلا الآن! ! ... فأسرع الخطا نحو البيت وأسرعت معه قائلاً: هذا
من فضل الله عليك أن يسر لك القدوم إلى بيته وقد حُرِمَ من ذلك الكثير، فقال
بصوت منتحب: كم سمعت أبي -رحمه الله- وهو يدعو ويتمنى رؤية بيت الله
ولكن الشيوعيين لم يمكنوه من ذلك ... فمات وفي قلبه حسرة وألم. لقد ذقنا يا بني
الكثير مما لا أظن أن أحداً ذاق مثله، ولكن ... دعنا نطوف بالبيت أولاً ثم أقص
لك شيئاً مما نلناه.
وبعد طواف رق به قلبي وذرفت عيناي مما شاهدت من عجيب انكساره بين
يدي الله وبكائه وعظيم حمده لله على تمكينه من حج بيته انطلقنا بعيداً عن الزحام
وجلسنا في ناحية مستقبلين البيت العتيق،
فقال لي ما اسمك؟ وكيف تعلم لغتنا؟
قلت: اسمي عبد اللطيف البخاري، هاجر والد جدي مع أهله وأبنائه في
بداية المحنة، وانقطعت عنهم الأخبار فلم يبق لدينا إلا هذه اللغة وقصصاً تروى
عن البلاد.. دعك مني الآن وأخبرني عن أحوال المسلمين هناك؟ هيا أخبرني
بالتفصيل فالوقت يدركنا..
قال: أنتم في نعمة عظيمة لا بد لكم من شكرها، نحن عشنا هناك مسلمين
ولسنا مسلمين! ! ! لم يترك لنا الروس شيئاً يمت إلى الإسلام بصلة إلا وحاولوا
إبادته وإنهاءه حتى اسماءنا، هل تصدق..؟
والدي أسماني عبد الحكيم ولكني لا أعرف بهذا الاسم إلا في البيت..
أما رسمياً فاسمي حكيموف! ! إن الروس قد فعلوا هذا بالأسماء وهي أسماء
لا تضرهم ولا تقاومهم فماذا تظن أن يفعلوا في علمائنا ومشايخنا الذين يعلموننا
القرآن والسنة؟ نعم لقد ضيقوا علينا جداً حتى إن شعائر الإسلام قد اندرست أو
كادت.
دعني أقص عليك طريقة كان بعض علمائنا يتبعونها في تعليم الصبية كتاب
الله، كان الشيخ يصعد فوق سقف المنزل من الداخل بسلم ويصعد الطلاب خلفه ثم
يرفع السلم إليه ويخبئه ويلقي الدرس بصوت خافت لكي لا يعلم أحد بهم ... وقل
مثل ذلك في مخازن تحت المنزل. كان الشباب في المصانع إذا أرادوا المذاكرة
ومراجعة شيءٍ من العلم اجتمع كل أربعة أو خمسة في وقت تناول الطعام ويتحدث
كل واحد بما عنده دون أن يلتفت إليه الباقون لكي لا يعلم بأمرهم.
حتى الصلاة.. التي هي عماد الدين كان الواحد يذهب ويختبئ بعيداً ويصليها
سريعة ويعود لكي يذهب الآخر فلم نعرف الجماعة منذ عهد بعيد. هكذا كان حال
المهتمين والحريصين على بقاء شعائر الإسلام عند أبنائهم أما عامة الناس فحدث
ولا حرج.
وماذا تستطيع أن تفعل لهم وأنت لا تأمن على نفسك وأهل بيتك؟ آه كم أشعر
بالأسى على مشايخنا وعلمائنا الذين كان لهم الفضل بعد الله على بقائنا مسلمين،
نلنا ما لم يستطيعوا أن ينالوه، بل لم نستطع أن نقدم لهم أبسط حقوق المسلم، لم
نستطع أن نغسّلهم ونكفنهم كما يأمرنا ديننا فماتوا ودفنوا حسب مراسم الدفن
الشيوعية حتى الصلاة عليهم لم تكن إلا سراً في جوف بيته.
لم أتمالك نفسي فبكيت وأنا أسمع ما يقول، حقاً إننا في نعمة من أمرنا، هذه
النعمة جعلتنا ننسى شكرها (إلا من رحم الله) ،
يا إلهي كم نال هؤلاء القوم ليتركوا دينهم رغم ذلك وبعد هذه السنين الطويلة لا يزال هناك من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. ولا يعبد إلا الله، نعم صدق الله
[ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ]
كم كنت أعيش في غفلة، أشعر أنني تعلمت من هذا الشيخ الشيء الكثير، شيئاً قد لا أجده مسطراً في الكتب، لكنه موجود في الواقع، أشعر أن أمامي مسؤولية عظيمة وحملاً ثقيلاً. ولكن نعم! من قال إن أمر هذا الدين سهل، لقد كان شاقاً حتى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]
فهل نحن أعز على الله من نبيه ومصطفاه، حاشا وكلا، فلا بد من العمل،
لا بد من العيش للآخرين، لأن من عاش لنفسه عاش صغيراً ومات حقيراً؛ ومن
عاش لغيره عاش عظيماً وعمّر طويلاً حتى بعد موته.
ثم ودعته وشكرته بحرارة وانصرفت وكأن على كاهلي جبلاً عظيماً، رغم
ذلك، كنت مسروراَ سعيداً، أفكر فيما حدث هذه الليلة وأعيد شريط الأحداث من
بدايته، وأنا أشق جموع الحجاج بين الصفا والمروة لأخرج من الحرم فإذا بي أسمع
حاجاً روسياً. يقول لشخص بجانبه: هاأنا ذا في الشوط السادس ولكن أين الكعبة
أريد رؤيتها! ! ! .(43/68)
قصيدة
الزمانُ النجيب
مروان كجك
سيأتي زمانٌ فتيٌ نجيبْ ... بعونِ الإلهِ السميعِ المجيبْ
ويخضرُّ عُودِي، والمكرماتُ ... يَلُذْنَ بشعبٍ طَهُورٍ نسيبْ
أقامَ الحضارةَ في كل صقيعٍ ... وأعطى الهدايةَ كلَّ الدروب
فمنْ ضلَّ ضلَّ عَزوفاً جهولاً ... وعاشَ الحياةَ رهينَ الذنوبْ
* * *
سيأتي زمانٌ رؤوفٌ رحيمٌ ... وتنهارُ جدرانُ حقدٍ رهيبْ
وتأتي إلينا الطيورُ الثُّكالى ... يزاوِجْنَ أُنْساً ورَوْضاً مهيبْ
وينثُرْنَ في أرضِنا دندناتٍ ... ويهتِفْنَ: عاشَ النداء الحبيبْ
تباركتَ يا ربَّنا فانتشلْنا ... من الذلِّ واكسِرْ شَبَاةَ الصليبْ
* * *
سيأتي زمانٌ ينيرُ الليالي ... وينهضُ شعبٌ زكيٌّ أريبْ
ويملأُ أفقَ الفضاءِ رعودٌ ... ويهتزُّ حبلُ الدعيِّ الكذوبْ
ويسقطُ عن عرشه كلَّ خِبٍّ ... ويصرخ بالكفر صوت رعيبْ:
أنا الموتُ أقبضُكم لا أبالي ... فقد جاء موعدكم من قريبْ
* * *
سيأتي زمانٌ تُدَكُ قلاعٌ ... بناها الطغاةُ لصنْعِ الكروبْ
ويشقى رجالٌ تمادَوْا خداعاً ... وظنوا الهدايةَ قتلَ الشعوبْ
فأسرف هذا بوأدِ الرجالِ ... وأسرفَ ذاك بكَيْلْ الخطُوبْ
فهاتِ الحديدَ المحمَّى لنمضي ... لهذا وذاك ونكوي الجُنوبْ
* * *
سيأتي زمانٌ تخرُّ الليالي ... على قدميه وتُطوى الرُّبُوب
ويبزغُ فجرٌ بديعُ المحيَّا ... ويَفْتَرُ ثغرٌ وطَرْفٌ هَيوبْ
ويرجع للحيِّ أهلٌ وصحبٌ ... وأشواقُ عمْرٍ وطفلٌ لَعُوبْ
وتبتلعُ الأرضُ كلَّ الأفاعي ... ويَنْبَتُّ حبلُ الخنا والعُيوبْ
* * *
سيأتي بحوْل الإلهِ زمانٌ ... تجوسُ العدالةُ كلَّ القلوبْ
وينكشفُ الستْرُ عن كلِّ وغدٍ ... وتُبْلى السرائرُ في كُلِّ ذِيبْ
ويصحو نيامٌ أطالوا الرقود ... على الرَّضْفِ واستعمرتْهُم كُروبْ
وينهزِمُ الشِّركُ والمشركون ... ويأتي زمانٌ فتيٌّ نجيبْ(43/72)
المسلمون في العالم
أحداث (كنر)
ومقتل الشيخ جميل الرحمن
بحزن بالغ وألمٍ عميق تلقينا أخبار القتال المؤسف الذي وقع بين فصائل المجاهدين في ولاية (كنر) وما أعقب ذلك من الاغتيال الغادر للشيخ جميل الرحمن -رحمه الله- رحمة واسعة.
كان حرصنا دائماً أن نكتب عن انتصارات المجاهدين، وكنا ننتظر أخبار
فتح كابل، ولكن ضريبة التفرق والتحزب جاءت بأخبار القتال في كنر التي سالت
فيها دماء الشباب المسلم من المجاهدين العرب والأفغان. ولا ندري كيف يبيح
المسلم لنفسه قتل مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كم نتمنى أن
يؤب المسلمون هناك إلى الحق، ويتراجعوا عن هذه الأساليب ويتقوا الله في أنفسهم.
لقد وقعت أحداث قتل قبل هذا ولكنها ليست بهذا الحجم، وكنا لا نذكرها
حرصاً على سمعة الجهاد الأفغاني وخوفاً من شماتة الأعداء، ولكن ما وقع أخيراً
هو من الخطورة بمكان، ولا بد من توضيح الصورة على حقيقتها، حرصاً على
مصلحة الائتلاف ووحدة المسلمين، وحرصاً على نصيحة المسلمين بالابتعاد عن
الوسائل غير الشرعية في حل مشاكلهم.
وسنتكلم في هذه العجالة عن:
1- ولاية كنر والصراع عليها.
2- الأحداث الأخيرة ومقتل الشيخ جميل الرحمن.
3- البيانات الصادرة عن الأحزاب الإسلامية وجو الإشاعات المؤسف.
4- التنبيه إلى خطورة ما يكاد للجهاد الأفغاني من أعدائه الداخليين ومن
الخارج.
5- أهمية المنهج وخطورة الاتهامات ونقل الأخبار والدعوة إلى الوحدة
والائتلاف.
ولاية كنر والصراع عليها:
تقع ولاية كنر في شمال شرقي أفغانستان شمال مدينة جلال آباد، ويجري
فيها نهر كنر الذي يجتمع من عدة فروع أهمها وادي بيج حيث منطقة الشيخ جميل
الرحمن، وأما شمال الولاية فيكون منطقة (نورستان) التي يسكنها قبائل
النورستانية، وهؤلاء لهم وضعهم الخاص وتنظيمهم الذي ارتضوه منذ بداية
الجهاد، وقد تركتهم الأحزاب الأفغانية على أنهم واقع موجود مع مسالمتهم للجميع: وغالبية أهل كنر ممن تأثروا بالمنهج السلفي وبرز من دعاتها وعلمائها (في كنر) المتبعين لهذا المنهج:
الشيخ جميل الرحمن - جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة
الشيخ محمد أفضل - نورستاني
الشيخ غلام رباني - الجمعية الإسلامية
الشيخ فقير الله - الحزب الإسلامي
كانت كنر من الولايات الأولى التي بدأ فيها الجهاد منذ عام 1978 في نهاية
حكم محمد داود الذي استغله الشيوعيون ثم انقلبوا عليه، والشيخ جميل الرحمن بدأ
الجهاد مع إخوانه أهل المنطقة منذ ذلك الوقت، ثم هاجر إلى باكستان وكان عضواً
في الحزب الإسلامي ثم انفصل عنه وكون تجمعاً خاصاً أطلق عليه فيما بعد (جماعة
الدعوة إلى القرآن والسنة) ، وقد دمرت قريته (ننجلام) تدميراً كاملاً من جراء
قصف الشيوعيين وبقي القسم الأسفل من الوادي وفيه العاصمة (أسد آباد) بأيدي
الشيوعيين إلى أن انسحبوا منها قبل ثلاث سنوات لأسباب غير واضحة، ربما
يكون منها أن ما تحتاج من حماية ودفاع أمام هجمات المجاهدين المستمرة أكبر من
أهميتها الإستراتيجية، وبعد هذا الانسحاب دخلت أحزاب المجاهدين إلى المدينة
وشكلوا مجلساً للشورى لحكم الولاية يرأسه غلام رباني ويرتبط بالحكومة الإسلامية
الأفغانية المؤقتة في (بشاور) ولكن جماعة الدعوة بزعامة الشيخ جميل الرحمن
رفضت الانضمام لهذا المجلس ورأت أنه مجلس غير صحيح، وأنها صاحبة الحق
في إدارة الولاية. باعتبار أن معظم السكان من أتباعها ثم جرت الانتخابات في
الولاية أكثر من مرة ولكن ثار جدال في نتيجتها مما دعى الجماعة أن تعلن حكمها
الفعلي للولاية وسلطتها الكاملة وتسمية الولاية باسم (إمارة كنر الإسلامية) وطلبت
من الأحزاب الانضمام والبيعة أو يخرجون، ولم تحصل مواجهة مع الأحزاب
لضعفها ما عدا الحزب الإسلامي الذي لا يرى استقلال الولاية بنفسها، ولذلك
حوصر مقر الحزب ثم سمح لأميره فقير الله بالخروج فذهب إلى قريته واعتزل
القتال الذي حدث بعدئذ.
الأجواء المشحونة وفتنة القتال الأخير:
حين رأى الحزب أن الجماعة سيطرت على الولاية قرر إلغاء هذه السيطرة،
خاصة بعد أن تسممت الأجواء بالإشاعات والاتهامات المتبادلة، ولا نستبعد أن
يكون هناك أطراف ثالثة لها مصلحة في إذكاء نار العداوة والبغضاء. وهي متآمرة
على الجهاد الأفغاني وهذه شنشنة نعرف من يقولها ويشيعها بين المسلمين، وتهجمت
جريدة الحزب الإسلامي (شهادت) على الوهابية وصنفتها بأنها مثل القاديانية وإن
كان الحزب قد اعتذر عنها في بيانه الصادر بتاريخ 18/2/1412 هـ حيث قال
«وقد نشرت في جريدة (شهادت) معبرة عن رأي كاتبها ولا تمثل الموقف الرسمي للحزب، ولقد ساءنا ما نشر في الجريدة» .
في هذه الأجواء المسمومة أصدر الحزب تحذيره للشباب العرب في كنر بأن
يخرجوا من الولاية للبعد عن أجواء الفتنة، وفعلاً ابتعد بعضهم إيثاراً للبعد عن
الفتن والخلافات، ورأى البعض أنه لا يمكن التخلي عن جماعة الدعوة واشتدت
الحرب الكلامية بين الطرفين، وأصدرت جماعة الدعوة بياناً توضح فيه وجهة
نظرها وتجددت مساعي الصلح ولكنها فشلت كلها وقام الحزب بأمر خطير، حيث
استقدم مجموعة كبيرة من المقاتلين من خارج المنطقة، وأما أهل المنطقة فالقليل
منهم من شارك سواء مع الحزب أو مع الجماعة.
استمر الهجوم عدة أيام، وقد شارك بعض أفراد الأحزاب الأخرى وليس كلها
مع الحزب الإسلامي في هجومه، سواء بصفته الرسمية أو الشخصية، ويظهر أن
الحكومة الباكستانية قدمت دعماً ظاهراً للحزب وكأنها ترى الوقوف بجانب القوي.
تمكن الحزب بعد الهجوم على الولاية من السيطرة على المنطقة المتنازع عليها وقد
وصل عدد القتلى والجرحى إلى المئات كما ذكرت بعض المصادر بينهم بضعة
عشر عربياً.
أثناء هذه الأحداث تكونت لجنة للمصالحة بتاريخ 18/صفر/1412 بمرافقة
الشيخ جميل الرحمن والمهندس حكمتيار من بعض الأخوة العرب من الذين لهم
علاقة طيبة بالطرفين، ومن أبرزهم الأخ أسامة بن لادن، وقد تقدمت اللجنة
بأعمالها حسب ما هو مقرر لها، وكان من المقرر أن تعلن وقف إطلاق النار بين
الطرفين صباح يوم الجمعة 20/2/1412.
وكان من قدر الله أن لا يصل وفد الحزب إلى مكتب الشيخ جميل الرحمن
للالتقاء بوفد جماعة الدعوة ويذهبوا إلى كنر لإعلان وقف إطلاق النار، وذلك
لوقوع الحادث الأثيم على الشيخ جميل الرحمن في منزله في منطقة (باجور) وهي
منطقة قبليه تقع على الحدود مع أفغانستان.
نبذة عن حياة الشيخ وكيف وقع الاعتداء عليه:
ولد الشيخ جميل الرحمن بن عبد المنان عام 1934 بقرية (ننجلام) بوادي بيج
من محافظة (كنر) ، وقد تلق علومه الدينية في أفغانستان وباكستان، وبعد ذلك بدأ
دعوته إلى التمسك بالكتاب والسنة، وكان من السباقين إلى مقارعة الحكومات
الشيوعية وفي عهد محمد داود أمرت الحكومة بالقبض عليه، وتتابعت الحملات
على قريته ففرّ الشيخ إلى الجبال ومعه تلاميذه وأبناء إخوته وبعد ذلك هاجر إلى
باكستان وأسس جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة. وكان له جهود طيبة في تأسيس
المدارس الإسلامية في أوساط المهاجرين الأفغان والمناطق المحررة.
وبتاريخ 20/2/1412 الموافق 30/8/1991 تمكن القاتل عبد الله الرومي -
ليس هذه اسمه الحقيقي - المصري الجنسية [1] ، من الدخول إلى منزل الشيخ
بحجة السلام عليه وملاقاته، وجلس ينتظر ويقرأ القرآن وبعد أن أنهى الشيخ حديثه
مع أحد القادة اقترب هذا المجرم منه ليوهمه أنه يعانقه ثم صوب مسدسه وأطلق
رصاصات أصابت وجه الشيخ ورأسه عند منطقة الأذن، فقضى نحبه فوراً -رحمه
الله- وحاول القاتل الفرار ولكن الحرس انهالوا عليه بالرصاص فأردوه قتيلاً، وقد
أصدرت جماعة الدعوة بياناً تذكر فيه حادثة القتل نقتطف منه هذه الفقرة:
«ولئن ظن أعداء الدين أنهم بقتلهم للشيخ جميل الرحمن فإنهم سيقضون
على الدعوة التي آمن بها ودعا إليها فقد خاب ظنهم، وإن الله يقيض لهذا الدين من
يحمله ويدافع عنه ويقدم له نفسه وماله، والحمد لله الذي لم يعلق دينه على الرجال
ولم يتعبدنا بتعظيمهم ولا تقديمهم على الحق، ولسنا - بفضل الله تعالى - ممن
يطري ويغلو في قادتهم، فإن الشيخ أفضى إلى ما قدم - لا نقول أنه من الشهداء،
ولا في الجنان العلى، بل ندعو الله عز وجل أن يكون من الشهداء، ويعفو عنه
ويغفر له ويدخله فسيح جناته» .
مَنْ وراء هذه الجريمة:
لم يتهم الشيخ سميع الله نائب الشيخ جميل الرحمن والذي اختير أميراً للجماعة
بعده، لم يتهم أحداً ودعا للتريث وانتظار نتائج التحقيق كما أن الحزب الإسلامي
تبرأ من القتل وأدانه في بيان له بتاريخ 30/8/1991، ولم يعرف عن القاتل عبد
الله الرومي انتماء معين، وقد كان يسأل كثيراً عن لجنة الإصلاح، كتب إليهم
يستحثهم على الإسراع في إنهاء المشكلة، ويظهر أن قلبه امتلأ حقداً وبغضاً للشيخ، وساعد على ذلك الأجواء المسمومة التي أحاطت بالقتال في كنر ولا يستبعد أن
تظهر الأيام القادمة أنه كان مدفوعاً بشكل غير مباشر، من جهات تكره أهل السنة
وتخطط دائماً لاغتيال علمائهم، وريما تكون هي وراء مقتل الشيخ عبد الله عزام -
رحمه الله-.
وقفات مع الأحداث:
1- لا شك أن أجواء الاتهامات المتبادلة كان لها تأثير كبير في شحن النفوس
وجعل جهلة المسلمين يقدمون على قتل إخوانهم دون أن يرفّ لهم جفن، ووصلت
هذه الأجواء إلى حد تصريح حكمتيار بأن العرب الذين مع جميل الرحمن يرون أن
قتال الأفغان مقدم على قتال الشيوعيين [2] وأصدر الحزب في صحيفة (شهادت)
مقالات يتهم فيها ما يدعونه (الوهابية) بأنها صنيعة الإنكليز! ! ثم تبرأوا من ذلك
كما ذكرنا، وقد يوجد من الطرف الآخر الشباب المندفع الذي يتفوه بكلمات لا يدري
مواقعها، ولا يستعمل الحكمة في دعوة الناس، ولكن تبعة القتال الأخير تبق على
الحزب الإسلامي الذي استقدم جهال القبائل للإغارة على إخوانه، وكان الواجب
استعمال الطرق السلمية الشرعية ولو طالت.
2- إن أحداث كنر وغيرها من أحداث العالم الإسلامي تؤكد على أهمية
المنهج في حياتنا وأن الابتعاد عن هذا بالطرق الملتوية التي يسمونها (سياسة) لا
يوصلنا إلا إلى التفرق والضعف، وإن تقريب المبتدعة والمنحرفين والمشبوهين
وإعطاءهم من لين الكلام وأننا نجاهد معهم في خندق واحد، كل هذا لم ينفع شيئاً.
ونذكر القراء بما كتبناه في العدد الأول من البيان حول أهمية وضوح المنهج في
حياة المسلمين.
3- لا زلنا نحذر من المكايد التي تحاك ضد الجهاد الأفغاني سواء كانت مكايد
داخلية من أصحاب الفرق المنحرفة الضالة؛ أو مكايد خارجية من الدول التي لا
تريد أن تعلو كلمة لا إله إلا الله. وتاريخنا الإسلامي في القديم والحديث يشهد على
خطورة مثل هذه الاتجاهات، وعدم تورعها في ضرب أهل السنة في أحلك
الظروف.
4- إننا ندعو الإخوة الأفغان بعد هذا الحادث الأليم أن يتفكروا في أسباب
النصر، وأنه بيد الله يعطيه من يشاء من عباده الذين تتمحض صفوفهم للحق،
وتتوحد وجهتهم، وأن دولة الإسلام لا تقام على أشلاء القتلى والجرحى بين
المسلمين أنفسهم ولا باستغلال القبلية التي تزيد التفرق والتشرذم، ومن طبيعة
الجهاد في سبيل الله أنه يوحد الصفوف.
وبعد:
إننا ونحن نكتب هذه المقالة عن الأحداث المؤلمة التي جرت في كنر تطالعنا
الأخبار باتفاق أمريكا وروسيا على تصفية القضية الأفغانية أي تصفية الجهاد
الأفغاني عموماً وفرض الحل الدولي من خلال إجراءات تتفق عليها أمريكا وروسيا
مع دول المنطقة ذات العلاقة بالقضية الأفغانية، ولذا فنحن نحذر أصحاب القضية
الأفغانية ومن يتعامل معها أن يعينوا هذه التوجهات الدولية تجاه القضية الأفغانية من
خلال هذا القتال والتنازع والاختلاف وهي أحد الوسائل التي يراهن عليها أعداء
الجهاد الأفغاني لتصفيته ولا نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.
نسأل الله أن يعلي كلمته وينصر راية السنة ويوحد كلمة المسلمين على الحق.
__________
(1) كان يعمل مراسلاً لمجلة الجهاد ومجلة البنيان المرصوص التابعة للاتحاد الإسلامي واسمه الحقيقي أشرف أنور على النيلي والغريب أنه قد صدر بيان من مكتب سمى نفسه مكتب التحقيقات - إسلام آباد يحاول فيه تبرئة عبد الله الرومي من جريمة القتل.
(2) من مقابلة بين أحد المجاهدين مع المهندس حكمتيار.(43/75)
مقابلة
لقاء مع الشيخ سميع الله
حرصاً من البيان على وحدة الصف الإسلامي وذكر الحقائق من أصحابها
مباشرة، قام مندوبنا لدى الجهاد الأفغاني بطرح أسئلة على الشيخ سميع الله أمير
جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة فأجاب مشكوراً:
س: كيف حصل مقتل الشيخ جميل الرحمن (رحمه الله) ومن كان وراء ذلك؟
ج: إن هناك بياناً صادراً عن الجماعة حول مقتل الشيخ بعنوان (البيان
الرسمي والوحيد حول مقتل الشيخ) ... يمكنكم نشره.
س: متى أسست جماعة الدعوة بعد الهجرة بشكلها الحالي؟
ج: إذا كان يفهم أن لنا جماعة بمفهوم حزبي يفرق المسلمين ويجعلهم أحزاباً، فليس لنا بهذا الاعتبار أية جماعة، أو أي تنظيم، لأن الحزبية والتحزب من
أبطل الباطل في دين الله … وقد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على ذلك.
وما نعانيه الآن على أرض أفغانستان من الاقتتال، وتأخير النصر، ما هو إلا ثمرة
مشئومة لهذا التفرق اللعين.
ولذلك ليس عندنا في جماعتنا أي مظهر من مظاهر التحزب لغير كتاب الله
وسنة رسوله وفهم سلفنا الصالح، وإنما المقصود بجماعة الدعوة ... جماعة تجمعت
على الدعوة إلى التوحيد، ونصرة سلفنا الصالح، ولذلك لسنا من الحزبية في شيء، فليس عندنا انتسابات حزبية، ولا فصل عن الجماعة ولا سرية في التنظيم، ولا
تقوقع ... ولا تقليد لأشخاص، ولا تفريق عندنا بين المسلمين بغير العقيدة والمنهاج
ولا غير ذلك من مظاهر الحزبية المحرمة، ولذلك من كان من عقيدتنا وعلى
منهاجنا، فهو منا ونحن منه، سواء كان قريباً أو بعيداً ... مطيعاً أو مخاصماً.
وجماعتنا اجتمعت على عقيدة السلف ومنهاجهم ... وهي إذن بهذا الاعتبار
امتداد لأهل السنة والجماعة.. أهل الحديث ... وهم في أفغانستان قبل تلك
الأحزاب جميعها وقبل ولادة قادتها.
س: ما هي المناطق التي فيها نشاطات لجماعة الدعوة؟
ج: نشاطاتنا في كل بقعة نصل إليها … وفي كل مجلس نغشاه، فنحن لا
ندعو إلى جماعتنا، ولا ندعو إلى حزب معين ولا إلى قائد ... وإنما ندعو إلى
الكتاب والسنة على فهم سلفنا الصالح.
س: ما هو تصوركم عن شكل الدولة الإسلامية التي سقام بعد سقوط حكومة
نجيب الله إن شاء الله تعالى؟
ليس لنا تصور عن شكل الدولة الإسلامية! ! ولا يجوز لنا ولا لغيرنا أن
يتصور شكلاً غير شكل ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
والواجب على المسلمين في أفغانستان إقامة دولتهم منذ أن حرروا أول شبر من
أراضيها، ولا يجوز لهم تأخير هذا الواجب الذي شرع الجهاد من أجله حتى سقوط
كابل أو سقوط نجيب.
فالمسلمون عندما فتحوا دمشق أقاموا فيها إمارة، ولم ينتظروا حتى فتح الشام
جميعها، أو حتى يسقط هرقل ...
إن عدم قيامنا بهذا الواجب ما هو إلا لبعدنا عن منهج سلفنا وبسبب اتباعنا
سنة غيرنا من الكفرة الملحدين، الذين يؤمنون بالحدود والعواصم وهيئة الأمم
وغيرها! .
إن إقامة دين الإسلام ... دين الله.. ليس مرهوناً بموت أحد ... ولا بفتح
بلد! ! ...
إن بعض الأساليب التي ينادي بها بعض الأحزاب الإسلامية لإقامة الدولة
الإسلامية، عن طريق الانتخابات البرلمانية، أو التحالفات الدولية ... إنما هي
أشكال من أشكال الطاغوت والجاهلية، وإنما أتوا من جهلهم بهذا الإسلام العظيم..
[فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ]
[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ](43/83)
جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة
البيان الرسمي والوحيد الصادر عن الجماعة
حول اغتيال الشيخ جميل الرحمن رحمه الله
[ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ] ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ...
أما بعد
فبقلوب مطمئنة، ونفوس مسلمة لأمر الله، وقضائه، تلقت جماعة الدعوة
إلى القرآن والسنة ومن وراءها من إخوانهم العرب والعجم نبأ اغتيال أميرها جميل
الرحمن -رحمه الله- وأجزل له المثوبة.
فقبل ظهيرة يوم الجمعة 20/2/1412 هـ وقفت سيارة بجوار مجمع الدعوة
في (باجور) ونزل منها عربي حنطي السحنة، وبقي فيها أفغانيان … ولما كانت
جماعة الدعوة أكثر الجماعات ارتباطاً بالأحبة الأنصار العرب، وأشدها مودة كان
الشيخ -رحمه الله- قد أصدر أمراً بعدم تفتيش العرب الذين يطلبون مقابلته …
وذلك احتراماً لهم، وتقديراً لجهودهم، ولبعد الشبهة عنهم.
وتقدم هذا العربي من الشيخ موهماً معانقته، فإذا به يطلق عدة طلقات من
مسدس على رأس الشيخ -رحمه الله- تعالى ليرديه قتيلاً، ثم ولى هارباً باتجاه
السيارة المنتظرة عند الباب.. فتبعه أحد الحراس فأطلق القاتل عليه طلقة أصابته
في بطنه.. ثم تتابع عليه الحرس فأمطروه وابلاً من الرصاص أرداه قتيلاً.
فلما سمعت السيارة إطلاق النار الغزير ... لاذت بالفرار.
ثم بعد تبين هوية القاتل تبين أنه:
كان يتسمى بعدة أسماء، من أشهرها «عبد الله الرومي» واسمه الحقيقي
«أشرف بن أنور بن محمد النيلي» . وأنه كان من العاملين في أحد الأحزاب
الإسلامية الأفغانية العاملة على الساحة. وله مقالات في بعض مجلات الجهاد.
وكان موغر الصدر مشحون القلب على أصحاب دعوة التوحيد. شديد الحقد عليهم،
سليط اللسان.
وإن ما أشيع من أنه كان مضطرب النفس.. وأنه قتل نفسه وأننا برأنا إحدى
الجهات، وغير ذلك من الإشاعات الكاذبة إنما هي أخبار مفرطة عارية من الصحة
أريد بها تمييع القضية ومن وراءها.
وأن لدى جماعة الدعوة من الأدلة الشرعية ما يبطل دعاوى المتخرصين
وبعضها بخط يد القاتل، ولا يزال التحقيق جارياً إلى ساعة كتابة هذا البيان وسنبين
ذلك إن شاء الله عند اكتماله.
وجماعة الدعوة وإن لم توجه الاتهام الرسمي حتى الآن إلى أحد ... فإنها
تؤمن أن الجريمة لم تكن فردية.. وأنها دبرت بليل.. وأن هذه اليد الآثمة كان
وراءها من وراءها من الذين يكرهون الدعوة السلفية ويكيدون لها وقد ساهم في قتله
كل من تعرض للتوحيد.. أو للجماعة، أو للشيخ.. باتهام أو إنذار أو شتم سواء
كان ذلك بمقال أو خطبة أو كلام وسواء كانوا من العرب أو العجم حتى أوغروا
صدره ودفعوه إلى هذه الجريمة المنكرة، وأن على هؤلاء وزر هذا الحادث الأليم.
ولقد خاب ظن من ظن، أن بدفعهم عربياً لقتل الشيخ لإبعاد الشبهة عنهم.. وللإيقاع بيننا وبين أحبابنا العرب. كيف والعرب أحبابنا وأنصارنا بالمال والأنفس.
ولولا الله ثم إخواننا العرب لما قامت كثير من المنظمات الجهادية ولذا فنحن
نبرئ كل العرب الشرفاء الذين وقفوا معنا، وأيدوا دعوتنا ... ونعلنها صريحة..
أننا لا نستغني عنهم بعد الله، وأن هذه الحملة من أعداء الجهاد المبارك ضد إخواننا
العرب، فإنما نحمل مسئوليتها من دفع هذا العربي الجاهل إلى هذا الفعل الآثم
ويخطئ من يظن أن دعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم سلفنا الصالح دعوة
تتعلق بالرجال أو الأرض أو الديار، إنهم يظنون دعوتنا - دعوة الأنبياء - مثل
أحزابهم المبتدعة المتعلقة بالأشخاص.. إذا ماتوا ماتت..
وما جميل الرحمن - عندنا - إلا رجل داعية، قد خلت الدعاة من قبله، فإن
مات أو قتل استبدلناه برجل آخر.. وحفظ دعوتنا من حقنا على ربنا ...
[إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
ولذلك فإن أولياء الشيخ جميل الرحمن -رحمه الله تعالى- وجماعة الدعوة لا
يسمحون للناس جميعاً، بنشر صور الشيخ ولا بوصفه بالشهيد، فالله أعلم بمن يكلم
في سبيله، ولكننا ندعو الله له بالرحمة والشهادة وأن يتقبل عمله، ويجعله في جنان
فردوسه. وسوف يتحمل المخالفون لهذا مسئوليتهم القضائية.
واتباعاً لسنة سلفنا الصالح ... فقد تم اختيار الشيخ (سميع الله) أميراً
للجماعة قبل دفن الشيخ -رحمه الله تعالى-.
وجماعة الدعوة إذ تعلن هذا، تعلن أن هذا هو البيان الوحيد الرسمي الذي
صدر عنها بخصوص اغتيال الشيخ -رحمه الله تعالى-.
وختاماً فإننا نتوجه بالشكر والدعاء لكل من واسانا في مصيبتنا، وندعو الله
تعالى أن يتغمد فقيدنا برحمته، ويسكنه فسيح جنانه، وأن يعلي كلمته، ويرفع راية
التوحيد، راية سلفنا الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أمير جماعة الدعوة
... ... ... ... ... ... ... ... سميع الله(43/86)
محاولة اختطاف الكوماندوس الإسرائيلي
الصراع الحضاري في كشمير
أحمد موفق زيدان
بعد المحاولة الفاشلة التي قامت بها حركة حراس الثورة الإسلامية في
اختطاف سبعة كوماندوس إسرائيليين، من بينهم امرأة يهودية، قدموا لمساعدة
الجيش الهندي في ضرب الانتفاضة التي بدأت في أغسطس 1988 بعد هذا كله
يكون الصراع الكشميري قد وضحت معالمه أكثر وأكثر لمن كان في قلبه شك من
أن الصراع حضاري وليس مرتبطاً بقطعة أرض ولا تحده حدود، وعلى الرغم من
إعلان الهند بأن المختطفين سوّاح وليسوا عسكريين؛ إلا أن التقارير والظروف
تُكذِّب هذا الادعاء، فمنذ أشهر طويلة أعلنت الهند عن منع وصول السوّاح الأجانب
إلى كشمير، وطلبت الدول الغربية من رعاياها مغادرة الأماكن المضطربة في
كشمير والبنجاب الهندية والتاميل ونحوها، إضافة إلى أن مصادر المحللين
العسكريين في لندن أكدت أن الكوماندوس تدربوا لخمسة أشهر في فلسطين المحتلة، ثم توجهوا إلى نيبال والهند، وتقول هذه المصادر أن الكوماندوس أرادوا وضع
ألغام ومتفجرات على بعد 60 ميل عن المفاعل النووي الباكستاني في كاهوتا قرب
إسلام آباد لتفجيره عن طريق الرادار أو التفجير من بعد.
العامل اليهودي:
لم يكن وجود اليهود في كشمير شيئاً جديداً خاصة للمتابعين، فقد نشرت البيان في أحد أعدادها مقالاً بعنوان (تعاون هندي إسرائيلي لقمع الانتفاضة في كشمير) وكشفت وكالة الأنباء الباكستانية مؤخراً أن وجود العامل اليهودي قديم من حيث التعاون المعلوماتي أو الإرهاب والتدرب. وقد أكدت مصادر المجاهدين في كشمير وجود أكثر من 350 كوماندوس يهودي يتعاونون مع الهند لضرب الانتفاضة الكشميرية، وتطمح إسرائيل من وجودها في هذه المنطقة الهامة إلى ضرب المفاعل النووي الباكستاني الذي تعد المحطة النووية الوحيدة في العالم
الإسلامي بعد ما حدث في العراق. والمفاعل الباكستاني هدف يهودي قديم وتقول
المصادر الباكستانية بأنه غدا هدفاً رسمياً يهودياً منذ عام 1986 عندما صرح رئيس
هيئة أركان العدو اليهودي الجنرال (رافائيل يتان) بأن لابد من تدمير المفاعل وأن
أي مصدر يهدد أمن الدولة اليهودية لابد من تدميره، مما يؤكد أن الصراع ليس
عربياً - إسرائيلياً وإنما إسلامياً يهودياً. وفي كتابه (الخدعة) قال عميل موساد ...
سابق: (إن الإسرائيليين يملكون كل المعلومات المتعلقة بالمفاعل النووي الباكستاني
والتي قدمها لهم (جوناثان بولارد) الجاسوس الإسرائيلي الذي قبض عليه الأمريكان
وهو يتجسس لصالح اليهود في نوفمبر 1985 وتحدثت فيها معظم الصحف
الأمريكية عن تسريب (بولارد) معلومات عن المفاعل النووي الباكستاني لإسرائيل.
وقد صرح مؤخراً (تشودري شجاعت حسين) وزير الداخلية الباكستاني
الفدرالي بأن عملاء الموساد تسربوا إلى باكستان لضرب المفاعل، إضافة إلى
البيان الرسمي الصادر مؤخراً عن المجلس الوزاري الباكستاني الذي أكد قيام عملاء
الموساد والهنود بإثارة الاضطرابات في البلاد لزعزعة استقرار البلاد.
وأيام الرئيس الباكستاني السابق (ضياء الحق) ذاعت شائعات بأن طائرات
يهودية تزودت بالوقود من دلهي لضرب المفاعل الباكستاني، وعقب (ضياء الحق)
على هذا بقوله: إنه لو حصل هذا فسيعتبر هذا اعتداء على باكستان ويؤدي إلى
حرب كبيرة وشاملة.
وفي تطور ذي علاقة بهذا الأمر وصل مبعوث رئيس الوزراء الإسرائيلي
(إسحاق شامير) إلى الهند، وهذه أول زيارة علنية لمسؤول يهودي للهند منذ قيام
الكيان اليهودي. ومما يذكر أن وجود اليهود في كشمير أو غيرها كما حصل في
مساعدتهم للحكومة السريلانكية عام 1983 ضد المتمردين التاميل إنما يهدف إلى
الاقتراب من الحدود الباكستانية ودراسة إمكانية ضرب المفاعل.
أتواصوا به! ! اتبعت الهند استراتيجية قريبة من استراتيجية اليهود والروس
ومحاكم التفتيش في الأندلس في التعامل مع المسلمين، وأرسلت القيادة الهندية
خبراء كباراً لإسبانيا لدراسة السياسة التي اتبعها حكامها السابقون ضد المسلمين أيام
محاكم التفتيش، ووصل إلى هناك السياسي الهندي المتمرس (د. بي. دهر) وأعد
تقريراً مطولاً ومفصلاً بهذا الشأن، وتوجه بعدها إلى الاتحاد السوفياتي ليعين سفيراً
لبلاده هناك، ودرس أيضاً الأساليب الروسية (القياصرة والبلاشفة) في مقاومة
المسلمين، وبعد هذا خرجت الهند بضرورة محاربة التعليم الإسلامي، وطمس
هوية كشمير المسلمة ونشر التعليم العلماني وتشجيع الحركات العلمانية على حساب
الحركات الإسلامية خاصة بعد ظهور الحركات الجهادية التي يتردد بأن للجهاد
الأفغاني دوراً فيها، مما يؤكد على عمق التواصل التاريخي الحضاري.
ويقول الدكتور أليف الدين الترابي نائب أمير الجماعة الإسلامية لـ (البيان) :
«لقد أدركنا هذا منذ فترة طويلة فركزنا على التعليم وبناء مؤسسات تعليمية موازية
للمؤسسات الحكومية التي كانت تنتهج المنهج العلماني، ويطغى فيها تمجيد
معبودات الهندوس على حساب ديننا. ويضيف فيقول: لقد تخرجت من هذه
المدارس ولا أعرف الفرق بين معبودات الهندوس وبين الله تبارك وتعالى، حتى
وصل عدد المدارس والكليات التعليمية الإسلامية إلى 1200 مدرسة ابتدائية وثانوية
وكلية وقررت الهند فيما بعد إغراق البلاد بالفساد والفاحشة والإباحية وفصل الجيل
الحاضر عن ماضيه، وتشجيع الزواج من الهندوسيات، ولهذا كان لابد من التمايز
وإشعار الشعب الكشميري بهويته» .
والحركة الإسلامية بتعدد تنظيماتها أدركت خطورة هذا الوضع فهاجمت في
البداية محلات الخمور والفيديو والسينما ونحوها قطعاً للطريق على إفساد الشعب
الكشميري، ويقول الدكتور الترابي في تقريره عن الوضع: «لقد قامت الحركة
الجهادية بحرب حضارية على الحضارة الهندوسية عندما أغلقت وحطمت دور
السينما وبيوت الدعارة ومركز الخمور والملاهي حيث أغلقت جميعها في ديسمبر
1989» .
وبخصوص تشجيع الحركات العلمانية خاصة حركة تحرير كشمير المحتلة
بقيادة (أمان الله خان) فهي يسارية علمانية والبعض يتهمها بالعمالة، فقد ذكرت
صحيفة هندوستان تايمز الهندية يوم 1/9/1990 بأن عدداً من أعضاء حركة تحرير
كشمير انضموا لأحزاب المجاهدين وذلك لفقدان المعنويات وعدم توفر الأسلحة في
صفوف الحركة مما يدل على تخلى الشبان عن الإيديولوجيات غير الإسلامية التي
أثبتت عقمها طوال هذا الصراع المرير منذ عام 1947 والذي لم يكن عبثاً أن
يتزامن مع قرار تقسيم فلسطين، وكان أمان الله نفسه قد صرح في مقابلة صحفية
مع مجلة (الهيرالد) الباكستانية الصادرة في شهر فبراير (شباط) 1990 بأن الحل
العسكري غير ممكن ولابد أن يسود الحل السياسي.
أما الاعتقالات فتتركز على الأحزاب الجهادية خاصة حزب المجاهدين
صاحب القوة العسكرية في المنطقة. أما مجلة (اندياتودي) الصادرة في 30 سبتمبر
(أيلول) 1990 فقالت بأن المخابرات الهندية (RAW) ستقيم علاقات مع
الانفصاليين من حركة تحرير كشمير الحرة بزعامة أمان الله خان خاصة مع نائبه
المعين حديثاً حامد شكيل.
النظرة الهندية:
الاستراتيجية التي تسلكها الهند حالياً في المنطقة بشكل عام، وكشمير بشكل خاص، ليست وليدة الآن، وإنما استراتيجية وسياسة أملتها النظرة الحضارية الهندوسية الحاقدة على العالم الإسلامي بشكل عام. وتود الهند لعب دور هام وخطير في هذه المنطقة التي تضم مئات الملايين من المسلمين.
يقول الدكتور (إيس آزباتيل) وهو خبير سياسي هندي كبير في الخارجية
الهندية في كتابه (السياسة الهندية الخارجية) «يسود فراغ سياسي هائل في المنطقة بعد مغادرة الإنكليز، ويجب ملء هذا الفراغ، ومن الضروري للهند كونها قوة بحرية عظمى أن يتحول المحيط الهندي من سنغافورة إلى السويس إلى بحيرة هندية» .
ويعلق أحد الاستراتيجيين الهنود على تنامي قوة بلاده فيقول: «إن البناء
العسكري الهندي سيقنع العالم بمنح الهند الحق في الدبلوماسية الدولية» ويبدو أن
الاستراتيجية الأمريكية تريد للهند لعب مثل هذا الدور، ولكن لمدى معين، حيث
صرح قسم الدفاع الأمريكي في 8/4/1989 إنه يعمل على تطوير العلاقات
العسكرية بين بلاده والهند لأن الأخيرة تلعب دوراً مهماً في أمن واستقرار المنطقة،
وإنها دولة ديمقراطية عالمية وقائدة في منظمة دول عدم الانحياز ولذلك لم تظهر
الولايات المتحدة أي تبرم أو امتعاض حيال أربعة تدخلات هندية في دول المنطقة
وهي تدخلها عام 1986 بعملية (براستاكس) وفي 1987 بسيريلانكا، و 1988 في
مالديف وفي 1989 حاولت أن تتنَّمر على نيبال التي تعتبرها (مملكة هندية) وقد
علّق رئيس دول منظمة الكومنولث على تدخل الهند في سريلانكا بقوله: «تدخل
راجيف في سريلانكا سلام تاريخي» وأشادت مارغاريت تاتشر بالسرعة والأداء
الذي قدمته القوات الهندية في إفشال انقلاب مالديف عام 1988.
وتأكيداً لمسألة الدور المحدود الذي تريده أمريكا للهند وذلك ضمن دائرة نفوذها فقد صرح قائد القوات الجوية في البحرية الأمريكية الأدميرال (وليوم بندلي) «نحن نفهم أن للهند دوراً في المنطقة ولكن حتى الآن لم تظهر سبباً معقولاً لتنامي قوتها البحرية» ولكن لعل تصريح الدكتور (باتيل) الهندوكي المتعصب يجيب على تساؤل (بندلي) عندما قال في كتابه المؤثرات الجغرافية «إن مصالح الهند تقوم في المناطق القريبة مثل نيبال وباكستان وبنغلاديش وأفغانستان وبورما وماليزيا وإندونيسيا وسيريلانكا، وهي بلاد ضرورية لسلامة الهند، ولذا فمن الضروري جداً أن تسيطر الهند على خط سنغافورة قناة السويس لأنها بمثابة الباب الرئيسي للهند» ثم يضيف فيقول: «إن حاجة الهند إلى البترول يلح عليها بالالتفات نحو الجزيرة العربية والعراق، وإن الهند قوة بحرية عظيمة ومن الواجب أن يتحول المحيط الهندي من سنغافورة إلى السويس ليصبح خليجاً تملكه الهند» .
ولمن يحسن الظن بالهند والهندوس حتى الآن ننقل له القول المأثور عندهم في
كتاب الأب الروحي للهندوس وهو (جو تليه) الذي كان (نهرو) لا ينام إلا ويضعه
تحت وسادته يقول المثل: «إذا أردت قتل عدوك فأظهر له العلاقة، وإذا عزمت
على قتله فعانقه ثم اقتله، وحينها اذرف عليه الدموع!» .(43/89)
باكستان
أقلية ساهرة وأكثرية نائمة
منذ تأسيس باكستان وظهورها كدولة مستقلة في أغسطس (آب) من عام
1947 والباطنيون من الإسماعيلية وغيرهم يتحكمون في قيادتها السياسية
والاقتصادية وغير ذلك، ورغم فرح العديد من المسلمين بظهور هذه الدولة إلا أن
القليل منهم من أدرك هذا الخطر، ومن أدركه خشي أن يجهر به، على الرغم من
أن النسبة السكانية الشيعية في باكستان لا تتجاوز 5% إلا أن العبرة ليست في
التعداد السكاني وإنما بالنفوذ والقوة والسطوة. وبنظرة سريعة على بعض البلدان
الأخرى يتأكد لدينا هذا حيث أن النسبة السكانية الضئيلة هي التي تتحكم برقاب
الأغلبية.
لقد نفذ الشيعة إلى العديد من المركز الحساسة بدءاً بالوزارات الفاعلة
والحيوية، مروراً بمركز الدراسات والتخطيط والإعلام والجامعات والأحزاب
السياسية، وتزويج بناتهم لقيادات الأحزاب العلمانية التي لها أصول سنية وانتهاءً بالنفوذ الاقتصادي والتجاري.
وفي هذا التحقيق المطول شيئاً ما ستحاول (البيان) إيضاح الحقيقة ووضعها
أمام القارئ وإلقاء الضوء على هذه المشكلة.
المؤسس والقيادة:
أكد عدد من الكتاب والمؤرخين بأن أصل (محمد علي جناح) والذي ركب موجة الاستقلال وأصبح زعيم ومؤسس باكستان رغم عدم اتقانه اللغة القومية (الأوردو) أكد هؤلاء المؤرخون أنه إسماعيلي باطني، ولكن بعد وصوله إلى باكستان قبل الاستقلال بسنوات قليلة تحول إلى المذهب الشيعي، ومنذ تلك الفترة
و (محمد علي جناح) أو من يسميه الباكستانيون السذج بـ (قائدي أعظم) يقوي ويعزز من وجود الإسماعيلية والشيعة في مركز الدولة، فمعظم الذين جاؤوا بعده من زعماء وقادة هم من الشيعة مثل (لياقت علي خان) الذي اغتيل في روالبندي قرب إسلام آباد، والذي يدعوه الباكستانيون بـ (قائد الأمة) ، كما تسلم زعامة باكستان أيضاً (يحيى خان) وهو شيعي أيضاً وهو الذي عين وزير خارجيته
(ذو الفقار علي بوتو) حيث حصل في زمنهم تقسيم باكستان ونشوء دولة بنغلاديش
وبتواطؤ مجيب الرحمن زعيم بنغلاديش الشيعي أيضاً، وذلك عندما رفض
(ذو الفقار علي بوتو) قبول نتيجة الانتخابات التي ظهرت بأنها في صالح مجيب الرحمن وقال قولته الشهيرة آنذاك (لن أقبل أن يقودني البنغال) وفي المفارقات أو الموافقات أن تقود ابنته بي نظير بوتو نفس الحملة في الانتخابات الباكستانية لعام 1988 عندما قالت (لن أقبل أن يحكمني البنجابيون) لأن أصلها من السند في كراتشي.
وبنظرة متفحصة لتاريخ باكستان نرى أن القيادات السنية التي مرت عليها
ثلاثة فقط، على الرغم أنها تعد من أكبر الدول السنية في العالم الإسلامي، وهذه
القيادات هي: الجنرال أيوب خان، وضياء الحق، ونواز شريف، ولكن مع هذا
استمر النفوذ الشيعي في الوزارات والأماكن الحساسة حيث إن تغيير الرئيس أو
رئيس الوزراء أو حتى الوزير لا يعني تصفية الأنظمة البائدة لأن الوزير يأتي
ويذهب، ولكن القوة والفعالية للأشخاص الذين تحت الوزير والمسؤولين الكبار.
النفوذ الشيعي في الأحزاب السياسية:
للشيعة عدة أحزاب سياسية منها حزب تنظيم تطبيق الفقه الجعفري بزعامة
ساجد علي نقوي، وجناح آخر انشق عن الأول قبل سنوات بزعامة حسين
الموسوي، وتنظيم آخر هو حزب الله وسكرتيره العام اقتدار على مظهر،
وميليشيات عسكرية صغيرة يربو عددها حسب مصادر مطلعة على عشرات
الميليشيات العسكرية. وثمة تنظيم آخر أيضاً باسم الجهاد ويقوده (آغا مرتضي
بويا) وشغل منصب السكرتير الإعلامي للتحالف الجمهوري الإسلامي، ويشغل
منصب رئيس مجلس إدارة صحيفة (المسلم) الباكستانية الشيعية القوية وحزب آخر
يقوده (فخر إمام) وكان رئيس مجموعة المعارضة البرلمانية في أيام ضياء الحق،
وأما بالنسبة للأحزاب السياسية الأخرى فنفوذهم قوي فمثلاً أصغر خان رئيس حزب
الاستقلال متزوج من سيدة شيعية ولذلك انضم في تحالف ديمقراطي مع حزب
الشعب بزعامة بي نظير بوتو والحزب الشيعي جماعة (نقوي) ، أما زوجة محمد
خان جونيجو أحد أعمدة حزب الرابطة الإسلامية فشيعية أيضاً.
وبالنسبة لحزب الشعب الباكستاني والذي تتزعمه (نصرت) زوجة (ذو الفقار
علي بوتو) وابنتها بي نظير فالمعروف عنهم بأنهم شيعة، وكان ذو الفقار عاملاً
سابقاً بإيران ثم نزح إلى باكستان وتدرج في الحياة السياسية حتى غدا رئيساً
للوزراء، وقد أخذت بي نظير (السيف) شعارها الانتخابي في إشارة لسيف علي
حيث كتب تحت السيف (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار) ولكن قرار
المحكمة برفض شعار السيف جعلها تتخذ شعار السهم، وعلق بعض السياسيين
آنذاك بأن والدها (ذو الفقار) عندما اتخذ شعار السيف انفصلت باكستان إلى قسمين،
وباتخاذ بي نظير شعار (السهم) سينطلق إلى المفاعل النووي في (كاهوتا) قرب
إسلام أباد وسيقضي عليه خاصة وأنه في تلك الفترة كانت بي نظير قد أبدت
استعدادها لفتح المنشآت للتفتيش. وصرحت بي نظير قبل انتخابات 1988 والتي
أوصلتها للسلطة بأنها ستقتلع جذور اليزيدية في أفغانستان، والمقصود بهم أهل
السنة. كما أكدت في خطبها الانتخابية على أن مهمتها هي امتداد لخط الإمام زين
العابدين وذلك في إشارة لاستقطاب الشيعة إلى صفوفها خاصة وأنها ترشحت من
(جنرال) المنطقة الموبوءة بالإسماعيلية.
ووزعت الأحزاب الشيعية الدينية منشورات سرية لأتباعهم تحثهم فيها على
انتخاب بي نظير ونصرت، وأنهم اتفقوا معهم سرياً دون أن يكشفوا عن هذه
الاتفاقيات السرية، وقد نشرت المنشور في حينه مجلة (تكبير) الأوردية
الأسبوعية الصادرة في كراتشي.
النفوذ الشيعي في الحكومة الحالية:
على الرغم من وصول (نواز شريف) المنتمي لأصول سنية للسلطة إلا أن
الشيعة ما يزالون في المراكز الحساسة حتى وأنه أسند لهم مراكز حساسة جديدة،
فمثلاً وزير التربية والتعليم (فخر إمام) وهو شيعي وزعيم (مجموعة الأحرار)
الذي مرّ الحديث عنه قبل قليل، وفي مهرجان دسياه الصحابة (أي المدافعين عن
الصحابة) والذي عقد تكريماً لمقتل زعيم الحزب ويعتقد أن الشيعة قتلوه طلب
منظمو المؤتمر بطرد فخر إمام من وزارة التربية والتعليم، كما طلبوا بتحويل
باكستان إلى دولة سنية، وكان بعض أعضاء مجلس الشيوخ المنتمين للمدرسة
الديوبندية (الحنفية) قد طالبوا أيام ضياء الحق بتقديم أسماء الضباط وأصحاب النفوذ
من الشيعة إلى أعضاء مجلس الشيوخ كما حصل بالقاديانية حيث تم تقديم أسماء
أصحاب النفوذ لمجلس الشيوخ.
وقد عيّن نواز شريف مؤخراً (عابدة حسين) الشيعية وهي زوجة (فخر إمام)
ومعروفة بتعصبها الشيعي ويعدها الباكستانيون أنها سياسية أكثر من بي نظير كما
قادت الوفد الباكستاني أيام زعامة بوتو إلى روسيا.
أما (إجلال حيدر زيدي) الشيعي والذي كان مستشار رئيس الوزارة لشؤون
الدفاع فقد تم طرده من المنصب لاختلاسات ونحوها ولم يتم التحقيق معه.
وبالنسبة لحقيبة الخارجية فكأنها وقف على الشيعة في باكستان، أما في الدول
الأخرى فكأنها حكر لغير المسلمين، فمثلاً أغاشاهي والذي كان وزير خارجية
ضياء الحق في بداية حكمه شيعي ومعروف بولائه للخميني، والذي خلفه (صاحب
زاده يعقوب علي خان) شيعي وعادة لا يذكر (علي) في أسمه، و (زين نوراني)
والذي جاء لفترة محدودة أثناء توقيع اتفاقيات جنيف شيعي أيضاً.
ويقول بعض الباكستانيين المطلعين أن معظم سكرتيري الوزراء وكبار وزراء
الأقاليم المحلية من الشيعة.
الإعلام والنفوذ الشيعي:
للشيعة نفوذ قوي في الإعلام حيث حدثنا بعض الأصدقاء الإعلاميين
الباكستانيين بأنهم عندما زاروا خلية الإعلام في البنجاب تعجبوا لنفوذ الشيعة حيث
أن معظم الأساتذة من الشيعة وكذلك في التلفزيون حيث يحرصون على عدم تشغيل
غير أبناء مذهبهم.
وبالنسبة للصحافة فمثلاً صحيفة (المسلم) الإنكليزية اليومية يرأس تحريرها
(أغا مرتضي بويا) ويطالب وبصراحة بدولة إسلامية على نموذج الدولة الإيرانية
ويعمل بها الشيعة، حيث أن معظم العاملين والمحررين شيعة، والعجيب أنه رغم
كون مؤسسها وصاحبها من التحالف الجمهوري الإسلامي إلا أنها تؤيد بي نظير
بوتو.
وأما صحيفة (النيوز) اليومية الإنكليزية والتي تملكها عائلة (عبد الرحمن)
في باكستان وهي عائلة سنية إلا أن رئيسة تحريرها امرأة شيعية الدكتورة (حليمة
لودي) وكانت ترأس تحرير صحيفة (المسلم) سابقاً، وهناك صحيفة (فرايدي
تايمز) أسبوعية شيعية أيضاً. أما النفوذ الشيعي في الصحافة الأخرى فملحوظ فمثلاً
الصحفي الباكستاني المعروف (شاهد حسين) يكتب في عدة صحف يومية ويراسل
صحفاً عالمية، وكذلك الصحفية (نسيم زهرة) شيعية، وهناك صحفيون آخرون
ولكن الأسماء التي ذكرت تعتبر بحق أقوى الإعلاميين الباكستانيين.
بالنسبة لمركز الدراسات الاستراتيجية والذي يخطط السياسة الخارجية
الباكستانية تغير رئيس المعهد عقب وصول بي نظير للسلطة وأزاحت الجنرال عبد
السني المعروف بميوله لضياء الحق ووضعت (راه مسعود حسين) وهو شيعي
معروف.
التجارة:
للشيعة نفوذ ملحوظ في التجارة والاقتصاد فمثلاً الأسواق الرئيسية في إسلام أباد مثل سوبر ماركت وجناح ماركت للشيعة، وكذلك حصة كبيرة من بنك حبيب المشهور في باكستان إضافة لفندق كراتشي المعروف بـ (لكسري هوتل) وغيره من المؤسسات التجارية الأخرى. كما أن سوق الصرافة في بيشاور والتي ازدهرت خلال حقبة الجهاد الأفغاني المسيطر عليه تجار شيعة معروفون ومشهورون.
أسلوب الاغتيال والتصفية الجسدية:
تشير التقارير الموثقة أن للشيعة دورً قوياً في اغتيال الرئيس ضياء الحق
حيث قيل بأن طياره الذي انتحر كان شيعياً إضافة إلى أن الاستخبارات الباكستانية
قد ألقت القبض مؤخراً على شخص أمريكي ثبت تورطه بالمؤامرة ومعه أرقام
هواتف لمسؤولين إيرانيين يعيشون في إسلام أباد، كما قتل مؤخراً ثلاثة أشخاص
من أقرباء الجنرال (فضل الحق) حاكم إقليم (سرهد) سابقاً والمعروف بقربه من
ضياء الحق وكرهه للشيعة، وتشير الأدلة إلى تورط حزب تطبيق الفقه الجعفري
في ذلك.
كما تفيد أدلة عديدة على تورط الشيعة في اغتيال الشيخ د. عبد الله عزام -
رحمه الله- ولكن تم إغلاق الملف عندما وصلت التحقيقات إلى نقاط حساسة، وقبله
وبعده تم اغتيال الشيخ (إحسان إلهي ظهير) و (حق جهانكوي) زعيم (مدافعي
الصحابة) المعادية للشيعة، ثم خليفة (إيثار القاسمي) ورد عليهم (مدافعوا الصحابة)
باغتيال مدير المركز الثقافي الإيراني في لاهور حيث كان وراء اغتيال (إيثار
القاسمي) والذي كان عضو البرلمان الباكستاني.
تورط إيراني في بلوجستان:
أوائل حكم ضياء الحق قبضت السلطات الباكستانية على عدداً من حراس
الثورة الإيرانية ومعهم الأسلحة في داخل الأراضي الباكستانية لزرع الفتنة في
الإقليم، ولكن بعد مفاوضات مطولة تم تسوية الأمر مع الحكومة الإيرانية، وأطلق
سراح أصحاب الفتنة، وكان يشغل في تلك الفترة حكم الإقليم (محمد موسى) وهو
شيعي وزوجته شيعية، وعندما توفيت زوجته نقلها إلى قم ودفنت هناك، وعندما
هلك هو أيضاً نقل إلى قم ودفن فيها.
ماذا تريد إيران من باكستان:
برزت إيران بعد حرب الخليج بدون شك قوة إقليمية كبرى، وأشارت إلى
هذا بي نظير بوتو في محاضرة لها ببيشاور عندما قالت: (إن إيران خرجت من
حرب الخليج دولة إقليمية كبرى ولها طموحات في أفغانستان) ولكن طموحاتها
تتعدى أفغانستان وتحلم بدولة باطنية في المنطقة. ويبدو أن العقبة الهامة في وجه
طموحاتها بعد القضاء على العراق هي باكستان، ولذلك تعمل حالياً على دفع
باكستان لتوتير علاقاتها مع الهند بسبب كشمير وتظهر لها بأنها حريصة على
باكستان وإعادة كشمير المسلوبة والحقيقة غير هذا، وتحدثت مصادر أفغانية موثوقة
لـ (البيان) أنه في الاجتماع الأخير الذي ضم نواز شريف رئيس وزراء باكستان
مع زعيم الحزب الإسلامي الأفغاني السيد قلب الدين حكمتيار قال الأخير لنواز
شريف بأن إيران تدفعكم للحرب مع الهند لإضعاف بلدكم وبهذا ينفسح المجال لها
لتكون قوة إقليمية كبرى، وتحاول إيران حالياً جاهدة أن تفصل باكستان عن
المجاهدين وتوتر علاقاتها معهم، وذلك حتى لا يبرز تحالف أفغاني باكستاني قوي،
وهذا ليس في مصلحة إيران مستقبلاً، وهذا ما يؤكد تخوف حكمتيار الأخير من
موافقة باكستان على مقترحات الأمم المتحدة لحل القضية الأفغانية والمجيء بحكومة
من غير المجاهدين وتتلخص السياسة الإيرانية في أفغانستان بقيام حكومة من
الشيوعيين في كابل والمعتدلين (جيلاني، مجددي، محمدي) ، وهذه نفس السياسة
الغربية وما صرحت به الإدارة الفرنسية مؤخراً، وبهذا تكون الحكومة الأفغانية
ضعيفة هزيلة تتحكم بها إيران.
إن أفغانستان تعد عمقاً استراتيجياً مهماً جداً لأهل السنة. وأي ضربة قادمة
بغيابها عن هذا التحالف - لا سمح الله - ستكون بالعمق والقلب.
والمعروف أن المعتدلين علاقاتهم غير طيبة مع باكستان وبهذا لن تكون
الحكومة القادمة في صالح باكستان، إضافة إلى هذا مسألة المسلمين في آسيا
الوسطى حيث ترغب إيران في التأثير عليهم من خلال أفغانستان التي تشترك معهم
بحدود طولها 1500 كم تقريباً، وأما إن كانت الحكومة الأفغانية المقبلة مؤيدة
لباكستان فسيكون التأثير عليهم باكستانياً وأفغانياً وحينها ستنتعش التجارة الباكستانية
في الجمهوريات الإسلامية المحتلة خاصة وأن سكان هذه الجمهوريات لا تستطيع
شراء السلع الحديثة الغربية لارتفاع أسعارها أما البضائع الباكستانية فرخيصة نظراً
لرخصها بالأصل وقربها الجغرافي أيضاً.
حقيقة الهجوم على أمريكا:
يلاحظ المراقبون في باكستان هجوم قيادات الشيعة: كتابهم ومسوليهم على
أمريكا ولكن هل الحقيقة كذلك أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ والحقيقة أنه قد كتب
الكثير عن علاقات طهران مع المسؤولين الأمريكان وتوسط أمريكا في إنجاح الثورة
الشيعية.
الشيعة وتطبيق الشريعة:
منذ أيام ضياء الحق وإعلانه عن تطبيق الشريعة وحتى الآن والشيعة يعرقلون
ويضعون العقبات في طريق سن أي دستور لهذا الأمر، وإن كانت بعض المنظمات
الإسلامية الأخرى تتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية من باب النقص وعدم
الجدية، فالشيعة يريدون تطبيق الفقه الجعفري على باكستان التي لا تضم سوى
5% من الشيعة وحاولت الأحزاب الشيعية جاهدة عرقلة التطبيق.
وبعد: أخي المسلم هذه حقائق نضعها حول منطقة تلعب دوراً خطيراً في
العالم، خاصة وأن العامل السكاني المسلم مهم جداً في هذه المنطقة والمؤلف من
مجموع سكان باكستان وأفغانستان وبنغلاديش ومسلمي الهند. ونأمل أن يتم وضع
استراتيجية فعالة لمواجهة هذه التحركات الباطنية الخطيرة.(43/95)
بيان من
حركة الجهاد الإسلامي الإرتري
قال الله تعالى: [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا
ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ
وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
إن من دأب الصليبين واليهود على مر التاريخ ومنذ بزوغ فجر الإسلام معاداة
ومحاربة الإسلام والغدر بالمسلمين ومقاتلتهم حتى لا يتمكنوا من إعادة مجدهم
الإسلامي التليد.
وتبعاً لهذا النهج العدائي للإسلام والمسلمين الذي تتبعه الصليبية واليهودية
المعاصرة فإن ما يحدث الآن من تطورات خطيرة في أثيوبيا وإرتريا بعد سقوط
نظام منغستو وتسلم الصليبية المحلية الناشئة والمتطورة السلطة في كل من أثيوبيا
(جبهة ملس زيناوي) وإرتريا (جبهة إسياس أفورقي) ، بدعم ورعاية الصليبية
الغربية، والكنائس العالمية، والمتمثلة في تجاهل التنظيمات السياسية الإرترية ذات
التوجه الإسلامي والعربي وفي مقدمتها حركة الجهاد الإسلامي الإرتري، وحرمان
هذه التنظيمات من ممارسة حقها المشروع في تقرير مصير وطنها، عن طريق
فرض الإجراءات التعسفية عليها، إن هذه التطورات سوف تؤدي بلا شك إلى تفاقم
الأحداث وسوف تدخل المنطقة في حرب جديدة ذات أبعاد خطيرة.
إن ما يحدث الآن في أثيوبيا وإرتريا من ترتيبات سياسية، يدخل في إطار
إستراتيجية ما يسمى (بالأمن الإقليمي لحوض البحر الأحمر) لخدمة القوى
الاستعمارية الغربية ومنظمات الكنائس واليهودية العالمية في هذا الجزء من العالم.
والجدير بالذكر فإن الحركة أبرمت اتفاقيات التنسيق مع ثلاثة تنظيمات إرترية على
أساس صيغة (الجبهة الإرترية المتحدة) تتركز في المجالات السياسية والعسكرية،
والاقتصادية، والعلاقات الخارجية، وذلك للتصدي ومواجهة حجم المؤامرة
الصليبية الكبيرة التي تستهدف المسلمين في المنطقة، ومن المتوقع أن تقوي هذه
الخطوة جبهة المعارضة الإرترية وتصديها لمخططات إسياس أفورقي الانفرادية
المدعومة بالقوى الصليبية المحلية والعالمية، وتبرز دور (حركة الجهاد الإسلامي
الإرتري) الرائد في مواجهة أعداء الإسلام وحشد الطاقات الإسلامية لذلك.
وإنه لمما يدعو إلى الأسى والحزن أن ينفذ أعداء الإسلام والمسلمين من
الصليبين واليهود مخططاتهم تلك على مرأى ومسمع الدول العربية والإسلامية.
وإن مسايرة بعض من دول الجوار من الدول العربية لهذه المخططات وتلك
الإستراتيجية المعادية والتعامل معها من منطلق المصالح المتبادلة ودون المراعاة
لحقوق ومصالح المسلمين في المنطقة يمثل تطوراً خطيراً لا يمكن قبوله ولا يجوز
السكوت عليه، لأنه يتعارض أولاً مع عقيدة الإسلام في الولاء والبراء، كما
يتعارض مع مبدأ احترام حقوق الإنسان في حرية التفكير والتعبير واتخاذ القرارات.
وبهذه المناسبة تتوجه (حركة الجهاد الإسلامي الإرتري) إلى المسلمين كافة
وإلى الهيئات والمنظمات الإسلامية والدعات إلى الله في كل مكان بالنداء لدعم
الجهاد الإسلامي في إرتريا مادياً ومعنوياً وإزالة المعوقات التي تقف أمامه والدفاع
عن حقوق المسلمين الإرتريين في حق المشاركة لتقرير مصير وطنهم عبر
التنظيمات التي تعبر عنهم من خلال الجهد المبارك والمتواصل والسعي الحميد لدى
إخوة الإسلام من الدول العربية لتنهض بواجبها الإسلامي.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً
ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ](43/104)
تفكك الاتحاد السوفييتي
وماذا بعد الانهيار
انتهت الحرب العالمية الثانية بانقسام العالم إلى معسكرين متعارضين سياسياً
واقتصادياً، المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي؛ والمعسكر الرأسمالي
الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ولكن طبيعة الصراع بين هذين المعسكرين
الجديدين، كانت مختلفة تماماً عن طبيعة الصراع بين المعسكرات المتناحرة في ما
قبل الحرب العالمية الثانية أو الأولى، ذلك أن ظهور نوع مختلف من الأسلحة هو
السلاح النووي؛ وتخوف المعسكرين ورعبهما من خطر نشوب حرب نووية، كان
عاملاً نفسياً قوياً أجبر الفريقين على فتتح أبواب الحوار لتسوية المشاكل المستعصية. وبذلك انتقلت أشكال الصراع الرئيسي من ميادين القتال إلى معامل التجارب
العلمية، ومحطات أبحاث وصناعة سفن فضاء، فكان صراعاً من نوع آخر.
التكنولوجيا الحديثة سلاحه وأجهزة المخابرات جنده ومنفذه، فكانت الحرب الباردة.
في نهاية القرن التاسع عشر، ظهر على الساحة الأيديولوجية كتابا «رأس
المال» «والبيان الشيوعي» اللذان كتبا من قبل كارل ماركس وإنجلز في لندن،
فكانا بمثابة أنظمة وشرائع ارتكزت على أساسها النظرية الشيوعية. قام الحزب
الشيوعي ليستولي على سلطة أكبر دول العالم من حيث المساحة وثالثها من حيث
السكان وذلك عقب ثورة 17 أكتوبر 1917 الروسية. لقد سيطر هذا الحزب على
روسيا ومن ثم الاتحاد السوفييتي وحكمها فترة 74 سنة، تعاقب على رأس الحكم
فيها، وعلى مدى تلك الفترة، كل من لينين وستالين ومالينكوف وخروتشوف
وبريجينيف وأندروبوف وتشرنينكو وآخرهم غورباتشوف ... وخلال حكم هؤلاء
كلهم، جرى ذبح ألوف من أهل الحكم الطامعين والطامحين، كما جرى ذبح خمسة
ملايين في حرب أهلية، ثم ذبح حوالي عشرة ملايين في عملية تصفيات ستالينية
داخلية في الثلاثينات، ثم ذبح ضعف هذا العدد في الحرب العالمية الثانية، ثم ذبح
الآلاف في حرب أفغانستان، فكانت حصيلة حكم هذا الحزب لتلك البلاد، انسحاق
حوالي الأربعين مليون سوفيتي في موت غير طبيعي وفي تدابير استبدادية تعسفية
تحولت معها الكنائس والمساجد زرائب للخنازير، والأملاك الخاصة إلى مشاعات
يتصرف بها أفراد الحزب الحاكم، ناهيك عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية
المخزية التي وصلت إليها البلاد.
ونظرا لضعف النظرية إلى اتبعها وقصر نظرها، ونتيجة لهشاشة السياسة
العملية إلى انتهجها، بالإضافة إلى الكفر والاستعلاء والاستكبار والقتل والظلم
والقهر بحق شعبه وغيره، اعترف الاتحاد السوفييتي، ومع بداية الثمانينات،
بعجزه، وذلك بعد أن ظهرت، وبشكل واضح، علامات ضعفه وفشله في الحرب
الباردة مع المعسكر الرأسمالي الغربي.
لقد بدأ العد العكسي عند المعسكر الشرقي وخاصة في الاتحاد السوفيتي حيث
بدأت الأمور تتفاقم والحالة الاجتماعية والاقتصادية من سيئ إلى أسوأ، حتى جاء
غورباتشوف وفي منتصف العقد الماضي ليقدم عرضه «البيريسترويكا» أو
«إعادة البناء» ، والذي شكل ثورة في المواقف والأفكار والممارسات، ودعا إلى تغيير جذري في السياسة الداخلية والخارجية على السواء؛ يقول غورباتشوف في مقدمة كتابه «البيريسترويكا» :
«نحن نعرف ونأخذ في الاعتبار الدور الكبير الذي تلعبه الولايات المتحدة
في العالم الحديث، ونقدر إسهام الأمريكيين في الحضارة العالمية، ونحسب حساباً
للمصالح المشروعة للولايات المتحدة، وندرك أنه بدون هذا البلد يستحيل إزالة
خطر الكارثة النووية، وضمان سلم وطيد. وليست لدينا أية نوايا سيئة تجاه الشعب
الأمريكي. ونحن راغبون ومستعدون للتعاون في كافة المجالات. لكننا نريد أن
نتعاون على أساس المساواة، والتفاهم المتبادل والمعاملة بالمثل» .
لقد جاءت «البيريسترويكا» في الاتحاد السوفييتي لتنهي مرحلة حرب باردة
خارجية دامت 40 سنة وتفتح، في الوقت نفسه، مرحلة حرب باردة داخلية،
دارت لمدة ستة أعوام بين تيارين متناحرين أفرزتهما تلك «البيريسترويكا» : تيار
المحافظين الماركسيين اللينينيين، وتيار الليبراليين الديموقراطيين. كان المعسكر
الغربي ما يزال مستمراً في تركيز مواقعه وتشديد الخناق على المعسكر الشرقي.
فلقد عملت أوروبا والولايات المتحدة واليابان بكل قوتها من أجل تجهيز المسرح
العالمي لانتهاء الحرب الباردة، ليس من خلال تنازلات، وإنما من خلال زيادة
الضغوط لتصفية المعسكر الشرقي بمقوماته المختلفة، وحصار الاتحاد السوفييتي
ودفعه إلى داخل حدوده، وتقليص نفوذه الدولي ليصل إلى أدنى حد ممكن.
ففي سنة 1984، كانت اللجنة الثلاثية - وهي لجنة غير رسمية تضم ممثلين
عن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان - قد طالبت الدول الأعضاء -
وخاصة دول أوروبا الغربية - ببذل جهود من أجل تكثيف روابطها الاقتصادية
والعلمية والثقافية مع دول شرقي أوروبا في محاولة لإنهاء تقسيم القارة الذي طرأ
منذ عام 1945، وذلك تحت عنوان «الديموقراطية لا بد أن تنتصر» ،
وشعارات حقوق الإنسان، والحرية الديموقراطية، وإصلاح النظام الاقتصادي،
إضافة إلى موضوع مواجهة الإرهاب ...
لقد نجحت دول التحالف الثلاثي على مدار السنوات الست، في اتخاذ
خطوات أدت فعلياً إلى تقليص النفوذ السوفيتي في العالم الثالث وقلب النظام
السياسي البولندي سلمياً، ثم تداعي نظم أوروبا الشرقية بسرعة لا تصدق وسقوط
رؤوسها، وفاق غورباتشوف والاتحاد السوفييتي، الواحد تلو الآخر. وشهدت
برلين قمة الأحداث المثيرة في شهر نوفمبر 1989، عندما سقط جدار برلين وتدفق
المواطنون الألمان الشرقيين إلى الغرب، مما أدى فعلياً إلى إنهاء ارتباط الاتحاد
السوفييتي بدول شرق ووسط أوروبا، وأصبح السوفيات في حاجة للغرب أكثر من
أي وقت مضى؛ فلقد صرح الرئيس البولندي ليخ فاليسا، وخلال زيارته إلى
بريطانيا في 25/4/1991، أنه ينبغي على الاتحاد السوفييتي السماح لشعوبه
بتشكيل اتحاد جديد قائم على أساس الديموقراطية، وحذر في خطاب ألقاه أمام
مؤتمر للسياسيين الأوروبيين الشباب من أن الغرب قد يواجه هجرة جماعية من
أوروبا الشرقية إلا إذا ساعد البلدان الشيوعية على إنعاش اقتصادياتها ...
لقد سقطت إذن أوروبا الشرقية في أيدي المعسكر الغربي الذي تمكن معها
بدفع المعسكر الشرقي إلى داخل حدوده وتقليص نفوذه، فوقعت تائهة تنتظر العون
والمدد من جاراتها الغربيات، فما كان من تلك الأخيرة، ولكي تضمن انسلاخ تلك
الدول عن معسكرها السابق، إلا أن ربطت تلك المساعدات بالانتقال السريع
المباشر من اقتصاد «رأسمالية الدولة» حيث يتحكم القطاع العام بكل شيء إلى دولة الرأسمالية « ...
وفي مطلع الأسبوع الثالث من شهر نيسان 1991، افتتح في لندن البنك
الأوروبي للتعمير والتنمية. ولقد أعلن هذا البنك صراحة أن قروضه مشروطة
سياسياً، أي ربط التمويل بأهداف سياسية صرفة، وهذا أمر غير متاح من خلال
قوانين المؤسسات الدولية الأخرى مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي على
الرغم من الخضوع المتزايد لهذه المؤسسات لاعتبارات سياسية. فلقد حدد هذه البنك
هدفه الأساسي بمساعدة دول أوروبا الشرقية على الانتقال من الاشتراكية إلى
الرأسمالية، وسيتضمن ذلك بصورة ملموسة مساعدة الدول الخارجة من النظام
الشيوعي على تصفية القطاع العام وتكوين البنى التحتية لنظام الاقتصاد الحر.
في 24/4/1991، وخلال اجتماع عقد في براغ وضم عشرين وزير عمل
أوروبي، نقلت وكالة الأنباء التشيكوسلوفاكية عن وزير العمال السوفيتي فاليري
بولمان توقعه أن يُجبر الوضع الاقتصادي حوالي ثمانية ملايين عامل على البحث
عن عمل في الخارج خلال السنوات الثلاث المقبلة. ولكن الرد الغربي كان صارماً
وصريحاً: مزيداً من التنازلات، الانتقال السريع، وإليكم الدعم ...
وهكذا، وتنفيذاً لشروط الغرب للحصول على مساعداته، وتحت شعار
تكريس الديموقراطية في الاتحاد السوفييتي وتحسين أحواله الاقتصادية، قام
الكرملين بقيادة غورباتشوف بالانسحاب من كل مواقعه الاستراتيجية في العالم
وأهمها الشرق الأوسط، وبانسحابه، تفرد الغرب بالقرار هناك، فتم تدمير قوة
الأمة والهيمنة على مقدراتها وثرواتها، وتنفذ حالياً التسوية السلمية للصراع العربي
الإسرائيلي بالشروط الإسرائيلية الكاملة، وتتم تصفية القضية الفلسطينية، ولكي
يبيض سجله لدى السلطات الأمريكية في مجال حقوق الإنسان، فقد سمح بهجرة
يهود الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل وعددهم بالملايين.
هذا على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الداخلي للاتحاد السوفياتي،
فالحرب الباردة كانت مستمرة، تهدأ تارة وتشتد تارة، مرت فيها البلاد في ظروف
صعبة جداً وصلت بها أحيانا إلى حافة الهاوية، ثم تخطَّتها حتى كان الانقلاب فجر
19/8/1991. فكيف دارت أحداث تلك الحرب الداخلية الباردة؟ ما هي الأحداث
التي سبقت الانقلاب؟ لماذا وقع الانقلاب وما هي أهدافه ونتائجه؟ ..
» يتبع «(43/106)
كتب
البعد الديني في السياسةالأمريكية
تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي
تأليف: د. يوسف الحسن
عرض: أحمد عبد العزيز أبو عامر
حدد القرآن الكريم والسنة المطهرة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب في
السلم والحرب، وحذر من أعداء الإسلام وخاصة من اليهود لما جبلوا عليه من غدر
ولوم وعداء صريح للإسلام والمسلمين يقول تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً
لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا] ويشتركون مع النصارى في عدم الرضا عن
المسلمين لقوله تعالى: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
وهذا ما يؤكد أن العداء مع هؤلاء عداء عقيدة، لكن كثيراً من العلمانيين في عالمنا
العربي اليوم يحاولون بكل جهودهم تحجيم هذا العداء وأن المسألة خلاف قومي
بمزاعم موهومة يكذبها الواقع، ولذا كثيراً ما نجدهم يطنطنون بالأخوة القومية بعيداً
عن الأخوة العقدية، ويفرقون بين (الصهيونية واليهودية) بدعوى أن عداءنا مع
الصهاينة وليس مع اليهود وقد ألفت في هذه الدعوى كتب ورسائل ولعله يتسنى لي
في فرصة قريبة بيان خطأ هذا التوجه وبيان زيف مدعيه.
والمتابع للأحداث الجارية في المنطقة ولا سيما أهمها وهي ما تسمى بأزمة
الشرق الأوسط التي هي (مشكلة العدوان الصهيوني واحتلال الأرض المباركة في
فلسطين ظلماً وعدواناً) يلمس التعاطف الكبير بين اليهود والنصارى الذين لولا
دعمهم لليهود لم تقم لدولتهم قائمة مع العداء الديني بين هاتين الملتين. ولقد استطاع
الصهاينة بخبثهم أن يوظفوا (الكتاب المقدس) لصالحهم بشكل نتجت عنه اتجاهات
صهيونية في المسيحية كما سترى في هذا الكتاب.
والكتاب الذي سنقدم عرضاً له في هذا المقال هو أحد مطبوعات (مركز
دراسات الوحدة العربية) وهو مؤسسة قومية علمانية تصدر عدة سلاسل ثقافية،
والكتاب يحمل رقم 15 في سلسلة (أطروحات الدكتوراه) ويبلغ الكتاب 222 صفحة
مع الفهارس وقد قام المؤلف بجهد في رصد وتحليل الاتجاهات الصهيونية في
الحركة الأصولية المسيحية الأمريكية المعاصرة وكشف عن قوة تأثيرها في صنع
وتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني ودورها في
توفير المناخ الملائم لنزعة أمريكية عامة متحيزة لإسرائيل، كما سعى إلى كشف
الغطاء عن المدى الواسع في استعمال الرموز الخطابية التوراتية في العمل السياسي
الأمريكي نتيجة تأثير الكنيسة في المجتمع المدني وبخاصة في ثقافته العامة بحيث
صور الصراع العربي الصهيوني في الخيال العام الأمريكي على أنه امتداد للصراع
التوراتي بين اليهود وغيرهم، وعلى أن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية هي علاقة
خاصة قائمة على فهم توراتي تراثي مشترك. ولذا وجد في الخطاب السياسي
الأمريكي اصطلاح (الالتزام الأخلاقي بدعم إسرائيل) وهو ما لم يستعمل مع دولة
أخرى غير ربيبتهم تلك.
وقد قسم المؤلف الكتاب إلى خمسة فصول وخاتمة على النحو التالي:
الفصل الأول: تناول فيه جذور الصهيونية في المسيحية الأصولية الأوربية
منذ القرن (16م) محللاً كيف اختلفت المعتقدات الدينية وتزاوجت بالأهداف
السياسية والاستراتيجية، ومهدت المناخ الملائم لولادة الحركة الصهيونية السياسية
للجماعات اليهودية.
الفصل الثاني: البحث عن التأصيل التاريخي للاتجاهات الصهيونية في
المسيحية الأصولية الأمريكية موضحاً أهم المنظمات الصهيونية المسيحية الأمريكية
في النصف الأول من القرن العشرين ومحللاً مواقفها تجاه الصراع العربي
الصهيوني واشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث هي:
1- جذور الصهيونية في التاريخ الأمريكي.
2- جذورها في الكنائس البروتستانتية.
3- الاتجاهات الصهيونية والكنيسة الكاثوليكية.
الفصل الثالث: ناقش الكاتب الحركة المسيحية الأصولية في الفترة بين عامي
1967 - 1968 وحلل أهمية دور الكنيسة في المجتمع الأمريكي وعلاقاتها بالدولة
دستورياً، كما تناول العوامل التي تقف وراء نهوض الحركة المسيحية الأصولية
الأمريكية وبخاصة تأثير نكبة 1967 في إحياء فكر الحركة وتنشيط صهيونيتها
وازدياد تأثيرها في السياسة الخارجية.
الفصل الرابع: البحث في مؤسسات الحركة المسيحية الأصولية ومنظماتها
وتحالفاتها وجماعات الضغط فيها، كما ناقش الظاهرة الجديدة المسماة بالكنيسة
المرئية، وبين أهم منظماتها وأبرز قادتها وأكثر برامجها انتشاراً وتأثيراً إضافة إلى
علاقاتها السياسية والإعلامية والمالية وامتدادها إلى خارج أمريكا.
الفصل الخامس: ناقش المؤلف في بحثين هامين الخلافات بين الحركة
المسيحية الأصولية والحركة الصهيونية اليهودية وإسرائيل، كما تناول الآفاق
المستقبلية لحركة المسيحية الأصولية في المجتمع الأمريكي.
وفي الخاتمة: تناول أهم نتائج دراسته إلى لخصها فيما يلي:
1- بيان الأصول والاتجاهات الصهيونية في الحركة المسيحية الأصولية في
أمريكا وهي التي تزعم بأن عودة اليهود إلى فلسطين مفتاح النبوءات المقدسة
والمبشرة بعودة المسيح الثانية.
2- أن مقولة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) هي مشروع مسيحي
صهيوني قدم لمؤتمر لندن عام 1840 وأن أول جماعة ضغط صهيونية بأمريكا
أسسها رجل دين بروتستانتي هو (بلاكستون) عام 1887
3- إن قناعات (بلفور) الدينية والمعتقدات التوراتية (للوبد جورج) رئيس
الوزراء البريطاني آنذاك وتأثرها بالفلسفة اليهودية وخلفياتها الفكرية الدينية وراء
بلورة موقفهما السياسي تجاه المشروع الصهيوني.
4- وبتحليل الجذور التاريخية للاتجاهات الصهيونية غير اليهودية في التاريخ
الأمريكي وفي الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية في أمريكا. توصلت الدراسة إلى
أن هذه الاتجاهات قد شكلت عنصراً بارزاً في الحياة الثقافية والسياسة الأمريكية منذ
بداية تأسيس أمريكا عن طريق (البيوريتان) الذين حملوا معهم التقاليد والقناعات
التوراتية التي انتشرت في إنجلترا بعد القرن 16م.
5- تبين أن المؤسسات والمنظمات المسيحية الصهيونية تلقت الدعم العلني
والسري من الحركة الصهيونية وبقيام دولة إسرائيل تدعمت المعتقدات المسيحية
الأصولية بدعوى أن الحدث إشارة إلى النبوءات المقدسة عندهم.
6- إن الكنيسة الأمريكية نظام شمولي في أغراضه وأنشطته وعلاقاته حيث
تمزج الدين بالتعليم وبالخدمات الاجتماعية وبالطب والسياسة والفن والحرب والسلام
ولا يفلت من شبكها شيء يتعلق بالإنسان.
7- إن الصحوة المسيحية الأصولية تجسدت في تيار جماهيري له مؤسسات
متعددة الأغراض والإمكانات المالية ليس من السهل مقاومته وتستطيع تعبئة عدة
ملايين للانخراط في العملية السياسية الانتخابية.
8- إن المسيحية الأصولية جسدت حركتها في مؤسسات إعلامية ومنظمات
وجماعات وتحالفات متعددة خارج أمريكا، وتعاونت مع إسرائيل في تأسيس منظمة
أصولية في القدس وقد أسست الكنيسة المرئية التي تستخدم برامجها الاستعراضية
لجمع أموال التبرعات، ولا تكتفي بالدروس الدينية بل تهتم بكل المسائل
الاجتماعية والسياسية والعسكرية والترفيهية وتهتم باكتساب القوة والنفوذ السياسيين
أكثر من اهتمامها بالدين وتقدم رؤيتها السياسية لقضية الصراع العربي الصهيوني
من خلال رؤيتها التوراتية.
ويختم المؤلف كتابه بما سماه (خطة عمل عربية لمواجهة صهيونية الحركة
المسيحية الأصولية) ومن أهم بنود هذه الخطة:
1- إعداد دراسة جادة ومفصلة حول مواد التعليم في مدارس الأحد والمدارس
الدينية المسيحية لاستكشاف العناصر الخفية والظاهرة للاتجاهات الصهيونية المؤيدة
لإسرائيل. وتقديمها لقادة المسيحيين المتعاطفين مع وجهة النظر العربية وتشجيعهم
بالمطالبة بإصلاح برامج تعليم تلك المدارس! !
2- دعم وتشجيع عقد مؤتمرات دينية مسيحية في أمريكا وبشكل دوري تناقش
فيها مسائل العلاقات بين الدين وحقوق الإنسان بهدف استكشاف استخدام الصهيونية
السياسية التوراة لمصالحها ومؤتمرات أخرى في بعض البلاد العربية حيث يوجد
فيها المسيحيين.
3- تنظيم حملة إعلامية مستمرة في أمريكا مستخدمة اللغة الكنسية نفسها
لتنفيذ مزاعم الصهيونية المسيحية كأطروحة شعب الله المختار ووضع مدينة القدس
على أن تبدأ في الأرياف قبل المدن.
4- دعم وتشجيع ونشر معلومات معدة بشكل علمي وميسر حول الإسلام
ومعالجة للقضايا الاجتماعية والسياسية ونظرية الأديان ودور الحضارة الإسلامية في
حفظ الحضارة الإنسانية.
5- وضع أسس حوار دائم بين المسيحية واليهودية والإسلام واستحداث
أقسام داخل المنظمات والمعاهد والمراكز والمؤسسات الإسلامية في الوطن العربي
مختصة بهذا الشأن وتنظيمه.
6- دعم وتشجيع نشر مقالات وأخبار حول مسائل تتعلق بحقوق الإنسان
الفلسطيني في الأرض المحتلة وإثارة أسئلة حول معتقدات المسيحيين في العهد
القديم.
7- استعملت الأصولية المسيحية المتصهينة تقنية الأقمار الصناعية للاتصال
بغيرها عبر العالم لنشر دينهم عبر الكرة الأرضية وأي خطة لمواجهتهم لا بد أن
تشمل استخدام هذه التقنية المعاصرة.
ملاحظات عاجلة على الأطروحة
أولاً: أشار المؤلف بأن أطروحته هذه هي أول الأبحاث التي تناولت هذا
الجانب من السياسة الأمريكية. وهذا بنظري ليس صحيحاً إذ سبق الكاتب في بحث
هذا الموضوع بالعديد من الدراسات والكتب المنشورة ومنها:
1- الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي (حيال القضية الفلسطينية)
2- النبوءة والسياسة تأليف (غريس هالسل) ترجمة الأستاذ محمد السمّاك.
حيث تطرقت المؤلفة لعمل المؤسسات والشخصيات داخل أمريكا لصالح إسرائيل.
3- قبل أن يهدم الأقصى كتاب للأستاذ عبد العزيز مصطفى وبيان دور
الصهاينة النصارى في دعم إسرائيل.
4- دراسة الأصولية الدينية والثقافية للقرار الغربي في الصراع على فلسطين
للأستاذ طارق متر نشرته مجلة الفكر الإسلامي البيروتية العدد 1/السنة91 الصادر
في جمادي الأول 1409
ثانياً: المؤلف كتب أطروحته من منظور قومي ولم يذكر وجهة نظر الإسلام
في هذا الموضوع وبالمنطلق القومي أراد استخدام النصرانية - فيما يزعم - لصالح
وجهة النظر العربية.
ثالثاً: من أعجب العجب أن يستغل اليهود والنصارى الدين لمصالحهم العليا
لكننا نرى (القوميين العرب) يستغلون الدين لمصالحهم القومية الضيقة ولا يهم إن
كان ذلك يصح شرعاً أو لا. المهم أن يخدم مصالحهم.
رابعاً: أغفل المؤلف الحلول الإسلامية الجذرية لمعالجة قضية الصراع
العربي الصهيوني وأنه لا ينفع معهم إلا القوة الإيمانية المنبثقة من الجهاد الإسلامي
الذي يعرفون حقيقته حق المعرفة يوم حاربهم المجاهدون الأوائل في بدايات قيام
دولتهم وأبلوا بلاء حسناً ولولا القرارات المحبوكة ضدهم لتغير التاريخ ولكن قدر
الله لا بد أن يتم وعسى أن نعرف الحل الجذري لمشكلتنا معهم فالحرب معهم لا بد
أن تكون عقائدية ولا يمكن أن نهزمهم بالعلمانية الحاكمة في البلدان العربية، والله
غالب على أمره.(43/111)
حديث وعبرة
عبد العزيز بن أحمد باطرفي
الحديث:
عن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- قالت: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تصدقن يا معشر النساء ولو من حُليكن» .
قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت له: إنك رجل خفيف ذات
اليد [1] ، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالصدقة؛ فأته فاسأله؛ فإن كان ذلك يُجزئُ عني [2] وإلا صرفتها إلى غيركم.
فقال عبد الله: لا، ائتيه أنت.
فانطلقتُ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
حاجتي حاجتها. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه المهابة، فخرج
علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره أن امرأتين
في الباب تسألانك:
أتجزئُ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما [3] ؟ ولا
تخبره من نحن.
فدخل بلال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأله، فقال الرسول -
صلى الله عليه وسلم-: «من هما» ؟
فقال: امرأة من الأنصار وزينب،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أي الزيانب هي؟»
قال: امرأة عبد الله.
فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لهما أجران: أجر القرابة وأجر
الصدقة» متفق عليه واللفظ لمسلم.
دروس من الحادثة:
من هذه الحادثة التي وقع فيها بلال -رضي الله عنه- في موقف حرج
وطريف بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين وصية الصحابيتين له بعدم ذكر
اسميهما نخلص بفوائد ودروس منها:
* كثيراً ما تمر علينا مواقف حرجة، وعندما يحاول البعض الخروج من هذا
الموقف بالتورية نراهم يقعون في الكذب سواءً علمه الناس أو كان بين الواحد منا
وبين ربه. وإن كان في التورية مندوحة عن الكذب إذا احتيج إلى ذلك.
وبلال -رضي الله عنه- حاول التورية لكي ينفذ ما طلبته الصحابيتان منه
بقوله «امرأة من الأنصار وزينب» والزيانب كثيرات، ولكن فطنة الرسول -
صلوات الله وسلامه عليه- أوقعت بلال في موقف؛ فلم يجد مخرجاً منه غير
الصدق لأنه يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولأن ليس أمامه إلا التصريح ولا
مضرة في ذلك.
* أن مجال الخير ليس مقصوراً على الرجال دون النساء والباب مفتوح
للجميع فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخص فيها النساء بموعظة وتذكير
ويحث النساء على التصدق، والأصل في الأوامر أنها للرجال والنساء معاً. وهذا
يشجع الأخوات على حضور المحاضرات والدروس التي يوجد فيها مكان لهنّ. إذا
كان ذلك لا يخل بواجب ولا يعرضها لفتنة.
* تنبيه المرأة المسلمة وحثها على الإنفاق:
إن ما ينفق على الكماليات والزينة والأزياء فيها من الإسراف ما الله به عليم
فلو خصصت كل أخت مبلغاً معيناً للإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير لكان خيراً لها
وأعظم أجراً.
* كم.. وكم يسمع الواحد منا من مواعظ.. أو كلمات.. أو خطب عن
طريق الدروس والمحاضرات.. أو الأشرطة.. أو المذياع أو غيرها مما تأمرنا
بمعروف وتنهانا عن منكر.. ولكن هل أحس كل واحدٍ منا أنه هو المعني بالخطاب؟ فامتثل الأمر واجتنب النهي واتقى الله.
والصحابة -رضوان الله عليهم- كل واحد منهم عندما يسمع الخطاب يعتقد أنه
هو المخاطب به، دون سواه.
وبهذا الأدب في الاستماع يبادر الجميع إلى العمل كما ترى في هاتين
الصحابيتين -رضي الله عنهما-، وهذا ما تعلمه الصحابة -رضوان الله عليهم-
من النبي -صلى الله عليه وسلم-: العلم والعمل.
* إخفاء أعمال الخير عن الناس قدر الاستطاعة وهذا خلق من لا يريد الرياء
والسمعة والشهرة بين الناس وإنما نقلت لنا الصحابية الخبر لكي لا تكتم علماً..
«لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة» .
* كان رجال الصحابة -رضي الله عنهم- يعلمون ويشعرون بقوامة الرجل
على المرأة، وكأن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- تحرج من سؤال النبي -
صلى الله عليه وسلم- عن صحة إنفاق زوجته عليه وعلى أبنائه مع حاجته الماسة
والشديدة إلى ذلك لأنه كان خفيف ذات اليد أي قليل المال فاستحيا أن تنفق عليه
المرأة.
وما أكثر الرجال في وقتنا المعاصر الذين يتربصون بما في أيدي النساء
ويرضون أن يكونوا عالة عليهن، بل ربما عضل بعضهم ابنته عن الزواج ليكسب
من ورائها شيئاً من حطام الدنيا الزائل.
حب الزوج وستر حاله:
ونرى ذلك في مساعدة الزوجة زوجها وأبنائها بالصدقة وستر أمر الزوج
وفقره عن الناس عندما طلب الصحابيتان -رضي الله عنهما- من بلال عدم ذكر
اسمهما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
التحلي بالصبر:
ومن أنواعه الصبر على ضيق العيش فهاتان الصحابيتان صابرتان محتسبتان
على شظف العيش مع أزواجهما من غير تذمر ولا سخط ولا غضب. بل إنهما
تكتسبان وتنفقان وإنما تحرجتا من إنفاق الزكاة الواجبة على الزوج ومن في
حجورهما من الأيتام فسألتا عن ذلك.
* حازت الصحابيتان الخير الكثير فلهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة،
وهو عمل واحد فيا له من خير عظيم.
* على المرأة المسلمة أن تسأل أهل العلم فيما يعرض لها من مسائل في الدين
والدنيا فإنه لا حياء في الدين وإذا أمكن أن يكون ذلك بواسطة زوجها أو قريب لها
كان أفضل وأبعد لها عن الفتنة وذلك ما بدأت به زينب زوج عبد الله.
ومن أسهل هذه الطرق - وبحمد الله - الهاتف فأرقام أهل العلم من المشايخ
متوفرة؛ ولا يبقى إلا كسر حاجز الشيطان الذي يضعه أمام كل مؤمن ومؤمنة
ليمنعه من معرفة الحكم الشرعي الصحيح.
وأخيراً فإن الإمام النووي وضع هذا الحديث في باب «بر الوالدين وصلة
الأرحام» .
__________
(1) خفيف ذات اليد: أي قليل المال.
(2) يجزئ عني: دفعتها لكم.
(3) على أيتام في حجورهما: أي في ولايتهما وتحت حمايتهما.(43/118)
صحة
حوادث التسمم
د. محمد صايل هليل
يقع التسمم العارض Accidental poisoning بين واحد إلى اثنين من كل
مئة طفل دون الخامسة. وهو يشكل أحد الأسباب الرئيسية لوفاة الأطفال في هذه
الفترة من العمر. إن حوادث تسمم الأطفال تسجل أعلى معدل لها عند الأطفال في
السنة الثانية من العمر، إلا أن نسبتها في الأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنة
واحدة عالية أيضاً. إن ثلث حوادث تسمم الأطفال تقع في مطبخ البيت كما بينت
بعض الدراسات. وأن أهم عنصر في حوادث التسمم هو تخزين المواد بشكل
خاطئ.
تبدأ حوادث التسمم عند الأطفال حالما يبدأ الطفل الحبو والتحرك داخل البيت. فالأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنتين يتناولون المواد الضارة المخزونة في
أماكن قريبة من الأرض، كخزائن المطبخ السفلية مثلاً، وأن الأطفال بين 3-4
سنوات من العمر، يتناولون المواد المحفوظة في أماكن مرتفعة بعد تسلقهم
والوصول إليها.
إن حركة الطفل المفرطة، وفضوله الشديد لمعرفة كل ما في البيت، إضافة
إلى أن الطفل يمر بمرحلة نمو نفسي - المرحلة السلبية - يحاول فيها بناء ذاته
واستقلال شخصيته، بحيث لا ينصاع للأوامر والنواهي، كل هذه الأمور تعرضه
إلى التسمم أكثر من غيره. لذا فإن حوادث التسمم لا تعني تقصير وإهمال الأهل
بالضرورة. إن المواد السامة كثيرة وعديدة وهي أكثر من أن تحصى، وفي بعض
الدول أنشئت مراكز ضبط التسمم Control Centres Poisoning ويمكننا
تقسيمها في المجموعات التالية:
1- الأدوية: وتشمل كل الأدوية مهما كانت دون استثناء مطلقاً.
2- المواد البترولية: كالبنزين، الكيروسين (الجاز) وسوائل القداحات
وغيرها وهي خطرة جداً لما تحدثه من تلف يصيب الرئتين وأحياناً القلب والدماغ.
3- المبيدات: وهي مبيدات الحشرات وهي مواد شديدة السمومية، تؤثر
على الجهاز العصبي.
4- مواد التنظيف: وهي المستخدمة لتنظيف الحمامات والمراحيض
والمصارف.. وهي مواد كاوية حارقة تتلف القناة الهضمية تلفاً شديداً إذا أخذت عن
طريق الفم وتسبب مضاعفات خطيرة تلازم الطفل طيلة عمره.
5- التبغ: وأعواد الثقاب لما تسببه إثر تناولها عن طريق الفم.
6- النباتات: سواء نباتات الزينة أو ما ينبت قريباً من البيت من النباتات
البرية، أو ما يضاف للنباتات من مواد كيماوية - وهي عديدة جداً.
7- مواد التجميل والعطور وطلاء الأظافر والآسيتون.
8- الغازات السامة المنبعثة من المدافئ والمواقد: كمواقد الفحم والكيروسين،
وغيرهما..
9- التسمم باللدغ: كلدغ العقرب والأفعى والحشرات الأخرى.
10- المواد الكيماوية الأخرى: مثل كرات العث (كرات النافثالين) التي
توضع مع الملابس.
ويقع حادث التسمم إما بوضع المادة الضارة قريباً من متناول الطفل، وهذا
هو الأغلب، أو وضعها في أوعية يختلط على الطفل بأنها مواد غذائية. فوضع
الكاز في زجاجات المياه المعدنية عادة خاطئة، غالباً ما تكون السبب - وكما
نراه - في تسمم الطفل العطشان الذي لا يستطيع إن يفرق بين الماء والكاز إلا بعد شربه فقط.
تصل هذه المواد إلى داخل الجسم بطرق عديدة كالفم - والتنفس - والجلد أو
داخل الجلد كاللدغ مثلاً أو غيرها. إن تأثيرها يتفاوت بحسب نوع المواد المتناولة
وعددها وكمياتها. والفترة المنقضية ما بين تناولها وزيارة الطبيب وعوامل أخرى
لا مجال لبحثها.
إذن ما العمل لتفادي تسمم الأطفال؟
هذا سؤال حتمي أمام الحقائق، والجواب يتلخص في هذه الإرشادات كخطوط
عامة:
1- بالرغم من أن البعض قد يظن أنه ليس عملياً أن نرفع كل المواد الضارة
بعيداً عن متناول الأطفال: إلا أن هذا هو أهم إجراء وقائي. نعم وضع المواد
السامة في مكان مرتفع ومحكم الإغلاق.
2- لتسهيل ما سبق، ينصح بعدم تخزين كميات كبيرة جداً من المواد الضارة
كالمنظفات والدهانات والمبيدات ومواد تلميع الأثاث وغيرها في البيت.
3- عند الانتهاء من استعمال مادة معينة أو نفاذها يرجى عدم الاحتفاظ
بعبوتها الفارغة أو تركها للأطفال يلعبون بها، بل إلقاؤها في القمامة.
4- عند وضع مادة سامة أو ربما تكون ضارة في أوعية مواد نافعة،
كالكاز - أو سائل التنظيف الأبيض - في زجاجات المياه الفارغة، يرجى وضع ملصق صغير يبين ما بداخل الزجاجة مثلا (كاز) أو (سائل تنظيف) حتى يتجنب الكبار تناولها، ورفعها في أمكن عالية بعيداً عن الأطفال، لا سيما وأن الأطفال لا يقرأون ما بداخلها.
5- عدم وضع المواد السامة قريباً من المواد الغذائية.
6- تربية الطفل - عملياً - مبدأ مهم وهو أنه ليس كل ما تقع عليه اليد
يصلح للأكل، وتبيان مخاطر المواد السامة للطفل إذا كان في عمر يدرك معنى
الكلام.
7- فيما يتعلق بالأدوية بالذات، نؤكد على ما يلي:
- الاحتفاظ بالأدوية بعيداً عن متناول الأطفال مهما كان الدواء.
- استعمال الأوعية التي يصعب على الطفل فتحها وعدم ترك الأدوية متناثرة. وعادة ما تصرف الأدوية في مثل هذه العبوات التي يصعب فتحها.
- عدم استعمال أي دواء فقدت أو تلفت الكتابة التي تحدد اسمه.
- عدم وضع أدوية في زجاجات أدوية فارغة أخرى.
- عدم إعطاء الدواء إلا للمريض، وعدم إعطاء أي طفل آخر دواء أخيه
دون استشارة الطبيب.
- عدم إعطاء الأدوية للأطفال في الظلام، إلا بعد التأكد من اسم وكمية الدواء
واسم الطفل على الزجاجة.
- عدم خداع الطفل أن الدواء هو حلوى أو شراب بل يجب خلق الثقة بين
الأبوين والطفل ويجب أن نبين للطفل بكلام بسيط أن هذا دواء يشربه ليزول
مرضه، نشرح له هذا بلغة بسيطة يفهمها ما أمكن.
- الانتباه إلى أن الأطفال يقلدون الكبار في تناول الأدوية: فالطفل يرى جده
يتناول بعض حبوب القلب قد يتناول بعض الحبات التي ربما تقتله.
- عدم ترك الزجاجات الفارغة أو الأدوية التي انتهت صلاحيتها بين يدي
الأطفال يلعبون بها، بل يجب التخلص منها بشكل جيد.(43/123)
منتدى القراء
تعقيب على مقال:
هل هناك صحافة إسلامية؟
عبد الله بن حمد السكاكر
فقد قرأت ما كتبه الأخ عبد القادر حامد في مجلة البيان العدد 37 تحت عنوان
(هل هناك صحافة إسلامية؟) .
وقد أثار الأستاذ عبد القادر في هذا المقال مشكلة خطيرة يجب ألا تغيب -
عن بال أي مسلم فضلاً عن الدعاة والمفكرين، وهي مشكلة محدودية الطرح
والمعالجة لكثير من قضايا الإسلام المصيرية والبالغة الأهمية في الصحافة
الإسلامية.
ولا شك أن هذا القصور في الطرح والمعالجة في الصحافة الإسلامية ليس
ناتجاً عن عجز في الطرح أو جهل فيما يجب أن يطرح من قضايا وإنما هو قصور
ناتج عن ترجيح مصلحة الاستمرارية في الكتابة والوصول إلى كل مسلم في كل بلد
إسلامي. ولا شك أن الله لا يكلف أحداً ما لا يطيق، وما يطلبه الأخ عبد القادر
ومعه كل مسلم غيور ليس في طاقة مثل هذه المجلات ولكن هل نعذر أمام الله
سبحانه وتعالى بهذا أم أننا مطالبون بالعمل على إيجاد وسائل أخرى يمكن أن نطرح
مثل هذه القضايا فيها بحيث تصل إلى كل مسلم.
لا شك أننا مطالبون بذلك كما لا أشك أن المسلمين هم أولوا الألباب والعقول
التي لن يعجزها - بحول الله وقوته - أن تجد مثل هذه الوسائل وإن مما يدور في
خلد كثير ممن يحملون هم الدعوة إلى الله أن توجد إذاعة إسلامية تقوم بهذا الدور
بحيث لا تمر مثل تلك القضايا على مقص الرقيب أو منفذ الحدود في طريقها إلى
كل مسلم ولا شك أن هذه الفكرة وأمثالها صعبة التحقيق لوجود كثير من العوائق
التي من أهمها القاعدة الصالحة للانطلاق منها والتمويل.. الخ. ولكنها على آية
حال ليست مستحيلة إذا ما وجدت رجالاً صادقين يقدرون الدور الذي يمكن أن تقوم
به ويبيعون أنفسهم لله، وإني في هذه المناسبة أدعو الإخوة الفضلاء في المنتدى
الإسلامي إلى تبني مناقشة هذه الفكرة ومدى تطبيقها خاصة وأن من أهم ما يجب أن
يراعى في ذلك أن تكون في أيد تحمل عقائد صحيحة حتى لا تكون طامّة على
المسلمين.
البيان: لقد وضع الأخ الكريم إصبعه على لب المشكلة ونحن نشاركه ذلك،
ولكن كيف يتجاوزها المنتدى أو غيره؟ وهل يستطيعون؟ !(43/127)
تعقيبات على بعض
ما جاء في العدد 38
ورد في ص 83 في نهاية المقال لفظ (تقنين شرع الله) والصواب القول:
تطبيق شرع الله، أما التقنين فلا، ولعلها زلة قلم.
وفي ص 85 حديث عائشة في خيل سليمان وهو حديث صحيح كما في آداب
الزفاف للألباني ص 170 (الطبعة السابعة المكتب الإسلامي) والمشكاة (2/ 974)
وصحيح أبو داود (3/932) .
وأما حديث «نعم الجمل جملكما..» فضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد
(9/ 182) لكن ذكر رواية للطبراني في الأوسط وحسن إسنادها وهي:
عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي
فجاء الحسن والحسين أو أحدهما فركب على ظهره فكان إذا رفع رأسه قال بيده
فأمسكه أو أمسكهما قال: نعم المطية مطيتكما وانظر روايات غير هذه في المجمع.
وعند الترمذي وضعفه وهو كما قال عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال كان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حامل الحسن بن علي على عاتقه فقال رجل نعم
المركب ركبت يا غلام فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ونعم الراكب هو
جامع الأصول (9/37) والمشكاة (3/1739) . ورواه الطبراني بقصة لكنها ... ضعيفة (مجمع الزوائد 9/182) .
وقصة النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أطال السجود لوجود الحسن أو
الحسين على ظهره مشهورة صحيحة كما رواها النسائي (1/146 صحيح النسائي)
وانظر صفة الصلاة للألباني (ص 148 ط مكتبة المعارف) .
وحديث «كفوا صبيانكم..» أصله في الصحيحين بلفظ «إذا كان جنح الليل
أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشيطان ينتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من الليل
فخلوهم، واغلقوا..» وفي رواية البخاري: «.. واكفتوا صبيانكم عند المساه فإن
للجن انتشار أو خطفة..»
وفي ص 58 حديث «لأن يمشي أحدكم مع أخيه..» أورده الألباني في
الصحيحة (906) لكن الصواب أنه ضعيف انظر النافلة في الأحاديث الضعيفة
والباطلة تأليف الجويني (2/180) والرواية التي عندهم بلفظ (شهر) وفي المجلة
بلفظ شهرين.
وفي ص 59 حديث «الخلق كلهم عيال الله..» ضعيف انظر السلسلة
الضعيفة (4/374) والنافلة للجويني (53/2) لكن ثبت لفظ «خير الناس أنفعهم
للناس» كما في السلسة الصحيحة (426) (1/712) .(43/128)
الدولة العثمانية
في محكمة التاريخ
عابد حميان
من المفارقات العجيبة حقاً في عالمنا العربي الإسلامي اليوم من يوجه إصبع
الاتهام إلى الدولة العثمانية وسلاطينها، لما لحق بالعالم العربي والإسلامي من رزايا
وتسلط وانحطاط، ولعل من أخطر هذه الاتهامات وأشنعها على التاريخ فضلاً عن
الإسلام أن هذه الدولة لم تكن في يوم من الأيام تمثل الخلافة الإسلامية بشكل أو
بآخر، إضافة إلى ذلك أنها جهاز استعماري استبدادي، وأن سلاطين آل عثمان
ظلمة مستبدون كانوا يلقون خصومهم بالعشرات وإن شئت بالآلاف في البوسفور،
كما كانت لها قوة ضخمة تشتغل بالتجسس وتصادر الحريات العامة في جميع الأقاليم
التي كانت خاضعة لصولجانه.
والحقيقة أن هذه الافتراءات فات أوانها وأصبح بطلانها من نافلة القول، وإن
كانت من النظريات الدخيلة التي يحاول الغزو الفكري والتبشير إذاعتها في الأوساط
العلمية، ولكن لا بأس أن نوضح ثم نصحح تلك المفاهيم متوخين في ذلك القدر
الكافي في استنطاق أحداث التاريخ.
ومن الآراء التي تفند هذه المزاعم مقال طويل كتبه عبد الله النديم في مجلة
«الأستاذ» عام 1893 هـ جاء فيه: «لو كانت الدولة العثمانية مسيحية الدين لبقيت بقاء الدهر بين تلك الدول الكبرى، ولكن مغايرة الدين وسعي أوربا الحثيث في تلاشي الدين الإسلامي أوجب هذا التحامل» . أما محمد عبده الذي قال أثناء إقامته في بيروت عام 1889: «إن الدولة العثمانية وحدها المحافظة على سلطان الدين الكافلة لبقاء حوزته وليس للدين سلطان في سواها» .
أما مسألة ما يقال عن الدولة بأنها كانت تمارس الاستعمار فإنها فكرة مردودة
بحكم التاريخ ذلك أنّ الدولة العثمانية عملت على توحيد الشعوب الإسلامية تحت
سلطة واحدة محاولة الالتقاء والتكامل بين عناصر الأمة الواحدة من عرب وترك
على إثر ضعف المماليك وتعرض بلاد الشام للغزو الصليبي في القرن السادس
عشر ويؤكد العديد من المؤرخين والباحثين المنصفين أن هذه الدولة قد حمت أكثر
من خمسة قرون ظهر العالم الإسلامي من الغزو الصليبي الاستعماري فما إن سقط
أسطولها البحري عام 1837 حتى دخلت فرنسا الجزائر بحملة عسكرية بعد ثلاثة
سنوات (1830) ثم تونس (1881) ثم انعقاد مؤتمر برلين الاستعماري عام 1878
الذي يرمي إلى تقسيم ممتلكات الدولة التي كانت تعرف «برجل أوربا المريض»
حسب زعم تلك الدول.
ويعتبر تاريخ القرن السادس عشر والسابع عشر بداية التآكل على المستويين
الداخلي والخارجي بعد مدٍ وجزر ... وتقدمٍ وتأخر ... وإشراق ونكوص ... انتصار
وخيبة ... فتح واسترداد.. وقد حكمها خلال القرون المتعاقبة العديد من السلاطين،
منهم من امتاز بعظمته كالسلطان مراد الرابع الذي حكم للفترة 1633 - 1640 م
والذي استطاع أن يخلص بغداد قبل موته بسنة واحدة من سيطرة الفرس الصفويين
الثانية على العراق وذلك سنة 1638 م. فاقترن اسه بعد ذلك بـ (فاتح بغداد) .
ومن السلاطين الآخرين - من امتاز - بقله تجربته، وضعف شكيمته كالسلطان
مصطفى الأول الذي حكم للفترة (1622 - 1623) فقد تدخل الجيش في شؤون
الدولة. كما يحتفظ التاريخ للشعب التركي المسلم بمزايا عديدة منها أنه شعب
مناهض متحمس طموح فيه روح الجهاد وكان سليماً بحكم نشأته وقرب عهده
بالفطرة والبساطة في الحياة.
لقد لعبت الطائفة اليهودية المعروفة بـ (يهود الدونمة) دوراً خطيراً في تأليب
الوضع السياسي داخل الدولة بحيث كانت صاحبة اليد الطولى في إنشاء حزب
الاتحاد والترقي المتشبع بالعصبية الطورانية المعادية للعروبة والإسلام حتى يومنا
هذا.(43/130)
شجاعة....
عبد الله العنزي
طلب مقابلتي على وجه السرعة على أن يكون اللقاء انفرادياً،
قلت: عسى أن يكون الأمر خيراً، قال أمر هام وسأخبرك عند لقائنا.
حضر قبل الموعد المضروب وبعد مجاملات الاستقبال قال بصراحة أريد
منك أن تخبرني بعيوبي فإني أثق فيك وفي تقويمك، تملكتني الدهشة لعلمي بمدى
الحواجز بيني وبينه ولعلمي بطبيعته الشخصية التي تأبى النقد وكشف عيوبها،
ولهذا كانت نبرة صوته المنقطعة توحي بمدى المعاناة في قهر كبرياء النفس، وبعد
أن أفقت من لحظة المفاجأة خطر في بالي أن أجامله وأقول له بأني لا أرى فيه عيباً
واحداً يستحق الذكر، ولكن الله عصمني من هذه الزلة - وهي كتمان النصح
للمسلم - فبدأت أذكر له عيوبه عيباً عيباً مستدلاً لكل عيب بموقف يبرهن على وجوده فيه، شكرني بحرارة ثم انصرف واعداً بتلافي تلك العيوب.
كم نحن بحاجة إلى مثل هذا الأخ الذي يطلب النصح ممن يراه قادراً عليه،
كم نحن بحاجة إلى قهر كبر النفس وعجرفتها في هذا الأمر،
كم نحن بحاجة إلى أن نكون مثل هذا الشخص.
إن مما يحز في النفس أن يمضي الإخوة في الله سنين دون أن يبدي واحدٌ
منهم لأخيه عيوبه مع كونه عالماً بها، إن هذا الموقف حتم علي الكتابة لكم حتى
يُقتدى بهذا الأخ والله من وراء القصد.(43/132)
زوجة الداعية
عبد الله الشرايده
إن محاسبة النفس مراراً وتكراراً تساعد على الرقي بمستوى الداعية وبالتالي
دعوته، ومن محاسبة النفس أن يسأل الداعية نفسه:
ما هو دوري تجاه زوجتي؟
هل قمت بنصحها وإرشادها؟
قد يظن ظان أن دور الداعية ينتهي منذ أن يعثر على تلك الشابة الملتزمة
بدين الإسلام والتي ارتضاها شريكة حياته دون سائر الفتيات. ولكن هذا هو جزء
من الدور، والدور الحقيقي هو متابعة النصح والإرشاد بعد الزواج، بالأسلوب
المناسب وبالقدوة الصالحة.
ومتابعة النصح والإرشاد لا تعني المطالبة بأن تكون الزوجة كاملة ولكننا
بحاجة، في هذه الفترة بالذات (فترة بداية الدعوة) ، إلى أن تكون زوجة الداعية
قدوة بمعنى الكلمة وإلا فإن أول أثر سيئ لها سيكون على زوجها حيث ستعيقه عن
الاستمرار في حمل دعوته.
ثم إنّ الداعية الذي يخل بتربية زوجته، أو يتساهل في تعليمها المبادئ
الأساسية في حياة الدعاة إلى الله ستخذله هذه الزوجة في وسط الطريق وهو في
أمس الحاجة إليها، وسيضطر إلى أن يلتفت إليها ويعاود نصحها وإرشادها بعد أن
خسر الكثير. كما أن نقص المفاهيم الأساسية عندها قد يتسرب إلى زوجات الدعاة
الآخرين، وبذلك يكون الداعية قد أضر بدعوته من حيث لا يدري، كما أنه من
الواضح أنّ الداعية الذي يصلح نفسه وزوجته، سيشجع الآخرين ولا شك علي
إصلاح زوجاتهم، لذا فإن مسؤولية تربية الزوجة مسؤولية عظيمة.
إنّ بعض الدعاة يظن أن الرحمة والرأفة يتعارضان مع النصح والإرشاد وهذا
بلا شك فهم خاطئ، لأن الرأفة والرحمة هما من أساليب التربية وليستا مانعين لها
أو متعارضين معها. بل أنّ بعض الدعاة يظن أنّ تربية الزوجة على الأخلاق
الاجتماعية الفاضلة مثل صلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى الناس والقيام
بحقهم وإيثارهم وتحمّل أذاهم و ... ، قد يعدّ ذلك تدخلاً في شؤون النساء الداخلية،
وهذا أيضاً فهم خاطئ لأن ذلك من تمام القوامة التي أمر الله بها والله أعلم، ولأن
الزوجة التي تخل بالأخلاق الفاضلة ستكون عائقاً في وجه اقتداء الناس بها وبزوجها.
إن المفاهيم التي يجب أن تعيها زوجة الداعية كثيرة، نذكر منها ما يلي
باختصار:
أولاً: اقتضاء العلم العمل. وهذا مطلب للجميع وإن تطبيقه في الواقع مما
يشجج الداعية وزوجته ويشيع روح التفاؤل في الأسرة.
ثانياً: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وهو حديث شريف إن
عمل به الداعية وزوجته عصمهما الله من كثير من الذنوب والمعاصي كالغيبة
والنميمة والحسد وما سوى ذلك.
ثالثاً: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وهذا أيضاً حديث
شريف يعين على مكارم الأخلاق كالإيثار ومحبة الخير للناس والفرح لفرحهم
والحزن لخزنهم … إلى غير ذلك من الخصال الاجتماعية الطيبة.(43/133)
بريد القراء
وردتنا رسالة من مدير مكتبة التراث الإسلامي في مصر يعترض فيها على ما
ورد في البيان عدد (40) في نقد الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر لصنيعهم ببعض
الكتب، فعرضنا الرسالة على الكاتب وتفضل بالرد التالي:
... اطلعت على ما في الرسالة التي جاءت إقراراً آخر على ما قلناه، فهو قد
دافع عن عمله في كتاب «السحر والكهانة» وقال: إنه مجمع من كذا ... والمأخذ
كان على عملية التجميع هذه. وإن كان قد كتب في مقدمة الكتاب ما يوضح من أين
أخذه، فإنه في كتب أخرى - لم يشر إطلاقاً إلى ذلك. ومثاله الكتاب الذي يلي هذا
مما أشرت إليه في المقال، وهو ما أصدره عن «أشراط الساعة» وقد أخذه من:
«لوامع الأنوار البهية» للسفاريني، دون أية إشارة، وينبغي التصريح بذلك على
الغلاف، ولا تكفي إشارة عابرة على استحياء داخل الكتاب. وقد أشرت في مقالي
إلى النوعين من العمل، ولكن الأخ الناشر لم يقرأ ما كتبته جيداً. أما مقدمة الدكتور
محمد جميل غازي (رحمه الله) فهي رأي تشجيعي للأستاذ حجاج، ولا تعني بحال
تسويغاً لهذا العمل على هذا النطاق الواسع في تفتيت الكتب حتى يصبح الكتاب
الواحد كتباً عدة، دعك من إضافة فصول من كتاب لمؤلف إلى كتاب لمؤلف آخر -
مما ذكره الأستاذ حجاج نفسه - فأصبح الكاتب مهجّناً.. أليس هذا هو العبث بعينه، وقد أقر الأستاذ بنفسه؟ ! وعلى كل حال؛ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.(43/135)
غربة
شعر: عبد الله الخميس
يستوي الليل عنده والصباح ... ومن العيش بالممات يراح
يعتريه الأسى ويكسوه حزن ... ويُرى منه صبره والكفاح
ملء عينيه سؤله كيف صارت ... من هدي الله أمة تستباح؟
غارة لوعة وظلم كبير ... ولهيبٌ وخسَّة اجتياح
صرخة دمعة وذل عظيم ... ودماء وحسرة وجراح
داعي الخير ناله الظلم ممَّن ... قلبه للفساد والظلم ساح
صوتهم في الخفا وإن جُنَّ ليلٌ ... يملأ الكون في الظلام النِّباح
أيها الطامعون -لا- لن تنالوا ... مطمعاً فارجعوا إلى من أباحوا
ارجعوا أيها الطغاة وإلا ... سينال الرقاب منكم سلاح
سوف يبقى الدعاة كي يطردوكم ... مثلما يطرد الظلامَ الصباحُ
ويعود الربيع من بعد غيثٍ ... وتولي أدبارهنَّ الرياح(43/139)
الورقة الأخيرة
كذب وكذب!
عبد القادر حامد
هل كان الغرب ينتظر هذه النتيجة: انهيار وانهزام الشيوعية كنظام؛
ومصير الاتحاد السوفييتي إلى بوابة المجهول؟ هذا ما هو مشكوك فيه ولم يكن
أكثر المحللين والمؤرخين دقةً يصل إلى توقع ما وصلت إليه الأمور هناك، ولعل
في هذه النهاية عبرة لمن يريد أن يبني نظاماً على فلسفة الكذب.
إن العقيدة الشيوعية اتخذت من الكذب أساساً تقيم عليه تصورات، ووسيلة
تثبت بها أركانها في حياة الناس ولا شك أن ما بني على باطل فهو باطل، وهو -
وإن غرّ كثيراً من الناس بمظهره وتزويقاته وألاعيبه - سيصل إلى نقطة يتعذر
عندها الاستمرار، وسيقف ثم يسقط. وهذا بالضبط ما حصل في دول أوروبا
الشرقية وفي الاتحاد السوفييتي. فآلة الدعاية استنفدت أغراضها، فماذا ينفع الشعب
القول له: إنه عظيم، وإنه جبار، وإنه دولة قوة عظمى، وإن جيشه يعد كذا وكذا
ومسلح بكيت وكيت من أسلحة الدمار النووية ومن الصواريخ العابرة للقارات وهو
شعب جائع، عارٍ، مقهور محروم من أشياء يراها عند غيره من الشعوب، قربتها
إليه وسائل الاتصال، يراها كالأحلام، وتصل حقائقها إليه عبر الحقائب السوداء،
والأسواق السوداء، فلا يستطيع عنها صبراً، وكيف يصبر؛ وقد استمرت
(الاشتراكية) تلح عليه ليتخلى عن عقيدة الصبر التي غرسها في وجدانه
«الإقطاعيون والبورجوازيون ورجال الدين!» ثم بعد ذلك تكتشف هذه الجماهير
المضللة أن الذين يتقلبون في ثمار البورجوازية والإقطاع هم «مبشرو الشيوعية»
أنفسهم: فهم تجار السوق السوداء، وتجار الحقائب: دبلوماسية وغيرها، وهم
اللذين يتشدقون بألفاظ واصطلاحات مثل: «الطهر الثوري» و «المناقببية»
بينما هم يعيشون أضدادها، ويتضمخون بنجاساتها.
قد يمكن لأنظمة صغيرة العيش في ظل سياسة الكذب، ولكن القوى الكبرى لا
تستطيع ذلك، وذلك لأن الأنظمة الصغيرة - عادة - ما تنبري قوى أكبر منها
تسندها، لأن في إسنادها ضمانة لمصالح هذه القوى أو بعضها، ولهذا فإن كيانها لا
على الكذب الخالص؛ بل على مصالح حقيقية، سواء كانت هذه المصالح مكشوفة،
أو مستترة. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يسند نظرية كذبها العقل قبل أن توجد،
وكذبها الواقع بعد أن أوجدت؟ ! من ذا الذي ينفخ الحياة في جسم ميت؟ !
وكذلك فإن الكذب على بضعة ملايين أسهل منه على عشرات الملايين،
والكذب المنوّع أرجى للقبول من الكذب ذي اللون الواحد. فلو نظرنا إلى الأهداف
التي من أجلها يكذب ويتكاذب [1] الناس خلال سبعين سنة (وهي عمر الشيوعية
العقيم) في مجالين: العالم العربي، والبلاد التي شاعت فيها هذه العقيدة؛ لهالنا
تنوع الأهداف في المجال الأول؛ وتفردها وجمودها في المجال الثاني. فمثلاً في
المجال الأول نجد غنى وتنوعاً في هذه الأهداف: التحرر وطرد الاستعمار،
الدخول في العصر الحديث، رفع راية الإسلام، رفع راية القومية العربية، الوحدة
العربية، تحرير فلسطين، بناء المستقبل، تحرير الأرض، إزالة آثار العدوان،
الصمود والتصدي، التوازن الاستراتيجي، السلام القائم على العدل، السلام،
الوفاق، ... الخ ... أما في المجال الثاني: فهو هدف واحد يبدأ من البروليتاريا
وإليها يعود، ويدور حول البيان الشيوعي وأسطورة وحدة عمال العالم ووحدة
العمال والفلاحين.
ما أغنانا بالأهداف والأساليب!
وما أفقر الشيوعية والشيوعيين.
ولا عجب! فأرضنا مهد الحضارات، ونحن أساتذة العالم! أليس كذلك؟ !
__________
(1) التكاذب: أن يكذب كل واحد على الآخر، أو كل جهة عل الأخرى، وهما يعلمان أن كلاً منهما كاذب ومكذوب عليه.(43/143)
ربيع الأول - 1412هـ
أكتوبر - 1991م
(السنة: 6)(44/)
جمادى الأولى - 1412هـ
نوفمبر - 1991م
(السنة: 6)(45/)
الافتتاحية
في اللهب ولا نحترق!
إن الأمم والشعوب كالأفراد، يقلد بعضها بعضاً، ويتأثر ويؤثر بعضها في
بعض، وهذا أمر طبيعي وسر من أسرار الصراع الذي تقوم عليه الحضارات.
وهذا التأثر والتأثير: بعضه ما تسعى إليه الجهة الغالبة، على غير رغبة من
المغلوبة، وبعضه ما تسعى إليه الجهة المغلوبة على غير رغبة من الغالبة..
ونحن - المسلمين - لا نشذ عن هذه القاعدة فقد أثَّرنا وتأثرنا، واقترضنا وأقرضنا، سواء عن رضا ووعي، أم عن كره وإذعان. غير أن كفة الاقتراض والاستدانة قد بدأت ترجح يوماً بعد يوم، حتى وصلنا إلى مرحلة الإفلاس والاعتماد على الاستدانة في جميع المجالات تقريباً.
ومنذ أن دَهَمنا الغرب دَهْمَتُه الثانية بحضارته الوثنية المسيحية، قبل حوالي
قرنين تقريباً، ونحن نتخبط كالعميان في ظلمة مطبقة، نحاول المخرج من هذا
المصير الذي صرنا إليه، وكلما ظننا - أو ظن بعضنا - أننا كدنا ننجو، جَبَهَنا
جدار جهم قاسٍ، فأصابنا دوار يشل الحركة زمناً، ثم ننهض نتلمّس المخارج من
جديد. ولا ننفك - ونحن في هذه الحالة البائسة - عن التلاوم وتبادل التهم التي
تؤدي كثيراً إلى أن يأخذ بعضنا برقاب بعض، وتشحن القلوب، وتنتفخ الأوداج،
فمن ملقٍ سبب ارتطام رأسه بالجدار على زيد الذي لم يحذره، وآخر على عبيد
الذي قاده إلى ذلك، وثالث على الجدار نفسه أنْ كان صلباً قاسياً، ولم يكن لينا
كالعجين يجد الناطح في نطحه متعة! وننسى أننا عميان، أو كالعميان، وغفلنا عن
السبب الأساسي لما نعانيه، وهو فقدان الحاسة التي بها نرى ونبصر.
نقف اليوم على عتبة مرحلة يبدو أنها جديدة و (منعطف تاريخي حاسم) بلغة
مفكرينا الذين يكتبون ويخطبون [1] . وكاتب هذه السطور ما زال - منذ نعومة
أظفاره - يسمع ويقرأ عن (المنعطفات التاريخية الحاسمة) في تاريخنا الحديث،
وبينما كانت هذه المصطلحات تعجبه بطنينها ورنينها وهو صغير؛ دون أن يفهم
مدلولاتها ومراميها، إذا به يكتشف بعد برهة - وقد زالت الأغشية عن بصيرته -
أن هذه الكلمات استنفدت أغراضها، وجفت عصارتها، وأن مكانها المناسب هو
(سلة المهجور من الكلام) الذي تتجوزه الفِطَرُ البشرية لأنه لم يعد يعبر عما في نفوسها، ولم يعد مرآة صقيلة ناصعة تنعكس عليها نفس متحدثيها واضحة محددة صحيحة.
وإذا استعملت هذه الكلمات، مع هذا الموقف منها؛ فلأنني متأثر بما حولي،
ومنفق من (عملة) زمني، وهدفي أن أصل بالقارئ إلى هذه المرحلة التي نحن
وأجيالنا الآتية مقبلون عليها.
لقد وصلنا إلى هنا، حيث فقد الناس الثقة بكل ما نصب من الأصنام خلال
تاريخ العرب الحديث. أخرجوا المستعمرين من الأبواب فجاؤوهم من النوافذ، آمن
بعضهم بالشيوعية والاشتراكية فماتت وبالت عليها الثعالب، وضعوا ثقتهم في ما
سمي بالثورات فاحرقت هذه الثورات الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنسل
واستأصلت الزرع، وجففت الضرع.
وقد تميزت هذه الفترة بأمرين متزامنين تقريباً، يحسن الوقوف عندهما
لاستشراف نتائجهما وهما:
1- سقوط الشيوعية وتمرد الشعوب التي كانت محكومة بها عليها، قبل
حرب الخليج وبعدها.
2- حرب الخليج نفسها، وما تمخض عنها من نتائج مأساوية على العرب
بشكل خاص، وعلى الأمة الإسلامية بشكل عام.
وقد استبشرت شعوب كثيرة بسقوط الشيوعية، ورأت في ذلك مؤشراً
وإرهاصاً لما تتمناه من تغيير هي بحاجة ماسة إليه، ولم يقتصر هذا الاستبشار
على الشعوب التي اكتوت بنار هذا المبدأ الخبيث بشكل مباشر، بل إن شعوباً كثيرة
اهتزت فرحة لهذا السقوط - وإن لم تطبق عليها الشيوعية بحذافيرها - بل لأن
الأنظمة التي جُرّبت عليها كان فيها شبه ما بالأسلوب الذي طبق في روسيا وأوربا
الشرقية والصين وغيرها ... نعني به أسلوب الكبت والقهر والعسف وتكميم الأفواه
ومصادرة الحريات والاستهانة بالإنسان من حيث هو إنسان، وجعل السلطة والتنعم
بخيراتها حكراً - في دائرة مغلقة من المقربين والمحاسيب، دائرة لا يدخلها إلا من
رضي بالدون واستهان بالقيم، ورضي أن يقاد من أسوأ جانب يقاد منه الإنسان
وهو جانب الشهوات والجري وراء حظوظ النفس الرخيصة.
لكن على الرغم من هذه التغييرات العميقة هنا وهناك؛ فقد ظلت شعوب
ترسف في واقعها المر الذي فرض عليها فرضاً، وينتقل بها من سيء إلى أسوأ،
وإن العاقل الذي يحاول استخلاص جامع يجمع هذه الشعوب يكتشف بأدنى نظرة أن
صفة مشتركة تجمعها وهي الإسلام الذي ما زال عبر القرون - ولن يزال - العدو
الأول للغرب (الوثني المسيحي) . إن كثيراً من أبناء جلدتنا المخدوعين يظنون أن
الحضارة الغربية اليوم لا صلة لها بوثنية ولا بمسيحية، بل هي قائمة على مصالح، وأن المجال مفتوح للعرب للتأثير في هذه المصالح. وهذا ظن مضلل لأنه في
حقيقته دعوة للعرب وللمسلمين أن يتخلوا عن عقيدتهم وتاريخهم، وأن يبنوا
خططهم على المصالح الآنية كالغرب. وسبب الضلال والتضليل كامن في هذه
الدعوى، وهو الاعتقاد بأن الغرب الذي يعبد المادة قد تخلى عن عقائده وتجاهل
عن تاريخه. إن التاريخ الذي يصوغ عقلية الغربيين والذائبين في حضارتهم هو
مزيج من الوثنية ومن المسيحية المحرفة والخاضعة للمفاهيم الوثنية، فهو تاريخ
وثني في منطلقاته وأهدافه مموه ببعض التمويه المسيحي، واليوم - ونحن نرى هذا
الرجل الغربي وقد تمرد على الأديان كلها - ومنها النصرانية نفسها- فلأن المسيحية
التي عهدها لم تعد قادرة على تمويه هيكل الحضارة الوثنية الذي كبر وتشعب
وأصبح له كثير من الرؤوس المخيفة التي يعجز طلاء المسيحية الهش عن سترها
وتجميلها وتغطية القبح البادي منها.
ولكن مع كل هذا فلا زال هذا الغرب على الرغم مما صار إليه، يزعم ويظن
أنه على شيء من المسيحية التي دان بها أجداده، وعملوا باسمها أعمالاً يرى هو
أنها أعمال عظيمة، ويتصور أنه حامل هذه المفاهيم وأن هناك دوراً ينتظره، ومن
يستعرض خطب (بوش) وأحاديثه أثناء وبعد أزمة الخليج يكتشف بسهولة أنه
الناطق الرسمي المعاصر للتاريخ الغربي الوثني المسيحي، وأن لا شيء جديد في
النظام العالمي الجديد الذي يبشر به هو وفريقه، بل هو (خمر عتيق في دنان
جديدة) .
ونريد أن نخلص من هذا الاستطراد الذي لا جديد فيه إلى التساؤل:
* ألا يحق لنا نحن - المسلمين - أن تكون لنا مطامح كسائر البشر وأهداف
عليا نعمل من أجلها ونتنافس مع غيرنا من البشر لتحقيقها؟
* هل عقيدتنا الإسلامية بمثل هذا السواد؛ وتاريخنا الإسلامي بمثل هذا العار
حتى نتهرب من تبعاتهما ونتخلى عنهما - كما نفعل الآن - ونلهث وراء السراب
فنضع ثقتنا كلها في الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة؟
* هل صحيح أن منطقتنا قد وقعت وقوعاً لا رجعة فيه تحت الهيمنة المطلقة
لواضعي (النظام العالمي الجديد!) وأن ذلك أصبح قدراً مقدوراً وكتاباً مسطوراً؟
هذه الأسئلة وغيرها نابعة من الواقع الذي نعيشه، كل الأمم تحاول أن تجدد
في حياتها باستقلالية ودون وصاية إلا نحن، لا يسمح لنا أن ننظر إلى المستقبل
بأعيننا بل بأعين غيرنا، ولا يؤذن لنا أن نقرأ تاريخنا بعقولنا بل بعقول من
صنعهم التبشير وعبيد الغرب، ولا يراد لنا أن نعيش بشراً كالبشر بل بشراً
منزوعةً عنهم مميزات البشر،
أبناء المسلمين (لحم على وضم) [2] ودم مستباح مطلول لا يستقاد له،
وأموالهم نُهبى لكل طامع، وغيرهم يمشي مرفوع الرأس على أرضهم، مضمون
الحقوق، سالماً من المحاسبة على كثرة المخالفة، بينما هم المتهمون في أرضهم
حتى تثبت براءتهم، وحالهم اليوم ليست بعيدة من الحال التي وصف فيه الشيخ
محمد عبده أهل مصر في عهد حكم محمد علي وأسرته حيث قال:
(أخذ (أي محمد علي) يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان ...
يحن لشَبَهٍ فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في
البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أية
وجهة.. فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي
لتصير البلاد المصرية جميعها إقطاعاً واحداً له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة
كانت لأمراء عدة.
ماذا صنع بعد ذلك؟ .. اشرأبت نفسه لأن يكون ملكاً غير تابع للسلطان
العثماني.. فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوروبيين فأوسع لهم في
المجاملة وزاد لهم في الامتياز خارجاً عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين
الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوك منهم - لم يكن يملك قوت يومه -ملكاً من
الملوك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل. وصغرت نفوس الأهالي
بين أيدي الأجانب بقوة الحكم، وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حرم منها،
وانقلب الوطني غريباً في داره، غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد
المصرية ذلان:
1- ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة.
2- وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم غير واقف عند حد أو
مردود إلى شريعة) [3]
عجباً لهذه الأمة - الأمة الإسلامية! لقد مَرَنَتْ على الظلم حتى كدنا نقول:
إنها تستحلي طعمه، وتجد في ممارسته عليها لذة وأي لذة! وقد شاء الله لها هذا
الموقع لتستفيد العبر ممن يعبرها مُشرَقَّاً ومُغَرَّباً، وتقطف ثمار التجارب دون كبير
عناء، ولكننا نكاد نقول: تحجرت وفقدت الحس، الأمم تمشي وهي واقفة،
والأحداث تتوالى وهي تقابلها بهز الكتفين. وفي هذا الليل المدلهم، يبزغ نور حق
هنا ويرتفع صوت مخلص هناك، سرعان ما يكبته الكابتون ليعود بعد ذلك صوت
ونور آخر من حيث لا يحتسبون صارخاً في الأمة أن أفيقي فقد طال السبات ويكون
مصداقاً واقعياً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على ...
الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [4] .
إن المسلمين ليتطلعون - في هذه الفترة العصيبة - إلى تغيير يمسُّ الأسس
التي تقوم عليها حياتهم المعاصرة، ولن تجديهم بعض التعديلات السطحية التي
تجري للدعاية والخداع، ولا يحل عُقَدَهم؛ ولا يطلق طاقاتهم إلا تجديد قائم على
العقيدة الإسلامية، وليس تقليداً لأفكار الغرب وصنائع الغرب وعبيد الغرب
المفروضين عليهم بشتى الوسائل غير الأخلاقية الظاهرة والمستترة. لقد آن الأوان
للمسلمين - في كل بلد - أن ينظروا إلى أنفسهم ويوحدوا جهودهم ويكثفوها
للخروج مما هو مضروب عليهم، وأن تكون لهم أهداف كبيرة، وأن لا تشغلهم
الصغائر والمثبطات التي ينفذ منها الشياطين ويستغلونها لضربهم وتفريق جمعهم.
... (حتَّامَ نحن نساري النجمَ في الُّظلمِ) [5] ؟ !
__________
(1) كثير من الناس يجادلون في هذه الدعوى، وفي حججهم الكثير من الحق.
(2) الوضم: لوح الخشب الذي يقطع عليه الجزار اللحم، وهذا مثل للذليل ولمن لا يستطيع ردَّ الظلم عن نفسه.
(3) من مقال للشيخ محمد عبده بمناسبة مرور مئة سنة على تسلم أسرة محمد علي الحكم في مصر، انظر الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده 1/721.
(4) صحيح مسلم 3/1523 ط محمد فؤاد عبد الباقي.
(5) صدر بيت للمتني، وتكملته:
وما سراه على خفٍ ولا قدمِ.(45/4)
مقابلة
حول الفقه والتفقه
حوار مع الشيخ علي بن سعيد الغامدي
زار المنتدى الإسلامي هذا الصيف الشيخ الدكتور علي بن سعيد بن علي
الغامدي فكانت فرصة للحوار حول الفقه والتفقه.
* البيان: نرحب بكم في المنتدى وشكراً لزيارتكم، وفي البداية نود إعطاء
القارئ لمحة عن حياتكم العلمية:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
درست المرحلة الجامعية في كلية الشريعة بالرياض، أما الدراسات العليا الماجستير
والدكتوراه ففي كلية الشريعة بالأزهر، والعمل الآن في جامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية، بين كلية أصول الدين وكلية الشريعة ثم المعهد العالي للدعوة في
المدينة المنورة، وإلى جانب ذلك فإني أدرس في المسجد النبوي الشريف.
* البيان: ما هي المادة التي تدرسها في المسجد النبوي؟
مادة الفقه، أدّرس كتاب (منار السبيل) وقد أنهينا منه جزءاً طيباً ولله الحمد..
* البيان: ما دمنا بدأنا الحديث عن دروس الفقه، فما رأيكم بطلاب العلم
الذين يحضرون دروسكم في المسجد؟
لا شك أن الناس في حاجة ماسة إلى الفقه لأن الفقه يمس حياتهم، فهم
محتاجون إليه في كل شيء، والناس في وقتنا الحاضر والحمد لله يقبلون على
الخير وعلى العلم، ولكن هم أنواع وأقسام، فمنهم من يود التفقه بأسرع وقت ممكن، وهذا صعب المنال، ومنهم الملتزم الذي يستطيع الإقبال بجد وعلى النفس الطويل، ويتواضع لله ثم لأهل العلم، ويلازم حلقة التدريس ويسأل عنها، عدد هؤلاء قليل
ولكنه مبارك إن شاء الله، ويتميز هؤلاء بالحضور المبكر وحسن التواضع
والاستماع والمناقشة سواء في أثناء الدرس أو بعد الانتهاء. وهناك آخرون من
عامة الناس يحضرون في المناسبات وتشدهم بعض الدروس فيستمعون ويستفيدون.
* البيان: بالنسبة لهؤلاء الطلبة الذين يداومون هل ترون أنهم إذا أنهوا كتاباً
معيناً فإنهم يصبحون أهلاً لتمكن المعرفة والتعليم؟
ليس كل الطلاب، فالقليل الذي يدرك المسائل التي درسها واستفاد منها،
وهذا نادر لأن مراجعاته مثلاً تكون جيدة ومستمر مع الكتاب وهؤلاء ظروفهم صعبة
لانشغالهم بالدروس الأخرى.
* البيان: بدأنا الحديث عن حلقات العلم ودروس المساجد، هل ترون تعميم
هذا الأمر، أعني الرجوع إلى حلقات الدرس المعروفة في تاريخ المسلمين، لعلها
تعطي فائدة أكثر من المدارس العادية؟
بدون شك إن الرجوع للحلقات العلمية في المساجد هو طريق صحيح، لأن
الدراسة بالمسجد يحيط بها جو روحاني، والشيء الثاني أنه لا يأتي إلى الحلقة إلا
طالب علم محب للعلم، أما الدراسة النظامية في الوقت الحاضر فقد أصبحت
مفروضة على الناس، ومَنْ لا يتجاوز هذه المراحل فإنه لا يستطيع شق طريقه في
الحياة، ويمكن الجمع بين الأمرين وهو إخلاص النية في الدراسة في الكليات ثم
يضم إليها حلق العلم في المساجد.
* البيان: ما هي الخطة التي اختطها لنفسك في درسك بالمسجد النبوي،
فلعله يستفيد منها من يود إعادة هذه الحلقات إلى المساجد؟
الخطة كانت حسب الوقت المتاح. قراءة كتاب (منار السبيل) ، يقرأ الطالب
جملة صغيرة وشرحها بما يسر الله من ذكر الحكم والأدلة، وأحياناً نشير إلى
الخلاف. وعندما ينتهي الطالب من القراءة أبدأ في عرض المسألة وأبين الحكم
الذي عرض وإذا كان هناك تعريف أشرحه، وإذا كان هناك تأصيل بذكر الأدلة من
الكتاب والسنة والإجماع أذكره.
وكذلك أذكر أحياناً حكمة الشارع في مسألة من المسائل من غير تكلف،
وأتعرض لما يثار حول هذه النقطة أحياناً من خلاف له ثمرة وخلاف له دليل، أما
الخلاف البسيط أو الذي دليله ضعيف فأتركه لأن إثارة الخلاف في هذه المسائل
ليس فيه مصلحة. ومع معرفة الحكم والدليل فإنه إذا عرض خلاف قوي ودليله
أقوى مما ندرس وهو على مذهب الإمام نختار الأقوى وما هو أقرب إلى الدليل بعد
بحث مستفيض قبل المجيء إلى الدرس، ثم هناك جانب آخر وهو التوجيه والدعوة
من خلال النصوص التي تعرض المسألة، فإن جو المسجد النبوي أو أي مسجد هو
جو تربوي.
* البيان: إذا كان هناك مسألة في مذهب الإمام أحمد وهناك ما هو أرجح
منها في المذاهب الأخرى أو عند العلماء المعتبرين هل تبينون للحضور أنها مسألة
مرجوحة؟
لا شك في هذا لأن طبيعة دراستي كانت في الفقه المقارن، ولقد اطلعت بحمد
الله على الأقل على أصول كل مذهب من المذاهب، وكما هو معلوم فإن هذه
المذاهب أخذت من الكتاب والسنة، وكان لكل إمام أصوله التي أصل عليها وله
رأيه المعتبر، فأحياناً نميل إلى قول غير قول المذهب الحنبلي، وإذا كان هناك
مسألة من المسائل في فقه الخلاف نعرض لما اختاره الأئمة المحققون الذين جمعوا
الأقوال وجمعوا الأدلة واختاروا، فنحن نستأنس بذلك أيضاً، ثم ننظر في حال
المستفتي وحال الواقعة وحال الزمن الذي يعيش فيه، فلا شك أن هذه الأشياء
مرجحات لمأخذ القول، والمهم أن يكون هذا القول مبنياً على الدليل الصحيح.
* بعض الناس يرون أن هذه الكتب (كتب المذاهب) تعود الطالب على
التعصب ويجب الرجوع إلى كتب فقه الحديث مباشرة مثل: نيل الأوطار، أو سبل
السلام ... فما رأيكم؟
هذا في نظري غير صحيح، والسبب هو أن هؤلاء العلماء ما وصلوا إلى
هذه الشروح إلا بعد أن درسوا كتب المذاهب ومروا بحلقات العلم، ولهذا نجد أنهم
في كتبهم وشروحهم يذكرون الأقوال ويناقشون الأدلة، وهذا دليل على أنهم مروا
بهذه المرحلة، وهذا في نظري هو الأفضل، فلا بد أن يصعد الطالب درجة درجة، طبعاً مع تزوده من الكتاب والسنة وشروحها، كأن يأخذ الطالب مختصراً من
المختصرات ثم يقرؤه على شيخ ويطالب بالدليل، والمطالبة بالدليل ظاهرة
صحيحة، ولا يبأ بالمقارنات وهو ما زال في أول الطلب، فإنه ليس أهلاً لهذه
المقارنات، وفي هذه الحالة يستطيع أن يؤسس نفسه على الأقل.
* البيان: ولكن كيف نستطيع التخلص من موضوع التعصب المذهبي وفي
الوقت نفسه نستفيد من الفقه الإسلامي الذي هو ثروة عظيمة للأمة الإسلامية؟
لا شك أن هذا الكلام كلام صحيح، ولعلّ الشوكاني -رحمه الله- ممن دعا
إلى هذا في كتابه (طلب العلم) وغيره، لكن يجب أن ندرس الظروف التي ظهرت
فيها مثل هذه الفتاوي، ولقد وقع التعصب المذهبي فعلاً إلى درجة أنه يتوقف عن
أخذ الدليل الذي يعتبر مخالفاً لقول إمامه ولا يتراجع عن رأيه الخطأ، ويقول: لقد
فرغ الإمام من دراسة الأحكام واستنباطها، فلم يبق لنا في الكتاب والسنة إلا القراءة
للبركة! وهذا عين التعصب. ولكن كما ذكرت، الاستفادة من الفقه الإسلامي
الموجود أمر ضروري جداً كمرحلة أولى، والأصل مع الدليل، ولكن يؤسس نفسه
أولاً، وكل العلماء السابقين كانوا يقولون: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ويقولون: خذوا مما أخذنا منه، لكن بشرط أن نصل إلى المرتبة التي تؤهلنا لذلك، والكتاب
والسنة والحمد لله ميسران، ولكن النصوص فيها عام وخاص، ومطلق ومقيد،
وفيها أيضاً محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فليس لنا الحق في أن نأخذ مثلاً
بالمنسوخ ونجلس وننتظر فترة من الزمن حتى نعرف الناسخ مع أننا نستطيع أن
نصل إليه في وقت يسير بالعلم والتعلم.
* البيان: سمعنا أن لكم جهوداً في دراسة كتاب (المغني) لابن قدامة، هل
لكم أن تحدثونا عنها؟
الجهود هي دراستة اختيارات ابن قدامة -رحمه الله-، وهي موضوع رسالة
الدكتوراه، كانت حول فقه الخلاف، وهذه المسألة أرجو أن أكون قد استفدت منها
أولاً لنفسي وأنني أخرجت شيئاً من الفقه المحرر المجموع، وذلك بأنني أستعرض
المسألة، وليس كل مسائل الخلاف، ولكن أهم مسائل الخلاف، مثلاً آخذ رأس
المسألة ثم أذكر أقوال أهل العلم من كتبهم الخاصة المعتمدة عندهم وأشير في
الهامش إلى المراجع، وأحاول أن أحرر المذهب نفسه لأنه أحياناً يكون في المذهب
نفسه أقوال وروايات، وإذا قلت: قال الشافعي أو مذهب الشافعي فإنني أرجع إلى
أصوله كالأم مثلاً، ثم بعد ذلك أستعرض الأدلة من كتب المذاهب الموجودة وأجمع
أدلة هذا القول. ثم بعد ذلك أستعرض القول الثاني وأذكر أدلته، ثم أذكر اختيار
ابن قدامة وما مال إليه من الأقوال، وقد يكون لي أحياناً موقف معين، لأنني لا
أكتفي بهذا بل أدرس رأي المحققين: كالخطابي، وابن عبد البر، وابن تيمية،
وابن دقيق العيد، وكذلك مثل ابن القيم، وابن حجر، رحمهم الله جميعاً، هؤلاء
جمعوا الأقوال وأدلتها وناقشوها، فقد يكون لي أحياناً موقف يتناسب مع ظروف
الوقت الحاضر، كما في إحياء الموات بالنسبة للكافر، والشفعة وما أشبه ذلك،
فيكون لي رأي يخالف الشيخ أميل فيه لبعض آراء الآخرين لمصلحة تتحقق.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (يتبع)(45/11)
بيان من بعض علماء الأزهر
عن حرمة معاملات البنوك
د. محمد المختار المهدي
هذا بيان أصدره بعض علماء الأزهر ممن يدّرسون في جامعة أم القرى في
مكة المكرمة رداً على مفتي مصر في موقفه من بعض المعاملات الربوية.
- البيان -
الحمد لله الحكيم في شرعه، الحفيظ على دنياه، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد المبلغ عن ربه، المبين لحكمه، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه.
أما بعد:
فإن هناك حقيقة غائبة عن المجتمعات الإسلامية الآن، ولها خطورتها- في
تعمية السبل أمام نهضتها من كبوتها، وكنا نظنها واضحة لدى النخبة المثقفة فيها،
وخاصة من أبناء الأزهر، حتى فوجئنا وفوجئ الفكر الإسلامي الحديث كله بما
صدر عن الشيخ محمد الطنطاوي مفتي مصر بشأن شهادات الاستثمار مرة، وفوائد
البنوك ومعاملاتها مرة أخرى، ثم اختلاط الفتيات بالشبان في الجامعات
والمعسكرات أخيراً.. هذه الحقيقة الغائبة تتلخص في أن الإسلام لا يمكن تطويعه
لأوضاع نبتت في غير أرضه؛ إذ هو القيم المهين على ما سواه من أديان وأنظمة
وقوانين.
إنه قد جاء ليغير ما عليه المجتمعات من أنظمة وضعية فاسدة اعتماداً على
بديهة إيمانية هي أن الله يعلم المصلح من المفسد، وأن كل ما يخالف تشريعه فهو
هوى يفسد السموات والأرض، قال تعالى:
[ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم
بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ] .
وأن الإيمان منفي عمن لا يكون هواه تبعاً لما جاء به الشرع الحنيف.
وقد نتج عن غياب هذه الحقيقة ظاهرة غريبة تحاول أن تفرض الواقع
المستجلب من بيئة لا تؤمن بضوابط الوحي الخاتم على ما جاء به الإسلام من
تشريعات، هادفة لإخضاع الإسلام للواقع مهما كان هذا الواقع، مستخدمة أسلوب
الادعاء بأن باب الاجتهاد مفتوح لمن هب ودب.
وقد تعلمنا من وقائع التاريخ الحديث - منذ قدر للاستعمار أن يتحكم في بلاد
المسلمين، وينحي عنهم تشريعهم - أن أعداء الدعوة الإسلامية يحاولون بشتى
الطرق - وبإصرار غريب متواصل - أن يغيبوا عن المجتمع الإسلامي نموذج
الحياة الفاضل العادل الذي تكفل سابقاً بتقدمه ومجده، وأن يعملوا على إبراز نموذج
الحياة الغربية على أنه المثل الذي لا بد من السير خلفه مهما كان فيه من عورات،
ولذا نراهم يثيرون بين الحين والآخر قضايا انتهى الفكر الإسلامي المستنير من
قتلها بحثاً، ولكنهم يستغلون في ذلك بعض المثقفين على غير وعي منهم، وإننا
لنشهد لهم بالمهارة في اختيار الضحايا. وهذه القضايا هي التي بثها الاستعمار
الفكري في أوائل هذا القرن، إننا مازلنا على ذكر من إثارة الشكوك حول صلاحية
التطبيق الإسلامي في العصر الحاضر، وما كتب فيها من المخدوعين المغرر بهم.
وما أثير في الستينات من تطويع بعض تشريعات الإسلام للفكر الاشتراكي، حتى
ظهر من يقول: إن الإسلام هو الاشتراكية، وما أثير من التشكيك في موضوع
انطباق وصف الربا على فوائد البنوك وصناديق توفير البريد حتى يقال حينئذ: إن
الإسلام هو الرأسمالية! والإسلام إسلام قبل ظهور هذه المذاهب الوضعية الفاسدة.
والآن تطرح معظم هذه القضايا بنفس الحجج التي أثيرت بها من قبل ولكن بأسلوب
آخر ... والذي يهمنا منها الآن ما خرج علينا به الشيخ المفتي بما لم يكن في
الحسبان، وبما كنا ننأى به عن الوقوع في هذه الخطيئة.. إن الجديد في كلام
الشيخ أن خياله قد سرح وجنح وتصور - أو صور له - إن البنوك قبل أن تنشأ في
المجتمع الإسلامي جمع ولي الأمر علماء الأمة وخبراءها واستشارهم في أنظمتها
ولما وجد أن ضمائر الناس قد فسدت قرر إلغاء شرط المضاربة، وفرض على
البنوك أن تحدد الفائدة مقدماً لأن ذلك هو الذي يصلح للمجتمع! !
ونسأل الشيخ: هل نظام البنوك في مصر يختلف عن بقية بنوك العالم؟ !
وهل جرى لكل بنوك العالم مثل هذه المراجعة والتقويم من ولاة الأمر وهم كفار؟ !
ثم متى كان هذا اللقاء بين ولي الأمر وعلماء الإسلام حين استشارهم في ذلك كما
تدعي؟ ومن كان ولي الأمر حين أنشئ بنك باركليز مثلاً في مصر؟ ! وهل كان
المجتمع الإسلامي وقت إنشاء البنوك فيه يملك قراره؟ ! ألم يكن مذلاً مقهوراً
منبهراً بالحضارة الغربية، والقوة الغازية الغالبة؟
ومع ذلك ففي كلام المفتي مغالطات لا تخفى على ذي بصيرة، فبالرغم من
أن الشيخ يعيب على من يتوقع الخسارة في عملية المضاربة بأنه متشائم نجده هنا
يفترض في المجتمع فساد الضمائر ويحسب نفسه بذلك متفائلاً! ثم إنه يحكم
المصلحة في النصوص بما يؤدي إلى تعطيل جميع النصوص من وجهة نظر
المصالح المعتمدة على الأهواء إن في الخمر مثلاً مصلحة ومنفعة، بل فيها منافع
للناس كما صرح بذلك القرآن الكريم: فيها مصلحة للصانع وللبائع، بل وللمتعاطي
من وجهة نظره، فهل نلغي نص تحريم الخمر من أجل هذه المنافع؟ ! ! ! وهكذا
في الزنا وفي غيره مما فصل الشرع فيه بحكم يتعارض مع بعض الأهواء
والمصالح! !
ولقد توقعنا أن تنشر جريدة الأهرام التي أعلن فيها المفتي في عدد 29/5/
1991 حل المعاملات البنكية ما جاءها من ردود الغيورين على الدين من العلماء
الأثبات؛ إذ هي التي أعلنت فتح المجال للمناقشة، ولكنها سكتت وأغلقت الباب
الذي فتحته على مصراعيه للمفتي فقط ولم تسمح أجهزة الأعلام الرسمية الأخرى
بنشر ما يخالف وجهة نظر المفتي لأنها ملتزمة برأيه فقط، ولو كان الرأي المخالف
صادراً من الإمام الأكبر ومن مجمع البحوث الإسلامية ومن جامعة الأزهر لدرجة
أن نائب رئيس تحرير الأهرام الأستاذ رجب البنا يعلن بعد كلام المفتي تأييده لرأيه
ملقياً تهمة العمل لحساب البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال الإسلامية على
كل من يعارض المفتي! ! وهذا لون من ألوان الإرهاب الفكري الذي تمارسه
أجهزة الإعلام ضد علماء الإسلام ودعاته.
على كلٌ فالذي يهمنا هو المسلم الذي يريد أن يرضي ربه، ويريح ضميره،
ويعرف الشرع على حقيقته، كما يهمنا أن نبلغ عن الله، ونحذر من التمادي في
معاصيه، ومن التعرض لحربه المعلنة حتى ننجو من مساءلة الله وعذابه, فالساكت
عن الحق شيطان أخرس والنصيحة واجبة على كل مسلم لله ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم. من هنا نقدم هذا البيان للأمة من أقدس بقعة من الأرض من
جوار بيت الله العتيق، ومن علماء الأزهر الذين استنفرهم الله -عز وجل- ليتفقهوا
في دينه ولينذروا قومهم لعلهم يحذرون.
إن شريعة الإسلام محكمة خالدة، لا يعتريها تحريف ولا تبديل؛ إذ أحاطها
الله بحفظه وقدرته، ورد عنها كيد المحرفين الذين يريدون أن يخضعوها لأهوائهم،
وسخر لها من العلماء في كل جيل من ينفي عنها مغالاة الغالين وانحراف المضلين،
وكم من شبهة أثارها أعداء الله على مر الأجيال فوجدت من حراس الشريعة سهاماً
نافذة قضت عليها، وكم من رأي شاذ خارج عن إجماع الأمة قد فنده الراسخون في
العلم، وكم من تهمة ألقيت على تشريعات الإسلام فردها الله في نحور الكائدين.
ومن البديهيات التي لا تقبل المناقشة أن فكرة البنوك مبنية أساساً على
المعاملات الربوية وأن وظيفة البنك -كما يحددها أهل الاختصاص الأمناء - ما هي
إلا التعامل في الديون أو القروض أو الائتمان، ويشمل هذا التعامل شقين: الأول:
الاتجار في الديون والقروض والائتمان. والثاني: خلق الديون والقروض ...
والائتمان.
والدين والائتمان هما وجها القرض، فمن وجهة نظر المدين يسمى ديناً،
ومن وجهة نظر الدائن يسمى ائتماناً، ولذا يمكننا القول أن البنوك تتاجر في النقود، ولا تتاجر في النقود، وأنها امتداد السلوك اليهودي الذي كان مشهوراً لدى العرب
وغيرهم، حيث كان يضع اليهودي نقوده على المنضدة ليقرض المحتاج بفائدة
تزداد بمضي المدة التي تبقى فيها النقود عند من يقترضها، وقد بقي اسم البنك دالاً
على هذه الصورة المقيتة، ومن البدهيات كذلك أن البنوك التجارية وهي أكثر
البنوك العاملة في مصر وغيرها ما هي إلا واسطة بين المودع والمقترض: فهي
تأخذ الوديعة من صاحبها وتحدد له نسبة مئوية سنوية معلومة من قيمة هذه الوديعة، ثم تعطي هذه الوديعة لمن يريد استثمارها أو لمن هو محتاج إليها في ضروراته
بنسبة مئوية سنوية أعلى والفرق بين النسبتين هو الذي يعيش عليه العاملون في
البنوك، وإذا شارك البنك في تأسيس شركة أو مصنع فإنه يشتري أسهماً محددة
بنسبة ضئيلة يحددها القانون ويفرض على البنك أن يكون الجزء الأكبر من أمواله
قابلاً للسيولة السريعة.
وعلى هذا يكون من الظلم والتعسف والافتراء افتراض أو تخيل أن البنك
يعمل بنظام المضاربة الشرعي، فنظام البنوك في العالم متحد، والمضاربة
الشرعية كما وضحتها كل أجيال الأمة المسلمة من العلماء والأئمة الأربعة، وكما
اعترف بها فضيلة المفتي في مقالاته الأربع، وكما يعبر عنها ابن رشد في كتابه
بداية المجتهد [1] : (أجمعوا على صفتها أن يعطي الرجل الرجل المال على أن
يتجر فيه على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال أيّ جزء كان مما يتفقان عليه: ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً) وهذا الصورة المجمع عليها تشير إلى شرطين أساسيين في هذا العقد:
أولهما: أن الذي يأخذ المال يأخذه للاستثمار في التجارة أو الصناعة أو أي
عمل مشروع.
ثانيهما: أن الجزء المعلوم المتفق عليه من الربح لا من رأس المال، وأن
هذا الجزء شائع كالثلث والربع.
وهذان الشرطان لم يخترعهما الفقهاء برأيهم أو اجتهادهم كما يدعي الشيخ
المفتي، بل إن المعتمد الأساسي لهما هو النص، وهو نص عملي لا يحتاج إلى
تأويل، والنص ممن أرسله الله -عز وجل- ليبين للناس ما نزل إليهم. وليس
صحيحاً ما قرره فضيلة المفتي بأن هذا الشرط - وهو شيوع نصيب كل من
المتعاقدين في الربح - ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، وكان أولى
بالشيخ وهو أستاذ سابق للكتاب والسنة في أعرق جامعة إسلامية أن يتريث ويحتاط
ويبحث ولا يظهر عدم معرفته بالسنة، إذ هل يستطيع أحد أن ينكر أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- قد تعاقد مع أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من تمر وزرع؟ .
بل هل ينكر أحد ما رواه البخاري ومسلم بأكثر من رواية من النهي النبوي
عن استئجار الأرض بتحديد ناحية معينة منها يكون نتاجها لصاحب الأرض؟
لقد أخرجا في صحيحيهما عن رافع بن خديج قال: (كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه
فنهانا عن ذلك) [2] وروى مثل ذلك أيضاً أبو داود والنسائي والإمام أحمد بألفاظ
متقاربة.. وخضع الأئمة الأربعة والظاهرية لهذه النصوص النبوية المحكمة التي
بينت الحكم والحكمة معاً حيث نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك لما
يترتب عليه من الظلم وعدم العدل بين الشريكين، وأكدوا هذا الشرط في المزارعة
والمساقاة والمضاربة وسائر الشركات، واعتبروه شرطاً شرعياً لا تجوز مخالفته،
وليس شرطاً جعلياً للمتعاقدين حرية فيه، وأجمعوا عليه، وما كان لهم أن يفعلوا
سوى ذلك وهم القائلون: لا اجتهاد مع النص.
يقول الدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج - رحمه الله - رداً على مثل هذه
الفتوى وكأنه يرد الآن على المفتي الحالي: [3]
(وإذا كان اشتراط جزء معين من الخارج لصاحب الأرض في المزارعة قد
حظرته الشريعة، ونهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما فيه من الظلم
والغبن بأحد الشريكين المتعاقدين على الاشتراك في الربح والخسارة، فلماذا يرد في
وجه الأئمة الفقهاء قولهم بلزوم خلو العقد من ذلك الاشتراط الجائر الظالم، وهم لم
يقولوه إلا تطبيقاً للسنة الصحيحة مدعماً بما تدل عليه نصوصها الصريحة؟ !
وكيف يسوغ لمطلع على نصوص الشريعة ومواردها أن يقول في اشتراط
ربح محدد لرب المال في المضاربة أنه جائز وغير مخالف للكتاب والسنة وإن كان
فيه مخالفة لأقوال الفقهاء؟ (يلاحظ أن هذا هو ما قاله المفتي حرفياً) أو لا يكفي
النص على حظر ذلك الاشتراط ومنعه في المزارعة ونعلم أنه محظور وممنوع في
المضاربة والمساقاة وغيرهما من فروع الشركات؟ وهل من حسن الظن بالشريعة
العادلة أن يقال: إنها تمنع من الظلم والجور في شركة المزارعة وتبيح ذلك في
شركة القراض؟ !)
وقد ساق الشيخ عبد الرحمن تاج -رحمه الله- مع هذه النصوص القاطعة
إجماع علماء الأمة الذين لا يجتمعون على باطل فيما قاله ابن المنذر: (أجمع كل
من نحفظ من أهل العلم على إبطال القراض (المضاربة) إذا اشترط أحدهما
أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة) [4] .
وعلل هذا الإجماع الإمام ابن رشد بأنه إذا اشترطت دراهم معلومة فمن
المحتمل ألا يربح غيرها فيستضر العامل، ومن المحتمل كذلك ألا يربح مطلقاً
فيأخذ من رأس المال ومن المحتمل كذلك أن يربح كثيراً فيستضر من شرطت له
الدراهم. ثم إن حصة العامل لما تعذر كونها معلومة المقدار كان لا بد أن تكون
معلومة الأجزاء، فإذا جهلت الأجزاء، فسدت.
وإذا كان المفتي يعترض على البنوك الإسلامية الحالية في أنها لا تحدد للمودع
نصيبه من الربح بنسبة النصف أو الربع ... فإننا نقول إن هذه البنوك ليست حجة
على الشرع وإذا كانت تفعل ذلك فنحن أيضاً معه، فلسنا بحمد الله ممن يحابي في
دين الله أحداً، وليست لنا مصالح خاصة تمنعنا من قول الحق والجهر به كما يدعي
علينا الأهرام ...
وهذا الإجماع من علماء الأمة كما يستند إلى السنة في نصوصها الصريحة
السابقة فإنه يعتمد أيضاً على القواعد الفقهية الثابتة بالتواتر، ذلك أن جعل الربح في
المضاربة محدداً كعشرة من مائة يتعارض مع القاعدة الفقهية: (الضرر يزال) تلك ...
القاعدة المأخوذة من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الصحيح عن أبي
سعيد الخدري: (لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه) وبذلك يتبين بما لا مجال للشك فيه أن شرط كون الربح في المضاربة جزءاً مشاعاً معلوماً من واحد صحيح لكل من المتعاقدين قد ثبتت بالسنة والإجماع والقياس والقواعد الفقهية، وإن القول بغير هذا افتيات على الشرع ومخالفة للسنة الصحيحة وإجماع الأمة ...
أما الشبهة التي أثارها الشيخ المفتي في أنه لو سلم جدلاً بهذا الشرط فإن
الفقهاء قرروا في المضاربة الفاسدة أن للعامل أجر مثله؛ وعلى هذا يكون ما أخذه
البنك من الأرباح بعد خصم النسب المئوية التي يأخذها المودع هو أجرة المثل مهما
بلغت.. فإننا هنا لا بد أن نتوقف لنقول للشيخ: إن فقدان هذا الشرط لا يجعل
المضاربة فاسدة، ولكنها باطلة كما نص عليه العلماء الفاقهون فيما سبق. ثم لو
سلمنا جدلاً - كما هو أسلوبك - بأنها فاسدة فهل يحل للمسلم أن يقدم على عقد
فاسد؟ ! إن الإجماع أيها الشيخ منعقد على أن الإقدام على العقود الفاسدة حرام، وإذا وقع وجب فسخه وإلا كان هذا العقد بعد الوقوع باطلاً، يقول ابن رشد:
(واتفقوا على أن القراض الفاسد يجب فسخه ورد المال لصاحبه) . هكذا هم يتفقون على ألا يستمر الفساد لأن استمراره إصرار على مخالفة النهي النبوي، ولكن فضيلة المفتي يريد أن يستمر الفساد في هذه المعاملة البنكية التي يدعي أنها مضاربة فاسدة! !
ثم أليس في هذا الادعاء ليّ لأعناق الواقع الملموس؟ ! فمن الذي يأخذ من
الصورة التي عليها تعامل البنوك أجر المثل هل هو البنك أم المودع؟ إن الذي حدد
له مبلغه هو المودع فهل نجعل صاحب المال أجيراً عند البنك وهذا أجر مثله أم
العكس هو الصحيح على رأي فضيلته؟ .
إنها معاملة ربوية واضحة مهما حاول الشيخ بخيالاته وأوهامه التي ساعده
عليها المغرضون، وهي معاملة متحدة في كل بنوك الدنيا لم يؤخذ فيها رأي الإسلام.
الشبهة الثانية التي أثارها المفتي مبنية على فساد الذمم والضمائر لدى العاملين
في البنوك فلهم أن يدعوا أن المضاربة خسرت أو ربحت قليلاً فيضيع على
المستثمر ربحه بل قد يضيع ماله كله، وبناء على ذلك كان لولي الأمر أن يعرض
على البنوك تحديد الربح مقدماً وكان له أيضاً أن يحمل البنك ضمان ما عنده من
مال إذا تلف.
وقد أشرنا سابقاً إلى هذه التهمة التي لسنا معه في وصم جميع الناس بفساد
الذمم والضمائر فما زال الخير في المسلمين بحمد الله وسيظل ولا أدل على ذلك من
إقبالهم واندفاعهم نحو الحلال ونفرتهم من التعامل بالربا، والإسلام يفترض دائماً في
أبنائه الصلاح إلى أن يثبت عكس ذلك، وبناءً على هذه الثقة يقول الفقهاء:
(والعامل أمين فيما تحت يده، وإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن؛
لأنه ناب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع) [5] .
والأئمة الأربعة والظاهرية قد اتفقوا على ذلك، بل صرح صاحب المغني بأنه:
(متى شرط على المضارب ضمان المال أو سهماً من الوضيعة فالشرط باطل ولا
نعلم فيه خلافاً) [6] ...
واستدلال المفتي بمسألة تضمين الإمام علّي للصناع للمحافظة على أموال
الناس قياس أقل ما يقال فيه أنه فاسد، لأنه:
أولاً: لا قياس مع النص والإجماع الذي يقول عنه ابن قدامة إنه لا يعلم فيه
خلافاً، ثانياً: لأن مسألة تضمين الصناع - وهي الأصل المقيس عليه - مختلف
فيها عند الفقهاء، بل إن إسنادها إلى علّي فيه مقال، ومعلوم أنه لا يجوز القياس
على حكم مختلف فيه.
أما أنه حكم مختلف فيه فيقول الصنعاني في سبل السلام [7] : (اختلف أهل
العلم في تضمين الصناع فقالت طائفة هم ضامنون إلا أن يجيء شيء غالب وهذا
قول مالك. ثم قال: وروى عن علي أنه ضمن الأجير وفي إسناده مقال، ثم قال:
وقالت طائفة أخرى: لا ضمان على الصناع، وروي هذا القول عن ابن سيرين
وطاووس، ثم قال: والصحيح من مذهب الشافعي أنه لا ضمان على الأجير إلا ما
تجنيه يده) وما قيل في مسألة تضمين الصناع يقال في استدلاله بمسألة التسعير،
ذلك أن فضيلته يقول: (إن الأصل في التسعير ألا يجوز لرفض رسول الله إياه،
ومع ذلك أجاز كثير من الفقهاء لولي الأمر تسعير السلع إذا غالى التجار أو
احتكروا) . ذلك أن الخلاف واضح من هذه المسألة بين الفقهاء، وقد وضحه
الشوكاني والصنعاني، وما دام هنالك خلاف في مسألة فلا يجوز القياس عليها، كما هو مقرر في علم الأصول.
ومما يستلفت النظر في مقال الشيخ المفتي أن في أسلوبه وأفكاره جنوحاً
وتعمية:
1- يقول: ليست مسألة تحديد الربح وعدمه من العقائد والعبادات التي لا
يجوز التغيير فيها، وإنما هي من المعاملات الاقتصادية التي تتوقف على تراضي
الطرفين. ونحن نقول: إن التفرقة في تعاليم الإسلام بين العقيدة والعبادة والمعاملة
مرفوضة من الأساس، فكل نص ورد في الكتاب والسنة وجب على كل مسلم أن
يلتزم به مهما كان مجاله، وفي هذا الالتزام معنى العبودية لله تعالى، فإقامة الحد
على السارق والزاني عبادة، واعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث عبادة،
والتزام العدل في المعاملات عبادة، وما قسم الفقهاء أحكام الدين إلى عقائد وأخلاق
وعبادات ومعاملات إلا ليسهل عل الدارس استيعابها، والا فهل لأي مسلم أن يغير
في غير العقائد والعبادات؟ أليست هذه العبارة تحمل في طياتها تفريغ الشريعة من
مضمونها في حكم حركة الحياة الاجتماعية والاقتصادية بحجة أنها ليست من العقائد
ولا العبادات؟ ! ! ثم إن مسألة التراضي بين الطرفين ليست هي الأساس في أحكام
الشرع، فهل إذا تراضى رجل وامرأة على الزنا يحول الزنا إلى مباح؟ ! إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الصحيح عن تلقي الركبان، ومعنى هذا أن
أهل الحضر كانوا يتلقون أصحاب السلع قبل أن يصلوا إلى السوق؛ فيشترون منهم
بالتراضي وبسعر يجهله صاحب السلعة، فهل كان التراضي هنا مبيحاً للمعاملة أم
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه بالرغم من التراضي؟ !
2- يقول الشيخ: إن شريعة الإسلام تقوم على رعاية المصالح في كل زمان
ومكان، وإن بدا أنها تصطدم ببعض النصوص.
ونقول: نحن لا نشك في أن الشريعة تكفلت بمصالح الناس، ولكننا لا نشك
أيضاً أن في شرع الله نفسه ما يفي بكل مصالح البشر دون تغيير أو تحريف أو
تبديل، وما لم يرد في شرع الله فهو هوى ومصلحة فاسدة وهذا ما قرره الإمام
الشافعي -رضي الله عنه-.
3- يقول: معلوم أن البنك لم يحدد الربح إلا بعد دراسة مستفيضة لأحوال
الأسواق العالمية والأوضاع الاقتصادية وهو يتم بتوجيهات من البنك المركزي.
ونقول: هل يمكن للبشر أن يحيطوا بالغيب فيتوقعون الكوارث والنكبات
بحجمها المقدر في علم الله؟ هل كان الاقتصاديون يتوقعون حرب الخليج وآثارها؟ . هل كانت الصين واليابان والفلبين وبنغلادش تتوقع البراكين والأعاصير التي
اجتاحتها مؤخراً؟ ثم كيف تفلس البنوك العالمية مع دراستها لجدوى مشاريعها، إن
قصة بنك الاعتماد والتجارة الدولي ما زالت قيد البحث حتى الآن. وقصة بنك
جمال ترست ماثلة للأذهان ... ! !
4- يقول: بمقتضى معرفة صاحب المال لحقه معرفة خالية من الجهالة ينظم
أمور حياته.
ونقول: وهل يعتمد المسلم على ما سيأتيه من البنك ليعيش به ويترك العمل؟
وهل يستطيع المسلم عن طريق البنك أو غيره أن يحدد رزقه وينظم أمور حياته؟
هل هذا يتفق مع العقيدة؟
5- يقول: إن حدثت الخسارة لأسباب خارجة عن إرادة صاحب العمل
سيتحمل صاحب المال عند الاقتضاء ما يجب عليه منها، والذي يقرر ذلك هم
رجال القضاء.
ونقول: إن العقود في الفقه الإسلامي بنيت على أسس متينة تحول دون
حدوث شقاق بين المتعاقدين، لأن مهمة التشريعات أن لا تترك ثغرة للتقاضي.
إن أسلوب الشيخ في مقالاته غير دقيق، وغير علمي، وموهم، ويمكن أن
يستند على بعض منه ذوو الأغراض السيئة، والنوايا الخبيثة.
وإننا لنعجب كثيراً ونشفق على فضيلة المفتي وعلى المسلمين، إذ هو يشككهم
في أمور مجمع عليها، بل تعتبر مما علم من الدين بالضرورة، وإذا تطرق الشك
إلى هذه الأمور وصل الأمر حتما إلى هدم الشريعة من الأساس، فهل يسمح لنا
المفتي أن نسأله: إذا كانت معاملة البنوك ليست ربوية فما هو الربا المحرم شرعاً؟
فإذا قال: هو ما كان مبنياً على الاستغلال، قلنا له: إن الاستغلال حكمة وليست
علة، والحكم لا يدور إلا مع العلة وجوداً وعدماً ...
كما لنا أن نسأله: لقد سبق له أن أفتى بحرمة هذه المعاملات في الفتوى رقم
515/ 9989 فما الذي جعله يرجع عن تلك الفتوى وهي التي تساير المجمع عليه؟
إن أغلب الظن أن الشيخ مضلل من قبل جماعة درست الاقتصاد على الأسس
الربوية، ولا ترى اقتصاداً يمكن أن يقوم على غيرها، وليس لها تصور للمعاملات
الإسلامية الصحيحة.. وإنا لننصح الشيخ مخلصين أن يرجع إلى الله الذي لا تجدي
عنده التبريرات ولا الاعتذارات من الأتباع بأنهم كانوا مخدوعين أو مضللين من
قبل المتبوعين، فقد سمى القرآن الكريم التابع ظالماً فقال:
[ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا
ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ
الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً]
ننصحه أن يعلن رجوعه عن فتواه الأخيرة فليس عيباً يذكر ولا سيئة تنكر أن
يرجع الإنسان عن خطئه، فالكمال لله وحده والعصمة للأنبياء، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولنا في الصحابة قدوة وفي سلفنا الصالح أسوة، وقد
رجع عمر بن الخطاب عن توريثه في المسألة المشتركة، ورجع ابن عباس في
إباحة ربا الفضل حين تبين له الصواب، فالرجوع إلى الحق فضيلة والحق أحق أن
يتبع.
اللهم قد نصحنا لك ولدينك، وأبرأنا ذمتنا، اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين.
عنهم د. محمد المختار المهدي
__________
(1) بداية المجتهد 2/262.
(2) نيل الأوطار 5/30.
(3) حكم الربا في الشريعة الإسلامية ص 24.
(4) المغني 5/148.
(5) تكملة المجموع 14/215.
(6) المغني 5/184.
(7) سبل السلام 3/45.(45/16)
خواطر في الدعوة
الحرص على الدعوة
محمد العبدة
هل نحن حريصون على الدعوة ونجاحها، وأن تكون هي الأقوى، وهي
المهيمنة. إذا كان الأمر كذلك؛ فهل هناك حرص آخر يوازي هذا الحرص
ويزاحمه ويدافعه، وهو الحرص على المستقبل! ! مستقبل العمل الوظيفي،
مستقبل الأولاد، تأمين المسكن المريح، والمركب المريح، والوطن المريح.
إن واقعنا يدل على هذه المزاحمة والمدافعة إلا في القليل النادر. فالدعوة لا
تشغل البال ولا تقيم الداعية وتقعده، يفكر فيها ليل نهار، كيف تنجح، كيف تتقدم؟ وما هي أسباب الفشل، وما هي أسباب التأخر والضعف.
إن الدعاة يعلمون أن وحدة الصف ووحدة المنهج من أهم أسباب قوة الدعوة،
وأن تجميع الطاقات الفعالة المنتجة من أسباب قوة الدعوة، فلماذا لا يفعلون؟ وهم
يعلمون أنه ليس للدعوة الآن كلمة نافذة وهيبة مرهوبة، وهيئة علماء يسمع
ويستجاب لها، فلماذا لا يسعون لتحقيق هذا؟
إن أشد ما يتعجب له المرء حرص أصحاب البدع وأصحاب الباطل على
نجاح دعوتهم، فنراهم يجوبون البلاد طولاً وعرضاً لنشر بدعهم ومبادئهم، يقول
أحد دعاتهم: (وددت أن لو ظهر هذا الأمر يوماً واحداً من أول النهار إلى آخره فلا
آسف على الحياة بعده) .
وما زلت أذكر من قراءاتي أن زعيم المعتزلة واصل بن عطاء قرر إرسال
أحد دعاته المقربين إلى بلدة بعيدة، وكان هذا الداعية تاجراً كبيراً فحاول مع واصل
أن يرسل غيره ويدفع مقابل ذلك مبلغاً كبيراً من المال، ولكن واصل رفض وأصر
على ذهابه، فما كان منه إلا أن استجاب!
والآن نشاهد الطبيب المسلم لا يرضى - إلا من رحم ربك - أن يبدأ عمله في
قرية من القرى: فيساعد أهلها ويدعوهم إلى الالتزام بالإسلام. فكيف إذا قيل له:
اذهب إلى جبال أفغانستان أو إلى غابات آسيا وأفريقيا أو ارحل مع البدو حيث
رحلوا؟ ! ونرى الشباب المتخرج من الجامعات الإسلامية يفضل العمل ولو وظيفة
صغيرة في مدينة من المدن على أن يذهب إلى بلاد بعيدة هم بأشد الحاجة إلى أمثاله
لتفشي الجهل أو البعد عن الإسلام كلية فالمشكلة إذن هي أن الكل يريد الاستقرار في
المدن، بل وفي العاصمة، فمن للقبائل ومن للقرى ومن لمسلمي العالم؟
ونعود للسؤال الذي بدأنا به هذه الخاطرة: هل نحن - حقاً - حريصون على
الدعوة ونجاحها؟(45/28)
وقفات مع التحقيق والمحققين
(2)
محمد عبد الله آل شاكر
(يتابع الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر وقفاته مع مدعي التحقيق، وينبه إلى
الاستهانة التي يرتكبها كثير ممن امتهن في هذه المهنة بكتب العلم وبأصول التحقيق
والنشر العلمي.)
- البيان -
- 5 -
أما إذا يممنا شطر كتب التفسير والحديث المحققة، فإننا نلاحظ جهداً مشكوراً، وعناية جاوزت الحد فانقلبت إلى الضد، مما أسميته (الكتابة على الهامش) ،
حيث تطغى الهوامش والحواشي على المتن، دون ضبط النسبة بينهما، فتجد
أحدهم يخرج حديثاً واحداً في أربع صفحات، وقد يكون من أحاديث الشيخين
(البخاري ومسلم) مما قالوا عنه: إنه جاوز القنطرة، وهذا يريحنا من عناء البحث
والتعب، فالثقة حاصلة بصحته.
ولكن بعض المحققين يحلو له أن يستعرض عضلاته على القراء، فيضع
كتب الرجال والجرح والتعديل في الحاشية، مترجماً لكل راوٍ في السند حتى ولو
كان من مشاهير الصحابة أو الأئمة، ويتبع هذا مجموعة من المصادر للترجمة
تتكرر في كل صفحة تقريباً! كي يصل بعد هذا إلى الحكم على الإسناد، وغالباً ما
يكون مسبوقاً إلى هذا من الأئمة المحدثين والحفاظ. وكان من الأجدى والأيسر على
القارئ أن يشير إلى من فيه كلام من الرواة، دون الكلام على سائر رجال الإسناد.
وقد نعتذر لهم عن هذه الظاهرة، إذ قد يكون سببها أن الباحث بذل جهداً
وأضاع وقتاً في مراجعة المصادر، فأراد أن يشرك القارئ معه، ولم يضن عليه
بالعلم، فوضع كل ما قرأه في حاشية الكتاب، سواء كانت الحاجة تدعو إلى ذلك أو
لا تدعو إليه.
وهذا وإن كان يصلح في الأعمال العلمية بين جدران المعاهد والدراسات العليا
(لإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه) ، فما أظنه صالحاً عندما يعد الباحث رسالته
للنشر في كتاب يطرح في الأسواق بين القراء. مع ما فيه من إضاعة للجهد، ومن
تكاليف باهظة في الطباعة، وإعاقة عن إتمام التحقيق للكتب الكبيرة، فضلاً عن
تفريغ جيوب القراء وطلبة العلم والإثقال عليهم.
والأمثلة هنا كثيرة جداً، تعز على الحصر، ومن آخر ما اطلعت عليه مما
يصدق عليه كلامنا هذا، كتاب (مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك
أبي عبد الله الحكم) لابن الملقن المتوفى سنة (804 هـ) في ستة أجزاء، تحقيق
ودراسة عبد الله بن حمد اللحيدان، دار العاصمة بالرياض، 1411 هـ. تجد فيه
المتن يقع في سطرين أو أكثر قليلاً، والتعليق والحواشي في (4) صفحات تبدأ
بذكر سند الحديث عند الحكم ثم تخريجه، يليه دراسة الإسناد ثم الحكم على الحديث، وغالباً تكون نسبة المتن إلى الحاشية 40/1، فكل سطر يقابله أربعون سطراً في
الحاشية.
وإليك المثال الثاني؛ (تفسير ابن أبي حاتم الرازي) فتحت الكتاب، دون
قصد صفحة معينة، فانفتح على الصفحتين (46 و 47) ، وفي أولاهما أثر ساقه
المؤلف في تفسير قوله تعالى: [هو الذي أنزل عليك الكتاب] عن سعيد بن جبير
قال: (هو القرآن) . وفي الحاشية دراسة لرجال الإسناد، ونتيجة لذلك تقع في
(52) سطراً بحرف دقيق، ويليها بيان درجة الأثر في (7) أسطر. فأنت أمام
تسعة وخمسين سطراً بحرف صغير، يعدل السطر منها ثلاثة في المتن، والمتن لا
يتجاوز السطرين بحرف كبير. فهل يستطيع القارئ أن يستخرج النسبة دون آلة
حاسبة! ترى ما هي حاجة القارئ إلى هذا الكلام كله عندما أصبح الكتاب متداولاً
بين القراء وطلبة العلم، ولم يعد رسالة علمية جامعية؟ رغم الجهد الطيب المبذول
لإخراج هذا الأثر النفيس، وجزى الله العاملين المخلصين كل خير.
ولست أدري كم يستغرق إخراج هذا الكتاب كاملاً؟ وكذلك كتاب (شُعَب
الإيمان) للبيهقي، الذي يطبع في الهند؟ وأمثالهما من الكتب والموسوعات!
- 6 -
ولعل تقاعس الهمم وفتور العزائم، أو النفور من الأعمال الكبيرة التي تحتاج
إلى وقت وصبر وجهد، جعلت بعض المحققين يصرفون عنايتهم إلى الأجزاء
الحديثة الصغيرة، وهي غالباً لا تضيف جديداً إلى كتب الأصول والمصادر
الأساسية المتداولة، تلك التي لم يخدم أكثرها خدمة طيبة تليق بها، إذا استثنينا ما
قام به الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله، من جهد في إخراج عدد منها
كصحيح مسلم، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجه (رحمهم الله جميعاً) ، والشيخ أحمد
شاكر في (المسند) للإمام أحمد.
والكتب الأصول أَوْلى بالعناية والاهتمام والإخراج المتقن الذي يليق بها
وبمكانتها، وكم من هذه الكتب، مما لا يزال مخطوطاً، أو مطبوعاً طبعات قديمة
رديئة! يحتاج إلى عناية! ومما يتصل بهذا: العناية بكتب (الزوائد) في الحديث، مع وجود الكتب الأصلية التي جُرَّدت زوائدها. فمع وجود (صحيح ابن حبان)
مثلاً، لا ينبغي الاشتغال بزوائده، لئلا يكون ذلك على حساب عمل آخر أكثر
أهمية، ومع وجود (معاجم الطبراني الثلاثة) تقل أهمية زوائدها، ما لم يكن في
هذه الزوائد فوائد خاصة بها، وقد كان لهذه الكتب أهميتها عند عدم وجود كتب
الأصول، ويصدق هذا أيضاً على (مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحكم)
فهو تلخيص للملخص، وكان الأجدى العناية بالمستدرك نفسه. والطريف أن
المستدرك يقع في أربع مجلدات، وتلخيص التلخيص يقع في سنة مجلدات!
- 7 -
وفي غير كتب الحديث. نجد رسائل لا تتجاوز عشرين سطراً من المخطوط، أو لا تبلغ ورقة منه، فينفخ فيها المحقق ويحقنها بالدراسة والترجمة والتعليق
ومنهج البحث، وما شئت من هذه الألفاظ التي يتشدق بها، فتفعل هذه الحقنة فعلها
في تضخيم هذه الورقة أو الوريقات فتجعل منها كتاباً راشداً يستوي على قدميه.
وقد نجد لمؤلف واحد مجموعة كبيرة من الرسائل، يخرج المحقق لها كل
رسالة بغلاف مستقل، وكان أولى وأجدى وأكثر حفظاً لهذه الرسالة، لو أنه أخرج
المجموعة كلها بكتاب واحد، مع دراسة موجزة وتحقيق وتوثيق، لئلا يتكرر هذا
مع كل رسالة بمفردها.
وتجد مثلاً على ذلك في: (ذوق الطلاب في علم الإعراب) تأليف الشيخ
محمد أحمد عبد القادر الحفظي، تحقيق عبد الله محمد حسين أبو داهش. يقع
الكتاب في صفحتين اثنتين مجرداً من الهوامش، ومع الهوامش والتعليقات يبلغ (5)
صفحات، فإذا جمعتها مع المقدمات والتعريف بالكاتب بلغت (33) صفحة. قال
المحقق: (وقد رأيت تحقيق هذا المخطوط سبيلاً للتعريف بأسرة آل ... الحفظي، برجال ألمع، ودعوة لتحقيق تراثهم النادر..) ودون أن نتساءل عن قيمة هذا التراث - الذي اطلعت على نماذج محققة منه - لأنه يحتاج إلى دراسة؛ ترى ما هي علاقة موضوع الكتاب بهذا الذي أراده المحقق؟ ثم أليس بإمكانه أن يكتب كتاباً عن أسرة آل الحفظي وتراثهم، ثم يجمع هذا التراث في ضميمة واحدة؟
وما يصدق هنا يصدق على رسائل السيوطي - التي كانت في طبعتها الأولى
بمجلدين فأصبحت الآن مئات الكتب كل كتاب ورقتين أو ثلاثة وقد يزيد - وكذلك
في رسائل الملا علي القاري التي ظهرت أخيراً موزعة مفتتة، وهي في أصلها
مجموع واحد!
ولعله لا يغيب عن ذهن القارئ: أن هذه الملاحظات لا تعني التقليل من
أهمية الكتب التي سبقت الإشارة إليها، ولا تعني إهمالها، ولا أننا ننقص أصحاب
الجهد ونبخسهم حقهم، وإنما قصدت إلى توجيه العناية بالأمهات والبدء بالأولويات
وتقديم ما هو أكثر أهمية على ما هو أقل في الأهمية. كما قصدت المحافظة على
هذا التراث من الضياع، وعلى الجهد من أن يتبدد أو يذهب سدى.
- 8 -
وإذا كان من الأجدى أن يبدأ الباحثون من حيث انتهى غيرهم، كما يستفيدوا
من جهود السابقين، ويتابعوا عملية إتمام البناء الذي سبقوا إليه، فإنه من العبث،
ومن التجاهل لجهود الآخرين، أن نقوم بتكرار العمل وإضاعة الجهد في كتب قد
خدمت خدمة طيبة.
ويعرف الجميع ما قام به الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، وما بذل من عناية
في إخراج بعض كتب السنة، مما سبقت الإشارة إليه، فمثلاً: أخرج (سنن ابن
ماجه) في جزئين، وحقق نصوصه، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه، وضبط كلماته، وعلق عليه، واقتبس خلاصة مما كتبه البوصيري في (الزوائد) ، وصنع له
الفهارس التي تعين على الاستفادة منه، مع عناية بالغة وإتقان في الإخراج. ومع
هذا كله، فإن أول كتاب اتجهت إليه عناية الدكتور الأعظمي، من الكتب الستة،
هو كتاب (سنن ابن ماجه) نفسه، فقد أخرجه في أربع مجلدات، اثنان منها
للفهارس، مستعيناً بالحاسب الآلي. وما أظن أن هناك ما يسوغ هذا العمل رغم ما
قد يكون فيه من استدراك على السابق، ولكنه أمر يسير. ولعل الله يهيء له العمل
لإنجاز مشروعه وقد اتجهت الجهود لما ينبغي أن تتجه إليه.
- 9 -
ومن صور العدوان على تراثنا العلمي والعبث به، ما قد يدعو إليه زعم
التيسير والتسهيل، وكأننا أمة لم تخلق إلا لهذا السهل اليسير الذي استمرأناه،
وليس من شأننا أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى الأمة القائدة الرائدة التي لا تعبأ
بالصعاب، وتبذل كل جهد لتبقى متربعة على قمة المجد.
وباسم التيسير والتسهيل، يعمد أحدهم، وقد يكون فرداً أو مؤسسة، إلى
كتاب من كتب التراث فيغير ترتيبه، فلا هو الكتاب الذي وضعه مؤلفه، ولا هو
كتاب أنشأه مرتبه، مع أن الكتاب الأول معروف منذ قرون متطاولة بشكله الأول،
والعزو إليه وهو في صورته تلك ... ومن أقرب الأمثلة لهذا: (لسان العرب) لابن
منظور الذي طبعته دار المعارف بمصر طبعة جديدة مرتباً على أوائل الكلمات
كطريقة (أساس البلاغة) أو (المصباح المنير) .
- 10 -
وبعد: فقد سبقتنا الأمم الأخرى أشواطاً كثيرة في العلم المادي وفي الصناعة
وغيرها، لو ركضنا ركضاً ما استطعنا - وهذا حالنا - أن نلحق بها، فضلاً عن
أن نسبقها، ونحن في ذلك مقصرون ومفرطون تفريطاً معيباً، فلا أدري لماذا
ينصرف إخواننا الكرام، أصحاب المؤهلات والتخصصات العلمية، عن
تخصصاتهم ومجال إبداعهم رغم حاجتنا إلى جهودهم، ينصرفون عن هذا إلى
مجالات أخرى، فيكتب الطبيب في الفقه والحديث، والمهندس في الجرح والتعديل، والكيميائي في التفسير، والشاعر الأديب يتحول إلى فقيه ... بحجة أنه ليس في
الإسلام (هيئة أكليروس) أو بحجة الاجتهاد ومحاولة التقليد ... هكذا دون احترام
للاختصاص - ونحن في عصر التخصص الدقيق كما يقولون - ولا احترام للعلم
وأهله، وقد لا يملكون المؤهلات التي تؤهلهم لما يقومون به، أو إن تكوينهم العلمي
والفكري الذي درجوا عليه، قد لا يساعدهم على إتقان ما توجهوا إليه أخيراً -
عندما عزفوا عن القيام بفرض كفائي -، أو أنهم يفهمون عبارات العلماء وأقوالهم
على غير وجهها ويضعونها في غير موضعها، فأصبحت تجد تعليقاً على حديث
أخرجه مسلم، مثل هذه العبارة (حسن على رأي من يقبل عنعنات الصحيحين،
وهما ابن صلاح والنووي) يعني أنه ضعيف عند غيرهما! وهو من ... أحاديث الصحيح ... وتجد أمثال هذه العبارة: (قال النووي - وليس كما
زعم -) أي ليس كما زعم النووي - رحمه الله -، وزعم مطية الكذب كما ... يقولون. فأين الأدب واحترام العلماء الذين أرشدنا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أم أن المحققين يشغلون أنفسهم بالسند دون العمل بالحديث!
وأسأل الله لي ولهم ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق، و (أن يرزقنا فهماً
في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يرزقنا قولاً وعملاً يؤدي به عنا
حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده) . والحمد لله رب العالمين.(45/30)
علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية
(5)
هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟
د. أحمد إبراهيم خضر
كشفنا في الحلقة الماضية كيف أن رجال الاجتماع في بلادنا قد أخذوا على
عاتقهم مهمة تفكيك الدين سعياً وراء (وهم استقلالية العلم) ، وبينا كيف رأى رجال
الاجتماع أن انتقاد الدين جزء لا يتجزأ من تكوين العلم، وأن صدام علم الاجتماع
مع الدين لا يتجزأ من تكوين العلم، وأن صدام علم الاجتماع مع الدين أمر لا مفر
منه، وأنهما إذا التقيا فإن التقاءهما لا يكون إلا عبر صراعات. وشرحنا كيف أن
رجال الاجتماع في بلادنا أرادوا أن يخضعوا الدين لتحليلاتهم وتفسيراتهم
وتصوراتهم وفي أذهانهم اعتقاد خاطئ بتصادم الدين والعلم في الإسلام كالحال في
بلاد الغرب. وكشفنا أيضاً عن ربط رجال الاجتماع شرعية ممارستهم للعلم
باستمرار صدامهم مع الدين، وعن أملهم في الانفلات من قبضة علماء الدين مثلما
انفلت علماء الغرب من الكنيسة. وأخيراً أوضحنا بأن عداء رجال الاجتماع للدين
مرتبط بعداء الدولة له وعددنا الخطوات التي قامت بها الدولة لتمهد الطريق لرجال
الاجتماع في أداء مهماتهم في تفكيك الدين.
هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟
الإجابة بلا قطعاً. لكن هذه (اللا) ليست من عندنا. إنها من أفواه وأقلام
علماء الاجتماع أنفسهم.
كان رجال الاجتماع في بلادنا ولا زالوا يتصورون أنهم طليعة هذه الأمة
وضميرها وأنهم القدوة والنموذج وأنهم الطلائع والضمائر. كانوا ولا زالوا يعتقدون
أنهم لا يبالغون إذا تصوروا أنهم يملكون في أيديهم (عناصر الترشيد الضرورية)
للمجتمع وأنهم يستطيعون توصيف المراحل التي يمر بها هذا المجتمع وتحليل قواه
الاجتماعية الفاعلة، وأنه بإمكانهم تقديم البدائل المتاحة أمامه [1] . لقد وصل الأمر
برجال الاجتماع في بلادنا إلى الاعتقاد بأن الخبير منهم يجب التبارك به [2] . نبع
هذا التصور الذاتي الوهمي المبالغ فيه عند رجال الاجتماع من نظراتهم إلى
المجتمع الذي لا يخرج عندهم عن مجتمع من الجهلة والأميين والمرضى والجائعين
والمتأخرين الذين على رجال الاجتماع تنميتهم وعلاجهم وعصرنتهم أو تغريبهم،
والإنسان العربي عندهم إنسان تقليدي متأخر متخلف [3] .
ما هي عناصر الترشيد الضرورية هذه التي يعتقد رجال الاجتماع أنهم يملكون
مفاتيحها؟ إنها أي شيء يمكن أن يكون إلا (الإسلام) .
إن من أبرز صفات هذا الإسلام أن الدين والعلم فيه متساندان ولا يتصادمان
كالحال في بلاد الغرب. ومع ذلك فإن من مسلماته الجوهرية (الإيمان بالغيب) .
الله تعالى نفسه (غيب) ، والملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والبعث
والحساب واليوم الآخر، كل ذلك (غيب) ولن يستقيم الإيمان إلا بالاعتقاد في هذا
(الغيب) . وإذا كان علم (الغرب) قاصراً عن إثبات هذا الغيب فإن هذا ليس لعيب
في الدين وإنما لعيب وقصور في العلم ذاته.
سار رجال الاجتماع في بلادنا وراء الغرب (حذو القذَّة بالقذَّة) ودخلوا وراءه
(جحر الضب) الذي تحدث عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ففصلوا بين
الدين والعلم، ورفضوا الإيمان بالغيب بحجة أنه لا يستقيم مع العلم. الدكتور (أحمد
الخشاب) هو أحد رواد علم الاجتماع في بلادنا. تتلمذ على يديه معظم من يشغلون
الآن كراسي علم الاجتماع في جامعاتنا العربية. لقد علمهم أحمد الخشاب عناصر
الترشيد الضرورية هذه التي يتحدثون عنها الآن. علمهم فصل الدين عن العلم
ورفض الإيمان بالغيب الذي يعده أيديولوجية تمثل إطاراً مرجعياً لتفسير تبريري
تحكمه عقلية تسلطية رجعية.
يقول أحمد الخشاب في كتابه الذي خصصه لهذا الترشيد: (على أنه يجب أن
نؤكد أننا نرفض النظرة التقليدية للقيم الروحية التي تتمثل في مجموعة التصورات
الطقوسية التي تحويها الساحة الدينية وتغذيها الأيديولوجية الغيبية.. ذلك لأننا نعلم
عن يقين أن الأيديولوجية الغيبية كانت ولا تزال تمثل الإطار المرجعي للتفسيرات
التبريرية للعقلية التسلطية الرجعية) [4] .
ويعتبر أحمد الخشاب من أوائل الذين حاولوا صياغة نظرية اجتماعية عربية
وكان ذلك في عام 1970. وأول مسلمات هذه النظرية هو الإطاحة بما أسماه
(بالأطر العقائدية التقليدية) التي رأى أنها تعبر عن (طبيعة غير علمية) . اعتبر
الخشاب أن هذه العقيدة من أهم العثرات التي تقف في وجه هذه النظرية المنشودة [5] .
ولنعد قليلاً إلى مرحلة ما قبل الخشاب. كان عام 1908 هو عام تأسيس أول
جامعة أهلية علمانية في مصر ألقيت فيها أول محاضرات في علم الاجتماع
(القانوني) . وكانت الفترة من عام (1924 إلى عام 1936) هي فترة التحول
التدريجي لما يسمونه (بعلم الاجتماع العلمي) . وبفعل تأثير الأفكار التي حملها
(رفاعة الطهطاوي) والاحتكاك بالغرب في الحرب العالمية الأولى تدفق إلى مصر
كمٌّ من الأفكار الجديدة التي قال عنها رجال الاجتماع في بلادنا إنها: (تحدت الأفكار
القديمة وأعدت لمرحلة الانقطاع عن الماضي) أي (الإسلام) . شهد عام (1924)
تأسيس الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حالياً) وهي جامعة حكومية حلت محل
الجامعة الأهلية. ألقيت في هذه الجامعة أول محاضرات منظمة في علم الاجتماع.
وكان من المنطقي مع تأسيس الجامعة الأمريكية في القاهرة في منتصف العشرينيات
تقديم برنامج منظم في علم الاجتماع، وبذلك أحكم الأمريكيون مع العلمانيين في
مصر ضبط خيوط تحقيق هذا الانقطاع عن الإسلام.
أما أول كراسي للأستاذية في علم الاجتماع فقد شغلها بالطبع أساتذة أجانب
بارزون وعلى رأسهم إيفانز برتشارد (1932 -1934) ، وآرثر موريس هوكارت
(1934-1938) أما في جامعة الاسكندرية فقد شغل كراسي الأستاذية في علم
الاجتماع اساتذة غربيون بارزون على رأسهم (راد كليف براون) و (ردنك أورلخ) .
لقد شهدت هذه الفترة انتشار الأفكار (الإلحادية) للفلسفة الوضعية (لأوجست
كنت) وللمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع وأفكار المدرسة الأنتربولوجية البريطانية
والأفكار التحررية السائدة في الغرب [6] . وعن موقف هؤلاء الأساتذة الأجانب من
الدين يكفي هنا أن نستشهد بمقولة هامة قالها قطب الأنتربولوجيا الشهير (ايفانز
برتشارد) الذي كان أول من شغل كرسي الأستاذية في جامعة القاهرة والذي أشرنا
إليه في الفقرة السابقة، يقول برتشارد في عام 1959:
(إن الأنتربولوجيين بصفة عامة ذووا اتجاهات سلبية عدائية كئيبة ضد الدين. إن العلماء الأوائل الذين أثروا في الفكر الأنتربولوجي لأكثر من قرن كامل
يوقنون تماماً بعدم مصداقية الدين المنزل وأن كل العقائد نسبية. ورأى علماء القرن
التاسع عشر أن الدين غير حقيقي وعديم الفائدة ويجب استئصاله والتقليل من آثاره
وإنقاص هيبته بالتقدم العلمي، وحينما تحققوا من الوجود العام للدين عبر التاريخ
الإنساني حاولوا أن يشرحوا ما اعتبروه وهماً برده إلى عوامل نفسية ... إن معظم
البارزين من علماء الأنتربولوجيا لم يكن لهم اعتقاد ديني لأن العقائد كلها عندهم
مضللة) [7] .
نما علم الاجتماع في بلادنا بصورة سريعة لتحقيق هذا الانقطاع عن الدين
وعن الإسلام. عرّف علم الاجتماع موضوعاته وأهدافه وإمكانياته. وإذا قيست
الفترة الزمنية التي رسخ فيها هذا العلم في الجامعات العربية فإن نموه ولو مقيساً
فقط بعدد خريجيه ليشكل تقدماً ملحوظاً لم يصل إليه نظيره في الجامعات الغربية
والشرقية قي الفترة نفسها [8] .
شهد علم الاجتماع في تطوره الأكاديمي التنظيمي مراحل توسع ضخمة تركز
أكثرها خلال السبعينيات حيث أنشئ عدد كبير من أقسام الاجتماع في الجامعات
العربية سواء في مصر على امتداد رقعتها من القاهرة حتى أسوان، أو على امتداد
الوطن العربي من الكويت وبغداد والدوحة والإمارات شرقاً حتى فاس والرباط غرباً، مروراً بكل الجامعات الكبيرة والصغيرة حتى تلك الجامعات التي يطلق عليها
(محمود الجوهري) أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة (بالجامعات الدينية) كجامعة
الأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية [9] .
وهنا تكمن الكارثة الكبرى وهي غزو علم الاجتماع لما يسمونه بالجامعات
الدينية. وسنستشهد هنا بنموذج واحد لبيان ضخامة حجم هذه الكارثة. هذا زيدان
عبد الباقي أستاذ علم الاجتماع بكلية البنات بجامعة الأزهر يقول لطالباته: ...
(هذا وتواجه البلاد الإسلامية مشكلة مختلفة تماماً تدور حول جمود التقاليد الدينية الأمر الذي يتعارض مع التغييرات التكنولوجية ... ذلك أن الإسلام قد فرض كثيراً من الأوامر والنواهي على معتنقيه الأمر الذي يتعارض مع أي تغيير يستهدفه التقدم العلمي والتكنولوجي.. وإذا كان من المتفق عليه أن العقيدة الدينية ... تتطابق مع كل نموذج معقول من الفكر فإن غاية واحدة لطيف أنوار العقيدة الدينية تجعل السحر بمثابة العنصر السائد للدين) [10] ..
لم يكن باستطاعة علم الاجتماع في بلادنا أن ينمو دون أن يقدم مزاعم
عريضة عن فائدته المجتمعية العامة وأهلية ممارسيه، واحترافهم فلم يتردد مؤسسوه
ودارسوه أن يعلنوا منذ البداية بأن علمهم يعد (وصفة طبية ناجحة) لعلاج جميع
أمراض مجتمعهم [11] .
ولهذا فإنه في خلال نصف القرن الأخير دخل علم الاجتماع ضمن مناهج
الدراسات الجامعية في أقسام وشعب متخصصة يصل عددها إلى حوالي ثلاثين
شعبة، وبعد أن كان يدرس في البداية على أيدي هواة من المتخصصين في فروع
معرفة أخرى سرعان ما أصبح تدريسه على أيدي متخصصين في علم الاجتماع
ذاته يصل عددهم بمعيار الحصول على الدكتوراه إلى حوالي المائتين. ويصل عدد
الطلاب المتخصصين في علم الاجتماع في الجامعات والكليات العربية حتى الآن
إلى حوالي عشرة آلاف طالب يتخرج منهم سنوياً حوالي ألفي طالب. كما يوجد في
الوطن العربي ما لا لم يقل عن خمسة عشر مركزاً بحثياً في علم الاجتماع أو بعض
فروعه. ويظهر في المتوسط حوالي مائة كتاب سنوياً يؤلفها أساتذة الاجتماع العرب
بالإضافة إلى مئات من الأوراق المقالات والتقارير البحثية والاستشارية، علاوة
على عشر مجلات أكاديمية متخصصة في علم الاجتماع [12] .
وبعد سبعة وسبعين عاماً من هذا النمو والازدهار والتضخم الكمي والمؤسسي
في علم الاجتماع (المنقطع عن الإسلام) اجتمع رجال الاجتماع العرب في تونس
وبالتحديد في يناير1985 لمناقشة محصلة هذا الانقطاع وهل أثمر التخريب المتعمد
للنسيج الاجتماعي في بلادنا وذلك في ندوة بعنوان (نحو علم اجتماع عربي) . كان
أهم نتائج هذه الندوة الاعتراف الصريح بالفشل الذريع الذي تجسد في إجاباتهم على
سؤال طرحوه بأنفسهم هو: (هل يستطيع الوطن العربي أن يعيش ويزدهر بدون
علماء اجتماع؟) اعترف رجال الاجتماع ويعتصرهم الألم الشديد اعترافاً جلياً بأن
بلادنا ليست في حاجة إليهم، وأنها ليست في حاجة إليهم الآن كما لم تكن في حاجة
إليهم في الماضي.
وهذا هو نص اعترافات سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكية
بالقاهرة يقول فيها مجيباً على السؤال السابق:
(راودني هذا السؤال منذ سنوات وأنا أفكر في كتابة هذه الدراسة التي
أشارك بها زملائي المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي. وكنت قد قررت أن
تكون مساهمتي المتواضعة في هذه الندوة جولة صريحة في أعماق الضمير
السوسيولوجي، إن كان ثمة ضمير سوسيولوجي ... وحتى لا أطيل في المقدمات
فإن إجابتي الشخصية عن السؤال بكل الصدق المؤلم هي أنه (نعم) . نعم يستطيع
مجتمعنا أن يعيش وبتقدم بلا علماء الاجتماع العرب، ولكي أخفف على نفسي ألم
هذه الإجابة حاولت توجيه هذا السؤال نفسه بالنسبة إلى فئات أخرى في المجتمع،
وخلصت إلى أن هناك فئات عديدة لا يستطيع المجتمع أن يعيش بدونها أهمها:
الفلاحون والعمال ورجال الإدارة والجيش، وأن هناك فئات أخرى لا يستطيع
المجتمع أن يتقدم بدونها أهمها: المهندسون والأطباء والعلماء وخبراء التكنولوجيا
والاقتصاد.. أما علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والنفس والسياسة والإعلام والآثار
وفئات أخرى عديدة فيمكن للمجتمع أن يعيش ويتقدم بغيرهم.
وبشكل آخر لو وضعنا السؤال: ماذا يحدث للوطن العربي إذا اختفى كل
علماء الاجتماع فجأة؟
والإجابة هي: لا شيء سيحدث للمجتمع سلباً أو إيجاباً، وينطبق ذلك على
فئات مهنية أخرى كما ينطبق على مجتمعات أخرى عديدة. وبالمقابل هناك
مجتمعات تقدمت في العصر الحديث دون أن يوجد فيها فئة مهنية تسمى علماء
الاجتماع مثل اليابان إلى ثلاثينيات هذا القرن، والصين إلى عقود متأخرة من هذا
القرن. كذلك ليس هناك ما يثبت قطعياً أن بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات
المتحدة ما كان لها أن تتقدم خلال القرنين الأخيرين لولا وجود علماء الاجتماع فيها. وما أريد أن أخلص إليه هو أن علماء الاجتماع كفئة مهنية متخصصة ليست
ضرورية في المجتمع الحديث وبالطبع، لم تكن ضرورية في المجتمع التقليدي) [13] .
لم يكن هذا الاعتراف الصريح والمؤلم هو الاعتراف الوحيد لمحصلة (الثورة
على الدين والانقطاع عن الإسلام) إنما كانت هناك لرجال الاجتماع اعترافات أخرى
لا تقل شدة في إيلامها وقسوتها عن هذا الاعتراف نترك الحديث عنها للعدد القادم
إن شاء الله.
(يتبع)
__________
(1) سعد الدين ابراهيم، علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي، (نحو علم اجتماع عربي) الكتاب السابع من سلسلة كتب المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986 ص209، انظر أيضاً سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية لعلم الاجتماع في الوطن العربي (نحو علم اجتماع عربي) ص 356.
(2) عبد الوهاب بوحديبة، ندوة: نحو علم اجتماع عربي المنعقدة في أبو ظبي من 24-28 أبريل 1983 منشورة في الكتاب السابق (نحو علم اجتماع عربي) ص 388.
(3) محمد شقرون، أزمة علم الاجتماع أم أزمة المجتمع، (نحو علم اجتماع عربي) ص 77-78.
(4) أحمد الخشاب، الاجتماع التربوي والإرشاد الاجتماعي، القاهرة ص 495-496.
(5) عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، الكويت 1981 ص 283-284.
(6) EZZAT HEGAZY, Contemporary Sociology in Egypt , Raji Maham and Don Martindale , Handbook of Contemporary Developments in World Sociology , London , 1975 p 380.
(7) John Saliba , Religion and Anthropology , Anthropologica , 18 , 1976 p 179.
(8) سالم ساري، الاجتماعيون العرب ودراسة القضايا المجتمعية العربية، (نحو علم اجتماع عربي) ص 185.
(9) محمد الجوهري، الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، العدد الأول، دار المعارف، القاهرة ص 11.
(10) زيدان عبد الباقي، ركائز علم الاجتماع، دار المعارف القاهرة، 1975 ص 256، 446.
(11) سلام ساري، المرجع السابق ص 185.
(12) سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية، المرجع السابق ص 345.
(13) المرجع السابق ص 343-344.(45/37)
لماذا نرفض العلمانية؟
محمد محمد بدري
ظهر مصداق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بدأ الإسلام غريباً
وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) رواه مسلم، وأصبح واقع الأمة الإسلامية
يقرر أن غربة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسرة ياسر، وبلال وغيرهم، قد
عادت للذين يقولون: ربنا الله، لا قيصر، والحاكمية لله، لا للبشر، ... وغابت
راية الإسلام عن أرض الإسلام وحكمتها نظم علمانية لا دينية، حتى أصبحت
الدعوة إلى أن يكون الإسلام بكتابه الكريم، وسنة رسوله الأمين - صلى الله عليه
وسلم - أساس الحكم، جريمة في أكثر دول العالم (الإسلامي) تحاكم عليها قوانين
تلك البلاد بالإعدام بتهمة تغيير شكل النظام؟ ! .
ولقد كان مما ساعد على استقرار تلك الأوضاع غياب الكثير من حقائق
الإسلام وبديهياته، ومن أظهرها أن وجوب الحكم بما أنزل الله عقيدة لا يكون
المسلم مسلماً إذا تخلى عنها، وأن التشريع بغير ما أنزل الله، والرضى بشرع غير
شرع الله هو شرك مخرج من الملة.
ولما كان بيان الحق وإبلاغه للخلق أمانة في عنق كل من علم شيئاً من حقيقة
هذا الدين، فقد كتبت هذه المقالة:
بياناً لحقيقة العلمانية، بكشف المخبوء من حقيقتها، وتعرية المستتر من
أسرارها، وإضاءة المناطق المعتمة في حركة العلمانيين ودعوة للنجاة في الدنيا
والآخرة، بقبول شرع الله، ونبذ كل شريعة يقوم عليها علمانيون يقفون في طريق
الإسلام والتوحيد الخالص، وكأنهم أرباب زائفون. وليكون ذلك ميلاداً جديداً للفرد
المسلم والأمة المسلمة، الأمة التي تحمل رسالتها إلى كل البشرية بالنجاة من
الشرك ... تلك الرسالة التي عبر عنها في بساطة ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، هذا يسأله ما الذي جاء بكم؟ فيجيب للتو واللحظة: ... الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
أولاً: العلمانية ... وحكم الجاهلية:
حاول اعداء الإسلام القضاء على الإسلام عن طريق نشر الإلحاد ...
وفشلوا.. وحاولوا صرف الناس عن الإسلام عن طريق الشيوعية.. وفشلوا.. وأحس الأعداء اليأس من هذا الدين.. ولكنهم، بعد التفكر والتدبير، لجأوا إلى طريقة أخبث (لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين جملة، بل تعلن إيمانها به إيماناً نظرياً واحترامها له كعقيدة في الحنايا، وشعائر تؤدى في المساجد،.. أما ما وراء ذلك من شؤون الحياة فمرده - بزعمهم - إلى إرادة الأمة الحرة الطليقة التي لا تقبل سلطاناً عليها من أحد! ! !
ولما كانت حقيقة العلمانية قد تخفى على كثير من المسلمين، فإنه من واجبنا
أن نفضح هذه العلمانية عبر نظرة نلقيها عليها لنتبين من خلالها ما هي العلمانية؟
وكيف نشأت؟ لمن حق التشريع المطلق في نظمها؟ وما هي الشريعة التي تحمل
الأمة على التحاكم إليها؟
1- العلمانية.. التعريف والنشأة:
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة secularism في الإنجليزية، أو
secularite بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على
الإطلاق ... والترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية أو الدنيوية، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت صلته بالدين علاقة تضاد..
وفي دائرة المعارف البريطانية مادة secularism: هي حركة اجتماعية
تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا
وحدها [1] . ولذلك فإن المدلول الصحيح لكلمة (العلمانية) هو: فصل الدين عن
الدولة أو هو: إقامة الحياة على غير الدين، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد، ثم
تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود، فبعضها
تسمح به، ... وتسمى العلمانية المعتدلة، فهي - بزعمهم - لا دينية ولكنها غير
معادية للدين، وذلك في مقابل المجتمعات الأخرى المضادة للدين ... وبدهيّ أنه لا
فرق في الإسلام بين المسمين، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في
حقيقته مضاد للدين، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما [2] . وإذن فالعلمانية دولة لا تقوم على الدين، بل هي دولة لا دينية، تعزل الدين عن
التأثير في الدنيا، وتحمل الأمة على قيادتها للدنيا في جميع النواحي السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عن أوامر الدين
ونواهيه.
والعلمانية دولة لا تقبل الدين إلا إذا كان علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه،
بحيث لا يكون لهذه العلاقة أي تأثير في أقواله وأفعاله وشؤون حياته.
(ولا شك أن هذا المفهوم الغربي العلماني للدين على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا علاقة لها بواقع الحياة ... جاء من مفهوم كنسي محرّف شعاره (أدّ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) ، من واقع عانته النصرانية ...
خلال قرونها الثلاثة الأولى، حين كانت مضطهدة مطاردة من قبل الامبراطورية
الرومانية الوثنية فلم تتمكن من تطبيق شريعتها، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية
اضطراراً واعتبرت ذلك هو الدين، وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين
صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين
السماوي المنزل، فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً،
ولم تجد كبير عناء في فصل الدين عن الدولة) [3] ، وتثبيت الدين على صورته
الهزيلة التي آل إليها في الغرب.
وإذن فالعلمانية: رد فعل خاطئ لدين محرّف وأوضاع خاطئة كذلك، ونبات
خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية، فلا شك أنه لم يكن حتماً
على مجتمع ابتلي بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً، بل
الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.. فإذا وجدنا مجتمعاً آخر
يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه، ومع ذلك يصر على أن ينتج
اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة فماذا نحكم عليه؟ [4] فقط نثبت السؤال،
ونترك - لا نقول لكل مسلم - بل لكل عاقل الإجابة عليه!
أما نحن فنكرر هنا أنه لا يوجد دين جاء من عند الله هو عقيدة فقط، والدين
الذي هو عقيدة فقط (أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس
في هذه الأرض، هو دين جاهلي مزيف لم ينزل من عند الله) [5] .
2- العلمانية.. وحق التشريع المطلق:
في مسلسل نبذ الشريعة الإسلامية، وفصل الدين عن الحياة في دار الإسلام،
كانت الحلقة الأخيرة هي النص في دساتير الدول في العالم الإسلامي على تقرير
حق التشريع المطلق للأمة من دون، الله، ونصت بعض الدساتير على اعتبار
رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية. واكتفى البعض الآخر بالنص
على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع وهي حق الاقتراح،
وحق الاعتراض أو التصديق. فالأنظمة العلمانية تقر بالسيادة المطلقة للأمة،
وتنص في دساتيرها على أن القانون هو التعبير عن إرادتها المطلقة ... فالأمة -
بزعمهم - هي التي تقرر الشرائع التي تحكم بها، وحقها في ذلك بلا حدود! !
ولا شك في أن هذا في حقيقته هو الإقرار بحق التشريع المطلق للأمة لا
ينازعها فيه منازع ولا يشاركها فيه شريك.. فما تحله هو الحلال وإن اجتمعت على
حرمته كافة الشرائع السماوية، وما تحرمه هو الحرام وإن اتفق على حله كل دين
جاء من عند الله. ذلك أن الأمة في الأنظمة العلمانية هي مصدر التشريع، وما
يصدر عنها هو القانون. (والقانون ليس بنصيحة ولكنه أمر، وهو ليس أمراً من
أي أحد، ولكنه أمر صادر ممن يدان له بالطاعة، وموجه إلى من تجب عليه تلك
الطاعة) [6] .
وإذا كان سلطان الأمة يتجسد في السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية
فإنه (لا يوجد قانون بالمعنى الصحيح إلا إذا صدر عن السلطة التشريعية في الحدود التي رسمها له الدستور، وكلتا السلطتين التشريعية والقضائية بهذا الاعتبار مشتركتان في الخضوع لسيد الكل.. ألا وهو الدستور.. الذي يجب أن يحني الجميع أمامه رؤوسهم صاغرين..) [7] .
وتأمل معنى هذه الكلمات، وقل معي: رحم الله ابن تيمية ... القائل: (إن
الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله.. وإما أن يرفض
هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله) . [8]
3- العلمانية.. والمصدر الرئيسي للتشريع:
هناك شبهة قد يشوش بها العلمانيون، وهي أن بعض الدساتير العلمانية تنص
على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.. مثل دستور مصر
الذي جاء في مادته الثانية: أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي
للتشريع ... ونحن نقول في الرد على هذه الشبهة: - إننا لا نحكم إلا بما نعلم، ولا نجزم إلا بما نرى المحاكم الوضعية تمارسه صباح مساء،.. فهذه المحاكم لا تزال ملزمة قانوناً بتطبيق القوانين الوضعية، ولا يزال القضاة في هذه المحاكم غير قادرين بأي حال من الأحوال على تطبيق الشريعة الإسلامية.
ففي قضية اغتيال السادات أسس الدفاع عمله على الدفع بعدم الدستورية لأن
نصوص القوانين مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية التي تعتبر المصدر الرئيسي
للتشريع وفقاً لأحكام المادة الثانية من الدستور الصادر عام 1971، والمعدلة عام
1980.. فماذا قالت المحاكمة في ردها على ذلك؟
جاء في رد المحاكمة: (.. رداً على هذا الدفع، فإن المحكمة تشير بادئ ذي ... ...
بدء إلى ما هو مستقر من أن قواعد التفسير للنصوص تأبى تأويل النص أو تحميله
أكثر مما يحتمل إذا كان واضحاً لغوياً فعبارة (المصدر الرئيسي للتشريع) لا تمنع
لغوياً وجود مصادر أخرى للتشريع، وهو نفس مفاد النص قبل تعديله) [9] .
أرأيتم.. إن المحكمة تؤكد أن العبارة شركية، وأنها تنص على وجود مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية.
ولماذا نذهب بعيداً؟ لقد حدث بالفعل أن حكم قاضٍ بالجلد في جريمة سكر،
متأولاً هذه المادة من الدستور ... فماذا كانت النتيجة؟
لقد أُبِطل حكمه، وأقصي عن القضاء. وكان مما ذكره رئيس محكمة
الاستئناف في أسباب بطلان هذا الحكم ما يلي:
1- إن من قضى بذلك فقد حنث في يمينه القضائي الذي أقسم فيه على الحكم
بالعدل واحترام القوانين، ... والعدل كما يقول رئيس محكمة الاستئناف: يعني أن
يقضي القاضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون المطبق..
ثم يضيف قائلاً: فقضاء المحكمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حنث
باليمين، فما بالك بمن طبق أو يخترع قانوناً يعلم أنه غير معمول به! !
2- ... وجنائياً لا يجوز، ولا يقبل من القاضي أن يجرم فعلاً لا ينص
القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له ولا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص
القانون عليها.
3-إن مصدر هذا القانون لم يعرف شيئاً عن علم العقاب، فقد (شدد) المشرّع
الوضعي في العقوبة وجعلها ستة أشهر حماية للمجتمع، وهذا أحفظ من مجرد الجلد
ثمانين جلدة. [10]
أرأيت - أخي المسلم - إن هذه العلمانية ترى أن التشريع الوضعي أحفظ
لأمن المجتمع من الشريعة الإسلامية.. وأن القاضي الذي حكم بالجلد لم يعرف شيئاً
عن علم العقاب.. وهكذا.. وكأن القوم يقولون إن الله - تعالى الله عما يقولون
علواً كبيراً -لا يعرف شيئاً من علم العقاب عندما أكتفى بمجرد الجلد على
السكر ... سبحانك هذا بهتان عظيم.
ومن الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم خيراً مما يشرع
لهم ويحكم فيهم ربهم سبحانه؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء
العريض؟ .. أيستطيع أن يقول إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن
يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بالناس
ومصالح الناس من إله الناس؟ ... أيستطيع أن يقول: إن الله سبحانه وهو يشرع
شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل
رسالته خاتمة الرسالات ويجعل شريعته شريعة الأبد، كأنه سبحانه يجهل أن أحوالاً
ستطرأ، وأن حاجات ستجد وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته
لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان! ! ! ما الذي يستطيع
أن يقوله ... وبخاصة إذا كان يدعي الإسلام؟
إنه مفرق الطريق، الذي لا معدي عنه من الاختيار..
إما إسلام، وإما جاهلية ... إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية..
وهذه العلمانية التي وصفنا حالها، ورأينا واقعها ليست يقيناً حكم الله القائم
على الكتاب والسنة ... فماذا تكون إلا حكم الجاهلية؟ قال تعالى:
[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ]
فجعل الله الحكم حكمين لا ثالث لهما: حكم الله ... وهو الحكم القائم على
الكتاب والسنة،.. وحكم الجاهلية.. وهو ما خالف ذلك [11]
إذن فالعلمانية هي ... حكم الجاهلية.
(يتبع)
__________
(1) وهل الدنيا والآخرة طريقان منفصلان؟ وهل هذه لإله وتلك لإله؟ وهل الإله الذي يحكم الدنيا غير الإله الذي يحاسب الناس يوم القيامة؟ .
(2) العلمانية - سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 21-24.
(3) حول تطبيق الشريعة محمد قطب ص 112.
(4) العلمانية - سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 648-649.
(5) حول تطبيق الشريعة محمد قطب ص 107.
(6) راجع كتاب مدخل دستوري للدكتور سيد صبري.
(7) راجع كتاب مدخل دستوري للدكتور سيد صبري.
(8) العبودية - ابن تيمية ص 6.
(9) صحيفة الأهرام - عدد الخميس 29 جمادي الأول 1402.
(10) مأخوذ من كتاب - أحكام إسلامية إدانة للقوانين الوضعية - محمود غراب.
(11) في ظلال القرآن - سيد قطب 2/905.(45/45)
شذرات وقطوف
إعداد: أبو خالد التميمي
ضرورة التربية على معاني الإسلام:
(.. إن حفظ معاني الإسلام فقط دون أن تمس هذه المعاني القلب، ودون أن
يصبغ بها السلوك، لا يفيد في التقويم ولا في صلاح المسلم، إن من يحفظ مناهج
الرياضة في تقوية الجسد، ويذكرها إذا سئل عنها، أو يرددها بنفسه دون أن
يطبقها فعلاً على نفسه لا يكتسب صحة جيدة ولا جسماً قوياً، وكذا من يعرف
الإسلام ويحفظ معانيه دون أن يربي نفسه عليه) .
عبد الكريم زيدان - أصول الدعوة -
الأمم لا تعيش بالماضي فقط !
(.. والأمم لا تعيش بالتاريخ ولا بما مثلته من دور في الزمن الماضي، وما
حققته من نجاح وانتصار في عهد سابق، إنما تعيش الأمم بالجهاد المتواصل،
والنشاط الدائم، والشعور بالمسئولية المستمر، والمخاطرة بالنفس والنفيس في كل
زمان، والجدة والابتكار، وإنتاج المفيد الجديد والصالح المزيد.)
أبو الحسن الندوي
نحن والأعداء:
(.. وليقل الأعداء ما يقولون، وليطلقوا على المؤمنين من الألقاب ما شاؤوا، وليصفونا بالمتطرفين أو الأصوليين أو غير ذلك، فو الله لم نعبأ بهم، ولم
نكترث لما يقولون. فلقد عرفنا طريقنا من كتاب ربنا وسنة نبينا -عليه الصلاة
والسلام-. ولم ننتظر من أعداء الله أن يقوّمونا، إن الذي يحزننا هو أن يمدحونا
ويثنوا علينا، لأن هذا يدل على أن فينا ما يعجبهم وهم أعداء الله لا يرضيهم إلا ما
يسخطه. أما أن يرمونا ويصمونا بالألقاب المختلفة، فهذا هو الذي يسرنا، وهذا
هو المنتظر منهم) .
سلمان بن فهد العودة - جزيرة الإسلام -
أقوال:
* قال رجل لأبي هريرة -رضي الله عنه-: أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه فقال له أبو هريرة: كفى بترك العلم إضاعة.
* قال بكر بن عبد الله:
(إذا رأيت من هو أكبر منك، فقل: سبقني بالإسلام والعمل الصالح فهو
خير مني. واذا رأيت من هو أصغر منك، فقل: سبقته بالذنوب والمعاصي، فهو
خير مني. واذا رأيت إخوانك يكرمونك فقل نعمة أحدثوها، واذا رأيت منهم
تقصيراً فقل: بذنب أحدثته.
* قيل لابن سيرين: ما أشد الورع! فقال ما أيسره! إذا شككت في شيء فدعه.
* كان أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- يمشي في الوحل ويستوقي غاصت
رجله، فقال لأصحابه: هكذا العبد لا يزال يتوقى الذنوب فإذا واقعها خاضها.(45/53)
ضوابط في
تلقي النصوص الشرعية وفهمها
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
لا شك أن لنصوص الوحيين (الكتاب والسنة) المنزلة العظيمة اللائقة بهما،
كما أن لفهم تلك النصوص الأسلوب الملائم لحصول المقصود منها، وسأورد لك
أخي القارئ بعضاً من الضوابط التي يتعين تذكيرها إزاء النصوص الشرعية عند
تلقيها وفهمها.
1- التسليم والتعظيم:
لا بد من التسليم التام والخضوع الكامل للنصوص الشرعية، كما أنه يتعين
التحاكم إليها وتقديمها على غيرها، كما يجب تعظيم نصوص الوحيين وإجلالها
وتوقيرها.
إن التسليم يعني خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لأعمال الجوارح، كما
أن التسليم (هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض القدر والشرع، وصاحب هذا التوجه هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، فإن التسليم ضد المنازعة) . [1]
إن صفة التسليم للنصوص الشرعية من أهم صفات أهل الإيمان، فلا أحد
أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله تعالى، كما أنه ممن نال التمسك بالعروة الوثقى.
[ومَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ] [النساء 125] ، وقال
تعالى:
[ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى]
[لقمان 22]
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - أثناء حديثه عن السلف الصالح - (وكان
من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق
عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقولة، ولا قياسه، ولا وجده. فإنهم ثبت عنهم
بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن
القرآن يهدي للتي هي أقوم) [2] .
ويوضح -رحمه الله- أهمية هذا الأمر فيقول: (جماع الفرقان بين الحق
والباطل، والهدى والضلال والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق
الشقاوة والهلاك؛ أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي
يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق
وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن
خالفه فهو باطل) [3] .
واعلم - أخي القارئ - أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على
التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا
لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن
تفاصيل الحكمة فما أمرها به، أو نهاها عنه، أو بلّغها عن ربها، بل انقادت،
وسلمت، وأذعنت. وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في
انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم
عقولاً ومعارفاً وعلوماً لا تسأل نبيها لمَ أمر الله بذلك؟ ولمَ نهى عن ذلك؟ ولَم فعل
ذلك؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام) . [4]
ولقد كان نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه -رضي
الله عنهم- على التسليم لله تعالى وآياته وإجلال النصوص الشرعية وتعظيمها، ولقد
خرج -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يقولون: ألم يقل الله كذا وكذا،
يرد بعضهم على بعض، فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان من الغضب، ثم قال:
(ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم) . رواه أحمد
والترمذي.
وقد ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- أروع الأمثلة في التسليم والإجلال
للنصوص الشرعية، فهذه امرأة تقدم على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
وتسألها، فتقول: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ فقالت المرأة: لست حرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) . رواه مسلم.
ويحدث عمران بن حصين -رضي الله عنه- فيقول: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: (الحياء كله خير. فيقول أحدهم: إنا لنجد في بعض الكتب أن
منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعف. قال فغضب عمران حتى احمرت عيناه،
وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعارض فيه. قال
فأعاد عمران الحديث، وأعاد الرجل مقالته، فغضب عمران، حتى قال
الحاضرون له: إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به) . أي ليس ممن يتهم بنفاق أو
زندقة. رواه مسلم.
وقد التزم سلف هذه الأمة هذا المنهج، واعتنوا أيما عناية بتحقيقه، فها هو
الأوزاعي -رحمه الله- يقول: (من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ،
وعلينا التسليم) [5]
وقال رجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
(ليس منا من لطم الخدود وليس منا من لم يوقر كبيرنا) وما أشبه هذا الحديث؟
فأطرق الزهري ساعة ثم رفع رأسه فقال: من الله -عز وجل- العلم، وعلى
الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) . [6]
ولما ذكر ابن المبارك حديث (لا يزني الزاني وهو مؤمن..) فقال فيه قائل: ... ما هذا؟ على معنى الإنكار. فغضب ابن مبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان
(كثير الكلام والشكوى) أن نحدث بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلما
جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. [7]
وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: (احتج
آدم وموسى) فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال:
فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض
بكيف؟ ! فما زال يقول حتى سكت عنه.
يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني -رحمه الله- معلقاً على هذه القصة: (هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقابلها
بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا
الطريق الذي سلكه هارون الرشيد - رحمه الله - مع من اعترض على الخبر
الصحيح الذي سمعه بـ (كيف) على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه
بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم) . [8] ...
إن الناظر إلى واقع المسلمين الآن، يرى ما يدمي القلب، ويورث الحزن،
وذلك بسبب ما قد يقع فيه الكثير من المسلمين تجاه النصوص الشرعية، من جفاء
للنص، وهجران للسنة، بل ومعارضة النص الشرعي المعصوم بمعقول أو ذوق
أو قياس أو سياسة ... ألا فليتق الله أولئك القوم، فإنه والله يخشى على هؤلاء أن
يكون لهم نصيب من هذا الوعيد الشديد في الآية الكريمة:
[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
[النور 63]
يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد
وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان - أي الثوري - والله تعالى يقول:
[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
2- الإيمان بجميع ما جاء عن الله تعالى وما صح عن رسوله
صلى الله عليه وسلم:
من سمات أهل السنة الإيمان بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يؤمنون
ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب، ومن شابههم من أهل الأهواء، فأهل
الحق يؤمنون بالله وبما جاء عن الله على مراد الله كما يؤمنون بالرسول -صلى الله
عليه وسلم- على مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
يقول تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] [البقرة 208]
أي فإن الله تعالى يأمر عباده والمؤمنين به أن يأخذوا بجميع شرائع الإسلام
جملة وتفصيلاً، وقال سبحانه:
[والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] [آل عمران: 7]
إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية
الوسطية بين الفرق، كما كانت هذه الوسطية سبباً في هداية الله لهم فيما اختلف فيه
من الحق بإذنه، فإيمانهم - مثلاً - بنصوص الإثبات مع التنزيه في باب صفات
الله تعالى جعلهم وسطاً عدلاً بين المعطلة والمشبهة، كما أن إيمانهم بنصوص الوعد
والوعيد جعلهم وسطاً بين الوعيدية والمرجئة، وإيمانهم بالنصوص التي تضمنت
إثبات قدرة الله وخلقه ومشيئته مع النصوص التي تثبت للعبد فعلاً ومشيئة..
أورثهم المسلك الوسط الخيَّر بين القدرية النفاة والجبرية، وكذا إيمانهم بجميع
النصوص الصحيحة في فضائل الصحابة جعلهم وسطاً بين الروافض والخوارج.
وقد حرص سلف الأمة على تطبيق هذا الأصل، فكانوا أهل الوسطية
والاعتدال، ومثال ذلك أن الزهري - رحمه الله - حدّث بحديث الرجل المسرف
على نفسه، والذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار - جهلاً منه بقدرة الله - فبعثه
الله وسأله عن سبب صنيعه فقال هذا الرجل: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك. ثم
حدّث الزهري بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا أرسلتها
تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً. رواه مسلم.
ثم قال الزهري: لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل.
قال النووي: (معناه لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه
من سعة الرحمة وعظم الرجاء، فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد
ذلك ليجتمع الخوف والرجاء، وهذا معنى قوله (لئلا يتكل ولا ييأس) وهكذا معظم
آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء لئلا يقنط أحد ولا يتكل.) [9]
وجاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله- يسأله عن فضل الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر - وكان ذلك في أيام فتن - فذكر الحسن حديث أبي
سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يمنعن
أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه، أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا
يباعد من رزق أن يقال بحق) . [10]
ثم أتبعه الحسن بحديث آخر فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(ليس لمؤمن أن يذل نفسه، قيل: يا رسول الله، وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرض
من البلاء ما لا يطيق) . [11]
واعلم - يا أخي - أن الإيمان بجميع النصوص يقتضي تحقيق البلاغ المبين
لها، فدين الله تعالى لجميع المكلفين، يقول الشاطبي: (الشريعة بحسب المكلفين
كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون
بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة. كما في النصوص
المتضافرة كقوله تعالى:
[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًاً]
وقوله:
[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً]
وقوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الأحمر والأسود ... ) [12] ...
ولكن لا يعني هذا الإخبار بكل نص ولكل مكلف بإطلاق ... بل لا بد من
التنبيه إلى أمر مهم يبينه الضابط التالي:
3- مراعاة أحوال المخاطبين:
فمن المعلوم أن لكل مقام مقالاً، وربما صح مقصد المكلف، وحسنت نيته،
لكن قصر فهمه عن إدراك المقصود من النص، فساء إدراكه والتبس عليه الأمر،
ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- ممن جمعوا بين حسن القصد مع حسن الفهم، وقد يحرم البعض أحد الأمرين أو كلاهما.
يقول شيخ الإسلام: (إن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد،
وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء..
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها، كما قال ابن
عباس لما سأله أحدهم عن قوله تعالى: [اللَّهُ الَذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ... ] الآية. فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت، وكفرك تكذيبك بها) . [13] ...
ويوضح الشاطبي هذا الأمر فيقول:
(ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من
علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر،
وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره
بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص) . [14]
ثم يقول: (وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول [*] فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية) . [15]
وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الضابط، فكانوا في دعوتهم
وتبليغهم مراعين لأفهام الناس وأحوالهم، فها هو عبادة بن الصامت -رضي الله
عنه - وهو يعالج مرض الموت - يقول: ما من حديث سمعته من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- لكم فيه من الخير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف
أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرَّم الله عليه النار) رواه مسلم.
يقول القاضي عياض في شرح هذا الحديث: (فيه دليل على أنه كتم ما خشي
الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل واحد، وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه
حد من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصحابة -رضي الله عنهم- كثير في ترك
الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة،
أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة
وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم، والله
أعلم) . [16]
وجاء في حديث معاذ قوله -صلى الله عليه وسلم- (ما من عبد يشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرم عليه النار. فقال معاذ: يا رسول الله
أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا) فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
قال ابن الصلاح: (منعه من التبشير العام خوفاً من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذاً، فسلك معاذ هذا المسلك فأخبر به من الخاصة من رآه أهلاً لذلك) . [17]
وقال ابن رجب في شرحه لأوائل صحيح البخاري: (قال العلماء يؤخذ من
منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس
لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل
وخشية الله -عز وجل-، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالاً على
ظاهر هذا الخبر) . [18]
ولما أخبر أبو هريرة عمر - رضي الله عنهما - بحديث: (من شهد أن لا
إله إلا الله مستيقناً به قلبه دخل الجنة، فقام عمر وضرب بيده بين ثديي أبى هريرة
حتى أسقطه، وقال ارجع يا أبا هريرة، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله، وأخبره
بما فعل عمر، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما حملك على ما فعلت؟
قال عمر: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. قال
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: خلهم) . رواه مسلم.
قال النووي: (وفيه جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة
أو خوف المفسدة) . [19]
وقد عقد الإمام البخاري باباً فقال: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وأورد قول علي -رضي الله عنه-: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟
وللحافظ ابن حجر كلام نفيس في هذا المقام حيث يقول: (وفيه دليل على أن
المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود (ما أنت محدثاً قوماً
حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) رواه مسلم.
وعن الحسن البصري أنه أنكر تحديث أنس بن مالك للحجاج بن يوسف بقصة
العُرَنييَّن، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله
الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل
غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخش عليه الأخذ بظاهره مطلوب [**] ) [20]
وساق مسلم بسنده إلى منصور بن عبد الرحمن الأشل البصري عن الشعبي
عن جرير أنه سمعه يقول: أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. قال
منصور: قد والله روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكني أكره أن يروى
عني ههنا بالبصرة. [21]
والسبب في ذلك كما ذكر النووي - أن البصرة كانت مملوءة من المعتزلة
والخوارج الذين يقولون بتخليد العصاه في النار، ويسلبون عنهم جميع الإيمان،
فخشي منصور أن يتأول هؤلاء المبتدعة هذا الحديث على حسب أهوائهم.
نسأل الله تعالى لجميع المسلمين الفقه في الدين وبالله التوفيق.
__________
(1) مدراج السالكين 2/147.
(2) الفتاوى 13/28.
(3) الفتاوى 3 1 / 35 1، 36 1.
(4) الصواعق المرسلة 4/1560، 1561 باختصار.
(5) التمهيد 6/14.
(6) السنة للخلال 3/579.
(7) تعظيم قدر الصلاة 1/504، 505.
(8) عقيدة السلف ص 117.
(9) شرح النووي على مسلم 17/372.
(10) واخرجه احمد وإسناده صحيح.
(11) وأخرجه أحمد والترمذي وهو صحيح انظر صحيح الجامع الصغير 6 /253.
(12) الموافقات 2/2ب4.
(13) الفتاوى 6/ 59.
(14) الموافقات 4 / 189.
(*) لا يصح أن يقال: إن بعض مسائل الشرع مما لا تقبله العقول لأن العقل والنقل من الله تعالى ويستحيل اختلافهما وإن حصل فلعل هناك أسباباً تعود لعدم فهم النصوص على الوجه المطلوب، ولشيخ الإسلام كتاب هام في ببان موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول وهو المعروف بـ (درء تعارض النقل والعقل)
- البيان -.
(15) الموافقات 4/ 191.
(16) شرح النووى على مسلم 1/229.
(17) شرح النووي على مسلم 1/241.
(18) الفتح 11/340.
(19) شرح النووي على مسلم 1/240.
(**) وبالطبع ليس من هذا الباب ما تزعمه بعض الفرق المبتدعة من أن الرسول حبس بعض العلوم عن الناس وقصرها على بعض، فهذا ادعاء باطل واتهام للرسول -صلى الله عليه وسلم -
بالخيانة - حاشاه - وإنما قصدهم إضاعة ما يدعونه من دعاوى باطلة، وتعضيدها بالنصوص المزعومة وحسبك بيان العلماء
لهذا الباب.
(20) الفتح 1/225.
(21) شرح النووي على مسلم 2/57.(45/55)
بين التقصير والتآمر
د. نعمان عبد الرزاق السامرائي
المتأمل في أحوال الأمة الإسلامية يجدها تعاني معاناة شديدة كما يجد
التفسيرات متباينة لذلك. بعض المفكرين يركز على قصور الأفراد والمجتمعات،
بينما يركز آخرون على (تآمر) الأعداء.
والذي لا يجادل فيه أحد أن التاريخ يتحرك ولكن إلى أين؟ هناك من يعتقد
بأن الحركة مندفعة للأمام، وقد قال بهذا بعض مفكري اليونان، ثم جاء (هيغل)
ليقول بأن كل فترة في الحضارة تكون أفضل من سابقتها، ومعنى ذلك أن الحضارة
في تقدم مستمر، وقد تلقفت الماركسية الفكرة فطبقتها في الصراع الطبقي، ونادت
بمثل ما نادى به هيغل، والذي نعلمه ونعرفه عن الحضارة أنها مجموعة أشياء
مادية مثل المباني والطرق وأخرى معنوية كالآداب والفنون والأنظمة والأفكار
والعقائد، وهذا الخليط المجتمع يمكن أن يتقدم بعضه ويتوقف آخر ويتأخر قسم
ثالث، فالحضارة ليست كائناً (عضوياً) إما أن يتقدم أو يتأخر فإن كان هذا يصدق
على الجسم الواحد فلا يصدق على الحضارة.
على أن هناك من يرى بأن حركة التاريخ تتم حسب دورات وأشهر ومن نادى
بذلك ابن خلدون وفيكو واشبنجلر وتوينبي - على اختلاف بينهم في طبيعة
الدورة - بل هناك من يقول بالنكوص والتقهقر.
المهم أن التاريخ يتحرك وفيه تتلاقى قوى وإرادات عدة، كما يساهم في تلك
الحركة نشطون وكسالى، يتدافعون ويتصارعون، يقول تعالى:
[ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251]
ويقول:
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] [الحج: 40]
ففي هذا التدافع والصراع تجديد وتنشيط، يشبه إلى حد جريان الماء الذي ما
أن يقف حتى يفسد.. فالتدافع بين البشر واقع مشهود، وحقيقته محسوسة. ونعود
للسؤال: هل ما نعانيه سببه تقصير أم تامر؟ ؟ لقد ألفا الكثير من المفكرين
والمفسرين للتاريخ يعتمدون التفسير (التآمري) فهناك اليهود والصليبية -
والشيوعية حتى الأمس -، وهؤلاء يحشرون الكثير من الحجج، فكل قضية يكون
فيها المسلمون طرفاً تجد التحيز وذوبان الموضوعية، فإذا ابتعدت هذه القضية عن
هذه الدائرة وجدنا الموضوعية والتزام الحياد.
وفي كل يوم نسمع هذا المسلم قتل هنا أو عذب هناك أو قام الجيش الفلاني
بحصده، والعالم يلتزم الصمت فإن كان المعتدي عليه يهودياً فإن الدنيا كلها تبكي
وتصرخ وتحتج.
ويتسائل البعض: ترى لو أن روسيا مثلاً قتلت كل يوم يهودياً أو أكثر كما
تعمل إسرائيل بالشعب الفلسطيني فماذا سيحدث؟
لا شك أن حرباً عالمية ثالثة ستقوم، وسيقتل الملايين وتهدم مدن وتباد جيوش.
الغرب يبكي ويلطم الخدود على بضعة (مختطفين) في لبنان، ولكن لا أحد
يبكي على الفلسطيني الذي يموت تحت التعذيب الإسرائيلي، ولم نسمع أحداً بكى أو
تباكى على الشباب الفلسطيني الذي دفن حياً على يد الصهاينة، تغير إسرائيل على
لبنان وتستعمل كافة الأسلحة ولا من يحتج، تضرب في تونس وتقتل ولا من يحتج، تفاوض إسرائيل الهند للتعاون في ضرب المنشآت الباكستانية النووية ولا من
يحتج. أليس هذا تآمراً مكشوفاً؟ يقول المؤرخ البريطاني توينبي: إن الغرب
اضطهد اليهود وأساء إليهم، وكان المفروض أن يعوضهم، لكن الذي حصل أن
الثمن دفعه أهل فلسطين فنزل بهم على أيدي الصهاينة بمساندة من الغرب أكثر مما
نزل باليهود. ومع ذلك قام الغرب والشرق مسارعاً للاعتراف بإسرائيل ودعمها
بالمال والرجال والعتاد لتعتدي كل يوم على جيرانها. دول كبرى احتجت بشدة لدى
الصين لأنها تنوي بيع صواريخ لسوريا والباكستان وهذه الدول نفسها تسلم في نفس
الوقت طائرات حربية لإسرائيل وتقدم لها ألوف الملايين حتى تعتدي يومياً وتطرد
أهل البلاد لتُحل مكانهم مهاجرين من الحبشة أو روسيا.
هل هناك دولة في العالم تطرد المواطن لتحل مكانه مهاجراً؟ ولعل مما يدخل
في سلسلة التآمر ما يصرح به أمثال (كيسينجر) علناً بأن من الواجب (تفتيت
المقدرة الإسلامية قبل أن يقدر لها الاكتمال) .
وقد قدر الدكتور حامد ربيع أن الرب سيعمل لإجهاض الصحوة الإسلامية عن
طريق (التلويث والتطويع والإذابة) . أما حملة التلويث فقائمة على قدم وساق،
تساهم فيها الصحافة العربية بعلم أو بدونه، نيابة عن الآخرين، وأما التطويع فتلك
مهمة الحكومات المحلية، فهي تشد يوماً وترخي آخر، حتى قال وزير داخلية في
قطر عربي كبير: إن أحكام الطوارئ تطبق على (الإسلاميين فقط) وحقوق
الإنسان تشمل كل البشر سوى المسلم فهو حلال الدم. أما الإذابة فقد تكفل بها
أشخاص من بينهم مدراء جامعات في جيوبهم (شيكات) توزع هنا وهناك والهدف
ضرب الصحوة الإسلامية وإذابتها، ومن يريد الاستزادة فدونه كتاب (موقف
إسرائيل من الحركة الإسلامية) لزياد علي.
أما التقصير فهو أظهر من أن يخفى. فهذه اليابان والمانيا خرجتا من الحرب
العالمية مهزومتين، وقد دمرت مدنهما وخلعت حتى قضبان سكة الحديد، ونهبت
المصانع وخلال سنوات سبقت حتى الدول التي انتصرت عليها وقد لحقت بها أخيراً
كوريا الجنوبية.
أما نحن فقد صرنا - بحمد الله - من مستهلكي الحضارة، كما تحولت بلادنا
إلى معارض بضائع الآخرين ومنتجاتهم وأفكارهم وأمراضهم البدنية والحضارية.
إن التقصير من الصعب إنكاره، وهذه جامعاتنا ومعاهدنا الثقافية ما زالت
(عالة) على الآخرين، ومع كثرة ما ينفق عليها فهي لم (تد) سوى جيش من
الموظفين الذين ينتظرون الترقيات والعلاوات، ولا تسل عن الإيفادات وهذه طامة
كبرى.
أما الموظفون فكما قال الشاعر (يعدد أياماً ويقبض راتباً) أما الإنتاج فيخل
الإنسان أن يذكره. الكل يريد ويطالب بالحقوق و (الحوافز) ولا أحد يذكر
الواجبات.
إن ما يحدث لنا هو مزيج كريه من تقصير وتآمر ولكن جرت العادة أن يذكر
أحد العاملين ويغفل الآخر هذه مدرسة في تفسير التاريخ تكتفي بعامل واحد ولا
تبحث عن سواه. وإذا كنا نعجز عن إقناع الأعداء في وقف تآمرهم فهل نعجز عن
تلافي التقصير؟
يقول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام(45/65)
البيان الأدبي
حول التجديد
في الأدب ومفهوم الحداثة
د. عبد الله الخلف
التطور والتغيير في الأدب سمة لازمة له لا تنفك عنه. فالأدب من ناحية
مرتبط بالحياة، والحياة لا بد أن تتغير بشكل أو بآخر. ومن ناحية أخرى هناك
تطلع دائم من: قبل كثير من متلقي الأدب ومبدعيه إلى التغيير والتجديد، وإلى
اعتبار المجدد ذا شخصية إبداعية متميزة، وليس نسخة مكررة عمن سبقه. ومنذ
العصر الجاهلي أحس الشاعر بوطأة التقليد وثقله، فهذا عنترة يبدأ معلقته بالشكوى
بأن من سبقه من الشعراء لم يتركوا له مجالاً واسعاً في بكاء الأطلال: (هل غادر
الشعراء من مُتَرَدَّمِ؟) .
لذلك حاول العديد من الشعراء ولا سيما في العصر العباسي أن يجددوا في
فنهم، فظهر ما سمي آنذاك بمذهب المحدثين، وتطور هذا الأمر حتى وصل إلى
غايته، ثم بدأ بالانحدار وتحول إلى صناعة لفظية ركيكة. ومع ذلك فقد كانت
محاولة التجديد همّاً دائماً يحمله الشعراء حتى في عصور الضعف، فكانوا يتسابقون
إلى اختراع أنواع جديدة من الصناعة اللفظية على الرغم من ركاكة ما كانوا يأتون
وفي الأندلس ظهر التجديد في أوزان الشعر وقوافيه حيث ظهرت الموشحات التي
سرعان ما انتقلت إلى الشرق.
أما في أوائل العصر الحديث فقد كانت بداية التجديد بالدعوة إلى العودة إلى
أساليب الشعراء في عصور الازدهار، وأخذ هذا التيار بالنمو حتى وصل إلى
ذروته على يدي أحمد شوقي الذي قال فيه بعض النقاد إنه وصل بالشعر المحافظ
إلى ذروته، ووضع الشعراء أمام طريق مسدود، فلم يكن أمامهم من سبيل إلا أن
يقنعوا بمكانة دون مكانته، أو أن ينهجوا منهجاً مختلفاً، وكما قال أحدهم فيه وفي
أمثاله: (لقد أوصلوا الطريقة القديمة إلى نقطة لا يمكن تجاوزها إلا بالتخلي عنها) . وهذا ما حدث فعلاً حيث ظهرت مذاهب أدبية جديدة، وجرت عجلة التجديد
بسرعة كبيرة تجاوزت كل ما حدث في العصور السابقة.
وإذا وضعنا ما حدث في هذا العصر في سياقه التاريخي، فسوف ندرك أنه لا
غرابة فيه، فالتجديد سمة لازمة للأدب كما ذكرنا، أما ما نراه من سرعة هذا
التغيير، وتعدد المذاهب فإنه انعكاس لما نعيشه من تغير مستمر ومتسارع ومتشعب
في أساليب الحياة المادية، ومن تطور العلوم والمخترعات ووسائل الاتصال
والإعلان والنشر، وانفتاح أمم العالم على بعضها، ولما يشهده هذا العصر من
اضطراب فكري وعقدي، فمن المحال والحالة هذه ألا يستجيب الأدب لهذا التغيير، أو أن تكون حركة التجديد بطيئة متأنية.
وقد أطلق على موجة من أواخر موجات التجديد، والتي شهد الأدب من
خلالها نقلة واسعة اسم الحداثة، وهذا المصطلح وإن كان مترجماً من مصطلح
غربي فإنه قريب من التسمية التي أطلقها النقاد العباسيون على أصحاب المذهب
الجديد إذ سموهم المحدثين. غير أن هناك فئة من العلمانيين، وأصحاب الاتجاهات
المنحرفة برعوا في ركوب موجات التغيير واستغلالها. وكما تلقفوا لفظ التقدمية
وتسموا به واحتكروه قفزوا على لفظ الحداثة واستغلوه وألبسوه لباسهم الفكري،
وحاولوا أن يجتازوا به ساحة الأدب إلى ساحة الفكر والعقيدة، على الرغم من أن
هذا المصطلح منذ ظهوره في الغرب لم يكن يعبر عن اتجاه فكري محدد، ولم يكن
دعاة الحداثة متفقين على الثورة على المعتقدات والأفكار السائدة. فهذا واحد من
أكبر رواد هذا الاتجاه وهو الشاعر ت. س. إليوت يقول: (أنا كاثوليكي في
العقيدة، ملكي في السياسة، كلاسيكي في الأدب) . فالمصطلح في أصله دعوة إلى
التجديد في الأدب، ولا يتضمن بالضرورة الثورة على المعتقدات السائدة، ولهذا
فإن الحداثيين في الغرب ينتمون إلى اتجاهات فكرية مختلفة.
وحتى أصحاب الاتجاه الحداثي من العرب لم يتفقوا على تعريف محدد
للحداثة، ولا على موقف فكري معين، لذلك يرى الكثير منهم أنه ليست هناك
حداثة واحدة بل حداثات، كما أن بعضهم يعترف بالعجز عن إيجاد مفهوم نظري للحداثة، ويرون أنه لا سبيل إلى ذلك. ويدعو البعض إلى محاولة استنباط مفهوم هذا المصطلح ودلالته من خلال استقراء النصوص التي يرى النقاد أنها تحمل من سمات التجديد ما يميزها عن الاتجاهات التقليدية. [1]
ولكن أولئك الذين حاولوا أن يستغلوا هذا المصطلح ويحتكروه يصرون على
أن يحملوه ما يريدون من معان فكرية، بل إنهم حاولوا ان يوجدوا رباطاً وثيقاً بين
التجديد في الأدب والثورة على المعتقدات، مؤكدن على أنه لا يمكن للأديب أن
يطمع في أن يكون مجدداً إلا إذا تخلص من دينه وعاداته وتقاليده، رابطين بمكر
بين ما هو مسلم بوقوعه وهو التجديد في الأدب، وبين ما لا يمكن لمسلم أن يرض
به وهو التغيير في العقيدة. وكأنهم يريدون بذلك أن يحتكروا لأنفسهم ولمذاهبهم كل
شعار جذاب كالتقدمية والحداثة والاستنارة والوعي، وأن ينعتوا مخالفيهم بكل نعت
رديء كالتخلف والجمود والرجعية. وبهذا يتبين أن أصحاب الأفكار المنحرفة من
الذين تلقفوا مصطلح الحداثة لم يقتصروا على احتكار الاسم بل حاولوا أن يحتكروا
المسمى. وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير حتى أصبح الكثيرون من المؤمنين
ينفرون من التجديد في الأدب نفوراً إيمانياً عقدياً، لا نفوراً فنياً ذوقياً.
وكان مما ساعد على ذلك سيطرة هؤلاء المنحرفين على الساحة الأدبية
وتمكتنهم متن أن يصهروا في بوتقتهم الكثير من الأدباء، حتى أصبح الكثير من
الأدب الذي يحمل السمات الفنية للحداثة يتضمن أموراً منكرة تصل إلى حد الكفر
الصريح بالله -عز وجل-.
إن الربط بين التجديد في الأدب والانحراف في الفكر، وإيهام الناشئة أن لا
يمكن لهم تحقيق التحديث إلا بنبذ العقيدة، واعتبار الموروث الأدبي والموروث
الديني سواء في وجوب تجاوزهما والتخلي عنهما أمر مرفوض جملة وتفصيلاً.
لذلك يجب أن يحرر لفظ الحداثة مما ربطه به المارقون من أفكار، وأن يبقى ذا
دلالة أدبية خالصة.
وإذا كانت ظاهرة الاستهتار بالدين قد فشت في الأشكال الأدبية الجديدة فإن
هذا لا يعود إلى ارتباط حتمي بين الأمرين. إذ أن لذلك سبباً آخر هو انتشار الفكر
المنحرف في هذا العصر بشكل لم يسبق له مثيل بين المسلمين، وكان من الطبيعي
أن تظهر هذه الأفكار في الأدب أيا كان شكله واتجاهه، ولو أن الأشكال الأدبية
الحديثة لم تظهر وبقي الأدب على شكله القديم لحمل من تلك الأفكار مثلما حمل
الأدب الحداثي. آية ذلك أننا نجد الانحرافات العقدية في إنتاج كثير من الأدباء
الذين عاشوا قبل ظهور الحداثة، والذين يعدون في ميزان النقاد من المحافظين
حيث التزموا بالشعر العمودي، وبطرائق شعراء العصور الأولى، ومن شواهد ذلك
قول أحمد شوقي مخاطباً النيل:
دين الأوائل فيك دين مروءة ... لمَ لا يُؤلَّه من يقوت ويرزق
وقوله في الوطن:
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني ... عليه أقابلُ الحتْمَ المجابا
أُديرُ إليك قبلَ البيتِ وجهي ... إذا فُهْتُ الشهادةَ والمتابا
وقوله مخاطباً شباب مصر:
وجهَ الكنانة ليس يغضب ربَّكم ... أن تجعلوه كوجهِهِ معبودا
ولُّوا إليه في الدروس وجوهكم ... وإذا فزعتم فاعبدوه هجودا
وقول بدوي الجبل:
فكان لله حكمٌ ... لشقوتي بل لسعدي
واختار بعدي عنه ... وراح يبكي لبعدي
ويقول ايضاً:
نشارك الله - جل الله - قدرته ... ولا نضيق بها خلقاً وإتقاناً
وأين إنسانه المصنوع من حمأ ... ممن خلقناه أطياباً وألحانا
ولو جلا حسنَهُ إنسانُ قدرتنا ... لود جبريل لو صغناه إنسانا
ويقول النجفي:
لم أشارك غيري لأني كربيَّ ... واحد لا شريك لي في القوافي
هذه أمثلة لكثير مما تضمنه الشعر التقليدي الحديث من زيغ وضلال. بل إن
كثيراً منالأدب القديم يحمل في طياته انحرافات خطيرة في مجال الأخلاق والعقائد،
فهناك كثيرون من الأدباء الفساق والزنادقة، وهناك أدباء للمعتزلة والخوارج
والرافضة سخروا أدبهم لخدمة معتقداتهم الباطلة، وهناك الشعراء الذين عاصروا
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسخروا شعرهم لهجائه والاستهزاء به وبأصحابه.
وإذا فإن ما زعمه بعض المنحرفين من الربط بين تحديث الأدب والانسلاخ
من العقيدة ومجاراة بعض المخلصين لهم بسبب ما تضمنه الأدب الحداثي من
انحرافات عقدية أمر غير صحيح. فتحديث الأدب والتخلي عن طرائق السابقين
ومفاهيمهم النقدية أمر لا علاقة له بالعقيدة، فكما أن سير الأديب على منهاج
الأقدمين لا يبرر قبول أدبه المنحرف؟ كذلك فإن اتباع الأساليب الجديدة، وتبني
المفاهيم النقدية الحديثة ليس مبرراً سليماً لرفض ذلك الأدب إذا كان سليماً من
الناحية العقدية. فالمعيار العقدي الفكري لا مجال لاستخدامه إلا فيما يتعلق
بالمضمون الفكري للنص. أما بالنسبة للمعايير النقدية فالأمر فيها واسع، ومن حق
الناقد أن يرفض ما لا يوافق ذوقه ومفاهيمه النقدية.
وإذا كان بعض المنحرفين فكرياً قد حاولوا تبني مصطلح الحداثة واحتكاره،
وهو مصطلح براق، فإن هذا لا يعني التسليم لهم بذلك، بل ينبغي تسمية المنحرف
بالاسم الذي يليق به كما كان السلف يسمون أمثال هؤلاء بالزنادقة والمارقين.
ويلاحظ أن السلف لم يتلقوا الأسماء التي سمت بها بعض الفرق نفسها بالقبول ولا
سيما إذا كانت أسماء براقة تتضمن التزكة والثناء، فقد رفضوا تسمية المعتزلة
لأنفسهم أهل العدل والتوحيد وسموهم المعتزلة، وسموا الشيعة بالرافضة بدلاً من
وصفهم لأنفسهم بأنهم شيعة علي -رضي الله عنه-.
وهناك مسألة مهمة مرتبطة بقضية تحديث الأدب، وهي مسألة الدعوة إلى
كسر قواعد اللغة العربية، وهذا أمر مرفوض. والفرق واضح بين التجديد في
الأدب، وبين العبث باللغة، إذ أن هذا الأمر يمكن أن ينتج عنه نتائج خطيرة
تتصل بفهم النصوص الشرعية وتفسيرها، ويؤدي إلى الاضطراب والخلخلة في
فهم العقيدة والشريعة.
__________
(1) انظر مجلة فصول ع 424 ص 11 - 12.(45/70)
شعر
قراءة في زمن المحنة
عبد العزيز بن محمد السالم
الحق في الدنيا يقال ويُسمعُ ... والناسُ نحو ضيائه تتطلع
وعلى فؤادي ألفُ ظلِ من أسى ... تجتاحني في النائبات وتُفزعُ
يا أمتي جل المصابُ فما أرى ... للخرق مَنْ يرفو ولا مَنْ يرقعُ
ماذا أقول وفي فمي ماءٌ ولا ... أدري من الآلام ماذا أصنعُ
يا إخوةً ركبوا سفينَ نجاتهم ... والناس في لُجج الغواية ترتعُ
إني أقول لكم مقالةَ مشفقٍ ... رامَ النصيحةَ قلبه يتقطعُ
لا تحزنوا مما يقال ولا تخا ... فوا فالدنى لكم تذلُّ وتخضعُ
وإذا ادلَّهم الخَطب فاجتمعوا إلى ... علمائكم إلى رؤاهم فارجعوا
يا أيها العلماءُ يا تاجاً على ... هاماتنا بالصالحات مُرَصعُ
يا غرةً في وجه أمتنا به ... صرنا نتيه على الورى، نترفعُ
يا شعلةً في الليل، يا علَماً له ... في كل نازلةٍ نهبُّ ونفزعُ
يا أيها العلماء أنتم غصَّةٌ ... في حلق مَنْ بالشائعات تذرعوا
ولسانُ مَنْ ظلموا يلوكُ فعالكم ... وعقاربُ الفساقِ أضحتْ تلسعُ
والبغي باتَ مفكَّرا وجنودُه ... هذا يخاصمكم وهذا يخدعُ
خسئت جنودٌ صارعتْ شرفَ الفضي ... لةِ إنَّ منْ رامَ الفضيلةَ يُضرعُ
إنْ كان في الدنيا حبال قُطَّعَتْ ... جهراً فحبلُ عقيدتي لا يُقْطَعُ(45/76)
شعر
الدينُ دينُك فانتصرِ
مروان كجك
الدينُ دينُك فانتَصرْ ... واعصِفْ بجبَّار أشرْ
واجعلْ جموعَ المعتدي ... أعجازَ نخلٍ منقعرْ
وكتبْ لنا نصراً على ... حشدٍ تواطأ وأتمرْ
لم نبغِهم ظلماً وما ... كنا نُقاسهم ثمرْ
أبداً ولم ندفعْ بهم ... للجوعِ أو قضْمِ الشجرْ
كنا لهم نوراً يشِعٌّ ... ودوحة من كلِّ حرْ
كنا لهم نبراسَ عل ... مٍ خالصٍ من كل شرْ
فَلكَم أتى من رِاهبٍ ... أرضَ الجزيرةِ واستقرْ
وأقامَ فينا دارساً ... مُسْتلْهماً منا الصُّورْ
متمتعاً بالعدلِ لا ... يخشى الأذية من بشرْ
حتى إذا ما قاربَ الميعا ... دِ واكتمل الظفرْ
عادت به أشواقُهُ ... لذويه وانبثقَ الزَّهرْ
فأتى دواوينَ الفِرَ ... نجةِ حاملاً شتى العبرْ
مترفِّعاً عن جهلهم ... صُلبَ العزيمةِ والخطرْ
مترنماً بالمسلمي ... ن ذوي الهدايةِ والفِكر
مستبشراً بغدً يُصا ... غُ على الدرايةِ لا الغَرَرْ
فلقد تقلَّد في ديار محم ... د أبهى الدررْ
ألقى الغوايةَ جاِنباً ... وأصاخ سمعاً ونظرْ
وأبلَّ من إعيائهِ ... وزها وأشرفَ وافتخرْ:
أنا في معاهد أمةٍ ... محمودةٍ نلت الوطرْ
وعَبَبْتُ من نَهر الفحو ... لةِ لا شذوذً ولاكدرْ
وعلمتُ في تلك المدا ... ئنِ ما الحقيقةُ، ما الخبرْ
أمطُّت عن جهلي اللْثا ... مَ ورُحت أنشُدُ المدخرْ
أكرمْ بهم من قاصدي ... ن الله في برٍّ وبحرْ
أشهى الديارِ ديارُهمُ ... وأعزُّها في كل دهرْ
أهلُ المروآتِ الحسا ... ن وخيرُ أبناءِ البشرْ
لا يظلمونَ الناس لا، ... أو يستبد بهم نفرْ
فالأمر شورى بينهم ... والعدلُ إحسان وبرْ
لا تعجبنَّ فجدُّهم ... من خير يعربَ قد ظهرْ
أزكى النفوسَ طهارةً ... وبذاك ربُّك قد أمرْ
وعلا بهم حتى عَلَوْا ... قمماً شوامخَ لا حفرْ
فاحزِم متاعَك راغباً ... وأئتِِ السبيلَ المعتَبرْ
وارشِفْ زُلالَ نميرِهم ... ودعِ العِمايةَ والخدرْ
فالحقْ مفتاحُ العلو ... م وأسُّها الدينُ الأغرْ(45/78)
المسلمون في العالم
تفكك الاتحاد السوفييتي
ونظرية الصراع
عندما وقع الانقلاب الأخير في موسكو فرح بعض البائسين واليائسين من
العرب لأن هذا بظنهم سيعيد التوازن بين الشرق والغرب، وقالوا:
إن بقاء الاتحاد السوفييتي يتيح لنا المناورة، بينما نحن الآن تحت رحمة دولة
واحدة تتحكم في العالم، والحقيقة أن من يفكر هذا التفكير إنما ينطلق من فقره
الروحي والفكري ومن الفراغ الذي في نفسه، فحسب منطقه هذا لا بد أن نعيش
تحت حماية هذه الدولة أو تلك وأمريكا الآن هي الكل في الكل! وأمثال هؤلاء لا
يدركون سنن الله -سبحانه وتعالى- في حوادث التاريخ، وأن هذه الأرض لا تخلو
من صراع ليميز الله الخبيث من الطيب، وأن هذا السقوط المريع للشيوعية ولدولة
تبلغ مساحتها (22 مليون كم 2) إنما هو نتيجة ظلمها وقهرها لشعوب كثيرة منها
جزء كبير من العالم الإسلامي ابتلعه القياصرة ثم الشيوعيون الروس.
إن هذا السقوط يفتح آفاقاً لعودة المسلمين في تلك الديار إلى إسلامهم، ولعودة
الصلة بيننا وبينهم، ومهما كان ابتعاد هؤلاء المسلمين عن دينهم نتيجة الضغوط
والتربية الإلحادية لعشرات السنين، فلا شك أن ابتعادهم عن الهيمنة الروسية
الاستعمارية فيه خير، وهم على كل حال فيهم أمراض العالم الإسلامي الذي يظهر
لبادي الرأي أنه قد استقل من زمن عن الهيمنة الغربية. فالعشائرية والقومية
الضيقة موجودة عند هذه الشعوب، ولكن اتصال المسلمين بهم سيمكن من نشر
الثقافة الإسلامية وعودة الروح إليهم، إن الجمهوريات التي تسكنها غالبية مسلمة
وكانت سابقاً غير تابعة لروسيا تمر الآن بمرحلة عدم التوازن فيختلط التأثير الديني
مع القومي، والمحاربون القدماء من الشيوعيين لن يتنازلوا بسهولة مستغلين العرقية
والقبلية، فهم يمرون بمرحلة تشبه من بعض النواحي الفترة التي خرجت فيها
الشعوب الإسلامية من تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة.
إن سقوط الاتحاد السوفييتي لا يعني أن الطرف الآخر سينفرد بالعالم، لأنه ستبرز دول كثيرة - بأمر من الله - تكون عبئاً على أوربا والغرب بشكل عام وسيعود الصراع على الحدود وستستمر القوميات تفكك غير الاتحاد السوفيتي أيضاً (كما يقع الآن في يوغوسلافيا) وإذا كانت أمريكا سابقاً تخوف أوربا من الاتحاد السوفييتي فهل ستبقى أوربا تحت أسر هذا الخوف وتقبل بالزعامة الأمريكية بعد تلاشي الإمبراطورية الروسية.
لقد قاست اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية من الضغوط والتقسيم،
والشروط القاسية، ولكنهما خرجتا بإنتاج علمي اقتصادي جعلهما تعودان لمركز
الصدارة في عالم السياسة، ونبقى نحن بحاجة إلى مظلة دولة كبرى حتى نستطيع
العيش مع أن موقف الاتحاد السوفييتي من قضايانا كان موقفاً سلبياً مصلحياً كأية
دولة كبرى، وقد تولى هو وأمريكا كبر تغذية إسرائيل بالمال والرجال.(45/81)
فلسطين
لم يكن متوقعاً من المجلس الوطني الفلسطيني أن يتخذ قرارات أفضل مما
اتخذه في مؤتمره الأخير في الجزائر. لأن كل الحوادث السابقة وكل المخططات
التي هيئت ونفذت خلال العقود الأخيرة كانت تعد لمثل هذا العمل ولمثل هذا الهوان، بداء من ممارسات منظمة التحرير التي كانت تقدم كل يوم تنازلات جديدة وانتهاء
بحرب الخليج التي أوصلت الأمة إلى أضعف حالاتها.
وقد عبر هاني الحسن أحد مستشاري عرفات عن هذا حين قال: (أستطيع أن
أقول لكم بدون خوف من المنصب بأن هؤلاء الذين يشكلون قيادة التيار الرئيسي في
منظمة التحرير كانوا منهمكين في الجزء الأكبر من السنوات العشرين الماضية في
صراع حياة أو موت لتحضير الأرضية من جانبنا للوصول إلى حل سياسي عن
طريق التفاوض مع إسرائيل) [1]
لقد فوض المجلس منظمة التحرير (العمل للمشاركة في التسوية على أن يتم
إقرار الخطوات بشكل نهائي من قبل المجلس المركزي) وكأنه لم يبق للمجلس ولا
للمنظمة شيء فكان هذا القرار، وكانت رحلة العذاب والمعاناة التي صبت فوق
رؤوس الشعب الفلسطيني مقدمة لوصوله إلى حالة من العجز أو اليأس ومن ثم
الرضوخ لأي مطلب، والحصول على أقل ما يمكن.
ونحن عندما نكتب عن قرارات المجلس الفلسطيني فإننا نتفهم معاناة
الفلسطينيين والواقع الأليم الذي وصلوا إليه، ونتفهم المرارة التي يذوقها الشعب في
الداخل، والوضع الاقتصادي المنهار، ونتفهم قضية الترحيل ووثائق السفر، كل
هذا في الحسبان مما يسمونه الواقعية السياسية. ومع ذلك فكلمة (لا) في وجه
الإذلال والطغيان الإسرائيلي أفضل من كلمة (نعم) . قد يقال: يجب أن نكون
واقعيين ونلحق بالقطار قبل فوات الأوان. وقد يقال: إن الذين يقولون (لا) لا
يملكون البديل المطلوب، ولكن هل الذين يرضخون في كل يوم رضوخاً أكبر من
سابقه؛ سيأخذون شيئاً يستحق هذا الرضوخ، وهل سيعطون الحد الأدنى من
المطالب؟ وبماذا سيرجعون من هذا المؤتمر؟ !
إن المشروع الأمريكي يقول: (الجلسة الافتتاحية تستغرق يومين فقط، ثم
تجتمع اللجان الثنائية) (المؤتمر يعود للانعقاد باتفاق الجميع) فإذا رفضت إسرائيل
العودة فلها الحق في ذلك، وتكون في هذه الأثناء قد قضمت أكثر الضفة الغربية
وزرعت العمارات فيها هنا وهناك للقادمين من روسيا.
وعبارة الأرض مقابل السلام تفهمها إسرائيل أنه يتعين على العرب أن
يعطوها الأرض مقابل السلام. فهي تمتلك قنابل نووية كما ذكر تقرير مؤسسة
(كارنجي للسلام الدولي) : (وينتج مفاعل ديمونا كميات كافية لتصنيع قنبلة ذات قوة
تدميرية مثل التي ألقيت على هيروشيما ومن المرجح أن يكون الأمريكيون قد بنوا
مفاعلاً آخر إلى جانب المفاعل الفرنسي ينتج خمسة أضعاف الكمية الأولى) . [2]
ونحن لسنا من الذين يحبون المعارضة للمعارضة، أو من الذين يجارون
ويداهنون التيار الشعبي ولو كان ضد قناعاتهم، فهذه قضية المسلم الأولى، ويجب
أن نتعامل معها من موقف مبدئي عقائدي.
__________
(1) قضايا دولية: نشرة بالعربية تصدر عن معهد الدراسات السياسية - باكستان.
(2) الأسبوع العربي 14/10/1991.(45/83)
رسالة تركيا
عبد المنان جولحة
قبرص التركية والضغوط الأوروبية:
ذكرت صحيفة (مللي غازيت) التركية التابعة لحزب الرفاه الإسلامي (أن
اللجنة السياسية الأوروبية اقترحت إعادة منطقة (ماراش) إلى القبارصة اليونانيين
وتجهيزها على حساب دول السوق المشتركة، وقد قام عضو البرلمان الهولندي
(ماتهيلد) بزيارة رسمية لقبرص وأجرى مباحثات حول المشكلة القبرصية) وأكدت
الصحيفة أن (تصرف تركيا وسياستها الخارجية غير الصريحة زاد من الضغوط الغربية للمساومة على قبرص التركية، وإن سياسة إرضاء حكومات السوق الأوروبية المشتركة مما يزيد تعنت الأعداء وتراكم طلباتهم) .
ومن الجدير بالذكر أن عدد مسلمي قبرص التركية يقارب (170) ألفاً
وعاصمتها (لفكوشا) وقد تأسست جمهورية قبرص التركية عام 1973 وتعتبر اللغة
التركية هي اللغة الرسمية وتبلغ مساحتها 35 % من المساحة الكلية للجزيرة
والمسلمون في هذه الجزيرة بحاجة ماسة إلى العلم وأن تفتح أمام شبابهم أبواب
المعاهد والجامعات الإسلامية.
من أخبار المسلمين في تركيا:
مع قرب الانتخابات التركية صرح رئيس حزب الرفاه الإسلامي البروفسور
نجم الدين أربكان بأنه في حال فوز حزبه فإنه سيلغي الربا بكل أنواعه وسيدعو
لإنشاء سوق إسلامية مشتركة، ولن يسمح للنفوذ الأجنبي بالتدخل في شؤون تركيا. وبمناسبة الحديث عن الانتخابات العامة القادمة فإن بعض المسلمين في تركيا -كما
هو حالهم في كثير من بلدان العالم الإسلامي - ليس لديهم الوعي الكافي لمعرفة
المصلح من المفسد، فبعض المسلمين يؤيدون حزب (الطريق السوي) الذي يرأسه
سليمان ديميريل، والبعض يؤيد حزب الوطن الأم (الحزب الحاكم) بزعامة مسعود
يلماظ وجماعة الشيخ النورسي أيدوا في السابق حزب ديميريل والآن يصرون على
مهاجمة حزب الرفاه الإسلامي وتأييد الأحزاب العلمانية.(45/85)
امرأة وموقف
المجاهدة المؤمنة " أم عمارة "
مؤمنة الشلبي
نسبها:
هي نسيبة بنت كعب، بن عمرو، بن عوف، بن مبذول. أنصارية
خزرجية، نجارية مازنية مدنية، وفاضلة مجاهدة من شهيرات الصحابيات، ومن
أسرة كان لكل فرد من أفرادها مواقف عظيمة لا يتسع المجال لذكرها.
فأخوها عبد الله من البدريين، وأخوها عبد الرحمن من البكائين، أما ابنها
حبيب بن زيد الذي أرضعته حب الله ورسوله مع اللبن، وأنشأته على يديها، فهو
الذي أسره مسيلمة الكذاب وصار يقول له:
- أتشهد أني رسول الله؟ ، فيقول حبيب: لا أسمع. فيقول مسيلمة:
- أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول حبيب: نعم، فيقطع عدو الله منه
عضواً وما زال يسأله ويجيبه بما قال له حتى قطعه إرباً إرباً، وأبت عليه بطولته
وأبى عليه حبه وولاؤه لله ولرسوله أن يداهن في موطن تجوز له التقية فيه ما دام
قلبه مطمئناً بالإيمان، ولكن المؤمنين الأبطال يأبى عليهم إيمانهم إلا العزائم.
أما نسيبة -رضي الله عنها- فقد كانت في أسرتها الفاضلة قطب الرحى
بمواقفها العظيمة، فقد شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحداً، والحديبية ويوم حنين،
ويوم اليمامة، وفقدت في حروب الردة يداً وابناً في سبيل الله حتى استحقت أن تنال
شرف مقولة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم -
أي يوم أحد- خير من مقام فلان وفلان) .
الموقف:
روى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن عمر قال: حدثي أبو بكر بن عبد الله
ابن أبي سبرة عن عمرو بن يحيى عن أمه عن عبد الله بن زيد قال: شهدت أحداً
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه أنا وأمي
نذب عنه فجرحت جرحاً في عضدي، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: اعصب جرحك، فتقبل أمي ومعها عصائب في حقوها قد أعدتها
للجراح، فربطت جرحي والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف ينظر إليها، ثم
قالت: انهض يا بني فضارب القوم، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة! !
تقول أم عمارة: رآني رسول الله -عليه السلام- ولا ترس معي، ورأى
رجلاً مولياً يحمل ترساً، فقال رسول الله: ألق ترسك لمن يقاتل، فألقى ترسه
فأخذته وجعلت أتَرَّس فيه عن رسول الله حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً.
ولما نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جرح على عاتقي غائر قال
لابني: أمك، أمك. اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل البيت، لمقام أمك
خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت، لمقام ربيبك يعني (زوج أمه)
خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت.
فقالت أمي: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال رسول الله:
اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة، فقالت: ما أبالي ما أصابني في الدنيا.
تحليل الموقف:
حقاً إنها لبطولة تستحق التسجيل والوقوف عندها، فكم تقر العين، ويثلج
الصدر حين يطالع المسلم تلك المواقف المشرفة، والسيرة العطرة لهذه المجاهدة
الغازية، والجندية المقاتلة التي نذرت نفسها منذ أن بايعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يوم العقبة للدفاع عن عقيدتها ضاربة أروع الأمثلة لما ينبغي أن تكون
عليه المرأة المسلمة في المجتمع الإسلامي إيماناً بالعقيدة، وثباتاً عليها، وتضحية
في سبيلها، وتربية لناشئتها.
فلقد أيقنت أم عمارة -رضي الله عنها- يقيناً جازماً أن هذه العقيدة التي آمنت
بها تقتضي ألا يظل الإيمان بها مستقراً في القلب كحقيقة مجردة راكدة وإنما حقيقة
حية وعمل يبرهن على صدق الاعتقاد.
ومن هذا المنطلق انطلقت نسيبة -رضي الله عنها- كاللبوة في ساحات الوغى
بكل بسالة ورباطة جأش، ودون أن يعرف الجبن والوهن سبيلاً إلى قلبها العامر
بالإيمان، فحجزت ثوبها علي وسطها، واندفعت تذود عن رسول الله حتى جرحت
ثلاثة عشر جرحاً، ولم تمنعها جراحها وآلامها من مواصلة طريق التضحية والفداء
مقابل الدفاع عن قائد هذه الأمة وهاديها إلى الإسلام حتى لو كانت هذه التضحية في
أغلى وأعز الناس إليها ...
فها هي تقول لابنها وفلذة كبدها بعد أن ضمدت له جراحه: انهض يا بني
فضارب القوم، ويشهد لها رسول الله بحسن البلاء والدفاع عنه فيقول: (ما التفت
يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني) .
أجل يا اختاه: إنه الحب الفياض الصادق لله ولرسوله ليصنع الأفاعيل
العجيبة من الثبات والتضحية والإقدام.
فهذه أم عمارة تعرض نفسها لخطر الموت مقابل أن يبقى من أحبته أكثر من
مالها وولدها ونفسها التي بين جنبيها سالماً لا تصيبه شوكة ولا تناله يد مشرك.
وها هي أيضاً تعطينا أروع النماذج الطيبة المباركة في حب الله ورسوله
حيث كان منها: أن أول ما نطقت به بعد أن أفاقت مما غشاها من شدة ألم الجراح
أين رسول الله؟ ما صنع المشركون برسول الله؟ فلما قالوا لها بخير اطمأنت نفسها
ولم تبال بما كان من جراحها.
فيا لها من قلوب علت فوق القلوب، ويا له من حب وفداء، لو أن المسلمين
على كثرتهم في يومنا هذا تذوقوا حلاوته لما غلبهم غالب ولا كان في الدنيا من
يتبوأ الصدارة سواهم ...(45/87)
صحة
استنشاق الأجسام الغريبة
د. محمد صايل أهليل
يقصد باستنشاق الأجسام الغريبة دخول جسم غريب بطريق الخطأ إلى
الحنجرة أو المجاري التنفسية السفلى أو ما يصاحبه من أعراض أو مضاعفات.
واستنشاق الأجسام الغريبة مهم من الناحية الطبية وذلك أن حياة الطفل تنتهي
خلال دقائق لا تتجاوز الخمس على الأكثر.
يتعرض الأطفال أكثر من غيرهم لاستنشاق الأجسام الغريبة، وذلك لأنهم
يميلون إلى التعرف على مختلف الأجسام المحيطة بهم عن طريق حسها بالفم
والتعرف عليها بوضعها في أفواههم، ويبدأ احتمال تعرض الطفل لمثل هذه
الحوادث حالما يبدأ بالإمساك بالأشياء المحيطة به ووضعها في فمه. وهذا يبدأ
بالشهر الرابع من العمر فكل ما تصل إليه يده، يضعه في فمه دون تمييز. إن
الأعراض الناجمة عن استنشاق جسم غريب تتفاوت في شدتها من درجة الاختناق
الناجم عن انسداد مجاري التنفس بالجسم الغريب. فقد تصل إلى الوفاة، وأحياناً
تمر دون أن تلاحظ إلا بعد حدوث مضاعفات مستقبلية. وأكثر ما يميز استنشاق
الأجسام الغريبة موجة الاختناق التي تظهر على الطفل بشكل عاصف من سعال
شديد وغصة، وشرقة (Choking) وصعوبة في التنفس، وازرقاق الوجه والجسم
أحياناً.
ولمعرفة كيفية تجنب الأطفال استنشاق الأجسام الغريبة، لا بد وأن نعرف
مصادرها وهي تتلخص فيما يلي:
1- أرض البيت: إن أي جسم صغير ملق في أرض البيت يشكل خطراً على
صحة الطفل الذي يبدأ الحبو أو المشي. وإن الازرار، والسبحات، والخرز وحب
الحمص وحب الفستق والمكسرات والقطع المعدنية والأدوية ... الخ هي من
الأجسام الغريبة السهلة ليد الطفل أن تتناولها بخفة خلال ثوان بعيداً عن عيون
الأهل.
وقد يحدث تناول الجسم خلال ثوان وأثناء وجود الأبوين ولكن دون رؤية
أحدهما للطفل، لذا فإن رفع هذه الأجسام أفضل بكثير من تركها بين يدي الطفل مع
الاعتماد على أن الأب أو الأم يجلس أمام الطفل يراقبه، وحسن الظن أن الطفل
الصغير لا يمكن أن يفعل هذا.
2- ألعاب الأطفال: إن خشخيشة الطفل الكسورة التي تحوي بداخلها عدة
خرزات، وإن عيون لعب الأطفال التي يمكن انتزاعها، وإن أزرار ملابس بعض
اللعب أو الأجزاء الصغيرة الآيلة إلى السقوط منها كالعيون أو الأنف أو البراغي أو
الأسلاك أو الزنبركات هي مصادر خطر على الطفل الذي يلعب بها، إذ أن
سقوطها بفمه أثناء لعبه بها أو تناوله لها بعد سقوطها على الأرض قد يتسبب في
اختناقه.
3- ملابس الطفل: تشكل بعض الأزرار السهلة الانتزاع أو الدبابيس التي
يسهل فكها من قبل الطفل، جسماً غريباً يمكن أن يختنق به.
4- طعام الطفل: يجب أن يتناسب طعام الطفل مع عمره ونمو أسنانه، فقد
يختنق الطفل بطعام يحوي بذوراً كالبطيخ أو العنب، أو لا يستطيع طحنها
كالمكسرات والبندق والفستق أو حشو فم الطفل بالطعام والشراب رغم رفضه لها
وبكائه الشديد، كما أنه يجب عدم ملء فم الطفل بالدواء بنفس الكيفية مع رفضه
وبكائه الشديد..
هناك أمر آخر لا بد من شرحه للأطفال الذين تتجاوز أعمارهم سن الخامسة،
وهو عدم تقليدهم ما يرونه أحياناً في التلفزيون مثلاً - أعمال وحركات بعض
ممتهني خفة اليد من وضع أجسام غريبة كالمعادن والكرات الصغيرة في أفواههم
ومحاولة ابتلاعها.(45/90)
مع الكتّاب
مع تقديرنا وشكرنا لكل من شارك أو يود المشاركة في الكتابة لمجلة البيان،
فنحن نعلم أن ما دفعهم لهذا إلا ثقتهم بمنهج المجلة وتشجيعهم لها، ولكن لا بد من
ملاحظات توضيحية توفر الوقت والجهد علينا وعليهم:
1- بعض المقالات أو المشاركات لا بد أن تبدأ بالحديث عن فساد الزمان
وضعف المسلمين وتآمر الأعداء ... الخ، ونحن نرى أنه لا داعي لهذه المقدمات
الطويلة المكررة، ونرى أن الدخول في صلب الموضوع مباشرة هو الأفضل، وإذا
كان لا بد من مدخل فليكن في الموضوع نفسه.
2-كثير من المشاركات فيها نغمة حزن وبكاء على الأطلال، والتحسر على
الماضي. والحقيقة أن هذا لا يفيدنا في شيء، وإذا كنا جادين فنحن نقتدي بأسلافنا
في جهادهم وأخلاقهم وحبهم للعلم، ولا داعي للتحسر الكثير.
3- بعض المشاركين يكتب مقالاً طويلاً، ليس لنا مأخذ عليه، فالمضمون
صحيح ولكنه كلام عام عن الإسلام قد قيل كثيراً، فلا داعي لتكراره، والذي يريد
الكتابة لا بد أن يسد نقصاً أو يوضح غامضاً أو يركز على قضية قد غفل الناس
عنها، أو مناقشة أمر مهم من قضايانا المعاصرة ...
4- قد يعاني بعض الإخوة من مشكلات إقليمية ضيقة، في قريته أو مدينته
ويظن أن هذه المشكلة مما يهم العالم الإسلامي كله، فيرسلها للنشر وهي لا تصلح
لأن مصطلحاتها وطريقة عرضها تدل على أنها مشكلة خاصة جداً.(45/93)
منتدى القراء
ما هذا السبيل؟
نايف بن محمد العتيبي
إن مثل من يريد أن يعيش في هدوء وسبات عميقين والكروب تكرب وتقرب
والشدائد تشد حصارها بمحيطه القريب تكاد تجعل النهار ليلاً حزيناً، وتجعل
الشاطئ الدافئ أمواجاً متلاطمة وتجعل الهدوء اكتئاباً ...
إن مثله كمثل من جلس على سكة الحديد واغمض عينيه وأصم أذنيه ويظن
بذلك أنه.. زال الخطر!
والحقيقة معلومة.. والنتيجة محتومة ... إلا أن يشاء الله غير ذلك. ما هذا
السبيل الذي به يتخلص المرء من ما ادلهم من خطوب وما يطرأ من حوادث
جسيمة - أن يغمض عينيه ويصم أذنيه ...
تلك الخطوب والحوادث التي يريدها الأعداء ويكونوا هم سببها المباشر، بل
ويعملون بكل ما أوتوا من وقت وقوة لتحقيق مثلها وأضر ...
إنما السبيل متمثل في أمور من أهمها:
- التقوى والصبر [وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً..]
[آل عمران: 120]
- متابعة الأحداث وتحري الأخبار الصادقة وعرضها على ميزان الشريعة
السمحاء
- معرفة الرؤوس الظاهرة [1] والفروع الباطنة [2] ، ومعرفة مواطن
الضعف والتراخي.
- إعلان الحق كاملاً وإظهاره من أول الطريق والتخلي عن الشوائب.
- عدم الرضا بالدون وموقف الذاب المدافع بل الطموح إلى المقام السامي
السائد.
وكل أمر من هذه الأمور له أهميته وفاعليته والإحاطة به مهمة ولا أذكر هذه
الأمور على سبيل الحصر وإنما ما رأيته مهماً.
وإن من تمعن في السبيل وأحاط به، لا يتخلص من الخطوب فحسب، بل
يستطيع أن يعقدها على من أراعه بها، ويحلها مكاناً من عدوه مصيب.
وأعجب لمن لا يعرف ما يدور حوله.. ولا يريد! ! محتجاً بأن ذلك: لا
يزيد في الإيمان.. ويميت القلوب..! ! ويا للأسف ... أن يتوقف أولئك الثلة عند
هذا الحد.. بل يتجاوز الأمر.. وتعدوا إلى الكوكب المضيئة ... إلى الشهب
المحرقة التي تنقض على المردة ... على الشياطين فتدمغهم..
إن تلك الثلة قد تتنحى عن الجادة شيئاً فشيئاً. وهيهات لمن يسير على
الظنون ويريد الوصول! !
__________
(1) الرؤوس الظاهرة: هم العدو الظاهر الذي يظهر العداء.
(2) الفروع الباطنة: وهم أخطر من الأول الذي يعتمد عليهم كثيراً ويعملون في الداخل أثناء الصفوف.(45/94)
توجيه إلى الشباب والشابات
سعود بن محمد آل عوشن
لقد لاحظنا في الفترة الأخيرة أن بعضاً من الشباب والشابات قليلي الخبرة
بالحياة يتخذون تصرفات مغايرة لرغبات المجتمعات التي يعيشون فيها وقد يكون
منه ما هو منافٍ للتوجيهات والمقاصد الشرعية، ويحاولون فرض تلك التصرفات
على غيرهم وقد يتحمسون لهذا التصرف أو ينفعلون غير مبالين بشعور الآخرين،
ويعتبرون مثل هذا التصرف شجاعة أو قوة أو أي صفة ينتحلونها لأفسهم، وهم
بهذا لا يعلمون أنهم بالإضافة إلى ما يحدثونه في مجتمعهم من تفرقة أو أضرار أو
أحقاد فهم ينزلون بأنفسهم وسمعتهم إلى الحضيض بعد أن كسبوا ماكسبوا من رقي
أو تقدير لا يعرفون هذا لما يحيط بهم من بعض المشجعين لهم أو الدافعين لهذا
العمل السيئ.
والمشجعين أو الدافعين لهم لا يعدون أن يكونوا أحد صنفين من الناس: إما
مثلهم قليلي الخبرة بالحياة وما يرفع مستوى الفرد اجتماعياً؛ أو حاسدين لهم
ويدفعونهم لهذا العمل ليحبطوا قيمتهم الاجتماعية حتى لا ينافسوهم أو يتشفوا
بإحباطهم.
ولذا نلفت أنظار هذا الصنف من الشباب والشابات الذين يرغبون في السمعة
والإقدام وبناء الشخصية إلى أن ذلك لا يكون بمخالفة المجتمع وعاداته وأعرافه أو
الخروج على الآداب الإسلامية، وإنما يتم بالإسهام الفعال في بناء المجتمع وتنميته
على الخط المستقيم، أما من لا يبالي بسمعته ويتحدى شعور الآخرين وآداب
الإسلام فليعلم علم اليقين أن أهم هدف في الحياة هو عبادة الله وفقاً لمنهجه القويم
واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولا تتم هذه إلا بالقيمة الاجتماعية وبغير
ذلك يكون حيواناً ناطقاً في صورة إنسان.
فليحذر الذين يخالفون أوامر الإسلام وآداب وأعراف وعادات المجتمع أن
يقعوا في ذلك من حيث لا يشعرون وأنه بتصرف صغير يهدم ما بناه في عدة
سنوات ولكن لا يعلمون هذا.
وأسأل الله العلي العظيم أن يلهمنا الصواب ويدلنا على طريق السعادة والرشاد، وأن يكتب لنا سعادة الدارين الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب وبالإجابة جدير.(45/96)
اقتراح لأرباب المال
عثمان بن محمد الخنين
من المعلوم أن الاختلاط أمر يرفضه الشرع المطهر وحتى الطبع السليم، لهذا
فهناك حلم كان ولازال يراود الغيورين المخلصين من أبناء المسلمين يأملون تحقيقه
في أقرب وقت ممكن، ألا وهو إنشاء مستشفيات متكاملة (بكل التخصصات) غير
مختلطة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ذلك أنه منذ بدأ في إنشاء المستشفيات في العصر الحديث في العالم الإسلامي
وهي تسير -في الغالب- على النظام الأجنبي حيث الاختلاط والخلوة.
ونحن نعلم أنه قد بذلت جهود خيرة لإصلاح الوضع في بعض المستشفيات أو
المستوصفات (أهلية كانت أم حكومية) على مستوى العالم الإسلامي لكنها جهود
ضئيلة لا تلبي الحاجة المطلوبة ولا تحقق الرغبة الملحة. وفي الفترة الأخيرة بدأت
تتكاثر المستشفيات والمستوصفات الأهلية وتتنافس فيما بينها لجذب المرضى.
وهذه فرصة أمام أرباب المال الذين يريدون أن يخلصوا المسلمين من هذا التقليد
الغربي المخالف لديننا.
هذه فرصتهم خاصة وقد توفر الأطباء والمساعدون من كلا الجنسين ومن كل
الجنسيات حيث كان هذا أكبر العوائق التي تعيق إنشاء المستشفيات غير المختلطة.(45/97)
بريد القراء
الأخ عبد الله بن محمد القزلان
جاءتنا هذه الرسالة:
(إخواني في الله،
لا أخفي عليكم عظيم فرحتي بهذه المجلة وهذا المنتدى، الذي أدعو الله أن
يستمر ويزداد نشاطاً، ولا أخفيكم القول، فأنا أخاف على هذا الصرح الإسلامي
وأخشى عليه، فالحق في هذا الزمن غير مرغوب فيه، والمجلة تعبر عن رغبات
وأفكار الكثير من المسلمين الغيورين.
هذه كلمات أحببت بثها في ثنايا هذه السطور تعبيراً عما أكنه في نفسي تجاه
ما تقومون به، وأخيراً أنصح إخوتي بالاعتدال والسير على النهج السليم والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته) .
الأخ أبو خالد أرسل إلينا مقترحاً الكتابة في المواضع التالية أو مناقشتها من
قبل بعض الدعاة:
1- الشخصية المسلمة في العمل، المنزل، الشارع.
2- الحجاب الحقيقي للمرأة الملتزمة بدينها.
3- أخطاء من داخل البيت المسلم.
4- كيف نتعامل مع غير المسلمين (نصارى، بوذيين، هندوس ... )
البيان: نشكر الأخ أبا خالد على اهتمامه ونحن بدورنا نطلب من الدعاة
الكتاب المشاركة في هذه المواضيع وأمثالها.
الأخ عبد الرحمن العيد
أرسل إلينا متأسفاً لحالة البعد بين الدعاة ويقترح على المنتدى إقامة مؤتمر
للدعاة في كل سنة حتى تتقارب المفاهيم ويعرف كل منهم حالة أخيه ويقفوا صفاً
واحداً أمام مؤامرات الأعداء.
الأخ بندر بن فارس المسعود
أرسل لنا رسالة قصيرة يدعو فيها المسلمين إلى الاعتصام بكتاب الله والابتعاد
عن التفرق والتشرذم.
الأخ خالد بن ابراهيم بن عبد الله
أرسل مهنئاً ومقدراً للجهود التي تبذل لإبراز إعلام إسلامي بصورة طيبة.(45/99)
قديم جديد
مبادئ العالم الحر! [*]
للأستاذ سيد قطب (رحمه الله)
(العالم الحر) اسم يطلقه الاستعماريون في انجلترا وفي فرنسا وفي أمريكا
على تلك الكتل الاستعمارية التي تكافح ضد الزمن، وتقاتل ضد الإنسانية، وتقاوم
ضد الحرية. ثم تطلق على نفسها في النهاية اسم (العالم الحر) !
و (العالم الحر) مشغول هذه الأيام بتمزيق إهاب (الحرية) في تونس
ومراكش وفي كينيا وفيتنام.. وفي كتم أنفاس (الأحرار) في كل مكان؟ لأن رسالة
العالم الحر هي أن يكون حراً في قتل الحرية حسبما يشاء.
و (العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك
رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا
تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة
والدبابة؛ وهي أقدر ولا شك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المتخلفة!
و (العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في إيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهم في هذه الأرض المعذبة!
و (العالم الحر) يتساند ويتكاتف في هذه المهام الضخام. أليس الدولار هو
الذي يشد من أزر فرنسا في تونس ومراكش وفيتنام، ويشد من أزر إنجلترا في
كينيا ومصر وفي كل مكان، ويشتري الصحف والأقلام والجماعات والجمعيات
والرجال والنساء في هذه الأيام؟ !
وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث
الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب
الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج.. فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله
واضح كما قلت وهو نقل مبادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب
المتأخرة والتي لا يجوز أن تظل متأخرة!
إني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أن
تصنع في الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما
كانت وكما هي كائنة، وكما ستكون حتى يأذن لله لها بالفناء.
كلا! إنما أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا
وجمعياتنا … أتلفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة
الغربية؟ هل خرست الألسنة التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة
الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية
الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي
واليونسكو والنقطة الرابعة [1] وسائر الوسائل الاستعمارية الحديثة التي تنخر في
صخرة المقاومة الشعبية؟
أتلفت لأرى هذه الأبواق لا تزال مفتوحة، ولأرى هذه الألسنة ما تزال طليقة، ولأرى هذه الجمعيات والجماعات ما تزال تتبجح وتعلن عن نفسها بلا حساب،
وتنفق الأموال الضخمة في هذا الإعلان، والدولار من خلفها يمكن لها من العمل
ويمكن لها من الإعلان!
إن (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة، ولكنه
يحاربنا بالألسنة والأقلام، ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي،
وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة، ويحاربنا بتلك الجمعيات والجماعات
التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة في بلادنا ...
وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام،
وتشتري الهيئات والجماعات.
(....) لقد قام بيننا في وقت من الأوقات رجل يسمى (أمين عثمان) يحمل
لواء الصداقة الإنجليزية في فجور وتبجح، ويؤسس جمعية نادي العلمين. كما
قامت في ظله (جماعة إخوان الحرية) [2] . ولقد هرعت الشخصيات الكبيرة
يومها إلى أمين عثمان وجمعيته. الشخصيات المستوزرة التي تشم رائحة الحكم من
عشرات الأميال.. ولكن حاسة الشعب السليمة ظلت تنفر من الرجل وجماعته على
الرغم من انضمام (الشخصيات الكبيرة) لأن الشعب يعرف قيمة هذه الشخصيات
ودوافعها!
(....) إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليومتقتضي تخليص ضمائر
الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية
التخدير، والحذر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن
معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ
واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!
(....) والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل
بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالماً. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن
تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء فالعالم يسير نحو التكتل
في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق
العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.
والمجموعة الآسيوية الافريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من
السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهناك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي تربط بينها اليوم مصالح مؤقتة.
أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديموقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها، فهي سندنا الحقيقي الوحيد.
__________
(*) مجلة الرسالة: العدد 1018 - 5/1/1953.
(1) النقطة الرابعة: برنامج للمساعدة الفنية والمالية اقترح الرئيس الأمريكي ترومان كبند رابع في خطابه الافتتاحي عام 1949، وتقوم بموجبه حكومة الولايات المتحدة بتقديم الخبراء التقنيين والمعلومات والمعدات والرساميل لمساعدة المناطق المتخلفة من العالم على تنمية الصناعة والزراعة والإدارة العامة والصحة والتعليم يجري تنفيذ البرنامج عن طريق الاتفاقيات الثنائية بين الولايات المتحدة والدولة المعنية اندمج البرنامج الذي عرف باسم " إدارة التعاون الفني " 1950 في برنامج المساعدات الخارجية، وكان غرضه الأساسي ينطوي على مكافحة انتشار الشيوعية وتمهيد السبيل للتغلغل الأمريكي تحت ستار تقديم المساعدات للدول الصديقة (الموسوعة السياسية) .
(2) جماعة إخوان الحرية: جماعة ألفها " كرستوفر سكيف " في مصر، وهو مبشر وجاسوس
بريطاني، وكان أستاذاً في كلية الآداب بجامعة القاهرة وكان من هذه الجماعة " لويس عوض " وأمثاله الذين صنعهم التبشير والاستعمار.(45/101)
الورقة الأخيرة
المتربصون
عبد القادر حامد
يواجهُ الدعاة إلى الله في هذا العصر - وفي هذه المرحلة بالذات - بطائفة
يحضرون الدروس واللقاءات والمحاضرات ويكثرون عدد الحريصين على العلم
والداعين إلى الخير، وقد وقف أفراد هذه الطائفة أنفسهم على تتبع العورات،
والتفتيش عن المآخذ والسقطات. وقد حولوا حال الدعاة إلى قلق وحذر وخوف بتنطعهم وتنقيرهم، ولا يكاد يسلم منهم أحد؛ فمن سلم من العيب في منطقه يعاب في لباسه، ومن سلم في لباسه عيب في سمعته وحركاته، ومن أجاد في التفسير رموه بالضعف في الحديث والجهل بالتوحيد، ومن صرف جهده للحديث قالوا عنه: لا يفهم في الفقه، ومن ترك التعرض للموضوعات الشرعية وتفرغ لبيان الواقع السياسي رمي بوصف العامية وقلة البضاعة في العلم الشرعي، ومن خاطب الناس بما يعرفون رموه بالسطحية والضحالة: لماذا لم يرم الناس بما في موافقات الشاطبي ويفحمهم بما في: اقتضاء الصراط المستقيم ... الخ، وقد أصبحت هذه الطائفة ظاهرة لا يحسن تجاهلها والتهوين من أمرها، وهي تتجول بين الأمكنة التي هي مظنة لقاء المسلمين فيها وتدارسهم، وقد يخيب أملها أحياناً عندما تحضر لمن لا يمكنها تفجير مشكلة معه إما لعلم عنده وإما لشوكة يستظهر بها من مريديه؛ وإما لحكمة وهبها الله له تجعله يتجنب الوقوع في براثن هذه الطائفة المتربصة!
والمتأمل في حال هذه الطائفة يمكن أن يصنفها في صنفين:
1- صنف مدخول النية سيء القصد.
2- وصنف ليس كذلك، ولكنه حبس نفسه في بطون الكتب، لا يغادرها،
بل يقرأ هنا وهناك ويضع حلواً على حامض وحاراً على بارد! أليس كل ذلك
وصفات موجودة في كتب فلان وفلان من علماء المسلمين؟ ! فلماذا نتأخر عن
الأخذ بها ورمي المتطفلين على العلم بها؟ ! وهكذا فإن هذا الصنف بفهمه المبتور
للعلم، وبعدم تنزيه ما يعلمه على ما يمكن عمله - يصيبه الغرور والكبر، ويقع
ضحية العناد والإعجاب بالنفس، ويؤول أمره إلى أن يصبح كالصنف الأول لا أمل
في إقناعه، فضلاً عن تقويمه وإصلاحه، ولا حيلة للعاقل معه إلا بتجاهله ونبذه،
وهكذا تضيع جهود من حقها أن توفر لما هو أولى وأجدر أن تثار حوله المناقشات
وتعلو من أجله الأصوات.
وهذا الفريق يؤمن بالمطلقات، ولا يفرق بين عصر وعصر، فعنده: العصر المكي يساوي العصر المدني، وما قبل الفتح يساوي ما بعده، والحال قبل نزول سورة التوبة هو الحال بعدها، والحلال عنده درجة واحدة، وثواب الأعمال
الصالحة واحد، كما أن الحرام عنده درجة واحدة، ولا تفاوت بين حرام وحرام. متسرع في الجواب، جرئ على الفتيا وإن لم يملك بعض أدواتها، ولا يغرنك اصطناعه التفكير في السؤال والتريث، أما الزمان والمكان والعلم بحال المستفتي فهذا أبعد ما يكون عن تفكيره حين يلقي بأحكامه المطلقة من عقالها حاسمة وجازمة. إنه مرض نفسي يضرب فريقاً من الناس، وهذا المرض يستشري نتيجة لظروف معينة حتى يصبح وباءً معدياً، ومن هذه الظروف: قلة العلماء، ونظرة الأنظمة إلى العلم الشرعي، وتعمدها بث الفوضى في أركان هذا العلم، مع حاجة الناس المآسة إليه، وكذلك زيادة عدد الذين يفكون الحرف، وهو ما يسمى بالأمية
الثقافية ... وهكذا تكثر في هذه الأجواء الدعوى، وتستبحر الفوضى، ويرتفع لواء الجهل، ويختلط العلم الصحيح بالباطل المبهرج والعياذ بالله.
لقد بات الأمر بحاجة إلى أن يتداعى المسلمون الغيارى إلى تأيس هيئة علمية
غير رسمية، تقيم في ركن من الأرض وليس لسلطة أرضية عليها سبيل، ترقب
أمر الله فقط، وتصدر آراءها وفتاويها في ما دق وجل من أمر المسلمين ولا تخشى
في الله لومة لائم، ويومئذٍ يفرح المسلمون بتوفيق الله لهم في هذا المجال الذي طال
خوض الخائضين فيه دون أهلية.(45/105)
جمادى الآخرة - 1412هـ
ديسمبر - 1991م
(السنة: 6)(46/)
الافتتاحية
هل هذا من السياسة؟
(2)
من سنن الله في التغيير وانتقال الأمة من الضعف إلى القوة أن يملك المسلمون
معرفة تفصيلية واستبانة واضحة لسبيل المجرمين، ليأخذوا حذرهم وليفرقوا بين
المنافقين والمتاجرين بالشعارات والمبادئ وبين من هم أهل إيمان ورسوخ،
وأصحاب أخلاق زكية ومعدن أصيل، ولكن لأن المسلمين لم يمارسوا القرار
السياسي بالشكل الصحيح، ولم يشارك الدعاة والعلماء خاصة بهذا القرار فقد ضعف
فيهم هذا الجانب، مما جعلهم يتحركون خبط عشواء ويظنون أنهم يمارسون
(السياسة) .
وقديماً قالت العرب (قتلت أرض جاهلها) وكأننا لا زلنا نعيش حالة الضعف
التي مرت بها الأمة الإسلامية في فترات من تاريخها حين ظهرت كتابات سياسية
تفصل بين الدين والسياسة فيقول أحدهم: (والسياسة سياستان، سياسة الدين
وسياسة الدنيا، فسياسة الدين ما أدى إلى قضاء الفرض، وسياسة الدنيا ما أدى إلى
عمارة الأرض) [1] . والآن يقال: هذا من المصلحة السياسية ولو عارضت
المبادئ الإسلامية، بينما نجد أنه في حالات القوة ظهرت كتابات تقول: إن
السياسة يجب أن تتبع الشرع وأن أي تنظيم لأمور الدنيا إنما هو لرعاية الدين، وقد
كتب إمام الحرمين [2] مهاجماً من يريد فصل السياسة عن الشريعة وأطال النَفَس
فيه وقال معتذراً عن هذه الإطالة: (وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي وجاوزت حد الاقتصاد في كلامي لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال) [3] . وقال أيضاً: (وإنما ينسلُّ عن ضبط الشرع من لم يحط بمحاسنه ولم يطَّلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة لألفاها أو خيراً منها في وضع الشرع) [4] .
والحقيقة أننا ما زلنا نعيش في مرحلة ما بعد الحضارة الإسلامية ولم ندخل
بقوة مرة ثانية لصنع هذه الحضارة. هذه المرحلة يصفها مالك بن نبي بقوله:
(ولو أردنا أن نسمي هذه المرحلة الخالية من الروح والعقل لكل حضارة لأطلقنا
عليها بلا تردد اسم المرحلة (السياسية) بالمعنى السطحي لكلمة سياسة) [5] ويبدو
أننا نفهم السياسة كما يصفها أحد الغربيين (بارتيلمي سانتهيلر) : (إن السياسة
وهي مستغرقة في مشاكل الساعة لا يسعها أن تسمو إلى المبادئ) [6] .
فإذا جئنا إلى قضايانا الكبرى لنطبق عليها مفهومنا للسياسة الشرعية، وكيف
نتعامل في كل مرحلة فماذا نحن فاعلون؟ إن القضية السياسية الأهم خلال هذا
القرن كله هي قضية فلسطين، التي جعلها الله مركز الصراع بيننا - وبين اليهود
والنصارى من أمم الغرب. وإذا كان المسلمون على وعي بأن يرفضوا ما يسمى
(مؤتمر السلام) والذي هو في حقيقته مؤتمر لإذلال المسلمين ولإزالة العداوة
والبغضاء من قلوب المسلمين لليهود واعتراف بوجودهم وحقهم في أرض
فلسطين..؛ إذا كانوا على وعي بهذا فلماذا يخدعون للمرة الألف بالمتاجرين بهذه القضية، لقد تاجر بها القوميون والاشتراكيون والانتهازيون وكلهم سقط وانكشف في أتون المعركة الحقيقية، ولم يبق إلا الشاب المسلم والطفل المسلم والمرأة المسلمة الذين يقفون ببطولة أمام صلف اليهود.
ومن الذين تاجروا ويتاجرون بهذه القضية الإيرانيون ومنذ بداية ثورتهم،
ولكننا وجدناهم بعد فترة قصيرة يشترون الأسلحة من إسرائيل؛ أو تكون إسرائيل
وعملاؤها وسطاء لشراء الأسلحة الأمريكية، وأثناء انعقاد مؤتمر طهران هلك
اليهودي البريطاني (ماكسويل) صاحب الشركات ودور النشر والصحافة،
وانكشف أمره في صفقات الأسلحة لإيران وعمالته للموساد. والعجيب أن الذين
ذهبوا إلى طهران كانوا يهاجمونها لأنها وقفت موقفاً رديئاً من المجاهدين الأفغان،
ويهاجمونها لأنها وقفت موقفاً متخاذلاً أيام حرب الخليج ووقفت موقفاً سلبياً من
القضية الفلسطينية، فكيف أصبحت الآن هي القابضة على ناصية تحرير فلسطين.
وإذا كنا لا نقبل بمؤتمر مدريد فهل المزايدات والشعارات ستساعد في تحرير
فلسطين ونحن نعلم أن الصراع طويل وطويل بيننا وبين اليهود ومَنْ وراءهم فلماذا
لا يكون هناك خطوات قوية على الطريق، وما يقوم به إخواننا المجاهدون في
فلسطين هو خطوة كبيرة، ولكن لابد من تكتل للمسلمين يقابل هذا الحشد من أمم
الغرب علينا، لابد من تكتل القوى الصادقة من أصحاب العقائد الصافية، لابد من
إعداد أجيال قوية، وتوعية الشعوب وتقوية الاقتصاد، وإن جورج ووديع لا
يملكون حلاً، وهم الذين شجعوا على ضرب الفلسطينيين عام 1970 وهم الذين
أساؤوا إلى سمعة الفلسطينيين بأعمالهم الاستعراضية.
إن تاريخ المسلمين في هذا العصر مليء بالتجارب الغنية في مجال التحالفات
والحوار،. وفشلا ونجاحها، وقد كتب الكثير حول أمور كانت مجهولة في السابق
عن العقائد والفرق، وعن أشخاص بارزين، فلماذا لا يستفاد من هذا كله، وكم كنا
نتمنى أن ننتهي من عصر الشعارات الفارغة والمزايدات والمؤتمرات الكلامية.
__________
(1) ابن الحداد، محمد بن منصور: (الجوهر النفيس في سياسة الرئيس) ، تحقيق رضوان السيد 1983، وابن الحداد ألف هذا الكتاب لبدر الدين لؤلؤ أمير الموصل المتوفى عام 657 هـ.
(2) عبد الملك بن عبد الله الجويني (419 - 478 هـ) .
(3) الغياثي، للجويني ص 222 تحقيق د عبد العظيم الديب.
(4) المصدر السابق 229.
(5) شروط النهضة ص 79.
(6) محمد الحمداوي: (في نطاق التفكير الإسلامي) ص 51 ط دار الثقافة - الدار البيضاء 1979.(46/4)
قراءة في مجلة المنار
عبد القادر حامد
كنت أتصفح بعض مجلدات (مجلة المنار) التي أنشأها الشيخ محمد رشيد
رضا، فخطرت خاطرة على ذهني، وهي: أن تُستَعرض هذه المجلة من أول عدد
صدر فيها إلى يوم توقفت، ليكون ذلك استرجاعاً لجانب من تاريخ هذه الفترة،
وهو جانب الدعوة الإسلامية، وموقف الناس والدول والقوى الفاعلة حينذاك من
ذلك.
والدعوة الإسلامية جهد بشري، يعتريه ما يعتري الجهود البشرية الأخرى من
آثار ومؤثرات، فينجح حيناً، ويخفق حيناً، وتختلط فيه الإرادة والعاطفة، فتؤثر
فيه قوة الإرادة وضعفها، وحرارة العاطفة والشعور وبرودتهما، ويتلون بما للسجايا
من محاسن ومساوئ، وما للأخلاق من شمائل وغوائل، ولهذا فعندما نستعرضها
من خلال مرآة (المنار) لا يعني أننا نتعصب لما عرض أو لطريقة عرضه؛
ونقول: هذا هو الطريق، وليس ثمة غيره، وهو ما ينبغي أن نستجمع جهودنا
ونوجهه من أجله، وإنما هي خطرة خطرت، أردنا من ورائها عرض القضايا التي
اهتمت لها (المنار) ، واعتبارها بالمشكلات التي نواجهها اليوم: هل هي
المشكلات نفسها؛ أم تغير منها شيء؟ ما الذي تغير، وما الذي لا زال حيث هو؟
ما الحلول التي اقترحت؟ وما مدى نجاحها؟ وهل اختلاف العصر يقتضينا البحث
عن حلول أخرى.... الخ.
لقد بدأ إصدار مجلة (المنار) في العَشر الأخير من شهر شوال عام 1315
هـ (1898 م) أي قبل حوالي سبعة وتسعين عاماً من اليوم. وهي فترة عصيبة
من تاريخ الشعوب الإسلامية، إذ كان أكثرها واقعاً تحت السيطرة الغربية المباشرة، والباقي كان آيلاً إلى أن يسقط تحت تلك السيطرة، وهو الأجزاء التي كانت لا
زالت تحت الإدارة العثمانية، التي كانت في حكم المنهارة، ولم تُجْدِ جهود السلطان
عبد الحميد إلا في تأجيل الإعلان عن وقت الانهيار.
وحال المسلمين العامة كانت في درجة من الضعف لا تحسد عليها، يقابلون ما
يجري حولهم وعليهم بأعين مفتوحة، وأيد مغلولة، وعقول مشلولة. يدبر أمرهم
أجنبي شرس طامع، أو وكيل له مدخول العقيدة دنيء النفس. وكان عبد الحميد
يبدو وكأنه يريد إيقاف العجلة التي بدأ دورانها في زمن جده (محمود الثاني) الذي
بدأ الإصلاحات على النمط الأوربي، واستقدم المستشارين الأجانب من أجل ذلك.
واشتد دورانها في عهد أبيه (عبد المجيد) بصدور: (التنظيمات) فانفتح على
الدولة العثمانية بسبب ذلك وبسبب الضغوط الخارجية من الأوربيين أبواب لم يعد
بإمكان عبد الحميد ولا غيره سدها أو التحكم فيما يدخل منها.
ونتيجة لطغيان الحضارة الأوربية الكاسح، فقد قوي نفوذ الأقليات التي
استخدمتها أداة لبسط نفوذها، للتَّدخُل باسم حمايتها وإنصافها. وهكذا انقلبت
الموازين، وبدأ عهد صعود هذه الأقليات - بتعليمها وتسليحها بأسباب القوة - على
حساب الأكثرية المهملة التي وجدت نفسها بعد عهود طويلة من الجهل والتجهيل في
عالم غير عالمها.
أصبح الطريق ممهداً للإجهاز على كيان المسلمين السياسي، ففساد داخلي
يرافقه ضغط خارجي وأقاليم تسقط؛ واحداً بعد الآخر تحت وطأة الغربيين، وحكام
فسقة فجرة سفهاء من طراز الخديوي (إسماعيل) يمهدون الطريق لسيطرة الأجانب
المطلقة على البلاد والعباد.
هذا هو الجو الذي بدأ فيه صدور (المنار) .
أهداف المجلة:
يلخص محمد رشيد رضا أهداف مجلته بقوله:
( ... أما بعد: فقد أنشأنا هذا (المنار) في العشر الأخير من شهر شوال سنة
1315، وبينا غرضنا منه في الصحيفة الأولى من صحفه وهو مسائل كثيرة
يجمعها: الإصلاح الديني والاجتماعي لأمتنا الإسلامية، هي ومن يعيش معها،
وتتصل مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته
لمصالح البشر في كل قطر وعصر، وإبطال ما يُورَد من الشبهات عليه، وتفنيد ما
يعزى من الخرافات إليه.)
هكذا يحدد أهدافه، ومن ذلك يتبين أن المشكلة - كما يراها رشيد رضا -
هي فهم الناس للدين؛ وأحوالهم الاجتماعية. وقد انصبت جهوده - فيما بعد - في
هذين المجالين:
1 - تصحيح نظرة المسلمين في عصره إلى الإسلام: سواء الملتزمون أو
غيرهم. أما الصنف الأول: فقد كانت تعكر على عواطفه وإخلاصه كثير من
الأعمال التي كان يُظَنُّ أنها من الورع والدين وهي ليست كذلك، وإنما هي عادات
وأعراف وتأثيرات تراكمت عبر القرون بسبب الجهل وتهاون أهل العلم، ولها
أسبابها الكثيرة كالتأثر بالعادات والأعراف غير الإسلامية، وشيوع التصوف
الأعجمي، وجهل الحكام أو إهمالهم بث العلم الصحيح وتشجيع العلماء الاحرار
الذين يصنعون ثقافة الأمة ويكونون لسانها الناطق وضميرها الحي.
وأما الصنف الثاني: فهو الصنف الذي تأثر بالدعاية الأوربية والتبشيرية -
نتيجة نيله قسطاً من التعليم، واحتكاكه بمدارس البعثات التبشيرية التي غزت بلاد
الشام ومصر، أو كان من الذين ابتعثوا إلى أوربا لإكمال تعليمهم في عصر محمد
علي ومن بعده، فقد كان لهؤلاء أثر في انحلال الثقة في دين الأمة (وهو الإسلام)
إذ كان الكثير منهم معجباً بلا حدود بالثقافة الغربية، لا يعصمه من المبالغة في ذلك
عقيدة في القلب متينة، ولا علم شرعي صحيح، وهكذا رجعوا إلى بلادهم وفيهم
جرأة تغذيها السطحية، واحتقار للذات يغطونه بكبرياء زرعتها في نفوسهم
امتيازاتهم وما نالوه من معرفة ظنوا أنها إكسير الحياة لأمتهم.
2 - محاولة إخراج المسلمين من العجز الاجتماعي الذي حل بهم،
وتبصيرهم بعيوبهم وأمراضهم التي تفتك بهم وتمنعهم من النهوض، وذلك بحضه
على التربية والتعليم.
مقدار المطبوع:
بدأ رشيد رضا بطبع [1500] نسخة من كل عدد، ووزعها على من يعرف
في مصر وبلاد الشام، والقليل في غيرهما من البلاد الأخرى، ثم عاد إليه أكثر ما
أرسل إلى المصريين - ولا يذكر السبب لذلك - وبعد ذلك بقليل منعت رقابة الدولة
العثمانية ما كان يرسل إلى السوريين وسائر العثمانيين، فاقتصر على طباعة
[1000] نسخة، ويقول: (مرت السنة وسنتان بعدها وما كاد المشتركون يزيدون
على ثلث الألف إلا قليلاً) !
ومع شعوره بقلة عدد المطبوع إلا أن ذلك لم يدعه إلى اليأس ونفض اليد من
هذا الجهد الذي لا يكاد ُيحسُّ، بل استمر في آماله العريضة ويقينه أن الناس سوف
تلتفت إلى (المنار) وتقدره حق قدره طال الزمن أو قصر، وهاهو ذا يقول:
(ما كان انتقاص عملي منتقصاً من أملي، ولا زهد الأمة في (المنار) باعثاً
على جعله طعاماً للنار، ولا لفائف لبضائع التجار - كما هي سنة أصحاب الصحف
في هذه الديار - بل كنت أحرص عليه، حاسباً أن الناس سيعودون إليه) .
قد يبدو الرقم [1000] لأعداد مجة توزع بين الناطقين بالعربية رقما صغيراً،
وهو كذلك، رقم صغير، فماذا عساه يفعل فيما بين مشرق بلاد العرب ومغربها،
وحق لأكثر الناس تفاؤلاً أن يصاب بخيبة الأمل إذا ووجِه بهذا الرقم. لكن إذا علمنا
حال العرب في ذلك العصر؛ ومبلغ الأمية الفاشية بينهم أدركنا أنه رقم لا بأس به.
وسيزداد تقديرنا لهذا الرقم إذا قارناه بأرقام المطبوع من أعداد المجلات الجادة في
عصرنا هذا. إن ما يماثل مجلة (المنار) من المجلات اليوم إذا وزع بين 15 إلى
20 ألف نسخة اعتبر توزيعه لا بأس به، ولكن إذا قارنا الحال اليوم بالحال التي
كان عليها الناس زمن رشيد رضا عندما أصدر مجلته؛ فستجيء نتيجة المقارنة
لمصلحة ذلك العصر، وذلك لأن ما كان رشيد رضا يشير إليه بشيء من الأسف
على أنه سبب قلة المطبوع - وهو الرقابة - لم تتراخَ قبضته، بل اشتدت واشتد
بأسها، بل إن هذه القبضة أشرس ما تكون حين تواجه المطبوعات الداعية إلى فهم
الإسلام الصحيح الذي يكون مخدوماً لا خادماً ولا مسخراً، ومقصوداً لذاته لا مطلوباً
لغيره.
ومع أن نسبة التعليم قد تضاعفت أضعافاً كثيرة عما كانت في مطلع هذا القرن؛ فإن نسبة القراءة وتوزيع المجلات لا تتناسب مع هذه الزيادة في نسبة المتعلمين،
ومردُّ ذلك إلى عوامل كثيرة منها: الحيلولة القاسية دون وصول المفيد من الثقافة
إلى أيدي الناس لتوهم أن في ذلك تهديداً لمصالح الطبقات المتنفذة. وشيوع وسائل
زاحمت القراءة كالراديو والتلفاز وغيرهما، ومنها أيضاً هبوط المستوى التعليمي
والالتفات إلى العناية بتمدد التعليم أفقياً وإهماله عمودياً. ثم انشغال الناس
بضروريات الحياة التي أصبحوا يعانون المصاعب الكثيرة للحصول عليها في كثير
من البلاد العربية.
إن الحقيقة المرة للواقع الثقافي في البلاد العربية منذ بداية ما يسمونه بعصر
النهضة إلى اليوم تتكشف من خلال أرقام توزيع المجلات الجادة، فهذه المجلات -
وأخصها المجلات الإسلامية - واقعة بين مطرقة الرقابة وسندان العجز المالي.
وأي مجلة لا تدركها رحمة الدولة فمصيرها إما أن تُوقَف، وإما أن تتوقف، وإما
أن تستمر من جيب الدولة، والتجربة الماثلة تشير إلى أنه قد يمكن لمجلة علمية
مجردة أن تعيش على تمويل الدولة وتنجح؛ أما المجلة التي لها مساس بحياة الناس
اليومية - كالمجلات الإسلامية - فإن دعم الدولة لها يفقدها ثقة الناس بها تدريجياً،
حتى إذا اكتشفت الدولة أنها أصبحت عبئاً بلا مردود تعالت الأصوات بإغلاقها
(نزولاً عند رغبة الجمهور!) وقد تبقيها حفاظاً على الفكر الإسلامي الأصيل!
وتشجيعاً للإسلام الحضاري! ! ونظراً منها بعين العطف للمؤسسات الإسلامية.(46/8)
مقابلة
حول الفقه والتفقه
(2)
حوار مع الشيخ علي بن سعيد الغامدي
هذه هي الحلقة الثانية من الحوار الذي أجرته البيان مع الشيخ على بن سعيد
الغامدي أستاذ الفقه في المعهد العالي للدعوة في المدينة المنورة.
* البيان: تيسرت الطباعة والمطابع وسهل تداول الكتاب، وهذا شيء طيب
بحد ذاته ولكن بعض الناس أخذوا من كتب الفقه مباشرة وتجرءوا عل الفتوى، فما هو الحل. هل تحصر الفتوى بعلماء معينين أم تترك لكل من يجد نفسه قادراً على ذلك؟
لا شك أن الفتوى عظيمة، وقد يبلغ الإنسان عمراً طويلاً ويستجمع علماً
كثيراً من الكتاب والسنة ولكنه مع هذا يتهيب التصدر للفتوى، وهذا الذي كان عليه
علماء السلف. فالصحابة -رضوان الله عليهم- مع أنهم يعيشون مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- جواً علمياً عملياً ويرون بأعينهم الأحكام الشرعية ومع هذا إذا
جاءهم أحد بسؤال أو استفتاء كانوا يتدافعون الفتوى، وربما لا يجيب أحدهم حتى
يرى أنه قد تتعين الإجابة عليه، وكان أشياخ من أصحاب الرسول -صلى الله عليه
وسلم- يفتون ولكن إذ اختلفوا يأتون إلى معاذ بن جبل فيصدرون عن رأيه، وهذا
دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدر للفتوى حتى يكون طالب علم متفقة
مؤهل، ومع ذلك عليه أن يدفع الفتوى عن نفسه ما استطاع إذا وجد من يفتي غيره. ولكن إذا لزمه الأمر ووقف هو على حكم المسألة ويعرف ذلك فلا بأس أن يبين
الحكم ويذكر الدليل للمستفتي إذا كان يفقه ذلك، أما إذا كان عامياً فإنه يكفيه أن
يخبره بحكم الشرع في هذا، والأصل أن طالب العلم يقرأ الكتاب والسنة وفقه
الأوائل ويستفيد ويذهب إلى أي جهة من الجهات ليعلم الناس، والأصل عدم تحديد
الفتوى بشخص معين ولكن في زماننا هذا أصبح بعض الناس إذا حفظ حديثاً عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه يخول لنفسه أن يفتي بما يشاء، فينبغي
للإنسان أن لا يتصدر إلا وهو أهل لذلك، وقد يكون من المصلحة أن تقصر الفتوى
في بلد من البلدان أو إقليم من الأقاليم على عالم أو مجموعة من العلماء الذين
اشتهروا بالتقوى والورع وجمع أقوال أهل العلم والأدلة في المسألة الواحدة،
ومعرفة الواقع الذي يعيش الناس فيه، وكذلك ربما تحدد مسائل يقع الناس فيها
بأغلاط كثيرة ويفتون بأقوال مرجوحة، لا بأس أن تحدد جهة إذا كان هذا يحقق
مصلحة من المصالح لكن بشرط أن يكون المفتي ممن تنطبق عليه الشروط
والضوابط التي ذكرها أهل العلم في كتب الاجتهاد ولو جزئياً، وقد كانت عائشة -
رضي الله عنها- تُسأل عن مدة التوقيت في المسح على الخفين فقالت: عليك بابن
أبي طالب فإنه كان يرافق النبي -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره فهذا دليل على
الإحالة، وكذلك لما أحالوا عليها فيما تعرفه في مسألة الغُسل، فذكرت لهم الحديث
لأبي موسى وصدروا كلهم عن قولها، وهذا لا ينقص من قدر الإنسان إذا عرضت
عليه مسألة ثم ردها إلى عالم أو طالب علم.
* البيان: في أوربا أو الغرب بشكل عام أمور ومشاكل قد لا توجد في
المجتمعات الإسلامية فإما أن يُسأل أحد العلماء وهو بعيد عن أجواء المشكلة، ويفتي
دون الاطلاع على الظروف هنا أو يسأل من يعيش في هذه البلاد وهو ليس أهلاً
للفتوى فكيف ترون الحل؟
وهذه قضية مهمة تحتاج إلى دراسة جماعية، للخروج بالحلول التي قد تحد
من هذه المشكلة، وقد يكون من الحلول الآنية أن تحصر أهم هذه المشكلات من قبل
أناس يعيشون في هذه المجتمعات وتقدم لهيئات علمية لدراستها من كافة الجوانب
واقتراح الحلول لها. وهذا العبء يجب أن تقوم به المركز الفقهية والجامعات
الإسلامية وكذلك هناك عبء يقع على المراكز الإسلامية في هذه البلاد ويتمثل في
إعداد أشخاص يعيشون في هذه البيئات ويدرسون المشكلات التي يواجهها المسلمون
ويكونون مرجعاً للفتوى، وينشروا بحوثاً دورية توزع على الجاليات الإسلامية بلغة
مبسطة خالية من التفصيلات التي لا يحتاجها المسلم العادي.
* بعض الشباب الذين درسوا علوماً غير شرعية يحبون الازدياد من العلم
الشرعي وخاصة في الفقه والملاحظ أنهم يقرأون من الكتب الكبيرة مباشرة وليس
عندهم عالم، فبماذا تنصحون؟
طالب العلم هذا يعتبر مبتدئاً والأصل أن يدرس مختصراً من المختصرات،
وكل مذهب من المذاهب الأربع المشهورة عنده مختصرات، فيختار واحداً منها
وليستخر الله سبحانه وتعالى في دراسة واحد منها. فكتاب (الهداية في مذهب أبي
حنيفة) ميسر ومقرون بالدليل ويليه في السهولة واليسر كتاب (العمدة في الفقه) لابن
قدامة على مذهب الإمام أحمد وبالنسبة لمالك يمكن أن يتفقه على (الموطأ) فقد جمع
بين الحديث والفقه وله الشروح أو (الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني، ومن أيسر
كتب الشافعية (المهذب) للشيرازي وهناك (المنهاج) أيضاً وله شروح متيسرة، ولا
شك أن حاجة المسلمين اليوم إلى وضع كتاب يجمع القول المترجح قد يحل المشكلة، ويجب أن يدرس أيضاً كتاب في أصول الفقه، ومن أفضل المختصرات وهو
يجمع أكثر أقوال أهل العلم كتاب الشيخ ابن عثيمين (الأصول من علم الأصول) .
* ولكن هناك أقوال ضعيفة ومرجوحة في كتب المذاهب وأقوال ليس عليها
دليل فكيف نتخلص من هذا إذا قرئت كتب في المذاهب؟
نحن متفقون على أنه لا يقرأ لوحده. لأن الذي يقرأ لوحده سيكون له أخطاء
كثيرة والأصل أن يقرأ على شيخ، والأصل أيضاً أن يكون هذا الشيخ على علم
بالأقوال والأدلة، وعندئذ يبين له أن هذا القول مرجوح بالدليل أو أن هذا القول
اعتمد على دليل ضعيف. هذا شيء لا بد منه، ولهذا ذكروا في كتاب (الفقيه
والمتفقه) وكتاب (جامع بيان العلم وفضله) ، و (تذكرة السامع) على أنه لا بد أن
يكون التفقه على شيخ.
والطالب هذا ليس عنده شيء الآن، فلابد له من موجه، وبعد ذلك إذا كان
عنده القدرة على البحث والمقارنة والوصول إلى ما هو أقوى وأقرب إلى الدليل،
فهذا له وليس محجوراً عليه. وليس ملزماً بأن يأخذ المذهب كله بما فيه من ضعيف
وصحيح.
* ما رأيكم بمن يعتمد الآن كتاب (فقه السنة) للشيخ سيد سابق؟
هذه طريقة غير صحيحة بالنسبة للشباب المبتدئ، لأن الحاصل أنه لم يخرج
عن المذاهب، كل ما في الأمر أن الشيخ سيد سابق يقارن أحياناً ويختار. وما دمت
ستتابع سيد سابق فمتابعة الشافعي أو أحمد أو أبو حنيفة أو مالك أولى، إذ هؤلاء
علماء الحديث والسنة الأولون، فدراسة مختصر من المختصرات على شيخ
وحصر الأحكام فيه، هذه مرحلة تأسيسية، ومثل (فقه السنة) يكون في مرحلة ثانية.
* ولكن لو فرضنا أنه قرأ (فقه السنة) أو كتاب (سبل السلام) مثلاً على عالم
ما المانع من ذلك؟
لا أقول هناك مانع ولكن أتصور أنها خطوة ثانية، فكأنه مثل الذي يبدأ من
السلم من الدرجة الثانية أو الثالثة قبل أن يبدأ بالأولى، والأولى لطالب العلم المتفقه
أن يبدأ بصغار العلوم قبل المقارنات، فإذا انتهى من المرحلة الأولى يأتي إلى
المرحلة الثانية.
ولكن ذكرت قبل قليل أن من أسباب دراسة بعض الناس الفقه المقارن محاولة
الخروج من الانحصار في دائرة المذهب والخروج من أسر التقليد، وهذا فيه نظر، لأن الاتباع شيء والتقليد شيء آخر.
* مناسبة الحديث عن التقليد والإتباع ما الفرق بينهما؟
التقليد يصل بالإنسان إلى درجة التعصب، مثل الذي يقول: إمامنا فرغ من
بيان الأحكام، وليس للقرآن والسنة حظ من القراءة إلا للتبرك وهذا الذي نهى عنه
أهل العلم، ولكن الاتباع بمعنى أن تتبع مذهباً وتسأل عن الدليل وبعد ذلك إذا
انتهيت من مسألة تعود وتنظر في أقوال أهل العلم، ومناقشات المسألة وتختار قولاً
من الأقوال إذا كنت مؤهلاً لذلك، ومن التأهيل:
1 - حفظ النصوص من القرآن والسنة وفهم شروحها ومعرفة طرق التعارض
وعلم الخلاف.
2 - أن يكون على علم بعلم أصول الفقه واستنباط الأحكام من أدلتها.
البيان: وفي آخر هذا اللقاء أكد الشيخ -حفظه الله- على أهمية العناية بالدليل وتربية طلاب العلم على روح البحث والبعد عن التعصب فجزاه الله خيراً، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(46/14)
علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية
(6)
هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟
د. أحمد إبراهيم خضر
نتابع استعراض شهادات علماء الاجتماع على أنفسهم، وإعلانهم فشل بحوثهم
وجهودهم، وتصويرهم غربتهم عن المجتمعات التي يتناولون شؤونها، ويستوردون
الحلول لمشكلاتها، مما يصف غرورهم وعنجهيتهم وانفصام شخصياتهم.
فمن ذلك.
أولاً: الاعتراف بأن علم الاجتماع يوجه إلى مستهلكين عاجزين عن رفضه،
وأنه نما وترعرع على هامش المجتمعات العربية دون أن يحس به سوى أتباعه
ومريديه وأصحاب المصالح الحيوية فيه، أما رجل الشارع فلا يدري عنه شيئاً.
يقول محمد عزت حجازي أستاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية
والجنائية بالقاهرة:
(لن نقف طويلاً عند الحقيقة المحزنة التي تتلخص في أن جانباً - يبدو لنا
كبيراً - من البحث والدراسة والكتابة في علم الاجتماع يوجه إلى مستهلكين عاجزين
عن رفضه هم طلبة الجامعات والمعاهد العليا) [1] .
ويضيف (سالم ساري) أستاذ الاجتماع بجامعة الإمارات العربية المتحدة:
(ولكن المتتبع لتاريخ علم الاجتماع في الوطن العربي يلاحظ بدائل شتى.
إنه نما على هامش المجتمعات العربية ... نما وترعرع طيلة نصف قرن من
الزمان أو يزيد دون أن يرعاه أو يحس به سوى أتباعه ومريديه وذوي المصالح
الحيوية فيه) [2] .
ويقول (ساري) في موقع آخر:
(وأود أن أضيف تحدياً يتمثل في الهوة التي تفصل بين علماء الاجتماع
وأفراد المجتمع العاديين وكذلك القضايا الاجتماعية المعاصرة) [3] .
ثانياً: الاعتراف بأن علم الاجتماع نشأ وتطور وما زال هزيلاً غير قادر على
توفير نظرية خصبة ومناهج تقود إلى نتائج صلبة الأساس، وأنه كان ولا زال
مغترباً عن الواقع الاجتماعي، وأن المتخصصين لم يساهموا إلا في صياغة
مشكلات المجتمع العربي وتفسيرها وليس في اقتراح الحلول لها.
يصوغ محمد عزت حجازي هذا الاعتراف بقوله:
(إن نظرة تحليلية نقدية لواقع العلم تنتهي بنا إلى أنه يمر بأزمة، فقد نشأ وتطور وما زال هزيلاً لا يوفر مقولات نظرية خصبة قادرة على الإيحاء بأفكار تعين على النماء والتجدد ومناهج يمكن أن تقود إلى نتائج صلبة الأساس نافذة الدلالة، وكان منعزلاً أو مغترباً عن الواقع الاجتماعي الحي) [4] .
أما سعد الدين إبراهيم فقد عبر عن ذلك في موضعين قال في أولهما:
(وبالنسبة للوطن العربي فمنذ الحرب العالمية الأولى واستقلال البلاد العربية
لم تظهر مساهمة علمية نظرية يعتد بها الوطن العربي) .
وقال في الموضع الآخر:
(إن المتخصصين لم يساهموا بالقدر الكافي أو بالدرجة المطلوبة في صياغة
مشكلات المجتمع العربي المعاصر وتفسيرها أو في اقتراح الحلول المطلوبة لهذه
المشكلات) [5]
ثالثاً: الاعتراف بأن المعرفة التي أنتجها رجال الاجتماع معرفة هزيلة، وأن
وجودهم هامشي وتأثيرهم على المجتمع محدود، وأنهم غير ذوي مصداقية أو
فاعلية، وأن طالب المعرفة عن الواقع الاجتماعي يمكن أن يجدها في كتابات غير
كتابات علم الاجتماع.
يشرح سعد الدين إبراهيم قضية نجاح علم الاجتماع في إثبات وجوده على
مستوى الجامعات والمجتمع فيقول:
(إلا أن هزال ما أنتجوه من معرفة قد جعل هذا الوجود هامشياً وجعل
فاعليتهم في التأثير على المجتمع محدودة إن لم تكن معدومة. وطالب المعرفة عن
الواقع الاجتماعي العربي المعاصر قد لا يجدها إلا في الكتابات الأدبية والصحفية أو
في أعمال بعض المشتغلين بالتاريخ والجغرافيا أو الفلسفة والدين، وقد لا تكون هذه
المعرفة بالضرورة دقيقة أو عميقة ولكنها على الأقل متوفرة ومفهومة) [6] .
ويتحدث سعد الدين إبراهيم أيضاً عن هامشية علماء الاجتماع فيقول:
(ليس صدفة أن هامشية علماء الاجتماع تواكب هامشية الفرد والمجتمع
المدني في أقطار العالم العربي) [7] .
أما عن عدم مصداقية وفاعلية رجال الاجتماع فيقول عبد الوهاب بو حديبة في
ندوة أقيمت في أبو ظبي في أبريل عام 1983 تحمل نفس العنوان: (نحو علم
اجتماع عربي) :
(حتى الآن في البلاد العربية ليس لنا مصداقية وبما أنه ليس لنا مصداقية
فليس لنا فاعلية. أما قضية المصداقية يمكن أن نقول أننا نتقدم إلى الأوساط العلمية
(مؤتمرات وندوات) ونتكلم، أما الأيدي فهي فارغة أو اليد اليمنى لا تدري ما في
اليد اليسرى) [8] .
رابعاً: الاعتراف بأن المتخصص في علم الاجتماع نادراً ما يأتي إلى دراسته
بمحض رغبته وإرادته، وأن المناهج وأساليب التدريس وهزال الكم من المعرفة في
علم الاجتماع لا يساعد على تنشئة المتخصص فيه تنشئة سليمة.
يقول سعد الدين إبراهيم:
(يندر أن يأتي التخصص في هذا الميدان طالب بمحض رغبته وإرادته، وإنما غالباً مما يأتي الطلاب إلى علم الاجتماع إما بمحض الصدفة أو لعدم وجود بديل أفضل متاح أمامهم. والقلة التي تأتي بمحض إرادتها غالباً ما يختلط في عقلها مفهوم علم الاجتماع بمفهوم الخدمة الاجتماعية أو النزعات الخيرية والإصلاحية والإنسانية، ولا تساعد المناهج وأساليب التدريس وهزال الكم من المعرفة السوسيولوجية في الجامعات العربية على تنشئة سوية للغالبية العظمى من الطلاب الذين يقضون أربع سنوات في دراسة علم الاجتماع، ويتخرجون بمفاهيم غير ناضجة عن العلم ومناهجه ومفاهيمه ونظرياته) [9] .
أما عزت حجازي فيشير إلى نفس هذه النقطة قائلاً:
(إن التعليم في مرحلة الليسانس والبكالوريوس والدراسات العليا لا يهتم
بنوعية الطلبة ولا ما يقدم لهم من برامج وما يوفر لهم من فرص الإعداد والتنشئة،
لهذا بسبب التركيز على التلقين من (كتاب مدرسي) ونتيجة للعمل من موقف
التعالي على الواقع أو الانفصال عنه على الأقل ينهي الدارسون تعليمهم وهم
ناقصوا الإعداد غير فاهمين للواقع وعاجزين عن التعامل معه) [10] .
خامساً: الاعتراف بأن المؤلفات العربية في علم الاجتماع سيئة ومتخلفة
وسطحية ومترجمة ومستعارة من واقع آخر ومن فكر مؤلفين آخرين تنم عن
اضطراب وخلط شديدين، بالإضافة إلى أنها سريعة الإنتاج ومؤلفة أساساً لتحقيق
الكسب المادي السريع.
يتحدث أصحاب المؤلفات العربية في علم الاجتماع عن مؤلفاتهم ويصفونها
وصفاً دقيقاً. هذا (محمد الجوهري) يقول:
(ولم تلتفت - أي الدولة - إلى أن الأستاذ الجامعي صاحب الخبرة الميدانية
الناقصة في فرع لعلم الاجتماع سيكون بالضرورة والقطع مؤلفاً لكتب سيئة ومتخلفة
ومستعارة من واقع آخرين ومن فكر مؤلفين آخرين) [11] .
ونقلاً عن (إياد القزاز) يقول (محمد الجوهري) عن كتابات رجال الاجتماع:
(إن تلك الكتابات ... علاوة على طابعها النظري فإنها ليست منهجية دقيقة
في طريقة العرض؛ بل إن بعضها ينم عن اضطراب وخلط شديدين، وهي تقدم
للقارئ معالجة سطحية للموضوع. ويلاحظ فضلاً عن هذا أنه على الرغم من أن
تلك الكتابات ليست ترجمات مباشرة للكتب الدراسية الإنجليزية إلا أن التأمل الدقيق
لها يكشف لنا أن الجانب الأعظم منها عبارة عن ترجمات غير مباشرة مع إدخال
بعض التعديلات عليها والملاءمة مع ظروف القارئ والإيجاز هنا وهناك نقلاً عن
بعض الكتب الدراسية الإنجليزية خاصة الكتب المعتمدة منها) [12] .
هذا ويدلي عبد الباسط عبد المعطي أستاذ علم الاجتماع بجامعتي القاهرة وقطر
وأحد قادة حزب التجمع الشيوعي المصري وأحد الماركسيين البارزين في علم
الاجتماع ورئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع.. يدلي بدلوه في القضية معترفاً:
(إن معظمنا يعيد إنتاج الفكر الغربي استسهالاً للاستهلاك وهذه مسألة حجمت العمل
المنتج على مستوى أداء علم الاجتماع. هناك تشابه بين إنتاج (السفن آب) أو
ترجمة الأفلام الأجنبية والاقتباس منها وبين تصنيع (الجينز) وبين ترجمة كتاب
مدرسي مأخوذ عن المكتبة الأمريكية أو الإنجليزية. التشابه يأتي من قيم الاستسهال
وبذل الجهد ومتطلبات السوق - سوق التدريس والتوزيع - الذي يلهث البعض خلفه
كسباً للكسب المادي في وقت قصير نسبيا ... الجماهير التي يتعامل معها المشتغلون
بعلم الاجتماع هي جمهور الطلاب والباحثين الشباب والمبحوثين. بالنسبة لطلاب
مراحل الليسانس هم المستهلك للمؤلفات المدرسية التي ينتجها المشتغلون بالعلم وهم
بالتالي مصدر دخل أساسي للقائمين بالتدريس في الجامعات العربية. لقد بينت
الدراسات التي اهتمت بتحليل ممارسات التدريس وتقويمها في الجامعات العربية أن
من بينها زيادة الاتجاه إلى الأعمال المترجمة التي هي في جوهرها إعادة إنتاج
لأعمال آخرين وأياً كان جهد الترجمة فهو أقل عناء من التأليف ... كما يلاحظ أن
المؤلف الواحد يكتب في معظم إن لم يكن جميع أبعاد التخصص وفروعه ... معنى
هذا بالتأكيد - خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار التسلسل الزمني للأعمال
المنشورة - تأليف سريع يستجيب لمتطلبات السوق، سوق التدريس وملاحقته، وتبدو الغاية هنا الكم الذي يلاحق الطلب والعائد من كل طلب، وإذا أضفنا إلى هذا أن المؤلف هو صاحب القرار في إلزام الطلاب بشراء مؤلفه فهو الذي يقرر وضع الامتحان وأنه يترتب على هذا فرض رسائل الدكتوراه المنشورة على طلاب الفرقة الأولى وفرض مؤلفات في بعض الفرق لا علاقة لها بمواصفات المقرر ومقرراته وتغيير الكتاب المقرر كل عام أكاديمي..) [13] .
أما سعد الدين إبراهيم فيقول في قضية المؤلفات العربية في علم الاجتماع:
( ... نادراً ما يجد طالب المعرفة إنتاجاً سوسيولوجياً عربياً يطفىء ظمأه لفهم
الواقع العربي المعاصر بصورة منضبطة أو موضوعية أو شاملة أو حتى جزئية،
فأكثر من ثمانين بالمائة من إنتاج أساتذة الاجتماع يكاد ينصرف كلية إلى الكتب
المدرسية التي تحاول أن تعلم الطلاب مبادئ العلم وفروعه وتاريخه ونظرياته ورغم
أهمية هذا الجانب من إنتاج أساتذة الاجتماع العرب للعملية التعليمية والتربوية إلا
أن الشاهد هو أن معظم هذه الكتب المدرسية تتسم بما يأتي:
1 - تضخم الوعود بقدرات علم الاجتماع على فهم الواقع والتعامل الفعال مع
المشكلات الاجتماعية.
2 - الاعتماد شبه الكامل على مصادر المعرفة الأجنبية والترجمة المباشرة أو
من خلال آخرين.
3 - التعقيد اللغوي والمعنوي في طرح مفاهيم ومقولات علم الاجتماع إما
للإيحاء بجهبذة فكرية أو في الأغلب لعدم الفهم والاستيعاب لما يتم نقله من مصادر
أجنبية.
4 - ندرة ما يرد في هذه الكتب عن الواقع العربي (قطرياً أو قومياً) .
5 - سطحية وتجزيئية القليل النادر الذي يرد في هذه الكتب عن الواقع
العربي وعدم استناده إلى قاعدة صلبة من المعلومات التقريرية أو الأمبيريقية) [14] .
سادساً: الاعتراف بأن مجتمع المشتغلين بعلم الاجتماع في بلادنا لا يشكل
مجتمعاً مهنياً حقيقياً وإنما هم جماعات مصالح وشلل تتصارع مع بعضها ويسيطر
أحدها على الآخر وأن تنشئتهم المعيبة أدت بهم إلى اللامبالاة والسلبية، وعوّدتهم
على الوصولية والانتهازية.
يقول محمد عزت حجازي:
(أما بالنسبة للمشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي - من الصعب أن
نقبل فكرة أنهم يكونون مجتمعاً مهنياً، فهم في الحقيقة ينتظمون في جماعات مصالح
متغيرة أو شلل ... ويزيد الوضع سوءاً التنشئة المهنية المعيبة المشوهة التي تكف
في الإنسان إمكاناته وقدراته الحقيقية واستعداده للمبادرة والانتماء، وتربي فيه
اللامبالاة والسلبية وتعوده على الوصولية والانتهازية، وتركز أهم القيم والتوجهات
وتدور معظم أنماط السلوك والتصرفات حول الذات والأسرة والشلة وفي نظم
تسيطر عليها وتستغلها عناصر طبقية طفيلية وتشجع فيها الكسب المادي بأي ثمن
وشكل والاستهلاك في سفه ... ولهذا لا تعرف حركة الفكر الاجتماعي في المنطقة
العربية الموضوعية والحوار التي تساعد في إنضاج الأفكار وتصحيح الأخطاء
وكف تأثير الطرف المتحيز) [15] .
وهذا سعد الدين إبراهيم يتحدث عما أسماه الحرب الأهلية بين قبائل وعشائر
وبطون رجال عالم الاجتماع في بلادنا فيقول:
(في المرحلة الأولى التي حاول فيها علم الاجتماع أن يشق مكاناً له في
الجامعات (1940 - 1960 تقريباً) كان جزء كبير من طاقة المشتغلين به ينصرف
إلى محاورات لإثبات علميته وموضوعيته وأهميته للمجتمع. وقد تجاوز المشتغلون
العرب بعلم الاجتماع هذه المعارك الخارجية مع الذين عارضوا أو شككوا في أحقية
هذا العلم الجديد بمكان تحت الشمس الجامعية. لقد انتصروا في تلك المعارك إما
لأنهم نجحوا في إقناع الآخرين أو لأن الآخرين سئموا استمرار تلك المعارك. ولكن
أساتذة الاجتماع سرعان ما دخلوا مع بعضهم البعض في معارك أهلية في المرحلة
الثانية (1960 - 1985) إما بالأصالة عن أنفسهم أو نيابة عن أطراف
سوسيولوجية متعاركة مع مجتمعات أخرى، وساد تلك المعركة ما يمكن تسميته
بمرض البداوة السوسيولوجية. فقد قسم المشتغلون العرب بعالم الاجتماع أنفسهم إلى
قبائل اتخذت، أسماء ومسميات مختلفة (فهناك النظريون والتطبيقيون، وهناك
الماركسيون والوظيفيون، وهناك أتباع المدرسة الفرنسية وأتباع المدرسة الإنجليزية
أو الأمريكية أو السوفياتية.. الخ) وكل قبيلة سوسيولوجية جرى تقسيمها إلى عشائر
(وظيفيون، ووظيفيون جدد، وماركسيون جدد.. الخ) وجرى تقسيم كل عشيرة
إلى بطون وحتى أفخاذ. لقد أصبحت البداوة أفيون علماء الاجتماع العرب) [16] .
ويتحدث عبد الباسط عبد المعطي عن مجتمع رجال الاجتماع من الداخل من
زاوية أخرى فيقول:
(هناك جماعات مصلحة وجماعات ضغط على مستوى مؤسسة عالم
الاجتماع، هي جماعات تكاد تقوم بالممارسات والضغوط التي تأتيها الطبقات
المسيطرة داخل البنى الاجتماعية لكنها تأتيها على مستوى العمل الرسمي. هناك
باحثون جمعوا في أيديهم خيوطاً كثيرة مؤثرة في مسيرة العلم: التدريس، الإشراف
على الرسائل الجامعية، الترقيات، السلطات الإدارية والتنفيذية، اللجان الحكومية، العمل في البحوث الأجنبية ... الخ وبالتالي ركزوا كثيراً على مزيد من الكسب
أعلى من غيرهم فأسهموا في خلل التوزيع على مستوى المجتمع وعلى مستوى
مؤسسة العلم) [17] .
هذا هو واقع علم الاجتماع وواقع المشتغلين به بعد ما يقارب من ثلاث
وثمانين سنة من دخوله إلى بلادنا وإعلانه انقطاعه عن الإسلام.
علم هامشي هزيل لا يرعاه ولا يحس به إلا أتباعه ومريدوه وأصحاب
المصالح الحيوية فيه، لم يساهم في صياغة مشكلة واحدة ولا تفسيرها ولا في
اقتراح حل لها. طالب المعرفة عن واقع المجتمع يجدها في أي كتابات أخرى إلا
كتابات علم الاجتماع التي تتميز بالتخلف والسوء والخلط والاضطراب والنقل عن
مجتمعات أخرى. رجال بلا مصداقية وبلا فاعلية وما هم إلا جماعات مصالح
وشلل متصارعة متحاربة.
نحن ما تجنينا عليهم، وإنما هذا هو نص عباراتهم كتبوها بأيديهم وصاغوها
بأنفسهم، وهم الذين قالوا واعترفوا (بأن بلادنا ليست في حاجة إلى علماء اجتماع) .
(يتبع)
__________
(1) - محمد عزت حجازي، الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي، (نحو علم اجتماع عربي) ص 30.
(2) سالم ساري، المرجع السابق ص 185 - 186.
(3) سالم ساري (ندوة نحو علم اجتماع عربي - أبو ظبي) المنشورة في (نحو علم اجتماع عربي) ص 388.
(4) محمد عزت حجازي، المرجع السابق ص 13.
(5) سعد الدين إبراهيم، علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي (نحو علم اجتماع عربي) ص 349.
(6) سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية (نحو علم اجتماع عربي) ص 349.
(7) المرجع السابق ص 356.
(8) عبد الوهاب بو حديبة (نحو علم اجتماع عربي) ص 388.
(9) سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية، (نحو علم اجتماع عربي) ص 347 - 348.
(10) محمد عزت حجازي، المرجع السابق ص 35.
(11) محمد الجوهري، الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، العدد الأول ص 11.
(12) محمد الجوهري، المرجع السابق، العدد الخامس أكتوبر 1983.
(13) عبد الباسط عبد المعطي، في استشراف مستقبل علم الاجتماع (نحو علم اجتماع عربي)
ص 370 - 371.
(14) سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية ص 346.
(15) محمد عزت حجازي، المرجع السابق ص 36.
(16) سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية ص 346 - 347.
(17) عبد الباسط عبد المعطي، في استشراف ص 371.(46/19)
خواطر في الدعوة
مَنْ لهذه المنابر؟
(2)
محمد العبدة
مرة ثانية نعود للحديث عن خطبة الجمعة، هذا المنبر الأسبوعي ذو الأهمية
البالغة في توجيه جماهير الأمة ورفع مستواها الإيماني والعلمي. لقد أهمل غالب
الخطباء الإعداد الجيد وأهملوا معرفة ما يقال وما لا يقال، وما هي أوجه النقص
عند من يصلي عنده، هل عندهم نقص فهم العبودية التامة لله أو نقص في التعاطف
مع أمور المسلمين في العالم، أو غير ذلك ويحاول سد هذا النقص.
قلما رأيت خطيباً في البلاد التي فشا فيها الجهل بتوحيد العبودية يتكلم وبقوة
ويقرع أسماع المصلين بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية؛ ويفصل لهم أقوال
العلماء الكبار في هذا الموضوع.
استمعت في الآونة الأخيرة إلى أحد الخطباء وكان يدعو الناس إلى الالتزام
بالإسلام سلوكاً وأخلاقاً، وقال لهم في غمرة الحماسة: نحن ليس لنا دنيا، يئسنا
من الحصول على شيء من الدنيا، أفلا يكون ديننا صحيحاً …! ؟
تعجبت من هذا الفهم السقيم وكيف يلق الكلام على عواهنه، وكأن الإسلام
يفصل بين الدين والدنيا ولم يدر الأخ الخطيب أننا لا نستطيع الاحتفاظ بديننا على
الوجه الأكمل إلا بإتقان بعض دنيانا، وهل يقبل الإنسان منك وعظاً وهو جائع،
وهل يكون دين المسلم قوياً وهو يعاني القهر أمام الأعداء.
لا يستشير الأخ الخطيب إخوانه في موضوع الخطبة، ولا يستشير أهل
الرأي والحصافة من جمهور المصلين عنده، ولا يقرأ كثيراً في الموضوع الذي
سيتكلم عنه؛ فكيف يؤثر في السامعين؟
إن بعض الموضوعات لابد أن تطرح وترسخ في قلوب وعقول المصلين على
اختلاف طبقاتهم، وذلك بالحديث عنها لعدة خطب متوالية؛ مثل مفهوم العبودية لله، والاستسلام لنصوص الوحيين: القرآن والسنة، وتعظيم السنة، وتعظيم الصحابة
واحترام الأجيال المفضلة، وبيان محاسن الإسلام وفضائله، وذكر سيرة الرسول -
صلى الله عليه وسلم- في سلمه وحربه، وإبداء الرأي الشرعي فيما يجدُّ من أحداث، وبث روح الأخوة والتعاون ونبذ الفرقة والخلاف ... إلى غير ذلك من
الموضوعات التي ليس مجال تفصيلها في هذا الخاطرة، وإنما قصدنا الذي نريد
الوصول إليه هو استشعار المسؤولية الملقاة على عاتق العالم والداعية الذي يرقى
المنابر ليتكلم باسم الإسلام وفي بيت من بيوت الله.(46/28)
لماذا نرفض العلمانية؟
د. محمد محمد بدري
لا شك أن العلمانية - كما عرضنا - لا تستدعي في حقيقة الأمر كبير جهد
لبيان تناقضها مع دين الله (الإسلام) .. فهي من ذلك النوع من الاتجاهات والأفكار
التي قال عنها علماؤنا قديماً: إن تصوره وحده كاف في الرد عليه.. [1] .
والإسلام والعلمانية طريقان متباينان، ومنهجان متغايران.. طريقان لا
يلتقيان ولا تقام بينهم قنطرة اتصال.. واختيار أحدهما هو رفض للآخر.. ومن
اختار طريق الإسلام.. فلابد له من رفض العلمانية..
هذه بديهية من البديهيات التي يعد إدراكها - فيما نحسب - نقطة الانطلاق
الصحيحة لتغيير واقع الأمة الإسلامية،.. ويعد غيابها السبب الأول لبقاء هذه الأمة
ألعوبة في يد العلمانيين يجرُّونها إلى الهلاك بكل مهلكة من القول والعمل،
ويزيدونها غياً كلما اتبعتهم في طريق الغيّ.. طريق العلمانية..
ولأن إدراك هذه البديهة على هذا القدر من الأهمية، فل بد من التفصيل
فنقول: نحن نرفض العلمانية لأنها:
1 - تحِل ما حرّم الله:
(إذا كانت الشريعة مُلْزِمة من حيث المبدأ، فإن داخلها أحكاماً ثابتة لا تقبل
التغيير، وأحكام عامة ثابتة في ذاتها، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات ومن
بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يدخل تحتها متغيرات.. أحكام العبادات كلها،
والحدود وعلاقات الجنسين..) [2] .
فماذا فعلت العلمانية بهذه الثوابت؟
إن الأنظمة العلمانية تبيح الزنا برضا الطرفين، والمتشدد منها يشترط موافقة
الزوج أو الزوجة.. والكثير منها يبيح اللواط للبالغين.. وكلها يبيح الخمر
والخنزير.
فأما الزنا برضا الطرفين فنجد مثلاً أن قانون العقوبات في مصر والعراق
يؤكد على أن الزنا إذا وقع برضا الطرفين وهما غير متزوجين وسنهما فوق الثامنة
عشرة فلا شيء عليهما، وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد
الزوجين دعوى ضد الزوج الخائن.. [3] . والأفعال التي يحرّمها قانون العلمانية
في جرائم العرض، إنما يحرمها لكونها تشكل اعتداء على الحرية الجنسية فحسب،
وليس باعتبارها أمراً يغضب الله ويحرّمه الدين،.. ولذلك فإن الدعوى الجنائية في
جريمة الزنا مثلاً لا تتحرك إلا بناء على شكوى الزوج، وللزوج الحق في التنازل
عن الشكوى بعد تقديمها، وبالتالي تنقضي الدعوى الجنائية، وتوقف إجراءات
التحقيق.. بل للزوج حق وقف تنفيذ العقوبة! !
وهكذا تبيح العلمانية الزنا، وتهيئ له الفرص، وتعد له المؤسسات، وتقيم له
الحفلات في الملاهي والمسارح..
.. وأما الربا فهو عماد الاقتصاد العلماني، تؤسس عليه البنوك، وتقدم به
القروض بل ويدخل الناس فيه كرهاً.. ومن شاء فليراجع المواد 226 - 233 من
القانون المدني المصري، والتي تنص على الفوائد والقواعد المتعلقة بها، تلك
المواد التي تحِل بها العلمانية ما حرّمه الله سبحانه بقوله عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن
لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..] [البقرة: 278-279]
وهذه الآيات نزلت في أهل الطائف لما دخلوا الإسلام والتزموا الصلاة
والصيام، وكانوا لا يمتنعون عن الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم
ينتهوا عن الربا.. فإذا كان هؤلاء محاربين لله ولرسوله فكيف بمن يقيمون للربا
بنوكاً، ويعطون للتعامل به الشرعية الكاملة..؟
… وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها
والتجارة بها، وتجعلها مالاً متقوماً يحرم إهداره، بل تنشئ لإنتاج الخمور المصانع
وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز للإنتاج! !
وهكذا فإن العلمانية تحل شرب الخمر وبيعها وعصرها.. فتحل ما حرم
الله.. وتحرّم إهدارها والإنكار على شاربها.. فتحرم ما أحل الله..
فالعلمانية تحل ما حرّم الله، وتحرّم ما أحل الله.. وليس هذا في الزنا والربا
والخمر فقط، أو في الحدود والتعزيرات فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون
الوضعي العلماني.. بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله هي
قضية النظام العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة..
ولما كان تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله.. كفراً لمن فعله، ومَنَ قَبِله؛ فلا بد لنا لنبقَى مسلمين من رفض هذا الكفر.. ورفض العلمانية التي تقوم عليه.
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
2 - كفر بَواح:
العلمانية كما قلنا هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الحياة،
وهذا يعني بداهة الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته سبحانه، وقبول
الحكم والتشريع من غير الله.. ولذلك فإن العلمانية (هجر لأحكام الله بلا استثناء،
وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة. بل لقد
بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تعطيل حكم الله وتفضيل أحكام القانون الوضعي على
أحكام الله المنزلة.. وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان
وعلل وأسباب انقطعت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها) [4] .
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القوانين والأحكام التي تعلو أغلب ديار
الإسلام هي قوانين (تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه،.. حتى لو كان في بعضها ما لا
يخالف الإسلام فإن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو ...
مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوروبا ولمبادئها وقواعدها وجعلها هي
الأصل الذي يرجع إليه) [5] ..
... وقد وضع الإمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا، ولكنه لم
يضعها في الذين يشرعون القوانين من مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد
المسلمين إذ ذاك بريئة من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من
المسلمين الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة،
ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، حتى لو وافق الصواب حيث
قال: (ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبت له معرفته، كانت موافقته للصواب - إن
وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة والله أعلم وكان بخطئه غير معذور إذا
نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه) [6] .
وإذا كان هذا هو حكم المجتهد في الفقه الإسلامي على غير أساس من معرفة،
وعن غير تثبت من أدلة الكتاب والسنة حتى ولو وافق الصواب.. فلا شك أن
هؤلاء الذين يشرّعون من دون الله، مخطئون إذا أصابوا، مجرمون إذا أخطأوا،
لأنهم أصابوا من غير طريق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم،
بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله ... بل إن هؤلاء الذين يشرعون من دون
الله قد وقعوا في نوع من أنواع الكفر الأكبر وهو كفر التشريع من دون الله، قال
تعالى:
[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] [المائدة: 50]
يقول ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية: (ينكر تعالى على من
خرج عن حكمه المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه
من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل
الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم،
وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي
وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع
شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من
مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله
وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى
يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير) [7] .
أرأيت - أخي المسلم - هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير في القرن
الثامن لذلك القانون الوضعي الذي وضعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألا ترى أن
هذا الوصف ينطبق على القانون الوضعي الذي يضعه العلمانيون الذين يشرعون
للناس من دون الله؟ إلا في وصف واحد، وهو أن الشريعة الإسلامية كانت عند
جنكيز خان مصدراً مهماً لقانونه؛ بينما هي عند العلمانيين مصدراً احتياطياً من
الدرجة الثالثة.
وإذا تبين هذا فإننا نقول بما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم - مفتي الديار
السعودية - رحمه الله-: إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة
ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من
المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع
المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:
[فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ؛ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء 59] .
فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع
الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر ... فهذه المحاكم الآن في كثير
من أمصار المسلمين مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم
حكامها بينهم بما يخالف السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم
عليه وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً
رسول الله بعد هذه المناقضة [8] .
.. إن ما جد في حياة المسلمين من تنحية شريعة الله واستبدالها بالقوانين
الوضعية البشرية القاصرة، ورمي شريعة الله بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة
التقدم الحضاري والعصر المتطور.. إن هذا في حقيقته ردة جديدة على حياة
المسلمين.. [9] .
وهذا ما قاله الشيخ عبد العزيز بن باز في معرض رده على القوميين حيث
قال:.. الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن
يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم
القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء
القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية
في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف وهذا هو الفساد العظيم،
والكفر المستبين والردة السافرة [10] .
وكيف لا وهذه الأحكام الوضعية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله،
وتبيح انتهاك الأعراض وإفساد العقول، وتهلك الحرث والنسل حتى أصبحت المادة
القانونية (إذا زنت البكر برضاها فلا شيء عليها) أحْفَظ لأمن المجتمع عند هؤلاء
العلمانيين من قول الله عز وجل:
[الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..] [النور 2]
وأصبحت تصاريح الخمارات والملاهي والبنوك الربوية أصلح للمجتمع -
عند العلمانيين - من الأخذ بقول الله سبحانه وتعالى:
[إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [المائدة 90] .
وقوله عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن
لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..] [البقرة 278 - 279]
إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس (هي كفر بواح لا
خفاء فيه ولا مداورة..) [11] ، وليس هذه رأياً لنا لنبديه، أو رأياً لعالم أو مفسر
أو مجتهد من الفقهاء ننقل عنه، إنما هو النص الذي لا مجال فيه للتأويل، والحكم
المعلوم من الدين بالضرورة.. قال تعالى:
[وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ..] [المائدة 144]
فالعلمانية التي تحكم بغير ما أنزل الله ليست معصية، بل هي كفر بواح ...
وقبول الكفر والرضا به كفر ... ولذلك فلا بد من رفض العلمانية لنبقى في دين الله، ونحقق لأنفسنا صفة الإسلام....
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
3 - تفتقد الشرعية:
إن أكثر البلاد الإسلامية لا تحكم بشريعة الله.. ولكن يحكمها أناس يحملون
أسماء إسلامية، ويستعرضون أنفسهم بين الحين والحين في صلاة أو عمرة أو حج، فتتوهم الجماهير أن لهم (شرعية) ، وهم لا يحكمون بما أنزل الله [12] .. فهل
الحاكم إذا أبطل شريعة الله كاملة، واستعاض عنها بالشرائع الجاهلية.. هل تكون
له شرعية؟ وهل يكون له على الرعية حق السمع والطاعة؟
.. بادئ ذي بدء نقول أنه من المتفق عليه بين العلماء (أن الإمام ما دام قائماً
بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكاً القدرة على الاستمرار في تدبير شئون رعيته
عادلاً بينهم، فإن له على الرعية حق السمع والطاعة..) [13] .
ولكن هذا الحق في السمع والطاعة يكون في حدود طاعته هو لله ورسوله،
فإن عطّل شرع الله، فقد خرج عن طاعة الله والرسول ولم تصبح له طاعة على
الرعية.. قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء 58 - 59]
(وظاهر من البناء اللغوي للآية أن الطاعة لله مطلقة، وكذلك الطاعة
للرسول - صلى الله عليه وسلم -.. ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر.. ولو
أن الله تعالى قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت
طاعته مطلقاً كطاعة الله والرسول، ولكن الله -جل شأنه- لم يقل ذلك، وإنما
عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسول بدون تكرار الأمر (أطيعوا) ،
لتظل طاعتهم مقرونة دائماً بحدود ما أنزل الله) [14] . فشرط الطاعة أن يكون
ولي الأمر (منكم) أي من الذين امنوا، ولكي يكونوا كذلك فلابد أن يرد الأمر عند
التنازع إلى الله (أي كتاب الله) ، وإلى الرسول (أي سنة الرسول -صلى الله عليه
وسلم-..) [15]
وقد أكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى فقال: «اسمعوا
وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله»
رواه البخاري. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أمر عليكم عبد مجدع - أو
قال أسود - يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا وأطيعوا» رواه مسلم. فهذه الأحاديث
واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام الرعية بكتاب الله،
أما إذا لم يُحكّم فيهم شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة، وهذا يقتضي عزله،
وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو
بالمقاتلة. [16] ( ... فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب عزله،
وانحلت بيعته، وحرمت طاعته، لأنه في هذه الحال يستحق وصف الكفر) [17] .
والكفر هو أعظم الأسباب الموجبة للعزل، وبه يخلع الإمام عن تدبير أمور
المسلمين وقد انعقد إجماع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه إذا طرأ
عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته [18] .
وبناء على ذلك فإن وليّ الأمر الذي يتصرف في شريعة الله بالإبطال أو
التعديل أو الاستبدال ... لا تكون له شرعية، لأنه فقد شرط توليته الذي يعطيه
شرعية تولي الأمر وهو تطبيق شريعة الله، أي سياسة الدنيا بالدين.
وإذن فالحكام الذين يسوسون الدنيا بغير الدين، ويقيمون منهاج الحكم على
المبدأ العلماني - فصل الدين عن الدولة -.. هؤلاء الحكام ليس لهم شرعية، ولا
تجب على الرعية طاعتهم، بل الواجب على المسلم معاداتهم وعدم مناصرتهم بقول
أو فعل ... هذا من ناحية شرعية الحاكم.. أما من ناحية شرعية الوضع، أو ما
يمكن أن نطلق عليه شرعية النظام فنقول:
(.. يعتقد كثير من الناس أن الأوضاع القائمة في معظم أرجاء العالم
(الإسلامي) هي أوضاع إسلامية، ولكنها ينقصها تكملة هي تحكيم شريعة الله..
وفي الحقيقة إن هذا الفهم غير صحيح، فتحكيم الشريعة ليس تكملة لأصل إسلامي
موجود بالفعل، ولكنه تأسيس لذلك الأصل - بمعنى أن الأوضاع لا تكون إسلامية
إلا إذا قامت على شريعة الله،.. قال تعالى:
[فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً..] [النساء65] [19] .
فأول صفات الدولة الإسلامية التي تجب طاعتها وتحرم معاداتها هو أن يكون
الحكم الحقيقي فيها من حيث التشريع والتكوين لله وحده.. وأن لا يكون فيها قانون
خاص أو عام يخالف الكتاب والسنة، وأن لا يصدر أي أمر إداري فيها يخالف
التشريع الإلهي.. وأن لا ترتكز الدولة في قيامها على أساس إقليمي أو
عرقي.. [20] ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الاجتماع على الإسلام والانتساب للشرع، بمعنى أنها ترجع إلى أصول الإسلام وليس إلى أصول الكفر مثل فصل الدين عن الدولة، أو نعرات القومية..
فإذا قام نظام دولة على مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية والإقرار بحق التشريع
المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما
أنزل الله، كان هذا النظام باطلاً، ولا تجب طاعته..
وهذا هو شأن العلمانية التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، ولذلك
(فأنظمة الحكم القائمة الآن في العالم الإسلامي، أنظمة علمانية مقتبسة من النظم
الغربية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة.. وهذا المبدأ يعتبر خروجاً صريحاً
على مبدأ معلوم من الدين بالضرورة، وبالنصوص القطعية في الكتاب والسنة
وإجماع العلماء كافة، وهو عموم رسالة الإسلام لأمور الدين وشؤون الحياة، وأن
الإسلام منهاج حياة كامل ينظم سائر شؤون المسلمين في دنياهم..) [21]
... إن انعدام شرعية الأنظمة العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، والتحاكم إلى إرادة الأمة بدلاً من الكتاب والسنة ... إن انعدام شرعية هذه الأنظمة
هو بديهية من البديهيات.. وموقف المسلم منها يتحدد في عبارة واحدة ... إنه
يرفض هذه الأنظمة ... ويرفض الاعتراف لها بأي شرعية.
(يتبع)
__________
(1) العلمانية - سفر الحوالي - ص 669.
(2) حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 62.
(3) راجع قانون العقوبات المصري - المواد 267 - 279، والعراقي - المواد 232 - 240.
(4) عمدة التفسير - أحمد شاكر - 4/ 157.
(5) مسند الإمام أحمد - تعليق أحمد محمد شاكر 6/ 303.
(6) المصدر السابق.
(7) تفسير ابن كثير.
(8) تحكيم القوانين - الشيخ محمد بن إبراهيم - ص 5، 6، 10.
(9) الولاء والبراء - محمد بن سعيد القحطاني - ص 79 بتصرف.
(10) نقد القومية العربية - عبد العزيز بن باز - ص 50.
(11) عمدة التفسير - أحمد محمد شاكر 4/ 172.
(12) الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب - ص 34.
(13) حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 34.
(14) كما فسره بذلك مجاهد وغيره من السلف - انظر تفسير ابن كثير 2/ 304.
(15) حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 34.
(16) الإمامة العظمى - عبد الله بن عمر الدميجي - ص 473.
(17) مختصر الفتاوى المصرية - ابن تيمية - ص 507.
(18) صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 229.
(19) الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب - ص 41.
(20) مؤتمر كراتشي المنعقد في الفترة من 12 - 15 ربيع الآخر 1370 هـ.
(21) الشهادة - الشيخ صلاح أبو إسماعيل - ص 26.(46/30)
الارتباط الوثيق بين
العبادة والأخلاق
محمد الناصر
أبرز السمات الأخلاقية للمجتمع المسلم ذلك الارتباط الوثيق بين العبادة
والأخلاق، إذ أن العبادة تزكي نفس صاحبها وتوجه سلوكه توجيهاً شفافاً متورعاً
عن الحرمات، وتهذب أخلاقه وتقومها باستمرار فالصلاة مثلاً، تنهى عن الفحشاء
والمنكر، أو هكذا ينبغي أن تكون، قال تعالى:
[وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ] [العنكبوت 45]
ويقول جل من قال: [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ
هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ] [الماعون: 4-7] .
إن هؤلاء لو كانوا يقيمون الصلاة حقاً لله تعالى، ما منعوا العون عن عباده،
وهذا هو المحك الحقيقي للعبادة الصادقة المقبولة عند الله، وهذا هو الرياء الذي
يترك الأعمال خواء ويصيرها هباء [1] .
والصيام جنة يمتنع فيها المسلم عن الطعام والشراب إلى جانب تقوى المشاعر
وانطلاقة الروح.
قال -عليه الصلاة والسلام-: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري. فهذه النصوص توضح لنا مدى
اهتمام الإسلام بتهذيب النفس المؤمنة وتخليصها من أدرانها، خلال قيامها بالشعائر
التعبدية، ومن ثم توجيه السلوك ضمن هذه القيم.
والزكاة ليست دفعاً للمال فقط وإنما هي تطهير المال والنفس. قال تعالى:
[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة 102]
ومن أجل ذلك وسع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دلالة كلمة الصدقة التي
ينبغي أن يبذلها المسلم فقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف
ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك
الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة..» رواه البخاري.
وقل مثل هذا في سائر الشعائر والعبادات، إذ أن علاقة الأخلاق بالعبادة
علاقة وطيدة، فقد لا تنفع المرء صلاة ولا زكاة أو صيام يوم القيامة، إن كان من
المفسدين المعتدين على الناس. سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوماً أصحابه
فقال: «أتدرون من المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:
المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا
وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته،
وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم
فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم.
ومن هنا جاء الحديث الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده،
والمهاجر من هاجر ما حرم الله» في رواية: «والمهاجر من هاجر ما نهى الله
عنه» [2] .
فهذه العبادات تلتقي كلها عند الغاية التي رسمها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في قوله: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [3] .
فإذا لم يستفد المرء من عبادته ما يزكي قلبه وينقي لبه، ويهذب بالله وبالناس
صلته فقد هوى [4] . ويؤكد ما نقول حول الصلة الوثيقة بين العبادة والسلوك ما
جاء في الحديث النبوي الشريف، إذ روي عن أبي هريرة -رضي الله- عنه أن
رجلاً قال: «يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير
أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال -صلى الله عليه وسلم-: هي في النار. قالوا يا رسول الله: إن فلانة تذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: هي في الجنة» [5] .
تؤكد هذه الأحاديث على عدم جدوى العبادة إذا فقدت روحها وفاعليتها في
تهذيب نفس صاحبها.
والأخلاق في الإسلام تكليف رباني قبل كل شيء، قال تعالى: [قُلْ إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ] فإذا كان الصدق
تكليفاً ربانياً، والأمانة تكليفاً ربانياً، والوفاء بالوعد تكليفاً ربانياً ... فهل تدخل هذه
التكاليف في العبادة أم تعتبر خارجة عنها زائدة عليها؟ ! . وكيف تكون خارجة
عنها أو زائدة عليها، والله سبحانه وتعالى يقرر أنه لم يكلف البشر إلا أن يعبدوه:
[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات 56] . ويؤكد هذا
الحديث النبوي الشريف: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد
له» [6] .
فإذا خرجت هذه الأخلاق من دائرة العبادة لن تصبح في حس الناس لازمة،
وإنما تصبح شيئاً جميلاً إن وجد، فإن لم يوجد فلا بأس. ومن هنا صار لدى الناس
إسلام بلا أخلاق.. إسلام لم ينزله الله تعالى، ولم يأمر به، وإنما هو أمر مضاد
تماماً.. ومع ذلك يمارسه الناس على أنه: (غاية المراد من رب العباد) .
إلا أن الفساد الذي طرأ على مفهوم العبادة وحصرها في الشعائر التعبدية
فحسب، وأخرج منها ألواناً كثيرة من المعاملات، كانت في حس الأجيال الأولى
داخلة في مفهوم العبادة الواسع الشامل، باعتبارها سلوكاً إسلامياً مرتبطا بلا إله إلا
الله.. هذا المفهوم الشامل للعبادة انحرف عما كان عليه بسبب الفكر الإرجائي الذي
أعطى لهذا الانحراف شرعيته، حين أخرج العمل من مسمى الإيمان ومقتضياته..
وبسبب الفكر الصوفي المنحرف عن التوازن الإسلامي مما زاد في فساد
مفهوم العبادة..
كل هذا وذاك قد دمر الجوهر الحضاري المتضمن في هذا الدين، والذي كان
قوامه السلوك الأخلاقي المرتبط بالعقيدة والمترجم لها في دنيا الواقع.
وبعبارة أخرى، حين صار المسلم لا يجد حرجاً في قلبه أن يكذب وأن يغش
أو أن يخون الأمانة، وأن يتهاون في العمل ويخلف العهود ... يكون قد تجرد من
أخلاقيات لا إله إلا الله، وتجرد من قيمها الإسلامية والإنسانية.
هذا التخلف في مفهوم العبادة والأخلاق نشأ عنه تخلف حضاري هائل،
أخرج هذه الأمة من زمرة المتحضرين، كما أخرجها من ريادة العالم الذي أصبح
تائهاً عن منهج الله [7] .
وإن هذه الأمة لا تمكَّن إلا بقدر التزامها بمقتضيات الإيمان والسلوك النظيف
الطاهر، والعبادة المؤثرة الخالصة في مجتمع الفضيلة والعفاف، ذلك المجتمع
المعافى من الجهر بالسوء والشرور والذنوب كما أشار إلى ذلك الحديث الصحيح،
قال -صلى الله عليه وسلم-:
«كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل
عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات
يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه» [8] .
وإنها لخدمة عظيمة نسديها للأمة، بأن نزيل هذا الغبش عن أعينها، ونضع
بين أيديها نماذج الصفاء الإيماني، وتمثل مقتضياته في النفوس، مع تحوله إلى
أخلاق قويمة وسلوك أصيل.
__________
(1) انظر رسالة في الرياء، ذمه وأثره السيئ: سليم الهلالي ص 45 مكتبة ابن الجوزي 1408 هـ.
(2) صحيح مسلم 2/ 100.
(3) موطأ الإمام مالك: ومسند الأمام أحمد 2/ 381.
(4) انظر: خلق المسلم للغزالي ص 9 - 12.
(5) رواه أحمد والحاكم قال: صحيح الإسناد (الترغيب والترهيب، كتاب البر والصلة 3/ 353) .
(6) الجامع الصحيح 2/ 198.
(7) انظر واقعنا المعاصر ص 170 - 179 بتصرف واختصار.
(8) أخرجه البخاري 10/ 486 الفتح، ومسلم: بشرح النووي 18/ 19.(46/40)
معالم في التربية
أترضاه لنفسك؟
سلطان بن حبيب الخلافي
كان محمد بن واسع يبيع حماراً له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو
رضيته لم أبعه [1] .
هذه الحادثة قمة في المعاملة التي تكون بين الإخوان وخاصة الدعاة إلى الله -
سبحانه وتعالى-، وهذه إشارة من - محمد بن واسع - إلى أنه لا يرض لأخيه إلا
ما يرض لنفسه وكذا المعاملة، فبعض الناس يحب أن يعامله الناس بأحسن الأخلاق
وأجلها، وأن يتلطفوا معه في المعاملة وأن يضعوه في مكانه اللائق به، وفي
المقابل تجده لا يهتم في معاملته لإخوانه بالحسنى كما يهتم في أن تكون معاملة غيره
له على أحسن حال وأفضل مقال.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود
أن الناس كلهم يعلمون ما أعلم) [2] . ولقد جاء معنى ما أشرنا إليه من عنوان هذا
المقال في حديث عن النبي في أن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، روى
البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [3] .
فالمتأمل في هذا الحديث، يجده قاعدة عظيمة تنبع من خلالها كثير من
الأخلاق، ولذلك كان كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- من جوامع الكلم.
إن من يعامل لناس على أساس أن يحب لهم ما يحب لنفسه تماماً فإنه
سيعاملهم حتماً بكل خلق رفيع، لأن هذا هو ما يجب أن يعامله الناس به إذ يحبه
لنفسه. ومن هنا يجد نفسه مثلاً مدفوعاً إلى الصبر على أخيه المسلم كلما دعت
ظروف التعامل إلى الصبر، لأنه يحب من الناس أن يصبروا عليه، كلما بدر منه
ما لا يقبله الناس إلا بصبر.
ويجد المسلم نفسه مدفوعاً إلى العفو والصفح والمسامحة والإغضاء عن
الهفوات والسيئات، كلما وجد من إخوانه ما يسوءه من تصرفاتهم معه، لأنه يحب
من الناس أن يعاملوه بالصفح والعفو والمسامحة والإغضاء عن الهفوات والسيئات،
كلما بدر منه من تصرفات تسوء إخوانه [4] . وكذلك أنواع المعاملة من ستر
العيوب والنصح سراً وكره الغيبة فهو يحب أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به.
ارتباط الحديث بالإيمان:
فالإيمان لا يبلغ حقيقته ونهايته وكماله إلا بعد أن يتحقق مثل هذا الحديث في
المسلم، فالإيمان قد ينتفي لانتفاء بعض أركانه وواجباته [5] .
ففي رواية خرّجها الإمام أحمد -رحمه الله-: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان
حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير» [6] . وهي تدل على أن العبد لا يبلغ
حقيقة الإيمان وحلاوته ولذته حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الأخلاق والمعاملة
الحسنة.
تطبيق هذا الحديث يدخل الجنة ويزحزح عن النار:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحب أن يزحزح عن النار
ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله عز وجل ويأتي إلى الناس الذي يحب
أن يؤتى إليه» [6] . فحري بالمسلم الداعية إلى الله أن يستنفره مثل هذا الحديث
لأن تكون معاملته حسنة مع إخوانه كما يحب ذلك منهم.
الأسباب التي تمنع من هذا الخلق:
أولاً: الحسد:
يقول ابن رجب -رحمه الله-: وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر
من الغش والغل والحسد [7] . فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في
خير أو يساويه فيه لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد عنهم، ورحم
الله ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث يقول: إني لأمر على الآية من كتاب الله
فأود أن الناس كلهم يعلمون ما أعلم منها [8] .
وقال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا الدين ولم ينسب إلي منه
شيء [9] . فالحاسد تجده يحب أن يعامله الناس بأحسن المعاملات فيريد منهم خلقاً رفيعاً، وتذللاً، وانبساطاً وعدم تتبع لزلاته على الرغم من أنه قد أشهر سيف المعاملة السيئة، والتكبر، والأنانية، وأخذ بعد فترة يكتب ويدون زلات إخوانه.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكنَّ عين السخط تبدي المساويا.
والإيمان يقتضي خلاف ذلك وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من
الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء. والحاسد ليس يحسدك على عيب فيك،
ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بما ركب فيه من ضد الرضا بالقضاء.
قال العتبي:
أفكر ما ذنبي إليك فلا أرى ... لنفسي جرماً، غير أنك حاسدُ [10]
فنعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد.
ثانياً: الكبر:
قال تعالى:
[تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً] [11] .
فبطر الحق وغمط الناس واحتقارهم وازدراؤهم يجعل المسلم يعامل إخوانه
المعاملة السيئة مما يدعو إلى المعاملة بالمثل.
(فمن تواضع لله رفعه) وهذا من سنن الله في عباده، كما أن من استكبر
وتعالى على خلق الله أذله الله. فالمستكبر يرفع نفسه فوق مستوى جلسائه، فيعيش
وحده في جوه النفسي المتعاظم، ولا يحب أن يفوقه أحد، وربما يكون ترفعه إلى
مكانة ليس هو في الحقيقة أهلاً لها.
وأخيراً إن الناقد البصير قد يجد في واقع الدعاة إلى الله -عز وجل- وما
يحدث بينهم من الهجران والقطيعة والمعاملة التي لا تليق بأمثالهم - ولعل مرجع
ذلك إلى عدم التدبر لمثل هذه الأحاديث النبوية التربوية التي تجعل القلوب صافية،
والمحبة وافرة، وتجد التعاون بين الدعاة إلى الله -عز وجل- على أحسن حال.
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 112.
(2) المرجع السابق ص 115.
(3) فتح الباري 1/ 156.
(4) الأخلاق الإسلامية عبد الغني الميداني ج 1.
(5) جامع العلوم والحكم ص 111.
(6) انظر جامع العلوم.
(7) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(8) جامع العلوم والحكم ص 113.
(9) جامع العلوم والحكم ص 115.
(10) روضة العقلاء.
(11) القصص 83.(46/45)
البيان الأدبي
خلا لك الجوُّ
شعر د. عبد الرحمن العشماوي
وسوف تُرفع القبابُ
وتهجر البلابلُ الغناءْ
ويُنشد الغرابْ
وسوف يعقد الذبابُ جلسة انتخابْ
وسوف يحدث انقلابْ
وعندها سيكثُرُ الضَّباب
ويدفن المزاهرَ الترابْ
ويبخل السحابْ
وتنتهي صَلابةُ الهضابْ
سمعتُ قائلاً يقول:
يا أيها النيامْ
عليكم السلامْ
فليلكم ما زال ينصب الخيامْ
ولم يزلْ يخيط جبَّةَ الظلامْ
يا أيها النيامْ
عليكم السلامْ
فليلكم ينظِّم المسيرة
ويخلط العجين بالخميرةْ
ويكتب الحكاية المثيرةْ
الرِّيح - وقت القيظِ - يا أحبتي سمومْ
وفي الشتاء زمهريرْ
والناس بين قاعد يريد أن يقومْ
وواقفٍ يريد أنْ يسيرْ
فهل رأيتم بلبلاً في لجةٍ يعومْ
وهل رأيتم سمكاً يطير؟ ؟ ؟
وهل رأيتم عاقلاً تُطربه الهمومْ
وهل رأيتم عاجزاً يُغير؟ !
سمعت قائلاً يقول:
القدسُ - عفوا يا أحبتي -
أقصد " أورشليم "
تشاهد القتيل والجريح واليتيمْ
تعيش تحت وطأة اللئيمْ
وتشتكي من جرحها القديمْ
يا ويلكم.. ما عاد يستثيركم صراخُها الأليم
القدسُ - يا أحبتي - حزينةٌ عليلَهْ
تَبيتُ تحت وطأةِ القنابل المُسيلةْ
واعجباً من حجرٍ يغار حينما يرى نظرتها الكليلَهْ
وأمتي غارقةٌ في لهوها ذليلَهْ! !
سمعت قائلاً يقول:
يا شفةٌ البركان لا تتمتمي
لا تنطقي بلهجة الدُّخَان والحممْ
فأمتي تُدير قهوة الولاءِ للأممْ
وتشرب الحُثالهْ
توزِّع الطحين للأممْ
وتأكل النخالهْ
وأمتي تعلن في وسائل الإعلامْ
رسالة يسمعها الأنامْ
تعلن أنّها تقوم بالرسالهْ
وأنها نموذج البَسالهْ
وأنها لا تقبل العمالهْ
سمعت قائلاً يقول:
يا شفة البركان لا تعبِّري
سيان عندي أن تكوني لوحةً للصمتِ
أن تزمجري
فإنني عرفت موردي ومصدري
وإنني..
تئنُّ تحت وطأة الجراح أسطري
وإنني..
سمعت أن تاجراً معلَّقاً بثوبه المعصفَرِ
يبيع تحت جُنح ليله..
وجه صباحٍ مُسفرِ
يبيع دون رهبةٍ ويشتري
سمعت قائلاً يقول:
يا قلمَ الحقيقةِ احذرِ
قُلْ ما يشاء القومُ أو فقفْ
أما سمعتَ أحرفي تصيح في دفاتري:
يا دولةَ اليهود زمجري
وز مجري
وقدمي وأخِّرِي
" يا لك من قُبَّرةٍ بمعمرِ
خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفُري
ونقّري ما شئتِ أن تنقرِّي "
يا قائلَ المقالةِ الجبانْ
نسيتا أن أمتي عظيمة الكيان
وأنها تلوذ بالرحمانْ
وعندها من دينها الأمانْ
يا قائل المقالةِ الجبانْ
مَنْ قال: إن نجمةً تطاول القمر؟ !
وإنَّ نملةً ستكسر الحجرْ؟ !
وإنَّ أجذمَ اليدين يعزف الوترَ؟ !
مَن قال أيها المكابر العنيدْ
إن غباراً يُنزل المطرْ
وإن ريحَ قيظٍ تنعش الشجَرْ
وإنَّ شِدّّةَ الحَذَرْ
تنجي من القدرْ
يا قائلَ المقالةِ الغريبْ
رجاؤنا في الله لن يخيبْ
رجاؤنا في الله لن يخيبْ(46/50)
الأدب مفهوماً ولغة
د. مصطفى بكري السيد
1 - القول والفعل:
(يحاول الشاعر أن يحاكي صوت الفعل، الذي يصوره، في صوت الألفاظ
التي ينظمها، فقد يكثر مثلاً من حروف الضاد والطاء ليدل على الضرب والطعن
وقد يكثر من حروف السين والصاد ليدل على صليل السيوف، أو من حروف الراء
ليدل على خرير الماء وهكذا) [1] .
هل تنتهي العلاقة بين القول والعمل عند حدود المحاكاة الصوتية؟
أكبر الظن أن الأمر أبعد من ذلك، إذ كثيراً ما شد سمعي وعقلي تَوَحُّدُ القول
بالفعل، فكم سمعت المتكلم من منطقة (نجد) من العامة كان أو من المثقفين يُعَبِّر
عن طلب أحدهما باستدعاء الآخر، فيقول لصاحبه إذا واجه مشكلة أو مشكلاً: قل
بها، أو قل به، كما سمعت مثل هذا الاستعمال من أحد زملائنا المدرسين من بادية
الأردن.
وإذا كنت عاجزاً عن تفسير هذا التوحيد بين القول والعمل، فلقد شدني
ورحت أبحث عن أصوله في تراثنا اللغوي، وكان ابتهاجي عظيماً عندما استوقفي
أثناء مطالعتي في صحيح البخاري هذان الحديثان:
عن عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن
يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف، إذا أخْبِيةً: خِباء عائشةَ،
وخِباء حفصةَ، وخِباء زينبَ، فقال: آلبِرَّ تقولونَ بهنَّ؟ ثم انصرف فلم يعتكف
حتى اعتكف عشراَ من شوال» [2] .
أما الحديث الثاني فهو:
«عن أبي ذر -رضي الله عنه-، قال كنت مع النبي -صلى الله عليه
وسلم-، فلما أبصر يعني أُحُداً - قال:
ما أحب أنه تحوّل لي ذهباً يمكث عندي منه دينارٌ فوق ثلاث إلا ديناراً
أرصده لِدَيْنٍ. ثم قال:
إن الأكثرين هم الأقلُّون، إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا - وأشار أبو شهاب
بين يديه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم» [3] الحديث.
فاستعمال الفعلين: (تقولون بهن) و (قال بالمال) واضح الدلالة على أن الفعل يُعَبَّر عنه بالقول.
كما عثرت على شواهد عربية وعالمية يفضي تأملها إلى ردم المسافة القائمة
في عقولنا وأعمالنا بين القول والعمل:
يقول الأخطل التغلبي (20 - 92 هـ) :
حتى تركتهُمُ مني على مَضَضٍ ... والقول ينفُذُ ما لا تنفذ الإبَرُ
فقد جعل القول فعلاً بل أفعل من الإبر.
وبقول ليوناردو دافنتشي الإيطالي (1452 - 1519) :
(يقتل الفم أكثر من الخنجر!) .
ويقول شكسبير (1565 - 1616) على لسان هاملت:
(سأكلمها خناجر، ولن أمس خنجراً) [4] .
وربما ذهب بعضهم إلى جعل الفعل فرعاً عن الاسم يقول إمرسون:
(الأفعال هي نوع من الكلمات) [5] .
2 - تعريف الأدب:
لم ينجُ عالم الأدب، وبقية أشقائه من فروع العلوم الإنسانية من محاولة
الهيمنة لأكثر من طرف على مفهومه كي يولي وجهه شطر الوجهة التي يرضونها،
ولينسجم مع موقعهم الفكري وواقعهم السياسي، وربما نجد بعض متلقي الأدب يُقَدِّم
صورة معينة للأدب كيما يصاغ على مثالها، وبذلك يفقد الأديب حريته، ويغدو
إبداعه معلباً، وأمثال هؤلاء المتلقين يريدون أن تصبح تجربة الإبداع الرائع عملية
آلية، تخضع لما تخضع له أية عملية إنتاجية من مراعاة شروط العرض والطلب
وأذواق المستهلكين! ! !
إن تسليع الأدب باسترضاء كل الأطراف، يئد الأدب ويعزل الأدباء عن
دورهم المرجو، ويفقد الأدب ثمرتي المعرفة والمتعة المتمثلين بالصياغة الأدبية
الإبداعية. ولقد تحامى كثير من النقاد تعريف الأدب [*] خشية تحديده، أو مخافة
الحجر عليه، ولا جناح علينا أن نخالفهم فنقول:
الأدب فعل لغوي / راجح المقدمة: القول والفعل / لأن الأديب يصنع برؤاه
وألفاظه ما قد يصنعه الحداد والبناء بالحديد والحجر / [6] يتجسد فيه شكل من
أشكال الوعي، وهو صدور عن موقع ثقافي، وإحساس جمالي، وموهبة لم تسقَ
بماء واحد، وفي كل الأعمال الأدبية تكون اللغة وسيطاً، بين طرفي الإبداع:
الباث والمستقبلين، واللغة في غير الأدب وسيلة وفي الأدب غاية، كما تحمل في
بقية العلوم رسالة إبلاغية، أما في الأدب فتحمل دلالة بلاغية، وإذا كنا نقول لكل
كاتب في كل علم: ماذا قلت؟ فإننا نضيف للأديب سؤالاً آخر ونقول له: كيف
قلت؟
واللغة في القول الأدبي ليست مجموعة ألفاظ بل مجموعة علاقات، لأن
المبدع لا يستعمل اللغة مجرد تركيب، أو إنشاء يحفظ أو يتوارث ويُلقَّن، أو رصفاً
قواعدياً للمفردات المعجمية [7] بل هو إبداع يحقق فرادته ورسالته بالصياغة، إنه
(إنزال فكرة في مادة / اللغة / وتشكيله على مثالها) [8] .
3- كلمة أدب:
أين كان هذا اللفظ مُستكّناً قبل أن يطل علينا محمّلاً بدلالته اللغوية والفكرية؟
إن الإجابة أكبر من مساحة هذا المقال ولكن سأشير إلى بعض المفاهيم التي تناولت
المادة أ/د/ب/ وتطورها.
لابد من الإشارة إلى أن هناك معجمات عربية متخصصة رصدت
كلمة/أدب/جذراً لغوياً ومعنى اصطلاحياً مثل:
(كشاف اصطلاحات الفنون - إحصاء العلوم - ومفاتيح العلوم للجرجاني -
والكليات للكفوي، وهناك معجمان لمجدي وهبة ومعجم لإبراهيم فتحي) [9] .
(كما عرض لكلمة /أدب/ عبد الله العلايلي في معجمه الذي لم يتمه وكتب فيهما خمسة أو ستة أعمدة) [10] .
وإذا كانت هذه الدراسة قد تأسست في مداخلها على حديثين رواهما البخاري فلا ضير عليها أن تعتمد الحديث الشريف أصلاً في تعريف وتطوُّر كلمة / الأدب /.
أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
«أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» .
يقول الدكتور عبد الملك مرتاض المدرس بجامعة وهران الجزائرية معلقاً على
هذا الحديث:
(قرن التأديب بالتعليم ليس يعني إلا شيوع ذلك المعنى للأدب بهذا المفهوم
في ذلك العهد المبكر، وقد استعمله بهذا المعنى أبو تمام في كتابه الحماسة) [11] .
ولابد أن نشير ونشيد بجهود ابن خلدون الذي حاول لأول مرة منذ أرسطو أن
يضع المهاد لتأسيس علم الأدب، وأن يصوغ نظرية أدبية متكاملة كما يبدو لمتصفح
الأوراق الأخيرة من مقدمته.
4 - الأدب واللغة:
ألمحت باختصار / في تعريف الأدب / إلى العلاقة بينه وبين اللغة، وأحاول
الآن بسط القول بعض البسط في هذا الأمر.
اللغة الأدبية تؤدي جملة من الوظائف المختلفة، غير أن الجمالية هي الوظيفة
السائدة، والتي تتحقق معها وبها (أدبية الأدب) .
ولا بد من الإشارة هنا بأن اللغة المستعملة في الأدب بحسبانها مقررات ليست
مناط الدراسة والتقويم، وإنما تبدأ (أدبية النص) أو (ما يجعل الأدب أدباً) أو ما
يميز الأدب أنه من / عندما تتمثل اللغة بالتراكيب والجمل، وهي لغة / معنى
المعنى حيث تتكفل الصياغة العلمية بالمعنى أما الصياغة الجمالية هي التي تنتج
معنى المعنى وهدفها (جمالي يتعلق بإثارة المتلقي وإشباعه) .
يقول أبو حيان التوحيدي:
(إن حد الإفهام، والتفهم معروف، وحد البلاغة والخطابة موصوف، وليس
ينبغي أن يُكْتَفَى بالإفهام كيف كان، وعلى أي مرجع وقع، والبلاغة زائدة على
الإفهام الجيد بالوزن والسجع والتقفية، والحلية الرائعة وتخير اللفظ، وهذا الفن
لخاصة الناس، لأن القصد فيه الإطراب بعد الإفهام) [12] .
نحن في حياتنا نستعمل في كثير من المناسبات صيغاً لفظية معينة، ولا
نستعمل / معناها / فلا نقول للشارب:
أقدم لك التهاني بشربك بل نقول / هنيئاً / ولا نقول للحاج:
أرجو أن تكون حججت حجاً مبروراً بل تكتفي بقولك / حجاً مبروراً / وفي
ذلك يقول سيبويه، ولعلها تكون أول لفتة لبلاغة النحو: (ألا ترى أنك لو قلت
طعاماً لك، وشراباً لك، ومالاً لك، تريد معنى: سقياً أو معنى المرفوع الذي فيه
معنى الدعاء لم يجز، لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل من قبله، فهذا يدلك
ويبصرك أنه ينبغي لك أن تجري هذه الحروف كما أجرت العرب، وأن تعني ما
عنوا به) [13] .
وهذه اللفتة من سيبويه -رحمه الله- فتحت الباب أمام ظهور مستويين للغة
الأدبية:
المستوى الأول: مستوى الصحة.
المستوى الثاني: مستوى الجمالية.
أما صحة النص فينظر فيها إلى اللغة وأسلوب الأداء، من حيث أن اللغة
مؤسسة اجتماعية لا سبيل للفرد المبدع أن يحترم قاعدة من قواعدها أو يخالف نظاماً
من أنظمتها الفرعية، بل إنه لا يمكن عدّه مبدعاً إلا إذا تمكن من تحقيق المعادلة
الصعبة بين صرامة قواعده وحرية إبداعه.
وأما جمالية النص فهي نتاج عبقرية المبدع وحريته في التعامل مع موضوعه
وأسلوبه، وبقدر ما لا يكون للأديب الشاعر أو الكاتب من الحرية أمام اللغة
كمؤسسة اجتماعية كاملة، بقدر ما يملك الحرية كلها تُجاه الصياغة الجمالية،
ومواجهة الإنشاء الفني بالطريقة التي يؤثرها أو تجود بها قريحته.
وقد استقر في ذهن روّاد النحو العربي أنفسهم مثل سيبويه أن للشعر
خصوصية في التعامل مع اللغة، فقد ميّز سيبويه في أحد فصول (الكتاب) بين لغة
الشعر ولغة الكلام مستعرضاً بعض الجوازات التي تسوغ للشاعر ولا تجوز لغيره،
وهو ما كان يتفق مع رأي أستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي (96 - 107 هـ) الذي
ينسب إليه هذا القول: (الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاءوا، وجائز لهم
ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد
مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما
كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد،
ويبعدون القرب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم) [14] . ولو تساءلنا عن أسباب
التفويض الذي منحه شيخا اللغة للشاعر لما أخطأنا الصواب إذا فلنا إن الإبداع الذي
يتحقق للغة على أيدي الشعراء (أدبية النص) يستحق بعض التنازلات لمصلحة
الإبداع.
وإذا تحققت للنص أدبيته تحرر من الآنية، وبات أحد معالم الحياة جميلة، فما
لا يصدق عليه وصف أدب في كل العصور والأزمان بصورة مطلقة فليس من
الأدب في شيء، لأن النص (الذي يحتفظ بكيانه ويثبت وجوده في كل الظروف،
هو الأدب القيَّم، أما الأعمال الفنية الموقوتة بزمن معين فإن قيمتها تزول بزوال
زمنها، وتموت بموت مقتضياتها، ومن ثم تكون الأسباب التي أكسبتها شعبية وقتية
هي نفسها التي تعمل ضد استمرار حياتها) [15] .
واللغة الأدبية كانت إحدى الثمار الطيبة لدراسات إعجاز القرآن، فالقرآن
الكريم كان خيراً في كل اتجاه، ونعمة في كل وجهة، إن محاولة تفسير إعجازه،
وتأويل جماليته أخرجت من الدرس الأدبي كنوزاً رائعة، كانت المادة الخصبة
للاتجاهات النقدية، والمقاييس الجمالية، وهكذا كان القرآن وسيظل خيراً عميماً
على العربية.
وهكذا لا يكون الأديب أديباً ولا (الشاعر شاعراً لما فكّر فيه وأحسه، ولكنه
شاعر لما يقوله من شعر، فعبقريته تكمن في إبداعه اللغوي، أما الحساسية المفرطة
فلا تكفي لتكوين شاعر) [16] .
ومرة قال الرسام الفرنسي ديجا (1834 - 1917) للشاعر الفرنسي مالارميه
(1842 - 1898) : (إنني لا أستطيع أن أعبّر عما أريد التعبير عنه، مع أن عقلي يصطخب بالأفكار، فأجابه مالارميه - إن الشعر - يا عزيزي لا يصنع من الأفكار ولكنه يصنع من الألفاظ) [17] .
فاللغة الأدبية هي التي شدتنا إلى محفوظنا من الأدب الجميل وجذبتنا إلى تلكم
الرؤى التي تعج بالأفكار، وتضج بالحركة، وتموج باللون، هي التي صنعت
للأدب العربي سمعته، ومن إعادة توزيعها المتفرِّد نُسجت أثواب مجده، والشيء
نفسه حصل في الأدب الغربي (فاللغة هي التي صنعت / عُطَيْل / قدّم نفسه
لِـ (ديزر مونة) من خلال اللغة، وهي التي قوّضته في النهاية، وهذا في خاتمة المطاف سر عظمة شكسبير الذي لم يفعل شيئاً سوى أنه ترك اللغة تفجِّر طاقاتها، وتصنع الحدث) [18] .
ولكن أين يقف مضمون النص وموضوعه من أدبيته؟ إن النقد الحديث قد
تجاوز ثنائية الشكل / المضمون، وأصبح من المتعذر درس كل منهما بمعزل عن
الآخر، ما بينهما أكبر من وحدة، وأكثر من اتحاد.
إن الأديب الحق يجب أن يكون ملتزماً فطرياً وأخلاقياً بمصالح المجتمع
الكبرى، وبما يثري إنسانية الإنسان وما يرفع عنه من إصر وأغلال، وإذا كنا نجد
أدباء لا يرتقون إلى هذا المستوى، ففي كل صنعة مهما كانت نبيلة نجد فئاماً من
الناس يستأكلون بمبادئهم ويستطلقون العطايا بقيمهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) - (هموم المثقفين) ط 1، 1981 دار الشروق ص 238 - 239 و (قصة عقل) ط 1، 1983 دار الشروق ص 154 ومؤلفهما: زكي نجيب محمود.
(2) صحيح البخاري 4/ 277 رقم 2034.
(3) المصدر نفسه 5/ 54 - 55 رقم 2388.
(4) - (شكسبير معاصرنا) ص 280 ترجمة جبرا إبراهيم جبرا.
(5) - (مجلة فصول) ص 115 عدد أكتوبر 1990 م.
(*) يقول الدكتور عز الدين إسماعيل:
(الأدب هو الشيء المجرد، ما أولانا ألا نتعب أنفسنا في محاولة تعريفه) (الأدب وفنونه ص 24) ، ولكن الدكتور أحمد كمال زكي عرّفَه بقوله: (نشاط لغوي يستهدف توليد الحياة التي تحدث متعة جميلة) ، (النقد الأدبي أصوله واتجاهاته) ص 76.
(6) - (الفن والحلم والعقل) جبرا إبراهيم جبرا ص 360.
(7) - (حدود النص الأدبي) صدوق نور الدين ص 15.
(8) - (مقدمة في نظرية الأدب) د عبد المنعم تليمة ص 97.
(9) - (قراءة جديدة لتراثنا النقدي) 1/ 295.
(10) المصدر نفسه 1/ 296.
(11) المصدر نفسه 1/ 278 - 279 والدكتور مرتاض أشار إلى مصدر الحديث بقوله: صحيح البخاري 3/ 240.
(12) - (المقابسات، للتوحيدي ص 117 تحقيق حسن السندوبي.
(13) قراءة جديدة لتراثنا النقدي 2/ 806.
(14) المصدر نفسه 1/ 435 - 436.
(15) (الأدب وفنونه) د عز الدين إسماعيل ص 66.
(16) - (نظرية البنائية في النقد الأدبي) ص 315 د صلاح فضل.
(17) - (الأدب وفنونه) ص 99.
(18) - (الإبداع) ، عابد خزندار ص 130.(46/55)
صورة
يحيى بشير حاج يحيى
بالخنا أمضى شبابَه ... وغدا الخمرُ شرابَهْ
لم يجد راحةْ قلب ... بين كأس، وربابَه
قد دعوناهُ مراراً ... والهدى يطرُقُ بابه
لم يجْبْ صوتاً لداعٍ ... صَمَمُ القلب أصابه
أنا لا أرجو عقابَهْ ... إنما أرجو مآبه
فلقد كان نَقياً ... مثلَ ماءٍ من سحابه
لا تَسلْني كيف أمسى ... ليس في هذا غرابه
صاحَبَ الأشرار جهلاً ... ولهم أعطى رِغابَه
فاحذرَنْ يا صاح منه ... إن في الخير اجتنابه
من يكن للجُرب خِلاًّ ... ليس يخلو من إصابه(46/64)
المسلمون في العالم
مقابلة مع رئيس اللجنة السياسية
لجبهة الإنقاذ الجزائرية
زار المنتدى الإسلامي في لندن الأخ الفاضل رابح كبير رئيس اللجنة السياسية بالمكتب التنفيذي المؤقت لجبهة الإنقاذ الإسلامية وكانت فرصة لعرض
أحوال الجبهة الإسلامية، آخر المستجدات على الساحة الجزائرية، ورؤية
المسلمين هناك لواقع الجزائر ومستقبلها. وبعد الاستفسار والاطمئنان عن صحة
الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج والإخوة الذين لا يزالون في السجون بدأنا هذا
الحوار:
* البيان: نريد منكم صورة للوضع الحالي في الجزائر وكيف تقومون هذا
الوضع؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله كما أمر والصلاة والسلام على نبيه خير
البشر وبعد:
في الحقيقة إن الذي حدث في الجزائر ليس بالأمر الهين، لا شك أن إخواننا
سمعوا عما حدث من ضرب للجبهة الإسلامية للإنقاذ، لقد ضربت في قيادتها من
مختلف المستويات فبين معتقل وبين من غير وبدّل، وكذلك كثير من أفراد الشعب
الجزائري الذين كانوا يعملون مع الجبهة، كانت هجمة شرسة، ولكن من فضل
الله -تبارك وتعالى- أن هذه الجبهة فيها أناس مخلصون تابعهم الشعب الجزائري بحب وإخلاص لأنها تمثل العمل في سبيل إقامة دولة الإسلام، فالتوفيق كان بيد الله، ففي الوقت الذي ضربت فيه الجبهة اجتمع ثلة من الشباب، من شباب الجبهة في مدة قياسية، في مدة يومين استطاعوا تجميع أكثر من (45) ولاية من ولايات الوطن التي تعد (48) ولاية، في الأوراس وفي مدينة (باتنة) حيث كان ... النظام يقول بأن مدينة باتنة ستكون مقبرة الجبهة، وخرجت الجبهة من ذلك اللقاء أقوى وأمتن، ثم حاول النظام إلهاء الناس من خلال دعوته لإقامة حوار بين الحكومة والأحزاب. ولكن الجبهة لم تشارك لأن النظام كان يريد مشاركتها وهي محطمة، وشاركت الأحزاب وقلنا لهم: إن مشاركتكم مجرد لعبة ليس لها أي فائدة، وقد تأكد الجميع من ذلك بعد صدور القوانين الأخيرة، حيث لم تأخذ الحكومة بعين الاعتبار كل ما جرى في ذلك اللقاء. بعد ذلك رفع الحصار. وقبل أن يرفع، لما رأى النظام أن الجبهة غدت قوية رغم كل ما حصل ورغم حالة الحصار، لما رأى ذلك اعتقل الأخ عبد القادر حشاني مسئول مكتب التنفيذ الوطني ظناً منهم أن هذا سيعيد الجبهة إلى نفس الحالة التي كانت عليها عندما اعتقل الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج فرّج الله عنهما، ولكن الأمر تجاوز تلك المرحلة وأصبحت الجبهة كمؤسسة هامة فيها هياكل مضبوطة ومستقرة، ثم إنها تصفَّت من الدرن الذي كان موجوداً وتم التمحيص والتصفية، وكانوا يظنون أن ندوة البلديات الإسلامية ستتوقف لأنهم يدركون أن تلك الندوة تمثل انطلاقة جديدة وقوية، عندما تجتمع كل بلديات الجبهة (856) بلدية وتجتمع كل المكاتب البلدية والولائية فمعنى هذا أن كل حالة الحصار التي ضربت كانت صفراً، حاولوا منعنا من الندوة دون أي مبرر قانوني (من قوانينهم) ففضحنا ذلك بندوة صحفية، ثم تراجعوا وتمت الندوة وكانت بإذن الله دفعاً قوياً للعمل، وبمجرد رفع الحصار عادت الجبهة كقوة فاعلة في المجتمع، ثم توالت أنشطتها باستمرار وربما كان أكبر هذه الأنشطة تجمعات على مستوى المناطق (الغرب في وهران، والشرق في قسنطينة) وأخيراً جاءت المسيرة التاريخية التي كانت يوم الفاتح من نوفمبر كتعبير عن الوفاء لشهداء الجزائر الذين هم شهداء الإسلام، حيث إن البيان الذي رفعه المجاهدون المسلمون يومها (نوفمبر 1954) كان ينص صراحة على أنهم رفعوا راية الإسلام حتى تقام دولة حرة مستقلة في إطار المبادئ الإسلامية، والذي حصل بعدئذ هو انحراف وتبديل. فالجبهة نظمت هذه المسيرة، وقد حاولت الصحافة الأجنبية وبعض الصحف الوطنية تقزيم هذا الحدث، ولكنها كانت مسيرة ضخمة. وفي الجمعة الماضية نظمنا ستة تجمعات على مستوى الوطن، والعبد الضعيف ذهبت إلى ولاية الشرق وأخي عبد القادر ذهب إلى ولاية الغرب وآخر ذهب إلى ولاية الوسط، وأحب أن أعلمكم أن الشعب الجزائري شعب جاد دوّخ كل أعدائه.
هذا وضع الجبهة الآن، وقد غيرت السلطة لهجتها ونظرتها، فحاولت
محاورتنا بعد أن اتضح لها أن الجبهة لا يمكن كسرها، وبحمد لله بدأت الأمور
بالتحسن، صحف الجبهة عادت للظهور (كانت ممنوعة) اتصلنا بهم وقلنا لهم لماذا
تمنعون (الفرقان) من الصدور، فقالوا لأن الفرقان فيها كلام قوي، فقلنا لهم هناك
جرائد أخرى فيها كلام قوي ولم تمنع، فرّد الوزير بأن الكلام إذا جاء من الجبهة
ليس مثل الذي يأتي من جهة أخرى. وعادت جريدة الفرقان وكذلك جريدة المنقذ في
طريقها للعودة بإذن الله وننتظر بأن تسير الأمور نحو الانفراج ولعله يطلق سراح
المشايخ إن شاء الله.
* البيان: ذكرتم في حديثكم أن من أهداف بيان الفاتح من نوفمبر قيام دولة
مستقلة والسؤال: هل حصل هذا وهل أكثر دول العالم الإسلامي مستقلة فعلاً خاصة
إذا ربطنا يبن الواقع الموجود وموقف ميتران عندما قال إنه سيعود لو استولت
الجبهة على الحكم؟
حقيقة - أخي الكريم - الجزائر استقلت عام 1962 وكانت تسير نحو
الاستقلال في مراحل معينة رغم - الانحراف الذي حصل، ولكن الآن نحن نسير
نحو التبعية يوماً بعد آخر، فالجزائر ترضخ لشروط صندوق النقد الدولي، والنظام
أفلس في جميع الميادين، ونحن في ندوة صحفية تساءلنا: من يحكم الجزائر؟
أصبحت المشكلة مطروحة، هناك تراجع عن كل المكتسبات بما فيها الاستقلال
الوطني، فصندوق النقد الدولي يفرض شروطاً قبل رفع أسعار المواد الاستهلاكية
وشيئاً فشيئاً يتدخلون في قرارات البلاد، وربما يصل الأمر إلى أشياء لا تحمد
عقباها.
* البيان: ما هي العلاقة الآن بينكم وبين الأحزاب الإسلامية وهل هناك
تعاطف معكم وهل هناك تنسيق أو تعاون فيما بينكم؟
في الحقيقة إن المحنة التي جرت لم تكن محنة بقدر ما كانت منحة من الله
تبارك وتعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ..] [آل عمران: 179] هذا بالنسبة لوضعنا الداخلي وكذلك بالنسبة
لإخواننا فنحن نرى أن العمل مواقف، فعندما ترى أن أخاك مظلوم مقهور ثم تتشفى
به فلست أدري أي تعاون يمكن أن يحصل، فربما سمعتم أن بعض الإسلاميين قال
بأن الجبهة زجاجة وانكسرت وأمر هؤلاء الناس أصبح مع الشعب الجزائري وليس
مع الجبهة، لقد اتصلوا بنا بعد ذلك عندما رأوا أن الجبهة لم تنكسر بإذن الله، فقلنا
لهم: إن إشكالياتكم اليوم مع الشعب الجزائري، أقنعوه بمواقفكم، المسألة لا يمكن
أن تنسى بمجرد لقاء، يجب أن يكون هناك عمل قوي، الواقع يحمل الناس على
التصديق بأنها كانت خطأ وأن الموقف سيتغير إلى الأحسن؛ وهناك أحزاب كانت
مواقفها مشرفة مثل حركة الأمة، ولها صلات بالجبهة الإسلامية، وهناك غيرها.
* البيان: وحزب النهضة؟
النهضة كذلك وقفت مواقف لا بأس بها وتوجد لنا علاقات معهم، المسؤول
عن النهضة في لجنة للدفاع عن المعتقلين السياسيين مع الشيخ سحنون ومسؤول
حركة الأمة السيد يوسف بن خدة، هذا الأمر معروف.
* البيان: قضية تنقية الصفوف من الأمور التي تقوي الجبهة ولا شك، هل
هناك محاولة للرجوع من قبل الذين خرجوا من الجبهة أو انشقوا عنها؟
الذين لفظتهم الجبهة في وقت المحنة منهم صنف باع ضميره، وهؤلاء لا
كلام عنهم، لقد فصلوا من الجبهة، وهناك من وقف مواقف سلبية جداً واتخذ لقاء
(باتنة) فيهم قراراً عندئذ ينظر في شأنهم، وهناك أناس آخرون بقوا في المجلس.
* البيان: ننتقل إلى موضوع الانتخابات، هل ستدخل الجبهة الانتخابات
القادمة؟
موضوع الانتخابات يتعلق بالظروف السياسية، فرغم أن القوانين التي
صدرت أخيراً فيها من الظلم الشيء الكثير، ولكنها أقل ظلماً من السابق وهذا شيء
مؤكد، إنها فتحت مجالاً للرقابة على الانتخابات وهناك وضع ينبغي أن يسوى،
هناك إشكالات سياسية حصلت في البلد، هؤلاء المعتقلون من الشيوخ وغيرهم،
العمال المفصولون، الشهداء والجرحى في الأحداث، هذه مسائل ينبغي أن تسوّى،
لقد قلنا: إنه إذا رأينا توجهاً صادقاً في الأجواء السياسية ولو في مرحلة معينة (حتى
أصارحكم) وإذا لمسنا أن هناك استعداداً حقيقياً من خلال الممارسة السياسية لا من
خلال التصريحات السياسية، لقد قلنا لهم: نحن لا ينفع معنا الكلام، نريد الممارسة
الفعلية، وبدأت بعض الأمور تظهر وإن شاء الله يستمر الأمر كذلك فالأمر إذن
يتخذه مجلس الشورى في الجبهة الإسلامية، آخذين بعين الاعتبار تطورات الوضع
السياسي فإذا قدرنا أنها تؤدي إلى انتخابات حرة ونزيهة تعطى فيها الكلمة للشعب
الجزائري فنحن نقبل عندئذ لأننا واثقون أن شعبنا لن يختار غير الإسلام.
* البيان: ولكن باب الترشيح أقفل الآن؟
بالنسبة لهذا الأمر فالجبهة كما ورد في بيانها (لست بالخب ولكن الخب لا
يخدعني) نحن قلنا: إن الموقف بالدخول أو المقاطعة لم يتخذ بعد، ولكننا أمرنا
إخواننا في الولايات أن يستعدوا لهذا وكأننا داخلون الانتخابات، والجبهة هي
الحزب الوحيد الذي قدم مرشحيه في كل دوائر الوطن.
* البيان: بعض الإسلاميين خارج الجزائر يقولون: إن القوى التي تكره
الإسلام سواء من الداخل أو الخارج لن تسمح للمسلمين بالوصول إلى أهدافهم عن
طريق الديموقراطية فعندما يحسون بالخطر يلغون هذه الديموقراطية، فما جوابكم
على ذلك؟
نحن نرى العكس تماماً، لأنه لو وصل أي حزب إلى السلطة وخاصة
الإسلاميين عن غير طريق الاختيار الشعبي فإن الدول المحيطة بنا، الدول الغربية
ستتخذها ذريعة قوية لأجل التدخل المباشر، ولا شك أن الخارطة الجزائرية معروفة، فهذا المبرر ينبغي أن نقطعه أمام الأعداء، فيكون الاختيار هو اختيار الشعب،
لنقطع الطريق أولاً أمام النظام نفسه فلا يجد مبرراً، الشعب رفضك واختار غيرك
فينبغي أن ترحل، بالنسبة للدول الغربية لا تجد مبرراً للتدخل لأنه اختيار شعبي
تقطع أمامهم كل المبررات.
* البيان: الدول الغربية في نظرتها للمسلمين في بلادهم ليست منصفة، ولا
تريد أن يكون لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن العادي عندهم، فمفهومها
للديموقراطية مفهوم مزدوج وغير صحيح، وهي تفهم الحرية والديموقراطية
لشعوبها، ولكن لا تفهم ما يسمونه الديموقراطية للمسلمين، وهذا واضح في كل
بلاد المسلمين. في كل هذه البلاد لو توفر جو من الحرية وقامت حركات لها شعبية، ونظم المسلمون صفوفهم لاكتسحوا الانتخابات، وهذا يعلم به الغربيون جيداً،
ولذلك نراهم يعلنون بكل وقاحة معارضتهم أن يكون المسلم في مركز قوي (وضع
الجزائر مثال واضح على ذلك) لقد وقفت كل القوى مشجعة لضرب الجبهة، لا
نقول وقفت متفرجة بل مشجعة على ضربها، والمسلم غير الجزائري يرى
بوضوح - ومعه الحق - أنه لن يُسمح للمسلمين بهذا الطريق للوصول إلى موضع
القوة، فهل هذا واضح بالنسبة للإخوة في الجبهة؟
هذا تحليل صادق، لأننا نعتقد نفس الاعتقاد، ولكننا نحن من خلال وسائل
الإعلام في مختلف الجهات حتى وسائل الإعلام الغربية التي تتصل بنا نبين هذا
المفهوم حتى يعرف الرأي العام لماذا المسلم فقط يحرم من الاختيار في ظل الإسلام، اليهودي يختار أن يعيش في ظل يهوديته فلا يمنعه أحد، والنصراني كذلك،
المسلم له حق، قلتم: إن الاختيار ينبغي أن يكون للشعب، نحن كذلك نقول هذا
الكلام، لا نخاف من شعبنا، نحن نقيم عليهم الحجة بهذه الطريقة، ولئن تدخلوا
بعد ذلك في شؤونا، فمن حق المسلمين أن يرفضوا ذلك التدخل بوسائلهم، والشعب
الجزائري تاريخه حافل عندما رفض تدخل المستعمر في بلاده وقاومه وانتصر
عليه.
* البيان: ولكن القضية هناك كانت تصدياً لإنسان خارجي يضع جنوده
وضباطه وجهاً لوجه مع الشعب الجزائري؛ أما الآن مواجهتك ليست صراحة مع
فرنسا أو غيرها وإنما مع الجيش الذي هو مؤلف من أبناء الشعب وليسوا فرنسيين
قطعاً، وان كان كثير من قياداتهم واقعين تحت تأثير الفكر الفرنسي، فكيف
الخروج من ذلك؟
لقد كان سعينا واضحاً من أجل أن يقتنع كل الجزائريين أو معظمهم على الأقل
بأن الجبهة الإسلامية ليست كما يدعون ليست غولاً يأكل الناس، ولا تخيف ولا
ترعب، لأن الجزائريين الذين قد يكونون وقفوا ضد الجبهة الإسلامية كانوا
مخدوعين، مغرراً بهم، الآن نريد أن نقطع جميع هذه الحجج أمام السلطة وأمام
الأعداء، لقد كلفنا موقفنا كثيراً، والحياة جهاد، ونحن لسنا نادمين بحال من
الأحوال، لأنه إذا رأينا منكراً ينبغي أن نقف ضده، الشعب ليس نادماً ومن خلال
التفافه القوي يتضح أنه يتحدى أكثر، إن دخول الناس السجون جعل كثيراً من
أفراد الجيش ومن قادته يؤمنون أن ما كان يقال لهم إنما كان محض افتراء وكذب،
عندما احتكوا بالإسلاميين قالوا: هؤلاء لا يخيفون، هؤلاء آمن على البلاد من
غيرهم، كانت الدعاية تكذب وتقول إن الجبهة ترفض ميراث التحرير، وقفة الفاتح
من نوفمبر كانت حاسمة في هذا الباب، نحن نريد بالإقناع، بالحجة أن نبطل حجج
المبطلين. بواسطة الضغط الشعبي استطاعت الجبهة تغيير ذلك القانون الجائر
بقانون أقل منه جوراً، ونقول من الآن: ليس بوسع النظام تزوير الانتخابات إلا
إذا استخدم العنف. وعندما يحصل هذا فلا يوجد استقرار في البلاد، ونحن في
الجبهة رفعنا القضية منذ البداية إلى الشعب الجزائري.
" يتبع "(46/66)
أحوال المسلمين في بلغاريا
عماد الدين بكري إسماعيل
ساءت حالة المسلمين في كثير من بلدانهم بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط
الدولة العثمانية، واستُعْمِرَ الكثير منها إن لم نقل كلها، وازدادت الحالة سوءاً بعد
الحرب العالمية الثانية وبشدة في مناطق الأقليات، ومن البلدان التي تعرض فيها
المسلمون لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد حيث منعوا من إقامة شعائر دينهم، دولة
(بلغاريا) .
لمحة موجزة عن بلغاريا:
تقع بلغاريا في الجزء الشمالي الشرقي من شبه جزيرة البلقان، وتبلغ مساحتها
111000 كيلو متر مربع، وسكانها 9 ملايين نسمة وعدد المسلمين في بلغاريا
حوالي ثلاثة ملايين مسلم، أي ثلث سكان بلغاريا تقريباً.
والمسلمون هناك يتكلمون لغتين: التركية، وهؤلاء من أصل تركي سكنوا
بلغاريا مع أوائل الفتح العثماني لبلغاريا 1396 م، والذي دام حتى عام 1878 م،
وهم يشكلون ثلث السكان هناك.
والبلغارية: وهؤلاء السكان الأصليون، ويعرفون بـ (البوماك) وهي كلمة
بلغارية تعني الأنصار، فهم الذين نصروا العثمانيين وآزروهم عند فتحهم لبلغاريا
وكانوا في ذلك الوقت على دين الإسلام، ولذلك نجدهم يقولون ويُصِرُّون على أنهم
أسلموا قبل دخول العثمانيين بلغاريا بقرون، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقيموا دولة
لضعفهم، والله أعلم.
حال المسلمين في فترة الحكم الشيوعي 1945 - 1989 م:
حكم العثمانيون بلغاريا ما يقرب من خمسة قرون (482 سنة) كان الحكم
الإسلامي في بدايتها واضحاً قوياً، ثم تدنى الحكم فيها كما تدنى في كثير من
المناطق التي شملها الحكم العثماني، إلى أن وصل مرحلة التفكك والاضمحلال في
القرن التاسع عشر الميلادي. وبخروج العثمانيين من تركيا 1878 م (وهو ما يعبر
عنه البلغار بالاستقلال عن الإمبراطورية التركية) واجه المسلمون عقبات كبرى،
وضغوطاً شديدة من البلغار الذين يرون الدولة العثمانية مستعمِرة، فأخذوا يلفظون
كل ما خلفه الأتراك في بلدهم وأول ما أرادوا لفظه الإسلام والمسلمين الموجودين
في بلغاريا، لأن كلمة الإسلام عندهم تعني الأتراك وهم المستعمرون في نظرهم.
فضيق على المسلمين كثيراً، وازداد الضغط وبلغت الحملة ضد الإسلام ذروتها إبان
الحكم الشيوعي إذ أجبروا المسلمين وفي مناطق البوماك بالذات على تغيير أسمائهم، وهدمت كثير من المساجد وحول بعضها إلى متاحف كما هو الحال في مسجد
صوفيا الجامع الكبير ومسجد بلوبدف الجامع كذلك فكلاهما حول إلى متحف
يعرضون فيها كل ما يمت إلى تاريخهم بصلة متجاهلين تاريخ المسلمين، إذ لم
نشاهد في أي من المتحفين (المسجدين) شيئاً عن الإسلام إلا روعة المسجدين الذين
بُنِيا على الطراز التركي القديم.
وازداد الضغط سوءاً في أوائل السبعينات على الإخوة البوماك بالذات. وفي
الثمانينات أذاق الحكم الشيوعي المسلمين من أصل تركي الويلات مما اضطر الكثير
منهم إلى الرجوع إلى تركيا - التي لم يرها الكثير منهم - مفضلاً الوضع فيها على
هذا الضغط الذي يعانيه في بلغاريا، فاراً بدينه إلى منطقة أكثر أمناً وأقل اضطهاداً.
وممن ساعد الحكومة الشيوعية في الآونة الأخيرة في حكمهم وللأسف الشديد
ما أسموه بالمفتي الذي وضعته الدولة الشيوعية رقيباً لها على المسلمين إذ يأتيهم
بأخبار المسلمين، وعمله الأصلي ضابط مخابرات، وهو يتسمى باسم المسلمين،
ومن أبوين مسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فكانت حالة المسلمين إبان الحكم الشيوعي - يرثى لها، منعوا من تعليم
القرآن بل حتى من اقتناء المصحف إلا خفية، ومنعت النساء والفتيات من الحجاب، وصودرت المدارس الإسلامية التي حافظت على كيانها حتى بعد خروج الأتراك
وقبل الحكم الشيوعي، صودرت وحولت إلى نواد تجمع الشباب الشيوعي من
الجنسين، أو إلى أمكن للخياطة، أو إلى مرابط للخيول، إلى غير ذلك مما يسيء
إلى المسلمين.
وبعد مصادرة الدارين وتحويل بعض المساجد إلى متاحف وهدم بعضها،
تعطل التعليم وتعطلت الدعوة، فنتج عن ذلك جهل المسلمين الشديد بشعائر دينهم
وعقيدتهم والذي رآهم عن قرب يحس بذلك ويتألم له.
حال المسلمين اليوم:
بعد نهاية الحكم الشيوعي في 1989 م، فرح المسلمون فرحاً شديداً بذلك
وتوجهوا إلى المساجد وعادت البشاشة إلى وجوههم، ورجعوا إلى مساجدهم القديمة
يرممونها ويصلحون من شأنها، ورجعوا إلى تعليم أطفالهم القرآن في المسجد في
الأمسيات وأيام عطلة نهاية الأسبوع، وأعادوا بعض المدارس وعاد الحجاب إلى
الشارع، وتقف أخي المسلم مدهوشاً كيف عاد المسلمون والحجاب بالذات بهذه القوة، إذ رأينا قرى في مناطق (مادان) وما حولها: كل نسائها وبناتها محجبات، في
الشوارع والأسواق والطرقات، وفي المدارس ... الخ. إنها عودة قوية صادقة
تحتاج إلى من يدعمها ويقف إلى جانبها.
أهم ما يحتاجه المسلمون بإلحاح:
إن هذه العودة الطيبة والإنابة الصادقة إن شاء الله تعالى تحتاج إلى ترشيد
وإنارة، فمما يؤدي إلى ذلك ويلبي رغبات المسلمين في بلغاريا أن يتولى المسلمون
المخلصون:
1 - إعادة بناء المدارس: مادياً، وذلك بإصلاح المدارس القديمة المتصدعة، أو إنشاء مدارس جديدة في مناطق يشكل المسلمون نسبة عددية كبيرة فيها.
وعلمياً: وذلك بإعداد منهج علمي وفق منهج أهل السنة والجماعة مترجماً
باللغتين التركية والبلغارية حتى يتسنى لهم الفهم السريع مع تزويدهم بالمعلمين
الأكفاء والتعهد بتغطية نفقاتهم، إذ إن عامة المسلمين هناك من الفقراء.
2 - إنشاء داخليات (سكن داخلي) للطلاب الذين يأتون من خارج مدينة
المركز، مما يساعد على توطيد آصرة الأخوة والعمل الجماعي والذي به بعد توفيق
الله يكون إكمال البعض للبعض في جو إيماني أخوي.
3 - إعادة ترميم المساجد القديمة وإنشاء الجديدة في مناطق التكتل مما يكون
له عظيم الأثر بإعادة دور المسجد للصدارة في بناء الشخصية المسلمة كما كان حاله
في صدر الإسلام، يخرج الدعاة والمجاهدين في آن واحد.
مناطق تكتل المسلمين واحتياجاتها:
1 - منطقة كيرجلي:
وهي في الجنوب الشرقي لبلغاريا وكل سكان المنطقة مسلمون، ويقدر عدد
المسلمين بها بحوالي 200.000 نسمة، يحتاجون إلى مدارس جديدة وترميم
القديم من المدارس والمساجد مع إنشاء مساجد جديدة في بعض المراكز والقرى
التابعة للمنطقة.
2 - منطقة رازقراد:
تضم المسلمين في الشرق والشمال الشرقي لبلغاريا، وعدد المسلمين فيها يقدر
بحوالي 250.000 نسمة موزعين على مدن وقرى المنطقة وأهم مدن المنطقة
هي:
أ - مدينة (شومان) :
وتعداد المسلمين فيها حوالي 50.000 نسمة، وفي المدينة أضخم مسجد
وأجمله، بني قبل ثلاثمائة وخمسين سنة، وما زال يعمل، وبها مسجد آخر أقل
ضخامة من الأول.
وبها مدرسة النواب المشهورة وهي واحدة من ثلاث مدارس رُخِّص لها
بالعمل، عملت اثنتان منهن، والثالثة تحتاج إلى من يتكفل بها مادياً وعلمياً ومعنوياً، ومدرسة النواب هذه تحتاج إلى دعم كبير فهي مدرسة مهمة واقعة في منطقة زاخرة بالمسلمين وفي مدينة من أهم مدن بلغاريا.
ب - مدينة (روسى) :
وتقع في الشمال الشرقي مع حدود (رومانيا) وعدد المسلمين فيها حوالي
400.000 نسمة، تحتاج إلى مدرسين، مع العلم أن بها مدرسة ضخمة بحاجة
إلى إعادة تعمير وتأسيس، مساحتها (2500) متر مربع، فيها فصول الدراسة
وسكن الطلاب وتحتاج إلى جهد كبير حتى تقوم. وبالمدينة مسجدان يسدان حاجة
المسلمين الحالية.
ج - مدينة رازقراد (عاصمة الإقليم) :
عدد المسلمين بها 250.000 نسمة بها ثلاث مساجد، يعمل منها واحد فقط ...
والآخران بحاجة إلى صيانة وإعادة تعمير.
وتحتاج المدينة لمدرسة واحدة على الأقل لتغطية حاجة الطلاب بالمدينة
وضواحيها، ولابد من إنشائها إذ لا توجد بالمدينة مدرسة قديمة كغيرها من مدن
المسلمين.
3 - منطقة (مادان) :
وهي من مناطق البوماك، وتقع جنوب بلغاريا قريباً من الحدود اليونانية،
وتعداد المسلمين بالمنطقة حوالي 80.000 نسمة، وتعدادهم بمدينة مادان نفسها ...
حوالي 15.000 نسمة، وهي بحاجة ماسة إلى مركز يجمع مسلمي المنطقة
ومدرسة لتعليم أبنائها.
4 - جوتس دلجف:
وهي من مناطق البوماك كذلك، وهي في الجنوب الغربي لبلغاريا وقريبة من
الحدود اليونانية كذلك. وسكان هذه المنطقة يقدرون بـ 60.000 مسلم وفي
المدينة نفسها حوالي 10.000 مسلم بحاجة ماسة إلى مسجد كبير ومدرسة.
5 - منطقة بلوبدف:
عاصمة بلغاريا الأولى، عدد المسلمين في هذه المنطقة أكثر من 40 ألف
نسمة، بها مسجد ضخم بني عام 871 هـ الموافق 1450 م تقريباً وما زال يعمل، وبها مسجد آخر جميل حوّله الشيوعيون إلى متحف، والمسلمون يحاولون
استعادته. ويحتاجون إلى مدرسة في الوقت الراهن لتحل ضائقة التعليم.
6 - مدينة خاسكوفو:
تعداد المسلمين بها أكثر من 25 ألف نسمة، فيها مسجد واحد يعمل، وثانٍ
أحرقه الشيوعيون وثالث هدم قبل عشر سنوات، وهم بحاجة إلى مدرسة حيث
يبلغ مرتادو المسجد يومي السبت والأحد من الأولاد أكثر من (200) .
وهناك قرى تحتاج إلى مساجد صغيرة وأماكن لتحفيظ القرآن الكريم ترفق
بالمساجد أو منفصلة، في كثير من المناطق.
ولا يتسع المجال هنا لذكر كل هذه القرى بل بعض المدن التي تتبع المناطق
المذكورة آنفا.
هذه هو حال إخوانكم ببلغاريا فهلا مددنا يد العون لهم وأنقذناهم بتلبية
احتياجاتهم أو بعضها وأبرأنا ذمتنا أمام الله تعالى.(46/74)
أيُّ سلام هذا؟ !
محمد بن حامد الأحمري
عشنا هذه الأشهر الأخيرة مأساة غريبة، كل ما فيها يوحي بالاستهجان
والسخرية من هذه الأمة المسلمة المسكينة التي يتفق اليهود والنصارى على تحديد
مصالحها، وتحديد حروبها وسلامها، وتحديد أعدائها وأصدقائها، وبالتالي اختيار
قادتها المعبرين عن مواقفها. فهذه حنان حنا عشراوي الناطقة باسم الشعب
الفلسطيني المسلم تعطي من بقي لديه ذرة عقل عنوانا لهذا الفصل الجديد من القضية
الإسلامية الفلسطينية.
وهذا الفصل الغريب من هذه الملحمة سبقته أمور كثيرة، مهدت لهذه الحال
وشارك في إنتاج هذه الفصول الانهزامية المتتابعة لاعبون كثيرون من فلسطين ومن
غيرها، وكان لبعض المشاركين أدوار خطيرة أوصلتنا إلى هذه المحطة
الاستسلامية التي نقف عندها اليوم.
والجديد في أيامنا هذه ليس المخطط الذي يُوّقع عليه العرب ويساندونه
ويسلمون به بل ويرغمون شعوبهم عليه؛ الجديد فيه هو الالتزام العملي، أما
المخطط اليهودي فقد قرأه العرب منذ زمن ولكنهم للأسف لم يعقلوه. إن الصلح
الأخير يلزم العرب بأن ينهوا حالة الصدام النفسي مع اليهود وأن يقبلوا بإسرائيل
دولة صديقة تتمتع بحقوق الجار وامتيازات لا يتمتع بها العرب تجاه بعضهم. ومن
ذلك حقها بإنهاء العداء الثقافي والإعلامي لها، ومنع العرب عن الحديث في أي أمر
من الدين قرآناً أو سنةً أو حدثاً من أحداث السيرة فيه إشارة إلى اليهود وأساليبهم
الخبيثة مع غيرهم وهو الشرط الذي اشترطه شامير للصلح والنقاش، وإنهاء
المقاطعة الإعلامية والثقافية والاقتصادية، وبالأخص حذف كلمة الجهاد ضد
إسرائيل من قاموس العرب والمسلمين أما إنهاء المقاطعة الاقتصادية فهي لا تقل
خطورة عن غيرها حيث يمتد النشاط الاقتصادي اليهودي في أعماق خمول العرب
وضياع المؤسسات الاقتصادية الناجحة وغياب الصناعة التي توفر للناس حاجاتهم
في بلدان المسلمين حيث يستولي اليهود - وهم من هم معرفة بأصول التجارة وكنز
الأموال وعباداتها - ويمتصون ما بقي في هذه البلاد من خيرات ومصادر،
ويستولون على الثروات الطبيعية ويصنعونها ثم يعيدونها لنا مرة أخرى، لتعيش
الأمة تحت رحمة تجار يهود الذين دمروا اقتصاد العالم الأكثر وعياً وحرية فكيف
إذا استولوا على الإقطاعات العربية المتخلفة فيزيدوننا تجويعاً ويسوموننا صنوفاً
جديدة من الذل والهوان.
ثم نعمل جميعاً عرباً وغير عرب عمالاً صغاراً مستضعفين أقل من درجة
الخدم في مصانع اليهود. إن الذي يؤسف له أشد الأسف أننا نعلم جميعاً ومنذ
زمن - من قرأ ومن لم يقرأ - ما يريد يهود منا ثم لا تنفع المعرفة ولا يجدي التحذير، فمنذ قرابة خمسين عاماً ونحن نعرف ونقرأ معالم هذه المأساة ثم لا يزيدنا ذلك إلا سكوتاً وصمتاً واستسلاماً مقيتاً.
وإذا استسلمت الحكومات فلا أقل من أن يبق لنا دين نعرف به الحق من
الباطل وأن نحافظ على كلمة الحق ننطق بها حين لا نستطيع أن نطبقها في الحياة،
وأن نحافظ على عقول المسلمين مدركة واعية لعدوها وشره المستطير، وأن نذكّر
الأمة بالتاريخ اليهودي الأسود. ومحاولة اغتيالهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-
مشهد حي في قلوب المسلمين، وقصة غدرهم بالمسلمين لم تغب عنا، وقتلهم
الأنبياء ثم سفك دماء المسلمين في عصرنا هذا والمذابح الوحشية التي مارسوها
ويمارسونها علينا كل يوم ليس لنا أن نغيِّبها عن ذاكرة الأمة وليس لنا أن نزور
التاريخ لصالح يهود كما يحاولون إلزام المسلمين هذه الأيام.
إن اليهود يحاربون الإسلام والمسلمين باليهودية والتاريخ اليهودي، والعرب
يغازلونهم بأسلوب المستسلم الواهن العلماني الهجين الذي يكذب منتحلاً ألقاب
القومية والوطنية والديموقراطية يغطي بها حكمه البوليسي الذي هو دعامة وجودهم. جاء شامير بحاخاماته يلبسون شعار الدين في دائرة الاجتماع ثم يشتم العرب
ويغادر القاعة قائلا لهم: إن غداً السبت وعندنا صلاة.
ويجيب أحد الصحفيين بصلف: (إذا أردت أن تصفني فقل: إنني رجل
يهودي تجري اليهودية في دمه) فمن من المسؤولين الذين اجتمعوا معه من يجرؤ
على مثل هذا الجواب: (إذا أردت أن تصفني فقل: إنني مسلم يجري الإسلام في
دمه) حتى لو كان كاذباً بهذا الادعاء؟ ! هل يجرؤ أحدهم أن يقول ذلك ولو من
باب الدعاية والاستعراض مثل شامير؟ !
نعم لقد تأكدت إسرائيل أنها تتعامل مع رجال البوليس في العالم العربي الذين
جاءوا إلى المؤتمر وقد تأكدوا من تكميم كل الأفواه، واعتقال كل الأشخاص الذين
يظن بهم معارضة هذه الخطوة المشينة، جاءوا بلا هوية وبلا قضية ولديهم استعداد
بقبول أي حل يريده شامير، أليس قبول الاشتراك في هذا المؤتمر كان مرهوناً
بعرض أسماء الوفد الفلسطيني عليه؟ ! ثم يعقِّب بعض الصحفيين العرب بصفاقة
لا نظير لها: لقد كانت إسرائيل مرغمة على كل شيء في المؤتمر! وأن العرب
كانوا منتصرين! ! نعم لكم أن تسموا كل هزائمكم نصراً، ولكننا لن نسميها إلا
باسمها الحقيقي. داعين الله أن يبدل هذه الحال وأن يلهم المسلمين الرشاد، ويقيض
لهم من ينتشلهم مما صاروا إليه.(46/80)
مقال
هل تدعم أمريكا دولة روسيا الكبرى؟
د. أحمد عجاج
أخيراً تحررت شعوب الإمبراطورية السوفياتية - التي تستحق عن جدارة
لقب الرجل المريض - من قبضة الحكم الديكتاتوري وظاهرة الانغلاق والخوف
لتجد نفسها مرة أخرى تواجه مرحلة من عدم الاستقرار والضياع. فالديموقراطية
التي دغدغت أحلام الشعب المقهور وارتسمت صورتها الذهبية الواعدة بالخير
ومستقبل أفضل لم تكن إلا حلماً كاذباً ووهماً. والشعب السوفياتي بجميع فئاته يسير
ببطء نحو المجهول وفي ذاكرته شبح مجاعة عام 1920 - 1922 داعياً بحرارة أن
لا يقذف مرة أخرى نحو هذا المصير المؤلم.
فالاتحاد السوفياتي الذي كان يوماً ما دولة عظمى نافست أقوى قوى الأرض
قاطبةً، يجد نفسه في موقف المراقب العاجز ينظر بعينين عاجزتين إلى تفكك
أواصره وتفجر الخلافات والقوميات والعصبيات العرقية التي كانت في الماضي
وحدة متكاملة وجزءاً لا يتجزأ من إمبراطوريته الكبرى المترامية الأطراف.
هذا الواقع أجبر الاتحاد السوفياتي على التراجع من الساحة الدولية والانكفاء
والتقوقع. وغياب الاتحاد السوفياتي وتفككه يطرح تساؤلات عديدة لها تأثيرها
المباشر على الساحة السياسية الدولية والعلاقات الاقتصادية والعسكرية. والسؤال
الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو طبيعة الموقف الأمريكي من الظاهرة
السوفياتية. وبعبارة أخرى: هل تسعى الولايات المتحدة إلى مساعدته وإنقاذه من
الرمال المتحركة، أم أنها تؤثر التفرج على موت عدوها أو أنها ستعتمد خياراً آخر؟
الواقع هو أن الولايات المتحدة دائماُ، شأنها شأن بقية الدول، تتعامل ضمن
إطار المصلحة والمنفعة دون أي اعتبار للعامل الأخلاقي والمثل العليا. وعامل
المصلحة هذا ميز العلاقات الأمريكية - السوفياتية وطبّعها بطابعه حتى في أشد
الظروف حرجاً وخطورة.
والولايات المتحدة لم تتردد أبداً في استعمال سلاح الاعتراف، في الأعوام
التي سبقت عام 1933، للضغط على الدولة الفتية الشيوعية التي تعتمد مبادئ
وأهدافاً تتعارض مع مصلحتها وأهدافها. إلا أن هذا الموقف سرعان ما تلاشى
عندما شعرت الولايات المتحدة أن وجودها مهدد من قبل الدولتين الألمانية واليابانية
وأنه لا سيبل إلى الحد من نفوذهما إلا بالتقارب مع العدو الشيوعي (الاتحاد
السوفياتي) .
وفعلاً اعترفت الولايات المتحدة بالدولة الشيوعية في عام 1933 وتحالفاً معا
لدحر عدويهما الياباني والألماني. والملفت للنظر أن هذه ليست أول مرة يتم فيها
التعاون بين الدولتين - المتناحرتين - بل إن هناك حوادث كثيرة وشواهد تدل على
تعاونهما عندما تستدعي الحاجة سواء كان هذا محكوماً بالواقع الاقتصادي أو غيره.
وللتدليل على ذلك فإن وزير التجارة الأمريكي المشهور بعدائه - للشيوعية
(هاربرت هوفر) لم يتردد لحظة في تقديم المساعدات الغذائية والإنسانية للاتحاد
السوفياتي في عامي المجاعة والتي بلغت قيمتها خمسين مليون دولار أمريكي.
وبالطبع فإن هذه المساعدة تثير التساؤل والعجب إذ كيف يعقل لوزير يكن العداء
للشيوعية أن يقدم لها إكسير الحياة! إلا أن هذا ليس مستغرباً أبداً لأن الولايات
المتحدة حصلت نتيجة هذا على بعض ذهب الاتحاد السوفياتي وتخلصت في الوقت
نفسه من فائض في الإنتاج الذي يؤدي تكدُّسه إلى إبطاء نموها الاقتصادي. ولربما
كان العامل الإنساني والديني لهما دور، ولكن يبقى العامل الاقتصادي هو البارز
والمسيطر.
إذن من الممكن جداً أن لا تترك الولايات المتحدة عدوها وحيداً إذا كانت ترى
في ذلك مصلحة لها. فالاتحاد السوفياتي لم يعد أخيراً تلك القوة التي تُخشى بل
تضاءل حجمه ونفوذه كما تنبأ بذلك رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق رونالد
ريغان حين قال إن (الغرب لن يحد من نفوذ الشيوعية بل سيتجاوزها ولن يشغل
نفسه بإدانتها بل سيطرحها جانباً كفصل شاذ في التاريخ الإنساني) [1] . والرئيس
ريغان لم ينطلق من فراغ بل كان يعتمد أصلاً على تعاليم الإنجيل عندما قال: إن
الاتحاد السوفياتي إمبراطورية الشر وإن (تعاليم الإنجيل وأقوال المسيح تتطلب منا
أن نقاوم الشر بكل ما أوتينا من قوة) [2] .
وفعلاً كان له ما أراد فالاتحاد السوفياتي لم يعد بعد تفككه واستقلال جمهورياته
إمبراطورية الشر ولكن هل يؤدي هذا إلى تغيير السياسة الأمريكية؟
لا شك أن الولايات المتحدة لم تعد ترى في الاتحاد السوفياتي ذلك الشبح
المرعب. وهذا لا يعني أبداً زوال الخطر الناتج عن تفكك الاتحاد السوفياتي.
فالسلطة المركزية تلاشت والوضع الاقتصادي يزداد سوءاً، وهيبة غورباتشوف
أصبحت بلا معنى، مما دفع صحيفة برافدا السوفياتية بوصفه أخيرًا (بالرئيس
الذي ليس له دولة) . ومناشدة الزعماء السوفيات الغرب بتقديم المساعدات لم تلق
حتى الآن آذاناً صاغية.
والرئيس السوفياتي غورباتشوف في خطابه الذي ألقاه أمام مؤتمر (الأمن
والتعاون الأوروبي) الذي انعقد في الأشهر الماضية في موسكو، تساءل عن سبب
تأخر الدول الغربية بتقديم المساعدات الاقتصادية لبلاده قائلاً: (إن الظروف
الموجودة الآن صالحة لبدء عملية التعاون وبناء البلاد) . وأضاف مؤكداً (إن العالم
سيتعامل من الآن وصاعداً مع اتحاد من دول مستقلة تتعايش فيه دول وجمهوريات
وعشرات من القوميات والعصبيات بصورة اختيارية ومتساوية) .
وتصر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على أن وجود اتحاد كهذا داخل
الاتحاد السوفياتي ليس كافياً بحد ذاته وأنه يتوجب تكملة الثورة السياسية بثورة
اقتصادية كشرط أولي لتقديم المساعدات الغربية المنتظرة. بل ذهبت الولايات
المتحدة أخيراً أبعد من ذلك باشتراطها على الاتحاد السوفياتي تقديم خطة اقتصادية
يوافق عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، شأنه شأن أية دولة من العالم
الثالث، كشرط مسبق للمساعدات الأمريكية. وطالبت الولايات المتحدة أيضاً
الاتحاد السوفياتي والجمهوريات السوفياتية بضرورة الاتفاق أولاً على توزيع
المسؤوليات والسلطات التي بالإمكان منحها للسلطة المركزية في موسكو.
وهكذا يتضح أن الولايات المتحدة تستعمل السلاح الاقتصادي مرة أخرى
كوسيلة لضمان نفوذها وسيطرتها في الإمبراطورية المنهكة. فالولايات المتحدة لا
ترى أية فائدة في تقديم مساعدات مالية واقتصادية لبلد لم تتضح حتى الآن معالم
تركيبته المستقبلية.
وتبدو السياسة الأمريكية من خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنها تميل
إلى رؤية الإمبراطورية السوفياتية بنصف حجمها السابق. فدعوتها الدائمة للسماح
لدول البلطيق بالانفصال والاستقلال لا تتفق مع دعواتها الداعية إلى إيجاد نوع من
الوحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية ضمن إطار ما. إلا أن هذا التناقض يمكن
أن يزول إذا نظر إلى الأمر من زاوية أخرى. فالولايات المتحدة لا تمانع في أن
تأخذ الجمهوريات السوفياتية نوعاً من الحريات الداخلية شريطة أن لا تشمل القضايا
الدفاعية. ووجود جمهوريات، داخل الاتحاد السوفياتي، تمارس حريات كاملة في
القضايا الاقتصادية والخارجية يوفر للولايات المتحدة فرصة ذهبية للعب على
التناقضات والاستفادة من استثمارات ومشاريع يمكن أن تقوم بها. وبالفعل فإن عدة
جمهوريات سوفياتية تتنافس في الحصول على الاستثمارات الأجنبية وتعرض
عروضاً مغرية في سبيل ذلك. إلا أن تصوراً كهذا يبدو غير ممكن في الوقت
الراهن. فوجود السلاح النووي الفتاك والخطر على أراضي الجمهوريات
السوفياتية خلق نوعاً من الارتباك والتوتر في السياسة الأمريكية. هذا الارتباك بدا
ظاهراً عندما أعلنت بعض الجمهوريات السوفياتية عن نيتها في الإبقاء على السلاح
النووي الموجود على أراضيها ومعارضتها إعادته إلى روسيا الفيدرالية. والارتباك
مرده إلى أن هذه الجمهوريات باستطاعتها أن تهدد المعسكر الغربي أي أوروبا
باستخدامها الصواريخ النووية الموجودة على أراضيها. والتهديد بدوره لا يمكن أن
يصدر عن جمهوريات تدين بالولاء للحضارة الغربية وتلتقي معها سواء في المعتقد
أو العادات بل من جمهوريات لا تتوفر فيها هذه المقومات. إذن فالخطر الحقيقي
يكمن في الجمهوريات الإسلامية التي لا تشارك المعسكر الغربي أفكاره وحضارته
وتاريخه وهنا بيت القصيد.
إن احتمال إبقاء الجمهوريات الإسلامية داخل الاتحاد السوفياتي على السلاح
النووي أو استخدامه أو نقله لطرف ثالث يرسل قشعريرة في الجسد الأمريكي
والغربي معاً. وقادة روسيا الفيدرالية يعون هذا تماماً ويعرفون مدى خطورته عليهم
وعلى العالم الغربي. فقد صرح نائب وزير دفاع روسيا الفيدرالية الجنرال فاتلي
شليكوف منذ فترة وجيزة أنه ليس لدينا أي شيء نخشاه من الغرب.. فالخطر يأتي
الآن من الجنوب بما فيه من الجمهوريات الإسلامية. ويجب علينا أن نأخذ العامل
الإسلامي في الحسبان [3] .
وفي هذا السياق ذكرت صحيفة الاندبندنت البريطانية (بتاريخ 15 أكتوبر
1991) أنباء أفادت عن قيام تعاون بين المؤسستين العسكريتين الأمريكية والروسية
لإنشاء شبكة مضادة للصواريخ النووية. وهدف هذه الشبكة الدفاعية، استناداً إلى
الصحيفة المذكورة، هو التصدي للصواريخ النووية التي من الممكن أن تطلقها
جمهوريات سوفياتية أو دولة من دول العالم الثالث.
وأما احتمال كهذا فإن الولايات المتحدة تجد نفسها أمام خيار واحد لا غير هو
تدعيم روسيا الكبرى لتكون صمام أمان للخطر الكامن في الجمهوريات السوفياتية إذا
تعذر إقناعها بضرورة التخلي عن السلاح النووي والانضمام إلى اتحاد يجمع
الجمهوريات كلها ضمن إطار دستوري معين. وهذا التصور لمحت إليه صحيفة
الهيرالد تريبيون الأمريكية في مقال لها (بتاريخ 15 أكتوبر 1991) جاء فيه (أن
وجود روسيا القوية والمنيعة التي تحتكر السيطرة على السلاح النووي هو أمر لا
يبعث على السرور. ولكن هذا الاحتمال هو أقل خطورة من أن يكون موضوع
السيطرة على السلاح النووي داخل الاتحاد السوفياتي موضع شك) .
إذن فالولايات المتحدة الأمريكية أمام خيارين: العمل بطريقة ما على إبقاء
الاتحاد السوفياتي القديم ولكن بنصف حجمه وضمن إطار دستوري تعطى فيه
الجمهوريات كل ميزات الدول المستقلة باستثناء القضايا الدفاعية والسيطرة على
السلاح النووي. وفي حال تعذر هذا فإن الولايات المتحدة ليس لديها أي خيار سوى
تقوية روسيا الاتحادية لتشكل درعاً واقياً وسيفاً مصلتاً على الجمهوريات الأخرى
التي كانت يوماً ما جزءاً من إمبراطورية كبرى (الاتحاد السوفياتي) .
__________
(1) خطاب ريغان في جامعة نوتردام في 17 مايو 1981
... ... ... ... ... ... ... Regan Public Papers ,1981, p 434.
(2) Speech to Nationals of Evangelical, Orlendo, Florida, Regan Public Papers, Wachington, 1984, pp363-364.
(3) فورين ريبورت 7 نوفمبر 1991.(46/83)
صحة
تحصين الأطفال
د. محمد صايل أهليِّل
يعتبر الهدف الأول والأخير الذي يسعى له الطب دائماً هو الوصول بالمريض
إلى الحالة الطبيعية من سلامة الجسم، سواء بالعلاج الدوائي أو الجراحي عند
حدوث مرض ما أو دفع غائلة المرض عن الجسم السليم، ومنع حصولها بمختلف
الوسائل من نظافة عامة وحجر صحي، ومنع الاختلاط بالمصابين أو عن طريق
التحصين بإعطاء التلقيحات.
يكون - أحياناً - من الصعب علاج بعض الأمراض التي تصيب الأطفال،
لذا فإن المحافظة على سلامة الجسم السليم هي بنفس القدر من الأهمية - إن لم تكن
أكثر أهمية - من علاج الطفل المريض. نعم إن الطفل المريض يحتاج إلى
المعالجة، ولكن منع إصابة الطفل السليم بالمرض أهم، وذلك لأن المضاعفات التي
ربما تنجم قد تكون بسيطة أو شديدة، وقد تكون طارئة أو دائمة تلازمه طيلة حياته، وقد تشل بعض قدراته العقلية أو الحسية أو الحركية أو غيرها، لذا فإن المثل
القائل: درهم وقاية خير من قنطار علاج هو أصدق ما يمكن أن يقال في مثل هذا
الموضع من درء غائلة المرض بتحصين الطفل.
إن الطفل - بحكم صغر حجمه وعدم تعرضه مسبقاً للأمراض - وضعف
مناعته النسبي - أقل قدرة إذا ما قيس بالكبار، على مقاومة الأمراض التي قد تحل
به، لذا فإن بعض الأمراض أسرع انتشاراً وأشد خطراً على الأطفال منها على
الكبار.
إن أمراضاً كالتدرن الرئوي والخانوق (الدفتريا) والكزاز، والشاهوق (السعال
الديكي) وشلل الأطفال: من الأمراض التي قد تفعل الأعاجيب بالطفل إذا أصيب
بأحدها، لما تسببه من مضاعفات خطيرة قد تصل إلى الوفاة، إضافة إلى صعوبة
علاجها وارتفاع كلفته. وإن نتائج مثل هذا العلاج غير مضمونة أحياناً، فالعلاج لا
يقدر أن يمنع حدوث المضاعفات الناجمة. لذا كان تحصين الأطفال باللقاحات
الخاصة بهذه الأمراض أسلم وأنجح السبل.
إن بعضنا قد تعود أن يرى أمراضاً كثيرة تنتشر بين الأطفال وكأنها أمر
حتمي لابد للطفل أن يمر به خلال سني عمره، أو كأنه مرحلة من مراحل نموه،
فالحصبة، والنكاف والحصبة الألمانية - بشكل أقل شيوعاً - تنتشر بين الأطفال
بشكل سريع جداً كأنها النار تدب في الهشيم خصوصاً الأطفال في سني الدراسة
الأولى، أما خطورة هذه الأمراض فهي بما تسببه من مضاعفات تكون أحياناً غاية
في الخطورة، فشيوعها وانتشارها بين الأطفال لا يعني انتفاء أضرارها بتاتاً. لذا
فإن اللقاحات الخاصة بها تمنع أيضاً انتشارها بين الأطفال، وتقلل من المضاعفات
الناجمة عنها.
إن اللقاحات تُعطَى للأطفال حسب خطة زمنية معينة، ويعاد تكرارها لبناء
مناعة كافية في جسم الطفل طول عمره مما يقلل من احتمال إصابته بالمرض الذي
حُصِّنَ ضده حال حدوث تعرضه لطفل مصاب، وتعطى اللقاحات حسب الجدول
الزمني التالي:
1 - لقاح التدرن الرئوي - يعطى خلال الأشهر الأولى خصوصاً في المناطق
التي ينتشر فيها المرض بشكل واسع.
2 - لقاح الخانوق - الشاهوق - الكزاز: يعطى بالعضل على الشهر الثاني
ثم يعاد في الشهر الرابع، وتعطى جرعة ثالثة في الشهر السادس من العمر. يسمى
هذا اللقاح باللقاح الثلاثي. يعطى الطفل جرعتان منشطتان من هذا اللقاح على
العمر سنة ونصف، وأخرى على العمر بين 4 - 6 سنوات.
3 - لقاح شلل الأطفال وهو يعطى عادة بالفم ولكن بنفس مواعيد اللقاح
السالف.
4 - لقاح الحصبة - النكاف - الحصبة الألمانية: يعطى على عمر 15
شهراً مرة واحدة فقط.
بهذا يكون الطفل قد أكمل تحصينه ضد الأمراض الخطرة التي يمكن منع
حصولها خلال سني الطفولة الأولى.
هل لهذه اللقاحات من آثار جانبية؟
هذا ما قد يسأله البعض، والجواب: نعم، ولكن غالباً ما تكون الآثار الجانية
بسيطة ومؤقتة تظهر عادة كحمى لا تتجاوز 36 ساعة أو بشكل ألم موضعي في
مكان الحقنة العضلية، أو ظهور طفح جلدي خفيف لا يستلزم علاجاً، أما بالنسبة
للمضاعفات الرئيسية فهي نادرة الحدوث وأن الضرر الناجم عن اللقاح أقل بكثير
من المضاعفات الناجمة عن الإصابة بالمرض نفسه إذا ما أصيب الطفل به.
إن هذه اللقاحات فعَّالة جداً، فهي تحصن الطفل من المرض بنسبة عالية قد
تصل إلى مائة بالمائة في بعض اللقاحات، لذا فإن تحصين الطفل ضد الأمراض
المذكورة حق للطفل على والديه، فلا يقصران في تأدية هذا الواجب.(46/89)
منتدى القراء
أين التوازن معاشر الخطباء؟
أبو سليمان الشافي
كثيراً ما نجد خطيباً في مسجد ما يثري أفكار جماعة مسجده بموضوع معين
ويبدئ ويعيد حول ذلك الموضوع، ويهمل ما سواه، وكأن المسلمين قد صلحت
جميع أحوالهم وفهموا كل شيء سوى هذا الموضوع الذي لا تكاد تصلي معه في
مسجده إلا ويحدثك عن أهميته وجهل المسلمين به وحاجتهم إليه. أحد الخطباء يتكلم
في كل جمعة عن التبرج والسفور والنساء وخروجهن إلى الأسواق الخ ... وخطيب
مسجد آخر لا تكاد تسمعه يخطب إلا في الموت والجنة والنار والقبر ومنكر ونكير.
وإمام ثالث لا يتكلم إلا عن أعداء الإسلام والغزو الفكري وخطط اليهود. وإمام
رابع يذكر الناس دائماً بشروط الصلاة ووجوب الزكاة وأحكام المسح على الخفين
ويغفل تماماً عن غيرها.
إن الخطبة ما شرعت ليركز من خلالها على موضوع أو موضوعين، بل
شرعت ليتم من خلالها التعليم والترغيب والترهيب والتذكير بجميع ما يهم المسلمين
كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم ومشاكلهم الاجتماعية وعلاج بعض عاداتهم المخالفة
للشرع وتبصيرهم بواقعهم وتعريفهم سبل المجرمين وبيان خطر إهمال النهي عن
المنكر ووجوب الأمر بالمعروف إلى آخر القائمة الطويلة التي يحتاج للحديث عنها
أولئك المتجهون للمسجد الجامع أداءً لفريضة الله تعالى وأملاً في سماع المفيد الجديد.(46/92)
لماذا لا نقبل على المجلات الإسلامية ونساندها؟
عثمان بن محمد الخنين
من الملاحظ أن بعض المثقفين من أهل الخير لا يقبلون على المجلات
الإسلامية في الوقت الذي نجدهم فيه يقبلون على غيرها من المجلات والصحف
بدعوى أنهم يأخذون من تلك الصحف ما يفيد ويدعون ما يضر … وإذا ما ذكرت
عند أحدهم مجلة إسلامية - حيث الفائدة دون الضرر - فإنه يأخذ يعدد أخطاء تلك
المجلة وتقصيرها في أمور معينة. ونقول لهذا الأخ: ولنفرض أنك مصيب فيما
تقول، لكن ألا ترى يا أخي أن الإنسان لا يخلو من العيوب والأخطاء؟ فما بالك
بمجلة يقوم عليها ويساهم فيها مجموعة من الناس وأنا هنا لا أُقر الأخطاء ولكني
أريد أن أؤكد أنه إن كان للمجلات الإسلامية من عيوب فهي قليلة جداً إذا ما قورنت
بعيوب غيرها من الصحف بل لا وجه للمقارنة هنا. وقد يكون ما يُنظر إليها على
أنها أخطاء أو عيوب ما هي إلا الأخذ بأمر اجتهادي أو أمر يقبل اختلاف وجهات
النظر وقد تكون في أمور ثانوية كمسألة الإخراج أو قضية التوزيع..
وإنني هنا أدعو للإقبال على المجلات الإسلامية - أو على بعضها أو إحداها
على الأقل - قراءة وإن أمكن اشتركاً أو مساهمةً فإن في ذلك ثقافة صافية لعقولنا
حيث نجد الموقف الصادق والرؤية الأمينة والتحليل السليم والموضوع المهم ...
كما أن في ذلك أيضاً تشجيعاً ودعماً لتلك المجلات المفيدة وهي الأولى بذلك
من غيرها. ومن المعلوم أنه لا يمكن أن تنجح صحيفة جادة بدون أن يكون لها
قُراءٌ ومتابعون يقفون بجانبها يقدمون الاقتراح الجيد والتوجيه القويم والنقد البناء
والمساهمة التي تضيف إلى الخير خيراً.
وإذا علمنا حجم العقبات التي توضع في وجه المطبوعات الإسلامية،
والتسهيلات التي تمنح لغيرها -على الرغم من أخطاره وعواقبه- أصبح من
الواجب أن يتنادى المسلمون -جماعات وأفراداً- إلى تشجيع كل ما من شأنه
التعريف بالإسلام والدفاع عنه في وجه الإعلام الذي يثير الشبهات ويهدف إلى
تشويه صورة الإسلام بين أبنائه وأعدائه.(46/93)
بريد القراء
* الأخ أبو محمد يقترح على المجلة الإعلان في صفحاتها عن مشروع
للتبرع باشتراكات لقراء آخرين يعجزون عن توفير قيمة الاشتراك في كثير من بقاع
العالم. ذلك أن كثير من الراغبين العاجزين عن الاشتراك وذلك بسبب ضيق ذات
اليد وهذا هو الأغلب، أو يكون بسبب القيود التي تفرضها بعض الحكومات على
تحويل العملة الصعبة.
* البيان: نشكر الأخ أبا محمد على اهتمامه بأمور المسلمين وحرصه على
وصول الخير إليهم. ونحن نضم صوتنا إلى صوته ونعلن هذا في البيان لأن ما
ذكره الأخ صحيح وهناك قراء كثيرون يمنعهم من الاشتراك نظام تحويل العملات
في بلدهم وقد كان من أهداف ذكر الاشتراك الممتاز هو مساعدة مثل هؤلاء.
* الأخ عبد الحفيظ خالد جبريل
شكراً لك على ملاحظتك التي أبديتها حول زاوية طرائف في (البيان الصغير)
كما نشكرك على اهتمامك بالبيان.
* الأخ محمد عبد الله القحطاني
أرسل كلمة قصيرة ينعي فيها على طريقة التعليم في البلاد العربية التي يقضي
فيها الطالب وقتاً طويلاً لا يتناسب أبداً مع كمية المعلومات المقدمة إليه، ولا مع
الاستفادة من هذه المعلومات، خاصة إذا قارنا ذلك مع المدة التي كان يدرس فيها
الطالب في العصور الإسلامية الزاهرة وكيف يتخرج بعدئذ.
* الأخ محمد بوراس
أرسل إلينا مقالة بعنوان (رسالة إلى المسلمة المعاصرة، هؤلاء هم أعداؤك)
نقتطف منها ما يلي:
(إن المرأة المسلمة في ظل الإسلام لا تحتاج إلى شعارات زائفة، ولا إلى
دعوات باطلة، والأجدر أن تكون الحرية التي تنادي بها هي تحرير العقول من
هيمنة الفكر المسموم الذي تحمله التيارات التغريبية وتحرير السلوكيات من آفة
التقليد الأعمى، وإن دعاة تحرير المرأة ما هم إلا حفنة ممن تشربوا الفكر الغربي
وأعجبوا بوضعية المرأة هناك..) .
* الأخ عبد الوهاب محمد عبد الجبار
نرحب بك يا أخ عبد الوهاب والقصة التي أرسلتها بحاجة إلى صياغة أفضل
وننصحك بالإطلاع وكثرة المطالعة.
* الأخ إبراهيم زمل الشمري أرسل مقترحاً:
1 - لم لا تكون هناك زاوية بعنوان علماء المسلمين تُعْنَى بنشر تراجمهم
باختصار وأهم وأشهر إنتاجهم - حيث أن معظم القراء لا يعلمون الكثير عن تراجم
وسِيَر علمائهم.
2 - زاوية أخرى بعنوان (اعرف إخوانك في العالم) تُعنى بنشر الوقائع
التاريخية للأقليات المسلمة في العالم وبعض ما تعرضوا له من ويلات ونكبات مثل
إخواننا في يوغوسلافيا وشرق أوروبا والاتحاد السوفييتي والصين.
ولكم جزيل الشكر.
* البيان: نشكر الأخ إبراهيم على اهتمامه وسيرى في هذا العدد بعض ما
اقترح وهي دراسة ميدانية لأحوال المسلمين في بلغاريا ونعده إن شاء الله بتحقيق
الاقتراح الأول.(46/95)
هموم الدعوة في الغرب
عبد الجبار الطعمة
عندما نلقي نظرة على تاريخنا الإسلامي، وكيف انتشر الإسلام في فترة
وجيزة ليغطي حوالي ثلاثة أرباع العالم القديم، فلا نملك إلا الدهشة والإعجاب
للدور الذي لعبه التجار وغيرهم من الدعاة المسلمين في انتشار الإسلام في البقاع
النائية من العالم القديم.
عندما نحلل بعناية الحقائق التاريخية، نجد أن أولئك التجار والحرفيين
بأسلوبهم التلقائي؛ وبتقواهم واستقامتهم في تعاملهم مع الناس، يختلفون اختلافاً
جذرياً عن أولئك المبشرين الذين يمثلون الأديان الأخرى، والذين يستخدمون
الوسائل الإغرائية والأموال الطائلة ودعم الحكومات والمؤسسات الرسمية وشبه
الرسمية.
إن سر نجاح المسلمين الأوائل في الدعوة، يكمن في كونهم مسلمين بحق، يطبقون الإسلام بصدق على أنفسهم، وينتهجون أسلوب الأمانة في التعامل اليومي
مع كل البشر، وكانت شخصياتهم انعكاساً حياً وصادقاً للإسلام الحقيقي.
هذه هي الوسائل التي كانوا يستخدمونها، والتي جعلت أولئك الذين يحتكون
بهم يحاولون التعرف على ما يؤمنون به، وبالتالي تتكون القناعة التامة لديهم
لاعتناق الإسلام، عن رغبة ملحة، فيأخذونه ديناً حياتياً.
إن على المسلمين الذين يعيشون في الغرب، مسؤولية كبيرة وواجباً صعباً.
إن مهمتهم لا تنحصر فقط في دحض افتراءات المستشرقين وما يقومون به من
تشويه للحقائق التاريخية، ولكن ليتصرفوا كمسلمين حقيقيين، ليكونوا مثالاً ناطقاً
للإسلام. كما كان الأوائل من السلف، وفوق كل ذلك، عليهم أن يحافظوا على
الأجيال الجديدة التي نشأت في الغرب، من عوامل الذوبان من ناحية الدين
والشخصية والهوية. ويجب عليهم أن يجاهدوا في عرض الإسلام الحقيقي على
الجيران والأصدقاء، ومن يحتكون به، عسى أن تمحى تلك الصورة التي خلفتها
العصور السالفة وافتراءات المؤرخين، التي صبغت الإسلام بصبغة ممقوتة لدى
الإنسان غير المسلم.
إن دائرة الضوء التي يجب أن نوجه أنظارنا إليها الآن في الغرب، هي
الأجيال المسلمة التي ولدت في هذه البلدان.
أحد القساوسة الهنغاريين، وجه كلامه في كنيسته، قائلاً للأقلية الهنغارية
التي تقطن أمريكا: (أنتم أيها الهنغاريون في البيئة الأمريكية، كأنكم في جزيرة
صغيرة وسط محيط هائل، وإن الأمواج تعصف بها من كل جانب، وما لم تعملوا
شيئاً لحماية هذه الجزيرة، فإنها ستصبح يوماً ما جزءاً من هذا المحيط الزاخر) .
إن نفس الشيء يمكن أن يقال عن المسلمين في الغرب. إنهم أقلية صغيرة في
بيئة غير مألوفة، وما لم يبادروا إلى المحافظة على قيمهم، فإنهم سيكونون هم
الخاسرين.
إن الصعاب التي يواجهونها الآن ليس مستحيلاً التغلب عليها، ولكنها تحتاج
إلى اهتمام وعناية بالغتين.
فالمشكلة تكمن في عدم الخبرة في فن إبراز الإسلام أو تمثيله التمثيل الصحيح، وأن الكثير من ذلك يعتمد على طريقتنا في تعليم أولادنا الطرق المثلى للقيم
والعادات والتقاليد، فالكثير منا يحاول فرض ذلك بالقوة وهذه طريقة غير مأمونة
العواقب بل لا بد من استعمال الحكمة.
إن طريقة الدعوة للإسلام في البلاد العربية مثلاً، تختلف في بعض جوانبها
عنها في إنكلترا، وإن طريقة الدعوة في إنكلترا، تختلف عنها في أفريقيا.. [ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] .
إننا إذا أردنا أن نعرّف أحدهم بالإسلام، فالحكمة هي الوسيلة لذلك. إن كلمة
الحكيم في اللغة العربية والتركية والفارسية والأردية، وبعض اللغات الأخرى،
تعني الطبيب. والطبيب الحاذق هو الذي يشخص الداء، ويعطي الدواء المناسب
لكل علة، ولو أنه أعطى لكل المرضى نفس الدواء، لشفي البعض، وبقي البعض
الآخر عليلاً، وربما مات بسبب الدواء. عندما يدعونا القرآن الكريم إلى استعمال
الحكمة في الدعوة إلى الله، فإن هذا يعني التمييز في وسائل الدعوة، حسب
الظروف والأحوال والأمكنة والأشخاص.
علينا أن نحلل الأشخاص أمامنا ثم بعدها نقرر طريقة الدعوة لكل واحد بما
يلائمه.
في البلاد الإسلامية، يقوم الخطيب أو الداعية، أحياناً، وبنية حسنة طبعاً،
بتقريع الناس، والنحو باللائمة عليهم، ولكنهم يتقبلون ذلك بصدر رحب وهم
مدركون أن هذا الانتفاد أو التقريع، إنما جاء لحرص الخطيب أو الداعية على
هداية الناس - إلى الطريق الأصوب، أما إذا ما استعملت الطريقة ذاتها في الغرب، فإن الداعية سوف يسمع كلمات تدل على أنه تعدى حدوده وأثار مشاعر الآخرين،
وحتى من أولئك الشباب اليافع الذي يرى أنه يعيش في مجتمع حر، وأن هذا
الخطيب أو الداعية قد جرح شعوره، وأثار حفيظته. من هنا تأتي ضرورة التفريق
بين هذا وذاك في انتهاج أسلوب الدعوة، لأن الناس ليسوا على نفس الشاكلة.
إن الداعية في الغرب، يواجه مهمة صعبة للغاية، أما في البلدان الإسلامية،
فإن الناس، على الأغلب، مشتركون في الانضباط الإسلامي والقيم الخلقية، وعلى
مستوى معين. وبعكس أولئك الذين يعيشون في الغرب، وفي إنكلترا بالذات، فإن
الداعية يتعامل مع خلفيات متشعبة جداً من حيث العادات والتقاليد والأعراف
واللغات والاتجاهات المذهبية والعرقية. إن كل هذه الاختلافات يجب أن توضع في
الحسبان وتحلل وتهضم ثم توجه الدعوة، وبوجود مثل هذه القاعدة العريضة
والمتشعبة، فإن الهداية إلى طريق الله تعالى، تأتي بعد ذلك من الله وحده، لمن
أراد هدايته.
إن على الآباء والأمهات في الغرب أن يكونوا حذرين في كيفية توجيه النصح
والتعامل مع أبنائهم إذ من الممكن أن يفقدوهم، حيث أن النظام الاجتماعي يسمح
لهم بالتمرد والعيش بمعزل عن الأهل حيث يتم إيواؤهم من قبل واجهات النظام
الاجتماعي، فيعيشون بعيدين عن جو العائلة الإسلامي، وتكمن الخطورة في
اندماجهم برفقاء السوء، وانصهارهم في محيط المجتمع الزاخر.
إن الإسلام كذلك يضمن للأبناء أن يحيوا حياة تحقق لهم العيش بكرامة وحرية، ضمن الأطر الإسلامية، داخل البيت وخارجه.
عندما يعطي القرآن الكريم ثلاثة طرق للدعوة وهي: استعمال الحكمة أولاً،
ثم الموعظة الحسنة، ثم المجادلة بالتي هي أحسن، فإننا على الأغلب نجادل أكثر
بكثير مما يجب، ونحاول التركيز في جدالنا على الاختلافات الطفيفة في المسائل
الفقهية، بينما الواقع يقول بأن هذه الاختلافات، لا تحمل تناقضات في الدين. إن
الجدال بشكل عام، لا يخلق إلا الفتنة والنزاع، ويضيع كثيراً من الجهود المخلصة
والهادفة، وكثيراً من العمل البناء الدؤوب، وإننا لنشهد الكثير من هذه الممارسات
الخاطئة يومياً.
إن البعض يتعامل في أمور الربا ويصرف الأموال الطائلة على أشياء كمالية، ولا يؤدي الفرائض المطلوبة كالزكاة، والحج، ولكنه يناقش إن كان اللحم الذي
يأكله قد ذبح على الطريقتة الإسلامية أم لا، إن مثل هذه التصرفات تقوى مزيفة،
ينعكس خطرها على الأجيال التي نقوم بتربيتها.
إن أكبر همنا أن لا يتزوج أولادنا من غير المسلمين، محاولين ضمان
مستقبلهم بإرسالهم عند نهاية عطلة الأسبوع، إلى المدارس الخاصة لتعليم العربية
أو الأوردية وتحفيظهم القرآن الكريم وتعريفهم بأمور دينهم، ثم نسرع الخطى بعدها
إلى الانغماس في الدنيا، ولا نطبق الإسلام على أنفسنا، سواء داخل البيت أم
خارجه. إن الأطفال لا يمكنهم تعلم الكثير بهذا الأسلوب بقدر ما يعلمهم التقليد
اليومي في البيت وأهلهم هم الأولى أن يعكسوا التصرف الإسلامي اليومي.
إن علينا إذا أردنا أن يكون أولادنا مسلمين بحق - أن نكون مسلمين بحق.
إذا كان لديك طفل يبلغ سنتين من العمر ورآك تصلي، صلى معك بتلقائية
وعفوية، وسوف يأتي بعدها الفهم التدريجي. إن التقليد دائماً يولد الفهم ... هذه
هي الطريقة المثلى، والتي تبدأ من أشياء صغيرة، قد نحقرها، إلا أنها الأساس
الذي تبنى الأجيال الإسلامية عليه.
إننا نحاول أحياناً أن نحمل الأطفال ما لا يطيقونه.. يجب أن نعلمهم القراءة
والكتابة بأناة وحكمة، ولو حاول الآباء صرف بعض الوقت، وباستمرارية وصبر، لآتت الثمار أكلها ومن ثم يأتي التعليم الأكثر عمقاً.(46/97)
كيف تبني نفسك تربوياً؟
عبد الله بن مبارك آل السيف
أهمية الموضوع:
مر المسلمون في الفترة السابقة بمرحلة كانت الحاجة فيها إلى الدعوة والتربية
أكبر من تحصيل المادة أسوة بالمرحلة المكية التي ركز الرسول -صلى الله عليه
وسلم- جهده فيها على توسيع رقعة الدعوة وتربية الأفراد مع قلة التكاليف والأحكام
الشرعية، ولهذا كان بعض المربين قد أهمل نفسه في الجانب العلمي.
وبعد أن توسعت رقعة الدعوة وكثر سواد المهتمين بالإسلام وكسبت الدعوة
رصيداً كبيراً في الشارع الإسلامي وهي المرحلة التي يمكن أن تشبه بالمرحلة
المدنية - في بعض الجوانب - في هذه الرحلة ظهرت الحاجة إلى البناء التربوي
الجماعي - لا الخاص.
إن الحاجة إلى العلم الشرعي في بناء العمل الإسلامي تنبع من ضرورة السير
على منهج الكتاب والسنة، كما تنبع من تعطش الشباب المسلم إلى العلم الشرعي
الصحيح وتقويم مسيرتهم على أساسه ووزن الناس بميزان الشرع.
ولذا فإن الدعاة الأكثر تأثيراً في الجيل القادم هم أكثر الناس حصيلة شرعية
وتربوية، فلا يغني أحد الجانبين عن الآخر، ولذا كان هذا الموضوع في أساليب
البناء التربوي والعلمي.
الجانب التربوي:
هناك عدة أساليب لبناء شخصية الداعية التربوية وتنمية قدراته الدعوية
وزيادة خبراته وتجاربه منها:
1 - قراءة كتب التفسير وخاصة في مجال دعوات الأنبياء وصبرهم وتحملهم
وأساليبهم في الدعوة وتربية أتباعهم من المؤمنين، ودراسة أحوال الكافرين ومعرفة
صفاتهم وطبائعهم وعاداتهم في التعامل مع الدعوات الصادقة من خلال القرآن
وتفسيره.
2 - قراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والاسترشاد بحرصه على
تبليغ الدعوة ودراسة أساليبه في البلاغ وطريقته في تربية الأتباع واستغلاله لكل
المناسبات في التربية والدعوة من خلال القرآن والسنة.
3- قراءة سيرة السلف الصالح في تربية النفوس وكيفية تزكيتها وحملها على
الخير والطاعة والمصابرة في ذلك، وطريقة الصحابة في تبليغ الإسلام إلى
الأمصار المفتوحة وكيف استطاعوا تربية الآلاف المؤلفة من الداخلين في الإسلام
بالقدوة الحسنة وكيف نقلوهم إلى هذه المرحلة الإيمانية العالية.
4 - قراءة كتب الدعوة التي تعنى بالأساليب وتحديد الأهداف وبلورة المنهج
الدعوي وخاصة من الموثوقين أهل السنة والجماعة أصحاب المنهج السليم. كما أنه
يمكن الاستفادة من منهاج غيرهم - بحذر - في القضايا المشتركة التي أبدعوا فيها.
5 - العمل في مجالات الدعوة العامة الخاصة له أثر كبير في بناء شخصية
الداعية، وكلما كانت دعوته أوسع كلما كانت شخصيته أقوى تربوياً، وبذلك تزيد
خبرته الدعوية، وكم من الناس قليل القراءة في مجال الدعوة والتربية ولكنه يثير
إعجابك به في هذا المجال وتتملكك الدهشة منه، والسر في ذلك كما قلت الحركة
المباشرة وكما يقال: (حَرِّكْ تَرَ) .
6 - قراءة كتب الرقائق والوعظ وتهذيب السلوك والتذكير بالله والتخويف من
عذابه والتي تحث على مراقبته وخشيته ورجائه والاعتماد والتوكل عليه والإخلاص
له والتجرد في القول والعمل والاعتقاد له.
الجانب العلمي:
ويشمل تحصيل العلم الشرعي وبناء الحصيلة الثقافية العامة ومعرفة الواقع.
وهنا أمور ننبه إليها قبل ذكر أساليب القراءة منها:
* الفنون الصعبة تقرأ في أوقات الصفاء الذهني، والكتب السهلة تقرأ في
الأوقات الأخرى.
* لا تقف عند المسائل الصعبة إذا تعسرت - خلال القراءة - حتى لا تضجر
من القراءة، واعرضها على شيخ فيما بعد أو ابحثها.
أساليب القراءة:
1 - قراءة كتب معينة في العلم على الشيخ أو شرح الشيخ لها.
2 - قراءة الكتاب كله مع الإشارة إلى ما يشكل ثم عرضه على شيخ بعد
الانتهاء.
3 - طريقة بحث المسائل من أول باب في الفقه إلى آخره مع معرفة الراجح.
4 - طريقة قراءة متن في العلم ثم قراءة شرحه والتوسع في الفن.
5 - طريقة قراءة كتاب الطهارة من الفقه مثلاً ثم قراءة كتاب الطهارة من
الحديث ثم من القواعد الفقهية - عند من يرتبها على الأبواب الفقهية - ثم من
تخريج الفروع على الأصول وهكذا بالربط بين العلوم.
6 - طريقة تلخيص ما قرأه في يومه ثم قراءة الملخص في الليل ومحاولة
حفظه ومراجعته في الصباح.
7 - طريقة القراءة مع استنباط الفوائد وترتيبها وكتابتها في أوراق خاصة
لتكوين مشاريع تأليف طويلة المدى، أو بتعليق النكات العلمية المهمة في غلاف
الكتاب أو نقلها إلى حواشي كتب أخرى تناسبها.
8 - طريقة القراءة مع الآخرين مع الحوار والنقاش.
9 - طريقة تلخيص الكتاب كله ثم قراءة التلخيص عدة مرات.
10 - طريقة قراءة الكتاب كله مرة واحدة وعدم تجزئته أو الانشغال بغيره.
11 - طريقة استصحاب الكتب الصغيرة الجيدة في كل مكان وزمان وقراءتها
للحفاظ على الوقت - خاصة مع سهولة حملها.
12 - طريقة ترتيب العلوم بحسب السنوات، فمثلاً: السنة الأولى للعقيدة
والسنة، التي بعدها للفقه، ثم التي بعدها للحديث، أو يجمع في السنة الواحدة بين
علمين مترابطين فأكثر، ثم ينتقل إلى علوم غيرها وهكذا.(46/102)
الورقة الأخيرة
قصة وعبرة
محمد الحسيني
في معهد تدريس اللغة الإنكليزية وفي مادة تقدم لتطوير القدرة على الكلام
تحلق الطلاب الأجانب من عرب وآسيويين ومن جنوب أمريكا حول المدرس الذي
بدأ حديثه بإعطاء وصف لطريقة تقديم الكلمة أو الخطبة، وضرورة البداية بكلمة
جامعة تلمح إلى الموضوع، ثم الدخول في تحديد واضح له ثم إعطاء فكرة عن
موقف المتكلم من القضية التي يريد نقاشها، ثم عناصر الموضوع وسرد الأفكار
وأدلتها. وكان موضوع الحديث: الكلام عن الخمر وأضرارها الشاملة للفرد
والمجتمع، ومع المدرس الكتاب المنهجي الذي يساعد على طريقة التدريس، وفيه
مثال كامل للكلمة المطلوبة، وفيه أدلة إقناع بأخطار الخمر حيث تسبب موت مئات
الآلاف من الناس، وتكاد تكون السبب الأول للموت في أمريكا من حيث الأسباب
المباشرة لحوادث السيارات أو الموت البطيء؛ لما تسببه من أمراض عصية تُميت
ببطء. وبدأ المدرس درسه أو كلمته في الموضوع وبحماسة ظاهرة لأخطار هذا
المرض، واتبع الأسلوب المطلوب في العرض وكان مقتنعاً بما يقول.
ثم أمر الطالب الأول بالحديث عن الخمر حيث تحدث طالب مسلم مؤكداً فكرة
المدرس وأن الخمر مفسدة للحياة مدمرة للخلق ولم يزد عما قاله المدرس لضعفه في
التعبير عن رأيه ولأنه مبتدئ في تعلمه الإنكليزية. ثم تحدث بعده طالب مسلم آخر
وقرر ما سبق أن قرره الأستاذ والطالب الأول، وكان هدفه مجرد الكلام ليتمرن
على الإنكليزية لا للإقناع..
وفجأة وقبل انتهائه من حديثه انفجر المدرس غضباً واحمر وجهه بما يشير
إلى سخط عظيم وقال: إنكم تتحدثون عن الخمر وفساده بعاطفة دينية ولا تناقشون
القضية بأسلوب علمي، إن الدافع الديني يحرككم لهذا الموقف الغريب الخاطئ تجاه
الخمر وشربها وموقفكم من الخمر خطأ فادح حيث الخمر مفيدة للصحة، وطبيبي
الخاص ينصحني بأن أشرب كأساً من الخمر على كل عشاء! فما كان من الطلاب
إلا أن التقت أبصارهم يتبادلون ألحاظ السخرية والاحتقار لهذا المدرس الغبي الحاقد
الذي كذّب العلم والعقل والكتاب الذي يقرؤونه، وكذب نفسه أخيراً في حديثه
الافتتاحي عن مصائب الخمر، وكذب تاريخ أمريكا وتاريخ البشرية كله بما سجل
عن هذا الشر العريق. والسبب الذي دفعه إلى هذا أن الطالبين كانا مسلمين يبدو
عليهما التدين الذي يدرك المدرس علائمه من سلوكهما المترفع من بين طلاب
المعهد، ويدرك أنهما يكرهان الخمر ويحتقران أهلها لأن الله حرمها. وأما العلم
والعقل فقد حرمها وحرمتها أمريكا سنة 1930 فلم تستطع التنفيذ وتحولت البيوت
إلى مصانع للخمور وكثر القتلى والمسجونون والمطاردون بسببها.
لقد كان المدرس يريد من الجميع التأكيد على نقد الخمر ونقد السكارى، ولكن
حين أحس بالنقد الآتي من الدافع الديني فقد عقله وتحول إلى شخص متناقض من
شدة كراهيته للإسلام.
ليس الغريب أن يقف هؤلاء هذا الموقف مما يخالف آراءهم ويثير تعصبهم؛
ولكن الغريب أن يتأثر بهذه الروح كثير من المسلمين الذين يقبلون النقد من جميع
الجهات غير المسلمة ولا يقبلونه من إخوانهم في العقيدة، فتجد حرباً شعواء تعلن
على من يلفت نظرهم إلى أخطائهم وعيوبهم من المسلمين الذين يستشهدون بـ
(قال الله، وقال رسوله) .(46/106)
رجب - 1412هـ
يناير - 1992م
(السنة: 6)(47/)
الافتتاحية
رهائنهم ورهائننا
ماذا يعنينا من موضوع الرهائن الذين يطلق سراحهم في بيروت، واحداً بعد
الآخر، وهل لنا في قضيتهم قول ما دمنا لم يكن لنا قول في ارتهانهم، ولا شأن في
إطلاقهم؟ !
نعم، إن لنا لشأناً في ذلك من جهة أن المنطقة التي جرت فيها فصول هذه
المسرحية هي بلادنا - بلاد المسلمين - بل ولأن هذه المسرحية قد تمت في جانب
منها باسم الإسلام. ثم لأن هذه القضية لها تعلُّق شديد في مظهرها وما تشير إليه:
بقضية الحرية حرية المسلم في بلده وأرضه التي ورثها عن آبائه وأجداده الذين
رووها بدمائهم وعرقهم، قضية الحرية التي تشغلنا ليل نهار، سراً وجهراً، ويجب
أن تشغل كل مسلم، وتصرفه عن كل شيء، إذ كل شيء يقصر عن مكانة الحرية، وكل ما يسعى له البعض لا قيمة له ولا ثمرة إذا كانت الحرية غائبة أو مفتقدة.
لقد راقبنا بداية ونهاية هذه المسرحية، من مكان يؤهلنا لتقويمها والحكم عليها
أكثر من غيرنا، فلسنا نحكم عليها حكماً منغلقاً ينتمي إلى أحد طرفيها، وحكمنا
عليها ليس أسيراً لمقتضيات المكان الذي جرت عليه - إذ نحن لا نعيش فيه - ولا
المكان الذي نعيش فيه - إذ نحن لا ننتمي إليه، ولا هو يقبل انتماءنا إليه - فنحن
ضحية المكانين والعقليتين اللتين تصرِّفان الأمور فيهما. وكل ما يُرتكب على
الأرض الإسلامية مما يسبِّب أدنى ألم لغير المسلمين يحمّل الإعلام الغربي وزْره
المسلمين جميعاً - اشتركوا فيه أو لم يشتركوا، رضوا به أو كرهوا، أو أُكرهوا
عليه، علموا به أو لم يعلموا. وكل ما يحمد من الأقوال والأفعال - من وجهة نظر
هذا الإعلام الذي يسميه الناس - خطأً - حراً يُبْحَث من مصادر له غير إسلامية،
أو يختلق له ذلك اختلاقاً، وإلا تُجُوهِل وأُخفي:
إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أَذِنوا [1]
لم تحقق هذه المسرحية شيئاً يُذكر لمن نفذوها - اعتراف من لهم صلة بهم
على الأقل - ولسنا ندري: ماذا كان يرجو هؤلاء من ورائها؟
لكن، نعم، لقد حققت هذه المسرحية الكثير. فقد استفادت بعض الأطراف
المشاركة منها مادياً ومعنوياً، وأعادتها إلى (سوق البيع والشراء العالمي) بعد
عزلة، وجرت صفقات هنا وهناك لا يعلمها إلا الله ثم الراسخون في العلم! وحققت
شيئاً ثميناً للممثلين المشاركين فيها، فقد زاد سعار الإعلام الغربي تحامله وهجومه
على (السلوك المسلم) واتخذ منها مادة يبدئ في الحديث عنها ويعيد كلما أعوزه
موضوع. يبقي الصراع بين الإسلام من جهة والعالم المتحضر! ! من جهة أخرى
حياً في الذاكرة، وجرحاً نزَّازاً يذكّر رجل الشارع غير المسلم بوحشية المسلمين،
وأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، ولا سبيل إلى إصلاحهم إلا بإبادتهم - أو على الأقل -
بإبقائهم عبيد العصا [2] .
إن المراقب لهذه القضية يعجب لبعد المسافة التي تفصل بين المسلم العادي
وبين أبسط حقوقه بالمقارنة مع الفرد في هذه البلاد الغربية، ويطرح الإنسان
العادي أسئلة بسيطة على نفسه من مثل:
* ما الذي جعل هذه القيمة الكبيرة لإنسانهم، وهذه القيمة المهينة لإنساننا؟
آلدين؟ أم اختلاف الطبيعة؟ أم الجغرافيا والمناخ؟ .
* كيف الخروج مما نحن فيه من مهانة وضياع، وتحويل هذا الكثير من
الكلام إلى قليل من الفعل المثمر؟
* كيف السبيل إلى جعْل خطوات المسلمين في أوطانهم متوافقة مع ما يريده
حكامهم، ورغبات حكامهم مساندة لآمالهم وتطلعاتهم؟
وأسئلة كثيرة تتدافع كلما طرق سمع المرء شيء له صلة بمشكلة الرهائن،
وما أكثره!
لقد أقضّت هذه الأسئلة وأمثالها مضاجع الكثيرين ممن يهمهم أمر المسلمين منذ
احتكاكهم بالغرب ومحاولتهم كشف الأسرار الكامنة وراء هذه المفارقات، ولا نظن
أننا سنأتي بجديد إذا قلنا: إن حياة هذا الغربي قد توحدت بجملة قضايا وأهداف
يمثلها له وطنه. وانسجمت خُطاه مع خطا النظام - ولا أقول: الجماعة - الذي
يسيّر أمور هذا الوطن، لذلك تجد هذا الوطن يتجاوب معه إذا حصل له مكروه
خارج بلاده مهما كان عليه سلوكه وشخصيته، قد يكون لصاً محترفاً أو مخادعاً
كبيراً، أو تاجراً، أو مغامراً غريب الأطوار، أو أفاقاً وضيعاً لا قيمة اجتماعية له، أو جاسوساً ... ولكنه عندما يصيبه مكروه أو تتعرقل له مشاريع تجد الذين يهبّون
لنجدته من بلاده كثيرين، والذين يغضون الطرف عن حماقاته وسيئاته أكثر، فإن
انقطعت به السبل - حيث لا يستطيع أن يظفر بواحد من بني جلدته - فإن سفارات
الدول الصديقة - ولا نقول: الشقيقة، فهذه خاصة بالبلاد العربية! - مفتحة
الأبواب أمامه، يقابل من شاء فيها، ويتكلم بما يشاء دون خوف أو تردد، لا تلفظه
الأعتاب، ولا تحمرّ في مواجهته الحَدَق. وهبْه جرّب قسوة أو تعرض لإهانة في
نفسه وجسمه، فما هي إلا فترة وتمر، طالت أم قصرت، فالدولة وراءه، وكذلك
الجمعيات الخيرية، بل وجمعيات تنشأ خصيصاً له، تذكر الناس صباح مساء أن لا
ينسوا اسمه، بالصحف والأغاني وبطاقات العيد، والإعلانات والحفلات،
والصلوات في الكنائس، حتى (ينطبل) [3] العالم بقصته، فيُفرج عنه، ويخرج
معززاً مكرماً محاطاً بالحراسة كأنه جوهرة فريدة أو درة يتيمة يخشى عليها من
الضياع ويخاف عليها من نسمات الهواء، يتزاحم المراسلون وآلات التصوير عليه، والسعيد منهم من يظفر منه بجملة أو بسمة يلتقطها ليسجل بها سبقاً صحفياً يشتهر
به ويكتسب منه ترقية ... أما في بلادنا فينال هذا الرهينة الأجنبي مكانة هي فوق
البشر وتحت (الفرعون) وما ينتظره في بلاده من تدليل واهتمام شيء يعز على
الوصف، وهكذا تتحول تجربته القاسية إلى مغامرة ممتعة، يتذكر فصولها
وتفاصيلها بشيء من الزهو والاعتزاز، ويكتب عنها كتاباً يدخل فيه التاريخ من
أوسع أبوابه، وتتزاحم دور النشر على الدفع له ما يريد حتى يأذن لها بنشره.
هذه حال رهائنهم، يسخَّر لهم كل شيء من أجل أن يظل العالم يتذكرهم،
ويحولهم الإعلام إلى مشكلة عالمية، لا مشكلة بين إرهابيين وجهة رسمية فقط،
يقف العالم كله على قرنه حتى تحل هذه المشكلة..
فماذا عسانا نقول لو أردنا أن نصف حال رهائننا القابعين في ألف سجن
وسجن، وألف دهليز ودهليز، هل يذكرهم أحد، وهل يجرؤ على التفكير بهم ذو
عقل؟ كم عددهم يا ترى؟ هل جرب مرة أحد أن يحصيهم؟ منظمة العفو الدولية؟
منظمات محلية مثلاً؟ ولو نوت ذلك؛ هل تستطيع؟ !
لنأخذ واحداً من هؤلاء الرهائن الأغفال المنسيين، هل نسميه؟ لا نقدر! ؛
لئلا يساق أهله أو من يحفظ اسمه -مجرد حفظ- إلى السجن ويلقوا المصير نفسه،
أو عندها نكون حمقى لأننا عالجنا المنكر الصغير بمنكر أكبر!
لا تسلْ عن جناية هذا الرهينة، ولا كيف حُقق معه؟ كيف حوكم؟ وأين؟
ومتى؟ وما الحكم؟ أستغفر الله لقد نسينا أنه رهينة! هل هناك (عنترة) أو (زير)
في طول العالم العربي وعرضه يفتخر ويجاهر بأن له قريباً يقبع في السجون ...
لرأي رآه؟ ! ، إن الرهينة في عالمنا المنكوب تتعداه النكبة إلى أقربائه من الدرجة
الأولى والثانية والثالثة؛ فيصبحون مشبوهين ولو تنصلوا من فَعلته بشتى الأساليب، ولو تنكروا له بالسب والقذف والتضييق والوشاية لتبييض صفحاتهم. لو خلّف
هذا الرهينة أطفالاً وزوجة أو أبوين كبيرين لا عائل لهما غيره، ومر بهؤلاء مَن
توجع لحالهم وحرّكته النخوة القومية (لا الإسلام!) للتفكير في إغاثتهم لا لأنهم بشر؛ بل لأنهم من ذوات الأكباد الرطبة..! هل تراه يسترسل في هذه التداعيات إلى
نهايتها؟ ! أي إلى مد يد العون لهم؟ لا شك أنه سيقطع هذا الاسترسال فور أن
ينتبه إلى حقيقة أنهم معتقلون بتهمة الرجعية أو التعصب، وهل في قوانين العرب
ما أصبح أكبر من هذه الخيانة؟ ! فيخاطب نفسه: (ابتعد عن الشر) تالياً قوله -
تعالى -: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] .
في بلادنا لا يفكر ذوو الرهينة أن يسألوا عنه مجرد سؤال: أحي هو أو ميت؟ أيبقى سنة أم عشرين؟ بل لا يحب هؤلاء أن يدري أحد بمشكلتهم، ولو أن
(مغفلاً) لا يقدر العواقب ذكر اسم صاحبهم لرمقته العيون برعب أن: اسكت ويلك!
وأردفت الألسنة بالتقريع واللوم لصاحب الاسم المذكور والتبرؤ منه لأنه جلب لهم
الشقاء والبؤس.
في بلادنا يخرج الرهينة - إن خرج - يتوارى من الناس، ولا يحب أحداً أن
يراه. هذا إن كان سوياً لم يُصَبْ بعاهة جسمية أو نفسية، أو بهما كليهما! يشك
في نفسه وفي أهله وفي أصدقائه، في كل مَن حوله، كم في بلادنا من مشوَّهي
النفوس؟ قد يقرأ كلامي هذا مَن يراه متشائماً يعكس حالة خاصة لفرد أو أفراد
قلائل، بينما الكثرة تعيش في بحبوحة، وتتقلب في أعطاف السعادة، وأقول: نعم، هناك آلاف تُنفق، وضحكات تعلو، ولكن الأكيد أن هؤلاء الضاحكين ضائعون
عن أنفسهم من كثرة معاناتهم من الازدواجية في حياتهم، ومن شدة وطأة (الباطنية)
التي طبعت كل شيء بطابعها؛ الناس والمجتمعات والماضي والحاضر والمستقبل.
ليس الرهائن الذين لا يُدرى عددهم في بلادنا هم الذين يهددون مجتمعاتنا
بجعل التشويه النفسي ظاهرة يصعب علاجها؛ بل إن المجتمع كله يعيش هذه الحالة: الطليق والأسير.
إن مشكلة (رهائننا) ليست مقصورة عليهم وحدهم ولا يعانون هم وحدهم من
نتائجها بل هي مشكلة مجتمع عريض بأسره يراد له أن يتفتت ويتحلل ويندثر.
إن مفهوم الوطنية طارئ علينا - نحن المسلمين - ويطلب منا أن ندين لهذا
المفهوم بالولاء، ونفرغ قلوبنا من أي ولاء يزاحمه. ولكن هل تراكمت تجارب
قرن من الزمان ضماناً للمسلم كي يعيش حراً آمناً في سربه؟ لقد قاسى آباؤنا المر
بحجة تأجيل حل المشاكل حتى يخرج الاستعمار الغاصب، وتجرعوا وتجرعنا
معهم العلقم على مدى جيل كامل بحجة الإعداد لمعركة تحرير فلسطين وطرد
الصهيونية، وانتهينا إلى هذه النهاية المحزنة.
هل سيمكن زرع الولاء في القلوب بالعصا، وكيف يبني العبيد أوطاناً؟ لا
وطن بدون حرية، وما أرخص الأرض التي يهان فيها المرء، ولا يجد فيها الأمن
والاستقرار.
__________
(1) أذنوا: استمعوا.
(2) يُضرب هذا المثل للقوم إذا استُذلّوا، وهو اسم لكل ذليل تابع.
(3) ينطبل: من العامي الفصيح لم نجد فعلاً يؤدي معناه، فاخترناه.(47/4)
آية من كتاب الله
[مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً
واللَّهُ يَقْبِضُ ويَبْصُطُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ] [*]
والتعبير عن الإنفاق - الذي يُشعر بحاجة المستقرض إلى المقرِض عادة -
جدير بان يملك قلب المؤمن، ويحيط بمشاعره، ويستغرق وجدانه؛ حتى يسهل
عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياءً منه، فكيف وقد وعد برده
مضاعفاً أضعافاً كثيرة ووعده الحق؟ هذا التعبير بمثابة الهز والزلزال لقلوب
المؤمنين، فقلب لا يلين له ويندفع به إلى البذل قلب لم يمسه الإيمان. ولم تصبه
نفحة من نفحات الرحمن. قلب حاوٍ من الخير، فائض بالخبث والشر، أي لطف
من عظيم يداني هذا اللطف من الله - تعالى - بعباده؟ جبار السماوات والأرض
رب كل شيء ومليكه، الغني عن العالمين، الفعال لما يريد، المقلب لقلوب العبيد، يرشد عباده الذين أنعم عليهم بفضل من المال واختصهم بشيء من النعمة - إلى
مواساة إخوانهم بما فيه سعادة لهم أنفسهم ولمن يعيش معهم، ويهديهم إلى بذل شيء
من فضول أموالهم في المصالح العامة التي فيها صلاح حالهم، وحفظ شرفهم
واستقلالهم، فيبرز هذا الهدي والإرشاد في صورة الاستفهام، دون صيغة الأمر
والإلزام، ويسمي نفسه مقترضاً ليشعر قلب الغني بمعنى الحاجة التي ربما تصيبه
يوماً من الأيام، ثم هو يعده بمضاعفة ذلك العطاء، أيكون هذا اللطف كله منه بعبده
الذي غمره بنعمته، وفضَّله على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب هذا العبد وتنقبض
يده، لا يستحي من ربه، ولا يثق بوعده، ويقال مع هذا إنه مؤمن به، وبأن ما
أصابه من الخير فهو من عنده؟ ! كلا، مثّل في نفسك ملكاً من ملوك الدنيا يريد أن
يجمع إعانة للفقراء أو لمصلحة من مصالح الدولة، وقد خاطبك بمثل هذا الخطاب،
في التلطف والاستعطاف، ومثل في خيالك موقع قوله من قلبك وأثر كلامه في يديك.
أما كون القرض حسناً فالمراد به ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما وضع
موضع الفخفخة وقصد به الرياء والسمعة. ومن الناس من ينفق في الصالح بنية
حسنة ولكن بغير بصيرة تريه مواطن المنفعة بنفقته، فيبني مسجداً حيث تكثر
المساجد فيكون سبباً في زيادة تفرق الجماعة وذلك مخالف لحكمة الشرع، أو يبني
مدرسة ولا يحسن اختيار المعلمين لها، أو يفرض لها من النفقة ما لا يكفي لدوامها
فيسرع إليها الخراب، أو يضع فيها معلمين فاسدي الاعتقاد أو الآداب، فيفسدون
ولا يصلحون، فمثل هذا لا يقال له قرض حسن، وإنما يكون الإنفاق قرضاً حسناً
مستحقاً للمضاعفة الكثيرة، إذا وضع موضعه مع البصيرة وحسن النية، ليكون
على الوجه المشروع من إقامة الدين، وحفظ مصالح المسلمين، أو منفعة جميع
الأنام، من الطريق الذي شرعه الإسلام.
تفسير المنار 2/466
__________
(*) [البقرة 245] .(47/10)
من صفات الطائفة الناجية
في الكتاب والسنة
د. سليمان العايد
خلق الله البشرية أول خلقها مؤمنة بربها، موحدة له. قال الله - تعالى -:
[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ
الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [البقرة: 213] .
وقال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم،
فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» رواه مسلم.
وآمن مع كل رسول أفضل أهل عصره، وخير أتباعه، وحملوا هذا الدين
ليبلغوه، وبذلوا ما استطاعوا لنصرته وتأييده. ثم حدث لكل أمة انحراف وضلال
عن نهج رسولهم. فاختلف الأتباع، وتعددت مذاهبهم. وزاغ أكثرهم عن طريق
الحق طريق الأنبياء والرسل. وكان من الصعب إعادة تلك الأمم وجمع تلك
الطوائف على كلمة الحق الواحدة، للتحريف الذي وقع في كتبهم، والتغيير الذي
أُحدث في أديانهم، فلم يبقَ لديهم أصل سالم من العبث يرجعون إليه، ولا قانون
محكم يتحاكمون إليه، فاتسعت الهوة، وعظمت الشقة، فلم يزدادوا إلا انحرافاً،
وأنَّى لمن فقد الأصل الصحيح أن يعود إلى الحق؟ !
وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن افتراق هذه الأمة، فقال:
«افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» رواه الحاكم عن أبي هريرة، وصححه وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي
الجماعة» أخرجه أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم، وجاء في بعض طرق الحديث، عن عبد الله بن عمرو: «إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة، فقيل له ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
فالصفة الجامعة لأوصاف هذه الطائفة أن يكونوا مثل الصحابة، أن يكونوا
على ما كانوا عليه من الاعتقاد والعمل، والأخلاق، وغير ذلك من صفاتهم..
وهذه هي الجماعة المنصورة التي أخبر عنها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم،
ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس» . رواه الشيخان
وأحمد وقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم
حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك» . رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن ثوبان.
وهذه الطائفة لها أوصاف وسمات، تنزَّل بها الكتاب، ونطقت بها السنة،
وأُسُّ هذه السمات، وركن هذه الصفات هو الاعتقاد الصحيح في الله، وما يجب له
وأسمائه وصفاته، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله
واليوم الآخر، وما أعده لعباده المؤمنين من نعيم، وما توعد به الكافرين من عذاب
مقيم، والإيمان بما قضى الله وقدر، من خير أو شر، حلوه ومره من الله وحده
[إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر: 49] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا
على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام،
وجفت الصحف» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وعند غيره:
«واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك» وهذه هي أولى صفات الأبرار؛ قال -تعالى-: [لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ] [البقرة: 177] .
وهذه الصفة لا تتحقق إلا بسلوك منهج الصحابة في الإيمان: إيمان بلا شك،
وقبول بلا تردد، وتسليم بلا كراهة، وإذعان للأمر، واجتناب للنهي.
هذه هي الصفة التي إذا استقامت وصحت استقامت بقية الصفات، وباقي
السمات والأوصاف فروع منها، ومبنية عليها.
والكتاب والسنة قد بينا صفات هذه الطائفة، وأوضحا سماتها في مواضع
كثيرة، منها قوله - تعالى -: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ
ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
وقال الأوزاعي: (خمس كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لزوم الجماعة، واتباع السنة وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، وجهاد في سبيل
الله) .
وإن من صفات هذه الطائفة:
1- طلب العلم والاشتغال به.
2- لزوم السنة والعمل بها.
3- الاجتهاد في الطاعات.
4- الجهاد في سبيل الله.
5- الدعوة إلى الخير.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7- النصح لكل مسلم.
8- موالاة المؤمنين.
ونخص في الصفحات الآتية بعض الصفات بحديث مقتضب.
طلب العلم والاشتغال به:
لا عمل في الإسلام إلا بعد علم لقوله -تعالى-: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ
واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] [محمد: 19] ، فبدأ بالعلم ثم أمر بالعمل.
والعلماء هم أصحاب القيادة والتوجيه في الأمة، والمسؤولون عن تركة
الأنبياء (العلم) ، والقائمون على تربية الأمة، وإصلاح شأنها، وقد عرف الإسلام
لأهل العلم فضلهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو الدرداء: «من سلك طريق علم سهَّل الله له طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع
أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له.
وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، العلماء هم
ورثة الأنبياء.. وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن
أخذ به فقد أخذ بحظ وافر» رواه أبو داوود والترمذي وأحمد وابن ماجه..
وأهل السنة هم حملة العلم، حملة الوحي، والأمناء عليه يبلغونه كما سمعوه،
ويؤمنون به كله، ويتناقلونه جيلاً عن جيل، وقرناً عن قرن، فيحمل العلم في كل
خلف أفاضلهم، وذوو العدل منهم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيف الوضاعين.
والعلامة التي تميز علم أهل السنة عن علم غيرهم هي كثرة استدلالاهم
واحتجاجهم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وتعظيم شأن تلك الأحاديث، والبحث عن صحة أسانيدها والعمل بها ولو خالفت ما عندهم من آراء.
وعلامة أهل البدع اجتنابهم الحديث، وقلة استدلالهم به، فلا يكادون يذكرونه
إلا على سبيل النقد والرد، والتأويل والتحريف، والازدراء والاستهجان.
لزوم السنة والعمل:
من سمات المؤمنين، لا يكتفون بالنية الطيبة، ولا يصدهم الاشتغال بالعلم
عن العمل به، إذ هو ثمرة العلم، ويحذرون أشد الحذر من أن يحدثوا الناس أو
يأمروهم بأمر، ثم لا يقوموا به [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وأَنتُمْ تَتْلُونَ
الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة: 44] .
والعمل بالعلم سبب لقبول الدعوة، وإجابة الداعي، كما قال الله عن صاحب
(يس) : [اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وهُم مُّهْتَدُونَ] [يس: 21] ، وقال شعيب
مخاطباً قومه: [ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ ومَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ] [هود: 88] .
وما يصد الناس عن الحق مثل أن يجدوا دعاته غير عاملين به، وأهله غير
قائمين به، وأن يُلْفوهم مُطَّرحين العمل به جانباً، نابذين كتاب الله وراءهم ظِهْرياً،
ألسنتهم لا تفتر، وحناجرهم لا تبحّ، وجوارحهم لا تعمل، كالسراج يضيء للناس، ويحرق نفسه.
وقد تحققت هذه السمة في أهل السنة والجماعة، وكانوا أحق بها وأهلها فكانوا
في طليعة العاملين بالسنن، القائمين على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وكان علماؤهم في أوائل صفوف
المجاهدين، كابن المبارك، والإمام البخاري، وابن تيمية، الذي حارب التتار حين
غزوا بلاد الإسلام.
فما كانوا يعرفون أن بعض المشايخ يتفرغ لجمع الأتباع، وحشد الأنصار
وتكثير الأشياع. أو ينصرف إلى كتابة الأبحاث العلمية، دون أن يكون لهم أثر
على الحياة، ودون أن يأمروا بمعروف، أو ينهوا عن منكر، ولا يعرفون أن هناك
علماء يختصون بأمر العلم، ويأمرون العوام بالجهاد والعمل والطاعة والسنة. ولا
يكونون سبَّاقين لما يأمرون به، بل كانوا علماء عاملين، يتعلمون العلم لا ليباهوا
به ويتصدروا به المجالس، بل تعلموا العلم ليعملوا به أولاً، ثم يدعوا الناس إليه.
فما كانوا يفهمون أن العلم يقصد لذاته، وأنه أمر مجرد، بل هو مسئولية، كلما
ازدادوا علماً زادت مسئوليتهم.
الجهاد في سبيل الله:
قال الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الصف: 10-11] .
وقال - تعالى -: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا
مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] [آل عمران: 142] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغزُ، ولم يحدث
نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق» ، وقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في حديث معاذ - رضي الله عنه -: «إن رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» .
ووجوب الجهاد والغزو في سبيل الله عقيدة عند أهل السنة، إذ يذهبون إلى
أن الجهاد ماضٍ مع ولاة الأمر من المسلمين - بَرّهم وفاجرهم - إلى قيام الساعة.
والجهاد ليس دفاعياً فقط - كما يزعمه المهزومون - بل الجهاد نوعان: جهاد
طلب، وجهاد دفاع، قال الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَذِينَ يَلُونَكُم
مِّنَ الكُفَّارِ ولْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ] [التوبة: 123] .
وترك الجهاد مهلكة، وهوان، وخسارة في الدنيا والآخرة: [وأَنفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ]
[البقرة: 195] .
وعن أسلم بن عمران قال: (حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على
صف العدو حتى خرقه،، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى
التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا - معشر الأنصار - نجياً؛ فقلنا: أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وقد آثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلنا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: [وأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ] ؛ فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد) رواه النسائي وأبو داود والترمذي وغيرهم.
الدعوة إلى الخير:
انتدب الله هذه الأمة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال: [ولْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .
وجعلهم شهداء في أرضه، والقائمين على سُنته؛ قال - تعالى -: [وكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً]
[البقرة: 143] .
وشرَّفهم بأن جعل عملهم وعمل نبيهم واحداً وهو الدعوة إلى الله، قال: [قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ
المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
وجعل الدعوة خير القول وأفضل العمل قال: [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا
إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] وليس هذا موضع
التفصيل في هذا الموضوع.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وصف الله عباده المؤمنين بهذه الصفة في مواضع عدة، فقال: [والْمُؤْمِنُونَ
والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ
الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
وقال عن عباده المؤمنين: [التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ
المُؤْمِنِينَ] [التوبة: 112] .
وقال: [الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] .
ومن صفات الأمة الوسط، خير الأمم، وأتبعها للحق - الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، قال تعالى: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .
وقال: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ
الفَاسِقُونَ] [آل عمران: 110] .
وقال في مدح طائفة من أهل الكتاب: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ
ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ] [آل عمران: 113-14] .
ونعى على طائفة أخرى إقرارهم المنكر، ورضاهم به، وتركهم الأمر
بالمعروف، فقال: [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] [المائدة: 78-79] .
وترك الأمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر نذير شؤم على الأمة، ينذرها
مغبة ما تصنع، ويؤذن بزوالها، أو حلول عقوبة الله فيها، قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا
إلا يوشك الله أن يعمهم بعقابه» أخرجه أبو داود. وعن عدي بن عمير قال:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل
الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة» أخرجه أبو داود. والأحاديث بهذا
المعنى كثيرة وفيرة.
ويسلكون في تغيير المنكر الطرق الشرعية، من مثل قول الرسول - صلى
الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري.
وهم مع حرصهم على القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
يتحاشون إثارة الفتنة بين المسلمين، فلا يخرجون على الأمراء بالسيف؛ لأنه
يؤدي إلى فتنة تسفك فيها دماء المسلمين، ولا يتركون إنكار المنكر عليهم، وتبيين
المعروف لهم، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الجهاد كلمة حق
عند سلطان جائر» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد.
ولا ينابذونهم إلا أن يروا كفراً بُواحاً فيه من الله برهان.
ويقومون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بين عامة المسلمين حتى
يعذروا إلى ربهم، بإقامة الحجة، وتوضيح الحق، عن أبي ثعلبة الخشني - رضي
الله عنه - «أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن
ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: 105] ، قال: سألت عنها خبيراً، أمَا والله فقد سألت
عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن
المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي
رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام» أخرجه أبو داود والترمذي
وابن ماجه.
النصح لكل مسلم:
جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصيحة هي الدين بقوله الذي
رواه أبو رقية تميم بن أوس الداري: «الدين النصيحة (ثلاثاً) قلنا: لمن يا رسول
الله؟ قال: لله - عز وجل - ولكتابه، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة
المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
وحق على المسلم أن ينصح المسلمين، ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه
ولا يغشهم، أو يمنع خيره عنهم، بل يبذل لهم كل ما يستطيع من علم ومال ودلالة
على الخير وإرشاد إلى سبيل الحق، وما به صلاحهم في أمور الدنيا والآخرة. قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست» فذكر منها
«وإذا استنصحك فانصح له» . وقال أبو عمرو بن الصلاح: النصيحة لعامة
المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم،
وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذب عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم،
وأن يحب لهم ما يحب لنفسه،. ويكره لهم ما يكره لنفسه. وما شابه ذلك.
ومن نصحهم دفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم، وتعليم جاهلهم ورد
من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق بهم
في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحبة إزالة فسادهم ولو حصل له أذى
في سبيل ذلك.
وأعظم نصح للمسلمين بيان الحق لهم، وشرح حقائق الإسلام، وتعريفهم بما
يجب عليهم، ورد ما يعلق بالشرع من أهواء مضلة، تصرف الناس عن الكتاب
والسنة، وبيان مخالفة تلك الأهواء، ودعوة في شيء منها إلى الاحتكام إلى الكتاب
والسنة، والعودة إليهما.
والنصيحة للخلق لها منزلة عالية، ودرجة رفيعة، لا ينالها إلا من مَنَّ الله
عليه بالهداية والتوفيق، قال أبو بكر المُزَني: ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه -
أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في
قلبه قال: ما الذي كان في قلبه؟ قال: الذي كان في قلبه الحب لله - عز وجل -
والنصيحة في خلقه.
ومن النصيحة للمسلمين حسن اختيار الطريقة في وعظهم، وإرشادهم، كأن
يعظه سراً، ويدعوه بحكمة، ويأمره وينهاه برفق.
ويدل على ما للنصح من قيمة حديث جرير بن عبد الله البجلي: «بايعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم» رواه مسلم.(47/12)