خواطر في الدعوة
المَلَل من كَواذب الأخلاق
محمد العبدة
جاء في (صحيح ابن حبان) عن عائشة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من
أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالت: (كان عمله ديمة) [1] ، وفي حديث
آخر قالت: (كان أحب الأعمال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدوم
عليه صاحبه) [2] .
أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعويدنا على المثابرة والدأب على
العمل الذي نبدأ به، وأن يكون نفسنا طويلاً فلا ننقطع لأي عارض، ولاشك أن
هذا الخلق وهذه العادة من أكبر أسباب نجاح الأمم والأفراد، لقد افتقدنا هذا الخلق
في الأزمنة المتأخرة فما أن نبدأ بعمل أو مشروع ما حتى ننقطع، وما أن نسير
خطوات حتى نمل ونتعب، وكم من مشاريع علمية أو اقتصادية بُدئ بها ثم انقطعت، سواء كانت مشاريع فردية أم جماعية، وبعد الانقطاع تتغير الوجهة ونبدأ من
جديد. والسبب في هذا: هو أن الطبع ملول، ولم نتعلم بعد (فن التعاون) فيما بيننا
ونريد قطف الثمرة بسرعة، ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن كبار علمائنا لم يصلوا
إلى ما وصلوا إليه إلا بالمثابرة والمصابرة، وكم عانى علماء الحديث من الترحال
ومشقة الأسفار، وغيرهم من العلماء ما تسنموا هذه المنازل إلا بعد أن جثوا على
الركب سنين، وكان أحدهم يسهر أكثر الليل يفكر بالمسألة ويقلب فيها وجهات
النظر.
وإذا جاز لنا التعلم من الأعداء، فإن هذا الخُلق موجود عند الغربيين، يستقر
المبشر بالنصرانية في قرية منقطعة في غابات آسيا أو أدغال أفريقيا سنوات وهو
يدعو إلى باطله، وتكون النتائج غالباً ضئيلة فلا يخرج إلا بالآحاد الذين تنصَّروا،
ومع ذلك لا يسأم ولا يمل، وقد يتعجب المرء إذا علم أن بعض الصحف والمجلات
الغربية لا تزال تصدر من مائة سنة أو أكثر، وبالاسم نفسه دون انقطاع، وبعض
مؤسساتهم عمرها مئات السنين لم تتغير، حتى في شكلها، فمقر رئاسة الوزراء في
بريطانيا (10 داوننغ ستريت) عمره (250) سنة ولم يفكروا بالانتقال إلى مكان
أوسع وأرحب، وأما مشاريعهم العلمية الطويلة الأمد فيعرفها كل طالب علم كالمعجم
المفهرس لألفاظ الحديث، وكتابة المستشرق (دوزي) لتاريخ المسلمين في الأندلس
استغرقت عشرين سنة، ومشروع تاريخ التراث العربي ...
إن هذا الاستمرار الطويل يعطي رسوخاً وتجربة، ويخرج أجيالاً تربت من
خلال هذه الاستمرارية، والانقطاع لا ينتج عنه إلا الخيبة والندامة، وقد نهانا الله
سبحانه وتعالى أن نكون [كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] [النحل: 92] ، وهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما كان أميراً على مصر وقد ركب
بغلةً قد شمط وجهها، واجتاز بها منازل أمراء الصحابة وكبار القواد في الفسطاط،
فقال له أحدهم: أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم ناخرة
(فرس) بمصر؟ فقال: لاملل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما
أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، فإن الملل من كواذب الأخلاق.
__________
(1) صحيح ابن حبان 27/2 بتحقيق الأرنؤوط، قال ابن الأثير: الديمة: المطر الدائم في سكون.
(2) المصدر السابق 28/2.(30/14)
مصطلحات إسلامية
الجوار
إعداد: عادل التل
المعنى اللغوي:
الجوار: المجاورة.
والجِوار والجُوار بمعنى واحد، ولكن الكسر أفصح.
وجمع جار: أَجْوار وجيرة وجيران، ولفظ الجار له معانى كثيرة منها:
الجار: الذي يجاورك بيت بيت، والحليف، والناصر، والقاسم، والشريك
في التجارة، وجارة المرأة ضرتها، والمرأة جارة لزوجها لأنه مؤتِمر عليها،
وأمرنا أن نحسن إليها ولا نعتدي عليها لأنها تمسكت بعقد حرمة الصهر، وصار
زوجها جارها لأنه يجيرها ويمنعها.
والجار الجنب: أن لا يكون له مناسباً (ليس من أقاربه) فيجيء إليه ويسأله
أن يجيره، أي: يمنعه، فينزل معه، ومنه يقال للذي يستجير بك: جار، وللذي
يجير: جار، ومنه الجار الذي أجرته من أن يظلمه ظالم، وأجار الرجل: خفره.
المعنى الاصطلاحي:
قال تعالى: [قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً] ،
أي: لن يمنعني من الله أحد، ولن ينصرني عليه أحد، وقال أيضا: [قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] أي: وهو السيد
العظيم له الخلق والأمر والعظمة والكبرياء، فلا يحول شىء دون حكمه وأمره.
يلتقى معنى الإجارة مع الاستعاذة، فكل منهما يطلب خلاله الحماية والمنعة، ولكن
الاستعاذة لاتكون إلا بالله، بينما تكون الإجارة في الدنيا من الناس.
ويختلف حكم الجوار عن المعاهدة، والتي تكون بين المسلمين وغيرهم
وتضع أحكاماً على الطرفين المتعاهدين، بينما الجوار لا ينشأ التزامات متبادلة،
وإنما يقع الالتزام على طرف واحد -وهو المجير- لصالح المستجير، بأن يحميه
ويرفع عنه الظلم وفق أعراف الجاهلية، ومثال المعاهدة: (صلح الحديبية) ، ومثال
الجوار: دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة بجوار المطعم بن عدي،
وقد كان سابقاً في حماية عمه أبى طالب وبني هاشم، وهكذا يأخذ الجوار معنى
الأمان والحماية والمنعة.
من أحكام المصطلح:
قال تعالى: [وإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ] [التوبة: 16] ، وفيها جواز إعطاء الكافر الأمان في بلاد المسلمين
حتى يسمع كلام الله تعالى ويطلع عن قرب على أمر الدين فتقوم الحجة عليه،
وكذلك لابد من ضمان عودته إلى بلاده آمناً، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويجير على
المسلمين أدناهم» ، أخرجه ابن ماجه، لذلك قال لأم هانىء: (قد أجرنا من
أجرت) . أخرجه البخاري.
أما عندما يكون المسلمون في حالة الضعف، في مرحلة الدعوة، وعندما يشتد
عليهم أذى المشركين وتنزل بهم المحن والخطوب، فليس أمامهم إلا تحمل الآلام
والمشقة، أو الدخول في جوار أحد من الناس، أو الهجرة إلى مكان آمن، وقد
خرج جماعة من الصحابة فراراً بدينهم - ومن بينهم رجال من كبار الصحابة -،
مصطحبين معهم النساء والأبناء، حيث قصدوا أرض الحبشة ونزلوا مطمئنين
بجوار ملكها العادل - وذلك قبل أن يدخل النجاشي بالإسلام -، ومن المشهور عن
الصحابة أنهم لم يتنازلوا من أجل الحماية والأمان عن أي شيء من أمر دينهم، ولم
يبدلوا من سلوكهم أو مواقفهم لقاء هذه الحماية، وكان الدخول بالجوار دون قيد أو
شرط يحول بين المسلم ودينه، ولا يشترط في عقد الجوار أن يكون صريحاً من
إيجاب وقبول، فقد يكون من طرف واحد يعلن حمايته لهذا الرجل، وذلك من أجل
قرابة أو حباً في مواقف الشرف، وقد يكون الجوار على شكل بلاد مفتوحة أمام
المهاجرين، بحيث يستطيع الإنسان أن يقيم فيها دون الالتزام بقيود في مجال
الاعتقاد، وإنما يعتمد على قوانين تلك البلاد التي لا تتعرض للأحوال الشخصية
للناس، كما هو الحال في بعض البلاد الأوربية وغيرها.
ومن المآثر التي خلفها لنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن
منهم من رفض قبول جوار المشركين وهو يقول: (إني دخلت في جوار من هو
أعز منك.. لقد دخلت في جوار الله تعالى) ، ومنهم من رد الجوار بعد أن حاول
المجير أن يحد من مواقف ونشاط المستجير، ولقد رد أبو بكر الصديق -رضي الله
عنه-الجوار لابن الدغنة عندما طلب منه أن لا يصلي خارج بيته، قال أبو بكر:
(أو أرد عليك جوارك، وأرضي بجوار الله) .(30/16)
كاتب وكتاب
الشَّهْرَسْتَانِي وَكِتَابَه:
المِلَل والنِّحَل
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
في هذه الدراسة المختصرة، سأتحدث عن أحد الأعلام البارزين الذين كان
لهم دور ظاهر في تدوين مقالات الفرق والمذاهب سواء كانت إسلامية أو غير
إسلامية، فكان كتابه موسوعة موجزة ومرتبة للكثير من الآراء والمعتقدات للفرق
الإسلامية وغيرها.
هذا العَلَم هو: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم المعروف بالشهرستاني (ت
548هـ) ، وكتابه: هو (الملل والنحل) .
ولعل من المناسب أن أشير إلى أهمية دراسة شخصية الشهرستاني، وكتابه
الملل والنِّحل، فالشهرستاني - فيما هو مشهور ومعلوم عند الكثير من الدارسين -
أحد شيوخ الكلام، وواحد من علماء الأشاعرة، وله دراية وخبرة بمقالات الفرق
والملل والنِّحل، ولكن هناك جوانب مهمة عن الشهرستاني قد تخفى على بعض
الدارسين، كاتهامه بالميل إلى الباطنية، أو القول بتشيعه، ولعلنا نلقي بعض
الضوء على هذه القضية.
وأما كتابه (الملل والنحل) فهو مرجع مشهور، ومصدر متداول بين أيدي
الباحثين، وقد ترجم إلى عدة لغات؛ ومع ذلك فلا توجد دراسة علمية مطبوعة [1]
- فيما أعلم - تتحدث عن منهج الشهرستاني في هذا الكتاب المهم، وتبين مصادره،
وتوضح مزاياه، كما تذكر المآخذ عليه.
ولد الشهرستاني سنة 479 هـ ببلدة شهرستان في أقليم خراسان، وهو - كما
يقول الذهبي -: (شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب التصانيف) [2] ، برع في ...
الفقه، والأصول، والكلام، تفقه على أحمد الخوافي، أخذ الأصول والكلام على
أبى نصر بن القشيري، ودخل بغداد سنة 510هـ، وتوفي بمسقط رأسه سنة
548 هجرية.
ألف الشهرستاني تصانيف تصل إلى تسعة وعشرين كتاباً، منها المطبوع،
والمخطوط، والمفقود. ومن كتبه المطبوعة: الملل والنحل، ونهاية الإقدام في علم
الكلام، ومصارعة الفلاسفة. ومن كتبه المخطوطة: رسالة في اعتراضات
الشهرستاني على كلام ابن سينا، والمناهج في علم الكلام، وقصة يوسف-عليه
السلام-[3] ، وغيرها.
ومن كتبه المفقودة: مناظرات مع الإسماعيلية، وتاريخ الحكماء وغيرهما [4] .
والآن - أخي القارئ -: أنقل لك بعض أقوال أهل العلم الذين اتهموا
الشهرستاني بالميل إلى الإسماعيلية الباطنية.
قال ابن السمعاني: كان الشهرستاني متهماً بالميل إلى أهل القلاع - يعني:
الإسماعيلية- والدعوة إليهم، والنصرة لطاماتهم.
وقال في (التحبير) : إنه متهم بالإلحاد، غال في التشيع.
وقال ابن أرسلان في (تاريخ خوارزم) عن الشهرستاني: عالم، كيِّس،
متفنن، ولولا ميله إلى أهل الإلحاد وتخبطه لكان هو الإمام [5] .
ونقل صاحب (شذرات الذهب) عن كتابه (العبر) : أنه اتهم بمذهب
الباطنية [6] .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه شيئاً من ذلك، ولكن بصيغة (تمريضية)
فقال رحمه الله: (وقد قيل: إنه صنف تفسيره (سورة يوسف) على مذهب الإسماعيلية -ملاحدةِ الشيعة -[7] ) .
وفي المقابل نجد علماء ينفون هذه الدعوى عن الشهرستاني، فهذا السبكي
يدافع عن الشهرستاني فيقول بعد أن ذكر أقوال من اتهم الشهرستاني بالميل إلى
الباطنية:
فأما (الذيل) [8] فلا شيء فيه من ذلك، وإنما ذلك في (التحبير) [8] ،
وما أدري من أين ذلك لابن السمعاني؟ ، ويقع أن هذا دُس على ابن السمعاني في
كتابه (التحبير) ، وإلا فلم لم يذكره في (الذيل) ؟ [9] .
وينفي شيخ الإسلام - في موضع آخر - هذه التهمة عن الشهرستاني فيقول:
(يذكر (الشهرستاني) أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية، ويوجهه، ولهذا ...
اتهمه بعض الناس بأنه من إلإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك) [10] .
ومما يؤكد ذلك أن الشهرستاني صنف في ذكر فضائح الباطنية [11] ، كما أن
للشهرستاني صولات وجولات مع ابن سينا الفيلسوف الباطنى، يقول ابن القيم:
(وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه (المصارعة) ، أبطل فيه قوله بقدم العالم، وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم) [12] .
وإضافة إلى ذلك، فقد تحدث الشهرستاني عن الباطنية، وذكر شيئاً من
مقالاتهم [13] ، ولكن كان الواجب على الشهرستاني أن يكشف عن معتقدات
الباطنية، ويبين إلحادهم وزندقتهم وكيدهم لأهل الإسلام، كما فعل سلفه عبد القاهر
البغدادي في (الفرق بين الفرق) [14] ، وغيره. ونقف وقفة يسيرة أمام هذه
الأقوال المتعارضة، لنقول: إنه يمكن أن نعزو رمي واتهام الشهرستاني
بالإسماعيلية إلى جملة أسباب تتعلق بشخصه، منها: أن الشهرستاني -وللأسف -
مع كثرة اطلاعه ومعرفته للمذاهب والفرق الإسلامية، فإنه كان جاهلاً بمذهب
السلف الصالح، فلا يعلم معتقد أهل الحديث، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام في غير
موضعٍ، فقال:
(فالشهرستاني صنف (الملل والنحل) ، وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء
الله، والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه، ولم يذكره) [15] .
ولقد ورَّثت هذه المعرفة الواسعة للمذاهب المختلفة صاحبنا-مع الجهل بمذهب
السلف الصالح - حيرةً واضطراباً، عبر عنها بهذين البيتين من الشعر، فقال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعاً سن نادم [16]
وتتمثل هذه الحيرة وعدم الاستقرار على مذهب ما، ما نلاحظه في
الشهرستاني من موافقة للأشاعرة، ومن ميل للإسماعيلية مرة أخرى، وإظهار
التشيع [17] مرة ثالثة، وربما تأثر بفلسفة أو تصوف.
وسبب آخر جعل بعض العلماء يتهم الشهرستاني بالباطنية، وهو ما أشار إليه
ابن حجر -رحمه الله-حيث قال معقباً على ما ذكر من وقوع الشهرستاني في ذلك:
(لعله كان يبدو من ذلك على طريق الجدل، أو كان قلبه أُشرب محبة مقالتهم
لكثرة نظره فيها، والله أعلم) [18] . -
إذن فإلحاح الشهرستاني وإمعانه في مناظرة الإسماعيلية، وكثرة جداله معهم،
ربما كان سبباً في رميه بالباطنية لتأثره بتلك المناظرات، وقد صرح الشهرستاني
بكثرة مناظراته للإسماعيلية، فقال: (وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة، فلم يتخطوا عن قولهم: أفنحتاج إليك؟ أو نسمع هذا منك؟ أو نتعلم عنك؟) [19] .
وعلى كل فلا تزال هذه المسألة تحتاج إلى مزيد من التوثيق والبحث، ولعل
الاطلاع على الكتب الخطية للشهرستاني يعطي مزيداً من المعلومات حول هذه
المسألة.
وفي ختام الحديث عن شخصية الشهرستاني: لابد من الإشارة إلى ميل
الشهرستاني إلى التشيع، وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا بقوله: (وبالجملة
فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه، وإما مداهنة لهم، فإن هذا الكتاب -كتاب (الملل والنحل) -صنفه لرئيس من رؤسائهم، وكانت له ولاية ديوانية،
وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له، وكذلك صنف له كتاب
(المصارعة) [20] ) .
وهذا الأمير الشيعي الذي من أجله ألف الشهرستاني كتابيه: (الملل والنحل) ، و (المصارعة) هو علي بن جعفر الموسوي، وكان أميراً في خراسان [21] .
وقد صرح الشهرستاني بذلك، فقال في مقدمة كتابه (مصارعة الفلاسفة) -بعد
إطراء ومدح طويل لهذا الأمير الشيعي -: (انتدب أصغر خدمه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، لعرض بضاعته المزجاة على سوق كرمه، فخدمه بكتاب صنفه في بيان الملل والنحل، على تردد القلب بين الوجل والخجل، فأنعم بالقبول، وأنعم النظر فيه) [22] .
ويظهر تشيع الشهرستاني عندما يقول: (وبالجملة كان على -رضي الله
عنه- مع الحق، والحق معه) [23] ، وقد علق شيخ الإسلام على هذه العبارة..
فكان مما قاله:
(هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة، وإلا فقد
ذكر أبا بكر وعمر وعثمان، ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم،
وهذا التخصيص لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة) [24] .
وقد كذَّب شيخُ الإسلام الشهرستانيَّ في بعض آرائه التي تدل على تشيعه،
وناقشها وبسط القول فيها، فكذبه ابن تيميه مثلاً في دعواه أن عمر -رضي الله
عنه-في خلافته ردَّ السبايا والأموال لمانعي الزكاة [25] ، كما كذبه في دعواه
اختلاف الناس على خلافة عثمان -رضي الله عنه-[26] .
وعلى كلٍ: فإن الإنصاف والعدل يجعلنا نذكر لك أن الشهرستاني له شىء من
الردود على مطاعن الشيعة في الصحابة [27] ، مع أن الرد والمناقشة ليست من
منهجه في كتاب (الملل والنحل) كما سيأتي، كما أنه يصفهم بالحيرة
والضياع [28] .
وربما كان هذا التذبذب من أجل إرضاء الطرفين، أهل السنة والشيعة، والله
أعلم.
وأما كتابه (الملل والنحل) والذي طبع عدة مرات، واعتنى به كثير من
المحققين، وترجم إلى عدة لغات، فإنه يعتبر موسوعة جامعة وموجزة لمختلف
المقالات والملل والأهواء والنحل.
وقد اعتنى الشهرستاني فيه بحسن الترتيب، وجودة التنظيم وعرض
المعلومات، يقول السبكي: (وهو - أي: كتاب الملل والنِّحل- عندي خير كتابٍ صنف في هذا الباب، ومصنف ابن حزم (يعني: الِفصَل) وإن كان أبسط منه، إلا أنه مبدد ليس له نظام) [29] .
ويذكر شيخ الإسلام أن هذا الكتاب: (أجمع، من أكثر الكتب المصنفة في
المقالات، وأجود نقلاً) [30] .
وتميز المؤلف بمنهجية في البحث، وأسلوب محكم في التصنيف، ويظهر
هذا جلياً أثناء عرضه للمقدمات الخمس المهمة، قبل الشروع في الكتاب، فقد ذكر
في المقدمة الأولى: تقسيم أهل العالم، فعرض من الأقوال في ذلك، وبين أنهم
يقسمون في هذا الكتاب حسب آرائهم ومذاهبهم إلى قسمين:
1 - أرباب الديانات والملل مطلقاً، كالمسلمين وأهل الكتاب والمجوس.
2 - أهل الأهواء والنحل كالفلاسفة والدهرية وعبدة الكواكب.
وكانت المقدمة الثانية: في تعيين قانون يبنى عليه تعدد الفرق الإسلامية،
حيث حصر مسائل الخلاف بين الفرقة الإسلامية في أربعة أصول، وهي:
1 -التوحيد والصفات.
2 - القدر وما يلحق به.
3 - الوعد والوعيد، والأسماء والأحكام.
4 -السمع والعقل والرسالة والإمامة.
ثم توصل إلى تحديد أصول أو كبار الفرق الإسلامية، وهي:
1 - القدرية.
2 - الصفاتية.
3- الخوارج.
4 - الشيعة.
وأشار الشهرستاني إلى طريقته في ترتيب الفرق، وهي: أن يضع للرجال
وأصحاب المقالات أصولاً، ثم يورد مذاهبهم في كل مسألة.
ثم ذكر الشهرستاني في شرطه في إيراد الفرق، فقال: (وشرطي على نفسي: أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم، من غير تعصب لهم، ولا
كسر عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده) [31] .
ومع ذلك فلا يخلو كتابه من بعض الردود والمناقشات والإشارات
النقدية [32] .
من مزايا هذا الكتاب: أنه يعرِّف بالفرق ابتداءً، ثم يورد الأصول التي
اتفقت عليها إحدى الفرق الإسلامية الكبار، ثُم يذكر ما يختص بكل طائفة من
طوائف هذه الفرقة [33] .
ويهتم الكتاب بذكر أبرز رجال بعض الفرق، وذلك عند نهاية الحديث عن
إحدى الفرق [34] .
وكتاب (الملل والنحل) مرجع جيد في معرفة أقوال الأشاعرة والفلاسفة، كما
يقول ابن تيمية:
(ولما كان (الشهرستاني) خبيراً بقول الأشاعرة وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة، كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين) [35] .
وأما مصادر هذا الكتاب في الحديث عن الفرق الإسلامية، فيقول ابن تيميه:
(ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الملل والنحل، عامته مما ينقله بعضهم عن بعض، وكثير من ذلك لم يحرر أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله، بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله، مثل: أبي عيسى الوراق، وهو من المصنفين للرافضة، المتهمين في كثير مما ينقلونه، ومثل: أبي يحيى وغيرهما من الشيعة، وينقل أيضاً من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة) [36] .
ويقول في موضع آخر: (والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب
المعتزلة) [37] ، حيث (أنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب) [38] .
ويظهر جلياً كثرة نقل الشهرستاني عن المعتزلة، فهو ينقل مثلاً عن الكعبي
(المعتزلي) [39] ، وربما نقل عن الوراق [40] وغيرهما، وإن كان ينقل أحياناً
عن الأشعري [41] ، كما أنه ينقل عن أشخاص آخرين، وقد يذكر كتباً غير
موجودة - الآن - وينقل عنها، مثل: كتاب (عذاب القبر) لابن كرام، وكتاب في
مقالات الخوارج للحسين الكرابيسي، وكثيراً ماينقل الشهرستاني الأقوال دون عزوٍِ
إلى مصادرها، وقد يترجم بعض الكلام فينقله من الأعجمية إلى العربية، كما فعل
بما كتبه أحد الباطنيين [42] .
وعندما نتحدث عن المآخذ على هذا الكتاب، فمنها: عدم اشتراطه نقد الفرق
المنحرفة، والرد عليها، والمسلم مطالب بنصرة الحق والدعوة إليه، ورد الباطل
والتحذير منه، فأهل الاستقامة يحبون الحق ويعرفونه، كما يرحمون الخلق
فيدعونهم للخير، وربما كان هذا الشرط الذي اشترطه الشهرستاني على نفسه سبباً
في رميه ببعض الاتهامات [43] .
ومأخذ آخر وهو: نقل الشهرستاني عن الشيعة والمعتزلة بلا تمحيص ولا
توثيق، وهذا ما أشار إليه ابن تيميه آنفاً، ومن ثمَّ فإن كتابه يحوي أقوالاً لا زمام
لها ولا خطام، ومثاله: ما ذكره في المقدمة الثالثة في أول كتابه، حيث قال: (في
بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها في الأول، ومن مظهرها في
الآخرة) [44] ، وقد بنى على هذه المناظرة الكثير من النتائج المهمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على ذلك:
(فهذه الشبهة التي ذكرها الشهرستاني في أول كتابه (الملل والنحل) عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل، وهو لم يذكر لها إسناداً، بل لا إسناد لها أصلاً، فإن هذه لم تنقل عن النبى -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أئمة المسلمين المشهورين، ولا هى أيضاً مما هو معلوم عند أهل الكتاب) [45] .
وقد عرض شيخ الإسلام لكثير من الأقوال التي أوردها الشهرستاني،
ونقدها [46] ، ويظهر أن الشهرستاني قليل المعرفة بالحديث، وقد تعقَّبه شيخ الإسلام في عدة مواضع [47] ، يقول: (والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين) [48] .
ومأخذ ثالث - وهو وثيق الصلة بما سبق -، وهو: أن الشهرستاني مع
كثرة ذكره للمقالات وأقوال أهل الديانات وأهل الأهواء، إلا أنه لم ينقل مذهب
الصحابة وسلف الأُمة، لا تعمداً منه لتركه، بل لأنه لم يعرفه، وذلك لقلة خبرته
بنصوص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين.
وفي الختام: أرجو أن أكون قد وفقت في بيان شيء من المعلومات عن هذا
المتكلم وكتابه، ونسأل الله -عز وجل- أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه،
إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
(ا) توجد رسالة علمية في مصر عن الشهرستاني وآرائه الكلامية والفلسفية لسهير مختار، وهناك رسالة علمية سجلت أخيراً بجامعة الإمام محمد بن مسعود عن الشهرستاني ومنهجه في (الملل والنحل) .
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 20/287
(3) وقد ذكرت د. سهير مختار هذه القصة في تحقيقها لكتاب مصارعة الفلاسفة للشهرستاني. فقالت: (وهي في شرح سورة يوسف، وهو شرح لطيف مع تسجيل بعض الروايات عن الصوفية) .
(4) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 20/286، وطبقات الشافعية للسبكي 6/128، وشذرات الذهب 4/149، وانظر مقدمة كتاب مصارعة الفلاسفة بتحقيق د. سهير مختار.
(5) سير أعلام النبلاء 20/287-288، وطبقات الشافعية للسبكي 6/13.
(6) - شذرات الذهب 4/149.
(7) درء تعارض العقل والنقل 173/5.
(8) كتابا ابن السمعاني.
(9) طبقات الشافعية للسبكي 130/6.
(10) منهاج السنة 305/6.
(11) درء تعارض العقل والنقل 8/5.
(12) إغاثة اللهفان 2/ 1 38، وانظر مقدمة الشهرستاني لكتابه (مصارعة الفلاسفة) ، ص 6 1، وانظر كتابه نهاية الإقدام، ص 5، ص 33، كما أن كتاب (نهاية الإقدام) قد تضمن ردوداً على عموم الفلاسفة، والدهرية، والمعتزلة.
(13) انظر الملل والنحل للشهرستاني 191/1 - 198، تحقيق محمد سيد كيلاني.
(14) انظر الفرق بين الفرق، ص 1 28 - 2 31..
(15) درء تعارض العقل والنقل 2/307، 67/9، وانظر المنهاج 5/268و6/303و319.
(16) الملل والنحل 1/173.
(17) هناك من أصحاب المقالات من يفصل بين الإسماعيلية والشيعة، وهناك من يجعل الإسماعيلية فرقة من فرق الشيعة، كما يفعل الشهرستاني.
(18) لسان الميزان 264/5.
(19) الملل والنحل 197/1.
(20) منهاج السنة 306/6.
(21) انظر ترجمته في طبقات أعلام الشيعة لآغابزرك الطهراني 182/6، وانظر مقدمة (المصارعة) ص13.
(22) مصارعة الفلاسفة، ص 14.
(23) الملل والنحل 27/1، ومرة يقول: (لقد كان علي على الحق في جميع أحواله، يدور الحق معه حيث دار) الملل والنحل 103/1.
(24) منهاج السنة 362/6 باختصار.
(25) انظر منهاج السنة 347/6.
(26) المصدر السابق 6/ 350.
(27) انظر، الملل والنحل1/164، 65 1.
(28) المصدر السابق 172/1، وانظر 93/1. يقول الشهرستاني في (نهاية الإقدام) : اعلم أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد، بحيث يفضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعين ص 478،وذلك أن هذا الكلام رد على الشيعة الإمامية.
(29) طبقات الشافعية 6/128.
(30) منهاج السنة 304/6.
(31) الملل والنحل 1/16.
(32) انظر الملل والنحل1/64و83و141و147.
(33) المصدر السابق 1/43و46و115و146.
(34) المصدر السابق 1/137، (رجال الخوارج) ، 6 4 1، (رجال المرجئة) ، 0 9 1 (رجال الشيعة) .
(35) منهاج. السنة 304/6، وانظر كلام د. سامي النشار عن هذا الكتاب في كتابه نشأة الفكر الفلسفى 525/1.
(36) المصدر السابق 300/6.
(37) منهاج السنة 6/307.
(38) الفتاوى 115/8.
(39) انظر الملل والنحل ا/55،4 6،67،0 7،75،0 9
(40) انظر الملل والنحل 1/184، 87 1.
(41) المصدر السابق 1/73و105و129.
(42) المصدر السابق 195/1.
(43) انظر مثلاً عرضه لمذهب النصيرية 1/188.
(44) الملل والنحل 1/16و20.
(45) منهاج السنة 306/6.
(46) انظر مثلاً المنهاج 318/6، 324، 347، 350..
(47) انظر المنهاج 3/6 32، ودرء تعارض العقل والنقل 32/3 1.
(48) منهاج السنة 9/6 1 3.(30/19)
في الدعوة والعمل
حتى يكون المسار سليماً والعمل مثمراً
محمد بن عامر الثوباني
أعظم منة من الله تبارك وتعالى على العبد هي: أن يهيئ له الأسباب، ليكون
من حملة هذا الدين، وممن يبذلون الغالي والنفيس، لإقامة حكم الله في الأرض،
وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، تلك المنزلة التي هى
أشرف المنازل، وأعلى المقامات، منزل المرسلين وسبيلهم، عليهم أفضل الصلاة
والسلام.
ولاشك أن الداعية إلى الله تعالى هو صفوة الله وخيرته من خلقه، أحب لله
فهو أحب أهل الأرض إلى الله، وأجاب دعوة الله ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه، فعمله أفضل الأعمال وأزكاها، وكلامه أعذب الكلام وأطيبه، لأن كلمة الدعوة
هى أحسن كلمة تقال في الأرض وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، وقد
ذكر ربنا ذلك في أوجز عبارة وأصدق بيان: [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ
وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] .
قال الحسن البصري-رحمه الله-بعد تلاوة هذه الآية: (هذا حبيب الله، هذا
وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب
الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في
إجابته، وقال: [إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [1] ) .
ولأن الأمر بهذه المنزلة وبهذا السمو؛ فإنه لابد لأي داعية يريد وجه الله
والدار الآخرة أن تتضح عنده أمور، حتى يكون المسار سليماً، والعمل مثمراً،
ومن هذه الأمور ما يلي:
أولاً - سلامة القصد والغاية:
فمقصود الداعية وغايته: إعلاء كلمة الله، وتحكيم شريعة الله في الأرض،
وليس لشخصه ولا لقومه، أو جنسه، أو عشيرته، أو قبيلته، حظٌّ في ذلك ولا
نصيب، وإنما الأمر لله، والعمل من أجل الله، ولهذا نلحظ في كتاب الله التركيز
على هذا الأمر. [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ] [يوسف: 108] ، [ومَنْ
أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ] [فصلت: 33] ، [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ]
[النحل: 125] .
إنها دعوة إلى الله وإلى سبيل الله فحسب، دعوة تبيِّن للبشرية غاية خلقهم،
وتعرفهم بربهم وخالقهم ورازقهم، وتبين لهم كيف يكون الإنسان شريفاً بعبوديته لله، وكيف يكون ذليلاً عندما يكون عبداً لغير الله، تبين لهم كيف تكون الحرية
والسؤدد والرفعة والمجد عندما يتحاكمون إلى شرع الله، وكيف يكون الكبت والذل
والصغار عندما يرضون بحكم الجاهلية، وقوانين البشر، وتخرصات أهل الزيغ
والضلال، من الفلاسفة والعقلانيين والوضعيين وغيرهم.
ثانياً - سلامة الوصول والطريق الموصل إلى الغاية:
وطريق الداعية إلى الله ووسيلته هى طريق المصطفى -صلى الله عليه
وسلم- ووسيلته، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهى الله
عنه، أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر، ولم يأمر بشيء من عنده ولا نهى عن
شيء من تلقاء نفسه، بل كل دعوته بإذن الله، ولم يشرع ديناً لم يأذن به الله، كما
قال -عز وجل-: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً] [الأحزاب:
45، 46] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: (فالله أمر رسوله -صلى
الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى سبيله، كما قال تعالى:
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] ، وذلك أنه قد علم أن الداعي
الذي يدعو غيره إلى أمر، لابد فيما يدعو إليه من أمرين:
أحدهما: المقصود المراد.
والثاني: الوسيلة والطريق الموصل إلى المقصود، فلهذا يذكر الدعوة تارة
إلى الله، وتارة إلى سبيله، فإنه سبحانه هو المعبود المراد المقصود بالدعوة) [2] .
ثالثاً - البصيرة في الدعوة:
لكي يحقق الداعية الغاية والمقصود، ويسلم سبيله في الدعوة من الالتواءات
والانحرافات، ولكى يسلك سبيل الله ويدع السبل المتفرقة، فلابد من العلم
والبصيرة في الدعوة إلى الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] . والبصيرة هي العلم، علم
بالله وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، علم يجعل صاحبه وقافاً عند حدود الله، طالباً للحق مذعناً له متى ظهر وإن خالف هواه، علم يجلو القلوب من أصدائها
ويزرع فيها تقوى الله وخشيته وحب الله وحب رسوله، وحب عباده المؤمنين وحب
العمل الذي يقرب إلى حب الله ورسوله.
رابعاً - الفقه في الدعوة إلى الله:
1 -معرفة أحوال المخاطبين والمدعوين، فإن معرفة أحوالهم مما يعين على
اختيار الطريق المناسب، ووضع الأمور في مواضعها، قال تعالى: [ادْعُ إلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ؛ قال ابن القيم-
رحمه الله تعالى - حول هذه الآية:
(ذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام، بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالباً للحق، محباً له، مؤثراً له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال، وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هى أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجِلاد إن امكن) [3] .
فإذن في الناس من تكون الحكمة أبلغ في دعوته من سواها، والحكمة شأنها
عظيم، وقد جاءت في الآية السابقة مستقلة واضحة كالشمس لا تحتاج إلى مزيد
بيان وتوضيح، بخلال الموعظة والجدال، فقد جاءا موصوفين، الموعظة بأنها
الموعظة الحسنة، والجدال بأنه بالتي هى أحسن، ومن المهم أن نعرف أن الشدة
في بعض الأمور ولبعض الناس هى من الحكمة، وفى الحكمة سر عظيم، وخير
عميم، [ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] . وبعض الدعاة يبالغ في
اصطياد الحكمة، فيذهب الوقت عليه بين مد وجزر، حتى يفلت الأمر من يده قبل
أن يبلغ الحكمة أو يقرب منها، وبعضهم يأخذه الحماس والغيرة والاندفاع، فيتجاوز
الحكمة بمسافات بعيدة.
وفى الناس من تدخل قلوبهم الموعظة الحسنة، وتأسر مشاعرهم وتتعمق فيها
بلطف، ولكن يجب أن تكون حسنة في ألفاظها وفى معانيها، تجعل القلوب تتوق
وتتشوق إلى ما عند الله، فتنقاد إلى سبيل المؤمنين لتفوز بالجنة، كما يجب وهى
تحذر من عواقب العصيان، وسوء منقلبه، أن تكون حسنة، لا فجاجة فيها ولا
غلظة، ولا تقبيح فيها ولاتأنيب في غير موجب، فتعود القلوب الشاردة وتحيا
القلوب المريضة بالموعظة الحسنة.
وفيهم من يأسرهم الجدال، عندما يكون الجدال بالتي هى أحسن -بصيغة
التفضيل أحسن -لأن الأمر خطير وحساس، يقول سيد قطب-رحمه الله-:
(فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع
عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة
الرأي وقيمتها عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها
وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر
المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة
في ذاتها، والاهتداء إليها في سبيل الله، لا في سبيل ذاته، ونصرة رأيه، وهزيمة
الرأي الآخر) [4] .
2 - أن يكون عنوان الداعية هو: طلب الحق، فإن وفق إليه لزمه وانتصر
له، وإن تبين له مجانبة الصواب في أي مسألة من مسائل الشرع، أو أي أسلوب
أو منهج، قبِل النصح وعاد إلى الصواب، مرتاح البال مطمئن الضمير، فإن
الأمر لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى
اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 136] ، ولاشك أن
الأمر عزيز المنال، وأن الإذعان للحق مرتقى لايرتقيه كل الناس، ولكن أهل
التقوى والإخلاص - وهم قلة - يرتقون هذا المرتقى، وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
3-أن يعترف الداعية لأهل الفضل بفضلهم، وأن لا يبخس الناس حقوقهم،
وأن لا يتعدى بأي هفوة أو زلة حجمها وقدرها الذي يجب أن لا تتعداه، وأن يحذر
تتبع العثرات والزلات، عند العلماء والدعاة،
ومن ذا الذي ترضي سجاياه ... كلها كفى المرء نُبلاً أن تعد معايبه
4 -أن يكون الداعية على علم بواقعه المعاصر، وعلى دراية بحجم الجاهلية
وقوتها وتبجحها واستهتارها، وأن يدرك المكر الذي يمكره أعداء الله ليلاً ونهاراً،
لإخماد أي جذوة أو بصيص من نور تظهر في أي بقعة من العالم لإعلاء كلمة الله.
5-أن يكون صريحاً في كلامه، واضحاً في منهجه وسلوكه، متميزاً عن
الجاهلية، معتزاً بدينه، مترفعاً عن أن يساوم بشىء من دينه، مستقلاً تماماً عن
أنظمة الجاهلية، معرضاً عن الأنظمة المشبوهة، منتمياً لأولياء الله، موالياً
للمسلمين، متبرئاً من المشركين، يقول بملء فيه: [إننى من المسلمين] ،
ويقول: [سُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] ، وما أحسن كلام سيد -رحمه الله -
حول قول الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ
اتَّبَعَنِي] ، يقول:
(وأصحاب الدعوة إلى الله لابد لهم من هذا التميز، لابد لهم أن يعلنوا أنهم
أمة وحدهم، يفترقون عمّن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم وهم
متميعون في المجتمع الجاهلي، فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة.. ثم يقول:
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي،
والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات، ومن خلال هذه
الأوضاع، بالدعوة إلى الإسلام، هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة، ولا كيف
ينبغي أن تطرق القلوب! إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن
عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم
الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟) [5] . ... وبعد:
أخي الداعية، لعل هذه الأمور لاتخفى عليك، ولكنها الذكرى عسى أن تقابل
لحظة قبول، فتنتفع بها القلوب المؤمنة، هذا الذي نرجوه من الله، والحمد لله أولاً
وآخراً.
__________
(1) ابن كثير، المجلد الرابع، ص152.
(2) الفتاوى15/162.
(3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
(4) في ظلال القرآن4/2202.
(5) في ظلال القرآن4/2034.(30/29)
منبر الشباب
إحياء سنة مهجورة
هيثم حداد
إن التناصح بين المسلمين أمر مطلوب، حتى وإن كان الناصح مقصراً فيما
ينصح به مع بذله الجهد للامتثال، وفي هذه الوريقات أذكر نفسي وإخواني بسنة
هجرت، ففات بهجرانها أجر عظيم، وليت هجرها من عامة الناس، بل من
علمائهم وعبادهم ودعاتهم، فلا تكاد تر هنا إلا في النذر اليسير على أزمنة متفاوتة.
وهذه السنة هي: المكوث في المصلى بعد صلاة الغداة جماعةً، حتى تطلع
الشمس وترتفع، ثم أداء ركعتين.
فضلها:
قال الترمذي باب (ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح
حتى تطلع الشمس) ، ثم أورد بسنده عن أنس بن مالك-رحمه الله-قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة) ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تامة، تامة، تامة) [1] .
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لأن أقعد أذكر الله تعالى وأُكبره، وأحمده وأسبحه، وأهلله، حتى تطلع الشمس، أحب إلى من أن أعتق رقبتين أو أكثر من ولد إسماعيل، ومن بعد العصر حتى
تغرب الشمس: أحب إلى من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل) [2] .
فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى تمكنه الصلاة) ، وقال: (من صلى
الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة، كان بمنزلة عمرة وحجة
متقبلتين) [3] .
وفى (صحيح مسلم) عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أَكنت
تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، كثيراً، كان لا يقوم من
مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام [4] .
وهذا الحديث يدل في أقل أحواله على كثرة فعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- لها، إن لم يكن فيه دلالة على مداومة الرسول عليها. إذ أن لفظ (كان)
يفيد الاستمرار غالباً.
مسائل مختصرة تتعلق بهذه السنة:
الأولى: هل يختص المكوث بالمسجد أو المصلى أم لا؟
ظاهر الحديث يدل على أن السنة: المكوث في المصلى وعدم الانتقال منه
إلى بيت أو نحوه، وعلى هذا تراجم العلماء أيضا، وقد سبق قول الترمذي في
ترجمته لحديث الباب، ومثله ترجم النووي لحديث صحيح مسلم قال: (باب:
فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد) [5] ، وقال المناوي في
(فيض القدير) : (وفيه ندب القعود في المصلى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس
مع ذكر الله -عز وجل-) - ومثله قال المباركفوري.
الثانية: هل هاتان الركعتان هما سنة الضحى؟
ورد في حديث معاذ الجهني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قعد
في مصلاه حين ينصرف من مصلاه الصبح حتى يسبح الضحى، لا يقول إلا خيراً، غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) . أخرجه أبو داود، والبهيقي في
السنن الكبرى 3/490، وترجم له بقوله: باب: من استحب أن لا يقوم من مصلاه
حتى تطلع الشمس، فيصلي صلاة الضحى، ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف [6] .
كما أن ظاهر الأحاديث الواردة في هذه السنة لا يدل على أنها صلاة الضحى، ويؤيده: أن وقت السنة لصلاة الضحى كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
(صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) أي: إذا وجد الفصيل - وهو ولد الإبل -
حر الشمس، ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها، وهذا الوقت لا يكون إلا بعد ارتفاع
الشمس بمقدار أكبر من رمح أو رمحين، كما هو وقت أداء هذه السنة.
ثالثاً: متى تؤدى؟
من المعلوم أن الوقت بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح
هو وقت نهي، فعن عقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس
بازغة حتى ترتفع ... ) رواه مسلم رقم: 831..
وورد في أحاديث أخرى تحديد هذا الارتفاع ب: (قيد رمح أو رمحين) كما
في حديث عمرو بن عبسة، وهنا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي: (ندع الصلاة
حتى ترتفع قيد رمح ويذهب شعاعها) [7] .
فعلى هذا: يكون وقت أدائها بعد خروج وقت النهي وهو ارتفاع الشمس قيد
رمح، ولعل هذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر
المتقدم: (من صلى الصبح، ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة) ، وكذلك ما
ورد في حديث جابر ابن سمرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر،
تربَّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً) ، قال النووي: (هو بفتح السين وبالتنوين، أي: طلوعاً حسناً، أي: مرتفعة) .
وقت مشهود للذكر:
قال النووي في (الأذكار) (باب: الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة
الصبح) ، ثم قال: اعلم أن أشرف أوقات الذكر في النهار: الذكر بعد صلاة الصبح. اهـ. ثم أورد حديث أنس المتقدم [8] .
وفي هامش مختصر سنن أبي داود للمنذري: (قيل: وفي فعله فائدتان:
أحدهما: الجلوس للذكر، فإنه وقت شريف، وقد جاءت أحاديث في الذكر في ذلك الوقت.
والثانية: أنه لما تعبد الإنسان لله -عز وجل- قبل طلوع الشمس، لازم
مكان التعبد إلى أن تنتهي حركات الساجدين للشمس إذا طلعت) [9] .
وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله: هل من ساعة أقرب من
الله -عز وجل- من الأخرى؟ أو: أَهَل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال: (نعم، إن
أقرب ما يكون الرب -عز وجل- من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن
تكون ممن يذكر الله -عز وجل-في تلك الساعة فكن، فإن الصلاة محضورة
مشهودة إلى طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وهي ساعة صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها، ثم الصلاة محضورة مشهودة
حتى تعتدل الشمس اعتدال رمح ... ) الحديث. رواه أبو داود والنسائي، وهذه
رواية النسائي [10] .
قال الشوكاني: (أي: تشهدها الملائكة ويحضرونها، وذلك أقرب إلى القبول
والرحمة) [11] .
ولعل الإمام ابن تيمية فقه هذا حقَّ الفقه، يروي عنه تلميذه ابن القيم -رحمه
الله: (كان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النار جداً، يقول: هذه
غدوتي، لو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي) [12] .
وما أعجب ما نقله البغوي وغيره عن علقمة بن قيس - وكان أشبه الناس
سمتاً وهدياً بعبد الله بن مسعود -[13] قال: بلغنا أن الأرض تعج إلى الله من
نومة العالم بعد صلاة الصبح [14] .
هل نسير على خُطاهم؟ :
وبعد أن رأينا الأجر العظيم لهذه السنة، وحرص سلفنا على فعلها، استطرد
هنا قائلاً:
إن كثيراً من الدعاة إلى الله فضلاً عن غيرهم في هذه الأيام يشكون كثيراً من
الإحساس بنقص الإيمان وقسوة القلب، فهم يبحثون دائماً عن علاج لهذا، وإذا
نظرنا نظرة متجردة لأنفسنا، فنجدنا تاركين لسنن كثيرة، مع أن لها أثراً كبيراً في
إحياء قلوبنا، في الوقت الذي نجدنا حريصين على سنن أخرى، لغرابتها بين
الناس، فهي تجلب الأنظار لفاعلها وتصف صاحبها بأنه متبع للسنة، مع سهولة
أداءها، متعلقين بقولنا: (نشر السنة وإظهارها واجب ... ) ، أما السنة التي تشق
علينا والتي لا تظهر غالباً للخلق والرقيب عليها هو الله فحسب، فنحن متهاونون
فيها تاركون لأكثرها.
فما هو مقدار حرصنا على صوم يومي الاثنين والخميس؟ ! ، وأكون
صريحاً أكثر إن قلت: كم صمنا فعلاً هذين اليومين؟ وما هو مقدار حرصنا على
التبكر إلى الصلاة وحضور الصف الأول؟ ! ، أم انشغال الدعاة بالأمور الهامة هو
سبب امتلاء الصفوف الأخيرة بهم؟ ، وما هو؟ .. وما هو؟ .. وغير هذا كثير.
وختاماً: وبعد هذه الذكرى، فهل سنرى الأمر تغير وأصبحت المساجد
تمتليء بعمَّارها في هذا الوقت؟ ، أم هل ستكون هذه الذكرى مجرد (علم) أضفناه
إلى (علمنا) أو موعظة جديدة نخاطب بها الآخرين وننسى أنفسنا؟ .
__________
(1) رواه الترمذي في1/482و2/586، وقال: حديث حسن غريب، وهو حديث حسن، حسنه غير واحد منهم: الألباني والأرناؤوط وغيرهم.
(2) في الترغيب والترهيب 294/1، رواه أحمد بإسناد حسن، كما حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
(3) قال المنذري في الترغيب والترهيب 292/1: رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات، إلا الفضل بن الموفق ففيه كلام، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
(4) رواه مسلم 1/463، رقم670 - طبع عبد الباقى.
(5) النووي على مسلم 5/170.
(6) قاله المعلق على جامع الأصول 400/9.
(7) الروايات مفصلة في جامع الأصول5/258رقم3338.
(8) الأذكار للنووى / 70.
(9) مختصر سنن أبي داود بتعليق الفقي وشاكر 201/7.
(10) راجع جامع الأصول 257/5.
(11) النيل 3/ 90.
(12) الرد لابن ناصر الدين.
(13) انظر ترجمته.
(14) شرح السنة للبغوى 222/3.(30/35)
شذرات وقطوف
إعداد: طارق خليل الأسود
التحفظ والاحتراز من أكل الحرام ... ولكن! !
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام،
والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك،
ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه! ! حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين
والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً ينزل منها أبعد ما
بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه
يفري في أعراض الأحياء والأموات، لا يبالي ما يقول.
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي /54
ابن القيم الجوزية
تصيد الأخطاء
قال الإمام الشعبي: (لو أصبت تسعاً وتسعين، وأخطأت واحدة: لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين) ؛ وإذا تبين هذا: عُلم أن مجرد تصيد الأخطاء، وتتبع العثرات، والبحث عن الهفوات، كل ذلك مع التغافل عن الحسنات، دليلٌ على فساد القصد، وسوء الطوية، وقلة الدين.
منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم /34
أحمد بن عبد الله الصويان
أيهما أعظم؟ !
كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها (ذات أنواط) فقال
بعض الناس: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ ؛ فقال -
صلى الله عليه وسلم-: «الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا
إلهاً كما لهم آلهة، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم» . فأنكر النبي-صلى
الله عليه وسلم- مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها
سلاحهم، فكيف بما هو أطم مِن ذلك، من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه؟ أيهما أعظم - يا ترى - شجرة يعلق عليها سلاحٌ نُهي عنها لأن فيها اقتداء بفعل
الكفار، أم نظام حياة فيه التشريع والتحليل والتحريم والإلزام والعقوبة على
المخالفة؟!
الولاء والبراء في الإسلام /326
د. محمد سعيد القحطاني
بالراعي تصلح الرعية، وبالعدل تمتلك البرية، ومن عدل في سلطانه
استغنى عن أعوانه، والظلم مسلبة النعم ومجلبة النقم، وأقرب الأشباه صرعة الظلم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.
الجوهر النفيس في سياسة الرئيس
ابن الحداد(30/40)
البيان الأدبي
المنهج العلمي عند طه حسين
بين الدعوى والتطبيق
د. عبد الله الخلف
يحاول طه حسين أن يشعر قراءه بأنه باحث محقق، لا يقبل بشيء، ولا
يسلم به إلا بعد بذل غاية الجهد في التحقيق والنقد والتحليل، فهو يقول بعد أن ينعي
على القدماء من الأدباء طريقهم [1] : (أما نحن فأشد من هؤلاء القدماء طمعاً،
وأكثر منهم تحفظاً، لا تكفينا أسماء الثقات من الرواة، ولا يكفينا جمال القصيدة
وجودة المقطوعة، وإنما نريد أن نتخذ كل شيء موضوعاً للبحث والنقد والتحقيق
والتحليل) .
ثم يقول [2] : (فأنا لم أفهم الأدب العربي كما كان يفهمه القدماء، وكما لا يزال يفهمه أنصار القديم من أدباء اليوم، وأنا لا أحكم على الظواهر الأدبية كما
كان يحكم عليها القدماء، وكما لا يزال يحكم عليها شيوخ الأدب في أيامنا، وإنما
أفهم الأدب العربي وأحكم على ظواهره كما ينبغي أن يفهمه ويحكم على ظواهره
رجلٌ يعيش في القرن العشرين، ويفهم كما يفهم أهل هذا القرن) .
ومن الواضح أنه يحيط نفسه بهالة علمية إبداعية، ويحاول أن يحيط قارئه
بمناخ يهيئه به لقبول ما يلقيه إليه، فهو يحاصره ويخيره بين أن يسلم بما يصل
إليه من نتائج بنيت على هذا المنهج العلمي الجديد الذي يبدو وكأنه ابتكره واحتكره، وبين أن يرضى بأن يوصم بالسذاجة، وعدم القدرة على مسايرة مناهج البحث
الحديثة.
وغني عن القول أنه ليس لباحث منصف أن يرفض البحث والنقد والتحقيق
والتحليل في قضايا الأدب والتاريخ؛ إذا كانت الغاية من ذلك الوصول إلى الحقيقة، ولكن طه حسين لم يطبق ما دعا إليه، ولم يف بالعهد الذي قطعه على نفسه،
على الرغم من أنه تمكن من إيهام كثير من القراء بذلك، مما أتاح لكثير من الآراء
التي طرحها، والنتائج التي وصل إليها أن تنتشر وتصبح كالمسلمات، لا عند عامة
المثقفين فحسب بل عند كثير من أساتذة الجامعات.
مما أغرى القراء بقبولها لجرأته، وقدرته العجيبة في طرح الأفكار، ومهارته
في صياغة آرائه صياغة توهم بأنها بنيت على أساس علمى متين.
ومن ذلك مثلاً: رأيه في تفسير ظاهرة غلبة الغزل على الشعر الحجازي في
العصر الأموي، فهو يرى أن بلاد العرب بعد أن جاهدت في الاحتفاظ بالسلطان
السياسي، وأخفقت في الجهاد إخفاقاً شنيعاً، وانتقل مركز الحكم منها إلى الشام،
كما انتقل مركز المعارضة إلى العراق، انصرفت أو كادت تنصرف عن الاشتراك
في الحياة العامة، وفرغت للحياة الخاصة، فانكبت على نفسها وأحست شيئاً من
اليأس والحزن غير قليل، وقد اجتمع إلى ذلك اليأس في حواضر الحجاز الثروة
والغنى، فنتج عنهما اللهو والإسراف فيه والعكوف عليه، ومن هنا نشأ الغزل
الإباحي [3] في مكة والمدينة، أما بادية الحجاز: فلم يظفر أهلها بما ظفر به أهل
الحاضرة من الثروة، وحيث سلمت من ألوان الفساد التي كانت تغمر مكة والمدينة، فقد أدى ذلك إلى الزهد الذي كان الغزل العذري أثراً من آثاره [4] .
وقد اشتهر هذا الرأي، وتلقاه كثير من الدارسين بالقبول، مع أننا لو طبقنا
عليه المنهج الذي يدعي طه حسين أنه يبني عليه دراساته لوجدناه بعيداً عن
الصواب.
فلكي نسلم بهذا الرأي لابد من إثبات أمرين أساسيين بني عليهما:
الأول: أن أهل الحجاز انصرفوا إلى اللهو وأسرفوا فيه، وأن الفساد غمر
مكة والمدينة.
والثاني: أن الغزل لم يظهر ولم يغلب على الشعر الحجازي إلا بعد أن أخفق
أهل الحجاز في الاحتفاظ بسلطانهم السياسي، وانتقل مركز المعارضة منهم إلى
العراق، ومركز الحكم إلى الشام.
فالأمر الأول لا يمكن التسليم به إلا بأدلة ثابتة، وبراهين قوية، لأنه لا يمكن
لعاقل أن يقبل القول بأن الفساد قد غمر ذلك المجتمع الذي ورث مجتمع الخلافة
الراشدة، وعاش فيه كثير من الصحابة وأبنائهم وأحفادهم، وشهد له الرسول -
صلى الله عليه وسلم- بالخيرية والفضل، ومع أن طه حسين يدعي أنه سوف يبني
آراءه على النقد والتحقيق والتحليل، إلا أنه لم يعرض الأدلة الصحيحة ليثبت بها
هذا الأمر، بل ألقى القول جزافاً، وكأنه حقيقة مسلمة لا يرقى إليها شك، صحيح
أن في كتاب (الأغاني) وغيره من كتب الأدب أخبار وحكايات تدل على وجود ذلك، ولكن مثل تلك الأخبار لا يعتمد عليها في إثبات مثل هذا الأمر.
وطه حسين نفسه يسلم بذلك، ويعترف بما حوته تلك الكتب من حكايات
باطلة [5] ، وبناء على ذلك أنكر أو شكك في وجود بعض الشخصيات التي ترجم لها صاحب (الأغاني) ، وأورد حولها كثيراً من الأخبار والأشعار [6] ، بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد مدىً من ذلك، عندما ادعى أن معظم الشعر الجاهلي منحول، على الرغم من أن كتب الأدب أطبقت على روايته والقبول به.
وإذا كان طه حسين هنا يرى أن أهل الحجاز أسرفوا في اللهو والفساد، فإنه
يرى في موضع آخر من الكتاب نفسه (حديث الأربعاء) ما يناقض ذلك، ويصرح
بأن حياة شباب الحجاز كانت بريئة من الإثم والفحش إلى حد ما، وأن شباب
الحجاز كان يلهو بمقدار، وكانت مكانته الدينية وخوفه من رقابة الخلفاء يعصمانه
من مجاوزة الحدود [7] .
ولعل في هذا دليلاً واضحاً على أن ما ذكره طه حسين من أن الفساد واللهو قد
غمر مكة والمدينة قولٌ ألقى جزافاً دون أي دليل معقول، على الرغم من أنه اتخذه
أساساً بنى عليه رأيه في تفسير غلبة الغزل على الشعر الحجازي.
أما الأمر الثانى الذي بنى عليه هذا الرأي فإن التاريخ يدل على خلافه، فمن
المعلوم أن أهل الحجاز قاموا بدور كبير وأساسي في تصريف شؤون الدولة
الإسلامية حتى انتهاء خلافة عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - سنة 73 هـ،
وقد كانوا العنصر الرئيسي في القيادة السياسية والعسكرية، إذ أن معظم الذين تولوا
الولايات أو قادوا الجيوش في عهد (معاوية) و (يزيد) كانوا من أهل الحجاز،
وانتقال الخلافة في عهد معاوية إلى الشام ليس مبرراً للقول بأن أهل الحجاز قد
انصرفوا عن المشاركة في شؤون الحكم يائسين، فقد كانوا يرون في خلافة معاوية
مرحلة مؤقتة يمكن أن تنتهى في أي وقت، ثم يستلم الخلافة قائدٌ آخر من قادة الأمة
الذين كان معظمهم في ذلك الوقت في الحجاز، لذلك أعلن بعضهم عن معارضة
إسناد ولاية العهد ليزيد، ولم يسلموا بها، ثم ثاروا عليه، ثم عادت الخلافة إلى
الحجاز مرة أخرى عندما بويع بها ابن الزبير -رضي الله عنه-، ونازعه في ذلك
رجل من أهل الحجاز أيضاً وهو مروان ثم ابنه عبد الملك.
ومن هذا يتبين أن القول بأن أهل الحجاز انصرفوا عن. المشاركة في الحكم
والسياسة لا يمكن القبول به، ولاسيما في الفترة التي سبقت، حيث يقول [8] : (ولقد جاهد هذا الشباب الحجازي جهاداً عنيفاً في سبيل الاحتفاظ بمنزلته التي تركها
له أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما كانت ثورة ابن الزبير، وما كانت
ثورة الحرة، وما كان خروج الحسين بن علي إلا مظاهر لهذا الجهاد، ولكن
الشباب الحجازي لم يوفق، وتمت الكلمة للاستبداد الأموي، واضطر أبناء الصحابة
والخلفاء الراشدين إلى هذه الحياة الفارغة يحيونها في الحجاز) [9] .
ولو بحثنا في حياة شعراء الغزل لوجدنا معظمهم قد بلغ الخمسين أو قاربها أو
جاوزها سنة 73 هـ، وعلى رأس هؤلاء عمر بن أبى ربيعة، ولاشك أنهم قد
نظموا معظم شعرهم الغزلي قبل هذا العام، وهذا يعني: أن ظاهرة الغزل كانت
أسبق في الظهور من الأحداث التي جزم طه حسين بأنها كانت سبباً ونتيجة لوقوعها، مما يسقط نظريته هذه جملة وتفصيلاً، لأنه لا يمكن للظاهرة أن تسبق أسبابها.
ومما مضى: يتبين أن دعوة طه حسين إلى اتباع منهج يقوم على النقد
والتحليل والتحقيق مجرد دعوى ادعاها ليوهم قراءه بأن آراءه مبنية على منهج
علمي محكم، وما عرضنا هنا ما هو إلا مثال واحد من أمثلة كثيرة لآرائه، مليئة
بالأخطاء والتناقضات، ولكنها سارت بين الناس، وأصبحت كالمسلمات التي يحتج
بها ويبنى عليها آراء ونظريات جديدة، وما ذلك إلا لأن صاحبها هو طه حسين.
وكثير من تلك الآراء يتضمن جوانب ذات تأثير فكري سيئ، وينطوي على
التشكيك بالقيم والمبادىء والحقائق الثابتة، كما يتضمن تشويهاً لبعض معالم التاريخ
الإسلامي بأساليب تبدو لغير المتمكن مقبولة ومقنعة، وقد يلقي في ثنايا كلامه
عبارات تنطوي على أمور خطيرة دون أن يشعر القارئ بأنه يتعمد ذلك، أو أن له
من ورائه مقاصد سيئة.
ففي كلامه عن حياة البادية العربية بعد الإسلام يشير إلى تعاليم الإسلام الجديدة
التي منعت ما كان شائعاً في الجاهلية من الغارات والسلب والنهب، ويعقب على
ذلك بقوله [10] : (وإذن فهذا نوعٌ آخرٌ من التضييق أحدثه الإسلام لهؤلاء الناس) ، وإذن لقد حانت الحياة المادية عند أهل البادية بعد الإسلام شراً مما كانت عليه قبل
الرسول، وهو بهذا يطعن في النظام الإسلامي ويرميه بالفشل في رفع المستوى
الاقتصادي لهؤلاء الناس، وفي موضع آخر يطعن في طريقة الصحابة في اختيار
الخليفة، فيقول [11] :
(أجمع المسلمون أو كادوا يجمعون على هذا المذهب الغريب المتناقض الذي
يجعل الخلافة وراثية لأنها في قريش، وغير وراثية لأنهم أبعدوا عنها بني هاشم) .
ويعلق على قبول الأنصار بخلافة أبي بكر -رضي الله عنه- بقوله [12] :
(ولم يمض منهم في الإباء والمشادة إلا رجل واحد هو سعد بن عبادة الذي قتلته الجن فيما تزعم الأساطير، والذي قتلته السياسة غيلة في حقيقة الأمر، لأن حياته كانت خطراً على النظام السياسي الجديد) .
وهو بهذا يتهم عمر وكبار الصحابة رضوان الله عليهم بقتله لأنهم هم قادة
الدولة وزعماء النظام السياسي.
ويصف المسلمين الأوائل الذين حملوا مبادئ الإسلام بالجهل عندما يوازن
بينهم وبين الأمة الفرنسية أيام الثورة الفرنسية، فيقول [13] :
(على أن تلاحظ الفرق بين الأمة الفرنسية التي كانت متحضرة مترفة عالمة
بارعة في الفن حينما أحدثت ثورتها، والأمة العربية التي كانت بادية ساذجة جاهلة
خشنة العيش عندما أحدثت ثورتها أيضاً) وهو لا يقصد عرب الجاهلية لأن كلامه
هذا جاء في سياق الموازنة بين حملة مبادى الثورة الفرنسية وحملة ما يسميه بالثورة
العربية.
مثل هذه العبارات التي تحمل هذه المضامين الخطيرة ترد في أثناء حديثه في
بعض الموضوعات الأدبية على أنها أمور مسلمة، مع أنه يعمل أنها تحمل من
المعاني ما يصطدم كثير من الحقائق التي يزعم أنه يبحث عنها، ويحاول الوصول
إليها.
أفلا يحق لنا بعد كل ذلك أن نقول إن طه حسين بدعوته إلى جعل كل شيء
موضوعاً للبحث والنقد، وعدم التسليم بما تضمنته كتب التراث من أخبار كان
يقصد إلى التشكيك في الحقائق، وإحقاق الأباطيل أكثر مما يقصد إلى إبطال الباطل
وإحقاق الحق.
__________
(1) حديث الأربعاء 1/185.
(2) المصدر السابق 1/186.
(3) هكذا وصف طه حسين غزل عمر بن أبي ربيعة وغيره من شعراء مكة والمدينة، مع أن هذه الصفة لا تكاد تنطبق إلا على جزء محدود من غزل عمر بن أبي ربيعة.
(4) حديث الأربعاء 1/188-190.
(5) انظر حديث الأربعاء1/184، 191.
(6) مثل شخصية مجنون ليلى ووضاح اليمن.
(7) حديث الأربعاء 1/242.
(8) حديث الأربعاء ا/241.
(9) واضح أنه هنا يرى أن اضطرار أولئك الشباب إلى الانصراف إلى الحياة الفارغة لم يتم إلا بعد هذه الأحداث -أى: بعد عام 73هـ، وبناء على رأيه فإن المفروض أن الغزل لم يظهر إلا بعد هذا العام، لأنه كان تعبيراً عن تلك الحياة الفارغة.
(10) حديث الأربعاء 1/221.
(11) حديث الأربعاء1/262.
(12) المصدر السابق1/262.
(13) المصدر السابق1/223.(30/43)
شعر
مَفَاتِح الإلهَام
عبد الستار الزعبي
قوموا انظروا في هذه الأيام ... حجاً يقام على مدى الأعوام
هو شعبةٌ من دينكم مفروضة ... جمعت شعوبَ العالم المترامي
الله حدد يومَه ومكانَهُ ... ودعا إليه مُشرِّعُ الأحكام
فاستقبل الخَلْقُ الطَهورُ دعاءهُ ... بالحبِّ والتقديسِ والإعظام
خلعوا التباينَ في المظاهرِ بينهم ... وتناسقوا بملابسِ الإحرام
الله وحَّد جمعهم بأخوة ... حلت على الأرواح والأجسام
وتجمعوا وتزاحموا وتلاحموا ... مداً وجزراً هاج في القمقام
فكأنهم موج يمد عقيبه ... في قوة وتوثُّبِ وضِمام
طافوا طواف العاشقين بكعبة ... وقف الجمال ببابها البسَّام
طافوا بها سبعاً فطاف جمالها ... في الكون حتى خلتها قدامي
فهممتُ بالحجر الكريم مزاحماً ... علِّي أفوز بقُبلةِ الأحلام
فافهم رموزَ الحجِّ فهي بليغةٌ ... إن الرموز مفاتحُ الإلهام
وارقب علوَّهمو بمروة والصفا ... يسعون سعي العسكر المقدام
فالسعي ناموسُ العلوِّ بديننا ... والدين فينا باعثُ الإقدام
فإذا رأيتَ تخلفاً فمرده ... جهلُ الشعوب بدينها المتسامي(30/50)
قراءة في ديوان الشاعر خالد البيطار
في أشواقه وأحلامه
عبد الله الطنطاوي
(أشواق وأحلام) هو الديوان الثاني للشاعر الإسلامي الرقيق: خالد البيطار، ... وكان ديوانه الأول هو (أجل سيأتي الربيع) الذي صدر عن دار عمار في عمان
عام1985، وديوانه هذا صدر عن دار البشير في عمان عام 1988.
وخلال هذه المدة بين صدور الديوانين، نظم الشاعر قصائد عدة تنتظر أن
ترى النور في ديوان جديد يحمل همَّ الشاعر، وهمُّ الشاعر من هموم أمته، يقلقه
ويزعجه ويضنيه ما يرى من أشكال التخلف والفقر والجهل، ويمضه ذلك الظلم
الواقع على شعبه، والقهر الذي يتربص بالأحرار أنى التفت في دنيا العرب
والمسلمين، فيأسى على الحال البئيسة التي انتهت إليها مصائر شعوب أمتنا العربية
المضطهدة المعذبة هنا وهناك.
الديوان:
يقع هذا الديوان في 120 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على مقدمة
وعلى سبع وعشرين قصيدة من رقيق الشعر، توزعت على مساحة زمنية امتدت
منذ عام 1962 حيث باكورة شعره (من وحي الإسراء) وألقاها في حفل دار
المعلمين، ومن القصائد التي نظمها الشاعر قبل عام 1970 قصائد: (قيود الليل) ،
و (يا شباب) و (طاغوت) ، وكلها تعبر عن إحساس الشاعر بما يعانيه المسلمون من
تسلط الظالمين، ومن تقصير المسلمين في التصدي لظلم الطواغيت وتجبر البغاة
المجرمين.. وهكذا تتالت قصائد الديوان حتى عام طبعه ونشره عام 1988.
أما المحاور التي انتظمت فيها فمتعددة: فهناك المحور الممجد لأحداث عظام
وقعت في تاريخنا الإسلامي (من وحي الإسراء) ، وهناك المحور السياسي الذي
يتحدث عن الواقع الأليم لأبناء شعبنا وشعوب أمتنا التي تلقى الألاقي على أيدي
الطواغيت: (قيود الليل، طاغوت.... الخ) .
وهناك الشعر الوجداني، ما كان منه في الغزل أو سواه من شوق إلى الديار
التي غادرها مرغماً، والحنين إلى الأهل والصحب والتلاميذ والأساتذة والشيوخ
الذين كتب عليه فراقهم، وإلى المسجد الذي طالما سعى بين جنباته معلماً ومتعلماً.
شعر المناسبات:
وفى شعر المناسبات هذا، كان الشاعر يهتبل الفرصة ليبث أفكاره وهواتف
قلبه للشباب، محرضاً ومحمساً، فيقول مثلاً في (من وحي الإسراء) :
يا إخوتي في الله طال ركودنا ... فإلام نصبر والورى في نار؟
نار يؤججها اللعين بكيده ... ويؤزها فتزيد في الإسعار
هيا إلى النصر العزيز وأوصدوا ... أبواب كل مهدم جبار
فاستمسكوا بالعروة الوثقى التي ... حبكت عراها قدرة الجبار
وفى قصيدة أخرى يراوح الشاعر بين الماضى والحاضر، وإحساس صاعق
بالمأساة التي تعانيها أمته التي هاض جناحها طواغيت الأرض، اسمعه وتأمل رمزه
لواحد من البغاة:
بسط الليل علينا ظله ... وادعى أن له حقا أصيلاً
هو للنور عدو فإذا ... ما رأى جذوتنا ارتاع ذهولاً
وانبرى يحشد من أجناده ... حشد فرعون ويزجيها سيولاً
وبعد هذا الرمز الواضح، يقول في جرأة ووضوح:
عادت الأصنام للدنيا فلن ... نرتضى عن وجه مولانا بديلاً
عادت الظلمة فانظر ليلها ... جاثماً لا يبتغي عنا رحيلاً
عادت العزى وهذا لحنها ... في فم الطاغي يغنيه جذولاً
عادت اللات وهذا شيخها ... عاد مهذاراً وقد مات ذليلاً
والحق أن هذه القصيدة من غرر القصائد الحماسية الصريحة الجريئة التي
قيلت في عهدٍ ما كان يجرؤ على الكلام فيه سوى الدعاة المجاهدين، ولولا الإطالة
في عجالة لاستشهدت بالعديد من الأبيات المقاتلات منها.
شعره السياسي:
وهو من ذلك القبيل الذي تحدثنا عنه فيما أسميناه شعر المناسبات، فيه وصف
لواقع الشعب، وتنديد بالقعدة والمخلدين إلى الأرض، اللاهثين وراء الحطام، وفيه
تحد للظالمين، ودعوة إلى الثورة بهم لاجتثاث طغيانهم من الجذور، كي لا يبقى
لهم في الوجود وجود، فإن قصيدة (قيود الليل) تذكرنا بقصيدة أو بأنشودة (يا ظلام
السجن) التي كان ينشدها الأحرار في سوريا، إبان الانتداب الفرنسي عليها.
وفى (طاغوت) يخاطب إخوانه ويهيب بهم أن يثوروا، بعد أن شرح في إثارة، ما فعله الطاغوت بروضه:
يا إخوتي ماذا دهاكم فانهضوا ... ليس من أخلاقنا هذي التعلة
نحن من قوم إذا ما شعروا ... بحسيس الذل صالوا أي صولة
أعلنوا الحق فأنتم أهله ... ولئن كنتم أمام الزحف قلة
ألا ترون؟ إنه خطاب حماسي يؤجج المشاعر، ويذكي العواطف لتصير
عواصف تعصف بالظلم والظالمين.
ولن أزيد، فشعره السياسي كله ينهج هذا النهج الثائر على الظلم، الرافض
لأي مذلة، الداعي إلى التمرد والنضال، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
شعره الوجداني:
أستطيع - ابتداء - أن أزعم، بأن شاعرنا هذا هو شاعر الغربة والحنين.
إنه يحيا غربة نفسية مدمرة، ويعاني من غربة الجسد عن مراتع الصبا، عن
حمص، عن الديار الحبيبة، عن الأهل والصحب، عن المسجد والمنبر، فقد
تقطعت الحبال، ولم يعد إلى التواصل من سبيل سوى سبيل الرؤى والأشواق
والأحلام التي عبر عنها بأرق المشاعر التي صاحبت كلماته وكانت أرواحها
ودماءها، حتى إن قارئه ليعيش في عوالمٍ حالمٌ من الطهر الطهور، بعد أن خلصه
اغترابه من كل درن قد يسيء إلى عوالمه الروحانية، وبعد أن أصفاه حنينه ليكون
مصطفاه إلى كل ما فيه سمو وسموق وشموخ.
لئن طال عن أرضي ابتعادي ... سأبقى وفياً أستعد وأرقب
فإنني أحن إلى ساحاتها ودروبها ... إلى روضها يزهو عطاءً ويخصب
إنه يحن إلى عصافير حمص في ملاعبها فوق الشجيرات، إلى عاصيها الذي
ينساب وسط سهولها في دل، إلى أزهارها ونسائمها، إذا نام زاره طيفها، وإذا
سبح بفكره عاودته ذكريات الأيام المواضي، فيطوف بأحياء المدينة التي يعشقها،
يزور أخاه، ويحدث جاره في حب ولهفة وود، ويمر ببيته ويدلف إليه ويرف في
أرجائه، خصوصيات مؤثرة تذكرنا وتهيج ذكرياتنا وحنيناً إلى الربوع والأهل:
ولى منزل آليت ألا أبيعه ... وألا أرى غيري له الدهر مالكاً
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل
واستمع إلى الشاعر وهو يتحدث في رؤاه عن مسجده، لتعلم أي نمط من
الناس هذا الشاعر وإخوانه، هؤلاء الذين تتوزع دنياهم بين مساجدهم وبيوتهم
وتلاميذهم، طهر ونقاء يجعلاننا نهتف: ماذا لو خلى الطغاة بين هؤلاء وبين أبناء
شعبهم ومساجدهم ومدارسهم وحاراتهم؟ ، استمع إليه في حديثه الحالم:
وأغلق بيتي ثم أمضي لمسجدي ... وقلبي من أشواقه يتوثب
وأدخله والنور يملأ ساحه ... ويبدو لي الخط الجميل المذهب
وألمح محرابي وألمح منبري ... وأشعر أني فوقه صرت أخطب
لقد عشت فيه العمر إلا أقله ... وصار اسمه لى نسبة حين أنسب
لقد كنت آتيه فيفتح صدره ... ويبسط كفيه ويحنو ويحدب
وها أنا من بعد الغياب أزوره ... فهل في اشتياقي أو حنيني تعجب؟
ترى أي تعاطف وتمازج مع هذا الجماد الذي بث فيه روحاً من روحه، وقد
عشقه وهام فيه حتى أصبح نسباً له؟ .
إنه يزوره في المنام، ولسوف يصير المنام حقيقة وواقعاً- بإذن الله-.
في هذه القصيدة (أشواق وأحلام) التي حمل الديوان اسمها ما يلذ ويشوق، ما
يثير ويهيج، ما يحزن ويؤلم، وقد يظن بعض من لا يعرف الشاعر أنه قد ضعف
ولان، فيأتي الجواب في ختام القصيدة تصميماً على الجهاد، ولن تقف في وجهه
المعوقات، ولن تحرفه عن طريقه، إلى أن يحكم الله بيننا بالحق:
وإن حنيني لا يفت عزيمتي ... ولكنه الحادي يهز ويجذب
لأن الشاعر مؤمن بالله، واثق بنصره، ولذلك فأنت:
لن ترانى يائساً مستسلماً ... إن ظني بإلهي حسن
لن ييأس الشاعر المؤمن، لأنه لا ييأس من روح الله إلا الكافرون
والجاحدون، فبرغم المعاناة التي يلقاها ممن حوله يبقى الشاعر مطمئناً في جنب الله، لا تزعزعه الزعازع، استمع إلى أنينه وحرقته على دعوته:
وحولي أناس قساة القلوب ... جفاة إذا ضحكوا أفزعوا
ترى أي غربة روحية يحياها شاعرنا، شاعر الغربة والحنين، شاعر
الأشواق والأحلام؟
لقد كنت أكمم جرح الفؤاد ... وأحسب كتمانه ينفع
ولكن يبدو أنه صبر حتى طفح الكيل ونفد الصبر، فباح بما يعتمل في نفسه
من أحزان ولوعة وحنين:
لقد طال بعدي وطال اغترا ... بي وما لي من حيلة أدفع
ربا (حمص) ألمحها من بعي ... د فإن الحواجز لا تمنع
مساجدها لا أزال أرا ... ها كما هي نيرة تسطع
وإني لأسمع صوت الأذا ... ن ندياً رخيماً كما يرفع
وفى (أيها العصفور) نجوى وأي نجوى، يبث العصفور آلام نفسه وأحزانها،
لماذا؟ :
لا تسلني، فحديث الصحب عن أهل الشهيد
عن رياض ملئت بالشوك من بعد الورود
عن أسارانا يعانون من البأس الشديد
سلط الباغي عليهم كل شيطان مريد
عن شريدٍ.. آه لو تعرف ما حال الشريد
لا تسلني أيها العصفور عن سر شرودي
أما قصيدته (يا حادي الركب) فإنها من عيون شعرنا الإسلامي المعاصر، فيها
براعة استهلال:
يا حادي الركب هل في القوم يقظان؟ ... لبى الجماد وما لباك إنسان
لو كان صوتك في الصحراء أعشبها ... وصار للصخرات الصم آذان
إنها صوت النذير العريان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:
إنى لأعرف أرض الشام منجبة ... لم يخل يوماً من الأبطال ميدان
واليوم تستنجد الساحات صارخة ... فلا ترى أحداً، والبغي عريان
ويختم الشاعر المبدع قصيدته الرائعة هذه ببيان طريق النصر فيقول:
إن استقمنا فإن الله ناصرنا ... على الطغاة الأفاعي أينما كانوا
وإن جنحنا فلا فوز ولا فرج ... بل اضطراب وآلام وأحزان
يا إخوتي أنتم الأعلون فانطلقوا ... وأثبتوا أنكم في الله إخوان
ولا أستطيع في ختام هذه الفقرة إلا أن أشيد بقصيدته (دنيا الطفولة) التي كان
فيها رساماً دقيق الملاحظة، ومصوراً متفنناً، وإلا أن أزعم أنها من فرائد الشعر
العربى الحديث، رسم فيها خطوات طفلته عائشة وهي في عامها الثالث، كما رسم
حركتها والحركة النفسية لأبويها في دقة وروعة وإبداع، وختمها بهذه الخاتمة
الجميلة في فكرتها وصياغتها وواقعيتها:
إن أتعبتك الليالي في تقلبها ... وضقت نفساً بما تلقاه من نوب
ورحت تطلب دنيا لا خداع بها ... بريئة من دواهي المكر والريب
فلن ترى غير دنيا الطفل خالصة ... من كل سوءٍ فلم تفسد ولم تَحُبِ
(دنيا الطفولة) تقف إلى جانب أختيها: (أب) للشاعر عمر بهاء الدين
الأميري، وأبيات بدوي الجبل في (الليل الغريب) عن الطفولة، ولكلٍ مذاق.
الشاعر والغزل:
الأستاذ الشاعر خالد البيطار شاعر مشغول بدعوته، يتحرك لها ويحرك قلمه
ولسانه وعواطفه من أجلها، وهو مشغول بأمته، يأسو جراحها، ويفرح لفرحها
ويحزن لحزنها، فهل لديه وقت لنفسه وعواطفه؟
والجواب:
لاتعارض! ؛ [ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] ، بعد أن قال الله تعالى: [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] .
والإسلام دين واقعي، ولكنه يسعى دائماً إلى الارتفاع بأتباعه في عملية
تصعيد جليل: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ، فالمسلم يحب
نفسه، ولكنه لا يقف عند حدود النفس وأنانيتها، وإنما يرتفع إلى هذه الغيرية
الواقعية (ما يحب لنفسه) .
والشاعر في غزله هنا يثبت أنه (الشاعر الملتزم قادر على صوغ عاطفته
بعبارات تتناسب مع التزامه ومحافظته على جمال الشعر وسحره) .
ومن هذه القصائد ما يصف فيها حاله قبل الزواج، وهو غزل عفيف كما في
قصيدة (لاهية) وكنت أتمنى لو أطلق عليها (شموخ) ؛ ففيها شموخ الشاب المسلم
وعفته:
لكن من عرف الحقيقة وارتضى الإسلام دين
... ... يأبى طريق العابثين وخطة المتبذلين
ويرى الحياة حقيرة بالعيش في ظل المجون
هذا هو مذهبه في الحياة، لم يحد عنه منذ شبابه الأول وحتى يوم الناس هذا.
وفي (شاعر، وذكريات، وهمسة من قلب، ومعاناة، وغداً، وانتباه) :
يصف فيها حال العاشقين وما يعانون من تباريح العشق والغرام، ولكنه يبقى ذلك
الشاعر الذي يطير بجناحين من تسامٍ وطهر، بعيداً عن تهالك العشاق وتبذل
أصحاب الأدب المكشوف.
رمز:
وللشاعر قصيدة رمزية، هى غزلية في ظاهرها، ولكنها ترمز إلى شيء
آخر في اسم هند، وعنوانها (لا تحسبيه) ، ويهديها إلى أحد إخوانه، وقد استهلها
بقوله:
لا الظل يشفيه ولا الورد ... فدواؤه بيديك يا هند
لا تحسبيه خان موثقه ... ما ضاع يوماً عنده العهد
وبعد تأكيد عهد المحبة والعشق لهند الرمز، يستطرد فيقول:
لكن أعيذك أن أراك ضحى ... بيد العذول فما له وعد
المكر ديدنه ومذهبه ... أتصدقين بأنه عبد؟
هل تجهلين خداع منطقه ... أوما بدا في لحنه القصد؟
أخشى عليك إذا رضيتِ به ... رهقاً، فلا صدق ولا ود
والشاعر يختم قصيدته الرائعة هذه بهذين البيتين البديعين:
يا هند لن نرضي سواك ولو ... ألقت بكل دلالها دَعْدُ
يا هند أنتِ اليومَ في سَعَةٍ ... فتخيري الأحبابَ يا هندُ
وفاء:
ومن باب الوفاء الذي عز في هذه الأيام، قصيدة هامسة ناعمة كان شاعرنا قد
أهداها إلى أخ له في الله، رأى السهام الغادرة المريشة توجه إليه، والصحب في
تهاون عن نصرت، أكثرهم كان يجلس في صالة المتفرجين، فحز ذلك في نفسه،
وأرسل إليه يصف حاله:
قد سامه الأصحاب من حوله ... ما عجز الأعداء عن سومه
وكل ما قاموا به هين ... لو قصر الأمر على ظلمه
كان يقضي وقته بينهم ... يعمل، لا يسأل عن يومه
يجهد لا يسأل عن جهده ... يسقم، لا يسأل عن سقمه
تمضي الليالى لا يرى بيته ... ولا يبالي الوهن في جسمه
ويختتمها بهذا البيت الذي ينعي الوفاء ويرثيه:
إن الوفاء اغتاله أهله ... لم يبق منه اليوم غير اسمه
الخاتمة:
الأستاذ خالد شاعر إنسان، وإنسان شاعر، في كلماته نعومة، وفي أسلوبه
وعباراته رقة، وفي صوره عذوبة، وفي موسيقاه وداعة، وفي معانيه طرافة،
كانت تتسلل إلى القلب مغلفة بموسيقا نفسه الهادئة، حتى وهي تضم بين نغماتها
ثورة قلب وتمرد وروح، لتعبر عن امتلاك صاحبنا ناصية الشعر.
والشاعر-في كل ما شعر - حيي، والحياء من الإيمان، والحياء سمة من
سمات الإنسان السوي، ولهذا كنت تراه يتغزل على استحياء، يخفي في نفسه ما
القوافي تصر أن تبده، بل إنك تراه يتوارى خلف رؤاه وأحلامه التي عبرت عن
رومانسية حالمة بغد أفضل، تراها وفي وصفه للزهر، للشمس التي تلملم بقايا
غلالاتها المشعة وهي تغادر أرضنا محملة بالأحزان والآلام مما شهدته في دورتها
اليومية، تراها في الدموع والآهات والحسرات، في الغيبوبة والشرود والأشواق،
في نجوى الفؤاد، في الشغف، في اليأس، في الأمل، في الحنين والاكتئاب
والاغتراب، في العودة ومنى النفس.(30/52)
شؤون العالم الإسلامي
ما لم يقل عن هجرة اليهود
إن هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين - كغيرها من الأزمات التي يتعرض
لها العرب - تكشف عن الضعف والتخبط الذي يعصف بهم، وتعطي الدليل على
فقدان الهدف الواحد، والمنهج السليم الذي تعالج به المشاكل.
إن أي أمة تضل عن الهدف؛ وتفتقد المنهج السليم تصبح غير قادرة على
الاستفادة من الماضي، كما تفقد الحساسية التي تنير لها المستقبل، وعندما نذكر
الأمة هنا لا نعني جميع أفرادها، بل نقصد من بيدهم الريادة واتخاذ القرارات التي
يتوقف عليها مصير أمتهم، وإلا فإن الأمة لن تعدم من يتمتع بالفكر السليم والقدرة
على استبطان الماضي واستشفاف المستقبل، ولكن هؤلاء إما صامتون أو مفروض
عليهم الصمت والانزواء في زوايا الإهمال والنسيان..
عندما أعلن عن فتح الاتحاد السوفييتي أبوابه لهجرة يهوده إلى فلسطين بدا كما
لو أن هذا الأمر كان دون مقدمات، وخارجاً عن منطق الأحداث، لذلك جاء التعبير
عن هذا الأمر في الإعلام العربي مصبوغاً بالمفاجأة وعدم التصديق أولاً، وتوجهت
التهم إلى أميركا، أوَ ليست هي الرديف الرئيسى للعدو؛ والممول لهم بكل ما
يحتاج من مال وسلاح وعتاد؟
وتوجيه إصبع الاتهام إلى أميركا لا غبار عليه، فهي التي كانت ومازالت
تجعل من قضية اليهود في الاتحاد السوفييتي قضيتها الرئيسية على صعيد العلاقات
الخارجية بينها وبين المعسكر الشرقي برمته. ولكن الغرابة تكمن في محاولات رفع
المسؤولية عن السوفييت في هذا الأمر الخطير، فكل العالم يعرف أن هذه الخطوة -
خطوة السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين - اتخذت في مؤتمر مالطة الأخير بين
بوش وغورباتشوف، وأنها عبارة عن دفعة على الحساب من أجل دعم الاقتصاد
السوفييتي المنهار.
وهذه الكلمة لم نكتبها لتوجيه اللوم إلى أميركا وإلى السوفييت، حيث لا نعتقد
أن العرب لو استمروا في اللوم والتقريع سوف يجنون شيئاً أو يؤثرون أميركا
الصريحة الواضحة للقضايا العربية والإسلامية عامة، وكذلك بعداوة الروس قبل
الشيوعية وبعدها لهذه القضايا، والعداوة عداوة، ونتائجها هى نتائجها سواء كانت
صريحة أو مستترة، مفضوحة أو مغلفة، بل إن العداوة الصريحة خطبها أهون من
المستترة، والكفر شأنه أيسر من النفاق، وبمقدار تنبه الرجل إلى الخطط المستترة
وإبطالها يكون حازماً وحكيماً، ويوصف بالعبقرية والدهاء.
ولكننا ننبه فقط إلى الحجج المهلهلة التي ساقها الإعلام العربي في مواجهة هذا
الحدث، هذه الحجج التي هي انعكاس للضعف الذي نعاني منه والفوضى التي
تضرب بجذورها في واقعنا على كل مستوى.
لنستعرض بعضاً من هذه الردود القولية والعملية:
* - هجرة اليهود نقطة تحول مفاجئة في العلاقات.
*- استنكار أن تحل مشاكل اليهود على حساب العرب.
*- نوافق على هجرة اليهود على أن يستوطنوا في إسرائيل ولا يستوطنوا
في الضفة وغزة.
* - نداء من الجامعة العربية لأميركا كي تعدل من الرقم الذي حددته كحد
أعلى لما يمكن أن تستقبله من اليهود المهاجرين.
* - وفد رسمي يذهب إلى موسكو لبحث قضية الهجرة ومطالبة الروس
والأميركان أن يضمنوا عدم توطين المهاجرين في الأراضي المحتلة بعد عام 67،
وبأن يسمح الاتحاد السوفييتي لمن يود الرجوع من المهاجرين أن يعود مرة أخرى.
*- طالبت بعض الدول العربية المهاجرين اليهود أن يهاجروا إليها لا إلى
فلسطين.
* - عقد مؤتمر قمة كرد على الهجرة واتخاذ قرارات تاريخية إلى غير ذلك
مما قيل في هذه المسألة..
إن الخطأ في هذا يتلخص في النقاط التالية:
*- الغفلة التامة عن السياسة الصهيونية وأهدافها الأساسية الاستراتيجية التي
لا تتغير ولا تتعدل، وهى: التوسع المتواصل على حساب العرب.
* - الغفلة أو التغافل عن دور كل من أميركا وروسيا في خلق الكيان
الصهيوني في دنيا العرب، وأن هاتين القوتين - وغيرهما من القوى الكبرى -
متضامنون متعاونون على حماية إسرائيل من أي خطر يهدد وجودها، وهذا
التضامن والتعاون والتعهد موثق بأوضح عبارة، ومؤكد بأقوى المواثيق، لأنهم
يعلمون جميعاً أنه كيان اصطناعي ولابد له من ذلك حتى يستمر على قيد الحياة.
* - غض النظر عن حقيقة أن السوفييت - كأميركا - لا يعترفون بالعرب
كأمة واحدة بينها روابط مشتركة، وأنهم منذ عهد القياصرة وحتى عهد غورباتشوف
لا يؤمنون بأن لهذه الأمة دوراً تلعبه، بل شأنها كشأن الأقاليم والمناطق الإسلامية
في أواسط آسيا إلا موارد للمواد الخام ومصادر يتزاحم عليها الاستعمار ويخلف
بعضهم بعضاً عليها.
* - اغترار كثير، من المسؤولين العرب بما يسمونه الصداقة التي تربطهم
بهذه القوى، وكل عاقل يعلم أن هذه الصداقة لا أساس لها، فكل صداقة لابد لها من
أساس تقوم عليه، فلا دين ولا لغة ولا جنس ولا حضارة تربط بين كل من روسيا
وأميركا من جهة وبين الشعوب العربية.
تبقى المصالح المشتركة! وحتى تكون هذه المصالح أساساً للصداقة فلابد من
التكافؤ بين طرفيها، فأين التكافؤ هنا؟ نعم هناك مصالح متبادلة ولكنها مصالح دول
استعمارية جشعة متحالفة مع مصالح فئات قليلة جداً مشابهة في جشعها وخراب
ذممها للاستعمار لأنها وليدة هذه العقلية التي ذاقت منها شعوب الأرض الأمرين.
*- إن بدعة مؤتمرات القمة بدأت منذ ما يقارب إعلان قيام إسرائيل على
أرض فلسطين العربية المسلمة، وبينما استغرق الإعداد العملي لقيام دولة إسرائيل
حوالى خمسين سنة تقريباً، فإننا أردنا مواجهة هذا الأمر الجلل بهذه الأفعال
الاستعراضية الجوفاء فكانت النتيجة كارثة 1948، وتوالت بعد ذلك الكوارث،
وكل كارثة تسبق أو تختم بمؤتمر قمة، خذ مثلاً: قضية تحويل روافد نهر الأردن، كارثة 1967، حرق المسجد الأقصى، حرب1973، صلح مصر مع اليهود،
الهجرة اليهودية الجديدة، وهكذا دواليك.
لو أن خبيراً في الإحصاء فكر في تأليف كتاب يضمنه إحصائيات عن
القرارات الرسمية وغير الرسمية، وبيانات وبرقيات الشجب والاستنكار،
والخسائر المادية والزمنية والصحية التي أنفقت في المؤتمرات الحاشدة، ثم أتى
بدراسة موثقة عن تكاليف بعض المؤتمرات الرسمية وما يسبقها ويعقبها من
استقبالات وتوديعات وسفريات وخدمات فندقية وترويحية، غير ناسٍ تكاليف النشر
الصامت والبث الحي في أجهزة الإعلام ... أقول: لو أن خبيراً فكر في هذا العمل
لأخرج للأجيال أثراً قيماً فيه العبرة والدلالة الواضحة على حياة البؤس والضياع
التي عاشتها وتعيشها الأجيال العربية في هذا القرن، لعل ذلك يكون منبهاً على عقم
هذه الأساليب التي نلجأ إليها، والتي تكلفنا ما لو أنفقنا جزءاً منه في الطريق
الصحيح لما كان واقعنا على ما هو عليه من الضلال وفقدان الوجهة؛ لأن الله لا
يهدي من هو مسرف كذاب.
هل نريد مثالاً على مثل هذه البيانات العجيبة في معناها، الغريبة في دلالتها
على نوعية شخصيات مصدريها، ومستوى التفكير الذي يتمتعون به؛ ثم جدارتهم
بما يتربعون عليه من مناصب؟
الأمين العام لجامعة الدول العربية خير من يمثل هذه النماذج من البيانات:
(صرح الشاذلي القليبي الأمين العام للجامعة العربية بأن حقوق الإنسان لليهود السوفييت قد انتهكت بإجبارهم على هذه الهجرة غير الشرعية إلى إسرائيل، ودعا أميركا والاتحاد السوفييتي ودول المجموعة الأوربية لإيقاف الهجرة) .
وتصريح آخر يتحسر على المساكين اليهود الذي أغلقت في وجوههم جميع
الأمكنة، ولم يبق لهم إلا إسرائيل يذهبون إليها!
قال بسام أبو شريف (من أبرز مساعدي عرفات) : (إن 50 إلى 100 ألف
يهودي سوفييتي يتوقع أن يصلوا هذا العام إلى إسرائيل ليس لهم مكان آخر يذهبون
إليه) [1] .
إن الشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها مقتنعة بأن هذه الأساليب لا تعيد
حقاً مغتصباً، ولا تردع عادياً صائلاً. فلا الرأي العام العالمي، ولا هيئة الأمم،
ولا مجلس الأمن، ولا أصدقاؤنا الأميركان، ولا الروس يمكن أن يستجيبوا لدعوة
المظلوم. وحده الله سبحانه وتعالى فقط من يفعل ذلك:
[أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ ويَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ
مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] [النمل: 62] .
__________
(1) الغارديان 30 / 1 / 1990.(30/62)
فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية
بثقة الشعب الجزائري
في الانتخابات المحلية التي جرت في الجزائر بتاريخ 12/6/1990 أعطت
أكثرية الشعب الجزائري صوتها لجبهة الإنقاذ الإسلامية، ونالت أكثر من 60%
من الانتخابات البلدية و75% من انتخابات الولايات (المحافظات) ، وهذه النسبة
كانت مطابقة تقريباً لما توقعه القائمون على الجبهة، بينما اعتبرت مفاجئة لمن
لايسرهم أن يروا صوت الإسلام مرتفعاً.
نقطة الخلاف بين المسلمين وغيرهم في النظر إلى هذه النتيجة: أن المسلمين
مطمئنون أنه لا صوت يعلو على الصوت الإسلامي إذا أتيحت له الفرص التي تتاح
لغيره، بينما يشك غيرهم أو يتشكك ويثير حول هذه النقطة الغبار.
منذ أن صرح لحزب يتبنى الإسلام منهجاً له في الجزائر والحديث من ذلك
يتصدر الصحف والمجلات، أجنبية وعربية، وكلما ظن الإنسان أن عداوة
الغربيين للإسلام قد خفت إذا به يكتشف كل يوم أن هذا الظن في غير محله، وأن
القوم لا يستطيعون - بحكم طبيعتهم - أن يتقبلوا أي شيء يرتبط بهذا الدين من
قريب أو بعيد. وعداوة هؤلاء للإسلام مفهومة، ودوافعها ومحركاتها لا تحتاج إلى
شرح وتوضيح، ولكن غير المفهوم وغير المنطقي هو الحملة التي رافقت هذا
الأمر في الصحف العربية.
وعلى الرغم من أن هناك اختلافات كثيرة بين الصحافة العربية والأجنبية في
تناولها لكثير من الموضوعات والمشاكل إلا أنه من المستغرب والمثير للعجب هذا
التطابق في موقفها من القضايا الإسلامية، وبخاصة قضية قيام تجمع على أساس
الإسلام في الجزائر.
ومع أن عهد الاستعمار قد انتهى، لكن القارئ لتعليقات الصحف الفرنسية
حول الجزائر في هذه الفترة يخيل إليه أنها لاتعلق على موضوع يخص دولة أخرى
وشعباً آخر ليس منها وليست منه في شيء، بل يخص أساس وجود أمة الفرنسيين
ودولة فرنسا ذاتها، بل ويحسب أن استقلال الجزائر كان استقلالاً منقوصاً، وأن
اتفاقية الاستقلال وانسحاب فرنسا من الجزائر كانت تتضمن بنوداً سرية يلتزم
بموجبها للجزائر أن يتولى الحكم فيها لون واحد من البشر، هو اللون الذي خلف
فرنسا، واحتكر ادعاء التحرير والوطنية، وكبت كل صوت آخر، وبخاصة
الصوت الإسلامي، حتى إذا زكم الفساد الأنوف وتململ الشعب من جراء هذه
الأزمة العقائدية والأخلاقية والاقتصادية التي حلت به نتيجة التسلط واللصوصية؛
فثاب إلى عقيدته يستلهمها، وإلى دينه يستمد منه عناصر المصابرة والمقاومة؛ إذا
بنا نجد فرنسا وكأنها قد حلت بها إهانة ثانية مثل إهانة المذبة [1] ، وكأنها تتهيأ
لغزو الجزائر مرة ثانية!
لكن لا فرنسا اليوم هي فرنسا 1830، ولا الشعب الجزائري هو ما كانه عام
1830، وهذه الحقيقة البسيطة التي تجهلها فرنسا أو تتجاهلها أصبح يعرفها الشعب
الجزائري المسلم، وأصبحت تعرفها جموع المسلمين في كل مكان. وكما كانت
ثورة الشعب الجزائري ضد أعتى أنواع الاستعمار وأكثرها وحشية ملهمة لكثير من
الشعوب كي تتحرر من عبودية الاستعمار في آسيا وأفريقيا؛ فإننا لنرجو أن يكون
اكتساح الخيار الإسلامي لكافة الخيارات الأخرى في الجزائر ملهماً للشعوب
الإسلامية الأخرى كي تتحرر من أذناب الاستعمار وأعوانه كما تحررت من جيوشه
وأساطيله، ودافعاً لكل مسلم مظلوم أن يرفع صوته معتزاً بدينه، نابذاً كل عقيدة
ومذهب وفكرة ماعدا الإسلام، وكافراً بكل طاغوت من أي جنس وأي لون.
__________
(1) وهي الحادثة التي ضرب داي الجزائر سفير فرنسا بمذبة كانت بيده، فاتخذت فرنسا من ذلك عذراً لاحتلال الجزائر عام 1830.(30/67)
الاستهانة بتاريخ الشعوب
إنه لأمر يبعث على السرور أن نرى شعباً واحداً فرقته الظروف غير
الطبيعية يعود ويلتقى طرفاه وتتحد أرضه وتزال الحدود الوهمية التي رسمها
الأعداء من بين أجزائه. هذا ما شعر به كل عربي مخلص وكل مسلم غيور،
عندما التقى شطرا اليمن وأصبحا دولة واحدة نتمنى أن تكون نموذجاً لكل قطرين
متجاورين من أقطارنا التي فرضت عليها التجزئة فرضاً.
نقول هذا على ما في القلب من غصص بسبب الأوضاع الشاذة التي عاشها
أحد شطري اليمن في ظل الشيوعية المخربة التي لم تخلف وراءها من الذكر إلا
أسوأه، ومن الآثار إلا الإحن والعداوات، ومن الفكر إلا فكراً طفولياً فجاً، أراد أن
يجد له أرضاً يُسْتَنُبَتُ فيها فلم يستطع، فلجأ إلى الحديد والنار وإلى الإرهاب ليقتلع
عقيدة الأمة من الصدور، ويفسد العقول والضمائر، وعاش ما عاش فكراً طفيلياً
وافداً مدعوماً بالقوى الحمراء التي هى الوجه الآخر للاستعمار، وما إن ظهرت
علائم السقوط على الأصل حتى سقط الفرع تلقائياً، وما أن انهارت الشيوعية في
عقر دارها حتى انهار على أثرها بنوها في كل مكان، وكأننا أمام تطبيق عملي
مستوحى من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ،
وكل ذي عقل يعرف أن هؤلاء الشيوعيين ليسوا طلاب وحدة ولا يؤمنون بوحدة
العرب أساساً، كيف؟ وهم في عنفوان قوتهم حرب على كل مظاهر الوحدة
والتضامن، لا نقول: على أساس الإسلام، بل حتى على أساس قومي أو علماني،
ولكننا للإنصاف نعترف لهم بالدهاء والقدرة على المناورة وتغيير الخطط، وسرعة
التكيف مع الظروف. فحينما أحسوا نبأة قدروا على أثرها أنه واقع بهم ما وقع لـ: (جيفكوف) و (هونيكز) و (ستازي) ، أو محيط بهم ما أحاط ب: شاوشيسكو
وامرأته، داروا دورة؛ قالوا: الوحدة الوحدة، فكان أن وجدوا من يجيبهم: لبيكم،
لبيكم!
وهم في هذه الدورة التي داروها - إن لم ينفعهم الاستظهار بإخوان لهم -
على الأقل يسلمون برؤوسهم عندما يضيعون في خضم الشعب (ملجأ وذاب) ،
وهو مطلب غير قليلٍ.
ولتأكيد هذه النتيجة التي وصلنا إليها، فإنهم لجأوا إلى حرق الملفات بعد إلغاء
أجهزة الأمن، فقد (أكد وزير الداخلية في الجمهورية اليمنية أن إغلاق وحرق ملفات السياسيين يأتي امتداداً لإلغاء جهازي الأمن الوطني ووزارة أمن الدولة السابقتين، وبعثاً لصفحة جديدة اقتضتها الظروف الوحدوية التي تمثلت في إعلان الجمهورية اليمنية) . وقال: ( ... إنه بقيام الدولة اليمنية لا نريد إثارة أيَّاً من قضايا الماضي، ويجب أن تغلق؛ لأننا أبناء اليوم (!) والقيادة السياسية للجمهورية اليمنية واضحة في هذا الجانب، فليس هناك تحفظ على أي شخص، والوطن يتسع للجميع، وهم مدعوون لبنائه)
[جريدة القبس الدولي 15/6/1990]
هكذا يُهال التراب على حقبة سوداء عاشها شعب عربي أصيل ابتلي بهذه
الشيوعية الخبيثة، وهكذا تنعدم وتضمحل شهادات وشهادات على ما اقترفت أيدي
ذلك النظام البائد في جنوب اليمن، فكم احتوت تلك الملفات المحروقة من دلائل
وبينات على ولوغ من أعدُّوها في دماء الأبرياء وأعراضهم، وكم كان فيها من
شهادات على المظالم التي ارتكبت ضد الآلاف من الأبرياء.
كان بودنا لو لم تعدم هذه الملفات وبقيت وثائق للتاريخ، إن المظلومين قد
يموتون قبل أن ينتصفوا من ظالميهم، وقد ينسون ويصفحون عند المقدرة، وقد
تحول بينهم وبين حقوقهم التي أهدرت وكراماتهم التي ديست حوائل، فيصبرون
ويصمتون راضين بقوله تعالى: [ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] [إبراهيم: 42، 43] .
إن إحراق هذه الملفات تضييع للحقوق، وتغييب لآثار جرائم مجرمين لا
تسقط جرائمهم بالتقادم. وقد يبدو الأمر بسيطاً، ومسوغاته المذكورة كافية، ولكنه
ليس كذلك، فأقل ما يقال هنا: أن هذا الأمر لا ينبغي أن يبت فيه دون عرضه
على مجلس شورى مثلاً، أو على استفتاء شعبي.
وهناك حلول أخرى ممكنة غير الحرق والإعدام! ولكن المجرم يعرف نفسه،
وهو أدرى الناس بما اقترفت يداه، وهذا هو دأب الشيوعيين وأخدانهم من
العلمانيين واللادينيين، استهانة بالإنسان وبأقدس ما قدمه الإنسان، وعدوان على
التاريخ بتشويهه وتسخيره لمصلحتهم؛ أو ببتره وغسل صفحاته حتى لا يظل ناطقاً
بلعنهم وشاهداً على كفرهم وطغيانهم.(30/69)
المسلمون في الفلبين
كان لا يزال القتال الذي اندلع مؤخراً في مديرية - بيكيت - محافظة كوتا
باتو الشمالية بين مجاهدي جبهة تحرير مورو الإسلامية وبين القوات المسلحة
الفلبينية مستعراً طوال شهر رمضان المبارك بشكل متقطع، حيث قام المجاهدون
بتنفيذ ثمان عشرة عملية جهادية فدائية خلال الشهر المعظم حول المديرية المذكورة
وضواحيها، وقد أسفرت هذه العمليات الجهادية الفدائية عن مقتل أكثر من ثلاثين
جندياً حكومياً، وتدمير ثلاث سيارات عسكرية، وإحراق عدد من خيام القوات
المسلحة الفلبينية، كما غنم المجاهدون أربع عشرة قطعة من الأسلحة الأوتوماتيكية
الأمريكية الصنع..
وأما العدو: فقد انتقموا - كعادتهم - من المدنيين الأبرياء، وقصفوا القرى
الإسلامية المجاورة الآمنة، كما ركزوا قصفهم على مديرية باجالونجان المجاورة،
علماً بأن 99% من سكان هذه المديرية من المسلمين، لذلك أمطروها بمدافع الهاون، وقد هرع المسلمون إلى مخابئهم بجوار بيوتهم، ورغم كثافة عملية القصف فلم
يصب أحد منهم..
مديرية تولونان - محافظة كوتاباتو -
كان القتال في هذه المديرية وما حولها شبه مستمر خلال الشهر المبارك، وقد
سجل المجاهدون في هذه المديرية وضواحيها ثمانى عمليات جهادية فدائية، وكان
آخرها في ليلة السابع والعشرين؛ لأن المجاهدين أرادوا إحياء ليلة القدر بالقتال في
سبيل الله، وقد تمنى كثيرٌ منهم الشهادة أثناء تلك الليلة المباركة، وقد هرب جنود
العدو بعد أن قتل منهم ثلاثة عشر جندياً.
التطورات السياسية
تصر حكومة أكينو على تنفيذ ما أسمته الحكم الذاتى للمسلمين، وقد أجرت
مؤخراً انتخابات لمسئوليات مكونة من المحافظ العام ونائبه وعدد من أعضاء مجلس
النواب، وتجرى الاتصالات حالياً بين الفائزين في الانتخابات لتكوين وزارة للحكم
الذاتي المزعوم.
وسبق أن رفضت جبهة تحرير مورو الإسلامية هذا النوع من الحكم الذاتي،
وهي مصرة على رفضه وتعتبره جهازاً دعائياً لتضليل الرأي العام المحلي والعالمي.
وقد أعلنت جبهة تحرير مورو الإسلامية رفضها لهذا الإجراء المنفرد من قبل
حكومة أكينو، ولن تعترف بما أسمته الحكم الذاتي للمسلمين، كما لا تعترف
بحكومة الفلبين في مندناو نفسها، وهى تعتبر السلطات الحكومية في المنطقة
سلطات احتلال مثل السلطات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة.
وأعلنت جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة الأستاذ سلامات هاشم أنها ستسعر
جهادها في سبيل الله في الميدان وليس في الصحف والإذاعات، إلى أن تتحرر
أرض مورو من دنس الحكومة العميلة، وأن يقوم الحكم الإسلامي في هذه البقعة
بإذن الله تعالى، لأن النصارى الظالمين لوثوها بدنس التثليث والكفر والخنازير،
والخمور، والبغايا، والمخدرات، والقمار، والسرقة، وغيرها، فما كانت المنطقة
تعرف تلك الأشياء لولا استيطان النصارى فيها.(30/72)
الإسلام في أفريقيا
حرب الإبادة ضد المسلمين في ليبيريا
كتب إلينا الأخ ريكو شريف- ليبيريا:
يتعرض مسلمو ليبيريا حالياً لمحنة مؤلمة لم تشهد البلاد مثيلاً لها في تاريخها، ففي 24 من ديسمبر 1989: شنت قوات متمردة والمتمثلة في قبيلة غييو الوثنية
بليبيريا هجوماً مباغتاً على منطقة نيمبا شمال شرق ليبيريا عبر الحدود مع ساحل
العاج، بدعوى الإطاحة بحكومة الرئيس صموئيل دو. ولكن الغريب هو أنهم
وجهوا جل هجومهم ضد المسلمين العزل، حيث قتلوا حتى الآن ما يزيد على
(2000) مسلم منهم أئمة ودعاة، ولجأ ما لا يقل عن (1500) شخص إلى ساحل
العاج وغينيا (كوناكري) المجاورتين، ولا يزال ما لا يقل عن (1000) شخص في
حكم المفقودين، بينما يوجد أكثر من (150) ألف شخص متشرد بدون مأوى، هذا
بالإضافة إلى قيامهم بدهم المساجد، وتخريب ممتلكات المسلمين، واغتصاب
نسائهم، مع التمثيل بقتلاهم شر تمثيل.
خلفيات المشكلة ولها شقان:
الشق الأول: جاء الرئيس صموئيل دو إلى السلطة أثر انقلاب عسكري في
12 من إبريل عام 1980، قاده مع مجموعة من الشبان العسكريين وكان من بينهم
الجنرال توماس كيومبا، الذي اشتهر بشجاعته ومواقفه القوية في إنجاح الانقلاب،
وتثبيت النظام الجديد حتى لقب ب: (الرجل القوي) . وينتمي كيومبا إلى قبيلة
غييو الوثنية، إحدى القبائل الثلاث الرئيسية القاطنة في منطقة نيمبا، بالإضافة إلى
قبيلتي الصادنغو المسلمة، والصانو الوثنية هى الأُخرى.
ولكن بمرور الزمن، بدأت الخلافات بين الرئيس دو والجنرال كيومبا حول
بعض القضايا، منها: تسليم الحكم إلى الشعب كما كان يرى كيومبا؛ وذلك تنفيذاً
للوعد الذي أخذوه على أنفسهم بعد الانقلاب، وهى فكرة لم تكن مقبولة لدى الرئيس، وكانت النتيجة الحتمية لهذه الاختلافات تنحية كيومبا عن منصبه كقائد عام للجيش، وعندئذ قرر الفرار من البلاد إلى المنفى، وفي 12 من نوفمبر عام 1985 تسلل
إلى البلاد وقاد انقلاباً انتقامياً ضد الرئيس دو، إلا أنه فشل وقتل على أثره. وقد
أدى مقتل كيومبا إلى زيادة حدة التوتر والعداوة بين الرئيس وقبيلتي الغييو والصانو، فخرج معظمهم إلى المنفى - وعلى وجه التحديد إلى ساحل العاج وبوركينا فاسو-
وذلك لتكوين جبهة معارضة جديدة لمحاربة الرئيس دو.
وفعلاً استقبلتهم حكومات تلك الدول وقدمت لهم جميع التسهيلات، منها:
التدريبات العسكرية لسبب واضح هو: أن ابنة رئيس ساحل العاج كانت متزوجة
من ابن الرئيس الليبيري الراحل وليام تولبت الذي أطاح به الرئيس دو وقتل هو
وابنه في الانقلاب. وهذه الأرملة متزوجة الآن من رئيس بوركينا فاسو.
الشق الثاني: ويتعلق بعلاقة المسلمين بهذه المشكلة، فإذا كانت ادعاءات
المتمردين فعلاً صحيحة بأن هدفهم هو الإطاحة بالحكومة، فلماذا يقتلون المسلمين
الأبرياء العزل الذين ليس لهم أي شأن بأمور السياسة، ألا يعرفون مقر الحكومة أو
الحكومتين، أو أن المسلمين يحولون دونهم ودون وصولهم إلى الحكومة؟ إن هذه
التساؤلات وغيرها قد تدور في خلد أي مسلم غيور؟ ! ! يرى أو يسمع عما يحدث
للمسلمين في ليبيريا، ولن يستطيع الوصول إلى أية أجوبة منطقية لها غير جواب
واحد، ألا وهو: الحقد الذي اختلجت به صدور هؤلاء الكفار ضد المسلمين؛ لأنهم
- أي: المسلمين - جادون في العمل وبيدهم زمام اقتصاد البلد وتجارتها، مما
ساعد على جعل مستواهم المعيشي والاجتماعي أفضل من غيرهم في المجتمع.
كما لا يمكن التغافل عما قد يكون للقوى التنصيرية العالمية من دور في هذه
المشكلة، فدولة ليبيريا - بحكم حريتها الدينية المطلقة - تعتبر من أكبر وأنشط
معاقل الحركات التنصيرية في أفريقيا، حيث يوجد فيها تقريباً فرع لجميع الكنائس
والمؤسسات التنصيرية العالمية المختلفة، وكثيراً ما عبروا عن تخوفهم من سرعة
انتشار الإسلام وهيمنته في ليبيريا. حيث يعقدون المؤتمرات والندوات الدورية
لمواجهة ما يسمونه بالزحف الإسلامي، ولكن دون جدوى، ولذا لا يستبعد المرء
أن يكون لهم يد في هذه المذبحة التي يتعرض لها المسلمون كآخر مؤامرة يلجأون
إليها لاستئصال الإسلام والمسلمين من ليبيريا، والقضاء عليهم، ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون.
موقف الحكومة:
إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي: أن الحكومة الليبيرية الحالية تتعاطف
مع المسلمين إلى درجة عالية لم يسبق لها مثيل في التاريخ السياسي للدولة، ويمكن
الاستنتاج بأن هذا التعاطف قد يكون سبباً آخر لما تتعرض له حالياً، وفي هذه
الحادثة بالذات بذلت الحكومة كل ما في وسعها وسخرت جل طاقاتها لحماية أرواح
المسلمين وممتلكاتهم والقضاء على هذه الفتنة. ومما يجدر ذكره: أن حوادث القتل
والنهب التي تقع ليس كلها بفعل المتمردين بل كان يشاركهم فيها بعض أفراد جنود
الحكومة أيضاً. فعندما يرسلون للدفاع عن المسلمين يتحولون إلى مهاجمين عليهم
لإثراء أنفسهم من ممتلكات المسلمين، وذلك لكونهم أولاً: جنوداً غير مسلمين،
وثانياً: عدم إخلاصهم للحكومة، ولم تدرك الحكومة هذه المؤامرة المزدوجة في
بداية الأمر مما زاد الطين بلة.
المنظمات التنصيرية وعمليات الإغاثة المزعومة:
منذ بداية الحادثة بدأت المنظمات التنصيرية تتوافد على غينيا (كوناكري)
وساحل العاج لاستغلال ظروف الناس القاسية، لإيصال معتقداتهم الباطلة إليهم
بحجة الإغاثة، وكما هو معروف تحت ستار (الإنسانية) ، وقد تم مؤخراً نقل
مجموعة كبيرة من اللاجئين من غينيا إلى مراكز لإحدى هذه المنظمات في دول
أفريقيا بحجة ضيق مأواهم في غينيا، ومن يدري ماذا سينتهي إليه أمر أولئك
المساكين؟ .(30/74)
خبر وتعليق
شؤون سودانية
نشرت جريدة (الشرق الأوسط) بتاريخ 1990/6/4 مقابلة قصيرة مع الدكتور
كمال زكي مصطفى عضو المجلس الاستشاري للجنة السياسية لمجلس الإنقاذ
الوطني في السودان وسألته الجريدة عن التحرك الجديد لإقامة تنظيم سياسي جديد
يستقطب كل أبناء الشعب السوداني على مختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية وتباين
مشاربهم العرقية والدينية..؟ وأجاب الدكتور كمال زكي:
(إن التنظيم السياسي الجديد يهدف إلى تحقيق أهداف منها:
- تجميع أهل السودان في وعاء واحد وتوحيد إرادتهم.
- فتح المشاركة لكل قطاعات الشعب على أن يؤدي العضو قسم الولاء للوطن
والتنظيم السياسي.
- نبذ أي ارتباطات حزبية أو دينية أو عرقية أو قبلية سابقة.
وأوضح أن المجلس الاستشاري قرر تكوين لجان للطواف على الأقاليم كافة
لطرح التصورات والمقترحات حول التنظيم السياسي المرتقب..) .
تعليق:
إن إبعاد الشعب عن التناحر الحزبي أو القبلي شيء طيب، ولكن أن نعود
إلى تطبيق (الحزب الواحد) الذي جربته بعض الدول العربية وثبت فشله الذريع،
فهذا شيء يدعو للاستغراب، إنه لو فرضنا: استطاع الحزب الواحد ضمَّ شرائح
كثيرة من المجتمع فسيبدأ الصراع داخل الحزب للوصول إلى المناصب، أو
استغلال الحزب لأغراض شخصية أو مادية..
وإذا كان الشعب السوداني شعب مسيس وقد فرقته الأحزاب، ولا نريد العودة
إلى تلك الأجواء فليس الحل بأن تنشأ الدولة حزباً وتشكل اللجان، واللجان الفرعية
ونعود إلى الدوامة الشكلية والحزبية.. ولكن الحل أن تستفيد الدولة الآن من كل
الطاقات العلمية وتبدأ بالإصلاح الحقيقي وتبدأ بالتعليم بشكل خاص، ثم تأتي
المشاركة بشكل طبيعي، تأتي عن طريق الشخصيات التي أثبتت كفاءتها، وعن
طريق المخلصين، وفي الدرجة الأولى عن طريق العلماء وأساتذة الجامعات الذين
يرون الإسلام هو الحل.
إن بلداً مثل السودان بمشاكلها الكثيرة تحتاج إلى مخلصين نابهين، أصحاب
جرأة في القرار، وليس إلى سياسيين انتهازيين.
ثم ما معنى قسم الولاء للوطن ونبذ اي ارتباطات دينية، هذه أساليب قديمة
في العمل السياسي والعمل الجاد الإصلاحي هو بداية الطريق.(30/77)
أخبار حول العالم
حكومة كشميرية مؤقتة
قالت مجموعة من المجاهدين الكشميريين تتخذ من باكستان قاعدة لها أنها
بصدد تأليف حكومة مؤقتة تمثل الكشميريين الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال
الهندي. وقد أعلن رئيس جبهة تحرير كشمير أمان الله خان في مؤتمر صحفي في
مدينة مظفر آباد الباكستانية عن أعضاء الحكومة الذين سيبلغ عددهم أربعة وعشرين
عضواً، وسيكون من بين هؤلاء ثمانية عشر عضواً من الشطر الذي تحتله الهند
من كشمير في حين أن البقية الباقية يمثلون الجزء الذي تسيطر عليه باكستان.
ومن جهة أخرى وعلى الصعيد العسكري فقد اشتدت حدة المعارك هناك
ودخلت طوراً جديداً وذلك بعد استخدام الكشميريين للصواريخ لأول مرة منذ اندلاع
الصراع، فقد قام المجاهدون بإطلاق عدة صواريخ على مركز تابع للقوات الهندية
وأدى القصف إلى مصرع أربعة جنود هنود وجرح عدد كبير.
الجارديان 19/6/1990م
الإندبندنت 20/6/1990م
الأمريكان والسوفييت يقتربون من التوصل إلى معاهدة بشأن أفغانستان
قال وزير الخارجية الأمريكي في الأسبوع الثاني من شهر حزيران (يونيو)
أنه لم تعد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سوى خلافات صغيرة جداً جداً
إزاء الكيفية التي سيتخذها الحل السلمي في أفغانستان. وقال الوزير: إن نقطة
الخلاف الوحيدة بين الدولتين هى تلك التي تتعلق بمسألة بقاء أو زوال الرئيس
نجيب الله من منصبه أثناء الفترة الانتقالية التي ستسبق الانتخابات.
التايمز15/6/1990م
مانديلا يؤكد على حق إسرائيل الثابت في الوجود
فى أعقاب اللقاء الذي تم بين مجموعة من اليهود الأميركان ونائب رئيس
المؤتمر الوطني الأفريقي نيلسون مانديلا يوم 10 / 6 / 1990 م لمناقشة موقف
الأخير من إسرائيل، صرح الرئيس التنفيذي للمؤتمر اليهودي الأمريكي: أن
مانديلا شدد على دعم المؤتمر الوطني الأفريقي لحق إسرائيل في العيش ضمن
حدود آمنة. ووصف اليهود المشاركين في اللقاء المحادثات بأنها فاقت التوقعات.
هيرالدتربيون 11/6/1990م
ملاحظة: كان ياسر عرفات قد أهدى مانديلا سيفاً مصنوعاً من الذهب
الخالص وذلك بمناسبة خروج الأخير من السجن! !
الماء سلاح إسرائيلي جديد لقمع الانتفاضة
بدأت السلطات الإسرائيلية باتباع أسلوب جديد في التعامل مع الانتفاضة
لوضع حد لها، وذلك بقطع مياه الشرب عن أهالي بلدة (جفتلك) السفلى وذلك في
يوم 12/6/1990م. ولا تبعد القرية المذكورة سوى مسافة مائة متر عن حدائق
ومروج إحدى المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراض عربية مصادرة، والتي
تتمتع بكميات وفيرة من مياه الشرب. وفي الوقت الذي ينفي فيه الإسرائيليون
استخدام الماء كسلاح؛ فإن كبار السن في القرية أُبلغوا سراً أن إمدادات المياه لن
تستأنف قبل الحصول على تعهد من الأهالي بالإقلاع عن رمي الحجارة وإحراق
إطارات السيارات على الطريق المؤدية إلى أريحا. ومع ارتفاع درجة حرارة الجو
وازدياد الحاجة إلى المياه تضطر النساء والأطفال إلى الذهاب إلى بساتين
المستوطنات الإسرائيلية لجلب المياه من هناك، أما كبار السن من الأهالى
والمقعدين فإنه لاخيار لهم سوى الاعتماد على المياه المالحة التي تضخ لمدة نصف
ساعة في اليوم لأغراض الري. ويقول أحد أهالي القرية: إننا نضطر إلى اقتسام
المياه مع ماشيتنا.
ومما يذكر أن قرية (جفتلك) تقع على حافة غور الأردن ذي التربة الخصبة
والذي يزود الضفة الغربية بأكثر من نصف احتياجاتها من الفواكه والخضار،
وتمارس السلطات الإسرائيلية منذ احتلالها للمنطقة في عام 1967 م ضغوطاً على
أهالي القرية لترحيلهم عنها.
الأوبزرفر 17/6/1990م(30/79)
ركن الأسرة
أطفالنا في رحاب الإسلام
خولة درويش
إن أسرتنا المسلمة صورة مصغرة لمجتمعنا الإسلامي الكبير، وهي اللبنة
الأساسية في بناء المجتمع المؤمن.. فيها تعد معاييره ومبادئه ومثله العليا، وفي
ظلها يتلقى الأطفال مشاعر الخير، وبذور الإيمان، وكلما نجح الأبوان في أداء هذا
الواجب، نجح المجتمع وتمكن من الوصول إلى غاياته وأهدافه.
(ولقد دلت تجارب العلماء على ماللتربية في الأسرة من أثر عميق خطير،
يتضاءل دونه أثر أية منظمة اجتماعية أخرى في تعيين الشخصيات وتشكيلها،
وخاصة خلال مرحلة الطفولة المبكرة، أي السنوات الخمس أو الست الأولى من
حياة الفرد.
وذلك لأسباب عدة منها: أن الطفل في هذه المرحلة لا يكون خاضعاً لتأثير
جماعة أخرى غير أسرته. ولأنه يكون فيها سهل التأثر سهل التشكل، شديد القابلية
للإيحاء والتعليم.. قليل الخبرة، عاجزاً ضعيف الإرادة قليل الحيلة.. وتكون
السنوات الأولى من حياة الطفل فترة حاسمة خطيرة في تكوين شخصيته، وتتلخص
خطورتها في أن ما يغرس في أثنائها من عادات واتجاهات وعواطف ومعتقدات
يصعب أو يستعصى تغييره أو استئصاله فيما بعد، ومن ثم يبقى أثراً ملازماً للفرد
في عهد الكبر) [1] .
وقبل ذلك بين رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «إنه ما من مولود
يولد إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه» [2] ، (هذه الفطرة لو
ترك الطفل من غير تأثير لما كان إلا مسلماً، ولكن الحجب قد تحول دونها بالتوجيه
للاعتقادات الباطلة) [3] . يقول ابن القيم-رحمه الله-: (وأكثر الأولاد إنما جاء
فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم
صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على
العقوق فقال: يا أبتِ إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتنى وليداً فأضعتك
شيخاً) [4] .
لذا فواجب الأبوين المسلمين: رعاية الفطرة والاجتهاد في تحسين تربية
أبنائهما، ولا يكفل لهما النجاة يوم الحساب إلا أن يبذلا ما في وسعهما لصلاح
رعيتهما، وصيانة الفطرة من الانحراف، «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» .
وفي ظل المجتمع المسلم، يعرف كل فرد دوره ورسالته، ويتحمل مسؤوليته
متطلعاً إلى ما هو خير وأبقى من الدنيا الفانية، وبالإسلام تعرف المرأة أنها ذات
رسالة تؤجر عليها إن أدتها كما يريد الله سبحانه وتعالى. وهي رسالة تتناسب مع
تكوينها الفطري. إنها المحضن الدافيء العطوف للأطفال.. فهي أقدر من الرجل
على إرواء حاجات الطفل من المحبة والحنان وبقية حاجاته الأساسية، التي لو حرم
منها الطفل لعانى الكثير من المصاعب في مستقبل حياته.
(والطفل في سنواته الأولى على الأقل يحتاج إلى أم متخصصة لا يشغلها شيء عن رعاية الطفولة وتنشئة الأجيال، وأن كل أمر تقوم به خلافاً لتدبير أمور البيت، ورعاية الأطفال، إنما يتم على حساب هؤلاء الأطفال، وعلى حساب الجيل القادم من البشرية) [5] .
أما لوثة انشغال الأمهات، فهي لوثة حديثة، هاجمتنا مع دعاة الغزو الفكري
لتهدم بنياننا من الداخل، وتقبَّلها أتباع كل ناعق.. رغم أن العقلاء عند الأمم
الغربية بدأوا يشكون من تمزق الأسرة، وتتوالى صرخاتهم من تلك الديار تشكو
انشغال الآباء، وضياع الأبناء.
فماذا حصَّل المجتمع؟ ماذا لاقى الأطفال؟ بل ماذا جنت المرأة نفسها؟ ! لقد
تحول كثير من بيوتنا إلى مسخ قاتم بدلاً من أن تكون جنة يتفيأ ظلالها جميع
أفرادها. وصارت الكآبة تكلل الجميع، بعد أن أتلف العمل كنز عواطفها وجفف
ينابيعه. وأنَّى يلقى المجتمع العلاقات الإنسانية النبيلة، التي وأدناها يوم أن عملت
المرأة، وتركت الأطفال يعيشون في أجواء يفقد فيها الحنان والحب والاستقرار.
فالتعب والكدح قد أثقل كاهلها واستقطبا وقتها، فحرمها من رحابة الصدر
التي تعينها في توجيه أطفالها ومداعبتهم، وأصبحت موزعة العواطف مشتتة
الجهود، لا تجد وقتاً تخلو فيه لحاجاتها الضرورية، بل الراحة والاستقرار، وإذا
أكدنا على أهمية المرأة، ذلك لأن الطفل أكثر التصاقاً بها في سنوات العمر
الأولى لحاجته الماسة إليها.
إلا أن الأسرة ليست أمومة فحسب، وإنما يكمل كل من الزوجين الآخر ولكل
دوره. والمرأة والرجل قطبا الإنسانية - كما يقول مالك بن نبي -رحمه الله -[6] ، فالرجل بما يوفر لزوجته من سكن نفسي وطمأنينة وتأمين الكسب الذي يكفل لها
ولأبنائها الحياة الكريمة لتؤدي مهمتها باطمئنان.
وكلا الزوجين بلغة العصر (الجندي المجهول) الذي يربي الأجيال، أو
بالأحرى من الأخفياء الأتقياء، يتعاونان في إعداد شباب المستقبل وأمهاته، رغبة
فى الأجر واحتساباً لما عند الله بعيداً عن الظهور والمحاراة، وطمعاً بثواب صدقة
مستمرة تبقى إلى ما بعد الموت.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع
به، أو ولد صالح يدعو له» [7] .
أما وقد أصبحت العادة في بعض البيوت أن تتنازل الأم عن دورها، فتوكل
إلى الخادمة أمر أطفالها، إطعاماً ورعاية، بل توجيهاً وتربية، فذلك ضريبة أخرى
تدفعها الأسر بدل عمل المرأة، وإن كان الأمر لا يخلو من حالات أخرى تسند فيها
الأم أعمالها إلى الخادمة، ولعل من أسباب وجود هذه الظاهرة:
1 - كسل الأمهات.
2 - التهرب من المسئولية.
3 - التباهي في الرفاه والمظاهر الكاذبة، والأنفة من القيام بواجبتهن الأسرية.
والسبب الأصيل لكل ذلك هو: البعد عن التصور الحقيقي للإسلام. وتكون
الطامة الكبرى عند استقدام الخادمة - الأجنبية الكافرة - فهي تنقل عادات قومها
وقيمهم إلى أبناء أسرنا بسبب تأثيرها المباشر عليهم.
وأصبح كثير من بيوتنا فيه خلط عجيب من الأخلاق والعادات والتقاليد.
والواقع المحسوس يأتي بالمضحكات المبكيات.
إن الرقي الحضاري لا يكمن في تأمين الرفاه وتوفير الخدم، وإنما هو نتاج
تربية واعية مدروسة، لا تقدر عليها الخادمة، وهي أمية غالباً، وقد تكون على
دين يخالف ديننا.
والأب الأناني الذي تخلى عن واجبه الأسري دونما سبب ذي بال إلا أن يلهو
مع أقرانه، أو يشتغل بتنمية ماله.. فعهد إلى السائق أو الخادم أن يقوم بدور الأب، هو الموجه وهو صاحب السلطان.
وهكذا.. أصبح كثير من الأطفال - صانعي المستقبل - لا ارتباط حقيقي لهم
بدينهم ولا بأسرهم، بسبب هذا الوباء الذي عم كثيراً من الآباء والأمهات:
الانهزامية والتهرب من المسئولية.
فيا أختي المسلمة: لا اعتراض على وجود الخادمة، إن كنت بحاجة إليها،
ولا تنسي أن لها مهمتها ولك مهمتك، فلا تتنازلي لها راضية عن عملك أُمَّاً مربية
لأطفالك وهذا أخص خصائصك.. ساعدي ابنك على البر بك.
إن الحنان الذي يرافق إطعامك لطفلك، والبسمة التي تشجعه إذا أصاب،
والنظرة العاتبة التي ترده إلى جادة الصواب إن أخطأ.. كل ذلك له الأثر الذي لا
يمحى من ذاكرة الطفل.
وأنت أيها الأب الكريم: ليسع عطفك ابنك، وهذا هو خير عطاء تمنحه إياه، إن دخولك المنزل تحمل الأغراض التي ساعدك بشرائها الخادم، وتقدمها بيديك
لزوجتك وأولادك لا يعوض عملك هذا ملء البيت ألعاباً وتحفاً وملابس وحلوى
يباشر تقديمها لهم الخادم. والله أسأل أن يوفق أسرنا المسلمة إلى التربية البناءة
الواعية.
__________
(1) أصول علم النفس، د أحمد عزت راجح ص 426، والتربية في الإسلام، للأهوان، ص 130.
(2) متفق عليه.
(3) الفتاوى لابن تيمية4/247.
(4) تحفة المودود لابن القيم / 139.
(5) منهج التربية الإسلامية، الأستاذ محمد قطب 108/2.
(6) شروط النهضة / 116.
(7) أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) ، ومسلم في (صحيحه) (صحيح الجامع الصغير م 1/199) .(30/83)
الرَّضَاعَة الطَّبِيعِيَّة
إعداد: د. محمد هلَيِّل
إذا كان الحليب هو الغذاء الوحيد للمولود الرضيع، فإن حليب الأم كان
المصدر لهذه التغذية، وإذا لم يكن من الأم كان من إحدى الجارات أو القريبات، إذا
لم تتمكن الأم من إرضاعه، وكان العرب وقريش خاصة يرسلون أولادهم للبادية
يلتمسون المراضع، فالحليب هو المصدر الرئيسي للتغذية سواء كان من الأم أو من
امرأة أخرى، ولكن مع غزو حضارة الغرب لنا بكل ما فيها، أخذ الكثير من النساء
بالتخلي عن هذا الواجب وبخلن على فلذات أكبادهن بحليبهن، واستبدلن حليب
البقر المعدل بحليب الأم الطبيعي، دون أن يكون هناك داع طبي.
ففي دراسة أجريت على 340 امرأة مرضعة في إحدى دول الخليج العربي: ...
خلص طبيبان مسلمان إلى نتيجة تقض المضجع، وهي: أنه كلما ازداد دخل
الأسرة كلما قل إقبال الأم على إرضاع وليدها منها، وأنه كلما ازداد مستوى التعليم
للأمهات كلما قلت نسبة إرضاعهن لأطفالهن رضاعة طبيعية، إن المرء يتوقع أن
يزداد الإقبال على الرضاعة الطبيعية كلما انتشر التعليم بين النساء لا العكس،
ولكن هذه هي إحدى نتائج الحضارة الوافدة على الصغار الرضع.
إن البدائل الأخرى لحليب الأم يجب ألا يُلجأ إليها إلا عند وجود ضرورة
يحددها الطبيب، كإصابة الأم ببعض الأمراض التي تحول دون الرضاعة، أو
تناول بعض الأدوية التي تحتم إيقاف الرضاعة، أو عدم اكتفاء الرضيع أو التوأمين
بحليب الأم، أو غير ذلك، على ألا تستخدم هذه البدائل دون داع طبي، كأن تمتنع
الأم عن إرضاع طفلها رغبة منها بالمحافظة على رشاقتها! أو لاقتناعها أن
إرضاعها طفلها منها هي عادة بالية في عصر التقدم.
في الوقت الذي انساق فيه كثير من الأمهات وراء وسائل الدعاية المختلفة،
وخلال تقليدهن الجارف للغرب باستعمال بدائل لحليب الأم، نجد - وللإنصاف -
أن بعضاً من الأمهات مازلن يحرصن أشد الحرص على إرضاع أطفالهن منهن.
ولئن كان نساء الأمم الأخرى يرضعن أطفالهن منهن كعادة موروثة، فإنه
بالنسبة للمرأة المسلمة واجبٌ دينيٌّ وعبادة تثاب عليها، وصدق الله إذ يقول:
[والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] .(30/88)
كيف تقرعين باب الجنة؟
نجوى محمد الدمياطي
إلى أختي المسلمة.. إلى من تستلهم في حياتها من التقوى إطاراً، ومن العلم
قيمة، ومن الصلاح عملاً.. أهدي هذه الكلمات لكي تدافع عن إيمانها بالتطبيق،
وتظهر إسلامها بالقدوة والعمل، فتفوز في الدنيا والآخرة، وتكون لها الحياة الطيبة. قال تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] .
أختي المسلمة..
تعلمين يا أختاه أن منهاج الله منهاج عبادة، وأن العبادة فيه ذات أسرار، ومن
أسرارها أنها مدد للروح وجلاء للقلب، وأنها زاد الطريق.
ولقد عرف الرعيل الأول من المسلمات هذه الحقيقة، وأدركن طول السفر،
فتزودن له بخير الزاد.. (التقوى) .. قال تعالى:
[وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] ، فالتقوى هي
زاد الطريق إلى الله، زاد القلوب والأرواح، والتقوى حساسية في الضمير وخشية
مستمرة وحذر دائم، وما يدفع الهوى إلا التقوى ومخافة الله ومراقبته في السر
والعلن.
والتقوى هى التي تهيئ القلب ليلتقي ويستجيب، قال تعالى: [الم * ذَلِكَ
الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] .
والتقوى تجعل في القلب فرقاناً يكشف له الحق من الباطل ويبصره بطريق
الحق، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ويُكَفِّرْ عَنكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] .
والتقوى الحقيقية يا أختاه هي تقوى القلوب لاتقوى الجوارح، قال تعالى: [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] . وقال -عز وجل-: [لَن
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ] .
ولذلك تكون المسلمة أحرص على إصلاح سرها منها على إصلاح علانيتها،
وتخشى الله ولا تخشى الناس.
هذه هي التقوى.. وهي غاية عالية وهدف أسمى، هل أدلك على وسيلة من
وسائل تلك الغاية؟ إنه الصوم يا أختاه. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ، فالتقوى تستيقظ في
القلوب وهي تؤدي عبادة الصوم طاعة لله وإيثاراً لرضاه.
فالصوم يجعل للتقوى القوامة على الجسد وحاجاته، بل يجعل الجسد مطية
للروح، فيصفو الفكر ويرهف الحس وتشف النفْس.
ولذلك فإن الصوم يا أختاه يخرج فرداً لا يقبل أن يبيع دينه ببطنه أو فرجه..
وكلما دُعي لعبادة الطواغيت ردد قول يوسف -عليه السلام-: [رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ
إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ] .
أختي الحبيبة:
إن الصوم أسلوب عملي لتربية النفس وتهذيبها وتعبيدها لله رب العالمين،
وإمدادها بعون الله لتثبت في دربها الطويل وطريقها الوعر في مواجهة التحديات
والمحن.
وذلك لأن الصوم يربي الإرادة، الإرادة التي تصمد للحرمان وتستعلي على
الضرورات وتؤثر الطاعة. فالصوم يربى إرادة (الامتناع) التي هي أصل الإرادة
في الإنسان، وقد كانت تجربة (الإرادة) التي خاضها آدم وحواء في الجنة هي
تجربة إرادة (الامتناع) ، قال تعالى: [وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ
وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ] .
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون إرادة الامتناع إرادة مطلقة
فقال - صلى الله عليه وسلم: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم
عن شىء فاجتنبوه» ، فأوجب رسول الله الانتهاء عن المنهيِّ عنه مطلقاً، بينما
جعل الأمر بقدر الاستطاعة.
أختي الحبيبة:
لقد أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مقام الصائمين الذين استعلوا
على أهوائهم وغرائزهم ولجموها بلجام التقوى، فقال: «الصيام والقرآن يشفعان
للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب: منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه،
ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه. قال: فيشفعان» .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل
منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل
منه أحد» .
وبين -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم يكون حجاباً بين صاحبه وبين النار،
فقال: «ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن
النار سبعين خريفاً» .
أختي الحبيبة:
إن من الأشياء ما لا تدركه الكلمات، وليس يكفي أن نقول: (هذا حلو) إذا
لم نتذوق طعمه فمن ذاق عرف، ومن هذه الأشياء طعم الطاعة لله بالصيام! !
فجاهدي نفسك يا أختاه بالصوم، فإنه من أهم عوامل تزكية النفس وبلوغها درجة
التقوى وقربها إلى باب الجنة.(30/90)
ظواهر
الكتب البيضاء
في بعض ما ينشر من تحقيق لكتب التراث أشياء ملفتة للنظر، تستحق
العجب والرثاء، كما تستحق تذكير المؤلفين والناشرين بأن يرحموا القراء وجيوب
القراء.
اطلعتُ في المدة الأخيرة على كتاب محقق في مجلدين، لو حذفت منه
الصفحات البيضاء لرجع مجلداً واحداً أو أقل، فالمحقق يصر على وضع حديث
واحد في كل صفحة، فربما يستغرق التعليق والتخريج بقية الصفحة، أو يأخذ
أسطراً قليلة؛ فتبقى الصفحة أكثرها بياضاً، وإذا امتد هامش الصفحة الأولى إلى
الثانية فالثانية ستبقى كلها بياضاً ماعدا بقية الهامش.
إنها محاولة لتضخيم حجم الكتاب على حساب القراء المساكين، وهناك أمور
أخرى تزيد من حجم الكتاب مثل الترجمة للمؤلف ولو كان مشهوراً، وقد ترجم له
كثير من قبل، بل ترجم له المحقق في كتب سابقة: كالسيوطي وابن رجب وابن
القيم.. بل تجد في كل تحقيق لوريقات من مؤلفات ابن رجب ترجمةً له..
ولشيوخه وتلامذته ثم تصوير ثلاث ورقات أو أكثر من المخطوطة، ثم فهارس
الآيات والأحاديث والشعر.. مع أن كل المخطوطة لا يتجاوز وريقات تعد على
الأصابع، ولا مانع بعد كل ذلك من الترجمة في الهامش لمثل أبي بكر الصديق أو
عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، أو لمالك والشافعي، أو للبخاري ومسلم،
والفهارس في النهاية لا تبلغ إلا أربع آيات أو ثلاثة أبيات من الشعر، فالكتاب لا
يحتمل الفهرسة، ولكنه مرض الورَّاقين، ولمثل هذا أنشد أبو العلاء المعري:
ولمَّا رأيت الجهل في الناس فاشياً ... تجاهلتُ حتى ظُن أني جاهل(30/93)
مشاهدات من أمريكا
الرأسمالية البشعة
محمد سليمان
أول ما تفاجأ به وأنت تدلف إلى مطار إحدى المدن الأمريكية - ذلك الاتجاه
المادي الرأسمالي الواضح، كل شيء يدل على هذا الاتجاه، في كل خطوة تخطوها
يجب أن تدفع، ثم تتأكد هذه الملاحظة عندما تكتشف أكثر فأكثر هذه الرأسمالية
(العارية) .
إن أوربا الغربية رأسمالية أيضاً ولكنها طبعة مخففة عن أمريكا، ففي الأخيرة
تحس بوحش الرأسمالية الذي يطل من خلال التكتلات الكبيرة، المصانع الكبيرة،
المنظمات التي تخطط لاستمرار هذا الوضع لصالح الفرد الجشع.
لا يوجد مكان للصغار، فلابد أن تحمي نفسك داخل منظمة أو تكتل، اليهود
هم الذين عرفوا طبيعة هذه البلاد الجديدة، فكان عملهم كله من وراء منظمات قوية، ومعترف بها رسمياً.
لم تتغير طبيعة الأمريكي الوافد من أوربا والذي يجري لاهثاً وراء الذهب
والأرض، وكان الحق مع من غلب، ليس هناك قانون إلا قانون القوة، وهذه
تتمثل الآن في الشركات والضغوط الاقتصادية، وتلحظ بعض هذه المظاهر في
مدينة شيكاغو، فعندما صعدنا إلى الدور (103) من أعلى عمارة فيها، ورأينا
منظر المدينة حولنا، والتي تكثر فيها العمارات الشاهقة؛ أصابتنا كآبة لهذا الجو
المادي الكالح، أَلِهَذا الحد يصاب الإنسان بجنون السباق المحموم في التكالب على
الدنيا؟ ، تذكرتُ في هذا السياق كلاماً لابن تيمية يذكر فيه أن المبالغة في إتقان
الدنيا غير مطلوب، لابد من إتقان بعض أمور الدنيا حتى تكون وسيلة للآخرة،
وحتى يعيش المسلم معززاً مكرماً، وليس كما يفعل الغرب في هذا العصر.
ومع اتساع هذا القارة يزداد الضغط على المسلم الذي يعيش في إحدى ولاياتها، ولايتمكن من رؤية إخوة له إلا في فترات متباعدة جداً، وفي داخل الولاية فإن
المساجد والمراكز الإسلامية هي التي تقي المسلم شرور هذا المجتمع الرأسمالي،
وإلا فإنه سيضيع في خضم هذا الاتساع وهذا التكالب على الدنيا، ومن جهة أخرى: فإنه يبدو أن لهذا الاتساع أثر إيجابي على الطلبة المسلمين هناك، فقد رأيتهم
أرحب صدراً لقبول الآراء المخالفة ومناقشتها، إذا ما قورنوا بغيرهم في مناطق
أخرى.
إن حجم الدارسين والجالية الإسلامية كبير جداً في تلك البلاد، وما تقوم به
الجمعيات والمراكز الإسلامية والمؤتمرات التي تعقد هناك عمل يشكرون عليه
ويحمدون، ولكن في قارة مثل هذه لابد من جمع الشتات، ولابد من إثبات الوجود
أمام التكتلات الكبيرة والمنظمات العريقة.(30/94)
بأقلام القراء
الذين ينصبون أنفسهم مدافعين عن الدين
أم عمار - اسكتلندا
كثير هم.. أولئك الذين يجنون على الإسلام، وعلى الأمة الإسلامية مع أن
بعضهم يبدو عليه معالم الالتزام في كثير من مناحي سلوكه.
إنهم أولئك الذين يعرضون الإسلام على عقولهم.. فإذا وافقها قبلوه، وإذا
خالفها رفضوه، وقاصمة ظهر الأمة أن يتزعم هؤلاء دعوة أو يلبسوا لباس أهل
التقوى، فيحلوا ويحرموا؛ فيهلكوا ويهلكوا.
إن الأمة الإسلامية قد أكرمها الله بأن جعل لها نصاً ثابتاً حفظه من التحريف
والضياع، وجعل لها حكمة قرنها بالقرآن وجعلها مبينة له وهي السنة التي جاءت
على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن السنة لم تدون في عصره -صلى
الله عليه وسلم- لحكمة أرادها الله، فاعتمدت على الرواية، وكان الناس يقبلونها
يوم أن كان يؤمن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما اندس بين
المسلمين من أعدائهم من تشبه بسمتهم وأظهر هديهم، وفي قلبه مرض الكيد للإسلام، بدأ الاعتناء بالسند.
فهذه الأمة على ما أكرمت من حفظ لكتاب الله، أكرمت بالسند الذي من خلاله
يميز الطيب من الخبيث، مما يدور على الألسنة وتسطره الكتب من سابق العصور
ولاحقها، ومن ثم ابتليت الأمة بقوم اغتروا بعقولهم، وأحسنوا الظن بها، فنبذوا
الأسانيد التي أكرم الله الأمة بها، فليت شعري، أنترك حديث رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لأنه لم يبلغ عقل هذا أو ذاك؟ ، إنا إذاً خاسرون، نخسر مكرمة
أكرمنا الله بها دون غيرنا، فما قيمة الأسانيد؟ ، وما قيمة كتب الرجال التي أضاع
العلماء فيها أعمارهم، وإلا لو حكمنا العقول لأتى من بعدنا من يغير ويبدل حسب
عقله، حتى يندرس العلم؛ ويضيع الفهم الصحيح النقي.
فيا من يسخرون من حديث صح سنده -وكان كالشمس في رابعة النهار- لأنه
خالف عقولكم ويبرؤون الدين منه، ونصبوا أنفسهم حماة ومدافعين: اتقوا الله،
اتقوا الله، أن تخاصموا رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-، ويا من يقلد هؤلاء
ويسير على نهجهم: اتقوا الله، فالدين ليس بالعقول القاصرة، فالعقل الصحيح لا
يعارض النص الصريح.(30/101)
بأقلام القراء
أمر خطير
عبد الله حجراف
إن من نعم الله على المسلم أن يوفقه لاتباع المنهج الصحيح، فيجب عليه ألا ...
يقع في المزالق الخطرة، حدثت واقعة أثَّرت في نفسي ودب الضعف إليها، حصل بين بعض الدعاة اختلاف في وجهات النظر، فتطاول أحدهم على صاحبه، وتكلم عليه في غيبته، لقد تناسى أصحاب هذا الخلاف أن يلتمس بعضهم لبعض العذر ما دام يعلم من أخيه الجد والاجتهاد في الدعوة، وأن الصغار إذا رأوا ذلك في الكبار فسو ف تحدث له شكوك في أصحاب هذا المنهج، وربما يضعف دينه. فهل لنا أن نعي خطورة هذا الأمر؟ واختلاف وجهات النظر لا يؤدي إلى هذه التصرفات.(30/102)
الصفحة الأخيرة
حجة ساقطة
عبد القادر حامد
من يتابع تصريحات دعاة (السلام) الذليل والهزيل مع اليهود؛ واللاهثين
وراءه بكل قواهم؛ يصيبه العجب العجاب من الحجج التي يسوقونها ليعطف عليهم
اليهود وأشياعهم؛ فيقبلوا مجرد بحث هذا الموضوع. ومن هذه الحجج الرخيصة
والساقطة: أنهم يحاولون إقناع خصومهم بأنهم هم الطرف الوحيد المعتدل العاقل
الذي يمكن التفاهم معه، بل وتبلغ بهم الصفاقة أن يلوحوا بأن التعامل مع اليهود من
أجل كبح من يسمونهم (المتطرفين) ، وهذه دعوة صريحة للتعاون مع العدو ضد
بني جلدتهم!
وهذا الموقف ينطوي على قصر نظر، ويحمل سوء قصد وخبث هدف.
وفيه من الخسة والانحطاط الخلقي - الذي هو صفة من صفات المنافقين - ما يدعو
إلى فضحه والتحذير منه بكل وسيلة.
أما قصر النظر: فهو ظنهم أن العدو يمكن أن يثق بهم، ويتخلى عن شيء
من خططه التوسعية ومطامعه وأهدافه في العمل الدؤوب على إضعاف كل عناصر
المقاومة عند العرب، ومقارنتهم (المتطرفين المسلمين بالمتطرفين الصهاينة) .
وأما سوء القصد وخبث الهدف: فهو سعيهم الحثيث للصلح مع العدو،
ومحاولتهم المستميتة لتجميل صورهم القبيحة في نظر العدو، بينما لا يبذلون مثل
هذا الجهد لإظهار حسن النية مع أبناء أوطانهم ممن يخالفونهم الرأى؟ بل
يحرصون على احتكار الأعمال الوطنية ويدعونها لأنفسهم، ويجردون الكثيرين من
بني أوطانهم من كل الحقوق والامتيازات؛ إلا حق التعرض لبطش العدو وجبروته، وتجاهل المفترض أن يكون صديقاً وتحامله وتشويهه..(30/104)
المحرم - 1411هـ
أغسطس - 1990م
(السنة: 5)(31/)
الافتتاحية
ورثة أبي لهب
جاء في سنن الترمذي أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - كان في أوائل
الدعوة المكية يعرض نفسه على العرب في موسم الحج يدعوهم إلى الإسلام وإلى
حمايته حتى يبلغ دعوته ويقول لهم: «ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً
منعوني أن أبلغ كلام ربي» .
وأخرج الإمام أحمد في المسند عن ربيعة بن عباد قال: رأيت النبي - صلى
الله عليه وسلم - في الجاهلية في سوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله
إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه يقول: إنه
صابئ كذاب، يتبعه حيث ذهب، سألت عنه قالوا: هذا عمه أبو لهب.
لقد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعرب بالعز والسعادة في الدنيا
والآخرة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور [وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولِقَوْمِكَ] وكان -
صلى الله عليه وسلم- حريصاً مشفقاً على قريش وعلى الناس أجمعين ولكن عمه أبا
لهب كان يخذل الناس عنه ويمنعهم من نصرته، فكان العرب عندما يسمعون كلام
أبي لهب يقولون (أهله وقومه أعلم به) .
ونحن في هذه الأيام نقول للعرب والعجم: طبقوا شرع الله تفلحوا وتصبحوا
أمة معدودة بين الأمم، إن الإسلام هو قدرنا وهو خيارنا الوحيد وهو هويتنا الذي
يحفظ لنا شخصيتنا، وما ظنك بدين اختاره الله لنا. والعرب بلا إسلام أصبحوا
أضحوكة للعالم يخافون من (شامير) و (شارون) .
ونقول أيضاً للعرب والعجم: لقد جربتم كل الأفكار والمذاهب ففشلتم
وتنازعتم، وأصدقاؤكم القدامى، الاتحاد السوفييتي ومن كان يسير في فلكه أداروا لكم ظهورهم، وأمريكا تمارس (البلطجة) فأين المذهب؟
إن صنيع أبي لهب يذكرنا بموقف الصحافة العربية من أحداث الجزائر
ونجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فقد بدأت هذه الصحافة بالتحذير من (التطرف)
و (الأصولية) ، وأن هؤلاء المسلمين سيخربون المدينة (أين المدنية؟) .
لم يستطع أصحاب هذه الصحف أن يكونوا موضوعيين ويعترفوا أن الشعوب
العربية تريد الإسلام، بل تمنى أصحاب هذه الصحف أن لو عاد العسكر حتى لا
يأتي المسلمون، وهم الذين ينادون بـ (الديموقراطية) صباح مساء.
قالت (الوطن العربي) في عددها الصادر في 22/6/90: (إن الجبهة
الإسلامية تعتمد على الخلط بين السياسة والدين، وقد استغلت الأوضاع الاقتصادية
لصالحها) ، ثم حاولت المجلة إثارة الجيش باعتباره (الضامن الوحيد للاستقرار)
وفي نفس العدد وفي صفحتها الأخيرة اتهمت التيارات الإسلامية بأنها تُشجَّع من
جهات أجنبية، وهذه اتهامات سخيفة لم تعد تروج على أحد، وهي عودة إلى
المهاترات والردح الذي راج في الخمسينات والستينات.
أما صحيفة (الوطن) الكويتية الصادرة بتاريخ 22/6/90، فبعد أن ذكرت
فوز الجبهة الإسلامية بـ 82% من الأصوات ذكرت أن المثقفين الجزائريين
يعيشون حالة قلق لما يمكن أن تخبئه لهم الجبهة الإسلامية. وتقصد الصحيفة بـ
(المثقفين) المسرحيين والرسامين والروائيين، وكأن الصحيفة تريد أن تصور
الجبهة الإسلامية بأنها وحش مخيف، وأظن أن هؤلاء المثقفين قد تملكهم الخوف
لأنهم يعلمون من أنفسهم أنهم يمثلون (الطابور الخامس) الثقافي ضد الإسلام، وإذا
كانوا غير ذلك فلماذا يخافون.
ومجلة (اليوم السابع) تسأل نجيب محفوظ عن (ظاهرة التطرف الديني
وأخطارها المحدقة بالشعوب العربية والإسلامية) وطبعاً المجلة تقصد كل المتدينين
ولا تقصد فئة متشددة بعينها تخالف ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لقد
صورت المجلة (التدين) بأنه الخطر المحدق بالشعوب العربية، أما ما تمارسه
المجلة من التبعية للشرق ولليسار فليس خطراً محدقاً، وليس هو الذي جاء بهزائم
1967 وما بعدها.
لقد قامت كثير من الصحف بما قامت به أخواتها وما قصرت في الصد عن
ذكر الله والهجوم على ما يسمونه (الأصولية) المتنامية في الجزائر. وإذا كان
الغرب وصحف الغرب قد أبانوا عن حقد دفين، وخاصة إذا كان هذا الإسلام قريباً
منهم على الطرف الآخر من حوض البحر المتوسط؛ فإن هذا التخوف ينسجم مع
محاولتهم لاستمرار الهيمنة على الشعوب الإسلامية ولكن ما بال الصحف العربية
والمجلات العربية، هل تريد استمرار التردي لذي شاهدناه طوال العقود الثلاثة
الماضية، ولماذا لا يعترفون بأن كل الشعارات التي رفعت سابقاً لم تؤد إلى النتيجة
المرجوة، وأن الحل الوحيد للعرب هو الإسلام.(31/4)
في إشراقة آية
[أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]
- 2 -
د. عبد الكريم بكار
ب- رفض التعميم:
لقد تعقدت الحياة وكثرت التفاصيل فيها إلى درجة جعلت تعميم الأحكام في
أكثر الأحيان أمراً بعيداً عن الحقيقة؛ وصار التعميم في لغتنا في إحدى أهم الثغرات
التي ينفذ منها لهدم ما نقوله وتمييع القضايا التي نعرضها.
على أن التعميم مرفوض في المنهج الإسلامي بصورة عامة، ومن ثم كثرت
الآيات في الكتاب العزيز التي ترد فيها كلمة (أكثر) ، وكلمة (كثير) بمعنى أكثر،
كما أن في السنة ما ينسجم مع هذا من مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن
أعظم الناس فرية لرجلٌ هاجى رجلاً فهجا القبيلة بأسرها) [1] .
والمحدثون الذين يتسم عملهم بالدقة والإتقان كانت لهم تفريقات رائعة في
أبواب نقد الرجال والحكم على الأحاديث من مثل قول مالك - رحمه الله -: «إن
من شيوخي من أتبرك بدعائه، ولكن لا أقبل روايته» ، ومن مثل قولهم: فلان
صدوق إلا أنه غير ضابط..
فالتعبير بـ (الاتجاه العام، أو الانطباع العام، أو الأقرب أو الأكثر) هو
الأدنى من الحق والأكثر انسجاماً مع لغة العصر.
ج - النفور من الوعظ المباشر:
عكر النسيج الثقافي القائم اليوم الرؤية عند كثير من الناس، كما أفسد الكثير
من الفطر السليمة، كما أدى نمو الخصائص االفردية في صورة مرضية في بعض
الأحيان، كما أدى إلى تضخيم الخصوصيات لتنسحب على كثير من شؤون الحياة
العامة التي هي أقرب إلى العموميات، وقد أدى ذلك كلته إلى تكوين مزاج لا يرتاح
للوعظ المباشر، وصار ينظر إليه في بعض الأحيان على أنه خروج عن اللباقة
والآداب الاجتماعية المرعية، أضف إلى هذا أن انخفاض نوعية الدعاة -كما هو
شأن أكثر الأمة- في جانب الالتزام يجعل قبول الناس للموعظة أمراً غير سهل.
ومن ثم فلابد من الاعتماد على الإيحاء والتلميح وضرب الأمثال وغيرها
أسلوباً للخطاب وزكانة الداعية تفتح له في كل يوم آفاقاً جديدة في هذا.
د - الاختصار:
الناس اليوم في عجلة من أمرهم؛ حيث إن المستوى المادي الذي يطمحون
إليه جعل الوقت يضيق عن الشروح الطويلة وتكرار البديهيات واستخدام
المترادفات، مما يقتضي الإيجاز - غير المخل - في إيصال الأفكار والمعلومات إليهم، وصار الإطناب من فضول القول.
هـ - الضيق بالمبالغات:
مرت على أمتنا بعض الفترات التاريخية التي سادت فيها المحسنات البديعية،
وصار إطلاق الألقاب الفخمة يجري دون أي اعتبار أو تحاكم إلى الواقع، ويقف
المرء على هذا في مقدمات بعض الكتب، وما يطرز به أسماء مؤلفيها من الصفات
التي تبتعد عن الحقيقة قليلاً أو كثيراً؛ لأنها لا تستند إلى قاعدة من المعلومات
الصحيحة كما في قولهم:
البحر العلم المجدد جمال الدين فريد عصره ووحيد دهره الذي لم تقع العين
على مثله ... وتطلق هذه الأوصاف على عشرات من العلماء الذين يعيشون في
عصر واحد أو في بلد واحد في بعض الأحيان. وكانت هذه الإطلاقات مجافية لما
عرف عن سلف هذه الأمة، بل لما عرف عن منهجه - صلى الله عليه وسلم -
حيث أثنى على كثير من أصحابه، ووصفهم بصفات محددة، فواحد أعلمهم
بالقراءة، وآخر بالقضاء، وثالث بالصدق، وهكذا..
ولم تقتصر المبالغة على إطلاق الألقاب، بل تجاوزت ذلك إلى أن أصبحت
جزءا من الاعتبارات الذهنية والعلمية عند كثير من الناس، وقد عاد الأمر إلى
نصابه في لغة العصر، وصارت المبالغة مملولة ممجوجة.
و التجديد:
كان من خلق بني إسرائيل أنهم لا يصبرون على طعام واحد، وقد انسحب
هذا الخلق اليوم على كثير من جوانب الحياة في المسكن وترتيب أثاثه، والملابس
وأشكال تفصيلها، والمراكب وأنواعها، وشأنهم في القضايا المعنوية نحواً من ذلك، فهم تواقون إلى الجديد من المعاني والأفكار والأساليب، وصاروا يشعرون بجمود
من لا يواكبهم في ذلك وقصوره، وليس في التجديد ما يذم إذا تم مع المحافظة على
الأصول والثوابت، بل قد لا تتم المحافظة على الأصول إلا من خلال التجديد في
الوسائل والأساليب، حيث تعرض بأشكال تنسجم مع روح العصر.
ز- المعالجة العملية:
تقدم العلوم على الصعد العملية شكل حس الناس ومنطقهم العام، في الميل إلى
الواقعية والارتياح في الصيغ العملية، ونظام الخطوات المتتابعة، التي تسلم كل
واحدة منها إلى الأخرى في الوصول إلى هدف أو حل مشكلة، وصارت الحاجة
ملحة إلى (كيف) ، ولم يعد طرح المبادئ كافياً وحده، فما عاد كافياً الترديد لنحو:
لابد من رفع المستوى الخلقي لدى الفرد، أو لابد لنشر الدعوة بين الناس، بل أنت
مطالب بأكثر من هذا، مطالب ببيان الإمكانات المتاحة، ثم بيان المنهج والخطط
والأدوات التي يمكن استخدامها في الاستفادة من تلك الإمكانات؛ وذلك لأن تعقد
الأشياء وتشابكها يحتاج إلى نوع مكافئ من تعقد الفاعلية على مستوى الخطط
والأساليب والأدوات.
ح -عدم قبول تفسير الظواهر الإنسانية بعامل واحد:
الإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة، وكل الظواهر التي تتصل به ...
على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات، وفي ... الاجتماع والاقتصاد ... كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل.
وإذا كان هذا هو الواقع فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلة مفردة غير
صحيح ولا دقيق؟ فلا يمكن أن يقال مثلاً إن الشعب الأفغاني صمد في وجه
المحتلين بسبب إيمانه أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف، أو
بسبب رصيد الفطرة لديه، أو بسبب العون الخارجي..
إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود، بل إنها
جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية
شروطه وأسبابه. وهكذا ...
كيف نمتلك لغة العصر؟
في العالم اليوم ما يسمى بثورة المعلومات مما يفرض على المثقف المسلم أن
يرسم لنفسه خطة تثقيفية خاصة تناسب رغباته واختصاصه العلمي، والمهمة التي
ندب نفسه لها. والمشكلة الكبرى في عزوف كثير من الناس عن القراءة فأمة (اقرأ)
ما عادت تقرأ مما خلق نوعاً من الخلخلة الثقافية في ساحتنا الفكرية، وجعل كثيراً
من أهل الخير عاجزين عن فهم لغة العصر، وإذا عزم المرء على القراءة فلابد له
من القراءة الواسعة في شتى أنواع المطبوعات، وعليه أن يقرأ لكل المدارس حتى
لا يقع فريسة للانغلاق الفكري أو ضحية للأفكار الفقيرة التي تظهر في أساليب شتى.
ولابد لمن يريد أن يسير في طريق الانفتاح الثقافي من ثقافة شرعية أساسية
يتمكن بها من تحديد الثوابت التي أكبر فضائلها دوامها واستقرارها، حتى لا
ينجرف مع نتاج المدارس والتيارات التي يقرأ لها.
كما لابد له من محاولة امتلاك منهج في التفكير يستند إلى وعي صحيح
بأحداث الماضي، ووعي جيد لظروف الحاضر، حتى يتمكن من امتلاك رؤية
واضحة لكيفية عمل سنن الله في الأنفس والآفاق. إن الذي يملك شذرات من
المعلومات كمن يملك قطعاً من الذهب، أما الذي يملك منهجاً ذا نماذج خاصة، فإنه
يمتلك مفتاح منجم من الذهب، فإذا حصل على هذا وذاك فإن الانفتاح في الاطلاع
يكون خيراً كله، وحينئذ يتجاوز الداعية مرحلة السيطرة على اللغة ليصبح من
موجديها ومؤهليها، ولكن لابد قبل الانهماك في القراءة من اختيار ما نقرأ، فلنقرأ
للعباقرة، ولأولئك الذين يقدرون مسؤولية الكلمة، والذين لا يدفعون بكتابهم إلى
المطبعة إلا بعد الاعتقاد بأنه يشكل إضافة جديدة للفكر الإنساني.
3 - دوام نفعها:
إن الشجرة الطيبة التي ضربها الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة دائمة الثمار،
وديمومة عطائها نابعة من تناسق الصفتين السابقتين: ثبات الجذور، وبسوق
فروعها في جو السماء، والكلمة التي لا جذور لها لا تستطيع أن تصنع شيئاً.
والأفكار التي تبثها قصيرة العمر كزهور الربيع؛ والكلمة التي لا تنسجم مع لغة
العصر لا تستطيع ملامسة أعماق الإنسان الذي تقرع سمعه، والذي وصفناه بأنه
بالغ التعقيد. وقد ملكتنا هذه الآيات الكريمة المقياس الذي نتعرف به على الكلمة
الطيبة، وهذا المقياس هو: [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ] ، فنحن إذا أردنا من هذا
المنظور أن نقيس أداء خطب الجمعة في عالمنا الإسلامي وآثارها في ترقية فهم
الناس للإسلام والتزامهم به وجدنا أن أطناناً من الورق تكتب أسبوعياً دون أن تؤتي
الثمار التي تتناسب مع حجم ذلك الجهد المبذول، ونعني به خطأ الأسلوب.
إن مهمة المسلم أن يعيش عصره ويكون مؤثراً لا متأثراً، وأن يكون له دور
في صياغة لغة العصر.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه والبيهقي قال الهيثمي: رجاله ثقات وإسناده صحيح.(31/7)
الخصائص المميزة لعقيدة أهل السنة والجماعة
-1-
هشام إسماعيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد، وعلى آله وصحبة
أجمعين، أما بعد:
حديث الافتراق من الأحاديث المشهورة، أخرجه كثير من أصحاب الحديث
في كتبهم، وهو كما قال عنه الحاكم: «هذا حديث كثر في الأصول» [1] .
ومن أجمع ألفاظه، ما رواه عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واحدة في
الجنة وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى
وسبعين في النار، واحدة في الجنة، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث
وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله
من هم؟ قال: الجماعة» [2] .
وأولى من يؤخذ منه تفسير كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم
صحابته الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.
وتفسير الجماعة المرادة في هذا الحديث فسره العالم الرباني والصحابي الجليل
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-.
فعن عمرو بن ميمون قال: قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فوقع حبه في قلبي، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام.
ثم لزمت أفقه الناس بعده عبد الله بن مسعود، فذكر يوماً عنده تأخير الصلاة عن
وقتها فقال: صلوها في بيوتكم، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة. قال عمرو بن
ميمون: فقيل لعبد الله بن مسعود: وكيف لنا بالجماعة؟ فقال لي: يا عمرو بن
ميمون إن جمهور الجماعة هي التي تفارق الجماعة، إنما الجماعة ما وافق طاعة
الله وإن كنت وحدك [3] .
وعن الحسن البصري قال: السنة، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل
الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع
في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.
وعلى ضوء ما سبق ذكره، فإن تعريف أهل السنة والجماعة يمكن أن يقال
بأنهم: من وافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً على منهاج
الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين-.
ومن خلال النظر في منهج أهل السنة، وفي حال أهل البدع نجد أن لأهل
السنة خصائص ومميزات تميزهم عن غيرهم، وهذه الخصائص والمميزات نتيجة
للمنهج العقدي الذي يتميزون به عن غيرهم.
ولذلك فإننا نذكر هنا أهم مميزات وخصائص عقيدة أهل السنة والجماعة:
1 - فالميزة الأولى هي: أنها ربانية المصدر:
وهذه أعظم ميزة لعقيدة أهل السنة، فهي تعتمد على الكتاب الذي أنزله الله
تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن ينذر الناس به، كما في
قوله تعالى: [قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ] [الأنبياء: 5] ، وقال عن السنة أنها هي
المبينة للكتاب، فقال سبحانه وتعالى: [وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 4] ، ولذلك كل من ترك النظر والاستدلال بالكتاب
والسنة فهو ضال، ولا يغني في النجاة أن يتمسك المتمسك بأحدهما دون الآخر، فقد
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم
بهما: كتاب الله وسنة رسوله» [4] ، فعدم الضلال مُنَاط بالتمسك بالكتاب والسنة
معاً، فمن تمسك بأحدهما وترك الآخر ضل. فالخوارج تمسكوا بظواهر القرآن فقط
فكانوا من أعظم أهل البدع بدعة.
وعن هذه الميزة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولكن ينبغي
أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو
لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته،
فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى *
ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه:
23، 124] ، قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل
في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية [5] .
ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما
أنزله، وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك
من نعوت الكفار والمنافقين، قال تعالى: [وجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأَبْصَاراً وأَفْئِدَةً فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] [الأحقاف: 26] .
ولو نظرنا في تاريخ الفرق لعلمنا أن جميع العقائد المحدثة كانت بعد عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وعمر وعثمان، ثم كان مقتل عثمان -
رضي الله عنه - وبدأ بذلك ظهور البدع، حيث ظهرت الخوارج في عهد عليّ -
رضي الله عنه-، ثم تشعبوا وانقسموا إلى فرق عديدة.
وكذلك لو نظرنا إلى المعتزلة - مثلاً - لوجدنا أن الاعتزال ظهر على رأس
المائة الأولى، وذلك عندما تكلم واصل بن عطاء في مجلس الحسن البصري عن
مرتكب الكبيرة، ثم جاء عمرو بن عبيد، ثم النظّام والجبائي والعلاف وغيرهم،
حتى تأسس للمعتزلة عقيدة لم تكن من قبل. وقل مثل ذلك في كل الآراء التي حدثت
بعد قرن الصحابة وأخطاء أصحابها في فهم عقيدة السلف بسبب النقص في العلم أو
بسبب الهوى واتباع المتشابه.
الميزة الثانية أنها: عقيدة إجماعية:
فهذه العقيدة عقيدة مجمع عليها بين الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم -
والله عز وجل يقول: [ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: 115] ،
وعلى هذا فكل من خالف هذه العقيدة فقد خرج عن إجماع الصحابة.
والناظر في عقيدة أئمة علماء المسلمين المتفق على فضلهم وإمامتهم بين
جمهور المسلمين يجد أنهم على هذه العقيدة الصافية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن من العلماء الذين هم على عقيدة أهل
السنة والجماعة: جيل الصحابة - بلا استثناء -، ثم من بعدهم أئمة التابعين كسعيد
ابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، وغيرهم، ثم
جاء من بعدهم سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، وابن
عيينة والإمام مالك، ثم الإمام أحمد بن حنبل، والشافعي، والإمام البخاري،
والإمام مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم من العلماء كثير.
وبذلك نعلم أن هذه الأمة مهما تفرقت واختلفت فإنها لا يمكن أن تجتمع أبداً إلا
على هذه العقيدة، وكل من حاول أن يجمع صفوف المسلمين على غير عقيدة أصلاً!! أو على عقيدة غير عقيدة أهل السنة، فإنه ولاشك يروم المستحيل، وكما قال
الإمام مالك في كلمته المشهورة عنه:» لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أولها «.
الميزة الثالثة أنها: العقيدة المنجية:
فعقيدة أهل السنة هي عقيدة الفرقة الناجية: لأنها هي التي سارت على منهج
الصحابة -رضوان الله عليهم - وما زاغت ولا بدلت، وهي التي وصفها الرسول -
صلى الله عليه وسلم - بالنجاة، وذكر أن غيرها متوعدة بالنار، فجميع الفرق
داخلة تحت الوعيد، يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى-: (وأما على رواية من قال
في حديثه» كلها في النار إلا واحدة «، فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى
الخلود وعدمه مسكوتاً عنه ... إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين، كما يتعلق
بالكفار على الجملة، وإن تباينا في التخليد وعدمه) [6] .
وهذه العقيدة هي المنجية للإنسان من عذاب الله في الآخرة لمن تمسك بها
وعمل بمقتضاها، وكذلك هي المنجية للإنسان في الدنيا: منجية له من البدع
والضلال، والحيرة والشك والخرافات. والذي ينظر في سير أهل البدع يجد أنهم
يعيشون في اضطراب وشك وحيرة وظلمات بعضها فوق بعض.
وأما أهل السنة والجماعة فهم على يقين من دينهم يعرفون ربهم ويعبدونه على
بصيرة وحب وطمأنينة، والناظر في حياتهم يجد عجباً من علو الإيمان، ولذة
المناجاة وما ذلك إلا لمعرفتهم الله سبحانه وتعالى وماله من صفات عليا وحكمة بالغة
ورحمة واسعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
» إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة « [7] ، ويقول -
عندما سجن -:» ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي في صدري، إن رحت فهي
معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة « [8] ، ويقول عنه ابن القيم:» وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان
فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من
الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه،
فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً
وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل،
فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها «.
*يتبع*
__________
(1) انظر المستدرك 1/128.
(2) أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي عاصم في السنة / 63، وصححه الألباني، وهو في صحيح سنن ابن ماجه /3226.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/108 - 109.
(4) حسنه محقق جامع الأصول 1 / 277.
(5) انظر تفسير ابن جرير 16 / 147.
(6) الاعتصام 1 / 198.
(7) الوابل الصيب / 60.
(8) المصدر السابق / 60.(31/12)
خواطر في الدعوة
مأزق البعد الواحد
محمد العبدة
بعض الناس إذا سمعوا قول القائل: (الناس أبناء ما يحسنون) أو قول
الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يغنيك محموده عن النسب
أو قول أحد الحكماء: «الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية» .. إذا سمعوا
هذا يأخذون منه استبعاد الأنساب وعدم الاهتمام بها وأنها لاتدخل في أي تقويم
للإنسان، والحقيقة أن مثل هذا الكلام إنما يؤتى به لمعالجة من يقتصرون على مآثر
الآباء والانشغال بذكرها والاكتفاء بها، عن الجد والعمل، ولاشك أن صاحب همة
عالية مغمور النسب أفضل من صاحب نسب دنىء النفس.
فالذين يأخذون هذا الجانب (النسب لا أهمية له) يتركون الجانب الآخر وهو
أنه في مجرى العادات، فإن كرم الأعمام والأخوال مظنة الفضائل؛ فإنه لا يكون
النخل من الحنظل ولا العكس.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
فلا تعارض بين قوله تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] وبين السؤال عن
معادن الناس وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم في الجاهلية خياركم في
الإسلام إذا فقهوا» ، وهذا كما في الفرد كذلك في الشعوب والقبائل، فبعض
الشعوب لها خصائص معينة، وفيها ميزات يجب أن يستفاد منها، دون إحياء لنعرة
عنصرية أو قومية ضيقة.
ومن أمثلة الوقوع في النظرة الأحادية الذين يظنون أنه بإصلاح شعبة من
شعب العلوم أو الدعوة تنصلح الأمور كلها، فمن يعتقد أنه بتحقيق المخطوطات
وتصفية التراث سيحل المشكلة فهو مخطئ، ومن يظن أنه بإصلاح الوعظ والخطب
وتبليغ الناس بشكل عام سيحل المشكلة فهو مخطئ، وقل مثل ذلك فيمن يرى أنه
بتأليف الكتب وحدها وإلقاء المحاضرات والدروس، فهذه كلها وسائل للهدف
المنشود، وهناك وسائل أخرى غيرها، وكل واحدة بمفردها لا تستطيع الحل، فلا بد من الشمولية ليس في التنظير فحسب ولكن في التطبيق والعمل، وإذا اجتهد مسلم في جانب من هذه الجوانب وأتقنه وتفرغ له فلا بأس، ولكن عليه أن يعلم بأنه يقوم بجزء وأن إخوة له يقومون بسد باقي الثغرات، فيتعاونون كلهم ويكمل بعضهم بعضاً، فإن هذا الدين لا ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه.(31/18)
فكر
التفكير الذري
محمد محمد بدري
لكل نشاط عملي علاقة مباشرة بالطريقة التي يفكر بها صاحبه، فإذا أصيب
التفكير بمرض من الأمراض أو انعدم التفكير تماماً فإن ذلك النشاط يصبح مختلاً أو
مستحيلاً! !
ولقد أصيب كثير من المسلمين بمرض خطير يجعلهم في حيرة أمام كثير من
أمور الواقع لا يقدرون على فهمها، فما هو هذا المرض؟ ! إنه مرض «الذرية»
أو (الجزئية) في التفكير وهو مرض يمنع صاحبه من أن يربط بين الأحداث
والوقائع، بحيث يجعلها داخلة تحت قاعدة واحدة أو يستخلص منها حقيقة كلية عامة، فالمصابون بهذا المرض ينظرون إلى الوقائع والأحداث حولهم وكأنها ذرات
متناثرة لا يربطها أي رباط عضوي أو يجمعها سياق واحد، وبالتالي لا يستطيع
هؤلاء أن يستنتجوا قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على كل حالة خاصة، فتكون قراراتهم
في مواجهة الأحداث قرارات عاطفية لا ترتكز على مبادئ محددة أو أصول واضحة.
أصاب هؤلاء مرض «الذرية» لبعدهم عن عرائس الحكمة ولباب الأصول
التي دونها علماء الأمة في كتبهم، والتي توصلوا إليها باتخاذهم القرآن أنيساً
وجليساً على مر الأيام والأعوام نظراً وعملاً، وباستعانتهم على ذلك بالاطلاع
والاحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في آراء السلف المتقدمين والالتزام بما
كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
تلك الأصول التي تربى من يقرؤها على طريقة التفكير العضوية -أو الكلية -
التي تجمع بين الوقائع في تسلسل وسياق واحد يمكنها من استنباط بالقانون العام - أو
المقياس - الذي تقيس به الحواث الجزئية.
فالإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول:
«الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى
واحد، حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله
أفاد التواتر القطع - وهذا نوع منه -، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع
يفيد العلم فهو الدليل المطلوب - وهو شبيه بالتواتر المعنوي - بل هو كالعلم
بشجاعة عليّ -رضي الله عنه-، وجود حاتم الطائي المستفاد من كثرة الوقائع
المنقولة عنهما» [1] .
فهو - رحمه الله- يعرض كيفية اقتناص القطع من جملة أدلة ظنية، فلم يفتقر
في الحكم بشجاعة عليّ -رضي الله عنه- إلى دليل خاص يقول بأن عليّ شجاع..
ولكن باستقراء حوادث كثيرة تتحدث عن مواقف شجاعة لعلي -رضي الله عنه-.
«فالعموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغة عموم فقط، بل له
طريقة أخرى، وهي استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي
عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ» [2] .
فالشاطبي -رحمه الله- يصف هنا طريق الوصول إلى الأمر الكلي العام..
إلى القاعدة.. إلى المقياس.. عن طريق تصفح جزئيات المعنى.
ومن وصل إلى القاعدة الكلية استطاع أن ينّزل على مقتضاها كل الجزئيات
التي قد تخالف بظاهرها هذه القاعدة..
يقول الشاطبي -رحمه الله-: «وهذا الوضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة
إلى المتمسك بالكليات إذا عارضها الجزئيات وقضايا الأعيان، فإنه إذا تمسك بالكلي
كان له الخيرة في الجزئي، في حمله على وجوه كثيرة» [3] .
وإذن فلا يكفي النظر في الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا
تضاربت الجزئيات وعارض بعضها بعضاً في ظاهر الأمر.
ولقد عالج ابن تيمية -رحمه الله- مرض الذرية في التفكير بما سطره في
كتابه القيم: (اقتضاء الصراط المستقيم) ، فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ألم
يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا [4] ؟ فسمع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فخرج فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان، فقال: «أبهذا
أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم من
قبلكم بمثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا،
والذي نهيتكم عنه فانتهوا» .. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «وأكثر ما يكون
ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه» اهـ.
فالجمع بين أطراف الأدلة وعدم النظر إليها نظرة جزئية ذرية هو طريقة أهل
السنة والجماعة، وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين من الناس لو كان
عندهم وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها وجمعوا أطرافها وجزئياتها فربما لم
يكن للنقاش مبرر.
وما نقلناه عن عالمين من علماء الأمة، وإن كان يعالج مرض الذرية، في
جانبه النظري إلا أن العلم - كما يقول الشاطبي - إنما يراد لتقع الأعمال في الواقع
على وفقه من غير تخلف، سواء كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال
الجوارح [5] .
فكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه [6] .
وختاماً نرى أن مبادئ الإسلام هي الحصن الذي ستفشل تحت أسواره جميع
المحاولات التي تستهدف سلب المسلم شخصيته وهويته، فعلينا العودة إلى الأصول
والمنابع التي منها نبع ديننا.
ولنجعل لكتب الأصول مكاناً في قراءات كل منا، فنحن نجد فيها «الإبرة
المغناطيسية» التي تساعدنا للوصول إلى فهم قضايانا المعاصرة، وتخلصنا من
الخضوع في حركتنا لأخصائيين يشرفون عليها، كما لو كانوا يمارسون لوناً من
«لعبة الأمم المكيافيلية» ، وتخلصنا قبل ذلك كله من الكساح العقلي ومن الذرية في
التفكير.
__________
(1) الموافقات 1 / 13 - 15.
(2) الموافقات 3 / 188.
(3) الموافقات 3 / 167.
(4) ينظرون في القرآن نظرة جزئية ذرية.
(5) الموافقات 1/99.
(6) الموافقات 1 / 61.(31/20)
مراجعات في عالم الكتب
الإسلام وحاجة الإنسانية إليه
الدكتور / محمد يوسف موسى
عرض وتقديم: محمد السيد المليحي
تعبيراً عن فضل الدين الحنيف علينا، وتجسيداً لدوره القيم فينا نقدم عرضاً
متواضعاً لهذا المؤلف الطيب الذي جمع بين دفتيه كثيراً من سمات الإسلام، وعديداً
من خصائصه التي تعين الفرد على السير قدماً نحو التقدم والرقي في الدنيا،
وتضمن له حياة هنيئة مريئة في الآخرة، فقد حرص الكاتب في كتابه هذا على
إبراز غايته التي قصد إليها في هذا الكتاب في سمتين عظيمين:
1 -القصد المباشر نحو الفكرة التي يرنو إليها الكاتب، دون اعوجاج أو
تحذلق.
2 - التدليل على الرأي بأسس ومبادئ علمية، وعرضها بصورة علمية
صحيحة.
التعريف بالدين:
ففي الفصل الأول استعرض الكاتب فكرة الدين وأن الغريزة [1] الدينية
وجدت مع الخليقة منذ النشأة الأولى، ولكنها - كما يقرر المؤلف - حادت بعض
الشيء عن الطريق المعين لها.
ولذلك نجد الرسل لم يتحدثوا إلى الناس في خلق هذا الشعور الديني، ولكنهم
قاموا بتوجيه هذه الميول الوجهة الصحيحة لتصل إلى الدين الحق، ولهذا يكون
الوحي الإلهي رحمة للناس جميعاً، إذ يهدي النفوس الضالة، ويساعد العقل على
الوصول إلى الحق من أقرب الطرق وأيسرها على الإنسان. ونخلص من هذا
الفصل إلى أن الدين أمر طبيعي غريزي في الإنسان أصيل في أعماق شعوره
وأحاسيسه.
وهنا يقول الكاتب: «إن الاعتقاد في شيء أو كائن ما أو قوة من القوى
والتدين به أمر طبعي في الإنسان، وحاجة من حاجات النفس تهيمن على المرء
طول حياته، ومن ثم لابد من إروائها وإشباعها، كسائر حاجات النفس الطبيعية
الأخرى» .
الحاجة إلى الإسلام:
تناول المؤلف في الفصل الثاني مضمون الفكرة التي قام عليها الكتاب،
فاستفتح الحديث عن تخبط الشعوب وتيه الأمم من جراء اليهودية المتعصبة،
والمسيحية المحرفة، والزرادشتية المضللة، والمزدكية التي تدعو إلى الإباحية
الجنسية، وغيرها من الديانات التي عاشت في وجدان وعقول البشرية، فأضلت
كثيراً من الشعوب، وأصمت العديد منها عن الوعي السديد، والحس المستنير،
وجمدت حريات الغالب منها واعتقلت آراءهم وأفكارهم.
ومن خلال التناول العلمي لصور الديانات القديمة والحديثة، خرج علينا
المؤلف بدور الإسلام الحنيف، وحاجة الإنسانية الماسة إليه خاصة بعد ما حرم
اليهود وحللوا لأنفسهم، وبعد ما سيطر رجال الكنيسة على الحياة العلمية والعملية
بصورة حمقاء، تصور الدين بأنه عدو للعلم، وحجر عثرة لكل تقدم ورقي..
وتأتي أهمية الإسلام لتحمي الشعوب من الخلط في الأنساب، وتفشي
الأمراض التي جاءت من دعوة المزدكية للإباحية الجنسية المطلقة، إذ ذهب
مؤسسها «مزدك» إلى أن أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيها،
اشتراكهم في الماء والنار والكلأ.
ويعلق الكاتب على جدال النصارى وعقائدهم بقوله: لقد كان الإسلام ثورة
على المجادلة الجوفاء في العقيدة، وحجة قوية ضد تمجيد الرهبانية باعتبارها رأس
التقوى، وقد بين أصول الدين التي تقول بوحدانية الله وعظمته.. وهكذا كانت
الإنسانية تتطلع منذ زمن طويل إلى دين جديد عادل رحيم، وكان هذا الدين هو
الإسلام الحنيف، خاصة بعد أن أفلست كل نظم العالم السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وبعد أن نجحت فيه فلسفات تدعو لإنكار وجود الله، والتحلل من
المسؤولية وفاضل الأخلاق.
من خصائص الإسلام:
نأتي إلى الفصل الثالث حيث يدلل المؤلف على أن الإسلام دين ضروري
تحتاج إليه الإنسانية احتياجاً ماساً وشديداً، ففي هذا الفصل يعرض لنا الكاتب بعضاً
من خصائص الإسلام التي تنقذ البشرية من هذا التخبط، وتعيد لها صياغتها على
الوجه الأكمل، ومن هذه الخصائص التي جاءنا بها الكاتب:
1 - الوحدة الدينية:
وفي هذه الخصيصة جسد لنا المؤلف هذه السمة التي انفرد بها الإسلام حين
ذكر لنا ما قامت به الرسالة المحمدية من نفي لجميع الالهة التي كان الناس يعبدونها
في ذلك الوقت، ووحدت العقيدة وأفردت العبادة لإله واحد أحد لا شريك له، عالم
بكل صغير وكبير في كونه، محيط بكل شيء ومدبر لكل شيء.
ويذكر الكاتب هنا أن الإسلام لم يكتف بإقرار هذا التوحيد للإله الذي يستحق
العبادة، بل بين لنا أن كل الرسل دعوا إلى هدف واحد، ورسالة من الله تعالى
للبشرية بعامة تعينهم على الحياة الفاضلة والمطمئنة في ظل طاعة الله وتوحيده.
ثم جاء الكاتب بآيات من الذكر الحكيم تدلل على هذه الحقيقة، فقد جاء في
آخر سورة البقرة (آية 285) : [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وقَالُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] ، وقال أيضاً في نفس السورة آية 136: [قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ
ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسَى ومَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ]
2 - الوحدة السياسية:
جاء الإسلام وكان حال الأمة العربية يرثى له، حيث كان التفكك والتمزق
والحمق والعداء، فكانت الحروب تقوم بين القبائل على أضعف الأسباب، وتستمر
أياماً، بل وشهوراً، وبعضها ظل سنيناً إلى أن جاء الإسلام.
فقد فض الرسول الكريم النزاع الذي ظل زمناً طويلاً بين الأوس والخزرج،
وآخى بين المهاجرين والأنصار، وغرس في قلوب أصحابه حب الخير والسلام،
ودعا الناس إلى التوحد والتجمع والتزاور والتشاور، ونهى عن الخصام والعزلة عن
الجماعة، وهنا يقول الكاتب: كما كان من أثر هذه الوحدة السياسية التي جاء بها
الإسلام وعمل بها الرسول والمؤمنون، أنه لما لحق - صلى الله عليه وسلم -
بالرفيق الأعلى، واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة لهم، رأى
الأنصار أن لهم حقاً في أن يكون الخليفة منهم لسابق نصرهم للإسلام ورسوله،
ولكن أبا بكر والمهاجرين جميعاً - على عرفانهم فضل الأنصار ومآثرهم - ذهبوا
إلى أن يكون الخليفة من قريش لما أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -..
وهكذا قضي على النزاع وانتهى الأمر واستقر بينهما.
وفي هذا السبيل، سبيل المحافظة على وحدة الأمة السياسية يرى فقهاء
الإسلام أنه لا يجوز أن يكون هناك أكثر من خليفة في الأمة الواحدة.
3 - الإسلام دين يحض على التفكير:
أعرب الكاتب عن هذه الميزة التي جاء بها الإسلام، ودعا إليها في صورة
جلية وساطعة تقوم على الأدلة المستمدة من الكتاب والسنة، فقد أعرب عن كون
الإسلام دين يدعو إلى التفكر والتدبر، وأنه أدى رسالته نحو العقل والعلم، كما
أفصح عن حقيقة هامة يجب أن لا نغفل عنها، ولا يغفل عنها من استفاد منها وهي: «دور العلم الإسلامي في التقدم والرقي الذي أضحى عليه العالم الغربي في
العصور المتأخرة، ومن الأسس والأدلة القرآنية التي أتى بها الكاتب، لكي يثبت
دعوة القرآن إلى العلم والتعلم والفكر والتفكر قوله تعالى: [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
والأَرْضِ واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا
أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ
وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]
[البقرة: 164] . وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي تدعوا إلى
العلم حين قال:» طلب العلم فريضة على كل مسلم «، إلى غير ذلك من آيات
وأحاديث نبهنا إليها الكاتب تدعم ما جاء به الإسلام لإحلال العقل محله المناسب.
وإذا كان الإسلام يحض هكذا على ملاحظة الكون وظواهره، وإعمال العقل
والفكر في كل ما يحيط بالإنسان، وسائر ما خلق الله من الكائنات، فما هذا إلا لأنه
يريد منا أن نطلب العلم بكل سبيل، ونترفع عن التقليد الأعمى، ونبذل في سبيل
العلم كل ما نملك من طاقات.
فالإسلام دعوة إلى استعمال العقل والفكر في شتى نواحي الحياة.
4 - الإسلام دين الحرية والمساواة:
إن الحرية في الإسلام أصابت الحظ الوافر من التشريع الإسلامي، بل ومن
الإسلام نفسه، فقد كانت النواة الأولى للحرية في الإسلام ممثلة في التحرر من عبادة
الأصنام والسجود للآلهة المتحجرة والمتعددة، وإلى عبادة إله واحد لا شريك له.
ومع ذلك فإن الإسلام لم يجبر غير معتنقيه على الدخول فيه، قال تعالى: [لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ] ، وقوله للرسول - صلى الله عليه وسلم
- في سورة يونس: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] ، ويأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بألا يتعدى
عمله عن التبليغ والانذار، وهذا نراه في قوله تعالى: [إنْ أَنتَ إلاَّ نَذِيرٌ] وقوله: [ومَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ] ، وآيات كثيرة تجعل من العبادة مكنوناً جوهرياً
لا دخل لأحد فيها سوى الإنسان ذاته.
ومن أسس الحرية التي جاء بها الكاتب في هذا الكتاب القيم الاجتهاد في
التشريع مع ما يتمشى والكتاب والسنة، ويذكر الكاتب هنا رأياً عظيماً للفقهاء في
هذه المسألة، حيث يقول:
إن الفقهاء يؤمنون بالحرية والمساواة، ودليل على ذلك حين يكون هناك طفل
غير معروف نسبه مع مسلم وكافر، فقال الكافر هو ابني، وقال المسلم هو عبدي،
يحكم الفقهاء في هذه القضية ببنوة الابن للكافر من قبيل الحرية.
أما في جانب المساواة فقد أقر الكاتب أن التفاضل بين الناس في الدنيا يكون
بالتقوى والعمل الصالح [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ، والرسول الكريم يقول:» لا فضل
لعربي على أعجمي إلا بالتقوى «، هذا وللحرية والمساواة جوانب كثيرة وعديدة
خصصها لهما الإسلام، وشرعها لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
5 - الإسلام دين ودولة:
يبين الكاتب في هذه النقطة وتلك السمة أن الإسلام لم يكن عقيدة دينية فقط ولا
نظاماً أخلاقياً فحسب، بل هو دين ودولة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان
ودلالات.
فقد نظم الإسلام للإنسان المسلم حياته ومعاملاته مع أسرته ومع الناس، وبين
له سبل النجاح والردى في الحياة، ودله على الطريق الذي يؤدي به إلى العيش
الهادئ المطمئن، ففي جانب العبادات بين الدين الحنيف طريقة العبادة لله تعالى،
وأعرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية التعبد لله سبحانه، أما في
جانب التعامل في الحياة العامة فقد رسم لنا القرآن الكريم في شخص رسول الله ص
الحالة التي يجب أن يكون عليها الإنسان المسلم والوجه الصحيح الذي لابد وأن
يصبح عليه المسلم الأمر الذي لم يدع جانباً واحداً من جوانب الحياة إلا وكان للإسلام
دور رائد فيه.
وهنا يقول الكاتب: ومن هنا يحق للإسلام أن يكون دستوراً أزلياً يحكم به،
وتقوم شريعته لتفصل بين الناس، وتقضي بينهم بما أمر الله تعالى، فمن طلب
الهدى من غيره أضله الله، ومن أراد الفلاح والنجاح بدونه خسر وخاب، وضل
عن الطريق السديد.
وإن لم يكن للإسلام دور في هذا العالم المعاصر، فلابد أن ننتظر تخبطاً
واضطراباً وتيها أكثر مما نعيشه الآن، وذلك لأن المولى عز وجل قال وقوله الحق: [ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] .
__________
(1) استخدم الكاتب مصطلح الغريزة الدينية، ولو استخدم مصطلح الفطرة الدينية لكان أدق
- التحرير-.(31/24)
مفاهيم إدارية
التنظيم
سامي سلمان
هذا رجل منظم في حياته ... هذه مؤسسة تتسم بجوانب تنظيمية جيدة ... إن
انسياب الأوامر الإدارية يسير في نظام محكم ... إن تحقيق الأهداف المتمثل في
هذا المستوى الرفيع ليدل دلالة واضحة على عمق التنظيم الذي يؤدي دوره في هذه
المؤسسة.
كثيراً ما تتردد مثل هذه الكلمات على الألسن وفي صفحات الكتب، وهي
تشير إلى معنى التنظيم بمدلوله اللغوي والاصطلاحي، والذي كان منه نظم اللؤلؤ
في السلك الواحد عقداً جميلاً، ونظم الشعر ليكون قصائد متكاملة، وهو نفس
المعنى الاصطلاحي الذي نرمي إليه في تعريفنا للتنظيم في مفهومه الإداري عندما
نقول: إن التنظيم داخل المؤسسة هو تنظيم الجهود، وتنسيق الطاقات لمجموعة
أشخاص، بحيث يمكنهم تحقيق أهداف المؤسسة التي ينتمون إليها.
وهذا النوع من التنظيم قديم منذ بدأ الإنسان يكافح في سبيل عيشه وأمنه
وإثبات إنسانيته، فكان التنظيم في العهود البدائية أمراً بديهياً ولا شعورياً وطبعاً
غير مكتوب أو مرسوم، وكان المنظم هو العامل نفسه الذي يسعى وحده أو
بالاشتراك مع أفراد أسرته إلى تأمين ضرورات العيش والأمن. وكان متعلقاً
بالشخص نفسه فقط، أي ينظم أوقات عمله وراحته ونومه، وعندما أصبحت
الأسرة وحدة الإنتاج ووحدة الاستهلاك في الوقت نفسه بدأ التخصص وتوزيع العمل
بين أفراد الأسرة بشكل بديهي أيضاً حسب القدرة أو الطاقة لكل فرد، ثم خاض
الإنسان مضمار التخصص ليرتقي ويحسن في مستواه المعيشى: فأنشأ مؤسسات
تحتوي هذه التخصصات وتنظم جهودها في المجالات الزراعية والصناعية
والخيرية وغيرها.
وبهذا يتضح أن التنظيم ضرورة وحاجة عندما ينمو حجم المؤسسات، وتزداد
التخصصات في المؤسسة الواحدة وتتعقد العلاقات.
والحديث عن التنظيم لا يقلل من شأن التخطيط، ولكن الغالب على
المؤسسات وخاصة في العالم العربي والإسلامي أنها تعاني من سوء التنظيم أكثر
مما تعاني من سوء التخطيط.
وكما يتضح من الرسم المرفق لدورة الإدارة فإن التنظيم عملية متكاملة تتبع
تحديد الأهداف والاستراتيجيات التفصيلية، والتي لابد من وجود من يدفع بها إلى
مرحلة التنفيذ، ولهذا فإن التنظيم الجيد لابد أن يتوفر فيه المواصفات التالية:
1 - التغطية الشاملة: أي أن لا تترك مهمة بدون مسؤول، وأن لا يكون أكثر من مسؤول مباشر لمهمة ما في وقت واحد ومكان واحد.
2 - الوضوح: بأن يعرف كل شخص واجباته والصلاحيات المسندة إليه
للقيام بمسؤولياته، وكذلك وضوح علاقاته بالأشخاص الآخرين.
3 - التوازن بين الصلاحيات المعطاة للشخص للقيام بعمله والمسؤوليات الملقاة على عاتقه.
من خلال هذه المقدمة التي تبين أهمية هذا الموضوع فإننا نلحظ افتقار كثير
من المؤسسات إلى العناصر السابقة.
ومن الظواهر السلبية التي تعيشها هذه المؤسسات:
1 - المسؤوليات في قطاع معين أو عند أشخاص معينين دون مبررات مقنعة، وهذا يعني المركزية في اتخاذ القرار، ويوفر طاقات جيدة غير عاملة، ويشل
كثيراً من الطاقات ولا يسند إليها أي دور.
2 - عدم وضوح المسؤولية لكل فرد فلا يعرف المسؤولون حدود مسؤولياتهم
ومن يرجع إليهم من موظفيهم، مع وجود ازدواجية في المسؤولية أحياناً، كالرجوع
إلى مسؤولَيْن في مشكلة، أو يتدخل عدة مسؤولين من قطاعات شتى في مشكلة
تحتاج إلى رأي واحد.
3 - كثرة الشكاوي من عدم وضوح الأهداف العامة والأهداف المرحلية لعدم
كفاءة السلطة الإدارية أو الهرم التنظيمي الذي يمكن المسؤولين على اختلاف
مستوى مسؤولياتهم وتخصصاتهم من مسايرة الإدارة العليا لكثير مما تطمح إليه.
4-يكتنف كثيراً من هذه المؤسسات غموض التخصصات وتداخلها، مما يقتل
الإبداع في المجال التخصصي، وبمعنى أوضح: فإن عدم إتاحة الفرصة لأصحاب
التخصصات بإبراز ما تميزوا به التنظيم عن طريق مشاركة غير مؤهلين
للمتخصصين يسيىء إليهم، ولا يجعلهم يبرزون في تخصصاتهم.
5 - يشيع في مثل هذه المؤسسات عدم التناسب بين السلطة والمسؤولين
والصلاحيات، فنجد المعادلات الصعبة في وجود أصحاب مسؤولية بدون
صلاحيات، وأصحاب صلاحيات بدون مسؤوليات، وسلطات موزعة بمقاييس لا
تمت إلى الإدارة الحديثة بصلة.
6 - من ذلك أيضاً غموض العلاقة بين الاستشاريين والتنفيذيين، فتجد
التداخل في هذا المفهوم يعم أرجاء المؤسسة، مما يؤثر بشكل واضح على كيفية
اتخاذ القرارات على كل مستوى.
وأضف إلى ما ذكرت سابقاً سوء تحديد العدد المناسب من المرؤوسين تحت
رئاسة المدير، وعدم تفويض السلطة بالشكل المناسب، وإغفال العوامل الفنية
والإنسانية التي تؤثر في اختيار درجة المركزية واللامركزية.
وبعد هذا العرض للظواهر السلبية لكثير من المؤسسات التي لا يتوفر فيها
مفهوم التنظيم الإداري ذي الكفاية نعرض مزايا التنظيم بشكل مختصر:
1 - انتظام العمل وانسيابه بسهولة ويسر، حيث يتم تحديد الأعمال والمراحل
التي تمر بها، والأشخاص الذين يؤدونها.
2 - تحديد الاختصاصات والصلاحيات والمسؤوليات، بحيث يعرف كل فرد
واجباته الأساسية والفرعية والإضافية، وعلاقة وظيفته بالوظائف الأخرى، ويبين
لكل قسم وإدارة حدود صلاحياتها وعلاقاتها بالأقسام والإدارات الأخرى. فلا يحدث
تنازع في الاختصاصات أو تضارب في السلطات.
3 - الاستغلال الكفء للإمكانات المتاحة (خبرات وجهود العاملين) والحصول
على أقصى طاقة إنتاجية منها، وتحقيق التنسيق والتكامل بين تخصصات العاملين
وخبراتهم ومهاراتهم، وبين الإدارات والأقسام، فيزيد احتمال الوصول إلى
الأهداف المحددة بقدر كبير من الفعالية.
وبناء على ذلك يتحقق التعاون والانسجام بين الأفراد والجماعات فتسير
العلاقات الوظيفية، والاجتماعية بأقل قدر ممكن من التنافر والاحتكاك.
وقد استطاعت نظريات علم التنظيم الحديثة الوصول إلى تحديد ما يسمى
بالأسس العلمية للتنظيم السليم، والتي يفترض أن تكون مترابطة ترابطاً وثيقاً فيؤثر
بعضها في بعض، ويزداد عمق الحاجة إليها جميعها أو بعضها، حسب حاجة كل
تنظيم إداري لأي مؤسسة. وسنذكر بعض ما اتفق عليه.
1 - وحدة الهدف:
لكل عمل هدف رئيسي تكونت من أجله المؤسسة ابتداءً، وهذا الهدف كي
يتحقق لابد من تعريفه بصورة واضحة، ثم تقسيم الأهداف إلى أهداف جزئية
وفرعية ومرحلية، يكون بينها وحدة واتساق توصل بمجموعها إلى تحقيق الهدف
الرئيسي.
2 - التخصص وتقسيم العمل:
إن اختيار العناصر المتخصصة التي تتقن العمل جزء لا يتجزأ من عملية
التنظيم، مما يتيح للعاملين التطور في مجالات تخصصهم وزيادة مسؤولياتهم،
وذلك بمساعدة رؤسائهم.
3 -تسلسل خطط السلطة:
ويقصد بها تدرج حجم ومستوى السلطة المعطاة، ومستويات التنظيم الإداري، والتي تتوزع بشكل مناسب في الهياكل التنظيمية مع مستويات التنظيم الرئيسية
الثلاثة: الإدارة العليا، الإدارة الوسطى، والإدارة التنفيذية: فلا تتركز السلطات
في إحدى الحلقات دون الأخرى.
4 - وحدة الأمر:
وهو نتيجة طبيعية للأسس السابقة، ونعني به توحيد جهة التلقي للتعليمات
من قبل رئيس أو مدير واحد، وذلك حرصاً على تحديد المسؤوليات وضمان
التنسيق وتوحيد الجهود وعدم بعثرتها، وفي المقابل فإن عدم مراعاة هذا المفهوم
يسبب ارتباكاً سيئ الأثر في العمل وفي نفوس المرؤوسين، نتيجة لتعدد مصادر
التوجيه والتلقي.
5 -تناسب السلطة والمسؤولية:
وهي إحدى المعادلات الصعبة، ونعني بالسلطة: الصلاحيات المخولة لشاغل
وظيفة معينة، وتتضمن حق إعطاء الأوامر والحصول على الأداء والمردود من
المرؤوسين، وحق اتخاذ القرارات. ويقرن بالسلطة عادة مفهوم آخر وهو القوة،
والتي تعزز السلطة، وتعني: القدرة على توجيه سلوك الآخرين والتحكم فيه،
وهي حصيلة مركبات معينة يمكن اختصارها بـ:
1 - الثواب.
2 - العقاب.
3 - قوة الشخصية.
4 - القدرة والخبرة والمعلومات.
5 - القدرة المستمدة من المنصب.
أما الطرف الآخر من المعادلة، وهي المسؤولية، فتعني الالتزام من جانب
المسؤول بما تتطلبه وظيفته من أعباء ومهام لتحقيق أهداف تلك الوظيفة، فيسأل
عن نتائج عمله، وكل رئيس يسأل عن النتائج المترتبة على أدائه وأداء مرؤوسيه.
أما المقصود بالمعادلة فهو التوازن بين السلطة والمسؤولين، حتى يستطيع
القيام بواجباته الفعلية المطلوبة منه. فمن الخطر أن تكون هناك سلطات واسعة
ومسؤوليات قليلة، ومن الإجحاف أن تكون هناك مسؤوليات كبيرة وصلاحيات
قليلة. ...(31/31)
تربية
المدرسة الابتدائية بين الثواب والعقاب
عدنان محمد عبد الرزاق
لازال موضوع الثواب والعقاب يشغل بال كثير من المربين والآباء والباحثين، وإنهم وإن اتفقوا على الثواب وطرقه وفائدته، فقد كثر جدلهم حول العقاب وما
يتركه من أثر، وخاصة أشد مراحله «العقاب الجسدي» ، وانقسموا فيه بين مانع
ومطلق ومقيد، وإنني إذ أتناول هذا الموضوع المهم، أترك الباب مفتوحاً لكل رأي
وخبرة، لعلنا نصل بتوفيق الله إلى الصواب.
الثواب أثره وطرقه:
الثواب، الثناء، الشكر، المحبة، والعطف، الاهتمام، كلها ترفد مصباً
واحداً، وقد فطرت النفوس على حب من أحسن إليها، فطبيعة النفس البشرية تحب
الثناء والشكر محبة اعتدال، لأن زيادة الثناء والعمل من أجله قد يؤدي إلى الرياء
وجاءت كثير من النصوص تلبي هذه الحاجة الفطرية.
قال تعالى: [وأَمَّا مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ
أَمْرِنَا يُسْراً] [الكهف: 88] . [هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ] [الرحمن:
60] ، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أتى إليكم معروفاً فكافئوه،
فإن لم تجدوا فادعوا له [البيهقي] .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:» من لم يشكر
الناس لم يشكر الله «رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
إن الطفل يحب من يهتم به، ويعطف عليه، لأنه يريد معرفة ردود الفعل
على ما يقوم به من أعمال في عقله؛ لتصبح في المستقبل علامات لسلوكه
وتصرفاته، وكثير ممن انحرفوا بسبب فقدان هذا الاهتمام والمحبة، وآخرون
يعملون أعمالاً لينالوا رضا مربيهم، والمربي يلاحظ هذا وذاك ويوجه ويساعد على
التوازن.
ألا نلاحظ كيف يغار الإخوة من المولود الجديد، وما ذلك إلا لشعورهم بأنه
استأثر أو سوف يستأثر بالأبوين على حسابهم، ولذلك كان من هديه - صلى الله
عليه وسلم - العدل بين الأبناء. ابتسامة رضىً من مرب ... أو مسحة رأس.. أو
كلمة طيبة: جزاك الله خيراً، أحسنت، كل ذلك وسائل تفعل فعلها والتوسط في
توزيعها، وتجديد أساليبها وطرقها شيء مطلوب، ورتابتها والإكثار منها يفقدها
قوتها، وإخطار أولياء الأمور بالثناء المكتوب له أثر طيب، وربما يكون حافزاً
للمزيد من العطاء.
العقاب:
من الطبيعي أن يخطئ الإنسان،» كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين
التوابون «، هذا الكبير، فكيف بالصغير، وقد رفع عنه القلم.. لماذا؟ لأن نموه
العقلي لم يكتمل بعد ولم يميز.
وفي بعض البلدان يسمون الأطفال» الجهال «، فهذا الجاهل الذي أعذره الله
إذا وقع منه خطأ هل نتركه ... ؟ طبعاً لا، لابد من العلاج، وكلمة العلاج تسوقنا
إلى مثال طبي. لو جرحت يد أحد من الناس يداويها بالدواء الابتدائي السهل فإن
برأ فذاك، وإن زادت يرتقي بالدواء. وقد ذكر القرآن الكريم التدرج بالعقوبات في
معالجته للخلافات الزوجية.
وقد اتفق المربون على الابتعاد عن الكلام الجارح، والتوبيخ الذي ينتقص من
شخصية الطفل، أو يسبب له ردود أفعال سيئة، واتفقوا أيضاً على أن يكون كل
ذلك بين المربي والتلميذ، وليس أمام أحد من الناس.
ولكن تبقى هناك مشكلة اختلف المربون وهي: هل يضرب الولد أم لا؟
وحتى تأخذ هذه المسألة أبعادها؟ لابد من معرفة متى يستحق التلميذ العقوبة؟
ونحن نعتقد أن هناك سببين لذلك:
1- ما يتعلق بالدرس والتحصيل.
2- ما يتعلق بالسلوك والتربية.
فالأول إما أن يكون سببه المدرس والمنهج، وهذا لا علاقة للتلميذ به، أو أن
التلميذ مقصر في الاجتهاد والواجبات، فهنا لكل حادث حديث عندها يبحث المربي
عن الأسباب الحقيقية لهذا التقصير ويتصل بالبيت ويتعاون مع الأهل، حتى
يضعوا العلاج ولو أدى الأمر إلى صرف التلميذ إلى مجالات مهنية.
وأما السبب الثاني وهو الخطأ في السلوك والتربية، فالكذب، والحيل،
والسرقة، والاعتداء، والغياب عن المدرسة. وهنا سأضرب مثالاً لحالة من الخطأ
السلوكى (السرقة) وطرق علاجها:
1 - الطريقة الأولى: أخذ التلميذ وضرب ضرباً شديداً حتى لا يعود لمثلها، وربما كان ذلك أمام أقرانه. ثم إذا حدثت أي سرقات في المستقبل يشيرون إليه،
ولو كان بريئاً وسمي من قبلهم سارقاً.
2 - الطريقة التربوية في العلاج: يؤخذ الطالب ويبحث معه ومع أهله (إذا لزم الأمر) عن الأسباب الدافعة للسرقة، بتكتم ورفق. وأسباب السرقات عند الأطفال معروفة فهي إما عن حاجة أو عبث أو نكاية بزميله، أو غير ذلك، وإذا عرف السبب عولج الأمر من جذوره.
فالمربون المتخصصون يقولون: لكل حالة عندهم حل، يعتمد على التربية
وعلم النفس والتجربة، وأن الضرب لا يحل المشكلة، بل عندهم هو المشكلة، إذ
يكون مدخلاً لانعدام التوازن النفسي عند التلاميذ مما يكون له عواقب وخيمة على
الفرد والمجتمع.
وأيدهم في هذا الرأي ممن استرشد بآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم -
مثل قول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أحداً قط بيده ولا أمره، ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله» . رواه
مسلم.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء
لم أفعله: ألا فعلت كذا. متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا
زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» رواه مسلم.
وحين كان أبو بكر -رضي الله عنه- يضرب غلاماً: قال الرسول - صلى
الله عليه وسلم-: انظروا إلى هذا المحرم ماذا يفعل.. ومعلوم أن الضرب لا يفسد
الإحرام.
كما أيد منع الضرب كثير من الدول التي تعطي الأولوية لبناء مجتمع، سليم
من أساسه يحترم فيه الفرد ليعود نفعه على المجتمع في المستقبل. ودول أخرى
وإن لم يكن هذا همها إنما أيدت المنع لما ترتب على الضرب من آثار جسدية سيئة
على الأفراد، فإحصائيات وزارات التربية والداخلية مليئة بملفات قضايا ضرب
الأولاد في المدارس وما ترتب عنه ابتداءً من الكدمات والجروح، مروراً بفقدان
الحواس مثل السمع والبصر والأسنان، انتهاء بالوفاة، فأرادت أن تطوي صفحة
من تلك الأمور ومنعت.
أما الذين سمحوا بالضرب فقد احتجوا ببعض الآثار: مثل قوله صلى الله
عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم
أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود والترمذي.
وقد رد المانعون على أن الحديث في الصلاة للأب فقط، وليس المربي مثل
الأب وخاصة مع غياب المربي الناجح. وآية سورة النساء التي تبيح ضرب
الزوجة من قبل زوجها فقط.
وهناك فريق ثالث قال: نحن مع المربين في ضرورة حل المشاكل بالطرق
التربوية، والمحافظة على توازن التلميذ، ونحن لسنا مع المؤيدين للضرب لما
يترتب على ذلك من آثار جسدية، ونفسية واجتماعية، ولكن ألا يوجد بعض
الحالات الشاذة التي لا ينفع فيها نصح ولا موعظة ولا علم نفس: ماذا نفعل؟ نرى
أنه لا مانع بعد استنفاذ كل الوسائل التربوية، وبشرط أن يكون الضرب غير مبرح
ويتجنب الوجه والأماكن الحساسة. واشترط بعضهم إذن الأهل المسبق، أو حصر
ذلك بإدارة المدرسة؛ لئلا يتوسع بهذه الرخصة، أيد هذا الرأي بعض الدول،
وكذلك بعض المهتمين بأمور التربية، وعلم النفس، وهذا ما تميل إليه النفس.
والله أعلم.(31/37)
البيان الأدبي
بين جيلين
د. عمر عبد الله
توقف مفاجئ ومرعب أيقظ صاحبنا من نعاسه الثقيل، ليستيقظ على صوت
الكابح المزعج، وقاصطدم رأسه في النافذة الجانبية لسيارة الأجرة، سائق سيارة
الأجرة يتحفز وهو غاضب، ويلقي بسيل من الشتائم والكلام السوقي القذر لصاحب
السيارة التي كادت تصطدمه، سائق السيارة الأخرى يخرج ليلقن سائق الأجرة درساً
في القيادة والأخلاق، لكن سائق سيارة الأجرة يتلافاه ويمضي في طريقه ليكمل
إطلاق عبارات الشتائم والسباب، التي انتشلت من الراكب وزوجته التي ترافقه طعم
النوم، والنعاس، حتى «معاذ» الطفل الصغير أخذ يطلق معزوفة من البكاء
المتواصل، جعلت من الصعب على «جمال» أن يلتقط سيل الشتائم المنطلق من
في السائق الزنجي المتوتر،.. لقد كانت رحلة مضنية، غير خلالها ثلاث مطارات، وقضى 15 ساعة في الجو خلال اليوم الماضي، حتى وصل إلى نيويورك في
هذا الصباح الخريفي المتثائب، وبعد أن طار النوم من عينيه أخذ يتأمل في ما حوله، إنه يعبر الآن إلى «مانهاتن» ، وكأنه يمر على هذا الجسر المتهالك لأول مرة،
كلا لقد عبره مرات ومرات، لكن المرة الأولى التي مر عليه فيها لازالت ملتصقة
بذاكرته بوضوح، كانت المرة الأولى التي يغادر فيها وطنه مع أبيه وهو ابن خمس
سنين، لازال يذكر حالة الذهول والانبهار التي انتابته حينما وصل إلى نيويورك،
كان الوقت قريباً من عيد رأس السنة المسيحية والمدينة غارقة في بحر من الأضواء
والزينات، زادت من حالة التحديق التي انتابت ذلك الصبي الذي انتقل من مدينته
الصغيرة الصحراوية، والتي كانت وكأنها تعيش عصراً آخر لا يمت بصلة لهذه
المدينة، الحلم، ومنذ أن لامست قدماه أرض المطار الضخم وصالاته الواسعة وهو
لا يستطيع إلا أن يعيش حلم اليقظة الجميل، حتى الطرق السريعة التي لم يع حقاً
ضخامتها وسرعتها، كانت بمثابة طائر عملاق يطير بأجنحة متعددة، أما الفندق
الذي نزل فيه وأبوه وأمه فإنه كان آية في الفخامة والرقي المادي، الذي بدا خيالياً
لابن الخامسة، بل حتى بالنسبة لأبيه وأمه اللذين حاولا التكيف مع هذا الكم الهائل
من المشاهد والصور والمتغيرات بصورة بدت مبالغاً فيها حيناً، ومضحكة أحياناً
أخرى، مضحكة له الآن.. لكنها لم تكن تعني شيئاً كثيراً من معاني السخرية
والتناقض لذلك الصبي..، مضحكة تلك اللحظات والمواقف التي تفرض على
مخلوق لا يملك حيالها سوى المضي والانكسار، مضحك ذلك المنظر عندما كانت
أمه تحاول أن تظهر بمظهر «غربي» متحضر حينما «فرض» عليها من والده، كانت المرة الأولى التي تلبس ملابس غربية، وهي التي لم تفارق عباءتها
وخمارها قط، مضحك أن يقلد عصفور النورس طاووساً حينما يستعير بعض
الريش الملون، عله يكون مألوفاً في مجتمع الطواويس، كذلك بدا له المنظر باعثاً
للحيرة والاضطراب لوجه ألفه لسنوات في وضع معين ليجده فجأة وبدون مقدمات
وكأنه لا يمت للمخلوق الذي أحبه بشدة، وعشقه بإخلاص، لم يكن ذلك المنظر
سوى صورة واحدة لمشاهد صدم بها وظلت في ذاكرته مختزنة لسنوات طويلة،
صوت الكابح يقطع حبل تفكيره مرة أخرى.. لكنه يكتشف سبب الخطأ هذه
المرة..، إنه سائق سيارة الأجرة، وليس السيارة «المظلومة» التي كال لها السائق الزنجي سيلاً من شتائمه العنيفة مرة أخرى، كاد أن يرد على سائق الأجرة اللامبالي، لكنه فضل أن يستمر في تداعياته، لاسيما وأنه لا يملك النشاط ولا الرغبة في الحوار، لقد ضبطتك سائق الأجرة، هذه المرة، قال لنفسه: إن سائق الأجرة ينظر إلى ذلك المنظر العجيب الذي جري في المقعد الخلفي، وهذا هو السبب في أصوات المكابح المتكررة، لقد بدت على سائق سيارة الأجرة علامات الدهشة الصامتة، وصور التساؤل المحير الذي عصف بجمال وهو صبي، حينما تعرض لمواقف من التناقض، والحيرة المتتالية، سائق الأجرة لازال يسترق النظر إلى الراكب ومرافقيه، وعيناه تكادان تنفجران بالتساؤل الملح الذي لم يترجم إلى كلمات، بل إلى أخطاء قيادية كادت أن تودي بالمركبة إلى جانب الانحدار الخطر. فجأة نطق السائق:
- من أي بلد أنتم؟
جانب الحذر الذي انغرس في التعامل مع الآخرين علم جمال أن يكون لطيفاً
بحذر.
- من الشرق الأوسط.
- أين يقع الشرق الأوسط.. أفي إسرائيل؟
- كم هو عجيب أن تكون صورة العالم مشوهة إلى هذا الحد في ذهن
الأمريكي، لم يتغير الحال حتى بعد عقدين من معاشرته للقوم، وبعد أحداث صاغت
حياة كثير منهم ودفعتهم للاهتمام بهذا الجزء من العالم، رد بصورة نمت عن رغبة
في إنهاء الحوار.
- ليس قريباً منها إنها جزء يبدو أنها منه!
لقد فهم مغزى السؤال، فمنظر زوجته التي تخمرت ولم يبد من وجهها سوى
العينين كان مبعث السؤال ولا شك.. وتنهد.. تنهد حينما قارن بين وضع أمه قبل
عقدين وهي تحاول أن تبدو «منسجمة» مع المحيط الجديد، ومنظر زوجته وقد
تميزت بذلك الزي الذي يبعث على التساؤل، ويصر على الذاتية، كلا الوضعين
مثير، ويبعث التساؤل والاستفهام، لكنهما يمثلان تصوراً لجيلين، وعهدين،
وموقفين، جيل أبيه الذي كان يحاول أن يجد الجواب في «الذوبان» في الآخر،
المنتصر، وجيله الذي رأى خسارة الرهان على المشروع المجلوب بوضوح، رآه
هزائم، وانكسارات، وتبعية، وتسلطاً، من الآخر المنتصر، للضعيف المغلوب
على أمره المسحور بلب العدو وطبوله، وكأنه تداو بسم بدا لذيذاً وشهياً، مرة
أخرى، صوت الكابح وتوقف مستمر، لكن إيذاناً بالوصول إلى الفندق هذه المرة،
أخذ جمال عائلته الصغيرة وتوجه نحو موظفة الاستقبال؛ ليسجل المعلومات
الضرورية، ويأخذ طريقه نحو الغرفة، ومرة أخرى انتابه شعور آخر يختلف تماماً
عن الشعور الذي أحس أنه يجتاح أباه وأمه وطفلهما ابن الخمس، فحينما أتوا
نيويورك قبل عشرين عاماً كان كل شيء ساطعاً، وكل مكان يرونه باهراً، وكل
لحظة يمرون بها أقرب للحلم، أما اليوم فإن هذه المدينة لا تثير في نفسه شيئاً من
ذلك، فلا الشعور بالصدمة الحضارية يغشاه، ولا الضخامة المادية تثيره، فليس
هناك أمر مادي يقرب نحو دائرة العجب، ولا لحظة يراها تثير فيه الانبهار، لقد
تقلص الحاجز كثيراً بين مدينته الصحراوية، ومدينة الخرسانة العملاقة التي أخذت
في دخول عصر الشيخوخة، وتعرض آلامها وأمراضها، نيويورك تلك لا تمت
بصلة إلى هذه، لا شعوراً، ولا واقعاً، وبالتالي تحجم الدهشة، والتحديق،
والانبهار، والإعجاب، قد تقلص كثيراً وكثيراً، ولم يبق لديه في تلك اللحظة
سوى رغبة ملحة لأن ينال قسطاً من الراحة بعد هذه الرحلة المرهقة، سرعان ما
تحققت حينما ألقى بجسده المنهك على الفراش ليغط في نوم عميق ...(31/42)
(شعر)
اقذفونا بالحجارة
شعر: مروان كجك
اقذفونا بالحجارة ... واعرضونا للتجارة
نحن أولى من يهود ... نحن يا جيل الخسارة
فاقذفونا بالحجارة
قد كذبنا وانتشينا ... وسرقنا وارتشينا
وظلمنا كل طفلٍ ... وجنين في المحاره
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
لم ندع فينا شريفاً ... أو عصاميا نظيفاً
لم ندع شيخاً كفيفاً ... لم يذق منا المرارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
نحن بعناكم جهاراً ... لم نجد في الأمر عاراً
وعصينا الله فيكم ... وانخدعنا بالشطارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
نحن جرأنا اليهودا ... ومنحناهم عهوداً
واحتززنا كل رأس ... لا يرى هذي الحضارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة ...
لم نرم فيكم صلاحاً ... أو نضالاً أو كفاحاً
لم ندع فيكم رماحاً ... فانهزمنا عن جداره
فاقذفونا بالحجارة
نحن أكثرنا الملاهي ... ورمينا بالدواهي
وقتلنا كل ناهي ... قد رمانا بالقذارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
نحن أقسمنا اليمينا ... وحنثنا فابتلينا
واحتللنا فرضينا ... وفررنا عن مهارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
نحن أرسينا السجونا ... وملأنا الأرض هوناً
وبثثناها عيونا ... واستهنا بالخِفارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
نحن أسلمنا القيادا ... لعدو قد تمادى
ومنحناه المرادا ... فرأى فينا انتصارا
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
قد كنزنا المال كنزاً ... وحسبنا الأمر أجزى
وحرمنا الشعب خبزاً ... وضننا بالخُشارة
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة
نحن فرقنا الصفوفا ... نحن أرغمنا الأنوفا
ودفناكم ألوفاً ... في انتشاء وحراره
... ... ... ... فاقذفونا بالحجارة(31/46)
الصفحة التعليمية
علامات الترقيم
جواباً على طلب بعض القراء وضعنا هذه الصفحة التعليمية التي نطرح فيها
موضوعات تتعلق بلغتنا العربية. وسوف يكون العرض ميسراً وسهلا ما أمكننا ذلك.
وفي هذا العدد نتكلم عن علامات الترقيم: صورتها أو شكلها، أين توضع،
وكيف؟ ومثال على استعمال كل منها.
1- علامة الترقيم: الفاصلة (،)
أين توضع وكيف: بعد النداء، وبين أجزاء الجمل
المثال: يا باغي الخير، أقبل، ويا باغي الشر، أقصر.
2- علامة الترقيم: الفاصلة تحتها نقطة (؛)
أين توضع وكيف: بين جملتين إحداهما سبب حدوث الأخرى
المثال: إن كنت مسافراً؛ فودع أهلك.
3- علامة الترقيم: النقطة (.)
أين توضع وكيف: في نهاية الفقرة أو المعنى
المثال: خير الناس أنفعهم للناس.
4- علامة الترقيم: النقطتان (:)
أين توضع وكيف: قبل القول المنقول أو ما في معناه
المثال: قال الله تعالى: [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ] .
5- علامة الترقيم: علامة الحذف ( ... )
أين توضع وكيف: للدلالة على كلام محذوف من النص
المثال: وقف في ساحة المدرسة ... ثم أنشد
6- علامة الترقيم: علامة الاستفهام (؟)
أين توضع وكيف: بعد صيغة السؤال أو الاستفهام
المثال: ما مهنتك؟
7- علامة الترقيم: علامة التعجب (!)
أين توضع وكيف: بعد كلمة أو جملة أو معنى متعجب منه
المثال: ما أجمل أيام الربيع!
8- علامة الترقيم: علامة الاقتباس (" ")
أين توضع وكيف: يوضع بينهما كلام منقول
المثال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر، ولا
ضرار» .
9- علامة الترقيم: الشرطة المعترضة (-)
أين توضع وكيف: توضع قبل وبعد الجملة الاعتراضية
المثال: إني - والحمد لله - بخير.
10- علامة الترقيم: القوسان الحاصرتان ( [] )
أين توضع وكيف: يوضع بينهما كلام ليس من النص أصلاً، أو زائد عليه.
المثال: إن فلسفة شوبنهور [فيلسوف ألماني مشهور] تشبه فلسفة أبي العلاء
المعري.
11- علامة الترقيم: القوسان (())
أين توضع وكيف: يوضع بينهما أرقام أو مرجع داخل النص
المثال: خرجت فرنسا مدحورة من الجزائر عام (1961) [1] .
__________
(1) يمكن الاستئناس بالصفحة الأخيرة من هذا العدد كمثال تطبيقي لاستعمال بعض علامات الترقيم.(31/48)
تاريخ
ابن سبأ في كتابات المعاصرين
د. محمد آمحزون
إذا كانت شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية
والشيعية، المتقدمة والمتأخرة على السواء، فهي كذلك أيضاً عند غالبية
المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن [1] ، وفان فولتن [2] ، وليفي ديلافيدا [3] ،
وجولد تسيهر [4] ، ورينولد نكلسن [5] ، وداويت رونلدسن [6] ... على حين
يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال:
كيتاني [7] ، وبرنارد لويس [8] ، وفريد لندر المتأرجح [9] .
كما أن شخصية ابن سبأ تبقى محل اتفاق عند المحدثين من أهل السنة ما عدا
فئة قليلة ممن تأثروا بمنهج الاستشراق [10] ، أو ممن حجبهم الغموض الذي أثاره
غيرهم حول شخصية ابن سبأ، فلازموا الإنكار [11] ، وفي أحسن حال شكوا في
أمره [12] ، أو تذبذبوا بين الإنكار تارة، والإقرار بوجوده تارة أخرى [13] .
وبالنسبة للشيعة المعاصرين، فأغلب ما كتبوه عن ابن سبأ، إنما هو إنكار
لوجوده، فهو عند بعضهم أقرب إلى الوهم منه إلى الوجود [14] ، وعند البعض
الآخر أقرب إلى الخيال والأسطورة منه إلى الواقع [15] .
أما المستشرقون فقد كان هدفهم من ذلك التشكيك أو الإنكار هو ادعاء أن الفتن
إنما هي من عمل الصحابة أنفسهم، وأن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من
الدفاع عن الصحابة، لجأ إليها الإخباريون والمؤرخون المسلمون، ليعلقوا أخطاء
هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى.
على أن إنكار بعضهم لشخصية عبد الله بن سبأ إنما يرجع إلى رغبتهم في
الانتهاء إلى النتيجة التالية: لا حاجة لمخرب يمشي بين الصحابة، فقد كانت
نوازع الطمع وحب الدنيا والسلطة مستحوذة عليهم، فراحوا يقاتلون بعضهم بعضاً
عن قصد وتصميم، يقول أحدهم بأن ابن سبأ ليس إلا شيئاً في نفس سيف أراد أن
يبعد به شبح الفتنة عن الصحابة، وأنها إنما أتت من يهودي تستر بالإسلام [16] .
والقصد من ذلك الاساءة إلى الإسلام وأهله، وإلقاء في روع الناس أن الإسلام
إذا عجز في تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمدة وجيزة، فهو أعجز أن يكون منهجاً
للإصلاح في هذا العصر.
وجرياً وراء منهج المستشرقين في التشكيك في شخصية ابن سبأ، والتهوين
من خطر العناصر المخربة في الإسلام، انساق بعض الباحثين العرب إلى التهوين
من شأن ابن سبأ، أو حتى إنكار شخصيته واعتبارها شخصية أسطورية.
يقول أحد هؤلاء المشككين: «أراد خصوم الشيعة - يقصد أهل السنة -
أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد له والنيل
منهم» [17] .
ثم يتساءل في خبث: «أكان لابن سبأ أن يجد مجالاً لبث أفكاره بين من هم
أكثر منه علماً ودراية بأحكام الإسلام» [18] .
هذا وقد بنى شكه في هذه القضية على سببين باطلين هما:
أولاً: زعمه أن هذه القصة قد اختلقها أهل السنة للتشنيع على الشيعة، وقد
كان عليه قبل أن يلقي بظلال الشك جزافاً، وذلك دأبه، أن يتأكد على الأقل من أن
هذه القصة انفردت بها مصادر أهل السنة، وأن مصادر الشيعة قد خلت منها، وهو
أمر لم يكلف نفسه عناء البحث فيه، لأن منهجه الذي سار عليه في كتاباته هو
الشك وإساءة الظن بالآخرين والقذف بالاتهام دون تثبت.
والزعم بأن أهل السنة اختلقوا هذه القصة باطل، لأن مصادر الشيعة هي
الأخرى أثبتتها كما سلف ذكره. فالشيعة إذاً متفقون مع أهل السنة على أن عبد الله
بن سبأ هو الذي أجج نيران الفتنة على عثمان -رضي الله عنه-، وهو الذي أظهر
العداء لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي أظهر الغلو في
علي -رضي الله عنه- وقال بالنص على إمامته، إلى غير ذلك من معتقداته الباطلة.
وبهذا يسقط اعتراض طه حسين على القصة بزعمه أنها من مفتريات أهل
السنة، وحاشاهم ذلك، إذ يتعذر اتفاق جميع مصادرهم على الكذب، بل كان غالبية
أصحابها من العلماء الثقات المشهود لهم بتحري الصدق فيما يكتبونه وينقلونه.
ثانياً: أما اعتراضه الثاني، وهو إكباره للصحابة بأن يستطيع مثل ابن سبأ
أن يفعل ما فعل، فليس هذا إكباراً وإنما هو رغبة لإظهارهم بأنهم هم الذين أثاروا
الفتنة ضد عثمان، فهو يعلم أن ابن سبأ بث أفكاره بين دهماء الناس وعامتهم،
وليس بين الصحابة، وهؤلاء الدهماء كان لهم دور مؤسف في قتل أمير المؤمنين
عثمان -رضي الله عنه-، وفي معركة الجمل، وما أعقبهما من نكبات ومصائب.
أما الشيعة فيرجع سبب إنكارهم لوجود ابن سبأ فيما يبدو إلى عقيدته التي بثها
وتسربت إلى فرق الشيعة، وهي عقيدة تتنافى مع أصول الإسلام، وتضع القوم
موضع الاتهام والشبهة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لما للعداء التاريخي في
نفوس الشيعة نحو الصحابة، ورغبة لإظهارهم بأنهم هم الذين أثاروا الفتنة بينهم.
على أن من طعن من الشيعة في وجود شخصية ابن سبأ فقد طعن بالتالي في
كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين عندهم في هذا اليهودي الماكر، وكيف
يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول! مع أنه لا يجوز في معتقد
الشيعة تكذيب المعصوم! !
وفي الختام يتأكد بعد استقراء المصادر سواء القديمة والمتأخرة، عند السنة
والشيعة، أن وجود عبد الله بن سبأ كان وجوداً حقيقياً تؤكده الروايات التاريخية،
وتفيض فيه كتب العقائد، وذكرته كتب الحديث، والرجال، والأنساب والطبقات،
والأدب واللغة، وسار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين والمحدثين [19] .
ويبدو أن أول من شكك في وجود ابن سبأ بعض المستشرقين، ثم دعم هذا
الطرح الغالبية من الشيعة المحدثين، بل وأنكر بعضهم وجوده البتة، وبرز من بين
الباحثين العرب المعاصرين من أعجب بآراء المستشرقين، ومن تأثر بكتابات
الشيعة المحدثين، ولكن هؤلاء جميعاً ليس لهم ما يدعمون به شكهم وإنكارهم إلا
الشك ذاته، والاستناد إلى مجرد الظنون والفرضيات.
__________
(1) يولياس فلهاوزن: الخوارج والشيعة، ص 170.
(2) فان فولتن: السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات، ص 80.
(3) Levi delavida , the Encyclopedia of Islam Vi , P: 51.
(4) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 229.
(5) نكلسن: تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام، ص 335.
(6) رونلدسن: عقيدة الشيعة، ص 58.
(7) كيتاني: حوليات الإسلام، ج 8، سنة 33 - 35، ص42 (نقلاً عن الدكتور عبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين، ج2، ص30-31) .
(8) برنارد لويس: أصول الإسماعيلية، ص 86.
(9) انظر عبد الرحمن بدوي: المصدر السابق، ج2، ص 22 - 23.
(10) مثل طه حسين: الفتنة الكبرى (علي وبنوه) ، ص 90 - 91.
(11) مثل عبد العزيز الهلابي: عبد الله بن سبأ، ص 73.
(12) أمثال علي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ص 28، ومحمد عمارة: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية، ص 155.
(13) مثل جواد علي الذي يبدو التناقض في كلامه عند حديثه عن السبئية، فتارة يقر بوجودها وبدورها في الأحداث فيقول: والظاهر أن السبئية كانت من أكثر الكتل السياسية التي ظهرت في أيام عثمان نظاماً (مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السادس، ص 84) ، ثم يقول بأن السبئية - في نظره - هي المسؤولة عن قتل الخليفة عثمان (المرجع نفسه، ص 100) ، وتارة أخرى يكاد يجعل من السبئية أسطورة أقرب منها إلى الواقع، ويستهين من شأنها (مجلة الرسالة، عدد 778، ص 609- 610) ، ويأخذ على الإمام الطبري ورواته تضخيم دور ابن سبأ في مصر وإثارته الفتنة فيها، ويقول: إن أحداً من الرواة غير يزيد الفقعسي لم يذكر هذه الآثار لابن سبأ في مصر، وقد غاب عنه رواية الحافظ ابن عساكر في (تاريخ دمشق) التي لم يكن راويها هو يزيد الفقعسي، بل جاءت من طريق أبي حارثة وأبي عثمان قالا: لما قدم ابن السوداء مصر عجمهم واستخلاهم واستخلوه، وعرض لهم بالكفر فأبعدوه، وعرض لهم بالشقاق فأطمعوه، فبدأ بالطعن على عمرو بن العاص وقال: ما باله أكثركم عطاءً ورزقاً؟ (تهذيب تاريخ دمشق، ج7، ص423) .
(14) أمثال علي الوردي: وعاظ السلاطين، ص 273، وكامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص41 - 43.
(15) أمثال عبد الله الفياض، تاريخ الإمامية، ص 95، ومرتضى العسكري: عبد الله بن سبأ،
ج1، ص 148.
(16) وهوفريد لندر الذي كتب عن ابن سبأ مقالاً نشرته المجلة الآسيوية الصادرة بألمانيا عام 1909م انظر: عبد الرحمن بدوي: المصدر السابق، ج 2، ص 22 - 23.
(17) طه حسين: الفتنة الكبرى (علي وبنوه) ، ص 90.
(18) طه حسين: الفتنة الكبرى (عثمان) ، ص 132 - 134.
(19) أمثال محمود شاكر: الخلفاء الراشدون، ص225، ويوسف العش: الدولة الأموية، ص 66 - 69، ود عمار الطالبي: آراء الخوارج، ص 66 - 67، وسعيد الأفغاني: عائشة والسياسة، ص 60، ود محمود قاسم: دراسات في الفلسفة الإسلامية، ص 109، ود عبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين، ج2، ص 17 - 24، وإحسان إلهي ظهير: الشيعة والسنة، ص 29 - 31، ود سعيد الهاشمي: ابن سبأ، مقال نشره في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1398هـ/1978م ص 201 وما بعدها، ود عزة عطية: البدعة، ص 73، وأنور الجندي: طه حسين وفكره في ميزان الإسلام ص 171، ومحب الدين الخطيب: حاشية العواصم، ص 4 - 57، وإبراهيم شعوط: أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص 147.(31/50)
من أرشيف البيان
تاريخ الأمم والملوك
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري
224 - 310
محب الدين الخطيب -رحمه الله-
مفارقات:
من عجيب المفارقات في تاريخنا وتواريخ الأمم الأخرى، وفي موقفنا من
تاريخنا ومواقف الأمم الأخرى من تاريخها، أن نكون أغناهن جميعاً في كل ما
يبني به تاريخ الأمة من أنباء ونصوص ومراجع وقرائن وإشارات وتحقيقات، ثم
نبقى أفقرهن وأقلهن انتفاعاً بهذه الثروة في إقامة معالم تاريخنا على أساسها، بينما
الآخرون قد أحدثوا - حتى من الأوهام - مكتبات جديدة لأجيالهم وجماهير قرائهم،
حافلة بالطلى الشهي من صفحات ماضيهم، فوثقوا أواصر خلفهم بسلفهم، ويسروا
لهم القدوة الحسنة بعظمة العظماء من نوابغهم، بعثوا لهم من ذلك الماضي صوراً
حية ترتفع الرءوس بأمجادها، وتمتلئ القلوب بإجلالها واحترامها، وتطمئن العقول
إلى تعليل تصرفاتهم والاعتبار بها ومواصلة السير نحو أهدافها.
مواطن ضعف:
ومواطن الضعف - التي أدت ببعض معاصرينا من حملة أمانات التاريخ
العربي والإسلامي إلى أن يكون انتفاعهم بهذه (التركة) ضئيلاً - لا يكاد يأتي ...
عليها الحصر - ومما يتبادر إلى الذهن منها الآن أمران:
أولهما: أن الذين تثقفوا منا بثقافة أجنبية عنا قد غلب عليهم الوهم بأنهم
(غرباء) عن هذا الماضي، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء النيابة من المتهمين. بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة له بماضي العروبة والإسلام، لئلا يتهم في زعمه بالعصبية لهما، فوضع نفسه في موضع التهمة بالتحامل عليهما، جرياً وراء بعض المستشرقين في ارتيابهم حيث تحسن الطمأنينة، وفي ميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبت، وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم أشباء الدلائل عليه. ولو أن إخواننا هؤلاء نشأوا على الإيمان بأنهم هم أصحاب هذه (التركة) ، وبأن هذا الماضي ماضيهم، وأن جيلنا حلقة في سلسلة هذا الماضي، وأن أحداثه ثروة لنا في القدوة والاعتبار، لنظروا إليه بعين الأم إلى ابنها، إن لم ينظروا إليه بعين الابن إلى أمه، ولا يكون ذلك إلا بتبني هذا التاريخ، والحرمة له، وبث الحياة في أمجاده، والحرص على استجلاء جماله، وإبراز فضائله، وتحري مواطن العظة والاعتبار في أخطائه، وحسن التعليل لذلك بالرفق والإنصاف وكمال التقدير. على أنه إذا كان هذا حال أهل الصبر منا على البحث والدرس، فما بالك بالآخرين الذين قد تقع أنظار الواحد منهم على بحث فج لمستشرق ناشئ أو منسي، فينتحل ذلك البحث من غير تعب، ويزعمه لقرائنا مبتكراً من عنده، وينقله لنا محرف الأعلام، متضارب الأحكام، مزدوج العي،ملتهب الحماسة في التحامل حتى على الفضائل عندما ينظر إليها - بعينه أو بعين من ترجم عنه - من وراء منظار أسود.
ذلك أحد مواطن الضعف في دراستنا لتاريخ العروبة والإسلام، أما الموطن
الآخر فهو ما لاحظته على بعض المعاصرين لنا من اشتباه الأدلة التاريخية عليهم،
وحيرتهم بين جيدها وأجودها، بل فيهم من لا يميز بين الجيد منها والردىء، مع
أن ذلك كان في متناول يده لو سبق له معرفة موازين رواتنا في النقد، أو وقف
على مناهجهم في التأليف ومصطلحاتهم في الرواية، ومراميهم في الاستشهاد.
وقد اخترت اليوم من هذه المراجع كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للإمام أبي
جعفر محمد بن جرير الطبري (224 - 310) لأتحدث عنه إلى إخواني المشتغلين
بالتاريخ، ممن يحاولون الانتفاع به في الاستدلال والنقل، لأني رأيت منهم من
يظن أن إيراد الطبري لخبر من الأخبار كاف لتحميل هذا الإمام مسئولية الخبر الذي
أورده، واعتباره هو المصدر لهذا الخبر، وأن الأخبار التي يوردها سواء كلها في
ميزان الصحة عنده، وأن عزوهم الخبر إلى الطبري ودلالتهم على موضعه من
تاريخه تتم بهما مهمتهم من الاستدلال، وتبرأ بذلك ذمتهم من عهدة هذا الخبر،
ويبقى الطبري هو المتحمل لمسئولية ما يترتب على ذلك في الحكم على أحداث
التاريخ وعلى أقدار رجاله وتصرفاتهم.
إن ظنهم هذا لا يغني من الحق شيئاً، وإن الطبري ليس هو صاحب الأخبار
التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في
الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمها العلمية، ولايتم اعتبار الطبري مرجعاً في
التاريخ إلا بإكمال المهمة التي بدأ بها، وهي تقدير أخباره بأقدار أصحابها، ففيها ما
يعد من سلسلة الذهب، وفيها مالا تزيد قيمته على قيمة الخزف، ولكل ذلك نقاده
وصيارفته وتجاره، وهم يعرفون أقدار هذه الأخبار عند التعريف بأقدار أهلها،
وقديماً قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
أنَّى لك هذا؟
إن كل خبر في تاريخ الطبري، بل كل نص يتناقله أهل العلم في أجيال
الإسلام، له عند أهله قيمه رفيعة أو وضيعة، على قدر شرفه أو خسته بالرواة
الذين ينتسب إليهم ذلك الخبر أو ذلك النص. فشرف الخبر في التراث الإسلامي
تبع لصدق راويه ومنزلته من الأمانة والعدالة والتثبت، لذلك امتازت كتب سلفنا
الأول بتسمية الرجل المسئول عن أي حديث نبوي يوردونه فيها، وبيان المصدر
الذي جاءوا منه بأي خبر تحدثوا به إلى الناس. ولو لم يسموا الرجل المسئول عن
الحديث النبوي عند إيراده، ولو لم يبينوا المصدر الذي حصلوا منه على أي خبر
يودون ذيوعه بين الناس، لطالبهم بذلك علماء الثقافة الإسلامية بأشد من مطالبة
المحاكم من يدعي ملكية العقار أو الحقل بما يثبت ملكيته له ومن أين صار ذلك إليه؟
وإذا كان مبدأ (أنى لك هذا) مما سنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في
مشروعية امتلاك الأموال، فإن أبناء الجيل الذي منه عمر بن الخطاب هم الذين
سنوا للناس بعدهم وجوب بيان مصادر العلم، كما سنوا لهم وجوب بيان مصادر
المال، والعلم أثمن عندهم من المال وأشرف، وأنفع منه وأبقى.
نحن نعتبر تاريخ الطبري الآن من أقدم مصادرنا، وكان تاريخ الطبري في
النصف الثاني من القرن الثالث (أي قبل أحد عشر قرناً) يعد من مصادر التاريخ
الإسلامي الحديثة بالنسبة إلى المصنفات التي دونت قبله بثلاثة بطون، بل بأربعة.
ولعل أقدمها مغازي مؤرخ المدينة موسى بن عقبة الأسدي المتوفى سنة 140 هـ،
وهو الذي يقول فيه الإمام مالك: (عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة، وهي أصح
المغازي) وابن عقبة من تلاميذ عروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص الليثي،
ومن طبقة تلاميذه العراقيين سيف بن عمرالتميمي الكوفي المتوفى بعد سنة 170
هـ، وله في سنن الترمذي حديث واحد، والطبري يروى عنه بواسطتين، أي عن
شيوخه وهم عن شيوخهم الذين كانوا تلاميذ لسيف. ومن طبقة تلاميذ موسى ابن
عقبة مؤرخ الشام أبو إسحاق الفزاري الحافظ المتوفى سنة 186 هـ، وهو حفيد
أسماء بن خارجة الفزاري وكان له كتاب في التاريخ أثنى عليه شيخ الإسلام
ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) [1] ، بعد أن قال: (إن أعلم الناس
بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها
لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم. ولهذا أعظمَ الناسُ كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار) . ...
ويأتي بعد تلاميذ موسى بن عقبة طبقة يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن
العاص الأموي المتوفى سنة 194 هـ، ومن مؤرخي الشام الوليد بن مسلم أبو
العناس الدمشقي مولى الأمويين المتوفى سنة 195 هـ، ومحمد بن عمر الواقدي
المدني قاضي العراق المتوفى سنة 207 هـ، ثم كاتبه المؤرخ الحافظ الثقة محمد
بن سعد بن منيع البصري (168 - 230) . ومن هذا الجو العلمي استمد أبو جعفر
الطبري هديته الكبرى إلى الأمم الإسلامية بما سجله وخلده من جهود شيوخه وشيوخ
شيوخه ومن سبقهم إلى زمن التابعين والصحابة، فلم يترك مهماً من أخبار سلف
الأمة مما أثر عن الأئمة الذين سمينا بعضهم إلا وقد دون طرفاً منه، ناسباً كل خبر
إلى صاحبه وإلى من يرويه عنهم صاحب ذلك الخبر من شيوخه وأسلافهم.
الأخبار الضعيفة عند الطبري:
لم يقتصر الطبري على المصادر التي أشرت إلى بعضها، بل أراد أن يقف
قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ عن مصادر أخرى قد لا يثق هو بأكثرها،
إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية، وقد تكمل بعض ما فيها من نقص،
كما صنع بنقله كثيراً من أخبار أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي الذي قال فيه
الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: (اخباري تالف لا يوثق به، تركه أبو حاتم
وغيره) وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم. مات قبل السبعين ومائة. فقد نقل الطبري ... من أخباره في مئات المواضع، ولو أن الذين ينقلون عن الطبري ويقفون عنده، استقوا أخبار من لوط بن يحيى هذا واكتفوا بعزوها إلى الطبري لظلموا الطبري بذلك، وهو لاذنب له بعد أن بين لقارئه مصادر أخباره، وعليهم أن يعرفوا نزعات أصحاب هذه المصادر ويزنوها بالموازين العادلة اللائقة بهم وبها.
إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبتين - في إيرادهم
الأخبار الضعيفة- كمثل رجال النيابة الآن إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية فإنهم
يجمعون كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها، مع علمهم بتفاهة
بعضها أو ضعفه، اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره. وهكذا الطبري
وكبار حملة الأخبار من سلفنا كانوا لا يفرطون في خبر مهما علموا من ضعف ناقله
خشية أن يفوتهم بإهماله شىء من العلم ولو من بعض النواحي.
إلا أنهم يوردون كل خبر معزواً إلى راويه ليعرف القارئ قوة الخبر من كون
رواته ثقات أو ضعفه من كون رواته لا يوثق بهم، وبذلك يرون أنهم أدوا الأمانة،
ووضعوا بين أيدي القراء كل ما وصلت إليه أيديهم، قال الحافظ ابن حجر في
ترجمة الطبراني من لسان الميزان:
(إن الحفاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم
عنها على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا
من عهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده) .
ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة قول
شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة تفسير القرآن (ص 30 - 31) : (إن تعدد الطرق
مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول (أي بالقدر
المشترك في أصل الخبر) لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين (أي
نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم) وفي مثل هذا ينتفع برواية
المجهول، والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم
يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح
لغيره. قال أحمد: (قد أكتب حديث الرجل لأعتبره) .
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن اتساع صدور أئمة السنة - من أمثال أبي
جعفر الطبري - لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم. دليل على حريتهم،
وأمانتهم، ورغبتهم في تمكين قرائهم من أن يطلعوا على كل ما في الباب، واثقين
من أن القارئ الحصيف لا يفوته أن يعلم أن مثل أبي مخنف موضع تهمة - هو
ورواته - فيما يتصل بكل ما هم متعصبون له، لأن التعصب يبعد صاحبه عن
الحق. أما سعة الصدر في إيراد أخبار المخالفين فهي دليل على عكس ذلك، وعلى
القارئ الحصيف أن يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وأن يستخلص الحق عند ما يكون
موزعاً أو معقداً.
الانتفاع بأخبار الطبري:
إنما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلى تراجم رواته في كتب الجرح
والتعديل. فتراجم شيوخه مباشرة وشيوخهم توجد في الأكثر في مثل تذكرة الحفاظ
للذهبي. وتراجم الرواة الذين كانوا إلى أواخر المائة الثانية توجد في خلاصة
تهذيب الكمال للصفي الخزرجي وتقريب التهذيب وتهذيب التهذيب للحافظ ابن
حجر. والذين تناولهم الجرح من الضعفاء يترجم لهم الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال والحافظ ابن حجر في لسان الميزان. وفي طبقات ابن سعد وتاريخ بغداد للخطيب وتاريخ دمشق لابن عساكر وتاريخ الإسلام للذهبي والبداية والنهاية لابن كثير. وإن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف. ولا نعرف أمة عني مؤرخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها وشروط الانتفاع بها كما عني بذلك علماء المسلمين. وإن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم. ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذلك الخبر إلى أن الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار، ولو أنهم تمكنوا من علم مصطلح الحديث، وأنسوا بكتب الجرح والتعديل، واهتموا برواة كل خبر كاهتمامهم بذلك الخبر لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي، ولتمكنوا من التمييز بين غث الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها.
وبعد فإن تركة سلف هذه الأمة - في كل ضرب من ضروب المعرفة - من
أنفس ما ورثت عن أسلافها، وقد كانت لعلمائنا الأقدمين مشاركة في علوم كثيرة،
فجاءت مؤلفاتهم مرتبطاً بعضها ببعض ومكملاً بعضها لبعض. والذي ألفوه في
التاريخ واعتمدوا فيه على الرواية، مبالغة منهم في أداء الأمانة كاملة وافية، لا
يجوز لمن ينقله عنهم أن يقصر في عرض تلك الأخبار على قواعد علم الرواية
وعلى المعاجم المؤلفة في تراجم الرواة، وإن لم يفعل أخطأ الطريق، وكان عمله
خارجاً عن مناهج العلماء.
عن مجلة الأزهر المجلد 24
__________
(1) ص 22 طبع السلفية.(31/55)
واحة البيان
مرزوق النفيعي
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله:
أما بعد: فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد، فإذا هممت بظلم أحد؛ فاذكر قدرة
الله عليك، وأعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئاً إلا كان زائلاً عنهم، باقياً عليك،
واعلم أن الله آخذ للمظلومين من الظالمين، والسلام.
* * *
قال الحسن البصري:
من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحزم في لين، وحرص على علم، وقناعة
في فقر، وإعطاء في حق، ويسر في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال.
* * *
من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -:
رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
[زاد المعاد 1/263]
* * *
قال أبو علي الروذباري:
صحبت عبد الله بن المبارك في إحدى أسفاره، فلما دخلنا البادية قال:
تكون الأمير أم أكون؟ قلت: بل أنت، قال: فعليك السمع والطاعة، فأخذ
المخلاة ووضعها على عاتقه، فقلت: دعني أحمل عنك، فقال: أنا الأمير أم أنت؟ فقلت: أنت، فمكثنا ذات ليلة إذ أخذ المطر، فأخذ الكساء فأظلني وترك نفسه
إلى الصباح، فوددت أني مت ولم أقل كن أميراً، فلما أردت الافتراق قال: يا أبا
علي؛ إذا صحبت إنساناً فاصحبه هكذا.
* * *
قال عبد الله بن معاوية:
ولست ببادٍ صاحبي بقطيعةٍ ... ولستُ بمفشٍ سرَّهُ حينَ يغضب
عليك بإخوانٍ ثقاتٍ فإنهم ... قليلٌ، فصلهم دونَ من كُنتَ تَصْحَبُ
وما الخِدْنُ إلا مَنْ صفا لك وُدُّهُ ... وَمَنْ هو ذو نصحٍ وأنت مُغَيَّب(31/62)
شؤون العالم الإسلامي
إيران تحث الشيعة الأفغان
للتقارب مع نظام نجيب
أحمد زيدان
اقترح وزير الخارجية الإيراني إجراء محادثات مباشرة بين ممثلين عن
حكومة باكستان وإيران ونظام كابل والمجاهدين الأفغان بهدف ما أسماه تحقيق
السلام وإعادة الهدوء لأفغانستان، وأضاف في مقابلة صحفية أجرتها معه هيئة
الإذاعة البريطانية باللغة الفارسية أن هذا الاقتراح هو الأول من نوعه الذي تقدمه
إيران، وكان الغزل الإيراني مع نظام كابل قد بدأ منذ توقف الحرب العراقية -
الإيرانية التي رافقها تحسن ملحوظ في علاقات روسيا - إيران، الأمر الذي انعكس
على علاقة إيران مع نجيب الله.
ومنذ انسحاب القوات الروسية من أفغانستان والعلاقات بين النظامين تتنامى،
خاصة في التبادل التجاري حيث يلعب الملياردير الأفغاني الشيعي قاري أمان نوائي
الذي يسميه الأفغان بـ (نور جكامي أفغان) أي (مخزن الأفغان) لثرائه وغناه حيث
إنه يرفض تشغيل أي شخص غير شيعي لديه.
كما انتعشت المؤتمرات الثنائية بين البلدين، وبدأت إيران بدعوة نظام نجيب
إلى المؤتمرات التي تعدها مثل مؤتمر الصحة العالمية الذي عقد بالقرب من اجتماع
للمجاهدين الأفغان مع التحالف الثماني الشيعي المستقر في طهران سابقاً، الأمر
الذي أثار الشكوك حول لقاء المجاهدين مع ممثلين عن حكومة كابل، وكانت إيران
تهدف من هذه اللقاءات والأمكنة القريبة من بعضها إلى إثارة الشكوك حول
المجاهدين الأفغان، كما استقبل البرلمان الإيراني رئيس البرلمان الأفغاني التابع
لنظام نجيب الله.
تجدر الإشارة إلى أن نائب رئيس نظام كابل الحالي سلطان علي كشتمند من
الشيعة الهزارة الذي تصفه المصادر الأفغانية بأنه مقرب من إيران، وقد أثار تعيين
شقيه أسد الله كشتمند قائماً بالأعمال في إيران شكوكاً كبيرة في أعقاب انسحاب
القوات الروسية، والكثير من المراقبين يرون في تعيينه إيماءة قوية من نظام كابل
لإيران حيث أنه شيعي وشقيق لرئيس الوزراء السابق الشيعي الذي ترقى أخيراً إلى
منصب نائب الرئيس نجيب، وتقول مصادر المجاهدين بأن سلطان علي كشتمند
غدا شخصية قوية في نظام كابلحتى بدأ بتجميع الشخصيات الشيعية حوله.
إيران تدعو لإشراك الشيوعيين في الانتخابات:
دعا وزير الخارجية الإيراني في مقابلة صحفية معه أيضاً إلى إشراك أعضاء
من الحزب الشيوعي الأفغاني في الانتخابات القادمة، وقد عقب (عبد العلي مزاري)
الناطق الرسمي باسم حزب الوحدة الإسلامية الشيعية الجديد والذي يضم تسعة
أحزاب شيعية على هذا التصريح بأن الأحزاب الشيعية لا تريد إشراك الشيوعيين
في الانتخابات، وقد وافق مزاري في مؤتمره الصحفي في بيشاور على إشراك
ظاهر شاه في الانتخابات. وتتخوف إيران كثيراً من وصول شخصية مثل المهندس
قلب الدين حكمتيار أمير الحزب الإسلامي إلى السلطة في كابل خاصة وهو بشتوني
وهم معروفون بعدائهم للشيعة بعدم قبول سيطرة الأجانب عليهم وقد عبر عن هذا
التخوف الصحفي الباكستاني الشيعي مشاهد حسين المقرب من إيران عندما قال بعد
عودته من طهران بأن المسؤولين هناك متخوفون من وصول حكمتيار إلى الحكم في
كابل مما سيؤدي إلى وقوع أفغانستان بأيدي المتطرفين - على حد زعمهم -.
الشيعة يعززون مواقعهم في حكومة نجيب:
نقلت مصادر موثوقة في كابل بأن نظام نجيب الله قد حاول ملء فراغ قادة
انقلاب حركة السادس من مارس بقيادة تاناي ببعض الشخصيات، فكان معظمهم من
الإسماعيلية والشيعة، وبعد هدوء الأوضاع حاول نجيب إقالتهم إلا أنه فشل في
تحقيق أهدافه خاصة بعد أن دعمهم سلطان علي كشتمند وعزز مواقعهم خاصة في
قيادة الجيش والاستخبارات، وبعد انقلاب تاناي التقى نجيب مع مندوبين عن
التحالف التساعي الشيعي الأفغاني المستقر في طهران ومما جاء في كلمته قوله: "
أود أن أقول في لقائي هذا بأن شعب الهزارة (الشيعة) شعب مظلوم وهو في نفس
الوقت شعب صادق ومخلص في الدفاع عن وطنه ولا ننسى موقفه المشرف مع
أمان الله عندما قام ضده المتطرفون والذين يقفون بوجهنا اليوم حيث إنه أراد
إصلاح البلاد فوقفتم إلى جانبه حتى آخر لحظة من سقوطه " وكان يشير بهذا إلى
وقوف جماعة الهزارة إلى جانب الملك أمان الله في تحديث البلاد بوجهة غير
إسلامية فوقف في وجهه العلماء. ولم ينس نجيب أن يدغدغ عواطف الشيعة في
العزف على وتر خطر الوهابية التي تعتبر بعبع الشيعة عندما قال: " إن انقلاب
تاناي حكمتيار كان بأمر من المخابرات الباكستانية والوهابية السعودية ".
وتقول مصادر المجاهدين القادمة من كابل بأن الشيعة قد شكلوا عدة ألوية
عسكرية شيعية تشرف على قطع طرق المجاهدين في الهجوم على كابل ومعهم سيد
جكرن.
ولا تستبعد مصادر المجاهدين إذا حصلت انتخابات في هذه الفترة أن يقوم
نجيب بالسماح للشيعة الأفغان الموجودين داخل المناطق التي يسيطر عليها بالذهاب
لأماكن الاقتراع في المناطق المحررة خاصة وأن أغلب مناطق الشيعة ليست تحت
سيطرة نجيب مما يجعل تحقيقهم لنتائج أكثر من نسبتهم أمراً أكيداً.(31/65)
أمريكا دمرت أسلحتها في إسلام آباد
لمنعها عن المجاهدين
خاص بالبيان - من أفغانستان:
كشفت مصادر أفغانية عالية المستوى أثناء حديثها لـ (البيان) على أن انفجار
(أوجري) الذي هز إسلام آباد أوائل إبريل 1988 قد استهدف تدمير الأسلحة
المخزونة للمجاهدين الأفغان في العاصمة الباكستانية، وربطت المصادر بين
التفجير والتوقيع على اتفاقيات جنيف في 14 إبريل 1988 بين الحكومة الباكستانية
ونظام كابل بضمانات أمريكية روسية. حيث قامت أمريكا عن طريق عملائها في
باكستان بهذا التفجير بعد أن تيقنت من مسألة الانسحاب الروسي من أفغانستان الذي
كانت تعتبره السبب الرئيسي لدعمها المجاهدين الأفغان، وقد حرص الأمريكان
أثناء الانسحاب الروسي من أفغانستان على عدم مهاجمة المجاهدين لقوافل الروس
المنسحبة، وللأسف فقد اختلفت وجهات نظر المجاهدين حيال مسألة الهجوم على
القوافل المنسحبة، وتقول المصادر الأفغانية بأن المجاهدين ومعهم الرئيس
الباكستاني ضياء الحق كانوا في طمأنينة من أن الأسلحة والذخائر الموجودة في
معسكر أوجري تكفي المجاهدين لإسقاط نظام كابل، وعقب التفجير فقد أظهر
الأمريكان أنهم مستعدون للتعويض عن هذه الأسلحة ولكن كانوا يتذرعون مرة
بالشحن الجوي وصعوباته؛ وأخرى بمشاكل الشركات العسكرية التي تقوم بتوريد
الأسلحة والذخائر.
تجدر الإشارة إلى أن آلاف من الصواريخ قد دمرت وفجرت في هذا الانفجار
منها ستمئة صاروخ ستينغر الذي لعب دوراً في إسقاط الطائرات العسكرية الروسية، كما قتل الآلاف وأعيق العشرات من الآلاف من سكان مدينتي إسلام آباد
وراولبندي حيث ظن أهالي المدينتين أن القيامة قد قامت من هول ما حدث، وهذا
أيضاً يضاف إلى البراهين الساطعة السابقة على أن القوى الكبرى التي تتشدق
بمسألة حقوق الإنسان والهجوم على الإرهاب لا تتورع عن ارتكاب أخس وأنذل
الوسائل في حماية نزواتها ومصالحها الشخصية.
وكان المجاهدون الأفغان قد أشاروا إلى النقص في الأسلحة بعد هجومهم على
جلال آباد في مارس 1989 ولكن دون جدوى.
وخلال أيام الانفجار هاجمت المعارضة الباكستانية لحكم ضياء الحق مسألة
وضع مثل هذا العدد الهائل من الأسلحة في وسط مدن مزدحمة بالسكان، ولكن يبدو
أن الرئيس الباكستاني كان يريد أن يحمي الأسلحة بالمدنيين ظناً منه أن الأمريكان
لن يقوموا بتفجيرها وقتل مثل هذا العدد الهائل من السكان، ولكن ظنه لم يكن
واقعياً، فقد ضحى الأمريكان بسفيرهم في إسلام آباد مقابل تصفية القادة العسكريين
في إسلام آباد أثناء حادث الطائرة في 17 أغسطس 1988.(31/68)
تاتشر ترغب بتوجيه أسلحة حلف الأطلسي
إلى الشرق الأوسط
أعلنت مارغريت تاتشر أن الحدود بين الشرق والغرب قد زالت. وأضافت
أن الغرب لم يكن في أي فترة أكثر أمناً منه الآن. وبعد 45 سنة يجب أن يتجه من
منع قيام الحرب إلى العمل على بناء السلام.
وحذرت -في الوقت نفسه- من أن حلف الأطلسي ربما يضطر لتحويل
دفاعاته ضد تهديدات جديدة؛ وبخاصة من الشرق الأوسط.
وهذا يعني تخفيضاً كبيراً في القوات البريطانية المرابطة في ألمانيا الغربية،
وكذلك في عدد الصواريخ النووية. وبدلاً من ذلك الاهتمام الكبير في الجانب
العسكري يجب التركيز على الجانب السياسي من عمل الحلف. ولكنها اقترحت أن
يرتبط ذلك بقوات تدخل سريع مسلحة بأسلحة متطورة جاهزة للرد على أي تهديد
يصدر من أي جهة من العالم.
كما قالت: إن العالم يتغير بسرعة تقصر عنها طرق تكفيرنا؛ لذلك فإننا
بحاجة إلى أن نكون أكثر براعة، وأن نعمل على إقامة مجال أكبر للتعاون.
وحديث تاتشر هذا جاء قبيل سفرها لمقابلة غورباتشوف حيث من المتوقع أن
تجتمع مع القيادة العليا للقوات المسلحة السوفييتية. وأكدت على الحاجة لأن يظل
الـ (ناتو) قوياً - كما كان دائماً - وأن في تجربته عناصر سياسية مهمة.
هذه العناصر تتضمن الحفاظ على مبادئ الأمن الجماعي، واستمرار الحضور
الأميركي في أوربا، والإبقاء على قواعد صاروخية نووية كافية في أوربا للاحتفاظ
بقوة ردع مطمئنة.
وأضافت - تعليقاً على التغييرات الديموقراطية في أوربا الشرقية -: إن
البنية السياسية التي عهدناها تتغير بسرعة، فالشيوعية تداعت، ولم يعد أمام حلف
الأطلسي حدود سياسية واضحة، وهذا يثير أسئلة كثيرة لابد لها من أجوبة:
هل مازال هناك دور للخطط الدفاعية التقليدية؛ أم لابد لنا من إعادة النظر
فيها، والاعتماد الأكبر على فعالية الحركة والمرونة وقوات الاحتياط؟ وهناك
سؤال آخر، وهو ما إذا كان على حلف الأطلسي (أن يفكر ملياً بإمكانية تهديدات
لأمننا من جهات أخرى) .
وأردفت تقول:
لم تمض مدة طويلة على الظروف التي اضطرت الغرب على الذهاب إلى الخليج العربي ليضمن استمرار تدفق النفط الذي لا يمكن الاستغناء عنه، الإضافة إلى ذلك؛ ومع انتشار الأسلحة المتطورة والتقنية العسكرية وامتدادها إلى
مناطق كالشرق الأوسط فإن ذلك يجعل إمكانية تهديد قادم من خارج أوربا لأقاليم
حلف الأطلسي أمراً لا يستهان به.
وأمام هذا الوضع فإن من الحكمة الاحتفاظ بالقدرة على القيام بأدوار متعددة،
وبقوات قادرة على القيام بمهمات مختلفة وبمرونة أكبر. كما يجب على الحلفاء أن
يختبروا إمكانية زيادة الدول المشاركة في حلف الأطلسي. أما على المستوى
السياسي فقد قالت:
يجب على حلف الأطلسي أن يعمل على تقوية العلاقة مع الولايات المتحدة،
وينتقل إلى نشاطات أخرى مثل نزع السلاح.
عن: ايفننغ ستاندرد 7/6/1990(31/70)
تحريض وإثارة ضد الإسلام
مقتطفات من مقال افتتاحي في جريدة الصندي تايمز
في 10 / 6 /1990
... إن 60 مليون مسلم في الاتحاد السوفييتي ينزعون من أعناقهم نير
العبودية المفروض عليهم من قبل روسيا، وينعطفون نحو الإسلام، الأمر الذي
سيمزق الاتحاد السوفييتي، ويشكل أكبر تهديد لمصالح الغرب قبل نهاية هذا القرن.
وفي الوقت الذي يتناقص فيه التهديد الصادر من حلف وارسو شهراً بعد شهر؛ إلا أن التهديد الإسلامي سيتنامى سنة بعد سنة، وهذا التهديد مختلف في النوعية
والدرجة عن التهديد الذي كان للحرب الباردة، وعلى الغرب أن يتعلم كيف يحتوي
ذلك التهديد، كما تعلم كيف يحتوي الشيوعية.
إن جميع الجمهوريات الإسلامية السوفييتية الجنوبية تتطلع بإلحاح إلى
الاستقلال، وسكانها يمثلون 20% من سكان الاتحاد السوفييتي، ومجندوها يمثلون
33% من الجيش السوفييتي.
إن الحوادث العرقية التي حدثت في بعض الجمهوريات المسلمة هذه تشير إلى
أن موسكو لن تستطيع الاحتفاظ بالوضع كما كان عليه سابقاً، وإذا ما حاولت
فسينجم عن ذلك فوضى عارمة تؤدي إلى حوادث عنف بشكل لم يعهده الاتحاد
السوفييتي، وإن الشيوعيين الروس (الذين ينظرون إلى رفاقهم المسلمين بازدراء)
سوف يطلبون من قادتهم ترك هذه الجمهوريات وشأنها.
إن موجة كاسحة من الشعور القومي والديني تجرف المسلمين نحو الاستقلال
لينضموا إلى باقي العالم الإسلامي في وقت يرتفع فيه إيقاع التطرف الإسلامي.
إن احتمالات السلام بين العرب وإسرائيل تبدو الآن بعيدة أكثر من أي وقت
مضى، بسبب إصرار الحكومة الإسرائيلية على الاحتفاظ بقطاع غزة والضفة
الغربية، وبسبب تدفق المهاجرين اليهود السوفييت من جديد، وهكذا فإن إسرائيل
لن تخشى بعد الآن النمو السكاني العربي داخلها.
وعلى الرغم من أن هذا كله لا يعني نشوب الحرب - بسبب فرقة العرب
وتشتتهم - فإن اللجوء إلى العنف أمر لا مفر منه في ظل تصلب إسرائيل.
والأجنحة المتصلبة من الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية ولبنان يعودون للتمسك
وبشكل متزايد بالقرآن (! !) .
إن الأصوليين اليوم يمثلون أكبر خطر لقيادة ياسر عرفات لمنظمة التحرير،
وحتى الكويت المعتدلة رأت من الحكمة إعطاء اغلب معونتها التي وعدت بها
الفلسطينيين السنة الماضية والمقدرة بـ 50 مليون جنيه استرليني (لحماس) بدلاً
من منظمة التحرير ...
إن على الغرب والاتحاد السوفييتي الإعداد لمواجهة هذا الإسفين الإسلامي
الهائل الممتد من شواطئ البحر المتوسط وشمال أفريقيا عبر أواسط آسيا إلى حدود
الصين مشتملاً على الجمهوريات الإسلامية السوفييتية التي في طريقها إلى التحرر. نعم، إن هذا العالم الإسلامي لن يمثل وحدة سياسية أو عسكرية كما كان حلف
وارسو مثلاً؛ ولكنه لن يكون أقل تهديداً وخطراً على مصالح الغرب ( ... ) .
إن مهمة الغرب الأولى في أن يدرك مدى وطبيعة التهديد الجديد، ثم البدء
بالتخطيط للخطوات الضرورية لحماية المصالح الغربية، كتطوير إمكانية حلف
الأطلسي للقيام بعمليات عسكرية خارج الساحة الأوربية - كما اقترحت تاتشر أمام
وزراء حلف الأطلسي في لقائهم في اسكوتلندة - سيكون ضرورياً، ومع الوضع في
الاعتبار أن بعضاً من أخطر الدول الإسلامية ستمتلك قريباً الأسلحة النووية
والوسائل لإنتاجها؛ فإن نوعاً ولو محدوداً من مبادرة ريغان الدفاعية - والتي
تتضمن القدرة على تدمير صواريخ العدو أثناء انطلاقها - لا تبدو الآن سخيفة كما
بدت لمنتقديها في وقتها.
وعلى الغرب أيضاً تنمية علاقاته مع أصدقائه في العالم الإسلامي الذين يفضل
الكثير منهم التعايش السلمي مع الغرب، وأن يفهم أعداءه بما لا يقبل الشك، أن أي
تهديد لمصالح الغرب سيواجه بكل تصميم وإن اضطره إلى استخدام القوة ( ... ) .
* * *
تعليق المجلة:
إن الموضوعين السابقين يمثلان وجهة نظر الغرب تجاه الإسلام والمسلمين،
والموضوع الأول هو رأي رسمي صادر عن أعلى مؤسسة استراتيجية للحضارة
الغربية وهي حلف الأطلسي، الذي تقترح تاتشر - وهي من مهندسي خططه - أن
يظل حذراً من التحركات الإسلامية، التي لاتذكرها بالاسم، بل بالإشارة إلى
المنطقة - على عادة الانكليز بتسمية الأسماء بغير أسمائها الحقيقية - وأن لا يتردد
في التدخل العسكري في أي مكان من العالم، للقضاء على أي تهديد متوقع.
وأبسط ما يقال في هذه النظرة أنها تعتبر العالم كله مجالاً حيوياً خلق لخدمة
الحضارة الأوربية، فأي عنصرية أكبر من هذه العنصرية، وأي استهانة بالشعوب
الأخرى أشد من هذه الاستهانة؟ !
أما الموضوع الثاني فيعتبر كشرح وكحاشية لإشارة تاتشر، ويبين مبررات
الطبيعة العدائية الكامنة في الفكر الغربي، والتعصب والشوفينية والاستعلاء ضد
جميع المسلمين في شتى بقاع العالم. وهذا واضح من الضيق والضجر الذي يشعر
به هؤلاء الغربيون عندما يفكر المسلمون ولو مجرد تفكير في نزع الظلم المفروض
عليهم، وحتى لو أن مناخاً عاماً واعداً بإزالة ظلم مخيم يعم الناس: مسلمهم
ومسيحيهم وبوذيهم وملحدهم فإن هذا المناخ ينبغي أن يقتصر على غير المسلمين،
ويستثني المسلمون من نعمة تأثيره، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون لا يستحقون جدارة
العيش أحراراً.
إن كاتب المقال الثاني الذي لم تذكر الصحيفة اسمه (وقد يكون يهودياً أو مؤيداً
للصهيونية بشدة) تغيظه المساعدات التي تقدم من بعض العرب إلى إخوتهم في
فلسطين ويضيق ذرعاً بذلك، ويتناسى ويتجاهل المبالغ التي لاحصر لها التي قدمت
ولا تزال تقدم إلى المنظمات الصهيونية، وكذلك المساعدات الهائلة التي تقدمها
الولايات المتحدة ودول أوربا للدولة اليهودية والتي لولاها لما كتب لها الحياة.
إن الفقرتين المقتبستين نموذج لهذه الحملة المسعورة على المسلمين كلما بدت
في الأفق بوادر يشم منها عودة المسلمين إلى دينهم.(31/72)
المسلمون والمتغيرات الدولية
لازالت أحداث أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي والحديث عن الوحدة
الأوربية وما رافق ذلك من متغيرات ومفاجآت، لا زالت تتوالى ولم تتوقف بعد،
وآخر أنبائها دعوة الرئيس الأمريكي لغورباتشوف أن يحضر اجتماعات حلف
الأطلسى بصفة (مراقب) ، واقترح (بوش) أن لا يكون حلف الأطلسي حلفاً عدوانياً، بل إن بعض دول حلف وارسو تقدمت بطلب للانضمام إلى حلف الأطلسي،
واليونان تتحدث عن الجيش الأوربي الموحد (الشرق الأوسط 18 /7/ 1990)
وألمانيا الشرقية تطالب بانسحاب القوات السوفيياتية، أما عن أوربا الغربية
فخطوات توحيد النقد والانفتاح الاقتصادي سائرة كما يخطط لها.
هذه التطورات وإن فاجأت بتسارعها مثل هنري كيسنجر (الشرق الأوسط 15
/7/1990) فإن الغرب لم يكن بعيداً عنها، أعني في تصعيده للأحداث، والنية
المبيتة في تفكيك الامبراطورية الروسية.
إن ألمانيا الغربية تدفع آلاف الملايين إلى مواطني الشرقية حتى ترفع
مستواهم الاقتصادي تمهيداً للوحدة الكاملة، وسواء توحدت أوربا في القريب العاجل
أم أن ذلك سيتم بخطوات وئيدة وليس من الضروري أن تكون وحدة كاملة. فمما
لاشك فيه أن أوربا استراحت من هاجس الخوف الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي
والدول التابعة له ومعنى هذا أنها ستتفرغ لأمور أخرى، ومن أهمها موقفها من
العالم الإسلامي والهيمنة الاقتصادية، فإن اليابان رغم أنه يشكل كتلة اقتصادية
ولكنه لا يشكل تحدياً حضارياً فلم يبق إلا العالم الإسلامي وبعض دول آسيا وأفريقيا
لإثبات الهيمنة الاقتصادية، وهذه لابد لها من هيمنة فكرية، تتمثل بإبعاد الإسلام
عن أن يكون هو المؤثر والفعال في حياة الناس، وهذه النوايا لا يكتمها الغرب،
بل يصرح بها علناً ويقول: إن الخطر القادم هو الإسلام، كما صرح بذلك وزير
فرنسي سابق. هذه الحقيقة جعلت بعض السياسيين العرب يعترف بها كما جاء في
مقابلة أجرتها (الوطن العربي) بتاريخ 22/6/1990 مع الأستاذ طاهر المصري
وزير الخارجية الأردنية السابق، قال:
( ... وهذا التفكير الإسرائيلي سوف يتزامن مع بحث الدول الغربية عن عدو جديد لهم بعد انهيار العدو الشيوعي، هذا العدو هو العالم الإسلامي) .
وأقرب جزء من العالم الإسلامي لأوربا هو العالم العربي الذي تبدي الصحف
الغربية اهتماماً زائداً به وهذا الاهتمام راجع للأسباب التالية:
1- هذه المنطقة تمثل قلب العالم الإسلامي فإذا نهضت شعوبها وتوحدت
فسيكون لها أكبر الأثر على الشعوب الإسلامية المجاورة.
2- يخشى الغرب من الإسلام السني والذي تعتنقه أكثرية الشعوب العربية.
والغرب يعلم الفرق بين السني وغيره، ويعلم بالتفصيل تاريخ أهل السنة مع أعداء
الإسلام، وأن الذي دافع عن الإسلام قديماً (في الحروب الصليبية) وفي العصر
الحديث هم أهل السنة.
3 - قرب العالم العربي وخاصة الشمال الأفريقي من أوربا [1] ، وإن النمو
السكاني المتزايد في هذه البلدان يقلق أوربا جداً وهنا قد يقول قائل: كيف يخشى
الغربيون من شعوب هذه المنطقة وهي على ما نعرف الآن من الضعف الاقتصادي
والحضاري بشكل عام، والجواب أن الغرب لا يفكر في الحاضر بل هو دائماً
التخطيط للمستقبل وحكام الغرب يعلمون أن شعوبهم في انحدار أخلاقي وما يتبع
ذلك من أمراض جسمية ونفسية، وإذا كان الغرب يتطلع إلى وحدة 1992 فإن
الوضع في المنطقة العربية كأنه لا يريد التحرك لمواجهة هذه التحديات، فكما يقول
أحد الكتاب: الغني يرسف في غناه، والفقير يرسف في فقره، وأصحاب كثرة
السكان يعانون من الكثرة، وأصحاب قلة السكان يعانون من القلة. ونحن نقول:
وقبل هذا وذاك لا يزال العلمانيون أصحاب المناهج المختلفة ماضين في عنادهم
ويحاولون بشتى الوسائل منع الإسلام من العودة، الإسلام الذي من خلاله تتأكد
شخصية الأمة، ويتم بناء الحضارة المتميزة، ومن خلاله تتوحد الشعوب الإسلامية
في وجه الهيمنة الفكرية والاقتصادية.
__________
(1) انظر ما كتبة جميل مطر حول أوربا والتحديات الستة في جريدة الحياة 13/7/1990 وما كتبه د عصام نعمان في الشرق الأوسط 25/4/1990.(31/76)
مطالعات ومتابعات
- 1 -
نشرت صحيفة (القدس العربي) بتاريخ 26/6/1990 مقابلة مع المحجوبي
أحرضان وهو سياسي مغربي وعضو في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي
شكلته الحكومة وعندما سأله مندوب الصحيفة عن (اتحاد المغرب العربي) أجاب
على الفور: اتحاد المغرب الكبير، وعندما أعاد عليه أن الاتحاد اسمه اتحاد
المغرب العربي قال: (مازلنا لم نقبل بأن يكون عربياً..، ثم أردف: هناك اتصالات مع القبائل في الجزائر، ولكن من أجل الخير.
- قال مندوب الصحيفة: ولكن هذا يمزق المغرب العربي.
- أجاب أحرضان: بلا شك سنفعلها.. لأننا نريد المحافظة على لغتنا
(البربرية) وعاداتنا.. لماذا تريدون ترك (الأمازيغية) .
- لم تصدروا أي صحيفة بالأمازيغية.
- أصدرنا مجلة ومنعوها.
- لماذا؟
- قالت في إحدى أعدادها: الاستعمار العربي في المغرب فمنعوها..
- استعمار عربي ياسي أحرضان! !)
تعليق:
ليس هناك مسلم يعقل الإسلام يثيرها نعرة عنصرية، وإنما يضع نصب
عينيه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا] فهناك شعوب وأجناس كلها ترجع في النهاية إلى أب واحد، وعندما ينعم الله على
شعب بأن يهديه إلى الإسلام تصبح اللغة العربية إن لم نقل هي الوحيدة فهي الأولى
لأنها لغة دينه، قرآنه وسنته، ويعتز بها ويعلمها أولاده، بل هي واجبة عليه،
ونحن نعيذ أي مسلم بربري أو كردي أو هندي أن يأنف من الانتساب لهذه اللغة
لأنها بنظره ذوبان في (العرب) فهذه شعوبية لاشك في ذلك، وإذا كانت النعرة
القومية التي أفسدت الحياة العربية وجدت لها صدى عند بعض العرب وخاصة
عرب المشرق، فقد كان هذا خطأ عولج به خطأ قبله وهو سياسة التتريك التي
اتبعها العثمانيون في آخر أيامهم فأثاروا عليهم أصحاب القوميات الأخرى مما استغله
أعداؤهم الغربيون وكان سبباً في هزيمة الدولة العثمانية ثم انهيارها أخيراً.
ونحن - المسلمين اليوم - يجب أن نقرأ التاريخ ونستفيد من عبره ودروسه
ونقلع عن سياسة التشنج وعلاج الداء بالداء، ونرجع إلى الدين الذي يجمعنا كلنا،
أجناساً مختلفة، واللغة العربية لها المحل الأول، وتراجع الشعوب التي أسلمت عن
اللغة العربية وعودها إلى لغاتها المحلية خطأ يجب أن يصحح بالعودة شيئاً فشيئاً
إلى اللغة التي اختارها الله لكتابه، وإنا نعيذ القبائل في الجزائر، والمغرب أن
تستجيب لمثل هذه النعرات، ولمثل هذه الأحقاد، وليعتقدوا بالشيخ ابن باديس -
رحمه الله- الذي يرجع نسبه إلى عائلة من كبرى العائلات القبائلية الأمازيغية ولكنه
كان من أشد الناس تحمساً لنشر اللغة العربية، لأنها لغة ديننا وقد شرق شعره
وغرب وهو الذي يقول فيه:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
وما يقال عن الإخوة في المغرب والجزائر يقال للأخوة الأكراد وغيرهم، إن
الحل هو الإسلام واللغة العربية وليس إحياء اللغات المحلية، والعادات القديمة
و (لنحافظ على شخصيتنا) كما يقال لهم: نعم الإسلام لا يغير من طبيعة الإنسان
وخصائصه، التي لا تتعارض مع مبادئه الأساسية، فلكل شعب خصائص وعادات، ولكن الذين يرفعون هذه الشعارات إما قوميون يكرهون العرب (جنس العرب)
وإما مخدوعون بهذه الشعارات أو رداً على ما يرفعه العرب من شعارات قومية.
من المؤسف أن دول أوربا وشعوبها تتجه نحو الوحدة، بينما نحن نعيدها قبلية
جاهلية منتنة.
- 2 -
في معرض متابعة الأحداث العالمية وما جرى ويجري فيها من تغيير أذهل
الجميع وكيف تغيرت خارطة العالم السياسية من صراع بين الشرق والغرب وبينهما
(العالم الثالث) إلى انقسام العالم إلى شمال وجنوب، فالدول الصناعية والدول
الأوربية بما فيها روسيا تحاول التقارب والاتحاد، ويبقى العالم الآخر هو عالم
الجنوب بما فيه (العالم الإسلامي) .
كيف ينظر بعض كتاب العرب المشهورين إلى هذه المتغيرات، يبدو أنهم لا
يريدون الاعتراف بالهزيمة، وأن اليسار كله قد انهزم، فالحنين إلى العلاقات
(العربية - السوفيتية) لا يزال يراود أحلامهم، مع أن روسيا تقول بواقع الحال: لا
تحرجوني أمام الغرب. فأنا في شغل عنكم الآن.
كتب الدكتور محمد عابد الجابري في الصفحة الأخيرة من (اليوم السابع) 25/
6 /90: (هل نحكم على العلاقات العربية السوفييتية بالذوبان في ... بحر علاقات (الشمال) بـ (الجنوب) ، إن هذا المشهد البسيط والمخيف يقوم على اختزال أشياء كثيرة، وإغفال معطيات هامة إن نحن أخذناها بعين الاعتبار وجدنا أنفسنا أمام مجال لتطوير العلاقات العربية - السوفياتية) .
أما قسطنطين زريق فيدعو في مقال له في (الحياة) 6/7/90 إلى الاستفادة من
النواحي الايجابية للعقيدة الشيوعية، وأن الرؤية الشيوعية فيها من الشمولية، ومبدأ
المساواة ضمن المجتمع الواحد، وأن ما وقع في الاتحاد السوفييتي ما هو إلا قصور
في التطبيق والأخذ بجانب وإهمال الجوانب الأخرى.
ويدعو في نهاية المقال إلى (الاستفادة من خبرة الاتحاد السوفييتي وخاصة في
مجال التاريخ الإنساني الشامل) .
لاشك أنها حشرجة الموت عند هؤلاء الذين يدعوننا للاستفادة من خبرة روسيا، وهي التي تريد إزاحة كل هذه التركة الثقيلة عن كاهلها، ولا نقول هذا الكلام
لحساب الرأسمالية الغربية فهي أيضاً الوجه الآخر للمادية الأوربية الاستعمارية،
ولكنها تحمل بعض عناصر البقاء والمقاومة أكثر من الشيوعية.
مساكين هؤلاء الكتاب (وأمثالهم كثير) إنهم لا يملكون الشجاعة للاعتراف
بالحق، إنهم يراوغون ويدورون حول مفاهيمهم السابقة، ونحن نقول لهم ليس
هناك حق إلا الإسلام.(31/79)
ركن الأسرة
كلمة الصفحة
هدى محمد سميح
أختي المسلمة:
لاشك أنك تحبين الاجتماع بإخوانك المسلمات والتحدث إليهن ومؤانستهن،
وخاصة إذا كنتن في ديار الغربة، ولابد أنك تلتقين بكثير منهن من أجناس
وخلفيات متعددة في المساجد والمراكز الإسلامية، فعليك أن تعطي انطباعاً حسناً
للأخريات عن شخصيتك وأن يكون أثر التربية الإسلامية والخلق الإسلامي ظاهراً
في هذه الشخصية.
إن أول مدخل إلى قلوب الناس هو لسانك، أي طريقة حديثك إلى الأخريات،
فكوني شديدة الحذر في استعمال هذه القطعة من الجسم، فربما تلقين بكلمة - لا
تلقين لها بالاً ولا تقصدين بها سوءاً - ويكون لها أثر سيئ ومنفر، ويتحاشى الناس
بعدها مجالستك ومحادثتك.
إن اللياقة في الحديث وحسن العشرة مع الأخريات من أخلاق المسلم التي
يجب أن تصرفي إليها كثيراً من الاهتمام.(31/84)
همسة للأمهات
هدى محمد سميح
إذا أخطأ طفلك وعندك بعض الضيوف أو الحضور فلا تحاولي نهره وتوبيخه
- فضلاً عن ضربه - أمام ضيوفك. إن هذا السلوك غير حكيم من ناحيتين:
1- فهو قد يوحي للضيوف أو الحضور أنك ضائقة بهم وبزيارتهم،
وتحاولين التعبير عن ذلك بعقوبة الطفل.
2 - ومن جهة أخري فهو ضار بسلوك الطفل، وله مردود عكسي لا يحقق
الغرض من العقوبة وهو التأديب.
والتصرف الأمثل في مثل هذه الحالة إما تأجيل العقاب إلى وقت آخر، أو
الانفراد بالطفل وإفهامه خطأه وتأنيبه بعيداً عن ملاحظة الآخرين.
اعتقادات خاطئة حول التغذية
1- أكل السمك وشرب الحليب أو اللبن مضر بالصحة وقد يسبب الوفاة!
هذا اعتقاد خاطئ، وسبب شيوعه أن الحليب والسمك من الأطعمة الحساسة
السريعة الفساد ويكثر التسمم عن طريقها، أما مجرد الربط بين هذين النوعين من
الطعام وأنه مضر فلا دليل علمي صحيح عليه.
2- عصير الطماطم (البندورة) والعنب الأحمر يزيد في الدم!
غير صحيح وليس مجرد تشابه لونهما مع لون الدم يعطيهما هذه الخاصية،
حيث إن من مكونات الدم البروتين والحديد.(31/85)
تمثل العقائد في الطفولة
خولة درويش
لاشك أن تأسيس العقيدة السليمة منذ الصغر أمر بالغ الأهمية في منهج التربية
الإسلامية، وأمر بالغ السهولة كذلك [1] .
ولذلك اهتم الإسلام بتربية الأطفال على عقيدة التوحيد منذ نعومة أظفارهم،
ومن هنا جاء استحباب التأذين في أذن المولود، وسر التأذين -والله أعلم- أن يكون
أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي
أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند مجيئه إلى
الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها [2] .
ومن ثم يتولى المربي رعاية هذه النبتة الغضة، لئلا يفسد فطرتها خبيث
المؤثرات، ولا يهمل تعليمه العقيدة الصحيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، لأن
العقيدة غذاء ضروري للروح كضرورة الطعام للأجسام، والقلب وعاء تنساب إليه
العقائد من غير شعور صاحبه، فإذا ترك الطفل وشأنه كان عرضة لاعتناق العقائد
الباطلة والأوهام الضارة، وهذا يقتضينا أن نختار له من العقائد الصحيحة ما يلائم
عقله ويسهل عليه إدراكه وتقبله، وكلما نما عقله وقوي إدراكه غذيناه بما يلائمه
بالأدلة السهلة المناسبة وبذلك يشب على العقائد الصحيحة، ويكون له منها عند
بلوغه ذخر يحول بينه وبين جموح الفكر والتردي في مهاوي الضلال [3] .
أما إن أخطأ المربون في تعرف اهتمامات الطفل الدينية فقدموا له تفسيرات
دينية غير ملائمة، فحينئذ (إما أن ينبذها كما ينبذ أية فكرة لا تتسق مع ... تكوينه النفسي المتكامل وإما أن يتقبلها على مضض مجاملة للأهل، وضماناً لاستمرار عطفهم، ولكنه تقبل مؤقت يخفي معارضة مكبوتة [4] .
فالإجابة السليمة الواعية على تساؤلات الأطفال الدينية، بما يتناسب مع سنهم
ومستوى إدراكهم وفهمهم أمر ضروري، مع الاعتدال في التربية الدينية لهم، وعدم
تحميلهم مالا طاقة لهم به ... وكذا عدم اهمالهم بحجة أنهم صغار لا يفهمون، كما
يظن البعض، فهذا رسولنا الكريم قد تعهد أصحابه، حتى الأطفال منهم فغرس في
نفوسهم أسس العقيدة، قال معلماً لابن عباس -رضي الله عنه-: «يا غلام إني
أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله» [5] .
بمثل هذه التوجيهات الحكيمة نستطيع أن نحصن عقائد أبنائنا، وفي كل
تصرف من تصرفات المربي وكل كلمة من كلماته يراقب ربه، ويحاسب نفسه لئلا
تفوته الحكمة والموعظة الحسنة، وحتى لاتوقع أخطاء التربية أبناءنا في متاهات
المبادئ، يتخبطون بين اللهو والتفاهة، إلى الشطط والغلو، كل ذلك عند البعد عند
التربية الحكيمة المتوازنة التي تسير على هدي تعاليم الإسلام الحنيف.
جوانب البناء العقدي عند الطفل المسلم:
أ- الإيمان بالله -جل وعلا-:
إن أهم واجبات المربي، حماية الفطرة من الانحراف، وصيانة العقيدة من
الشرك، لذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق التمائم تعويداً
للصغير الاعتماد على الله وحده: (من علق تميمة فلا أتم الله له) [6] .
وإذا عرفنا أن وضع التميمة والاعتقاد فيها شرك، جنبنا أطفالنا هذا الشرك،
وبعد ذلك يوجه المربي جهده نحو غرس عقيدة الإيمان بالله في نفس الصغير فهذه أم
سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله
عنهم أجمعين أسلمت وكان أنس صغيراً، لم يفطم بعد، فجعلت تلقن أنساً قل: لا
إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي على
ابني فتقول: إني لا أفسده [7] .
كان أبوه ما يزال مشركاً، يعتبر أن التلفظ بعقيدة التوحيد، والنطق
بالشهادتين إفساداً لطفله، تماماً كما يرى كثير من الملاحدة، أصحاب المذاهب
الهدامة، والطواغيت في الأرض، في هذا العصر يرون أن غرس الإيمان وعقيدة
التوحيد، إفساد للناشئة، وإبعاد لهم عن التقدمية كما يزعمون.
يتعرف الطفل أنه مسلم، وأن دينه الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه الله له ولا
يقبل من عباده سواه، والتركيز في التربية على ما وصفها ابن تيمية -رحمه الله-
(محبة العامة وهي محبة الله تعالى لأجل إحسانه لعباده، وهذه المحبة على هذا
الأصل لا ينكرها أحد فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها) [8] .
فالله تعالى أعطانا العينين والطعام اللذيذ، وكل ما يحبه هذا الصغير فلا يملك
صغيرنا إلا أن ينشأ على محبة خالقه -جل وعلا-.
ويبتعد المربي عن تلقين الأطفال اسم الله من خلال الأحداث الأليمة، لأن
للخبرات الأليمة أثرها في تشكيك المؤمن في عقائده وانحيازه إلى النزعة
اللادينية) [9] .
ومن الأحداث الأليمة عند الطفل مثلاً أن نقرن له ولادة الطفل بشق بطن أمه
مثلاً.. (فيتصور أن فعل الميلاد أمر بشع، وحيث أن مولد طفل جديد يثير قلقه..
فمن المحتمل أن تكون أولى خبرات الطفل بالله خبرات أليمة) [9] .
لذا، ينبغي أن نذكر اسم الله أمام الطفل من خلال مواقف محببة سارة،
فالطفل مثلاً قد يستوعب حركة السبابة عند ذكر كلمة الشهادتين، يتلفظ بها الكبير
أمامه، الأم أم الأب أو أحد الاخوة الكبار، وذلك منذ الشهر الرابع من عمره، فإذا
به يرفع اصبعه مقلداً الكبار.
كم هي حركة لطيفة ومحببة عند الأهل الذين لا يملكون إزاءها إلا ضم
صغيرهم وتشجيعه وهو يشير بأصبعه عند ذكر اسم الله ... فيرسخ اسم الله في
نفسه بمحبة عارمة من والديه ويغرس حب الله في قلبه..
وإذا نما صغيرنا وترعرع نلفت نظره إلى مظاهر قدرة الله ونعمه التي لا
تحصى: إذا نظر في المرآة نقول له معلمين قل: (اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن
خُلُقي) [10] .
وإن لبس الجديد حمد الله على نعمه وكذا إن أكل أو شرب قال: (الحمد لله
الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين) [11] .
وهكذا، فيعرف نعمة الله ويعتاد شكره، مع لفت النظر إلى مظاهر قدرة الله
ونعمه التي لا تحصى.. كل ذلك بأسلوب رفيق ولهجة رقيقة من غير إسراف في
عرض الفكرة ولا غلو فيها، وإنما بطريقة محببة تناسب الطفولة فتتمشى معها.
(ولا يجوز للمربي أن يتكئ على خط الخوف حتى يرعب الطفل بغير موجب بكثرة الحديث عن غضب الله وعذابه. والنار وبشاعتها.. إنما ينبغي أن نبدأ بالترغيب لا بالترهيب حتى يتعلق قلب الطفل بالله من خيط الرجاء أولاً فهو أحوج في صغره إلى
الحب) [12] .
علينا أن نذكر اسم الله -تبارك وتعالى- ونحن نستشعر عناية الله بالإنسان
وتكريمه له (حيث سخر له ما في سماواته وأرضه، وما بينهما حتى ملائكته..
جعلهم حفظة له في منامه ويقظته وأنزل إليه وعليه كتبه.. فللإنسان شأن ليس
لسائر المخلوقات) [13] .
هذا فضلاً عن فائدة أخرى:
(إن الاعتقاد بكرامة الإنسان على الله، يرفع من اعتباره في نظر نفسه، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها.. ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر) [14] .
وهكذا ننمي عند الأطفال الشعور الدينى القائم على حب الله حيث نركز على
معاني الحب والرجاء ومظاهر رحمة الله تعالى الواسعة بالناس. كما نروض الطفل
على محبة الله واحترام أمر الله، وارتباطه بأحكام دين الله، فإذا به شاب نشأ في
رضوان الله لا يعرف غير الإسلام شرعة ومنهاجاً. نشعره أن الله يحبنا فلا يكلف
نفساً إلا وسعها، وإذا أمرنا بشىء فالواجب أن نأتي منه ما نستطيع أما الحرام فلا
نقربه مطلقاً.. فإن الله تعالى يحب المطيعين له ولا يحب الكافرين: [قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ والرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ] [آل عمران: 32] .
ويردد المبدأ على مسمع الأطفال.. ويغرس في قلوبهم فتنمو في نفوسهم
مشاعر الأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية، والمفاصلة مع أعداء دين الله الكافرين
به وهذا مطلب تربوي هام وديني قبل كل شيء.
[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ] [الممتحنة: 60] .
ولن تخيب نفس ألهمت رشدها، فسارت على هدي رسولنا الكريم، في تربية
النشء، ليعينها رصيد الفطرة المركوز بها، تستشفه من خلال إشارات طفلها إلى
علو الله، ومن كلماته في الرضى والغضب والتي يبين فيها أن الله تعالى منصف
للمظلومين، وليس أفضل من كتاب الله يذكرنا بوصية لقمان لابنه: (وإنها لعظة
غير متهمة فما يريد الوالد لولده إلا الخير وما يكون الوالد لولده إلا ناصحاً) [يَا
بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْناً
عَلَى وهْنٍ وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ * وإن جَاهَدَاكَ
عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً واتَّبِعْ
سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] [لقمان: 13-19] .
__________
(1) منهج التربية الإسلامية: محمد قطب 2/164.
(2) تحفة المودود: ابن القيم /22.
(3) لمحات في وسائل التربية الإسلامية: د محمد أمين المصري /140.
(4) تطور الشعور الديني عند الطفل: المليجي /175.
(5) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/293.
(6) رواه أحمد 4/154.
(7) سير أعلام النبلاء 2/305.
(8) الفتاوى 10/84.
(9) تطور الشعور الديني ص 175، ص 61.
(10) حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود، صحيح الجامع الصغير 1/280.
(11) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وقال عنه الحافظ ابن حجر بعد أن أخرجه من طريق الإمام أحمد: هذا حديث حسن (شرح السنة 1/279) .
(12) منهج التربية الإسلامية 2/164.
(13) مدارج السالكين 1/234.
(14) في ظلال القرآن 6/3965.(31/86)
بأقلام القراء
شبهة
نوال - من المدينة النبوية
ذَرَّ قرنُ شبه كثيرة ملأت على المسلمين سمعهم وأبصارهم، وحرّجت على
الكثير سعة الملة، وعتمّت وضوح المحجة، ومن هذه الشبه، مقولة: إن تبيان
المنهج السليم من وجوب اتباع الكتاب والسنة، وطلب للدليل، وتنقية للعقيدة من
الزغل والزيغ، والشريعة من البدع والشين، مما يغرق الأمة، ويضلل العامة،
ويلبس عليهم دينهم فيعمهون، وهذا شغل للمسلمين عن كبير الأمور بصغيرها،
وعن لب الدين بقشره، وعن عظيم الأمور بسخيفها فالعدو قد استباح بيضة
المسلمين، وتداعى عليهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتهم، فلنجانب هذه الأمور حتى
يتم لنا الظفر على العدو! !
ولهؤلاء نقول: لقد جعل الله تعالى محمداً -صلى الله عليه وسلم- خاتم
الأنبياء والمرسلين، وجعل رسالته الناسخة لما قبلها، ودعوته هي المهيمنة على ما
قبلها من الدعوات النبوية، وهذه الدعوة لابد أن تبقى في الأرض لتكون حجة الله
على خلقه، وهذه الحجة لابد أن تكون برهاناً فاصلاً ولابد أن تكون بيضاء نقية كما
أنزلها الله تعالى على رسوله الكريم، وكما جاء بها الرسول - صلى الله عليه
وسلم -، ليهتدي بها الناس - اليوم - كما اهتدوا بها من قبل، ولا يزيغ عنها بعده - صلى الله عليه وسلم - إلا هالك.
ومن مقتضى حكمة الله تعالى ورحمته - والحالة هذه من انقطاع للوحي فلا
رسالة جديدة ولا رسول جديد بعده - صلى الله عليه وسلم - يوضح للناس الدين
الحق بعد اندثاره - أن يقيض لهذه الأمة من العلماء الربانيين من يبين البدع
ويكشف عوارها، ويدحر أهل الشرك والخرافة، فيستمر الدين صافياً نقياً.
وهذا من تمام مدلول قوله تعالى: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] .(31/92)
الجماعة الأولى
محمد محدادي- الجزائر
إن ما نعانيه اليوم من اضطراب وفوضى في فهم الدين الذي أدى بدوره إلى
الفرقة والاختلاف إنما سببه عدم معرفة قواعد الحق وسبيل النجاة، قال تعالى:
[ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى] [النساء: 115] ، فهذه حجة دامغة وبيان واضح بوجوب اتباع سبيل
المؤمنين الذين كانوا عند نزول هذه الآية هم الصحابة، فهم الحَكَم الفصل في
مواضيع العقيدة من الإيمان والتوحيد والغيبيات، وهم الضابط في المنهاج والسبيل
وعلى كل جماعة أو طائفة تعمل لصالح الإسلام أن يكون ولاؤها التام للجماعة الأم، وهم الصحابة والسلف الصالح، لأن من أبرز الصفات للجماعة الناجية
الاستمرارية، قال تعالى: [والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ] إشارة إلى تاريخ بدء هذه
الجماعة، وقوله تعالى: [والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم] إشارة إلى استمرارية ذلك الوجود
بشرط الاتباع.
ولهذا فإن أي طائفة تقر أنها تأسست منذ كذا وكذا، ولا تعلن أنها استمرارية
لمنهج الصحابة في فهم الإسلام وأن ولاءها التام للجماعة الأولى، فقد حكمت على
نفسها بعدم اتصافها بصفة الطائفة المنصورة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الطائفة المنصورة لا نحيد عن طريقهم إن شاء
الله.(31/93)
الجيل الذي نريد
أم زياد المالكي- المدينة
لا يخفى على أحد من الناس الحال السيئة التي وصل إليها المسلمون بسبب
التبعية للغرب، وإني بحكم دراستي الجامعية التي أرى فيها كثيراً من مظاهر هذه
التبعية أحببت أن أنبه إلى هذا الجانب الهام وهم (الولاء والبراء في الإسلام) . قال
الله تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ
ولَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..] [المجادلة: 22] ،
ومصداق ذلك ما روته كتب السيرة عن حب أصحاب محمد محمداً، وأنهم تفانوا في
ذلك، بينما نرى اليوم أن مفهوم العبادة انحصر في شعائر التعبد دون معناه الشامل، وانقطع تأثيره في الحياة وأصبحت الشعائر تقاليد موروثة يحافظ عليها الصغير
والكبير من أجل أنها تقاليد.
فالأخلاق وحجاب المرأة وقضية العرض كلها تقاليد أكثر مما هي عبادة.
نحن اليوم بحاجة إلى جيل تربى على طلب العلم والعمل يؤمن بالدعوة إلى
الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدلاً من جيل يخاف من السيف وهو في
غمده، قد أعلن ولاءه للغرب في تصرفاته وأخلاقه، فلا دين له ولا أخلاق، يصبح
ويمسي وهو يفكر في قضاء وقته باللهو.
أيها الآباء شمروا عن ساعد الجد وربوا جيلاً يصمد أمام الأعداء لا يخاف إلا
الله وحده.(31/94)
* الأخ مهند السالمي من جده بعث بهذه الأبيات:
يغرد السعد في أطياف أحلامي ... ويزهر الفخر مزهواً بآلامي
وتستكين حروف طالما جمحت ... واشعل الشوق في أجراس أنغامي
هل أنثر الشعر ورداً فوق غانية؟ ! ... أم أسكب الشدو تعطيراً بأقلامي؟ !
أم انتشي لتثني كل فاتنة؟ ! ... وأمدح الورد مزداناً بأحلامي؟ !
أم أرسم الدرب مفروشاً أزاهره؟ ! ... مخادعاً مادحاً بالزور أقوامي
وأدعي أنهم خير الورى خلقاً ... يجلجلون بخيل الحق ظلامي
كلا ... أبيت نفاقاً أو مداهنة ... كفى هياماً وعشقاً بين أقزام
فشعلة النور ترجو من يؤججها ... بين النفوس وتمحو كل إجرام
شرّقْ إلى الهند إن الخطب آلمهم ... قد راع إخوتنا عباد أصنام
فكيف أرخي عنان الجفن منهزماً ... وأرتضي العيش في أكناف نوام؟ !
وذكر أندلس في الليل أرقني ... ما عاد زينتها خضراء أعلامي
والسم يسري كليل غاب أوله ... يخدر السم فينا كل ضرغام
فزينوا أرضنا بالخير واتبعوا ... نهج الأكارم واشفوا مر أسقامي(31/95)
الصفحة الاخيرة
من أسباب النجاح
عبد القادر حامد
كل الناس تطمح إلى النجاح في خططها وأهدافها، والمسلمون كذلك يتمنون
النجاح ويطمحون إليه، ويبذلون جهوداً ليست أقل من جهود غيرهم الذين وصلوا؛
بينما بقي المسلمون يلهثون ويعانون. أسباب ذلك كثيرة ومعقدة والتعرض لها في
صفحة واحدة ظلم للحقيقة.
ولكن هناك من الأسباب سبب مهم، وهو كامن في الأسلوب. ففي المناطق
التي ساد فيها الإسلام؛ تعلمت فرق وشراذم كيف تخفي حقيقتها أمام وضوح الإسلام
وصراحته، واستعانت بالكتمان لتضيف إلى إنجازاتها شيئاً جديداً كل يوم بل كل
ساعة. ولأن بينها وبين الشيطان نسباً وصهراً فإنها تستخدم الأساليب الشيطانية
بمهارة فطرية، وعندها قدرة على التكيف والتلُّون، فتلبس لكل حالة لبوسها.
بينما يغلب على المسلمين الوضوح في كل شيء؛ فيصرحون بالخطط
والأهداف من أول يوم. ولأن الوضوح والصراحة وكراهية النفاق والتملق من
المفاهيم الأساسية في الإسلام؛ فقد انسحب تأثير ذلك حتى على أسلوب العمل
الإسلامي بكامله، وفي مثل هذه الأجواء تكون الغلبة لمن يحسن التكتم ورص
الصفوف والبعد عن الصراخ والهذر، ويفهم الظروف والقوى المتصارعة وعناصر
القوة والضعف فيها فهماً عميقاً. أما الاغترار بالجماهير والجموع؛ دون الالتفات
إلى الأمور العملية والجوهرية؛ فلا يؤدي إلا إلى استنفار غرائز الذين يشعرون
بتهديد الإسلام لهم؛ فيتناسون خلافاتهم الراهنة، وتجمعهم تلك الغرائز على الكيد
للمسلمين، والتخطيط لتفريق صفوفهم، والإحاطة بهم. والله أعلم.(31/96)
صفر - 1411هـ
سبتمبر - 1990م
(السنة: 5)(32/)
الافتتاحية
المعصية الفردية والمعصية الجماعية
المعصية الفردية يرتكبها صاحبها مستتراً، يتوارى من المجاهرة بها افتخاراً
وتحدياً لمشاعر الجماهير، وقد يرتكبها وهو معتقد أنها حرام، وأنه ينتهك بارتكابها
شرع الله، فيتوارى بفعلته تلك عن الأنظار ويصده الحياء عن تحدي المجتمع بذلك، وإذا ما لاحقه شؤم فعله فافتضح فإنه يذهب يلتمس المعاذير التي يعتذر بها عادة
المقصرون، وقد يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويردف السيئة بالحسنات؛ فينسى
الناس ما كان بدر منه [ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحاً فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَاباً] [الفرقان: 71] .
هذا النوع من المعاصي خطْبه سهل - مقارناً بالنوع الثاني وهو المعصية
الجماعية - فشؤمه وعواقبه الوخيمة تقتصر على مرتكبه، ودائرته الضيقة التي
يتحرك فيها.
أما المعصية الجماعية فلها شأن آخر، فهي من حيث التطبيق ينتظم فيها عدد
كثير يتواطؤون على فعلها ولا يزال هذا العدد يكبر ويكبر حتى يشمل المجتمع كله.
- ومن حيث صورتها يجاهَر بها على رؤوس الأشهاد، وقد يصبح فعلها
مجال فخر وخيلاء واعتزاز وتطاول على الآخرين، فقد تتخذها الجماعة أو الشعب
شعاراً وتعتقد أنه يجلب لها المجد والرفعة.
-ومن حيث أثرها السيئ، فإن نتيجتها لا تحيط بأهلها فقط بل بالمجتمع كله
مع وجود أناس قد يشمئزون من فعلها في ذلك المجتمع.
- إن أثر المعصية الجماعية مدمر ومخيف لاتساع المساحة التي يظهر فيها
شؤم هذا الأثر، فهي تعرض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه،
وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرضه لأدنى هزة.
هذا مع أنه قد يعجب الناظر إليه، ويخدع الذي لا يتعمق في تفحص جوهره، فيحسبه سليماً متماسكاً، وهو المعلول الذي يعد الحكماء والأطباء - وما أقلهم -
له الأيام والساعات.
لقد قص الله - عز وجل - علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي
أهلكها بسبب المعاصي الجماعية، وذكر لنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب،
مثل قوم عاد:
[وتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ واتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ]
[هود: 59] .
ومثل قوم لوط:
[فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
مَّنضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ومَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] [هود: 82-83] .
ومثل قوم شعيب:
[ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وأَخَذَتِ الَذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا
بَعِدَتْ ثَمُودُ] [هود: 94-95] .
ثم يبين الله - تعالى - سنته المطردة في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها
المعاصي التى يتواطأ عليها المجتمع ويقرها أهله فيقول - عز من قائل -:
[وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] ،
[ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] [هود: 117] .
صور للمعصية الجماعية:
بقي أن نزيد المعصية الجماعية تعريفاً وتحديداً ولا نكتفي بأمثلة من القرآن
الكريم، بل ننظر في واقعنا - نحن المسلمين - لنرى هل لأمثال هذه المعاصي
وجود؟
فنقول: المعصية الجماعية هى التى يقترفها جماعة من الناس (شعب، قبيلة، أهل مدينة، أو قرية، ... ) وتصبح شيئاً مألوفاً عندهم، وقد يفعلها الجيل بعد
الجيل منهم، ولو استنكرها عليهم أحد واجهوه بالإنكار عليه ومحاربته حرباً جماعية
أيضاً، لأنهم يرون فيه تهديداً لوحدتهم، بل لوجودهم أحياناً! وهكذا يصبح هذا
المنكر أمراً معروفاً ومطلوباً، وقد يصبح شعاراً لهم يُعرفون به، ويفتخرون به،
ويمتازون به عن غيرهم. ولو نظرنا في واقعنا اليوم لوجدنا كثيراً من هذه
المنكرات التى أصبحت قوانين ودساتير محمية بقوة السلاح وبسلطة الدولة. وأن
من يتجرأ على نقدها وبيان عيوبها وخطئها وخطرها يعرض نفسه لحرب شاملة
على كل صعيد: مادياً ومعنوياً. وليس المقصود بهذه المنكرات ما يتبادر إلى أذهان
الكثيرين لأول وهلة كالزنا وشرب الخمر مثلاً بل إن دائرة المنكرات دائرة واسعة
تشمل هذه وتشمل غيرها من المبتدعات التى فرقت المسلمين وأضعفت صفوفهم
وأذهبت ريحهم وجعلتهم طعمة لكل طامع، وضحكة لكل ساخر، ولعبة لكل عابث، كالنعرة القومية والقبلية والإقليمية، والجنسية، والحزبية، والمذهبية، والتعصب
لهذه الأصنام التى لا تقل خطراً عن الأصنام التي حطمها أبو الحنيفية (إبراهيم
الخليل) وحطمها من بعده محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- بيده يوم فتح
مكة وهو يتلو: [وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً]
[الإسراء: 81] .
والعذاب والبأس الذي أنزله الله بمن يتعارفون ويتميزون بهذه المنكرات
ويفتخرون بها ويبذلون الأموال الطائلة في استنباتها وترسيخها بين الناس - قد
يكون من الكوارث والجوائح التي تجعلهم نكالاً لمن يأتي من بعدهم كما عذب
القرون السابقة، وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التى تسلبهم نعمة الأمن
والاستقرار وتضربهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال - تعالى -: [قُلْ
هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ]
[الأنعام: 65] .
وفي الصحيحين عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه لما نزل قوله - تعالى
-[قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ] قال: «أعوذ بوجهك،
[أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] قال: أعوذ بوجهك، [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم
بَأْسَ بَعْضٍ] ، قال: هاتان أهون» .
وقد بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الله لن يستأصل هذه الأمة كما
استأصل الأمم السابقة، بل سيكون عقابه لها في الدنيا أن يلبسهم شيعاً ويذيق
بعضهم بأس بعض، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله زوى لي الأرض
حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأن مُلك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني
أُعطيت الكنزين الأبيض والأحمر وإني سألت ربي - عز وجل - أن لا يهلك أمتي
بسَنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق
بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد: إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني قد
أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سواهم
فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم
يسبي بعضاً. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني لا أخاف على أمتي إلا
الأئمة المضلين، فإذا وُضع السيف في أمتي لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة»
[ابن كثير: 2/141] [1] .
والناظر في حال الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل إلى اليوم يرى محنتها
الرئيسية ليست المجاعات، ولا الفقر، ولا تسلط الأعداء عليها بل تسلط بعضهم
على بعض، وتفرق كلمتهم، والتيه الذي يعيشون فيه بسبب الدعوات الهدامة
المفرقة لأهدافهم، المشتتة لجهودهم.
فالمسلمون لم يؤتوا من ضيق ذات اليد، ولا من نقص في الموارد بل أُتُوا من
غفلتهم عما يسبب التفرق لهم من نكبات، ومن قصر النظر الذي يجعلهم يفضلون
الأدنى على الأبقى، ويضحون بالمصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة، ومن
إخلالهم بتطبيق قاعدة الولاء والبراء، واضطرابهم في فهم الأولويات؛ فتراهم
يصرفون الجهود العظيمة على السنن والمندوبات ويهملون الفروض والواجبات
[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] [الأعراف: 96-99] .
__________
(1) انظر مزيداً من الروايات في تفسير الآية رقم 65 من سورة الأنعام في تفسير ابن كثير.(32/4)
الخصائص المميزة لمنهج أهل السنة والجماعة
-2-
هشام إسماعيل
الميزة الرابعة: عقيدة منصورة:
وهي التي أخبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تزال
طائفة من أمتى قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي
أمر الله، وهم ظاهرون على الناس» [1] .
وأهل السنة والجماعة - وإن مر عليهم زمن قل فيه وجودهم - إلا أنهم يبقون
ظاهرين على غيرهم بالسيف والسلطان، أو بالحجة والبيان، أو بهما معاً،
وظاهرين أي أنهم مشهورون غير مستترين [2] .
وهم منصورون بدلالة هذا الحديث، وبدلالة قوله - تعالى -: [إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر: 51] .
ومن عجيب نصر الله - عز وجل - لأهل السنة ما ذكره شيخ الإسلام ابن
تيمية - رحمه الله - بقوله: (وقد تبين لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع من العقليات - سواء عارضوا به في الظاهر أو الباطن
- كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته
بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردها) [3] .
وهذا من نصر الله - عز وجل - لأهل السنة في الحياة الدنيا، وأما في
الآخرة ففي عدة مواطن، منها ما قاله ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله -
تعالى -: [يَوْمَ تَبْيَضُّ وجُوهٌ وتَسْوَدُّ وجُوهٌ] [آل عمران: 106] ، قال: تبيض
وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة [4] .
وكونها عقيدة منصورة يدل على أنها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير على مر
العصور والأزمان، وثباتها ناشئ من ثبات مصدرها، بينما نجد أن الفرق الأخرى
إما أن يحدث تطور في معتقداتها كما في المرجئة والخوارج وغيرهم، وإما أن
تنقرض ولا يبقى لها أثر إلا في بطون الكتب، ككثير من فرق الخوارج وغيرهم.
الميزة الخامسة: عقيدة وسط (الوسطية) :
قال الله - سبحانه وتعالى -: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] قال ابن جرير - رحمه
الله تعالى -: (وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسُّطهم في
الدين، فلا غلو فيه، غلو أهل النصارى الذين غلوا بالترهب وقِيلهم في عيسى ما
قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا
أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه،
فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها) [5] .
والله - عز وجل - (جعل هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، وسطاً في
الأنبياء، بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بهم، كلٌّ على الوجه اللائق بذلك.
ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى،
وفي باب الطهارة، والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بِيعهم
وكنائسهم ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وحرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم،
ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً، بل أباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم والمشارب
والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها،
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا
أمة وسطاً، كاملين معتدلين، ليكونوا شهداء على الناس بسبب عدالتهم وحكمهم
بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم) [6] .
وكذلك هذه الأمة أمة وسط في التصور والاعتقاد ... أمة وسطاً في التفكير
والشعور، لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع -
كذلك - كل ناعق.. إنما تتمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر
في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارهم الدائم: (الحقيقة ضالة المؤمن أنَّى وجدها
أخذها في تثبت ويقين) .
أمة وسط في التنظيم والتنسيق ... لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر،
ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب،
وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس
إلى سوط السلطان، ولا تكلهم - كذلك - إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا
وذاك [7] . قال ابن تيمية: (وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع
الأمور فهم في (عليّ) وسط بين الخوارج والروافض، وكذلك في عثمان وسط بين المروانية وبين الزيدية، وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم، وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة، وهم في القَدَر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم، وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم، وهم في المعتزلة وسط بين المعطلة وبين الممثّلة.
والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد، لا
ينفردون قط بقول صحيح، وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال
والأفعال الباطلة أكثر) [8] .
الميزة السادسة: عقيدة عادلة:
يقول الله - عز وجل -: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى
ويَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] [النحل: 90] ، ويقول
- سبحانه وتعالى -: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة: 8] .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: (يعني بذلك - جل ثناؤه -: يا أيها
الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل
في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم، وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم
في أعدائكم لعداوتهم لكم ولا تقصروا في ما حددت لكم من أحكامي وحدودي في
أوليائكم لولايتهم لكم، انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري) [9] .
ويقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: [ولا يجرمنكم] أي لا يحملنكم [شنآن قوم] : أي بغضهم [على ألا تعدلوا] كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلو كان كافراً أو مبتدعاً فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق [10] .
من عدل أهل السنة أنه وجد من العلماء من كان له قدم خير وسبق في نشر
الإسلام والدفاع عنه، ويكون قد وقعت منه أخطاء عقَدية اجتهاداً منه في طلب حق
لم يوفق له، فأمثال هؤلاء العلماء ينبغي أن يسلك فيهم مسلك الوسط، فلا إفراط في
مدحهم ولا تفريط في ذمهم، بل ينبغى أن يقال فيهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
- رحمه الله - عن بعضهم: (قلت أبو ذر - الهروي - فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به. وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين، بما ليس هذا موضعه ...
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة،
وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة
والدين ما لا يخفى عليه من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل
وإنصاف ...
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع من أهل العلم والدين، والله
- تعالى - يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [الحشر: 10] .
ولا ريب أن مَن اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول - صلى الله
عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك؛ فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي
استجاب الله لنبيه وللمؤمنين، حيث قالوا: [رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]
[البقرة: 286] .
ومن اتبع ظنه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه
صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك في
المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس
الرسالة، الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك
والارتياب) [11] .
وما ذكره ابن تيمية يبين عدل أهل السنة، ويبين كذلك منهجهم مع من أخطأ
أو ضل في بعض مسائل الدين. وممن اتخذ هذا المنهج العدل في نقد الآخرين -
سواء كانوا موافقين له أو مخالفين - الحافظ الذهبي -رحمه الله - وذلك في ترجمته
لكثير من العلماء، حيث يصف كل من ترجم له بعلم وعدل وإنصاف - نحسبه
كذلك ولا نزكي على الله أحداً [12] .
كما يتجلى عدل أهل السنة والجماعة في كتب الجرح والتعديل، حيث إنهم
يذكرون أن فلاناً صدوق، وإن كان من أهل البدع، وأن فلاناً ضعيف سيئ الحفظ
وإن كان من أهل السنة.
وانظر على سبيل المثال ما قاله العلماء في عبد الله بن لهيعة، وهو من
محدثي أهل السنة والجماعة:
قال عنه ابن حجر في التقريب (3563) : صدوق خلط بعد احتراق كتبه.
وقال عن عمران بن حطان الخارجي: صدوق. إلا أنه كان على مذهب
الخوارج. كما في التقريب (5152) .
فانظر إلى اختلاف ما بين الرجلين في المعتقد، وإلى وصف كل منهما بأنه
صدوق، فكون ابن لهيعة من أهل السنة لم يكن دافعاً لعلماء الجرح بأن يوثقوه،
كما لم تكن بدعة عمران بن حطان سبباً في تضعيفه، بل وصفوا كلاً منهما بما
يستحق من جهة حفظه وضبطه، وذكر ما فيهما من بدعة أو سنة، والأمثلة في
غيرهما كثيرة.
وفي المقابل إذا نظرنا إلى ما كتبه بعض أهل البدع - كالكوثري في كتابه (تأنيب الخطيب) - فهو لم يؤنب الخطيب البغدادي فقط، بل جرح كثيراً من ثقات
علماء أهل السنة، بل حتى بعض الصحابة لم يسلموا منه، كأنس بن مالك -
رضي الله عنه وأرضاه -[13] .
وفي الوقت نفسه قام بتوثيق كثير من ضعفاء أهل الأهواء والبدع [14] ومن
هنا يتضح لنا عدل أهل السنة والجماعة، وجور أهل البدعة والضلالة.
الميزة السابعة: عقيدة سهلة ميسرة:
فهي - كما قلنا - عقيدة ربانية المصدر، تعتمد على الكتاب والسنة، والله -
عز وجل - يقول عن كتابه في كتابه: [ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ]
[القمر: 17] ويقول - سبحانه وتعالى - عن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم -:
[وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 44] ،
وكل مَن يطلع على الأدلة من الكتاب والسنة أو من كلام السلف الصالح على أمور
الإسلام عامة، ومسائل العقيدة خاصة - يجدها ميسرة سهلة لا غموض فيها ولا
لبس ولا تكلف، ومما يدل على ذلك أن وقت نزول القرآن، ووقت تحدث النبي -
صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه في مجالسه العامة، كان يوجد العالم والجاهل،
وسريع الفهم وبطيئه، بل كان يحضرها الصغار والأعراب، الذين يأتون من
البادية لبعض حوائجهم، وكلهم كان يسمع الآيات القرآنية التى تنزل على الرسول
-صلى الله عليه وسلم-، والأحاديث النبوية وهو يقولها لأصحابه - رضوان الله
عليهم - ثم لا يَشُكل عليهم فهمها إلا ما ندر.
يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -:
(إن التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت ...
حكمها) [15] .
ثم يقول عن الأمور العقدية بأنها:
(تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور،
مَن كان منهم ثاقب الفهم أو بليداً، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص، لم تكن
الشريعة عامة، وقد ثبت كونها كذلك، فلابد أن تكون المعاني المطلوب علمها
واعتقادها سهلة المآخذ) [16] .
وأما عقائد أهل البدع والضلال، فهي جافة غامضة، صعبة الفهم، فهم
يعتمدون على علم المنطق، وعلم الكلام، وفلسفة الوثنيين، أي أنهم يعتمدون على
العقل البشري المجرد عن الوحي الإلهي والنور الرباني.
بل شهد مَن رجع إلى الحق منهم، أنهم كانوا في ضلال وحيرة عظيمة، لا
تماثلها حيرة، وأنهم كانوا في شك من دينهم، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(رحمه الله) .
وأما أهل السنة والجماعة فهم - والحمد لله - في عافية من الشك والارتياب،
ومن الحيرة والضلال الذي وقع فيه أهل البدع ببدعهم. ونجا منه أهل السنة باتباع
سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/101، والحديث مخرَّج في الكتب الستة إلا النسائي، وانظر الألفاظ الصحيحة في صحيح الجامع من رقم (7287) إلى (7296) .
(2) انظر: فتح الباري 13/407.
(3) انظر: درء تعارض العقل والنقل (10/317-318) .
(4) تفسير ابن كثير (2/391) .
(5) تفسير ابن جرير الطبري، 3/142.
(6) تفسير السعدي، 1/158.
(7) في ظلال القرآن، 1/131 باختصار.
(8) انظر: منهاج السنة النبوية 5، /168-173.
(9) جامع البيان للطبري، 10/95.
(10) انظر: تفسير السعدي، 2/259.
(11) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 2/101-103.
(12) انظر على سبيل المثال " سير أعلام النبلاء "، 7/361، 11/526، 14/183، 14/220 وغيرها من المواطن.
(13) الطليعة للعلاّمة المعلمي، 65.
(14) انظر: كتاب التنكيل (قسم التراجم) ، 1/84 وما بعدها.
(15) الموافقات، 2/88.
(16) الموافقات، 2/88.(32/9)
أخلاق
الوفاء بين الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
يعتبر الوفاء من أخلاق العرب الأصيلة، حيث إن الرجل منهم كان ينطق
بالكلمة فتصبح عهداً، عليه أن يفي به وإلا عرّض شرفه للتجريح، وكان الغدر
معرة يتجافون عنها، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليشهروا به،
وفي ذلك يقول الحادرة (قطبة بن محصن) ، إنهم لم يغدروا وإنهم لن يأتوا ما يشكك
حليفهم فيهم: [1]
أَسُمَيَّ ويحكِ هل سمعتِ بغَدْرةٍ ... رُفع اللواءُ لنا بها في مجمعِ
إنا نَعْفُّ فلا نُريبُ حليفَنا ... ونَكُفُّ شُحَّ نفوسِنا في المطمعِ
وبسبب اهتمام العرب بهذا الخلق نصروا الحلفاء، وذبّوا عن الجيران، وقد
كان هذا الخلق متعدد الأشكال والألوان، فوفاء لمن يجاورون، ووفاء لمن يعاهدون، ووفاء لمن يحبون، ووفاء لمن يصنع معهم معروفاً [2] .
ولم تكن أخلاق القوم نظرية صورية، وإنما كانت واقعاً ضربوا به الأمثال
وهى كثيرة نكتفي بنماذج منها.
وخير نموذج لذلك ما فعله عبد الله بن جُدعان في حرب الفِجَار التي دارت
بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له: احتبس قبلك سلاح
هوازن، فقال له عبد الله: أبالغدر تأمرني يا حرب؟ ! والله لو أعلم أنه لا يبقي
منها إلا سيف، إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طُعنت به ما أمسكت منها شيئاً.
وكان من وفائه أن العرب إذا قَدِمت عكاظاً دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن
جدعان، حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا من مكة إلى
مضارب قومهم [3] .
ومن أنواع الوفاء: وفاء العربى لأهل عصبيته، فليس له أن يخالفهم مهما
كانت درجة الخلاف معهم لأنه واحد منهم وما يصيبهم يصيبه، وقد عاب الناس
الغادر وعيروا به، فإذا شتموا شخصاً، قالوا له: يا غُدَر [4] .
إن قصص الوفاء فريدة عند أهل الجاهلية، وممن ضُرب بوفائه المثل:
عمير بن سلمى الحنفي، إذ استجار به رجل من بني عامر بن كلاب، وكانت معه
امرأة جميلة، فرآها (قرين بن سلمى الحنفي) أخو عمير، وصار يتحدث إليها،
فنهاها زوجها بعد أن علم فانتهت فلما رأى قرين ذلك وثب على زوجها فقتله،
وعمير غائب، فأتى أخو المقتول قبر سلمى وعاذ به، فلما قدم عمير أخذ أخاه وأبى
إلا قتله أو أن يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ الدية ولو ضوعفت، فأخذ
عندئذ عمير أخاه وقتله لغدره وفاءً لجاره [5] .
كان الجاهلي إذا قال كلمة وفى بها، ولو أدت به إلى القتل، أو إلى قتل
قريب عزيز عليه، فالرجل الحنفي قتل أخاه، كل ذلك وفاءً بالعهود والمواثيق،
وأين من هذا الوفاء ما يحصل من غدر في أيامنا هذه؟ وما بال الوفاء يئن جريحاً
عند كثير من الناس حتى الطيبين منهم؟ ! فكثرت الشكوى وعم البلاء؟ !
على أن هذا الخلق وإن اتصف به أكثر العرب إلا أن لكل قاعدة شواذ
والأمور نسبية، إذ كان الغدر (كذلك) منتشراً معروفاً، يقول امرؤ القيس ذاكراً
انتشار الغدر بين بعض القوم [6] :
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرَّت به العينان بدلت آخرا
كذلك جدي ما أصاحب صاحباً ... من الناس إلا خانني وتغيرا
ويقول أوس بن حجر [7] :
وإنى رأيت الناس إلا أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التنقُّلا
الإسلام والوفاء:
إن الوفاء الذي كان في الجاهلية يتمثل في حفظ جوار - وعدم نقض حلف،
أو أداء أمانة - تحول في الإسلام إلى حفظ للعهود عامة، وأداء للذمم والأمانات
عامة، سواء اكانت للأصدقاء أم للأعداء، وذلك استجابة لأوامر ربهم وتأسياً بسيرة
نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» متفق
عليه.
وقد نوه القرآن الكريم بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة للأنبياء فقال في
سورة النجم: [وإبْرَاهِيمَ الَذِي وفَّى] [النجم: 37] ، وذلك أن إبراهيم - عليه
السلام - بذل غاية جهده في كل ما طُولب به من ربه، فبذل ماله في طاعة الله،
وقدم ولده إسماعيل قرباناً لله حتى فداه ربه، واحتمل الابتلاء في الاحتراق بالنار
في سبيل الله حتى جعلها الله برداً وسلاماً عليه، وأشار القرآن إلى وفاء إسماعيل -
عليه السلام - في قوله: [واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وكَانَ
رَسُولاً نَّبِياً] [مريم: 54] ، فقد كان إسماعيل مشهوراً بهذه الصفة، وحسبنا أنه
وعد بالصبر على الذبح وقال لأبيه: [افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ] [الصافات: 102] ؛ فوفى بعهده وصدق في وعده فكان من
المخلصين [8] .
ومن أمثلة وفائه (عليه الصلاة والسلام) - وهى كثيرة - موقفه يوم الفتح من
عثمان بن طلحة حاجب الكعبة في الجاهلية، عندما طلب من علي - رضي الله
عنه - ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فقال -صلى
الله عليه وسلم-: «أين عثمان؟» فدُعي له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان،
اليوم يوم بر ووفاء» [9] .
وبعد صلح الحديبية عندما جاء أبو بصير هارباً من مكة، وجاء رجلان من
قومه يطلبان رده حسب الشروط، فأبى النبى إلا أن ينفذ شروط الصلح، ولما تألم
أبو بصير من ذلك حتى لا يرجع إلى المشركين فيفتن عن دينه - قال الرسول -
صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت من
العهد، ولا يصلح في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين
فرجاً ومخرجاً» وقد حقق الله -تعالى - ظن رسوله؛ إذ وجد لهؤلاء المستضعفين
الفرج والمخرج كما هو معروف في كتب السيرة.
وصار موكب الصحبة الطاهر على هدي هذه الأخلاق الوفية، يضحون
بالغالي والرخيص، امتثالاً لأوامر ربهم، وأسوة بوفاء نبيه، واتبعتهم في ذلك
الأجيال المؤمنة على مر العصور.
والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس، وبدون
هذه الثقة لا يقوم مجتمع ولا تقوم إنسانية، وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء
بالعهود فلم يتسامح فيها أبداً لأنها قاعدة الثقة، التى ينفرط بدونها عقد الجماعة
ويتهدم [10] . قال - تعالى -: [وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً] [النحل: 91] .
ولعل أجمع الآيات القرآنية لأنواع الوفاء قول الله - تبارك وتعالى - في
سورة المائدة: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ، ولذلك قال رشيد رضا: إن
أساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة: [أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ] ، لأنها تفيد أنه يجب على كل مسلم أن يفي بما عقده وارتبط به، فكل
قول أو فعل يعده الناس عقداً فهو عقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله - تعالى - ما
لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام " [11] .
الإسلام يحارب الغدر والخيانة:
عندما مجد الإسلام فضيلة الوفاء حمل أيضاً على الخيانة والغدر حتى مع
الأعداء، يقول - سبحانه وتعالى-: [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ
المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا] [المائدة: 2] وقال أيضاً: [إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
كَفُورٍ] [الحج: 38] .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم
القيامة، يرفع لكل غادر لواء يعرف به، فيقال هذه غدْرة فلان» رواه البخاري.
ولقد حرم الإسلام اتخاذ المصلحة سبباً في نقض العهد، وكان بعض
المشركين من العرب يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بأن محمداً ومن معه قلة ضعيفة بينما قريش كثرة قوية فنبههم إلى أن هذا ليس
مبرراً لأن يتخذوا قسمهم غشاءً وخديعة: [تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ] [النحل: 92] أي بسبب كون أمة أكثر عدداً وقوة من أمة،
وطلباً للمصلحة مع الأمة الأقوى.
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهود تحقيقاً لما يسمى الآن مصلحة
الدولة.. فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ويجزم بالوفاء بالعهد.. وعلى هذا الأساس
قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية.
لقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين
بعهدهم ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في إيمانهم.. فكان الكسب أضخم
بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التى نشأت عن تمسكهم بعهودهم [12] . هكذا
كانت علاقة المسلمين حتى مع أعدائهم، وفاءً مرتبطاً بالعقيدة لا يتقيد بمنفعة زائلة، ففي الحروب الصليبية - في عهد صلاح الدين الأيوبي - كان المسلمون يفون
بعهودهم رغم كثرة الغدر من قبل الصليبيين امتثالاً لقوله - تعالى -: [وإمَّا تَخَافَنَّ
مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ] [الأنفال: 58] .
فالميثاق لا يُنقض غدراً حتى حين تخاف الخيانة وإنما يعلم العدو أن الميثاق
قد انتهى بسبب الخيانة من جانبه، وأن العلاقة هي علاقة الحرب [13] .
والغدر من شيم أخلاق أوربا الحديثة، ومعاهدات الحلفاء مع العرب في القرن
الماضي ونقضهم للعهود، وتقسيمهم للبلاد وتشريدهم للعباد خير شاهد على ما نقول.
وما تزال هذه المفاهيم المنحرفة هي السائدة في عالم السياسة شرقاً وغرباً مع
الأسف، ولكن حذر المؤمنين - الذين يعبدون الله على بصيرة - لا يفسح المجال
لألاعيب الساسة وخبث الماكرين.
وإذا كانت هذه أخلاقنا مع الأعداء، فما بالنا نفرط بهذا الخلق مع الأصدقاء،
وأصحاب الفضل والسابقة من أهل العلم والتربية والتوجيه؟ !
بل ولِمَ لا نكون أكثر وفاءً مع الأهل والإخوة ومع مَن نعول؟ ! ولم ننسى
الوفاء مع الجار الجنب وبقية الجيران والأصحاب؟ ! وبذلك تسود المحبة وتعم
الثقة بين المسلمين، ونعيد إلى مجتمعاتنا ما كان عليه سلف هذه الأمة من استقامة
وبر ووفاء!
إن الشكوى باتت مريرة في هذه الأيام بسبب انتشار ظاهرة الغدر، وما تجره
من فقدان الثقة في العلاقات الاجتماعية عامة، وقلما تنجو منها مؤسسة في عالم
التجارة والاقتصاد، حيث لا يراعي كثير من الشركاء في أموال من ائتمنوهم إلاًّ
ولا ذمة، فتمحق البركة وتكثر الخسائر.
حتى المؤسسات التربوية - تلك التي كان يُتوقع منها أن تغرس الفضيلة ونور
العلم والتوجيه - بات بعضها يضرب أمثلة سيئة من الغدر والكيد وانعدام الوفاء.
إن ترجمة أخلاق السلف إلى شباب هذه الأمة ليست نظريات تلقى في فراغ،
ولا محاضرات وادعاءات، إنها قدوة حسنة، وسلوك واقعي فذ في عالم الناس
والشباب خاصة.
إنها واجب ديني تفرضه علينا تعاليم ديننا ومصلحة أمتنا وأمانة البلاغ، إن
تصورات العقيدة إذا لم تتحول إلى سلوك عملي ينسجم مع هذه التصورات - سوف
يوقع الأجيال الناشئة في إحباط شديد، وتمزق مرير، وتساؤل عجيب بسبب
الانفصال بين النظرية والتطبيق.
إنها لأمانة ضخمة في أعناق دعاة هذا الدين، فليصدُقوا الله في أداء هذه
الأمانة، وليضربوا النماذج الحية من الوفاء ومكارم الأخلاق، والأمل كبير في
الأجيال المؤمنة الجادة لتعود بهذه الأمة إلى سابق مجدها ونظافة أخلاقها، وصفاء
عقيدتها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) المفضليات: رقم8، ص45.
(2) انظر: الحياة العربية في هذا الموضوع للحوفي، ص358، والمعتقدات والقيم، محمد صيام، ص370، وما بعدها.
(3) انظر: الأغاني، 22/6، طبعة دار الثقافة.
(4) تاريخ العرب قبل الإسلام: جواد علي، 4/402.
(5) المحبر، ص352 لابن حبيب.
(6) الديوان، ص69، وانظر: ظاهرة الغدر في المعتقدات والقيم، ص 109.
(7) الشعر والشعراء لابن قتيبة، 1/208.
(8) أخلاق القرآن للشرباصي، 2/194.
(9) انظر: زاد المعاد، 2/293، تحقيق محمد الفقي.
(10) الظلال: 4/2191.
(11) عن كتاب أخلاق القرآن للشرباصي، 2/208.
(12) في ظلال القرآن، 4/2191-2192.
(13) انظر: جاهلية القرن العشرين، 160-161.(32/17)
خواطر في الدعوة
الاستبصار عند الفتن
محمد العبدة
عندما كتب الإمام أبو المعالي الجويني كتابه في السياسة الشرعية المسمى
(غِيَاث الأمم في التياث الظُّلَم) أراد أن يقول إنه عندما يحزب المسلمين أمر، وتأتي
الفتن من كل مكان تشوش على المسلم، فلا يدري وجه الحق ولا أين يتجه،
ويصبح الحليم حيران، فالمعول عليه عندئذ هم العلماء الذي يبصرون الناس
بالحقائق ويبينون الصواب لأنهم أدرى الناس بمواقع الفتن، وكيفية المخرج منها.
وذلك لما فقهوا واستأنسوا من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما
يعلمون من الترجيح بين الصالح والأصلح، والفاسد والأشد فساداً، ويعلمون قاعدة
دفع الضرر، رفع الحرج، ومثل هذا االصنف من العلماء يجب أن يكون على
علم وفقه دقيق بالواقع كما هو على علم واسع بالقواعد الشرعية، وكيف تطبق على
أرض الواقع.
إن الملاذ الذي يلجأ إليه العوام هم العلماء والدعاة، فهم المتَّبَعون، ولا يجوز
أبداً أن يكونوا هم التابعين يتحسسون آراء الشارع وتوجهات الناس، فيؤيدون هذا
الاتجاه أو ذاك إرضاءً لهم ومسايرة لعواطفهم الفائرة، وحتى لا تحترق أوراقهم.
هناك بعض أئمة المساجد من يعلم أن ذاك الأمر بدعة ولكنه لا يستطيع مخالفة
عوام المسجد! وكذلك نجدهم في الأمور الكبيرة التي تهجم على المسلمين فلا يدرون
أين المذهب، وتتفرق بهم السبل، هذا الصنف ممن يتصدر للزعامة، ويداري
ويجامل على حساب الحق، فهو مقود لا قائد. وكان الأوْلى به أن يصدع بالحق في
وقت يكون الناس في أشد الحاجة إلى العلماء الذين لا يجاملون ولا يداهنون.
كان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان يسأل رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عن الشر والفتن مخافة أن يقع فيها، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - يسأله ويستشيره في موضوع الفتن، فهل يتبصر الدعاة طريقهم عندما تشتبه
الأمور، ثم يقومون بتبصير الناس حتى لو أدى ذلك إلى معارضتهم واستغرابهم،
فإن هذه مهمتهم، وهذه هي الأمانة التي نِيطت في أعناقهم [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا
تَكْتُمُونَهُ] [آل عمران: 187] .(32/24)
دراسات
أحاديث الفتن والفقه المطلوب
د. مأمون فريز جرار
إن مما ينبغى أن يُلفت إليه النظر ويوجه إليه الاهتمام ذلك الباب الذي نجده
في كثير من كتب الحديث النبوي تحت عنوان (كتاب الفتن) أو (الملاحم وأشراط
الساعة) ، فإن فيه أحاديث بين فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يكون من الفتن التى تقع بين المسلمين، أو الأحداث التى ستكون بينهم وبين غيرهم من الأمم والملل، ونجد في بعضها تصريحاً بيّناً وفي بعضها الآخر رموزاً وإشارات موحية.
إن علينا أن نسأل أنفسنا: لِمَ حدَّث النبى -صلى الله عليه وسلم- بتلك
الأحاديث؟ ولم كان منه ذلك الاهتمام الشديد بالفتن وأخبارها حتى كان الصحابة
يُصابون بشيء من الذعر لكثرة حديثه عنها؟ !
يستيقظ - عليه الصلاة والسلام - مرة من نومه فتسمعه زوجه السيدة زينب
بنت جحش - رضي الله عنها - يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد
اقترب؛ فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه (وعقد سفيان - أحد رواة
الحديث - بيده عشرة) وتقول له السيدة زينب: يا رسول الله: أنهلك وفينا
الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» [1] .
ويشرف على أُطُم من آطام المدينة فيقول لأصحابه: «هل ترون ما أرى؟
إنى لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر» [2] . ويحدثهم النبى -صلى
الله عليه وسلم- عن فتن بعيدة عن عصرهم ويهتم بها أي اهتمام، ويستعيذ منها
ويعلّم المسلمين أن يفعلوا ذلك، ومنها فتنة الدجال [3] ، وإن من الثابت في صحاح
الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قص على أصحابه ما سيكون من أحداث
الدنيا وفتنتها حتى يوم القيامة، عمّ بذلك الصحابة كلهم، وخص بعضهم بما لم يقله
على الملأ. ولنستمع إلى أبي زيد عمرو بن أخطب يحدثنا بهذا الحديث العجيب،
قال: (صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر وصعد المنبر، فخطبنا
حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبر بما كان وما
هو كائن، فأعلمنا أحفظنا) [4] .
ولعل حذيفة - رضي الله عنه - يشير إلى هذه الخطبة في قوله: (لقد خطبنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرف ما
يعرف، الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه) [5] .
ولسائل أن يسأل أين هذه الخطبة؟ وهل رُويت بنصها في كتب السنة؟
والذي أراه أنها رويت مقطعة في أحاديث الفتن، وفي الحديثين السابقين ما يشير
إلى نسيان كثير من الصحابة لها، (فأعلمنا أحفظنا) و (علمه من علمه وجهله من
جهله) ثم حال حذيفة مع بعض الفتن التي يذكر حديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عنها بعد وقوعها!
ويبدو أن حذيفة أعلم الصحابة بالفتن، فهو يقول: (أخبرني رسول -صلى
الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا
أنى لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة) [6] ..
ويبدو أن حذيفة كان يتحرج من ذكر كل ما يعلم من أمر الفتن، خشية أن
يكون بعض ما يعلمه مما أسرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره من
الصحابة، وهذا ما يبدو في قوله التالى: (والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هى
كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول -صلى الله عليه وسلم-
أسر إليَّ ذلك شيئاً لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
وهو يحدث مجلساً أنا فيه عن الفتن: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو
يعد الفتن: «منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها
صغار ومنها كبار» ، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري) [7] .
ومن الأمثلة على معرفة حذيفة بتفاصيل الأحداث ما يرويه محمد بن سيرين
عن جندب قال: (جئت يوم الجرعة فإذا رجل جالس، فقلت: ليهرقن اليوم ههنا
دماء، فقال ذاك الرجل: كلا والله، قلت: بلى والله، قال: كلا والله. قلت: بلى
والله، قال: كلا والله، إنه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنيه.
قلت: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أخالفك وقد سمعته من رسول الله
- صلى الله عليه وسلم- فلا تنهاني؟ ثم قلت: ما هذا الغضب؟ فأقبلت عليه،
وأسأله، فإذا الرجل حذيفة) [8] .
ومن ذلك ما يرويه حذيفة عن حوار دار بينه وبين عمر عن الفتن، وذلك في
قوله: (كنا جلوساً عند عمر - رضي الله عنه - فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله، قال: إنك عليه (أو عليها)
لجريء. قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم
والصدقة والأمر والنهى. قال: ليس هذا أريد! ولكن الفتنة التى تموج كما يموج
البحر. قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً.
قال: أيُكسر أم يُفتح؟ قال: يكسر! قال: إذاً لا يُغلق أبداً، قلنا [9] : أكان عمر
يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون الغد الليلة. إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط.
فَهِبْنا أن نسأل حذيفة فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: الباب عمر) [10] .
وسياق الحديث نص في أن عمر كان يعرف من أمر تلك الفتنة التي سأل
عنها ما كان يعلمه حذيفة.
ويحدث حذيفة أصحابه عن سر تمكنه من أخبار الفتن فيقول: (إن الناس
كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر. فأنكر ذلك القوم - أي الذين كان حذيفة يحدثهم - فقال لهم: إني سأخبركم بما
أنكرتم من ذلك: جاء الإسلام حين جاء فجاء أمر ليس كالجاهلية، وكنت قد
أُعطيت في القرآن فهماً، فكان رجال يجيئون فيسألون عن الخير، فكنت أسأل عن
الشر! فقلت: يا رسول الله، أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر؟ فقال:
نعم. قلت: فما العصمة يا رسول الله؟ قال: السيف. قال: قلت: وهل بعد هذا
السيف بقية؟ قال: نعم، تكون إمارة على أقذاء، وهدنة على دَخَن، قال: قلت:
ثم ماذا؟ قال: ثم تنشأ دعاة الضلالة، فإذا كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد
ظهرك وأخذ مالك فالزمْه، وإلا فمت وأنت عاضّ على جِذل شجرة، قال: قلت:
ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال بعد ذلك، معه نهر ونار، من وقع في ناره وجب
أجره، وحُط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره، وحط أجره، قال: قلت:
ثم ماذا؟ قال: ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة) [11] .
وقد جاء بعد نص الحديث أن قتادة - وهو أحد رواته - فسر الشر الذى تكون
العصمة منه بالسيف بالردة التي حدثت في زمن أبى بكر (رضي الله عنه) .
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حدث أصحابه حديثاً عاماً عن الفتن
التى ستحدث في أزمان تالية - قد يعاصرونها وأكثرها يأتي بعد أن يفارقوا الدنيا -
فقد عهد إلى بعض أصحابه عهوداً خاصة بشأن فتن يمرون بها وتصيبهم! ، يحدثنا
كعب بن عجرة - رضي الله عنه - فيقول: ذكر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فتنة فقربها! فمر رجل مقنع على رأسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- (هذا يومئذ على الهدى، فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول ...
الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا؟ قال: هذا) [12] .
ولعل في هذا الحديث والأحاديث التالية ما يفسر لنا موقف عثمان في الفتنة
التي أودت به! وصبره عليها ونهيه المسلمين عن القتال دونه فيها، وقوله لأبي
هريرة الذي كان معه في بيته يوم حصر فيه: (يا أبا هريرة، إنما تراد نفسي،
فعلامَ نقتل الناس؟ أحتسب بنفسي عن الناس) [13] . وقد روت عائشة - رضي
الله عنها - حديثاً كانت قد نسيته في غمرة الفتنة، وذكرته بعد مقتل عثمان وهو ذو
دلالة على ما نحن فيه: عن عائشة قالت: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ...
«يا عثمان، إن ولاك الله هذا الأمر يوماً فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي
قمَّصك الله فلا تخلعْه، فلا تخلعه، فلا تخلعه» ، قال النعمان - راوي الحديث -
فقلت لعائشة: ما منعك أن تُعْلمي الناس بهذا؟ (يعنى أيام الفتنة وحصار الناس
لعثمان) ، قالت: أُنسيته) [14] .
وعنها - رضي الله عنها - قالت: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في مرضه: وددت أن عندي بعض أصحابي. قلنا: ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت. قلنا: ألا ندعو لك عمر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عثمان. قال: نعم. فجاء، فخلا به، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكلمه ووجْه عثمان يتغير. قال
قيس (أحد رواة الحديث) : فحدثني أبو سهلة - مولى عثمان -أن عثمان بن عفان
قال يوم الدار: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليَّ عهداً فأنا صائر إليه. وقال علي في حديثه: وأنا صابر عليه. قال قيس: فكانوا يرونه ذلك
اليوم) [15] .
وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري - الذي قص فيه خبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- مع أبي بكر وعمر وعثمان في بئر أريس، وقد جاء في شأن
عثمان قوله لأبي موسى الأشعري: «ائذن له، وبشره بالجنة مع بلوى
تصيبه» [16] .
ومن العهود النبوية الخاصة إلى بعض أصحابه ما يدل عليه هذا الحديث: (عن عديسة بنت أهبان قالت: لما جاء علي بن أبي طالب ههنا- البصرة- دخل
على أبي، فقال: يا أبا مسلم، ألا تعينني على هؤلاء القوم؟ قال: بلى! قال:
فدعا جارية فقال: يا جارية أخرجي سيفي، قال: فأخرجته، فسلَّ منه قدر شبر،
فإذا هو خشب! ! فقال: إن خليلي وابن عمك -صلى الله عليه وسلم- عهد إليَّ إذا
كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب، فإن شئت خرجت معك! قال: لا
حاجة لي فيك ولا في سيفك) [17] .
وهذا أبو ذر يورد لنا حواراً دار بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-
تضمن وصايا نبوية له في الفتن وموقفه منها:
(عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم-: كيف أنت يا أبا ذر وموتاً يصيب الناس حتى يقوَّم البيت بالوصيف (يعني
القبر) ؟ ! . قلت: ما خار لي الله ورسوله (أو قال: الله ورسوله أعلم) قال:
تصبر. قال: كيف أنت وجوعاً يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن
ترجع إلى فراشك، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك؟ ! قال: قلت:
الله ورسوله أعلم (أو ما خار لي الله ورسوله) . قال: عليك بالعفة. ثم قال: كيف
أنت وقتلاً يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم؟ ! قلت: ما خار لي الله
ورسوله. قال: الحقْ بمن أنت منه. قال: قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي
فأضرب مع مَن فعل ذلك؟ قال: شاركت القوم إذاً، ولكن ادخل بيتك، قلت: يا
رسول الله فإن دُخل بيتي؟ قال: إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألقِ طرف
ردائك على وجهك فيبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار) [18] .
ومن الوصايا الخاصة هذه الوصية التي تلقاها محمد بن مسلمة - رضي الله
عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم-: (عن أبي بردة قال: دخلت على محمد ...
بن مسلمة فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «إنها ستكون فتنة
وفرقة واختلاف، فإذا كان كذلك فأتِ بسيفك أُحُداً فاضربه حتى ينقطع، ثم اجلس
في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة، أو منيّة قاضية) [19] .
ونجد إلى جانب هذه الوصايا الخاصة الموجهة إلى راوي الحديث وصايا عامة
مضمنة في الأحاديث التي تنبئ عن الفتن وأخبارها، وتدل المسلم الذي يعاصرها
على ما ينبغي أن يفعله ليتقي شرها. فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه
الخطاب إلى مَن هم جلوس بين يديه فيقول:» كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي
يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم
فاختلفوا وكانوا هكذا (وشبَّك بين أصابعه) ؟ قالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان
ذلك؟ قال: تأخذون بما تعرفون، وتدَعون ما تنكرون، وتُقبلون على خاصتكم،
وتذرون أمر عوامكم) [20] .
* يتبع *
__________
(1) مختصر صحيح مسلم للمنذري، ص528.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر: المصدر السابق: قصة ابن صياد والدجال، ص 540، وما بعدها.
(4) م ن، ص529-530.
(5) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، لمحمد فؤاد عبد الباقي، 2/ 304.
(6) مختصر صحيح مسلم، ص529.
(7) م ن، ص529 (صحيح مسلم بشرح النووي) .
(8) م ن، ص530، ويوم الجرعة يوم خرج فيه أهل الكوفة يتلقون والياً ولاه عليهم عثمان فردوه، وسألوا عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري فولاه.
(9) قائل هذا راوي الحديث عن حذيفة.
(10) اللؤلؤ والمرجان، 3/304، وصحيح سنن ابن ماجه للألباني 2/353.
(11) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد، ج24، ص25-26.
(12) صحيح سنن ابن ماجه، 1/24-25.
(13) كتاب المحن، لمحمد بن أحمد التميمي، تحقيق يحيى الجبوري، ص 43.
(14) صحيح سنن ابن ماجه، 1/25.
(15) صحيح سنن ابن ماجه، 1/25.
(16) مختصر صحيح مسلم، 434.
(17) صحيح سنن ابن ماجه 2/356.
(18) م ن، 2/355.
(19) م ن، 2/357.
(20) م ن، 2/354.(32/26)
صراع الأفكار
د. محمد محمد بدري
ليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال يقال في كل وقت. ففي بعض
الأوقات يكون الصمت هو الواجب، فإذا استغل الأعداء هذا الصمت كان الكلام هو
الواجب. وهذا المقال محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام في طبيعة
الصراع بين الإسلام وأعدائه، وبعد قراءة المقال يكفي القارئ أن يفتح عينيه على
الواقع ليرى أمارات هذا الصراع، بل ربما يستخلص من الوقائع المعروضة نتائج
لم تلفت انتباهنا، أو أغفلناها خلال هذا المقال احتياطاً من التطويل ورغبة في
التحديد. وكل ما نتمناه أن يقوم في الحركة الإسلامية من يتصدون لكشف سبيل
أعدائها (سبيل المجرمين) حتى لا تبقى الحركة معرضة لهجماتهم دون عون أو
نجدة.
إن من سنن الله الجارية التدافع أو الصراع بين الحق والباطل، قال - تعالى-: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: 251] ،
فالله - عز وجل - يدفع بأهل الحق أهل الباطل، وهكذا يستمر الصراع بين
الأنبياء وأتباعهم، وأتباع الشيطان، بين الأنبياء والجماعات الضالة الذين يرفضون
حكم الله وشريعته ويتمسكون بحكم الجاهلية، ولن ينتهي هذا الصراع حتى تنتهي
الدنيا.
ولاشك أن للأفكار قيمة كبيرة كأداة من أدوات الصراع بين الحق والباطل،
وما سلوك الإنسان وتصرفاته
إلا نتيجة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره بجهده هو أو عن طريق جهد غيره فإن
سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض، فهناك فكرة قد تجعل إنساناً
ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس
ليكسر ذلك الصنم ويحطمه!
ولأن الأفكار بهذا القدر من الأهمية في الصراع بين الحق والباطل فإنه ومنذ
تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية وأعداء الإسلام يحرصون على
تخريب الفكر الإسلامي وتشويه العقل السليم من ناحية، ومن ناحية أخرى يقومون
برصد الأفكار الفعالة التى تحاول إيقاظ الأمة من سباتها، لكي يقضوا عليها في
مهدها أو يحتووها قبل أن تصل إلى جماهير الأمة فتصحح وجهتها أو تعدل
انحرافات أفرادها، ولتبقى الجماهير إذا اجتمعت تجتمع على أساس العاطفة وتحت
سلطانها، وليس على أساس (الفكرة.. والمبدأ..) .
وأعداؤنا يستخدمون في ذلك مراصد دقيقة تتلقى أي إشارة خطر عن فكرة أو
كتاب ربما قبل أن تصل الفكرة إلى جماهير الأمة! فماذا يفعل الأعداء عندما
تعطيهم مراصدهم تلك الإشارة؟ كيف يتصرفون ليحُولوا بينها وبين المجتمع الذي
يحاول صاحبها نشر الفكرة فيه؟
إنهم في البداية يتعرفون على الفكرة بدراستها دراسة دقيقة، ثم يبدأون فيما
يمكن أن نسميه مرحلة (المواجهة) وفي هذه المرحلة يبذل الأعداء جهداً ضخماً
ويستخدمون مواهبهم الشيطانية كلها حتى لا يكون لتلك الفكرة أي عائد أو نتيجة..
ووسائلهم في ذلك كثيرة، وهم يغيرون منها دائماً ويعدلون فيها تمشياً مع القاعدة
التى تقول: (إن كل فخ عُرف مكانه يصبح دون جدوى) ، فوسائلهم تتنوع حسب
الظروف مع المحافظة على المبدأ الأساسي وهو (تحطيم الفكرة أو شلّها) ! !
فهم تارة يصوبون ضرباتهم على اسم صاحب الفكرة وشخصه؛ لكي يصيبوا
فكرته بحيث يصلون إلى أن يصبح اسم صاحب الفكرة كافياً في النفور منها بل ومن
الكتاب الذي يضمها وعدم قراءته من الكثيرين الذين يحكمون على فكرة معينة أو
كتاب معين وفق انعكاسات حدثت تجاه صاحبها وبمقتضى الكلام عن صاحب الفكرة
والكتاب وليس من خلال جوهر الفكرة وما فيها من برهان.
وهم تارة يستخدمون طريقة (الهُتافات والشعارات) وهم في هذه الطريقة
يرتكزون على ميل أفراد الحركة الإسلامية إلى السهولة فيصوغون الفكرة في
مجموعة من الشعارات والهتافات فيتحول الأفراد عن (مشقة) البناء إلى (سهولة)
الشعارات والهتافات! !
وفي أحيان أخرى يستخدم الأعداء طريقة (التشويش) عن طريق إضافة
مجموعة من الأفكار الثانوية إلى الفكرة الأصلية بحيث تُضعف هذه الأفكار الثانوية
سلطان الفكرة الأصلية على العقول، ويكفينا أن ننظر في واقعنا لنرى كم مرة
طُبقت هذه الطريقة معنا وكم مرة شاركنا فيها دون وعي؟ !
وتارة أخرى يستخدم الأعداء أسلوب إثارة الشبهات.. فإذا خرجت الفكرة في
صورة كتاب يقدم أيديولوجية واضحة للصراع مع الأعداء، ألقوا على هذا الكتاب
ما يشوه صورته أمام أفراد الحركة الإسلامية، وخلقوا حوله شبهات كثيرة بحيث لا
يسهل إزالتها فينصرف أفراد الحركة عن مجرد الاطلاع على الكتاب لكثرة ما أثير
حوله.. ولا نريد أن نضرب أمثلة! فكم من كتب طيبة فرض أفراد الحركة
الإسلامية حول أنفسهم ستاراً حديدياً يمنعهم من قراءتها لهذا السبب!
وفي أحيان أخرى يستخدم الأعداء طريقة (الاستبدال) فيطلقون هم أنفسهم
فكرة جديدة تكون أقل ضرراً على مصالحهم من الفكرة الأصلية.
وهكذا يبقى الصراع مع الأفكار.. ونحن إذ اكتشفنا بعض التفاصيل عن
طبيعة هذا الصراع فبقية التفاصيل الكثيرة للصراع تبقى في الظلام، ويصعب
وصفها كما يصعب وصف بيت العنكبوت، وخاصة إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد
ولا يحيط بها بوضوح إلا من وفقه الله - عز وجل - وأضاء بصيرته.
ولكننا إذا أردنا الإجمال قلنا إن الأعداء يحاولون أن يجعلوا من الداعية للحق
خائناً لأمته ومجتمعه الذي يعيش فيه، فإن لم يستطيعوا ذلك فإنهم يحاولون أن
يحققوا خيانة المجتمع للداعية على يد بعض المجرمين الذين يسيرون في ركب
الأعداء على مرأى العيون في صورة رجال مرفوعين على منابر الزعامة وكراسي
الحكم، رجال وضعوا في أوطانهم مواضع (الأبطال) ليقوموا بدورهم المرسوم
حين تفشل خطط الأعداء في تحطيم الأفكار الطيبة، فيقوم هؤلاء بأمر آخر وهو
محاولة تحطيم أصحاب الأفكار عن طريق الإرهاب والتعذيب لهم ولأفراد أسرهم
أطفالاً ونساءً!
هذا هو مكر الأعداء فما هو السبيل لدفعه والنصر عليهم؟
بادئ ذي بدء نقول إن الأعداء يحاولون أن يصوروا لنا الصراع معهم وكأننا
ذرّة تريد أن تحطم جبلاً! ، وأنه من العبث محاولة دفعهم فضلاً عن التغلب عليهم.
ولكن الأمر ليس بيد الأعداء، إنه بيد مَن يقدر الأشياء فتسير الذرة ويسير
الجبل حسب تقديره، وقوة الأعداء مهما بلغت وكيدهم مهما قوي فهو ضعيف لأنه
كيد شيطان [إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء: 76] .
ودفْعه منوط بما في أنفسنا نحن، قال - تعالى -: [وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] [آل عمران: 120] ، وسُنة الله في التغيير [إِنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] فسنة الله التي لا تتخلف:
غيِّرْ نفسك تغير واقعك.. فلنغير في أنفسنا ما يستغله أعداؤنا لخدمة أهدافهم من
حيث نشعر أو لا نشعر! .
فإذا كان الأعداء يستغلون فينا ميلنا للسهولة فيصوغوا الفكرة في مجموعة
شعارات تسد منافذ إدراكنا وتضللنا عن حقيقة الصراع فلنتعلم أنه ليس المهم
الصيحة التي يوجهها الضارب مادامت الضربة توجَّه إلى العدو الحقيقي وفي الاتجاه
الصحيح، كما يجب أن نتخلص مما في نفوسنا من ميل للنظر إلى الأشياء على أنها
(سهلة) والذي يقودنا في كثير من الأحيان إلى نشاط أعمى!
وإذا كان الأعداء يحاولون تحطيم الفكرة الطيبة عن طريق تشويه صاحبها أو
إثارة الشبهات حولها، فلنتعلم أن نحكم على الأفكار من خلال ما فيها من برهان
بعيداً عن منطق الغوغاء!
وفي مقابل محاولة الأعداء (استبدال) بفكرة أقل ضرراً على مصالحهم
بالفكرة الفعالة؛ لابد من الوضوح في فكر الدعوة وأهدافها ليسهل على الأفراد
التمييز بين الغث والثمين، وفي مقابل إرهاب الأعداء لابد أن نؤمن بحتمية المحنة
والابتلاء ولنعلم أننا لسنا أول الممتحنين ولن نكون آخرهم وإنما هم مواكب [فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] .
ولنعلم أنه بقدر ما نربي أنفسنا بطريقة جيدة، بقدر ما نستطيع أن نصمد لكيد
الجاهلية، ونجاحنا في الصمود لذلك الكيد هو نقطة التحول في خط سير الدعوة
نحو هدفها المنشود.
وأخيراً فأفكار هذا المقال وليدة النظر إلى ما يجري في الواقع.. واقع
الصراع مع الأعداء حاولنا فيه النصح لجميع إخواننا لنحاول جميعا - نحن وهم -
إزالة الجهالة بسبيل المجرمين والتي كانت في كثير من الأحيان سبباً في تخلفنا
وهزيمتنا. وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى.(32/33)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
الأُخوة.. والاختبار الحق
يقول - سبحانه وتعالى -: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ...
والأخوة من أجمل المعاني التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان! شفيفة لطيفة كالنور! ندية محببة إلى القلوب ... ولكن ما الأخوة التى وردت الإشارة إليها في كتاب الله؟ يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع - في الأمن والسلامة
- أن يتاخيا! أن يسيرا معاً وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب.. ولكن
انظر إليهما وقد ضاق الطريق، فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر.. فمَن
أقدم؟ أقدم نفسي أم أقدم أخي وأتبعه؟
ثم انظر إلى الطريق وقد ضاق اكثر.. فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون
الآخر! إنها فرصة واحدة.. إما لي وإما لأخي.. فمن أقدم؟ أقول: هذه فرصتي
وليبحث هو لنفسه عن فرصة؟ أم أقول لأخي: خذ هذه الفرصة أنت، وأنا أبحث
لنفسي؟ ! هذا هو (المحك) .
إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئاً! ولا تتعارض مع رغائب النفس
.. بل هى ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية
التى يجدها في تحقيقها ... أما في الشدة - أو في الطمع - فهنا تختبر الأخوة
الاختبار الحق، الذي يتميز فيه الإيثار وحب الآخرين.. من الأثرة وحب الذات،
التي قد تخفى على صاحبها نفسه في السلام والأمن، فيظن نفسه (أخاً) محققاً لكل مستلزمات الأخوة!
محمد قطب - واقعنا المعاصر
جهاد النفس
جهاد النفس أربع مراتب:
أحدها أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في
معاشها ومعادها إلا به متى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم
يضرها لم ينفعها ...
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من
الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب
الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق،
ويتحمل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن
السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل
به ويعلّمه، فمن علِم وعلّم وعمل فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء.
ابن قيِّم الجوزية - زاد المعاد 2/39(32/38)
[ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه]
عثمان جمعة ضميرية
إن جميع ما في الأرض من مختلف الديانات، إنما سميت بأسمائها: إما نسبة
إلى اسم رجل خاص، أو أمة خاصة، ظهرت الديانة وترعرعت بين ظهرانيها،
أو باسم بلد نشأت فيه.
فاليهودية: سميت بهذا الاسم نسبة إلى أرض اليهودية، أو لأنها ظهرت بين
ظهراني قبيلة تعرف (بيهودا) ويسمى أيضاً أتباعها (الموسويين) نسبة إلى موسى
(عليه السلام) .
والنصرانية: سميت بهذا الاسم نسبة إلى بلد الناصرة، بلد المسيح (عليه
السلام) ، وتسمى أيضاً: المسيحية، نسبة إلى المسيح (عليه السلام) ، ويسمى
أتباعها (المسيحيين) ، نسبة إلى المسيح أيضاً.
وهكذا اشتهرت البوذية - مثلاً - بهذا الاسم نسبة إلى (بوذا) ، باني هذه
النِّحلة، وكذلك: الزرادشتية أخذت اسمها من حامل لوائها، وهو: زرادشت ...
إلخ.
أما الإسلام - الدعوة العالمية الإنسانية، الذي ختم الله (تعالى) به الرسالات
السماوية السابقة كلها - فإنه لا ينتمي إلى أمة بعينها، ولا إلى بلد ظهر فيه، بل
ولا إلى النبي الذي أنزله الله عليه. وإنما يدل اسمه على صفة خاصة، يتضمنها
معنى كلمة (الإسلام) .
ومما يظهر من هذا الاسم: أنه ما عني بإيجاد هذا الدين وتأسيسه رجل من
البشر، وليس خاصاً بأمة بعينها، دون سائر الأمم، وإنما غايته أن يحلي أهل
الأرض جميعاً بصفة الإسلام.
وكما اختص الله - تعالى - هذا الدين باسم (الإسلام) اختص أيضاً هذه الأمة
باسم (الأمة المسلمة) وباسم (المسلمين) ولعلنا نلمح من خلال هذا الاختصاص
جملة معانٍ بارزة كانت وراء الاختصاص بهذا الاسم، نشير هنا إلى أهمها:
ففي ذلك تكريم وتشريف لهذه الأمة على غيرها، حيث اختصها الله - تعالى
- باسم أطلقه على أنبياء الأمم السابقة، فكانوا هم المسلمين، وهذه الأمة هي الأمة
المسلمة، وبذلك تتأكد وشائج الصلة بين هذه الأمة وبين مَن سبقها، فهى ليست
مقطوعة النسب، وليست بدعاً بين الأمم، وفي هذا تشريف لها أي تشريف! .
وفي هذه التسمية والاختصاص بها استجابة لدعاء إبراهيم - عليه السلام - إذ
قال: [رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ] [البقرة: 128] ،
فالذرية المسلمة والأمة المسلمة من نسل إبراهيم - عليه السلام - وهو الذي سماها
أيضاً بهذا الاسم: [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] [الحج: 78] .
واشتملت شريعة الإسلام على فواضل العبادات والتشريعات، مما انفردت به
بين جميع الرسالات؛ من الجهاد، والحج، والوضوء، والغسل من الجنابة، ونحو
ذلك مما اختصت به الأمة المسلمة، ولم يكتب على غيرها من الأمم، وإنما كُتب
على الأنبياء فقط.
وفي هذه الأمة تحقق معنى الإسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد والإذعان
لرب العالمين، ولم تذعن أمة لنبيها وتتابعه كما أذعنت هذه الأمة، وقبلت ما جاء
به من عند الله، وانقادت له بلا اعتراض، فاستحقت بسبب تلك المعاني كلها:
الاختصاص باسم الأمة المسلمة، واختصت بالخيرية بين الأمم، فقال الله-سبحانه
وتعالى-: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [آل عمران: 110]
وإذن فقد أصبحت كلمة (الإسلام) مختصة - عرفاً وشرعاً - بمدلول معين
هو: مجموعة الشرائع والأحكام التي أنزلها الله - تعالى - على محمد -صلى الله
عليه وسلم-، أو التى استُنبِطت مما جاء به.
وهذه الرسالة التى أنزلها الله - تعالى - على محمد -صلى الله عليه وسلم-
بلغت ذروة الكمال، وجاءت دعوة إنسانية عالمية خاتمة، رضيها الله - تعالى -
للناس ديناً، فأعظم بها المنة، وأكمل بها الدين وأتم النعمة: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] .
وبعد أن كان كل رسول من الرسل يرفع راية التوحيد ويهتف بقومه: يا قوم
اعبدوا الله مالكم من إله غيره. أو: [قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] [نوح: 2] ، جاء خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، وجمع كلمة المرسلين، فجمع الرايات
كلها تحت راية واحدة وجعل ينادي: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة: 21] . [هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ ولِيُنذَرُوا بِهِ] [إبراهيم: 52] .
ولقد فصَّل الله - تعالى - في القرآن الكريم سمات هذه الدعوة العالمية العامة، وعرضها على أعين الناس في كثير من آياته، فقال - تعالى -: [قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [الأعراف:
158] ، [تَبَارَكَ الَذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً]
[الفرقان:1] .
وأشار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى عموم بعثته وعالمية دعوته
فقال: «أُعطيت خمساً لم يُعطَهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر،
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ،
وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى
قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة» متفق عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «فُضِّلت على الأنبياء بست: أُوتيت جوامع
الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» متفق عليه.
ومن ثم كان محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت
رسالته خاتمة الرسالات جميعا، قال الله - تعالى -: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن
رِّجَالِكُمْ ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] [الأحزاب: 40] .
ويصور النبي -صلى الله عليه وسلم- ختم رسالته للرسالات السابقة، وكيف
أنه أتم البناء الذي تعاقبت عليه رسل الله الكرام، فيقول: «مثلي ومثل الأنبياء من
قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه،
فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضعت هذه اللبنة؟ فأنا
اللبنة، وأنا خاتم النبيين» متفق عليه.
وإذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أُرسل من عند الله - تعالى - بدين
قد بلغ ذروة الكمال الذي لا كمال بعده، وتوجه الخطاب فيه للعالمين جميعاً، وختم
الله - تعالى - به الرسالات، فإن النتيجة المنطقية اللازمة لذلك كله: أن تنقطع
صلة الإنسانية عن سائر الرسالات والنبوات السابقة في الطاعة والاتباع، مع
الإيمان بأصولها المنزلة من عند الله - تعالى - لا بما آلت إليه بعد التحريف على
يد الأتباع، مما جعلها لا تتصل بأصل الوحي المنزل من عند الله (تعالى) .
فكل ما جاء به الأنبياء السابقون قد نسخ برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وارتبطت عندئذ الإنسانية كلها برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتعليمه
وأسوته الحسنة؛ إذ إن المبدأ الصحيح يقتضي:
1 - أن لا تعود الإنسانية بحاجة إلى الناقص بعد أن جاءها الكامل.
2- أنه قد لعبت يد التحريف والإهمال بتعاليم وسيرة الأنبياء السابقين، مما
لم يعد من الممكن - لأجل هذا - أن تتبعهم الإنسانية فعلاً.
ومن هنا فإن الله - تعالى - عندما يأمر باتباع الرسول وطاعته يأتي بهذه
الكلمة معرفة بالألف واللام؛ لتكون خاصة بمحمد -صلى الله عليه وسلم-:
[وأَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] [آل عمران: 132] .
وبعد.. فهذه هي الرسالة وهذا هو الدين الذي لا يقبل الله - تعالى - من
البشرية غيره، ويجب على البشرية كلها أن تفيء إليه: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ
دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] [آل عمران: 85](32/40)
من كنوز القرآن
صرف الهم إلى العمل الحاضر [*]
ستر الجعيد
إذا اهتم الإنسان بعمله الحاضر، وأقبل عليه بعزيمة قوية، استطاع أن ينجز
فيه شيئاً كثيراً، أو ينجزه في فترة زمنية قصيرة، حينما تقارن بآخر أقبل على
العمل بتردد، وفتور همة، وتطلعات مستقبلية تشغله عن العمل الحاضر، ودخول
في جدل حول ماذا سيفعل في المستقبل؟ دون ما حاجة إلى ذلك.
فكما أن عمل اليوم لا يؤجل إلى الغد، فكذلك عمل الغد لا يقدم على عمل
اليوم، وهذه القاعدة دعا إليها القرآن في آيات كثيرة، وهى تدل على حكمته -
سبحانه وتعالى - كما أنها من أعظم ما يكون سبباً في رقي العالمين إلى الخير
الدينى والدنيوي، فإن العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، قصر فكره
وظاهره وباطنه عليه فينجح ويتم له الأمر بحسب حاله، وإن تشوقت نفسه إلى
أعمال أخرى لم يحن وقتها بعد شُغل بها ثم استبعد حصولها، فتفتر عزيمته،
وتنحل همته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى كليلاً ينقص من إتقان عمله
الحاضر وجمع الهمة عليه، ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت
همته وقل نشاطه، وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله
فيفوت الأول والثاني، بخلاف من جمع قلبه وقالبه على كل عمل في وقته، فإنه
إذا جاء العمل الثاني يأتيه مستعداً له بقوة ونشاط جديدين حصلها من نشاطه وقوته
في الأول فيتلقاه بشوق وعزيمة فيفلح وينجح، وهكذا يكون أبداً متجدد القوى [1] .
والأمثلة على القاعدة كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فمن الآيات قوله - تعالى -: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ
أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] [النساء: 77] .
وقوله - تعالى -: [ولَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وأَنتُمْ تَنظُرُونَ] [آل عمران: 143] . وقوله -تعالى-: [ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً] [النساء: 66] . ومنه قوله - تعالى -:
[ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وعَدُوهُ وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] [التوبة: 75-77] .
ومما يؤخذ من لفتات بعض الفقهاء أنهم كانوا يكرهون فرض الصور العقلية
للمسائل وإعطاءها حكماً، ليس عجزاً منهم ولكن إدراكاً إلى أن الإغراق في ذلك
ليس من وظيفة الوقت الحاضر الذي يعيشونه، وربما كان ذلك سبباً في فرض حكم
مغاير للواقع، لأن تقدير الواقع في العقل ليس كوقوعه.
وإذا انتقلنا إلى الواقع الإسلامى نجد الإخلال بهذه القاعدة في العمل الحاضر
كثيراً وواضحاً، فتجد من يتحدث لك عن أمور من مستقبل الدعوة وخططها لم يحن
وقتها بعد، وربما أخذ ذلك من وقته الشيء الكثير، وذاك يتحدث عن قيام الدولة
الإسلامية كيف تكون؟ وكيف التعامل معها في الواقع؟ وأحياناً تجد الحديث عن
ذلك سابقاً لأوانه، بينما الأمور المطلوبة المهمة والتى تكون طريقاً إلى الخطط
المستقبلية مُهمَلة لا يلتفت إليها.
وهذا الاعتدال في النظر إلى الأعمال الحاضرة لا يخل أبداً بالتخطيط
المستقبلي للأمور الدنيوية والدينية، ولكن بشرط أن لا يأخذ الحديث عن ذلك
التخطيط حجماً كبيراً فيعود على العمل الحاضر بآثار ضارة به، تزيله أو تضعفه،
وكما أن الآيات أرشدت إلى هذا اهتماماً بالعمل وحرصاً على تحصيل أكبر قدر منه؛ فإن ذلك يعود على العامل بالارتياح النفسي والاطمئنان أيضاً مما يكون له أثر
طيب على نفس المسلم وتقويتها.
__________
(*) هذه القاعدة مما نبه عليه الشيخ عبد الرحمن السعدي في كتابه " القواعد الحسان ".
(1) القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن السعدي، ص136.(32/44)
الأوزاعي.. إمام أهل الشام
محمد محمد توفيق
هو أبو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، والأوزاعي قيل: إنها
نسبة إلى قرية في ضواحي دمشق، ويظن أنه غير عربي الأصل. وُلد في مدينة
بعلبك (لبنان) عام 88هـ /707م، وولد يتيما؛ فقاسى من شظف العيش وشدة
الحياة وخصوصاً في صغره.
صفاته:
تقي وورع، حلم وأناة، رزانة وقلة كلام، وعدم قهقهة، كان عفيف النفس،
سخياً، صلباً في الحق، جريئاً في الدفاع عنه، وكان محدثاً ثقة مأموناً، شهد له
الجميع بالفضل والعلم.
رحلاته:
رحل في طلب العلم إلى كل من البصرة، والكوفة، ومكة المكرمة، والمدينة
المنورة، ودمشق، وبيروت التي اتخذها موطناً له ورباطاً إلى آخر أيامه.
ويروى أنه أثناء مروره بمقبرة ببيروت، التقى فيها بامرأة سوداء فسألها:
أين العمارة يا هنتاه (أختاه) ؟ فأجابت: إن أردت العمارة فهي هذه. وأشارت إلى
القبور. وإن كنت تريد الخراب فأمامك، وأشارت إلى البلد، فأعجبه كلامها،
وعزم على الإقامة في بيروت.
شيوخه:
في الفقه: مكحول الشامي.
وفي الحديث: قتادة، ويحيى بن أبي كثير، وعامر الشعبي، وعطاء بن أبي
رباح، وابن شهاب الزهري، ونافع المدني، ومحمد بن عبد الملك بن مروان
الأموي، وغيرهم.
أقرانه:
الذين اتصل بهم وتفاعل معهم، منهم: مالك بن أنس، وسفيان الثوري،
وعبد الله بن المبارك.
تلاميذ5:
ابنه محمد، وزوج ابنته عبد الغفار بن عثمان، وعبد الحميد بن حبيب بن
أبي العشرين، وأرسلان بن مالك اللخمي، ومحمد بن حرب الخولاني، وعمرو بن
أبي سلمة التنيسي، ومحمد بن زياد (هقل) ، والوليد بن مزيد العذري البيروتي،
والخيزران زوجة المهدي وأم الهادي وهارون الرشيد، والوليد بن مسلم، ويحيى
بن حمزة الحضرمي، ويحيى بن سعيد القطان. كما روى عنه البخاري ومسلم
وأصحاب السنن.
كتبه:
ضاعت كلها إلا كتاب سير الأوزاعي، ويقال إن له كتاب السنن، وكتاب
المسائل.
مذهبه:
كان له مذهب مستقل انتشر في الشام لأكثر من قرنين من الزمان، وفي
الأندلس قرابة نصف قرن، ثم اندثر، ويمكن اعتباره من مدرسة أهل الحديث،
وكان لهذا المذهب أتباع من العلماء أشهرهم: عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف
بدُحيم، وعبد الله بن إسماعيل، ومحمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي،
وصعصعة بن سلاَّم بن عبد الله الدمشقي.
وكان مفهوم الدين لديه هو: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد
بالصلاة، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.
وكان يقول: إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً، وإن المنافق يقول كثيراً
ويعمل قليلاً.
يروى أن نصرانياً أهدى إليه جرة عسل وقال له: يا أبا عمرو، تكتب لي
إلى والي بعلبك، يعني ليشفع له عنده. قال الأوزاعي: إن شئت رددت الجرة
وكتبت لك، وإلا قبلت الجرة ولم أكتب لك، قال: فردّ الجرة، وكتب له، فوضع
عنه (أي عن النصراني) ثلاثين ديناراً. وهذا دليل على ورعه وعفته، وتسامحه
ولينه.
ومات في سنة 157هـ/774م، وعمره 69 عاماً رحمه الله.(32/46)
البيان الأدبي
الخروج من تحت الأنقاض
د. عمر عبد الله
سنوات الغربة التى يمر بها (جمال) خلال غربته الثانية بدت أقل صعوبة
وأيسر معاشاً مما توقع، فهو بالرغم من عيشه في هذه البلاد ثلاث سنوات من
سنوات الطفولة إلا أنه تهيب من العيش في بيئة مختلفة، وحضارة مغايرة. لكن
الأمر كان أسهل وأيسر، ففي المدينة التى يدرس فيها جالية إسلامية نشطة، ونشاط
دعوي مميز، أخذ من وقته، وعاش في شعوره حتى أصبح المجتمع الصغير عالمه
ومحيطه، وأصبح إخوة العقيدة الذين لم يربطهم به سوى رابطة الإيمان أشقاء له لم
تلدهم أمه، إن جعفر، وعبد الرحمن، وليث، وزاد الحق، ومراد ... وغيرهم
من إخوة الدرب قد أضاءوا سنوات الغربة بذكريات عزيزة، وأناروا الطريق
الموحش بومضات جد ساطعة، كان اليوم هو آخر أيام الأسبوع الأول من الدراسة، وحينما كان جمال يهم بمغادرة الجامعة، وجد رسالة على صندوق بريده، كتب
عليها (ج. برهان يود مقابلتك في مكتبه في قسم المحاسبة، غرفة رقم 121، في
أي وقت بعد الظهر) حاول أن يتذكر إذا ما كان الاسم المذكور يعني له شيئاً خاصاً، لكن ذاكرته لم تسعفه، وحين كان في الوقت متسع فقد قرر أن يزور صاحب الرسالة في هذا الوقت، وحينما وصل إلى الغرفة المذكورة، طالعه السكرتير متسائلاً هل من خدمة أقدمها لك؟ .
- أجاب جمال: اسمي جمال العلي، وجدت رسالة تطلب مقابلة السيد برهان
بعد الظهيرة.
كانت لهجته الأمريكية التى اكتسبها خلال تواجده المبكر في هذه البلاد تجعل
العديد من الأمريكان يظنون أنه أمريكي من أصل مكسيكي.
- نعم.. إن الدكتور برهان قد طلب مني أن أبلغه بحضورك.. بالرغم من
مشاغله الكثيرة، يبدو أنك صديق مخلص له.
- لا أدري، فهذه المرة الأولى التي أقابله.
- على العموم، هو شخص لطيف، وهو منذ انتقاله لهذه الجامعة منذ أسابيع
وهو يكسب العديد من الأصدقاء والمعجبين، إنه انسان رائع.. لحظة من فضلك.
دخل السكرتير الغرفة بينما بقي جمال يحاور نفسه ويحاول أن يتذكر مرة أخرى
لعله يفلح في الاستذكار.. بدون جدوى.
- السيد برهان في انتظارك.
- شكراً.
دخل جمال الغرفة وما إن وقع نظره على السيد جمال حتى أدرك أنه يقابل
وجهاً أليفاً، لكنه لم يستطع أن يتذكر ما تعنيه تلك الملامح بالنسبة له، واستفتحه
بلغة عربية صافية.
- أهلاً بالسيد العلي.. أنا جميل برهان، أعمل حالياً رئيسا لقسم المحاسبة
في الجامعة، ربما أنك لا تعرفني، كان منظره يوحي برؤية إنسان أمريكي تماماً،
لا يدل على كونه عربياً سوى اسمه، ولغته العربية المحكية بلهجة فلسطينية.
- حقيقة إن وجهك مألوف بالنسبة لي، لكني لا أستطيع أن أتذكر أين رأيتك، ومَن تكون! .
- حتى بالنسبة لي فأنا أجد صعوبة بالغة في التعرف عليك، بالرغم من
معرفتي القديمة بك؟
- بي.. أين.. ومتى؟ !
ضحك جميل برهان حتى بدت أنيابه.
- منذ زمن طويل، وطويل جداً، لكن دعني أعطِكَ إشارة مساعدة، لقد
عشت وقتاً طويلاً في أن (آربر) ، وبالتحديد قبل خمسة عشر عاماً ... فهل
تساعدك هذه الإشارة؟
- ربما، فقد عشنا في نفس المكان وأنا طفل، في نفس الفترة تقريباً.
- حسناً، أنت في الطريق الصحيح، وربما أنك لا تذكر صديقاً لوالدك كان
يدرس معه في نفس القسم، يحمل نفس الاسم؟
- لا أذكر.
- كنت أتوقع ذلك، يسرني أن أقول لك إن أباك إبراهيم العلي كان من أعز
أصدقائي، في تلك الفترة على الأقل، لقد كان رجلاً ودوداً وكريماً معي، بالرغم
من عدم اتصالنا ببعض لفترة طويلة.. طويلة جداً.
- لكني لا أزال أذكرك، وأنت طفل صغير، حينما كان أبوك يدعوني في
أيام ذلك الصيف في حديقة منزلكم لنتناول الحديث، ونتناسى الهموم.
- لا أذكر، فقد كان لأبي الكثير من الأصدقاء، وكنت في تلك الفترة أعيش
فترة الطفولة باستغراق جميل.
- لقد دهشت حينما رأيتك فبالرغم من معالم الشبه بينك وبين أبيك: فإنك
تبدو مختلفاً في المظهر على الأقل.
- ربما ...
أدرك جمال ما يعنيه الدكتور برهان، فلحيته المعفاة كانت علامة مميزة في
محيط الجامعة.
- وماذا تدرس الآن في هذه الجامعة؟
- أحضّر الماجستير في الهندسة النووية.
- جميل.. رائع.. وهل أنت متأقلم في هذه الجامعة والمدينة؟ .
- نعم.. فالأمور تجري بشكل جيد.
- جميل.. إننى أشعر بلذة في اجترار الماضي، أليس ممتعاً أن تستعرض
تلك الأيام الحلوة مع شخص عاش ذات الظروف.
- نعم، خصوصاً إذا كان يحمل نفس الهموم والآلام.
التقط، د. برهان الحديث، ورد بلهجة استرجاعية مسترخية.
- نعم، كم كان جميلاً لو أن إبراهيم كان معنا، لقد كان - كما قلت ووصفت
- صديقاً رائعاً تقاسمنا الهموم والآلام سوياً، كانت المرحلة التى نحياها مرحلة
شباب وزخم، وقد التقينا في صيف عام 1966م، كنت وأبوك نعيش حالة من
الفرح الكاذب والأمل الواهم، كانت أمريكا تغرق تدريجياً في وحل فيتنام، فنرى
في ذلك هزيمة لروح التسلط التى كانت تمارسها هذه البلاد بوقاحة في تلك الأيام،
وننام ونصحو على شعارات قرب زوال الظلم، وإلقاء (إسرائيل) في البحر، ولا
تسأل اللاجئ الذي كان يضع رهانه على تلك الدول ولا الشباب المتأثر بالناصرية
كإبراهيم، والذي رأى فيها حلم شبابه.
- صدقت كان أبي ناصرياً مثالياً، ألا يكفيك أن اسمي خير دليل على ذلك.
- نعم.. لازلت أتذكر حالة الإحباط والتعاسة التى أحاطتنا في صيف عام
1967م، حتى أننا كنا نتحاشى أن نذهب للجامعة حيث كان الصهاينة وأصدقاؤهم
الكثيرون يشعروننا بأننا نعيش هزيمة أخرى، لقد كانت أياماً قاسية! لكن خبّرني
ما هي أخبار والدك؟
- إنه بخير، وهو على وشك التقاعد، للتفرغ لأعماله.
- وهل لا يزال مثالياً؟ أعني ناصرياً مخلصاً؟
- كلا ولكن سأسألك نفس السؤال؟
- لقد أصبحت أمريكياً.. (يضحك) ، أمريكياً مخلصاً، خلعت أشياء كثيرة
لكي أصل إلى ما أنا فيه، تركت المثاليات، يممت شطر الجانب الأكاديمي، وها
أنا ذا أحقق معظم أحلامي..
- وهل لديك أسرة؟
- نعم لديَّ ابنة تعمل متفرغة في العمل الخيري، إنها رئيسة نادي الليونز في
المنطقة!
- الليونز..؟ ! هل تعرف ما هي المنظمة، وما أهدافها؟ !
- كلا..، فابنتي تعرف ذلك، وهى عموماً (تربية أمريكان) .. (ويضحك
ضحكة مقتضبة) ، لقد تزوجت أمها الأمريكية، واتفقنا أن أتفرغ للعمل وتتفرغ هى
لإدارة الأسرة.
- وهل لازلت تحتفظ بهويتك؟ أعني لغتك، ودينك.
- لغتي جيدة، وديني لا يَسُر، منذ البداية.
- ولماذا؟ !
- كنت يسارياً في السابق، قبل أن أهاجر إلى هذه البلاد، كنت أعيش في
مخيم لاجئين في دمشق، كان معسكر السلام وشعاراته الشيوعية يشكل تيار أغلب
التعساء هناك.
- ثم؟
- كفرت بكل الشعارات الكاذبة، والزعامات المغشوشة، وآمنت بالحياة على
الطريقة الأمريكية، الفردية، تستطيع أن تكون من تريد حينما تكون لا منتمياً،
إنها عقلية الشركات الكبرى، حينما تدوس على المبادئ، سوى مبادئ الشركة
وتتخلى عن أي تحالف، سوى ما يساعدك على النجاح!
- وهل هذا مبدأ صالح في نظرك؟
- ما يصلح هو ما يعمل، وما يعمل - كما أرى - هو ما يصلح.
- قد يبدو هذا الكلام فلسفياً، لكن الواقع والفلسفة قد يشتبكان. لكن قل لي:
هل أنت مثالي؟
- إذا كنت تقصد بالمثالية الالتزام بمنهج، فأنا كذلك.
- وما هو هذا المنهج؟ . لقد أصبحت بعيداً عن الساحة العربية كما ترى.
- منهج قديم، جديد..
- ماذا تعني..؟
- أعني الإسلام.
- لقد كنت أظن أنك ستقول لي ذلك، منذ أن رأيت تلك اللحية الثائرة، إنها
تشبه لحية كاسترو، أو الخميني.
- لعل كاسترو وغيفارا والخميني بل حتى ماركس، هم ما تقدمه الثقافة
الأمريكية للتدليل على الخطر الخارجي، والربط بينهم حتى لو لم يكن هناك رابط.
- أوافقك في ذلك، لكن قل لي فلعل معلوماتي خاطئة: هل يعني ذلك أن
(الأصولية) هي الموجة الآن؟
- وماذا تعني بالأصولية؟
- أعني الحَرْفية، الجامدة، والتعلق بالنص!
-أعطني مثالاً.. لم أفهم!
- مثلاً بِلِي غراهام، سويغارت.
- غيرهما.
- لا أتذكر.
- أنت رجل متعلم، هل تؤمن أن نطبق سياسات أمريكا وأوربا الغربية
وآلياتهما على العالم الثالث؟ .
- لا يمكن، أرضيتان مختلفتان، متباينتان ...
- إذن هل تعرف أن هناك اختلافاً بين ما تطلقه من أمثلة وبين الواقع الذي
تنعته بالأصولية.
- ربما، لكن الإسلام والمسيحية متقاربان، عذراً، هذا من بقايا الخمسينات، كلاهما أفيون الشعوب، أو في منطق أمريكا الثمانينات، الإسلام السياسي أو
الإرهابي يحمل نفس بذور الأصولية التى تريد أن تحكم أمريكا.
- مرة أخرى.. أجد نفسي مضطراً لتذكيرك باختلاف البدايات وحتمية الخطأ
النهائي.
- أعترف بأني قد تغيرت كثيراً.. وأعترف أن الحوار ممتع معك، تحمل
نفس اللهجة القاطعة والمستيقنة التى كان أبوك يحملها، ولكن تبدو أكثر عقلانية
حينما كان يبدو أكثر حماساً وعاطفية، هل نلتقي مرة أخرى؟ .
أحس جمال أن الدكتور برهان مشغول وأن المقابلة قد انتهت، فوعده خيراً،
وأحس بواجب نحو هذا الغريب، الذي (استنوق) حتى يصل إلى ما يريد، والذي
قابل العديد من أمثاله الذين تأمركوا، وضاعوا وأضاعوا، أضاعوا جيلاً ثانياً كان
يمكن أن يكون أداة خير فاعلة في هذه الأرض، وتذكَّر مجموعة من المراهقين من
أبناء المسلمين الذين ولدوا لآباء كهؤلاء، بعضهم يحترف الدعارة، وبعضهم
يحترف تجارة المخدرات، ومجموعة تقود نوادي الليونز، والروتاري، وأخرى -
ويا لَحجم المأساة! ! - يعملون منصرين في كنائس مثل (وليم علي) ، ذلك ...
المنصر الشاب الذي قابله منذ فترة وتلك مأساة أخرى ...(32/50)
أذان بلال
شعر: مروان كجك
إني ليُثنيني المقال عن المقال ... فهنا رجال يستبد بهم رجالْ
وهناك طاغية بلا قلب، ولا ... عقل، ألدُّ، يفوق ما نسج الخيالْ
وعلى رُبا أرض المحبة تُهتك ال ... أستار يُعبث بالطهارة والجمالْ
يقتادها جلادها بالقهر طو ... راً والأماني كاذبات، والوصالْ
فإذا تأبَّت أو عدت يوماً، ولم ... تحفظ له وداً، ولجت في السؤالْ
وإذا تململ طرفها من رقدة ال ... ذل الوبئ، ولم يطق عيش الذِّلالْ
وإذا تعالى صوتها عن همسة ... وتطلب الإنصاف، أو جمح الخيالْ
ألفيتَ كل نقيصة في الأرض تُل ... قى فوق هامات تقيات جِلالْ
هذا الذي صلب المسيح بزعمهم ... ورمى البتول بكل هاتيك الخصالْ
هذا الذي قتل الحسين جهارةً ... عمداً، ولم يحفظ لعصمته الجلالْ
هذا الذي باع البلاد وأهلها ... ورمى بَنِيها بالتفاهة والضلالْ
هذا الذي لولاه ما كانت أزق ... تكم مباءات لأوكار الخبالْ
هذا الذي قد سلم القدس الحبي ... بة في صباح حين قعقعت النعالْ
فمضى بعيداً، طوَّف الدنيا انكسا ... راً واختفى خلف الروابي والتلالْ
وأطل في ليل بهيم زائغ ... لتظن أنك في المعارك ما تزالْ
هذا الذي إن حل فيكم حاكماً ... سيكون إعصاراً ويُسرف في النكالْ
فامضوا لوأْد العابثين بلهوكم: ... إبليس يحدو جمعكم، وأبو رغالْ
لا ترهبوا أحداً وكونوا سادةً ... وتقدموا لنزالهم آلاً فآلْ
فبَنُو النباهة قد نثرنا عقدهم ... وغدوا شراذمَ دأبها قيلٌ وقالْ
ماذا أقول وحولي الآمال صَرْ ... عى والبشائر في انكماش وانسلالْ
والقدس ترسُفُ في القيود وحولها ... أشلاءُ أهلي غُيِّبت تحت الرمالْ
والعابثون بمجدنا في كل أر ... ض يَرهبون أذان فجرك يا بلالْ
يخشون أن ترقى حصون جحيمهم ... فيدُكّ صوتُك ما أقاموا من جبالْ
ماذا أقول وكل دار حولها ... سور، وحول السور كوكبة اغتيالْ
مستوطنون هنا سكارى لا يروْ ... ن سوى التمادي في التعدي والضلالْ
وهناك شرذمة يبوء بإثمها ... صِفْرُ الرجولةِ والدعيُّ بلا نِزالْ
أشفى علينا واستطاب نسيمنا ... فَرَغا وأزبدَ كي نعافَ له الزلالْ
ومضى يسوم صغارنا وكبارنا ... خسفاً وجوراً والبقية لا تقالْ
مَن لي بثائرة تثور كأنها ... شُهُبٌ إذا انقضت، براكين اشتعالْ
تفري الجناة تغوص في أرحامهم ... تجتث ما زرعوا بأرض من وبالْ
لا ترتضي إلا اقتطاف رؤوسهم ... ما بين ناصية كَذوبٍ أو قذالْ
بالحق أرْهِبْ مَن توارى خلفهم ... ودعِ السيوف على المدى رهنَ استلالْ
لا تأمنَنْ يوماً لباذل قوله ... حتى ترى لمقاله صدق الفِعالْ
واحذر أذى قوم تظل رؤوسهم ... في الطين غائصة ترقَّبْ في انشغالْ
لا يعرفون سوى الخديعة مذهباً ... كالصل سماً، حاذقون ذوو احتيالْ
أنسالُ حقد كالأفاعي كلما ... عاهدتهم قطعوا الوشائجِ والحبالْ
فيهم وحوش كالخِراف وداعةً ... خبثاً وميناً، مثل حاريةٍ هزالْ [1]
ماذا أقول وكل أمر دونه ... أمر أجلّ، وخطة فوق الخيالْ
وأنا هنا وحدي تُطيف بي الرؤى ... والقلب يخفق، واليدان بلا مجالْ
والسابحون على شواطئ أُنْسهم ... أَنْسَتْهُمُ الأيامُ دجلةَ والقنالْ
والزاعمون النصرَ في غدواتهم ... نسوا الجنوبَ غداة ضمهم الشمالْ
ولذاك أنثر في الدروب كنانتي ... هيمان، يثنيني المقال عن المقالْ!
__________
(1) الحارية: الأفعى التي كبرت ونقص جسمها ولم يبق إلا رأسها ونفَسها وسُمها.(32/56)
شؤون العالم الإسلامي
المسلمون في شبه القارة الهندية
تعاون هندي إسرائيلي لقمع انتفاضة كشمير
أحمد موفق زيدان
(إن العملية مكلفة، والخسائر باهظة، ولكن لابد من دفع الضريبة والثمن،
فدفع ضريبة العز والحرية لا تقارَن بدفع ضريبة الذل والمهانة) هذا ما قاله أحد
الناجين من الجحيم الهندي في سريناغار عاصمة كشمير المحتلة، ويروي القادمون
من هناك صوراً لمآسٍ لا وجود لها إلا في الدول المتوحشة، ولا تماثلها إلا جرائم
النازية ومحاكم التفتيش. ويقوم بالإشراف على هذه المآسي والخطط مستشارون
إسرائيليون إلى جانب المستشارين الهنود. وقد أكدت مصادر متعددة وجود مثل
هؤلاء المستشارين خاصة وأن التعاون الأمني بين الطرفين على أشده في المجالات
الأمنية، وتقتفي القوات الهندية أثر القوة اليهودية في تعاملها مع الانتفاضة
الفلسطينية من إبعاد وطرد وتعذيب وإهانة وغيرها.
صور من المأساة:
تشير التقارير الصحفية إلى أن حصيلة الانتفاضة الكشميرية - والتي بدأت
مع ربيع عام 1989 حتى الآن - وصلت إلى آلاف الشهداء، و23 ألف سجين
و20 ألف جريح وتقوم القوات الهندية بمداهمة البيوت والمنازل بحثاً عن المجاهدين
والأسلحة، ولكن أول ما يسألون عنه أو يبحثون عنه نسخ من القرآن الكريم فإن
وجدوه يطرحونه أرضاً ويأمرون أهل البيت أن يدوسوه ويهينوه، ومن يرفض
أوامرهم يواجَه برشقة من بندقية أو مسدس فيخر صريعاً شهيداً، وقد حصلت
حوادث لا حصر لها من هذا النوع.
كما تقوم القوات المداهمة بربط وتكتيف أهل المنزل الرجال في جهة،
والنساء والفتيات في جهة أخرى، ثم يفتشون المنزل، وبعد فراغهم يقومون
بالاعتداء على أعراض الفتيات أمام سمع وبصر ذويهم، والجيران يسمعون
صيحات الاستغاثة والصراخ والعويل، وتوالي قوات الكوماندوز الهندية مهاجمة
الشباب، والأشبال في الشوارع حيث يهجم اثنان من هذه القوات على شاب يسير
في الشارع لا ذنب له ويمسكه كل واحد من الكوماندوز من يده ثم يقومان بكسر
ذراعيه ويمضيان دون أن يعارضها أحد، وفي المظاهرة النسائية التي أقيمت
مؤخراً في داخل سريناغار قامت قوات الكوماندوز الهندية بخطف والاعتداء على
3500 فتاة مسلمة دون أن يعرف مصيرهن حتى الآن. كما تقوم الهند بإرسال
أشخاص هندوس إلى سريناغار ويدَّعون أنهم مسلمون وقد اكتُشف أحدهم في أحد
مساجد العاصمة عندما لاحظ عليه أحد المصلين تحركات غريبة فنظر إلى ذراعه
المكشوف فوجده مكتوباً عليه جُملاً هندوسية.
وفي 21 من مايو عام 1990 - وبينما كان جمع من المشيعين يقومون
بمراسيم دفن (ميرويس محمد فاروق) الذي قتلته القوات الهندية ويفاجَأ المشيعون
بهجوم ناري من القوات الهندية فقتلت أو جرحت حوالي 250 شاباً إلا أن المصادر
الهندية قللت من الرقم وقدرته بين 17-27 قتيلاً أو جريحاً وادعت بأن الهجوم كان
دفاعاً عن النفس في الوقت الذي كان المشيعون عزلاً تماماً من السلاح. وتقول
المصادر بأن القتلى الكشميريين في الفترة الواقعة بين 6-20 من أبريل الماضي -
بقوا بدون دفن، كما أهمل المرضى ولم يعالجوا في المستشفيات أبداً، وبقي كثير
من سكان العاصمة بدون طعام أو غذاء حيث استمر حظر التجول مفروضاً خمسة
عشر يوماً ولم يتوقف لدقيقة واحدة، وأي شخص ينتهك هذا القانون يواجَه بعدة
زخات نارية؛ الأمر الذي نجم عنه مجاعة في العاصمة وتجدر الإشارة إلى أن عدد
سكان (سريناغار) يقدر بـ 800 ألف نسمة منهم 99% مسلمون وهناك خطة هندية
يتوقع تنفيذها تقضي بالسماح للقوات الهندية بإطلاق النار على كل شخص يتراوح
عمره بين 16-30 سنة، ويبلغ عدد سكان كشمير 12 مليون نسمة منهم 85%
مسلمين.
فرار عملاء الهند الكشميريين:
أكدت الأنباء هروب حوالي 500 قائد كشميري الأصل عملاء للقوات الهندية
من كشمير وتوجهوا إلى دلهي واستقروا هناك، وقاموا بشراء بيوت فخمة في الهند
واستقروا هناك، ويعتقد هؤلاء القادة بأنه لا مستقبل لهم بعد بدء هذه الانتفاضة
الشعبية العارمة التى تنقم على كل ما هو هندي أو عميل للهند، ومن هؤلاء الفارين
عبد الله صهر فاروق عبد الله حاكم كشمير المحتلة سابقاً بإيعاز من الهند، وكان
فاروق عبد الله قرر العيش في لندن مع زوجته الإنجليزية الأصل، ويقول بأنه
مختفٍ في لندن ولا يستطيع الظهور بشكل علني خوفاً من المجاهدين الكشميريين؛
لأنهم ناقمون عليه لعمالته الشديدة للهند أيام حكمه.
الهند تحظر دخول الهيئات الدولية:
رفضت الهند دخول الهيئات الدولية ولجان حقوق الإنسان إلى كشمير وعلى
الرغم من تقدم لجنة العفو الدولية، وجمعية الصليب الأحمر الدولى ولجان حقوق
الإنسان بطلبات لدخول كشمير المحتلة ومشاهدة الأوضاع التى يحياها السكان هناك
فقد رفضت السلطات الهندية الاستجابة لأي طلب من هذا، وقد هاجمت إحدى لجان
حقوق الإنسان الهندية الأصل الممارسات الهندية في كشمير، ولم تستطع أن تلتزم
الصمت وهى ترى المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان في سريناغار.
وتلقى كشمير تعتيماً إعلامياً لم يشهد له مثيل إلا في الدول المماثلة للهند في
تعاملها ووحشيتها، حيث فرضت السلطات الهندية منعاً شديداً لدخول الصحفيين إلا
للبعض وهم أقل من القليل كما مارست سياسة منع دخول الصحف غير الهندية إلى
كشمير وذلك في إطار سياسة التعتيم الإعلامى حتى قام مراسل صحيفة (صنداي
تايمز) بشرح بعض ممارسات السلطات الهندية في الضغط على الصحفيين
والمراسلين.
كشمير وحق تقرير المصير:
لا أود الذهاب بعيداً في هذا المقام عن تاريخ كشمير والعصور التاريخية التي
مرت بها إلا أنى أود أن أسلط الأضواء على مدى التزام الهند بقراراتها وبياناتها
فضلاً عن قرارات الأمم المتحدة حيال حق تقرير مصير الكشميريين بأنفسهم.
ففي 13 من أغسطس عام 1948 قررت الأمم المتحدة - بحضور الهند
وباكستان - أن الاستفتاء هو الذي سيحدد مستقبل الشعب الكشميري كما نجح السير
ظفر الله في 5 من يناير عام 1949 في استصدار قرار آخر من الأمم المتحدة يفيد
بأن تقوم لجنة استفتاء تخير الكشميريين بين الالتحاق بالهند أو بالباكستان أو أن
تكون مستقلة، وينقل عن نهرو بأنه يفضل إلحاقها في باكستان؛ لأنها إذا استقلت
فستطالب المناطق الهندية الأخرى بالانفصال وحينها لن يقدر أحد على إيقاف تداعي
حجر الدومينيو.
وتقول بعض الروايات التاريخية بأنه قد طلب من باكستان إلحاق كشمير بها
مقابل إلحاق حيدر آباد بالهند فرفضت الباكستان وحينها خسرت الباكستان الاثنتين
بدلاً من خسران واحدة.
وفي الاجتماع السابع والعشرين للأمم المتحدة جاء فيه بخصوص كشمير:
(مهما يكن من أمر في مسألة كشمير فإن الخيار هو للشعب نفسه في ... أن يلحق نفسه بباكستان أو الهند أو يكون مستقلاً وذلك عندما تعود الحياة إلى ... مجراها الطبيعي) .
وفي عام 1951 قال نهرو: (إن كشمير لها الحق أخيراً في تحديد مستقبلها) .
وفي 6 من سبتمبر عام 1965 - عندما وقعت الحرب الهندية الباكستانية بخصوص
كشمير وجبنت قيادة القوات الباكستانية بصراحة في استمرارها بتحرير كشمير
ورضخت لما يسمى بالقوانين الدولية التي لا تطبق إلا لغير مصلحة المسلمين، وإلا
فأين القرارات الدولية التي أصدرتها الأمم المتحدة حيال تقرير الشعب الكشميري
لمصيره بنفسه. بعد هذه الحرب حصل اتفاق طشقند في روسيا وذلك في عام
1966 ووافقت باكستان على الانسحاب من الأراضي التي حررتها إبان الحرب.
وعندما وقعت حرب عام 1971 بين باكستان والهند وهُزمت باكستان وانشقت
على إثرها بنغلاديش تم توقيع اتفاقية (سيملا) ورضخت باكستان لبعض الصعبة
بسبب هزيمتها في الحرب واحتفاظ الهند بأكثر من سبعين ألف أسير باكستاني لديها
واعترفت حينها باكستان بخط ما سُمي (بخط الهدنة) وهو أكبر مأخذ تأخذه الهند
على باكستان أثناء محادثاتها معها.
المحادثات الهندية الباكستانية وأثرها على كشمير:
تجري محادثات مكثفة بين السلطات الباكستانية والهندية من أجل نزع فتيل
التوتر بين الدولتين، ويقوم وسطاء دوليون بهذه المهمة، ولكن يتوقع أن يكون لأي
اتفاق لا يأخذ بعين الاعتبار مصلحة شعب كشمير وقْعٌ خطير في كشمير المحتلة
خاصة إذا تخلت باكستان عن التزامها بتأييد الكشميريين وهو أمر صعب لأن
الجيش الباكستاني من الصعب أن يوافق على هذا أو يخشى البعض من قيام حكومة
باكستانية بالمساومة بينها وبين الهند في قضية اضطرابات السند بحيث تتخلى الهند
عن تدخلها هنا وتتخلى باكستان بالمقابل عن تدخلها في كشمير، وهذا ما دعا
الجيش الباكستاني أن يطالب وبشدة بتسلم الملف الأمني في المناطق المضطربة
حسب ما يقتضيه الوضع الأمني في كراتشي وحيدر آباد وذلك بناءً على المادة رقم
245 من دستور البلاد، وقد طالب عدد من السياسيين بتسليم الملف الأمني للجيش
خاصة بعد وقوع ضحايا كُثر في الإقليم، ولكن حكومة حزب الشعب التي كانت
تتحكم في الإقليم تخشى من انقلاب الشعب عليها في أنها فشلت في حفظ الأمن.
وقد يبدو من الممكن الآن بعد إزاحة بي نظير بوتو أن يتسلم الجيش مهمة الأمن في
السند.(32/60)
محنة جديدة
فوجئ العالم بغزو العراق للكويت في الوقت الذي تسقط فيه الأنظمة
الدكتاتورية في الغرب، ويحصل تغيير في النظرية الاشتراكية في الاتجاه نحو
الديموقراطية ورفض تغيير المجتمع من خلال الثورات والانقلابات، وكأن صدام
يريد أن يقول إن التغير القومي الاشتراكي لا يتم إلا من خلال الثورة والاحتلال،
وقد شُرد من جراء هذا الغزو مئات الألوف من المسلمين الذين يعملون في الكويت
وتضررت كثير من الجمعيات الخيرية الإسلامية وحصل أثناء الغزو ولا يزال
فوضى وفقدان للأمن وانتهاك للأعراض، وتسارعت الأحداث بشكل مؤسف، مما
أدى إلى تفرق الصف الإسلامي نفسه، ومما زاد الطين بلة تدخل القوى الأجنبية
في المنطقة بدعوى حماية الأمن والسلام العالمي والقانون الدولي وعجز العرب
والمسلمين عن حل قضيتهم بأنفسهم واختلفوا حول هذا الأمر كعادتهم، وسنحاول
تحليل هذا الحدث وآثاره على المنطقة ولو بصورة مجملة وسيكون التحليل كالتالي:
- حسابات خاطئة.
- دخول القوات الأجنبية فرصة ذهبية لها.
- مجلس الأمن.
- احتمالات وتوقعات.
- تغييرات متوقعة في المنطقة.
- مواقف بعض الإسلاميين.
- مقابلة مع صدام.
- عِبَر من الأحداث.
حسابات خاطئة:
لقد أخطأ صدام في توقيته غزو الكويت في هذا الوقت فلم يقدر حقيقة الوفاق
الدولي الآن وإنهاء ما يسمى بالحرب الباردة وسقوط الشيوعية بشكل عام وانهيار
أنظمة أوربا الشرقية بشكل خاص فلو كان الغزو - مثلاً -قبل سنة لكان من
الصعب نجاح الحصار الاقتصادي بوجود أنظمة أوربا الشرقية البوليسية التي كانت
تتمتع بعلاقات جيدة مع العراق، ولربما لو كان الغزو قبل اجتماع مالطا لتحفظ
السوفييت، وعند ذلك يكون موقف الأمريكان حرجاً، فأي قرار من الأمم المتحدة لا
توافق عليه الدول الخمس وخاصة أمريكا وروسيا لا قيمة له في أرض الواقع كما
هو معلوم (كالقرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي استخدم الأمريكان ضدها
حق النقض) .
وأخطأ مرة أخرى حينما لم تنجح توقعاته في موافقة المعارضة الكويتية (من
اليساريين والقوميين) على اجتياح الكويت فلو وافقت المعارضة مثلاً لاعتبر ذلك
كاستدعاء بعض اللبنانيين للجيش السوري ليتدخل.
ولذلك بقيت القضية في إطار القانون الدولي: (انتهاك لسيادة دولة وقلب
نظامها بالقوة) ؛ مما جعل السوفييت وهم أصدقاء للعراق لا يجدون ... مسوغاً أمام الغرب يجعلهم يرضون بهذا الانتهاك، فهم بحاجة إلى إثبات مصداقيتهم أمام الغرب بأنهم يحمون السلام والأمن العالمي، خاصة وأن السوفييت في هذه المرحلة بحاجة إلى هذه المصداقية ليحصلوا على مزيد من الدعم الغربي.
دخول القوات الأجنبية فرصة ذهبية لها:
الغرب وأمريكا بالذات يتوقان لفرصة كتلك التى أقدم عليها صدام لكي تضفي
الشرعية على تدخلها السريع لإنهاء القوة العراقية التي باتت مصدر إزعاج لطفلها
المدلل (إسرائيل) (ويلاحظ أن القلق من العراق كشعب مسلم قد يستثمر هذه القوة
يوماً من الأيام وليس القلق من صدام وحزبه) ومصدر قلقهم أيضاً عدم ضمان
مصالحهم في الخليج (يقول وينبرغر وزير الدفاع الأمريكى الأسبق إنه من غير
المعقول أن تبقى قوة طليقة تتحكم بنصف احتياطي النفط العالمي، إن ذلك يهدد
مصالحنا وطريقها في الحياة) (الشرق الأوسط) 17/8. لذا فمن غير المستبعد أن
أمريكا قد رصدت الاجتياح العراقي للكويت منذ البداية عن طريق الأقمار الصناعية
وغيرها، وربما كان لها دور في ضغط واحراج الكويتيين لصدام في قضية الديون
ونحوها لاستفزازه لمثل هذا العمل، ولعل الأيام القادمة تكشف شيئاً من ذلك.
ويلاحظ المرء تضخيم الإعلام الغربي للقوة العراقية من حيث العدة
والإمكانيات بشكل هائل مما أخاف العالم من نشوء قوة جديدة عسكرية واقتصادية قد
تغير موازين القوى وذلك ساعد في سرعة التفاعل الدولي في المشاركة بالقوات،
وكذلك إجماعات مجلس الأمن، ولكن بعد قدوم القوات الأمريكية والقوات المتعددة
الأخرى اختلفت النغمة بعض الشيء؛ فالأسلحة الكيماوية هناك إمكانية من الوقاية
منها وغير فعالة في الجو الحار، وصواريخ سكود غير دقيقة الهدف ويمكن رصد
تحرك الطائرات والصواريخ العراقية وضربها قبل تحركها ... الخ.
على العموم دخلت القوات الأجنبية وسيكون لدخولها آثار كثيرة لعل أبرزها:
1 - إخضاع دول المنطقة لمزيد من السيطرة مما يمكنها من تمرير مخططات
كثيرة من أهمها رصد الصحوة الإسلامية عن كثب ومحاصرتها باعتبارها الخطر
المستقبلي على (إسرائيل) والغرب، يقول وزير الخارجية الأمريكية بيكر -
مبتهجاً بالتعاون الدولي مع الولايات المتحدة -: ( ... إن الدول الأعضاء في حلف
الأطلسي إذ تعمل جنباً إلى جنب مع دول أخرى لتبرهن على وحدتها في مواجهة
الخطر المشترك وأعتقد أننا نبرهن على أننا قادرون على العمل معاً في عصر جديد
للتصدي للتهديدات القادمة من مصادر جديدة وجهات جديدة) .
2 - مزيد من اعتماد المنطقة على العنصر الأجنبي في شئونها المختلفة
يدعوها إلى الارتماء في أحضان الغرب واستمرار التدخلات الأجنبية بدعوى
الحفاظ على أمن المنطقة.
مجلس الأمن:
لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة تُتخذ خمس قرارات في قضية واحدة خلال
أقل من ثلاثة أسابيع وقرارات بالإجماع (وهذه القرارات حول إنهاء الغزو
والمطالبة بالانسحاب وعودة الحكومة الشرعية وفرض العقوبات الاقتصادية
واستخدام القوة لفرض ذلك) . وقد يقول قائل إن ذلك أمر طبيعي؛ لأن المسألة فيها
انتهاك صريح للقانون الدولي ولكن ذلك الجواب فيه سذاجة لأن (إسرائيل) - مثلاً
- تنتهك القانون الدولي منذ أكثر من أربعين سنة ومع ذلك تستخدم أمريكا حق
النقض ضد أي قرار فيه إدانة - مجرد إدانة - لإسرائيل، فضلاً أن يكون القرار
ذا أثر عملي، بالطبع السبب معروف وهو أن وجود (إسرائيل) في المنطقة فيه
تحقيق لمصالح غربية كثيرة بل هى امتداد للغرب وجزء منه أما قوة العراق فقد
تهدد المصالح الغربية في المستقبل ونحن لا نقول ذلك دفاعاً عن صدام ونظامه
البعثي، ولكن نخشى أن يكون المقصود من الضربة الشعب العراقي وقوته
العسكرية والاقتصادية وليس صدام ونظامه فحسب.
احتمالات وتوقعات:
التوقعات كثيرة والمفاجآت واردة وسنقتصر على أبرزها:
1 - حينما يشعر صدام بضغط الحصار الاقتصادي وعدم إمكانية الحوار قبل
انسحابه من الكويت فقد يفاجأ العالم بالانسحاب بعد تحقيق بعض مصالحه، كما فاجأ
العالم بقبول اتفاقية الجزائر سنة 1975م حول السيادة على شط العرب، رغم أنها
كانت السبب الرئيسي لحربه مع إيران، ومما يؤيد هذه الاحتمالات مبادرات صدام
حول الرهائن وإمكانية إطلاقهم إذا انسحبت القوات الأجنبية، وكذلك توجيه العراق
لسفنه بالخضوع للتفتيش، فإذا نفذت مبادراته ومحاولاته ولم يجد ليونة من الغرب
فقد يلجأ إلى الانسحاب، ولكن يا ترى إذا انسحب صدام هل يسلم من الضربة
العسكرية؟
المتوقع حين الانسحاب عدم الضربة العسكرية؛ لأن السوفييت والصين لن
يرضوا بذلك باعتبار أن العراق قد التزم بالقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن،
وعند ذلك يصعب على الولايات المتحدة اتخاذ قرار فردي مما يعني ضربة قاضية
للوفاق الدولي.
ولكن هل يترك الغرب قوة العراق طليقة؟ .
في الواقع إن الغرب لن يترك قوة العراق ولكن سيستخدم وسائل أخرى عن
طريق المخابرات لترتيب انقلابات أو غيره، يقول وزير الخارجية الفرنسى جان
فرانسوا بونسيه - والذي قام بدور مبعوث للرئيس الفرنسي إلى بعض الدول حول
الموقف في الخليج -: (بأن الجميع يتحدث عن شرطين أساسيين للحل هما انسحاب القوات العراقية، وإطلاق الرهائن. ولكن هناك شرط ثالث يفكر فيه الجميع من دون الحديث عنه، وهو حتى حال قبول العراق لهذين الشرطين كيف يمكن إيقاف تهديد العراق للمنطقة في المستقبل بالقوة العسكرية التى
يملكها؟ !) . (الشرق الأوسط) 31/8.
وقد يستمر في تصلبه فيزداد تذمر الشعب العراقي من شدة المعاناة والحصار
وخوض معارك دون فائدة، فيؤدي ذلك إلى انقلاب عسكري وانهيار النظام.
2 - قد تتوتر الأجواء من خلال قضية الرهائن أو غيرها وعندئذ تنشأ حرب
مدمرة سيكون لها آثار في مستقبل المنطقة وعلاقاتها.
إذاً الحرب واردة، وأمريكا تكامل رصدها للمَواطن الحساسة في العراق،
والتأقلم مع الصحراء، ولكن الحرب إذا ما وقعت فستكون آثارها مدمرة، فالعراق
يملك أسلحة فتاكة وسيستعملها إذا وجد نفسه محاصَراً من كل الجهات.
تغييرات متوقعة في المنطقة:
1 - سينظر الغرب إلى منظمة التحرير الفلسطينية نظرة أخرى ويسعى إلى
إيجاد بديل عنها.
2 - قد تستغل أمريكا تفاعلها مع سورية فتوكل لها مهمات جديدة في القضية
الفلسطينية من خلال دعم المنظمات الموالية لسورية بتحويل بعض أموال الخليج لها
بشرط البدء بحوار مع (إسرائيل) للإعداد لكامب ديفيد آخر، وقد أبدت واشنطن
ولندن ارتياحهما من إطلاق الرهينة الأيرلندي ودور إيران وسورية في ذلك.
2 - ربما يبرز الآن الخيار الأردني، وهو الفكرة التى يطرحها حزب الليكود
أن الأردن هو بلد الفلسطينيين، خاصة إذا هاجر عشرات الألوف من الفلسطينيين
من الكويت والسعودية إلى الأردن وضعف الدعم الخارجي للأردن مما سيزيد
الضغط السياسي والاقتصادي على الأردن وقد يسبب ذلك انهياراً للنظام والله أعلم.
3 - هناك دلائل الآن تشير إلى عودة العلاقات بين السعودية وإيران، وقبل
ذلك قد ينتهي التوتر بين إيران والغرب وأمريكا خاصة إذا استمرت إيران فيما يلي:
أ - التزامها بالحصار الدولي المفروض على العراق.
ب - ومساهمتها في إطلاق الرهائن الغربيين في لبنان. وهناك دلائل كثيرة
تشير لذلك.
فمنها ما صرح به الرئيس الإيراني من أن إيران لا تمانع في أن تطرد قوات
أجنبية العراق من الكويت مادامت سترحل بعد ذلك (رويتر 25/8) ومن أن اتفاق
العراق مع إيران لا علاقة له بغزو العراق للكويت.
ومنها ما صرح به وزير الخارجية الكويتي لصحيفة الحياة (28/8) من أنه
ناقش مع الإيرانيين العلاقات السعودية الإيرانية وسبل تحسينها ووجد بعض التفهم
والرغبة.
على العموم لا زالت إيران تستثمر وتستفيد من الأحداث لمصلحتها ولتحسين
صورتها في الخارج، يقول وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية وولد غريف
إن على بريطانيا أن تعيد تقويم علاقتها مع سورية وإيران في ضوء التحالفات
المتغيرة في الشرق الأوسط حيال أزمة الخليج (رويتر 26/8) .
مواقف بعض الإسلاميين:
أحزننا موقف بعض الإسلاميين من الأحداث [1]- رغم تحفظنا حول دقة ما
يُنقل عنهم - وذلك عندما أيدوا صدام حسين، بل صرح بعضهم بوجوب القتال معه، وهذا - بلا شك - مأساة سببها البعد عن المنهج الصحيح والوزن بميزان واحد،
ميزان الكتاب والسنة دون محاباة أو مجاملة لأي حاكم من الحكام، وهل صحيح أن
صدام غيَّر وبدل، مع أن موقفه من الدعاة والحركات الإسلامية واضح، ولم يتغير
شيء من مبادئ الحزب ومناهجه، وفي آخر مشروع للدستور الذي نشرته مجلة
(ألف باء) عدد 1140 في 10 من محرم عام 1411هـ - 1/8/1990م يقول في
المادة الخامسة: (يحظر على غير حزب البعث العربي الاشتراكي العمل السياسي
أو الحزبي في القوات المسلحة) . وفي المادة نفسها: (يحظر تأسيس الأحزاب
السياسية والجمعيات التى تقوم على أساس زجّ الدين في السياسة) .
كما جاء في المادة (15) من مبادئ الحزب: (الرابطة القومية هى الرابطة
الوحيدة القائمة في الدول العربية التى تكفل الانسجام بين المواطنين ... ) وفي المادة
(6) : (حزب البعث العربي الاشتراكى انقلابي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في القومية العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال، وأن الاعتماد على التطور البطىء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي يهددان
هذه الأهداف بالفشل والضياع) . وفي المادة (41) : (ترمي سياسة الحزب إلى خلق جيل عربي جديد يأخذ بالتفكير العلمي وطليق من قيود الخرافات والتقاليد الرجعية) (انظر: نضال حزب البعث لميشيل عفلق 1/170)
يتضح لنا من هذا أن:
1 - الانقلابات مبدأ من مبادئ الحزب.
2 - الرابطة الإسلامية لا قيمة لها وأن الدعوة إليها دعوة طائفية مذهبية.
3 - رفض ما يسمونه قيود الخرافات والتقاليد الرجعية، ويعنون بذلك تعاليم
الإسلام في شأن المرأة والحدود.
ثم هل يعتقد الدعاة أن صدام غزا الكويت بقصد إزالة حكم فاسد ليقيم بدلاً منه
الحكم الإسلامى ومن ثم من حقكم أن تؤيدوا، أم ليحقق طموحات حزبية شخصية؟ ، فمعرفة الهدف من الغزو والاحتلال تحدد الموقف الواجب وهل نربي شباب
الدعوة ليقاتلوا تحت راية هذا الطاغوت أو ذاك؟
لقاء مع صدام حسين:
سنختار مقتطفات من لقاء أجرته مجلة (الوطن العربي) - التابعة للنظام
البعثي - في عدد 668 الجمعة 1/12/1989 (قبل تسعة أشهر تقريباً) ليتضح
لهؤلاء مدى كذبه وتناقضه.
(أجرى الحوار رئيس التحرير وليد أبو ظهر) .
- الوطن العربي: ... وهناك إجراءات في بعض الدول العربية وفي المنطقة
العربية تزداد نبرة الإقليمية، ولم يبقَ غير العراق وغير صدام القومي العربي،
لذلك صرت تجد تيارات دينية، وقبل انتصار العراق كان الإنسان - كحركة وطنية
قومية - يخشى أن يتصدى للتيارات الدينية.
- صدام حسين (مقاطعاً) : تقصد التيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين؟ ! .
- الوطن العربي: نعم، سيادة الرئيس، الحركة الوطنية والقومية لديها الآن
شجاعة التصدي لهذه التيارات وربما تصل إلى المستوى المطلوب لكنها وصلت إلى
أن يقفوا ويتصدوا وبدأت بذلك رغم بعض الحالات كالانتخابات في الأردن مثلاً،
وأنا ذهبت إلى الأردن قبل الانتخابات وشاهدت الأجواء ولدى الإخوان المسلمين
هناك مستشفيات ومستوصفات لتطبيب الناس مجاناً.
- الرئيس صدام: من أين يأتون بالأموال لتطبيب الناس؟ هناك دول غير
قادرة على تطبيب مواطنيها؛ لأن ثمن التطبيب مرتفع.
ملخص الكلام السابق يريد رئيس التحرير أن يقول: إن وقوف العراق أمام
الزحف الإيراني هو انتصار للقومية العربية التى كادت تنتهي لولا ذلك الانتصار
(كما يزعم) ، مما أعطى القوميين شيئاً من النشوة والافتخار وجعلهم يتصدون
للتيارات الدينية (يقصد بالطبع الإسلامية) ، المنافس الوحيد له.
ويلاحظ من كلام صدام عدم القناعة بعلاقة الدين بالسياسة، ولذلك قال:
تقصد التيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين (أي التي تستغل الدين) ، وكذلك
استغرابه من الخدمات الخيرية التى تقدَّم للناس، وهذا الأمر غير مستغرب، فأهل
الخير المحسنين كثيرون والحمد لله، وربما يقصد الرئيس أن لهؤلاء علاقة بالقوى
الخارجية الرجعية على حسب تعبير الرفاق التقدميين.
- الوطن العربي: بعد مؤتمر الطائف كيف تجدون الحل في لبنان؟
- صدام: نحن ننظر إلى الاحتلال نظرة لا نستطيع إزاءها مساومة كائن من
يكون وهي أن كل احتلال لأرض عربية من العربي أو الأجنبي حالة كافرة، لأن
احتلال الجيش العربي لأرض عربية يهشم الأمن القومي العربي والتضامن العربي، وعندما يتهشم مفهوم الأمن العربي وإمكانياته عند ذلك تصبح كل بلداننا مفتوحة
أمام احتمالات أن يحتلها الأجنبي.. إلى أن يقول: نرى أن الحل الجذري يكمن في
انسحاب القوات المحتلة للبنان! .
تعليق: بإمكان منقذ الأمة العربية أن يطبق هذا الكلام على نفسه.
عبر من الأحداث:
على الدعاة أن يستفيدوا من الأحداث ويستغلوها لمصلحتهم، ويقطعوا الطريق
على أعداء الإسلام ولا يمكنوهم من تمرير مخططاتهم الخبيثة ويجب علينا أن لا
نيأس أو نتشاءم فلعل في هذه الأحداث خيراً لنا حين نأخذ منها العبر والدروس
ومنها:
1 - التأمل في سنن الله في المجتمعات والدول، فالحال التي وصلت إليها
الكويت تؤْذِن بشيء مما حدث، فلا نستهين بآثار الذنوب والمعاصي؛ يقول الله -
عز وجل -: [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] . ويقول الله - تعالى -: [وضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] [النحل: 112] . ويقول -
تعالى -: [أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ
القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] [الأعراف: 97-99] . ومن أعظم الذنوب تحكيم القوانين
الوضعية، وموالاة الكفار، والربا، والزنا، والظلم، وترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ... الخ.
2 - لابد من الاهتمام بالعقيدة والتوحيد وتربية الناس على ذلك، فقد كشفت
الأحداث ضعف التوكل على الله عند الكثيرين وشدة التعلق بالأسباب المادية،
وتعظيم الكفار والخوف والرجاء من غير الله.
3 - ضرورة الوعي وفقه الواقع؛ فقد ذكرنا قبل قليل تأييد بعض الدعاة
لصدام، وقبل ذلك أيد بعضهم الخميني وغيره فإلى متى هذا التخبط والتقلب على
حسب أحوال الطقس السياسي ودون النظر إلى الواقع وتقييمه من خلال الأصول
المرعية؟ !
4 - الحذر من تضليل وسائل الإعلام: فالجميع يعرف أن وسائل الإعلام
العربية صنعت من صدام بطلاً وتغاضت عن جرائمه المختلفة. مما جعل الكثيرين
يُعجبون به، فلو كشف الإعلام جرائم حزب البعث وجرائم صدام في حلبجة
وغيرها لما لقي التأييد الذي لقيه الآن.
5 - انكشاف بعض الأنظمة وسقوط شعارات القومية العربية، فقد أثبتت
الأحداث كذب دعوى القوميين حرصهم على الوحدة والأمن العربي فأفعالهم تدل
على نقيض ما يقولون فيجب أن يستفيد الدعاة من ذلك فيكشفوا للناس حقيقة هذه
الأنظمة والشعارات ويبينوا للناس أن الخلاص لهم بالإسلام وبالقيادات المسلمة
الواعية والصادقة.
وأخيراً نقول للمسلمين كفى تخبطاً وتعلقاً بغير الله ونقول للدعاة احرصوا على
الوحدة واجتنبوا الفرقة وكونوا على مستوى الأحداث؛ فالأمة تنتظر منكم الكثير.
نسأل الله عز وجل - أن يجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يرينا الحق
حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجمع كلمة
المسلمين على الحق وأن يحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ودنيانا التى فيها
معاشنا وأن يرفع عن المسلمين محنتهم ويرزقهم الصبر والاحتساب، ويرزقنا
وإياهم التوبة النصوح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) يُستثنى من ذلك الذين طالبوا بانسحاب العراق من الكويت كما رفضوا في الوقت نفسه التدخل الأجنبي.(32/65)
الإسلام والمسلمون في السنغال
من الإخوة الذين اشتركوا في دورة العلوم الشرعية التي نظمها المنتدى
الإسلامي الأخ محمد بامبان جاي، وقد انتهزنا فرصة وجوده وأجرينا معه هذه
المقابلة التي تلقي الضوء على بلد من البلاد الإسلامية في إفريقية، وهو (السنغال) .
س - أخ محمد هل لك أن تعطينا فكرة عن السنغال من حيث سكانها، موقعها، مواردها الاقتصادية؟
ج - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد:
السنغال دولة من دول إفريقية الغربية، يحدها شمالاً جمهورية موريتانيا
الإسلامية، وجنوباً جمهورية غينيا بيساو، وشرقاً جمهورية مالي وغينيا، وغرباً
المحيط الأطلسي، ومساحة البلاد 192 ألف كيلو متر مربع، ونالت استقلالها عام
1960م وكانت مستعمرة فرنسية، أما نسبة المسلمين حسب الإحصائيات التي
أقيمت عام 1980م فقد بلغت حالياً 94% ويمثل المسيحيون 4% والوثنيون - الذين
هم أناس يسكنون في إقليمي تامباكوندا في شرقي السنغال وكازموسن في الجنوب -
ويمثلون 2% وهم أناس مازالوا على فطرتهم!
أما الثروات فالسنغال بلد زراعي يعتمد حوالي 80% من السكان على الزراعة
وتربية المواشي وأدى هذا إلى بعض المشاكل؛ لأن البلاد تتعرض للجفاف منذ ما
يزيد عن عشرة أعوام، وهناك ثروات معدنية بسيطة مثل الفوسفات، وتم اكتشاف
البترول ولم يستغل بعد وهو نفط بحري في حدودها مع غينيا بيساو، ومازالت هذه
المنطقة النفطية موقع نزاع بين السنغال وغينيا بيساو حالياً، وهنائى الحديد في
شرق السنغال وقد اكتشف حديثاً ولم يستغل بعد، وكذا الذهب في نفس الأقاليم في
الشرق، والسنغال من الدول التي تنتج السمك بكثرة، لأنها تقع على المحيط
الأطلسي، وفيها ما يزيد على ثلاثة أنهر: نهر السنغال، ونهر كامبيا، ونهر
كازلماس، أما المحاصيل الزراعية الرئيسية فالفول السوداني ثم الذرة والحبوب.
س - متى دخل الإسلام إلى السنغال أو متى دخل أهلها في الإسلام وعلى يد
مَن؟
ج - القول المعتمد الذي عليه براهين وأدلة تاريخية هو أن الإسلام دخل
السنغال على يد المرابطين مع حركة عبد الله بن ياسين وذلك في القرن التاسع
الهجري وربما هذا له دلالات كثيرة جداً، وهناك شيوخ تعلموا على أيديهم واعتنقوا
الدين الإسلامى، وهم أيضاً بدأوا حركة في (فُتا) ثم بعد عبد الله بن ياسين وحركته
بدأ بعض السنغاليين يروجون للدين الإسلامي في باقي أرجاء الوطن منهم الحاج
عمر الفوتي والحاج مالكسي الذين كانوا ينشرون الدين في ربوع البلاد..
ولما دخل الاستعمار الفرنسي السنغال كانت السنغال دولة مسلمة، والأكثر من
ذلك هناك أدلة تاريخية تقول: كان هناك دولة إسلامية في فُتا في القرن السابع عشر
عند مجئ الفرنسيين (وهذا غير بعيد عن الصواب) ، الفرنسيون لما جاءوا حاربوا
بعض الملوك الوثنيين في منطقة جلق في قلب البلاد وفي كايور وكانت شبه دويلات
صغيرة أما باقي البلاد فكانت تحت أيدي شيوخ مسلمين يحكمون مناطقهم بالشريعة
الإسلامية، ومن هذه المناطق (فتا) وكان فيها الشيخ سليمان بعل وإلى الآن توجد
مخطوطاته وكان يحكم البلاد في كل الجوانب الإدارية ولما قتله الفرنسيون عينوا
الشيخ (عبد القادر كان) وكان آخر شيخ، وكانوا يطلقون اسم الإمام على الشيخ الذي
كان يدير البلاد مثل الإمام سليمان بعل والإمام عبد القادر كان. والشيوخ تعلموا في
السنغال وهناك مراكز علمية تعتبر بمثابة جامعات، والدليل على رسوخ الدين
الإسلامي في البلاد أن أكثرها كانت تدرّس اللغة العربية، وإذا اطلعنا على اللغات
القومية الموجودة في السنغال نجد الكثير من المفردات المستعملة مشتقة من اللغة
العربية، ومن هذه اللغات اللغة الوُلوفية نأخذ مثالاً أيام الأسبوع، اسمها كلها عربية
ماعدا يوم الأحد ويسمى بيير، أما باقي الأيام: السبت: السبت، الاثنين: تنين،
الثلاثاء: ثلاثة، الأربعاء: أربع، الخميس: الخمس، الجمعة: الجُمع، وكان
الفرنسي أثناء الاحتلال مجبراً على استعمال اللغة العربية في الدواوين، وكانت
السنغال مدخلاً للصحراء إلى مالي وكانت مركزاً ويسمونها غرب إفريقية الفرنسية،
وكانت تسمى كذلك السودان الغربي الفرنسي.
س - أثناء وجود الاستعمار الطويل هل ظهرت حركات مضادة للاستعمار؟
أو حركات إسلامية يقودها علماء؟
ج - الحركات بدأت قبل دخول الاستعمار، إن دولة الإمامية في فُتا كان على
رأسها شيوخ وعلماء قاوموا الفرنسيين أشد المقاومة في أواخر القرن التاسع عشر،
فالحاج عمر الفوتي قاوم الفرنسيين مدة 8 سنوات ثم توفي مقتولاً على أيديهم،
وحركة الشيخ (أحمد بادئ خُبا) وهو عالم مسلم يقود أشد حركة لمقاومة الفرنسيين
(10 سنوات) ، والفرنسيون اعترفوا بذلك وبعد ذلك قضوا عليه بعد محالفات
عقدوها مع الملوك الوثنيين في عام 1886) وكذلك ما يسمى (تمرد العلماء) عام
1905 م حيث قام كثير من العلماء وعلى رأسهم (عثمان جُمكة) بحركة تمرد ضد
الفرنسيين حيث جهزوا أنفسهم لعدة أشهر دون أن يعلم الفرنسيون ذلك وشنوا ثورة
عنيفة ضد الفرنسيين دامت 5 أشهر فقط، وكانوا يقولون صراحة إنهم يحاربون
الكفرة لإخراجهم من بلاد المسلمين، وكان قمع هذه الحركة شديداً جداً؛ حيث إن
الشيخ عثمان جمكة قُتل ليكون عبرة للذين يأتون من بعده.
ومن الذين قاموا بالمقاومة ضد الفرنسيين الشيخ محمد بَمبا الذي نُفي إلى
غابون. وكذلك شيوخ آخرون استمروا في المقاومة حتى عام 1920 وقد اضطر
المستعمر الفرنسي لإقامة مدرسة للقضاة والمترجمين، تهدف إلى تربية أولاد هؤلاء
الشيوخ، وفي ذلك يقول الحاكم الفرنسي للسنغال آنذاك مبيناً الهدف من هذه المدرسة:
(لابد أن نوجد لهم مدرسة نكوِّن فيها أبناءهم ونفسر لهم فيها القرآن تفسيراً لا
يتنافى مع الحكم الفرنسي، ونعلمهم فيها الفقه تعليماً لا يكون منافياً مع ما تريده
الإدارة الفرنسية) . وقد لعبت هذه المدرسة دوراً مهماً في هذا المجال وبعد ذلك
أخذوا أولاد الشيوخ والعلماء الذين حاربوا آباءهم إلى باريس لتلقِّي العلم الغربى،
وبعد عودتهم هادنوا المستعمر وبدأت المقاومة تهدأ شيئاً فشيئاً.
س - ما هي الحركات السياسية الموجودة في السنغال. ويلاحظ المرء كثرة
المنظمات الشيوعية، وليس بينها أحزاب أو جماعات تقابلها من المسلمين هل هذا
صحيح أم أن هناك جماعات تتصدى لهؤلاء؟
ج - حالياً يوجد 17 حزباً سياسياً وأكثرها شيوعي، ماعدا الحزب الاشتراكي
الحاكم، وهو ليس حزباً شيوعياً، وحزب المحافظين وحزب العمال، والدستور
السنغالي ينص في بنده الثالث على أنه من الممنوع منعاً باتاً تكوين أي حزب على
أساس ديني..
وهناك جماعات تتصدى لهؤلاء الأحزاب مثل حركة الفلاح للثقافة الإسلامية
السلفية وهي حركة كبيرة جداً، وجماعة عباد الرحمن وهاتان الحركتان لعبتا دوراً
كبيراً في التصدي لمواجهة الشيوعيين والعلمانيين وكان البعض يتساءل: هل
السنغال يحتاج حقيقة إلى حزب إسلامي نظراً لأن الجماعتين لهما حرية التصدي
والتحرك. وهناك مجلة تصدر باللغة الفرنسية وتُقرأ بها مقالات سياسية بحتة،
وهناك في كل أسبوع على الأقل محاضرة كبيرة علنية بالفرنسية أو باللغات المحلية
أو باللغة العربية.
وبالجملة فإن هذه الحركات الإسلامية غير المرخص بها تقوم بنشاط ملموس
وتتصدى لكثير من المشاكل التى يثيرها العلمانيون اللادينيون، وتهاجم برامج
العلمانيين المتعارضة مع الإسلام مما يضطر الدولة بين وقت وآخر أن تصدر
بيانات تحذيرية لهذه الحركات والجماعات كي لا تتدخل في السياسة ولا تهاجم
العلمانية المنصوص على وجوب احترامها في البند الأول للدستور. ومع هذا فإن
الضغط لإزالة العلمانية من الدستور يزداد يوماً بعد يوم، وبعد أن كانت مبدأً متفقاً
عليه في السابق أصبحت الآن تهاجَم من جهات كثيرة من الشعب وزال ما كان لها
من هالة وتهويل.
س - ألم تؤثر أحداث أوربا الشرقية على الشيوعيين والتيار اليساري؟
ج - أثرت وأصبح الشيوعيون يعيشون أزمة، وحدث في الأيام الأخيرة أن
أستاذاً للفلسفة ينتمي إلى حزب الرابطة الديمقراطية - وهو أكبر حزب شيوعي في
السنغال - وله نشاط وسيطرة في المجال التعليمي والتربوي هذا الأستاذ تكلم في
درس له بكلام غير لائق بحق الله - تعالى - وبحق الرسول -صلى الله عليه
وسلم- فتصدى له أحد الطلبة وثار بينهما نقاش أدى إلى الضرب، ثم رُفعت القضية
إلى مجلس الجامعة فطرد الطالب فحدث على إثر ذلك ضجة كبيرة جداً تضامناً مع
هذا الطالب، وعقدت محاضرات وأرسلت احتجاجات إلى رئيس الدولة وإلى
البرلمان، وكانت نتيجة لذلك أن أعيد الطالب إلى الدراسة ونُقل الأستاذ، وألفت
لجنة لإعادة النظر في مناهج الفلسفة التى كانت منبراً للمهاجمين للإسلام في
المدارس.
س - لا شك أن هناك مشاكل وصراعات ما بين المسلمين أنفسهم،
وخصوصاً نحن نعلم أن الصوفية لها جذورها في إفريقية، وأن الصوفية من خلال
تاريخها دائماً ترتبط بالحكومات التي تعاصرها، فهل هناك مثلاً ضغوط من
الصوفية على الناس الذين يحبون أن تكون الدولة ذات توجه إسلامي؟
ج - نعم هناك ضغوط كبيرة خاصة في السنوات الماضية، السنغال يتميز
بكثرة الطرق الصوفية، وهي كثيرة وربما لا يعرفها العالم الإسلامى لأنها سنغالية
المنشأ، وعادة رؤساء الطرق يشجَّعون من قبل الدولة ويدعمون بالمال الذي
يوزعونه على مريديهم، ويحضر المسؤولون الاحتفالات التى يقومون بها، فيعبر
مشايخ الطرق عن ولائهم للدولة وموافقتهم على مواقفها السياسية، وتحاول الدولة
تشجيع هؤلاء ودعمهم لأنهم بديل مأمون ولا خطر منهم، بعكس دعاة الإسلام الذين
عندهم تجرد وإخلاص وعلم شرعي صحيح فإن الدولة تضغط عليهم وتحاول عزلهم
بكل الوسائل.
ومع هذا فإن زعماء الطرق الصوفية قد تضاءل أثرهم عن السابق، وذلك لأن
نسبة الوعي قد ازدادت نسبياً بين الأتباع (وإن هى لم تصبح كاملة ومثالية) حتى أن
من زعمائهم من يشارك في التجمعات الإسلامية غير الصوفية ويحرص على
الظهور فيها حتى لا يجرفه تيار النسيان ويسحب البساط من تحت قدميه مثل زعيم
الطائفة التيجانية الشيخ عبد العزيز سي.
س -ما هو حجم الحركات التي تنتهج منهج أهل السنة؟
ج - هناك حركة الفلاح السلفية للثقافة الإسلامية، وقد أنشئت قبل الاستقلال
من قبل الشيخ محمود يار - رحمه الله - وقد كانت محدودة إلى الثمانينات ثم
انتشرت وأصبح لها فروع في فولتا العليا ومالي وموريتانيا وغينيا، وفي السنغال
لها فروع في جميع الأقاليم ولها فرع للشباب وآخر للنساء.
وهناك حركة عباد الرحمن وهي حركة جديدة، ومؤسسوها تربوا في حركة
الفلاح وهم من المثقفين والمعلمين. وعلى كل حال فإن أكثرية الشعب السنغالي لا
تفرق بين حركة الفلاح وحركة عباد الرحمن.
س - ماذا عن موقف رئيس الدولة من الإسلام؟
ج - كما تعلمون فإن ليوبولد سنغور هو الذي عين الرئيس الحالي،
وليوبولد سنغور محب لفرنسا حتى العبادة، وإن كانت أصوله إسلامية، لكن فرنسا
احتضنته ونصَّرته منذ صغره وعملت على شهرته، وفي أوائل الثمانينات بدأ
الشعب يتململ وبدأ يطرح مشكلة دين الرئيس ومشكلة إيجاد وزارة مستقلة للأوقاف
الإسلامية، فما كان من سنغور إلا أن عين (عبدو ضيوف) وهو مسلم وزوجته
مسيحية متعصبة تربت في المدارس الكنسية.
ومع أن الشعب أيده - لأنه مسلم - لكنه عمل أعمالاً لم يكن سنغور يجرؤ
على القيام بها، فقد تلاعب في قانون الأحوال الشخصية، وكما هو جارٍ في كثير
من البلاد الإسلامية فإن كثيراً من الأمور لم يكن يجرؤ المستعمرون على القيام بها
قام بها أناس من بَنِي جلدتنا.
س - في العالم الإسلامي اليوم حركات باطنية لها نشاط واسع ومحموم مثل
البهائية والقاديانية والرافضة ... فهل لهذه الحركات وجود في السنغال؟
ج - السنغال يعاني من نشاط الحركات الباطنية؛ فالماسونية منتشرة منذ القدم، وقد شن أهل السنغال حملة قوية ضد الماسونية التي كان لها مراكزها
ومستوصفاتها فحلت محلها الكنيسة في إدارة هذه المراكز؛ مما يدل على التعاون
والتنسيق بين الكنيسة والماسونية.
أما الرافضة فأثرهم في صفوف أهل السنغال ضئيل وينحصر نشاطهم ضمن
الطائفة اللبنانية، وقد ازداد نشاطهم بعد ثورة الخميني تجاه الشعب السنغالي ففتحوا
المدارس، ووزعوا المطبوعات الإيرانية، وكذلك الدعوات وتذاكر السفر لزعماء
الصوفية ولبعض الشباب للذهاب إلى إيران.
ونتيجة لوعي المسلمين هناك فإن نشاط الشيعة انحسر، والسفارة الإيرانية لم
تعد توزع مطبوعات إيران كما كان الحال سابقاً.
س - هل انعكس الخلاف بين الموريتانيين والسنغاليين على واقع السنغال؟
ج - الانعكاس واضح في المجال الاقتصادي في كلا البلدين، وكذلك في
مجال العلاقات حصلت أشياء سلبية، وقد كانت هناك أصوات خبيثة تحرض كلاً
من الشعبين ضد الآخر، وقد لعبت فرنسا دوراً لا يستهان به في ذلك عن طريق
نشر الأخبار والتهويل فيها، وقد بدا في حمى الأزمة أن الحكومة عاجزة عن فعل
شيء، ولكن من حسن الحظ أن تلك الأزمة حصلت في شهر رمضان فاستغل
الإسلاميون هذه المناسبة واستنكروا ميل الشعب إلى الانتقام سواء في موريتانيا أو
في السنغال، وسرعان ما هدأت الأمور بعد هذا الدور الذي قامت به جماعتا الفلاح
وعباد الرحمن في كلا البلدين. وصاروا يجتمعون في غامبيا - وهي داخل السنغال
- ويمكن لكل من الموريتاني والسنغالي أن يدخلها وتألفت لجنة مشتركة وأصبحت
تجتمع لإيجاد الحلول لهذه المشكلة المؤسفة.
ختاماً لهذه المقابلة تتقدم مجلة (البيان) بالشكر للأخ الكريم محمد بامبان جاي
على هذه المعلومات التي أدلى بها لنا عن السنغال.(32/73)
ركن الأسرة
رسالة إلى الأخت المسلمة
أشرف شعبان
إليك يا أختى المسلمة أخط بضع كلمات هي إلى العظة والتذكير أقرب منها
إلى النصح فإن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فاعلمي أنك
على ثغر من ثغور الإسلام ألا وهو الأسرة المسلمة وتربية أطفالها فلا يصح أن
يُؤتَى من قِبلك، فارتداؤك الحجاب الإسلامي الفضفاض وغير الشفاف وما يتبعه من
خمار لا يعني نهاية الطريق بل هو بدايته، به تعلنين أمام الملأ انضمامك للصف
الإسلامي وتمسكك بتعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه والتزامك به في سلوكياتك
وتصرفاتك أمام أهلك وأمام المجتمع.
ولتعلمي يا أختي أن المحن والابتلاءات ستدور عليك وحولك: ستخيَّرين بين
من يقدم لك متاع الدنيا وبين من لا يملك سوى دينه يريدك زوجة له، فتذكري
حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه
فزوجوه» ولك في نساء الصحابة أسوة حسنة حين أتم رسول الله زواج إحداهن
بمهر وقدره خاتم من حديد أو بما حفظ من آيات القرآن الكريم.
وتُمتحنين في أقرب الناس إليك: زوجك أو ابنك، فقد يجبر أحدهما أو
كلاهما على الرحيل من بلده فراراً بدينه أو للجهاد في سبيله هنا وهناك، فلا
تحزني فالدنيا مهما طالت أيامها معدودة وقصيرة وستلتقين بهما لتنضموا سوياً إما
بالنصر أو النعيم في الجنة وهذا هو الإسلام وذروة سنامه، ستتذوقين شظف العيش
ويخلو بيتك من الملذات فتذكري أن بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يمضي عليه ثلاثة شهور دون أن تشعل فيه نار، فلا تترددي أو تضعفي يا أختي
أمام المحن والابتلاءات فكلما ازداد إيمان الفرد اشتد بلاؤه، وتذكري حديث رسول
الله «إن أشد الناس ابتلاءً هم الأنبياء ثم الصالحون» وكل ابتلاء يثاب عليه
المؤمن في جسده أو ماله أو ولده ليخرجه من الدنيا كما ولدته أمه بلا ذنوب واعلمي
أن حياتك الدنيا ما هي إلا دار ابتلاء وامتحان، فمن صبر وشكر فهو مع الذين أنعم
الله عليهم من الصديقين والشهداء في جنة الخلد عند مليك مقتدر. جعلنا الله وإياك
من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(32/82)
تربية
جوانب من البناء العقَدي للطفل المسلم
خولة درويش
تعويد الأطفال حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره:
على الوالدين وموجهي الأطفال أن يغرسوا حب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في نفوس الناشئة، فحب رسول الله من حب الله - جل وعلا - ولا يكون
المرء مؤمناً إلا بحب الله ورسوله.
عن أنس - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» [1] .
وعلينا أن نُفهم الطفل بعض الشمائل الطيبة، نقتبسها من السيرة النبوية، من
صفاته -صلى الله عليه وسلم- مثل: الرحمة بالصغار، وبالحيوان وبالخدم ...
وأن نحكي له بعض القصص المحببة في هذا الشأن من سيرته - عليه الصلاة
والسلام -، ومن سيرة أصحابه الكرام، وذلك حتى يتخلق بخلق رسول الله،
فيرحم الصغار والضعاف، ولا يؤذي الحيوان.
ونغرس في نفوس أطفالنا خلال سردنا لمواقف من سيرة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- أثر تطبيق الدين في السلوك والخلق والعبادة ... فتتأثر نفوسهم،
وتتفاعل قلوبهم بحب الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحب رسالته، وفي ذلك
المغفرة وجنات النعيم [قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [آل عمران: 31] .
وعلى المربي أن يعلّم الأطفال الصلوات الإبراهيمية وأن يحفظوها إن أطاقوا
ذلك، فالصلاة على النبي ترفع الدرجات، وتضمن شفاعة المصطفى -صلى الله
عليه وسلم-[إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [الأحزاب: 56] وأنه خاب وخسر من إذا ذكر عنده لم يصلِّ عليه. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الإيمان بالملائكة:
الملائكة جند الله، يأتمرون بأمره ولا يعصونه.. إن في العالم مخلوقات كثيرة
لا نعرفها، يعلمها خالقها - جل وعلا - ومن بينها الملائكة ... بهذه الصورة يمكن
أن نتحدث عن هذا الركن الإيماني الغيبي أمام الأطفال، ونضيف لهم: إن أعمال
الملائكة كثيرة نستشفها من بعض الآيات الكريمة، ومن ذلك حفظ الإنسان [إن كُلُّ
نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ] [الطارق: 4] . وكتابة ما يعمله في حياته [مَا يَلْفِظُ مِن
قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] [ق: 18] .
وكم يسعد الأطفال عندما تجمعهم أمهم، لتحدثهم عن الجنة ونعيمها، والملائكة
فيها، إذ تبشر المؤمنين كقوله - تعالى -: [إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
(30) نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ولَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ ولَكُمْ
فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ
وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 30-33] .
فالأم بذلك تستفيد من صفات طفولة أبنائها، في خدمة عقيدتها، ويجددون
مرضاة الله (تعالى) .
فبدلاً من إرضاء الخيال النامي عندهم بقصص خرافية، وأساطير وهمية، قد
لا تجلب لهم إلا العنف، والبعد عن الواقعية.. نكون بذلك قد تعاملنا مع طفولتهم
بما يرتضيه الشرع الحنيف.. على أن لا يكون في هذا شطط ولا غلو، إن الغلو
في أي شيء إفراط قد يؤدي إلى خلاف ما يقصد المربي.
وينبغى ألا يثبّت المربون صورة خاطئة في عقول الأطفال عن شكل الملائكة
مثلاً.. ولاسيما أن أكثر وسائل الإعلام تصور الملائكة بأشكال معينة لها أجنحة،
وتصور الشيطان بأن له قروناً.. وذلك حتى لاتثبت هذه الصورة الخاطئة في نفس
الطفل.
عدم التركيز على الخوف الشديد من النار:
إن الطفل ذو نفس مرهفة شفافة، فلا ينبغي تخويفه ولا ترويعه، لأن نفسه
تتأثر تأثراً عكسياً.. يمكن للمربي أن يمر على قضية جهنم مراً خفيفاً رفيقاً أمام
الأطفال، دون التركيز المستمر على التخويف من النار، ظناً منه أن هذه وسيلة
تربوية ناجعة..
أخرج الحاكم والبيهقي عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن فتى من
الأنصار دخلته خشية الله، فكان يبكي عند ذكر النار، حتى حبسه ذلك في البيت،
فذُكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه في البيت، فلما دخل عليه
اعتنقه النبي، وخر ميتاً فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «جهِّزوا صاحبكم
فإن الفَرَق فَلَذَ كبده! [2] .
إن الفقه في دين الله هو ألا يقنط الناس من رحمة الله وألا يستهينوا بمعاصيه. فعن علي - رضى الله عنه - قال: ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط
الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم مكر الله، ولم
يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا خير في
فقه ليس فيه تفهم " [3] .
الإيمان بالقدر:
وعلينا أن نزرع في نفس الطفل عقيدة الإيمان بالقدر منذ صغره، فيفهم أن
عمره محدود، وأن الرزق مقدر ولذلك فلا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا به، وأن
الناس لا يستطيعون أن يغيروا ما قدره الله - سبحانه وتعالى - ضراً ولا نفعاً، قال
- تعالى -: [قُل لَّن يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] [التوبة: 51] .
أما كيف يتم ذلك؟ فمن خلال انتهاز الفرص المناسبة، ولعل أبرز الظواهر
التي تلفت نظر الأطفال في هذا المجال: ظاهرة الموت، فهم قد يتقبلونه تقبلاً
معتدلاً، وذلك في ظل أسرة لا تبدي جزعها من الموت، وتُشعر الأطفال -
وببساطة - أن من ينتهي عمره يموت. أما إن شعر الأطفال - بطريقة ما - أن
الموت عقوبة وذلك من خلال التعليق على موت أحد الناس: (والله إنه لا يستأهل
هذا الموت) ! كما تقول بعضهن في لحظة انفعال، نسأل الله المغفرة والهداية، وكذا إن هددت الأم طفلها بالضرب والتمويت؛ فيزرع في ذهنه أن الموت عقوبة وليس نهاية طبيعية ومنتظرة للجميع مما يجعلهم يجزعون منه مستقبلاً، وهذا ما يتنافى مع عقيدة الإيمان بالقدر.
وكذا بالنسبة للرزق: جميل بالمربية أن تتعمد أمام طفلها حمد الله - تعالى -
على ما أعطى من الرزق، فذلك يرسخ في ذهنه أن المال مال الله والخير كله منه.. وإن قال لها مستنكراً: إلا أن المال من مكان (كذا) لمكان عمل والده - فهي ...
الفرصة لأن تغرس في نفسه، لأنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتائج
بحسب السنة الجارية.. ومن ثم يحس بوجوده الذاتي ويعمل، دون أن يفتن بنفسه
ولا بعمله، ودون أن يفتن بالأسباب [4] .
وإن اتخاذ الأسباب مع الإيمان بالقدر - يجعل من المسلم إنساناً مقداماً لا
يخشى إلا الله، كريماً لا يخاف على نفسه الفقر، صبوراً لا يهلع أمام كل مصيبة
مادامت مقدَّرة.
فهذا المعتقد: يُحدث في حسن المؤمن توازناً جميلاً رائعاً، يعينه على القيام
بدور الخلافة الراشدة في الأرض، ويجعله يعمل في الأرض وقلبه متطلع إلى الله
في السماء.
إنه يتخذ الأسباب عبادة لله، وانطلاقاً مع سنة الله الجارية، ويحس في الوقت
ذاته أن النتيجة التي وصل إليها هي قدر قدَّره الله، وليست حصيلة أسبابه التي
اتخذها، وأن الأسباب لا تؤدي بذاتها أداءً حتمياً إلى النتيجة إنما تؤدي إلى النتيجة
بقدر من الله.
فهذه المعاني تدفع الطفل إلى عدم التخاذل، فلا يداهن ولا يراوغ، لأنه قد
حُصِّن بقوة العقيدة، ولا يمكن أن ينحني رأسه أمام مغريات الدنيا، ولا إرهاب
المتجبرين؛ لأنه اعتاد أن ينحني ويسجد لله فقط.
فمن هؤلاء الأطفال الذين نغرس في نفوسهم هذه المعاني - معاني العقيدة -
سيكون خط التغيير نحو منهج الله بإذن الله، من المنازل ومن رياض الأطفال سوف
تصحح المفاهيم، فليتقِ الله أولياء الأمور في هذه المدارس، وفي تلك المنازل،
وليعلموا عظم المسؤولية وليؤدوا الأمانة بصدق وإخلاص، ليربطوا عقيدة الناشئة
بعقيدة السلف.
__________
(1) متفق عليه.
(2) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي من طريقه عن سهل بن سعد وانظر: " حياة الصحابة "، 2/618، والفرق: الخوف، فلذ: قطع.
(3) حياة الصحابة: 3/210.
(4) مفاهيم يجب أن تصحح: محمد قطب، 276.
(5) مفاهيم يحب أن تصحح: فصل مفهوم القضاء والقدر، ص77.(32/83)
قراءة في كتاب
جراحة التجميل
بين التشريع الإسلامي والواقع المعاصر
عرض وتلخيص:محمد وهدان
انتشرت جراحة التجميل في كل دول العالم خلال السنوات العشر الماضية..
وهي عمليات جراحية صغيرة أو كبيرة يراد منها إما علاج عيوب خَلْقية تتسبب في
إيذاء صاحبها بدنياً أو نفسياً، وإما تحسين شيء من الخلقة بحثاً عن جوانب من
الجمال أكثر من الموجود أو بدلاً عن المفقود.
وقد كثر هذا اللون من ألوان التجميل في أيامنا هذه، وفي واقعنا الذي نعيشه، وتخصص له أناس، قصروا أنفسهم عليه، ووفروا وقتهم للتفنن فيه كما أصبح له
أقسام في كثير من كليات ومعاهد الطب، وعيادات لكبار الجراحين للاهتمام به
تدريباً ومزاولة.
كما أن أجهزة الإعلام في كثير من الدول تلهب النساء بسياط التشجيع
والترغيب في هذا اللون من التجمل بنوعيه، وإذا كان الواقع الإنساني المعاصر
يتقبل بصدر مفتوح كل ما يثير فيه الغرائز، وينمّي لديه الشهوات، فإن التشريع
الإسلامى يختلف عن ذلك كلية.
وكتاب (جراحة التجميل بين التشريع الإسلامي والواقع المعاصر) يعالج هذه
القضية، ويطرح وجهة نظر الدين الإسلامي.. من خلال آيات القرآن الكريم،
وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة السلف الصالح (رضوان الله
عليهم) .
وبرغم أن الكتاب من الحجم الصغير، ولا تزيد صفحاته عن 48 صفحة إلا
أن مؤلفه الدكتور عبد الحي الفرماوي الأستاذ بجامعة الأزهر وفَّى الموضوع حقه
من البحث والدراسة.
يقول الدكتور الفرماوي: يفرق الإسلام بين عمليات التجميل، ويفارق بين
موقفه منها حسب التفريق إلى قسمين:
الأول: الجراحات التجميلية التى تعالج عيباً في الإنسان - امرأة كانت أو
رجلاً - يتسبب في إيذائه نفسياً أو بدنياً، ويصاحبه كذلك إن لم يعالَج ألم شديد، لا
يستطيع صاحبه تحمله، كما قد يتسبب في إعاقته عن أداء وظيفته، أو كمال قيامه
بها.
ولأن التشريع الإسلامي لا يهدف إلى تعذيب الناس أو حرمانهم مما يحقق لهم
فائدة، تمكّنهم من النجاح في حياتهم، وتعينهم على تحقيق إنسانيتهم دونما إطلاق
لعِنَان فوضى الغرائز، ودونما إماتة لفطرة الأنوثة التي خلقها المشرع سبحانه في
المرأة - فقد أباح هذا النوع من عمليات التجميل.
الثاني: الجراحات التجميلية التي لا تعالج عيباً في المرأة، يؤلمها ويؤذيها،
بل يكون الدافع لذلك مجرد " جاذبية الرجال "، وهذا النوع: يحرم الإسلام منه
القليل والبسيط، ويحرم من باب الأوْلى: الكثير منه والمعقد.
ويدلل الدكتور الفرماوي على ذلك بما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن
مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات،
والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم
يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت
الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن.. المغيرات خلق الله؟
فقال عبد الله: وما لي لا ألعن مَن لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في
كتاب الله! فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال: لئن
كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله - تعالى -: [ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُوا] [الحشر: 7] ، فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك
الآن، قال: اذهبي فانظري. قال - أي الراوي -: فدخلت على امرأة عبد الله،
فلم تَرَ شيئاً، فجاءت إليه، فقالت: ما رأيت شيئاً، فقال: أَمَا لو كان ذلك لم
نجامعها» .
التحدي:
ويعلق الدكتور عبد الحي الفرماوي على الحديث السابق ويقول: فهذا عبد الله
بن مسعود، الصحابى الجليل المتوفى سنة 32 هجرية (653 ميلادية) تتحداه أم
يعقوب في بيته - كما رأينا - حتى تتأكد من براءته من الوقوع فيما حكم بحرمته،
ونهى عنه.
وقد أخرج الطبراني هذا الحديث وزاد في آخره - كما يقول ابن حجر في فتح
الباري - فقال عبد الله: ما حفظت وصية شعيب إذاً، يعني قوله - تعالى - حكاية
عن شعيب - عليه السلام -[ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ]
[هود: 88] .
ويقول الدكتور الفرماوي:
إن الإمام الطبري قال: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التى خلقها الله
عليها، بزيادة أو نقص، التماساً للحسن، لا للزوج ولا لغيره، كمن تكون مقرونة
الحاجبين فتزيل ما بينهما، توهم البلج (حسن الطلعة) ومن تكون: لها سن زائدة
فتقلعها، أو طويلة فتقطع منها، أو لحية، أو شارب أو عنفقة [1] ، فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيراً أو حقيراً فتطوله أو تغرزه بشعر غيرها، فكل ذلك
داخل في النهي، وهو من تغيير خلق الله.
ثم يقول: (ويستثنى من ذلك: ما يحصل به الضرر والأذية، كمن تكون لها
سن زائدة أو طويلة، تعوقها في الأكل، أو إصبع زائدة تؤذيها وتؤلمها فيجوز ذلك) . ...
ويشير المؤلف إلى ما يلي:
يرى الإمام النووي المتوفى سنة 676 هجرية (1277م) أنه إذا نبت للمرأة
لحية أو شارب أو عنفقة، فلا يحرم إزالتها، بل يستحب.
يعقب ابن حجر المتوفى سنة 852 هجرية (1448م) على ما يراه النووي
بقوله: وإطلاقه مقيد بإذن الزوج، وعلمه، وإلا فمتى خلا عن ذلك مُنع للتدليس
ويقول في موضع آخر من فتح الباري: المذمومة من فعلت ذلك -أي عمليات
التجميل - لأجل الحسن، فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلاً جاز..
يقول بعض الحنابلة: يجوز للمرأة الحف والتحمير، والنقش، والتطريف إذا
كان بإذن الزوج لأنه من الزينة.
لماذا.. لماذا؟ :
قد يعترض البعض من الناس ويتساءلون: لماذا كان موقف التشريع الإسلامي
على نحو ما سبق ذكره؟ ولِمَ لا يترك للناس الحرية في مثل هذه الأمور الشخصية؟.
ويرد المؤلف على هؤلاء قائلاً: ونحن نخاف عليهم ونرجو لهم الخير، قال
الإمام الخطابي: إنما ورد الوعيد الشديد في هذه الأشياء لما فيها من الغش والخداع، ولو رُخص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش، ولما
فيها من تغيير الخلقة.
كما يضاف إلى ذلك: أن فتح الباب للنساء - في هذه المبالغات - يؤدي إلى
ارتمائهن في أحضان الغرائز الشهوانية والبعد تدريجياً عن رسالتهن الإنسانية، التى
خُلقن لأجلها، والانغماس في فضول الأعمال التى هي إلهاء عن الواجب الأساسي
وهو عبادة الله - تعالى - بل عن الإيمان نفسه وبالضرورة: عن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
وهنا يفقد الإنسان (خيريته) التي خصه الله - تعالى بها - والتى تؤهله لقيادة
هذا العالم الذي يتخبط ويقاسي من الحروب ويحاط بالرعب، والذي هو في أمس
الحاجة إلى قيادة حكيمة، عاقلة، راشدة.
ولن تكون هذه القيادة للعالم إلا بتوجيه ممن خلق هذا العالم نفسه أو بإرشاد
منه، وبالتزام لمنهجه، وتعاليمه ولا يتوافر كل ذلك أو بعض ذلك إلا في أمة محمد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويمضي الدكتور الفرماوي قائلاً: أنه لو عمَّت هذه العمليات لكان الاعتراض
الدائم على ما خلق الله -سبحانه وتعالى - والانشغال بتغييره عن الوظائف الحقيقية، والمهام الأساسية التي نيطت بالإنسان في هذا الكون، ولصرفت المرأة بها عن
الرغبة في الإنجاب، ولو أنجبت لصرفت عن التنشئة والتربية، حتى لا يحرمها
هذا الإنجاب من الجمال أو تصرفها التنشئة وتشغلها عنه.
ولهذا فقد حرم الإسلام هذا النوع من عمليات التجميل، وليس التشريع
الإسلامى في هذا متجنياً على المرأة، أو مانعاً لها من شيء فيه مصلحتها وإنما ينبه
المرأة دائماً إلى أن الجمال الحقيقى في الخُلُق، لا في الخلقة، وأن الجمال الدائم هو
جمال الروح والأفعال والأقوال لا في الأشكال والهيئات، وأن الذي ينبغي الحرص
عليه: هو ما به يتحقق للمرأة إنسانيتها وكرامتها وحسن سيرتها، وهو جمال الخلق
والطباع، وأن الجري وراء هذه المحاولات المستمرة للبحث عن الجمال الشكلي
الزائف لن يكسب الإنسان - امرأة كانت أو رجلاً - شيئاً يستحق الذكر، بل لم
يكسبه في عصوره الغابرة سوى الانطلاق في طريق الشهوات والغرائز، الذي
يشيع الفاحشة في المجتمع ثم ينتهي به إلى الانحلال والدمار والهلاك.
ويشير الكتاب في النهاية إلى أنه ما انتشرت هذه الأشياء في قوم وألفها الناس، وأحبوها إلا كانت دليلاً على انشغالهم بالوسائل دون الغايات، وعلامة بارزة على
شيوع الفواحش والموبقات، ونذيراً إلى اضمحلال حضارتهم، وطريقاً سريعاً إلى
هلاكهم ودمارهم، والتاريخ القديم والحديث يؤكد ذلك:
فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه البخاري ومسلم وأصحاب
السنن لأصحابه ونساء أمته: «إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم» ،
وهو نفس ما حدث للإمبراطورية الرومانية وللإمبراطورية الفارسية ولكثير من
الحضارات الغابرة.
ويذكر المؤلف: أن فرنسا لم تهزم قريباً إلا لانشغال رجالها ونسائها بالشهوات
حين دخلتها جيوش الاحتلال!
ولأن الإسلام لا يحب للفرد المسلم الضياع، فقد حرم عليه أن ينغمس في
الشهوات، أو ينشغل بما يهيج غرائزه، حتى لا تتغلب شهواته على عقله،
وينفصل في واقعه الذي يعيشه عن التشريع الذي يحفظ عليه آدميته ويعلي من
إنسانيته.
__________
(1) العُنفقة: الشعر النابت على ظاهر الشَّفَة السفلى.(32/88)
الزاوية الطبية
حبوب منع الحمل ما لها وما عليها؟
د. خالد الموسى
مع انتشار حبوب منع الحمل ومنظِّمات الدورة الشهرية عند المرأة في مطلع
النصف الثاني من هذا القرن ومع تزايد استعمالها أظهرت الكثير من الدراسات
العلمية أنها ليست مأمونة مطلقاً، ولا يتم تناولها بدون أضرار بدنية ونفسية، وما
تمر فترة إلا ويتبين ارتباطها ببعض من الظواهر المرضية وظهور أعراض جانبية
عديدة.
فإن هذا الهدف الرئيسى لاستعمالها هو منع الحمل أو تنظيم النسل، وقد
أُسىء استخدامها كثيراً حتى أصبحت تُتناوَل من قِبل الشابات الصغيرات في كثير
من البلدان الأوربية والغربية والشرقية مع انفتاح الحرية الفردية والحياة الجنسية
وبدون حدود أو ضوابط، وانتقلت إلى البلدان العربية والإسلامية عن طريق فكرة
تنظيم النسل (وهي فكرة يهودية خبيثة) فإن كانت هناك مبررات فردية وشخصية
وعلى مستوى ضيق ومحصور لتنظيم الأسرة فلا يجب أن تعمم على إطلاقها
ويطلق العِنان لانتشارها، فالإسلام دعا إلى التكاثر وحفظ النسل، لا قطع الحرث.
وإن هذا الاستعمال لا يخلو من محاذير كثيرة وتأثيرات جانبية تتعرض لها
المرأة وسنحاول باختصار ذكر هذه الاضطرابات الجانبية لحبوب منع الحمل:
1 - تؤدي إلى زيادة الوزن نتيجة زيادة الشهية وبعوامل استقلابية هرمونية
على النسيج الشحمي.
2 - تؤدي إلى حبس الأملاح والسوائل وبالتالي لزيادة الوزن وزيادة حجم
كتلة الدم ثم ارتفاع الضغط الشرياني.
3 - تزيد نسبة حدوث تخثر الدم، ثم تزداد نسبة حدوث الخثرات الوريدية
والتهاب الأوردة الخثري، وحصول الصمات الجهازية والرئوية بشتى أنواعها.
4 - تزداد نسبة حدوث التهاب الأوردة الخثري العميق المؤدي إلى حدوث
صمات رئوية قد تكون قاتلة.
5 - تزيد نسبة حدوث ارتفاع الشرياني وما يسببه من تأثيرات ضارة جهازية
في الجسم.
6 - تزيد نسبة حدوث الآفات القلبية الوعائية كخناق الصدر وقصور الدوران
الإكليلي واحتشاء القلب.
7 - تزيد نسبة حدوث الخفقان واضطرابات النظم القلبية والتى قد تكون
خطيرة بحد ذاتها أو بحدوث صمات جهازية خطيرة.
8 - تفاقم خطورة الأمراض القلبية إن كانت موجودة سابقاً كأمراض القلب
الرئوية أو الآفات الخلقية، وتزيد من نسبة خطورتها.
9 - تزيد نسبة حدوث الصداع التوتري والشقيقة.
10 - تزيد نسبة حدوث الحوادث الوعائية الدماغية.
11 - تؤدي إلى حدوث اضطرابات نفسية وسلوكية عديدة كالنرفزة وسرعة
الإثارة والنزق والكآبة.
12 - تؤدي لحدوث أورام غدية صغيرة في الكبد والغدة النخامية.
13 - قد تسبب التهاب ما حول القنيات الصفراوية (التليف التصلبي) .
14 - تؤدي لأعراض هضمية عديدة متنوعة كالغثيان وآلام المعدة.
15 - تؤدي إلى حدوث اندفاعات جلدية، وطفح متعدد الأشكال على الجلد.
16 - ينصح جميع الأطباء بعدم إعطائها بعد سنة الـ 35-39 سنة.
هذه مجمل تأثيرات حبوب منع الحمل، ولا يمر استعمالها بدون تأثير جانبي
ونسبي..
فهل من استجابة للإقلال من استعمالها واقتصار ذلك على بعض الحالات
الفردية الضرورية الخاصة فقط؟ !(32/93)
رسالة الطبيب في الحياة
لقد خلق الله البشر ولكل قدرته وطاقته ومواهبه، وخلق أرزاقهم ويسر لهم السبيل باختيار منهج وطريق حياتهم، وأرشدهم لاتخاذ السبل في كسب العيش والبحث عن الرزق.. والكل راضٍ بما قسمه الله له، ولقد حمل الإنسان الأمانة في عمارة هذه الأرض بعد أن استخلف فيها. قال - تعالى -: [وَإذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] [البقرة: 30] . وقال: [إنَّا عَرَضْنَا ... الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] [الأحزاب: 72] .
وإن هذه الأمانة والاستخلاف تزداد مسؤوليتها والحمل الملقى على صاحبها
مع حجم الطاقة والقدرة وبقدر المواهب والعلم والمعرفة والمكانة التى يتمتع بها.
وإن رسالة الطبيب رسالة إنسانية بما فيها من رأفة ورحمة وشفقة، والعبء
ثقيل والأمانة عظيمة ودوره وشأنه عظيم في هذه الحياة وذلك بسبب:
1- مكانته وقدرته ومواهبه وعلاقته الاجتماعية..
2- طبيعة مهنته وتعامله مع أرواح وأنفس وأجساد البشر، وقوة وشدة تأثيره، لذا فمسؤوليته عظيمة، والأمانة ثقيلة، والدور الذي أنيط به جد مهم، فمن ثم
عليه أن يقوم بواجبه بإحسان التعامل مع المريض والسعي لتخفيف الألم والحزن
وشدة المرض عن الناس وأن يبذل جهده ويعمل بشكل دؤوب لتحقيق الصحة العامة
والخدمة الإنسانية بشتى جوانبها والشفاء بإذن الله.
وتزيد هذه المسؤولية على الطبيب المسلم لأنه ينطلق من منظور ديني إسلامي
ومراقبة ذاتية ومحاسبة مستمرة وارتباطه الكامل بالله - عز وجل - ولابد أن يتذكر
كل طبيب أنه سيحاسَب عن هذه المسؤولية في يوم الحساب حينما يقف بين يدي
رب الأرباب.(32/95)
لم يكلف نفسه بالسؤال ... ولكن؟ !
طارق خليل الأسود
كثير من المسلمين اليوم يقوم بفعل الشىء، وبعد أن يتمه يأتيك سائلاً عن
حُكمه، فربما كان الحكم حراماً أو حلالاً، أو مكروهاً أو مندوباً ... فماذا يفعل هذا
المسلم لو كان الحكم حراماً؟ ! ؛ إنه ارتكب إثماً - ولا شك - في حق نفسه لأتفه
الأسباب، لأنه لم يكلف نفسه بالسؤال ولا الاستفسار عن حكم هذا العمل الذي يريد
الإقدام عليه قبل عمله والوقوع فيه.
بل الأمر الأدهى من ذلك والأمرّ، ذلك المسلم الذي يقوم بفعل الشيء وهو لا
يعرف حكمه، ثم لا يسأل ولا يبالى إن كان الحكم حراماً أو حلالاً، مندوباً أو
مكروهاً ... الخ.
ولكن نجد فئة من الناس بل الغالب عليهم أنهم لا يسألون عن الحكم الشرعي،
بل نجد الرجل منهم حينما يتقدم الخاطب إلى خِطبة ابنته، لا ينام الليل ولا النهار
حتى يعلم أدق الأمور عنه فيسأل القريب والبعيد عنه، وقد يضطر أحياناً إلى السفر
إلى الخارج للبحث والاستفسار عنه، وكذلك يحقق ويزن الأمور التي توصل إليه،
أليس هذا واقعنا المعاصر؟ .
اعلم يا عبد الله: أن كل حركة أو إشارة أو كلمة أو نظرة لها وعليها حساب؛
قال الله - تعالى -: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَراً يَرَهُ]
[الزلزلة: 7-8] وأنت تعلم ما الذرة وما كبرها، فينبغي معرفة حكم الشيء
قبل الإقدام عليه فإن كان حراماً ابتعدت عنه، وإن كان حلالاً أقدمت عليه ... وزِنْ
الأمور قبل وقوعها بميزان الصراط المستقيم، ميزان الحق والعدل، ميزان الحلال
والحرام، ميزان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن كانت موافقة فالراحة
والطمأنينة، وإن كانت مخالفة فالابتعاد عنها، وإن كان فيها شك أو شبهة ابتعدنا
عنها أيضاً أسلم للعواقب، وآكد للثواب. هذا إذا أردت عتق نفسك من النار، وعدم
تحميلها أكثر مما تطيق من الآثام والأوزار. اللهم انفعنا بما علمتنا، وكن عوناً لنا.(32/96)
نسبة الانتحار بين الشباب البريطاني في ارتفاع
ارتفعت نسبة الانتحار بين الشباب فوق 50% خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
ورد ذلك في تقرير جديد نشر في جريدة (غارديان) وأصدرته جمعية معنية ...
بالتخفيف من أسباب الانتحار، ومساعدة الذين يتعرضون لضغوط نفسية قد تدفعهم
إلى الانتحار.
وعللت ارتفاع نسبة الانتحار بين الشباب لأنهم أكثر قابلية لأسبابه التي منها:
تزايد الضغوط الاجتماعية، والإخفاق في الحصول على إنجازات أكبر في المدرسة، والصعوبات الاقتصادية خلال العقد المنصرم.
أما عن أسباب الانتحار عند الكبار فقد ذكر التقرير من ذلك: الوحدة،
والحرمان، وانهيار الصحة، وتناقص الفرص المتاحة، والعيش في ظروف غير
مناسبة، والخوف من وقوعهم عبئاً على الآخرين.
وذكر التقرير أن كل ساعتين هناك من يقتل نفسه في بريطانيا ويعتبر هذا أشد
إثارة للقلق من الرقم الذي تعلنه الدولة سنوياً عن الذين ينتحرون وهو (5000) ،
وكذلك هناك أكثر من 200 ألف محاولة انتحار.
وقد تلقت الجمعية خبر 2. 5 مليون حالة محاولة انتحار ما بين مكالمة
ورسالة وزائر.
نسبة مَن هم بين 15-44 سنة ارتفعت 50% خلال العشر سنوات الماضية،
وكان فيها عدد الرجال ضعف عدد النساء.
المنتحرون تحت 25 سنة كانوا 80% ذكوراً.
كانت نسبة الذكور من المنتحرين الذين هم دون 25 سنة 80% بزيادة 26%
بين عام 1978-1988.
وقد تراجع عدد النساء المنتحرات بنسبة 22% وعزا التقرير سبب ذلك انه
ربما لأن المرأة قد تبكي أو تصرخ أو تنفس عما في نفسها بطريقة أو بأخرى بينما
الرجل في الأغلب يدفن همومه بداخله.
بقي أن نضيف أن هذه الجمعية عندها (22) الف متطوع، وتعلن أنها بحاجة
إلى (6) آلاف آخرين، وإلى (4) ملايين جنيه إسترليني كي تستمر في إدارة
(184) فرعاً لها في جميع أنحاء بريطانيا.
غارديان ويكلي 527/5/1990(32/97)
الصفحة الأخيرة
معادن الشعوب
عبد القادر حامد
تظهر معادن الشعوب والجماعات على حقيقتها عند الأزمات، حيث يقع
الناس تحت التأثير العام للأزمة ويصطلون بنارها؛ فتنكشف عنهم حجب الرياء
والنفاق، وتتساقط من بينهم جدران التكلف والتملق، ويبدو كل فرد بأخلاقه
الحقيقية وبسلوكه الذي فُطر عليه.
وقد ظهر هذا جلياً في أزمة الخليج واحتلال العراق للكويت، فتبخرت كثير
من الشعارات التى أنفق العرب من عمرهم زمناً طويلاً يرددونها ويتغنون بها، فقد
جعلت هذه الأزمة كثيراً من العرب يكفرون بالعروبة عملياً وإن لاكتها ألسنتهم
نظرياً.
والوحدة العربية كحلم تبخر من ذهن أغلبية شعوب المنطقة التي تعاني المُر
كله من الضغط الداخلي والخارجي، والتضامن الإسلامي على أساس العقيدة
الإسلامية يبحث المرء عن آثاره، ويتشمم في الزوايا أخباره فلا يجد شيئاً! .
ولو تُركت الشعوب تصارع هذه الأزمات المفتعلة بما عندها من مواهب وما
أعطاها الله من إمكانيات لربما ظهرت الأصالة العربية والحمية الإسلامية، ولكن
هيهات وهي لا تتُرك وحدها ولا يخلَّى بينها وبين أعدائها، بل تستمر أجهزة
الإعلام من كل حدب وصوب تثير الأحقاد وتستعدي الشعوب بعضها على بعض،
فتذهب بالبقية الباقية من رصيد الخير الباقي في نفوسها.
من أجل ماذا؟ من أجل قلة قليلة لسان حالها يقول: إذا متُّ ظمآناً فلا نزل
القَطْرُ!(32/100)
ربيع الآخر - 1411هـ
نوفمبر - 1990م
(السنة: 5)(33/)
الافتتاحية
وقفة مراجعة
ونحن ندلف إلى السنة الخامسة من عمر (البيان) نعود قليلاً إلى الوراء ونسأل
أنفسنا: هل قمنا بواجب الكلمة؟ وحتى لا نغمط أنفسنا حقها نقول: نعم، ولكن لا
زلنا نعتبر أنفسنا في بداية الطريق ولا يزال في النفس أشياء كثيرة لم تحقق، ومن
أول يوم بدأنا فيه كانت هناك آمال وطموحات وخطط بعيدة حققنا بعضها، ولم
نحقق البعض الآخر، ونحن مع شكرنا العميق لمن ساهم وشارك في الكتابة أو النقد
والتصحيح، فإننا نطالب أصحاب الأقلام القوية وأصحاب العلم والأدب أن يقدموا
ما يرونه واجباً عليهم تجاه دينهم وتجاه إخوانهم المسلمين في كل مكان.
والمعركة الإعلامية مع أعداء الإسلام معركة شرسة لا تغطيها مجلة شهرية أو
صحيفة يومية، بل تحتاج لأكثر من ذلك.
إن الإعلام في الغرب من أخطر الأسلحة لإقناع الجمهور بأفكار من يسيطر
على هذا الإعلام، فهل ينتبه من يستطيع أن يقدم شيئاً ذا بال ولا زال يتردد في
تقديمه؟
لقد تأكد لنا بعد هذه السنوات أن الصحافة هي مهنة المتاعب فعلاً، فنحن
نحاول المحافظة على التوازن القائم في البيان وهو توازن دقيق وصعب، فلا هي
بالمجلة الأكاديمية البحتة، ولا هي بالمجلة الخفيفة التي يتصفحها القارئ بسرعة ثم
يرمي بها جانباً، وليست مجلة إخبارية مصورة ولا هي المتخصصة بالسياسة..
نريدها أن تكون وسطاً جامعة مثقفة لطبقة المتعلمين من المسلمين.
بعض القراء يشكون من عدم وجود أقلام المشهورين من الكتاب، ونحن مع
احترامنا لهؤلاء المشهورين، لكن بعضهم لا يكتب للصحافة أبداً وبعضهم يستفيد
منه القراء في مجلات كثيرة فما الفائدة من التكرار؟ وشيء آخر هو وجود طاقات
مغمورة غير مشهورة ولكنها تحمل فكراً وعلماً، نريد من هؤلاء أن يبرزوا كما
نريد تشجيع الطاقات الشابة، وهي طاقات لا بأس بها ولكنها خجولة ومترددة.
هذا ما يقترحه القراء أو يلاحظونه، وأما نحن فنشكو من قلة القراء والقراءة، إننا ونحن نحاول استخلاص النافع المفيد من الإخوة الكتاب ومن واقع العالم
الإسلامي المعاصر نشعر بالأسى لقلة من يقرأ خاصة في بعض البلدان أو المناطق،
لقد سيطرت على الساحة الثقافية الكتيبات الصغيرة والمقالات الخفيفة السريعة،
والعجيب أن المجلات التي تمثل الفكر القومي أو العلماني أو القومي - الديني كما
يسمونه كلها مجلات متخصصة فكرية ليس فيها ألوان ولا صور، وكلها مقالات
طويلة، ودراسات جادة، فهل الإسلاميون هم الوحيدون الذين يريدونها قراءة خفيفة!
ونعود مرة أخرى إلى موضوع (المضمون والشكل) ونحن نعلم أن أي أمر لا
يجدد ولا يقع فيه التجديد دائماً سيتوقف عند مستوى معين ثم يبدأ التدهور والرجوع
الى الخلف، نحن مقتنعون بهذا ونعتقد أنه لابد أن نسعى دائماً إلى الأفضل ونرقى
بالمجلة شكلاً ومضموناً، وليس من المعقول أن يحرر المجلة عدد محدود فلا بد إذن
من المشاركة الفعالة، مشاركة من اكتوى بِحرِّ المعركة مع التغريب والضحالة
والسطحية ومن تعمق في فهم أصولنا وثقافتنا ومن عرف واقع المسلمين وواقع
أعدائهم، وهؤلاء كثر والحمد لله، ولعل القراء يلتقون بهم سواء في مجلتنا أو أي
مجلة إسلامية جادة.(33/4)
آية من كتاب الله
[ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه]
[يوسف: 24]
قال الشنقيطي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف -عليه السلام- همّ بأن يفعل
مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه. ولكن القرآن الكريم بين براءته -عليه
الصلاة والسلام- من الوقوع فيما لا ينبغي، حيث بين شهادة كل من له تعلق
بالمسألة ببراءته وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة،
والشهود.
- أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فقد ذكره الله تعالى في قوله:
[هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي] وقوله: [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي
إلَيْهِ ... ] .
- أما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: [ولَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ
فَاسْتَعْصَمَ] وقولها: [الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ] .
- وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله: [قَالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ] .
- وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله: [وشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إن كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ..] .
- وأما شهادة الله -جل وعلا- ببراءته ففي قوله: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] .
- وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى: [فَبِعِزَّتِكَ
لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] . فأقر بأنه لا يمكنه إغواء
المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح تعالى به في قوله: [إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما
لا ينبغي.
فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته -عليه السلام- مما لا ينبغي في
الآيات المتقدمة. ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى: [وهَمَّ بِهَا] ؟
فالجواب من وجهين:
الأول:
إن المراد بهمّ يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى. وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه لأنه
أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك» يعني ميل
القلب الطبيعي.
ومثال هذا: ميل الصائم إلى الماء البارد، مع أن تقواه يمنعه من الشرب
وهو صائم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت
له حسنة كاملة» .
لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، وامتثالاً لأمره، كما قال
تعالى [وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى] ..
الثاني:
وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً، بل هو منفي عنه
لوجود البرهان.
ثم قال الشنقيطي -رحمه الله-: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو
أجرى الأقوال على اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وكلام العرب: أن
الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه كقوله: [فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّسْلِمِينَ]
أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب،
لأن جواب الشرط وجواب لولا لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلاً عليه..
وكقوله: [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] أي إن كنتم صادقين فهاتوا
برهانكم.
وعلى هذا القول فمعنى الآية: - وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
أي لولا ان رأى برهان ربه لهم بها، فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف -عليه
السلام- بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه همّ أصلاً،
وإما أن يكون همه خاطراً قلبياً صرف عنه وازع التقوى، فبهذا يتضح لك أن قوله
تعالى [وهَمَّ بِهَا] لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع
فيما لا ينبغي.
ثم يقول الشيخ -رحمه الله-: فإذا علمت مما بينا دلالة القرآن العظيم على
براءته مما لا ينبغي، فما رواه صاحب (الدر لمنثور) وابن جرير وأبو نعيم، من
أن يوسف -عليه السلام- جلس منها مجلس الرجل من امرأته وأنه رأى صورة
يعقوب عاضاً على إصبعه أو صاح به صائح ...
هذه الروايات منقسمة إلى قسمين:
- قسم لم يثبث نقله عمن نقل عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
- وقسم ثبث عن بعض من ذكر، ومن ثبث عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر
الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات لأنه لا مجال للرأي
فيه، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف اعتماداً على
مثل هذه الروايات.
[أضواء البيان 2/49-60]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
وأما قوله: [ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] .
فالهّم اسم جنس، كما قال الإمام أحمد: الهم همّان همّ خطرات وهمّ إصرار.
وقد ثبث في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العبد إذا همّ بسيئة
لم تكتب عليه. وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة، وإن
تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف -
عليه السلام- همّ همّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه،
وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الّهم، وعارضه الإخلاص الموجب
لانصراف القلب عن الذنب لله، فيوسف -عليه السلام- لم يصدر منه إلا حسنة
يثاب عليها وقال تعالى: [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا
هُم مُّبْصِرُونَ] .
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه
رأى صورة يعقوب عاضاً على يده، وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا
رسوله، وما لم يكن كذلك، فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس
كذباً على الأنبياء، وقدحاً فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من
ذلك أحد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حرفاً واحداً..
... ... ... ... ... ... [دقائق التفسير 3/272 - 273](33/5)
مقابلة
لقاء مع فضيلة الشيخ
محمد ناصر الدين الألباني
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من أعلام الدعوة الإسلامية في هذا
العصر، ومن كبار علماء الحديث، أمضى عمره في تعلم الحديث وتعليمه
والتصنيف فيه، ووضع السنة بين يدي الأمة، وكان لكتبه ودروسه ولقاءاته الفضل
والأثر الكبير في التوجه نحو السنة الصحيحة والابتعاد عن الضعيف والموضوع.
ولا يزال -حفظه الله- صاحب همة عالية في التحقيق والبحث والإجابة على
الأسئلة الواردة من شتى بلدان العالم الإسلامي وإن شغفه بالعلم ودأبه العجيب
ليذكرنا بالعلماء السابقين.
وقد كانت رغبة قديمة عند (البيان) في اللقاء به والاستفادة من علمه،
وتعريف القراء بعلمائنا البارزين الذين لا ينكر دورهم التجديدي في هذا العصر وقد
جاءت الفرصة المناسبة والتقاه رئيس التحرير وكان معه هذا الحوار.
س: فضيلة الشيخ عندما قمتم بتدريس مادة الحديث في الجامعة الإسلامية في
المدينة النبوية كان لكم دور بارز في إيجاد تيار من الشباب المتعلم الذي يبحث عن
الدليل الشرعي، ويهتم بالحديث، والبحث عن تخريجه وتمييز الصحيح من
الضعيف، هل أنتم راضون عن هذا التيار، وهل هو في ازدياد وانتشار؟
ج: ليس لي صلة بالجامعة، ولما تركتها أو تركتني، كنت أتردد ما بين
آونة وأخرى في سبيل مراجعة بعض المحاضرات هناك.
لم تعد الظروف تساعدني على التردد عليها لذلك لا أعرف واقعها الآن. ولكن
بصورة عامة لا تزال قائمة بواجبها في نشر الثقافة الإسلامية السلفية، ولا شك أن
بعض إخواننا من الطلاب الذين كانوا يوم كنا ندرس هناك مادة الحديث، هم الآن
أساتذة ودكاترة، ولا أدري هل التأثير ما يزال مستمراً كما كان في العهد الأول أم
ازداد، هذا مما لا سبيل لنا إلى معرفته إلا بالتردد على الجامعة والاطلاع على
مسيرتها.
س: ولكن هناك ملاحظة، على بعض هؤلاء التلاميذ أو تلامذتهم، عندهم
خشونة أو قسوة في عرض المنهج، ألا ترون أنّ هذا يجب أن يصحح؟
ج: نعم، نحن نقول كما قال رب العالمين [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] وهذا يجب أن يوجه إلى جميع الدعاة.
س: هل لكم ملاحظات على التيار السلفي في البلاد العربية والعالم الإسلامي؟ وما هي؟
ج: باعتقادي أن التيار السلفي والحمد لله اكتسح الأجواء الإسلامية كلها،
وأكبر دليل على ذلك أن الذين كانوا بالأمس القريب يعادونه أصبحوا يتزلفون إليه،
ويتبنون اسمه، هذا يبشر بخير، لكن في الواقع أرى أن الدعوة السلفية والتي يعود
إليها الفضل فيما يسمى اليوم بالصحوة الإسلامية، وإن كان كثير من الدعاة
الإسلاميين يتجاهلون هذه الحقيقة، ولا يربطون الصحوة بالدعوة السلفية الحقة،
لكن الحقيقة هي أن الصحوة الموجودة اليوم والتي يعبر عنها بالرجوع إلى الأصل
(الكتاب والسنة) ، ونحن نعبر عن هذا الرجوع بعبارة أدق كما هو معلوم من
محاضراتنا.
إن الدعوة إلى الكتاب والسنة يجب أن يقرن بها الدعوة إلى منهج السلف
الصالح في فهم هذين المصدرين الوحيدين، وإن كان الآخرون لا يدندنون حول هذا
المنهج مع أنه ضروري جداً، إذ عدم الاهتمام به هو سبب الفرقة القديمة المعروفة
تاريخياً، والفرق الحديثة الموجودة اليوم، ولم يكن سبب هذا وذاك إلا عدم الرجوع
إلى فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح.
أقول: إن الدعوة السلفية - مع انتشارها وما نتج عنها من هذه الصحوة ...
العصرية - مجملة تحتاج إلى علماء يبينون أولاً تفصيل الكلام حولها، وتوسيع
دائرة الدعوة السلفية، إنها هي الإسلام بكل تفاصيله تجمع كل شؤون الحياة.
هذا التعميم في البيان للدعوة السلفية بحاجة إلى علماء عاشوا حياتهم يدرسون
الكتاب والسنة ويدعون الناس قولاً وكتابة وعملاً، فإن كثيراً من الشباب الذين
يتبنونها، يستعجلون الدعوة إليها قبل أن يفهموا تفاصيلها، ومن آثار ذلك كثرة
الرسائل والمؤلفات التي تطبع في العصر الحاضر من مؤلفين عديدين جداً، ولا
تكاد تجد في هذه الكثرة الكاثرة من هؤلاء من يشار إليه بأنه شيخ، وأعني بكلمة
شيخ المعنى اللغوي (مسن وكبير) وأعني أيضاً المعنى العرفي: أنه متمكن في علمه، هذا الشباب المتحمس لم يدرس الإسلام دراسة على الأقل تسوغ له أن يؤلف وأن
يدعو الناس سواء بكتاباته أو بمحاضراته.
* ظاهرة الكتب الكثيرة الآن ظاهرة غير صحية؟
ج: أبداً أبداً تنبئ بصحوة، وتنذر بآن واحد، ومن نتائج هذه الظاهرة كثرة
الناشرين والطابعين مع قلتهم في الزمن السابق، القلة السابقة وإن كانوا اتخذوا
الطباعة والنشر مهنة للعيش -وهذا لا بأس به شرعاً - ولكن كانوا في الغالب
يشكلون لجاناً علمية، لا يطبع الكتاب إلا بعد مروره على هذه اللجنة. أما الآن مع
الأسف الشديد نجد الأمر أن النشر هو للتجارة وليس لخدمة العلم، وتجد لافتات
ضخمة يقال أن هذا الكتاب قام على تحقيقه أو التعليق عليه لجنة من أهل
الاختصاص وحينما تقرأ تحزن لكثرة الأخطاء المطبعية، مع شعورك بأنه لم يحقق!
تعاون المؤلفون المحدثون مع الناشرين في غزو المكتبات بشتى المؤلفات،
تجد رسائل متعددة في موضوع واحد، هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من ذاك وليس
هناك علم جديد.
قبل أمس اتصل بي أحد الجزائريين، أعجبتني لغته. مع أن لغة الجزائريين
صعبة فلهجتهم غير لهجتنا ولكن هذا الأخ كانت لهجته عربية فصحى لا يلحن،
ماذا سألني، قال: أنا بصدد جمع أوهام الحافظ الذهبي في تلخيصه للمستدرك التي
أشرت إليها في كتبك حيث تقول أنت مثلاً: أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط
مسلم ووافقه الذهبي، فما رأيك؟ قلت له: لا تفعل، ولئن فعلت فاجمع لنفسك، لأني
أريدك ألا تكون إمعة، ولا مقلداً، لا لبكر ولا لزيد ولا لناصر، نريد منك أن تنشر
جهدك واجتهادك وكل إنسان يستطيع أن يجمع قول فلان مع قول فلان ويؤلف
رسالة، ماذا يستفيد الناس من هذا المجهود هكذا أقول لطلاب العلم، لا تتسرعوا
في التأليف والنشر وأضرب لهم مثلاً: عندي كتاب هو أول كتاب يمكن أن يقال أنه
تأليفي وهو في مجلدين واسمه: (الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير) ألفته وكان عمري 25 سنة، حينما يراه الإنسان يتعجب من الجهد ومن العناية بالخط، أما الآن بعد أن بلغت من الكبر عتياً أستفيد منه كثيراً، ولكن لا أرى أنه صالح للنشر، لماذا؟ ، لأنني أستدرك على نفسي بنفسي، وهناك مثال واضح جداً، كنت أنا مع الجمهور الذين إذا رأوا حديثاً بإسناد كل رجاله ثقات إلا شخصاً واحداً وثقة ابن حبان، كنت أقول هذا إسناد صحيح، على هذا جريت في هذا الكتاب، لكن فيما بعد، رأيت أن توثيق ابن حبان لا يوثق به، والآن من فضل الله علي وعلى الناس أن كثيراً ممن عنوا بعلم الحديث أصبحوا يقولون كما صرت أنا أقول لا كما كنت أقول، ثم جدّ معي شيء عثرت عليه منذ بضع سنين أن وجه الصواب في الذي نشرته وانتشر عن ابن حبان، الصواب فيه أنه ليس على إطلاقه (يعني لا يقول أحد أن توثيق ابن حبان لا يوثق به) تبين لي هذا من الممارسة العملية، هذه نقطة لم تذكر في علم المصطلح، صرت أقول: توثيق ابن حبان لا يوثق به إلا إذا كان هذا الموثق له رواة كثيرون عنه، إذا كانوا ثقات، عندئذ تطمئن النفس إلى الاعتداد بتوثيق ابن حبان ثم حصلت عجائب، الناشئون الذين أخذوا تنبيهي الأول صاروا يردون علي: أنت لماذا تصحح هذا الحديث وفيه فلان، لم يوثقه إلا ابن حبان؟ ! طبعاً أبين لهم الآن أنه تكشف لي كذا وكذا.. وليس بشيء تفردت به، هذا غير مذكور في علم مصطلح الحديث، لكن يفهمه الإنسان بالممارسة..، الخلاصة، نحن نريد الآن من ... الناشئ ألا يتسرع.
س: بعض الناس ينتقدون منهج الجامعات الإسلامية في طرق التعليم، وأنهم
لا يخرجون طلبة علم مؤهلين ليكونوا علماء، ما هي الطريقة المثلى للتعلم برأيكم؟
ج: الجامعات ليس بإمكانها أن تخرج علماء، لكن الجامعات تهيئ الطلبة
ليكونوا علماء، والحق أن الذين يتخرجون لا يقومون بواجبهم، لا يتابعون
الاستفادة من القواعد العلمية والتوجيهات التي تلقوها من أساتذتهم لينكبوا على العلم، ثم عند النضج العلمي كتابة ومحاضرة ونشراً، فأصبح جل هؤلاء المتخرجين
همهم أن يصبحوا أساتذة ومعلمين أو أن يصبحوا موظفين كبار في بعض الدول.
إن مصيبة العالم الإسلامي اليوم هي فقدان التقوى، فقدان التربية، وفي
اعتقادي أن الناس لا يختلفون في أن العلم وحده لا يكفي بل قد يضر صاحبه.
س: أعتقد أن هناك ضعفاً في طرق التعليم، وكذلك في المناهج المقررة، ما
رأيكم؟
ج: ليس عندي دراسة للمنهج حتى أفيدك، ولكن عليك أن تلاحظ في
الجامعات عدد السنين التي وضعوها والأوقات التي حددوها والتي لا تساعد على
دراسة العلم كما كانوا قديماً يدرسون، في بعض جامعات الهند أو في بعض الحلقات
على الطريقة القديمة كنت أسمع أنهم يدرسون الكتب الستة فعرفت فيما بعد أنهم
كانوا يدرسونها للبركة، الأوقات التي تنظم في الجامعات لا تساعد على التوسع في
المناهج، أضرب لك مثلاً بشخصي: أنا يوم كنت هناك بالجامعة، كان من
المقررات الجزء الأول من (سبل السلام) فأنا ما استطعت أن أنهي من المقرر إلا
أقل من الربع، لأني كنت أدرس الحديث الواحد في حصتين، ضاق الطلاب ذرعاً، فراحوا يشكونني إلى الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة يومها، وكنا نلتقي
بالرئيس والأساتذة فقال لي: إن الطلاب يشكون من تطويلك، فقلت له: صحيح،
لكن هناك أقوال وأحكام مختلف فيها بين المذاهب، لا بد أن أذكر دليل كل واحد
وأعمل تصفية، فقال لي: اكتف بما يحضرك، ولا تذكر كلام العلماء بالتفصيل.
الطلاب الذين يتخرجون إن لم يتابعوا الخطأ في الدراسة ويتوسعوا فيها لانجد بينهم
علماء، والسبب أن الطالب عندما يأخذ شهادة الدكتوراه يصبح أستاذاً في الجامعة أو
يتوظف في دائرة من الدوائر، فهو لا يستثمر المفاهيم والقوانين التي تلقاها، كما لا
يتفرغ للعلم وللعلم فقط.
س: ألا ترون إحياء حلقات العلم إتماماً للدراسات الجامعية؟
ج: نعم، ولكن نعود إلى المشكلة، من الذي يدرِّس؟
س: نعود إلى بعض النواحي العلمية، سمعت من بعض الإخوة الدكاترة في
الجامعات الإسلامية وطلبة العلم نقداً لطريقتكم في تقسيم كتب السنن إلى صحيح
وضعيف يقولون: ربما يتبين لكم بعدئذ أن هذا الحديث ضعيف أو العكس، فما
رأيكم؟
ج: هذا ممكن وواقع وماذا يريدون؟
س: لو تبقى سنن أبي داود وتعلقون عليه في الهامش فيبقى الكتاب كاملاً كما
ألفه أبو داود؟
ج: هذه مشكلة، ولكن لنترك صحيح أبي داود وضعيفه.
أنا عندي الآن سلسلتان: الصحيحة والضعيفة كما تعلم، وكثيراً ما يقع أن
أنقل حديثاً من الصحيحة إلى الضعيفة، وبالعكس، وهذا مستنكر عند الجهلة،
ومقبول مشكور جداً عند أهل العلم؛ ما الفرق بين الصورة الأولى والصورة
الأخرى؟ ربما بعد سنوات نعيد طبع سنن أبي داود وأنا من فضل الله علي نادراً ما
أعيد طباعة كتاب إلا وأعيد النظر فيه، لأنني متشبع أن العلم الصحيح لا يقبل
الجمود، وأنا أتعجب من مؤلف ألف كتاباً من عشرين سنة خلت ويعيده كما هو لا
يغير ولا يبدل، ما هذا العلم، هل هو وحي من السماء؟ أم جهد إنسان يخطئ
ويصيب، ولنفرض أننا استجبنا لهؤلاء وأعدنا طباعة الكتاب وانتقلت أحاديث من
الضعيف إلى الصحيح وبالعكس فنعود لنفس القضية، ومن الممكن أن ننقل هذا
الاقتراح إلى مختصري للبخاري، ولكنهم لم يقولوا: دع البخاري كما هو؛ ولكنهم
يقرونه ولا ينكرونه، وأنا أقول الحقيقة انني لما بدأت بتقسيم سنن أبي داود من
نحو أربعين سنة إلى صحيح وضعيف، عرضت وجوه النظر أمامي تماماً، قلت:
أفعل هذا أو هذا، ثم ترجح عندي وأيدني في ذلك بعض الأدباء الحريصين على
العلم مثل الأخ حمدي عبيد، أيدني في جعل السنة قسمين، ترجح عندي وفي داخل
مشروعي تقريب السنة بين يدي الأمة من جهة، ومن جهة ثانية تقريب السنة
الصحيحة وليس الضعيفة، وبعدئذ لا خوف، لأن عامة الناس ليسوا بحاجة إلى
معرفة الضعيف، وإنما يحتاج ذلك خاصتهم، فإذا كان رجل من عامة الناس أقدم له
صحيح أبي داود وأقول هذا حسبه، أما الخاصة فيجب عليهم معرفة الضعيف،
فالمفروض أنهم موجهون للناس. لقد ترجح عندي ذلك وقدوتي في ذلك الأئمة:
أئمة الصحاح مثل البخاري ...
س: أستاذنا، هل هناك بعض الفتاوى الفقهية، قلتم بها من زمن ثم رجعتم
عنها لإطلاعكم على أدلة أقوى؟
ج: ربما بلغك عني إشاعة أني تراجعت عن القول بتحريم الذهب المحلق
على النساء، فهذا كذب، وربما هناك إشاعات أخرى وكلها ليس لها أصل.
س: نعود إلى النقطة التي ذكرتموها في أول الحديث، وهي أن منهج أهل
السنة يحتاج إلى تفصيل حتى يساعد المسلمين عل حل مشكلاتهم. هل نستطيع أن
نقول أن الخطوط العريضة لهذا المنهج، وأعني طريقة تفكير واستدلال أهل السنة
هو ما كتبه الشافعي في الرسالة أو الشاطبي في الموافقات أو ابن تيمية في كثير من
كتبه وخاصة (درء تعارض العقل والنقل) ؟
ج: نعم هؤلاء العلماء الذي ذكرتهم من نوادر علماء المسلمين، الذين يتمثل
المنهج العلمي السلفي في كتبهم.
س: أستاذنا هل عندكم زيادة عما كتبه الأخ الشباني بالنسبة لحياتكم الشخصية؟ ...
ج: ليس عندي زيادة وما كتبه فيه الكفاية.
س: سؤال أخير، ما هي نصيحتكم للشباب المسلم في هذا العصر؟ ...
ج: نصيحتي في ناحيتين: ربما فهمت الأولى من كلامي السابق، أن يتفقهوا
بالدين اعتماداً على قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من يرد الله به خيراً يفقهه في
الدين» وأن لا يكتفوا بالعلم دون العمل، لأن الحقيقة التي ألمسها لمس اليد كما
يقال أن أكثر شبابنا الناهض اليوم همته في النواحي الفكرية دون الناحية العلمية
والعملية لذلك أنا أنصح هؤلاء أولاً أن يتوسعوا ما استطاعوا بمعرفة العلم الصحيح
المستقى من الكتاب والسنة إما بأشخاصهم إذا أمكنهم أو بالاستعانة بأهل العلم، وأن
لا يقدموا على شيء يصدر عنهم عن جهل اعتماداً على ثقافتهم القليلة الضحلة، هذا
من جهة، ومن جهة أخرى أن يهتموا بالعمل أكثر مما يهتمون بالعلم، لأننا نرى
مع الأسف الذين يهتمون بالعلم أكثرهم لا يعملون، وبالأولى أن الذين لا يهتمون
بالعلم ألا يعملوا، فليعكسوا الأمر، عليهم أن يهتموا بالعمل أكثر من العلم، فإذا كان
أهل العلم يتركون العمل، فالأحرى بغيرهم ممن لا يعلم أن يترك العمل أيضاً،
فعلى أهل العلم وطلبته أن يصرفوا جهودهم إلى العمل ويعكسوا الحال الحاضرة إلى
علم وعمل كثير لتتعدل كفة النقص في المجتمع.
فكما لا ينفع علم بلا عمل فكذلك لا ينفع عمل دون علم وهذه حقيقة - ولله
الحمد - متفق عليها بين علماء المسلمين، هذه نصيحتي للشباب المسلم الناشئ في
هذا العصر.
وشكرنا الشيخ على هذه الفرصة الطيبة. فجزاه الله خيراً ومد الله في عمره
وبارك فيه. ونرجو أن يكون لنا معه لقاء آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(33/8)
أحاديث الفتن والفقه المطلوب
د. مأمون فريز جرار
إننا نجد من النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصاً على أن يظل المسلم بعيداً
عن الفتن، لا يشارك فيها بسيف، بل ينأى عنها إن استطاع، فهو يوصي المسلم
أن يتلف ما كان بين يديه من وسائل الفتن، بكسر السيف أو دق حده بحجر لكيلا
يستخدمه أحد في الفتنة، وكسر القسي وتقطيع الأوتار، ولننظر في هذا الحديث
الذي يرويه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون
فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا
نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه،
ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من
لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر،
ثم لينجو إن استطاع النجا. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟
قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد
الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال:
يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار [1] ) .
ويروي أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن
بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً،
ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من
الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل
على أحدكم فليكن كخير ابنيّ آدم» [2] .
وبيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلم ما يفعله عند وقوع الفتن وهو
الاكثار من العبادة وذلك في قوله:
«العبادة في الهرج كهجرة إليّ» [3] .
ولم يقتصر تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتن على توجيهات
تكف المسلم عن المشاركة فيها بالسيف، أو على الفرار منها بل نجد إلى جانب ذلك
تحذيراً من دعاة الفتنة الذين يدعون الناس إلى النار، ونجد بياناً بصفاتهم حتى
يحذرهم المسلم، وأمراً نبوياً لطريق التعامل معهم. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار، فأن تموت وأنت عاض على جذع
شجرة خير لك من أن تتّبع أحداً منهم» [4] .
وجاء في حديث آخر عن حذيفة فيه شيء من التفضيل عن هؤلاء الدعاة: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون دعاة على أبواب جهنّم من أجابهم
إليها قذفوه فيها. قلت يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا، يتكلمّون
بألسنتنا. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال فالزم جماعة المسلمين وإمامهم،
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة
حتى يدركك الموت وأنت كذلك) [5] .
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ما سيطرأ عليهم من
الفتن من خارج مجتمعهم، وما سيكون بينهم وبين أعدائهم من الملاحم، فحدثهم عن
الدّجال وفتنته، ونصر اليهود له، وأن منهم سبعين ألفاً من يهود أصبهان، وبيّن
لهم من أين سيخرج، وأين سيبلغ من الأرض، وما الذي يفتن الناس به، وما الذي
يعصم منه ... كل ذلك في تفصيل دقيق عجيب، يدل على مدى حرص النبي -
عليه الصلاة والسلام- على تأمين السلامة للمؤمنين في عصره وفي العصور التالية
إلى يوم القيامة.
وسأورد لمحات منها ومن شاء التفصيل فليرجع إلى مواطنها [6] .
لقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكان خروج الدجال فقال: «إنه ...
خارج خلّة بين الشام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، يا عباد الله
فاثبتوا» [7] .
ولنقف عند هذا النداء النبوي الكريم الذي يخترق القرون ليبلغ أسماع مؤمني
ذلك العصر يدعوهم إلى الثبات، ويدلّهم على ما يعصمهم من الدجّال بقوله: «فمن
رآه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف» [8] ويبطل لهم بنصائحه سحر الدجّال
الذي يخيّل إليهم الأشياء على غير حقيقتها فيقول: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه،
معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والأخر رأي العين نار تأجج،
فإما أدركنّ أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمضّ ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه،
فإنه ماء بارد، وإن الدجّال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب» [9] .
وحدّث المسلمين عمّا سيكون بينهم وبين اليهود في آخر الزمان وقبل قيام
الساعة من قتال: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم
المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر:
يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله. إلا الغرقد، فإنه من شجر
اليهود» [10] .
ويحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صراع يقع بين المسلمين والروم
الذين يغزون بلاد الشام، ويغزوا المسلمون بلادهم، ويحدثنا عن فتح القسطنطينية، وهو فتح آخر غير الذي تم من قبل، وهذا القول ليس من عندي بل يدل عليه
هذا الحديث الصحيح الذي يربط بين ذلك الفتح وظهور الدجّال على أثره، ولنقرأ
هذا الحديث بإمعان: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق،
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت
الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سبوا منّا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخليّ
بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم، ويقتل ثلثهم،
أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية،
فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: (إن
المسيح قد خلفكم في أهلكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج،
فبينما هم يعدون للقتال يسوّون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم
-عليه السلام-، فأمهّم، فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه
لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [11] .
وللنظر في الحديث التالي وما فيه من (الفقه السياسي) ثم ما فيه من الأخبار ...
عن الملحمة الكبرى التي ستكون بين المسلمين والروم. قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (ستصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، ... فتنتصرون وتغنمون وتسلمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل الصليب الصليب فيقول: غلب الصليب! فيغضب رجل من المسلمين فيقوم اليه فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة، وفي زيادة: فيجتمعون للملحمة حينئذ تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفا [12] ) .
ويبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض أنصار الدين في زمن الملاحم فيما
يرويه أبو هريرة (إذا وقعت الملاحم بعث الله بعثاً من الموالي هم أكرم العرب فرساً، وأجوده سلاحاً، يؤيد الله بهم الدين [13] ) .
أما بعد:
فإني لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أن أستقصي أو أن أستوعب، وإنما
هي شذرات منها أردت أن أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه
أحاديث الفتن وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.
لقد ألفّ كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة،
ولكنّ مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل من أوتي فهماً في حديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، وبصيرة في أحداث التاريخ والواقع. لقد ربط ابن كثير
في البداية والنهاية بين أحاديث الفتن، ولكنه وقف في ذلك على عصره، وبقيت
العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبؤات النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
ولعل قائلاً يقول: أي فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط
والتنظيم الدقيق؟ أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع أو الاستنامة
على نبؤات؛ الله أعلم بها متى تقع؟
وأقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل تلك الأحاديث عبثاً، ولم
يلحّ في الحديث عن الفتن لتسوّد بها صفحات من كتب الحديث، أو لتفرد في
مؤلفات تقرأ للبركة وتبيّن صدق نبوته -عليه الصلاة والسلام- فحسب! وإنما قالها
ليفقهها عنه المسلمون المعنيون بها في كل عصر من العصور، أنها جزء من
الرسالة التي حمّلها وأشهد عليها بقوله (ألا هل بلغت) والمطلوب من المسلمين
فهمها كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تفهم، والعمل بالوصايا التي
ضمّنها إياها.
إن كثيراً من الأحاديث إنما هي أشبه بالرؤيا! ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا
من آتاه الله علم تأويل الأحاديث، وهذا الصنف هو المرشّح لدراسة هذه الأحاديث
وفقه ما فيها وبث هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم، ويعرفوا
مواطئ أقدامها، فيعرف المسلم متى يعتزل الناس ويتبع بغنمه شعب الجبال ومواقع
القطر يفر بدينه من الفتن، وعلينا أن نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون
بدينهم ولا يحول بينهم وبينه حائل، فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم
وبينه السدود، وحالت بينهم وبينه القيود، فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون
به؟
إن البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده،
بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها، وأي
عمل اسلامي لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظل في رأيي غائم الوجهة والأساليب.
بل إن فقه أحاديث الفتن ضروري للدولة التي تلتزم بالإسلام، وقد مرّ بنا من قريب
الحديث الذي بين أن المسلمين في آخر الزمان يتحالفون مع الروم في قتال عدو
مشترك! وإن من يفقه أحاديث الفتن يستطيع من خلال إدراكه لروح العصر أن
يمتلك وعياً سياسياً يتنبأ به بما يخالف الرأي السائد! ! . وأضرب عل ذلك مثلاً
سمعته من أحد الثقّات يحدّث عن رجل صالح كان في الأردن، هو الشيخ الدبّاغ،
لقد كان هذا الشيخ يقول للناس ويقسم أن بريطانيا وحلفاءها سينتصرون في الحرب
العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك! بل لقد أسرّ إليه بعض
المقربين أن الشكوك بدأت تحوم حوله.. بأنه يقوم بالدعاية لبريطانيا: وقد بيّن
الشيخ -رحمه الله- الأساس الذي بنى عليه يقينه وهو أنه ربط بين حديث الرسول
- صلى الله عليه وسلم - الذي بين أن المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة،
وبين أحداث عصره، فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة
قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور وما تلا ذلك من أحداث ولن تقوم لليهود دولة إلا
إذا انتصرت بريطانيا! ولو انتصرت ألمانيا لتبدد الحلم اليهودي في الدولة! وقد
كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفسرّ به أحداث
عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أن يكون! ! وأقول في ضوء هذا: إننا بحاجة إلى
مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرة الروم (أي النصارى) في آخر الزمان،
وقتال المسلمين لهم، ومواضع هذا القتال، ثم فتح القسطنطينية ورومية، ونصر
اليهود للدجّال وقتل المسيح ابن مريم -عليه السلام- له في باب اللدّ في فلسطين،
ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام أفراداً وجماعات ودولاً!
إن البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل وليس من
باب الترف العلمي، أو الخدر العقلي، بل هو جزء من التخطيط والتفكير والتدبير
المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وللنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث وما فيها
من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن. مما سبق ذكره ومما هو مفصل في
كتب الصحاح.. ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نوكل إلى نفوسنا وتخطيط عقولنا أم
نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟ !
فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي والتاريخ وفقه الواقع
المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين ليكون
هداية لهم.. وليعرفوا مدى حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وحرصه على
نجاتهم من الفتن.. ويجدوا وهم يقرؤون ذلك تفسيراً عملياً لقول الله -عز وجل-
في وصف نبيه -عليه الصلاة والسلام-: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 128] .
__________
(1) مختصر صحيح مسلم 531 - 532.
(2) صحيح سنن ابن ماجة 2/356.
(3) مسلم - النووي - 2/361 - 362.
(4) مسلم - النووي - 2/361 - 362.
(5) مسلم - النووي - 2/361 - 362.
(6) اللؤلؤ والمرجان 3/311 - 314.
(7) م صحيح مسلم 543.
(8) صحيح ابن ماجة 2/386.
(9) م صحيح مسلم 542.
(10) مسلم - النووي - 535 - 536 - 537.
(11) مسلم - النووي - 535 - 536 - 537.
(12) صحيح ابن ماجة 2/389.
(13) مسلم - النووي - 2/390.(33/14)
خواطر في الدعوة
هندسة العلاقات الاجتماعية
محمد العبدة
من أشد الأمور فتكاً بالدعوة أن تصاب من الداخل، سواء بضعف الصف أو
بتقطع شبكة العلاقات الاجتماعية فيما بين أفرادها، كالتدابر والتحاسد والتغالب على
المناصب، وقد تكون هذه الأمور واضحة لا يقع فيها كثير من المخلصين، ولكن
هناك أمور أخفى من ذلك تستحق التأمل والوقوف عندها طويلاً، ذلك عندما يكون
الوعي الاجتماعي ضعيفاً، ولا نعلم: كيف نتحاور، كيف يرد بعضنا على بعض،
كيف يحترم الكبير، تأجيل موضوع إذا استغلق حتى لا يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كيفية المعاتبة والنصح ... الخ.
وقد يكون السبب عدم اهتمامنا بهذه النواحي أصلاً، لأن الاهتمام منصب على
العلم والفكر، مع أن قضية العلاقات الأخوية بحاجة إلى هندسة خاصة، نحتاج إلى
معرفة النفسيات والطباع، ومعاملة كل أخ حسب ما يناسبه، فلا نستطيع أن نطبع
البشر بطابع واحد، أو نصبهم في قوالب جامدة، فالرجال أنواع، فهناك البسيط
المنفتح وهناك الانطوائي الاجتماعي، ومن يحب العزلة، والجريء والخجول ...
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة في ذلك، كيف كان يعامل أصحابه
مع اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، كان أبو بكر هيناً ليناً وكان عمر شديداً، وعثمان
حيياً، ويبدو أن شخصية علي لم تفهم من بعض الصحابة فقد جاء في السيرة أن
الرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل الزبير بن العوام عن حبه لعلي فقال الزبير: كيف لا أحبه وهو ابن خالي وعلى ديني فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -
(ستقاتله وأنت له ظالم) وأظن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أراد أن ينبه الزبير وغيره إلى جوانب من شخصية علي قد تفهم على غير مرادها. ...
ويبدو أن الزبير - رضي الله عنه- نسي هذا الحديث، فعندما ذكّره به علي
في معركة الجمل تذكر وترك القتال فوراً، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كان يعرف نفسية علي التي أخطأ فهمها بعض الصحابة، والآن تجد الأخ يظن
ويعتقد أن في أخيه صفة غير محمودة، ويعامله على هذا الأساس لسنوات وأخوه لا
يعلم بهذا، ولا هو يحاول أن يسأله أو يستفسر منه حتى يتأكد، هل هذه الصفة فيه؟
فيقع في الظلم، ثم قد يتبين له الحق ولكن بعد أن تصاب العلاقات الأخوية
بالشلل.
إنها مصيبة أن يحدث هذا مع حسن النوايا، وذلك كله بسبب الاطلاع النظري
والعيش مع الكتب دون معرفة الواقع والتعامل معه، فقد يكون الرجل صامتاً أو
مداعباً ممازحاً، فيخوض الناس فيه وهو لا يدري. لماذا لا نستفيد من السيرة
النبوية، ولماذا لا نفكر في واقعنا ونحاول التعرف عل أسباب الخلل وهي كثيرة مع
الأسف.(33/19)
في العمل والدعوة
دعوها فإنها منتنة! !
بقلم: د. محمد محمد بدري
تحوي الحركة الإسلامية المعاصرة عناصر طيبة من الدعاة المخلصين
المتجردين العاملين من أجل الإسلام، ومع أن عمل هؤلاء الدعاة عمل جاد
ومتواصل. إلا أن الفرقة والاختلاف بين أفراد الحركة الإسلامية تجعل جهود
هؤلاء المخلصين تهدر دون الوصول إلى الأهداف المنشودة؟ ! .. وإلى هؤلاء
الدعاة المخلصين، وإلى كل المسلمين أهدي هذه الكلمات ليعلموا أن قضية الفرقة
والاختلاف هي القضية الأخطر التي نواجهها، وأن على كل منا أن يضع على
كاهله مسؤولية منع الفرقة بين المسلمين، بحيث يستوي في نفسه وفي عقله (وحدة
الصف الإسلامي) مع (إنقاذ ذاته من الهلاك) بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
محنة الفرقة:
فقد أمرنا الله تعالى بالوحدة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف فقال عز
وجل: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] وقال جل جلاله: [إنَّ الَذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] وقال سبحانه وتعالى: [ولا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ
تَبْيَضُّ وجُوهٌ وتَسْوَدُّ وجُوهٌ فَأَمَّا الَذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا
العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وأَمَّا الَذِينَ ابْيَضَّتْ وجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ] ... قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «تبيض وجوه أهل السنة
والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة» وقال عز وجل: [ولا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] وغيرها كثير من الآيات تأمر بالائتلاف وتحذر من الفرقة.
بل قد حذر الله -عز وجل- هذه الأمة من محنة الفرقة وأنها هي السبب
المباشر في هلاكها فقال عز وجل: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن
فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] .
وروى ابن كثير في تفسيرها بضعة عشر حديثاً في الصحاح، ومنها قوله -
صلى الله عليه وسلم -: «سألت ربي ثلاثاً، سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق
فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم
بينهم فمنعنيها» .
وفي حديث ثوبان في صحيح مسلم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
«إن ربي قال لي: إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط
عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - حتى
يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً» .
فالحديث يحمل بشرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمة الإسلام أن
أعداء الله لن يستطيعوا استئصالها ولو اجتمعوا عليها من جميع أقطار الأرض..
ولكن الهلاك الحقيقي في أن يتفرقوا فيقضي بعضهم على بعض ويهلك بعضهم
بعضاً.
فالفرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها في سلاسل من الحروب في غير معركة،
وانتصارات بغير عدو تحتوي الكدر للمخلصين وتهدر جهودهم؟ ! .
وهذا في الحقيقة يجعل التفرق محنة حقيقية إذا نحن لم نقرر جدياً التخلص
منها.. بل يجعل التفرق مصيبة نرجو الله -عز وجل- أن يجعل منها صلاح أمرنا..
واقع المحنة:
إذا كان ما نواجهه من فرقة محنة حقيقية، وكنا نتطلع إلى الوحدة والائتلاف
فإن هذا يقتضي منا أن نخلع أنفسنا من عصبياتنا وننظر إلى واقعنا نظرة عدل
وإنصاف، نظرة مجردة عن الأهواء والأغراض فلا نضع على أعيننا نظارة
المصلحة الحزبية، أو نظارة الصراع على الزعامة والقيادة بل نترك واقعنا يحدثنا
بما فيه دون رقابة أو تزيين، فماذا عساه يقول لنا هذا الواقع؟
إنه يقول، إن الخلاف بين فصائل العمل الإسلامي قد تجاوز حدوده وآدابه
وأحدث آثاراً سلبية تعاني منها المسيرة الإسلامية ويعايشها جميع أفرادها بمرارة،
وهي آثار لا تختص بميدان من ميادين العمل الإسلامي دون ميدان. بل هي في كل
ميادين العمل.. في الفكر.. وفي التربية.. وفي الحركة بل وفي أهداف العمل
الإسلامي ذاتها؟ ! .
1- في ميدان الفكر:
انحصر الانتاج الفكري في كثير من الجهات في فكر المؤسس فصارت
المؤلفات تكراراً لأفكاره أو شرحاً لها أو إشادة بتضحياته وجهاده. وأما مشكلات
الأمة وحاجاتها القائمة فلا بحث عنها ولا عن حلها. بل أكثر من ذلك إذا قام بعض
الأفراد من غير هذا الفصيل بمحاولة للبحث عن حلول لمشكلات الأمة أصبحوا هدفاً
للاتهام بعدم الالتزام، والابتداع في دين الله مهما كانت منزلتهم العلمية أو تاريخهم
الجهادي في الدعوة.
وكم من داعية تنحى عن طريق الدعوة بسبب هذا الإرهاب الفكري. وكم من
جهود فكرية طيبة أهملت بسبب التعصب؟ ! حتى هبط الفكر إلى الانغلاق والجمود.
2- في ميدان التربية:
حرص كثير من المربين على اجتذاب الأفراد حولهم وغرس مفاهيم الفصيل
الذي ينتمون إليه في عقول الأفراد، وفرضوا حولهم ستاراً حديدياً يحول بينهم وبين
الفصائل الأخرى وقد نتج عن هذه التربية الاحتكارية أن ترسخت في نفوس الأفراد
مفاهيم خطيرة، من أبرزها شهود الأفراد في كل فصيل أن واجبهم الأول هو
محاربة غيرهم ممن لا تتطابق نظرته مع نظرتهم وتطور الأمر إلى أن (من لم يكن
منهم فهو عليهم) وتسبب ذلك في كثرة الفتن والخصومات، بل ربما الوشاية
ببعضهم.
3- في ميدان الحركة:
على مذابح التعصب غاب مفهوم (الأمة الإسلامية) ليحل محله العصبيات
للأفراد والفصائل، حتى أصبحت هذه العصبيات تفرق أهل المدينة الواحدة،
ويعتلي داعية المنبر الذي كان يقف على مثله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فلا يتحدث عن أعداء الإسلام وإنما يشن حملة مؤسفة ضد مسلمين مثله فلا يذكر
عنهم إلا النقائص والعيوب ولا ينسب لهم مكرمة واحدة، وفي الجمعة الثانية يشن
خطيب الفصيل الآخر حملة مماثلة ويرد الصاع صاعين! ! .. وتصل الفرقة إلى
حد المأساة عندما يتحول الخلاف إلى عراك حقيقي تسيل فيه دماء مسلمة شاهدة
على السفاهة والجهل! ! ..
وهكذا استنفدت طاقات الأفراد في الخصومات مع إخوانهم، وترك الأفراد
التحديات التي يواجهها المسلمون من داخلهم ومن خارجهم.
4- في الأهداف والغايات:
تعلق الكثيرون برموز فصائلهم حتى نسوا الهدف وأصبحت تلك الرموز هي
الهدف في النهاية، هذه هي حالنا.. وهذا هو واقعنا في كلمات.. ليست كلمات
ناظر يهوى الحديث عما يراه، أو يحب النظر إلى الحركة الإسلامية من علٍ ويملي
عليها الدروس ولكنها معاناة فرد من أفراد الحركة الإسلامية يريد النصح لها ويحاول
مع غيره من المسلمين رتق خرق الفرقة قبل أن يتسع على الواقع، وتنبيه إخوانهم
إلى خطر الفرقة الداهم ليحاولوا تغيير واقعهم - واقع المحنة.
من يندم يتقدم:
ربما قال بعض إخواننا أن ما ذكرناه في واقع المحنة يعد كشفاً لعورات
الحركة الإسلامية بما يفيد أعداء الإسلام. وهذا في الحقيقة ليس صحيحاً وذلك لأن
ما عرضناه ليس من الأمور التي تخفى على أعدائنا، بل على العكس من ذلك هم
يعلمونها ويستفيدون منها ولهم أدوار خطيرة جداً في تكريس الخلافات بين الدعاة
وزرع التناقضات بين المسلمين سواء عن طريق تضخيم الخلافات بتغطية أخبارها
صحفياً، أو عن طريق إشعال نيران الفرقة بالمقابلات الصحفية لبعض قادة العمل
الإسلامي وسؤالهم عن رأيهم بالآخرين! ؟ .
أو عن طرق أخبث بإقامة السدود أمام كل محاولة نقد أو مراجعة للأخطاء،
وبتقييد الجرأة عل المصارحة والنقد الذاتي! !
ولذلك فإننا لا بد أن نتخلص من عقدة رفض النقد التي طالما سدت علينا
الطريق لتطوير حركتنا، فبيان الحقائق مهما كانت ثقيلة ومريرة أجدى نفعاً من
التهرب منها، والحركة التي تخشى أخطاءها ليست حركة صحيحة وإذا اكتشفت
خطاً من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر؟ !
فهل نشرح صدورنا للندم على أخطائنا فيكون ذلك الندم حافزاً لنا على
مواصلة كفاحنا بشعور أشد رهافة بمسؤوليتنا، وتصور أكثر وضوحاً لجوانب
الضعف فينا ولأخطائنا التي كانت سبباً في تخلفنا؟ ! وهل ندرك جميعاً أن (من
يندم يتقدم) .
الراجون رحمة الله:
لا شك أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله
وحده لا شريك له، كما أمر به باطناً وظاهراً. وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر
العبد به، ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة
وبياض الوجوه.
ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته وسواد الوجود وبراءة الرسول من أهلها
(ابن تيمية - الفتاوى 1/17) .
فالحرص على الاجتماع والائتلاف والموالاة العامة لكل المسلمين على أساس
التقوى سبب من أسباب تنزل رحمة الله، كما أن نتيجة هذه الرحمة من الله أن
تأتلف القلوب وتجتمع بعد الفرقة.
وقد كانت وحدة الأمة ورفع الفرقة هي النعمة الأولى التي امتن الله بها على
المؤمنين فقال عز وجل: [واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً] ...
وكانت هي النعمة التي امتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
الأنصار حين قال لهم: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي) ولذلك فالراجون رحمة
الله يحافظون على الجماعة وينبذون الفرقة ويطلبون رحمة الله بذلك فشعارهم (الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة والإِختلاف) .
والراجون رحمة الله: يوالون إخوانهم العاملين للإسلام ولاء عاماً، فلا
يحكمون على فرد بمجرد انتمائه، ولا يحكمون على فصيل من خلال تحرك فرد
من أفراده بل يوالون المؤمن من أي فصيل كان ويتعاونون مع فصائل أهل السنة
وإن كان بعض أفرادها على غيرها.
وصفتهم التي تميزهم [أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] . والراجون رحمة
الله يجعلون الحب في الله والأخوة فيه -عز وجل- بديلاً للجماعة الواحدة التي
يأملون أن تكون في يوم من الأيام هي (الأمة) المتآخية المتحابة كما أمر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في قوله:
«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» .
وهم يشعرون في إخوانهم أنهم (جمال الدنيا والآخرة) ويعلمون أن (العلم بين
أهل الفضل والعقل رحم متصل) كما يقول الشافعي - رحمه الله -.
الراجون رحمة الله: لا يدعون أحداً للتخلي عن شيخه الذي علمه أو جماعته
التي يتعاون معها، وإنما يريدون من كل عامل للإسلام أن يدرك أن شيخه وجماعته
وسيلة لغاية هي الإسلام. ولذلك فلا بد أن يكون ارتباطه بشيخه أو جماعته بقدر
كون هذه الجماعة أو ذلك الشيخ وسيلة إلى هذه الغاية على خير وجه.
والراجون رحمة الله: يعرفون لقادة الحركة الإسلامية وائمتها مقاديرهم
ومراتبهم ولكنهم مع ذلك لا يعطونهم العصمة التي لا تكون إلا لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم- فهم يقدرونهم ولا يقدسونهم وهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم.
بل كما يقول ابن القيم «لا بد من معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم
ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ولرسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه،
وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ
علمهم والحق بخلافها لا يوجب إطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان
طرفان جائران عن القصد وقصد السبيل بينهما، ألا نؤثم ولا نعصم، ولا نسلك بهم
مسلك الرافضة في علي، ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن
قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا
يهدرونها» اعلام الموقعين 2/272.
فالراجون رحمة الله يعلمون قدر كل رجل من رجال الحركة الإسلامية، فمهما
كان عظيماً لا يتعدون به حد الرجل، وإذا أخطأ لا يقللون من قيمته وقدره. فلا
يعصمونه عن الخطأ ولكن يبقون على مكانته وقدره وإن أخطأ. ذلك لأن (من له
علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً - كما يقول ابن القيم - أن الرجل الجليل الذي له في
الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة
والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن
تهدر مكانته وأمامته ومنزلته من قلوب المسلمين) اعلام الموقعين 2/272. ...
الراجون رحمة الله (لا ينتصرون انتصاراً عاماً مطلقاً إلا لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وصحابته -رضي الله عنهم-. ويعلمون أن الحق والهدى يدور
مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا) كما يقول ابن تيمية.
كلمة لابد منها:
إن الحق لا يختلف عليه أحد طالما اتصف بالعدل والعلم وحسن القصد..
وهي خصال موجودة بحمد الله تعالى في أكثر العاملين للإسلام.
والحق ليس حكراً على أحد طالما أن الكل ملتزم بإطار أهل السنة والجماعة
من رد الأمر عند التنازع إلى الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح ومن اتبعهم
بإحسان من اللائمة الأعلام، ولكل من يرى في أخيه خطأ فعليه أن يرشده وينصحه
ولذلك فإن لنا كلمة نريد بها النصح ولا نبغي بها إحراجاً ونريد بها البناء وليس
الهدم ...
نقول لقادة العمل الإسلامي أننا نعلم أن أكثركم يتحركون بروح أهل السنة
والجماعة ويحرصون على الائتلاف، ولا يقبلون أن يكونوا سبباً للفرقة. ولكن
بعض الذين تربونهم يخوضون في إخوانهم ويتعصبون لكم تعصباً يجاوز حد العدل
والانصاف فيشوهون صورتكم عند غيركم.
ولذلك فنحن نسأل الله -عز وجل- أن يوفقكم إلى تهذيب هذا الأمر في نفوس
من تربون، بتحذيرهم من الاختلاف والفرقة وتربيتهم على أن يكونوا دعاة وحدة
وائتلاف.
ونقول لأفراد الحركة الإسلامية أن الكثيرين منكم يحبون الوحدة ويبغضون
الفرقة، ولكنهم وقعوا في أيدي قادة متعصبين فلكم منا كل حب وتقدير واحترام،
ولكنا نطالبكم أنتم قاعدة الدعوة أن تحاسبوا هذه القيادات المتعصبة وأن تسألوهم ماذا
فعلوا من أجل ائتلاف المسلمين ووحدتهم؟ !
ونقول لكل المسلمين: إن أعداءكم يخافون ويفزعون حين يعلمون أنكم
تفكرون في توحيد صفوفكم وجمع كلمتكم، لأنهم يعلمون أن هذا هو طريقكم الأقرب
إلى النصر عليهم والتمكين لدين الله في كل الأرض.
دعوها فإنها منتنة:
إلى من ينفصل بطريق دون إخوانه ويعتقد أن مجموعته هي الوحيدة صاحبة
الحق في الوجود في الساحة الإسلامية وهي الوحيدة صاحبة الفهم الصحيح للإسلام! هذه دعوة للتأمل في قول الله عز وجل: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] وكيف قدم الله -عز وجل- إرادة التفرق على الاختلاف! !
وأخيراً أذكر بعض الجماعات الإسلامية المتصارعة، المتنافرة، المتناحرة
بما حدث حين كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا
للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع بذلك رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» قالوا: يا رسول الله كسع رجل
من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال - صلى الله عليه وسلم -: «دعوها فإنها
منتنة» رواه البخاري.
وأقول: إن التعصب لجماعة والولاء لها، ورفض بقية الجماعات التي تنتمي
لأهل السنة والجماعة ومعاداتها هي في حقيقتها دعوى جاهلية يقال لأهلها كما قال
النبي - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين والأنصار «دعوها فإنها منتنة» .(33/20)
المجتمع الاسلامي
التحذير من نشر الشائعات
هشام اسماعيل
المتأمل في الكتاب والسنة، وفي التاريخ بشكل عام يعلم يقيناً ما للشائعات من
خطر عظيم، وأثر بليغ، فالشائعات تعتبر (من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة
للمجتمعات والأشخاص، وكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وحطمت عظماء،
وهدمت وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من علاقات وصداقات، وكم هزمت
من جيوش، وأخرت من سير أقوام؟ !
لخطرها وجدنا الدول تهتم بها، والحكام يرقبونها معتبرين إياها مقياس
مشاعر الشعب نحو النظام صعوداً أو هبوطاً، وبانين عليها توقعاتهم لأحداث سواء
على المستوى المحلي أو الخارجي.
لسنا مبالغين حين نقول إن ما واجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - في
حديث الإفك، هو حدث الأحداث في تاريخه -عليه الصلاة والسلام -، فلم يمكر
بالمسلمين مكر أشد من تلك الواقعة، وهي مجرد فرية وإشاعة مختلقة بينت
(السماء) كذبها، لكنها لولا عناية الله كانت قادرة على أن تعصف بالأخضر واليابس، ولا تبقي عل نفس مستقرة مطمئنة، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهراً كاملاً
وهو يصطلي نار تلك الفرية، ويتعذب ضميره وتعصره الإشاعة الهوجاء، حتى
تدخل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة. وليكون درساً تربوياً رائعاً لذلك
المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة، وصدق الله: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم
بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] .
وللإشاعة قدرة على تفتيت الصف الواحد والرأي الواحد، وتوزيعه وبعثرته،
فالناس أمامها بين مصدق ومكذب، ومتردد ومتبلبل، فغدا بها المجتمع الواحد
والفئة الواحدة فئات عديدة) [1] .
وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (كفى بالمرء كذباً
أن يحدث بكل ما سمع) [2] .
ويقول الإمام مالك -رحمه الله تعالى -: (اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم
الإنسان بكل ما سمع) [3] .
وقد وقع للمسلمين في العهد الأول شائعات كان لها آثار سيئة، منها الشائعة
التي انتشرت أن كفار قريش أسلموا، وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة، كان
نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب،
فدخل منهم من دخل وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب
قريش ما كان هو فار منه.. فلله الأمر -سبحانه وتعالى-.
وفي معركة أحد عندما أشاع الكفار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتل، فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال؟ .
وأدت الشائعات الكاذبة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
إلى تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم وأصبحت لهم شوكة، وقتل
على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه.
وحادثة الإفك التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً، بل هزت المدينة كلها.
(هذا الحادث: حادث الإفك، قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها
آلاماً لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها
الطويل، وعلق قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقلب زوجه عائشة
التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل ... شهراً
كاملاً، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق) [4] .
وفي هذا الحديث ربى الله المؤمنين تربية شديدة، ووعظهم موعظة عظيمة،
وهو الحكيم الخبير.
يقول الله تعالى: [إنَّ الَذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ] .. فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً: إنما هم عصبة متجمعة ذات هدف واحد،
ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك، إنما هو الذي
تولى معظمه، وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين الذين عجزوا عن حرب الإسلام
جهرة.. وبدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره..
ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَّكُمْ] .. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأهل بيته،.
وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في
مواجهة مثل هذا الأمر العظيم ...
أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل واحد منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة:
[لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
[لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ] .
نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وأن
يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحماة.. وامرأة نبيهم الطاهر وأخوهم
الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظن الخير بهما أولى، فإنه مما لا يليق بزوج
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيراً..
كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته -رضي الله عنهما- ... [وهذا
يدل] على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه وأستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما
نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة.
هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور:
خطوة الدليل الباطني الوجداني.
فأما الخطوة الثانية؛ فهي طلب الدليل الخارجي البرهاني الواقعي:
[لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ
الكَاذِبُونَ] .. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة، وأن تشيع هكذا دون تثبيت ولا بينة،
وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: [لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ] وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن ...
وهاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير،
وخطوة التثبت بالبينة والدليل.. غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك، وتركوا
الخائضين يخوضون في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر
عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم، فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله
أبداً بعد هذا الدرس الأليم: [ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ
لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... ] .
لقد احتسبها الله للجماعة الناشئة درساً قاسياً، فأدركهم بفضله ورحمته ولم
يمسهم بعقابه وعذابه، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم؛ العذاب الذي يتناسب مع
العذاب الذي سببوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوجه وصديقه وصاحبه
الذي لا يعلم عليه إلا خيراً ... والقرآن يرسم لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام،
واختلت المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:
[إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً
وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ] ..
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار، وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور
وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: [إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ] .. لسان يتلقى عن لسان،
بلا تدبر ولا ترو ولا فحص وإنعام نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا
تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب!
[وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ] .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقولكم
ولا بقلوبكم.. [وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً] أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم
يعتصر قلبه وقلب زوجه وأهله.. [وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ] .. وما
يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض
والسماء ...
[ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ] ...
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً، وهي تطلعها على
ضخامة ما جنت، وبشاعة ما عملت.. عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل
هذا الأمر العظيم: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] ..
[يَعِظُكُمُ] .. في أسلوب التربية المؤثر، في أنسب الظروف للسمع
والطاعة والاعتبار مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان:
[يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً] ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة [إن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [5] .
والذي ينبغي على المسلم عند سماعه مثل هذه الإشاعات والأخبار أن:
1- أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم، وهو طلب الدليل الباطني الوجداني،
وأن ينزل أخيه المسلم بمنزلته، وهذه هي وحدة الصف الداخلي: [لَوْلا إذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] .
2- أن يطلب الدليل الخارجي البرهاني: [لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] .
3- أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه
الشائعات لماتت في مهدها ولم تجد من يحيها إلا من المنافقين: [ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ
قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا..] .
4- أن يرد الأمر إلى أولي الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة
عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، كما قال تعالى: [وإذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ
قَلِيلاً] [النساء: 83] .
والشائعات إذا حوصرت بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها
السيئة المترتبة عليها، ولكن ليس الإشكال في هذا بل الإشكال أن هناك فريق من
المؤمنين يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الإشاعات، هذا فضلاً عن فريق من
أصحاب القلوب المريضة التي تحب البحث ونشر مثل هذه الأمور، وقد بين الله
ذلك بقوله تعالى: [وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] [التوبة: 47] أي للمنافقين المغرضين،
وهذا هو الداء الكبير، وهو أن يرضى فريق من الناس الاستماع إلى مثل هذه
الشائعات، وإلى كلام المنافقين والمغرضين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى - (فأخبر أن المنافقين لو
خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين،
يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: (1) إما لظن
مخطئ، (2) أو لنوع من الهوى، (3) أو لمجموعهما..) [6] .
ولذلك فالنقطة الخامسة:
5- عدم سماع ما يقوله الكذابون، والمنافقون، والمغتابون، وأصحاب
القلوب المريضة، وعدم الرضى بذلك، كما هو منهج السلف -رضوان الله عليهم-.
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر [رضي
الله عنهم] ، عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال
تعالى: [واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] ، وإذا وقعت الفتنة لم
يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله) [7] .
وفي هذا العصر نجد للشائعات دور كبير، بل واستغلت ضد المسلمين
استغلالاً كبيراً، ومثل هذه الشائعات تحدث في الصف ثغرات تخل به، وأحياناً
تكون ثغرات كبيرة يصعب سدها؟ ! !
وخاصة إذا كانت الشائعات مصدرها من داخل الصف، من أناس جهلة، أو
لهم هوى خفي، أو ظن مخطئ.
وأما أعداء الإسلام فهم يستخدمون الشائعات ضد المسلمين وخاصة علمائهم
وقادتهم ودعاتهم، وغالباً ما يستخدمون في شائعاتهم طريقين:
1- إنشاء وتلفيق الأكاذيب والاتهامات بالعلماء والدعاة لزعزعة الثقة بهم،
والانصراف عنهم، فكم من العلماء والدعاة قيل فيهم أنهم عملاء، وأصحاب
مناصب ودنيا؟ ! ! .
2- تصيد الأخطاء العلمية والعملية، ونشرها بين الناس، وإعطائها حجماً
كبيراً، فيزيدون شائعات مكذوبة على أمر صغير، كالشيطان الذي يلقي على
الكاهن كلمة صحيحة، وتسعاً وتسعين كذبة؟ ! ! .
__________
(1) انظر الاشاعة لأحمد نوفل ص 127 - 128.
(2) اخرجه مسلم في المقدمة برقم (5) .
(3) انظر سير الأعلام النبلاء (8/66) .
(4) انظر في ظلال القرآن (4/2495) .
(5) انظر في ظلال القرآن (4/2500 - 2503) باختصار.
(6) انظر درء تعارض والنقل (2/ 105) .
(7) انظر منهاج السنة النبوية (4 /343) .(33/26)
التربية الإسلامية ضرورة حضارية
بقلم: محمد الإدريسي بخات
لا شك أن التربية الإسلامية هي أساس التغيير بل هي الحل الوحيد للإنسان
المسلم من أجل سعادته دنيا وأخرى. وما تحققه هذه التربية لا يحققه التعليم حتى
وإن كان دينياً لأن هذا الأخير ما هو إلا تلقين وتبليغ معلومات، أما التربية
الإسلامية فتعتمد في تحقيق أهدافها على القدوة والسلوك والمثل الحي، ونجد القرآن
الكريم يعتمد هذا الجانب ويركز عليه فيقول تعالى:
[.. كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] [آل
عمران: 79]
فهي تربية القرآن وحدها التي تضمن التغير الجذري الشامل من أعماق النفس
الإنسانية.
قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
[الرعد:11]
وأول منطلق تنطلق منه التربية الإسلامية هو أنها ترسخ في الأذهان العلاقة
بين العباد وربهم فهي علاقة غاية ورعاية وحب يشترك فيه ويتمتع به كل
المخلوقات، يغدقه عليهم رب العزة -جل جلاله-.. وهي علاقة عبادة وخشوع
وخضوع وطاعة مطلقة وحب أيضاً يلتزم به العباد نحو ربهم الكريم.. وهي أيضاً
ترسخ في أذهانهم أن العلاقة بين الخلق عموماً هي تبادل المنافع في حدود ما
يرضي الله - فالخلق كلهم عيال الله تعالى «وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» كما جاء
في الحديث الشريف.
وهكذا يتبين لنا أن النظرية الإسلامية في التربية تتصف بالتكامل والثبات،
وهو ما يعوز جميع النظريات التربوية في الغرب - فهي تستمد منطلقها من الله
رب العالمين.. ولا يخفى علينا ما تشع به كلمة (رب) من معاني التربية والرعاية
والعناية والحب.. وتنصب في تطبيقها على النفع العام الشامل لكل الخلائق -
وبذلك تتحقق الخلافة علي الأرض لهذا الإنسان الذي كرمه ربه تكريماً.
ولنا من تراث أجدادنا - والحمد لله - ذخيرة طيبة وثروة غنية من التجارب
الملتزمة بالإسلام، وليس لنا إلا أن نعود إليها فنقتبس منها ما يتلائم وعصرنا
الحاضر وتطلعاتنا لمستقبلنا الزاهر - مع الحذر مما تسرب إلى ذلك التراث من
تشويه مقصود أو غير مقصود.
فإذا كانت البلاد الإسلامية قد استوردت النظام التربوي الغربي لتطوير الجانب
الحضاري المادي فيها، فإن الإنسان الغربي اليوم يعاني فراغاً مخيفاً ويحس بإحباط
رهيب في جميع ميادين حياته - فقد حصل على التقدم الحضاري المادي الذي كان
يسعى إليه، ولكن ما كان يحلم به من سعادة لم يتحقق منها شيء بل لعله فقد منها
الشيء الكثير.. واعتقد أن خيبة الأمل التي ترتبت على هذا التقدم بسبب ما ولده
في النفوس من غرائز وأهواء عجز الناس هناك عن السيطرة عليها وكبح جماحها -
هي التي أدت إلى ما نجده عند (روني أوبير) صاحب كتاب (التربية العامة) من
تشاؤم أدى به إلى استعمال هذه التراكيب الكئيبة التالية: ( ... عصر تضربه
العواصف وفي مجتمع لا يدري بعد ماذا سيكون غداً بل ماذا يريد أن يكون ... )
وها هنا في الواقع تثوي عقدة (مأساة التربية المعاصرة..) في عصر طغت فيه
مشاغل الساعة الحاضرة على كثير من العقول. وسيطرت عليها الحوادث الآنية
السريعة. وعصفت بها زوبعة الأهواء الاجتماعية العامة. وسيقت إلى أن تسير في
دروب لا تدري مؤداها ...
إن أكبر خدمة يقدمها رجال الفكر إلى عصر (تعيس) ألا يقولوا له غير
الأشياء التي قبلوها على عاتقهم،، وهذه النغمة الكئيبة اصبحت اللحن الأساسي في
كل كتب المفكرين الغربيين تقريباً.
إن أسوأ ما تثيره زيادة التعرف على الكون ونواميسه لدى الإنسان الغربي
شعوران متناقضان تماماً:
1- الشعور بضآلته وضياعه.
2- الشعور بالغرور والكبرياء.
فمن طغى لديه الشعور الأول:
يشعر بالتمزق والضياع والقلق والغربة.. وتجرفه موجات إدمان المسكرات
والمخدرات أو الديانات والمذاهب الهروبية المزيفة.
ومن طغى لديه الشعور الثاني:
تأخذه العزة بكل اثم.. وتجرفه موجات الإلحاد والمذاهب الفاشية أو النازية أو
العرقية أو الشيوعية.. إلخ..
وإلى عهد قريب كان العالم الإسلامي يعاني الخذلان والضعف لأنه تخلى عن
مبدأ إعداد ما يستطيع من القوة ولم يعد يأخذ بأسبابها فابتلاه الله باستعمار مكشوف
أذاقه من الهوان والخسف ألواناً.
أما اليوم فقد أضاف إلى مصائبه ثالثة الأثافي بأن أضحى يشعر بالهزيمة في
أعماق نفسه إزاء ما حققه غيره من تقدم مادي أخذ بأسبابه وتخلى هو عنها. وبدل
أن يغير ما بنفسه فيغير الله ما به وجد من ينادي بأن مصيبته في دينه، فإن أراد
تحقيق ما حققه غيره فما عليه إلا أن يهجر هذا الدين جملة وتفصيلاً ويتبنى نقيضه
جملة وتفصيلاً. ورفع بعض من لا يحسون بالخطر إلا إذا نزل بساحتهم أصواتهم
يولولون فزعين مذعورين بأن في هذا محواً لكيان العالم الإسلامي وفناءه في الكيان
الدخيل. فإذا ببعض من عميت منهم الأبصار والبصائر يواجهونهم شامتين
متوقحين: وما في ذلك؟ فليكن!
تلك ضريبة التخلف والانحطاط، علينا أن نؤديها عن طيب خاطر أو وأنوفنا
مرغمة.. وقد وقع الأمران لشعوب عديدة قبلنا ولن نكون الأخيرين أيضاً..
والحضارات تموت لتقوم على أنقاضها حضارات.. والبقاء دائماً للأصلح والأقوى.
ولكن لله رجالاً يظهرون في الأوقات الحرجة التي يمر بها هذا الدين. وأربعة
عشر قرناً من عمر حضارته كافيه لتصدق نبوءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- بأن عل رأس كل مائة عام يبعث الله للناس من يجدد لهم أمور دينهم وهذه
الصحوة الإسلامية التي يعيشها عالمنا الإسلامي خير دليل على ذلك. ومن قلب
أرض النور ترتفع اليوم وغداً أصوات بعض هؤلاء الرجال يتنادون ليحتموا بالأمل
والرجاء.. ندعو لهم بالتوفيق والسداد ونعتبر أنفسنا مجندين لتطبيق كل ما يدعوننا
إليه من خير يصلح أمور ديننا ودنيانا.(33/31)
حركات سرية هدامة
الماسونية
مازن عبد الله
الماسونية أو البناؤون الأحرار (Freemasons) ، هي أقدم جمعية سرية
في العالم وأعمقها تأثيراً في مجرى أحداث التاريخ. ولقد اختلف المؤرخون في
تحديد تاريخ نشأتها، فمنهم من قال بأنها لا ترجع إلى ما وراء القرن الثامن عشر،
ومنهم من ردها إلى عهد بناء هيكل سليمان. والمؤرخون الذين قالوا في بأنها لا
ترجع إلى ما وراء القرن الثامن عشر أكدّوا بأن الماسونية تكونت مع بداية القرن
الثامن عشر من مجموعة من كبار المفكرين والعلماء الذين كفروا بتعاليم المسيحية،
فجاءت حركتهم كردة فعل على سلطان الكنيسة الواسع آنذاك. فلقد كانوا يجاهرون
بحرية الإنسان التامة واستقلاله من كل سلطة عليا (كسلطة الكنيسة) . وكانوا
يبغضون كل البغض الشرائع وكل النظم للهيئة الاجتماعية وعلى الأخص القوانين
الكنسية.
لقلد حافظت الحركة الماسونية على سريتها منذ إنشائها؛ فكانت تحرص على
ألا تكشف سرها إلا للذين اختبرتهم زمناً طويلاً. وكانت تعمل بالخفاء جاهدة،
مستغلة بعض الفلاسفة الملحدين أمثال فلتير وروسو ودلمار وفريدريك ملك بروسيا، الذين وجدت فيهم أنصاراً تكاتفوا في هدم أركان الدين وتخريب الممالك والعروش. وهكذا استمرت بعملها المنظم موجهة أغلب اهتمامها لإضعاف سلطه الكنيسة حتى
تمكنت من ضرب وحدتها سنة 1717 وظهور البروتستنتين. عندئذ أعاد الماسون
تنظيم حركتهم وغيروا فيها لتناسب الجو البروتستانتي الذى قرروا أن يؤيدوه ضد
الكاثوليكية، تكملة لمخططهم الذي وضعوه لضرب المسيحيين. فأسسوا في ذلك
العام محفل بريطانيا الأعظم، وأطلقوا على أنفسهم البنائين الأحرار بعد أن كانوا
فيما سبق يحملون اسم (القوة المستورة) .
وجعلوا من أهداف الماسونية الجديدة أو شعارها: الحرية، الإخاء، المساواة..
ومن بريطانيا، انتشرت الماسونية، فتأسس بإشراف محفل بريطانيا الأعظم:
- أول محفل ماسوني في جبل طارق سنة 1728.
- أول محفل ماسوني في باريس سنة 1732
- أول محفل ماسوني في ألمانيا سنة 1733.
- أول محفل ماسوني في أمريكا سنة 1733.
- أول محفل ماسوني في سويسرا سنة 1740.
- أول محفل ماسوني في الهند سنة 1752.
- أول محفل ماسوني في ايطاليا سنة 1763.
- أول محفل ماسوني في روسيا سنة 1771.
النورانية
في منتصف القرن الثامن عشر كانت حالة اليهود في أوروبا يرثى لها؛ ولقد
لقي هؤلاء من المسيحيين ما لم يلقه أحد. فلقد كان الصراع بين اليهودية والمسيحية
صراعاً عقائدياً ودموياً. فكان المسيحيون في أوروبا يضطهدون اليهود ويلاحقونهم
ويطاردونهم في كل مكان وجدوا فيه؛ ولقد ذبحوهم عدة مرات ونشروا الرعب في
صفوفهم وخاصة في القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.. عندئذ،
أي مع مطلع العقد السابع من القرن الثامن عشر، اجتمع عدد من كبار الحاخامين
والمديرين والحكماء، وقرروا أن يؤسسوا مجمعاً سرياً يعمل على تخليصهم من هذا
الوضع المزري ويعيد إليهم حقهم المسلوب وسلطانهم ومجدهم الموهوب من قبل
الرب كما يزعمون ولقد سموا هذا المجمع بالمجمع النوراني (The Illuminat) [1] . وكان المجلس الأعلى للمجمع النوراني مؤلفاً من ثلاثة عشر عضواً [2]
ويشكل هؤلاء اللجنة التنفيذية لمجلس الثلاثة والثلاثين [3] . وكان النورانيون
يجبرون كل عضو جديد ينضم إلى صفوفهم على أن يحلف أيماناً مغلظة بالخضوع
المطلق الشامل لرئيس مجلس الثلاثة والثلاثين والاعتراف بمشيئته مشيئة عليا لا
تفوقها أية مشيئة أخرى على الأرض كائنة من كانت.
شعار النورانيين
معاني رموز الشعار:
- الهرم: يرمز إلى المؤامرة الهادفة إلى تحطيم الكنيسة الكاثوليكية (كممثلة
للمسيحية العالمية) وإقامة حكم ديكتاتوري تتولاه حكومة عالمية على نمط الأمم
المتحدة.
- العين: التي في أعلى الهرم ترسل الإشعاعات في جميع الجهات: ترمز
إلى وكالة تجسس وإرهاب أسسها وايزهاوبت على نمط الغستابو تحت شعار الأخوة
لحراسة أسرار المنظمة وإجبار الأعضاء على الخضوع لقوانينها.
- الكلمتان المحفورتان في أعلى الشعار (Annuit Coeptis) تعنيان:
مهمتنا قد تكللت بالنجاح.
- الكلمات المحفورة في أعلى الشعار (Novus Ordo Seclorum)
معناها: النظام الجديد.
وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الشعار لم يتبن من قبل الماسونية إلا
بعد دمج أنظمتها بالأنظمة النورانية إبان مؤتمر فلمسباد سنة 1782 م. ...
ملاحظة: هذا الشعار هو الذي تبناه وايزهاوبت عندما أسس منظمة في أيار
1776 وهو نفسه الذي يظهر على أحد وجهي الدولار الأمريكي. والتاريخ الذي
تعنيه الأرقام المحفورة على قاعدته بالحرف الروماني (MOCCLXXVI) تعني
1776 تاريخ إعلان إنشاء المنظمة وليس تاريخ إعلان وثيقة الاستقلال الأمريكي.
النورانية تخترق الماسونية وتسيطر عليها:
في عام 1773 دعا ماير روتشيلد، أثنى عشر رجلاً من كبار الأغنياء
والمتنفذين لملاقاته في فرانكفورت، وكان الهدف من وراء هذا الاجتماع هو إقناع
هؤلاء بضرورة تنسيق الأمور فيما بينهم وتجميع ثرواتهم وتأسيس مجموعة واحدة
تمكنهم من تمويل الحركة الثورية العالمية فيستخدمونها للوصول إلى الهدف الأسمى
عندهم، ألا وهو السيطرة على الثورات والموارد الطبيعية واليد العاملة في العالم
بأجمعه: ولقد انتهى هذا الاجتماع بإقناع أغلبية المجتمعين بفكرة ما ير بعد ذلك أمد
ماير رجلاً يدعى آدم وايزهاوبت بالمال ليضع مخططاً على أسس حديثة يستهدف
تحقيق أهداف المجتمع النوراني وتطوير محافله. فقام هذا بمهمته خير قيام إذ
نظم سنة 1776 جماعة يبلغ عددهم نحو ألفي شخص، في محافل سماها محافل
النورانيين، واختار وايزهاوبت أنصاره من علية القوم، زاعماً أن الهدف من ذلك
هو إنشاء حكومة عالمية واحدة من ذوي القدرات والكفاءة والذكاء، لتحكم العالم
حكماً خيراً رشيداً، ووضع حد للحروب والعصبية والويلات. ولكن الهدف من ذلك
كان درس التسلل إلى قلب الماسونية الأوروبية والإفادة من تغلغلها وسريتها في
التمهيد لكنيس الشيطان للسيطرة على العالم.
لقد قرر النورانيون محفل الشرق الأكبر في مدينه انغولدشتان بألمانيا، مركزاً
لانطلاق حملة تغلغل المنظمة في قلب الماسونية الأوروبية في كل مكان.. في هذا
الوقت، كان وايزهاوبت قد وضع مخططه الذي كان يستدعي تدمير جميع
الحكومات والأديان الموجودة، وذلك عن طريق خلق معسكرات متناحرة
ومتصارعة في المجتمعات غير اليهودية التي يسمونها الجوييم (لفظة يطلقها اليهود
على جميع البشر من الأديان الأخرى) وإبقائها في حالة حرب حتى تضعف جميعها
وتكفر بكل القوانين والأديان، فيصبح من السهل على هؤلاء الشياطين أن يسيطروا
على تلك الشعوب المنهكة ويسيروها كيفما شاؤوا.. وكانت خطة وايزهاوبت
تقتضي اتباع الخطوات الآتية:
1- استعمال الرشوة بالمال والجنس للوصول إلى السيطرة على الأشخاص
الذين يشغلون المراكز الحساسة في جميع الحكومات وفي مختلف مجالات النشاط
الإنساني.
2- حث النورانيين على العمل كأساتذة في الجامعات والمعاهد العلمية ليتسنى
لهم اصطياد الطلاب النابغين والمتفوقين من الأسر العريقة فيغررونهم بأنفسهم بحكم
تفوقهم ويعطونهم الشهادات والرتب والألقاب والمنح، ثم يقنعونهم بفكرتهم
ويضمونهم إلى المحافل النورانية.
3- تدريب الشخصيات ذات النفوذ والطلاب المتفوقين الذين تم اصطيادهم،
ومساعدتهم بكل الوسائل على تولي أخطر المراكز الحساسة لدى جميع الحكومات،
بحيث يكون في إمكانهم توجيه سياسة تلك الحكومات بشكل يخدم على المدى البعيد؛ مخططات المجمع النوراني في القضاء على جميع الأديان والحكومات.
وهكذا، وعلى هذا الأساس، بدأت النورانية بتطبيق مخططاتها وترجمتها
عملياً على الأرض، عاملة على جبهتين: الجبهة الأولى وهي جبهة الشعب،
وتطبق فيها خطة وايزهاوبت الآنفة الذكر، والجبهة الثانية وهي جبهة الحركة
الماسونية بالأجهزة النورانية، وذلك سنه 1782 وهكذا تمكنت النورانية اليهودية
بإشراف موسى مندلسوهي، من النفاذ إلى قلب الماسونية الأوروبية الحرة على يد
آدم وايزهاوبت، تحت ستار محفل الشرق الأكبر.
أما بالنسبة للجبهة الأولى، ولما كانت فرنسا وإنكلترا أعظم قوتين في العالم
في تلك الفترة، أصدر وايزهاوبت أوامره بإثارة الحروب الاستعمارية من أجل
إنهاك بريطانيا وإمبراطوريتها، والعمل على تنظيم ثورة كبرى، يتم التخطيط لها،
من أجل إنهاك فرنسا. ولكن في سنة 1784 ولسوء حظ وايزهاوبت، وقعت
مخطتها التي وضعت على شكل وثيقة في أيدي رجال أمن تابعين لحكومة
بافاريا [4] ، وذلك في منطقة راتسبون (RATTSBONO) في طريقها من ... فرانكفورت إلى عملاء وايزهاوبت في باريس، الذين أوفدهم إلى فرنسا لتدبير الثورة فيها.
وعلى أثر اكتشافها تلك الوثيقة، أمرت حكومة بافاريا بإغلاق محفل الشرق الأكبر
عام 1785 واعتبرت جماعة النورانيين خارجين عن القانون.. ومنذ ذلك الوقت،
انتقل نشاط النورانية إلى الخفاء؛ وأصدر وايزهاوبت تعاليمه إلى أتباعه بالهجرة
إلى سويسرا وفرنسا والعمل مع رفاقهم في الماسونية الحرة من أجل نجاح مخططه
من هناك.. وبالتقاء ماسونية الشرق الأكبر النورانية مع الماسونية الغربية الحرة،
جرت منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، الأحداث الكبرى في أوروبا وأمريكا
بصورة خاصة وفي العالم كله بصورة عامة وبشكلها الذي جرت وتجري فيه.
تحذيرات ضائعة والمؤامرة مستمرة:
عندما انتقل أتباع وايزهاوبت إلى سويسرا وفرنسا والتقوا برفاقهم في
الماسونية الحرة، كانت النورانية في ذلك الوقت قد سيطرت سيطرة تامة على
الماسونية ومحافلها كما ذكرنا، وفرضت عليها مبادئها وأدخلت إليها طقوسها
الخاصة (تنظيمها الإداري، إدارة الاجتماعات، الدرجات والترب والألقاب) .
وهناك بدأ العمل المشترك بالخفاء لتنفيذ مخطط وايزهاوبت. لقد اتبع هؤلاء في
عملهم هذا كل الأساليب، مستفيدين من كل الأوراق التي يمتلكونها، مستعملين
أدنى الوسائل وأحقرها من أجل الوصول إلى أهدافهم، ذلك أن هؤلاء، ومن
ورائهم موجهوهم حكماء النورانية، يؤمنون بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة.. وهكذا فلم
يأت عام 1789 حتى اندلعت الثورة في فرنسا وسقط الملك، وسقطت الملكة ودفعا
رأسيهما ثمن تجاهلهما لتحذيرات الحكومة البافارية. وكما حذرت حكومة بافاريا
حكومات فرنسا وإنجلترا وروسيا من خطر هؤلاء، فلقد حذر منهم حتى بعض
الماسونيين الذين كانوا من رؤساء الماسونية الحرة والذين أحسوا بخطر هؤلاء على
حركتهم بشكل خاص وعلى العالم بشكل عام، تجرؤوا، وبدافع غيرتهم عل بلادهم
وشعبهم، على البوح بأسرار هؤلاء ومخططاتهم ولطالما حذروا منهم؛ ففي عام
1789، عام انفجار الثورة في فرنسا، حذر جون روبسون [5] الزعماء
الماسونيين من تغلغل جماعة النورانيين في محافلهم ولكن تحذيره هذا لم يسمع.
وفي عام 1798 عمد روبسون إلى نشر كتاب أسماه (البرهان على وجود مؤامرة
لتدمير كافة الحكومات والأديان [6] ) ولكن هذا التحذير تجوهل كما ... تجوهلت التحذيرات التي سبقته، وفي التاسع عشر من تموز 1798، أدلى دافيد باين، رئيس جامعة هارفارد، بنفس التحذير إلى المتخرجين في أمريكا. وفي عام 1826 حذر الكابتن وليام مورغان (أحد رؤساء ومنظمي الماسونية الحرة في أمريكا) بقية رفاقه الماسونيين والرأي العام وأعلمهم وشرح لهم الحقيقة فيما يتعلق بالنورانيين ومخططاتهم السرية وهدفهم النهائي، ولكن النورانيين استطاعوا أن يتخلصوا منه عن طريق أحد عملائهم وهو الانجليزي ريتشارد هوارد، الذي تمكن من اغتيال مورغان على مقربة من وادي نياغارا على الحدود الكندية وعلى الرغم من أن هذا الحادث أدى آنذاك إلى استياء وغضب ما يقرب من 40% من الماسونيين في شمالي أمريكا وهجرهم للماسونية، فلقد تمكن هؤلاء القائمون على تلك المؤامرة وبحكم نفوذهم، من طمس تلك الأحداث، والتشويش على كل التحذيرات التي كانت تصدر بين الحين والآخر وحذف حوادث بارزة كثيرة من مناهج التدريس التي تدرس في المدارس الأمريكية وغيرها.. وهكذا تنسى التحذيرات والمحذرون وتتجاهل، وتبقى المؤامرة.
__________
(1) Illuminat The أي المجمع النوراني: وكلمة نوراني مشتقة من كلمة (لوسيفر) Lucifer التي تعني حامل الضوء وهكذا فإن المجتمع النوراني قد أنشئ لتنفيذ الإيحاءات التي يتلقاها كبار الحاخامين من لوسيفر خلال طقوسهم الخاصة.
(2) تجدر الإشارة هنا بأن بني إسرائيل يتألفون من ثلاث عشرة قبيلة.
(3) وهي نسبة الى الرتبة 33، وهي من أعلى الرتب التي يمكن أن يصل إليها النوراني.
(4) كانت بافاريا حتى عام 1870، احدى كبريات الدول الجرمانية المستقلة، ثم انضمت في عام 1870 إلى الاتحاد الذي أسسه بسمارك.
(5) روبسون: أحد كبار الماسونيين في اسكتلندا وأستاذ الفلسفة الطبيعية في جامعة أدنبرة وأمين سر الجمعية الملكية فيها.
(6) طبع هذا الكتاب في لندن ولا تزال بعض المتاحف محتفظة بنسخ منه (المتحف البريطاني) .(33/34)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
شروط نجاح الدعوات
إن كل دعوه أو حركة تعتمد على أسس ثلاثة:
الأول: المبدأ أو المعتقد الواضح المتميز الذي تنادي به وتقوم من أجله أياً
كان هذا المبدأ، ومنه تتحدد أهدافها وغاياتها، وعلى ضوئه تكون نظمها ومفاهيمها.
الثاني: الأنصار والأتباع الملتفون حول هذا المبدأ الملتزمون به.
الثالث: القيادة التي تسير بهؤلاء الأتباع إلى تحقيق الأهداف.
فإذا توفرت هذه الأسس الثلاثة، من وجود معتقد واضح صحيح تتحدد على
ضوئه المقاصد والغايات، ووجود أنصار صادقين مؤمنين مستعدين للتضحية في
سبيل نجاح معتقدهم، ووجود قيادة حكيمة قوية قادرة على السيطرة على المواقف
والتوجيه السليم، وتجنب العثرات ما أمكن.
إذا وجدت هذه الأسس، وتحققت لدعوه ما، احتاجت في نجاحها إلى أمرين:
الأول: تهيؤ الظروف المكانية.
الثاني: تهيؤ الظروف الزمنية.
سلمان بن فهد العودة - الغرباء الأولون
أخلاق العلماء
يقول ابن قيم الجوزية:
جئت ابن تيمية يوماً مبشراً بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له
فنهرني وتنكر لي واسترجع. ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني
لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو
هذا من الكلام. فسروا به ودعوا له. وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي
عنه.
ابن القيم - مدارج السالكين 2/259
فكرة التوجيه؟ !
التوجيه قوة في الأساس، وتوافق في السير، ووحده في الهدف.. فكم من
طاقات لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف؟ ؟
وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى،
صادرة عن نفس المصدر، متجهة إلى نفس الهدف!
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت. فهناك ملايين السواعد
العاملة، والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت،
والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل، المكون من ملايين السواعد والعقول، في
أحسن ظروفه الزمنية، والإنتاجية، المناسبة لكل عضو من أعضائه.
وهذا الجهاز حين يتحرك، يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشور، وفي
هذا تكمن أساساً فكرة توجيه الإنسان، الذي تحركه دفعة دينية، وبلغة الاجتماع
الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى (الجماعة) ومعنى (الكفاح) .
مالك بن نبي - شروط النهضة(33/39)
خواطر عن القصة في القرآن الكريم
د. مصطفى السيد
(وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما) [1] ... بهذا التلهف الأسيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لانقطاع السرد والقص، في قصة الخضر وموسى -عليهما السلام-، بهذا التلهف تتأوج مكانة القصة بين بقية الأنواع الأدبية، كما تتوزع قضاياها في القرآن الكريم، وتتوسع شبكة اهتماماتها، فتنعكس على مرآة القص في القرآن نفسية اليهود وقد عرّتهم الآيات من كل الغرر، وطوقت أعناقهم بكل العرر لتلازمهم أوصافهم كألوان عيونهم، وفي قصص القرآن صورة الأبوة المرّزأة المفجعة في يعقوب، والأمومة المولهة كما في أم موسى ... إنها رصيد التجربة وتقطير المسيرة التاريخية، فهي في الشكل كما قال تعالى: [أَحْسَنَ القَصَصِ] .
أما المضمون فاقرأ قوله عز اسمه: [وكلا نقص عليك من أنباء الرسل]
(التاريخ) [ما نثبت به فؤادك] (التربية والطمأنينة) [وجاءك في هذه الحق
وذكرى] (للقص مضمون علمي) [وموعظة للمؤمنين] (الوعظ) أو التطهير (هدفان دائمان للأدب ... ) .
القصة القرآنية ليست أزجاء للأعمار في مستنقعات الفن الرخيص الذي تسبح
فيه بعض الأقلام التي تتقرى وجبات الجنس ثم تتقيأ سوادها على بياض القرطاس ...
يقول العقاد عن خطورة هذا الاتجاه: «لا فرق بين من يحتال لكسب المال
من إدارة أماكن الفساد، ومن يحتال لكسبه من ترويج كتب الفساد، بل ربما كانت
مصيبة الأماكن التي تدار للإتجار بالأعراض أهون خطراً من مصيبة الكتب التي
تعرض للبيع في كل سوق، لأن البيت الواحد مقصور على زواره الباحثين عنه
ولكن الكتاب الذي تباع منه مئات النسخ أو ألوفها خطر يقع فيه كل من يلقاه في
طريقه إلى المكتب أو الرصيف.
وفي القصة القرآنية لا يبستر البطل أو يختزل، بل يعطى فرصة متساوية
مع البطل الضد، يعطي كلا البطلين الممثلين لقضيتين مختلفتين فرصاً متساوية في
إظهار هويتهما الفكرية مهما تكن فجة ومتعجرفة أو بهيمية متمردة.
تسجل هذه القصة قاله فرعون لعنه الله: [أنا ربكم الأعلى]-[ما علمت لكم من إله غيري] .
ومقولة قارون: [إنما أوتيته على علم عندي] .
ولمن سال لعابهم أمام ثروة قارون [يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون] يسجل
ذلك كله لأن الشر في العمل الفني لا يموت بكبته واختصار حضوره كما في نتاج
بعض الأصوات الأدبية، وأن الخير لا ينصف بتهميش دوره وتقزيم حضوره كما
يلحظ في قصص العلمانيين والملحدين.
وذلك لأن الفن الأدبي أشبه بإقامة المرآة أمام الحياة لتعكس للفضيلة محياها
وللزاوية صورتها ولجسد العصر والمجتمع شكله وأثره.
وفي القصة القرآنية إشادة واضحة بصراحة الفعل وصراخة الموقف، ففي
سورة طه خطاب موسى -عليه السلام- فرعون وحاشيته في بعض فصول قصة
فرعون وموسى والتي جاءت منجمة في سور القرآن، كقول رسول الله موسى -
عليه السلام-: [ويْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وقَدْ خَابَ مَنِ
افْتَرَى] . وحين تفلس قضية فرض الكفر والإلحاد يلجأ فرعون إلى أقصر الطرق
للإقناع» ذروني أقتل موسى «ويتوحد القول والفعل والموقف في شخصية مؤمن
آل فرعون هذه الشخصية يعرضها لنا القرآن الكريم عبر صوت هادئ وقور،
يوجه خطابه لا لخصمه وحده بل للبشرية جميعها، وفي هذا الخطاب تتحقق أهم
خصوصيات العمل الأدبي.
تجاوزه المناسبة التي قيل فيها ليكون غير مقيد بالزمان أو محتجز بالمكان
ولتصبح علاقته بالزمان والمكان علاقة عطائية تجددية [أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ
رَبِّيَ اللَّهُ] لم يرد في ثنايا الآيات اسم الرجل وهذا اتجاه أدبي وذلك بعرض القضية
لا الشخصية. ويلاحظ أن أبا بكر استشهد بهذه الآية غداة موقف مماثل تعرض له
رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
كما في هذا الموقف حتمية خذلان الدجاجلة [إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
كَذَّابٌ] .
كما في موقف هذه الشخصية الكشف عن السنن الدائمة الثابتة لحركة التأريخ، وأنها تعمل ضد أولئك الذين يحادون الله ورسوله.
[يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن
جَاءَنَا] .
وإذا استعرضنا نموذج المرأة في القرآن الكريم لا نجد هذا النموذج انتفائياً لا
يعرض للمرأة إلا صورة واحدة، أو استلابياً بحيث تبدو فيه المرأة سلعة أو شيئاً،
إن (نموذج) المرأة في القرآن أو صورة المرأة في القصة القرآنية جاءت متكاملة
متوازنة فيها: الأمومة الحانية: [وإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] .
والمولهة: [وأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً] .
والحاكمة: كما في سورة النحل اثناء الحديث عن سبأ [إنِّي وجَدتُّ امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ] .
والمحكومة: [وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ
لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ] .
والمحادة لزوجها: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وامْرَأَتَ لُوطٍ] .
والخاضعة لشهوتها ثم النائية: [أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ] .
[إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ] .
ومستهدفة بالإشاعة كما روج أهل الإفك لأمنا عائشة -رضي الله عنها-: [إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهُوَ عِندَ
اللَّهِ عَظِيمٌ] .
وفي التطبيق العملي أقدم قصة يوسف -عليه السلام- والتي وصفها الله عز
وجل بقوله [أَحْسَنَ القَصَصِ] ولقد استأثرت القصة بالسورة كلها.
والقصة تنطلق من رؤيا ليوسف -عليه السلام- تتحول إلى مأساة عائلية، ثم
تنحو منحى إنسانياً، إذ يدخل فيها أكثر من طرف، وتحفل بأكثر من دور، وتعالج
القضايا ذوات العدد.
ومكان القصة يتردد بين مصر وفلسطين.
والزمن التاريخي فترة نبوة يعقوب ويوسف.
والرؤيا هي نقطة البدء في القص كما نلحظ بأنها حدث مركزي فقد ترددت في
حوار يوسف مع صاحبي السجن عندما سألاه عن رؤيتيهما، وكان في تفسير
يوسف -عليه السلام- لرؤيتيهما نقطة تحول في سير القصة حيث أهله ذلك لينتقل
من السجن إلى قصر العزيز، وفي المرة الثالثة تحمل الرؤيا يوسف -عليه السلام-
إلى الوزارة وهي بداية المأساة ونهايتها.
وبدأ السرد برؤيا أو بقول القاص (رأيت فيما يرى النائم) تقنية أخذ بها القاص
في العصر الحديث وطورها.
والانطلاق في القصة من الرؤيا يتيح للقاص مجالاً أوسع في المعالجة حيث
يتمكن من مزج الخيال واللا واقع بالواقع كما يعفيه من المسؤولية غير الأدبية عن
إبداعه. وجانب القضايا التي في قصة يوسف -عليه السلام- وإن كان يبدو
شخصياً فهو ليس بعيداً عن الإنسانية كلها وهذه ميزة القصة العظيمة التي لا تتقوقع
في ذاتها حول نقسها، بل هي بقدر ما تكون صورة لصاحبها تكون في الوقت نفسه
مرآة للبشرية كلها.
فما أعطي يوسف من حسن في الحديث الصحيح (شطر الحسن) ومنزلة عند
أبيه أشعل الغيرة في قلوب اخوته، وهذه الغيرة دفعت بعضهم أن يقترح التصفية
الجسدية ليوسف -عليه السلام- وهذه القضية تجبرنا على قراءة عميقة لكثير من
خصومات البشرية لنتبين أن تغطية هذه الخصومات بالعلم أو بالمصلحة العامة ما
هي إلا غطاء للمشكلة الأساس (الحسد) ، ورحم الله عمر بن أبي ربيعة القائل:
وقديماً كان في الناس الحسد..
والقضية الثانية قضية المرأة، فمكانة امرأة العزيز الاجتماعية لم تعصمها عن
مراودة يوسف -عليه السلام-، وكانت الخلوة وجمال يوسف من دوافع هذه
المراودة ويبدأ الصراع ولكن بين امرأة العزيز وبين الفضيلة متمثلة بيوسف -عليه
السلام-.
ولقد دار الجزء الأكبر من الفن القصصي منذ أقدم الأزمنة حتى الآن حول
مثل هذا الموضوع موضوع المرأة.
ولقد تطور موقف امرأة العزيز في القصة فبعد أن أخفقت في محاولتها انتقلت
للضغط المادي والمعنوي على يوسف بالأمر بسجنه [ليسجننّ وليكونا من الصاغرين] مستغلة في ذلك سلطتها ومكانتها، وعلينا أن نلاحظ أن شخصية
يوسف -عليه السلام- كانت سبباً حمل إخوته على إبعاده، وأن هذه المزايا هي
التي حملت أيضاً امرأة العزيز على إلقائه في غياهب السجن ويوسف كان مظلوماً
في الحالين.
ولكن الحدث ينضج امرأة العزيز فهي ما أن تسمع بأن الألسنة أخذت تلوك
سمعتها إلا وتقرر المبادرة إلى إمتحان عملي لمن تناول موقفها باللوم وتأتي النتيجة
لصالحها [فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ وأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ
مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا
هَذَا بَشَراً إنْ هَذَا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ] .
ولم يكن يوسف -عليه السلام- ليقبل بالمساومة أو ليرهبه السجن فذكريات
الجب قريبة وهو أشد ظلماً وإيلاماً من السجن الذي يكون دخوله بداية لمرحلة مهمة
في القصة.
أما امرأة العزيز التي خسرت بداية المعركة على صعيد ما فقد كسبتها في
النهاية وطهرها الحدث من موقفها السابق فهي تعترف بمراودة يوسف [أَنَا رَاوَدتُّهُ
عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ
الخَائِنِينَ * ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَّحِيمٌ] .
وهكذا فقد انتهت القصة لصالحها وهو ما فازت به من نضج وتوبة، ولصالح
يوسف وهي الثقة التي مهدت له أكثر عند العزيز وأخيراً لا آخراً إن اعترافات
امرأة العزيز تخلي نهائياً ساحة سيدنا يوسف -عليه السلام- من أي خطأ وهذا لو
تنبه له بعض المفسرين لما أطالوا في مناقشة هذه القضية، وفي نهاية القصة إيماءة
إلى أن القص ليس نشر المباذل وتجميل السواقط، بل إن المسؤولية الأدبية والفنية
للأديب يجب أن تجعله وفياً للتعاقد المعنوي القائم بينه وبين القراء فلا يجعل من
عقره وسقوطه عقداً وسقوطاً لقرائه.
ولم يكن يوسف ليجعل من السجن وقتاً ضائعاً وانخراطاً في عالمه الساقط (أي
عالم السجن) بل حوله الى مدرسة تربوية لتعليم العقيدة الصحيحة مستغلاً حاجة
سائليه إلى تأويل الرؤيا:
[يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ
مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ
لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] .
أرأيت إلى إيجابية وعطائية هذه الشخصية، فالسجن إن حبس الجسد بين
أسواره فلن يحبس اللسان والجنان، ولم يحل بين الداعية ودعوته.
وكما استغل يوسف حاجة صاحبيه في السجن للدعوة إلى التوحيد استغل حاجة
إخوانه إلى الامتيار من خيرات مصر، ورسم خطة للأحداث تنتهي بمواجهتهم
وانتزاع هذه الشهادة منهم [تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وإن كُنَّا لَخَاطِئِينَ] . هذه
الشهادة تأتي متوازية مع شهادة امرأة العزيز وقبل كل ذلك وبعده هناك يعقوب الذي
يتابع هذه المأساة بالصبر ثم تنفرج أساريره عندما انتهت المأساة إلى الحل.
ونجد حسن ظنه بالله [ولا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ] .
[إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ] .
كما نجد مثل ذلك عند يوسف -عليه السلام- (فاستعصم -معاذ الله -إنه ربي
أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) .
وأخيراً أدعو القارئ الكريم إلى التأمل في هذه الشذرات اللغوية الآسرة
الساحرة والتي وردت في القصة، أختار بعضها:
[إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] .
[يَخْلُ لَكُمْ وجْهُ أَبِيكُمْ] .
[أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ] .
[أَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ] .
[هَيْتَ لَكَ] .
[واسْتَبَقَا البَابَ] .
[قَدْ شَغَفَهَا حُباً] .
[قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ] .
[يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ] .
[تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ] .
[الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ]
[وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ] .
[ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] .
[فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِياً] .
[واسْأَلِ القَرْيَةَ الَتِي كُنَّا فِيهَا والْعِيرَ الَتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا] .
[يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأَخِيهِ ولا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا
يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] .
[لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ] .
[إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ] .
إنه لدرس لكثير من كتاب القصة الذين تشاغلوا بالواقع عن المعمار اللغوي
المتأنق، وتنبيه للجماليين بأن خدمة الموضوع وقضايا المجتمع عطاء للشكل الأدبي
الذي يصبح بدونه إيقاعاً خالياً من أي معنى.
القصة مدرسة مفتوحة تكسر حدود العرف فهي في غرفة النوم، وقاعة
الدرس، وكرسي الطائرة، تستخدم اللغة وتخدمها وتعلم الأمة وتمتعها، وتنقل الينا
عبر هذه الوسيلة السحرية - اللغة -تجارب الآخرين المخففة والناضجة والتي تمتد
سنين وقروناً نعتصرها في يوم أو بعض يوم فنعيش عمرنا أعماراً وعصرنا
أعصاراً.
ولئن كانت القصة بهذه المنزلة فإنتاجها يكون ضرورة أدبية وتوظيفها يغدو
مسؤولية شرعية، فقد وظفت في القرآن كما رأينا ولذا فمراجعة الأديب المسلم
الدائمة للنموذج القرآني في القصة من الأهمية بمكان عظيم حتى يكون أدبه صوتاً لا
صدى، وهادفاً لا هاتفاً.
ولقد اخترت الكلام عن القصة لأنها باتت من أهم الأنواع الأدبية الحديثة،
والكثيرون من النقاد يرون بأنها ستكون في المستقبل - وربما صارت - الجنس
الأدبي الذي يحتكر القراءة والقراء، ففيها من الشعر لغته، ومن المسرح قضيته،
ومن المعروف أن الشعر ذا الطابع القصصي يتقدم على ما سوا5. وإذا عرفنا أن
القصة هي المشكل الأول لعقل الطفل ولغته، والمكون الأساسي لثقافة الكثير من
شبابنا وشاباتنا، فلو رحنا نحلل فكرياً وسلوكياً ثقافة هذه الشريحة لوجدناها غالباً لا
تعدو مجموعة من القصص، إذا عرفتا ذلك أدركنا أهمية هذا الفن.
إن القصة تفعل الماضي وتخصبه ليكون المستقبل لأنها حوار الأنا والتاريخ.
ويإنتاجنا للقصة الجادة نجبه النص الضد، والكتابة المنشقة على الإسلام،
ونحول بين عقول قرائنا وبين التلوث الفكري وأدب السوق السوداء الذي يزاحم
الفضيلة ويتمدد على حساب قيمنا.
هل لي أن أذكر بأن المعاناة والنية الطيبة والالتزام تشكل مرتكزاً للنهوض
بهذا الفن شريطة أن يرتكز هذا النهوض على موهبة في القص وقراءة نهمة في
الإنتاج المحلي والعالمي ليكون صوتنا منسجماً مع إيقاع العصر؟ !(33/42)
قصيدة
يا أخا الإسلام
شعر: أحمد بشار بركات
يا أخا الإسلام في هذا الزمنْ ... يا أخي في الرُّزءِ في كلِّ الشَجَنْ
ها هي البلوى وقد قاسيتها ... قمْ أخي في الدين واصمُد للمحن
كيف ترضى عيشَ ذلٍ دائمٍ ... هل ستحيا خانعاً طول الزمن؟ !
يا سليل المجدِ هل من صحوةٍ ... خلَّ عن عينيك ذياكَ الوسن؟ !
أنت من قومٍ كرامٍ سادةٍ ... أنت دون الناس أنت المؤتَمنْ
كنت بالإيمان دوماً طاهراً ... كيف ترضى أن يُغَشِّيكَ الدَّرَنْ؟ !
إننا أصحاب حق واضح ... لا يدانينا لئيمٌ ذو ضَغَنَ!
يا أخي كَفْكِفْ دموعاً ثرةً ... ليس يجدينا بكاءٌ أو حَزَنْ!
لا تقلْ إني ضعيفٌ مُرْغَمٌ ... قُمْ فقاوم بالتُّقى ذاكَ الوَهَن
انْشُدِ العلياءَ وادفعْ مَهْرَها ... طالِبُ الحسناءِ لا يخشى الثَّمن
احمِ أرضَ الطُّهر واصرخْ بالعدا: ... إنني آليتُ أن أحمي الوطن(33/48)
الصفحة التعليمية
همزتا الوصل والقطع
همزة الوصل:
تعريفها: هي همزة زائدة في أول الكلمة، يؤتى بها للتخلص من النطق بالساكن.
الأمثلة: اسم، اكتب، استغفر، اجتماع، استقلال، انقلاب ...
فائدتها: يتمكن الناطق بواسطتها أن ينطق بما أوله حرف ساكن، حيث أن
من خصائص العرب في كلامهم أنهم لا يبتدئون بحرف ساكن، ولا يقفون على
متحرك.
حكمها:
تكتب وتلفظ إن قرئت ابتداء، مثل:
[اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] .
وتكتب ولا تلفظ إن جاءت في سياق الكلام وسبقتها كلمة، مثل:
[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... ] .
أين توجد:
- في فعل الأمر الثلاثي المجرد، مثل:
نصر: انصر.
جلس: اجلس.
علم: اعلم.
- وفي الفعل الماضي الخماسي والسداسي أمره، ومصدره، مثل: ...
الماضي الخماسي ... أمره ... ... مصدره
انطلق ... انطلق ... ... انطلاق
ارتقب ... ارتقب ... ارتقاب
***
الماضي السداسي ... أمره ... ... ... مصدره
استعلم ... ... استعلم ... ... استعلام
احرنجم ... ... احرنجم ... ... ... احرنجام
- في هذه الأسماء:
(اسم، ابن، ابنة، امرؤ، امرأة، ايم، ايمن (وكلاهما قسم) ، اثنان،
اثنتان)
- وفي همزة (ال) التعريف.
همزة القطع، (وتسمى أيضاً همزة الفصل) :
تعريفها: هي همزة زائدة في أول الكلمة مثل: أكرم، أكرم، إكرام.
حكمها: تكتب وتلفظ سواء وقعت في أول الكلام، مثل:
أحسن إلى الفقراء.
أو في سياقه مثل: يا مسلم أحسن إلى الفقراء.
أين توجد:
- في أول بعض الحروف، مثل: إلى، أو، أنّ، إنّ، أنْ، إذا.
- في أوائل بعض الجموع، مثل: أحمال، أولاد، أماجد.
- في الفعل الماضي الرباعي وأمره ومصدره مثل:
الرباعي الماضي ... الأمر ... المصدر
... أعطى ... ... ... أعط ... إعطاء
أسبغ (وضوءه) ... ... أسبغ ... ... إسباغا
- في أفعل التفضيل: أولى، أفضل.
- في الصفة المشبهة: أشهب، أعور.
نص لم يلتزم فيه بالتفريق بين همزة الوصل وهمزة القطع:
البينة على المدعِي، واليمين على من انكر، والصلح جائز بين المسلمين،
الا في صلحاً احل حراماً او حرم حلالاً، ومن أدعى حقاً غائباً او بينة فاضرب له
امداً ينتهى إليه، فان بينه اعطيته بحقه، وان اعجزه ذلك إسْتَحْلَلْتَ عليه القضية،
فان ذلك هو ابلغ في العذر واجلى للعماء،
نص التزم فيه ذلك:
البينة على المدعِي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين،
إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقا غائباً أو بينة فاضرب له أمداً
ينتهى إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن
ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء.(33/49)
شؤون العالم الإسلامي
المسلمون في شبه القارة الهندية
دور المخابرات الهندية في اضطرابات السند
أحمد موفق زيدان
اندلعت في الشهرين الماضيين أعمال عنف شديدة في إقليم السند بباكستان
الذي يعاني منذ مجيء حكومة حزب الشعب حالة من الفوضى والإرهاب
واللامسئولية حيث قلما يمضي يوم دون قتلى أو خطف أو اعتقالات أو نهب أو
مداهمة بيوت حتى وصل الأمر إلى إطلاق الرصاص وبشكل عشوائي وهمجي على
الأهالي دون تفرقة بين طفل وهرم، ولا نريد أن نتجاهل حوادث العنف التي كانت
تحدث قبل بي نظير بوتو ولكن الوضع المتأزم الذي وصلت إليه البلاد ما كان
ليحصل - والله أعلم - لو كان الجيش عل رأس الإدارة الأمنية لهذا البلد، وفي
مقالنا هذا الذي نود تسليط الأضواء على الدور الهندي في هذه الاضطرابات لا
ينبغي أن نتناسى العامل الداخلي الذي ينخر في جسم هذا البلد منذ استقلاله وحتى
الآن، وهذا العامل هو الذي هيأ للهند أو غيرها لتتدخل في شئون باكستان الداخلية.
خلفية الإقليم العرقية:
بدأت مشاكل باكستان عموماً ومشكلة السند خصوصاً في أعقاب التقسيم الذي
قضى بقيام باكستان كدولة والهند كدولة، وحصل حينها مسألة الفرز السكاني على
أساس العقيدة حيث هاجر مسلمون هنود من شمال الهند إلى باكستان واستوطنوا
إقليم السند وحصراً في كراتشي وحيدر آباد، كما هاجر مسلمو البنجاب الشرقية
واستوطنوا في إقليم البنجاب الباكستاني ونظراً للتوافق العقدي واللغوي والثقافي
والتاريخي بين الطرفين لم يحصل أي مشاكل، أما مسلمو الهند المدعوون بـ
(المهاجرين) أو الذين سموا أخيراً (أهل الأوردو) نسبة إلى لغتهم الأم التي يتكلمونها
وهي الأوردية فقد وقعت بينهم وبين أهل المنطقة الأصليين السنود خلافات وذلك
في غياب الدعوة الإسلامية الحقيقية والتصور الإسلامي الصحيح.
ومما يذكر أن نسبة البنجابيين في باكستان تتصدر المرتبة الأولى حيث
يبلغون 48. 17% من سكان باكستان، أما البشتون الذين يأتون في المرتبة الثانية
فيصلوا إلى 13. 14%، ويبلغ السنود 11. 7%، ثم المهاجرون7. 60%
والبلوش 2. 49%، وذلك حسب إحصائيات 1961.
وتبلغ نسبه المهاجرين في السند 35% ويتمركزون في كراتشي وحيدر آباد
ويعزو البعض خلافات السنود معهم إلى نشاط وحيوية المهاجرين ومنافستهم أهل
البلاد الأصليين في التجارة والصناعة والحرف وهذا يحدث جرياً على عادة نشاط
المهاجرين بشكل عام في العالم، وخمول السكان الأصليين، وزاد الطين بلة عندما
قام أيوب خان رئيس باكستان (1958 - 1969) بتوزيع أراضٍ كثيرة لأهل السند
على العسكريين والجيش والشعوب غير المنتمية للسند. ويقول تقرير خاص قدمه
أعضاء البرلمان الباكستاني في تلك الفترة أن حوالي 4 ملايين هكتار وزعت من
قبل أيوب خان على هذه الجهات.
السنود الذي يرون الآن أن نسبتهم في إقليمهم أصبحت أقل من نصف سكان
كراتشي يتخوفون على مستقبلهم خاصة وأن النظرة ليست على أساس أن هؤلاء
إخوة لنا في الدين ويتوقعون أن يحصل المهاجرون وغيرهم من غير السنود على
أغلبية البرلمان في الانتخابات القادمة، خاصة وأن كراتشي التي كان عدد سكانها
عام 1947 حوالي 350 ألف نسمة وصلت الآن إلى 7 ملاين نسمة كما أنها تعتبر
مركز باكستان التجاري والصناعي الأول، حيث تستقبل 90 - 95% من
استيرادات باكستان ونفس الأمر في التصدير، أما ضريبة المبيعات فيصل سهمها
بالنسبة للمناطق الباكستانية الأخرى 80% وضريبة الدخل حوالي 60%، وكان
قلق السنود في البداية من البنجابيين عندما استوطنوا في بداية الستينات المناطق
المروية والخصبة ولكن بعد منتصف السبعينات بدأوا يظهرون قلقهم إزاء
المهاجرين، والحقيقة أن مسألة تخوف السنود أو البلوش من المستقبل واردة عن البعض الذي يرى أن البنجابيين أو البشتونيين هم المتحكمون في قياده باكستان واقتصادها، فمثلاً بلوشستان التي تعتبر أكبر مصدر للغاز الطبيعي في باكستان محرومة منه في الوقت الذي تنعم به الأقاليم الأخرى وغير هذا من المشاكل.
وزاد من حنق السنود عندما نادى الرئيس الراحل ضياء الحق بتوطين
البهاريين المقيمين في باكستان الشرقية في إقليم السند حيث غضبت الأحزاب
السندية واعتبرت هذا مؤامرة موجهة ضد أهالي السند لتخفيف وزنهم ونسبتهم.
وهناك عدة منظمات سندية عرقية نشأت من المنظمة الأم بعد الانفصال وهي
(جي سند) أي منظمة السند المتحدة ولكن في بداية السبعينات انشق (رسول بخش
باليجو) وأسس منظمة (سند عوامي تحريك) وبقي غلام محمد سيد رئيساً لـ (جي
سند) كما نشأت في تلك الفترة حركة سندية وهي فرع لحزب الشعب، ويترأسها
ممتاز على بوتو.
وطالبت حركة منظمة السند المتحدة في 18 يونيو 1972 عبر برنامجها
الحزبي بالاستقلال الذاتي باستثناء الشؤون الخارجية والعملة، كما طالبت
بالاعتراف باللغة السندية كلغة قومية وكلغة وحيدة على مستوى الإقليم، وقد انشق
فيما بعد حيدر بخش جاتوي عن باليجو وأسس حركة على المنهج الماوي الصيني
الشيوعي. ويقود بالمقابل حركة المهاجرين القومية الصيدلي ألطاف حسين الذي
كان عضواً في الجماعة الإسلامية الباكستانية التي أسسها الإمام المودودي ولكن في
بداية الثمانينات انشق عنهم بحجة أن الجماعة لم تقدم لأبناء عرقه شيئاً وأسس
حركة وهو المرشد الروحي لها ولكن لا يقول بأنه رئيس الحركة حتى لا يدخل في
حزبيات المهاجرين وإنما مرشد روحي لهم يوفق بين آرائهم المتنافرة فيما لو
حصلت، وقد أسست الحركة أخيراً كما يتردد ميليشيا للدفاع عن أبناء عرقها من
هجمات السنود المدعومين من حزب الشعب.
مجازر وأحداث:
في 30 سبتمبر 1988 وقعت مجزرة رهيبة في حيدر آباد راح ضحيتها
200 شخص عندما هاجم مجهولون تجمعاً شعبياً وبدأوا يطلقون النار على الأهالي
وفي 18 مايو الماضي قامت المخابرات الباكستانية باعتقال الدكتور قادر مكي وهو
سندي وتعتقد الاستخبارات الباكستانية بأنه العقل المدبر لهذه العملية التي استهدفت
المهاجرين وهو نفسه يرأس (جي سند) جناح التقدم، ثم تتابعت الأحداث مثل حادثة
القطار في كراتشي ورشق باص مملوء بالناس بالرصاص في كراتشي والانفجار
الأخير في حيدر آباد وغير هذه الأحداث كثير. كما قام الطرفان السنود
والمهاجرون بخطف بعضهم بعضاً حتى طال الأمر مسؤولين من الجماعتين وقد بلغ
عدد ضحايا موجة العنف الأخيرة مئات من القتلى وآلافاً من المشردين.
دولة سندوديش:
بدأت قيادات حركات السنود الانفصالية بالتحدث صراحة عن دولة لهم على
غرار بنغلاديش، وبدأ يردد البعض أن إمارات الخليج ليست بأكبر مساحة من
السند ويؤسسون دولتهم عليه وكان الأمر قد وصل ذروته في أوائل العام الماضي
عندما رفع علم سندوديش في مطار كراتشي. وفي 19 - 20 مايو الماضي قامت
مجموعة من السنود بالهجوم على (حي إسلامياً) في حيدر آباد ورفعوا شعارات
تطالب بدولة سندوديش، كما قامت مجموعة (جي سند) بإغلاق الطرق في حيدر
آباد ورفعت شعارات مؤيدة لقيام سندوديش، وفي مؤتمر صحفي عقده فاروق
الحسن جيلاني أحد زعماء السنود طالب علناً وصراحة بدولة سندوديش والتي
ستضم حسب زعمه كراتشي وحيدر آباد وكوتري وسكر. وقال السكرتير العام
لحركة (تاج جويا) وهو المدعو (عدابي سانكان) : (إذا لم تمنحنا البنجاب حقوقنا
فسيقوم شعب السند بالانفصال، وأضاف إن الشعب إذا لم يحصل على ما يريد
فسيفكر حينها بالانفصال) مجلة نيوز لاين الباكستانية، يوليو / 1990. ...
رأي القيادة الباكستانية:
تباينت آراء القيادة الباكستانية حيال الأحداث الأخيرة، وبعيداً عن التوتر
الذي طرأ بين القيادة العسكرية والسياسية حيال من يتسلم الملف الأمني فقد أخبر
الجنرال ميرزا أسلم بيغ قائد الجيش الباكستاني نواز شريف وبي نظير بوتو أمام
رئيس الدولة ولكن بشكل منفصل بأن الجيش لن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى
البلاد تتمزق وتتشتت على يد السياسيين. ونقلت مصادر باكستانية بأن بي نظير
طلبت من بيغ أن يهاجم أو يشدد على حركة المهاجرين فرفض خاصة وأنه مهاجر
مثلهم هاجر من الهند عقب الانفصال وقال بيغ أمام بوتو إن المهاجرين فيهم الصالح
والطالح مثل الأحزاب الأخرى.
نصرت بوتو نائبة رئيسة الوزراء ووالدتها حملت المهاجرين مسؤولية
الحوادث التي تقع، وانتقدت وصف الرئيس إسحاق خان لعملية البوليس التي سقط
ضحيتها عدد من النسوة اللواتي طالبن بعودة الحكم العسكري ورفعن شعارات
وصور ضياء الحق، وقالت نصرت: إن حركة المهاجرين بالتعاون مع
الاستخبارات الهندية تنفذ عمليات وحوداث كراتشي وحيدر آباد.
الرئيس الباكستاني غلام إسحاق خان قال وبصراحة إن كل حزب من
الأحزاب الباكستانية يحتوي على عناصر إرهابية، هذا الأمر أزعج وأقلق رئيسة
الوزراء بي نظير.
فتش عن أصابع الهند:
لم تجمع القيادة الباكستانية بكافة شرائحها مثل إجماعها على تورط يد الهند في
اضطرابات السند الأخيرة التي ستشغل باكستان عن استعداداتها لمواجهة الهيمنة
الهندية أو مساعدة كشمير أو المجاهدين الأفغان.
وتحصر الدوائر الباكستانية المطلعة الاتهام في الاستخبارات الهندية المسمى
بـ (راوا) ففي المؤتمر الصحفي الذي عقدته رئيسة الوزراء بعد عودتها من زيارة
قادتها لبعض الدود العربية في 17/7/1990 اتهمت بي نظير الهند وبصراحة في
تدخلها وتورطها في تمرير المخربين ودعمهم ومساندتهم في أحداث السند الأخيرة.
وفي لقاء لأحد مسؤولي جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية مع صحيفة
(فرايدي تايمز) يوم 1/7/1990 قال: (إن الهند قامت عن طريق عملائها من كلا
الحزبين الشعب والمهاجرين باستخدامهم في إحداث التوتر) .
وفي تصريح لسيد أحمد أمير حيدر كاظمي وزير الصحة الفدرالي نشر في
الصحافة الباكستانية يوم 21/7/90 قال: (حسب علمنا هناك عملاء تسربوا إلى
داخل إقليم السند وعندما سئل عن هويتهم أجاب بأنه لا يريد التحدث بأي شيء
حول هذه النقطة ولكن القادة الهنود قد أشاروا سابقاً إلى أنهم سيعملون بورقة إقليم
السند ضد باكستان) .
ومنذ فترة طويلة والجيش الباكستاني - كما تنقل عنه الصحافة - يتهم
السلطات الهندية ومخابراتها بإشعال فتيل الفتنة في السند؟
إستراتيجية المخابرات الهندية في السند:
منذ انفصال بنغلاديش عن باكستان بتعاون وتورط هندي في 1971
والاستخبارات الهندية (راوا) تحاول جاهدة لفصل السند عن باكستان لاضعافها
وشرذمتها، وبالتالي تتمكن الهند من الاستفراد بالمنطقة حيث لا معارض ومنافس
لها إلا باكستان وتعمل المخابرات الهندية لتحقيق هذه الغاية عن طريق عدة محاور:
أ- ثبت عن طريق المطبوعات وعملائها وحتى صانعي القرار في الحكومة
الباكستانية أن العامل العقدي ليس كافياً للتلاحم القومي والوطني وبالتالي لا بد من
انفصال كل عرق لنفسه، ولهذا تحاول (راوا) إضعاف جذوة الإسلام في هذا البلد.
أما السياسيون الباكستانيون القوميون حتى من غير الإسلاميين فيدعون إلى أن يكون
الإسلام هو القاسم المشترك كما قال جناح الذي يدعى بمؤسس باكستان في إحدى
خطبه بعد الانفصال: إذا أردتم لهذا البلد الاستمرار فالقاسم المشترك الإسلام ولا بد
من نشر العربية وتقوية صلاتنا بالبلاد العربية، حيث إن الدين يجمع العرقيات أما
غيره من اللغة ونحوها فلا يمكن لأن اللغة مختلفة فيما بين العرقيات الباكستانية.
2- تمكنت (راوا) من النفاذ إلى صانعي القرار في القيادة الباكستانية وهذا ما
أبلغته المخابرات الباكستانية للصحافة ولكن دون أن تذكر أحداً بالاسم ومما يذكر هنا
حادثة اعتقال فريدة أحمدي الأفغانية والتي كانت تترأس منظمة أفغانية شيوعية
ولدى تحقيق المخابرات العسكرية الباكستانية معها اعترفت بعلاقاتها مع المخابرات
الهندية وبالأدلة كما اعترفت بعلاقاتها مع بي نظير بوتو رئيسة الدولة.
وتعمل (راوا) عن طريق عملائها من صانعي القرار بتنفيذ ما تريده وهي
نفس السياسة التي اتبعتها الهند عقب انفصال باكستان مع الحركات العرقية
البشتونية في إقليم سرحد حتى وصلت إلى قوتها الحالية.
كما تفيد تقارير المخابرات الباكستانية إلى أن الهند وصلت أيضاً إلى
المنظمات الطلابية الباكستانية وبعض التجمعات الدينية، كما مارست سياسة
التضليل الإعلامي حتى ينبني عليها قرارات مصيرية خاطئة. وتأكيداً لنفاذها إلى
بعض القيادات فقد اعتقلت المخابرات الباكستانية الدكتور (قادر مكي) زعيم حركة
(جي سند) جناح التقدم يوم 18 مايو الماضي وهو العقل المدبر لمجزرة سبتمبر
1988 وأدانته المخابرات الباكستانية بأنه أحد عملاء الهند في أعقاب المجزرة
وتابعت أموره الاستخبارات الباكستانية ولما عاد مؤخراً قبضت عليه، وكان (مكي)
أعلن حرباً مفضوحة ووحشية ضد حركه المهاجرين.
3 - صرح أحد كبار مسؤولي المخابرات العسكرية الباكستانية لصحيفة
فرايدي تايمز الأسبوعية يوم 1/7/90 قائلاً: (إن الهدف الأساسي لأحداث السند
هو صب الزيت على النار وإنعاش التوتر العرقي كي يتحول الأمر إلى حرب أهلية
واسعة النطاق والتي ستؤدي أخيراً بقطع الطرق عن مدينة كراتشي وتبقى منعزلة
عن المدن الباكستانية الأخرى) .
فالحرب الأهلية هو مراد ومرام الهند من تخطيطها ضد باكستان وإذا ما وقعت
- لا سمح الله - فستصبح باكستان فريسة سهلة للهندوس.
4- أقامت الهند معسكراً خاصاً على حدودها مع باكستان ودعته قسم العمليات
الخاصة لاستغلال الأفراد الباكستانيين المتشردين من الأحزاب العرقية وتدريبهم ثم
إرسالهم للسند وبث الاضطرابات فيها مع تهريب الأسلحة والمخدرات كما يقوم
هؤلاء العملاء بالمقابل بتزويد المخابرات الهندية بالمعلومات عن باكستان، كما
أقامت الهند معسكراً خاصاً آخر للتدريب العسكري وترسل المدربين للمناطق
المضطربة مع أدوات التخريب الضرورية.
5- تعمل الهند وعلى المدى البعيد وحسب خطة مدروسة متقنة إلى ضرب
البنية التحتية للجيش الباكستاني الوحيد الذي يقف في وجه الهيمنة والتسلط الهندى
في المنطقة ولذلك فقد هللت الهند لمقتل هذا العدد الضخم من القادة الباكستانيين
العسكريين في حادثة طائرة ضياء الحق يوم 18 أغسطس 1988.
وهذا ما يفسر هجوم القادة الهنود بعد وصول بي نظير على الجيش وبدأوا
يعبرون عن تخوفهم منهم على مسيرة الديمقراطية التي باتوا خائفين عليها
وحريصين على مصلحة باكستان! وهل يمكن أن يتحول الذئب إلى حَمَل بين يوم
وليلة؟ ! .(33/52)
خدعة السلام العالمي
من الشعارات الخادعة التي تلوكها الألسنة كثيراً، ويحلم بها بعض الذين
يحملون أفكاراً نظرية خيالية شعار (السلام العالمي) . فهو من جهة مخالف لسنة من
السنن التي أودعها الله في الكون وهي سنة الصراع [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] . وهو من ناحية أخرى لم يتحقق في عالم الواقع. ومتى
كان القوي يعطي فرصة السلام للضعيف عندما تكون شريعة الغاب هي السائدة.
ومنطلق العنجهية هو المتكلم ولهذا أمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نعد العدة بشكل
مستمر ودائم لنرهب أعداء الله، حتى لا يفكروا بأن يجعلوا المسلمين لقمة سائغة.
وإذا كان لابد أن نستفيد من التاريخ القريب أو البعيد، فإن كتاب (مائة
مشروع لتقسيم تركيا الدولة العثمانية) تأليف الوزير الروماني (دجوفارا) ، ينبئنا هذا
الكتاب عن الحقد الدفين، كما ينبئنا عن النفس الطويل الدائب في الكيد للإسلام
والمسلمين، فهذا السياسي الروماني [1] كتب عن مائة مشروع قدمت للدول الغربية
كي يتقاسموا المنطقة العربية الإسلامية بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي وانتهاء
ببداية القرن العشرين.
بدأت هذه المشاريع بعد الحروب الصليبية، وكلها تدور على كيفية إضعاف
الإسلام واحتلال بلاد المسلمين، ثم تطورت إلى كيفية تقسيم الدولة العثمانية
وإبعادها عن أوروبا، والمقدمون لهذه المشاريع إما قساوسة أو مفكرون سياسيون،
وبعض هذه المشاريع كان خيالاً يومها ولكن بعضها (مثل الاستيلاء على مصر من
قبل بريطانيا) تحقق بعد سبعة قرون، وبعض هذه المشاريع يركز على الحرب
الاقتصادية. وهذه نماذج من هذه المشاريع:
- المشروع التاسع: قدمه (غليوم دادام) وتاريخه سنة 1311 م ومقدم هذا المشروع كان راهباً قضى معظم حياته يعظ بالإنجيل في بلاد الشرق وذهب إلى الحبشة والهند، وكانت آراؤه غريبة، فكان يشير بأن يأخذ الصليبيون مدينة القسطنطينية [2] كما يشير بعمارة أسطول في بحر فارس لمنع تجارة الهند مع مصر. وعقد محالفة مع ملوك العجم (فارس) وقطع تجارة مصر مع الشرق الأقصى بوضع قوة صليبية في بحر الهند وعدن، وقد كان هذا الأمر في ذلك الوقت ضرباً من المحال [3] .
- المشروع الرابع والعشرون: وتاريخه سنة 1571 م وهو مقدم إلى البابا بيوس الخامس، وأكثر موضوعه يدور على إيجاد المال اللازم لغزو الترك، وأما عدد الجيش اللازم فيقرره صاحب المشروع بمائة ألف راجل، وخمسين ألف فارس، وخمسين ألف بحري، ويقترح أن يسير الملك الجرماني من جهة البر، ويسير الأسطول الفرنسي من جهة البحر، وتوزع الأسلحة على نصارى الشرق، ويكتب إلى شاه العجم لمهاجمة الترك من الوراء [4] .
- المشروع الرابع والأربعون: وهو مشروع مقدم من الفيلسوف الألماني (لبينتز) وتاريخه 1672 م وقد استمر في تحريره أربع سنوات، وقدمه إلى لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وكان يقترح قبل كل عمل البدء بفتح مصر ويقول:
(إنه إذا انتزعت مصر من يد الأتراك آل أمرهم إلى البوار) ويقول مخاطباً لويس الرابع عشر: (إنك أنت في حربك مع هولندا لا تجد حليفاً إلا الحليف الذي تشتريه بالمال، أما إذا حاربت تركيا فما أكثر أنصارك! فإسبانيا وأمراء إيطاليا والبابا وملك بولونيا يكونون معك!) [5]
واستمرت المشاريع وتحققت أحلامهم بإنهاء الدولة العثمانية والقضاء على
الخلافة، ويمكن أن نلحق في العصر الحديث بعضاً من مشاريع الغرب لتقسيم
المنطقة العربية الإسلامية. فقد نفذ مشروع (سايكس بيكو) بعد الحرب العالمية
الأولى، وقسمت منطقة بلاد الشام إلى دول خاضعة لبريطانيا وفرنسا، ثم وعد
وزير الخارجية البريطانية اليهود بأن تساعدهم بريطانيا لإقامة وطن لهم في
فلسطين، ثم مشروع روجرز الأمريكي للصلح مع إسرائيل، وما سياسة كيسنجر المعروفة بسياسة الخطوة خطوة إلا حلقة في هذه المشاريع المستمرة والمقصود بها العرب المسلمون بالدرجة الأولى فهل يتحقق فينا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ويل للعرب من شر قد اقترب) .
وهل يكثر الناس ويقل العرب بسبب تخبطهم في الداخل، وكيد الأعداء في
الخارج، كما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصحابية أم شريك حين سألته
عن العرب حين يفر الناس من الدجال قال: (هم قليل) [6] .
__________
(1) نسبة الى دولة رومانيا المعاصرة وليس إلى الإمبراطورية الرومانية المعروفة.
(2) أي من الروم، وذلك قبل فتحها من قبل السلطان محمد الفاتح.
(3) شكيب أرسلان / حاضر العالم الإسلامي 2/322.
(4) المصدر السابق 2/241.
(5) المصدر السابق 2/262.
(6) صحيح سنن الترمذي 2/251.(33/58)
شؤون الدعوة في قبرص التركية
زار المنتدى وشارك معنا في دورة العلوم الشرعية الداعية الأخ عبد المنان
جولحة الذي يدير مكتب الدعوة الإسلامية في قبرص التركية وبهذه المناسبة حدثناً ...
عن نشاطات المكتب فقال:
إن لمكتب الدعوة الإسلامية في قبرص التركية نشاطاً متواضعاً وبعيداً عن
الدعاية والشكليات، ويعمل جاهداً بأن يكون النشاط موافقاً للكتاب والسنة مقصوداً
به مرضاة الله -عز وجل-.
ومن أهداف المكتب خدمة الإسلام والمسلمين بالوسائل المتنوعة والمتاحة
ومحاربة البدع والخرافات والأفكار والمبادئ الهدامة والضالة، وبث الوعي
الإسلامي في صفوف الناس وخاصة بين الشباب، والعمل على إستئناف الحياة
الإسلامية بالإضافة إلى التعاون والتنسيق وتبادل الآراء والأفكار بين بعض دعاة
الإسلام وبين بعض مراكزه فيما ينفع الإسلام وأهله، ولا بد أن أنبه أن هذا المكتب
يتمتع باستقلالية تامة.
وللمكتب الآن عدة أنشطة تزاول حالياً من أهمها:
- عقد الندوات الإسلامية الأسبوعية في عدد من المدن.
- تنظيم جولات ورحلات جماعية كل أسبوع إلى المدن والقرى بقصد التبليغ
ودعوة الناس إلى دين الله.
- تعليم أطفال المسلمين قراءة كتاب ربهم وسيرة رسولهم -عليه الصلاة
والسلام- وغرس العقيدة في نفوسهم وتلقين التربية والثقافة الإسلامية.
- وفي الوقت الحاضر بالتعاون والتنسيق مع بعض المشايخ فقد عقدت
الدورات في عدة أماكن من المدن والقرى من أجل تحقيق الغاية المشار اليها آنفاً.
- أصدرنا جريدة شهرية إسلامية واسمها (الدعاء) والهدف منها نشر الحقائق
والمبادئ والأفكار الإسلامية ومحاربة العادات والتقاليد الفاسدة والتصدي لأهل
الباطل وتفنيد ضلالاتهم. ومن الأهداف أيضاً تغطية العجز أو النقص في وسائل
الإعلام الإسلامي عندنا ونطبع منها (2000) نسخة شهرياً وتوزع مجاناً في قبرص
وبعض مناطق تركيا.
- وللمكتب دور في صفوف بعض المدارس وطلاب الجامعة وترتيب لقاء
أسبوعي معهم في أحد المساجد ونجتمع فيه حول مائدة كتاب الله تعالي نتدارسه،
ولقاء شهري آخر التعارف والتعاون على البر والتقوى.
- تأمين الكتاب والشريط الاسلامي وتزويد الشباب وغيرهم بذلك، وإلى
جانب هذا في المكتب جناح خاص بالكتب الإسلامية والأشرطة والأفلام باللغات
التركية والإنجليزية والعربية للقراءة والإعارة والمطالعة.
وللبهائية نشاط في قبرص وتعقد سنوياً مؤتمراً يحضره وفود من مصر
وتركيا وألمانيا وإيران وإنكلترا وغيرها من بلدان العالم.
ويوزعون الكتب والنشرات البهائية ويستغلون جهل الناس بالإسلام ويتغلغلون
في صفوفهم، وهذه فكرة عنهم ومناظرة معهم.
البهائيون يشكون حركة هدامة من أهدافها تمزيق وحدة المسلمين، وتفتيت
الصف الإسلامي، واشغال المسلمين بعضهم ببعض، وصرفهم عن الحق المبين
والصراط المستقيم. ولا تنشط الحركات الهدامة إلا في أوساط ضعاف الإيمان
عديمي المعرفة بحقائق الإسلام. ومنذ مدة ليست بقصيرة بدأت هذه الحركة الضالة
والمضلّة حركة البهائيين تصعّد نشاطها في قبرص التركية قتعقد المؤتمرات
والندوات، وتقيم الحفلات، وتنظم اللقاءات وتنشر المقالات عبر الصحف المحلية، وأفراد من أتباع هذه الحركة تنشط وسط الناس وتتصل بهم وتعقد السهرات وتقوم
بالزيارات للبيوت والمشافي وغيرها، والهدف نشر البهائية وتلقين الناس مبادئ
هذه الحركة وتأمين الانضمام إليها ولهم رجال في سلك الدولة وبعض المؤسسات
وبعض المدارس والجامعة.
وقد تصديت لهذه الحركة منذ أعوام، ونبهت المسلمين لخطورة البهائيين وما
زلت إلى الآن أقاوم عبر المنبر في مسجدي ومن خلال الدروس العامة والخاصة،
ومن خلال الجريدة الشهرية التي أصدرها، وقد دعوتهم للمناظرة فامتنعوا في أول
الأمر وفي النهاية قبلوا.
في اليوم الأول استمرت المناظرة حوالي ثلاث ساعات وقد حضر المناظرة
حشد من الناس وقلت لهم في البداية: ما هو الحكم الفصل بيننا حين التنازع، هل
تقبلون الكتاب والسنة حكماً في المنازعة قالوا: نعم. قلت لهم، إلام تدعو البهائية؟ قالوا: إلى دين جديد وكتاب جديد، ورسول جديد. قلت لهم إن محمداً - صلى
الله عليه وسلم - آخر الأنبياء والرسل بدليل قول الله تعالى: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] فهذه الآية تفيد أن محمداً -عليه
الصلاة والسلام- رسول ونبي وأنه لا نبي بعده ومعنى ذلك لا رسول بعده أيضاً.
ثم إن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس جميعاً بخلاف من
قبله من إخوانه الرسل الكرام فإنهم كانوا يرسلون إلى ملة خاصة وفترة محددة
ومكان معلوم. أما الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد بعثه الله إلى بني آدم
قاطبة بدليل قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً] . ثم
قلت لهم: إن الله تعالى قد أكمل الدين الإسلامي بدليل قوله تعالى [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ] .
فقال مندوبهم: إن الله تعالى ذكر في الإنجيل أيضاً أنه قد أكمل الدين. قلت
لهم: في أي إنجيل ذكر ذلك؟ في إنجيل متى أم في إنجيل مرقص أم في يوحنا أم
في برنابا. توقف قليلاً ثم قال: في الإنجيل الذي نزل على عيسى. قلت له: أين
هذا الإنجيل الآن؟ قال: لا أعرف. قلت لهم كيف تدعون أن الله تعالى ذكر في
الإنجيل أيضاً أنه أكمل الدين وأنتم لا تعرفون الإنجيل الذي نزل على عيسى. ولا
أين هو. فسكت ثم قال أن محمداً هو خاتم النبيين وليس خاتم الرسل. فبينت له
وجه الحق ورددت عليه ولكن لم يقتنعوا. وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية
عشرة ليلاً. فقلنا لهم غداً نواصل المناظرة فوافقوا على ذلك. ولكن لم يحضروا في
الغد. وحضروا بعد ثلاثة أسابيع وعددهم أربعة أشخاص. ومعهم مجموعة من
الكتب. واحتشد جمع غفير من الناس، وقبل البدء بالمناظرة، تكلّمت عن مزايا
الإسلام وخصائصه وشموله وعالميته.
وذكرت أن الإسلام قادر عل تلبية احتياجات البشر المادية والمعنوية وأنه قادر
على إسعاد البشر إن آمنوا وتمسكوا بمناهجه والتزموا طريقته.
وقلت أن الإسلام سيبقى ما دامت السماوات والأرض رغم أنف المشركين
والمرتدين والمنافقين، وأنه اليوم يتقدم بذاته وينتشر بقوته ويقتحم الحدود والحواجز
ولن تستطيع قوى الكفر والشر مجتمعة أن توقف المد الإسلامي، وأن الأموال التي
انفقت، والأموال التي ما زالت تنفق لإطفاء نور الله والصد عن سبيل الله لو أنفقت
للقضاء على دين آخر غير دين الإسلام لتم القضاء عليه ولمحي أثره من الوجود،
وقلت: رغم رصد الملايين من الدولارات ورغم توظيف إمكانات هائلة، وتجنيد
جيوش جرارة من أجل القضاء على الإسلام ومع ذلك يزداد حيوية وصلابة
وستنهار أمامه كل النظم والمذاهب والفلسفات والأديان الباطلة، وأن الإسلام هو
الحل لما يعاني منه البشر من الولايات والحروب والفتن وعدم الاستقرار والأمن
والطمأنينة في العالم.
وقلت: حين يعود الإسلام للصدارة، وحين يكون الحكم لله تعالى، عند ذلك
يعيش الناس في وئام وأمان. وإنه لقادم وبقدومه يفرح المؤمنون، وبتشريفه تسعد
البشرية وينتشر العدل ويسود السلام والمحبة، وتزول الحرب.
إن بيننا بهائيون جاؤوا للمناظرة والدعوة إلى البهائية، فهم يدّعون أنهم
يؤمنون بالقرآن ولكن يقولون:
- الزاني لا يجلد ولا يرجم ولكن يدفع مبلغاً من المال كفّارة.
- الصلاة مرّة واحدة في اليوم ومقدارها 19 ركعة.
- لا يحجون إلى البيت العتيق في مكة.
- المرأة كالرجل في كل شيء. ثم المرأة لها الحرية المطلقة.
- الصوم تسعة عشر يوماً في شهر مارس.
- القيامة صغرى وتبدأ بوفاته وكبرى يوم ظهور دعوة بهاء الله.
- ويقولون: إن محمداً -عليه الصلاة والسلام- ليس آخر الرسل إنما هو
خاتم النبيين فقط.
وبينت لهم في المناظرة وجه الحق في هذه المسألة ولكن لم يقبلوا ومع ذلك
نورد بعض الأحاديث التي تدل على أنه خاتم الأنبياء والرسل. فذكرت الأحاديث
التالية:
1- مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك به موضع لبنة
فطاف به النظار يتعجّبون من حسن بنيانه إلا موضع اللبنة، وأنا اللبنة فختم بها
البنيان وختم بي الرسل.
2- لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان فيكون بينهما مقتلة عظيمة
ودعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم
أنه رسول الله.
3- لو كان موسى وعيسى حيينّ ما وسعهما إلا اتباعي.
أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إلى غير ذلك من الأدلّة والبراهين والحجج. وقلت لهم: ومع ذلك فنحن على
استعداد لمناظرتكم في أي مكان حتى على شاشات التلفاز وهاتوا برهانكم وادعوا
شركاءكم وكبراءكم إن كنتم صادقين.(33/60)
حملة لتنصير الطوارق
جنوب الصحراء الكبرى
بدأت الغارة الصليبية على شعوب جنوب الصحراء الكبرى مع بداية الغزو
الأوروبي لشمال أفريقيا والصحراء الكبرى في منتصف القرن التاسع عشر
الميلادي، إذ كان حرص أوروبا آنذاك على اكتشاف واحتلال الصحراء الكبرى لا
يقل عن حرصها الآن في اكتشاف الفضاء الخارجي.. ولتحقيق ذلك الأمل الكبير
تنافست دولها المركزية وهيئاتها العلمية في إحراز قصب السبق في اكتشافها
والوصول إلى عروسة الصحراء ومدينة الأساطير (تين بكتو) الأمر الذي أفقدها
أعداداً هائلة من الرجال والعلماء والبعثات العلمية والعسكرية زيادة على البعثات
التنصيرية التي طويت صفحات تاريخها في رمال الصحراء..
ففي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وجهت أوروبا جيشها الصليبي
بقيادة الكاردينال الآلماني شارل مارسيال لافيجيري مطران الجزائر وكبير أساقفة
أفريقيا ومبعوث البابا إلى الصحراء الكبرى وبلاد السودان، ولقد لعب هذا
الكاردينال العنيد فصلاً مأساوياً في قصة الغزو الصليبي للصحراء كانت نتيجته
خيبة آماله العراض في تنصير صحراوي واحد.
وفي عام 1894 م دخل الجيش الفرنسي المرابط في غرب إفريقيا مدينة تين
بكتو بقيادة الكولونيل جوفر.. وعام 1895 م وصلت إليها أول بعثة مسيحية بقيادة
القس دبوي المعروف براهب تين بكتو. وفي عام 1903 م أتم الغزاة عملية
احتلال الصحراء، غير أن الأمر لم يدم طويلاً إذ أعلن الطوارق من شرق النيجر
إلى غرب مالي ثورتهم الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي (نقض العهد) كما يسمونه.
وكان ذلك عام 1914 - 1916 م وكانت هذه الثورة بإيحاء من الحركة السنوسية
بليبيا.. ولم يتمكن المستعمر من القضاء عليها حتى تكبد خسائر جسيمة في الرجال
والعتاد والأموال. الأمر الذي جعله بعد القضاء عليها يحكم البلاد بالأحكام العسكرية
الظالمة مستخدماً أشد أنواع القمع والاضطهاد، واستمر الحال هكذا إلى مغادرة
الغزاة أرض الصحراء عام 1960 م بعد أن تركوا في نفوس سكان الصحراء
جروحاً غائرة زادت الفجوة العدائية الموجودة بينهم سابقاً اتساعاً، وعمقاً، وحاصل
القول أن الاستعمار الفرنسي في إفريقيا لم يجد أمة معاندة ومتصدية للطموحات
الاستعمارية كأمة الطوارق، ولهذا نجده يعاديها أكثر من غيرها من الأمم الإفريقية
ويصفها بقطاع الطرق ومرة ببرابرة الصحراء، وطوراً بالأشقياء، أعداء الحضارة
الإنسانية.
ومصداقاً لما ذكرته أنقل هنا ما كتبه أحدهم جيمس ويلارد في كتابه الصحراء
الكبرى صفحة 351 أن قصة بعثة الكولونيل فلاتيه هي في الحقيقة قصة المحن
والمخاطر والمجازفات التي عرفها الفرنسيون في غزوهم للصحراء الكبرى وهي
بكل تأكيد حملة استغرقت ما يقارب مائة عام ضد أصلب عدوين للحضارة
الأوروبية في شمال إفريقيا - أعني الصحراء الكبرى ورجال عشيرة الطوارق.
ولقد كان عدوا التقدم الأوروبي هذان وما يزالان من القوة بحيث أن الصحراء لا
يخترقها إلى الآن خط حديدي.
هذه شهادته! والحق ما شهدت به الأعداء كما يقولون، والحق أيضاً أنه لولا
عدم وجود كلمة المستحيل واليأس في قاموس الغزاة الكفار لأصيبوا بالخيبة واليأس
من احتلال الصحراء في المائة الأولى من غزوهم لها.
وفي السبعينات من هذا القرن الميلادي جاءت الفرصة المرتقبة للأعداء.. إذ
توالت على جنوب الصحراء عدة سنين من الجفاف والقحط كان أشدها عامي
1973- 1985م اللذين نفقت فيهما الثروة الحيوانية لشعوب الصحراء وتردت
أحوالهم الاقتصادية.. الأمر الذي أدى وبسرعة مذهلة إلى تغير نمط حياتهم
الاجتماعية كما مهد الطريق للغارة الصليبية الثانية على المنطقة، إذ سرعان ما
تدفقت الجيوش الصليبية مرة أخرى على المنطقة المنكوبة ولكن في صورة جمعيات
للإغاثة والنجدة هدفها الوحيد تنصير هذه الأمم المنكوبة مقابل كسرة خبز أو شرطة
طبيب.. بل إن هدفها يتجاوز هذا الحد إلى العمل من أجل تنصير الشريط
الصحراوي الفاصل بين شمال إفريقيا العربي المسلم وغرب إفريقيا الأسود المسلم.
والممتد من شرق جمهورية النيجر إلى حدود مالي مع موريتانيا.
العوامل التي شجعت الغزاة على القيام بغارتهم الجديدة:
1- الإمكانيات المادية والمعنوية الهائلة الموجودة لدى المجامع الكنسية
الأوروبية.
2- النية المبيتة لدى المجامع الكنسية للغارة على العالم الإسلامي خاصة.
3- الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها منطقة الصحراء الكبرى منذ
عام 1973 م.
4- تغير وتبدل نمط الحياة الاجتماعية لشعوب الصحراء من حياة الترحال
إلى حياة الاستقرار.
5- فعالية سلاح المنفعة الذي دخلوا به ميدان المعركة.
6- خلو المنطقة من جمعيات الإغاثة الإسلامية.
أهداف الغزاة المنصرين:
1- تنصير أكبر عدد من سكان الصحراء من الطوارق والعرب والفولاني
والسنغاي في أسرع وقت وقبل أن تصل أخبار غارتهم إلى العالم الإسلامي.
2- قطع صله شمال إفريقيا العربي المسلم بغرب إفريقيا الأسود المسلم وذلك
بتنصير الشريط الصحراوي الفاصل بينهما.
3- الحصول عل متنصرين من الجنس الإفريقي الأبيض العريق في الإسلام
للاستعانة بهم في نشر المسيحية في غرب إفريقيا السوداء. والجدير بالذكر أن
الدافع لهم على ذلك اعتقاد خاطئ لديهم مفاده أن الإنسان الأبيض أشد تمسكاً وإيماناً
بمعتقداته من الإنسان الأسود كما أن لديه عزيمة وهمة في الدعوة إلى معتقده والدفاع
عنه أكثر منه.
ويقول الغزاة إنهم توصلوا إلى معرفة ذلك من سرعة انتشار الإسلام في غرب
إفريقيا بواسطة المرابطين والتجار العرب ومرابطي الفولان. والحق الذي لا مراء
فيه أن السر في ذلك يرجع إلى الخصائص التي يمتاز بها الإسلام عن غيره من
الأديان لا إلى بياض زيد أو سواد عمرو.
4- إحراز نوع من الانتصار الصليبي على الإسلام وذلك بتنصير بعض
الشعوب في الإسلام كالطوارق والعرب والفولاني والسنغاي.
المخطط التنصيري للإرساليات المسيحية العاملة جنوب الصحراء الكبرى: ...
1- استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها المنطقة.
2- القيام بدراسة شاملة لأوضاع المنكوبين لمعرفة نقاط التأثير واستغلالها
بكفاءة.
3- التعاقد مع حملة المؤهلات العالية من أبناء الطوارق والعرب والفولاني
والسنغاي ومن ذوي الفكر الأوروبي المعادي للعرب والإسلام.
4- إقناع القبائل الرعوية التي تعتمد في حياتها على الترحال والرعي
بضرورة الاستقرار والاستيطان في مخيمات دائمة للتحكم في مصيرهم.
5- محاولة إسكات أصوات المعارضين من ذوي الرئاسة والعلم والنزعة
الدينية بالعطايا والهبات.
6- التحزب لبعض الطوائف الدينية الإسلامية ضد الأخرى اتباعاً لسياسة
فرق تسد.
7- بناء كنائس في بعض القرى الهامة في الصحراء لاستدراج السذج من
المسلمين لمشاركتهم في أداء صلواتهم المسيحية.
8- الإغداق على بعض الرؤساء الموالين لهم لإغراء الآخرين.
9- القيام بربط كل مخيم مع قرية أوروبية في عملية يسمونها (جيملاج) أي
التوأمة بين الموضعين على أن تقوم المدينة أو القرية الأوروبية بمساعدة توأمتها
الصحراوية كل سنة، والنهاية أن يفضل سكان المخيم الصحراوي المسلم تلك
القرية أو المدينة الأوروبية المساعدة لهم على مكة المكرمة والمدينة المنورة.
10- عزل وتعتيم أحداث الغارة وأخبارها عن العالم الإسلامي والعربي قدر
المستطاع.
أوضاع الطوارق الحاضرة في ظل الإشراف الصليبي على مخيماتهم الدائمة:
1- الشلل الشبه التام لنمط الحياة التقليدية الطارقية القديمة.. حياة الترحال
التي كانت سر حفاظهم على حريتهم منذ آلاف السنين.
2- إصابة التعليم الإسلامي التقليدي بالشلل التام بعد انصراف العلماء وطلبة
العلم إلى طلب أرزاقهم بالطرق الشرعية.
3- اعتماد سكان هذه المخيمات في أحوالهم المعيشية على ما تجود به تلك
الإرساليات الغازية وما ترسله
لهم القرى والمدن الأوروبية التي عقدوا معها وفاق التوأمة (جيملاج) .
4- هجرة الأجيال الصاعدة من أمة الطوارق إلى شمال إفريقيا (ليبيا
والجزائر) بحثاً عن العمل وهروباً من البطالة التي تنتظرهم في حياه المخيمات
الدائمة.
5- ارتفاع نسبة النساء والأطفال والكهول في هذه المخيمات وهؤلاء يعتبرون
وجبة سائغة للغزاة اللهم إلا من رحم الله من المحسنين.
6- إصابة المنكوبين بما يشبه اليأس والقنوط من نجدة إخوانهم المسلمين لهم.
نتائج الغارة الصليبية على مسلمي الصحراء:
1- اكتشاف الغزاة لبعض نواحي الضعف في التركيبة الاجتماعية للأمة
الطارقية واستغلالهم لها في بلدة غوسي الواقعة غرب مدينة غاوو. فبعد دراسة
الغزاة للعادات والأعراف الطارقية اكتشفوا أن الأسرة الطارقية لا يمكن أسرها إلا
عن طرق الأم - أي المرأة - وذلك للمكانة الاجتماعية الكبيرة التي تحظى بها
المرأة في المجتمع الطارقي..
فبعد اطلاع الإرسالية النرويجية العاملة في بلدة غوسي على هذا السر
الاجتماعي سارعت إلى نشر إعلان بين أهالي المنطقة مفاده منح خمسة آلاف فرنك
شهرياً لكل أب يلحق ابنته بالمدرسة التابعة للإرسالية المذكورة، وهنا تسابق الناس
إلى إلحاق بناتهم بالمدرسة المذكورة طمعاً في الحصول على المبلغ المذكور.
والجدير بالذكر أن الذكور محرومون من هذه الخصوصية، ولا شك أن هذه المكيدة
من أخطر المكائد التي أوقع فيها الأعداء المساكين المنكوبين.
2- زرع كراهية العرب في نفوس ضعاف الوازع الديني بحجة أن العرب لم
يسارعوا إلى نجدتهم كما فعل المنصرون بل لم يواسوا المنكوبين الطوارق ولو
بالكلمات الطيبة. وأما هم فقد قدموا وما زالوا يقدمون لهم أنواع المعونات
والمساعدات!
3- نجاحهم في بناه عدد من الكنائس في بعض القرى الهامة في الصحراء
كقرية غوسي غرب غاوو ومنيكا التي تعتبر العاصمة السياسية لإمارة الطوارق قبل
الاستعمار الفرنسي. أما كيدال عاصمة قلب الصحراء فقد رفض حاكمها المسلم
الشيخ انتالا بن الطاهر بناء كنيسة فيها الأمر الذي أثار حفيظة الإرساليات المسيحية
فتقدمت بالشكوى إلى السلطات الحاكمة التي استدعته وطلبت منه الموافقة على بناء
كنيسة في بلدة كيدال فاعتذر بها اعتذاراً شديداً فأعفته من ذلك، أما الحكومة
ورؤساء العشائر الطارقية والعربية المنكوبة فالظاهر أن همهم الوحيد هو إنقاذ
أقوامهم من خطر الجوع فقط، أما الدين فأمره إلى الله!
4- إصابة التعليم الإسلامي التقليدي بالشلل التام وانصراف العلماء وطلاب
العلم إلى طلب الرزق الحلال بدلاً من البقاء في مخيمات التنصير هذا ومن البديهي
أن يحدث هذا الانتصار الذي كان المراقبون يتوقعونه بسبب فعالية السلاح الذي
دخل به الأعداء أرض المعركة وملائمته للظروف السائدة في الوقت الحاضر.
إن سلاح النفع أخطر سلاح على الإنسان وخصوصاً على الجائعين. لقد
كانت أمهات الطوارق منذ عقود من الزمن يقلن إذا رأين كافراً (اللهم لا تجعل الكفار
ممن ينفعنا فنحبهم) كن يقلن هذا في دعائهن في زمن كان الطوارق فيه أغنى الأمم
الرعوية البدائية على وجه الأرض.. واليوم حدث ما كن يتخوفن منه إذ حقق سلاح
النفع في أبنائهن وأحفادهن ما لم تحققه مدافع الأعداء قديماً.
5- ومن نتائج الغارة يأس المنكوبين من نجدة إخوانهم المسلمين لهم
ومساعدتهم على الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه والمتمثل في الخيار بين الفقر
والتنصر.. والعياذ بالله.
6- اكتشاف الغزاة لأساليب تنصيرية جديدة ومتنوعة.
الحلول المقترحة لمجابهة الخطر الصليبي على سكان الصحراء:
1- كسر الحاجز المصنوع بين المخيمات الصحراوية والعالم الإسلامي والذي
أوجدته تلك الإرساليات نفسها بما لديها من الامكانيات.
2- قيام جمعيات الإغاثة الإسلامية بزيارة المنطقة وتقديم العون المادي
والمعنوي لسكان تلك المخيمات بدلاً من تركهم تحت رحمة البعثات التنصيرية.
3- قيام بعض مشايخ الحركات الإصلاحية الإسلامية بزيارة تلك المخيمات
لإشعار سكانها بأن العالم الإسلامي قادم إليهم لنجدتهم وهذه خطوة قد تبعث في نفوس
المنكوبين بعض ما تبقى في نفوسهم من الشجاعة.
4- قيام الهيئات الإسلامية القادرة بالتعاقد مع أكابر علماء البلاد لكي يستمروا
في أداء رسالتهم العلمية والتفرغ لها، والجدير بالذكر أن التعليم الإسلامي قد أصيب
بالشلل التام في المنطقة منذ عام 1973م.
5- توجه بعض رجال الإعلام الإسلامي إلى المنطقة لإطلاع العالم الإسلامي
على فداحة المأساة.
والجدير بالذكر أن الإرسالية النرويجية العاملة في مدينة غوسي غرب مدينة
غاوو عاصمة الإقليم السابع في جمهورية مالي تعتبر من أنشط الإرساليات الصليبية
العاملة جنوب الصحراء، وقد حصلت على امتياز من الدولة يخولها الإشراف على
منطقة كبيرة وهي المنطقة الواقعة بين غوسي وغاوو وتفارست وتفكر بقية
الإرساليات المسيحية العاملة في المنطقة المنكوبة في تقديم طلباتها إلى السلطات
الحاكمة للحصول على نفس الامتياز مثلما تتعاقد شركات التنقيب عن النفط والمعادن
مع الدول للحصول على امتياز التنقيب في منطقة من المناطق تتعاقد بعثات
التنصير (وهي شركات أيضاً) للحصول على الامتياز في المناطق التي يوجد فيها
مسلمون، فكله استثمار! وربما كان استثمار البشر أثمن من استثمار المناجم
والمعادن!(33/64)
خبر وتعليق
مرتد في تركيا يلقى حتفه
لقي المرتد طوران دورسون حتفه في مدينة إستانبول على يد أناس مجهولين
أطلقوا عليه الرصاص ولاذوا بالفرار. وكان هذا الخبيث يعمل لمدة أربعة عشر
عاماً في بعض مساجد تركيا كإمام وخطيب، وقبل موته كان محرراً لصفحة الدين
في مجلة (الألف عام) وهي مجلة يسارية أسبوعية ومن خلال هذه المجلة كان يهاجم
الإسلام ويستخف بتعاليمه، ويحاول إقناع القراء بأن أغلب الأوامر الواردة في
الإسلام مختلقة وليس لها أصل.
ويقول في كتابه (هذا هو الدين) : الإسلام قابل للتطبيق في الحياة بعد إجراء
تعديلات في أوامره ونظامه وقانونه. وفي حوار صحفي معه قال: يستحسن تحويل
أماكن العبادة إلى مواقف للسيارات.
عن جريدة الوحدة الإسلامية إستانبول
وقد أذاعته وكالات الأنباء التركية بتاريخ 10/9/1990
تعليق:
هذا المرتد كان يشغل منصباً دينياً في الرئاسة المسماة رئاسة الشؤون الدينية
التركية، وكثير من الموظفين في هذه الرئاسة على شاكلة طوران موظفون
علمانيون لا يؤمنون بالإسلام كدين مهيمن، ولكن يعملون في هذه المراكز لسببين:
1- كي يتاح لهم الطعن في الدين أو تحريفه أو تشويهه بتصرفات لا تليق
بمثل صاحب هذا المنصب.
2- هذا العمل وسيلة رزق، وحتى تتاح لهم مناصب أكبر وأفضل فلا مانع
عندهم من أن يلبس أثناء الصلاة أو في خطبة الجمعة (عمة وجبة) يضعها دائماً
تحت المنبر للوقت المطلوب.
ومع أن تركيا مثل بقية العالم الإسلامي تشهد رجوعاً للدين من فئات الشعب،
ولكن يبدو أن الصراع مع (أتاتورك وحزبه وشيعته) صراع طويل.(33/70)
ظواهر
الكتاب الإسلامي
بعض الناس يستعجلون قطف الثمار قبل نضوجها، وهذا التعجل هو ما
نلاحظه في معرض الحديث عن (الكتاب الإسلامي) ففي كل يوم تقذف المطابع
بعشرات من الكتيبات والكتب التي تشعر أن السرعة في النشر والإنتاج هو الطابع
المميز لها لأنها لم تأت بشيء جديد، ومن الظواهر التي ترافق هذا التعجل الكتابات
المتشابهة، فالمخطوط يحقق من أكثر من جهة، والموضوع الواحد يطرق من أكثر
من جهة، وذلك كله لانعدام التخطيط والمشورة والنصح، ولا نعني بهذا أن نحجر
على أحد أو نمنع أحداً من الكتابة، ولكن نريد الإنتاج الجيد.
إن رواج الكتاب الإسلامي جعل بعض الناس ما إن يقرأ بعض الكتب حتى
تتفتح شهيته للكتابة، وبما أن دور النشر كثيرة، فهي تريد أن تنشر أي شيء حتى
تثبت وجودها، فلا مانع عندها من قبول أي عرض، والنتيجة تأتي على حساب
القارئ الذي يجد أمامه المئات من الكتيبات حول الإسلام، فماذا يأخذ وماذا يدع؟ !
إن الكتابة لا تأتي إلا بعد قراءات كثيرة ومتنوعة وعميقة.
جاء في (الإمتاع والمؤانسة) : (لا وليس شيء أنفع للمنشئ من سوء الظن
بنفسه، والرجوع إلى غيره وليس في الدنيا محسوب [1] إلا وهو محتاج إلى
تثقيف، والمستعين أحزم من المستبد ومن تفرد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص) .
__________
(1) معدود في الناس.(33/71)
قديم جديد
الاستقلال والاتكال
كتب الأستاذ محمد كرد علي مقالاً في مجلة المنار بتاريخ 16 رجب 1319
الموافق 29/10/1901 والمقال هو تعليق على كتاب (سر تقدم الانكليز
السكسونيين) للكاتب الفرنسي (أدمون ديمولان) ننقل هنا فقرات منه لأهميته، ولأن
المشكلة التي عالجها الكاتب، والمعلق الأستاذ كرد علي لا تزال تواجهنا، مشكلة
الاتكالية وحب الوظائف الرسمية وترك العمل والمغامرة.
- التحرير -
أعرف رجلاً في أحد مدن سورية الحافلة، له عراقة في محتده، وأصالة بين
قومه، وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف نهاره وليله في نيل الزلفى من
الأمراء كبتاً لخصومة! فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء، ما
يكفي لإعالة ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلواً في
مباديه، وإصراراً على نكاية أعاديه، وهو دائماً أجول من قطرب وأشغل من ذات
النحيين ومساعيه أبداً مخفقة وآماله مخيبة.
وهكذا حال خصمه اللدود، له مال وبنون ومقام بين أهل حيه كريم ولكن لا
يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك الحكم ومقاعد التصدر، يتلمس لبنيه إذناً
بملازمة الدواوين مزاحمة لأولاد الفقراء ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم وينالوا
المعالي بنفوذ والدهم عفواً صفواً.
ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شؤون مزارعهما الواسعة
وتحسين طرقها وتنمية غلاتها وثمراتها ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب وفي
الأمثال (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة) ولطالما سمعنا أن فلاناً غادر سكنه
ومسكنه تاركاً دخلاً يكفيه وعياله، لأن يعيش عيش الاستقلال فيوكل به من يسرق
نصفه، لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ من استخدامه ما يوازي النصف الذي
فقده بغيابه، ويغتذي من دماء الأمة سحتاً بحتاً وحراماً محضاً، ليقال عنه أنه من
الموظفين، ويخاطب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر سواد أقرانه يمضي حياته قلق
الضمير وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه ليرتقي إلى وظيفة أعلى من
وظيفته، ويسبق من سبقوه أوهم لاحقوه. وما الموظفون في الحكومات الاستبدادية
براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه من اعتداء المعتدي وتعسف الظالم، كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك الدولة، ويسوغ لهم إتيان كل منكر
أرادوه، بلا وازع ولا رادع!
أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك
الطبقة في إنكلترا مثلاً حيث الحكومة تخطبهم والشعب يطلبهم وشتان بين خاطب
ومخطوب.
كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: دع الناس يطلبون الأرزاق من
الدولة؛ فأنا لا أنحو منحاهم، لأنني أقدر أن أكون غنياً بتساميّ عن الدنايا، ولا
أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية فإني أعمل في بستاني، واجتزئ
بالقليل من النفقة عن الكثير.
وهو كما رأيت من كلام من يوقن ان الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش،
بل كلام من ارتقى وتهذب وعلم علم اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم وأن
الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه. فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال
أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العث في الصوف والدودة في
الكرمة.
ونحن لو استشهدنا التاريخ لرأينا أجدادنا كانوا في منازع حياتهم لا يعرفون
مع بسطة الجاه واتساع الثروة والملك إلا النشأة الاستقلالية بعيدين في كل أطوارهم
عن السرف والترف، فقد اشتهر من سيرة الصديق الأكبر -رضي الله عنه- أنه
كان يغدو كل يوم إلى السوق فيبع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما
خرج هو بنفسه وربما رعيت له , وكان يحلب للحي أغنامهم. فلما بويع بالخلافة
قالت جارية منهم الآن لا يحلب لنا منائح دارنا فسمعها فقال: بل لعمري لأحلبنها
لكم، وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه، فكان يحلب لهم. ثم قال ما تصلح
أمور الناس مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، فترك
التجارة وقيل أراده الصحابة على تركها وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله
يوماً بيوم فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل: فرضوا له ما
يكفيه فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرضه ويصرف ثمنها بدلاً مما أخذه من
مال المسلمين.
قال الأستاذ كرد علي بعد مقدمة الموضوع:
إن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية. فالأمة الاستقلالية
هي التي طبعت على حب الانفراد يعتمد كل فرد منها على نفسه [1] لا على
حكومة ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة.
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة
فيتوكأ كل فرد على غيره.
وبديهي أن العلم لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يقرن بالعمل، وفرنسا
وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح
الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون
وأهل الصحافة والأدب، بحيث تعذر قبول من تخرجهم المدارس العالية فسدت في
وجوه الناشئة أبواب الرزق لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس ونحوها
من المدن الحافلة، ليستمتع برفاهها ولو عاش في قلّ. وزهدوا في الاشتغال
بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة، وذلك غير معهود عند من كان دمه
سكسونيا إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أي حرفة كانت مهما كان علمه واستعداده
ليضمن لنفسه وذويه مرتزقاً فسيحاً وعيشاً استقلالياً لبابا، فإن لم يجد ما يعمل في
بلاده يغادرها ليستعمر مكاناً آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش بلندن أو برلين
والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار وإن شئت فقل في أقاصي
صحاري افريقية حيث الوحوش ضارية والسموم لافح والعيش مر المذاق.
وتأييداً لذلك أنقل هنا ما صرح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيين بهذا
الشأن قال: (يزعمون إن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل،
وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقباً كبيراً هجم عليه
أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحرف الشريفة ووظائف الحكومة
جملة بحيث وجب على الأمة أن لا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة
قرون حتى صار جرحاً نغّاراً وضربة مبرحة. وأعني بذاك الشر داء الاستخدام
والتوظف.
(لفرنسا نظارة للمعارف العمومية ولأمريكا مدرسة للتربية فالأولى تعلم والثانية تربي. الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها. تعد فرنسا أدمغة لحفظ قانون وتهيئ امريكا أذرعاً للعمل؛ الأمريكان رجال عمل والفرنسيين ليسوا كذلك) .
«اتكالنا»
بمثل هذا اللسان يخاطب الكاتب الفرنساوي أمته ويقرعها تقريعاً أمر من
الصاب والعلقم لتستفيق من غشية تخشى مغبتها وتفلت من الوقوع في مخالب أسود
السكسون لئلا يكون حظها في الوجود حظم الأمم البائدة كالرومان واليونات والفرس.
لقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام
كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت بيد أنه لا تثريب على الفقير
إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية ما دامت البلاد صفراً من
أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالي ويورده موارد الاستقلال،
بل اللوم كل اللوم على رجل يعد من نواصي أهل وطنه وعليتهم وله من العقار
والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ماله من الاعتبار بين جيله
وقبيله يسف إلى الاستخدام في وظيفة ليتباهى بها أمام العدو والصديق.(33/72)
الانتماء الحضاري للأمة
خميس بن عاشور
بعدما انجلت الفتنة عن المسلمين، واستقرت الخلافة بأيدي الأمويين بدأت
الحركة العلمية في الازدهار وعكف كل فريق من العلماء على استنباط الأحكام
وتأصيل القواعد وتأليف الكتب في مختلف الفنون، ومما استرعى انتباه علماء
الحديث موجة الأخبار التي وضعت لتأييد هذا الاتجاه أو ذاك، وقد لعبت هذه
الأكاذيب دورها الدموي في حوادث الفتنة الكبرى مما حدا بعلماء الحديث النبوي
الشريف إلى الاهتمام بهذه الظاهرة، فوضعوا أسساً لتمييز الحديث الثابت من غيره، وبدأت بواكير علم جديد تنقدح في أذهان العلماء، فظهر علم الإسناد الذي يعد
مفخرة الحضارة الإسلامية ومن فوائدها الرائعة، وهو العلم الذي قهر الشائعات
الخبيثة ورد كيد مختلقيها في نحورهم، فقد اشترطوا في راوي الخبر شروطاً حالت
دون ورود الكذب إلى الحديث النبوي أو غيره من كلام الصحابة الكرام. لقد كان
علم الإسناد الحصن الحصين الذي حمى نصوص الشريعة السمحة وبالتالي المجتمع
الإسلامي من كل ما يمس مقدساته أو يخل بأمنه واستقراره العقائدي.
أما اليوم فقد تغيرت الأحوال وأصبح علم الإسناد من العلوم التراثية التي لم
توظف بعد في الذب عن بيضه الإسلام والمسلمين.
إذ أن كل صيحة مهما كان مصدرها تحدث أصداء داخل مجتمعاتنا الإسلامية
ويكون ضحيتها خلق كثير.
إن الأمم منذ أقدم الأزمنة تنفق النفس والنفيس من أجل توحيد صفوفها
ومحاربة دخلاء السوء عليها، وتحقيق التوازن الاجتماعي فيها، وما علينا نحن
اليوم إلا شد المآزر للعمل الدؤوب حتى نحقق هذه الغاية السامية.
إن أخطر موقع يكون عرضة لسهام الغزو الثقافي هو ثقة الأمة بنفسها
وبإمكانياتها الذاتية، والأمم الإسلامية تستمد هذه الثقة من كتاب ربها وسنة نبيه
ودينه الذي ارتضاه لعباده، لأجل ذلك كان الإسلام مستهدفاً في نفس كل مسلم عن
طريق ضرب عناصر القوة في هذه العقيدة بالتشكيك في الأصول والاستخفاف
بالفروع، فانجر على أثر ذلك سيل عرم من الشباب الذي رفع لواء العداء نحو
قوميته وأصالته، ووقف معارضاً لعقائد مجتمعه بالسخرية والاستكبار، وأخطرهم
أولئك الذين يتدثرون بجلباب البحث العلمي، وما هم في الحقيقة إلا جسوراً اعتلاها
المد الاستشراقي والفلسفة الاستعمارية للوصول إلى قلب الأمة النابض.
إن عبث المستشرقين وأصحاب المدرسة الاستغرابية بالتراث الإسلامي باعد
الشقة بين أبناء العالم الإسلامي وحقيقة دينهم، وعمق ثلم الاستلاب الحضاري في
نفوسهم، ولا نعلل ذلك التأثير السلبي إلا بغياب الحركة النقدية الواعية التي تكشف
كل بدعة دخيلة في الدين أو مقولة هدامة للعقيدة. لقد كان سلفنا الصالح يقف
بالمرصاد لغزو الثقافات الوثنية الوافدة من الهند وفارس واليونان، وفي عصرنا هذا
سرى المفهوم الغربي للدين في نفوس المثقفين فهجروه وتركوا بذلك الأبواب مفتوحة
لكل فكرة ضالة أو شائعة محبوكة، فظهرت بدعة إنكار حجية السنة بعدما بعثها
المستشرقون من قبور الفكر الاعتزالي الذي لقي حتفه آنذاك على أيدي علماء أهل
السنة والجماعة، لا جرم أن هذه ضربة قوية إذ أن معتنقيها ليسوا من عوام الناس
بل من الأساتذة الكبار الذين يعتلون منابر التعليم وتوجيه الأجيال..!
لقد تمكن مهندسو الاستغراب والعلمانيون من توجيه اهتماماتنا وفق إرادتهم
ومشاريعهم وهم يحاولون بلا ملل أن يختلقوا لنا مشاكل لا تمت إلى واقعنا بصلة،
وقد نجحوا إلى حد كبير في مهمتهم فنسينا في الواقع مشاكلنا باعتبار أننا كتلة تدين
بالإسلام وتنتمي إلى حضارته العريقة.
إن مشكلتنا ليست في إحياء (الفولكلور) أو بعث فنون التهريج وأساليب
التبرج والسفور والعادات والتقاليد الشركية الأخرى، فالإسلام نسخ كل جاهلية
أذابها في تياره، وعبثاً يحاول أولئك الذين يبحثون عن أصول في مزابل التاريخ
الجاهلي، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله،
وقائمتنا لا تقوم إلا بالدين الإسلامي، وإلا فمن جعل قبائل العرب والبربر والزنوج
تجتمع تحت لواء واحد، ومن وضع لهذه القوميات جنسية موحدة ولغة مشتركة
بعدما كانت في قهر وذل من العيش تحت سياط الجلادين من الأكاسرة والقياصرة
وعملائهم اليوم الذي يتألبون حول الذكريات الغابرة والأساطير المنصرمة، والرغبة
الملحة في الإثم والعدوان والمعصية.
لا بد إذن من الاعتراف بالمرض، وأننا أصبنا في الصميم ونتج عن ذلك
جرح عميق لا نعالجه إلا بالإرادة الخيرة والرغبة الصادقة في ذلك بعدما أصبح لكل
ساقطة من هناك لاقطة عندنا، وبعدما أصبحنا لا نميز بين الغث والسمين كما كان
سلفنا الصالح الذين أبدعوا علم الإسناد وتفردوا به.
إن الشعور بالانتماء لحضارة الإسلام العظيمة عنصر قوي يحمي الأفراد
والمجتمعات، ويحول دون انحلالها في حضارة المستعمر وفلسفته، وهذا الهدف
الغالي إنما يكون بالتربية الإسلامية في البيت وفي المؤسسات الاجتماعية كافة
وخاصة المسجد الذي هو منتدى المسلمين، يتذكرون فيه شؤونهم مثلما يؤدون فيه
فرائضهم. إن تعميق عقيدة الإسلام في نفوسنا المبعثرة الأفكار، وترسيخ مفاهيمه
الأساسية فيها متمثلة في معرفة الله -عز وجل- وتوحيده في ذاته وفي صفاته
وتوحيد القصد إليه، وعدم النظر إلى غيره من حيث النفع والضر، واتباع سنه
نبيه - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يتصل بأمور الشريعة والعقيدة، كل ذلك
يمهد السبيل الذي يحقق هذا الشعور النبيل الذي يحافظ على شخصية الفرد وهوية
المجتمع وتماسكه ووحدته.
إن وسائل الغزو الثقافي تطورت تطوراً مذهلاً ولكن مهما تطورت هذه
الوسائل فإن إمكانيات المواجهة تصحبها في ذلك التطور، والحضارة التي اخترعت
الطائرة المقاتلة هي التي اخترعت كذلك الصاروخ الرهيب الذي يسقطها من عليائها، وبالتالي فما علينا إلا رد كيد الاعداء في نحورهم بشرط توفر الإرادة الخيرة
والرغبة الصادقة في ذلك [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
[الرعد 11] .
إن المعرفة هي التي توسع مجال الاختيار وبالتالي تقودنا إلى فعل أكثر تحرراً
من آسار القيود، فبالعلم استنار السلف وبالعلم يستنير الخلف، وبالعلم ازدهرت
بطاح نجد، وبالعلم أورقت حواضر الأندلس، وليس لغاية العلم للإنسان من بد..
وهو شمعة الحضارة، وسراج المدنية، وكم من أزمنه ودهور سادها الظلام لما
جهلت وغابت عنها جذوة المعرفة، والإنسان العالم سيد نفسه وأمير على نوازعه
وشهواته، بينما يظل الجاهل يرسف في أغلال الهوى والطيش. ونحن في زمن
الراشد فيه من حظي بزاد وافر من العلم والمعرفة، ونحن المسلمين لنا عراقة
وأصول في هذا الميدان، وحري بنا نحن اليوم أن ننهج مسلك أجدادنا الخالدين على
صفحات التاريخ العالمي.
إننا إذن مكلفون بحمل هذا الإرث العظيم وبعث أنواره لتعم أرجاء حياتنا التي
تلفها الظلمات وتعبث بها أيدي الفساد والإلحاد.
لقد ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة الرسالة عاكفاً على تعليم أصحابه
ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولما استأثر الله بنبيه كان العلم الذي تركه فيهم كنزاً
من كنوز الوحي الذي أودعه الله سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقد حافظ
الصحابة ومن تبعهم بإحسان على هذا الكنز فاستحقوا الفضل والشهادة لهم بالخيرية
على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -.
إنهم خير القرون، فهي خيرية العلم والعمل والاعتقاد. إن أول مدارج العلم
يقود إلى تقوية الآصرة بين العبد وخالقه، والعبودية هي تلك الآصرة، وأعبد
الناس أعلمهم، كما قال تعالى: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ..] وقال جل شأنه: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] .
والعبادة المنشودة هي ما توّجها الإخلاص وفضيلة المتابعة، وهي التي وعد
الله أصحابها بوعد غال هو الجنة.
إن أول الطريق مهما كان طويلاً خطوة، ولعل هذه الكلمات تثمر وتكشف عن
عزيمة صادقة ونزعة إلى تجديد ما عطله المبطلون، ونفض الغبار عن صفحات
تاريخنا المجيد.(33/75)
سنة مفقودة
صالح حسن - أبها
غلب على كثير من الناس أن يصلوا السنن في المساجد سواء قبل الفريضة أو
بعدها ولو علم أحدهم أن بيته يفتقر إلى مثل هاتين الركعتين لتبرع بجزء صغير من
إحدى حجرات بيته ليتخذه مصلى يذكر الله فيه ويناجيه ويتفقد أحوال قلبه في ذلك
المصلى بعد كل فريضة يقضيها في المسجد، وفي الحديث عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: «أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء
في بيته إلا المكتوبة» . رواه البخاري ومسلم.
ويستثنى من الأفضلية ما يختص بالمسجد من السنة كركعتي تحية المسجد
مثلاً، ومن أغنى الثمار المرجوة من اتباع هذه السنة التبرك بها لنزول الرحمة
عليك وعلى أهل بيتك، فإن المسلم أحوج ما يكون لذلك وقد يستطيع ترويض نفسه
على موازنة صلاته ظاهراً وباطناً بين بيته والمسجد ليكون ذلك أبعد عن الرياء،
وقد يكون هذا باب خير في أن يتفقد نفسه في جميع العبادات ليكون حريصاً ألا
يداخله الرياء، وكذلك ليخلو مع نفسه قليلاً متجهاً إلى الله في خلوته ملتجئاً إليه -
سبحانه وتعالى- يشكو همومه وأحزانه لفاطر السموات والأرض، منكسراً بين يديه
معترفاً بذنوبه وتقصيره، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت كان النبي - صلى
الله عليه وسلم - «يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم
يدخل فيصل ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين
ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصل ركعتين.» رواه مسلم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل
عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما سنة المغرب فإنه لم ينقل
عنه أنه صلاها في المسجد.
فحرص المسلم على اتباع السنة يزيد من قوة إيمانه ووضوح اتصاله بحياة
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتجده متميزاً عن الناس وقد تفتحت مداركه
وقويت فراسته، وعظم قدره عند الله ببركة تطبيقه واتباعه وحرصه على سنة
محمد - صلى الله عليه وسلم -.(33/79)
الصفحة الأخيرة
كاتب إسلامي!
عبد القادر حامد
كل من يجعل من الإسلام موضوع كتابته تصفه صحافة العرب اليوم بأنه
(كاتب إسلامي!) سواء تكلم عن الإسلام مدحاً أو قدحاً، أو جاءت كتابته حقاً أو
باطلاً وسواء أنارت كتابته العقول؛ أو أوقعتها في دياجير البلبلة والضلال.
ومن هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة الفضفاضة خالد محمد خالد! وممن
يصفه بذلك صنف طيب من الناس يغتر بكثرة الإنتاج، وكثرة المؤلفات، وطول
المقالات، ويخلبه عجيج الإدعاء، وكثرة تكرار الأسماء.
وخالد محمد خالد بدأت شهرته عن طريق (خالف تعرف!) عندما كتب كتابه
(من هنا نبدأ) فكان تكراراً لأفكار علي عبد الرازق في (الإسلام وأصول الحكم)
لكن مع وقاحة ونزق خلا منها كتاب عبد الرازق ولعلها كانت تناسب ارهاصات
الناصرية وثورة 1952.
ثم تطامن صوته إثر صدور كتابه ذاك ورد أهل العلم عليه وتفنيده، ليظهر
مرة أخرى في فترة الليل الناصري الطويل، وينفرد ككاتب إسلامي لا يزاحمه أحد، (مطوّب) لحساب تلك الفترة العقيم. وبعد زوال تلك الفترة؛ وارتفاع الحظر عن
العقول نسبياً بدأت التساؤلات حول أحقية هذا الرجل بالكتابة الإسلامية بعد أن سبق
ورمى الإسلام بكل نقيصه في كتابه الأول.
فطرحت وراجت فكرة رجوعه عن أفكاره التي بدأ بها شهرته، (هذا يحصل
كثيراً في مصر!) ولا زال يحتل مكانه بين من تدخرهم الصحافة المصرية
للملمات؛ كموسى صبري، وأنيس منصور، وعبد العظيم رمضان، وإبراهيم نافع
وغيرهم ...
إن كتابات خالد محمد خالد إذا جردتها من التلاعب بالألفاظ والهذر الإنشائي
المغلف بعواطف بهلوانية باردة؛ لا قيمة لها من الناحية العلمية، ولا تعلم الشباب
المتعطش للمعرفة غير الندب والصراخ! وهذه هي ميزته الأساسية، فهو مقروء
في الشارع، بعيد كل البعد عن الدوائر العلمية، لا يعرفها ولا تعرفه وهو ككثير
من الكتاب السطحيين يلتقط كلماته وحججه من كتب الأدب والقصص ومن كتب
المواعظ البعيدة عن التحقيق والضبط، ومن المأثور الشعبي المتهافت. أما العلم
الصحيح فبينه وبينه بعد المشرقين.(33/80)
جمادى الأولى - 1411هـ
ديسمبر - 1990م
(السنة: 5)(34/)
الافتتاحية
صناعة التاريخ
من المسجد كانت الانطلاقة الأولى، ومن المسجد يصنع التاريخ الآن،
وحوله يدور الصراع بين الإسلام والوثنية في الهند، وبين الإسلام واليهودية
الصهيونية في فلسطين.
إن ما حدث في الأقصى يوم الاثنين 20 ربيع الأول 1411 من محاولة اليهود
وضع الحجر الأساسي للهيكل وتصدي المسلمين لهم ووقوع المجزرة الرهيبة، كل
هذا يجب أن لا يلجئنا إلى الصراخ والعويل، والشكوى إلى ما يسمى (مجلس
الأمن) ولا البكاء على الذكريات، ولن نقول: أين أنت يا صلاح الدين؟ ولن
نستجدي ظهور (البطل) ولكننا نقول: إن الصراع بيننا وبين (اليهود) صراع طويل، وما يقوم به شجعان القدس من الدفاع عن الأقصى إن هو إلا جزء من هذا
الصراع، لقد وقفوا وقفة الأبطال أمام عنصرية وحقد من تربوا على أفكار (ابن
غوريون) و (بيغن) و (شامير) .
لقد قلنا ولا نمل من التكرار: إن هؤلاء القادمين من أوربا شرقيها وغربيها لا
يفهمون إلا لغة القوة وهذا الأوربي والأمريكي الذي يمد هؤلاء لا يفهم إلا لغة القوة، وان نفسية الأوربي والأمريكي واستعلاءه تجعله أصم أعمى عن رؤية الحقيقة،
فالشعوب الأخرى في نظر هؤلاء (برابرة) لا تستحق أن يبحث في شأنها، وإذا
كانوا في مجزرة الأقصى لا يرضون بمجرد الإدانة أو بإرسال بعثة للأمم المتحدة،
وهي أشياء لا تسمن ولا تغني من جوع. فكيف يرضون بأكثر من هذا؟
إن العلاقة بينهم وبين اليهود علاقة استراتيجية، والدين ونبؤات التوراة
عنصر من عناصرها، هكذا يصرح ريغان وبوش ومن قبلهما كل رؤساء الولايات
المتحدة، فهل آن الأوان لبعض كتاب الصحف عندنا أن يكفوا أقلامهم وألسنتهم عن
الغمز من المسلمين بالتطرف والأصولية، ويقولون: إن هذا يشجع إسرائيل على
التطرف أيضاً، وكأن إسرائيل تنتظر هذه الفرصة كي تظهر ما عندها، إن
إسرائيل لا تخجل من توجهها العنصري الديني، ونظرياتهم وأحزابهم الدينية
وحكماؤهم وكهانهم كانوا قبل أن تظهر نغمة التطرف الديني في الصحف العربية،
ولكن هؤلاء الكتاب تربوا في أحضان التغريب والعلمانية، ورضعوها منذ نشأتهم،
فهم يرددون ما يقال لهم كالببغاوات، ولا يلاحظون التغيير الذي لا بد أن يقع،
وهو رجوع الأمة إلى دينها وهويتها، ولن يقف في وجه اليهود إلا الشباب المسلم
الذي كان يصيح (الله أكبر) عندما ثأر لمجزرة الأقصى وبدأت حرب (السكاكين) بعد
الحجارة. وإذا كان لا بد من تذكر صلاح الدين، فلماذا لا نتذكر الخطوات التي قام
بها قبل الإجهاز على الصليبيين وتمزيقهم شر ممزق، لقد أنهى الدولة العبيدية
الباطنية في مصر ثم وحد الشام ومصر وإقليم الجزيرة، وقاتل تحت راية لا إله إلا
الله.
هناك فرق كبير بين أن تصنع التاريخ وأن تسجل أحداث التاريخ. يجب أن
نعمل حتى يكتب التاريخ عنا، والبداية دائماً هي الإنسان، الإنسان المسلم الحر
الكريم. فالشعب الذليل لا خير فيه، والكسالى لا يهتم بهم أحد، واستجداء عطف
الشمال على الجنوب، ومطالبته ببعض الخيرات التي يستمتع بها خلق لا يرضى
به المسلم، وهؤلاء المستجدون ينسون أن من يقوم بالواجب قبل أن يطالب بالحق
هو الذي يصنع التاريخ، وأنه عندما يتجه المسلمون وجهة واحدة فسوف يأتون
بالعجائب، وعندما يكون الهدف واضحاً والغاية في سبيل الله فلن يقف أمامهم شيء
بإذن الله، وان قيام المؤسسات بكل أنواعها وأشكالها عنصر مهم من عناصر
التحرر من التبعية للغرب، والتحرر الاقتصادي جزء من تحرر القرار السياسي،
كما أنه جزء من عملية البناء المطلوب، ولن يقوم به من تعود الرفاهية وعاش حياة
الاستهلاك على ما تقذف به مصانع الغرب في كل يوم، بل في كل دقيقة والمسلم
وحده هو الذي يستطيع المصاولة والمقاومة، وحده الذي يستطيع الوقوف أمام هذه
الهيمنة العالمية، وان ما يقوم به أشبال الأقصى لهو شيء عظيم.(34/4)
آية من كتاب الله
[لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]
ابن القيم/طريق الهجرتين 58
فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما إله
آخر غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمىّ له ولا مثل له،
فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها
إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره وهي كادحة إليه كدحاً
فلاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه
وإكرامه لها، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت ثم؛
يعذب ولا بد في وقت آخر، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب
من لذة الأظفار التي تحكه، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره، وهو يؤثر
ذلك لما له في حكها من اللذة، والعاقل يوازن بين الأمرين، ويؤثر أرجحهما
وأنفعهما، والله الموفق المعين.(34/7)
من نور النبوة
الحياء
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسالم
برجل يعظ أخاه في الحياء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الحياء من
الإيمان» رواه الشيخان.
2- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في
النار» رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجة والبيهقي والترمذي.
المعنى:
أما الحديث الأول فمعناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل يلوم
أخاه على كثرة حيائه، كأن كثرة الحياء عنده قد أضرت به، فبين له -صلى الله
عليه وسلم-: أن الحياء لا يأتي منه إلا الخير والبركة فهو من خصال الإيمان
وشعبه، ولا يمكن لشعبة من شعب الإيمان أن تجلب الضرر لصاحبها.
وأما الحديث الثاني فقد بين فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسلوب منطقي
سهل، على أن عاقبة خلق الحياء أنه يؤدي بصاحبه إلى الجنة وذلك بأنه إذا كان
الحياء جزء من الإيمان، ومصير الإيمان إلى الجنة، فمصير المتصف بهذه الصفة
الجنة أيضاً. وكذلك البذاء الذي هو عكس الحياء هو دليل الجفاء والغلظة وهذه
عاقبتها النار.
والحياء نوعان:
1- نوع يكون طبيعة وجبلة في الإنسان يمنحها الله العبد ويجبله عليها.
2- ونوع مكتسب من المعرفة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وما يحبه
وما يبغضه وهذا من أعلى خصال الإيمان بل هو من أعلى درجات الإحسان لأنه
يحتاج إلى رياضة ومجاهدة لتحصيله والاعتياد عليه.
وبالجملة فالحياء خلق إنساني تتميز به الفطرة الإنسانية، وقد أعطى الله منه
كل إنسان قدراً، ولكن هذا القدر إما أن ينميه الإنسان وإما أن يجمده ويقضي عليه
نتيجة عيشه على هواه، أو وجوده في بيئة مشوهة خلقياً. لا تعرف معروفاً ولا
تنكر منكراً.
نسأل الله أن يساعدنا على تنمية خُلُق الحياء في نفوسنا.(34/8)
البوطي والسلفية
وقضايا أخرى ... !
عبد القادر حامد
من منهج مجلة البيان أنها لا تدخل في مهاترات وخلافات شخصية، مما يقع
كثيراً بين المسلمين أفراداً وجماعات وعلماء، وهي إن أشارت إلى بعض الأسماء
فليس من أجل فتح معارك شخصية توغر الصدور وتفرق الصف المسلم بل لبيان
وجه الحق في مسألة ما، ونقد بعض المناهج والأساليب التي يلجأ إليها من يحبون
إثارة المعارك الفكرية التي يكون محورها أشخاصهم وأهواؤهم.
ومن هؤلاء الذين درجوا على إثارة المعارك الدكتور محمد سعيد رمضان
البوطي، فقد أخذ هذا الرجل على عاتقه مهمة الوقوف بقوة وبكل ما أوتي من
مواهب في وجه التيار الذي ينادي بالعودة إلى الكتاب والسنة، وتحكيمهما في واقع
المسلمين المعاصر، ولم يدخر جهداً أو وسيلة للهجوم على هذا التيار، فهو يستخدم
المسجد الذي يخطب فيه، والكرسي الجامعي الذي أسند إليه، والمؤتمرات التي
يدعى إليها، والكتب التي يسودها يستخدم كل ذلك وغيره من أجل تشويه كل من
يمت بصلة إلى هذا التيار.
ولقد أصبحت القضية عنده كأنها قضية حياة أو موت، وعندما تستعرض ما
يكتبه في شأنها تتبدى أمامك شخصية قلقلة تتصنع ركانة ليست من طبعها، كأنها
شخصية من يحاول جر واحتياز شيء ثمين سبقه إليه من هم أقوى منه سواعد،
وأصعب منه قياداً ومراساً.
لقد انتهى الأمر بالبوطي إلى أن حدد مساره بوضوح، وذلك بأن يعمل على
جبهتين، ويحشد طاقاته لتسير على خطين متوازيين:
1- العمل على رمي الاتجاه السلفي بما يستطيع من عظائم وسخائم، وتضييع
أوقاته التي يسترخصها في هذا المجال العقيم.
2- بناء اسم ومجد شخصي له في حياته بواسطة هجومه الشرس الذي لا يكن
ولا يكل على هذه الطائفة التي أصبحت عظيمة -والحمد لله- هذا من جهة، ومن
جهة أخرن نعومته و (تحضره) ورزانته المزعومة التي يبدو بها أمام غيرهم ممن
هم أولى بأن يصرف همه إليهم، ويقف جهوده على الإشارة إلى أفاعيلهم، وهم
كثير في البلاد التي يصول فيها ويجول، لا يتطلب التعرف عليهم إلا أن ينظر إلى
يمينه ويساره.
لقد تصدى البوطي في أواخر الستينات لما سماه (اللامذهبية) ووضع كتيباً
بعنوان تهويلي هو: (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) خطب ...
وحاضر وسب وشتم حول هذا الموضوع، ورُدَّ عليه في حينها، ولكنه شعر أنه لم
يكسب الجولة، فقد وجد أنه إذا كتب رسالة رد عليه برسائل، وإذا أصدر كتيباً،
رد عليه بكتاب.
فماذا يفعل! ؟ وجاءت الفرصة، حين تشتت أعداؤه شذر مذر، لأسباب لا يد
له هو فيها، فمنهم من يقبع في غياهب السجون، ومنهم من أجبر على الهجرة،
ومنهم من ألجم بلجام الخوف والإرهاب، فانبرى الرجل من جديد يعيدها جَذَعة،
ويستأنف طريقته في النقاش والهجوم، والعلم والتعليم، مع أن الفروسية تقتضي أن
يسكت حيث سكت -أو أسكت- خصومه، ولكن يبدو أن العرب الذين علموا
البشرية الفروسية ماتوا، أو لا يعرفهم البوطي. ففي عام 1408هـ أصدر كتاباً
جديداً بعنوان: (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب) . يصلح أن يتخذ نموذجاً
لما يجني التعصب والحقد والغرور والكبر على صاحبه وعلى العلم.
كلمة حول الكتاب:
من صفات العالم الحق أنه يعرض ما يراه من آراء وما يكتبه من بحوث
وموضوعات على آخرين، فيستفيد من ملاحظاتهم وإشاراتهم، فيخرج عمله خميراً
ناضجاً، ولكن يبدو أن البوطي يعيش في وقت غير طبيعي، وفي مشاعر غير
طبيعية، أما الوقت غير الطبيعي: فهذا واضح من تراجع المؤسسات العلمية التي
تعلم العلم الشرعي مقارنة بغيرها من المؤسسات، فعصرنا هذا -وهو عصر
البوطي- تميز بالضغط الشديد على هذه المؤسسات، هذا الضغط المتمثل بالإغلاق
أو التحويل أو المسخ أو التشويه، وكذلك تميز بكبت الأصوات الحرة والعقول
النيرة، وعندما تبتلى الأمم بمثل هذا الفراغ يسارع إلى أخذ الدور وملء الفراغ من
لا يغني فتيلاً، بل يُصْنَع من يسد هذه الخلة صنعاً، ولكن على عين الذين أرادوا
للأمة أن تعيش في ظل الفراغ. ولذلك فقد يعتذر البوطي بأنه لا يجد أحداً يعرض
عليه آراءه وأفكاره، وقد يكون حاله كحال دعبل الشاعر التي يمثلها قوله:
ما أكثر الناس! لا بل ما أقلهم ... الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير! ولكن لا أرى أحدا!
وهنا نصل إلى قضية أن البوطي يعيش في مشاعر غير طبيعية. فكيف
يتصور من البوطي أن يتنازل ليعرض ما يكتبه على غيره؟ (وهل في الميدان
غير حديدان؟ !) ولكننا نزعم أن الساحة لم تخل، ولن تخلو، وأن البوطي يلبس ...
نظارة مكبرة بالمقلوب، تكبر له نفسه جداً وهو النحيل الجسم -كما نعلمه- وتصغر
له من اصطنع خصومتهم حتى يراهم كالذر، أو لا يراهم شيئاً! ولو طامن من
نفسه قليلاً لكان أليق به، وأكثر بركة على الإسلام والمسلمين.
إن الرجل لو عرض كتابه على من يظن بهم العلم للفتوا نظره إلى كثير من
المجازفات التي رماه فيها تسرعه ونزقه، ولبينوا له أن ما نصب له نفسه أمر قد
استتب -والحمد لله- ولا رجعة فيه، ولا تضره كتب تكتب على عجلة، وتتلون
بالغيظ الفائر من خلف الكلمات حيناً، وبالمداورة والتلبيس والعبارات الملتوية التي
ليست من سمات المنهج العلمي في شيء، ذلك المنهج الذي أشار إليه البوطي كثيراً، وأبدأ وأعاد في بهره، ودار حوله واقترب وابتعد وحين ظن أنه اقتحمه مكتشفاً له
مفتحاً أبوابه المسحورة؟ لم يدر أنه كان مثل الظمآن في الصحراء، أبصر على
البعد ما ظنه ماء فأسرع إليه وطوح مغمضاً عينيه فإذا به لم يطوح في غير السراب!
العمود الفقري للكتاب:
تعارف الناس أن يكون فهرس الكتاب خلاصة لما في الكتاب، تبدو فيه
القضايا الأساسية التي بحثها المؤلف، ولكن القارئ إذا أراد أن يطبق هذا الأمر
المتعارف عليه بين الناس على هذا الكتاب بعد قراءته فإنه سيكتشف أن هذا الأمر
المعروف للناس غير معروف للبوطي، فالقارئ لا يخرج بتعريف للسلفية في اللغة
والاصطلاح، ولا يقبض على شيء من المنهج الذي أعاد فيه القول وحوله كثيراً،
وظن أنه فصل ووضح ووضع النقاط على الحروف، أما تطبيقاته فجاءت كفاء
منهجه: تناقض واضطراب مضحك، وإن كان يثير الشفقة. وقل مثل ذلك في
وقفته مع ابن تيمية.
أما الشيء الذي يخرج القارئ به ويتعثر به أينما جال بنظره في الكتاب فهو:
كره شديد للدعوة السلفية ودعاتها يعبر عنه صراحة؛ بألفاظه التي تنم عن
الكبر الموجود في نفسه، ومداورة؛ حينما يحاول أن يتزيا بزي العلماء ويستخدم
عباراتهم.
* حرص على النيل من ابن تيمية وابن القيم كلما لاحت له فرصة في مناسبة
أو غير مناسبة.
* افتراء وتهويل على خصومه.
* إشارات مبسوطة في عرض الكتاب هنا وهناك تشير إلى اهتمامه بنفسه
وحرصه على البروز. ومن مجموع هذه الإشارات ترتسم شخصية (نرجسية) [1]
معقدة لا تأبه بما يقوله الآخرون.
هذا هو الجد الذي يخرج به قارئ الكتاب، وهذا ما يستخلصه من هذه المعاناة
التي عاناها المؤلف وهو يجلد نفسه من أجل أن يثبت أن:
1- السلفية بدعة، بل أخطر من كل سائر البدع التي وجدت والتي ستوجد.
2- ابن القيم لم يأت بما يشفي الغليل في أعلام الموقعين.
3- إذا جاز لنا أن نكفر ابن عريي فيجوز لنا أيضاً أن نكفر ابن تيمية!
4- السلفيون جهلة.
5- السلفية يستخدمها الاستعمار لتفريق المسلمين.
كبر ومكابرة:
نحن الآن في عصر اختلطت علينا فيه الأمور وأصبحنا في جهالة جهلاء
حتى إننا لم نعد قادرين على معرفة من هو المسلم، وما هي شروط ممارسة الإسلام
يقيناً وسلوكاً، ولكن رحمة الله أدركتنا بإرسال البوطي ليؤلف هذا الكتاب ليقول لنا
فيه: إن الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً، لا بد أن يجتاز المراحل الثلاث
التالية:
أ- التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد -صلى الله
عليه وسلم-، قرآناً كانت هذه النصوص أم حديثاً بحيث ينتهي إلى يقين بأنها
موصولة النسب إليه، وليست متقولة عليه.
ب- الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعنيه تلك النصوص، بحيث يطمئن إلى
ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها.
ج- عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها، على
موازين المنطق والعقل (ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً) ،
لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها. (وطبيعي أن من لم تتحقق عنده الشروط لا
يحكم له بأنه مارس أو يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً) هكذا يقول الشيخ! وشرط
رابع نسيناه (نستغفر الله) وهو المهم، فهو الأداة ... المنهج ... وما أدراك ما
المنهج؟ !
يقول الشيخ: (واجتياز الإنسان بهذه المراحل الثلاث لا يتم إلا بعد الاستعانة
بأداة، وهذه الأداة هي ما نعنيه بكلمة (المنهج) .
مجموعة واحدة من المسلمين تستثنى من الذين اقتضت إرادة الشيخ أن
يخضعهم لهذا البلاء الذي سماه المنهج: أتدري من هم! ؟ إنهم أصحاب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فقد (كان لهم شرف الاستثناء من هذا الاحتياج طبقاً لما
أوضحناه من قبل) (ص 63 من كتابه المذكور) والحمد لله، أن استثنى الشيخ
بتواضعه الجم الصحابة من أن يخضعوا لجبروت منهجه، وإلا لأصابهم ما أصاب
التابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
إذن فمنهج المعرفة الإسلامية (وهو منهج البوطي) والانضباط بمبادئه وأحكامه
يتكون من ثلاثة أجزاء، كل منها يتكفل بحمل صاحبه إلى ثلث الطريق، ومن
تلاقي هذه الأجزاء الثلاثة متدرجة على الترتيب الذي ذكرناه؟ تتم الرحلة إلى
معرفة الإسلام والانضباط به اعتقاداً وسلوكاً.
وهكذا فقد اتضحت لنا المعادلة بحدودها شاخصة عارية، وهي:
1- اجتياز المراحل أ، ب، ج + الأداة = شخص يمارس الإسلام يقيناً
وسلوكاً.
2- اجتياز واحدة من هذه المراحل = ثلث مسلم!
لكن ننبه القارئ الكريم إلى أن في الطرف الأول من المعادلة الأولى وردت
كلمة الأداة وهي منهج البوطي، والمعادلة نفسها كاملة هي المنهج أيضاً، وحتى
يفهمها على وجهها الصحيح لا بد أن نحيله على صمويل بيكيت ومسرحيته (في
انتظار غودو) وإذا استثقل ذلك ورفض الإحالة فنقول له: العلم سر ولا ينفتح لمن هب ودب، بل لا بد له من استعداد ومواهب من نوع خاص!
وقد وعد المؤلف بأنه سوف يثبت ملخصاً للجزء الأول والثاني من المنهج
(أي مرحلة: أ، ومرحلة: ب) ويدع الجزء الثالث لمصادره المنطقية الخاصة به (لسنا ندري ماذا يريد بهذه العبارة) ولعلها مما سماه البلاغيون: حشو اللوزينج! وفي طريقه إلى توضيح الجزء الأول والجزء الثاني من منهجه العتيد يقول بعبارة مضمخة بالاشمئزاز: (فإن كثيراً من الذين يتحدثون اليوم عن الإسلام والمسلمين؛ يصرون على تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين وخلفيين؛ زيادة على الانقسامات المبتدعة المؤسفة التي انتشرت فيما بينهم قد لا يعلمون من هذا المنهج إلا النزر اليسير، ولعلهم لا يقيمون له وزناً، ولا يرون له وظيفة ولا شأناً) (ص 64) وتعليقنا على ذلك: الحمد لله على أن هؤلاء كثيرون، وحبذا لو عدل المؤلف هذه العبارة في الطبعة الثانية لتصبح: (لا يعلمون من هذا المنهج شيئاً، ولا يقيمون له وزناً، ولا يرون له وظيفة ولا شأناً) فهي أشق لصدره، وأصدق في وصف حالهم!
إن البوطي حينما يلقي لنفسه العنان وينهد للتنظير والمنهجة [2] ؛ يأتي
بالفواقر والأعاجيب، ويوقع قارئه في الحيرة: من أين يبدأ في الرد من البدايات أم
النهايات أم الأواسط؟ ولكنه حينما يعرج على ما يعرفه الناس ويرجع بك إلى
القضايا التي يتحرش بها ليريك علمه وبعد غوره فهو سهل الخطب، مسترخي
الحبل. ولكي يدخلنا في الجد فقد ساق لنا رأيه في خبر الآحاد، وقضية خبر الآحاد
من القضايا المهمة التي تُكُلِّم فيها قبل البوطي كثيراً، وتكاد تكون من أبرز القضايا
التي يتمايز بشأنها المسلمون قديماً وحديثاً، بل نؤكد أنها لب المسائل التي ينقسم
الناس من المسلمين بشأنها إلى قسمين رئيسيين:
1- قسم يرجع كل أموره إلى كتاب الله وما صح من سنة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- غير مفرق بين ما صح في مجال العقائد أو الأحكام أو السلوك.
2- وقسم آخر يعطي لنفسه أو لشيوخه الحق في التحكم والتفريق بين أصناف
الصحيح، فهذا يأخذ به في الأحكام والمعاملات؛ وذاك يهمله لأنه في العقائد، وهو
خبر غير متواتر. لكن المؤلف يعتبر القسم الأول مبتدعاً وجاهلاً وسطحياً وعميلاً
للاستعمار، بينما الذي يتبع منهجه هو المسلم الحق! والموضوعية والعلمية تقتضي
من المؤلف إذا أراد أن يناقش هذه المسألة أن يضع رأيه وحججه واضحة، وينقل
رأي خصمه وحججه واضحة أيضاً، ويحرر مكان الاختلاف ويرد حجج الخصم
بعبارة غير محتملة، فهذا الأمر قضية علمية محددة وليست موضوعاً إنشائياً
فضفاضاً، لكنه لم يفعل شيئاً من هذا واكتفى بعرض رأيه في قضية خبر الآحاد
فقال:
«هذا القسم الثاني (أي خبر الآحاد) لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق
الاعتقاد، بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون غير صحيح
لم يرق إلى درجة المتواتر، وبقي في حدود رواية الآحاد. بل يسعه أن لا يجزم به
دون أن يخدش ذلك في سلامة إيمانه وإسلامه (! !) وإن كان ذلك يخدش في
عدالته ويستوجب فسقه» . هل تريد دليلاً على هذه الطامة! ؟ خذ -إذن- هذه
الطامة الكبرى: (دليل ذلك أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ما في ذلك ريب ولا
خلاف (من يرتاب في ذلك! ؟) والاعتقاد انفعال قسري وليس فعلاً اختيارياً
(الرجل ليس نائماً ولا يشرب، ونحلف على ذلك!) فإن وجد العقل أمامه ما يحمله
على الانفعال واليقين بأمر ما، اصطبغ بذلك اليقين لا محالة، دون أن يكون له في
ذلك أي اختيار (أي اختيار مهما صغر! ؟) وإن لم يجد أمامه ما يحمله على ذلك
الانفعال واليقين، هنا بيت الفرس!) لم يجد بداً من الوقوف عند درجة الريبة أو
الظن، دون أن يكون له أيضاً في ذلك أي إرادة أو اختيار (!) فإن أجبرت العقل
مع ذلك بالجزم واليقين، دون أن تتوافر أمامه موجبات الجزم؟ فقد حملت العقل ما
لا يطيق (مسكين العقل!) ، ودين الله تعالى مبرأ من ذلك (ص 66) .
هكذا يستدل الرجل! ألا يصلح كلامه شرحاً لهذه الرباعية من رباعيات عمر
الخيام:
لبست ثوب العمر لم أستشر ... وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ... ولم أدرك لماذا جئت أين المفر! ؟
«أما في نطاق الأحكام السلوكية من عبادات ومعاملات ونحوهما، فقد دل
الخبر اليقيني المتواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن المسلم متعبد
في ذلك بالأدلة الظنية. فحيثما وجد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتضمن حكماً في العبادات أو الأحكام الشرعية الأخرى، وكان الراجح والمظنون
في ذلك الحديث هو الصدق لتوفر شرائط الصحة فيه، وجب عليه -بالدليل اليقيني
المتواتر- التمسك بذلك الحديث والاهتداء بهديه والالتزام بمقتضاه.
أما الدليل اليقيني على ذلك، فهو ما تواتر عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من إرساله آحاد الصحابة إلى البلاد والقبائل المجاورة والبعيدة، ليعلموا أهل
تلك البقاع أحكام الشريعة الإسلامية من عبادات ونحوها. وقد علمنا أن العقل يظل
يفرض احتمال السهو والغلط والنسيان في حق أولئك الآحاد، ومع ذلك فإن النبي
عليه الصلاة والسلام كان يأمر أهل تلك البلاد باتباع ما يرشدهم إليه هؤلاء الآحاد
الذين يبعثهم منتشرين في تلك الأصقاع. فكأنه بذلك يقول لهم: حيثما أخبركم
هؤلاء الرسل بشيء من أمر دينكم، مما يدخل في نطاق التطبيقات السلوكية،
وظننتم الصدق في كلامهم، فواجبكم تطبيق ذلك والأخذ به» (ص 76) .
لم يفصل لنا المؤلف سر هذا التفريق بين العقائد والأحكام السلوكية من
عبادات ومعاملات! ولم يسق أدلة على هذا التفريق، بل إن الأدلة التي أشار إليها
تدل على غير ما يريد، فآحاد الصحابة الذين كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يرسلهم إلى القبائل والبلاد كانوا يحملون رسائله ووصاياه وكان من تبلغه هذه
الرسائل أو الوصايا مكلفاً بطاعتها برمتها، لا أن يتوقف فيما يخص العقائد أو
يرفضها؛ ويقبل الباقي، بل إن التفريق بين أحكام الشرع إلى عقائد وعبادات
ومعاملات لم يعرفه الصحابة ولا العصور الأولى المفضلة وإنما حدث فيما بعد ذلك.
ثم إن قوله عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فكأنه بذلك يقول لهم:
حيثما أخبركم هؤلاء الرسل بشيء من أمر دينكم مما يدخل في نطاق التطبيقات
السلوكية» تقول على النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبة ما لم يقله إليه -صلى
الله عليه وسلم- فمن أين له هذا القيد: مما يدخل تحت نطاق التطبيقات السلوكية!؟
ولا أدل على مجازفة البوطي من قوله عن الحديث الضعيف أنه يجوز العمل
به فيما ذهب إليه جل علماء الحديث في فضائل الأعمال، بشرط أن لا يصل
الحديث إلى درجة متناهية في الضعف، وبشرط أن لا يعتقد راوي الحديث صحته
ففي هذه العبارة (أ) عدم دقة في الصياغة، فالأدق أن تكون هكذا: «يجوز العمل
به في فضائل الأعمال، فيما ذهب إليه ... »
ب) تلبيس وتدليس مقصود في قوله جل علماء الحديث.
ج) عدم استيفاء الشروط التي وضعها من أجاز العمل بالحديث الضعيف في
فضائل الأعمال ومنها: أن يندرج تحت أصل معمول به. أما قوله: جل علماء
الحديث؟ فهي عبارة موهمة من يقرأها يظن أن هذا رأي الأكثرين ولم يشذ عنه إلا
عالم أو عالمان؟ مع أن العكس هو الصحيح. وإليك ما قاله الشيخ أحمد محمد
شاكر في الباعث الحثيث
(ص91-92) عمن أراد أن ينقل حديثاً بغير إسناده «من نقل حديثاً صحيحاً
بغير إسناده. وجب أن يذكره بصيغة الجزم، فيقول مثلا: (قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم) . ويقبح جداً أن يذكره بصيغة التمريض التي تشعر بضعف الحديث، لئلا يقع في نفس القارئ والسامع أنه حديث غير صحيح. وأما إذا نقل حديثاً
ضعيفاً، أو حديثاً لا يعلم حاله، أصحيح أم ضعيف، فإنه يجب أن يذكره بصيغة
التمريض كأن يقول: (روي عنه كذا) أو (بلغنا كذا) . وإذا تيقن ضعفه وجب
عليه أن يبين أن الحديث ضعيف، لئلا يغتر به القارئ أو السامع. ولا يجوز
للناقل أن يذكره بصيغة الجزم، لأنه يوهم غيره أن الحديث صحيح، خصوصاً إذا
كان الناقل من علماء الحديث، الذين يثق الناس بنقلهم، ويظنون أنهم لا ينسبون
إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً لم يجزموا بصحة نسبته إليه. وقد وقع
في هذا الخطأ كثير من المؤلفين، رحمهم الله وتجاوز عنهم.
وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروط:
أولاً: أن يكون الحديث في القصص، أو فضائل الأعمال، أو نحو ذلك،
مما لا يتعلق بصفات الله تعالى وما يجوز له ويستحيل عليه سبحانه، ولا بتفسير
القرآن، ولا بالأحكام، كالحلال والحرام وغيرهما.
ثانياً: أن يكون الضعف فيه غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين
والمتهمين بالكذب، والذين فحش غلطهم في الرواية.
ثالثاً: أن يندرج تحت أصل معمول به.
رابعاً: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن
ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصاً إذا كان الناقل له من
علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك، وأنه لا فرق بين الأحكام وبين
فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما
صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من حديث صحيح أو حسن. وأما ما
قاله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك:» إذا روينا في
الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا «، فإنما يريدون
به -فيما أرجح، والله أعلم- أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم
يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن
في عصرهم مستقراً واضحاً، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة
أو الضعف فقط.
في العدد القادم البوطي والمنهج
__________
(1) نرجس -في أساطير اليونان- شخص كان يجلس على حافة ماء فنظر فيه فرأى صورته، فأعجب بها، ثم قتل نفسه لشدة إعجابه بذاته، واعتقاده بتفرده! .
(2) استجزنا هذا المصدر -مع أنه غير مسموع- قياساً على وزن الرباعي فَعْلَلَ، كدحرج.(34/10)
خواطر في الدعوة
أمراض القلوب
محمد العبدة
عندما تجد خللاً في الدعوة، وبطؤاً في السير، ففتش عن القلب، فأمراضه
أشد من أمراض الأبدان، كما أن اكتشافه أخفى، ويحتاج إلى خبير في ذلك، وليس
هناك وصف أدق لمكانة القلب من وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين
يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد
الجسد كله، ألا وهي القلب» .
ومن أمراض القلب التي تفسد على المرء دينه ودنياه مرض العجب، وهو
ناشئ عن الكبر، لأن المعجب بنفسه لا يزال يزداد إعجاباً وينفخ الشيطان فيه حتى
يزدري الكبار من العلماء والدعاة، وهو وإن حاول إخفاء هذا الإعجاب، لكنه
يظهر على فلتات لسانه أو على تصرفاته. والمؤمن يعرف نفسه، فيبادر إلى علاج
ما بها فوراً قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء.
ولعله من المناسب أن أنقل هنا كلاماً لأحد كبار علماء الإسلام، يتحدث فيه
عن نفسه بصراحة وأنه كان فيها عيوب وقد عالجها وبرئت بإذن الله، يقول ابن
حزم رحمه الله:
«كانت فيّ عيوب، فلم أزل بالرياضة (مجاهدة النفس) واطلاعي على ما
قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين، في
الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك
بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها
(العيوب) ، ليتعظ بذلك متعظ إن شاء الله.
فمنها: كلف في الرضاء [1] ، وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك
حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل، وامتنعت مما لا يحل من
الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً، وصبرت على مضض مؤلم كان ربما
أمرضني، وأعجزني ذلك في الرضى [2] ، وكأني سامحت نفسي في ذلك.
ومنها: عجب شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله
ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع.
ومنها: محبة في بعد الصيت (حب الشهرة) والغلبة، فالذي وقفت عليه من
معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي [3] .
رحم الله أبا محمد، ولا شك أن أول درجات المعالجة ورياضة النفس هو
الاعتراف بالنقص، وقد راض نفسه وألجمها، وأما وصفه للدواء فيقول:
» من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله، فليفتش عما
فيه من الأخلاق الدنية، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه
فليعلم أنه مصيبة للأبد وأنه أتم الناس نقصاً، لأن العاقل من ميز عيوب نفسه
فغالبها وسعى في قمعها، فإن أعجبت بأرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها، وإن
أعجبت بخيرك فتفكر في معاصيك وتقصيرك، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا
خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله ... « [4] .
__________
(1) استرضاء الأصدقاء والإخوان حتى تبقى المودة ولو على حساب الكرامة الشخصية، كما يفهم من كلام ابن حزم.
(2) أي عجز عن معالجة هذا العيب.
(3) رسائل ابن حزم الجزء الأول ص 252.
(4) المصدر السابق 287.(34/22)
فرق وعقائد
منهج ابن تيمية في الرد على المتكلمين
عبد العزيز التميمي
مقدمة:
لم يكن في القرون الأولى المفضلة أي جدل عقدي، بل أجمع السلف على
عقيدة واحدة حتى ظهرت الفتن، وكانت بوادر الانشقاق في شكل سياسي يتبنى
شذوذات عقدية، وذلك يتمثل في تيار الخوارج، ثم بدأت شقة الانحراف تتسع
بظهور المعتزلة والشيعة، ولكن الشيء الجدير بالذكر أن تيار هذه الفرق ظل
محدوداً وبقيت جماهير الأمة على العقيدة السليمة والاتجاه الواحد.
ثم كان أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية ودخلت في هذا الدين شعوب وأعراق
مختلفة لم تتلق القدر الكافي من التربية العقدية وبقيت تمحمل ألواناً مختلفة من
ثقافاتها، وكانت الطامة الكبرى عندما ظهرت ترجمات الفكر الإغريقي الوثني في
عهد بني العباس، وتبنت الدولة الخط الاعتزالي، وكانت محنة الإمام أحمد رحمه
الله، وفي تلك الفترة ظهرت بوادر المتكلمين ممثلة في ابن كلاب الذي رد على
المعتزلة لكنه لم يتبن عقيدة السلف كاملة، ثم ظهر الأشعري الذي كان معتزلياً في
بداية أمره، ثم تبين له انحرافهم وضلالهم فخالفهم ولكنه لم يصب طريقة السلف
وإنما توسط بين هؤلاء وهؤلاء، ثم في نهاية أمره ترك مذهب الوسط وانحاز إلى
مذهب السلف وكان آخر كتبه (الإبانة) تبنى فيه مذهب السلف الذي كان عليه أحمد
ابن حنبل.
لم يلق القول الثالث قبولاً لدى أتباعه المتأخرين وتمسكوا بالمرحلة الوسطية
وهي مرحلة التأويل. وفي عصر ابن تيمية كانت لا تزال المناقشات والمناظرات
بين المتكلمين من أتباع أبي حسن الأشعري وبين من يتبع مذهب السلف في ذلك،
وقد ألف ابن تيمية رسائل كثيرة بل كتباً في الرد على المتكلمين وبيان أن مذهب
السلف أعلم وأحكم.
التعريف بالمتكلمين:
التعريف المختار لعلم الكلام هو «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية
بالأدلة العقلية أو ما يظن أنها عقلية» . [1] وسمي بعلم الكلام لأن مسألة كلام الله
من أشهر وأقدم مباحثه. [2] والمتكلمون هم الذين تبنوا هذا العلم وتوسعوا فيه.
وعند الحديث عن المتكلمين لابد من الحديث عن معارضيهم الذين سُمُّوا بأهل
الحديث أو أهل السنة أو السلف. والسلف يقصد بهم القرون الثلاثة المفضلة [3] ،
والسلفيون هم الذين اتبعوا عقائد الأئمة في تلك القرون الثلاثة.
ويطلق على المتكلمين وأهل الحديث جميعاً الصفاتية لإثباتهم أصل الصفات
لله تعالى [4] وكذا المثبتة. وقد مر علم الكلام بمراحل تاريخية ذلك أن الفلسفة لما
ترجمت إلى العربية لم تلق ترحيباً في أوساط المسلمين من العلماء والعامة لذلك
تبنى بعض من سمي بفلاسفة الإسلام قضايا الفلسفة، وحاولوا تطويع النصوص
الإسلامية لها، بل لم يتورعوا عن الاستخفاف بها وتكذيبها، والقول بأنها إن كانت
كذباً فهي كذب لمصلحة الجمهور [5] .
وإزاء هذه المجازفات الشنيعة تلقى هؤلاء مقتاً من جمهور المسلمين وظلت
الحال كذلك حتى جاء الباقلاني ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة في
أصول الدين.
وتوسع معاصره ابن فورك في التأويل حتى قيل أنه أول أشعري عرف عنه
نفي الجهة وتأويل الاستواء. [6] وأخذها عنه من بعده. ثم جاء أبو المعالي
الجويني سنة 418 هـ الذي خلط المنطق بعلم الكلام، ثم انتشرت من بعد ذلك
علوم المنطق في الملة وقرأة الناس [7] وجاء الغزالي الذي خلط بين الفلسفة وعلم
الكلام بحيث يتعذر التمييز بينهما.
يقول ابن خلدون «ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة،
والتبس شأن الموضوع في العلمين (أي الفلسفة والكلام) فحسبوه فيهما واحداً ...
كما فعله البيضاوي في الطوالع [8] وبهذه الطريقة آل علم الكلام في المتأخرين إلى
ضرب من الفلسفة إن لم يكن هو الفلسفة المكروهة بين جماهير المسلمين، فهو
تلطيف خفيف لم يغير من جوهر المسألة شيئاً.
بعد أن تبين لنا تعريف المتكلمين وتطور علم الكلام، نشرع في عرض
طريقة ابن تيمية في الرد عليهم بكشف أحوالهم وسنقسم هذا المنهج إلى قسمين:
أ- خصائص أسلوبه في عرض العقيدة والشريعة.
ب- طريقته في مخاطبة المتكلمين خاصة.
أ- طريقة ابن تيمية في عرض العقيدة والشريعة ونقد المخالفين:
جاء ابن تيمية في عصر ركود وجمود عام في شتى العلوم الإسلامية، التي
غلب فيها التقليد ومتابعة أقوال السابقين والاكتفاء بالمختصرات والحواشي
والتهذيبات.
وأقفل باب الاجتهاد وانتشر المذهب الكلامي في العقيدة كما عاثت الصرفية
فساداً في عقائد الناس وعباداتهم، هذا إلى جانب الفساد السياسي والاجتماعي.
فما كان منه إلا أن شمر عن ساعد الجد وخاض في غمار تلك الانحرافات
غير هياب، مستعيناً بالله متزوداً بعلم غزير في شتى المعارف البشرية في عصره، ويساعده في ذلك عقل عبقري نفاذ وذاكرة مذهلة لا تكاد تسقط شيئاً.
فألف وناظر في العقيدة فكسب عداء المتكلمين وسجن بسببه من 705-707
ومن 726-728هـ وهاجم الصوفية وخزعبلاتها والمنحرفين من زعمائها وسجن
بسبب ذلك من 707-708 هـ. وعاب على الفقهاء جمودهم الفقهي ودعا إلى
الاجتهاد ومارسه بالفعل وكان أهلاً لذلك حتى لقد أفتى في مسائل يخالف بها الأئمة
الأربعة جميعاً، فكسب بذلك عداوة المقلدة من الفقهاء وسجن بسبب ذلك، مرتين في
سنة 718 هـ وسنة 719 هـ.
وكان للشيخ في جميع حالاته تلك منهج محدد واضح لم يتخل عنه أو يتردد
فيه أو يناقضه في حالة من حالاته، ونحن نوجزه فيما يلي:
1- الاعتماد على الكتاب والسنة وأقوال السلف: يقول رحمه الله في هذا:» فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله من أسماء الله وصفاته مما
جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان «. [9] والمقصود هنا أن يؤخذ من
الرسول العلوم الإلهية الدينية سمعياً وعقلياً ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة
الأدلة اليقينية البرهانية على أنه ما قاله حق جملة وتفصيلاً. [10]
2- الاستدلال العقلي فيما يستطيع العقل الإحاطة به: وتلك من صور التوازن
العجيبة في هذا الرجل فهو مع توقيره العظيم للنصوص لا يهمل العقل أو يزدريه
بل يرى أن العقل السليم لابد أن يوافق النقل الصحيح وأن الدين يأتي بما تحار منه
العقول لا بما تحيله، أي تراه مستحيلاً يقول في ذلك» إن كثيراً مما دل عليه
السمع « (يقصد الوحي) يعلم بالعقل أيضاً القرآن يبين ما يستدل عليه العقل ويرشد
إليه وينبه عليه.... والأمثلة المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية.... وهي أيضاً
عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل [11] .
ويقول أيضا في نص شديد الروعة» والقول كلما كان أفسد في الشرع كان
أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض والرسل إنما أخبرت بحق والله فطر عباده.
والرسل إنما بعثت لتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة « [12] .
وهو مع هذا التوقير للعقل لا يقدسه بل يرى أن له قدرة محدودة ينطلق فيها
كما يشاء ويعجز عن إدراك بعض قضايا الدين في ذلك» يبقى الكلام في نفس
الحكمة الكلية في هذا الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد
علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم الراحمين «.
ولعلنا قبل أن ننهي هذه الفقرة نشير لاستخدام الشيخ لقاعدة عقلية جاء بها
النقل بتوسع في صفات الله تلك هي (قياس الأولى) وهي أن كل كمال مطلق ...
يوصف به المخلوق فالخالق أولى به وكل نقص يتنزه عنه المخلوق فالخالق أولى
بالتنزيه عنه [13] .
3- حرصه الشديد على ضبط المصطلحات: وهو يعتني بذلك أشد العناية
ويرى أن كثيراً من خلاف السلف خلاف تنوع لا خلاف تضاد أي أنهم يختلفون
لفظياً. كما أن المتأخرين يستخدمون مصطلحات محدثة فيها الحق والباطل ثم
ينفونها ليتوصلوا بها إلى نفي معنى صحيح. يقول رحمه الله:
» وأما الألفاظ تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجوهر
والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها
فان كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوب
المعنى الذي قصده بلفظه. ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى
هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها «.
4- الاعتماد على اللغة الصحيحة: فالشيخ يعتمد على اللغة كما كانت عند
العرب المتقدمين، ويميز بعبقريته بين معاني الألفاظ في أصل وضعها واستخدام
المتأخرين لها. يقول:» وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ
عليه أم لا، عبر عنه بعبارة يتفقان على الوارد بها، وكان أقربهما إلى الصواب
من وافق اللغة المعروفة، كتنازعهم في لفظ المركب.... فتكون السموات والأرض
وما بينهما متحيزاً في اللغة « [14] .
5- النقل الموثوق: فهو عندما يريد محاجة خصم، فانه يعتمد على كلامه،
إما المكتوب، وإما المنقول شفهياً من مصادر موثوقة عن الخصم. ولذلك نجده في
كثير من كتبه في الرد على الخصوم، يذكر أولاً كلام الخصم بنصه وبأمانة ولا
يتدخل فيه حتى ينتهي من سرده، ثم يبدأ في نقده وبيان علله [15] ، وهذه الطريقة
جعلت من كتبه مرجعاً هاماً موثوقاً به في الفرق، وخاصة تلك التي لم يأتنا شيء
من مؤلفات زعمائها كالكلابية [16] .
ولذلك نجده يطالب خصومه بالتزام هذا المنهج، يقول عن الغزالي:» وأما
ما حكاه أبو حامد عن بعض الحنبلية: أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء وهي:
(الحجر الأسود يمين الله في الأرض، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع
الرحمن، وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن) . فهذه الحكاية كذب على أحمد لم
ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي
الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف لا علمه بما قال ولا صدقه فيما
قال « [17] لذلك نجده يحرص كل الحرص على الأخذ من المصادر الأصلية ولا ... يكتفي بالنقل عن وسيط، بل إنه في كثير من الأحوال يصحح سوء الفهم، أو التحريف في النقل. وهو في هذا لا يكتفي بالمصادر الإسلامية بل يفعل ذلك حتى في مصادر الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية وكذا الفلاسفة والمتكلمين.
6- العدل مع الأصحاب والخصوم: وتلك خصلة قلما تجدها في المختصمين
فاللجاجة في الخصومة تدفع المتخاصمين إلى أن يتجاهل كل واحد منهم محاسن
الآخر ويبحث عن معايبه ويفرح إذا اكتشف منها شيئاً. ولذلك نجده مع أشد أعدائه
خصومة يذكر ما فيهم من المحاسن [18] ، وهو يمارس ذلك فعلاً وقولاً، وهذا
النموذج الرائع الذي ننقله الآن يبين لنا هذين الجانبين فيه:
» والناس يعلمون أنه كان بين الحنابلة والأشعرية وحشة ومناظرة، وأنا
كنت من أعظم الناس تأليفاً للقلوب في المسلمين وطالباً لاتفاق كلمتهم، اتباعاً لما
أمرنا الله به من الاعتصام بحبل الله وإزالة عامة ما كان في النفوس من الوحشة،
وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله
ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر ذلك الأشعري في كتبه. وكما قال أبو اسحق
الشيرازي «إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة» .
وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي
ونحوهما يذكرون كلامه في كتبهم، بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين
ولكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله، وأما الأشعري فهو أقرب إلى
أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان أقرب كان أعلم
بالمعقول والمنقول، وكنت أقرر هذا للحنبلية ... ولما أظهرت كلام الأشعري ورآه
الحنبلية قالوا «هذا خير من كلام الشيخ الموفق وفرح المسلمون باتفاق الكلمة» .
وقال: «وكان أبو الحسن الأشعري لما رجع من الاعتزال سلك طريقة أبي محمد
ابن كلاب، فصار طائفة ينتسبون إلى السنة والحديث من السالمية وغيرهم كابن
علي الأهوازي، يذكرون من مثالب أبي الحسن أشياء هي من افتراء المعتزلة
وغيرهم عليه، لأن الأشعري بين من تناقض أقوال المعتزلة وفسادها ما لم يبينه
غيره» [19] .
«ويقول هذا إجماع من جميع الطوائف على تعظيم السنة ... » . ولهذا تجد
أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه. فالأشعري
نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم
من أتباعه، والقاضي أبو بكر الباقلاني لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم
من غيره.
7- التأصيل: وهو يذكر أسباب ضلال من ضل وكيف زلت أقدامهم وما هي
جذور انحرافهم، ويتتبعها بعبقرية فذة. يقول: «وأما من قال من الجهمية ونحوهم
أنه قد يعذب العاجزين؛ ومن قال من المعتزلة ونحوهم من القدرية أن كل مجتهد
لابد أن يعرف الحق وأن من لم يعرفه فلتفريطه لا لعجزه، فهما قولان ضعيفان،
وبسببهما صارت الطوائف المختلفة من أهل القبلة يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم
بعضاً» ويقول: «وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب
اتباعه وتجعل ما خالف ذلك من الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا
يجوز اتباعها، بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، والإعراض
عنها وترك التدبر لها» . ولأسلوبه في الكتابة خصائص أخرى يطول تعدادها
وجمع الشواهد لها، فمن ذلك البعد عن التعصب المذهبي، والشمولية في النقد،
وتتبع التسلسل التاريخي لانحراف المنحرفين مع نقد داخلي للنصوص والأسانيد،
مع نقد بناء يبطل الباطل ويحق الحق في أنصع صوره، مع اضطراد في المنهج لا
يحيد عنه، وأدب جم، وحرارة في الروح، وحرص على حماية بيضة الإسلام،
والإبقاء على عقائد المسلمين وعباداتهم بيضاء نقية كما أنزلت على محمد صلى الله
عليه وسلم.
ب- طريقته في نقد المتكلمين خاصة:
أخذ نقد المتكلمين من جهد ابن تيمية ووقته وكتبه الشيء الكثير، ويبدو أنه
فعل ذلك لأنه يرى أنهم أكثر الناس أنصاراً، بينما تقلصت المدارس الأخرى أو
انقرضت نهائياً. وكان في منهجه لنقدهم لا يعطي أحكاماً عامة تسلكهم في نظام
واحد، بل كان يميز بينهم، ويفضل نقد كل متكلم منهم بعينه، لأنه رأى أن كل
فرد منهم قد يكون له آراء لا يشاركه فيها الآخرون، فمن الظلم والحالة هذه
مؤاخذتهم بما قاله بعضهم. كما كان أيضاً في نقده لهم يبين حال الشخص الواحد،
فهو على سبيل المثال لا يهاجم الأشعري بما كتبه في فترة الاعتزال، وقد مر معنا
في نصوصه ما يشير لذلك.
وكان بودي لو أفردت لكل واحد من هؤلاء المتكلمين باباً خاصاً، جمعت فيه
آراء الشيخ حوله في مختلف كتاباته، إذن لخرجنا بكنز ثمين من ناقد خبير بالرجال
ومعادنهم، ولكن أنى لنا ذلك والزمان والمكان لا يسمحان لذلك فنحن هنا نشير إلى
أصول مشتركة، وجه بها نقده إلى كافة المتكلمين لأنهم تقريباً يتفقون فيها، فمن
مآخذه عليهم ما يلي:
1) - إهمالهم توحيد الألوهية، فالتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- توحيد الربوبية وهو توحيد الله بأفعاله كالخلق والرزق، وهذا آمن به
المشركون كما قال تعالى: [ «ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ] .
ب- توحيد الأسماء والصفات.
ج- توحيد الألوهية (العبودية) وهو توحيد الله بأفعال العباد كالصلاة والذبح
والنذر والخوف والرجاء وبه أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: [ولَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] ، ورغم الأهمية
العظمى لهذا التوحيد فان المتكلمين لا يتحدثون عنه، ولا يبذلون جهدهم لتعليمه
الناس، بل غاية جهدهم إنما هو الاستدلال على وجود الخالق، رغم أن هذا مركوز
في الفطرة البشرية، لا يحتاج تقريره جهداً يذكر، فضلاً على أن يكون كل الجهد
منصباً عليه، ذلك لأنهم يظنون أن الإلهية هي القدرة على الاختراع لذلك يسعون
لبيان أنه المتفرد بالخلق.
2) - اعتقادهم إمكانية تعارض العقل والنقل: (ومن تقديمهم العقل على النقل) . ذلك لأنهم رأوا أن قطعي النقل قد يعارض قطعي العقل، لذلك نحتاج إلى تأويل النقل لكي يوافق العقل، ومن هذا المنطلق الفاسد وضعوا قانون التأويل، وقد رد عليهم بما لا مزيد عليه في كتبه (درء التعارض والرد على المنطقيين، ونقض المنطق) .
3) - وضعهم لمقدمات باطلة أفضت بهم إلى نتائج باطلة: وقد أطال كثيراً في بيان هذا النوع من الخطأ، يقول رحمه الله:» ولهذا من قال أن الله لا يصدر عنه إلا واحد كان جاهلاً فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء -لا واحد ولا اثنان- إلا [سبْحَانَ الَذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ] .
4) - استخدامهم أدلة أضعف من المستدل عليه، يقول رحمه الله: «إن وصف هذه النقائص والآفات (كالبكاء والحزن) أظهر فساداً في العقل والدين من التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معرف للمدلول ومبين له، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى) ويقول:» فيقال لهم إثبات الوجود مع عدم المباينة والدخول والخروج، أبعد عن العقل وأبين فساداً في المعقول ... «.
5) - نقض بعضهم لقول بعض بل وتناقض الشخص الواحد منهم: يقول
» ومما يوضح الأمر في ذلك أن النفاة ليس لهم دليل واحد اتفقوا على مقدماته بل كل طائفة تقدح في دليل الأخرى، والفلاسفة تقدح في نفي المعتزلة على نفي الصفات.... فإذا كان كل من أذكياء النظار وفضلائهم يقدح في مقدمات دليل الفريق الآخر الذي يزعم أنه بني على النفي، كان في ذلك دليل على أن تلك المقدمات ليست ضرورية، إذ الضروريات لا يمكن القدح فيها «. وبقول:» إن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من
النفي «. ويقول:» وأيضا فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة «.
6) - حيرتهم وشكهم واضطرابهم رغم أنهم يزعمون أنهم يعارضون القرآن بعقليات يقينية، يقول الشيخ في هذا» إنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً، واضعف الناس علماً وبقيناً، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا ... وقد قيل أن الأشعري مع أنه أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتاباً في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام. فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها «وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم ... حتى قال أبو حامد الغزالي:» أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام «وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب بحيث له نهجه في التشكيك دون التحقيق؟ لذلك فقد جاء عنهم ترك هذا الطريق في أواخر أيامهم وعودتهم إلى طريق السلف.
__________
(1) التعريف لابن خلدون في المقدمة ص 458 الطبعة الرابعة بيروت وانظر تعريفات أخرى في (مذاهب الإسلاميين) لعبد الرحمن بدوي ونشأة الفكر الفلسفي للنشار، وعلم الكلام ومدارسه لفيصل بدير.
(2) وهناك تعليلات أخرى، انظر (مذاهب الإسلاميين) ص 29.
(3) أنظر مقدمة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ودرء التعارض 1/ 324.
(4) أنظر العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ونشأة الفكر الفلسفي للنشار 1/265 ط 8.
(5) أنظر الموافقة 1/9 طبعة رشاد سالم 1399 هـ.
(6) انظر (منهج ابن تيمية في التفسير) لصبري متولي 1401 هـ.
(7) مقدمة ابن خلدون ص 30.
(8) مقدمة ابن خلدون ص 466.
(9) القاعدة المراكشية للشيخ ص 28 طبعة الرياض 1406 هـ.
(10) عمومية الرسائل الكبرى 1/109، ابن تيمية لهراس ص 54.
(11) الرسالة التدمرية ص 93 الطبعة الثانية بيروت 1391 هـ.
(12) منهاج السنة طبعة رشاد سالم 1/82، وانظر ابن تيمية للهراس ص 52 ومن الأمور ذات الدلالة أن هذه القضية شغلت الشيخ حتى ألف فيها كتاباً سماه (درء تعارض العقل مع النقل) .
(13) انظر التدمرية ص 34.
(14) والشيخ قد نفى أن يكون في اللغة مجازاً واستدل على ذلك بكلام طويل في أول كتاب الإيمان الكبير ط المكتب الإسلامي، كما وضع معنى التأويل في اللغة وكذا معنى المتشابه، وبين أن الخطأ في الفهم اللغوي لهذه الكلمات أحدث ضلالاً كثيراً، أنظر مقدمة في أصول التفسير ط عدنان زرزور وكتاب ابن تيمية وقضية التأويل.
(15) ومن أوضح الأمثلة على ذلك كتاب منهاج السنة الذي كان ينتقل فيه من فقرة إلى فقرة حسب ما جاء في كتاب الحلي المردود عليه والمسمى منهاج الكرامة، وكذا عندما يرد على المتكلمين والفلاسفة في درء التعارض، أو على الصوفية في كتاب الاستقامة.
(16) حتى إن باحثاً هو علي سامي اعتمد في التعرف على هذه المدرسة وآراءه، اعتماداً شبه كلى على ما أورده الشيخ في الدرء والمنهاج.
(17) الفتاوى5/398.
(18) حتى الفلاسفة الذين يراهم من أشد الناس ضلالاً يذكر محاسنهم.
(19) الفناوى5/556.
(20) الفتاوى5/563.
(21) الموافقة 1/51 وأقواله في مثل هذه كثيرة فانظر الفتاوى 16/331 و /293-295.
(22) يقول: مع أني من عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي ولا انتصرت لذلك ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أنظر الفتاوى
3/ 228 وقد هاجم المنحرفين من الحنابلة في تفسير سورة الإخلاص ص 101 وغيرها.
(23) انظر استعراضاً تاريخياً ممتعاً في الفتاوى 4/9-23.(34/24)
جانب الدعوة في شخصية
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عبد العزيز آل عبد اللطيف
حظيت دعوة محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بدراسات كثيرة، وبحوث متنوعة، سواء كانت تلك الدراسات والبحوث في سيرة وترجمة صاحب هذه الدعوة، أو بيان مؤلفاته وآثاره العلمية، أو عرض لمنهجه في تقرير العقيدة، ومنها ما يتحدث عن أثر هذه الدعوة المباركة داخل الجزيرة العربية أو خارجها، ونوعية هذه الآثار سياسية كانت أو علمية أو اجتماعية.. وغيرها.
ومع هذا الكم من الدراسات إلا أن هناك جوانب مهمة لم تأخذ حقها من
الدراسة والتحليل، وفي هذه المقالة سأتعرض لأحد هذه الجوانب المهملة من حياة
الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو جانب الدعوة، وبيان فقهه للدعوة،
وأساليبها.
إن في كتب محمد بن عبد الوهاب عموماً ورسائله الشخصية [1] خصوصاً
والتي يبعثها إلى البلدان والعلماء والأمراء؛ معالم مهمة يحتاج إليها الكثير من الدعاة
إلى الله في هذا الزمان.
1- يركز الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيراً على بيان وضوح هدفه وغايته
من هذه الدعوة فهو يدعو إلى الله وحده لا شريك له، مخلصاً له الدين، ويحرص
أيما حرص على اتباع الحق مهما كانت الأحوال.
يقول رحمه الله:
ولست -ولله الحمد- أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام
من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير وغيرهم، بل أدعو
إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد
الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين. [2] ...
ويقول عن قوله تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ ...
اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] «التنبيه على
الإخلاص، لأن كثيراً لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه» [3] . إن هذه
الحقيقة البديهية وهي أن يدعو الشخص إلى الله لا إلى نفسه لا بد من استحضارها
في جميع أحوالنا، بالإخلاص، وكم نغفل عن هذه الحقيقة، فيدعو الشخص إلى ما
هو حق وصدق في ذاته، ولكن القصد هو مصلحة جماعة أو فرد أو نحوهما مما
هو من حظوظ النفس، وربما كان هذا القصد مشوباً بالإخلاص لله! ! وقد يغيب
عن الكثير أن هذه الدعوة لله وحده لا شريك له، أياً كان هذا الشريك.
ونلمس كما هو ظاهر من خلال النص الأول من كلام الشيخ، حرصه على
اتباع الحق والبحث عنه ونجده مرة أخرى -يقول- مخاطباً أحد سائليه: «وأنا
أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه فنبهني وأرجع (أي وسأرجع) إلى
الحق.. فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار» [4]
إن التجرد في طلب الحق، واتباع الدليل والبرهان من أهم صفات الدعاة إلى
الله السائرين على منهج سيد المرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-،
وكم يحزن المسلم عندما يرى دعاة قد تحكمت بهم قناعات وآراء بلا دليل أو برهان
فلا يقبلون لها صرفاً ولا عدلاً. وهكذا ندرك أن الشيخ قد صدق مع الله، وأخلص
قصده لوجه الله، واتبع الحق حيث دار، ومن ثم وفقه الله، وحظيت دعوته
بالتمكين، ونالت القبول في كثير من البلاد والعباد.
2- وفق الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاستعمال الحكمة في دعوته، فنجده
مراعياً أحوال الناس، ومنازلهم، ومدى قربهم من الحق أو عكسه، ومن ثم يتنوع
أسلوبه في الدعوة حسب حال المدعو ومكانته. فعندما يخاطب أمير العُيينة عثمان
بن معمر -والذي ناصر الدعوة في أول أمرها- يخاطبه بأسلوب فيه ترغيب
وتحبيب فيقول: «إني أرجو إن قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى،
وتملك نجداً وأعرابها» . [5]
ويخاطب شيخه عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي بأسلوب تظهر
فيه المحبة وصدق المودة فيقول له: «فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي وما
أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقاً لدين الله تعالى كعمر رضي الله
عنه» . [6]
أما عن أعداء هذه الدعوة السلفية ممن شرق بها، فأظهروا العداوة والصد عن
دين الله، فنجد أن الشيخ يخاطبهم وبما يناسب حالهم بأسلوب فيه شدة وغلظة، بعد
أن استعمل معهم أسلوب اللين والملاطفة. يقول الشيخ مخاطباً أحد مراسليه عند
الحديث عن خصومه: «هذا ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد جاءتنا خطوطهم
في إنكار دين الإسلام، وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي
أحسن وما زادهم ذلك إلا نفوراً» [7] ويقول عن عبد الحق المويس بالذات:
«استدعيته أولاً بالملاطفة، وصبرت منه على أشياء عظيمة» [8] فلما ظهرت
عداوتهم، ولم ينفع معهم الأسلوب اللين، استعمل الشيخ معهم الشدة والحزم، فها
هو يقول عن أحد خصومه الألداء وهو ابن سحيم: «لولا أن الناس إلى الآن ما
عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأن آخر، بل
والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه، لأفتيت بحل دم ابن
سحيم وأمثاله، ووجوب قتالهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في
نفسي حرجاً من ذلك» [9] ويخاطب ابن سحيم قائلاً له: «ولكن أنت رجل جاهل
مشرك مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال» [10] لقد كان الشيخ رحمه الله حاد
المزاج [11] وقد صرف حدته في مكانها الصحيح، فجعلها في الانتصار لدين الله،
والغيرة على محارم الله، والعداوة والبراءة من الشرك وأهله.
3- ويظهر فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب لنفوس المخاطبين والمدعوين،
ويدرك ما قد يعتري النفس البشرية -أحياناً- من استعلاء، واستكبار عن قبول حق
جاء من شخص لا تميل إليه تلك النفس، فيخاطب تلك النفوس ويوجهها إلى
التضرع إلى الله وسؤاله الهداية فيما اختلف فيه من الحق، ومرة يخاطبها بالرجوع
إلى كتب أهل العلم دون الرجوع إليه، ومرة ثالثة يرشدها إلى تدبر آيات القرآن
الكريم.
يقول رحمه الله مخاطباً أحد مراسليه: «وإن أردت النظر في أعلام الموقعين
فعليك بالمناظرة في أثنائه بين مقلد وصاحب حجة، وإن لقي ذهنك أن ابن القيم
مبتدع [12] ، وأن الآيات التي استدل بها ليست هذا معناها، فاضرع إلى الله،
واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظراً ومناظراً» . [13]
ويقول في موضع آخر: «وبالجملة فالذي أُنكره الاعتقاد في غير الله مما لا
يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي فارم به، أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل
فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب فلا
ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه أو أهل
بلده» . [14]
ويقول أيضاً: «إني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصى
به النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها،
ولا تأخذ من كلامي شيئاً، لكن إذا عرفتم كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الذي في كتبكم فاتبعوه، ولو خالفه أكثر الناس» . [15]
ويقول: «وإن صعب عليك مخالفة الكبر، أو لم يقبل ذهنك هذا الكلام
فأحضر بقلبك إن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بياناً وشفاء لداء الجهل،
وأعظمها فرقاً بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده واختلافهم قبل
أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه [ومَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ وهُدًى ورَحْمَةً] وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها
على قلبك فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال» . [16]
أرأيت إلى هذا التجرد التام في تبليغ ما هو حق، وكمال النصح والإشفاق
على المدعوين، وانظر إلى إهماله ذاته من أجل دين الله ونصرته، إضافة إلى
سبره لأحوال النفوس وإدراك حقائقها وصفاتها.
4- يلاحظ من خلال رسائله الشخصية أن الشيخ مهتم بما قد يراه نافعاً
ومجدياً لمصلحة الدعوة فمن ذلك إثارة النخوة في نفس المخاطب، فهو يحاول إقناع
مخاطبه بقوله: «إن لك عقلاً، وان لك عرضاً تشح به، وإن الظن فيك إن بان
لك الحق أنك ما تبيعه بالزهايد [17] ويستثير همم أهل شقراء ضد خصوم الدعوة ...
بقوله:» والله العظيم إن النساء في بيوتهن يأنفن لكم، فضلاً عن صماصيم بني
زيد «. [18]
5- تميز الشيخ بقوة حجته وعلى حسب حال المخاطب، كما يظهر فقه الشيخ
لأساليب المناظرة والإقناع للخصم. فمن ذلك قوله رحمه الله:» أنا أخاصم الحنفي
بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي كلاً أخاصمهم بكتب
المتأخرين من علماء مذهب الذين يعتمد عليهم « [19] وكم وقع ويقع في هذا
الوقت من صد عن دين الله وافتتان عن معرفته والتزام الصراط المستقيم، وذلك
بسبب ضعف حجة أهل الحق، وهزالهم العلمي.
ويقول أيضاً معقباً على رسالة بعثها أحدهم إليه:» قولك في الدليل على
إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودليله الكتاب والسنة، ثم ذكرتَ الآيات، كلام من لم يفهم المسألة، لأن المنكر للنبوة أو الشاك فيها إذا استدللت عليه
بالكتاب والسنة، يقول: كيف تستدل بشيء عليّ ما أتى به إلا هو، والصواب في
المسألة أن تستدل عليه بالتحدي بأقصر سورة من القرآن، أو شهادة علماء أهل
الكتاب « [20] .
وأخيراً، فإني أؤكد أن في الرسائل الشخصية لهذا الإمام، الكثير من المعالم
المهمة والوقفات الجيدة.
__________
(1) قامت جامعة الإمام محمد بن سعود بجمع هذه الرسائل في مجلد مستقل، وذلك ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تولت الجامعة ترتيبها وطبعها، أثناء انعقاد أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1400 هـ في الرياض.
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/32.
(3) كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد/ باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
(4) الدرر السنية 3/181.
(5) عنوان المجد في تاريخ نجد 1/38.
(6) الدرر السنية 1/35.
(7) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) 5/300.
(8) المرجع السابق 5/141.
(9) المرجع السابق 5/315.
(10) المرجع السابق 5/233.
(11) المرجع السابق 5/134.
(12) المرجع السابق 5/315.
(13) هذا الكلام على سبيل التنزل مع المخاطب.
(14) الدرر السنية 1/36.
(15) الدرر السنية 1/52-53.
(16) الدرر السنية 1/59.
(17) الدرر السنية 1/38/39.
(18) روضة الأفكار 11/107.
(19) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) 5/292 وانظر بحث " الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب " للدكتور عبد الله العثيمين ضمن بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(20) الدرر السنية 1/56.(34/37)
البث المباشر: الغزو المدمر
د. عمر المالكي
إن الحق الذي لا مراء فيه أن النفوس استمرأت المستوى الهابط الذي يبث
على المستوى المحلي أو من دول مجاورة أقل تمسكاً بالقيم الاجتماعية الأصيلة مما
انعكس على البث الأجنبي المباشر. ونحن المسلمين في عصور الضعف تعودنا ألا
نفيق إلا على صدمة الحدث، وأن نكون في غيبة تامة عما يسبق الحدث من
مقدمات. فلم يكن البث المباشر وليد الساعة، ولا يمكن لحدث هذا حجمه وله من
الآثار المعلنة والخفية ماله أن يكون حدثاً ذا بعد زماني قصير. وأهمية الحدث
باختصار تكمن في اعتماده على المعلومة وسيلة للتغلغل في عقول الأفراد
والجماعات، وبالتالي توجيهها بما يخدم أهداف الجهة الناشرة. فالبث المباشر يمثل
قمة الإنجاز العلمي فيما يسمى ثورة الاتصالات، وإنه لمن المؤسف حقاً أن يحيا
المسلمون على هامش الحدث وأن يكونوا الضحية الكبرى شباباً وشيباً، نساء
ورجالاً.
في هذه المقالة، سنستعرض هذه التقنية والمستفيدين منها باستعراض
استخدامات هذه التقنية في الدول المتقدمة في هذا المجال ثم نعرج على بعض
الاقتراحات التي نأمل أن تجد طريقها إلى التنفيذ.
الوحدات الأساسية للعالم:
إلى ما قبل إعادة البناء، كان العالم ينقسم إلى معسكرين: شرقي وغربي،
ودول عدم الانحياز التي في حقيقتها منحازة إما إلى الشرق الشيوعي أو الغرب
الرأسمالي بما في ذلك دول كبيرة كالصين واليابان. وفي جميع الأحوال لم يكن
الشرق والغرب مختلفين في وجهة النظر حيال قضايا أساسية كالتجمع الإسلامي،
بل إن مفكري الغرب وصنّاع القرار يصرّحون بأن المخاوف من الخطر الأصفر
(الياباني) وهم لا مبرر له، وإنما الخطر الحقيقي هو الإسلام [1] .
ولقد كانت الحركة الإصلاحية (إعادة البناء) تؤكد هذا الشعور والقناعة ...
الراسخة، ويكفي مراجعة فصل: (أوروبا، بيتنا المشترك) وفصل (النزعات
الإقليمية) من كتاب بيروسترويكا لجورباتشوف [2] لمعرفة طبيعة العلاقة بين العالم
الإسلامي ودول العالم تعين كثيراً في معرفة طبيعة الغزو المدمر الذي يحمله البث
المباشر.
كيف يتم البث المباشر؟ : على ضوء التقنية الحالية فان البث المباشر يتم عبر
أجزاء ستة لابد منها وهي:
1- قرص استقبال من الأقمار الصناعية.
2- جهاز معالجة التشويش والموجات غير المرغوب فيها.
3- جهاز التقاط البث التلفزيوني من الأقمار.
4- معالج قنوات البث التلفزيوني.
5- جهاز التلفزيون.
6- محطة الإرسال التلفزيوني والقمر الصناعي الموزع.
ولكن التقنية تتغير تغيراً سريعاً، واليابان تعد بأجهزة صغيرة جداً تجعل من
اليسير جداً التقاط البث المباشر بواسطة ساعة يد! وهذا أمر غير مستبعد إذا ما
نظرنا إلى القفزات الهائلة التي تحققت في مجال صناعة الفضاء والإلكترونيات.
فما أفاق العالم، من الذهول الذي أحدثه إرسال أول مركبة فضائية حتى تم تحقيق
معجزة أكبر من ذلك عندما التحمت مركبتا فضاء تنطلقان بسرعة كبيرة، ثم تبع
ذلك قبيل عام ونصف تقريباً قيام مركبة فضاء باصطياد قمر صناعي سابح في
الفضاء وإصلاحه ومن ثم إعادة إطلاقه في الفضاء!
ولقد كان القرص المطلوب لالتقاط البث المباشر كبيراً نسبيا في بداية البث
المباشر فإذا به يصغر مع التطور الكبير في تقنية الميكرويف وصناعة الهوائيات،
وهذا يؤكد على سلامة إجراءات التفتيش الجمركي في المنافذ البرية والجوية
والبحرية بل إن صغر حجم الأجهزة يدعو إلى مزيد من الدقة في إجراءات التفتيش.
واقع البث المباشر [3] :
تنقسم الأقمار الصناعية إلى محلية وأخرى غير محلية، ففي عام 1964
قامت أمريكا وعشر دول أخرى للتباحث والاتفاق حول تشغيل شبكة من الأقمار
الصناعية التي تخدم عدة دول. هذه الشبكة العالمية يطلق عليها (انتلسات) وقام
بتركيبها مؤسسة (كومسات) الأمريكية وبحلول عام 1982 أصبح للشبكة أكثر من
106 مستخدم مع وجود محطات أرضية في 155 دولة، وبلغ استثمار الولايات
المتحدة لوحدها في الشبكة 22%.
يوجد حالياً أربعة عشر قمر صناعي عالمي من نوع انتلسات موجهة نحو
المحيطات الأطلسي والهندي والهادي، وتقدم خدماتها على مدار الساعة. والجدير
بالذكر أن البث المباشر والاتصالات الفضائية تخضع لاتفاقيات دولية، فالاتحاد
العالمي المسؤول عن البث هو (the world administrative radio
conference) أو اختصار (W A R C) يعتبر ذراع رابطة الاتصالات العالمية
التابعة لهيئة الأمم المتحدة والذي سبق له الاجتماع في عام 1977 ووضع مواصفات
البث التلفزيوني، وحدد مجال الذبذبات المخصصة للبث ما بين11. 7 إلى 145
جيجاهرتز (جيجاهرتز = 1000 مليون هرتز) كما أن الاتحاد حدد عدد القنوات
لكل قمر صناعي بخمس قنوات وسيسمح للدول ببناء أقمار صناعية خاصة بها في
حدود هذه المواصفات. ولقد جعل للاتفاقية مدى زمني للتنفيذ ينتهي بحلول عام
1992 , التأثير الواضح والكبير لإطلاق الأقمار الصناعية غير المحلية (انتلسات)
هو زيادة البث التلفزيوني الذي أصبح يغطي مساحات شاسعة عبر طريق إرسال
البرامج التلفزيونية للأقمار العالمية والتي بدورها توزعها على الأقمار المحلية. ففي
عام 1965 كان هناك 80 ساعة بث تلفزيوني بواسطة الأقمار العالمية بينما ارتفع
العدد ارتفاعاً هائلاً بحلول عام 1981 ليصبح 26658 ساعة وزاد العدد في عام
1982 إلى 45500 ساعة وفي عام 1984 وصل إلى 75000 ساعة هذا هو
الحال في الغرب والدول الحليفة له.
في المعسكر الشرقي (قبل إعادة البناء) قامت روسيا ببناء شبكة البث لدول
حلف وارسو (انترسبوتنيك) فوجد فروق فنية بين هذه الشبكة ومثيلاتها في الغرب
ولكنها تعمل لذات الهدف. أما بعد إعادة البناء فقد عقد مؤتمر رواد الفضاء في
هولندا وحضره أكثر من خمسين رائد فضاء معظمهم من الولايات المتحدة وروسيا
وهيمنت على المؤتمر الدعوة إلى (بيروترويسكا فضائية) . [4]
*الخدمات التي يوفرها البث عن طريق الأقمار الصناعية: تنوعت برامج
البث التلفزيوني عن طريق الأقمار الصناعية تنوعت إلى درجة كبيرة، وأصبحت
هناك شبكات مخصصة لكل نوع من البرامج، فهناك:
**شبكة للأخبار.
**شبكة للبرامج الدينية.
**شبكات تعليمية.
**شبكة لعقد الاجتماعات والمؤتمرات لأفراد في أمكن مختلفة.
**شبكات تجارية.
**الشبكات الخاصة (مثل شبكة وكالة الفضاء الأمريكية ناسا) وغيرها كثير
والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس مثل
شبكة البث المسيحي (NBN) وشبكة (CBN) والشبكة الأخيرة يصل بثها إلى أكثر
من 17 مليون عائلة عن طريق التلفزيون الكابلي VTAC وبرامجها على مدار
الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي SARCOM3 وتوجد عدة قنوات للبث
الديني واحدة منها للبث الديني اليهودي ومن المقرر بنهاية عام 1990 أن يصل عدد
الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة
آلاف!!
*صناعة قرص الاستقبال (disque antenna) في أواسط السبعينات كانت
تكلفة قرص الاستقبال تصل إلى (10000) دولار أمريكي مما حدا البروفيسور
تايلور هوارد إلى تصميم قرص بنفسه، وتبع ذلك محاولات أخرى جعلت من
الممكن صناعة القرص في حدود تكلفة إجمالية تصل إلى (1000) دولار. ولقد
قامت العديد من المجلات والكتب العلمية بطباعة تقارير عن طريق تصميم دوائر
الاستقبال وقرص الالتقاط في حدود تكلفة تصل الآن إلى (300) دولار فقط.
*ملاحظات: حتى يمكننا الوصول إلى مقترحات محددة فلابد من تحديد
الملاحظات التي على أساسها يكون التوجه، ويمكن إجمال الملاحظات في النقاط
التالية:
**إن هناك غياباً عن معايشة مقدمات الحدث رغم أن معظم هذه الأحداث
وقعت في زمن الوفرة الاقتصادية.
**كما أن هناك غياباً عن معايشة الحدث نفسه معايشة إيجابية فاعلة باستثناء
ندوة أقيمت في اليمن [5] أقامتها الهيئة العامة للمعاهد العلمية هناك.
** بدأت بوادر البث المباشر في تونس، فالبث الفرنسي على القناة الثانية
بدأ بعد زيارة الرئيس الفرنسي في تونس وعقدت اتفاقية بموجبها يسمح للبث
الفرنسي في تونس، وقدمت فرنسا دعماً قدره 60 مليون فرنك ومساعدة تونس
للحصول على التقنية اللازمة، كما وقعت اتفاقية لاحقة تقضي بمنح تونس مساعدة
(150) مليون فرنك. ولقد حدث تقليص في ساعات البث بسبب عرض برامج
تناقض أقوال المسؤولين التونسيين بخصوص الانتخابات! !
والجدير بالذكر أن هناك بثاً تلفزيونياً إيطالياً في تونس سبق البث الفرنسي
حيث بدأ منذ 1967 [6] .
**رغم انتشار الجامعات والكليات التقنية في طول العالم الإسلامي وعرضه
إلا أنه -حسب علمي- لم تقم جامعة واحدة بتبني ندوات ومؤتمرات علمية كما لم
تقم جامعة بوضع سياسة للإشراف على رسائل ماجستير ودكتوراه في هذا المجال
الخطر.
**كذلك لم يسمع عن المؤسسات الإسلامية الكبرى كرابطة العالم الإسلامي
وغيرها أنها قامت بنشاط في هذا المجال.
**إن البث المباشر في ظل التقنية الحالية لا يمكن استقباله دون عمل
تجهيزات خاصة حسبما سبق بيان ذلك.
**إن ديننا يعلمنا أنه ما من داء إلا وله دواء علمه من علمه وجهله من جهله، ونحن لم نبذل شيئاً إطلاقاً في البحث عن العلاج، كما علمنا ديننا بأننا مطالبون
ببذل الوسع في حدود الإمكانات [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] فإذا بُذل الوسع
تحققت بذلك سنة الله في الأرض بنصر المؤمنين الآخذين بالأسباب.
**إن العالم الإسلامي يزخر بالثروات المادية والإمكانات العلمية من علماء
ومفكرين، والواجب تجميع هذه الطاقات وتوجيهها لخدمة الأمة، ولا يليق بأمة
مستهدفة أن تنفق ثرواتها على اللهو بصنوفه العديدة. وأضعف الإيمان أن يعامل
البث المباشر كصنف من تلك الأصناف اللاهية!
الاقتراحات:
بناء على ما سبق يتبين لنا ضرورة وجود عمل جاد تجاه هذا الغزو المدمر
الذي هو من أقسى ما تعرض له المجتمع المسلم من حروب، وذلك لأنه يهدف إلى
استئصال الإنسان المسلم من جذوره بمحاربة عقيدته وأخلاقه وقيمه، وهدم كيانه
النفسي والاجتماعي، وتأصيل الممارسات الفردية المنحرفة، لتصبح ظواهر
اجتماعية يحسب لها كل حساب. وحتى يكون للمقترحات صدى وتأثير لابد:
- أن تكون لجان من ذوي الخبرة والاختصاص لوضع الخطط والسياسات
اللازمة لمكافحة هذا الغزو.
- أن تحول المقترحات إلى عمل منظم، إذ لا خير في علم لا يتبعه عمل،
ولا خير في عمل إذا لم يكن وفق نظام وخطة محددة الأهداف والمراحل.
- أن تكون الجماهير المسلمة جزءاً من الحل ومشاركة فيه، وإلا فإن أي
قرار يتخذ بعيداً عنها وفي غيبتها -خصوصاً هذا الأمر- فسيكون منبتاً ولا جدوى
له.
وبمكن إيجاز المقترحات في النقاط التالية:
**ما دام البث المباشر لا يتم إلا بواسطة تجهيزات خاصة فإن من وظيفة
الحكومة الإسلامية هي حماية الدين والأخلاق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
. لذا يجب منع هذه الأجهزة والتشديد في إجراءات التفتيش في جميع المنافذ على
المواطنين والأجانب على حد سواء.
**الحل السابق مؤقت ومرتبط بما وصلت إليه التقنيات الحديثة، لذلك فالحل
يكمن في مساهمة الجامعات التقنية ومركز ومعاهد الأبحاث التي تنفق عليها الأمة
من ثرواتها المبالغ الهائلة، ولا يليق بهذه الجامعات ومركز البحث العلمي أن تشتغل
بأبحاث تخدم مجتمعاً غير مجتمعها، كما لا يليق بها أن تغيب عن معركة حاقدة
يقف وراءها يهود ونصارى وغيرهم. يجب على هذه الجامعات أن تنشر الوسائل
العلمية في مجال دراسة أسرار هذا الغزو وفك أسرار التقنية ومحاولة السيطرة
عليها. قد يكون هذا صعباً ولكنه ليس بالمستحيل فدول شرق آسيا الفقيرة أصبحت
منافسة للدول الصناعية الكبرى.
**يجب إقامة الندوات والمؤتمرات المتخصصة التي تجمع ذوي الاختصاص
والخبرة ليتبادلوا الآراء ونتائج الأبحاث فهذا هو الطريق المتبع في الشرق والغرب
على حد سواء، فعلى أساس ما يتخذ من إجراءات في ختام كل ندوة ومؤتمر يتم
بناء الصناعات الكبيرة والخطيرة.
**يجب إقامة الندوات والمؤتمرات التي تهدف إلى نشر الوعي الاجتماعي،
وأن تعتمد هذه الندوات والمؤتمرات الطابع الشعبي والأساليب الحديثة من ملصقات
وأشرطة فيديو وكاسيت، بالإضافة إلى الأساليب الشرعية من وعظ وتذكير، كما
أنه من واجبات وزارات الأوقاف تكليف الأئمة والخطباء بإقامة دروس التوعية
وتقديم الخطب بصورة شبه دائمة فلا شك أن هذا سيؤدي إلى استثارة الغيرة
الإسلامية على العرض والدين.
**كما تبين في الفصول السابقة، فإن البث التلفزيوني يخضع لعهود
واتفاقيات دولية وهنا يأتي دور الحكومات والرقابة الشعبية في منع هذا البث وألا
يخضع الأمر للميول والأهواء كما حصل بالنسبة للبث الفرنسي في تونس، كما
يجب ألا نركن إلى هذه العهود والمواثيق فهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة،
ويجب على العلماء والدعاة أن يذكوا روح الجهاد في الأمة كما يجب على الخطباء
أن يجعلوا من البث المباشر جزءاً من دعائهم لضمان يقظة الضمير الاجتماعي لدى
الأمة.
**لقد سبق ذكر عدد الشبكات الدينية الموجهة والتي ينفق عليها مجالس
الكنائس، وتحظى هذه الشبكات بتسهيلات على اعتبار أنها ليست تجارية، فإذا كان
أهل الباطل يستفيدون من هذه التقنية ويوجهونها إلى ما يخدم أهدافهم فمن الواجب
والضروري لمجلس المساجد العالمي والاتحادات الإسلامية أن تتعاون فيما بينها
لامتلاك شبكة لبث الدعوة الإسلامية وفضح المذاهب الضالة والديانات المنحرفة.
__________
(1) - قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله، لجلال العالم.
(2) - بيروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع لميخائيل جورباتشوف.
(3) - The satellite TV handbook by: a t easton howard W sams & co inc.
(4) - جريدة الحياة عدد الجمعة 14 ذو الحجة 1410 هـ.
(5) - مجلة النور السنة السابعة عدد 78 شعبان 1410 هـ.
(6) - جريدة الحياة عدد السبت / الأحد الموافق 21 ذو الحجة 1410 هـ.(34/44)
البيان الأدبي
محيي الدين عطية في ديوانه الجديد
(صلاة الفجر)
عبد الله الطنطاوي
مدخل:
(صلاة الفجر) هو المجموعة الشعرية السادسة للشاعر المبدع: محي الدين
عطية، وقد سبقته خمس مجموعات شعرية أخرى هي: نزيف قلم - دموع على
الطريق - قسماً - مجموعة أناشيد المقاومة - من الأعماق. وقارئ تلك الدواوين
يخرج بانطباع حزين ثائر، لأنه يقرأ الأبيات والكلمات والمقطعات والقصائد
وظلالها وموحياتها، ويغوص في أعماقها وأغوارها البعيدة، فيحس لفح أفيائها،
من خلال نفس تتلظى وهي تستعيد ذكريات الليالي الخوالي، وهي - في أكثرها-
ليال عوابس دوامس مترعة بالأنين، مغلفة بالآلام والأحزان. وشاعرنا واحد من
أولئك الصيد الذين لقوا الألاقي فصبروا وصمدوا. وليس هذا بمستغرب ممن وضع
لبان الرجولة مع تعاليم الإسلام ومبادئه وعقيدته، فكان يأرز إلى إيمانه بالله وقضائه
وقدره، كلما حزبته الأمور، وعصفت به العواصف الهوج من الهمج والسفلة
وسفلة السفلة ... والإيمان يصنع الأعاجيب من رجولة الرجال ...
الديوان:
وهذه المجموعة الشعرية تنبئ عن شاعرية فذة، تملكها صاحبنا منذ أن
انضوى تحت راية الإسلام، وعّب من ينابيعه الثرة فكراً صافياً، وثقافة عميقة،
وبعداً في النظر، ونقاء في السريرة، وقد أخصب كل ذلك بما عانى من أنماط
القهر وغنى التجارب التي أثرت عواطفه، وقد انعكس كل ذلك على شعره، ليجعل
منه شاعراً متميزاً، على الرغم من أنه شاعر مقل -فيما يبدو- ولكن الغزارة في
الإنتاج ليست شيئاً ذا بال، ما لم يواكبها إبداع. وإقلال في إبداع؛ خير ألف مرة
من إكثار في غثاثة..
يتألف الديوان من ست وثلاثين قصيدة عشارية فكل قصيدة من قصائد هذا
الديوان تتألف من عشرة أبيات، سوى قصيدة (إسراء) فإنها تتألف من تسعة أبيات، وأحسب أن البيت العاشر قد سقط سهواً أو قسراً ...
وقصائد الديوان تنطلق من منطلقات إسلامية، في محورها الإسلامي العبادي، وفي محورها السياسي، وفي محورها الاجتماعي، فقد تمكن الشاعر من صهر
هذه المحاور في بوتقة الإسلام العظيم الذي يعيشه الشاعر ويحياه ... وقد استخدم
الشاعر مختلف البحور الشعرية، كالطويل والبسيط والمديد والمجتث والوافر
ومجزوئه، معتمداً في سائره على عمود الشعر: بمعناه الحديث وليس بمعناه
الجاهلي أو الأموي -مبتعداً عن شعر التفعيلة..
والشاعر سلس الأسلوب، عذب الكلمات، يتحدث إلى قارئه في شعره حديث
الصديق للصديق، في تؤدة ولين وحب وأنس، فيه رقة ونعومة وصدق وبعد عن
التقعر في اللفظ والمعنى معاً، مما جعل موسيقاه هادئة محببة تتسلل إلى النفس
لتنقل أحاسيس الشاعر فيا تعج به بعض القصائد من تنوع العواطف والمشاعر
والأحاسيس، والحزينة منها بخاصة. وصوره لا تقل عذوبة وجمالاً عن أسلوبه
وموسيقاه، كهذه اللوحة البديعة التي رسمتها ريشة صناع:
إذا ما الفضة انتثرت ... خيوطا في ليالينا
تراقبها مآذننا ... فتصدح كي تنادينا
يلبيها فيهرب ما ... تثاقل من مآقينا
ونلقى النسمة العذرا ... نرشفها وتروينا
تعانقنا، تقبلنا، ... وتوقظ خير ما فينا
وفي قصيدته (جريح من هرات) مجموعة من الصور الحية المعبرة كهذه:
تمازحني كأنك يوم عرسٍ ... وجرحك وجه عذراء مليحُ
ويضحك في ندى عينيك طفل ... فتضحك دمعتي، ولها فحيح
وجرحك أحمر الشفتين يشدو ... بأغنيةٍ لها كالمسك ريح
واقرأ معي في قصيدته (نشوة) وتأمل هذه الصور البديعة:
إذ ما استحمت عيون السماء بضوء القمر
هنالك يدعى اليراع الوفي لبعض السهر
وتتلو القوافي مع الكائنات دعاء السحر
هنا يسبح المرء في نشوة من نسيج القدر
صلاة الفجر:
وإذا أردنا أن نقف أمام بعض قصائد الديوان، فسوف نطرب لمعانيها، طربنا
لمبانيها، فنحن نطالع في (صلاة الفجر) الإحساس الصادق، والأسلوب الشاعري،
والصور الجميلة، تتدفق فيها المشاعر عبر الكلمات والصور التي تتنفس في جو
إيماني، وتتنسم من عبيره ... فالخيط الأبيض من الفجر هو حزمة من خيوط
فضية ترقبها المآذن في شوق ولهفة، وحالما تراها تصدح بالأذان، فتوقظ الوسنان
الذي يخف إلى بيوت الله، والنسمات المنداة تستقبله، تعانقه، تقبله، وتبعث فيه
خير ما فيه، والمؤمن كله خير، تحف به ملائكة الرحمن، وهي تزفه إلى المسجد، حيث المؤمنون صافون أقدامهم للصلاة، للعطاء والخير، وترق الأرواح وهي
تصيخ إلى قرآن الفجر الذي ينقيها من أدران المادية، فتهتف أشواقها داعية مبتهلة، وتتجاوب الأطيار والأشجار وما حوى ملكوت الله، فتهتف مؤمِّنة:
آمين آمين..
كل هذا الجمال يتودد إليك بلا حشو ولا إقحام معنى أو تكلف صورة، أو
تعسف معنى أو قسر كلمة، ويجعلك تصرخ: أين كان شاعرنا؟ أم أن ليل المحنة
الطويل الطويل، الثقيل الثقيل، قد آده وضعضع نفسه الرقيقة فصرفها عن قول
الشعر حيناً من الزمن؟ .
المسجد:
وفي (المسجد) عبر الشاعر عن مفهوم العبادة في الإسلام.. فالمسلم العابد
ليس من يرتاد المساجد وحسب، بل هو الذي يتعلق قلبه بالمساجد، ويحمل فأسه
ويعمل في حقله ويتحمل مشاق العمل، وهو الذي يسعى على عياله ويرعى والديه
ولا يؤذي جاره، ولا يقطع رحمه، ويبث الحياة في قلوب العجزة، ويذكي الهمم
ويستنهض العزائم، وهو الذي يجاهد بقلمه، والذي إذا عمل عملاً أتقنه ليكون -
أبداً- في سباق مع العلماء والمخترعين، والذي لا يكتم علماً ... هؤلاء هم العباد،
فالمؤمن يتعبد ربه في سائر أحواله، وقد جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً.. إنها
أطايب الإسلام، قدمها إلينا الشاعر على طبق شهي من لذيذ الشعر..
الزائر الأخير:
و (الزائر الأخير) هو الموت، وقد وصفه وصفاً دقيقاً، في أسلوب تقريري، غير أنه ينبض بشتى المشاعر التي تنتاب مستقبِل هذا الزائر الذي لا بد من استقباله ولا مفر..
فإن خيراً هنا، فهناك خير ... وهل يخشى من اللقيا حبيب؟
العطاء:
وفي (العطاء) يخرج الشاعر عن مألوف أصحاب النظرة المادية والتفسير
المادي للأمور، أولئك الذين يرون في المال درعاً وكافلاً وأمناً، وأن الجود يفقر،
فالمال -في نظر الشاعر وفي نظرنا- عارية مستردة، وهبه الله عباده ليتصرفوا به
فيما يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالخير، لا ليكونوا عبيداً له.
وفي (الخطاب) رمز لكف العامل الذي يكدّ ويشق ليسعد الناس، يتعب وهو
يسعى على عياله.. هذه الكف التي يحبها الله ورسوله، لا نكاد نجدها في صورتها
المناسبة في محيطنا الزاخر بالعجز عن الأداء الكامل في كثير من الميادين، حتى
صرنا في مؤخرة الركب.. فلا منظر النحلة العاملة، ولا منظر العنكبوت المبدع،
ولا سواها من الطيور، ولا قطرة الماء، مما يلفت انتباهنا إلى ضرورة السعي كما
أمرنا الله ورسوله: [وقل اعملوا..] فماذا ترانا نفعل؟ وبماذا نسوغ ما نحن
فيه؟
أي سر في الأكف اللواتي ... تزرع التاريخ بالمكرمات؟
وفي (الناموس) يأبى الشاعر حياة الذل والمسكنة، وما يتبعها من بكاء
واستبكاء، وحياة الدعة والتمجد والزهو في فراغ نفسي وخواء روحي، والغد
المأمول مظلوم بين هذا وذاك، لما ينتابنا من عجز أو سوء تخطيط أو تعثر إدراك
وما لم نتدارك الأمر بالأخذ بأسباب الحياة كما شرعها الله ورسوله التزاماً بهذا الدين
وما يدعو إليه من الجهاد بالسيف والقلم والعلم، فناموس العدالة الربانية لنا
بالمرصاد:
لعمري لئن لم يدرك الأمر أهله ... شباب بسيف العصر دوماً مدجّجُ
وشيب بمحراب الرسول قلوبهم ... وألبابهم في موكب العلم هودج
فإن الرحى لن يخطئ الحَبّ طحنها ... ولله ناموس من العدل أبلج
وفي (الرغيف) نطالع التباين والفوارق الكبيرة بين (دولنا) التي أطلق عليها
الشاعر اسم القرية -وهو محق- فهذه جدباء أكلها القحط، وتلك مخصبة، ولكنها
تكفر بأنعم الله، حيث الكسل والبلادة والإسراف ومنع الزكاة والسرقة والربا
واستيراد ثمرات كل شيء.. ثم يتساءل مستنكراً:
ترى.. هل أصل حاجتنا رغيف؟ ... أم الإيمان والعقل الرشيد؟
وينعى الشاعر في (حواء) ما آلت إليه حال المرأة عندنا، بعد التغريب الذي
حل بمجتمعاتنا، فلم تعد في نظر الشرق والغرب سوى سلع رخيصة، وغابت
(حواء) الأم والزوجة والأخت والبنت وصانعة الأبطال من حياتنا، فصرنا إلى ما
صرنا إليه من هوان. ويعالج في (الرأي الآخر) مشكلة الحرية وأزمة الرأي
والرأي الآخر في حياتنا التي يفتك بها الاستبداد السياسي، وبتحكم فيها الطواغيت،
ويعمّ الإرهاب الفكري، فلا رأي إلا لصاحب الأمر والنهي، يسحق من يشاء،
ويقتل ويسجن ويمتهن الكرامات.. وهذا من أهم أسباب تخلفنا الذي يرهق
إحساس الشاعر، ويقض مضجعه، فيعالجه معالجة شاعرية، ولكنها ذات كثافة
وثقل على الواقع المعيش فيقول:
واطلب الرأي البديل فإنا ... كم جنينا من حصاد الغرور
أبله من ظنّ أن الليالي ... بعده ما أنجبت من بدور
والتمس في القول عذرا لخصم ... صادق، فالظن بعض النفور
هل ترانا نعبر النهر إلا ... أن نرى ما بيننا من جسور؟
وفي (الأصنام) متابعة للواقع السياسي المرير القائم على الظلم والاستبداد،
ولكنه هنا ينعى على الشعراء والعلماء الذين أقاموا الأصنام والأوثان من لحم ودم،
وليس من حجر، كما كان المشركون الوثنيون يفعلون قديماً:
هُرعنا نصنع الأوثان لحما ... وكانت عندهم حجرا وطينا
نؤله كل سلطان منيع ... تربّع فوق هامتنا سنينا
وليس العيب في الأصنام، إنا ... أقمناها، فكنّا الظالمينا
وصار لكل إنسان إله ... بداخله يقود له السفينا
وفي (الصكوك) صورة عن بهلوانات العصر الذين يهرفون بما لا يعرفون..
ولعل ذلك الواقع السياسي جعله يقدم إلينا في (الانتحار) تلك الصورة المشينة لحال
أبنائنا في هذه الأيام، فهذا الجيل لا يكاد يتزود بغير الجهل، وتصبح الرؤوس
والنفوس خاوية خالية يتمكن منها أي فكر يصادفها، ويكون اليأس وانطفاء جذوة
الأمل فيهم، ويكون الانتحار، ونحن المسؤولون عن ضياع هذا الجيل، والمناهج
التي نقدمها إليهم مسؤولة:
وينتحر الشباب على يدينا ... زرعنا.. ثم باؤوا بالحصاد
وهناك نمط آخر من هذه العشاريات، يتناول في كل واحدة منها حديثاً من
أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففي (المظلة) يتحدث عن السبعة الذين
يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وفي (الاستمرار) يحكي حديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . وفي (السؤال) يتحدث عن حديث
الرسول العظيم الذي يخبر عما يسأل عنه المرء يوم القيامة: عن عمره فيم أبلاه،
وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله: من أين اكتسبه وفيم أنفقه.. و (الظافر) هو
الذي يظفر بالفتاة المتدينة «فاظفر بذات الدين تربت يداك» وفي (ألوان من
الصدقة) نطالع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الفقراء من أهل
الصفة الذين جاؤوا رسول الله شاكين لأن أهل الدثور (الأموال) ذهبوا بالأجور،
يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم.. ونطالع
حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في (المنافقون) «أربع من كن فيه كان
منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها:
إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» و (الحب
الأكبر) شرح شاعري لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا يزال عبدي
يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره
الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني
لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه» وفي (التغيير) : «من رأى منكم منكراً
فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان» . وفي (نهر البر) : «احفظ ودّ أبيك» وفي (اللقيمات) : «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه» وفي (أدب الهجر) : «لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» .
وكما قلنا.. يطيب للشاعر أن ينتقل بين الموضوعات، وعينه دائماً على هذا
الواقع التعيس.. ولعل أتعس ما فيه (أقلام الفتنة) التي لا ترعى حقاً ولا ذمة ولا
صدقاً فيما تكتب، بل تسعى لتشبّ نيران الفتنة بين الإخوة، يقودها شيطان رجيم،
ولو أن أصحابها وعوا دروس التاريخ، وعمّر الإيمان قلوبهم، لكان لهم ولأقلامهم
مسار آخر في هذه الحياة:
يا جامعي حطب التاريخ في قلم ... لا تحرقون سوى الأيدي بلا حذر
هلا وعيتم دروس الأمس دامية ... هلاّ استجبتم لضّم القوس للوتر
فالقلب إن يعزف الإيمان نبضته ... كان الجناحان ملء السمع والبصر
وهكذا يكون (الحريق) يلتهم شرفنا وأمجادنا وتاريخنا، يوقد نيران الفتنة فيه
طواغيت لا يقرّ لكراسيهم قرار إلا فوق الأشلاء، والرسول -صلى الله عليه وسلم-
يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار»
المسلمان إذا سيفاهما التقيا ... كلاهما من عرى الإسلام ينعتق
وأخيراً..
يبدو للقارئ المتأمل في هذا الديوان وأشقائه الدواوين الأخر، أن الشاعر
حكيم، قد بلا الحياة والناس، وعركته التجارب، وامتحن الدهر، ثم جاء بنظراته
وتأملاته هذه في هينة ولين، لا صخب ولا قعقعة، بل تنساب في رقة وعمق؛
يقرّبان الشاعر منك، ويقرّبانك منه، فكأنه يهمس في أذنك، وهو ملتاع لالتياعك،
حزين لأحزانك، عامل على استنهاض الهمة فيك في تحبب وتودّد وأنس. وأرجو
أن يكون شاعرنا ممن نفعه الله بما وهبه وعلّمه ومنحه من شاعرية فياضة، لينتفع
بها المؤمنون.. كما أدعو إلى أن نعلم أبناءنا ونحفظهم هذه القصائد ونحفظها نحن،
ونحاول أن نقنع من نستطيع إقناعه لتكون ضمن المناهج، تعلم أبناءنا أمور دينهم،
وتحببهم بأخلاق الإسلام، وتقودهم إلى رضى المليك الديّان.(34/54)
شعر
استذكار
أبي عاصم الحكمي
فيا شبابا بدين الله قد سَعِدوا ... هل فيكم لمصاب الدين جبران؟
هبوا فقد بلغ السيلُ الزبى وسرت ... في جسم أمتكم للكفر نيران
حقٌّ عليكم تعيدوا مجد أمتكم ... أتنعمون وهُدَّت منه أركان؟
أتنعمون وللإسلام نائحة ... قد زاحمته قوانين وصلبان؟
ما عذركم وبعقد البيع قد شهدت ... آي من الذكر والمبتاع ديان؟
وجنة الخلد قد زُفّت له ثمنا ... أيرغبنّ عن الفردوس إنسان؟
ودربنا المصطفى أرسى معالمه ... وحفّ جنبيه توفيق ورضوان
والصحب خاضوه والأسلاف بعدهم ... فهم نجوم الدجى إن ضل ركبان
عودوا لتاريخهم واستنطقوه ففي ... أيامه البيض نِبراس وبرهان
وجددوا العزم وامضوا للعلا قدما ... فالجد بالجد والتسويف حرمان
إن العقيدة حصن شامخ فبها ... لوذوا تَدِنْ لكموا هام وتيجان
دليلكم في السرى إن تاه غيركم ... هَدْيٌ من السنة الغرا وقرآن
تزودوا الصبر والتقوى فما لزما ... قلباً ورام حماه قط خسران
والعلمَ بُثُّوه في الأمصار تحْيَ به ... فسرُّ نهضتها علم وعرفان
والجهل ما حل في أرجاء مملكة ... إلا وصاح بها بوم وغِربان
فالنشء نِيطت به آمالنا وبه ... معاقل للهدى تسمو وأوطان
والله في عونكم يا قوم لا تهنوا ... ما ضيرُ عبدٍ له الرحمن مِعوان(34/63)
قصة قصيرة
جيل الضياع
د. عمر عبد الله
رجع جمال إلى البيت منهكاً، كان يوماً طويلاً بدأ بصلاة الفجر وهاهو ينتهي
عند منتصف الليل ... فتح الباب فإذا بزوجة قلقة حائرة مرتبكة.
* جمال , لماذا تأخرت؟ .. لقد انشغلت عليك …
مقاطعاً: كنت في الجامعة.. أعرف أنني لم أعطك مكالمة هاتفية لأخبرك
بذلك لكن ستعرفين العذر.
* ماذا حدث؟
- لقد كنت مدعواً لإلقاء محاضرة تعريفية بالإسلام انقلبت إلى معركة
* ولم؟
- بعد إلقاء المحاضرة أخذ بعض الطلبة المسيحيين استثارتي ولكني رددت
عليهم فما كان منهم إلا أن حاولوا الاعتداء علي.
* لماذا..؟
- لا أدري.. لكن الغريب أن وليم علي الذي حدثتك عنه هو الذي كان
يقودهم.
* هذا المرتد؟
- نعم إنه قائد المجموعة الصليبية في الجامعة التي تسمي نفسها المولودين من
جديد إنه حاقد على كل ما يمت للإسلام بصلة..
* وهل هناك سبب منطقي لذلك؟
- نعم فهمت منه أن أباه الذي ولد مسلماً قد أتى إلى هنا قبل أربعين سنة ثم
تعرف على أمه ليثمر هذا الزواج بهذا النتاج النكد..
* وهل كان أبوه نصرانياً مثله؟
- كلا كان شيوعياً.. يكره الأديان ويحاربها.. ولم تجد الأم حلاً سوى أن
تنفصل عنه وتأخذ ابنها إلى الكنيسة لترعاه فكراً ومعتقداً … كان أبوه سيئاً سلوكياً
أيضا.
* إذن؟
- إذن وليم نشأ وهو يكره هذا الأب وصورة الإسلام متمثلة في ذهنه
بسلوكيات بشعة، وتصرفات مفزعة خصوصاً أن أباه قد قدم دعاوى حضانة للابن
اشترط فيها أن لا يمارس ابنه الصلوات الكنسية لأنه يريده أن يكون بلا دين ...
* فهمت ... مسكين ... إنه يستحق الشفقة!
- نعم إنه حقاً يستحق الشفقة والرحمة لاسيما وأنه مثال للذين ربطوا بسلاسل
في أعناقهم فهي إلى الأذقان ... صم، بكم، عمي، لا يستخدم أدوات الحس سوى
لمحاربة أي شخص أو فكرة تمس المجتمع المسيحي المثالي الذي يتحمس له!
* هل حاورته ... هل ناقشته؟ .
- تعرفين يا أسماء أن الحوار في منهجنا قضية أمر وواجب، ليست ترفاً ولا
مراوغة وهي أبعد عن أن تكون تكتيكاً كما يقولون … إنها دعوة حوار قضى
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- معظم وقته وهو يحاور أهل مكة ثم مطالباً أهل
الكتاب بالمثل دون جدوى …، نعم لقد حاورته …كثيراً.
* وماذا كان رد فعله؟
- تذكرين رد فعل ...
* نعم مسكينة هي الأخرى
- وليم لا يبتعد عنها كثيراً ... إنهما مثال لجيل الضياع والتشرد المنتشر ...
آباءهم حملوا أسماء إسلامية ولافتات تدل على ذلك.. كان آخر ما يفكرون
فيه أمر هذا الدين.. كان اللهاث وراء الرزق والشهادة والفرصة يتم بتصاعد وعلى
إيقاع أمريكي متسارع ومنهك…
- دخل جمال لينال قسطاً من الراحة … ولكنه التفت إلى أسماء قائلاً:
تعرفين أني قابلت برهان اليوم ...
* هاه بشر ... ماذا دار بينكما؟
- لقد كان حواراً طويلاً وشاقاً ... تعرفين أن الرجل في هذه المرحلة يشعر
بجحيم الجريمة البشعة التي ارتكبها بحق نفسه أولاً ثم ابنته.. لكنه اليوم اعترف لي
بأنه عاجز ... عاجز حتى عن ممارسة الواجبات البسيطة ... خذي مثالاً لقد نسي
كيفية الوضوء ... ، وهيئة الصلاة ... ، آخر مرة صلى فيها عندما كان في الرابعة
عشرة.. مع أنه على استعداد لكي يتعلم من جديد..، تصدقين أنه مشتت تماماً بين
القلق الذي يعيشه والذكريات الغائمة لأبويه وهما يودعانه ويقول له أبوه جميل: الله
الله في ربك ... لقد حلت بنا النكبة لذنوبنا ... ، لقد قال لي اليوم أنه قرر أن يسافر
لرؤية أمه ... وأنه لم يتصل بهما منذ ثلاثين سنة ... تصوري..!
* وأبوه؟
- سحقته دبابة عسكرية عندما خرج ليتظاهر على خيانة نظام ثوري في ما
يسمى بالنكسة ... ، لقد قتل مع مئات غيره.. ولم يعرف هو ذلك إلا بعد سنوات
عن طريق صديق مشترك ...
* وماذا عن ابنه - لقد اقتنع أخيراً بأن الماسونية حالة ومؤسسة تخدم اليهود
ولكنه قال لي ان الواقع يضغط عليه فهو كحال المعدم الذي يصيح بمن يلومه بيتي
يبخل لا أنا. إنه يشعر أن عليه أن ينقذ نفسه أولاً.
* وأسرته؟
- مرحلة لاحقة ... لا يريد أن يفكر فيها الآن.. إنه مشغول بنفسه
* أخباره سارة.. ولا شك..(34/66)
شؤون العالم الإسلامي
مَن المستفيد ومَن الخاسر
مِن أزمة الخليج
ما زالت أزمة الخليج تتصدر الأحداث العالمية، وما يزال الناس يتساءلون
ويترقبون ماذا سيحدث، هل الحرب أم السلام؟ كل يوم يمر، والناس بين متفائل
ومتشائم، فالحديث عن الحرب في المساء يعقبه حديث عن الحلول السلمية واستنفاذ
وسائل الحصار الاقتصادي في الصباح، ولكن من المؤكد أنه برز أخيراً تيار يريد
الحل السلمي ولا يربد الحرب لأنها إن وقعت فلا تبقي ولا تذر، من هذه الدول:
روسيا وفرنسا وكثير من الدول العربية. وأما الموقف الأشد تمسكاً بالحرب فهو
موقف بريطانيا، والسبب قد يكون واضحاً -والله أعلم - وهي أنها تريد الرجوع
إلى المنطقة بقوة ولكن على حساب أمريكا وجنود أمريكا، كما هي عادة الإنكليز.
والشيء المؤكد أيضاً أن الحل العسكري سيكون دماراً للمنطقة، وليس في
مصلحة أحد، وإذا كان بوش وصدام وضعا أنفسهما في الزاوية، بإصرارهما على
مواقف صعبة، ثم خضوعهما لهذه المواقف فهذا يجب ألا يمنع العقلاء من الأفراد
والشعوب والدول أن تستمر في الضغط لإيجاد مخرج سلمي من هذه الأزمة، ولم
تكن الدول العربية بحاجة لأن يستنفر هممها غورباتشوف عندما صرح في باريس
بأن على كل الأطراف أن يكونوا واقعيين، ويتجنبوا الخراب الشامل. وأيا كانت
طريقة حساب الأرباح والخسائر الناتجة عن هذه الأزمة فإن مما لا شك فيه أنها أول
اختبار يتعرض له الوفاق الدولي بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، أمام التحالفات
الإقليمية فقد تعرضت لهزة شديدة وعلى رأسها مجلس التعاون العربي! ! وتبدلت
مواقع وحصلت مفارقات، وكان أبرز المستفيدين من هذه الأزمة:
1- إسرائيل
2- تركيا
3- إيران
أولاً: إسرائيل:
التي تعتبر أكثر المستفيدين فقد سارت وفق التوصية الأمريكية بالحرص
على عدم الدخول طرفاً في الأحداث خوفاً من تأثير الشعور الإسلامي المعادي
لإسرائيل، وركزت على الاستفادة في الوقت نفسه في بناء علاقتها مع الاتحاد
السوفييتي، وزيادة المهاجرين من الاتحاد السوفييتي، فقد قام شارون وزير الإسكان
بزيارة إلى موسكو تزامنت مع وصول المهاجر رقم 100000 إلى إسرائيل وتوجت
بعقد كبير لشراء آلاف من المساكن الجاهزة لإيواء المهاجرين الجدد.
(الأسبوع العربي 24سبتمبر1990)
وكذلك الإسراع بصفقات أسلحة متميزة من أمريكا وكذلك دعم خاص من
أمريكا لتسهيل استيطان اليهود السوفييت (400 مليون دولار) صرح بذلك بيكر
وزير خارجية أمريكا. وأيضاً استغلت التركيز الإعلامي العالمي والمحلي على
أحداث الكويت، فشددت قبضتها على الضفة والقطاع، وبدأت في قمع الانتفاضة،
بل بدأت في تلميع صورتها عالمياً ومحلياً موهمة العالم أنها ليست هي عامل تهديد
الاستقرار في المنطقة؛ بل إن هناك أنظمة أكثر تهديداً للاستقرار منها.
ثانياً: تركيا:
تحاول تركيا الاستفادة كغيرها من هذه الأزمة، فمن جهة تهول بخسائرها
التي نجمت عن إغلاقها أنبوب النفط العراقي المار في أرضها، وعن فقدانها
لتصريف إنتاجها في العراق والكويت، وكذلك تستثمر هذه المناسبة من أجل أن
تقنع حلفائها في حلف الأطلسي أن خدماتها لا يمكن الاستغناء عنها عند مواجهة
العراق، ولذلك تجعل من هذه الأزمة سبباً جوهرياً وجيها لإقناع المجموعة الأوربية
لقبولها عضواً في السوق الأوربية المشتركة.
ثالثاً: إيران:
لقد خرجت إيران من الحرب منهكة القوى ومثقلة بالأعباء فقد خاضت الحرب
بقدراتها الذاتية تقريباً، بعكس العراق الذي كانت تقف خلفه اقتصادياً دول الخليج
العربي، كانت تمل معظم مشترياته سواء المدنية أو العسكرية، وكانت إيران شبه
محاصرة سياسياً في المنطقة، وليس لها متنفس في المنطقة سوى سوريا -على ما
بينهما من تنافس على النفوذ في لبنان- وجاءت الأحداث لتقلب الوضع رأساً على
عقب بل وتقدم الحكومة الكويتية اعتذاراً رسمياً لموقفها من إيران خلال الحرب،
وبدأت مرحلة الغزل السياسي بين إيران ودول الخليج بسبب تطورات الأحداث،
وقام العراق في محاولة لتحييد إيران بإعادة الاعتراف بمعاهدة الجزائر 1975
والانسحاب من الأراضي الإيرانية وتبادل الأسرى، وأخيراً قام طارق حنا عزيز
وزير الخارجية العراقية بزيارة إيران وتم الاتفاق على عودة العلاقات الدبلوماسية
المقطوعة، وهكذا كسبت إيران من طرفي النزاع الحالي، وسيكون لها دور في
ترتيبات أمنية قادمة في المنطقة بصفتها إحدى القوى ذات التأثير الأمني والعسكري
فيها، كما يتوقع لها دور كبير في رسم المستقبل السياسي للعراق مستغلة سيطرتها
على الأحزاب الموافقة لها في العراق، وقد بدأت هذه الأحزاب تحركاتها لإثبات
وجودها أولاً، وطرح نفسها كشريك في أي ترتيب جديد، ويتضح ذلك من عقدها
مؤتمراً مشتركاً مع الأحزاب القومية واليسارية الشيوعية والكردية في دمشق.
(الشرق الأوسط 30/9/1990)
* وهناك دول خارج المنطقة كسبت من هذه الأزمة، فالاتحاد السوفييتي حقق
من جراء ارتفاع أسعار النفط (25 بليون دولار) ، كما حقق لوبي النفط في منطقة
تكساس في الولايات المتحدة مكاسب مماثلة، عدا عن المكاسب السياسية التي
حققتها الولايات المتحدة في مواجهة اليابان وأوربا، واستعادت فرنسا دورها العالمي
مؤكدة على استقلاليتها.
أما الخاسر الأكبر من هذه الأزمة فهي الشعوب التي تأتي النكبات دائماً على
رأسها، فهل تحل هذه الأزمة وتكون بداية لمراجعة الأخطاء الكبيرة التي مارسها
الكل شعوباً وحكومات؟(34/70)
المسجد وأعداء الإسلام
يعتبر المسجد رمز الحياة الإسلامية ومحور اهتمام المسلمين، ومركز
المدينة أو المحلة الإسلامية، وحوله يتجمع نشاط المسلمين بكل مظاهره وصوره،
فمنه انبثقت أفكارهم وتطلعاتهم، إليه يعودون بعد ضربهم في الأرض، وخوضهم
في كل المجالات اقتصادية أو جهادية أو سياسية.
والمسجد تجسيد لأهداف المسلم وغاياته في حياته وهو الطريق لتحقيق هذه
الأهداف والغايات فبناؤه يعد أول خطوة من أجل ذلك، وهدمه قضاء على هذه
الأهداف والغايات في مهدها ومحاولة قضاء على مجرد التفكير فيها أيضاً. وهذا ما
يدركه كل من المسلمين وخصومهم بوضوح أيضاً. فالمسلم الحق أينما حل يبحث
عن المسجد، فإن لم يجده فكر في طريقة إيجاده، وتطلع إلى الوسائل التي تعينه
على ذلك، من التعرف على إخوانه في العقيدة الذين يشاركونه هذا الاهتمام، ومن
تسهيل السبل لرفع هذا البناء الذي يوقف لعبادة الله وحده، ويرفع فيه اسم الله عز
وجل وحده، كل ذلك إعمالاً لقول الله تعالى: [إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ] .
أما أعداء الإسلام، فمن إدراكهم لهذه الحقائق، ومعرفتهم بأن المسجد هو
نقطة تجمع للمسلمين، وبؤرة ضوء يلتفون حولها ويقتبسون من نورها؛ يعز عليهم
أن يكون للمسمين أي تجمع، ويهتدون بأي نور، فقد أخذوا على أنفسهم عهداً أن
يضربوا كل وحدة للمسلمين وكل شبه وحدة، وأن يقضوا على أية وسيلة يستمدون
منها الشعور بذاتهم، والحفاظ على خصائصهم، والتميز عن غيرهم، وهذه
الطبيعة في أعداء الإسلام ليست جديدة، وليست غير طبيعية، وليست غير مفهومة، فهي طبيعة قديمة وطبيعية ومفهومة. ولسنا نريد الحديث عن أساليب الأعداء في
تفريق صفوف المسلمين والعمل على ضرب قواهم والوسائل الكثيرة التي تسخر
لذلك، ولكن نريد أن نتحدث عن موقفهم من المساجد فقط.
ونبدأ بالشيوعية فعندما سيطرت هذه الشيوعية على الشعوب الإسلامية كانت
مساجد المسلمين من أولى أهدافها، فهدمت منها ما يعز على الحصر والذي ضنت
به عن الهدم -لجمال هندسته وضخامة بنيانه- حولته إلى متاحف أو معامل أو
مرافق، ومنها ما جعلته مخازن للخمور وغيرها من النجاسات زيادة في تحدي
المشاعر. وحرمت ارتياد هذه المساجد للعبادة، وقضت على ما كان ملحقاً بالكثير
منها من مدارس العلم والمؤسسات الخيرية التي أوقفت على مصالح المسلمين، ففي
خوجند التي كانت إحدى العواصم في وسط آسيا وكانت مليئة بالمساجد لم تبق
الشيوعية فيها إلا مسجداً رسمياً واحداً ليكفي حاجة 150 ألف شخص، بينما هدمت
المساجد الباقية وحول بعضها إلى مكتبات للأطفال ومخازن وبارات، وفي داغستان
هدم في عهد ستالين (2000) مسجد، وفي (آخطي) وهي بلدة تبعد عن دربند
(وهو ما يسمى بباب الأبواب في المراجع الإسلامية) أربع ساعات بالسيارة -
تحول المسجد إلى متحف، ووضع فوقه تمثال معدني للينين ارتفاعه سبعة أمتار
تقريباً..
واليوم وبعد سقوط الشيوعية يعيد المسلمون بناء المساجد بنشاط وحماسة
مذهلة، فأهل داغستان بنوا حوالي 200 مسجد من أموالهم الخاصة منذ بداية
1990 إلى الآن، وفي خوجند العمل جار لبناء 14 مسجداً في وقت واحد. وفي
كل أمكنة أخرى يكون النشاط نفسه، فتبنى المساجد الجديدة، ويعاد فتح المساجد
القديمة المعطلة أو التي كانت مستخدمة لأغراض أخرى، وأصبح بالإمكان إعادة
فتح أي مسجد للعبادة إذا طالب بذلك عشرون شخصاً على الأقل.
وفي فلسطين فإن سياسة الاستيطان اليهودي الشرسة تحرص على تغيير وجه
فلسطين المسلم، وصبغها بالصبغة اليهودية، وتبذل جهوداً وأموالاً خيالية في هذا
المجال، يمدها في ذلك اليهود والصليبيون المتعصبون في أمريكا وأوربا.
وعلى الرغم من النجاح الذي حققه اليهود في مدن فلسطين الرئيسية في حيفا
ويافا، فإنهم يحرصون أن يطبقوا هذه السياسة على الضفة الغربية وقطاع غزة،
ويبدأون بالرموز الكبيرة في كل مدينة. فقد نجحوا في أن يكون لهم مكان عبادة في
مسجد الخليل، وهم يسعون لتحويل كل مكان خالص للعبادة اليهودية وحرمان
المسلمين منه، على الرغم من أن المسلمين أمضوا أكثر من أربعة عشر قرناً في
العبادة فيه.
على أن جهودهم تستنفر وتتجمع لهدم المسجد الأقصى ومسجد الصخرة لإقامة
هيكلهم المزعوم مكانه. ومحاولتهم لإحراق المسجد الأقصى عام 1969، وتكرار
محاولاتهم وضع الحجر الأساسي في ساحته وبناء هيكلهم بعد ذلك على أطلاله
ليست مجرد هدم لمسجد فقط؛ وإنما هي قضاء على كل أمل للمسلمين في حقهم في
مدينة القدس، وجعل الفلسطينيين يقتنعون أنه لا قبل لهم بنيل أي حق يطالبون به،
وهي بعد كل ذلك يمكن أن تكون سابقة خطيرة لها نتائجها وأبعادها لا على مسرح
النزاع بين اليهودية والإسلام وهو فلسطين؟ بل على كل أرض يقف فيها الإسلام
في مواجهة أي دين آخر.
وبهذا يجب أن تفسر المذبحة التي وقعت للفلسطينيين في ساحات المسجد
الأقصى وعلى تخومه، وبهذا أيضاً تظهر العلاقة واضحة بين هذا الحادث وبين ما
يجري في الهند من هذه الحملة المسعورة التي يقوم بها الهندوس الوثنيون لهدم
المسجد البابري وإقامة معبد لصنمهم (راما) في مكانه.
ووجوه التشابه كثيرة بين ما يفعله اليهود في فلسطين للمسجد الأقصى وغيره، وما يفعله الهندوس.
*فاليهود يريدون إلغاء كل ما يمت للإسلام بصلة في فلسطين ليقنعوا العالم
أنها أرضهم الشرعية وأن المسلمين طارئون عليها. والهندوس كذلك يريدون إلغاء
وجود الإسلام في شبه القارة الهندية وإذابة المسلمين هناك.
*واليهود والهندوس يريدون الإيحاء للعالم أن الإسلام فترة زمنية انتهت،
كما انتهت فترة الاستعمار الغربي، وأن على المسلمين أن يرحلوا كما رحل الإنكليز
والفرنسيون والبرتغال والطليان عن البلاد التي حكموها بالظلم والطغيان والقهر،
ويعمون عن حقيقة جوهرية أن هذه الشعوب التي دخلت في الإسلام لم تأت من
الجزيرة العربية، بل هي من أهل البلاد الأصليين الذين قبلوا الإسلام عن طواعية، وأنه من الصعب بل من المستحيل أن يتخلوا عنه بسهولة وبخاصة في هذا الزمن
على الرغم من تطور أساليب الفتنة، وما حدث في البلاد الشيوعية يعطي الدرس
البليغ للهندوس ولليهود ولغيرهم ممن يفكر في تغيير دين المسلمين وإذابتهم.
*واليهود والهندوس تبدوا جهودهم وكأن هناك تنسيقاً بينهما من أجل الضغط
على المسلمين وإشغالهم وتشتيت جهودهم فالمنطقة الممتدة بين المتوسط وشرق آسيا، وهي المنطقة التي ينساح الإسلام فيها على مساحة واسعة الأرجاء نجدها الآن
تُتَحَّيف من أطرافها وتثار فيها مشكلات مستعصية تشغل المسلمين وتشتت جهودهم
وهذا واضح شديد الوضوح في الهند في الشرق، وفي فلسطين في الغرب، كما أنه
واضح أيضاً في أفغانستان وفي سيلان، وفي الفلبين.
إن إصرار الهندوس على هدم المسجد البابري في الهند ليس مجرد هدم
مسجد فقط، وإنما هو رمز لإزالة أثر الإسلام من الهند، وهو بداية سلسلة من
الأعمال التي تذكر بالمذابح المتبادلة التي حصلت هناك بهندسة من الاستعمار
البريطاني قبل انفصال الباكستان. وعلى الدول العربية والإسلامية واجب كبير في
لفت نظر الهند حكومة وشعباً إلى خطورة ما يحدث للمسلمين عندهم، هذا الواجب
الكبير الذي توجبه الأخوة الإسلامية التي تربط بين المسلمين في كل مكان، فإن لم
يكن واجب الأخوة الإسلامية، فالأخوة الإنسانية والعلاقات التي تربط بين الدول.
إن الشعوب العربية تضامنت مع شعوب غير مسلمة سابقاً ولاحقاً، ولازالت
أجهزة إعلامها وكتب التاريخ المدرسي فيها تشيد بصمود فيتنام وكوريا، وتتعاطف
مع دول أمريكا اللاتينية، ونعتقد أن تعاطفها مع الشعوب والأقليات الإسلامية لا يقل
من حيث الواجب الإنساني -إن لم يكن هناك دين- أهمية وإلحاحاً.
والهنود -على الرغم من كثرة عددهم- عندما تصلهم الاحتجاجات من الدول
العربية والإسلامية فإنهم سينظرون إلى الأمور بتعقل أكثر، ذلك لأن الهند لها
علاقات مزدهرة مع أغلب هذه الدول بل إن بعضها يفضلها على باكستان. فلا أقل
من تصريح يفهم الهند أن القضاء على125 مليون مسلم أمر مستحيل وضار
بمستقبل الهندوس أنفسهم.
أما الكلمة الأخيرة فهي موجهة للمسلمين الذين يجب أن يفهموا أن الديمقراطية
الهندية ديمقراطية زائفة وأن المسلمين يعانون من عسف هذه الديمقراطية ما يهدد
وجودهم من أصله، وإن الهند لها تطلعات استعمارية، وهي تعاني من مشاكل
داخلية معقدة وتتطلع إلى حلها على حساب ما يحيط بها من الدول، والمجال الذي
تتطلع إليه لبسط نفوذها هو مجال إسلامي بشكل كامل تقريباً، فليس التهديد الهندي
موجهاً للصين مثلاً أو للشرق بل تهديدها متجه إلى البنغال وباكستان وأفغانستان
بالدرجة الأولى. والهنود يظنون أنهم بامتلاكهم القنبلة النووية أصبحوا قادرين على
فرض الاعتراف بهم كقوة مسيطرة في آسيا، ولا تكتفي بالعيش داخل حدودها.(34/74)
من أخبار المجاهدين في الفلبين
في محافظة (باسيلان) في الفلبين وقعت مواجهة حامية بين جبهة مورو
الإسلامية وحكومة الفلبين، وقد استمرت المعركة التي وقعت بتاريخ 12/9/1990
حوالي 12 ساعة قتل فيها 21 جندي حكومي. أما المجاهدون فقد استشهد منهم 11
وأصيب منهم 14 بجروح ومن بينهم قائد المجاهدين الأخ إسماعيل الذي تدرب مع
مجاهدي أفغانستان ثم عاد إلى وطنه ليقود المعارك ضد العدو الصليبي.
عائلات نصرانية أشهروا إسلامهم أمام المجاهدين:
اعتنق الإسلام في أواخر الشهر الماضي ثلاث عائلات نصرانية في مديرية
تاكورونج بمحافظة سلطان قدارات وأشهروا إسلامهم أمام دعاة جبهة تحرير مورو
الإسلامية في المنطقة، وفي مقدمة هؤلاء المعتنقين للإسلام رجل مثقف وله مكانة
اجتماعية مرموقة وزعيم جماعته المدعو ليوناردو روبين وقد اختار [عبد المجيد]
اسماً جديداً له، ووعد الدعاة أن يجتهد في إقناع جيرانه وأهل قريته باعتناق الدين
الحنيف، وعبر عن أمله الكبير في تحقيق هدفه وهو تحويل جميع أقاربه وأصدقائه
وأهل قريته إلى الإسلام. كما أسلم على أيدي دعاتنا خلال شهر صفر 1411 هـ
شخصيات نصرانية بارزة في مديرية ماريانو ماركوس بمحافظة سلطان قدارات،
ومنهم الدكتور مارلين ابيليرا والسيد كورتادو والسيد بيرهيليو، ومنهم ضابط
نصراني في الجيش الفلبيني المدعو نويل واختار (عبد الله) اسماً له بعد إسلامه،
ومنهم رئيس قرية لامبايونج بمحافظة سلطان قدارات وهؤلاء من الشخصيات
البارزة في المجتمع المسيحي ومن المثقفين ثقافة عالية.(34/79)
ركن الأسرة
هدى محمد سميح
إن أي عمل أو نشاط إسلامي يحتاج إلى عدة عوامل لنجاحه وظهور النتائج
المطلوبة منه. ولضمان استمرارية هذا العمل لابد من وجود النية الصالحة الخالصة
لوجه الله تعالى أولاً، ثم يأتي بعد ذلك وجود الرغبة الصادقة والحماس المشتعل في
نفوس الراغبين بالقيام بأي نشاط يستفيد منه المسلمون مهما كان حجم هذا النشاط
متواضعاً، ولابد أيضاً من تشجيع الآخرين، وخصوصاً المستفيدين من هذا النشاط. ولا شك أن الكتابة في موضوعات تخص الحياة الأسرية بأقلام نسائية لديها الحس
الإسلامي أمر مهم ومطلوب، فالنساء شقائق الرجال، وعليهن من الواجبات ما هو
ضروري ويعادل في أهميته واجبات الرجال، وخاصة في هذا المجال الذي إن
صلح صلحت الأمة وهو مجال الأسرة.
حجاب العادات والتقاليد:
عجبت لذلك الرجل الذي يصطحب نساءه معه للسياحة خارج بلاده، وقد
نزعن عنهن حجاب الحياء والإيمان حينما ركبن الطائرة دون أن يحرك ذلك فيه
غيرة الرجل المسلم على نسائه، من زوجة وبنات وأخوات. والنساء اللواتي
يرخين حجابهن أمام من يعرفهن، وينزعنه إذا خلا لهن الجو، ولم يفهمن الحكمة
من تستر المرأة المسلمة، ولم يتغلغل الإيمان واليقين في قلوبهن، وحجابهن هذا
ليس إلا مجرد تمثيل ونفاق تفرضه العادات والتقاليد والخوف من الناس، ليس
الدين.
جارتنا والخادمة والخوف من الناس:
جارتنا تصر على إحضار خادمة غير مسلمة، والسبب أنها ملت من الخادمة
المسلمة لأنها دائماً في وقت فراغها تقرأ القرآن، وتصلي وتصوم النوافل مما
يضعف بنيتها؟ !
الطفل البالغ:
كثير من الأهل ينسى أن الطفل بين الخامسة والسابعة طفل وليس رجلاً، فهم
يتوقعون منه أن ينظم حياته بنفسه، بل بعضهم يتوقع من الطفل أن يربي نفسه
بنفسه، دون أن تكون هناك حاجة لتوجيه وإرشاد الوالدين، وينهالون عليه
بالضرب والتوبيخ إذا أخطأ، ولو فتشنا بإنصاف عن أسباب أخطاء الأطفال لوجدنا
أكثرها يرجع إلى أسلوب الوالدين في التربية وانعكاس ذلك على صفحة نفس الطفل
السريعة التأثر.
ثلاث فوائد أنت بحاجة إليها في منزلك:
1- الأرضية الدكنة تعطي شعوراً بصغر المكان، فاستخدمي سجاداً. أو أثاثاً
فاتح اللون وهادئاً ليعطي الشعور بالاتساع والارتياح.
2- إذا أزعجتك الروائح المكتومة في الخزائن فضعي فيها إناء فيه حليب
مغلي وأغلقي الأبواب إلى أن يبرد الحليب.
3- كي تمنعي الملح من التجمد أو الرطوبة داخل المملحة ضعي حبات من
الرز داخلها.(34/80)
تربية الأطفال في رحاب الإسلام
الثواب والعقاب
محمد الناصر
إن إثابة المحسن على إحسانه، وعقاب المسيء على إساءته مبدأ إسلامي
أصيل لقوله تعالى: [هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ] [الرحمن: 60] ، وقوله
جل من قائل: [وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا] [الشورى: 40] .
أنواع الثواب:
عندما نحاول أن نغرس العادات الطيبة لابد من مكافأة الطفل على إحسانه
للقيام بعمل بما يثبت في نفسه جانباً من الارتياح الوجداني.
وقد قدر السلف أهمية ترغيب الأبناء وثوابهم عند حسن استجابتهم ومن ذلك
ما رواه النضر بن الحارث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول، قال لي أبي: «يا بني اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على
هذا» والثواب قد يكون مادياً ملموساً كإعطاء الطفل لعبة، أو حلوى أو نقوداً أو
... وقد يكون معنوياً يفرح له كالمدح والابتسام، والاعتزاز بالطفل لعمله الطيب
أمام الناس. إلا أن عدم الغلو في المدح أدب إسلامي، فلا يكثر المربي من عبارات
الاستحسان حتى لا يدخل الغرور في نفس الطفل. كما أنه لا يجعل الثواب المادي
هو الأساس، لما لذلك من أثر سيئ على نفسية الطفل مستقبلاً، وإنما يوازي بين
الثواب المادي والثواب المعنوي.
العقاب وأنواعه:
إن التربية لا تعني الشدة والضرب والتحقير، كما يظن الكثير، وإنما هي
مساعدة الناشئ للوصول إلى أقصى كمال ممكن ... هذا وإن ديننا الحنيف رفع
التكليف عن الصغار، ووجه إلى العقاب كوسيلة مساعدة للمربي ليعالج حالة معينة
قد لا تصلح إلا بالعقاب المناسب الرادع، وذلك بعد سن التمييز كما يبدو من
الحديث النبوي الشريف: مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين واضربوهم
عليها وهم أبناء عشر «ونستشف من هذا الحديث الشريف أن الضرب من أجل
تعويد الطفل الصلاة لا يصح قبل سن العاشرة، ويحسن أن يكون التأديب بغير
الضرب قبل هذه السن. وأما نوعية العقاب فليس من الضروري إحداث الألم فيه،
فالتوبيخ العادي الخفيف، ولهجة الصوت القاسية مثلاً يحدثان عند الطفل حسن
التربية نفس التأثير الذي يحدثه العقاب الجسمي الشديد عند من عود على ذلك.
وكلما ازداد العقاب قل تأثيره على الطفل، بل ربما يؤدي إلى العصيان وعدم
الاستقرار. فالعقاب يجب أن يتناسب مع العمر، إذ ليس من العدل عقاب الطفل في
السنة الأولى أو الثانية من عمره، فتقطيب الوجه يكفي مع هذه السن، إذ أن الطفل
لا يدرك معنى العقاب بعد. وفي السنة الثالثة قد تؤخذ بعض ألعاب الطفل لقاء ما
أتى من عمل شاذ.
ولا يصح بحال أن يكون العقاب سخرية وتشهيراً أو تنابزاً بالألقاب، كما
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ
ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ] [الحجرات: 11] أين هذا التأديب الرباني ممن ينادون أبناءهم: يا أعور، يا
أعرج، فيمتهنون كرامتهم.. أو يعيرونهم فيجرئونهم على الباطل بندائهم: يا كذاب
... يا لص.
وفي ضرب المربين للصبيان: حدد فقهاؤنا حدوداً لا يجوز للمربي تجاوزها
إذ يلزمه أن يتقي في ضربه الوجه ومكان المقاتل لما ورد في صحيح مسلم أن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال:» إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه «. وينبغي
أن يكون الضرب مفرقاً لا مجموعاً في محل واحد، والمهم أن يكون ثباتاً في المبدأ
ومساواة بين الأولاد وعدلاً بينهم، لأن العقوبة الظالمة لا تجلب إلا الضرر. كما
وأن الخطأ الذي يحدث للمرة الأولى يحسن أن يخفف فيه العقاب، إلا إن كان الخطأ
فادحاً فلا مانع من استخدام العقاب الأشد حتى لا يستهين الطفل بالذنب.
وإذا وقع العقاب من أحد الأبوين، فالواجب أن يوافقه الآخر، وإلا فلا فائدة
من العقاب، مع إشعار الطفل بأن العقاب ليس للتشفي وإنما لمصلحته، وإن شعور
الطفل بخلاف ذلك قد يحدث انحرافاً معيناً في نفسه، وهو أن يتعمد إثارة والديه،
ليستمتع بمنظر هياجهما وثورتهما عليه.
ويحس بالارتياح الداخلي، لأنه وهو الصغير استطاع أن يثير أولئك الكبار
ويزعجهم.. وعندئذ تكون الخسارة مزدوجة العقوبة أدت غرضها في الإصلاح،
وزاد في نفس الطفل انحراف جديد هو تحقيق الذات عن طريق غير سوي. ونود
أن نؤكد على أن العقاب يجب أن يتلو الذنب مباشرة وألا يكون من الخفة بحيث لا
يجدي، أو من الشدة بحيث يشعر بالظلم أو يجرح الكبرياء. ويتضح أن الأطفال
المنبسطين يضاعفون جهودهم عقب اللوم في حين أن المنطوين يضطرب إنتاجهم
عقب اللوم. ومطرد التعلم (أي النبيه المجتهد) يحفزه الثناء أكثر من النقد والمربي
بحسن حكمته يضع الأمر في نصابه عادة.
أيهما أفضل الثواب أم العقاب؟
إن نتائج التجريب على الحيوان توضح أن كلاً من الثواب والعقاب يؤدي إلى
زيادة في التعليم.. ولكن الدراسات الإنسانية توصي بضرورة الاهتمام بقضية
الثواب والاستحسان، وتركز على الثواب لعدة أسباب منها:
الأثر الانفعالي السيئ الذي يصاحب العقاب، أما الاستحسان ففيه توجيه بناء
لطبيعة السلوك المرغوب فيه أكثر من مجرد معلومات سلبية عن الأشياء التي يجب
أن يتجنبها.
وقد ندد ابن خلدون في استعمال الشدة في التربية فقال:» من كان مَرباه
بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به إلى القهر، وضيق كل
النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل، وحمله إلى الكذب خوفاً من
انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة.
ومن كلام سحنون الفقيه في وصية لمعلم ابنه: «لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام، وليس هو ممن يؤدب بالضرب أو التعنيف»
ولعل أجدى الطرق التي ينبغي اتباعها مع الصغار هي ما ذهب إليه بن
مسكويه في الموازنة بين الثواب والعقاب يقول في ذلك:
«ليمدح الطفل بكل ما يظهر من خلق جميل وفعل حسن ويكرم عليه، وإن
خالف في بعض الأوقات لا يوبخ ولا يكاشف بل يتغافل عنه المربي ... ولا سيما
إن ستر الصبي مخالفته ... فإن عاد فليوبخ سراً، ويعظم عنده ما أتاه ويحذر من
معاودته.. فإنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة....» فالعقاب
ليس الوسيلة المجدية، إنه قد يؤدي إلى كف الطفل عن العمل المعيب، لكن لن
يؤدي إلى حبه للخير المطلوب. ومن ثم سيعاود الطفل ما منعه عن إثبات ذاته،
وإغضاب الآخرين، فضلاً عن أنه يعوده البلادة والوقاحة. فالترغيب عموماً أفضل
من الترهيب، والاعتدال هو الميزان.(34/82)
الزاوية الطبية
الإمساك (القبض)
د.عزت علي محمد
الإمساك عرض شائع وكثير الحدوث عند غالبية الناس، وقد يكون عارضاً
لفترة قصيرة، وهذا أمر محتمل لا يشكل أية أهمية أو معضلة سواء للشخص أو
للطبيب. وقد يتحول إلى إمساك مزمن يعاني منه المريض كثيراً، ويتخبط في
دوامة من العلاجات والمعاناة النفسية، وهذا هو محور حديثنا. وقبل ذلك لابد من
تعريف بسيط للإمساك:
الإمساك: هو قساوة البراز الزائدة مع صعوبة التغوط، أو الفترة الطويلة بين
عادات التغوط والإفراغ المعوي. وهذه الأمور فيها شيء من النسبية أيضاً وتختلف
من شخص لآخر. فعلى سبيل المثال: قد يذهب شخص إلى دورة المياه كل يومين
أو ثلاثة مرة واحدة، مع تغوط رخو لين طبيعي، فهذا لا يعتبر مصاباً بالإمساك
(رغم طول المدة الإفراغية) . وعادة ما يكون لتغير عادات التغوط الأهمية
الاعتبارية حيث أن ذلك الشخص كان يعتاد الإفراغ اليومي والمنتظم وإذا بالتغوط
يصبح عسيراً عليه، فهذا لا شك لديه إمساك ومشكلة.
أما أسباب الإمساك فهي كثيرة جداً، لا نخوض في تفاصيلها فمنها أسباب
وظيفية والتي نحن بصددها، ومنها أسباب مرضية عضوية كالتهاب الأمعاء
والكولون، أو بعض الأمراض الجهازية المزمنة أو الاستقلابية أو بعض الأورام
الحميدة أو الخبيثة خاصة في الكولونات (خاصة إذا حصل ذلك بتغير مفاجئ عند
المسنين على غير عادة، أو سبب ظاهر ولا سيما إذا ترافق بتغوط دم أو نقص
وزن ونقص شهية مع آلام بطنية.... .)
وإن أهم أسباب الإمساك تعود لأسباب بسيطة تتعلق بروتين الحياة اليومية
والشخصية.
أهمها: الانشغال والانصراف عن تنظيم عملية التغوط وهذا ما يلاحظ كثيراً
عند ذوي الأعمال والموظفين، حيث يكونوا دائماً على عجلة من أمرهم ومع الزمن
يتحول إلى إمساك مزمن وعادة ملازمة سنين طويلة.
*التنقلات والسفر وعدم الاستقرار وقد يكون عابراً كما يلاحظ عند من يغير
مسكنه أو في رحلاته وقد يتحول إلى مزمن عند كثيري السفر والمتنقلين من مكان
لآخر.
*العادات الغذائية والاجتماعية وأنواع الطعام تلعب دوراً مهماً في ترسيخ
وحدوث الإمساك حسب طبيعة كل فرد أو مجتمع أو بيئة.
*العادات الشخصية الفردية كالتدخين، وتناول الشاي الثقيل، والركود وقلة
الحركة.
*وقد يكون الإمساك أخيراً كنتيجة ثانوية لاستعمال بعض الأدوية أو
العلاجات، أو الأمراض النفسية أو العضوية المزمنة.
وبعد هذه المقدمة نتساءل: كيف الخلاص وما هو العلاج وهل من وقاية من
الإمساك؟ لابد بالنسبة للطبيب من النظر والبحث عن وجود أمراض عضوية وذلك
بالاستجواب الكامل والفحص السريري الشامل وغالباً منذ الزيارة الأولى. ومن ثم
محاولة أقلمة المريض وتعويده لإفراغ يومي مريح، وذلك عن طريق تنظيم حياته
اليومية والشخصية وتجنب مسببات الإمساك. وسنحاول عرض أهم الوسائل
الفردية والشخصية التي يمكن اتباعها لكل شخص مصاب بالإمساك وبدون اللجوء
إلى علاجات طبية أو دوائية، وإنما هي توصيات عملية يسهل تطبيقها وهي أكثر
نجاحاً ونجاعة من الأدوية لأنها تعالج السبب وتعيد التوازن العصبي الودي إلى
طبيعته، إضافة لتجنب التأثيرات الجانبية لكثير من الأدوية التي لا يخلو بعضها
منها.
1- عادة صباحية منتظمة وهذه تعني: الدخول إلى الحمام في وقت ثابت
محدد معين قدر الإمكان صباح كل يوم وبحيث يكون هذا الوقت مريحاً ومناسباً
للشخص، وهو يحدده ويختاره دون أن يكون على عجلة من أمره. ولينتظر في
الحمام عدة دقائق حتى ولو كان لا يشعر بحاجة التغوط.
2- الإكثار من شرب الماء والسوائل قبل الطعام وبعده لأنها تلين المواد
البرازية وتسهل عملية حركة الأمعاء.
3- تناول عدة وجبات صغيرة متكررة يومياً بدلاً من وجبة واحدة ثقيلة.
4- تناول واحتساء فنجان قهوة صباحاً باكراً حيث أن القهوة تزيد من حركة
الأمعاء وتساعد في عملية الإفراغ المعوي.
5- الإكثار من وجبات الخضار بشتى أنواعها خاصة السلطات -الخس-
الخيار والبندورة، السلق، السبانخ، الكوسة والباذنجان، الملوخية وغيرها.
6- الإكثار من تناول الفواكه خاصة بعد كل وجبة طعام وعند النوم:
كالبرتقال والتفاح والتين والبطيخ والمشمش والعنب.
7- الإقلال ما أمكن من تناول الرز، البطاطا، النشويات، المكرونة، اللبنة، المشوي الثقيل.
8- الإقلال أو تجنب تناول البهارات -الشطة- الفلفل.
9- تناول نخالة قمح أو نخالة فريكة القمح 2 ملاعق يومياً كيفما تشاء أو مع
كوب ماء أو حليب أو شاي (وتعتبر من أفضل منظمات الأمعاء) وتباع هذه النخالة
في الأسواق في علب تشبه علب الكورن فلاكس.
10- المشي والهرولة والسباحة والركض ... كل ذلك يساعد في حركة
الأمعاء وليونتها.
11- تجنب تناول الأدوية الملينة والمسهلة إلا باستشارة الطبيب، وبفضل
اقتصارها على بعض الأدوية النباتية الغنية بالألياف وأفضلها الميتاموسيل
METAMUCIL مع اتقان طريقة استعماله، وربما يفيد إضافة للتوصيات السابقة
في المرحلة الأولى من العلاج ثم يوقف تدريجياً مع التحسن الطبيعي والتدريجي
لعادة الإفراغ المعوي.
12- وأخيراً لابد من التوصية الفردية والسلوكية كالابتعاد عن التدخين نهائياً، وتجنب القلق والكآبة ومعالجة الأمور الحياتية والاجتماعية بمرونة، وبهذا يكون
الجهاز العصبي الودي متوازناً ووظائف الأعضاء والأحشاء متوازنة ومن ضمنها
حركة الأمعاء والإفراغ المعوي.(34/86)
مكتبة البيان
1- صدر العدد (27) من سلسله كتاب (الأمة) تحت عنوان (المنهج في
كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي) للدكتور عبد العظيم الديب رئيس قسم الفقه
وأصوله بكلية الشريعة -جامعة قطر وقد قدم للكتاب مقدمة ضافية الأستاذ عمر عبيد
حسنة.
يتحدث المؤلف عن التحامل والتحريف للتاريخ الإسلامي عندما يكتبه
الغربيون، والمشكلة ليست في الغربيين (المستشرقين) ولكن في الذين يقلدونهم في
البلاد الإسلامية، الذين يظنون أن المستشرقين يعتمدون المنهج العلمي في كتاباتهم
ويورد المؤلف أمثلة على عدم منهجيتهم.
2- من القاهرة وتحت سلسلة: دعوة لإنقاذ التعليم، صدر الجزء الأول من
(التطوير بين الحقيقة والتضليل) المؤلفان: د. جمال عبد الهادي، علي أحمد لبن، الكتاب 126 صفحة من الحجم المتوسط.
عالج المؤلفان موضوع من أخطر الموضوعات التي تؤثر على الأجيال وعلى
الأمة بأسرها، وهو موضوع المناهج في مصر وكيف تعرضت في السنوات
الأخيرة للتبديل والتحريف وخاصة فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي. يستوي في ذلك
المدارس الثانوية والمعاهد الأزهرية. فقد ألغيت كثير من الكتب المفيدة، وجيء
بكتب غثة تركز على الوطنية والفرعونية والثقافة الضحلة.
3- أيعيد التاريخ نفسه؟ دراسة لأحوال المسلمين قبل صلاح الدين مقارنة مع
الواقع المعاصر. المؤلف: محمد العبدة
يتحدث الكاتب عن أحوال المسلمين في القرنين الرابع والخامس الهجريين من
النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية، وما هي الإرهاصات والعوامل التي هيأت
لظهور المجاهد نور الدين محمود، ثم صلاح الدين الأيوبي.
4- صدر العدد الثاني من مجلة (النور) التي تصدر في صنعاء وهي مجلة
إسلامية شهرية. ومن موضوعاتها: هيمنة وكالات الأنباء العالمية، من وحي
الزيارة للجزائر المرابطة، حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، وغيرها من
الموضوعات الأدبية والإسلامية.(34/90)
بريد القراء
الأخت أم زياد المالكي:
أرسلت تشكر المجلة على فتح ركن الأسرة وإعجابها بما يكتب، وتقترح
تخصيص صفحة لمناقشة أمر الداعيات إلى الله، وكتبت حول هذا الموضوع:
والاهتمام بمشاكل الدعاة أمر جيد للغاية ولكن الذي ألمسه أن هناك فرق بين
مجال الدعوة في حقل النساء، ومجال الدعوة في حقل الرجال حيث أن هناك
مشاكل تعاني منها الداعيات، تختلف تماماً عن المشاكل التي يعاني منها الدعاة،
وهذه حقيقة مسلمة.
فالمرأة الداعية تجد صعوبة في فهم بعض الأمور، فربما ييسر الله لها من
الصالحين من يشرح لها، وربما لا تجد أحد فتفهم كثيراً من الأمور على حسب ما
تفهم، والله المستعان. وهذا بطبيعة الحال لكونها تجلس في البيت ولا تتلقى العلم
إلا من الكتب والأشرطة إن تيسرت، فقضية عدم وجود من يشرح لها قضية مهمة
جداً، فقد عانيت من هذا الأمر كثيراً، فنظرت فلم أجد إلا المخلصين من إخواني
في الله، العاملين في مجلة البيان، أن ييسروا لنا حل بعض المشكل التي تعاني
منها كثير من الفتيات اللواتي فتح الله لهم باب الهداية.
ولعل أهم مشكلة: كيف يمكن للمرأة أن تدعو إخوانها وأمها وأخواتها بأسلوب
فيه الحكمة والتناسب، لعل المرأة بطبيعة حالها تستطيع أن تقنع والدتها وأخواتها
البنات، ولكن كيف يمكن الوصول إلى الوالد والأخوة الأولاد. هذه الأمور تحتاج
إلى نظرة ثاقبة، وشاملة لأن الله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ
وأَهْلِيكُمْ نَاراً] ومسألة عدم نجاح الفتاة بالدعوة في أهلها، أمر في غاية الصعوبة، يكسب الفتاة التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا مشاهد في
كثير من الفتيات، إن وجود المنكر في البيت ولا تستطيع النهي عنه، أمر في
منتهى الخطورة، ربما أدى الأمر إلى نقص الإيمان وربما يصاب القلب بالمرض
فيهلك.
مشكل كثيرة تعاني منها الفتيات، على عكس الشباب، فنادراً ما تواجهه
مشكلة في البيت، لأسباب كثيرة لا تخفى على من له ذهنٍ واعٍ. وأرجو من الله
سبحانه وتعالى أن يكون الاهتمام بالمرأة، اهتماماً متكاملاً وشاملاً ولو شاورتم أهل
الفكر من النساء لوجدتم الشيء الكثير بإذن الله. وعند النظر في هذا سوف نحدد
المشاكل التي تخص المرأة الداعية حتى تعرض على من يتولى حلها، وهذا ما
نرجوه منكم، فإن المرأة هي نصف المجتمع إن لم تكن المجتمع بأكمله.
فلو خصصت مجلة البيان صفحة في ركن الأسرة، تناقش أمر الداعيات إلى
الله لكان هذا أبلغ في الفائدة والله الموفق إلى سواء السبيل.
الأخ المعتصم جودي -عمان-
نشكرك على ملاحظاتك وعلى متابعتك لما يكتب ونحن نرحب بمثل هذه الملاحظات، وفقك الله لما يحبه ويرضاه.
الأخ أبو بكر هشام خراز
أرسل يعقب على مقال: تمثل العقائد في الطفولة: في مقال للأخت خولة درويش العدد (31) ص 89 ذكرت ما نصه: «وإذا نما صغيرنا وترعرع نلفت نظره إلى مظاهر قدرة الله ونعمه التي لا تحصى: إذا نظر في المرآة نقول له معلمين قل:» اللهم كما حسنت خَلقي فحسِّن خُلُقي «وذكرت في الهامش أنه حديث صحيح في صحيح الجامع (1/280) وراجعته فوجدته كما قالت لكن بدون تقييد للدعاء أن نقوله عند النظر في المرآة.
والحديث الذي فيه التقييد بهذا لا يصح من جميع طرقه ولا يقوي بعضها
بعضاً لشدة ضعفها وانظر الإرواء (1/113-116) حديث رقم (74) ووافقه الشيخ
عبد القادر الأرنؤوط في تخريج الأذكار للنووي ص 436 الطبعة الثانية دار الهدى.
وأما حديث» الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين «فأحب أن أقول
أنه وقع خطأ مطبعي في ذكر المرجع فطبع في الهامش (شرح السنة 1/ 279)
والصواب (11/2779) ويظهر أن المحقق يحسن الحديث ومثله الشيخ عبد القادر
الأرنؤوط في تخريج الأذكار ص 341 فإنه سكت عن الحديث وهذا يدل على ثبوته
عنده كما ذكر في مقدمة التحقيق.
أما حديث الشيخ الألباني فذكره في تخريج المشكاة (4204) ومختصر
الشمائل حديث رقم (163) ذكر أنه ضعيف. وفي تخريج الأذكار لبشير عيون
الطبعة الأولى ص 298 ذكر أن الحافظ حسنه وذكره في الفتح وسكت عنه وقال:
إن الألباني في تخريج الكلم (188) وتخريج المشكاة قال: الحديث ضعيف الإسناد
كما بينه الحافظ في التهذيب. وكلامه يشعر أن هذا مذكور في المشكاة أيضاً،
وليس كذلك، وإنما هو في تخريج الكلم الطيب فقط. كما في عمل اليوم والليلة
لابن السني بتخريج بشير عيون ص 220 الذي نقل هذا عن الألباني. وبعد هذا
فلعل من حسن الحديث اعتمد على الحافظ وقد علمت أن الحافظ ضعفه في التهذيب. والله أعلم بالصواب.(34/93)
الصفحة الأخيرة
الفنادق
عبد القادر حامد
أصبحت الفنادق تلعب دوراً مهماً في حياة البشر اليوم، فقد تحولت إلى
ساحات معارك، وأصبحت الأمور المستعصية على الحلول تحسم فيها، فمنها
تخرج الأسماء الطنانة، وفي دهاليزها تلتقي الشخصيات المهمة، ومن قاعات
مؤتمراتها تصدر التصريحات والبيانات التي تحدد مصائر الشعوب، وفي أجنحتها
تصنع الأسماء والبطولات، وهي تصنع الشهرة لأنواع مختلفة من الناس:
سياسيين، رجال علم، فنانين، ممثلين، مهرجين، قادة منظمات وهمية، ممثلي
شركات ومراكز لا وجود لها ...
ومازالت الفنادق تلح بسحرها وإغرائها حتى جذبت إليها (دعاة الصحوة) ،
فأصبحت ترى بين المترددين على هذه الفنادق لحى، وعمائم، وطيلسانات،
وقفاطين وجبب، وأقبية، تخب السير وتلهث حاملة جوازات السفر المختلفة
الأشكال والألوان، وتبرز من بين صفحاتها تذاكر الطائرات؛ فهذا مؤتمر بالمشرق، وذاك مؤتمر بالمغرب، وآخر في أوربا ورابع في أمريكا، وخامس، و ...
الجهاد يبدأ وينتهي بالفنادق، وأمور المسلمين تناقش بين الموائد العامرة، والأجنحة
المحجوزة! وتسأل عن الثمار؟ ! (علينا أن نعمل، والنتائج على الله!)
هناك نتائج مادية وعملية، فالصعوبات الشخصية تذلل، والاختلاط بأصحاب
الرأي وذوي المكانات مفيد! وذوو المكرمات لم ينقطعوا، وكيف ينقطعون والدعاة
إلى الله يدعون لهم بأن يطيل الله أعمارهم، والله يجيب المضطر إذا دعاه، والدعاة
مضطرون..!
لقد آل الأمر بهؤلاء الدعاة إلى أن كل صاحب قضية عادلة أو ظالمة أصبح
يستعين بهم على تزيين حجته، وأصبحوا مثل الشهود الذين كانوا يرتزقون من
مكوثهم أمام المحكم ليشهدوا على قضايا لم يشهدوها.
أي صحوة هذه التي رجع الحال بكثير من منظريها إلى أن يشهدوا الزور
ويشهدوا به؟ !(34/96)
جمادى الآخرة - 1411هـ
يناير - 1991م
(السنة: 5)(35/)
الافتتاحية
دفاع عن المنهج
عندما قلنا في العدد الأول من (البيان) إننا ملتزمون بمنهج أهل السنة، لم ...
يكن هذا منا رفع شعار أو تمحور حول شكل حزبي ضيق، نتعصب له وندافع عنه
بالحق والباطل، فهذا المنهج في الفهم، والاستدلال أكبر من هذا وهو التيار الوسط
الذي استمر خلال العصور بعيداً عن الغلو والتقصير، وبعيداً عن التأثر بالمناهج
التي وفدت على المسلمين مبكراً سواء جاءت من الشرق الفارسي الهندي أو من
الغرب اليوناني. وهذا المنهج هو الذي يمثل الفهم الصحيح للكتاب والسنة،
والمسلمون أفراداً وجماعات ملزمون باتباع هذا المنهج والبحث عن أصوله
وتفاصيله، والاقتراب منه ما أمكنهم ذلك، لأنه هو الذي يصحح المسار ويصحح
المفاهيم وليس للمسلمين خيار في ذلك.
في هذا العدد سيرى القارئ أننا نبين ونوضح زيف طريقتين في الهجوم على
السنة وأهل السنة:
طريق أهل الاستغراب الذين نهلوا من ثقافة الغرب وراحوا يتشدقون
بالمنهجية والموضوعية كطريق بعضهم الذي راح يعيث فساداً بالكتابة عن الإسلام،
وبأسلوب دعيّ سمج، يزعم فيه امتلاك وسائل النقد لكل ما هو موجود تحت يده من
النصوص (نصوص القرآن والسنة) وكل تراث الإسلام، وما إن سمع به أصحاب
الاتجاهات اليسارية أو العلمانية أو قُل أي عدو للإسلام حتى طبلوا له وزمروا،
وأطلقوا عليه لقب (مفكر إسلامي) وبدأوا بنشر المقالات عنه وعن كتبه في مجلاتهم
وصحفهم، وسيقال للشباب المسلم (وخاصة في أوربا) هذا رجل يكتب بموضوعية
وهو أستاذ في (السوربون) ، ولذلك كان لابد من الكتابة عن محمد أركون.
هذا في الغرب وفي المشرق هناك أساتذة جامعات مشهورون، لهم مؤلفات
يتبعهم عليها كثير من الشباب، ولكن دأبهم الذي وهبوا حياتهم له هو محاربة
الاتجاه (السلفي) ، هذا الصنف من المشايخ يظن أنه أعلم من غيره لأنه مدرس في
الجامعة ولذلك يجب على الكل أن يستمعوا له ويصيخوا، فراح يكتب بجرأة عجيبة
وبأساليب ملتوية مهاجماً منهج أهل السنة، وكأن الحقد والحرب واحدة، سواء
جاءت من رجل صفيق كأستاذ السوربون، أو جاءت من شيخ كالذي كتب عن
(السلفية) منتقداً لها بغير حق، صاباً جام غضبه على (ابن تيمية) ، زاعماً أن هذا
الاتجاه المبارك - اتجاه التمسك بالكتاب والسنة اللذين هما المحجة البيضاء - اتجاه
خاص بابن تيمية وليس اتجاه خير القرون.
إن الأمر وصل إلى الحد الذي لابد فيه من التصريح بعد التلميح، ولا يجوز
السكوت عنه، خاصة عندما تكون الأسماء لها شهرة واسعة بين أوساط المسلمين،
وقديماً قيل: (من ألَّف فقد استُهدف) . ونحن من جهة أخرى نرثى لحال هؤلاء
لأن منهج أهل السنة في الفهم والاستدلال هو الذي سينتصر بإذن الله.
[واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .(35/4)
البوطي ... والمنهج
عبد القادر حامد
(إن من طبيعة المنهج، أياً كان، أنه يكتشف اكتشافاً ولا يبدعه ... ... الباحثون والعلماء إبداعاً ... ) [ص60، من كتاب البوطي السلفية] . ...
يكتشف الباحث منهج البوطي - وهو منهج من المناهج على كل حال - من
خلال استقراء ما يكتب، غير أنه مع تقديمه هذه المقدمة الحاسمة لا يترك لنا حرية
اكتشاف هذا المنهج بأنفسنا، ولا ندري ماذا وراء ذلك: هل هو شك في قدرات
قرائه، وعدم اطمئنانه إلى أنهم قادرون على الاكتشاف؟ ؛ لذلك يعرِّف لهم المنهج
حتى لا يتركهم في حيص بيص؟ أم أن كلمة المنهج عنده كلمة من جوامع الكلم.
لها معانٍ كثيرة يصعب حصرها؟ ! لا ندري!
لذلك يعرف لنا المنهج كما يلي:
ماذا نعني بالمنهج؟ وما الشروط التي يجب أن تتوفر فيه؟
إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك الذين يستعملون هذا
المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية، نعني بها الطريقة التي تضمن
للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه، ولا يضل في السعي إليه بين السبل
المتشعبة، ولا يلتبس عليه بالحق فيركن إليه ظاناً أنه الحق الذي يبحث عنه ويسعى
إليه، سواء أكان هذا الحق الذي يبحث عنه خبراً يريد أن يتبين صحته أو أن يعلم
مضمونه، أم أطروحة علمية يريد أن يعرف دلائل صحتها أو بطلانها) [ص60
من كتابه] .
أما أنا فقد قرأت هذا التعريف عدة مرات متهماً عقلي بعدم القدرة على فهمه،
لعل الإعادة تفتح لي ما انغلق، وتكشف ما استتر، ولكنني أخيراً سلمت بأن هذا
التعريف أشبه ما يكون بالشعر الحر الذي لا تستسيغه أذواق وعقول الكثير من
القراء؛ إما لفقر وتخلف في مقدرتهم الثقافية أو لفراغه وخُلوه من أي معنى، وكل
من الرأيين له جمهوره وقائلون به.
إن من صفات التعريف أن يصاغ بعبارة جامعة مانعة محددة حتى يتمكن
القارئ من الفهم، وخاصة في القضايا العلمية، لكن البوطي لا يأبه - كما قلنا -
بما تعارف الناس عليه، ويحب أن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل! كيف لا؛ وهو
أديب فنان يطمح - وهو في قمة تسنُّمه مهمة البحث العلمي - أن يستخدم العبارات
المجنحة التي تلفت إليه الأنظار.
وها نحن نبدأ بتحليل تعريفه للمنهج لعلنا نظفر بما عجزنا عنه أثناء القراءة.
يقول: (إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك ... الذين يستعملون هذا المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية) . اقرأ هذه العبارة ورددها مرة ومرة ومرة، هل تفهم منها تعريفاً، وهل تزيدك علماً بشيء؟ طبعاً لا! فمَن هم أولئك الذين يستعملون هذا المصطلح؟ من أي ملة هم؟ . وأي دراسات وأي بحوث؟ ، لعل التوضيح يأتينا بعد كلمة (نعني) ! (نعني بها الطريقة (طريقة ماذا؟) التي تضمن للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه) . كل باحث يعتقد أن ما يقوله ويصل إليه هو الحق، فهل هذا هو الحق في المنهج الإسلامي؟ وكثير من بغاة الباطل يطلقون على مبتغاهم اسم الحق!
وقبل أن نخرج من هذه الدوامة في تعريف المنهج، يدرك البوطي بكياسته
وذوقه الدقيق جداً أننا بحاجة إلى تحديد كلمة الحق، فيحددها، وكأنه أحس أن
تعريفه يحتاج إلى شروط كي يصبح تعريفاً له شَبه بالتعريفات، فهل تظن أنه يُقر
عينك بذكر هذه الشروط ليجعلك تشعر بالراحة وتتنفس الصُّعَداء؟ !
لا، لن تفرح بذلك! فهذه مشكلتك، عليك حلها بنفسك! اسمعه يقول:
(وأما شروطه (المنهج) فبوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته ...
ومهمته) . وإذا ما أخفقت في معرفة هذه الشروط فهذا يعني أنك لا تدرك طبيعة المنهج ولا مهمته! وإذن فأنت لست جديراً أن تكون من قرائه، ولست مقصوداً فيما يكتب؛ لأنه:
عليه نحت القوافي من معادنها ... وما عليه إذا لم تفهم
إن القارئ سيصيبه الدوار إذا ما ظن أنه - بترديده ما كتب البوطي عن
المنهج - يمكن أن يظفر بشيء، وسوف يكتشف أخيراً أن الرجل يتلاعب بعقله
ليوهمه أن ما كتب حول المنهج له معنى متماسك، إنك تطالبه بشروط المنهج حتى
تتضح معالمه فيقول لك: (بوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته ومهمته) ،
ثم يمضي بك موهماً أنه ذكر شروطاً، لكن حين تريد أن تضع بداية ونهاية لهذه
الشروط وتحصرها في عبارة واضحة لها دلالة فإنك تطلب المستحيل!
وتمضي في القراءة لتعثر على عبارة تظن أنها ستفتح لك ما استغلق،
وتكشف ما غمض، فتكاد تصيح مثل أرخميدس: (وجدتها) ، إنها قوله:
(إذن فمن أهم شروط سلامة المنهج ... ) لكنك تتبين أن هذه العبارة وما بعدها ليست بداية الشروط، بل نهايتها، واخيبتاه! فترجع أدراجك إلى الفقرة السابقة وقد فركت عينيك ووسعت حدقتيهما وأحددت النظر بهما لتبحث عما كانت العبارة السابقة فذلكة له فتجد شيئاً مثل:
(فقد كان الإنسان بحاجة إلى أن يرصد خطوات هذا المنهج في أغوار فكره، وأن يتلمس آثارها في شغاف وجدانه (العرب تعرف شغاف القلب، فما الوجدان؟ وما شغافه؟ !) وساحة شعوره، ثم يصوغها في عبارات دقيقة، ويصبها في قواعد منضبطة، ثم يجعل منها مشعلاً هادياً في طريقه إلى المعرفة، وملاذاً يتقي به الشرود في أودية التيه والضلال.
وهكذا فإن تحول المنهج الفطري من شعور وتفاعل خفي في الفكر والنفس
إلى قواعد مدونة مضبوطة ماثلة للعيان، من شأنه:
أن يجمع شوارد الأفكار عليه، وأن يبعد عوامل التلبيس والكيد عن التسلل
إلى ساحة المعرفة، ودائرة النظر والمحاكمة العقلية في الذهن، في حين لو بقي
شعوراً غامضاً في النفس وفطرة مستكنة في أغوار الفكر؛ لأمكن أن تتسلل إليه
الشوائب، وأن تحاط بعوامل الغموض والريب، وأن يغشي عليها المبطلون
بزخرف القول وزيف الأدلة الباطلة) . [ص61]
أرأيت إلى هذه الخطبة العصماء خطبة ولا خطبة زياد البتراء!
سنحاول أن نشير إلى خطوط عريضة في منهج البوطي - الذي هو غير
منهج السلف قطعاً، وكون منهجه غير منهج السلف أمر يسره ويسر السلف والحمد
لله - وسنستخدم عبارته هو في طريقة تناولنا لهذا المنهج المبتكر! فنحن ليس لنا
حياله إلا: (الرصد، ثم الاكتشاف، ثم الصياغة والتقعيد. أما الإبداع والاختراع
فإن المنهج أبعد ما يكون عن أن يأتي ثمرة لذلك) :
1- استهانة بالمراجع:
يتعامل البوطي مع المراجع تعاملاً غريباً وعجيباً، وكما سبق أن قلنا، فإنه
يخرق الأعراف والتقاليد، ويحب دائماً أن يكون نسيجاً وحده، فتراه يحيلك على
كتب ويذكر أرقام أجزاء وصفحات، فتحب أن تتأكد لا من النقل ذاته والإحالة
نفسها أحصلت أم لا- ولكن من سياق العبارة، فتفاجَأ بعدم وجود ما يتحدث عنه
البتة، كما حدث في صفحة 47 من كتابه حيث أحال على كتاب (الاعتصام)
للشاطبي، ج2، ص242، وبعد الرجوع إلى هذا الموضع من كتاب الاعتصام لا
تجد أثراً للموضوع الذي يتحدث عنه.
وكذلك فعل في صفحة 37 فأحال على (المدخل) لابن الحاج، ج4، ص
155 ولا أثر لما أحال من أجله في ذلك الموضع! بل وجدنا في (المدخل) 4/
157 ما يلي: (وقد نقل عن السلف - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا ... ينخلون الدقيق، ونخله من إحدى البدع الثلاث المحدثة أولاً) ؛ لكن البوطي يجعل هذه العبارة هكذا: (ومعلوم أن الروايات تواردت (!!) عن السلف أنهم كانوا ... في أول عهدهم لا ينخلون الدقيق وأنهم يرون نخله بدعة) . [ص39] ، وكذلك فعل ... في أكثر من مكان فمما يتعلق بإحالاته على (فتح الباري) ؛ ففي صفحة 135 أحال ... على (الفتح) ، ج 7، ص82 وج3، ص315 ولم نجد في هذين الموضعين شيئاً مما ذكر، بل وجدنا ما له تعلق بثاني الإحالتين في ج3، ص342، وسنرجع إلى هذه الإحالة لنرصد ماذا فعل البوطي بها من الأفاعيل!.
وأمر آخر يخرق البوطي به الأعراف العلمية، ويبعج البحث العلمي بعجاً،
وهو تداخل عبارته بالعبارة المنقولة أو المحال عليها، فيصبح بين العبارتين تزاوج
أو اتحاد، ولا يمكن التمييز بعدُ بين عبارة الناقل وعبارة المنقول له، وتمتزج
الأمور بصورة طريفة، وهناك أمثلة كثيرة في كتابه لهذا الأمر، وسنكتفي بذكر
مثال واحد - مع أنه مثال طويل - ولكن ماذا نفعل؟ ! فإن البوطي يأبى إلا أن
يحمل قراءه على أصعب الخطتين. وهذا المثال إحالة إلى (الرسالة) للشافعي.
يتكلم البوطي كلاماً طويلاً لسنا الآن بصدد تحليله، ثم يختم كلامه هذا برقم
ترجع إليه في الحاشية لتقرأ: انظر باب (العلم) من كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي
357 بتحقيق أحمد شاكر، وتتحير بعد قراءة هذه الحاشية: هل هذا الكلام الذي
سبق وكتبه هو كلامه أو كلام الشافعي؟ أو شرح لكلام الشافعي؟ إن كان كلامه؟
فَلِمَ أَحال على الرسالة؟ .
وإن كان كلام الشافعي؛ فَلِمَ لَمْ يحصره بين حاصرتين حتى نعرف بدايته
ونهايته؟ !
وإن كان شرحاً لكلام الشافعي فلِم لم يذكر ذلك؟ كلها أسئلة تحتاج إلى جواب. ...
ومع أننا سنجد صعوبة في تحديد بداية نقلنا لكلامه ذاك، لكننا سنلجأ إلى
الخرص والتخمين في ما يمكن أن يكون بداية - ونحن مكرهون على ذلك يشهد الله، ومعذورون لذلك إن أخطأنا التحديد. يقول: (فإذا فعل المسلم ذلك؛ فلا بد أن
يصل إلى العلم بحقائق هذا الدين الذي جاء به كتاب الله. وسيجد عندئذ أن هذا العلم
ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: علم يشمل عامة الناس، على اختلاف مداركهم ومنازلهم العلمية، ما داموا عقلاء راشدين. فلا يعذر أحد في جهله، ولا سبيل إلى اقتحام شيء منه بأي تأويل له أو تنازع في فهمه أو خطأ في روايته. وهذا العلم يشمل كليات العقائد وبدهيات الفروض والأحكام، كالعلم بفرضية الصلوات الخمس وأن لله على الناس صيام شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وأن عليهم زكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الربا والزنا والقتل والسرقة والخمر.
فهذا الصنف من العلم موجود كله نصاً في كتاب الله، ومعروف عند أهل
الإسلام عامة، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه.
وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه بقطعي الدلالة والثبوت. أي كل نص
وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر، وكانت صياغته ودلالته على معناه من
الوضوح بحيث لا يحتمل أي تأويل له أو أي خطأ في فهمه.
ومن أحكام هذا النوع من العلم أن الناس كلهم مكلفون به، ولا يسع بالغاً غير
مَغْلوبٍ على عقله جهلُ أي شيء منه. ومن أحكامه أيضاً أن الاجتهاد غير وارد فيه؛ إذ الاجتهاد قد لا يرقى بصاحبه في كثير من الأحيان فوق درجة الظن، وقد يقع
فيه الخطأ، ثم إن الناس متفاوتون في القدرة عليه، مختلفون في النتائج التي
يصلون به إليها. وهذا القسم من العلم مبرّأ، كما قد أوضحنا، من ذلك كله) .
[ص73 من كتابه] .
أما كلام الإمام الشافعي المحال عليه فهو:
(قال الشافعي: فقال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب على الناس في العلم؟ ؛ فقلت له: العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله.
قال: ومثل ماذا؟
قلت: مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج
البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة
والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كُلِّفَ العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من
أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه: ما حرم عليهم منه.
وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، وموجوداً عاماً عند
أهل الإسلام، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا
يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز
فيه التنازع.
قال: فما الوجه الثاني؟
قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام
وغيرها، مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء
منه سنة، فإنما هي من أخبار الخاصة، لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل
التأويل ويُستدرك قياساً.
قال: فيعدو هذا أن يكون واجباً وجوب العلم قبله؟ أو موضوعاً عن الناس
علمه، حتى يكون من علمه منتفلاً ومن ترك علمه غير آثم بتركه؟ أو من وجه
ثالث، فتوجدناه خبراً أو قياساً؟
فقلت له: بل هو من وجه ثالث (. [الرسالة، ص 357] .
ومن هذين النصين المنقولين يظهر لنا أن كلام الشافعي يختلف عما أوهم
البوطي أنه كلام الشافعي، وأن القارئ العادي الذي قد يكون على عجلة من أمره قد
يغتر بتلبيسه بتلك الحاشية المدلسة التي تجعله يظن أو يعتقد أن الشافعي قال ذلك
الكلام!
فقارن مثلاً بين عبارة الشافعي حيث يقول:
(وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا ... يجوزفيه التنازع) وبين ما فهمه البوطي منها بقوله:
(وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه (مَن هم؟ !) بقطعي الدلالة ... والثبوت، أي كل نص وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر (الشافعي لم يذكر ...
التواتر) وكانت صياغته ودلالاته على معناه من الوضوح بحيث لا يحتمل أي
تأويل له أو أي خطأ في فهمه) .
وقل مثل ذلك في إشارته إلى كتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي عند تعرضه
للمرجئة في ص112، حيث عرَّف المرجئة تعريفاً لم يشر إليه البغدادي لا عند
إشارته إلى المرجئة إجمالاً في أول كتابه ولا حين فصَّل القول في هذه الفرقة
ومذاهبها فيما بعد. وتفصيل عبث البوطي في هذه القضية وحدها يحتاج إلى مقال
خاص.
أما قصته مع ابن تيمية فهي أمر يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا وقت
الحديث عنها. ولكننا نكتفي بضرب مثال على تصرفه وتلاعبه بكلام ابن تيمية من
أجل أن يقيم الحجة عليه وعلى مَن ينصر آراءه، وأسلوبه هذا يذكِّر بأسلوب الشيعة
في الاحتجاج، حيث إنهم ينتقون من آراء أهل السنة ما يظنون أنه حجة عليهم مع
أنهم لا يؤمنون هم - أي الشيعة - بمصادر أهل السنة، وهي عندهم لا تصلح
للاحتجاج؛ لأنها تعارض ما اصطلحوا عليه من أنه أدلة لهم.
يقول: (ومن ذلك ما رواه ابن تيمية - رحمه الله - عن جعفر الصادق (رضي الله عنه) ، من تأويله (الوجه) في قوله - تعالى -: [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ] [القصص: 88] ، بالدين. وما رواه عن الضحاك من تأويله (الوجه) في الآية ذاتها بذات الله والجنة والنار والعرش. أما هو - أي ابن تيمية ذاته - (بلحمه وشحمه وعظمه ودمه!) فقد رجح أن يؤول (الوجه) بمعنى الجهة، فيكون المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله - تعالى -.
ثم قال: (وهكذا قال جمهور السلف) [ص135] .
أما ابن تيمية فقد أشار إلى هذه القضية ضمن كلام رائع له في الرد على
القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، لكن البوطي اقتطع من كلام ابن تيمية ما
ظن أنه نصر لحجته، ثم يا ليته اكتفى بهذه الإساءة بل أشبع هذا المقتطع مسخاً
وتشويهاً، أما عن حقيقة الدافع له إلى ذلك: أهو الهوى أم قصر الباع أم ضيق
الصدر؟ فهذا ما نتركه للقارئ ليكتشفه بنفسه.
يقول ابن تيمية:
روي عن أبي العالية قال: (إلا ما أريد به وجهه) وعن جعفر الصادق: (إلا ... دينه) ومعناهما واحد. وهذا مخالف لقول البوطي: (روى ابن تيمية عن
جعفر الصادق) ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى معلوم ماذا يعني اصطلاح: ... رُوي، بالبناء للمجهول، عند أهل الحديث.
ثم نقل ابن تيمية ما ورد من الأقوال في الآية على عادته في الاستقصاء،
وهو من خلال سوقه لهذه الأقوال يتوقف مناقشاً مؤيداً أو معترضاً، وقد يستطرد
قليلاً لجلاء نقطة يرى توضيحها من بحث لغوي، أو فقهي، أو تاريخي، أو غير
ذلك، ثم قد يعود لمتابعة نقله الأقوال، إما معضداً رأياً رآه، أو لاستبعاد وهم قد
يطرأ، وشبهة قد تثار. هذا هو أسلوب الرجل، وهو لذلك يحتاج إلى شيء من
الصبر وسعة الصدر حتى يُتذوَّق، وتنفتح عجائبه، وتكتشف أوابده، ولكن أنَّى
لرجل نَزِق ضيّق الصدر أن يصبر على ذلك؟ ! وكيف به إذا جمع إلى ذلك هوى
مستحكماً وعقدة نفسية من ابن تيمية؟ !
ثم بحث ابن تيمية عن اشتقاق كلمة (الوجه) مما يبدو أن البوطي لم يفهمه
لضيق صدره، فقال - أي ابن تيمية -:
(وذلك أن لفظ (الوجه) يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد ... والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة) . لكن فِعْلَة حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والإكلة، فيكون مصدراً بمعنى التوجه والقصد، كما قال الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست مُحصيَهُ ... ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ
ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق،
ودرهمٌ ضَرْبُ الأمير، ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان،
يقال: أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية، ومنه قوله: [ولِلَّهِ المَشْرِقُ
والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ] [البقرة: 115] ، أي قبلة الله ووجهة الله،
هكذا قال جمهور السلف [مجموع الفتاوى: 2/429] .
ومن قراءة النص الأصلي لابن تيمية لا النص المحرَّف - نستنتج أنه لم
يؤول كما زعم البوطي بل استدل بما ورد من أقوال السلف في هذه الكلمة، وبلغة
العرب التي يهوِّل بها البوطي كثيراً حتى لتظنه الخليل بن أحمد أو ابن جني، وهو
ليس بذاك.
ولو ذهبنا لتتبع تعامل البوطي مع المراجع - في كتابه هذا فقط - لطال
الكلام، ولكن حسب القارئ الكريم أن يعرف أن هذه القضية فرع لما أشرنا إليه في
مقالنا السابق عنه من خيلاء ضارة، واستهانة بأقدار الناس أحياءً وأمواتاً، وسوء
تقدير لهم، وإساءة ظن بهم، قدر إحسانه الظن بنفسه، هداه الله.
التواء وتهويل:
الشيخ البوطي يحب التهويل، حتى ولو أوقعه هذا التهويل فيما لا تحمد عقباه، ... فمن حيث الأسلوب عنده القدرة التعبيرية التي تريك المهم هيناً، والهين السخيف
عظيماً ومشكلة لابد لها من هز الأكتاف وقرع الظنابيب، حتى يُتَغَلَّبَ عليها، وهذه
القدرة تذكرنا بالبراعة التي عُرف بها الفارابي في الموسيقى - فيما زعموا - أنه
في أحد مجالسه مع سيف الدولة لم يعجبه عزف العازفين الذين عزفوا أمامه،
وأظهر أخطاءً كثيرة لكل واحد منهم، فتعجب سيف الدولة من ذلك وسأله إن كان
يحسن هذه الفنون، فأجاب بالإيجاب، ثم أخرج من وسطه خريطة (جراب من
جلد) ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها ثم عزف بها، فضحك كل مَن كان في
المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، وضرب بها، فبكى كل مَن كان في المجلس! ثم فكها وغيَّر تركيبها وضرب بها ضرباً آخر، فنام كل من كان في المجلس حتى
البواب! فتركهم نياماً وخرج!
وإليك هذه الفقرة التهويلية التي يمهد فيها لاكتشاف الصحابة والتابعين للمنهج
- والذي سبق أن سميناه منهج البوطي - ليقول:
(الآن، وقد اتضح لك ذلك؛ ينبغي أن نتبين حجم المشكلة الخطيرة التي انبثقت عن ذلك التطور الكبير، صحيح أن تلك العوامل أدت إلى خروج الصحابة من نطاق حياتهم الخاصة المتميزة التي فتحوا أعينهم من داخلها (مرجع الضمير هنا على حياتهم الخاصة أو على أعينهم؟ ! البوطي أعلم، وعلى كلا التقديرين فالكلام مستقيم! وهذه صفة جوامع الكلم!) على الإسلام ومبادئه، وساحوا تحت وطأة ظروف لا قِبَلَ لهم بالإحاطة بها أو السيطرة عليها، (مساكين الصحابة - رضي الله عنهم -!) في حياة جديدة (الجار والمجرور متعلق بساحوا) ذات آفاق أوسع غير أن المشكلة التي واجهتهم (انتبه! هذه مشكلة المشاكل) أنهم نظروا، فوجدوها آفاقاً بعيدة لا تستبين لها معالم ولا حدوداً. وليس في يدهم من وراء النصوص (نصوص كل من القرآن والسنة) مقياس يحددون به معالم تلك الحياة، بحيث يقيمون على أساسه ضوابط للسير فيها وحدوداً للوقوف عندها (ألا تكفي نصوص القرآن والسنة مقياساً لتحديد معالم تلك الحياة وأساساً تقام عليه ضوابط وحدود؟ يا شيخ! !) فكان ذلك مبعث اضطراب وقلق، وخلافات حادة، (مَن قال إن الإسلام جاء رحمة للعالمين؟ ! ألم يكن نقمة على الصحابة ومَن جاء بعدهم؟ ! وقد عانى الصحابة بسببه هذا العناء المعنى، وهذا الاضطراب والقلق والخلافات الحادة. هذا ما يفيده كلام الدكتور، وما شهدنا إلا بما علمنا!) ، بل سبباً في ظهور فرق وفئات شتى، اتخذت من تلك البيداء الواسعة طرائق متخالفة، بل متخاصمة، وكان لابد لهذه المشكلة أن تستمر بينهم إلى حين) . [ص45] .
هذا مقطع - فقط - من تهويلات الرجل. ولسنا ندري على وجه اليقين ما
الذي يدعوه إلى مثل هذه التهويلات، أهو قد استعار هذا الكلام من أحد المستشرقين، أو ممن تأثر بهم، ثم نسي المصدر، أو تناساه؟ ! ، إنه كلام يشبه كلام طه
حسين في كتبه التي عالج فيها التاريخ الإسلامي، كالفتنة الكبرى وغيرها، وإن
شئت فقل: إن كلامه عليه مسحة من اعتقاد الرافضة في الصحابة، أما عن تأثر
الشيخ بالمستشرقين فقد يكون الدافع له إلى ذلك عقدة النقص وحب الظهور عنده،
خاصة وأنه يدندن ويهول بمناظرات وما يسميه منازلات لبعض رموز من يطفون
على سطح الفكر حواليه ممن يسرّه أن يقرن بهم ويتمسح بمسايرتهم، وهذا واضح
من إصراره على تعبير (منهج المعرفة) وترديده له كثيراً في ثنايا كتابه، أليست
هناك مجلة شهيرة ليست على مبعدة منه - يكتب فيها من يتطلع إلى مسامتتهم اسمها
مجلة (المعرفة) ؟ ! .
إن كان الأمر كذلك فنقول له:
ألهى بني تغلِب عن كل مكرمة ... قصيدةٌ قالها عمرُو بن كلثوم!
وأضفْ إلى المثال السابق من أن كلامه أشبه بكلام المستشرقين، الفقرة ... ...
الأخيرة من ص 48 من كتابه فسوف تجد هذا الكلام لا يختلف عن مناهج ...
المستشرقين في تحليلهم ونظرتهم إلى الفكر الإسلامي بشيء.
وأما أن كلامه عليه مسحة من اعتقاد الرافضة في الصحابة فاقرأ كلامه التالي
الخارج من صدر ضيق تفوح منه رائحة الحنق: (فمن التزم بمقتضى هذا الميزان، فهو متبع كتاب الله متقيد بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان
يعيش في عصر السلف أو جاء بعدهم، ومن لم يلتزم بمقتضاه، فهو متنكبّ عن
كتاب الله تائه عن سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - وان كان من الرعيل الأول
(يا لطيف) ولم يكن يفارق مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ! ! [ص
79]
بل يحتج ببعض الرافضة ومؤلفاتهم، وفي مؤلفات أهل السنة غنية له ولغيره
على هذه القضية التي يعالجها [انظر الحاشية في ص43 من كتابه] .
بل يستنعج (يصبح كالنعجة بجامع النعومة وحب السلامة في كلٍّ) عندما
يتعرض للشيعة، فيشير إلى حقيقة معروفة عندهم، بل هي من أصول مذهبهم،
بل تكاد تكون أصول مذهبهم كلها قامت من أجل هذه القضية، وهي إنكار إمامة
الشيخين (أبي بكر وعمر) ، فتراه عندما يشير إليها كأنما يقترب من أفعى سامة
متربصة بمن يقترب منها، فيقول هذه العبارة التي تطفح بالوجل والتدسس والنعومة:
(وعلى سبيل المثال نقول: (لمجرد المثال فقط، فنرجو المعذرة!) إن ... إنكار إمامة الشيخين، وهو مذهب يراه كثير من الشيعة (وليس جميعهم! ولاحظ تنكير كلمة) مذهب (أيضاً) ليس كفراً، (الحمد لله) وإن كان خروجاً على الإجماع) [ص107] (يعني ماذا إذا كان خروجاً على الإجماع؟ !) ولنكن على ذكر من هذا الاعتذار الناعم حينما نناقش معه نزوله بساحة ابن تيمية وثورته وفورته وانتفاخ أوداجه هناك على شيء لم يخرق ابن تيمية الإجماع فيه قطعاً، ولكن ناقش دعوى الإجماع على قضية فهم منها أعداؤه - وأخيرهم البوطي - أنه يقول بهذا الرأي الذي ناقش دعوى الإجماع عليه، مع أنه لا يناقض نفسه - رحمه الله -.
ويقول في عبارة أخرى ملتوية:
(ومن ذلك ما يجزم به بعض الناس (! !) ، من أن في أئمة أهل البيت
مَن قد وصلوا إلى منزلة لم يبلغها ملَك مقرب ولا نبي مرسل! وممن يجزم بذلك
ويقرره في منشوراته، الإمام الخميني) .
لاحظ الالتواء في عبارة: (بعض الناس) ، ولاحظ ما في هذه العبارة: (من
أن في أئمة أهل البيت من قد وصلوا ... ) وكأنه لا يدري أن القول بعصمة الأئمة
الاثني عشر من أصولهم! وليس هذا فحسب، بل إنه سأل بعض علماء الشيعة
الإيرانيين عن كيفية اتفاق هذا الكلام مع أصول الإسلام وكلياته الأساسية فقال: إنها
غلطة من المترجم! فتعجب هو من (أن الكتاب طُبع منذ ذلك الحين مرات متعددة،
وغلطة المترجم لا تزال باقية!) [حاشية، ص112 من كتابه] .
ونحن أيضا نعجب، لكن لا من غلطة المترجم هذه ولكن من تعجبه وعدم
معرفته وتجاهله أن التَّقِيَّة من أصول القوم!
لكن مع هذا يبقى عندنا شك من إثارته هذا الاعتراض على مَن ذكر من علماء
الشيعة، وذلك أنه من المؤكد أن الشيخ قد حضر مؤتمراً لهم في لندن في 18 من
ذي الحجة 1410هـ الموافق 11/7/1990م للاحتفال بيوم الغدير [1] وشاهد ...
وسمع على الطبيعة - كما يقولون - كيف يفكر القوم، وكيف يحتفلون، وسُبَّت
أمامه وعلى مرأى ومسمع منه السنة وأهل السنة الذين ينتسب إليهم سباً مقذعاً،
ولكن لم يبلغنا أنه أنكر على دهاقينهم ذلك المنكر لا بقليل ولا بكثير من إنكاره الذي
ينكره على من يشاركونه عدم اعتبار الإمامة والعصمة والرجعة من أصول الدين،
بَلْهَ مشاركتهم له في أشياء أخرى! [2]
مشكلة المناخل! !
ولنختم هذه التهاويل بواحدة تعيدنا إلى حيث بدأنا إلى [ص46] من كتابه،
وهي مشكلة المناخل! ونحب أن تكون مُلْحة الوداع ومسك الختام، ولسنا - والله -
ندري مِمَّ نضحك أكثر؟ من هذه المشكلة التي ألقت بظلها الكئيب على الصحابة
الكرام وعصرهم؛ فكانت اختباراً لقوتهم وحكمتهم وصمودهم، وامتحاناً للمبادئ
التي تلقوها من محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الله سلَّم! ...
نقول: نضحك أكثر من مشكلة المناخل هذه أم من عرض الشيخ لها واحتفاله
بها بتعاظمه المعهود، وأسلوبه الطريف الذي يزاوج فيه بين الخبر والإنشاء بركانة
وزكانة؟ حيث يقول:
( ... لقد ظهرت المناخل فيهم فجأة، (فجأة، وقعت عليهم وقوع الصاعقة!) ... وما كان لهم عهد بها من قبل، أين كانت مختبئة؟ ! بل من الذي اخترعها؟ !) ...
قد يجيب الشيخ لم يكن هناك سجل لبراءات الاختراع حتى نعرف مخترع المناخل!
ثم لا زلنا نطلب مزيد تعريف بالمناخل هذه فيزيدنا الشيخ شكوراً: (وهي من ...
أدوات التنعم والترفه في المأكل، مما لم يكن يعرفه العرب ولا المسلمون من قبل) . ...
(إن العرب عند الشيخ هم أكلة الضِّبَاب واليرابيع، وصورتهم عنده كصورتهم عند
الفرس عندما يتحدثون عنهم!) فما الذي ينبغي أن يتخذوه؟
أيتبعون في ذلك سنن الصحابة الذين من قبلهم، فيجتنبون استعمال المناخل
في نخل الدقيق، نظراً لأن ذلك بدعة مستحدثة وكل بدعة ضلالة (معاذ الله! هذا لا
يمكن!) أم يُجارون الزمن وتطوراته، (هذه أهون! لابد من مجاراة الزمن
وتطوراته!) وينظرون إلى المسألة على أنها من الأعراف المرسلة عن قيود
الاتباع وعدمه، ولا علاقة لها بشيء من الأحكام التعبدية التي قضى بها الإسلام؟ .
وأيا كان الموقف المتخذ، فما هو الميزان أو البرهان المعتمد في ذلك؟ .
حاشية تكميلية!
جواباً للقراء الذين لم يعرفوا الجواب الشافي على تساؤل الشيخ الثاني البادئ
بقوله: (أم يجارون الزمن....) نفيدهم أن الصحابة الكرام - بعد نقاش عاصف
أدى إلى ارتفاع اللهجة، وتكدير الخواطر، وأنذر بانفضاض مجلسهم على غير
اتفاق؛ مما كان سيكون له أشأم العواقب، وأقلها - لا سمح الله - شرخ (ونؤكد
على كلمة شرخ) في وحدة الكلمة، واجتماع الصف التي انتصروا بها على فارس
والروم ... نقول بعد تلك الحادثة التي كان سيكون لها ما بعدها جاروا الزمن
وأجمعوا على استعمال المناخل، عملاً بأخف الضررين! وهي قاعدة معتبرة في
الشريعة، ونخبرهم أنه ما كان لهم أن يصلوا إلى هذا الإجماع المبارك لولا المنهج
الذي صاروا إليه، وساروا عليه، والذي: رصده، ثم اكتشفه، ثم صاغه وقعَّده
الدكتور الشيخ، أو الشيخ الدكتور (البوطي) خلال العشر الأولى من القرن ...
الخامس عشر الهجري.
*يتبع *
__________
(1) يوم الغدير: هو اليوم الذي يزعم الشيعة الاثنا عشرية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنص على أن يكون الخليفة من بعده.
(2) أُنشد أمام الشيخ في ذلك المؤتمر قول الرقيع الصاحب بن عباد: حب علي بن أبي طالب هو الذي يهدي إلى الجنة إن كان تفضيلي له بدعةً فلعنة الله على السُّنَّة! وقلنا لنَقَلَة الخبر: أنتم متأكدون أن الدكتور كان حاضراً وكان يسمع؟ ؛ لعلهم استغلوا غيبة قصيرة له لقضاء حاجة مثلاً فقالوا ما قالوا؟! فقيل لنا: بل كان جالساً وموجوداً بذاته وعمامته! فقلنا:
ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللوى ... والعيشَ بعد أولئك الأيامِ.(35/6)
خواطر في الدعوة
دعوة عامة
محمد العبدة
من الأخطاء التي وقعت بها الدعوة الإسلامية في العصر الحديث - ولعلها
تحاول تلافيها الآن - التركيز على المدن من جهة وعلى الشباب المتعلم من جهة
أخرى، ولا نقول إهمال الريف وجماهير الأمة بشكل عام، ولكنه شِبه إهمال،
والحجة في هذا أن المدن فيها الجامعات والمدارس الثانوية وهي بؤر الشباب المتعلم
لا جدال في أهمية الشباب المتعلم، ولكن هل هذا كافٍ وحده للتغيير المنشود، وهل يقع التغيير دون التفاف الجماهير حول الدعاة والعلماء، الذين يبصرون
الناس بدينهم ويقودونهم إلى الغاية المطلوبة.
إن طاقات الأمة ليست محصورة بفئة معينة، فقد يتفوق مَن هو صاحب فطرة
سليمة وحب للدين على صاحب دراسات وكتب.
وعندما وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - العرب في الطريق الصحيح
تفجرت طاقاتهم وهم أمة أمية، ونشاهد الآن في أوربا مَن يصل إلى الوزارة بل
إلى رئاسة الوزراء ممن لم يدخل الجامعة قط، ولكنها الخبرة والتجربة والذكاء.
كنت في زيارة قريبة لبلد عربي، وصلَّينا مع بعض الزملاء في مسجد قرية
من قراه، كانت وجوه الناس تدل على الطيبة وأصالة المعدن ولكن - وفي الوقت
نفسه - كانت تدل على أنه لا يأتيهم أحد يعلّمهم أمور دينهم، ويصبح مرشدهم،
ويستفتونه في كل صغيرة وكبيرة، ويطيعون أوامر الشرع من خلال توجيهاته،
وتذكرت أن بعض القرى في بلد عربي آخر لا تبعد عن العاصمة إلا أميالاً وأهلها
من أجهل الناس، وكان الدعاة وطلبة العلم في هذه العاصمة لا يكلفون أنفسهم عناء
الذهاب إليهم للدعوة، كما تذكرت ما حدثني به أحد الإخوة الأفاضل - وكان يومها
طالباً يدرس في القاهرة - عندما ضمه مجلس مع أصحاب الاهتمام بالدعوة
وشؤونها، فسألهم عن هذه القضية وهل وقعت الدعوة في هذا الخطأ فاهتمت
بالمتعلمين من أهل المدن بشكل خاص، فأجاب أحدهم نعم؛ لأن المدن فيها
الجامعات والمدارس! ، فقال لهم: وما ذنب الريف وباقي جماهير الناس؟ ! .
لقد تبين مع الأيام أن الدعوة إن لم يلتف حولها الناس جميعهم، وتصبح قوة
يهابونها - فلا تستطيع أن تحقق أهدافها؛ لأن أي ظالم يمكن أن يدَّعي أمام الشعب
أن هؤلاء الشباب متهورون، متطرفون، معزولون في بعض الزوايا الخاصة إلى
آخر قائمة الاتهامات المعروفة، ولكنه لا يستطيع أن يستغفل الناس ويقول: هؤلاء
الدعاة والعلماء والتجار والصغار والكبار والنساء، كل هؤلاء يتسترون بالدين.
إن العلماء والدعاة الذين يتكلمون بالحق وبه يعدلون هم الذين تثق بهم الأمة،
وهم المؤهلون للتغيير.(35/22)
فكر
محمد أركون ومعالم من أفكاره
محمد بن حامد الأحمري
تطورت في عصرنا هذا وسائل الدعاية لكل شيء بمقدار لم يسبق له مثيل،
هذه الدعاية في قضايا الكماليات ووسائل الراحة قد تكون معقولة إلى حد ما، لكن
الغريب من أصناف هذه الدعاية، الدعاية الفكرية لعامة الكتاب والشعراء والروائيين
إلى درجة تدفع إلى السأم وعدم الثقة بأي شيء يشتهر من كتاب أو كاتب أو صحيفة، فيجعلك هذا لا تثق بالشهرة لأي عمل، إذ قد يكون في غاية الرداءة والفساد لكن
جيوش الإعلام والترويج تحاصرك حتى تفقد بصيرتك. وقد حاصرتنا الدعاية في
زماننا ورفعت في وجوهنا مجموعة من الكتاب والمفكرين والأدباء، وألصقتهم في
وجوه ثقافتنا كرهاً، وألزمتنا بهم وحاصرتنا كتبهم في كل زاوية، وليس هذا
الحصار فقط بين العرب، بل لقد شكَت إحدى المستشرقات وقالت: إن أدونيس لم
يقل شيئاً ولكن اللوبي الأدونيسي هو الذي أعطاه الأهمية! . هذا الجيش الدعائي
من وراء كتاب صغار أو مغالطين كبار هو الذي أعطاهم أهمية كبرى في عالم
الكتاب العربي.
قال أحد القراء لقد رأيت كتب أركون ولفت انتباهي الدعاية الكبيرة لها؛
فذهبت مع القوم واشتريت منها وقرأت الأول والثاني فما أحسست بفائدة ولا
ساعدني الفهم، وقلت كاتب متعب ولكن زادت الدعاية للرجل فقلت في نفسي:
النقص في قدرتي على الدراسة والفهم، وسكتُّ وخشيت أن أقول لأحد: لا أفهمه،
حتى إذا كان ذات يوم جلست إلى قارئ وكاتب قدير وتناول كتاب (تاريخية الفكر
العربي الإسلامي) وقال: لقد حاولت أن أفهم هذا الكاتب أركون فما استطعت، فكأنما أفرج عني من سجن وقلت: رحمك الله أين أنت فقد كنت أبحث عن قارئ له يعطيني فيه رأياً، لا الذين أكثروا من الدعاية له دون دراية.
وحتى لا تضر بنا المبالغة في هذا إليك نموذجاً للدعاية الأركونية: علق هاشم
صالح مترجم أركون إلى العربية في آخر كتاب (الفكر الإسلامي نقد واجتهاد) ...
يقول هاشم: بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر في حجم المعركة التي
يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد
أصبحت واضحة محصورة، كلما اكتشفت أنها متشابكة معقدة، شبه لا نهائية.
هناك شيء واحد مؤكد على أي حال: هو أن محمد أركون يخوض المعركة على
جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أًصوليي المسلمين، وجبهة أصوليي
المستشرقين:
وسوى الروم خلف ظهرك روم ... فعلى أي جانبيْك تميل؟ [1]
هذا مثل مما يفعل هذا المترجم، وقد يفاجئك مراراً بالمدح في وسط الكتاب أو
في المقدمة أو في الهامش [2] أو في لقاءاته مع أركون التي تمثل جزءاً كبيراً من
أعماله؛ فهذه طريقة في الكتابة جديدة إذ يُجري المترجم حواراً حول أفكار أركون
بعد كل فصل أو في آخر الكتاب كما في (الفكر الإسلامي قراءة علمية) ، أو (الفكر الإسلامي نقد واجتهاد) .
أثناء قراءة أعمال أركون قد تصادفه ينقد مدرسة عقائدية أو فقهية، ويحاول
أن يقول إنها خرافة، وأسطورة دغمائية كما يحلو له أن يكرر، وتقول: لعله
ينصر المدرسة الأخرى، فهو إما شيعي أو خارجي، ثم يخرج عليك في صفحة
أخرى وهو يعرض بعدم معقولية فكرة الإمامة لدى الشيعة [3] ، ثم في مكان آخر لا
يتفق مع الإسلام السني المتزمت في نظره [4] علماً أن السني عنده هم الأشاعرة،
وأما أحمد وابن تيمية فيدعوهما حنابلة متزمتين. وتحاول جاهداً أن تقف تماماً على
ما يريد فإذا هو متناقض لا يؤمن بشيء ولا يرى أن لهذا العلم أو التراث الإسلامي
أي مكانة إلا في عين المدارس النقدية الغربية؛ فما أقرته فهو الحق والمحترم -
كنص للدراسة ليس أكثر من نص بشري قابل للأخذ والعطاء - وما لا تقره
المكتشفات الأسلوبية اللغوية الاجتماعية والنفسية المعاصرة فإنه لا يرى إقراره
والاهتمام به لقدمه وتخلفه عن العصر.
ولعل كتاب (الفكر العربي) أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص
غامض لجُل ما قال في الكتب الأخرى، وأشار فيه بكثير من التحفظ إلى آرائه في
القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
عند أركون أهداف واضحة لمن يستقرئ أعماله ويصبر على التزوير
والمراوغة واللعب بالكلمات في غير معانيها حتى يحصل على هدفه الكبير من كل
مشروعه وسيأتي بيان الهدف بعد ذكر وسائله إليه.
الوسائل:
أول وسائله نقد الكُتاب الإسلاميين الذين ليست لهم صلة بالمدارس الغربية في
الفكر، والذين ليس لهم إلمام بعلوم اللسانيات والاجتماع والنفس والنظريات التي
خرجت - فيما يرى - بعد الخمسينات من هذا القرن الميلادي، وبالتالي يطالبهم
بالمشاركة والدراسة لمستجدات النظريات الإنسانية الغربية، ثم هو يستخدم نظريات
ميشيل فوكوه في مسائل المعرفة والسلطة، ويرى تاريخية المعرفة وبكوْنها قابلة
للتغيير والتطوير والشمول، وأهم جوانب المعرفة التي يتحدث عنها المعرفة الدينية
بكل أبعادها، ويرى اعتبار المعرفة الإسلامية نموذجاً أسطورياً لابد أن يخضع
للدراسة والنقاش - كما سيأتي - ويرى المجاهرة باعتبار العلوم الإسلامية سياقاً
معرفياً أسطورياً يزعج المسلمين ويهز إيمانهم، ولكن لابد - كما يرى - من بناء
مفاهيم جديدة مستمدة من الاحتياجات الجديدة كما فعل السلف، ويرى أن هناك
مناطق عديدة في الفكر الإسلامي لا تمس ولا يفكر فيها مثل مسألة عثمان - رضي
الله عنه - وقضايا جمع القرآن، والتسليم بصحة أحاديث البخاري والموافقة على
الأصول التي بناها الشافعي، ويرى أنه يضع أساساً للاجتهاد وعقلانية جديدة [5] ،
وهو يرى أن الوعي الإسلامي قد انشق فيما بين السنة والشيعة، والوسيلة عنده
ليست بالتوفيق بين الجانبين ولا الانتقاء منهما إنما الوسيلة نقد الطرفين وهو يعتنق
(النقدية الجذرية) للطرفين وإسقاط كل الحجج التي بأيدي الجميع، وبالتالي فإن
النص السني مغلوط ومزور والنص الشيعي نص العدالة والعصمة مغلوط ومزور
وأسطوري، والمطلوب أن يتحرر كل من الفريقين من نصه فيتوحدان [6] .
الأهداف:
من أهم ما يهدف له أركون في كتاباته المكررة والمملة نزع الثقة من القرآن
الكريم وقداسته واعتباره نصاً أسطورياً [7] قابلاً للدراسة والأخذ والرد. وهو يغالط
كثيراً في معنى كلمة (أسطورة) ويقول: إنه يعاني من صعوبة هذه الكلمة على
أسماع العرب الذين يربطون بين هذه الكلمة وبين الأكذوبة أو الخرافة، لكن ما هي
الكلمة التي يستخدمها أركون في تعبيره عن القرآن باللغة الفرنسية التي يكتب كل
كتبه بها.
إنه استخدم كلمة MYTHE وبالإنجليزية MYTH وكلتا الكلمتين تعني
الخرافة أو الحكاية والكلمتان جاءتا من الكلمة الإغريقية MUTHOS وهي تعني
في جميع اللغات الأوربية حكاية خرافية شعبية تتحدث عن كائنات تجسد - بصورة
رمزية - قوى الطبيعة والوضع الإنساني [8] .
ثم إذا سلم بهذه الأسطورة - بزعمه - فإنها أولاً لم تصلنا بسند مقطوع
الصحة؛ لأن القرآن -كما يقول - لم يُكتب كله في حياة الرسول - صلى الله عليه
وسلم - بل كُتب بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعد [9] وهذه
من المغالطات التي يسوقها أركون بكل سهولة ويخلط فيها ما بين قضية الجمع
وقضية الكتابة، وبزعم أن الظروف السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون
فقط على قرآن واحد ويتركون ما عداه [10] .
ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمر يدخل بعد ذلك
إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار ويرى أن التاريخ الواقعي
المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة!
ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ في كتبه كثيراً مثله يقول:
(ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات
التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي
المحسوس) [11] .
ويرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قِبَل ندرة أهمهم عنده ...
(محمد أحمد خلف الله) عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن ... القصة القرآنية مفتعلة، ويتحسر على عدم استمرار (خلف الله) ويذكر أن الأسباب التي لم تمكن (خلف الله) في عمله أنه راعى الموقف الإسلامي الإيماني أولاً، وثانياً: لنقص المعلومات. إذن فقد آل الأمر إلى أركون الذي سيهاجم القرآن؛ لأنه لا يراعي الموقف الإسلامي الإيماني لأنه مطلع على الأبحاث الجارية. ومع زعمه أنه يعرف الأبحاث الجارية التي كتبها فوكوه والحاخام دريدا؛ فإنه يظهر للقارئ بشكل يجعله لا يثق في قدرة أركون ولا أنه فهم ما زعم فهمه من قضايا المعرفة ونقد اللاهوت ونظريات البنيوية وما بعدها [12] ، ويعاني في عرضه للأقوال من عدم التوثيق أو القول الصحيح لما ينقل؛ إذ يقلب كل قضية قرآنية أو تفسيرية أو سياق لعلم حتى يفسد المعنى ويلويه إلى ما يريد كما مر معنا في مسألة كتابة القرآن، ومثال آخر يعرِّف الوحي بقوله: " إنه يُدعَى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت " [13] .
معاني القرآن:
لو تجاوزنا قضية شكه في القرآن وردّه للسنة من باب أَوْلى فماذا يفسر به
القرآن وكيف يفهمه، إنه يقول: " إن القرآن - كما الأناجيل - ليس إلا مجازات
عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس - اعتقاد الملايين - بإمكانية تحويل هذه
التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبق على كل الحالات
وفي كل الظروف " [14] .
ويقول في موضع آخر:
(إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقَّى
بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير محورة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن
فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي - أن يعيها
ويكشفهما) [15] .
ويفصل أركون بين القرآن والشريعة، فالقرآن عنده " خطاب مجازي يغذي
التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز، والمجتمعات
البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز " [16] ولكن هناك البشر
المحسوسون العائشون - كما يقول - في مجتمع وهناك أمورهم الحياتية المختلفة
التي تتطلب نوعاً من التنظيم والضبط وهكذا تم إنجاز الشريعة [17] ثم يعقب بأن
هناك مجالاً أسطورياً مجازياً وهو مجال القرآن، ومجال آخر واقعي للناس هو
مجال الشريعة ويقول: (إنه وهم كبير أن يتوقع الناس علاقة ما بين القرآن والشريعة التي هي القوانين الشرعية وأن المناخ الميثي (الأسطوري) الذي سيطر على الأجيال السابقة هو الذي أتاح تشييد ذلك الوهم الكبير، أي إمكانية المرور من إرادة الله المعبر عنها في الكتابات المقدسة إلى القوانين الفقهية (الشريعة) وحجته في ذلك ما يلي: في الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة من الكلام (من الخطاب) وهناك فرق بين خطاب شعري أو ديني، وخطاب قانوني فقهي أو فلسفي، ولا يمكن لنا أن نمر من الخطابين الأولين إلى الخطابات الأخرى إلا بتعسف واعتباط) [18] ألا ترى ... أنك يا أركون قد استطعت أن تمرق من الخطابين.
مكانة السنة عنده:
ليس هذا مجالاً لمتابعة هذه الأقوال والرد عليها، فيكفي هنا التعريف بمعالم
فكره بما فيها جرأته على الشك في ثبوت وصول القرآن إلينا، وجرأته على نفي
الحديث والزعم بأن الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام
احتاجت إلى أحاديث وقال: (إن السنة كُتبت متأخرة بعد موت الرسول - صلى ...
الله عليه وسلم - بزمن طويل وهذا ولَّد خلافات. لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم
بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم
يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة) [19] .
وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية
الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة كما يسميها [20] ، ثم يقول: (وبالطبع فإن
مسيرة التاريخ الأرضي وتنوع الشعوب التي اعتنقت الإسلام - قد خلقت حالات
وأوضاعاً جديدة ومستحدثة لم تكن متوقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في
الحديث، ولكي يتم دمجها وتمثلها في التراث فإنه لزم على المعنيين بالأمر أن
يصدقوا عليها ويقدسوها إما بواسطة حديث للنبي، وإما بواسطة تقنيات المحاجة
والقياس) . [21]
الشريعة والحياة تلك هي مكانة الشريعة عنده وهذه مكانة أحاديث الرسول -
صلى الله عليه وسلم - إذ لا يرى أي تشريع جاء به القرآن، وأن القرآن خطاب
أدبي عاطفي لا علاقة له بالحياة، والشريعة ضرورة اجتماعية أملتها ظروف
المجتمع وحاجة الناس، وهي في مجموعها تراث إذا قابلت في الطريق ثقافة
مجتمع آخر أو استجد شيء فإن هذا الجديد يدمج في هذا التراث بواسطة حديث أو
قياس، وهو يناقض نفسه تماماً، إذ لو لم تكن الشريعة من غير هذين المصدرين
كأساس لما سعى المعنيون بالأمر - كما يسميهم - لفعل ما كذبه عليهم. وهذا مثال
واحد كبير من الغث والانحراف والكفر الذي يملأ به كتبه، كله يناقض بعضه
بعضاً، وكفاه زوراً أو جرأة على كتاب الله قوله: (وليس في وسع الباحثين أن ...
يكتفوا اليوم في الواقع بالتكرار الورع للحقائق الموحى بها في الجزيرة العربية في
القرن السادس والتي طُرحت منذئذ على أنها بآن واحد مما يمكن تعريفه واستخدامه
وأنها متعالية) [22] وهو يرى أن الباحثين - يعني نفسه ومَن تابعه - (إذ حتى كبار الكفار من المستشرقين لم يحملوا على القرآن والسنة والأمة ... كالحملة التي يقودها أركون ولم يستطيعوا القول بكل هذه الافتراءات في آن واحد) لا يسعهم تطبيق القرآن لأنه نزل في الجزيرة في ذلك الزمن القديم، وهو لا يرى نفسه وهو يقدس ويستسلم لبقايا قوانين الرومان، بل ويحاسب الإسلام على أفكار فوكوه هل تتطابق معها أم لا، ويقول في نفس الوقت بأن القرآن حقائق، وقد ... سبق أن قال إنه مجازات عالية وقد أجمع القائلون بالمجاز على أن كل مجاز يجوز ... نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر [23] ، علماً بأن المجاز بالأسلوب الذي ... يريده أركون أبعد بكثير من المجاز الذي حدث فيه الخلاف بين المسلمين والذي قال ... فيه الشنقيطي إن وروده في القرآن غير صحيح ولا دليل يوجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل ونحن ننزه القرآن على أن نقول فيه مجاز بل نقول كله حقائق. [24]
ونقل الشنقيطي عن عدد من العلماء عدم جواز المجاز في اللغة أصلاً فضلاً
عن القرآن وهو - أي الشنقيطي - ممن يرى هذا، وأركون لا يرى أن آيات
الأحكام هي المجاز، ولا آيات الصفات كما قال بعض السابقين المخالفين لأهل
السنة، لكنه يرى كل القرآن مجازات عالية، ومرة يقول متعالية أي تكون بعيدة
عن المجتمع سياسة واقتصاداً واجتماعاً، إنما تهذيب روحي لا علاقة له بالدنيا.
وليس هذا مكان الحديث عن المجاز ولا الخلاف فيه. لكن جاء بمناسبة خلط
أركون وتناقضه؛ إذ يقول: القرآن حقائق نزلت قديماً ثم يرجع ويقول مجازات
عالية. إن أركون يهدم كل شيء ولا يقيمك على سنن ولا يثق بأحد ولا بعلم أحد،
فهو يسخر من كل مَن سبقه حتى يسخر من الطبري ومن طريقته في التفسير. وما
دام قد اجترأ على كتاب الله وسنة رسوله كل هذه الجرأة فماذا يتوقع القارئ عن
غيرها. وهناك جوانب عديدة يستنكرها كقضايا الثواب والعقاب والبعث بعد
الموت [25] . ويرى في آيات القرآن التي تحدثت عن الجنة وثوابها سياقات شعرية، وأيضاً يرى رمزية العذاب.
خلاصة:
يرى أركون أن القرآن والكتب السابقة تعاني من سياق واحد، ويضع القرآن
مع الأناجيل في مستوى من الثبوت والدراسة واحد، وبرى أهمية النقد والتجديد.
وعمله هذا النقدي السلبي النافي - الذي يمسخ كل الحقائق وكل المعاني - لا يمكن
بحال أن يكون مذهباً فكرياً بديلاً؛ بحيث يحل محل شيء من الفرق أو الجماعات
التي وجدت على الساحة الإسلامية وليس بأسلوب يمكن قبوله من قِبل السنة أو
الشيعة؛ ذلك أنه يلغي الجميع ويرى العدمية [26] التي يقدمها هي البديل أو التجديد، فالشك والجحود بكل شيء لن يكون أبداً بديلاً للإيمان، إذ هذا العدم لا يكون ديناً
ولا يبني خلقاً، وهو يرى - مع هذا - ضرورة النظام في حياة الناس ويرى أهمية
القوانين وهذه القوانين عنده تنشئها الضرورة الاجتماعية، لكن أي مجتمع وأية
قوانين، أما المجتمع فلا يرى أركون أن يكون للإسلام سلطة عليه؛ لذا فليس
للإسلام أن يسن أي قانون في ذلك المجتمع إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا
علاقة بالوجود، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر
المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس، ثم إذا
فهم منها معاني فتلك المعاني جاءت للحاجة والضرورة؛ لأنه لم يكن هناك قوانين
في المجتمع. وقد علق أحدهم على نمط تفكير أركون وأسلوب تعامله مع النصوص
فقال: إن تجديدية أركون هي تجديدية عدمية ولا نحسب أن مسلماً عاقلاً يهتم لقراءة
أركون النافية [27] وهذا ملخص لبحث مطول يتناول كتب ومقالات أركون، ومع
أن أعماله غير معقولة لكن - ويا لَلأسف! - إن الذي يتحكم في سلوك وأفكار العالم
الإسلامي اليوم هو (اللامعقول) لهذا يحتاج إلى بيان.
__________
(1) الفكر الإسلامي فكر واجتهاد ص335، " حقاً إن أركون أشد على الإسلام هجوماً من مفكري الروم وسيأتي بيان ذلك ".
(2) انظر الكتاب السابق ص254 ومواقع عديدة في " الفكر الإسلامي قراءة علمية ".
(3) أركون، مقابلة مع أدونيس، مجلة " مواقف "، عدد رقم 54 - ربيع عام 1988، ص10.
(4) أركون، الفكر العربي، ترجمة عادل العوا، ص128 والفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص9 ولعل كتاب " الفكر العربي " أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجل ما قال بعد في الكتب الأخرى وفيه إشارة بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
(5) عيسى بلاطة، توجهات وقضايا في الفكر العربي المعاصر، ص89- 90.
(6) رضوان السيد، الإسلام المعاصر، ص190.
(7) محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص202 وما بعدها.
(8) محمد العربي الخطابي، مقال بعنوان " الأسطورة الأصلية في رأي أستاذ جامعي "، جريدة " الشرق الأوسط " 26/2/1990.
(9) محمد أركون الفكر، الإسلامي نقد واجتهاد، ص85-86.
(10) المصدر السابق، ص86.
(11) أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص203.
(12) انظر مجلة الحوار، عدد 9، ص117-118.
(13) الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص79.
(14) تاريخية الفكر الإسلامي، ص299.
(15) الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص191.
(16) تاريخية الفكر الإسلامي، ص299.
(17) المصدر السابق، ص299.
(18) المصدر السابق، ص299.
(19) أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص102.
(20) أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص103.
(21) أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص108.
(22) أركون، الفكر العربي، ص174 ترجمة عادل العوا.
(23) الشنقيطي، منع جواز المجاز، ص8.
(24) الشنقيطي، منع جواز المجاز، ص51.
(25) للتوسع يراجع الفصل الأخير من كتابه " الإسلام أصالة وممارسة " ترجمة د خليل أحمد، وأيضاً مواضع متعددة من " الفكر الإسلامي قراءة علمية ".
(26) رضوان السيد، الإسلام المعاصر، ص190.
(27) رضوان السيد، الإسلام المعاصر، ص190.(35/24)
فن القراءة السريعة
د. مبارك الغربي الشمري
في هذا الزمان الذي يطلق عليه البعض عصر السرعة (صواباً كان أم خطأً)
هناك عوامل عدة تتطلب من الفرد المسلم مضاعفة قراءته وعمل خطة تثقيفية للرقي
بمستواه، ومن هذه العوامل ما يلي:
* الصحوة الإسلامية المباركة في أرجاء العالم الإسلامي والتي رفعت الوعي
الثقافي والتحصيل العلمي لدى جيل الصحوة.
* الارتفاع المطرد في عدد المطبوعات في العالم العربي في شتى المجالات.
* تحسن المستوى الاقتصادي نسبياً مع الانخفاض في أسعار الكتب المطبوعة
باستخدام التقنية الحديثة التي سهلت للكثير اقتناء الكتب وإنشاء المكتبات المنزلية.
* متطلبات الحياة العصرية أجبرت الكثير من الناس على الاطلاع على
الكتب لمعرفة أسرار هذه الحياة.
وعندما نتحدث عن القراءة يجب أن ندرك أنها متعددة الأنواع وتتمحور حول
أربعة فروع رئيسية:
(1) القراءة الثقافية: وتشمل الإلمام بالأولويات من أمور الدين والدنيا بما
فيها الثقافة الشرعية الواجبة على كل مسلم والمعينة له على التزام الطريق الصحيح
في هذه الحياة.
(2) القراءة الأكاديمية (الدراسية) : هذه القراءة تستوجب الفهم المتعمق لعدة
مواد ليتمكن المرء من اجتياز اختبار معين أو الحصول على مؤهل دراسي يعينه
على العمل وتحديد المهنة. والقراءة الأكاديمية لها عدة خصائص منها الإلمام بكل
نواحي المادة المقروءة، وتتميز أيضاً بعدم وجود عامل الاختيار الحر للمادة
المقروءة.
(3) القراءة المرجعية: نقوم بهذه القراءة عندما نرغب في البحث عن
معلومات معينة قد تتطلب الاطلاع على عدة مراجع أو كتب. فعلى سبيل المثال
تكون قراءتنا مرجعية عندما نبحث عن تفسير آية أو معرفة حكم أو صحة حديث أو
عند التحقق من معلومات جغرافية عن بلد معين ...
(4) قراءة المتعة: قد تكون هذه أقل القراءات شأناً وتشمل قراءة الصحف
والشعر وبعض القصص وما شابه ذلك، وهدفها غالباً يكون الترويح عن النفس وللتسلية.
ولا شك أن الدراية بأصول القراءة السريعة سوف تعود بالفائدة العظمى على
الفرد الواعي الطموح الراغب في استغلال وقته على أحسن وجه مهما كان نوع
قراءته. فالسؤال الذي يطرح إذن هو: ما هي القراءة السريعة وما هي مبادئها؟ .
القراءة السريعة - كما يدل عليها اسمها - هي عبارة عن أسلوب للقراءة
تتضاعف به كمية المادة المقروءة في وقت معين مع الاحتفاظ بكامل الاستيعاب.
فالفرد الذي يتقن هذه المهارة بإمكانه في المتوسط اختزال وقت قراءة كتاب معين
إلى الربع أو أقل، وهذا المتوسط يعتمد أيضاً على مستوى القارئ وثقافته ومدى
إتقانه وتدريبه على هذه المهارة، ولكن هناك بعض المبادئ الرئيسية والفرعية التي
بإمكان أي فرد أن يطبقها بنفسه، ويمكن تلخيص بعضها فيما يلي:
أولاً: المبادئ الرئيسية:
أ- مسح المادة المقروءة:
ويتلخص في الأقيام بعملية مرور سريع للتعرف الشكلي على المادة قبل
الشروع الفعلي في قراءتها. فمثلاً عند قراءة كتاب ما يمكن أن تتم عملية المسح
بالخطوات التالية:
* الاطلاع على مقدمة الكتاب والتعرف على أهداف المؤلف من كتابة الكتاب.
* التعرف على أبواب أو فصول الكتاب الرئيسية وعناوينها العريضة
وعلاقة بعضها ببعض.
* إلقاء نظرة سريعة على الأشكال التوضيحية المستخدمة في الكتاب وعلى
الخاتمة.
وكذلك يقال في المقال؛ حيث ينبغي التعرف على الموضوع وعلى الأهداف
والأسلوب العام للموضوع.
وعملية المسح هذه لها دور كبير في التحضير الذهني مما يساعد على سرعة
الاستيعاب وبالتالي على سرعة القراءة.
ب - إتقان أسلوب القراءة المطردة:
اعتاد كثير من الناس منذ الصغر على عملية التراجع لقراءة الكلمة أو الكلمات
مرة ثانية أو عدة مرات وأحياناً السطر بأكمله، وقد تستمر هذه العادة مع الشخص
حتى الكبر مع عدم وجود المبرر لها. فعملية التراجع عند القراءة تؤدي إلى تشتيت
الذهن وإعاقة تسلسل الأفكار لإكمال الصورة وترسيخ فكرة المادة المقروءة. ويعتبر
التراجع من أكبر عوائق القراءة السريعة.
ومن السهل التخلص من هذه العادة بالإصرار على عدم التراجع أو التوقف،
بل محاولة الاستمرار في القراءة، وبالطبع في المحاولات الأولى ستقل درجة
استيعاب المادة المقروءة ولكنها بعد التمرس ترتفع ثانية إلى ما كانت عليه سابقاً أو
أكثر.
ج - استخدام القراءة العينية المنتظمة:
إن عملية الجهر بالقراءة أو مجرد تحريك الشفاه تستغرق وقتاً أكبر وتتطلب
جهداً أكثر ويعتبر ذلك أيضاً من أكبر معوقات القراءة السريعة؛ ولذا يجب اجتناب
تحريك العينين بدرجة كبيرة بين بداية السطر ونهايته وباعتياد ذلك يتوسع مدى
العين وتتمكن من التقاط كلمات السطر في نظرة واحدة وبصورة منتظمة ومتتابعة
لكل سطر أو لكل مجموعة من الكلمات. ولا يمكن تحقيق هذا إلا بعد التخلص
نهائياً من عملية التراجع السابقة الذكر عند القراءة. فتطبيق هذه العملية سيريح
العين وينظم حركتها وسيؤدي في الوقت نفسه إلى مضاعفة سرعة القراءة.
د- التعايش مع المادة المقروءة:
هذا المبدأ مرتبط بسابقه، ويعني التركيز التام ومحاولة التعايش الخيالي في
جو الفكرة وربط أجزائها ببعض للوصول إلى الصورة النهائية لمفهوم الموضوع
المقروء. وهذا العنصر له مردود كبير أيضاً في سرعة استيعاب الفكرة وترسيخها
في الذهن بالإضافة إلى زيادة سرعة القراءة.
ثانياً: العوامل الفرعية:
هناك أيضاً بعض الصعوبات التي تبدو وكأنها قليلة الأهمية، ولكن لها دور
كبير منها:
أ - الجلسة الصحيحة:
عند القراءة يجب الجلوس جلسة صحيحة ومريحة بدون الاسترخاء التام؛
حيث إن الجلسة الخاطئة تعيق الدورة الدموية التي تؤدي إلى تدني سرعة الاستيعاب، أما الاسترخاء فيفقد التركيز. ولكن يمكن استغلال وقت الراحة والاسترخاء
لقراءة المتعة والتسلية التي لا تتطلب كثيراً من التركيز وليست ذات أهمية كبرى.
ب - اختيار الوقت والمكان المناسب:
يجب اختيار الأوقات التي تناسب نوع القراءة؛ فالقراءة الثقافية والأكاديمية
تتطلب أن يكون القارئ نشطاً كالصباح الباكر، وبعيداً عن الضوضاء والمقاطعات، وفي مكان تتوفر به التهوية والإضاءة المناسبة.
ج - تحديد مدة القراءة:
قبل الشروع بقراءة كتاب معين يجب تحديد طول الوقت المناسب لإكمال
قراءة الكتاب؛ فوجود عامل الضغط له أثر نفسي في رفع مستوى وسرعة القراءة
كنتيجة لتحديد الوقت.
وأخيراً - عزيزي القارئ - قد تتساءل عن مدى إمكانية تطبيق هذه المبادئ،
ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نتذكر بأن النشاط البدني الرياضي
يحتاج إلى التدريب والتمرين؛ لذا فإن فن القراءة السريعة من السهل جداً إتقانه،
ولكن بالتطبيق والتدرج.(35/35)
ظواهر
أصنام عصرية
محمد بخات الإدريسي
إن هذه الأصنام العصرية - مع الأسف رياضية - بمعنى أنها ظهرت في
عالم الرياضة، وباسمها وفي ميادينها، بحجة الجمال الجسمي، والكمال البدني،
واللهو البرىء، والتنافس الشريف، والتباري النظيف للترفيه عن النفس بما هو
رياضي، حتى يعيش الإنسان في حياة رياضية، وبذلك ينمو جسمياً ويزكو عقلياً،
إلا أن الرياضيين انحرفوا ومحبيهم انجرفوا، وقد كان هذا الإفساد الذي طرأ على
عالم الرياضة متوقعاً بل كان مقصوداً والبرهان هو التناحر والتقاتل والتنافر
والتعارض والضحايا في سبيل الرياضة وبالأخص كرة القدم.
كنت أسائل نفسي قائلاً وباحثاً: ألم ينحرف الناس من عشاق كرة القدم عن
أهدافها التي تبدو معروفة ومعقولة؟ ألم ينشغلوا بها إلى أبعد الحدود؟ ألم يلهوا بها
إلى حد المبالغة التي أدت إلى إضاعة حقوق وإزهاق أرواح؟ فأين الروح الرياضية
والتغني بها وأين سمو المقاصد منها؟ ؟
ولم يطل التساؤل ولا البحث، ولم أتهم نفسي بعدم التوفيق في وضع النقط
على الحروف، فقد وجدت الجواب المقنع أو بالأحرى الحجة الدالة على وجود
الأصنام العصرية بالأشكال الرياضية من بروتوكولات حكماء صهيون: ( ... إنما
توافق الجماهير على التخلي والكف عما تظنه نشاطاً سياسياً إذا أعطيناها ملاهي
جديدة أي التجارة التي نحاول، فنجعلها تعتقد أنها أيضا مسألة سياسية. ونحن
أنفسنا أغرينا الجماهير بالمشاركة في السياسات، كي نضمن تأييدها في معركتنا
ضد الحكومات الأممية (غير اليهودية) . ولكي نبعدها عن أن تكشف بأنفسها أي خط
ممل جديد سنلهيها أيضاً بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات الفراغ
والمجامع العامة وهلم جرا. وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس
إلى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات: كالفن والرياضة وما
إليهما. هذه المتع الجديدة ستلي ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها
معه) [1] .
هذه الكلمات من البروتوكولات برهنت بها على وجود الانحرافات المرادة في
عالم الرياضة عند المحترفين والهواة على صعيد أي لعبة رياضية، ففي بداية شهرة
الرياضات كان المقصود منها شريفاً وظاهراً للعيان، ولكن بالتدريج تحققت لليهود
الفوائد المرجوة منها كمشروعات من بنات أفكارهم تستهدف القضاء على غير
اليهود بالإضعاف والاستعباد بالوسائل الرياضية، هذا الاستعباد الذي نتج بالتنافس
المريب، والإلهاء الدائم، والتحريض اللامشرّف، والتضييع للأوقات فيما لا يفيد
أو ينفع.
وحتى لا يستمر تجسيم عنصر الشر والفساد في شتى الرياضات أصبح من
الواجب تعليمها بحذر، ومزاولتها بتوجيه، والإقبال عليها بوعي، وبذلك نفوت
على يهود الأغراض التي يريدون منها، ونخيب رجاء حكماء صهيون فيما خططوا
له وابتكروا من وسائل وفنون رياضية تلهي وتضيع بالانشغال بها والانكباب عليها. ولعل الملاحظ المنصف يؤيدني في وجهة نظري هذه إذا تمعن فيما وضحت
واستنتجت خصوصاً إذا مثَّلت له بكرة القدم، هذه اللعبة التي ضيعت أوقات
الصغار والكبار وألهتهم عن معالجة مشاكلهم وتصحيح أوضاعهم وتحسين واقعهم
والتخطيط لمستقبلهم بالأفيد الأهم والأصلح الأعم.
ولكن أين نحن من هذه التحسينات الضرورية والتصحيحات الإصلاحية ما دام
الناس في غفلتهم المعهودة، كل تجمعاتهم عن الرياضة وكل مشاهدتهم لكرة القدم
حتى صاروا أساراها، وكيف لا يكونون ضحاياها وقد سلبت وقضت على إرادتهم
، وضيعت طاقاتهم بالاهتمام والافتتان بها، يحضرون تجمعاتها، ويقبلون على
مبارياتها، ويفرحون للانتصار ويحزنون للاندحار؟ ! وقد بلغ بهم الحب الأعمى
والتعلق بها إلى حضور حفلاتها والتفرغ لها غاية بعيدة، أما تجمعات الدين فقد
غدت مُهمَلة مهجورة.
وما الدين؟ أليس في نظرهم حياة على الهوامش حافلة بالمحظورات، مانعة
للشهوات، مضيعة للفرص مع الرغبات، مضيقة على النفوس، معطلة للطاقات! !
وقد انغمس في الرياضة وغلا في حبها الكبار، بل سلبت عقول الصغار
الذين لا تكاد تجد أحدهم يحادثك عن شيء غير كرة القدم، فهو يهمل ما عداها،
ويقبل عليها لعباً ومشاهدة، ويلم بتاريخها ويعرف مشاهير لاعبيها وفرقها المحلية
والعالمية، وان كلمته بالتدريج عن دينه ظهرت سلبيته فيه، وتجلت إيجابيته في
غيره، فهو مسوق، وهو مقلد، وهو مسحور بكرة القدم، وهو مقدس لها، وذلك
ما استهدفته بروتوكولات صهيون، وهكذا تجد عندهم العلم بأنواع الرياضات
وفرقها وأبطالها مع معرفة أسمائها وأسماء أعضائها المشهورين الذين يحفظون
أسماءهم عن ظهر قلب.. ولكن لا يحفظون فاتحة الكتاب ولا كلمات التشهد! [2] .
إن كرة القدم ومثيلاتها من بنات الرياضة - وبنات النظرة الجاهلية - أصنام
عصرية تجسم ضياع الإنسان العصري كما جسمت اللات والعزى ضياع الإنسان
العربي فيما مضى في جاهلية ما قبل الإسلام.
__________
(1) عن كتاب (الخطر اليهودى بروتوكولات حكماء صهيون) ، ص118 لمحمد خليفة التونسي، طبعة دار الكتاب العربي، عام 1951.
(2) كنت قد قمت بتجربة في هذا الصدد مع جماعة من الشبان فلم أحظ إلا بواحد يحفظ بتذبذب سورة الفاتحة! .(35/40)
شعر
يا حابسَ الفيلِ
مروان كجك
يا حابسَ الفيلِ احبس مجرماً مردَا ... على النفاق قد اختار الأذى جُدَدا
في كل بيت له عين ومِقْصَلة ... هذي تُريعُ وتِلكم تفصِم الكبدا
قد جاءنا ونذيرُ الشر يحمله ... على الأكف، وصوتُ الحق قد جمدا
فهللت لنداه الضحلِ شرذمة ... لم تدرِ أن زمان القهر قد وُئِدا
قد غاب عنها مَنِ الآتي وما دمه ... وصار صوتُ بني الإسلام رجعَ صدى
يا قومُ إن لكم فيمن مضوا عِبَراً ... ما كان جدُّكُمُ خِبًّا ولا حَرِدا
قد كان واللهِ سيفاً مُصْلتاً عبقاً ... بكل طيب، على الرحمن معتمدا
إذا تراءى له شر مضى قُدُماً ... يسابق الريح كي يحظى بما وُعِدا
وإن أتاه بأن القوم قد جمعوا ... له السرايا وجاؤوا كلُّهم عددا
لم يَنههُ عن لقاء القوم ما جمعوا ... ولا التريُّث، أو قلب له ارتعدا
سيروا على نهجه يا قومُ تنتصروا ... ويجعلِ اللهُ من أعدائكم بَدَدا
وتنبت الأرض عدلاً والسماء غِنى ... ويُهْزَمُ الجمع ذو الأعلاج والعمدا
وتسطع الشمس في أنحاكم فرحاً ... برفعة الحق واستخذاء مَن قعدا
يا حابس الفيل شأن المسلمين غدا ... سَفِلاً وشأن بني الطغيان قد سَمدا
ونافخ الكير أضحى سيداً عطراً ... وحامل المسك يا تُعساه قد هُردا
وسارق الكحل من عين مؤرَّقة ... أضحى أميناً يَطِبُّ الحَسْرَ والرمَدا
وخائن العهد قد أضحى أخا ثقةٍ ... وصادق الوعد في الخُوَّان قد حُشِدا
كل الموازين يا ربَّاه قد قلقت ... صارت نتائجها للمسلمين سدى
ضاعت معالمهم فيها وما ظهرت ... لهم مباهجُ أو نصرٌ لهم عُقِدا
فسدِّدِ الله في الدنيا طرائقهم ... واجعل مفاوزهم في العالمين هدى
واقصمْ عدوهم يا رب واقضِ لهم ... بكل خير وكن عوناً ومُلْتَحَدا
واصرف ضراماً تنادى الحاقدون له ... واكشف بفضلك عن أنحائنا الكمدا
واحبس بقدرتك العصماء ما صنعوا ... عنا، ودعْهم حيارى يشتهون ردَى
فقد تمادوا وظنوا أننا صُبُرٌ ... على الأذية، حِملانٌ لهم بُلَدا
سيعلم الجمع منهم مَن نكون غداً ... إذا انتضينا سيوفاً تنشُدُ القَوَدا
سيعلم الجمع منهم أننا نُجُبٌ في ... أرضنا الصدقُ والإسلام قد وُلِدا
ذاك الفرات وهذا النيل يرفده ... نِعْمَ الرفادة والإرواء يا بردى
وماء زمزمَ ما ينفكُّ ذا عبقٍ ... يروي الجموع إذا ما الماء قد نفِدا
فاحبس بفضلك يا رباه كل فتىً ... على الخسائس والإرجاف قد مردا(35/43)
شؤون العالم الإسلامي
لماذا قطعت أمريكا مساعداتها عن باكستان؟
أحمد موفق زيدان
أعلنت الإدارة الأمريكية في الأول من أكتوبر الماضي قطع مساعداتها
العسكرية عن باكستان بذريعة تنامي القدرات النووية الباكستانية، وامتلاك باكستان
القنبلة الذرية التي ستهدد - حسب زعم أمريكا - السلام الدولي في المنطقة! ، كما
تذرعت أمريكا بمسألة الانتخابات الباكستانية التي لابد لها أن تكون بصورة عادلة
ونزيهة. وقد تزامن هذا القطع - الذي تصل قيمته سنوياً حوالي 600 مليون دولار
- مع الحشود الهندية المتنامية على الحدود الباكستانية، واشتداد الوضع في كشمير
المحتلة، وقد عوَّدت أمريكا باكستان على التخلي عنها في الأوقات الحرجة
والعصيبة، مثل قطع مساعداتها عنها في سبتمبر عام 1965 أيام الحرب الهندية
الباكستانية، وفي عام 1971 أيام انفصال بنغلاديش، بتواطؤ الثلاثي الهندي
الروسي الأمريكي، كما قطعت مساعداتها عام 1978 بعد وصول ضياء الحق
للسلطة في يوليو عام 1977، وتذرعت آنذاك بأن القانون الأمريكي يمنع دعم أي
دولة تطيح بنظام ديمقراطي، وتحل محله نظاماً عسكرياً، ما لم يقُم الأخير بعقد
انتخابات شعبية في فترة أقصاها ستة أشهر من وصوله للسلطة.
ولكن البقاء للمصلحة، فقد تلاشى هذا القانون الأمريكي عندما فرضت
المصلحة الأمريكية استئناف دعمها لباكستان بسبب غزو الاتحاد السوفييتي يوم 17
من ديسمبر 1979 لأفغانستان، واستمر هذا الدعم لباكستان على مضض،
واستفادت باكستان من الظروف الدولية هذه في تطوير منشآتها وقدراتها النووية.
ويأتي قطع الدعم الأمريكي متزامناً مع الوضع الاقتصادي المتردي والمتدهور
في البلاد، خاصة وأن البلاد ستخسر من جراء غزو العراق للكويت ما يقارب
بليوني دولار سنوياً؛ بسبب عودة العمالة الباكستانية من الكويت، والبالغة 100
ألف عامل. وانتهت بذلك مسألة التحويلات، إضافة للارتفاع الحاد في سعر
البترول. وكانت باكستان تعد ثالث أكبر دولة في العالم تتلقى مساعدات أمريكية بعد
(إسرائيل) ومصر.
تشجيع يهودي:
لعب وما يزال يلعب عضو الكونغرس الأمريكي (ستيفن سولارز) - رئيس
الهيئة الفرعية لشؤون آسيا والمحيط الهادي في الكونغرس الأمريكي - دوراً
محورياً في تشجيع الإدارة الأمريكية على قطع مساعداتها عن باكستان. وينحدر
ستيفن سولارز من ولاية فرجينيا الأمريكية وهو لا ينسى دور الهنود المنتشرين في
هذه الولاية والذين أوصلوه إلى منصب عضو في الكونغرس الأمريكي، وبهذا لابد
من قربان يقدمه قبل الموعد المقرر للانتخابات الأمريكية القريبة.
قدم ستيفن سولارز - الذي يتمتع بصداقة وطيدة مع بي نظير بوتو رئيسة
وزراء باكستان المعزولة منذ أيام دراستها في أمريكا - في 19 من سبتمبر المنصرم
عريضة يناشد فيها الرئيس الأمريكي بوش بقطع الدعم عن باكستان بسبب
محاولاتها المستمرة والدؤوبة في تطوير أسلحتها النووية!
وفي 8 من أكتوبر قدم 52 عضواً من أعضاء الكونغرس الأمريكي ورقة
لجورج بوش يحذرون فيها بقطع المعونات كاملة - عسكرية كانت أو غير عسكرية
- عن باكستان ما لم تعقد الانتخابات بشكل نزيه، والآن وبعد أن عقدت الانتخابات
ماذا سيكون رأي هؤلاء الأعضاء؟ ، خاصة وبعد أن أثبت تقرير المراقبين
الدوليين المحايدين والمشرفين على الانتخابات من 45 دولة أن الانتخابات عُقدت
بشكل نزيه وعادل ولم تتعرض للتزوير والتزييف كما ادعت بي نظير بوتو رئيسة
الوزراء.
واستهدف قطع الدعم العسكري عن باكستان في هذه الظروف العصيبة إطلاق
يد جارها العملاق المتنامي الهند، وإلا فلماذا يستمر الدعم الأمريكي للهند ولا أحد
يسألها عن تفتيش منشآتها النووية؟ ! كما يتذرع بهذا الرئيس الأمريكي الذي يدّعي
أنه لابد أن يثبت سنوياً في شهادته أمام الكونغرس بأن باكستان لا تملك أسلحة
نووية، وهو أمر صعب نفيه الآن كما يقول! .
ولماذا الكيل بمكيالين أو الوزن بميتزانين؟ فلماذا لا يتم التفتيش على المنشآت
النووية الهندية إن كان القصد حقيقة هو السلام المنشود أم أن السلام لا يكون إلا
بتسليم الضحية لجزَّارها دون إبداء أية مقاومة أو دفاع عن النفس؟ !
وقد أعرب زاهد (سر فراز) وزير الداخلية الباكستاني في الحكومة الانتقالية
الفيدرالية عن استعداد بلاده لفتح المنشآت النووية الباكستانية للتفتيش وتوقيع اتفاقية
عدم انتشار الأسلحة النووية إن طُبق ذلك على الهند. وإلا فكيف يمنعوننا من الدفاع
عن أنفسنا مقابل قوة كبرى مصغرة وهي الهند وتجاورنا بحدود طويلة؟ ! كما قال
فراز.
وعندما سئلت مارغريت تاتويلر متحدثة الخارجية الأمريكية عن امتلاك
باكستان للقنبلة النووية أجابت: (ليس لدينا أدلة على أن باكستان تملك أسلحة نووية) . وجاء بعدها مقال (واشنطن بوست) التحريضي الذي ذكرت فيه أن باكستان سعت لدى دول عدة من أجل شراء مواد تساعدها على تصنيع أسلحة نووية، ولو عاملنا الأمريكان بما يقولونه فكيف يسمحون لأنفسهم أن يقننوا قانوناً جديداً وهو أن (كل شخص متهم حتى تثبت براءته) ، أليس هذا يخالف ما اتفق عليه البشر؟ .
فإن كانت تاتويلر ليس عندها أدلة على امتلاك باكستان للأسلحة النووية فكيف
يبررون قطعهم للدعم بهذه الحجج المصطنعة؟ .
تواطؤ دولي:
وصف سردار عبد القيوم خان رئيس كشمير الحرة ستيفن سولارز - في مقال
له مطول في إحدى الصحف الباكستانية - بأنه ليس حريصاً على الديمقراطية في
باكستان، وأن إظهار تأثر أمريكا على الديمقراطية في باكستان هو محض إذعان
للإخراج الهندي لهذه التمثيلية.
وقد تزامن قطع المساعدات الأمريكية عن باكستان مع هجوم شديد من راديو
موسكو على التحالف الجمهوري الإسلامي الذي فاز أخيراً بالانتخابات، وعلى
الجيش الباكستاني؛ لأن الجميع يدرك قوة الجيش الباكستاني وأنه الوحيد الحريص
على مصلحة باكستان العليا وقد تباكى الهنود ونظام كابل العميل كثيراً على سقوط
بي نظير بوتو عندما أعلنوا أن الديمقراطية في خطر! .
لماذا وافقوا على بي نظير؟
المتتبع للإعلام العالمي وأحاديث سياسيه منذ مجيء بوتو وحتى الآن يلحظ أن
توافقاً مشبوهاً قد تم ومازال على رفع شخصية بوتو، فلماذا كل هذه الدعاية
الإعلامية والتباكي عليها مع أنها أعلنت منذ مجيئها للسلطة في أواخر عام 1988
بأن باكستان لا تملك قنبلة ذرية ولا تسعى للحصول عليها كما أبدت في لقاء لها مع
مجلة هندية (إنديا تُوداي) استعدادها لفتح أبواب المنشآت النووية الباكستانية من
أجل تفتيشها! .
إن بي نظير شخصية طموحة للسلطة وحسب، وتريد التمسك بكرسي
الزعامة ولا يهمها قوة باكستان وهيمنتها، ومستعدة للتضحية حتى ولو على حساب
أهم أسرار الدولة في سبيل البقاء في السلطة، وطالب سردار عبد القيوم خان
رئيس كشمير الحرة أخيراً بمحاكمة مسؤولي الاستخبارات العسكرية أيام بي نظير
بوتو والذين كانوا من حزبها؛ لأنهم سربوا أسراراً خطيرة - كما وصفها -
للمخابرات الهندية أثرت على مجاهدي كشمير ونشاطاتهم.
ومقابل هذا نشط الجيش الباكستاني في تطوير قدراته الدفاعية، حيث تسربت
معلومات أخيراً عن قيام الخبراء الباكستانيين بتصنيع رؤوس نووية يمكن لطائرات
ف16 أن تحملها، وقد صنعت باكستان خلال فترة قصيرة عدة صواريخ طويلة
المدى ودبابة، وقمراً صناعياً، وهذا لا يروق للأمريكان ولا للهنود حيث إن من
أهم معالم السياسة الأمريكية هو الاستئثار بالتصنيع الحربي، والهيمنة العسكرية،
والتقدم النووي.
وهنا نسجل الجهد الذي بذله الرئيس الراحل ضياء الحق مع رفاق دربه الذين
قُتلوا معه في حادث تحطم طائرته في 18 من أغسطس عام 1988 - بالإضافة
لقادة الجيش الحاليين - جهدهم الذي بذلوه في هذا الصدد، وقد وصف وزير المالية
الباكستاني الأسبق - أيام ذو الفقار علي بوتو - الدكتور مبشر حسن ويعتبر أحد
زعماء حزب الشعب مسألة قطع أمريكا لمساعداتها عن باكستان بأنها نعمة ورحمة
على الباكستانيين.
فكيف لا تفضل أمريكا بي نظير على غيرها خاصة بعد أن كشفت الصحافة
الباكستانية عن الرسالة التي وجهتها لكابريت عضو الكونغرس الأمريكي وزميلها
في الدراسة أيام أمريكا والتي تقول فيها: (إنني سأكون ممتنّة جداً إذا تم إيقاف
الدعم العسكري والاقتصادي لباكستان (كانت الرسالة قبل وقف المساعدات) كما
أكون شاكرة إذا تم إيقاف الدعم عن باكستان من البنك الدولي والوكالات الدولية
الأخرى، ويرافق هذا تجميد الودائع الباكستانية حتى عودة الحالة الطبيعية لباكستان، وعندما كنت رئيسة للوزراء كان التفتيش مستمراً على المفاعل النووي ولكن لا
أعرف خطة الحكومة حالياً!) ، ثم تخاطبه بقولها:
(عزيزي، استعمل نفوذك لدى رئيس الوزراء الهندي سنغ من أجل إشغال
الجيش الباكستاني في مناوشات وحرب مع الهند) كما طلبت منه في الرسالة أن
يستعمل ستيفن سولارز صلاحياته ونفوذه لدى الرئيس بوش للضغط على إسحق
خان والجيش الباكستاني.
وعلى الرغم من نفي بي نظير وكابريت للرسالة إلا أن الظروف الباكستانية
والأمريكية وعلاقات بي نظير مع كابريت أو غيره تُبقي مجالاً للقول بصحتها.
موقف الجيش والحكومة:
عبر عدد من قادة الجيش ومسؤولي الحكومة عن امتعاضهم للتصريحات
والتصرفات الأمريكية الأخيرة، وقال الجنرال أسلم بيغ قائد الجيش الباكستاني بأنه
لا بد من استلهام الدرس الأفغاني في الاعتماد على الذات مهما كانت التكاليف باهظة، وأضاف بيغ يقول: (إن باكستان بالتأكيد قررت اليوم ألا تساوم على المبادئ
مهما كانت النتائج) .
وصرح سر فراز وزير الداخلية الفيدرالي: (إن باكستان ليست الولاية 52
الأمريكية حتى يتصرف بها بوش كما يشاء، وإننا لسنا محمية أمريكية ولكننا دولة
مستقلة) ، وأضاف في مكان آخر: (إذا لم تُعِدْ أمريكا استئناف مساعداتها لباكستان
فسنضطر إلى إنهاء العلاقات التقليدية معها، وإننا واثقون بأن باكستان ستقف على
أقدامها بما يتوفر لدينا من مصادر وإمكانيات ولا نستطيع العيش تحت رحمة القوى
الكبرى) .
وكان على باكستان أن تدرس بعناية مسألة الانفراج الدولي أو ما يسمى
بالتوافق الدولي على مصالح المسلمين، وانعكاسات البيروسترويكا التي بدأت تظهر
بوضوح أنها ضد المسلمين فقط. وهل ستعتمد باكستان على نفسها فعلاً أم أن
التصريحات للاستهلاك أو لفترة معينة ثم تعيد أمريكا ضخ مساعداتها ونعيد علاقاتنا
معهم من جديد؟ ، فهل عداوتنا معهم مرتبطة بمصلحة آنية من دعم عسكري أو
اقتصادي أم أن الأمر أبعد من هذا؟ !
ولو تبرع كل باكستاني بروبية واحدة يومياً ولمدة ستة أيام لجمعت باكستان
أكثر من المبلغ الذي تدعمها به أمريكا وهو 600 مليون دولار ولانتهت بذلك
الهيمنة الأمريكية علينا نحن المسلمين؛ فمتى سندرك ذلك؟ !(35/46)
دروس من انتخابات الجزائر
عبد المنعم جمال الدين
تعددت ردود الفعل تجاه نتائج الانتخابات البلدية التي أُجريت في الجزائر
والتي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأكثر من 55 % من الأصوات بينما لم
يحز حزب (جبهة التحرير) الحاكم منذ ثمانية وعشرين عاماً - إلا على 22% ...
تقريباً من الأصوات. ويمكن تلخيص ردود الأفعال هذه في كلمتين: قلق وفرح،
قلق من أعداء الإسلام، وفرح من المسلمين.
وقد أرجع القلقون شعورهم إزاء فوز الإسلاميين لأسباب تعددت بتعدد
مصادرها، فعامة الغرب يخشون من تهديد الإسلاميين لمصالحهم في الجزائر كما
يخشون من علو المد \الإسلامي - تأثراً بالجزائر - في سائر المنطقة العربية مما
يهدد مصالحهم - حسب ظنهم - فيها. [1]
أما رجال الأعمال الغربيون فقد عبروا عن قلقهم لما يعنيه هذا الفوز من
مخاطر - لم يحددوها - على استثماراتهم التي كانوا يزمعون توجيهها إلى الجزائر، فضلاً عن قلقهم على القروض المستحقة على الجزائر. [2]
وبعد ذلك تأتي المخاوف الداخلية والتي تعد امتداداً للتفكير الغربي حيث عبر
عنها محليون - التابعون للغرب فكرياً - نيابة عنه، ويمكن تلخيص هذه النوعية
من المخاوف في ثلاث نقاط هي:
1- أن الإسلاميين يمثلون العصور الوسطى المتخلفة بظلام جهالتها. [3] ...
2- أن الإسلاميين سيهددون الحريات وحقوق الإنسان. [4] ...
3- أن الإسلاميين سيهددون حقوق المرأة. [5]
وهذه المخاوف المتعددة لا تمثل نشازاً في موقف الغرب - وأتباعه المحليين
- من الحركة الإسلامية فهي متسقة تماماً مع مواقفهم عبر تاريخنا الحديث
والمعاصر، كما أن رد الإسلاميين على هذه المخاوف لم يشذ هذه المرة، بل ظل
متناغماً مع مواقفه السابقة، إذ ظل الإسلاميون - طوال تاريخهم الحديث والمعاصر
- فريقين إزاء هذه الاتهامات:
الفريق الأول: لا يبالي ولا يرد، وأكثرهم من الملتزمين بأصول أهل السنة
والجماعة اعتقاداً واستدلالاً.
الفريق الثاني: يحاول أن يرد، فيتخبط في رده، فتارة يأتي خطابه مبهماً لا
يفي بالغرض ولا يكفي إلا لتثقيف الأتباع، وتارة أخرى يأتي منحلاً من الالتزام
بالمنهج الإسلامي الصحيح حسب أصول أهل السنة والجماعة.
ولتتطور الحركة الإسلامية نحو الأفضل لابد من تطوير موقف فريقي الحركة
الإسلامية. فيتعين على الفريق الأول أن يعي طبيعة العصر ومطالبه وتحدياته فيعي
الواقع بكل جزئياته جيداً، وبتمثل الشرع الحنيف بأفق متسع فيُنزِل أحكامه الحكيمة
وتشريعاته الرحيمة على الأحداث المتجددة دون تشدد غالٍ، أو ترخص جافٍ.
ويتحتم على الفريق الثاني أن يزيد من وعيه بالواقع ومتطلباته مع التركيز
الخاص على دراسة أصول أهل السنة والجماعة دراسة عميقة في مجال الاعتقاد
وأصول وقواعد الاستدلال والاستنباط، وذلك حتى يتسنى لهم الانضباط بالشرع
أثناء استجاباتهم لتحديات العصر.
ثم يجب على الفريقين - حينئذ - أن يترفعا عن أن تكون حركاتهم مجرد
ردود أفعال، حيث الفعل من نصيب أعدائهم ورد الفعل من نصيبهم، وذلك الترفع
لا يعني عدم التجاوب مع الأحداث بل يعني صنع هذه الأحداث والتحكم فيها، ولن
يتم ذلك إلا إذا أخذوا بزمام المبادرة بأن يضعوا تصوراً متكاملاً لأهدافهم النهائية
والمرحلية، ويحددوا لكل منهما وسائل عبر خطط مفصلة ذات برامج زمنية قصيرة
ومتوسطة وطويلة المدى.
حينئذ تكون الأفعال المختلفة بناءً على دراسات شرعية وواقعية، بحيث تدفع
أعداءها إلى ردود الأفعال النافعة لأهداف الحركة الإسلامية.
ويدخل في نطاق هذه الدراسات الإسلامية حول مجالات الحياة الدنيوية
النظرية من مثل ضوابط المعرفة، وحدود العقل ومجالاته، وعلاقة الإنسان بعالم
الأسباب، والعلل الكونية ومعلولاتها، ثم تنتقل هذه الدراسات إلى مجالات يبتعد
أثرها قليلاً عن المجال النظري من مثل حقوق الإنسان وواجباته، ويدخل في هذا
الموضوع موضوع حقوق المرأة وواجباتها باعتبارها إنساناً، ويدخل في هذا المجال
- المجال الأقرب للواقع العملي - دراسة الواقع الدولي وكيفية التعامل معه، والنظم
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الإسلامية.
إن إتمام دراسة هذه المسائل وأمثالها دراسة شرعية وواقعية من المنظور
المذكور آنفاً يؤدي إلى منافع جليلة جداً نلخص أهمها فيما يأتي:
1- تنظيم عقلية المسلمين عامة والدعاة منهم خاصة بأسلوب علمي إسلامي
يمكِّنهم من القيام بأدوارهم على أكمل وجه ديناً ودنيا، مما يعود بالنفع على قضية
الإسلام في المجال التطبيقي العملي عندما تسنح الفرص لذلك.
2- هذه الدراسات ستمثل الزاد الرئيسي - إن لم يكن الوحيد - لإتمام وعي
المسلمين عامة والدعاة خاصة بحقيقة الإسلام المراد تطبيقه مما يحُول دون الالتفاف
حول إرادتهم واستغلال آمالهم من قِبَل بعض دجاجلة السياسة ومغامريها لتحقيق
شهواتهم السلطوية.
3- هذه الدراسات ستلعب دوراً رئيسياً وفعالاً في تربية الجيل المسلم الجدير
بتأييد الله - عز وجل - لأن التصورات الإسلامية في مجال المعاملات تعتمد على
أحداث الواقع، وتتجدد الاستنباطات المتعلقة بها بتجدد جوانبها الواقعية، مما يعني
أن جمودنا واعتمادنا على ما كُتب في عصور سالفة في بعض مسائل هذا المجال -
هو من قبيل الخطأ العلمي [8] ، كما أن بعض المسائل المتعلقة بالواقع - واقع
الإنسان أو واقع الأشياء - في العبادات لا سيما القلبية منها تحتاج إلى تجديد فهمنا
لها عبر النصوص الشرعية الملزمة مباشرة من منظور واقعنا الذي نعيشه يومياً
لإحداث التكييف الشرعي اللازم في حياتنا حتى يمكننا الاستفادة منها إلى أقصى حد
لتحقيق هدفها وهو تزكية النفس، ثم برضاء الله (عز وجل) .
4- ستؤدي هذه الدراسات إلى زيادة إيمان عامة المسلمين لتقديمها للنموذج
المرجو من الحياة الإسلامية المعاصرة، مما يدفعهم لمعرفة حقيقة الإسلام وحقيقة
الجاهلية المعاصرة؛ فيتميز الحق عن الباطل، ويزيد إيمانهم بالحق وهجرهم
للباطل.
5- سيؤدي عرض هذه الدراسات لتصورات الإسلام للحياة الدنيا إلى دفع
المنصفين من غير المسلمين إلى البحث في الإسلام والتعرف عليه، ثم الإيمان به،
كما سيدفع بعض أعضاء معسكرات المحاربة إلى معسكرات الحياد على الأقل،
وسيخفف من حدة عداوة بعض الأعداء، وكل مكسب من هذه المكاسب لا يستهان
به.
6- إن هذه التصورات هي حجر الزاوية، بل هي الأساس الذي ينبغي أن
يقوم عليه أي بناء إسلامي مجتمعي وسياسي قادم؛ لأن مشكلة الأمة الإسلامية لا
تكمن في غياب السيطرة السياسية للمسلمين بقدر ما هي أزمة التزام بالشرع ثم أزمة
حضارية، فلابد من إصلاح كلا الجانبين بقدر غير يسير قبل قيام صرح المجتمع
والدولة الإسلاميين.
وأخيراً ... فإن كل نقطة من هذه النقاط جديرة بأن تفرد بالدراسة، فلعل الله
يوفقنا إلى ذلك في مناسبة أخرى ونكتفي هنا بالإجمال خشية الإطالة ولكننا نختم
مقالنا هذا بالتأكيد على الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة كعقيدة وأصول استنباط
واستدلال وبحث مع إدراك حقيقة الواقع وتحدياته حتى نتجنب المزالق الحالية التي
هي مظنة الوقوع فيها من قبل الكثيرين.
__________
(1) تقرير لرويتر عن انتخابات الجزائر يوم 12/6/1990، 17/6/ 90.
(2) تقرير لرويتر عن انتخابات الجزائر يوم 12/6/1990، 17/6/ 90.
(3) حديث لأحدهم طيَّرته رويتر يوم 12/6/1990، وبيان جبهة التحرير الوطني أذاعته إذاعة لندن العربية يوم 18/6/1990.
(4) من (رويتر) تقرير يوم 12/6.
(5) نفس المصدر السابق وتصريح لمسؤولة جزائرية نشر أو أذيع وقتها.
(6) ورد ذلك في حديث مع رويتر طيرته يوم 12/6/1990.
(7) رويتر 14/6/1990.
(8) يلاحظ مثلاً في بعض المسائل السياسية، من مثل حقوق الحاكم، وواجباته، وكيفية تنصيبه، والضوابط والكوابح التي ينبغي أن تمارَس عليه من قبل رعاياه فما زال كُتاب الحركة الإسلامية ينقلون فتاوى علماء السلف المتعلقة بواقع مختلف - والفتتوى تتغير بتغير الواقع - ولا نجد محاولة إيجابية جيدة لاستنباط الأشكال الملائمة لواقعنا وفقاً لأصول أهل السنة والجماعة، ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن العدد الأكبر من الفتاوى في المسائل المذكورة آنفاً كان من قبيل التقنين الشرعي وأحياناً التبرير للواقع المفروض قسراً ترجيحاً لمصالح ودرءاً لمفاسد رآها علماء ذلك العصر.(35/53)
ماذا بعد موقعة الخليج؟ !
محمد محمد بدري
(تعودنا من أعدائنا تواضعاً لا حاجة لنا إلى شرح دوافعه الخبيثة، فنراهم لا
يضعون توقيعهم على ما يصنعون، فهم يهيئون كل ما يقلب الوضع رأساً على
عقب، يضعون القنبلة ثم ينسحبون بكل تواضع، تاركين لسواهم مهمة تفجيرها
أمام العدسات الكبيرة وأجهزة الإعلام والإذاعة! ! فأعداؤنا يوظفون دائماً مَن يضع
توقيعه على أعمالهم) . [1]
أولاً: حتى لا نُخدَع:
لابد أن نفكر في (الغد) بنفس الدرجة التي نفكر بها في (اليوم) هذه حقيقة.
لكنا لابد أن نعلم أن هذا وذاك من كلا التفكيرين - لن يكون مؤدياً إلى الوعي
الإسلامي الذي لا يُخدع إلا إذا كانت معطيات (الأمس) كلها أمام أنظارنا..
فمعطيات (الأمس) هي المقدمات لحقائق اليوم، وهذه الحقائق هي جذور المستقبل، ومن معطيات الأمس:
دور النخبة العسكرية:
كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود أعداء الإسلام - عن
مواجهته جهرة إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر.. لجأوا إلى إقامة أنظمة
وأوضاع في المنطقة كلها تتزيَّا بزي الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين
جملة، ثم هي تحت هذا الستار الخادع - تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها
مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى
الطويل [2] .
وهكذا ظهر في (اللعبة السياسية) عنصر جديد في حرب الإسلام هو
(الانقلابات العسكرية) عن طريق شرذمة من العسكريين الذين أُشربوا في ... قلوبهم ثقافة الغرب وتربوا على يديه ونشأوا في كنفه ورعايته! !
يقوم هؤلاء (بثورة) لتخليص شعوبهم من الظلم إلى العدل ومن الاحتلال إلى
الاستقلال - بزعمهم - فتتحقق معادلة الأعداء الشيطانية باستقلال سياسي شكلي
وتغييرات اجتماعية محدودة مع تركيز السلطة في يد فرد مستبد لتكون النتيجة حكماً
عسكرياً يقوم بتصفية الحركة الإسلامية.
وقد قام الأعداء بصنع الكثيرين من زعماء النخبة، وكلما نفق منهم فرد دفعوا
بالآخر إلى مسرح الأحداث.
وقام أفراد (النخبة العسكرية) يثيرون في شعوبهم النعرة القومية، ويتحدون
الغرب في الظاهر! ! ثم هم تحت هذا الستار الخداع ينفذون لأعداء الإسلام كل
مخططاتهم. وفي الجانب الآخر قام هؤلاء (العملاء) بتخريب اقتصاديات بلادهم
وأبقوا عليها في حالة فقر وتخلف وبالتالي تبعية للذين كانوا يستعمرونها! . ثم
خرج زعماء النخبة العسكرية على شعوبهم بمقولات مفادها (الرضا بالأمر الواقع)
و (التعايش مع الغرب) ! ! ويا لها من خدعة خبيثة مجملها (إثارة النعرات القومية
وتخريب الاقتصاد ثم الوصول إلى الأمر الواقع ثم طلب التعايش مع الذين رفضتهم
الشعوب وطلبت الاستقلال عنهم في فترة من الفترات) .
وهكذا يعيد زعماء (النخبة العسكرية) البلاد الإسلامية هدية متواضعة
لأسيادهم في الغرب، أولئك الأسياد الذين يَدين الانقلابيون - زعماء النخبة
العسكرية - بالعبودية لهم. [3]
الحروب المصطنعة:
(إمعاناً في الخداع والتضليل، وإمعاناً من الصهيونية العالمية ... والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروباً مصطنعة باردة أو ساخنة، وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة! تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة، ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد) . [4]
وقائع ودروس وعبر الماضي تكشف لنا وجه الحقيقة وتعطينا المناعة
السياسية إذا صح التعبير ضد الخداع والتضليل.
(ففي عام 1956 م قام وزير الخارجية الأمريكي دالاس بسحب عرض بناء
السد العالي مما دفع النظام الناصري إلى تأميم القناة، وعلى أثرها قام الاستعمار
الإنجليزي والفرنسي واليهودي بالاعتداء على مصر) .
ثم ماذا؟ ثم تضغط أمريكا على إنجلترا وفرنسا و (إسرائيل) وتطالبهم
بالانسحاب على هيئة قرار من الأمم المتحدة (متى كانت قرارات الأمم المتحدة
تُحترَم؟ !) .. وتنسحب تلك الدول مع ضجة إعلامية ضخمة تعزو الانتصار إلى
ذكاء القيادة السياسية، وتجمّل وجه أمريكا التي تعمل لصالح الأمم والشعوب
الصغيرة! ! ثم ماذا؟ ثم بما أن النظام الناصري قد انتصر فإنه يمكنه ممارسة
القمع بلا حدود.. فيضرب أساس الفكر الإسلامي، ويحاول استئصال كل أثر
للإسلام في حياة الناس، ومطاردة كل مسلم حتى كان الناس يخافون أن يذهبوا إلى
الصلاة.
ومن بعد عبد الناصر جاء السادات وكانت حرب 1973م وما إن بدأت
الحرب حتى بدأت القيادة السياسية في تكبيل رجال القوات المسلحة، ثم تم اختراق
تلك القوات من قبل العدو والدخول للضفة الغربية للقناة، وكان مما يدعو إلى
العجب وقتها عدم ضرب ما يسمى (بالثغرة) ! ! .. ولكن وسط الضجة الإعلامية
المضللة ظهر السادات في صورة (البطل) الذي هزم (إسرائيل) ولكنه لم يستطع
هزيمة أمريكا! ! وأنه في سبيل إنقاذ الجيش الثالث سيقبل التسوية مما يعني
الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها! ! وكان هذا هو بداية (تحريك القضية) و (تمرير) التسوية والذي استهدفته الإدارة الأمريكية من هذا النصر التكتيكي. [5]
فكان توقيع اتفاق كامب ديفيد وكان من الطبيعي جداً أن تضرب الحركة
الإسلامية بلا هوادة لأنها هي المعوق الرئيسي أمام الاتفاقية والتطبيع، فكان ما كان
من أحداث دامية واعتقالات واسعة للمسلمين!
وهكذا (فعبور القناة مثَّل بالنسبة للسادات ما مثَّله التأميم بالنسبة لعبد الناصر:
إنجاز ذو أهمية قصوى، يمنح النظام الشرعية المطلقة. وفي كلتا الحالتين فإن هذه
الشرعية كانت تستخدم بالتالي لإخماد صوت المسلمين أو محاولة إخماده) [6]
وتتوالى الحرب المصطنعة من أعداء الإسلام لحلفائهم الذين يؤدون أدوارهم من
داخل الحدود ويسحقون لهم الحق وأهله.
حقيقة المعركة:
من يدقق الطرف ويجيل النظر في تاريخ الاستعمار الحديث لبلادنا يعلم أن
هدف المستعمرين محاربة الإسلام وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية.
ويسرف في الخطأ من يعتقد أن عداوة اليهود وسائر أعداء الإسلام لنا،
وحروبهم ضدنا ستتوقف إذا وجدت الأمم المتحدة حلاً لقضية فلسطين أو لبنان أو
أريتريا أو غيرها.
يسرف في الخطأ من يعتقد ذلك؛ لأنه يكون قد جهل أو تجاهل حقيقة أزلية
أخبرنا بها رب العزة في محكم كتابه الكريم؛ حيث يقول - عز وجل -: [ولا
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] ؛ فسيقاتلنا
اليهود والنصارى والشيوعيون والمجوس وكل ملل الكفر، سيقاتلنا هؤلاء جميعاً
مادمنا مسلمين. [7]
وليعد مَن شاء إلى قول سعد جمعة - في كتابه (أبناء الأفاعي) - أنه سمع
بأذنيه تسجيلاً حياً لهُتاف الجماهير اليهودية حينما وصلت إلى (حائط المبكى) بعد
احتلال القدس عام 1967 وهي تصيح بهوس وجنون: (محمد مات وخلَّف البنات
- اليوم انتهى محمد، اليوم قُضي على الإسلام!) [8] ، فحقيقة المعركة التي
يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة هي
معركة العقيدة، ولكن معسكر الكفر يلونها بألوان شتى، ويرفع عليها أعلاماً شتى،
في خبث ومكر وتورية. فهذا علم الاقتصاد، وذاك علم السياسة، والمراكز
العسكرية، وغيرها.
بينما معركة الأعداء معنا هي أولاً - وقبل كل شيء - لتحطيم تلك الصخرة
العاتية التي نطحوها فأدمتهم جميعاً.. صخرة العقيدة. [9]
(والعالم الحر - المزعوم - هو الصليبية في حقيقة الأمر، وزعامة الصليبية تقع دائماً في يد الدولة الأقوى في العالم الصليبي، فحين كانت هي ...
بريطانيا كانت زعامة الصليبية في يدها، ولما صارت هي أمريكا انتقلت الزعامة
إليها بحكم الأمر الواقع) . [10]
ولكن حقيقة المعركة هي معركة العقيدة، وحقيقة المؤامرة هي مؤامرة على
العقيدة، وهي تتم يوماً بعد يوم؛ فعلينا أن لا نلبَس ثوب الغفلة تجاه هذه المعركة
وتلك المؤامرة، حتى لا نُقاد كما تُقاد الأنعام.
ثانياً: نظرة إلى الواقع:
إن أوربا وأمريكا - أو بمعنى أدق (الغرب الصليبي) - لا يزال على
صليبيته.. بل لقد ازدادت حدة هذه الصليبية في السنوات الأخيرة مع ظهور
الصحوة الإسلامية التي يعتبرها الغرب الخطر المستقبلي عليه، ويدل على ذلك
حرص الغرب على التواجد في المنطقة؛ يرصد تلك الصحوة عن كثب ويحاصرها
.. بل ويتعاون مع الشرق في ذلك فتكون الصحوة الإسلامية هي إحدى قضايا قمة
هلسنكي! !
ويدل على صليبية الغرب أيضاً ما يثار هذه الأيام في الإعلام الغربي حول
أحداث الخليج واعتبارها (موقعة) مع الإسلام، وحديثهم عنها ليس فقط (كهدف)
من أهدافهم بل (الهدف) .. و (نقطة الهدف) مع المسلمين. ونراهم يتحدثون من
الآن عما يكون بعد (موقعة الخليج) من تركيب جديد لمنطقة يسمح لأمريكا أن تقوم
بدور أكبر من الماضي كما صرح (بيكر) وزير الخارجية الأمريكي.
وما هو أصرح من ذلك ما قاله (تشيني) وزير الدفاع: (إنني أعتقد أننا
نكتب فصلاً جديداً في تاريخ القرن العشرين واستراتيجية جديدة وعلامات جديدة
نتيجة ما يستهدف العالم من تطورات وعدم استقرار) ! !
كل ذلك وغيره كثير يؤكد من جديد أن الوفاق بين الشرق والغرب إنما هو
(الوفاق ضد الإسلام) وأن معركتهم ضد الإسلام هي (حقيقة المعركة) .
إن تدمير قوة (الأمة) وارجاعها إلى الوراء ولتنتهي حيث بدأت هو هدف من
أهداف أعداء الإسلام، وقوة العراق كشعب مسلم أمر يخشاه هؤلاء الأعداء؛ ليس
لأن صدام لا يسير في ركابهم - فهذا أمر لا شك فيه - ولكن لأن هذه القوة قد
تصير يوماً لمن لا يسير في ركابهم! !
ولذلك فهم حريصون على تدميرها ويخططون لذلك من وقت بعيد فقد جاء في
مقال نشر في صحيفة (كيفونيم) اليهودية - بتاريخ 14 من فبراير عام 1982م:
(وأما العراق فهو غني بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفككه أهم
بالنسبة لنا من تحلل سورية؛ لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد
لإسرائيل.
وقيام حرب سورية عراقية سيساعد على تحطيم العراق داخلياً قبل أن يصبح
قادراً على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا) ! ! [11]
وهذا يجعلنا نتساءل هل يكون غزو الكويت هو تنفيذاً جزئياً لمخطط خارجي
وهل تمتد المؤامرة إلى تقسيم وتمزيق العراق جغرافياً؟ ! ؛ لتدخل المنطقة مرحلة
الدويلات الصغيرة؟ ! !
وفي ظل هذا الفهم.. هل يمكن اعتبار التصريحات القوية هي لون من ألوان
(الحروب المصطنعة) التي تبعد الشبهة عن العملاء؟ !
وأخيراً.. فإن القوات الأمريكية التي جاءت باسم الحفاظ على الشرعية
الدولية والقانون الدولي.. كان تدخلها سريعاً بل فائق السرعة وشديد الكثافة
والتطور والقوة التدميرية وهو أمر قد يراد منه بث الرعب في نفوس المسلمين
وإشعارهم (بالهزيمة الداخلية) والضعف عن مواجهة الغرب ومدافعته، وهو هدف
بحد ذاته لأنه من يهزمه عدوه من داخله فإنه لا يبقى أمامه إلا أن يصفي الساحة من
فلول عاجزة دون جهد أو تعب..
أمتنا اليوم:
من الواجب على المسلم أن يرى الحياة من خلال واقعه وليس من خلال أمانيه، ولذلك فإنه من العبث أن نستغرق الوقت ونبذل الجهد في محاولة تجميل وتزيين
لصورة واقعنا الذي نعيشه..
فواقع أمتنا اليوم لم يحدث من قبل، (لقد أحاط بنا عدونا وأرهقنا وأوصلنا
إلى مرحلة الشتات والفرقة والهزيمة النفسية والاحباط.. بل والوهن والاستكانة
وفقدان الانتماء للأمة وانعزال كل فرد في داخل نفسه وفي همه الفردي) ، ودخلت
الأمة مرحلة (القصعة) وتداعت عليها الأمم، وأصابها النذير الذي حذرها منه
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
ولسنا نريد أن نساهم في صور اليأس والإحباط التي بلغت مداها في أمتنا
اليوم، ولكنا نريد أن نؤكد أن واقعنا اليوم لا يخرج في حقيقته عن أن يكون نتيجة
طبيعية للمقدمات التي صغناها بأيدينا، فنعرف حقيقة التحدي الذي يواجهنا ونجمع
طاقاتنا النفسية والمادية لتبدأ عملية الإقلاع من جديد.
ثالثاً: ماذا بعد موقعة الخليج؟ !
بعد ما ذكرناه من حقائق، وما كشفناه من مؤامرات، يواجهنا التساؤل الذي ...
لا مفر منه والذي نعتقد أنه قفز ولا شك إلى ذهن القارئ، ما الذي يجب أن نفعله؟ ! كيف نواجه المؤامرة والمتآمرين، ونقطع دابر الغزاة المفسدين؟ ! كيف ننتقل
بأمتنا من التبعية إلى الريادة؟ ومن الاستضعاف إلى التمكين؟ ومن الفرقة والضعف إلى الائتلاف والقوة؟ !
(أظلمكم وأظلم نفسي إذا زعمت أنني وحدي قادر على تحديد الجواب الكافي ...
وتعيين الحل الشافي. أظلمكم وأظلم نفسي لأن القضية ليست قضيتي وحدي، وإنما
هي قضية كل كاتب ومفكر وداعية ينتمي لأهل السنة والجماعة) . بل هي قضية
كل مسلم من هذه الأمة، فالمسئولية عن الإسلام والمسلمين هي مسئولية كل من
شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله على تفاوت في الدرجات بتفاوت
الاستعدادات، والقدرات، والمواقع، والظروف. (فليشارك هؤلاء جميعاً في
وضع الحلول الناجعة لأخطر مشكلة من مشكلات المسلمين في هذا
العصر) . [12]
وإذا كنت عاجزاً عن وضع الحلول لهذه المشكلة فلا أقل من توجيه نصيحة
لإخواني المسلمين، لعلها تكون جزءاً من إطار هذا الحل.
إحياء الأمة:
لابد من الطريق الطويل الشاق البطيء الثمرة (لإحياء الأمة) التي تسند حكم
الإسلام حين تقوم وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن تقوم. ويتم إحياء
الأمة بدعوة التوحيد الواضحة على ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب
الأهواء واختلاط العقائد.
وذلك عبر مراحل:
- (الانتصار للتوحيد) بتصحيح مفهوم العقيدة، وتخليصها مما شابها.
- (ملء الفراغ الديني) بدعوة الناس إلى أن يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام.
- (إحياء التوجه الإسلامي) بالانطلاق بهذا المفهوم انطلاقاً جاداً يتربى خلاله
الأفراد على الأخلاق الإسلامية، وخط سير الإسلام في التعامل مع كل المعسكرات
والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد بشدة من
معسكرات الأعداء.
فلابد من (صفوة) تحمل الحق.. و (أمة) تحمي هذا الحق. (أمة) قامت
على مرتكزات عقائدية ثابتة؛ فصار لها ولاء ثابت، وهوية ثابتة، وشخصية ثابتة، وتوجه ثابت.
وهذه (الأمة) بتلك المواصفات هي التي تغلق - بعون الله - الطريق على
عودة الانقلابيين من زعماء النخبة العسكرية في المستقبل، وبالتالي تخرج من
التبعية للغرب. بل وتقتل طموح الغرب في هزيمة المسلمين.
وهكذا نحن ننطلق من واقع [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ
اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] ؛ لنصل إلى مستقبل [اليَوْمَ يَئِسَ الَذِينَ كَفَرُوا مِن
دِينِكُمْ] [المائدة: 3] وذلك بحول الله وتوفيقه ثم بعملنا على (إحياء الأمة) . [13]
الصف المرصوص:
(من أبرز مشكلات العمل الإسلامي تفرق الجماعات العاملة في الساحة الإسلامية وتمزقها، وقيام بعضها بحرب بعض) [14] ، وبينما أمرنا خالقنا أن لا نختلف كما اختلف اليهود والنصارى؛ فقال - عز وجل -: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] . بينما أُمرنا بذلك يمثل واقعنا اليوم عجزنا عن تحقيق وحدة بين المسلمين كتلك الوحدة أو التعاون الذي حققه اليهود أو النصارى فيما بينهم.. وهذه هي الطامة الكبرى والبلية العظمى؛ فتعدد الاتجاهات إذا تحولت الى حزبية، وأهواء شخصية، ومنافع دنيوية خطر عظيم إذا كان المنتسبون إلى هذه الأحزاب من أهل السنة والجماعة!)
(ولعل ما نعيشه من محنة تكون فرصة للعاملين في الحقل الإسلامي ليوقفوا
التراشق فما بينهم وليعيدوا النظر في مهمتهم، ويدركوا أنهم يحملون أشرف دعوة
ويعملون لأنبل غاية، فيوطنوا أنفسهم، ويعاهدوا الله أن يكونوا بمستوى إسلامهم
وعصرهم فيتخلص العمل للإسلام من التمحور حول النفس والطواف حول
الذات) . [15]
ويدرك الجميع أنه لكي تظهر (الأمة) لابد من ترك الولاء الحزبي الضيق
للجماعات المتفرقة، ولكي تظهر (التضحية) لابد من التخلي عن المكاسب الدنيوية
.. فيتكون لدينا صف مرصوص يؤمن أن الأصل في حياة المسلمين هو الإسلام،
وكل حركة من الحركات أو جماعة من الجماعات هي وسيلة لخدمته، ولا يجوز
بحال من الأحوال أن نضع الوسيلة في مستوى الغاية أو نعطيها مكانها، ونحلها
محلها.
إعداد العدة:
هناك حقيقة أولية لابد أن نتيقَّنها ونحن نتحرك بالإسلام، وهي أن ما نسعى
إليه من أهداف إنما يتحقق بجهودنا وفي حدود طاقاتنا الواقعية.
فنحن مأمورون أن نتعامل مع سُنة الله الجارية وإن كنا لا نكف عن التطلع
إلى رحمة الله في كل لحظة.. تلك السنة التي يقول عنها ربنا - في كتابه العزيز -
[وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] [الأنفال: 60] ، وقال جل وعلا: [هُوَ الَذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنِينَ] [الأنفال: 62] .
وإعداد العدة يشمل جوانب كثيرة، علمية وتربوية واقتصادية، وعسكرية..
وغيرها.
فلابد من إعداد كل فرد في الأمة - إن استطعنا - إعداداً عقائدياً ونفسياً
وتربوياً بحيث يراعي هذا الإعداد فرز (أُولي الألباب) لميادين القيادة وتوظيف
الطاقات تبعاً لقدراتها العقلية واتجاهاتها النفسية واستعداداتها العملية بعيداً عن
مؤثرات العلاقات والروابط الشخصية ومقاييس العصبية والإقليمية والطبقية.
وفي إطار عمل عام يركز على العمل الجماعي وروح الفريق بدلاً من
المبادرات الفردية، ثم تجسيد هذا العمل الجماعي في صورة مؤسسات متخصصة،
فيكون لدينا مجموعتان: مجموعة فكرية ومجموعة تطبيقية.
فأما المجموعة الفكرية فمهمتها ابتكار الاستراتيجيات اللازمة في جميع ميادين
العمل وتطوير هذه الاستراتيجيات حسب متطلبات الزمان والمكان.
وأما المجموعة التطبيقية فتكون مهمتها تنفيذ الجزء المتعلق بميدانها من
الاستراتيجيات التي أفرزتها المجموعة الفكرية.
ولا نود في هذا المكان الاسترسال في تفاصيل هذا الأمر فله موضعه، ولكنَّا
نريد أن نقول إنه ما لم يتزاوج الإخلاص مع الاستراتيجية الصائبة في تعبية القوى
البشرية في الأمة، وإعداد العدة التي أمرنا الله فإن مستقبلنا لن يحمل لنا إلا
الكوارث المتلاحقة التي يرتكبها الطغاة الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
حذارِ من اليأس:
إلى كل المسلمين الذين تؤرقهم حال الأمة، وتقضّ مضاجعهم، أقول: إن
الطريق إلى الخروج من أزمتنا سهل وميسور حين نقوم بإحياء الأمة وتوحيد
الصفوف وإعداد العدة والسير في طريق التغيير.
ومع ما نعيشه من واقع أليم (فنحن على يقين بأن الشدائد والمحن تصنع الرجال، وتبصر الأمة بأعدائها الحقيقيين، وأن اشتداد التحدي يصقل الرجال، ويقيم الحضارات، ويقضي على الخلايا الشائخة الأمة) .
(وقد مر على المسلمين في تاريخهم أوضاع لا تقل سوءاً عن أوضاعنا المعاصرة.. وعندما قيض الله لهم من يقودهم تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، ويقضي على الخونة تحولت هزيمة المسلمين إلى نصر وانحسارهم إلى مد) .
(فالأمل في الله أكبر، والثقة في هذا الدين أعمق وهم يمكرون والله خير الماكرين) .
__________
(1) بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، 101.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، 2/1022.
(3) راجع كتاب (لعبة الأمم) وكتاب (العالم العربي اليوم) لمايلز كوبلاند ومورو برجر.
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب 2/1022.
(5) انظر مذكرات كيسنجر (بتصرف) .
(6) النبي والفرعون، جيلز كيبل، 1297.
(7) رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي، محمد عبد الغني النواوي، 505.
(8) المصدر السابق، 504.
(9) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/108.
(10) واقعنا المعاصر، محمد قطب، 292.
(11) ملف إسرائيل - روجيه غارودي، 164.
(12) الصراع العربي الإسرائيلي، محمد عبد الغني النواوي.
(13) حد الإسلام وحقيقة الإيمان، عبد المجيد الشاذلي.
(14) واقعنا المعاصر، محمد قطب، 525.
(15) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، عمر عبيد حسنة، 171.(35/58)
القوى العظمى تعد لحرب
في الشرق الأوسط كحل للمسألة العربية
بقلم: (Josef Brewda)
مجلة (Eir Feature)
بتاريخ 20 من يوليو عام 1990م
(هذا المقال الذي ننشر ترجمة لبعض فقراته كُتب في مجلة أمريكية قبل ... أحداث الخليج، وفيه إشارات مهمة لبعض الأحداث التي يتوقعها الكاتب، وقد لا نوافقه في بعض توقعاته وبعض تحليلاته، ولكننا ننشر المقال لما فيه من النذر ... بالأخطار التي تهدد الأمة وخاصة من دولة يهود. وبعض نذرها قد هُيئت وندعو ... الله أن لا يتم ذلك، بل نقول: إن شاء الله لن يتم ذلك؛ لأن مقادير الأمم والدول ليست بيد هؤلاء كيف يشاؤون، فقد يخططون لشيء ولكن الرياح تجري بما لا يشتهونه) . ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (التحرير)
تخطط الحكومات البريطانية والأمريكية والسوفياتية لقيام حرب عربية -
إسرائيلية جديدة في الشرق الأوسط، وذلك بهدف فرض ورعاية قيام تحالف
عسكري سياسي بين (إسرائيل) وسورية حتى يصبح أمراً واقعاً وقوة لا تُبارَى في
المنطقة، ولعل القناعة السائدة التي تدور في أذهان الساسة الأنجلو أمريكيين
والسوفيات أن الحرب هي أفضل السبل لبناء مثل ذلك التحالف وتأسيسه كقوة
إقليمية تهيمن على المنطقة، وبالرغم من الإشارات والدلالات المغايرة فإن ...
السياسات الأنجلو أمريكية والسوفياتية ظلت تستهدف - ولفترة طويلة - قيام دولتي ...
(إسرائيل) الكبرى وسورية الكبرى وتهيئتهما لتصيرا قوة إقليمية كبرى في منطقة ...
الشرق الأوسط.
إن قيام حرب شرق أوسطية على طاولة الأحداث لأمر يشير إليه تكوين
مجلس الوزراء الإسرائيلي الأخير الذي ألفه رئيس الوزراء الإسرائيلي وزعيم
الليكود إسحق شامير في الحادي عشر من يونيو الماضي، وما الحكومة الائتلافية
الجديدة إلا حكومة حرب يسيطر عليها الجنرال أريئيل شارون وزير الإسكان،
ورفاقه ديفيد ليفي وزير الخارجية، وإسحق موداعي وزير المالية، وموشي أرينز
وزير الدفاع، وجميعهم توسعيون يرغبون في ضم الضفة الغربية المحتلة رسمياً
وطرد السكان الفلسطينيين متى ما رأوا ذلك ممكناً.
وبلا شك فإن شارون هو رجل النظام القوي وقد سبق له العمل كوزير دفاع
في عام 1982م، وقاد حينها عملية الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان. ورغم أن
منصب شارون الحالي كوزير للإسكان قد يبدو في ظاهر الأمر ليس بالمهم إلا أنه
ليس كذلك، هنا سيقوم شارون بالإشراف على توطين مئات الآلاف من اليهود
السوفيات المهاجرين إلى (إسرائيل) ، وقد بدأ ذلك بالفعل منذ العام الماضي، هذا
بالإضافة إلى قيامه بالإشراف على تنسيق وتسليح حركات الاستيطان اليهودية
السرية التي تنتشر بين غلاة المستوطنين في الضفة الغربية، وستوكل لهؤلاء
المتطرفين مهمة طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية.
أزمة بترولية جديدة:
بينما نعرف أن مقصد القوى العظمى الرئيسي من هذه الحرب هو تدعيم
المحور السوري - الإسرائيلي، فإننا نجد كذلك أن القوى العظمى ترغب في أزمة
بترولية جديدة كتلك التي حصلت في عام 1973م، وذلك لأن ارتفاعاً سريعاً في
أسعار النفط سيعطي السوفيات فائدة كبرى خاصة وهم يعتمدون على النفط ضمن
بعض المنتجات القليلة الأخرى في توفير احتياجاتهم من العملات الصعبة، وسيؤدي
هذا الارتفاع المفاجئ في أسعار الزيت إلى جعْل تطوير وتنمية حقول الزيت
البريطانية في بحر الشمال أمراً ذا جدوى اقتصادية مربحة، إلا أنه سيضع في نفس
الوقت ضغوطاً هائلة على ألمانيا واليابان المستوردين للنفط.
هذا وربما كان أحد أهداف هذه الحرب ومراميها هو خلق سابقة في استخدام
الأسلحة الكيميائية والنووية، وهنا يجب ألا نتجاهل المؤسسات العنصرية السوفياتية
والبريطانية والأمريكية التي تنظر بقلق شديد نحو التكاثر السكاني العربي، وتعتبر
هذه الحرب الناشبة حرباً سكانية ذات تأثيرات مأساوية مفجعة خاصة ما يصيب منها
السكان المدنيين عقب الحرب. والطريقة التي خطط بها الإنكليز والأمريكان
الحرب الأهلية اللبنانية كوسيلة لتفتيت تلك الأمة - تقدم لنا نموذجا جزئياً أو
مصغراً لطريقة تفكيرهم في استخدام الحرب كوسيلة لتخفيض عدد السكان. وفي
هذا المجال يمكننا أن نطلق على هذه الحرب المدبرة (حرب الشمال والجنوب) .
بدأت حكومة شامير الجديدة أعمالها باستهلال مفاوضات سرية مع السوريين
توسطت فيها السفارة الأمريكية بدمشق، واستهدفت هذه المفاوضات التي بادرت بها
(إسرائيل) التأكيد بأن سورية تعلم أنها لن تكون أحد أهداف الحرب الإسرائيلية
العربية القادمة في الأساس، بالإضافة إلى تحديد الأهداف السورية الإسرائيلية
المشتركة. هذا وقد كانت الأرضية المشتركة لهذه المفاوضات أن لإسرائيل وسورية
نفس الأعداء كما أن لهما نفس الأصدقاء.
ويحدد هؤلاء الأصدقاء والأعداء المشتركون الأهداف العسكرية بالإضافة إلى
الطريقة التي قد تندلع بها الحرب، فمثلاً:
منظمة التحرير الفلسطينية:
وهذه لم يعد وجودها مرغوباً فيه سواء من قبل الولايات المتحدة، أو روسيا،
أو (إسرائيل) وسورية، وأن عملية إسرائيلية محدودة في جنوب لبنان أثناء
المرحلة الأولى من الحرب أو قبلها - لَكفيلة بإبادة جيش المنظمة (12) ألف رجل
المتمركز في منطقة شرق صيدا. هذا وربما تقوم وحدات من الدروز - الذين
تسيطر عليهم سورية في جنوب لبنان - بمساعدة القوات الإسرائيلية في إبادة جيش
المنظمة. وحتى ولو لم تقم هذه الحرب في النهاية فإن نفس هذه (العمليات التنظيفية
التي تقوم بها سورية و (إسرائيل) ستؤدي إلى اتفاق سلام إسرائيلي سوري منفرد
بشكل رسمي ويتضمن نزع سلاح الجولان التي تحتلها (إسرائي) حالياً.
العراق:
يعتبر العراق واحداً من الدول الموجودة في المنطقة ولا تتناسب سياساتها مع
السياسة الإقليمية الثنائية، ويقول الكثيرون إنه من المحتمل أن يكون العراق مكاناً
لحرب شاملة. هذا ومن جهة أخرى قد تختار (إسرائيل) توجيه ضربة إلى حقول
النفط في كركوك شمال العراق تتزامن مع انتفاضة كردية في الإقليم، وستوفر هذه
الضربة ذريعة لزيادة جديدة في أسعار النفط وذلك أحد أهداف دعم بوش لخطة
الحرب، بالإضافة إلى أنه أحد طموحات البريطانيين الذين يسيطرون على متمردي
الأكراد. وجدير بالذكر أنه - ولزيادة الضغط على العراق - تقوم المخابرات
البريطانية بمحاولات لإساءة العلاقات بين تركيا والعراق.
الأردن:
وصلت علاقات الأردن مع أمريكا إلى أدنى مستوى لها، وقد تذرع بوش في
موقفه الخشن ضد الملك حسين بعلاقات الأخير الوثيقة مع صدام إلا أن السبب
الحقيقي هو حل (المسألة الفلسطينية) نهائياً وإلى الأبد. من الممكن دوماً إيجاد
ذريعة للحرب، وفي حالتنا هذه يمكن لإسرائيل بالتعاون مع سورية - صنع أحداث
إرهابية فظيعة ضد السكان الإسرائيليين مما يبرر الحرب كرد فعل. وقد بُرر
الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982م بذريعة مناسبة فقد وقعت محاولة
لاغتيال دبلوماسي إسرائيلي في لندن وقامت بتنفيذها منظمة أبو نضال الإرهابية،
وإنه لأمر بالغ السهولة أن تقوم (إسرائيل) بتنفيذ عمل إرهابي دموي كهذا ضد
شعبها.
وعند إلقاء نظرة عابرة على الصحافة الأمريكية والبريطانية نجد أن الأساس
الدعائي للحرب قد تم بناؤه، وقد قامت وسائط الإعلام الغربية بالعزف على
تهديدات صدام حسين لإسرائيل بينما قامت في نفس الوقت بإخفاء التهديدات
الإسرائيلية لمختلف الدول العربية، وقد بدأ هذا السد الإعلامي منذ مارس الماضي
بعد تنفيذ حكم الإعدام بالجاسوس الإسرائيلي البريطاني فارزاد بازوفت من قبل
العراق.
الصفقة الإسرائيلية السوفياتية السرية:
في الحروب وأثناء الاستعداد لها هناك دائماً أدوار داخل أدوار، ولعل أبرز
مثال على تلك الظاهرة في التطورات الجارية هو المفاوضات السرية الجارية الآن
بين (إسرائيل) والسوفيات. وتأخذ هذه المفاوضات السرية شكلاً أكثر تحديداً من
المفاوضات الجارية بين (إسرائيل) والولايات المتحدة. وتدور هذه المفاوضات
حول المواضيع التالية:
(1) التدفق المتواصل لليهود السوفيات على (إسرائيل) .
(2) التعاون الاستخباراتي بين (إسرائيل) والسوفيات في شرق أوربا
وأمريكا الجنوبية.
(3) تقليل أو إنهاء الارتباطات الإسرائيلية السرية بالخاصرة الجنوبية لحلف
الناتو. وقد وافق السوفيات الآن على جعل الإسرائيليين القوة العسكرية
والاستخباراتية المهيمنة في المنطقة، واشترطوا لموافقتهم على الدور العسكري
الإسرائيلي إنهاء ارتباط (إسرائيل) بحلف الناتو. أما موافقة موسكو على جعل
(إسرائيل) القوة الاستخباراتية المهيمنة في المنطقة فيرجع إلى أن الروس سيكسبون
كثيراً من المخابرات الإسرائيلية في شرق أوربا وأمريكا الجنوبية على وجه
الخصوص. ومن الشخصيات المهمة التي ستلعب دوراً رئيسياً في هذا التنسيق
الاستخباراتي ماركوس وولف الرئيس السابق للعمليات الخارجية في الاستخبارات
الألمانية الشرقية، وسوف يتم تنسيق عمليات مشتركة خارج فنلندة والمجر
بالاعتماد على ترتيبات يقوم بها تاجر الخمور سي جرام ورئيس المؤتمر اليهودي
العالمي إدجار برونغمان.(35/70)
خبر وتعليق
نشرت جريدة الحياة - في عددها الصادر بتاريخ 9/11/1990م - الخبر
التالي:
(شهدت مدينة الإسكندرية هذا الأسبوع ولادة صرح علمي كبير، إنه الله جامعة الفرانكوفونية الإفريقية الدولية للناطقين باللغة الفرنسية، وقد شارك في افتتاحها رؤساء مصر وفرنسا والسنغال وزائير، وأطلق على الجامعة اسم الرئيس السنغالي السابق (ليوبولد سنغور) وهذه الجامعة تستقبل الدارسين من مختلف أنحاء العالم ليتم إعدادهم قادة للمستقبل يتولون مسؤولية إدارة المشاريع والشؤون الإفريقية خلال السنوات المقبلة) .
تعليق:
هكذا تخطط فرنسا ومَن تربى على أيديها مثل ليوبولد سنغور - يخططون
للمستقبل البعيد، تكوين القيادات التي تتولى إدارة المشاريع الإفريقية وباللغة
الفرنسية، وقد تبرعت فرنسا للجامعة بالأجهزة والمعدات العلمية والخبراء
المتخصصين.
فهل يفلح أغنياؤنا-يوماً من الدهر - بإقامة صرح علمي يخرّج قيادات دعوية
وإدارية؟ ، هذه الأمنية التي تمناها يوماً الشيخ رشيد رضا ولم تتحقق حتى الآن.
وإلى الله المشتكى.(35/75)
ركن الأسرة
حليب الأم.. مزايا لا تُعَدُّ
د. محمد هليِّل
عندما نركز جُل اهتمامنا على حليب الأم، وعندما نستحث الأمهات على
إرضاع أطفالهن حليبهن فإننا ندعوهن إلى الفطرة؛ فهذا الحليب الذي أجراه الله في
صدر المرأة ما خلقه الله عبثاً - تعالى الله - ولكن كما يقول - جل شأنه -[إنَّا
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر: 49] ، ويقول كذلك: [فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ]
[المرسلات: 23] .
إن الصيحات التي بدأت تتعالى في الغرب تزداد يوماً بعد يوم تهيب بالأمهات
أن يعُدن إلى الرضاعة الطبيعية وأهمية حليب الأم بعد دراسات علمية كثيرة أكدت
هذه الميزات، فعلينا أن نعتبر بهم ومنهم وألا نبدأ من حيث بدأوا، بل من حيث
انتهوا.
قبل أن نعرج على مزايا حليب الأم لابد أن ننوه أن جميع أنواع الحليب
المتوفرة في السوق - إلا ما ندر - هي حليب حيواني المصدر، يؤخذ عادة من
الأبقار وتُجرى عليه بعض التعديلات التي يحاول بها العلماء جاهدين مضاهاة حليب
الأم.
ومع هذا تظل هناك فروق قائمة بين الحليب المعدل (الحليب الصناعي)
وحليب الأم. يطلق على الحليب المعدل اسم الحليب المُؤَنْسَن (Humanized) ...
وهي تعني الحليب الذي يشابه حليب الإنسان.
إن مزايا حليب الأم كثيرة نوجز بعضها في النقاط التالية:
1- مزايا في التركيب (النوعية) :
ليس همنا أن نجهد ذهن القارئ بتفاصيل دقيقة عن الفرق بين حليب الأم
والحليب المعدل ولكن الأمثلة التالية توضح الهدف من قصدنا:
إن حليب الأم يختلف عن الحليب المعدل، حتى بعد إجراء التعديلات كافة
عليه؛ فكمية البروتينات والأملاح في الحليب المعدل لا تزال أعلى بكثير منها في
حليب الأم وهذه الزيادة ليست هي الزيادة المحمودة، فارتفاع كمية الأملاح يزيد من
الجهد الواقع على كُلى الرضيع والوليد لطرح هذه الأملاح خارج الجسم.
إن بعض الدراسات الطبية بدأت تحاول ربط ارتفاع ضغط الدم المجهول
السبب - عند بعض الكبار -بزيادة كمية الأملاح المتناولة في الصغر، الا أن هذا
الربط ليس قطعي الثبوت لحد الآن.
مثال آخر: إن البروتينات الموجودة في الحليب المعدل هي أكبر كمية،
وتختلف نوعية عن تلك التي في حليب الأم. فهي أعسر هضماً لما تكوّنه من خثارة
كبيرة الحجم نسبياً في معدة الطفل الرضيع بعد تناوله الحليب المعدل، وهذا الحليب
المتخثر أعسر هضماً وبالتالي فإن الطفل الرضيع (يُرْجِع) جزءاً كبيراً من الحليب
المتناول، هذا كثيراً ما تشكو منه الأمهات اللاتي يرضعن أطفالهن حليباً معدلاً.
أضف إلى ما سبق أن تناسب بعض الأملاح في حليب الأم - كالكلس
والفسفور - هو تناسب مثالي، فعلى الرغم من أن كميتي الكلس والفسفور أقل في
حليب الأم عنهما في الحليب المعدل، إلا أن نسبة الأول إلى الثاني هي نسبة مثلى
تجعل امتصاص كل منهما عالياً جداً، فلا يعيق أحدهما امتصاص الآخر كما هو
الحال في الحليب المعدل لاختلال النسبة بينهما.
أما المثال الثالث: فإن حليب الأم يحتوي على مواد تساعد على امتصاص
بعض المعادن الموجودة في الحليب - كالحديد مثلاً - بشكل كبير على الرغم من
قلة كميته فيه، إذا ما قورن بالحليب المعدل الذي يحوي كمية أكبر ولكن
الامتصاص أقل بكثير.
2- النظافة والتعقيم:
حليب الأم السليمة يخلو من أي جرثومة، وذلك أنه يتدفق من جسم الأم إلى
فم الطفل فلا مجال لتلوثه. بعكس الحليب الذي يحضّر في عدة أوانٍ وبمر بعدة
خطوات من غلي الماء، وتبريده، ومزج الحليب بالماء ... الخ وكل خطوة من
هذه الخطوات قد تكون مصدراً من مصادر تلوث الحليب؛ لذا فإن معدل إصابة
الأطفال الذين يتناولون مثل هذا الحليب - الذي يحتاج إلى عدة خطوات في
التحضير والإعداد - عالٍ نسبياً، كما أن مجال الخطأ في كمية الحليب المضافة إلى
الماء من زيادة أو نقص أمر وارد الحدوث عند تحضير الوجبة مما يضر بالرضيع
في كلتا الحالتين.
مهم جداً أن نتذكر أن حليب الأم يحوي مواد تمنع بشكل غير مباشر الإصابة
بالالتهاب المعوي الحاد؛ لذا تندر إصابة الأطفال الذين يرضعون حليب أمهاتهم أن
يصابوا بمثل هذه النزلات المعوية.
3- مقاومة الأمراض:
يحتوي حليب الأم المتدفق في الأيام الأولى بعد الولادة - حليب اللبأ - على
كميات كبيرة من الأجسام المضادة والخلايا البيضاء والأنزيمات والخمائر وبعض
البروتينات التي تقي الطفل كثيراً من الأمراض، وهذه الميزة مقتصرة على حليب
الأم فقط.
4- اليسر وسهولة التحضير:
حليب الأم يسهل الحصول عليه، ولا يحتاج من الأم جهداً في التحضير -
سواء في الليل أو النهار، داخل أو خارج البيت - يقارن هذا بالوقت والجهد اللازم
لتحضير وجبة حليب مع ما يلزم من (معدَّات) التحضير، خصوصا خارج البيت، أو تحضير وجبة حليب لطفل جائع بعد منتصف الليل!
إن حليب الأم يتدفق من جسم الأم إلى فم الطفل بدرجة حرارة مناسبة فلا
يحتاج إلى تسخين.
5- التكلفة الاقتصادية:
إن التكلفة الاقتصادية الشهرية لعائلة ترضع طفلها حليباً حيوانياً معدلاً لا
تقارَن بما تكلفه الرضاعة الطبيعية التي لا تكلف شيئاً إضافياً البتة.
6- حليب الأم معقَّم ومعقِّم:
حليب الأم يحتوي على مواد تعقم أمعاء الرضيع والوليد من الجراثيم الضارة
كما أن حليب الأم يحمي الرضيع من الإمساك الذي ينتشر بين الأطفال الذين
يتناولون حليباً معدلاً.
7- حليب الأم يساعد الرضيع على الشبع بطريقة مضبوطة:
إذ تزداد كمية الدهون في الجزء الأخير من حليب الأم المتدفق أثناء وجبة
الرضاعة، وهذه الدهون التي تختلف نوعاً وكماً عنها في الحليب المعدل - تمنح
الرضيع الشعور بالشبع.
8- الراحة النفسية والإشباع العاطفي:
إن الرضاعة الطبيعية تعطي الطفل شعوراً بالأمان أثناء حمل أمه له،
وإرضاعها إياه، وهذا الترابط العاطفي يزداد بين الأم والطفل يوماً بعد يوم وهو
مهم جداً في تكوين الطفل من الناحية العاطفية والسلوكية.
9- التحسُّس:
الأطفال الذين يتناولون حليباً معدلاً - حيواني المصدر - معرضون للإصابة
بأمراض مقتصرة عليهم فقط مثل عدم احتمال حليب البقر أو الإصابة بالتحسس
لحليب البقر. كما أن أمراضاً أخرى - كالأكزيما ومغص الرضع - أكثر شيوعاً
عند مثل هؤلاء الأطفال.
10- حليب الأم أكثر أماناً وسلامة من الحليب المعدل:
وذلك لتدني نسبة الأمراض التي قد تصيب الرضيع في الحالة الأولى عنها في
الحالة الثانية. والأمراض التي قد تشيع بين الأطفال الذين يرضعون حليباً معدلاً
هي:
1- الالتهابات المعوية الحادة والمتكررة.
2- أمراض سوء التغذية.
3- توقف النمو والهزال.
4- لين العظام (الكساح) .
5- بعض أنواع الجفاف (Hyperosmolar Dehyration)
6- أمراض نقص الكلس مثل: (Neonatal Tetatny)
7- سوء الامتصاص (Malabsorption)
هذه مزايا الحليب الطبيعي ومردوده على الطفل الرضيع. أما الرضاعة
الطبيعية - بالإضافة لهذا - فإنها تعود بالنفع على الأم وذلك:
1- يمنح الإرضاع الطبيعي الأم راحة نفسية وطمأنينة تغمرانها، ويسبغ
عليها ثقة بنفسها تملأ عليها إحساسها باكتمال أنوثتها وأمومتها.
2- أن الإرضاع كفيل - عند معظم النساء - بالعمل كإحدى وسائل منع
الحمل طيلة فترة الرضاعة، وهذا يقي الأم من الإجهاد الناجم عن تكرار الحمل في
فترة قصيرة. وهو أيضاً يعين الأسرة على تنظيم الإنجاب، كما أنه يعطي الطفل
فرصة كافية من التغذية الجيدة من حليب الأم، والغذاء العادي، مما يقيه أمراض
سوء التغذية. ومهم جداً أن نعلم أن المصادر الطبية تنصح بالرضاعة لمدة سنتين!!
3- لقد أظهرت بعض الدراسات الطبية أن معدل إصابة النساء بسرطان
الثدي أعلى عند النساء اللواتي لم يرضعن أطفالهن إذا ما قورنت بالمرضعات وهذه
النسبة تقل كلما ازدادت معدلات الإرضاع.
4- أن الإرضاع في الأيام الأولى - التي تلي المخاض - يساعد الأم على
وقف نزيف دم الولادة، وذلك أن الرضاعة تحث الغدة النخامية على إفراز مواد
تزيد من انقباض عضلات الرحم مما يمنع النزف.
إننا لم نقصد بذكر هذه المميزات أن نحصرها بل على سبيل التذكير، وإن
كنا قد ألقينا الضوء على بعض التفصيلات التي اقتضاها المقام لإعطاء فكرة أكثر
وضوحاً.
* يتبع *(35/76)
امرأة وموقف
أم حبيبة.. رضي الله عنها
مؤمنة الشلبي
مؤمنة قانتة، مهاجرة صابرة، عرف الإيمان طريقه إلى قلبها فعاشت له
وتحملت في سبيله العذاب والتنكيل.. هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان صخر
بن حرب.
جمعت - رضي الله عنها - إلى رفعة النسب والحسب، الغنى الوافر،
والعقل الراجح، تزوجها عبيد الله بن جحش؛ فأسلمت معه وهاجرت إلى الحبشة
واعتصمت بدينها حين ارتد، فقضت أيامها في ديار الهجرة بين عذابين: عذاب
الغربة، وعذاب الترمل.. ولكنها - وبإيمانها الذي سكن جوارحها فأضاءها -
استطاعت أن تصمد في وجه المحنة بكل صبر وعزيمة.. إلى أن خطبها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من النجاشي (ملك الحبشة) الذي أكمل هذا الزواج
المبارك بين سيد البشر وبين المرأة المؤمنة الصابرة، التي عوضها الله بصبرها
عن زوجها الهالك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقامت في بيته زوجة
مخلصة، تقدر مسؤوليتها، وتحرص على إسعاد زوجها الكريم وطاعته.
ولأم المؤمنين أم حبيبة - رضي الله عنها - مواقف كثيرة مشرقة في حياتها
تعتبر أمثلة ونماذج حية لكل الدعاة إلى الله، نختار من بينها ذلك الموقف الجريء
العظيم، الذي تتجلى فيه مظاهر الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من
الطواغيت، ومن كل مشرك لا يؤمن بالله، وإن كان أقرب قريب.
الموقف:
ذكر ابن سعد - في كتابه (الطبقات) - أنه لما قدم أبو سفيان بن حرب
المدينة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزو مكة، فكلمه
أن يزيد في هدنة الحديبية، فلم يقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام
ودخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه
وسلم - طوته دونه فقال: يا بنية أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت:
بل هو فراش رسول الله، وأنت امرؤ نجس ومشرك، ولم أحب أن تجلس على
فراش رسول الله.
فقال: (يا بنية، لقد أصابك بعدي شر) ! ، ثم خرج.
تحليل الموقف:
وهكذا قُدر لأم حبيبة - رضي الله عنها - أن تواجه والدها بعد فراق دام
سنوات منذ أن أسلمت وفرّت بدينها إلى الحبشة، وأذهلتها المفاجأة ... حتى أنها لم
تدرِ ما تقول ... بل كيف تستقبل والدها سيد قريش وزعيمها المطاع ... ولعل أبا
سفيان قدر الموقف والتمس لابنته العذر، إذ لم تستقبله، ولم تدْعُه للجلوس، فتقدم
بنفسه ليجلس على البساط المفروش في ركن الحجرة ... وفجأة تعود المؤمنة إلى
هدوئها لتتصرف أمام هذا الحدث بكل رباطة جأش وعقيدة راسخة، لا مجاملة فيها
ولا محاباة، لتطوي البساط المتواضع، قبل أن تدوس عليه أقدام الشرك والطغيان
المتمثلة في أبيها آنذاك، ووقف أبو سفيان حائراً إزاء ما فعلته ابنته، فسألها: هل
كان طيك للفراش لأنك لا ترغبين أن أجلس عليه لسبب ما؟ ! أم أنك طويته لأنك
ترين أنه فراش لا يليق بمكانة أبيك؟ ؟
وأجابت أم المؤمنين بثبات، وثقة، واستعلاء إيمان، غير جازعة من سلطان
سيد قريش وجبروته، قائلة: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأنت رجل مشرك ونجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله.
ولم يكن من أبي سفيان - وهو يسمع هذه الكلمات القاسية التي لم يكن يتصور
على الإطلاق أن تتفوه بها ابنته - إلا أن كبح جماح غضبه فقد تذكر المهمة التي
جاء من أجلها، وقال لها - وهو يتميز من الغيظ -: (لقد أصابك يا بنية بعدي شر) ، ثم خرج غاضباً؛ ليبحث عن شفيع آخر ليتابع مهمته ... ولكن أنَّى للكفر أن يجد له شفيعاً بين هؤلاء المؤمنين الذين تغلغل حب الله ورسوله في نفوسهم ... فلم تعد تخدعهم المظاهر الجوفاء ولا القوى والاعتبارات التي تتعبد الناس في الجاهلية.
وكم نحن بحاجة ماسة - ونحن في غمرات الفتن العظيمة والأحداث السريعة
المتلاحقة - لترسيخ عقيدة
الولاء والبراء في النفوس؛ حتى لا يتكالب أعداء هذا الدين عليه من كل
حدب وصوب، طامعين في إطفاء نور الله بكل الوسائل المتاحة لهم ... هدفهم
الأول والأخير تشويه صورة الولاء والبراء، وفسخ ولاء المسلم لدينه وإخوانه
المؤمنين وزعزعة برائه وعداوته للكفار، عن طريق نشر الدعوات الهدامة بأسماء
براقة من قومية، ووطنية، وعالمية ...
وأفلح الاستعمار في تكوين جيل يرفض العمل تحت لواء الإسلام ويستحي من
الانتساب إليه وأصبح عوناً لأعداء هذا الدين وقدم ولاءه وتبعيته لهؤلاء.
وهنا نتساءل.. أين فتيات عصرنا - المبهورات بفتنة الغرب المتمردات على
حياة الزوجية - من أم حبيبة التي لم تعرف صلة إلا صلة الإسلام، ولم تعرف
ولاءً إلا لله ورسوله، ولم تعلم براءً إلا من الكفر والشرك؟ ! !
أين فتياتنا ونساؤنا اللاتي انخدعن بالحياة الدنيا وزينتها وشهواتها؛ فغمر
قلوبهن وران عليها حب المال والشهوات.. من تلك المؤمنة التي غمر قلبها حب
الله وحب رسوله فلم يبقَ فيه إلا تلك المحبة الطاهرة؟ !
أين أنتن يا مَن ترتعد فرائصكن خوفاً وذعراً من البوح بكلمة الحق ... من
تلك التي ضنت بفراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيها، وقالت له
تلك الكلمة القاسية وهو الذي لم تسمع منه إلا طيب الكلام وأحسنه؟ !
شتان ما بين حال فتياتنا الضائعات المشغولات بالتافه من الأمور، وحال تلك
الصفوة المباركة من أمهات
المؤمنين، والصحابيات الجليلات، والمؤمنات اللاتي أشرقت قلوبهن بنور
الله؛ فلم يتلكأن في طاعة الله ورسوله، والبراء من كل معصية لهما..... ...
أما آن الأوان لنسائنا وفتياتنا أن يتحلين بتلك الصفات ويمددن أياديهن ...
للمساهمة في بناء صرح الإيمان؟ ، ألم يأنِ لقلوبهن أن تصبح عامرة بحب
الله وحب رسوله؟ .
إن هذا لن يكون إلا بالبراءة من كل منهج وتشريع غير منهج الإسلام،
والبراءة من كل فكر يناقض هذه العقيدة التي كانت سبب ظهور الرعيل الأول من
النساء المؤمنات.(35/82)
نسخة من الإنجيل لكل إنسان!
حسن الليدي
كتبت مجلة (وورلد مونيتور) الشهرية - الصادرة عن مؤسسة (كريستيان
ساينس مونيتور) في عددها لشهر ديسمبر عام 1990م وتحت عنوان (عقود الإنجيل) - تقول:
(إن أعجب زيادة في توزيع الإنجيل حصلت في فترة قريبة هي ... تلك التي تمت في الاتحاد السوفييتي، ففي خلال عامين - وبالتحديد من يوم أن كتب) هارفي كوكس (مقالته في عدد مجلتنا الأول في يناير عام 1988م والتي كانت حول ندوة الأناجيل في روسيا - تم توزيع ملايين النسخ مجاناً على الناس هناك.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار التوزيعات التي قامت بها مؤسسة (جمعيات الإنجيل
المتحدة) في الفترة التي تلتها، نجد أنه في مقابل 22000 نسخة وزعتها المؤسسة
عام 1980م تم توزيع 227. 775 في عام 1989م و596. 200 نسخة حتى
منتصف هذا العام (1990م) . وهذه المؤسسة هي عبارة عن ائتلاف بين (110)
جمعية في إطار لغاية واحدة هي: (إيصال الكتاب المقدس لكل إنسان على الأرض) .
كما نشرت المجلة أيضاً خريطة بيانية لأرقام التوزيعات في عامي 1970م
و1989م وهي عبارة عن إحصاءات لجهود المؤسسة السالفة الذكر للتوزيعات
المجانية دون اعتبار التوزيع التجاري (حيث إن ذلك خارج عن نطاق عمل
المؤسسة) . ومجموع هذه التوزيعات يشير إلى أن العدد قد تضاعف ثلاث مرات
على الأقل خلال العقدين الماضيين (5159022 عام 1970م - 15686040 عام
1989م) وذلك في مختلف بلاد العالم ما عدا الصين؛ حيث تمنع الحكومة عمل
المبشرين، ومع ذلك فقد تجاوز عدد الأناجيل المباعة تجارياً فيها أربعة ملايين
نسخة منذ عام 1980م. وتوضح الخريطة الإحصائية كذلك تزايد التوزيعات في
كثير من البلاد العربية والإسلامية كمصر والسودان والأردن والخليج العربي
وبنغلاديش، وتشير الأرقام المدرجة مثلاً إلى أن حجم التوزيع قد تضاعف أربع
مرات في كل من الباكستان ومصر خلال العشرين عاماً الماضية.
وتضيف المجلة ( ... وعدد نسخ الإنجيل الي تمت طباعتها ... من يوم أن اكتشف الإنسان الطباعة الآلية يزيد على (3) مليارات نسخة) ! .
ولا يحتاج خبر مثل هذا إلى كثير إيضاح أو إطالة تعليق!
فالذي لا ريب فيه أن الباطل يقظان وأهله جادون فيما يريدون. والكفر تعمل
أجهزته في بلاد عربية وغير عربية جهاراً نهاراً على التشكيك في الإسلام وطمس
حقائقه والتشويش على عقول من استطاعوا من أتباعه. ولسنا نقصد التهويل من
شأن الباطل وما يفعلون، لكن القرآن يعلّمنا أن سنة الله هي أنه لا قيام للباطل إلا
في غياب الحق وعند غفلة أهله [وقُلْ جَاء الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً] [الإسراء: 81] ، وهذا بيت القصيد. فبرغم ما نرى من بشائر الصحوة
الأكيدة ومن إنجازات مباركة في كثير من المجالات إلا أن مضاعفة الجهود
وتطويرها كماً وكيفاً أصبحت أمراً لا يمكن القبول بأي تهاون فيه، ونحن نعيش في
عالم أصبح يرى في الصحوة الإسلامية خطراً يعيقه ويهدد مصالحه. ومطلوب من
الدعاة إلى الله - الذين يناط بهم أمر رفع راية الإسلام والتعريف به ونشره - أن
يأخذوا أنفسهم بشيء من الجد في هذا السبيل، وأن يكون لهم في جهود أهل الباطل
ومثابرتهم درس وعبرة، فإنه من المهانة أن لا نكون أقدر على الحركة بحقنا
ونصرته والإقناع به من دعاة الباطل الذين يركبون فيه الصعب والذلول.(35/86)
بأقلام القراء
حياة القلوب
عبد السلام بن محمد الحمدان
لابد للداعية في هذه الحياة المليئة بالفتن والمصائب أن يخلو بنفسه وأن يلتفت
إليها حتى لا يخسرها - بعد ذلك - وتكون عبئاً ثقيلاً عليه. فإذا تدارك الداعية
نفسه فلم يهملها وعالجها في وقتها يكون قلبه حياً ويصبح أمره سهلاً. وعجيب أمر
القلب! ! فهو لا يثبت على حال أبداً وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه ... فكل
شيء يؤثر فيه! ! وكل أمر يغير منه بقدر ... إذاً فلابد من تعاهده والمحافظة على
استقامته وإصلاح هفواته ولهواته ...
وأول سبب لحياة القلب هو الاستجابة لله ولرسوله ... ففيها حياة للقلب..
وحياة للنفس وحياة للمجتمع كله.. [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ]
[الأنفال: 24] .
يقول سيد قطب - رحمه الله - في هذه الآية: إنها دعوة إلى الحياة بكل
صور الحياة، وبكل معاني الحياة.. إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول،
وتطلقها من أوهام الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن العبودية
لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء..
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله تعلن (تحرر) الإنسان وتكريمه بصدورها
عن الله وحده، ووقوف البشر كلهم صفاً متساوين في مواجهتها، لا يتحكم فرد في
شعب، ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب
العباد.
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، لتقرير ألوهية الله - سبحانه - في
الأرض وفي حياة الناس وتحطيم ألوهية العبيد المدَّعاة ومطاردة هؤلاء المعتدين
على ألوهية الله - سبحانه وتعالى - وحاكميته وسلطانه؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية
الله وحده، وعندئذ يكون الدين كله لله. حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان
لهم في الشهادة حياة.
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو دعوة إلى
الحياة بكل معاني الحياة.. بكل صورها وأشكالها، وفي كل مجالاتها ودلالاتها.
والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]
استجيبوا له طائعين مختارين وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على
الهدى لو أراد: [واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ] .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة..! [يَحُولُ بَيْنَ
المَرْءِ وقَلْبِهِ] ؛ فيفصل بينه وبين قلبه، ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه،
ويصرّفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي
بين جنبيه!
إنها صورة رهيبة حقاً يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري
يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم.
اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل
مخافة أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.. والتعلق
الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة
من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.. ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو
رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه: (اللهم يا مقلب القلوب ثَبِّتْ قلبي على
دينك) .. فكيف بالناس وهم غير مرسلين ولا معصومين؟ !
ومما يعين على حياة القلب: دوام ذكر الله - عز وجل - فنعم الزاد الذي كان
يتغذى به الصالحون وينعم به العارفون كما قال ابن تيمية - رحمه الله -: الذكر
للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ ! .
هذه غدوتي!
يقول ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس
يذكر الله - تعالى - إلى قرب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: (هذه
غدوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي) ، أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي
مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر) ..
فمتى كان القلب حياً.. كانت صلته بالله - تعالى - أعظم وأقوى ... والقلب
الموصول بالله دائماً هو الذي لا يشغله عن ذكره شاغل ولا يلهيه عنه لاهٍ.. ففي كل
أمر يذكر الله - تعالى -.. في نومه وانتباهه.. وأكله وشربه.. ودخوله وخروجه.. وجلوسه وقعوده.. وجميع أمور حياته.. [الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً
وعَلَى جُنُوبِهِمْ] [آل عمران: 191] .
فهذه هي الحياة الحقيقة.. حياة القلوب.. لا حياة الجسد وحده.. فكم من حي
ميت وكم من ميت حي..
مَن هو القدوة؟ !
(فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر؟ أو هو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ ! فإن كان الحاكم عليه الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فُرُط، لم يُعتدّ به ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك؛
قال - عز وجل -: [ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] [الكهف: 28] .(35/88)
مقتطفات
التقوى: قال ثابت البناني: قال أبو عبيدة: (يا أيها الناس إني امرؤ من
قريش وما منكم من أحمر ولا أسود يفضُلني بتقوى، إلا وَدِدتُّ أني في مسلاخه) . [1] ...
... ... ... ... ... ... ... ... (سير أعلام النبلاء 1/18)
الإنفاق: عن سعدى بنت عوف المرية قالت: " دخلت على طلحة يوماً وهو
خاثر [2] ، فقلت: ما لك؟ ! لعلك رابك من أهلك شيء؟ ، قال: لا والله، ونِعم
حليلة المسلم أنت، ولكن مال عندي قد غمني، فقلت: ما يغمك؟ ، عليك بقومك،
قال: يا غلام! ادعُ لي قومي فقسِّمْه فيهم، فسألت الخازن: كم أعطى؟ قال:
أربع مئة ألف.
... ... ... ... ... ... (سير أعلام النبلاء، 1/32)
تضييع القرآن والعمل به
عن جيلان بن أبي الجلد قال: (لا يذهب الليل والنهار حتى يَخْلق هذا القرآن
في قلوب رجال كمثل الثوب البالي الذي يتهافت، لا يجدون حلاوة له ولا لذة. إن
ترك أحدهم بعض ما أمر به تال: إن الله غفور رحيم! وإن ركب بعض ما نهي
عنه قال: إنه سيغفر لي إني لا أشرك! كل أمرهم إلى الطمع، وليس معهم من
الخوف شيء، خيرهم في أنفسهم المداهن) .
... ... ... ... ... ... (الكُنَى والأسماء للدولابي، 1/40)
المجاهدة: قال ثابت بن أسلم: (كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها
عشرين سنة) .
... ... ... ... ... ... ... (النبلاء، 5/224)
الإخلاص: عن سعد بن إبراهيم قال: مروا على رجل يوم القادسية، وقد
قُطعت يداه ورجلاه، وهو يفحص، وهو يقول [مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً] [النساء: 69] ؛ قال: فقال: مَن أنت يا عبد الله؟ قال: " أنا امرؤ من الأنصار ".
... ... ... ... ... (أخرجه ابن أبي شيبة 15597/15589)
هلاك الناس بذهاب العلماء: قال هلال بن خباب أبو العلاء: سألت سعيد بن جبير، قلت: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؟ قال: (إذا هلك علماؤهم) . ...
... ... ... ... (أخرجه ابن أبي شيبة 19053، وأبو نعيم 4/276)
إعداد: عبد العزيز بن محمد
مازال أصحاب الطاقات المبدعة، وأصحاب الأقلام الصادقة يكتبون لأنفسهم،
حتى نرى للكتابة أناس ينفثون سمومهم، ويسمونه أدباً [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] [البقرة: 11] ، فمتى يرتب المخلصون أوراقهم
المتناثرة؟ ، ومتى نرى كلماتهم الصادقة وتوجيهاتهم المنيرة؟ ، ولماذا لا يدفعون
زكاة علمهم وأدبهم؟ ؛ فإن آلاف الكلمات التي كتبها المرتزقة قد تصدها كلمة
صادقة من قلب غيور.
صالح حسن
__________
(1) مسلاخ: الجلد.
(2) ثقيل النفس غير نشيط.(35/91)
غيرة لله
أم زياد
المدينة المنورة
في هذه الأيام وجد من يتجرأ على الإسلام وأهله، فيتكلم عن الحجاب وإبعاد
المرأة المسلمة عنه ليحفظ لها مكانتها، ونقول لهؤلاء رويدكم يا أدعياء التقدم، لقد
تطاولتم، وتعديتم حدودكم، وأعلنتم الحرب على الله ورسوله والمسلمين.
ومن كان هذا دأبه فإننا سوف نحاربه، ولن نغفل عنه، طالما أننا رضينا
بالحجاب ستراً وحفظاً للمرأة؛ لأن هذا هو ديننا الذي لن نتخلى عنه مدى الحياة،
فأربعوا على أنفسكم، وكفافكم نعيقاً؛ فإن نور لا إله إلا الله لم ينطفئ بعد، ونعدكم
أنكم كلما نعقتم فإننا سوف نعلن حرباً عليكم، فلا تتمادوا في غيكم. ويا أيها الناس
اعلموا أن هؤلاء أدعياء ضلال لا تقدم وإلا فإن لكل ساقطة لاقطة.(35/93)
للعلماء والدعاة
فهيد عبد الله المطيري
قد تكون الأحداث التي تعصف بالمنطقة فرصة مواتية لخروج بعض
الإفرازات المتوقعة في المستقبل القريب.
والسبب الذي يدفعني لهذا الظن هو أن مشكلة الخليج حدث خارج عن حدود
التوقعات المحلية في بدايتها، وكذلك خارج حدود التوقعات في نهايتها، لا أشك في
أنها ستنتهي طال الزمان أو قصر. لكنها لن تنتهي إلا وقد أفرزت أحداثاً غير
متوقعة أيضاً. ربما بقانون (النتيجة تتبع المقدمات) ، وربما لأن هذه الإفرازات
فيها بُعد عن الواقع السياسي إلى حد مما يستدعي الغفلة عنها.
إن هذه المشكلة لم تنشئ هذه الإفرازات ابتداءً، لكنها قد تهيئ لها ظرفاً مناسباً
للبروز على السطح من خلال الدعوات المعروفة والمتعلقة بالديمقراطية، والمرأة،
والعلمانية، وغيرها.
وعلى ذلك فإني أوجه دعوة للعلماء والدعاة الإسلاميين ألا يكونوا بعيدين عن
تفاصيل الأحداث، أثناء هذه المشكلة وبعدها، بل عليهم أن يقتربوا منها أكثر مما
عداها وذلك لأمور:
الأول: أن الأحداث قد تفرض بعض النظم الإدارية، وهذا النظام لابد له من
دراسة وتمحيص وبكل دقة. ولابد من التروي في استيعاب هذا العمل استيعاباً تاماً
وعميقاً.
الثاني: أن هذه النظم إذا أثبتت صلاحيتها شرعاً لابد لمن ينخرط فيها من
رؤية شرعية واضحة، وحكمة سلوكية تبعث على الثقة والانشراح.
الثالث: قد تُستغل هذه الأمور من قبل بعض الانتهازيين والوصوليين،
فيبدأون بطرح أفكارهم المشوشة، وهم - كما عهدناهم - لا تعجزهم الحيلة من
التذرع بأي فكرة أو موقف ليبرروا تلك الأفكار بما يضفي عليها شيئاً من الشرعية
المقبولة.
على أية حال يجب ألا يشغلنا هذا الواقع عن دراسة مشكلة الخليج برؤيتنا
نحن، وعقولنا نحن، بعد تجميع أطرافها ومراجعة أصولها القديمة وإفرازاتها
المستقبلة. فلابد من ربطها بما يشاهد سياسياً وإدارياً وفكرياً؛ لكي نعلم مدى ارتباط
هذه الأفكار بالمشكلة، ثم لنجيب على هذا السؤال: هل أُريِدَ من وراء هذه المشكلة
خلق جو مناسب لهذه الأفكار؟
في الحقيقة سنتساءل وسنجد حلاً ولو ساذجاً مؤقتاً، ولكن يجب ألا نقول: (هذا واقع اتفاقاً، وهذا كان صدفة) .(35/94)
الصفحة الأخيرة
إنصافاً للصحافة العربية
عبد القادر حامد
القول بأن الصحافة العربية لا تصور واقع العرب أصدق تصوير بعيد عن
الدقة ... فمَن يقول ذلك خيالي يكاد يطلب المستحيل؛ إذ يعتقد أن على الصحافة أن
تعكس واقع هذه الجموع المكدسة، بينما هي مجرد جموع خالية من الفاعلية والتأثير.
إن الحقيقة التي لا مرية فيها أن هناك اتحاداً واندماجاً بين هذه الصحافة وبين
القلة التي تنطق باسمها، فهي صحافة نُخَب وليست صحافة جماهير، وإن ادعى
بعض القائمين عليها غير ذلك، فهذا ادعاء لا يغير من الحقيقة شيئاً؛ ولذلك فإن
هذه الصحافة صادقة في نقل واقع مَن تنطق باسمه كل الصدق، (إذا أردنا بالصدق: انطباق الوصف على الواقع، لا المعنى الشرعي المفهوم من قوله تعالى:
[وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] [التوبة: 119] ) . وهي سجل أمين، سواء سكتت أو
نطقت، لأن سكوتها عن أشياء هو إفصاح من جهة أخرى، فإذا وجدنا أنها لاذت
بالصمت على أمر نعتقد - نحن الجموع المكدسة - أنه لا يحسن السكوت عليه
فكأنها تقول لنا: مهلاً يا قوم، لا تحمّلوني ما لا أطيق، لقد ألجمني لجام الرغبة
والرهبة، فقد نشأت في حِجر مَن غذاني ورعاني؛ فكُتابي ربتهم مدارسه،
ومناهجه وبعثاته، وورقي وحبري من خزائنه، واشتراكاتي وإعلاناتي - التي
تحفظ عليَّ حياتي - قائمة على موظفي دواوينه وشركاته! ؛ فكيف تظنون أنني
أقوى على إنكار كل هذا الفضل وجحود كل هذا المعروف، فأتكلم عن صغائر
أصحاب الدواوين وأذكرهم بما يكرهون؟ ! ، ألا تعلمون أن ذلك غيبة والله نفَّر من
الغيبة أبلغ تنفير؟ ! هل تُراكم لم تقرأوا ما كُتب عن جزاء المعروف: عرفاناً أو
جحوداً في الأدب العربي؟ ! ، لو نطقت الصحافة العربية لقالت: نحن نعكس واقعاً
حياً على عُجَره وبُجَره، وأنتم يا ناس - أيها الجموع المكدسة - أموات غير أحياء
لا تدرون أيان تُبعثون!(35/96)
رجب - 1411هـ
فبراير - 1991م
(السنة: 5)(36/)
الافتتاحية
دفاع عن المنهج
(2)
عندما ندافع عن منهج (أهل السنة) في النظر والاستدلال وفي طريقة التفكير، وفي مصادر المعرفة، إنما نفعل ذلك لاعتقادنا الراسخ أنه لا يوجد منهج غيره
يوصل إلى أهداف الإسلام، فالمنهج الكلامي الاعتزالي يوصل إلى الجدل،
والمناظرات والردود، وتأليف الكتب الجافة، ويظن أهله أنهم إذا حرروا هذا
التعريف أو ذاك المصطلح فإن البشرية تسعد في حياتها، وشبيه بهؤلاء من يعيش
بعيداً عن هموم الدعوة ومشاكل الناس ويؤلف الكتب الضخمة في الحلول النظرية.
وأما منهج الصوفية الذي يعتمد على الذوق والعرفان والخيالات والرؤى فهو أبعد
وأضعف من أن يؤدي إلى إعمار الأرض والتمكين فيها كما يريد الله منا، ولذلك
كانت أعظم معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - هي معجزة القرآن «ما من
الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيته
وحياً أوحاه الله - عز وجل - إليَّ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم
القيامة» [1 /134] .
إن منهج أهل السنة هو الذي يؤدي إلى تقدم المسلمين ونهضتهم وعزهم؛ لأنه
منهج يفضل العمل على الكلام، والتطبيق على النظري. وقد فقه الإمام مالك -
رحمه الله - هذا المنهج عن التابعين والصحابة فقال: «لا أحب علماً ليس تحته
عمل» وقال مسروق: (سألت أبيّ بن كعب عن شيء فقال: أكان بعد (هل وقع)
قلت: لا، قال: فأجمّنا (أرحنا) حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا) [1] .
والصحابة فهموا هذا من منهج القرآن [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ والْحَجِّ] [البقرة: 189] ؛ فوقع الجواب بما يتعلق به عمل.
وسئل - عليه الصلاة والسلام - عن الساعة، فقال للسائل: «ما أعددت
لها؟» ومنع من النظر في الأمور التي لا يقدر عليها العقل «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله» وإنما كانت عناية السلف بعد تحصيل العلم الذي لابد منه بالجهاد وتفقد العامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «وليس في القرآن من الأمر بطلب العلم الزائد على الكفاية مثل ما فيه من الثناء على الخاشعين في الصلاة الصابرين في البأساء والضراء، وكذلك الحديث فإن في الصحيحين والسنن الثلاث والموطأ ثمانية وستين حديثاً في الحث على الجهاد..» [2] .
وهذا المنهج في الرأفة والرحمة بالخلق، ومعرفة ما ينفعهم وما يضرهم كمثل
طبيب زار مريضاً فرأى مرضه فدلّه على شراب ودواء معين وأمره بنظام في
الطعام والشراب فأطاع المريض فشفي، ولكن الفيلسوف يسلك طرقاً طويلة، إذ
يتكلم عن سبب المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه، ولو سأل المريض عما يشفيه
لعجز عن الإجابة [3] .
هذا المنهج في استقراء الجزئيات للوصول إلى القواعد العلمية العملية هو
الذي جعل عند علماء المسلمين الاستعداد للبحث التجريبي العملي، ولذلك ظهر فيهم
مثل ابن النفيس وابن الهيثم، ولكن عندما نُكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الجدل
وعلم الكلام ضاعت منهم الفرصة وأخذها الأوربيون، وساروا بها طويلاً وخرج
منهم من يطلب تربية الأطفال على الشيء العملي النافع (جون ديوي) وتقدموا في
العلوم المادية تقدماً هائلاً بينما كان المسلمون على استعداد لهذا لو أنهم تبعوا منهج
أهل السنة، كما قال الإمام مالك: (وأكره أن ينسب أحد حتى يبلغ آدم، ولا إلى
إبراهيم، ومن يخبره مَن بينه وبين إبراهيم؟ !) [4] . فالإمام مالك لا يحب علماً
غير محقق ولا يفيدنا شيئاً مثل أن يسلسل نسب شخص إلى آدم - عليه السلام -
وهذا ما يطالب به علماء التربية في العصر الحديث في تعليم الأطفال، والعجب أن
يأتينا في هذا العصر من يريد إرجاعنا إلى علم الكلام والجدل، وهو الذي أضعف
المسلمين عن أن يكونوا هم السابقين إلى إعمار الأرض واستخراج العلم النافع
ويكون هذا سبباً في نشر الإسلام.
__________
(1) كتاب العلم لزهير بن حرب، 127.
(2) ابن الوزير: العواصم والقواصم 2/427.
(3) نظريات ابن تيمية في السياسة والاجتماع، 1/116.
(4) الجامع لأبي زيد القيرواني، 259.(36/4)
البوطي …والمنهج
عبد القادر حامد
تخبط وتناقض:
إن ميزة الكتب النافعة أنك لا تقرؤها مرة إلا وتجد فيها فائدة لم تكن وجدتها
في القراءة الأولى، لكن كتاب البوطي هذا على الضد، لا تقرؤه إلا وتجد فيه
خبيئة فاتتك في القراءة السابقة. ولو استعرضنا جميع التناقضات التي اكتشفناها في
هذا الكتاب لطال الكلام ولملّ القارئ، ولكن نكتفي ببعضها.
يقول - عند كلامه على العوامل التي أدت إلى تطوير أساليب الصحابة
الفكرية وطرقهم التربوية! وعاداتهم السلوكية! تحت عنوان: العامل الثالث: -
« ... ولما رأوا أنفسهم يعيشون في بلاد غير التي عرفوها، ويقابلون
عادات غير التي ألفوها، ويجابهون مشكلات لا عهد لهم بها، (كمشكلة المناخل!)
اضطروا إلى فتح باب الرأي بعد أن كان مغلقاً، وإلى التعامل معه والأخذ به بعد أن
كان ذلك أمراً مرفوضاً ومستهجناً.
ومن أشهر الصحابة الذين انتشروا في الأمصار، ورفعوا لواء الاتجاه في هذا
الطريق (طريق الرأي! انتبه!) الخلفاء الراشدون وعبد الله بن عمر وعائشة،
وهؤلاء كانوا في المدينة، (إلى أين انتشروا؟) وعبد الله بن عباس وقد كان بمكة
(أين ذهب؟ !) » [ص34] .
ففي هذه الفقرة تخبط ومجازفة واضحة، فالخلفاء الراشدون كلهم - ماعدا علياً؛ وفي أيام خلافته فقط - عاشوا في المدينة ولم ينتشروا في الأمصار! ولم يطوروا
من أساليبهم الفكرية، وطرقهم التربوية، وعاداتهم السلوكية، ولم يفتحوا باب
الرأي بعد أن كان مغلقاً! وبخاصة أبو بكر الذي توفي بعد الرسول - صلى الله
عليه وسلم - بعامين ونصف تقريباً، ولم يدرك هذه الأزمة الفكرية المفترضة التي
يصورها المؤلف هذا التصوير (الدرامي) .
وفي [ص80] يقرر في الفقرة الأولى قضية تنقضها الفقرة التي تليها، فيقول:
(إن قواعد اللغة الدلالية والبيانية قواعد لغوية صافية لا تتأثر بأي جهة دينية ...
أو مذهب فكري، وهذا معنى قولنا عنها: إنها قواعد حيادية) .
وهذه مسألة فيها نظر؛ من وجهة نظر شرعية ومن وجهة نظر لغوية بحتة،
وليس هذا مجال بحثها. وهذه القاعدة التي ذكرها ينقضها هو نفسه في الفقرة التالية
حيث يقول:
(غير أن الكثير من هذه القواعد، وإن كان محل اتفاق من أئمة اللغة، إلا أن فيها أيضاً، ما هو محل نظر وخلاف فيما بينهم) .
لكن القول السديد في هذه المسألة - التي أعاد البوطي فيها القول ليوهم قراءه
أن (السليقة العربية) وقواعد اللغة كافية لمن حذقها (في فهم النصوص وإدراك
مراميها) [ص 49]- هو ما قاله ابن تيمية وسنثبته هنا متحملين ومحتسبين وصف
البوطي لنا بالسطحية وعدم الصبر والاستيعاب، هذه العيوب التي انعكست علينا
من أسلوب ابن تيمية المضطرب يقول: (وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن
تيمية على أذهان كثير ممن يقرؤون له، بسطحية وبدون صبر واستيعاب) . [ص
161] لا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول ابن تيمية:
(ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ولهذا قال الفقهاء: (الأسماء ثلاثة أنواع:
نوع يعرف حده بالشرع، كالصلاة والزكاة؛
ونوع يعرف حده باللغة، كالشمس والقمر؛
ونوع يعرف حده بالعرف، كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله:
[وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] [النساء: 19] ونحو ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه:
* تفسير تعرفه العرب من كلامها،
* وتفسير لا يعذر أحد بجهالته،
* وتفسير يعلمه العلماء،
* وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب.
فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، قد بين الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها ومن
هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يقبل منه. وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها؛ فذاك من جنس علم
البيان، وتعليل الأحكام، هو زيادة في العلم، وبيان حكمة ألفاظ القرآن، لكن
معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا.
واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛ فالنبي - صلى
الله عليه وسلم - قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على
ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات
هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شافٍ كافٍ، بل معاني هذه الأسماء معلومة
من حيث الجملة للخاصة والعامة) . [مجموع الفتاوى7/286] .
وعند حديثه عن دوافع الشذوذ والخروج عن مقتضيات المنهج المتفق عليه في
تفسير النصوص (ولا تنس أنه منهج البوطي وحده) يذكر (أن هذه الدوافع تتجمع
في عاملين أساسيين:
العامل الأول: المغالاة في تحكيم العقل على حساب النص الصحيح والخبر
الصادق، أي تحميله فوق طاقته وجره في متاهات لا يملك السير السليم فيها إلا
على ضوء الخبر اليقيني الذي يتمثل في النصوص) . [ص127] . وهذا كلام سليم
وجيد لولا ما ينقضه ما جاء في [ص63] عند كلامه عن (مراحله الثلاث) التي لا
يكون المسلم مسلماً إلا بها، حيث بعد أن يشترط لذلك: «التأكد من صحة
النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم -، قراناً
كانت هذه النصوص أم حديثاً، (وهذه فائدة جديدة عثرنا عليها من قراءتنا الثانية
لهذه الفقرة، وهي التأكد من صحة النص القرآني! فيجب أن ندرسه - على زعمه
- رواية ودراية، حتى ننتهي إلى يقين!» بحيث ينتهى إلى يقين بأنها موصولة
النسب إليه، وليست متقولة عليه يشترط أيضاً شرطاً آخر وهو قوله: (عرض
حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق
والعقل (يعني: إخضاع النصوص، أو ما فهمه من تلك النصوص - قرآناً وسنة
أيضاً! - لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها) !
وحتى نجمع بين هذين التناقضين، ونُعمل كلام الشيخ فيهما معاً فلا نهمل
واحداً، ونعتمد الآخر، وذلك ضناً بكلامه النفيس جداً عن الإهمال والتعطيل؛
نقول: لا بأس من تحكيم العقل في النص الصحيح قرآناً وسنة، لكن دون مغالاة!
وبذلك يتسق أول الكلام مع آخره! ومن يدري؟ ! فقد نستحق جائزة أو شكراً على
الأقل منه على ذلك!
تلبيس وتدليس:
كثيرا ما يلجأ البوطي إلى التعميم والتلبيس، فيصدر حكماً، أو يضع مقدمات
يتركها بلا دليل ولا إثبات. وهذا الأسلوب في الكتابة شائع بين العلمانيين الذين
يهجمون على القضايا الفكرية الأساسية بجرأة عجيبة، وبخاصة على ما كان منها
متعلقاً بالأمور الشرعية التي لا علم لهم بها.
والمفترض أن يكون أسلوب النقاش مع الشيخ البوطي يختلف عن الأسلوب
الذي يتبع مع هؤلاء، فهو شيخ وابن شيخ، وهذا أعرق له وأثبت قدماً في مجالات
العلم والبحث، وهو أيضاً حامل لشهادة الدكتوراه - وأظنها مع مرتبة الشرف إن لم
يكن أكثر - من الأزهر، وهذا أَطلَق لقلمه ولسانه، وأكثر ترويجاً للكتب في السوق
هذه الأيام، وبخاصة في بلاد كبلاد الشام حيث من اللائق بالشيخ أن ينشد:
خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
فكيف يهجم الشيخ هجوم أولئك؟ ! وما له يرسل الكلام إرسالاً، ويطلق ...
الأحكام إطلاق المتمكن الواثق؟ ! ألا تكفينا مجازفات العلمانيين وتعالم الجهلة الذين ...
أفسدوا العلم والثقافة، وسمموا العقول والقلوب؟ ! لمن يكتب هذا الكلام ومن أي ...
بئر يَمْتَح؟ ! :
(وهذا ما حدث، فقد كان في الصحابة والتابعين من أخذ يستنبط الأحكام تعليلاً واعتماداً على اجتهاده المرسل، استجابة لمقتضيات الظروف الطارئة والأوضاع الحديثة، (يقصد: الحادثة) وكان فيهم أيضاً من يتجنب ذلك ويحذر منه، بل يشتد في النكير على استعمال الرأي والأخذ به، خوفاً من تجاوز النصوص والاستبدال بها، مما يسبب الوقوع في زلات لا تغتفر) [ص49] .
- لِمَ لم يذكر الشيخ اسم صحابى واحد كان يستنبط الأحكام تعليلاً واعتماداً
على اجتهاده المرسل؟
- ثم ما معنى الاجتهاد المرسل؟ نحن نفهم الاجتهاد المرسل على أنه الاجتهاد
الذي لا دليل عليه؛ لا من كتاب، ولا من سنة، ولا حتى من عقل، كالجمل
المرسل: لا خطام ولا عقال. والفرس المرسل: لا عنان، ولا لجام، ولا هِجار!
هل يقصد الشيخ إلى أمثال هذه التلبيسات قصداً؟ وهو فعل غير محمود
العواقب عليه وعلى قرائه؟
والجواب - والله أعلم - أن منها ما يأتي بسبب العجلة وقلة الصبر كهذه التي
أشرنا إليها آنفاً؛ ومنها التي تجمع إلى العجلة وقلة الصبر قليلاً من الهوى كهذه التي
نعثر عليها في هامش [ص 101] حيث يقول:
(إلا ما ذهب إليه الإمام أحمد من حكمه بكفر تارك الصلاة ولو لم يكن جاحداً ...
لها) . فما الدافع لهذا الإجمال المخل؟ إن لم يكن ما ذكرنا؟ ! وإلا فالمسألة فيها تفصيل معروف عند العلماء، وليس هذا الذي ذكره هو رأي الإمام أحمد وحده، فقد قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي - رحمه الله - في كتابه في الصلاة:
(ذهب جملة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم إلى تكفير تارك
الصلاة متعمداً لتركها حتى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطاب، ومعاذ
بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبو الدرداء، وكذلك روي
عن علي بن أبى طالب، هؤلاء من الصحابة. ومن غيرهم: أحمد بن حنبل،
وإسحق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عيينة،
وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبى شيبة، وأبو خيثمة
زهير بن حرب) . [كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم، 5 1] .
ولكن هناك من التلبيسات ما يبدو أنه يقصد إليه قصداً، كتلك الواردة في [ص
102] (والصلاة جماعة خلف كل بر وغيره) !
فالمعروف عند المسلمين: الصلاة خلف كل بر (وفاجر) فما الداعي يا ترى
لوضع: (غيره) موضع (فاجر) هل هو النسيان؟ أم هو سبق قلم؟ أم أن الكلمتين
مترادفتان تقوم إحداهما مقام الأخرى؟ !
لا شك أن كلمة (غيره) أعم من كلمة (فاجر) .
وعلى كل حال؛ فكان يمكن أن تعد هذه هنة من الهنات التي لا يوقف عندها
لولا ما بلونا من الشيخ وضعه للرقة والنعومة والقسوة والتشنيع والتشهير في غير
مواضعها، فلعله - وهو في زمن كثر فيه هذا الصنف من الأئمة - لا يريد أن
يكسر خاطرهم بمثل هذه الكلمة التي قد يعتبرها نابية؟ ! أو لعله يجوز إمامة المنكِر
معلوماً من الدين بالضرورة أو من في حكمه - وهو غير برٍّ حتماً - وهكذا قد يظن
أنه بهذه (المجاملة) ينجو من المحذور فيقع في المحظور. ولكن هل عليه بأس
بمجاراة الزمن، والصحابة - الذين هم مَن هم - قد جاروه؟ !
ألفاظ غير لائقة بالشيخ:
يقول عن الصحابة والتابعين:
(ولكن، ها هم اليوم، وقد تمازج جيل التابعين مع الصحابة، قد غيروا طريقهم، وفتحوا صدورهم للجدل في كل مسائل الاعتقاد، (بلا استثناء؟ !) وفي مقدمتها تلك التي كانوا بالأمس ينغضون لها الرأس والفكر قبولاً واستسلاماً دون أي بحث أو نقاش..) [ص42]
لا نريد أن نناقش هذه الفقرة من الناحية الموضوعية، بل من الناحية الشكلية
فقط، فنقول:
استخدام هذه الكلمة (ينغضون لها الرأس) في وصف الصحابة أو التابعين
أمر غير لائق، فقد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في وصف الذين لا يؤمنون
بالآخرة، وقد قال ابن عباس وقتادة في تفسير [ينغضون رؤوسهم] أي يحركونها
استهزاءً. [ابن كثير تفسير الآية 51من سورة الإسراء] ، لكن حرص الشيخ على
الأسلوب الأدبي الرفيع، واحتفاله به يجعله يضحي بالمعاني في سبيل الألفاظ!
كذلك قوله عن علم الجرح والتعديل ويسميه هو: فن الجرح والتعديل بأنه
(يقف ذيلاً وخادماً) فلِمَ هذا التكلف؟ ولم كل هذا الجبروت في منهجك حتى تجعل من علم الجرح والتعديل ذيلاً وخادماً له؟ ! يا أخي، لقد ملكت؛ فأسجحْ!
وانظر إليه كيف يستحسن - بتشفٍّ وحنق وشماتة ظاهرة - أن يصفع شرطي
فرنسي مسلماً (سلفياً) ويشتمه:
(لقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة
أعوام، حتى اضطرت الشرطة الفرنسية (مشكورة!) إلى اقتحام المسجد، ...
والمضحك المبكي [1] بآن واحد، أن أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة
الحمقاء لدين الله ولحرمة المساجد، (صحيح أحمق! لماذا يغار على دين الله وعلى
حرمة المساجد؟ أعلى مثل هذه الأمور يغار؟ !) لما رأى أحد الشرطة داخلاً
المسجد بحذائه، فصاح فيه (كذا) أن يخرج أو يخلع حذاءه (كذا) ولكن الشرطي
صفعه قائلا: وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيها
السخفاء؟ ! ..) [ص 245]
لمثل هذا فليكتب الكاتبون!
نقول:
لو أن الشيخ نقل لنا كلام الشرطي الفرنسي باللغة الفرنسية وأردفه بهذه
الترجمة لأحسن صنعاً، ولكان عمله أقرب إلى الدقة والموضوعية! ؛ لأننا في شك
طفيف من هذه العاطفة البادية في عبارة هذا الشرطي الورع الذي لم يلجأ إلى ما لجأ
إليه إلا بعد أن بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطُّبَيين! وإلا فهو - وكذلك بنو
جلدته - من أشد الناس معرفة بحرمة المساجد ومراعاة مشاعر المسلمين! !
أخي القارئ الكريم:
اقرأ هذه الفقرة، وعاود قراءتها حتى تمل، وإياك أن تظن أن كاتبها أدونيس
بل هو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي صاحب حوالي عشرين مؤلفاً حول
القضايا الإسلامية، وسلسلة من ثمانية كتيبات بعنوان: أبحاث في القمة.
أي القمم؟ !
وأخيراً، فإن مما لا يليق بالشيخ أيضاً أن يشتم ويسب (السلفيين) ويصفهم
(بالكاذبين والمخادعين والمضللين) [ص255] فهذه والله كبيرة، وأن يصف
(السلفية) - كمصطلح - بقوله: (تلك الكلمة المَيْتَة [2] التي لا تنحط (! !) إلا
على واقع يضم أخلاطاً ومذاهب شتى من الناس) .
وهذه أكبر!
اللهم هذا ليس بكلام مسته بركة العلم الشرعي، واستروح نسائم الأدب
الإسلامي!
غرور وادعاء:
تكثر العبارات والفقرات الثقيلة التي محورها النفس والهوى - والعياذ بالله -
فهناك من الجمل الفضفاضة الكثير في ثنايا الكتاب، ونحن نشهد أن الكاتب حاول - جهده - أن يكف كثيراً من هذه العبارات التي تتزاحم لتندلق على صفحات كتابه، وتتجسد كلاماً يقرأ وتحسب له الحسابات، ولكن على رغم من جهده وعنائه في
كفكفتها؛ فإن قدراً منها لا بأس به قد غلبه وخرج يتلألأ ويلوح!
خذ مثلاً قوله [ص69] :
(ولابد أن نقول هنا كلمة وجيزة نضمنها عصارة ما هو مدون في المطولات
والموسوعات التي تناولت هذا الموضوع عموماً، وهو منهج المعرفة بصورة عامة، والتي ركزت على هذا المدخل الذي نحن بصدده خصوصاً) .
انظر، ضمّن كتابه هذا العصارة! عصارة ماذا؟ عصارة ما هو مدون في
المطولات والموسوعات، فالمطولات وحدها لا تشفي غليل الشيخ، بل لا بد من
الموسوعات، والمطولات والموسوعات هضمها الشيخ هضماً، وعصرها عصراً،
حتى أخرج لنا هذه الآبدة!
صدق مَن قال: (المرء حيث وضع نفسه) !
وهذه ثانية:
(ومع ذلك فلنتبع هذا الباب، بباب آخر يزيد من وضوحه، نضع فيه النقاط
على الحروف، وننتقل فيه من البيان النظري الواضح الجلي! إلى التطبيقات الحية
كي نسد بذلك كل ثغرة قد يتسلل إلى الذهن منها وسواس، أو يتشابه من خلالها حق
بباطل. والله المستعان) . [ص 94] .
إن الشيخ تعجبه نفسه كثيراً! وهو معجب بأسلوبه أكثر! ولو أن مقرّظاً قرّظ
كتابه بمثل هذا الكلام لصح أن يقال له: مهلاً، هوّن عليك، رحمة بالرجل فقد
قطعت عنقه!
فليت شعري، ماذا نقول للرجل وهو يتحدث عن نفسه هكذا؟ !
وثالثة:
اسمعه يصف منهجه:
(وسنزداد يقيناً، على أعقاب ذلك، بأن هذا المنهج هو الميزان ... والمقياس الوحيد لتصنيف الناس في مجال البحث عن هوياتهم (!) الاعتقادية والسلوكية، في أي عصر من العصور عاشوا، ومن أي القبائل أو الشعوب انحدروا، وهو المحور الذي أدرنا عليه سائر بحوث هذا الكتاب) . [ص 98] .
ونحن نضيف على وصفه منهجه هذه العبارة:
(حتى لو أن قائلاً قال: إنه هو الميزان الذي عناه أبو طالب بقوله ... في قصيدته اللامية:
بميزان قِسطٍ لا يَخيسُ شعيرةً ... له شاهد من نفسه غير عائل
لما أبعد!
ورابعة:
(ولقد أصغينا طويلاً، ونقبنا كثيراً، فلم نسمع بهذا المذهب في أي ... من العصور الغابرة!) [ص231] . لم يقل لنا الشيخ: لمن أصغى، ولا أين نقب؟ ولكن هذا معلوم بديهة؛ فقد أصغى طويلاً لأهل العلم، ونقب كثيراً في بطون الكتب (والمطولات والموسوعات) وعصرها عصراً، لن ننسى ذلك أن الشيخ يجهد نفسه، ويحملها على أوعر الطرائق من أجل أن يُجهّل ويُبدّع ويُسخّف هؤلاء السلفيين، ويخرجهم من دائرة أهل السنة والجماعة!
لقد أتعبت نفسك يا رجل، ألا تستريح!
وخامسة أخيرة:
بعد أن أظهر لنا في كتابه أنه ابن بَجْدة الفقه والأصول (ومنهج المعرفة
وتفسير النصوص) أراد أن يستولي على الأمد فيتسلق إلى علم العربية، فوقع.
استمع إليه وهو يتمايل ويتخايل:
(يدلك على ذلك أن (بل) لا تقع إلا بين نقيضين (!) فليس لك أن تقول، ...
وأنت عربي: لست جائعاً بل أنا مضطجع، وانما تقول: بل أنا شبعان (هكذا!)
وليس لك أن تقول: ما مات خالد بل هو تقي، وانما تقول: بل هو حي، ولا
تقول: ما قتل الأمير، بل هو ذو درجة عالية عند الله، لأن ثبوت درجته العالية
عند الله لا ينافي قتله (فافهم!) وانما تقول: بل هو ما زال حياً.) [ص 126] .
لا يغترّنّ أحد بحسم الشيخ وجزمه في قوله: (إن بل لا تقع إلا بين نقيضين) .
فهذا من (عندياته) وتهويلاته، أما كتب النحو ففيها شيء آخر، قال ابن
هشام في المُغني:
(بل) حرف إضراب، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما: ...
- الإبطال، نحو: [وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ]
[الأنبياء: 26] ، أي: بل هم عباد، ونحو [أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ]
[المؤمنون: 70] .
- وإما الانتقال من غرض إلى آخر ومثاله: [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وذَكَرَ
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] [الأعلى: 4ا-6ا] ، ونحو: [ولَدَيْنَا
كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا] [المؤمنون 62-63] ، وهي في ذلك كله حرف ابتداء - لا عاطفة - على الصحيح.
ومن دخولها على الجملة قوله:
بل بلدٍ ملءُ الفجاج قَتَمُهْ
إذ التقدير: بل رب موصوف بهذا الوصف قطعته. ووهم بعضهم فزعم أنها
تستعمل جارّة.
وإن تلاها مفرد فهي عاطفة.
ثم إن تقدمها أمر أو إيجاب ك (اضرب زيداً، بل عمراً، وقام زيد بل عمرو) فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه فلا يحكم عليه بشيء، وإثبات الحكم لما بعدها.
وإن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته، وجعل ضده لما بعده، نحو: (ما قام زيد بل عمرو ولا يقم زيد بل عمرو) [مغني اللبيب، ص 151] .
وقد يلومنا بعض القراء أن وضعنا هذا المثال من تعالُم الشيخ تحت عنوان:
(غرور وادعاء) ولم نضعه تحت عنوان: (التواء وتهويل) فنقول:
الالتواء والتهويل ليسا بعيدين كثيراً من الغرور والادعاء، بل بينهما لُحمة
وكيدة وعلاقة وطيدة، تهويل يؤدي إلى الادعاء، وغرور يسوق إلى التهويل. ففي
هذا المثال؛ لولا الغرور والادعاء والإعجاب بالنفس التي تدفع بالشيخ لتجشم مثل
هذه الصعاب لما هوّل علينا بهذه الأمثلة التي يريد من ورائها إيهام قرائه أنه قادر
على الفتوى ليس في (السلف والسلفية) فحسب؛ بل في العربية أيضاً! وأمامك -
فانظر - فتاواه في هذين الشأنين.
*يتبع *
__________
(1) طبعاً يستسيغ الشيخ أن يضحك على هذا الموقف، ولكن يبكي مَن ماذا وعلى ماذا؟ ! .
(2) الضبط للكلمة من الشيخ نفسه، ولعل هذا الضبط أشفى لصدره! يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) ، 2/111: والميتة - بالتخفيف - هي في أصل اللغة: الذات التي أصابها الموت، فمخففها ومشددها سواء، كالميْت والميّت، ثم خُص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة فقيل: إن هذا من نقل الشرع، وقيل: هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى.(36/7)
مصطلحات إسلامية
الشهيد
عادل التل
المعنى اللُّغوي:
شهد، يشهد، فهو شاهد وشهيد، والجمع أشهاد وشهود، والشهداء جمع شهيد، وأصل الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو بالبصيرة،
والشهيد من أسماء الله الحسنى، وهو من صيغ المبالغة بوزن (فعيل) فإذا اعتبر
العلم مطلقاً، فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة، فهو الخبير، وإذا
أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد..
المعنى الاصطلاحي:
التعريف: (الشهيد هو الذي يقتل مجاهداً في سبيل الله، مخلصاً مقبلاً غير
مدبر) ومصطلح الشهيد الذي يدل على المقتول في سبيل الله - هو مصطلح
إسلامي صرف لم تستعمله العرب في الجاهلية بهذا المعنى، وإنما كان معروفاً
عندهم بمعناه اللغوي فقط.
عناصر التعريف:
أولاً: تسمية الشهيد:
ذكر العلماء أقوالاً كثيرة توضح السبب في تسمية الشهيد شهيداً نختار منها:
- لأن الشهيد حي فكأن أرواح الشهداء شاهدة: أي حاضرة.
- لأن الشهيد يشهد له الله بحسن نيته وإخلاصه.
- لأنه يشهد عند خروج روحه ما أُعد له من الكرامة.
وقد أطلق لفظ الشهيد على خصال وأعمال في غير القتل في سبيل الله، ولكن
إذا ذُكر هذا اللفظ مطلقاً دون قرينة - فإن فهم الناس يتجه إلى أنه المقتول في سبيل
الله. فقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما
تقولون في الشهيد فيكم؟ قالوا: القتل في سبيل الله قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! ، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون
شهيد، والمطعون شهيد» . صحيح أخرجه ابن ماجه.
والمبطون هو الذي يموت بداء البطن، والمطعون هو الذي يموت بمرض
الطاعون، وقد عدَّد العلماء أكثر من عشرين خصلة وردت في الأحاديث الصحيحة
مثل الحرق والغرق والنفساء وذات الجنب وغير ذلك. قال ابن التين: هذه كلها
ميتات فيها شدة، تفضل الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جعلها
تمحيصاً لذنوبهم وزيادة في أجورهم، يُبلّغهم بها مراتب الشهداء.
قال ابن حجر في فتح الباري:
والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما رواه أحمد
وابن ماجة «أن النبي سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: من عُقر جواده وأُهريق دمه» حديث صحيح.
ثانياً: القتال في سبيل الله:
يجب أن يتحقق القتل في سبيل الله بسبب الجهاد، فمن جاهد حياته كلها -
ولم يحدث القتل أثناء الجهاد وبسببه - فلا يكون شهيداً وإن كان له أجر المجاهدين
وثواب الشهداء، فقد أخرج ابن ماجة في باب الجهاد عن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: «من سأل الله الشهادة بصدق من قلبه بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات
على فراشه» .
ولا يشترط أن يتحقق القتل في خضم المعارك وخلالها، وإنما يكفي أن يكون
القتل في الجهاد وبنِيته، وهذا يشمل مرحلة ما قبل المعركة وما بعدها.
وقد أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق بسهم في الأكحل، ومات منه بعد مدة
فكان شهيداً. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً:
(سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه
فقتله) حسن أخرجه الحاكم والضياء.
ثالثاً: صلاح النية:
وهو أن يكون القصد من الجهاد، والغاية من الخروج إلى القتال هو إعلاء
كلمة الله، والنية أمر خفي؛ لذلك كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن حقيقة الجهاد.
أخرج البخاري عن أبي موسى قال:
«جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكْر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ قال: من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» .
وقد أنكر الإسلام دواعي القتال في الجاهلية وأبطلها، فكان الفخر، والثأر،
وحب الرياسة، وطلب المغنم، والتعصب للقبيلة تمثل أكثر الأسباب التي تؤدي إلى
نشوب المعارك والحروب، وليست أيام العرب في الجاهلية عنا خافية.
من أحكام المصطلح:
للشهيد خصائص وميزات عند ربه لا تكون لغيره:
- الشهيد حي عند ربه؛ قال - تعالى -: [ولا تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ولَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ] [البقرة: 154] .
- الشهيد يرزق في برزخه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة تحت العرش
تسرح في الجنة حيث شاءت» أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
- الشهيد يتمنى الرجوع إلى الدنيا للجهاد مرة ثانية؛ لذلك تمنى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن يُقتل شهيداً فقال:
«والذي نفسي بيده لوَدِدتُّ أني أُقتل في سبيل الله ثم أَحيا، ثم أقتل ثم أحيا،
ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» أخرجه البخاري.
- الشهيد يغفر الله له ذنوبه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «
يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن» . أخرجه أحمد ومسلم.(36/20)
اجتماع
نصوص مختارة من مقدمة ابن خلدون
اختيار وتعليق: محمد العبدة
تمهيد:
مقدمة ابن خلدون أشهر من أن تُعرّف، فهي من أعظم ما كتب في العصور
الإسلامية حول ما يسمى الآن (علم الاجتماع) وفلسفة التاريخ، وسماه ابن خلدون
(علم العمران) [1] ، ولم يتنبه المسلمون لأهميتها بعد ابن خلدون؛ لأن الضعف
العلمي والثقافي الذي جاء بعده لا يتيح الفرصة لاكتشاف أهمية مثل هذا العمل،
فكيف بالزيادة عليه أو إكمال بعض النقص فيه، وإن كان بعض تلامذته
(كالمقريزي) أو من جاء بعده بقليل (ابن الأزرق) عرفوا أهمية فكر ابن خلدون
التاريخي، ولكن لم يضيفوا شيئاً يذكر على ما كتبه هو.
وقبل أن نختار بعض الفصول من المقدمة نرى أنه من المناسب إعطاء
القارئ لمحة موجزة عن حياة ابن خلدون وعن المقدمة.
هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، من أسرة عريقة في
الأندلس، يرجع نسبها إلى خالد (خلدون) بن عثمان، وهو أول مَن دخل الأندلس،
ويُرجع ابن حزم نسب هذه الأسرة إلى الصحابي وائل بن حجر.
ويمكن تقسيم مراحل حياته إلى:
1- نشأته وتعلمه.
2-الوظائف الإدارية والسياسية التي قام بها.
3- التفرغ للعلم وكتابة المقدمة.
4- رحلته إلى المشرق واستقراره في مصر.
1- نشأته وتعلمه:
وُلد ابن خلدون في مدينة تونس في غرة رمضان سنة 722 هـ، وذلك لأن
أسرة ابن خلدون هاجرت من الأندلس مع الحفصيين بعد تغلب النصارى هناك.
وعلى طريقة التعليم يومها تعلم الطفل القرآن والتجويد ثم العلوم العربية والتفسير
والحديث والفقه. ولما شب أخذ من كل العلوم، فدرس المنطق والعلوم الطبيعية
والرياضية، وفي الثامنة عشرة من عمره انقطع عن التعلم بسبب الوباء الذي اجتاح
تونس وهجرة أكثر العلماء إلى المغرب الأقصى.
2- الوظائف الإدارية والسياسية:
بدأ ابن خلدون حياته بوظيفة متواضعة وهي كاتب في ديوان وزير الدولة
الحفصية، ثم انتقل إلى حاشية السلطان أبي عنان في المغرب الأقصى، وأصبح
عضواً في مجلسه العلمي ومن كُتابه، وهنا بدأت طموحاته السياسية، وتعرَّف على
القصور والمؤامرات التي تحاك لإزاحة السلطان والإتيان بغيره، وشارك في هذه
المؤامرات، وكان هدفه الوصول إلى الوظائف الكبيرة وقد وصل إلى شيء منها
عندما عُين حاجباً (رئيس الوزراء) لأمير بجاية في سنة 766 هـ. وفي هذه الفترة
بدأ يشعر أن لا فائدة كبيرة من الخوض في غمار السياسة؛ خاصة وأنه لم يحقق
كل طموحاته، وعاوده الحنين إلى العلم وهي نزعة أصيلة في ابن خلدون، ولكنه
لم يقرر الاعتزال النهائي إلا في سنة 776 هـ.
3- التفرغ للتأليف:
استأذن ابن خلدون سلطان (تلمسان) في نزوله على أصدقائه بني عريف في
قلعة بني سلامة فأذن له ولأسرته، فانتقل إلى هذا المكان المنعزل، ومكث فيه أربع
سنوات نَعِم فيها بالاستقرار، وبدأ بتأليف كتابه (العِبَر) في التاريخ، وكان مقصده
الأساسي الكلام عن دول المغرب بشكل عام، ثم وسعه بعدئذ وتكلم عن دول
المشرق ويبدو أنه قبل فراغه من هذا الكتاب كتب مقدمة وفي نيته الكلام عن أغلاط
المؤرخين وكيف يصحح الخبر التاريخي، وما هي القواعد التي تعتمد في هذا
الموضوع، ومعرفة نشوء الدول وقيامها وأسباب انهيارها، وبمجرد البدء بالكتابة
انهالت عليه (شآبيب الكلام) كما يقول، فكتب عن الظواهر الاجتماعية وتأثيرها في
العمران البشري يقول: (ولم أترك شيئاً في أولية الأجيال والدول، وما يعرض في
العمران في دولة وملة، ومدينة وحِلَّة، وعزة وذلة، وعزة وقلة، وعلم وصناعة،
وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا
واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله) [2] .
كل هذا درسه كظواهر يمس من خلالها تفسير العمران الإنساني وكيف تقام
الدول وكيف تذوي وتذبل وكأن عقله الجوال وذهنه الوقاد كان يختزن هذه
المعلومات أثناء عمله في الإدارة والسياسة، فكان يحلل ويفكر في مثل هذه ...
المواضيع، فلما بدأ بالكتابة جاءته الأفكار قوية مندفعة كأنها شلال، فأنهى المقدمة
في خمسة أشهر، واكتشف أنه أتى بعلم جديد، فهو يقول: (وكأن هذا عالم مستقل
بنفسه، فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل
وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته [3] ، واعلم أن الكلام في هذا
الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث،
وأدى إليه الغوص) [4] .
4- بعد فراغه من تأليف الكتاب (الذي هو المقدمة وكتابه في التاريخ المسمى
(العبر)) أهدى نسخة منه إلى سلطان تونس، وعزم بعدها على الحج والاستقرار
في المشرق، فوصل إلى الإسكندرية سنة 784 هـ ثم إلى القاهرة وعاش بقية
حياته فيها بين وظائف القضاء والتدريس، وتُوفي سنة 808 هـ.
مضمون المقدمة:
تشتمل المقدمة على خطبة الكتاب وتمهيد في فضل علم التاريخ، ثم ستة
أبواب في شؤون العمران، والباب الأول كله مقدمات عن أثر البيئة الجغرافية في
الإنسان، وتكلم في الباب الثاني عن العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل كأصل
للعمران الحضري وفي الباب الثالث عن الدول العامة والملك والخلافة، وهو أهم
الأبواب، وفي الباب الرابع عن البلدان والأمصار (المدن) وما يعرض في ذلك من
الأحوال أي طريقة التجمع الإنساني. وتكلم في الباب الخامس عن الكسب والمعاش
والصنائع أي عن الاقتصاد. وأخيراً عرض في الباب السادس موضوع العلوم
وأصنافها والتعليم وطرقه. وهذه مختارات من الباب الثاني قال:
معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة عنهم: [5] ...
وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه، فمن الغالب أن يكون الإنسان في ...
ملكة [6] غيره ولابد، فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني فيها حكم ولا
منع وصد - كان من تحت يدها مدلِّين [7] بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين ... بعدم الوازع، حتى صار لهم الإدلال جِبِلَّة لا يعرفون سواها. وأما إذا كانت ... الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سَوْرة [8] بأسهم وتذهب ... المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه، وقد نهى عمر ... سعداً [9]- رضي الله عنهما - عن مثلها [10] ، لما أخذ زهرة بن حويه [11] سَلَبَ الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان (زهرة) اتبع ... جالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له: (هلاَّ انتظرت ... في اتباعه إذني؟) وكتب إلى عمر يستأذنه؛ فكتب إليه عمر: (تَعْمِدُ إلى ... ... مثل زهرة وقد صَلِي [12] بما صلي به، وبقي عليك مما بقي من حربك وتكسر ... فُوقه [13] وتفسد قلبه) وأمضى له عمر سلبه.
وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم
يدافع عن نفسه - يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت
الأحكام تأديبية وتعليمية، وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه
على المخافة والانقياد، فلا يكون مدلاً ببأسه. ولهذا نجد المتوحشين [14] من
العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام [15] ، ولا تستنكر ذلك بما وقع في
الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم، بل كانوا أشد
الناس بأساً؛ لأن الشارع - صلوات الله عليه - لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان
وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلي عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم
صناعي [16] ولا تأديب تعليمي. إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلاً يأخذون
أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم
مستحكمة كما كانت، ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر - رضي الله
عنه -: (من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله) ، فقد تبين أن الأحكام السلطانية ...
والتعليمية مفسدة للبأس؛ لأن الوازع أجنبي (خارجي) وأما الشرعية فغير مفسدة؛
لأن الوازع فيها ذاتي [17] .
من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم: [18]
وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية [19] وشدتها، فإن
انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا [20] للمذلة حتى عجزوا عن
المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة،
واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى - عليه السلام - إلى ملك الشام،
وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، وقالوا: [إنَّ فِيهَا
قَوْماً جَبَّارِينَ وإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا] [المائدة: 22] . ولما عزم عليهم
لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: [فَاذْهَبْ أَنتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا] [المائدة: 24] وما
ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، وذلك بما حصل
فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً، حتى ذهبت العصبية منهم
جملة، مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم،
فعاقبهم الله بالتيه، ويظهر من سياق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة،
وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا
من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا
يسام بالمذلة [21] .
__________
(1) لا شك أن المصطلح الذي اختاره ابن خلدون (علم العمران) هو مصطلح إسلامي؛ قال - تعالى - في القرآن: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: 61] .
(2) المقدمة 1/287، بتحقيق علي عبد الواحد وافي.
(3) المقدمة 1/331 وبقصد بالعوارض والأحوال لذاته: القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية، مثل أن العصبية القبلية غايتها الملك، أو أن الحضارة (كثرة الرفاه) مؤذِنة بفساد العمران، وأن الدول لها أعمار وقد ضرب ابن خلدون مثلاً للظواهر الاجتماعية، فقال: (ما يعرض لطبيعة العمران من التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك كله من الملك والدول وخرابها) انظر المقدمة1/328.
(4) المقدمة 1/331.
(5) يريد ابن خلدون هنا أن يقارن بين البدو الذين لا يحكمهم أحد (خاصة بدو العرب) وبالتالي تكون الأنفة والعزة عندهم قوية؛ لأن كل واحد يحمي نفسه وكل قبيلة تحمي نفسها والحضر الذين يحتمون بالجنود والشرطة، فتذهب قوة بأسهم واستعدادهم للقتال، وبالتالى استعدادهم للمطالبة بدولة وإزاحة الدولة السابقة، فحسب نظرية ابن خلدون لا يستطيع إزاحة الدول إلا شعوب فيها عزة وكرامة، تتجمع حول بعضها بحكم القرابة أو الولاء والنجدة والحمية، أما أهل الحضر فليس فيهم هذه الأمور فلذلك لا يستطيعون إنشاء الدول، وهذه النظرية - وإن كان فيها شيء من الحق - لكن أهل الحضر إن تجمعوا حول الدين واستماتوا في سبيله، فيكون شأنهم شأن أصحاب القوة والمطالبة، وابن خلدون لا يعرض لمثل هذه الأمور وإنما يضع نظرية ويأتي بتطبيقاتها، دون أن يبحث وجهات النظر الأخرى أو الاستثناءات لقاعدته تلك.
(6) يعني الحكم الذي يخضع له الناس.
(7) واثقين، معتزين بقوة بأسهم.
(8) السَّوْرة: الحدة.
(9) سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قائد جيوش القادسية.
(10) أي أخذ الناس بالقهر والإخافة.
(11) ويقال: حويّه، صحابي كما ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) / هامش (الإصابة) ، 1/587 (12) قاسى شدائد الحرب.
(13) كناية عن تثبيط الهمة، والفُوق هو موضع الوتر من القوس.
(14) يستعمل ابن خلدون هذه الكلمة ويقصد بها عكس التأنس والتجمع، فهي تعني الانفراد والبعد عن الناس، وليس كما تُستعمل الآن في الأحاديث العادية، والتي تعني عدم التهذيب والبعد عن الأخلاق الاجتماعية.
(15) لا يعني هذا أن الإنسان يعيش دون أحكام وحكومة ولكن هذه الأحكام إن كانت شرعية والمسلم ينصرف بوازع داخلي من التقوى، لا تؤثر فيه هذه الأحكام وتجعله ذليلاً كما سيبينه المؤلف وأن الصحابة لم ينقص بأسهم مع خضوعهم لحكومة.
(16) أي له رسوم معينة وأشكال معينة ولابد فيها من خضوع الطالب أو تعوّده على الخضوع؛ فالصحابة تعلموا وأخذوا عن بعضهم، وكانوا يعظمون مَن هو أعلم منهم ويتأدبون معه، ولكن هذا غير ما حصل بعدئذ من طرق التعليم.
(17) المقدمة، 2/479.
(18) إن ابن خلدون - وهو يتكلم عن أساس المدنيات وأخلاق الشعوب - يريد أن يقول: إن الشعوب التي استمرأت الذل والمهانة، ووقعت في أسر غيرها وأصبحت مغلوبة، لا تستطيع أن تقيم ملكاً وتؤسس دولة؛ فالذي يريد التأسيس لابد أن تكون (سَورة بأسه) كاملة شديدة.
(19) سنتكلم بعدئذ عن نظريته في العصبية وما لها وما عليها، ونكتفي هنا بتعريف موجز لها فهي: (القوة الجماعية القائمة على تكتل من القرابة النسبية، وتمنح القدرة على المطالبة أو الدفاع) أو ما في معناها من (الولاء والحماية أو اتفاق الجميع على هدف واحد) .
(20) أي ألفوا المذلة؛ فأصبحت طبيعة عندهم.
(21) المقدمة 2/502.(36/24)
اليهود وأسلوب الكذبة الكبرى
جعفر محمد
يحفل تاريخ اليهود بالمفتريات والأكاذيب وليس في شأن الأرض فحسب،
ولكن في شأن العقيدة أيضاً، وأما واقعهم وحاضرهم فيشهد أن أسلوبهم في القول
والعمل هذا أسلوب الكذبة الكبرى.. فهم يرفعون شعارات العدل، ويسعون ليحلوا
في ظلم الناس محل ظالميهم.. ويرفعون شعارات الحرية، ويسعون جاهدين
لحجبها عن كل الناس غير اليهود.. ويرفعون شعارات المساواة.. لا ليتساوى
الأسود والأبيض، بل لتختلط كل العقائد ولا يستطيع أي أحد أن يميز؟ !
1- عقيدة اليهود كذب:
المصدران الأساسيان للمعتقدات اليهودية اليوم هما التوراة والتلمود.
فأما التوراة فتُجمع المصادر التاريخية والعلمية أن اليهود قد أعادوا كتابتها
على النحو الذي هو قائم الآن، وجعلوها منطلقاً للعنصرية والحقد والكراهية لكل
العالم وصولاً لتأسيس دولة داود جغرافياً وسياسياً ومادياً! ! وهو هدف معارض
للتوراة التي أوحى الله بها لموسى - عليه السلام -.
(وقد أثبت العلم العصري - بعد أبحاث مستفيضة في الآثار القديمة ... والتاريخ وعلم اللغات - أن التوراة لم يكتبها موسى، وإنما كتبها أحبار لم يذكروا اسمهم عليها، ألفوها على التعاقب معتمدين في تأليفها على روايات سماعية سمعوها قبل أسْر بابل) [1] .
وقد أشار كثير من الباحثين إلى ذلك الاحتواء الخطير الذي وقعت فيه تعاليم
الدين الذي أنزل على موسى -عليه السلام - مرتين: الأولى في اتصاله بالفكر
البابلي، ثم بالفكر اليوناني. ويعد فيلسوفهم (فيلون) هو الذي وفق بين التوراة
وتعاليم اليونان الوثنية، وفسر التوراة تفسيراً يوفق بين تعاليمها وتعاليم اليونان.
وأشار جيمس فريزر في كتابه عن (الخرافة) - بقوله: (لقد شهد كثيرون بأن
العقيدة التي يتستر وراءها اليهود هي شريعة الغاب التي تقوم على تدمير المدن
والقرى، وحرق المسكن وقتل الأطفال والشيوخ) .
ويقول ول ديورانت: (يبدو أن الفاتحين اليهود عمدوا إلى أحد آلهة كنعان
فصاغوه على الصورة التي كانوا هم عليها وجعلوه الإله (يَهْوَه) ؛ فيهوه ليس خالقاً
لهم بل مخلوق لهم، وفي يهوه صفاتهم الحربية: التدمير والسرقة، ويهوه قاسٍ
مدمر متعصب لشعبه؛ لأنه ليس إله كل شعب بل إله بني إسرائيل فقط! ، وهو
بهذا عدو للآلهة الآخرين كما أن شعبه عدو للشعوب الأخرى! !) .
وأما التلمود فهو جملة من القواعد والوصايا والتعاليم المتعلقة باليهود على
مدار التاريخ.. وقد حرص اليهود - لكي لا تنكشف نياتهم تجاه العالم - أن تظهر
طبعات التلمود وقد حُذف منها بعض الفقرات والأخلاق وكل ما يعتبر طعناً مباشراً
في الأديان الأخرى، وتقرر أن يترك مكان هذه الفقرات خالياً حتى يثبتها اليهود
فيما بينهم، وبهذه الوسيلة لا يثور الناس عليهم، ومع هذا الحذف والتبديل والتغيير
فإن هذه الطبعات لا تزال زاخرة بالفضائح والشنائع المخجلة، والتلمود هذا مملوء
بدعاوى العصبية والعنصرية وزعم أن اليهود هم شعب الله المختار.
2- عنصرية.. وغدر:
هناك مجموعة معتقدات وأساليب حياة ينظر إليها اليهود على أنها خطة عمل
يجابه بها العالم.. تلك هي: (بروتوكولات حكماء صهيون) وبين سطور هذه
البروتوكولات تتأرجح بغضاء دينية وعنصرية عميقة الجذور، فهي تقوم على
محاولة القيام بأمور كثيرة منها:
1- حكم الدول كما تحكم الحكومات رعاياها عن طريق تكبيل هذه الحكومات
بالقروض ذات الفوائد عن طريق المال اليهودي، وعن طريق اختيار رؤساء الدول
من الذين ليس لهم خبرة في شؤون الحكم ليكونوا كقطع الشطرنج.
2- انحلال الشعوب غير اليهودية بالطرق كافة وشتى الوسائل.
3- اعتبار المحافل الماسونية كالقناع الذي يحجب الأهداف الحقيقية.
4- تغيير التجمعات العقائدية إلى تجمعات مصلحية مادية.
5- السيطرة على وسائل الإعلام للسيطرة على الجموع البشرية.
6- إلهاء الجماهير بأنواع شتى من الملاهي والألعاب.
7- وتقوم البروتوكولات برسم وتحديد الحكومة العالمية المتوهمة لليهود في
شتى المجالات.. وهذه هي البروتوكولات.
ولا شك أن الناظر إلى ما يجري في العالم يلحظ وجود علاقة بين ما يحدث
ومواقف اليهود تجاه غيرهم على ضوء المخطط السياسي والعقائدي المرسوم في
أصول اليهود العقائدية المحرفة (التوراة والتلمود) وفي خطتهم السياسية
(البروتوكولات) التي تحوي العنصرية والغدر، وتوصي بكل أنواع الجرائم من قتل
وحرق واغتيال وتشويه.. فمن ذبح مائتين وخمسين إنساناً، والتمثيل بأجسادهم ما
بين طفل ورضيع وامرأة حُبلى وشيخ طاعن في دير ياسين إلى حرق المسجد
الأقصى، إلى اغتيال العلماء النابغين وخاصة في مجال الذرة.. وهذا قليل من
كثير يكشف عن أخلاق اليهود وصفاتهم.. وصدق الله العظيم: [ويَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ] [آل عمران: 75] ، وقال - سبحانه وتعالى -:
[سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ] [المائدة: 41] وقال -جل شأنه -: [الَذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ] [الأنفال: 56] ، وقال جل وعلا: [ويَقْتُلُونَ الَذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ] [آل عمران: 21] .
3- ثمار اليهود المحرمة:
كان من ثمار اليهودية العالمية فصل الدين عن الدولة وإقصاؤه عن واقع الحياة. واستغل اليهود مسمى (الحرية) ليكون ستاراً لجميع أنواع الإلحاد والعهر التي
تهز القيم الدينية، وتجاهر بتسفيه أهلها وتشكيك الناس فيها، وإطلاق العِنان
للشهوات.. وهكذا يعمل اليهود على جعْل الإنسان يعبد نفسه بالسعي وراء متطلباتها، أو جعل الإنسان يعبد إنساناً مثله باسم المبدأ أو الفلسفة أو الزعامة فيه، وإعطاء
هذا المعبود المزعوم قداسة الألوهية بتعظيم صورته وتضخيم أعماله.. بل إن
اليهود في بعض الأحيان يُعَبِّدون الناس للأرض والوطن أو لفئة من الناس في
صورة الشعب أو الحزب! !
فالذي يمسخ شخصيته بالانقياد لهم يصفونه بالوطني المتحرر، والناقض
لعهود الله الفطرية والشرعية يصفونه بالحر الأبي! !
وهكذا نفذ علينا اليهود وتلاميذهم والمأجورون من جلدتنا المدربون في
مدارسهم الذين انصبغوا برجسهم وثقافتهم، فانصبغت مناهج الحياة في كثير من
بلادنا بصبغة مادية وثنية إلحادية بعيدة عن حكم الله فيما أنزل وخان المأجورون من
جلدتنا أمانة الله، ونبذوا كتابه ورفضوا حكمه وشريعته. وزعموا أن الإسلام ما هو
إلا مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر، فهو مسألة لا تعدو أن تكون شخصية!! ...
وطبعاً إذا كان الدين لا يحكم شؤون الحياة فلابد أن تحل محله نظريات اليهود
وأفراخهم! ! وهكذا لم يبقَ معهم من الإسلام إلا مجرد الانتساب الذي هو كالصورة
وما أعظم الفرق بين الحقيقة والصورة! ! وكانت هذه وغيرها من الثمار المحرمة
لشجرة اليهودية العالمية.
4- بشرى للمسلمين.. ولكن! :
هل تبقى هذه الأوضاع سائرة على وفق المخطط اليهودي في تأسيس مملكة
اليهود العالمية؟ !
لا شك أن الجواب: لا، دون تردد، فقد بشرنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بمعركة فاصلة بيننا وبين اليهود؛ فقال صلى الله عليه وسلم:
«لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ
اليهودي من وراء الحجر والشجر؛ فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله،
هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله إلا الغَرْقَد فإنه من شجر اليهود» متفق عليه.
ولكن ما دام الناس على إعراضهم عن عبادة الله بمعناها الحقيقي، فسيبقون
مسخرين لجميع أنواع المتحكمين فيهم من يهود أو ذيولهم، أما في الوقت الذي تقوم
فيهم (أمة) ترفع لواء الإسلام وتعيد سيرته الأولى فإن جميع مَن أمامهم من يهود
وأعوانهم لا يستحقون أكثر من وصف الجرذان.. فلا يخيف اليهود ولا أتباعهم
سوى العصبة المؤمنة العابدة لربها التي تجدد مجد أمتها وتعيد تاريخها وما ذلك على
الله بعزيز.
__________
(1) دائرة المعارف الفرنسية تحت عنوان (توراة) .(36/31)
تطبيق السنة
بين الغلوّ والجفاء
محمد بن عبد الله الدويش
إن مظاهر البعد عن السنة تتمثل في اتجاهين:
أولاً: التفريط والجفاء:
وهذا له مظاهر نشير إلى أهمها بإيجاز:
1- عدم العناية بها:
البعض من الدعاة إلى الله - عز وجل - قد أهمل هذه السنن ولم يعتنِ بها
بل كثيراً ما يمتد الأمر إلى التهاون في الواجبات والمحرمات. وعندما ترى الداعية
لا تكاد تفرق بينه وبين غيره في عبادته وصلاته وهديه وسَمْته ومظهره، ولا شك
أن المسلم ينبغي له أن يلتزم الإسلام من حيث الجملة، ولا يعفيه من ذلك كونه
يعيش في واقع سيئ.
2- دعوى تقسيم الإسلام إلى لب وقشور:
بدأت تطل هذه الدعوى نتيجة لغيبة منهج أهل السنة والجماعة عن الساحة
وفشو الجهل وقلة العلم. ويكفي في بطلان هذه الدعوى أن هذا التقسيم لا يُعرف
عن سلف الأمة. كيف وقد قال - تعالى -[ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى
اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 36] وقد حذر النبي
- صلى الله عليه وسلم - من محقِّرات الذنوب التي يقع فيها الكثير من هؤلاء بحجة
أنها قشور أو مسائل خلافية «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً» أخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عائشة. وأخرج أحمد بسند حسن من
حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:
«إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ ...
فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها صاحبها تهلكه» .
وهناك فرق بين التقسيم إلى فروع وأصول والتقسيم إلى لب وقشور.
3- الانشغال بالقضايا المعاصرة:
إننا في عصر قد بلينا بأمور جسام وانحرافات خطيرة يصل بعضها إلى الردة
عن دين الله - عز وجل - كما سيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك، ولذلك قال
البعض بحسن نية: لِمَ نشغل أنفسنا بهذه الأمور وندع القضايا الأهم؟ ! ، المسلمون
يُقتلون ويُذبحون وأنت منشغل بحكم الإسبال واللحية والإشارة بالسبابة في الصلاة.
ونحن لا نجادل أن هناك قضايا أهم من هذه بكثير، لكن هل يعني ذلك ترك
هذه الأمور الفرعية والسخرية ممن يفعلها؟ ولِمَ نفترض التعارض أصلاً؟ ؛ فإن
الكثير من هؤلاء تضيع عليهم أوقات كثيرة سدى، فلا هم نصروا المستضعفين،
ولا حلوا مشاكل الأمة، بل تجد إعراضهم وبُعدهم يمتد إلى أصول مهمة في الدين
لا يُعرف تفاصيل حكم الله فيها. إن وجود هذه الانحرافات يتطلب الاهتمام بها ولا
شك، وأن تكون في قائمة اهتماماتنا، لكن لا يعني ذلك بالضرورة ترك ما عداها
ولا الانشغال بما دونها عنها. ولما جاء عقبة بن عامر يبشر عمر بفتح بيت المقدس
تلقى بُشراه ثم نظر إلى قدميه فرأى عليه خفين فسأله.. فلم يشغله اهتمامه بأمر
المسلمين عن العناية بهذه القضية الفرعية. ولما دخل عليه شاب مسبل إزاره -
وهو في النزع - لم يشغله ذلك عن الإنكار عليه.
ثانياً: الغلو في تطبيق السنة:
1- تتبُّع الغرائب:
مما يؤسف له أن البعض يحرص على السنن الغريبة والمجهولة عند الناس،
والتعلق بالغرائب مما جبلت عليه النفوس، أليست القصة الغريبة والحديث الغريب
مما يجد رواجاً لدى الناس ويشد انتباههم أكثر من غيره؟ ، ومن هنا تتعلق نفوس
البعض ببعض الغرائب - عن الناس - فعندما يرى سنة مجهولة أو غريبة يسارع
إلى المبادرة إليها والتمسك بها، ولسنا نقف ضد إحياء السنة. إنما الغالب في هذا
الأمر شهوة خفية لدى البعض قد لا يحس بها ألا وهي التعلق بالغرائب وحب مخالفة
الناس، ثم إن فعْل ذلك يعطي تميزاً لهذا الشخص وهذا من مداخل الشيطان. وإذا
كان الأمر يتعلق بإحياء السنة لا غير فما بال بعض السنن المهجورة نجد القلة ممن
يحييها!
إن تأليف قلوب الناس على الحق وجمع كلمتهم مطلب شرعي؛ فقد قال ابن
مسعود - رضي الله عنه -: (ما أنت محدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان
لبعضهم فتنة) . وقال علي- رضي الله عنه-: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون ...
أن يكذَّب الله ورسوله؟ !) بل قد ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدم
الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم؛ لأن قومه حديثو عهد بجاهلية، وبعد أن بناها
ابن الزبير وأعادها الحجاج لم يفتِ أحد من علماء الأمة بهدمها وبنائها مرة أخرى.
وقد ترك - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل
أصحابه، إن تأليف قلوب الناس بترك سنة أو تأجيلها أوْلى من ترك الكعبة وقتل
المنافقين.
ومجتمعنا يحوي عدداً من كبار السن الذي عاشوا سنين طويلة في مجتمع
متدين محافظ، فكيف بهم يفاجأون بشاب يأتيهم بما لم تأتِ به الأوائل، يأتي ليؤذن
أذاناً ما عهدوه، أو يوتر بخمس وقد عهدوا خلاف ذلك! . أليس من المصلحة اتباع
الحكمة والتروي في تعليم الناس السنة؟ وأن تكون ممن يثقون بعلمه ودينه لا من
حدث في سن أصغر أحفادهم. وثمَّة أثر آخر لذلك وهو أن الناس يهون عليهم
التغيير بعد ذلك فقد يقبلون بداعي البدعة أو تبديل بعض شرع الله؛ لأنهم اعتادوا
الخروج عما ألفوه واعتادوه.
2- الاهتمام بها على حساب الواجبات:
لا أظن أني أجاوز الحقيقة إذا قلت إن البعض ممن يعرف تفاصيل الأدلة في
مثل هذه المسائل قد يخطئ في عدة أركان أو شروط أو مبطلات الصلاة، وقد لا
يفرق تفريقاً دقيقاً بين الواجب والشرط والركن، ناهيك عما يفسد الصوم وما لا
يفسده، ومسائل المسح على الخفين، والجبيرة، وما يصح وما لا يصح من العقود، فضلاً عن أدلة هذه المسائل وتفصيلاتها، بينما يعرف دقائق التفصيلات في هذه
السنن. وقُل مثل ذلك عن شروط الشهادتين ولوازمهما ومقتضياتهما، وأصول أهل
السنة والجماعة والحد المخرج عن جماعة أهل السنة والمدخل فيها. أما أصول
الفقه واللغة فلا تسأل عنهما!
3- الاهتمام بها على حساب القضايا المعاصرة:
لقد ابتلينا في عصرنا الحاضر بانحرافات خطيرة عن دين الله - عز وجل -
يصل بعضها إلى الكفر البواح، كالحكم بغير ما أنزل الله، وتشريع الأنظمة
والقوانين المخالفة للشريعة، وإباحة الربا والفواحش، وسن الأنظمة التي تحميها
وتنظمها. والدعوة للسفور وخروج المرأة ناهيك عن العلمانية التي استحكمت
خيوطها في جسد الأمة. أما الفرق الضالة فقد بدأت تنفض ركام التاريخ لتعيد أمجاد
القرامطة والعُبيديين، وتحيي ذكريات أبي طاهر وابن العلقمي ونصير الشرك
والحاكم بأمره؛ لترقص على أشلاء أهل السنة في غيبة فوارسهم.
ما نصيب هذه الأمور من الاهتمام والدراسة العلمية الرصينة والنقاش
والإثارة، لا أبالغ إذا قلت إن بعض الأخيار يجهل أصول بعض هذه المسائل فضلاً عن تفاصيلها. فضلاً عن الاهتمام بها.
ولا يعني هذا إهمال الأمور الفرعية - كما سبق - إنما يجب أن تُعطى قدرها
من الاهتمام وتوضع الأمور في نصابها.
4- الإكثار من طرحها واثارتها:
وثمَّة موقف آخر يحتاج إلى وقفة، ذلكم أن البعض كثيراً ما يردد هذه المسائل
في المجالس وكثيراً ما يقرأ فيها وينقب ويسأل عنها كل مَن لقيه، وهذا كله على
حساب ما هو أهم وأوْلى كما سبق، أليس من وضع الأمور في نصابها أن نبحثها
مرة أو مرتين بقدر ما نصل في ذلك إلى قناعة عملية ثم نشتغل بغيرها؟ ، فهل هي
كل ما نحتاجه لنقرأ فيه ونسأل عنه ونطرحه للنقاش؟ .
5- التكلف والتشدد في تطبيقها:
ما أحوجنا إلى أن نلزم أنفسنا بما فُرض فعله أو تركه، ونتفقد أنفسنا على
ذلك ثم نسعى جاهدين لتطبيق ما نستطيعه من سنن بيسر ودون تشدد أو مبالغة.
لقد رأيت أكثر من شخص في موسم الحج والعمرة وقد أطلق شعر رأسه إلى
منكبيه اتباعاً للسنة بزعمه وأين هو من قوله - تعالى -: [مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
ومُقَصِّرِينَ] [الفتح: 27] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اغفر
للمحلقين ... » ، ومثله أن يجئ شخص متأخراً إلى المسجد بعد إقامة الصلاة ويدفع
الناس ليصل إلى الصف الأول، أو يضايقهم ليسوِّي الصف!
وإن مَن يسلك هذا المسلك لابد له من أن يكون ذلك على حساب الفرائض،
أو على حساب سنة أولى منها، أو إلى الغلو والتشدد الذي قد نُهي عنه، أو أن
يطبق السنة تطبيقاً خاطئاً.
سنن مهجورة أوْلى بالإحياء:
ثمة فرق واضح بين السنن المهجورة والسنن المجهولة؛ فالأولى أعم، فكل
سنة لا يعمل بها الناس فهي مهجورة ثم قد تكون مجهولة لدى الناس وقد تكون غير
ذلك. ولقد كان السلف لا يدعون ختم القرآن وتحزيبه، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم
إلا وتجد أنه كان يختم في كذا وكذا ومعظم هدْيهم التسبيع. فأين شبابنا عن التعشير
بله التسبيع، بل أين مَن يختم منهم مرتين في الشهر، وثالثة الأثافي أن الكثير منا
لا يأتي إلى المسجد إلى عند الإقامة وتراه لا يساوم على الصف الأول، فأين انتظار
الصلاة، والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، وقل
مثل ذلك في قيام الليل وصيام النفل والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح؟ ! .
أين الحريصون على السنة والمتشددون في تطبيقها من هذه السنن، أليست
هذه السنن أولى بالإحياء وفيها ما يدعو إلى حياة القلب وصلاحه وإزالة القسوة التي
نشكو منها جميعا. وثانياً أليس هذا يعطي دليلاً صادقاً للناس على صدقنا ويجعلنا -
معشر طلاب العلم - قدوة للآخرين؟ .
وأخيراً نستطيع أن نخلص إلى ما يلي:
أولاً: ضرورة العناية من الدعاة إلى الله - عز وجل - بالإسلام جملة
وتفصيلاً بالسنن والواجبات بالفروع والأصول، وأن يتميز الدعاة إلى الله عن
غيرهم بالعناية بهذا الأمر.
ثانياً: ضرورة أن نحرص على نوع من السنن (المهجورة لا المجهولة)
كالتبكير للصلاة والجمعة، وقيام الليل والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح؛ لما
لها من دور في إحياء القلوب وإزالة قسوتها، ولأنها تعطي الناس الثقة بما نحن
عليه.
ثالثاً: لا بد في تطبيق السنة من الحكمة والتأني وعدم مفاجأة الناس بأمور لا
يعرفونها، ومن التيسير وعدم التكلف فيها والتشدد.
رابعاً: لا يسوغ أن نكثر من بحث هذه المسائل وإثارتها على حساب ما هو
أهم منها بل يكفي تأصيلها.(36/36)
خواطر في الدعوة
الشجاعة المفقودة
عندما دعت جامعة هارفارد الأمريكية الكاتب الروسي (سولجنتسين) الهارب
من جحيم الشيوعية ليتكلم من منبرها؛ لخص هذا الكاتب الأزمة التي يعاني منها
الإنسان في الغرب بأنها (زوال البأس) وخصوصاً في الطبقة الحاكمة وعند نخبة
المفكرين، وتابع يقول: (يوجد أفراد لهم شجاعة وبأس ولكنهم لا يلعبون أي دور
مسؤول في الحياة السياسية، والتاريخ يعلّمنا أن الهبوط في البأس مؤشر على نهاية
الدول) .
... ... ... ... ... ... ... (الحياة 1/12/90)
لا أدري هل قرأ (سولجنتسين) لابن خلدون - ولا أظنه - ولكن من عجيب
الاتفاق أن ابن خلدون ركز كثيراً على هذا المعنى، وأن الاستبداد والظلم ومعاناة
الناس للحكم يزيل البأس عنهم، ويتحولون إلى شخصيات ضعيفة فيها كذب ومكر
وتملق، وعندئذ فلا خير فيهم، فلا هم يستطيعون المطالبة بشيء قوي، ولا
المدافعة إذا طالبهم أحد.
إن كلام الكاتب الروسي يدل على دقة ملاحظة وعمق في فهم المجتمع الغربي، فكثرة الرفاهية أنتجت أجيالاً، حتى على مستوى السياسة والفكر لا تملك الشجاعة
في اتخاذ القرار أو لا تملك الشجاعة بشكل عام..
ولكن ما بالنا نحن؟ ! هل نعاني من قلة البأس، وقلة الرجال الذين يملكون
الشجاعة للجهر بالحق، أم أن هذا داء عام، فالأجيال الحاضرة غير الأجيال السابقة، الواقع أننا نعاني من هذه الطامة، وإذا كانت الرفاهية - أو (الحضارة) بلغة ابن
خلدون - هي سبب هذه الظاهرة في الغرب، فالسبب عندنا هو عقم التربية في
المنزل والمدرسة والعيش في أجواء الظلم والقهر، فهذا مفسد للبأس ذاهب بالمنعة.
كيف نعيد هذا (البأس) ونحييه في الأمة؟ إن مثل هذا لا يُعطى كجرعة
الدواء، ولكن التربية الطويلة على الاستقلالية، وخشونة العيش، والجهاد في سبيل
الله - كلها تساعد على تربية الشخصية التي تعتد بنفسها وما تملك من دين وخلق،
والمحاضن الطبيعية هي المنزل والمدرسة، والعيش في أجواء إسلامية نظيفة،
يتربى الفرد فيها على الاحترام المتبادل وعلى العطف والتقدير.(36/42)
من هدْي السلف..
التلازم بين الظاهر والباطن
د. حسن حسن إبراهيم
قاعدة (التلازم بين الظاهر والباطن) قاعدة قطعية في الشريعة الإسلامية، ...
ولا شك أن لهذه القاعدة أهمية كبرى في إزالة (التميُّع) وفي ضبط الرؤية في كثير ...
من قضايا الحركة الإسلامية.
الظاهر تابع للباطن:
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «ألا وإن في
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي
القلب» [1] .
ويعقب ابن تيمية على هذا الحديث بقوله: (إن الإيمان قول وعمل: قول
باطن وظاهر وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح
الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي
العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه!) [2] .
الظاهر دليل على الباطن:
يقول الشاطبي: (.. فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد لا من جهة أخرى - فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شُرع أو على خلاف ذلك. ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً حكم على الباطن بذلك أو مستقيماً حُكم على الباطن بذلك أيضاً. وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات. بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً. والأدلة على صحته كثيرة جداً. وكفى بذلك عمدة أنه الحكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرح المجرّح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة) [3] .
فانظر كيف جعل الظاهر دليلاً على الباطن ثم انظر كيف جعل ذلك أصلاً
عاماً نافعاً أدلته كثيرة وحكم به على إيمان المؤمن وكفر الكافر.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال الله - تعالى: [مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ولَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
مِّنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [النحل: 106] .
فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً وإلا تناقض أول الآية
وآخرها (ولو كان المراد بَمن كفر هو الشارح صدره - وذلك يكون بلا إكراه - لم يُستثنَ المكره فقط بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر. وقد دل على ذلك
قوله - تعالى -: [يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ
اسْتَهْزِءُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إيمَانِكُمْ] [التوبة: 64-65] .
فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له
بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أن الاستهزاء بآيات الله كفر ولا يكون هذا إلا ممن
شرح صدره بهذا الكلام. ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام) [4] .
فتأمل قوله: (وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً) وقوله: ...
(ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام) ويقول في موضع آخر: ... (التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما أنه يوجب
المحبة والتعظيم، واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا - أمر جرت به سنة الله في
مخلوقاته) [5] ويقول: (إن سب الله أو سب رسوله كفر، ظاهراً وباطناً، سواء
كان السابّ يعتقد أن ذلك محرماً أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا
مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) [6] .
فانظر أيضاً كيف حكم بالظاهر على الباطن ولم يرتب الحكم على الاعتقاد
فقط. ويتضح التلازم بين الظاهر والباطن أيضاً في قوله - تعالى -[ولَوْ كَانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ] [المائدة: 81] .
فتأمل كيف جعل الله - سبحانه - فساد الظاهر دليلاً على فساد العقيدة والباطن.
الرد على شبهات يقول بها البعض:
لا يقال إن المنافق يظهر غير ما يبطن فإن للمنافق ظاهراً آخر يتفق تماماً مع
باطنه، وأيضاً فقد قال الله -تعالى -: [ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ] [محمد: 30]
وكذلك لا احتجاج بالمكره على نقض هذه القاعدة؛ فإن المكره قد ظهر من ظروف
الإكراه أنه لم يرد ولم يقصد هذا الظاهر إنما قصد دفع الإكراه. فمَن عرف ارتباط
الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة - التي دخلت على المرجئة وعلى بعض
المنتسبين إلى العلم في زماننا هذا - من أن المرء قد يكون مؤمناً كامل الإيمان في
الباطن وإن كان في الظاهر يشرع من دون الله ويعادي المؤمنين ويوالي الكافرين.
وهؤلاء هم سبب اللبس الذي تعانيه أجيالنا المعاصرة منذ أن زحفت العلمانية
بغزوها الفكري على أراضينا وشريعتنا وفكرنا.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الإيمان، ابن تيمية، ص159، الدار المحمدية.
(3) الموافقات، الشاطبي، ج1، ص233، بيروت.
(4) الإيمان ابن تيمية، ص188.
(5) الصارم المسلول، ابن تيمية، ص524.
(6) الصارم المسلول، ابن تيمية، ص512.(36/44)
البيان الأدبي
السعادة الوهمية
مؤمنة الشلبي
بدأت ظلمة الليل تتبدد وأخذ الفجر طريقه إلى الحياة، انسحب الليل بسواده
أمام الضياء الذي بدأ يطل على نافذة غرفة (سناء) التي كانت بصحبة خادمتها
(ناتالي) تُعدها، وتزينها، وتلقي النظرات الأخيرة على أناقتها قبل أن تخرج
لتستقبل يومها الأول في الجامعة.
ووقفت (سناء) أمام المرآة لتطمئن على أناقتها وأحاسيس مثيرة تنتابها وتملأ
كيانها بالغبطة والسعادة؛ فهي منذ اليوم ستكون فتاة جامعية لها شأنها.
وفي هذه الأثناء عاودتها ذكرى قدوم (ناتال) - الخادمة الفلبينية الوديعة
المحببة إلى النفوس من جميع أفراد العائلة - بما تقدم كل من إخلاص في الخدمة
وعذوبة في الحديث وتودُّد من الجميع لا نظير له ولا أدل على ذلك مما وجدته
(سناء) عندها من العطف والحنان، بل والحب الذي افتقدته عند والدتها التي لا تكاد
تنصرف عن زياراتها ومكالماتها مع صديقاتها، موكلة مهمة العناية بالبيت والأطفال
لخادمتها، بل طالما انصرفت الأم عنها وهي في شدة المرض لتمرضها (ناتالي)
وتهتم بها!
صحت (سناء) من شرود أفكارها على يد (ناتالي) الناعمة تُميل برأسها نحوها
وتضمها إلى صدرها، وتقبّلها قائلة: حسناً يا سناء، إنك بهذا الجمال وهذه الأناقة
تستحقين أن تكوني (الأستاذة سناء) !
وابتسمت (سناء) وهي تتابع كلام (ناتالي) بتعطش شديد فقد ضربت وتراً
حساساً لديها، فهي منذ الصغر تتلهف لليوم الذي تكون فيه أستاذة المستقبل يتحدث
الجميع باسمها.
وفي البهو الجامعي كانت المفاجأة السارة حيث التقت (سناء) مع صديقة
الطفولة وزميلة الدراسة (أمل) ، كان اللقاء حاراً استهلته (أمل) بإبداء الابتهاج
لنجاح سناء ودخولها الجامعة، واتبعت ذلك بالسؤال عما كانت تعانيه (سناء) من
صداع بين الحين والآخر.
فأجابتها (سناء) على الفور: الفضل كل الفضل في نجاحي يعود إلى خادمتنا
(ناتالي) التي سهرت على راحتي، وآنستني أثناء دراستي، وجلبت لي كل ما
يساعد على مواصلة السهر حتى الصداع الذي كنت أعانيه من جراء ذلك كان يزول
بأقراص السعادة العجيبة التي تقدمها لي!
وما زالت (سناء) تحدث (أمل) عن (ناتالي) بإعجاب وتصف شدة حبها
وتعلقها بها، و (أمل) لا تزيد أن ترد بابتسامة مجاملة لها، وقد اضطرم القلق في
عروقها.. إلى أن قطع الحديث بينهما بداية المحاضرة الأولى؛ فانسلت كل منهما
إلى قاعتها.
وتوالت اللقاءات بين (سناء) و (أمل) بتوالي الأيام، وفي كل مرة كان الشك
والقلق يزداد عند (أمل) .. إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان حين دخلت (أمل)
كافتريا الجامعة في أحد الأيام، وإذا بصديقتها (سناء) وقد استندت إلى أحد الكراسي، وقد بدا الشحوب على وجهها، وأمسكت برأسها تضغطه بكفيها وكأنها تريد أن
تستخرج منه شيئاً ما.
أسرعت إليها (أمل) تستوضح حقيقة الأمر؛ لتقوم ببعض الواجب تجاه
صديقتها وخاصة في مثل هذا الموقف وفوجئت بسناء تقول لها وببرود قاتل: لا
عليك يا عزيزتي؛ فالأمر لا يحتاج إلى اهتمام كبير فلقد اعتدت هذا، وما عليك إلا
مساعدتي للوصول إلى المنزل، وهناك تدبر أمري (ناتالي) بحبوب السعادة التي
تقضي على كل الآلام، وتعيد لي نشاطي وقوتي!
ولمعت الدهشة في عيني (أمل) ، وبدأ الشك الذي تسرب إلى نفسها يتحول
إلى يقين.. ولكن لم يكن بإمكانها في مثل هذا الموقف إلا الإسراع لتلبية طلب
(سناء) ، فاتصلت بوالد (سناء) في عمله والذي حضر لتوّه دون أن يظهر عليه أي
تأثر بالغ، فقد اعتاد هو الآخر على مثل هذه المواقف.
وفي المساء كانت (أمل) في بيت (سناء) لتطمئن عن صحتها ولم تتمالك نفسها
من إظهار الدهشة والإعجاب وهي ترى صديقتها بكامل صحتها ونشاطها، وقد تألق
وجهها بفيض من ملامح السرور والسعادة، واندفعت نحو (أمل) تضمها إليها وهي
تردد - والضحكات لا تفارق ثغرها -: ألم أقل لك يا عزيزتي بأن الفضل كل
الفضل يعود إلى الفتاة العظيمة (ناتالي) ، فما إن أوصلني والدي إلى المنزل وعاد
إلى عمله حتى احتضنتني (ناتالي) بعطفها وحنانها، وما إن ناولتني الأقراص
سرعان ما زال ألم الصداع، وعشت في عالم من السعادة، ودب النشاط في جسمي، وذهب أثر الشحوب عن وجهي وبدأ يتألق بالجمال كما تقول (ناتالي) ، وقهقهت
بخبث وهي تردف قائلة:
هل تصدقين يا أمل بأن (ناتالي) مقتنعة جداً بجمالي، فهي لا تفتأ تبدي
إعجابها وتردد على مسامعي: جمالك بارع جداً يا سناء ولكنك تشوهينه بهذا
الحجاب اللعين! ، سمعتها وهي تشتم أن يكون مولدي في هذا المكان، وأنه لمن
الظلم أن أظهر للمجتمع بلبوس العجائز! ، واتبعت ذلك بضحكة عريضة وهي
تقول: ألا توافقين على ذلك يا أمل؟ !
كانت (سناء) مسترسلة بحديثها المحبب إلى نفسها ولم تكن تدري ما يجول في
خواطر (أمل) التي تمالكت أعصابها وقالت: ثم ماذا؟ ! تابعي حديثك يا سناء.
فقالت سناء: أجل لقد نسيت أن أخبرك بأن (ناتالي) كثيراً ما كانت تؤكد لي
بأنها مستعدة لجلب تلك الحبوب لكل مَن أحبها وأثق بها من زميلاتي، وبأسعار
معقولة، بل إنها ستقدمها بدون مقابل للمرة الأولى فقط! ، فما رأيك يا (أمل)
بتجريب تلك الأقراص؛ فإنها ستكون عوناً لك على مواصلة السهر أثناء الدراسة
الجامعية، وإشعارك بنوع من السعادة الخفية العجيبة؟ !
وفي تلك اللحظات كان الانفعال قد بلغ ذروته عند (أمل) ، وارتسمت على
وجهها ظلال من الخوف الممزوج بالغضب، وجمدت كلمات مخنوقة في حلقها،
ومرت برهة صمت غمر فيها (أمل) شعور مَن يرى عزيزاً عليه يغرق في مياه
آسنة، ثم اندفعت الكلمات من حلقها - وهي تزمجر كالأسد الهائج -: لا.. لا..
لن أسح لتلك الشيطانة اللعوب أن تؤدي بك إلى الجحيم.. تنبهي يا (سناء) إن هذه
المجرمة تناولك السم بيدها، وثقي بأنها هي مصدر ما تعانيه من آلام الصداع،
والإرهاق، ولن يكون مصيرك معها سوى الموت أو الضياع! ، أو..، فقاطعتها
سناء ذاهلة - وهي تجاهد أن تملك نفسها من فرط العجب والدهشة لغضب (أمل)
المفاجئ -: ماذا جرى لك (يا أمل) ؟ ! .. وما هذا الذي تقولين؟ ! ؛ فأنا لا أسمح
لك أن تصفي (ناتالي) العظيمة الحبيبة بهذه الصفات! .
وأجابتها (أمل) باستنكار شديد: بل الغريب منك يا (سناء) - كيف لا تسمحين
لي أن أصف تلك المرأة الوثنية بالحقيقة؟ ! .. والأغرب من هذا أن تدافعي عن
العدوة الحاقدة، وتسمحي لها أن تصف دينك زوراً وبهتاناً بتلك الصفات القذرة،
وأن تهدر قيمة حجابك بكلمات خبيثة براقة، وتعترض على مولدك في المكان الذي
شرَّفه الله من فوق سبع سموات ...
أجل.. يا سناء لقد نسيتِ تحت تأثير الوهم القاتل (حبوب السعادة) - أن كل
ذلك هو مصدر عزتك وكرامتك بل ومصدر إنسانيتك الحقة التي تحميك ألم الذل
والمهانة والضياع، ومن ثم التردي والوقوع بين مخالب الذئاب المفترسين الذين
يريدون منك ومن كل مسلمة أن تكون بين أياديهم الظالمة الآثمة باسم الشعارات
المزيفة الجذابة ...
وفي هذه الأثناء بدت (سناء) متهالكة وقد فغرت فاها، وأمسكت برأسها،
وصرخت بأعلى صوتها: رأسي.. رأسي.. أين أنت يا (ناتالي) وبسرعة عجيبة - وهي تسدد إلى (أمل) نظرات حاقدة مشوبة بشيء من الحذر؛ فقد كانت خلف
الباب تسمع كل ما دار من حديث.. وضمت (سناء) إلى صدرها، ومسحت على
شعرها تحاول تهدئتها وقالت: لا بأس عليك يا حبيبتي؛ فكل شيء على ما يرام،
وما هي إلا لحظات وتستعيدي نشاطك وسعادتك! .
وهنا ارتفع رأس (سناء) مع ارتفاع حاد في صوتها وهي تخاطب (ناتالي)
بانزعاج بالغ: أخرجي هذه الفتاة من بيتنا.. لقد أثارتني وأحرقت أعصابي..
أخرجيها.. أخرجيها.. لا أحب أن أراها..
وأقبلت أم سناء مسرعة تستوضح سبب الضجة الغريبة في غرفة ابنتها،
وفوجئت بأعز صديقات ابنتها وهي تردد:.. أجل سأخرج من منزلكم الآن
مطرودة بسبب هذه الخادمة الشيطانة الماكرة، ولكن تأكدي بأني سأعود لزيارتكم
يوماً ما - إن شاء الله - معززة مكرمة.
وحاولت أم سناء أن تمسك بأمل لتعرف حقيقة الأمر، ولكن (أمل) انسلت
مسرعة، وقد عقدت العزم على القيام بالواجب الملقى على عاتقها تجاه أمتها،
ولإنقاذ هذه الأسرة المسكينة من براثن شر محدق لا يعلم مداه إلا الله.
ولم يمضِ وقت طويل على طرد (أمل) من منزل (سناء) حتى فوجى الأبوان - والد سناء ووالدتها - بالحادث الجلل الذي زلزل كيانهما، وأقضَّ مضجعهما،
ودمر ثقتهما بكل شيء، وهما لا يكادان يصدقان ما يجري في بيتهما من هول
الصدمة العنيفة، ولكنهما مجبران على التصديق.
فهذه ابنتهما الحبيبة (سناء) تُنقل إلى مستشفى الأمل للعلاج من أثر الإدمان
الخطير على الحبوب المخدرة التي كانت تجلبها لها (ناتالي) !
وهذه (ناتالي) - وقد حاولت أن تستنجد بدموعها أمام رجال المكافحة - علَّها
تقيها هذا الموقف الخطير، وتعفيها من الكلام، ولكن الأمور لم تكن لتسمح بذلك؛
فالجريمة فوق مستوى الرحمة والعطف ولابد من الاعتراف.
وفي مركز مكافحة المخدرات اعترفت الخادمة (ناتالي) بجريمتها التي كانت
تنفذها بمساعدة العديد من بنات جلدتها من المربيات والخدم الذين قدموا إلى ديار
الإسلام بخطة مدروسة لتدمير أبناء الإسلام.
وشعرت الخادمة (ناتالي) بقلبها يتحطم تحت وطأة المفاجأة؛ \ فقد رأت كيدها
يرُد إلى نحرها، وتتحطم كل الآمال التي بنتها أما (سناء) الراقدة في المستشفى
تحت العناية المركزة؛ فقد انقشعت سحابة الوهم من أمام عينيها، وأضاءت شمس
الهداية في قلبها، واهتز وجدانها وهي تشاهد صديقتها (أمل) بجوار سريرها،
فغطت وجهها بكفيها لتخفي ما ترقرق من الدمع في عينيها وهي تقول: سامحيني يا
(أمل) فقد ظلمتك وأخطأت في حقك كثيراً.
وتهلل وجه (أمل) بفيض من البِشر والسعادة، وقد لمست صدق الحديث من
صديقتها (سناء) فاقتربت منها وضمتها إلى صدرها وهي تردد على مسامعها كلمات
السماح والحب الصادق.
وتعاقبت الأيام، وتماثلت (سناء) للشفاء الحقيقي التام، وزالت عنها كل
أعراض مرض الإدمان، كالصداع، والإنهاك.. و.. وسمح لها بمغادرة المستشفى
لتملأ الدار بشراً ومرحاً، ولتتمتع برعاية أبويها اللذين اقتنعا بالخطأ الفادح باستقدام
الخادمة من بلاد الكفر والإلحاد، وشعرا بأن مهمة الأم الأساسية هي القيام بحقوق
الزوجية، والإشراف المباشر على تربية فلذات الأكباد لبناء جيل مسلم رشيد يعتز
بدينه وأمته.
وكانت (أمل) من أوائل الزوار لسناء في بيتها وقد حملت معها مجموعة من
الكتب والقصص الإسلامية، بديلاً عن الهدايا التي تقدم عادة كالورود والحلوى في
مثل هذه المناسبات.
وشكرت (سناء) صديقتها (أمل) لوقوفها إلى جانبها في محنتها، وناشدتها
قائلة - بأدب جم -: أرجوك يا (أمل) أن تقبليني أختا لكِ في الله، فلا تبخلي عليَّ بوقت ولا نصيحة عسى أن يوفقني الله وإياك لطاعته والذود عن حرماته.
وأشرق وجه (أمل) بصفاء عميق وهي تقول: أهلاً ومرحباً بكِ أختاً في الله،
وما عليك - يا أختاه - إلا أن تشحذي همتك؛ فالغاية مشرقة نيِّرة والسبيل إليها
هدْيه - صلى الله عليه وسلم -: «قل آمنت بالله ثم استقم» .
وبينما هما تتضاحكان وتتبادلان ذكريات الماضي.. إذ بصوت المذياع يعلن
عن إذاعة بيان صادر عن محكمة القضاء الأعلى.
وساد الصمت برهة جو الغرفة ومرت لحظات والفتاتان تصغيان بانتباه شديد، وما أن أُعلنت أسماء أفراد العصابة التي صدر بحقها الحكم الشرعي جزاءً على ما
اقترفته أيديهم من تهريب للمخدرات ونشر للفساد حتى فغرت الفتاتان فاهما، ونطقتا
بصوت واحد: ناتالي - الحمد لك يا رب.. لقد صدق قول الله فيها وفي أمثالها:
[كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً واللَّهُ لا يُحِبُّ
المُفْسِدِينَ] [المائدة: 64] .(36/49)
شعر
الطواغيت
أيمن جمال الدين
نامَ الأسودُ عن العرينِ ... فلا حُماة ولا كلامْ
أشبالُهم يتضوَّرون ... من الطوى ومن السِّقام
وحماةُ عرشِ الظلمِ في ... سُكْرٍ وفي عيشٍ حرامْ
يستنكرون ويشجبو ... ن ويكثرون من الكلامْ
يتحدثون عن الرفا ... هِ ويبحثون عن الطعامْ
ويقوم منهم واحدٌ ... كالذئب يخطب في هيامْ
لا للزيادة في البَنِي ... نَ لتُسعدوا قلب الإمامْ
لا للتطرف والتعص ... بِ والخروج على النظامْ
لا لن نحاورَ أو نجاو ... رَ من يبادلنا الخصامْ
ولتشنقوا هذا البغيَّ ... ففِكرُه بالدينِ قامْ
هذا الذي عاب السلامَ ... وحرَّضَ الشعبَ الهمامْ
إن لم نبادر بالقيامِ ... استيقظت فِرَقُ النَّعامْ
زُجُّوا بأطفال الحجار ... ةِ بين أحضانِ الخيامْ
أو زوِّروا أخبارهم ... لا تجزعوا فالكل نامْ
دُسُّوا بأسبابِ التخل ... فِ بين طياتِ الظلامْ
واستقبلوا فجر الحضار ... ةِ والتقدمِ والسلامْ(36/56)
مقدمة لقراءة نقدية
خالد بن صالح السيف
مدخل: أجيء إليكم ممتطياً للحرف صهوة.. وإخال أنه لا تثريب عليَّ في
أن أنقد من الداخل نقداً ذاتياً صرفاً، إمعاناً في التخلية قبل التحلية:
الاتكاء على استقراء أبعاد معالم (الواقع) يجب أن نتجاوز فيه (الإقليمية) ! ! وزخم (الكم) ! ! (غثائية سيل) [1] ليس غير.. أو هكذا أحسبها! !
وليس ثمة ريب في (سذاجة) أطروحات تمارس (استشراف) المستقبل من
واقع أرضية (قيعان) لا تنبت غير (رِمْث) [2] الإقليمية و (عَوْسج) [3] الكم! ! (إنما الناس كإبلٍ مائةٍ لا يوجد فيها راحلة) [4] .
***
لم تزل بعد (المطابع) وهي تلفظ زخماً هائلاً من مطبوعات تحسب عادة
على الفكر الإسلامي وتصنف في مختلف فروعه! ! وإزاء هذا الكم (الملفوظ)
استمرأ كُثر هذا المسلك (سهلٌ سُلَّمه) للارتقاء على كتف الكم.
والأذن هي الأخرى شنفتها مصطلحات (المناقصة) ! ! و (الكمسيون) [قُلْ
مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً] [النساء: 77] .
في المكتبة الإسلامية نقف على هذه الحقيقة البدهية وأدرك يقيناً أن ثمة من
تجرع هذه الغصة ولا ريب.
كمية العطاء ... لا كيفية الإثراء! !
لم تكن مائة كتاب هذه المجموعة غير كتاب واحد كُتب مرة واحدة بمائة قلم
ومائة عنوان ومائة إخراج! ! ومائة ... ومائة ... ! !
لم أجد في العراق ليلى ولكن ... كلَّ يومٍ أمرُّ في مجنون
***
داروين ومن خلال كتابين اثنين فحسب أحدث هزة فكرية عالمية لم تزل بقايا
آثارها. (أصل الأنواع) و (أصل الإنسان) .
هما كتابان اثنان قَلَب فيهما موازين عقولٍ لم تنعتق من عبودية الشهوة نتاج
طبَعي للانحراف في قوامة الفطرة. وعلى الرغم من تصدع نظريته لأربابه أخيراً
بيد أنها لم تزل - بعد - قبلة يمم الغرب والمستغربون وجوههم شطرها.
***
التحقيق.. والتعليق.. والتخريج.. والإشراف على طبعه أعني (العناية) ،
وتدبيج مقدمات إنشائية ذات أسلوب فضفاض ومفردات ينوء بحملها الورق
الصقيل!! ويتولى كِبْرها المأخوذ بنشوة: وكتب أبو فلان عفا الله عنه!! ...
ولست أدري.. أيعوزنا إيجاد ضوابط للحد من استفحال (فيروس) (التزبب
قبل التحصرم) ولو عبْر قنوات هيئات (أكاديمية) ومركز علمية؟ ! تُعنى ... بهذا الشأن.
التكنِّي (بأبي فلان) ليس مطية يحسن ركوبها كل أحد.. ولا أحسبها شارةً
تبيح لكل أحدٍ أن يمارس العبث بعطاء جهابذة هذه الأمة - عليهم من الله شآبيب
رحمته - قال أبو الفتح:
أمران مفترقان لست تراهما ... يتشوقان لخلطة وتلاق
طلب المعاد مع الرياسة والعلى ... فدعْ الذي يفنى لما هو باق
الجنوح في الفكر إبان معترك الأزمة داء أفرزه انخرام أجل مقتضيات (لا إله
إلا الله) الولاء والبراء! !
أرقبه جلياً في أبعاد المواقف (المنتمية) و (اللامنتمية) ! ! تجاه أحداث ...
الخليج.. ورحى القضية يدور مدار (العقيدة) وليس ثمة تأول يلتمس لرقع الخرق
وقد اتسع! !
***
منهجية الإنصاف في بعض مشاريعنا الثقافية الفكرية شحيحة (أعز من
الشعرة البيضاء في جلد ثور) .
(ومن الأسباب المانعة من الإنصاف: ما يقع من المنافسة بين المتقاربين في الفضائل، أو في الرئاسة الدينية أو الدنيوية، فإنه إذا نفخ الشيطان في أنفهما وترقت المنافسة، بلغت إلى حد يحمل كل واحد منهما على أن يرد ما جاء به الآخر إذا تمكن من ذلك وإن كان صحيحاً جارياً على منهج الصواب.
وقد رأينا وسمعنا من هذا القبيل عجائب صنع فيها جماعة من أهل العلم
صنيع أهل الطاغوت، وردوا ما جاء به بعضهم من الحق وقابلوه بالجدال الباطل
والمراء القاتل) [5] .
فكيف هي أيامنا هذه؟ ! وهي حبلى بمواجع الإنصاف المغلوب على أمره.
قال أبو فراس:
لم أؤاخذك بالجفاء لأني ... واثق منك بالإخاء الصحيح
وجميل العدو غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح
__________
(1) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه أحمد والدارِمِي.
(2) نبات بري من الحمض.
(3) نبات شائك له ثمر مدور كأنه خرز العقيق.
(4) حديث أخرجه أحمد، ومسلم والترمذي وابن ماجة.
(5) الإمام الشوكاني في كتابه (أدب الطلب ومنتهى الأدب) ، ص118 تحقيق محمد الخشت.(36/57)
المسلمون في العالم
الانتفاضة في عامها الرابع
مع بداية العام الرابع لوقوف شعب فلسطين ضد الاحتلال اليهودي لابد أن
نقول إن هذه الانتفاضة لم تقم إلا بعد المعاناة الطويلة وبعد الهزائم المتلاحقة، وبعد
الكلام عن السلام الهزيل وبعد نشوء جيل يختلف عن الأجيال السابقة، ومن غزة
فجَّر الشباب المؤمن بدايتها، ويومها قال بعض الناس: ما الداعي للخسائر، وماذا
سيجني أهل فلسطين من كل هذا العذاب؟ ! ، وكأنهم يريدون من شعب فلسطين أن
يبقى تحت الذل والهوان، يعمل في مصانع يهود، يأكل ويشرب والمهم هو العيش، كما يقول المثل: (نأكل القوت وننتظر الموت) . ألم تختفِ كثيراً من سلبيات
المجتمع الفلسطيني بعد الانتفاضة، ألم يتجه الناس نحو الدين أكثر من السابق
وتقلصت كثير من العادات السيئة، كما ازداد التعاون بين الناس وذهبت الأنانية.
وفي ظل الانتفاضة قاوم الناس الاقتصاد الإسرائيلي بمقاطعة بضائعه أو العمل
في مصانعه (فقد انخفضت الصادرات الإسرائيلية إلى المناطق المحتلة بما قيمته (600) مليون دولار، كما انخفضت مستوردات) إسرائيل (من الضفة والقطاع بنسبة 48 بالمائة، وهذا أدى بدوره إلى نشوء نظام الاقتصاد المنزلي وتطوير الصناعات والحرف والزراعة سعياً وراء الاكتفاء الذاتي) (الحياة 19/12/ 90) ، هذه بادرة طيبة في تعلم الاقتصاد حتى لا نكون شعباً مستهلكاً فحسب.
أما التحول الكبير فهو هذا الطفل الذي ينام ويستيقظ وكل تفكيره في المقاومة
وما هي الوسائل المناسبة، أليس هذا أفضل ألف مرة من الطفل المدلل الذي يفكر
بألعابه ولهوه، وكيف تتكون شخصية هذا الطفل الذي يصارع الكفار وهو في هذه
السن، ثم ما هذه المرأة التي حاولت طعن جنديين يهوديين فعاجلها جندي ثالث
بالرصاص، هل هذه مثل امرأة (الفساتين) و (الموضات) والتي تحمل معها دائماً
كتاب (أشهى المأكولات) ؟ ! . إن بعض الناس ترتعد فرائصهم عندما يذكر الصراع
مع دولة يهود، ويقولون: ما لنا ولهذه المشاكل، دعونا نصالحهم ونَعِشْ في أمان! ، هؤلاء أصحاب العقل المعيشي - كما يصفهم ابن القيم - لا يهمهم إلا بطونهم
وفروجهم، وهل الحق على أصحاب الانتفاضة عندما لا يتلقون المساعدات
المطلوبة وكانوا يتوقعون تحرك الشعوب المجاورة بل العالم الإسلامي كله ليساعدهم
في هذه المواجهة مع يهود الذين يتلقون المساعدات من كل مكان.
إن صمود الشعب الفلسطيني وتقديمه للتضحيات يعيد لنا تضحيات بلاد الشام
في صدها للغزو الصليبي بينما كانت بقية أنحاء العالم الإسلامي تغطّ في نوم طويل.
نحن لا نقول إن الانتفاضة كلها إيجابيات فهنالك من يريد الاستفادة وركوب
الموجة حتى يصل إلى مباحثات السلام، وهذا ما صرح به هاني الحسن حين قال:
(إن كل الأمور العسكرية هي وسيلة للوصول إلى المفاوضات) ! . وهناك ما يسمى بالحوار مع الأحزاب اليسارية اليهودية التي تدعي حبها للسلام وهم يعملون ضمن سياسة الحكومة الإسرائيلية وهناك أشياء كثيرة يمكن أن تقال ولكن هذا الصراع أوجد رجالاً وبطولات، أوجد التحاماً مفقوداً بين الناس من زمن بعيد، والمطلوب من الشعب الفلسطيني- داخل فلسطين المحتلة - أن يكون جهادهم لله.
وأما ما هو مطلوب من الشعوب المجاورة فهو كثير.(36/61)
الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا
محمد آل الشيخ
نشرت جريدة (الحياة) - في عددها الصادر يوم الجمعة 20/11/1990 -
تحليلاً إخبارياً خاصاً كتبه لها سامي كاوين، تكلم فيه عن جوانب الصراع بين من
سماهم بالأصوليين المسلمين والعلمانيين الذين يحكمون دولة تركيا البلد المسلم ديناً
والعلماني دستوراً، وفي هذا المقال نذكر للقارئ أهم جوانب الوضع في هذا
الصراع: 1- إصرار الطلاب المسلمين على السلوك الإسلامي التطبيقي في
الدراسة ظهر ذلك جلياً في رفض الطلاب المسلمين في كلية الطب فحص المرضى
من الجنس الآخر دون تغطية عورات الجثث التي يشرِّحونها. وقد رد عليهم بعض
أعضاء الهيئة التعليمية برفض دخول قاعات الدرس؛ لأن ما قام به الطلبة
الإسلاميون يعتبر خرقاً لمبادئ أتاتورك العلمانية، والمتمثلة في عدم إقحام الدين في
الجامعات.
وقد امتد الجدال حول الموضوع في أنحاء تركيا كلها، حيث اعتبر كثير من
أنصار العلمانية في الدولة أن ذلك يعتبر عملاً سياسياً خالصاً؛ حيث إن التفريق بين
الجنسين يعتبر تحدياً صارخاً لعلمانية البلد. وحظيت الخطوة التي أقدم عليها
الطلاب الأصوليون كما سموا بتأييد زملائهم في سائر أنحاء تركيا مما أحرج الدولة.
2- من جوانب الصراع كذلك ما أقره البرلمان - بعد ضغط قوي عليه - من
إقرار قانون يسمح للطالبات في الجامعات بارتداء الحجاب الشرعي، وكانت محكمة
دستورية قد قضت قبل سنتين بأن ارتداء الحجاب الشرعي داخل قاعات الدراسة
منافٍ للعلمانية، ولكنه الآن أصبح دستورياً وأصبح عدد المحجبات في المدارس في
ازدياد.
3- سعى البرلمانيون المحافظون إلى تمرير تشريع جديد يقضي بتدريس مادة
الديانة التطبيقية في كل مدارس تركيا إلى جانب تدريس مادة الدين نفسها التي أُقرت
في الثمانينات تماماً، ولم يصبح هذا نظاماً بعد ولكنه يعكس ميداناً من ميادين
الصراع القائم.
4- من أهم مجالات الصراع هناك، محاولة الإسلاميين تنشيط دور المساجد
وربط المسلمين بها، بعد حث الناس على المحافظة على الصلوات والشعائر
التعبدية الكاملة، ويجري الآن بناء 1500 مسجد سنوياً في تركيا، ويوجد الآن
62947 مسجداً بواقع مسجد لكل 847 مواطن. ويحرص الإسلاميون هناك على
إنشاء المدارس الدينية وإن كانت لا تخرّج إلا أئمة وخطباء مساجد إلا أنها تساعد
على تأهيل هؤلاء للقيام بواجبهم، ووصل عدد هذه المدارس إلى 400 مدرسة في
تركيا بزيادة 50% عن الوضع في عام 1980م، وأقرت لجنة الموازنة في
البرلمان قبل فترة وجيزة تخصيص مبلغ 1. 2 بليون ليرة تركية (450 مليون
دولار) لموازنة الشؤون الدينية.
وقد اضطر حزب الأمة الحاكم إلى الانقسام؛ فالبعض يصرح أن العلمانية
التي تحكم البلاد لا تعني تقييد حرية الاختيار في ممارسة الشعائر الدينية، ويرى
البعض الآخر أن أي تغيير في الوضع القائم مرفوض ويقف في وجه كل تنازل في
أمر الحرية الدينية.
وبسبب هذا الانقسام سرت إشاعة مفادها أن الجيش ينوي القيام بانقلاب جديد، وبلغ من شدة هذه الإشاعات أن رئيس الأركان التركي شعر بالحاجة إلى نفيها
قطعياً. وينص الدستور التركي على أن الجيش هو حامي العلمانية ومبادئ أتاتورك
في تركيا المسلمة.
هذه أهم جوانب المقال، وقد ذكر لي أكثر من واحد من الأتراك أنه لا يوجد
أي شعبية أو قبول لمبادئ أتاتورك في البلد ولكن القائمين على ذلك يتخذون منه
سُلماً للوصول إلى السلطة أو المحافظة على مكاسب في أيديهم.(36/63)
مسلمو الهند ...
الواجب والدعم المطلوب
هل تعود مرة ثانية المذابح التي تولى كِبْرها الهندوس والسيخ وراح ضحيتها
آلاف المسلمين عندما انقسمت شبه القارة الهندية إلى باكستان والهند عام 1947،
إن كل الدلائل تشير إلى أن الأحزاب الهندوسية المتعصبة مصرة على عمل مذابح
للمسلمين، ولذلك قاموا بحملة استفزازية عندما صمموا على هدم مسجد (بَابري)
وبناء معبدهم على أنقاضه، والصدامات بين الطرفين مستمرة وقد وصلت الأرقام
إلى أكثر من ألف ضحية في مدن حيدر آباد وعليكرة وكانبور وغيرها.
لقد حاول كثير من مسلمي الهند إقامة تعايش سلمي مع الهندوس عام 1947
ولكن دون جدوى، فلم يبق أمامهم سوى توحيد صفوفهم والدفاع عن أنفسهم
وأعراضهم وأموالهم، ومع ذلك فلهم حق النصرة من مسلمي باكستان وبنغلاديش
ومن المجاهدين الأفغان سواء بالضغط المعنوي على الهند أو بالتهديد بأن الهند
ستواجه كل مسلمي الدول المجاورة وهم ليسوا بالقلة التي تستضعفها الهند وعلى
المسلمين في العالم أيضاً واجب النصرة سواء بالاحتجاج لدى دولة الهند أو بالدعم
المادي.
ولو يعلم الهندوس - وكل أعداء الإسلام - أنه لا يقتل من المسلمين رجل إلا
وقتل منهم أكثر لكفوا عن إيذاء المسلمين (فالقتل أنفى للقتل) كما تقول العرب.(36/65)
خطة هندية لتغيير
التركيبة الديمغرافية في كشمير
أحمد موفق زيدان
تقوم القوات الهندية في كشمير بإحداث تغيير كبير في التركيبة الديمغرافية
لكشمير المحتلة، وذلك عندما زرعت مؤخراً مئات الآلاف من الهندوس في كشمير
في محاولة لإيجاد تركيبة سكانية جديدة في المنطقة ترجح من قوة الهندوس على
حساب المسلمين، وتؤكد الأنباء الواردة من سريناجار عاصمة كشمير المحتلة بأن
حوالي 600 ألف جندي هندي قد انتشروا في كشمير المحتلة لنشر الرعب والهلع
في نفوس الأهالي، خاصة بعد التمرد شبه الشعبي والعمليات القوية التي وقعت
مؤخراً، فقد صعَّد مجاهدو كشمير من هجماتهم على محطات راديو الهند الحرة
وعدد من الأماكن الحساسة حيث ألحقوا بالمباني أضراراً كبيرة، ويظهر من
التقارير الواردة من كشمير أن استراتيجية القوات الهندية تركزت مؤخراً على
محورين اثنين.
الأول: اتباع سياسة الأرض المحروقة في إضرام النيران بالمباني ومهاجمة
الأماكن المشتبه بها أنها تساعد المجاهدين، ففي 27 من أكتوبر الماضي أشعلت
القوات الهندية (ساحة الصين) المعروفة في مدينة (أناتنانج) وعندما هرب بعض
المارة وتسلقوا السيارات الموجودة في الساحة استقبلتهم القوات الهندية بوابل من
الرصاص حيث جُرح عدد من المواطنين، وكان الجنود الهنود يرددون وهم
يطلقون الرصاص (هذه حريتكم) (انظروا إلى الحرية) ، وتؤكد التقارير الصحفية
بأن ما لا يقل عن 100 منزل قد دُمِّر في ساحة الصين وعشرات المحلات التجارية
وثلاثة مساجد، كما هاجم مجهولون يعتقد أنهم ميليشيا حكومية تابعة للهند - مباني
الكلية الإسلامية في (سريناجار) وأضرموا النيران في مبانيها الداخلية؛ الأمر الذي
أسفر عن تدمير ممتلكات الطلبة بما فيها مصحف مخطوط يعود تاريخه إلى 400
سنة ماضية، بالإضافة لمخطوطات قيِّمة أخرى.
ورداً على الاستراتيجية الهندية هذه بالانتقام من الدينيين، عمد المجاهدون في
كشمير إلى تغيير استراتيجيتهم عندما نقلوا عملياتهم العسكرية خارج المدن حتى لا
يبقى للحكومة الهندية حجة في الانتقام من الأهالي بذريعة تعاونهم مع المجاهدين،
ويقول القائد خالد محمد - من مجاهدي كشمير -: (نحن الآن لا نذهب إلى المدن، حيث نذهب للحقول لمهاجمة مواقع الجيش الهندي وبهذا نقلل من معاناة ومقاساة
الشعب، ولا شك أن هذا يكلفنا كثيراً، ولكنه ضروري في نفس الوقت) .
وبهذا الشهر تكون الانتفاضة في كشمير قد دخلت شهرها الحادي عشر،
وتقول الإحصائيات بأن الانتفاضة كلفت حتى الآن ذهاب 2500 ضحية. كما
استطاعت الانتفاضة أن تصيب الهند بنوع من العزلة الدولية وتكشف بعض الجرائم
الهندية بحق شعب كشمير.
الثاني: لوحظ أخيراً تزايد الاعتماد على الاستخبارات الهندية وخاصة (راوا)
وتعني (جناح التحليل والبحث) حيث بدأ الأخير بمحاولة تفريق صفوف حركات
المجاهدين المختلفة فيما بينها واستغلال تفرقها بضرب الواحدة بالأخرى، وتشجيع
الشخصيات غير الإسلامية أو الوطنية، مثل عودة فاروق عبد الله حكم كشمير سابقاً
والذي هدده المجاهدون قبل أشهر؛ ففر بعدها إلى بريطانيا ثم عاد مؤخراً للعب دور
جديد، وما إن وصل إلى كشمير حتى هدده المجاهدون بالرحيل خلال 48 ساعة
وإلا سيعرض حياته للخطر ففر بعدها إلى هولندا، كما يعمل جهاز الاستخبارات
الهندية على تسرب العملاء؛ الأمر الذي نشر الهلع في نفوس الآخرين وقد تكونت
أخيراً (خلية هندية) من أجل متابعة قضية كشمير لمواجهة ما يسمى بالدعايات
الباكستانية ودعايات حركات المجاهدين، وتضم الخلية هذه (شخصيات من وزارة
الخارجية الهندية والداخلية والإعلام وجناح البحث والتحليل في الاستخبارات
الهندية) .(36/66)
بيان من الاتحاد الإسلامي الصومالي
محمد عبد الظاهر
الحمد لله في السراء والضراء ... الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه
ونصلي ونسلم على خير خلقه وخاتم أنبيائه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
أما بعد:
فقد كانت المجاعة تعم الصومال، وكان الناس يهربون من استبداد الطاغية
زياد بري وينتشرون في أرض الله الواسعة بحثاً عن الحرية وفرص العمل.. وكان
الناس يتطلعون إلى المنقذ الذي يخلصهم من مصائبهم ومحنهم. وابتُلي شعبنا في
الصومال بما هو أشد من المجاعة.. ابتلي بحرب مدمرة بين المؤتمر الصومالي
الموحد - وهو أحد أكبر ثلاث حركات صومالية سياسية معارضة - وبين النظام
الحاكم - وهذه الحركات المعارضة ليست شيوعية ولا رأسمالية ولا غير ذلك من
الأفكار والاتجاهات وإنما هي قبائل مثل قبائل الجاهلية، وبينها ثارات مثل ثارات
الجاهلية، والنظام الحاكم كان يستمد قوته من القضية التي يمثلها. فالصراع في
الصومال إذاً لا يختلف عن البسوس وداحس والغبراء وغير ذلك من معارك العرب
في جاهليتهم. وقد نتج عن الحرب بين المؤتمر الصومالي الموحد والنظام الحكم
كوارث خطيرة: منها قطع ما تبقَّى من التيار الكهربائي في العاصمة - مقديشو -
وتدمير تمديدات المياه حيث تم قطع المياه عن السكان، ونهب المحلات التجارية.
والأهم من ذلك استباحة الدماء لأسباب قبلية جاهلية. وأمام هذا الصراع المدمر فإن
الاتحاد الإسلامي يرى أن الحل يتلخص في النقاط التالية:
1- لم يعد هناك أي مبرر لاستمرار طاغية الصومال زياد بري في الحكم بعد
أن دمر اقتصاد البلد، ونشر الفساد فيها، وكان مطية لأعداء الإسلام من الإنكليز
والإيطاليين والسوفييت والأمريكان.
2- يستنكر الاتحاد الإسلامي الصراع القبلي الجاهلي ويذكر المتحاربين بقول
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا التقى المسلمان بسيفَيْهما؛ فالقاتل
والمقتول في النار) ، ومما لا يخفى على أحد أن الصراعات القبلية يستحيل أن تتوقف.
3- يرى الاتحاد الإسلامي بأن الحل الوحيد لمشاكل الصومال كلها هو
الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -
ولهذا فإننا نطالب الأطراف والجبهات كلها باحترام دين الأمة وعقيدتها والإذعان
لشريعة الله، ونبذ القوانين الأرضية الجائرة.
4- يدعو الاتحاد الإسلامي المسلمين عامة وقادتهم خاصة إلى الوقوف مع
الصومال في محنته ومد يد العون له، والله في عون العبد ما دام العبد في عون
أخيه، ونسجل هنا عتبنا على إخواننا في كل مكان من العالم الإسلامي؛ لأنهم لا
يهتمون بما يحدث في الصومال، وما ذلك إلا لأنه بلد فقير في حين تشرق
المؤسسات الصليبية وتغرب في ربوع بلدنا. ونلفت انتباه إخواننا المسلمين إلى أن
المساعدات التي لا تقدم عن طريق العلماء والدعاة لا تصل لأصحاب الحق في بلدنا
وفي كل بلد.
5- يمد الاتحاد الإسلامي الصومالي - وهو أكبر الجماعات الإسلامية في
الصومال - يده لكل عالم وداعية للقيام بالواجب الذي فرضه الله علينا والتعاون لكل
ما فيه خير أمتنا وبلدنا.
والله نسأل أن يفرج كربنا ويوحد صفنا ويجعل لنا من بعد عسرنا يسراً وهو
الهادي إلى سواء السبيل.
الناطق الرسمي
باسم الاتحاد الإسلامي الصومالي
... ... ... ... ... ... NOOR EL ISLAM MOSQUE
... ... ... ... 8 MARIA ST,BUTETOWN,DOCKS,
... ... ... ... ... ... ... ... CARDIFF CF15HG(36/68)
ركن الأسرة (تربية)
تعليم اللغة الأجنبية للأطفال
محمد الناصر
إن إتقان اللغة الأجنبية لا يتم إلا على حساب اللغة الأم لغة العرب، ومع
اللغة تدخل المُثُل التي يريدها الأعداء، فضلاً عن الإتقان الضائع على حساب لغة
القرآن.
ولا يقول عاقل أو مخلص: بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال ونترك تعليمهم
الفصحى لتشيع العامية وينتشر اللحن بين الناشئة.
(والوقت المناسب لدراسة اللغة الأجنبية يكون عادة في سن المراهقة أو قبلها بقليل، وذلك عندما يبدأ الناشئ يهتم بالعالم الخارجي، وبالأقوام الذين يعيشون
خارج وطنه ممن لهم به صلة في تاريخ أمته القديم أو الحديث ... ففرنسا وإنجلترا
ومعظم دول أوربا لا تعلّم في المرحلة الأولى إلا لغة الطفل القومية) [1] . ...
(وقد أدرك الإنكليز وأمثالهم أن التربية الإسلامية أكبر خطر على الاستعمار، ولكنهم لم يجابهوها بالعنف والإكراه، وإنما عمدوا إلى إفسادها من الداخل باسم
الإصلاح والتحديث. ومن النقط الأساسية التي أصبحت تحدد إطار التربية في
البلاد المختلفة.. فرض لغة المستعمر، واستعمال كل الوسائل التي تؤدي إلى
ضياع لغة البلاد الأصلية..) . [2]
وقد فطن ابن خلدون إلى مضار الجمع بين لغتين أو علمين فيقول: (ومن
المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم: أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً،
فإنه حينئذ قلَّ أن يظفر بواحد منها لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد
منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة) [3] .
والذي نلمسه بوضوح أن الإنكليز وكل الدول المستعمرة يحاولون أن يجعلوا
لغتهم لغة التعليم أينما حلُّوا، وقد أورد الدكتور محمد أمين المصري - رحمه الله -
من كلام أبي الحسن الندوي قوله: (وإن الاهتمام الزائد باللغات الأجنبية، وإعطاءها أكثر من حقها - يجعلها تنمو على حساب اللغة العربية. وإن تدريس عدة لغات في وقت ما قد أصبح موضع بحث عند خبراء التعليم خصوصاً في المراحل الابتدائية والمتوسطة) . [4]
فما بالك - أيها القارئ الكريم - بَمن هم دون تلك المراحل؟ ممن لم يتقنوا
النطق الجيد بلغتهم بعد، ثم يُطلب منهم معرفة لغة أقوام آخرين؟ ! .
ومن الغرائب أن بدعة حديثة أصبحت تغزو المدارس الخاصة في ديار
المسلمين، إذ يخصص لمادة اللغة الإنجليزية مثلاً أربع حصص في الأسبوع وأين؟ وفي أي مستوى؟ في رياض الأطفال، وسن التمهيدي، أي قبل السنة الأولى
من المرحلة الابتدائية.
وصار يعتبر ذلك معياراً لجودة هذه المدارس، بسبب إقبال الأهالي ورغبتهم
ثم المتاجرة بهذه الرغبات.
إن تعلم لغة أخرى لضرورة ملحة، أو أمر طارئ - لا غبار عليه؛ فزيد بن
ثابت - رضي الله عنه - كان في الحادية عشرة من عمره، لما قدم رسول الله -
صلي الله عليه وسلم - المدينة المنورة، وكان يكتب العربية ويروي عن نفسه
فيقول: (أُتِيَ بي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه ذلك، وقال: يا زيد تعلّم لي كتاب يهود؛ فإني - والله - لا آمنهم على كتابي. قال: فتعلَّمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته) [5]
نلاحظ هنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب من زيد أن يتعلم
لغة اليهود بعد أن حذق اللغة العربية كتابة، وحفظ من القرآن الكريم ما حفظ.
أما أن يعلم أطفال المسلمين لغة أجنبية - وهم لا يتقنون لغتهم نطقاً أو كتابة
- فهذا لا يقوله عاقل أو منصف. ونستفيد من هذا الحديث أيضاً أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كان يختار في تربيته الشخص المناسب للمكان المناسب،
فعلينا ألا نبدد الطاقة الحية، والكفاءة الممتازة، ونفوّت بذلك مصلحة من مصالح
المسلمين.
وهاهو واقع المسلمين يشهد بأن الطاقات تهدر، وفي أبناء هذه الأمة العباقرة
والممتازون، لأمر أو لآخر، مما لا يُرضي الله، ولا ينسجم مع مصلحة المسلمين.
وكثيراً ما نضع الشخص غير المؤهل لمنصب لا يصلح له، ولسان الحال
يقول: (ليس بالإمكان أحسن مما كان) .
ونحن لا نتحدث هنا عن أبناء المسلمين في ديار غيرهم، فهؤلاء يعانون من
الضغوط عليهم - هم وأهلوهم - الكثير، والحاجة هنالك ماسة لوجود مؤسسات
تربوية تصون لغة الجيل الثاني وعقيدته، وقد اضطر هؤلاء غالباً أن يعيشوا في
تلك الديار مكرهين، أعانهم الله وسدد خطاهم نحو الخير.
وأخيراً نختم هذه الفقرة بقول ابن تيمية - رحمه الله -: (وأما مخاطبة أهل
اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا اُحتِيج إلى ذلك وكانت المعاني
صحيحة.. وإنما كرهه الأئمة إذا لم يُحْتَجْ إليه) . [6]
__________
(1) أسس التربية وعلم النفس: أحمد يوسف، ص36.
(2) انظر بحثاً قُدم لندوة (أسس التربية الإسلامية) بمكة المكرمة للدكتور محمد خير عرقوسي.
(3) مقدمة ابن خلدون: ص1032.
(4) المسؤولية: ص130.
(5) رواه أبو داود والترمذي وأحمد والطبراني، وصححه الحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وانظر أعلام النبلاء2/429.
(6) الفتاوى: 3/306.(36/71)
رأي:
وقفة مع عمل المرأة المسلمة
أم عبد الرحمن
عندما علمت أختي في الله أنني موظفة قالت: كيف يحصل هذا وأنت
ملتزمة؟!
قلت لها: ماذا تقصدين؟
قالت: سيكون هذا على حساب رعاية زوجك وبيتك.. ثم لا تنسي أن
الشارع يأمر المسلمة بالقرار في بيتها، وإذا أردت الأفضل لك - عند الله وفي
الشرع - فعليك بقوله تعالى: [وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] [الأحزاب: 33] .
قلت لها: صحيح ما تقولينه، لكن ما المانع من عمل المرأة المسلمة إذا
استوفى جميع شروط الشرع ورضي الزوج به، وإذا لم يكن على حساب رعاية
الزوج والبيت.
صممت أختي ولم تعقب وبدت على وجهها علامات الاستغراب وعدم الاقتناع.
كثير من الأخوات الملتزمات بشرع الله ينظرن إلى عمل المسلمة المتزوجة
بمنظار ضيق، فلا يرين إلا الجانب السلبي منه، فقد ذكرت أختي في الله بأن
المسلمة العاملة المتزوجة لن تتفرغ تماماً لرعاية زوجها وأطفالها، وأنه سيترتب
على ذلك التقصير والإهمال للزوج والبيت والأطفال. ولي هنا رأي في هذه المسألة، قد يكون صواباً عند البعض، وقد يكون خطأً عند آخرين.
فلو بحثنا في الجوانب الإيجابية لعمل المسلمة الملتزمة بدينها - مع الالتزام
بقيود الشرع في عملها - لوجدناها تتضح في النقاط الآتية:
1- الاستفادة من الدرجة العلمية في تسخير أجرة العمل في وجوه البر
والإحسان وهي كثيرة الآن ومجالاتها عديدة، والمحتاجون لهذا المال كثيرون، بهم
من المسلمين المحتاجين في إفريقية وأفغانستان وأندونيسيا والفلبين وغيرها.. - قد
وقعوا في شباك المنصرين الماكرين بسبب يد حانية نصرانية قدمت لهم الإحسان
بجميع أشكاله ثمناً لاعتناق النصرانية.
2- الدعوة إلى الله من خلال التقيد بالسلوك الإسلامي المثالي الملتزم في بيئة
العمل ومع زميلات العمل، والعمل على إبراز الفضائل الإسلامية في التعامل
والسلوك، وبذلك يتم تذكير وتوعية غير الملتزمات بدينهن ودعوتهن إلى الله
بطريق غير مباشر وذلك عن طريق مراقبة أخلاق وسلوك الشخصية الإسلامية
القدوة من خلال تعاملها مع مَن حولها.
3- الدعوة إلى الله أيضاً عن طريق إعطاء الأشرطة والكتيبات الإسلامية
التي تساهم بشكل كبير في منع ممارسة كثير من المنكرات والرجوع عن كثير من
المعاصي.
4- قد يكون هناك من زميلات العمل غير المسلمات، وهنا تجد المسلمة
العاملة فرصة جيدة لإبراز شعائر الإسلام وتوضيحها واستخدام أساليب الدعوة إلى
الله المباشرة أو غير المباشرة معهن حسب الظروف والأحوال، وفي هذا كله الأجر
الكبير لمن أعانها الله عليه.
5- لا يخفى علينا أن أعظم مجال للدعوة إلى الله ولنيل الأجر العظيم منه -
سبحانه - هو عمل المسلمة في مجال التدريس إذا أخلصت النية لله ونوت بعملها
هذا الدعوة إلى الله وتبليغ العلم والحق وإنكار المنكرات المتفشية بين الطالبات
وزميلات العمل.
وأحب هنا أن أوجه كلمة لأخواتي في الله اللواتي كان لهن دور عظيم في
الدعوة إلى الله في جميع صورها (وقد كان التزامي بفضل الله ثم بفضل كلمة ألقتها
إحداهن يوماً في الجامعة يوم أن كنت طالبة فيها) واللواتي مع الأسف قد فتر
حماسهن للدعوة بل توقف نهائياً بعد زواجهن.
فأقول لهن: لماذا؟ ! ! لماذا لا يطلبن العون من الله بالدعاء ثم يطلبن العون
من أزواجهن للاستمرار في عملهن هذا؟ ! !
إن الفتيات والنساء التائهات البعيدات عن شرع الله في أشد الحاجة لكُنَّ وللعلم
الذي تحملنه في صدوركن.
إن العلمانيين الآن يستخدمون نساءهم وقريباتهم لنشر معتقداتهم بين النساء
والفتيات في الجامعات وفي كل مكان.
فلماذا لا يشجع كل مسلم ملتزم بدينه زوجته للمشاركة في محاربة كل ما يقف
عقبة في طريق الدعوة إلى الله؟ !
يا أخي في الله: الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يساعد زوجته عائشة
في شؤون المنزل، وكانت تساعده في نشر الدعوة بين النساء.
لِمَ لا يدفع كل مسلم بزوجته إلى ساحة الدعوة إلى الله - وخاصة - هؤلاء
اللواتي سبق لهن العمل في حقل الدعوة قبل زواجهن، فمثلاً:
* الأخت الداعية التي كانت تجيد دروس الوعظ وتستطيع جذب وإقناع
الفتيات التائهات؛ لماذا لا يشجعها زوجها على الاستمرار في عملها هذا فيشاركها
الأجر عليه.
* والأخت التى كان جُل وقتها تصرفه لجمع التبرعات الطائلة من النساء (من
حلي ومال) لأفغانستان وفلسطين وإفريقية.. لماذا لا يشجعها زوجها على مواصلة
هذا المجهود العظيم.
* والأخت الثالثة التي كانت تجود بعلمها ووقتها لتعليم القرآن - من تفسير
وتجويد وتلاوة - لِمَ لا يشجعها زوجها هي الأخرى على مواصلة عملها هذا لينتفع
النساء بعلمها هذا وحتى لا تنسى هي الأخرى علمها مع مرور الزمن؟ .
وهكذا نستطيع - نحن المسلمات - أن ننال الأجر ويشاركنا أزواجنا أيضاً،
وفي نفس الوقت تقدم كل واحدة منا ما في وسعها ولو كان جهداً بسيطاً في سبيل
نشر دعوة الله، فكما تتعب هؤلاء العلمانيات في سبيل الباطل الذي يحملنه، فأولى
بنا أن نتعب من أجل الحق والنور الذي نحمله نحن.
[إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] [التوبة: 120] .
[والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] [العنكبوت: 69] .
اللهم اجعل عملنا صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.(36/74)
طب
دواعي إعطاء الحليب المعدل
د.محمد هليِّل
كنا قد بينا مزايا حليب الأم على الحليب المعدل، ومردود الإرضاع الطبيعي
على الطفل والأم معاً، وأرجو ألا يفهم من هذا أن الحليب المعدل ضار، أو أنه
يفتقر إلى كثير من خواص الحليب الطبيعي، وإلا لما كنا نسمح للأطفال بتناول هذا
الحليب، والسؤال الذي يطرح نفسه: متى يصح أن نعطي الطفل حليباً معدلاً؟
والإجابة على هذا السؤال تتطلب أن نتعرف على السبب الذي يدفعنا للجوء
إلى الحليب المعدل، هل هو كبديل أم هو كغذاء مساعد، وفي كلتا الحالتين ننصح
الأمهات ألا يباشرن أطفالهن حليباً معدلاً إلا بعد الاستشارة الطبية؛ لأن إعطاء
الطفل حليباً معدلاً يفقده الاهتمام بحليب أمه وبالتالي ينقطع عنه نهائياً.
إن الحالات التي تضطرنا للحليب المعدل كمصدر للغذاء - هي قليلة من
الناحية الطبية ونستطيع أن نجملها في النقاط التالية:
يمكن إعطاء الحليب المعدل كغذاء مساعد بالإضافة لحليب الأم إذا كانت كمية
الأخير لا تسد حاجة الرضيع لوجود توأمين مثلاً، أو بسبب تغيب الأم عن الطفل
لفترة من الزمن بسبب عملها خارج البيت، كالتدريس، أو التمريض، حيث يمكن
إعطاء الطفل رضعة واحدة أو اثنتين من الحليب المعدل ريثما تعود الأم من عملها.
أما الحالات التي يتطلب الأمر فيها وقف الرضاعة الطبيعية والاستعاضة عن
حليب الأم بالحليب المعدل فهي نادرة نسبياً ومؤقتة في معظم الأحيان ويجب ألا يلجأ
إليها إلا بعد الاستشارة الطبية وهي تتلخص فما يلي:
- أمراض قد تصيب الأم فتمنع الإرضاع الطبيعي:
* الأمراض المعدية: كالتدرن الرئوي النشط، وحمى التيفويد، أو انتانات
الدم (Septcaemia) أو خُرَّاج الثدي الأيمن والأيسر.
* أمراض عامة وشديدة: كقصور القلب، وفرط نشاط الغدة الدرقية
(Thyrotoxicosis) والأورام الخبيثة والقصور الكُلوي المزمن، والهزال
الشديد.
* الجنون والأمراض العصبية كالصرْع.
* الحمل: لا سيما بعد دخول الأم الثلث الثاني من الحمل.
* تناول الأم لأدوية ضرورية لصحتها قد تؤثر على الرضيع.
- أما إذا أصيب الطفل الرضيع ببعض أمراض الأيض الخَلْقية: (in born
errors of metabolism) (وهي حالات نادرة الحدوث) فإنه يعطَى حليباً خاصاً
بدل حليب أمه.
تمنع الرضاعة كلياً عن الطفل الخديج الذي لم يكتمل نموه وقت ولادته حتى
يشتد عوده ويكبر حجمه ويزداد وزنه، ويعطى المحاليل المغذية الخاصة بالوريد.
مهم جداً أن نعرف أن بعض أصناف الحليب المعدل لا تناسب إلا فئات
عمرية معينة، فهي ذات تركيب وعناصر تغذية تتلاءم مع هذه الفئات دون غيرها، ويجب ألا تعطى لأطفال يقلون عن تلك الأعمار، وإلا أضرت بهم.
مما سبق نرى أن إضافة الحليب المعدل كغذاء مساعد أو كبديل لحليب الأم -
يكون في حالات محددة وطبية، وليس بناءً على رغبة اجتماعية أو مظهر جمالي
تود الأم أن تحتفظ لنفسها به أو انسياقاً وراء وسائل الدعاية المختلفة.(36/78)
منتدى القراء
رسالة إلى أختي المسلمة
عبد الرحمن بن إبراهيم العتل
حدثٌ وربِّك للبلاد يُدبرُ ... ومصائبٌ تترى فأين المعبرُ؟
وغوايةٌ في كلٍّ حين شأنُها ... متلوّنٌ متذبذبٌ متغيرُ
نادى بها الأعداءُ وقتَ قلاقلٍ ... وشعارُهم في الخافقين تحررُ
كذبوا وربِّ البيتِ ليس تحرراً ... بل إنه الكسرُ الذي لا يُجبرُ
جعلوا النساء مطيةً لمرادهم ... وتستروا في زيِّنا وتدثروا
خدعوكِ يا أختاه بالخُطب التي ... طاب البناءُ بها وساء المخبرُ
وركضتِ في عجلٍ ودون تفكرٍ ... وهم الذين سعَوْا لذاك وفكروا
ورميتِ طهرَك والحياءُ مجندلٌ ... يبكي ويصرخ والمدامعُ تُنثرُ
يا أخت أنتِ الأمُّ حين نريدُها ... تبني لنا الجيلَ الذي لا يُقهرُ
يا أخت أنتِ البرءُ للجرح الذي ... يقضي على أحلامِنا ويدمرُ
عُودي إلى التاريخِ واقتبسي الضيا ... سيرُ النساءِ مع العقيدةِ تزهرُ
إن التشتتَ والهلاكَ لأمتي ... أن يخرجَ الوجهُ الطَّهورُ ويسفر(36/80)
رويدك يا أنجشة! !
نوال- المدينة المنورة
في حديث العلماء عن العلم، وطلبة العلم، والدعوة والدعاة، يكثر تنبيههم
على (السلبيات) والأخطاء التي تصدر من طلبة العلم، ومن مسارعتهم إلى الفتوى، وغرورهم والأخطاء التي تصدر من الدعاة في دعوتهم ... إلخ.
وكان من الإنصاف أن يقال: إن الإنسان يخطئ ويصيب، ويمشي ثم يتعثر
مهما كان متزناً، والشيطان قد توعد أن يجلس في طريق الصراط المستقيم إذا سار
عليه الإنسان.
فطالب العلم والداعية هما ممن يتوقع منهما الزلل أكثر من غيرهما؛ لأنهما
من البشر الذي يخطئ ويصيب بنظراته، ولأنهما قد سارا في الطريق الذي تحفه
الشياطين تريد اقتناص السالكين! !
ونتوقع الخطأ من طالب العلم الداعية - أيضاً - فوق ذلك لأنه: غض
التجربة، صغير المدارك، لين الإهاب. وهكذا فإنك ترى الطفل الصغير - حديث
عهد بمشهي - يقع ويتعثر أكثر ممن هو أكبر منه سناً، وأكثر خبرة وتجربة.
إذن الأخطاء الصادرة من طالب العلم الداعية المبتدئ متوقعة وينبغي أن
توضع في مكانها الصحيح في إطار التربية المرحلية، ولذلك فإن من الصواب
بمكان أن نذكر للشباب المؤمن سيرة ابن تيمية - رحمه الله - وصبره، وجهاده،
وسداده، وحنكة مواقفه، وشجاعته، وصدقه، بل من المفترض أن نذكر لهم سيرة
مَن هو أجلّ وأعظم، سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
إنه لا ينبغي أن نُشعر طلبة العلم الدعاة أنهم بِدع في الناس، لهذه الأخطاء
التي يرتكبونها والحق أنها ليست أخطاءً هينة وقليلة وهذه الأخطاء هي مما يقع من
كل البشر.. ألم يقتل أسامة بن زيد - رضي الله عنه - رجلاً من جهينة، وقال إنه
كان متعوذاً؟ ! [1]
ألم يسبق أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في تعبير الرؤيا؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصبت بعضاً
وأخطأت بعضاً [2] ألم يختلف الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على غنائم
بدر شيوخاً وشباباً؛ فأنزل الله فيهم سورة الأنفال؟ ! [3]
ألم يكتب حاطب بن أبي بلتعة للمشركين كتاباً يُعْلمهم فيه أحوال المسلمين..
وهذا - عند عمر - نفاق يوجب القتل، ولكن عند مربي هذه الأمة - صلى الله
عليه وسلم - هفوة وخطأ ... «ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم» . [4]
ألم يُعمل خالد سيفه في بني جذيمة.. فقتل وأسر.. وكان هذا بسبب أنهم لم
يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فقالوا: صبأنا ولم يفهم خالد مرادهم.. وتبرأ رسول
الهدى - صلى الله عليه وسلم - مما صنع خالد.
وهناك شواهد أخرى كثيرة تدل على أن الأخطاء قد وقعت من خير القرون -
رضي الله عنهم وأرضاهم - فهل نظن أن هذه المواقف مما يسودُّ بها وجه التاريخ
ويكفهرّ؟ !
كلا والله! ! بل هي البشرية في أسمى معانيها، ومن سمو معاني البشرية
وبهائها خطأ الإنسان ثم صوابه، واجتراحه للذنب ثم توبته، وعثرته ثم اتزانه،
واعوجاجه ثم استقامته! !
إن وقوع الخطأ والزلل أمر مفروغ منه.. ولكن هذا التثريب المستمر الذي
يصُم أذنيه أحياناً عن معرفة أن هذا شوك في الطريق ينبغي اقتلاعه يسد باب الأمل
عند طلبة العلم الدعاة، ويحزنهم، ويشعرهم أنهم بدع في السائرين.
ولعل من نافلة القول أن يقال: إن الله - تعالى - يدفع بهذه الأخطاء إلى
الصواب، وبهذه الهفوات إلى السداد، فإن هذه الأخطاء الكثيرة - في البداية - تكاد
تكون أمراً لا بد منه؛ ليستقيم العوج، ويعمق التفكير وأسلوبه، وتستنير البصيرة،
ويصفوا الوادي بعد حمله الأكدار.. [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
وهكذا فبداية الدعوة وطلب العلم تحمل أكداراً وشوائب، ومع الاستمرار
والثبات والصبر والاهتداء وبذل النصح وتقبّله، ومع سريان ماء الوادي، ومع
انفصال الشوائب عن نفيس المعدن بفعل الحرارة والتوهج ... يصفو كل شيء.
وبعد: فهذا ليس تهويناً وتقليلاً من شأن تلك الأخطاء فهي كثيرة فادحة،
يكفيك منها التصدر للفتوى ما لو سئل عنه عمر لجمع أهل بدر له.
وبعد: فهذا ليس سداً لباب النصح والتوجيه، لكنه فتح لنافذة احتواء هذه
الهفوات وأن تنزل منا منزل التوقع والتدارك والنظر بعين العطف، وهو ليس تتبعاً
لهفوات القوم - رضي الله عنهم - وإنما هو بحث عن البشرية في أصدق معانيها
وفي خير مظاهرها، وهو رسم لخارطة السلوك الإنساني، والإشارة ببنان
مضطرب إلى موقع كل من الخطأ والصواب ... والله المستعان. ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
__________
(1) فتح الباري، 12/191-192.
(2) فتح الباري 12/431، وانظر المرجع نفسه، 12/435-436.
(3) الصحيح المسند من أسباب النزول - للوادعي، ص96-97.
(4) فتح الباري، 7/304-305.(36/81)
أبو رغال
رمز الخيانة والدجل
عابد حميان
يطالعنا التاريخ المعاصر للعرب عن أحداث تكاد تكون صورة مطابقة تماماً
لصور وأحداث تاريخ العرب قبل الإسلام. يقول ابن كثير: (قال ابن إسحق
واللات بيت لهم - يعني ثقيف - بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة، قال:
فبعث أهل ثقيف مع أبرهة الأشرم صاحب الفيل أبا رغال يدله على الطريق إلى
مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله بالمغمس (مكان قريب من مكة)
فلما أنزله به مات أبو رغال هناك فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم
الناس بالمغمس) .
إن استخلاص هذه القصة بكاملها من المصادر التاريخية يعطينا أكثر من دلالة، أن أبا رغال يبقى دائماً رمزاً للخيانة والغدر، وسيلقى دائماً منا الرجم والسباب.
بالأمس القريب كان كمال أتاتورك الذي تمسح بالإسلام، والغيرة على
المسلمين، وحمل المصحف وطاف بالجنود مشجعاً إياهم على الوقوف بجانبه ليصل
إلى مأربه حتى قال فيه شاعر (يا خالد الترك جدِّد خالد العرب) وكان في الحقيقة
السيف الأول الذي سلط أول ما سلط على الرقبة المسلمة، وما أكثر الكماليين في
عالمنا الإسلامي، حيث لا تزال تتكرر الصور والأشكال، وقبله كان ابن العلقمي
الذي خامر التتار ضد بني العباس.
إن تحديد المواقف وتحليل الشخصيات على ضوء ماضيها وسلوكها - أصبح
علماً قائماً بذاته وله أصوله ومناهجه ونتائجه التي لا تكاد تخطئ وإن كانت لا تصل
إلى درجة النتائج الرياضية أو الفيزيائية، إن ما كتبه السلف في هذا النص من
علماء الجرح والتعديل قد يفيدنا اليوم كثيراً.
قد تكون المشكلة اليوم تنحصر في الصورة الرديئة للذهنية الإسلامية وما علق
بها من النسيان، وقد يكون النسيان هو بلاءنا اليوم؛ إذ معرفة تاريخ الإنسان هو
الأساس الذي يشكل المدخل السليم لمعرفة شخصيته ومن ثم تحديد سلوكه وتصرفه
المستقبلي إلى حد بعيد. وقد يغتر المسلمون اليوم بتوبة بعض الدجالين الذين
يتخذون من التوبة إعلان التمسك بأهداب الدين ملجأ يفر إليه من آثار عدوانه وقد
يصل بعد ذلك إلى مكان القيادة في ظل البلهاء. وقد أعلن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن بعض المجرمين فقال: (اقتلوهم ولو تمسكوا بأستار الكعبة) لابد
أن يكون موقف الأمس هو موقف اليوم، وإلا كيف والحالة هذه يمكننا نحن أن نلغي
تاريخ الإنسان وسلوكه الماضي لمجرد موقف أو مظهر قد لا نكون قادرين تماماً
على إدراك دوافعه فضلاً عن إدراك نتائجه؟ !(36/84)
الإعلانات التجارية
عثمان بن محمد الخنين
يعمد كثير من التجار إلى الإعلانات عن بضائعهم ومحلاتهم بوسائل إعلامية
مختلفة ولكن - ومع بالغ الأسف - لا تخلو كثير من تلك الإعلانات من مخالفات
شرعية: بالإضافة إلى الكذب والتمويه وإغراء الناس - وخاصة النساء والأطفال -
لدفعهم لشراء ما لا يحتاجون.. فكثير من الإعلانات تحاول تحويل الأشياء المعلن
عنها إلى ضروريات أو لا غنى عنها هذا على الرغم من تفاهتها أو قد يستغنى عنها
بغيرها.
ومع الأسف ففي كثير من الأحياء يكون الإعلان على حساب المستهلك بدليل
أن البعض يزيد في قيمة السلعة المعلن عنها. كل ذلك مخالفات يرتكبها بعض
التجار وكأنه يريد أن يستهلك أموال الناس بطرق ماكرة وملتوية ومحرمة.
أيها التجار الكرام يقول الأخ إبراهيم بن محمد في كتابه (آداب التاجر
وشروط التجارة) : (وليست التجارة انتهاباً واستغلالاً لحاجة المجتمع بالمكر
والخداع والأيمان الكاذبة وأساليب الترويج المغرية المضللة كما أنها ليست وظيفة
مالية مهمتها إنماء الثروة الاقتصادية فحسب. ولكن التجارة في الإسلام: خدمة
اجتماعية تعاونية للمجتمع الإسلامي في المقام الأول يجب أن تكون مشمولة دائماً
بالصدق والأمن حتى تؤتي ثمارها المرجوة من تيسير حياة المسلمين ودفع المشقة
عنهم.
وإذا صحت نية التاجر وقصد بتجارته منفعة المسلمين بأداء هذه الفريضة
الكفائية مع سعيه لطلب الرزق الحلال يحفظ به نفسه ويصون به أسرته، كانت
التجارة في حقه ليست مجرد بيع وشراء، بل صارت تجارته تعاملاً مع الله -
سبحانه وتعالى - فهو يشتري ثواب الله - عز وجل - بالأعمال الصالحة.
فالمسلم في تجارته يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وحينئذ
فقصده نفع نفسه فرع من قصده النفع العام، وذلك من شأنه أن يرتب الكثير من
النتائج إذا ما تعارضت مصلحته الشخصية مع المصلحة العامة، ومن شأنه أيضاً
أن يبرز العنصر الأخلاقي في المعاملات الإسلامية ويضعه في المقام الأول وذلك
مثل التزام الصدق، وحسن المطالبة، وحسن الأداء واعتبار القرض قربة إلى الله
- عز وجل - ذلك من الأمور التي تحث عليها الشريعة ... ) .
أيها الإخوة إن العاقل الواعي الفطن لا تنطلي عليه مثل ذلك الإعلانات
المخالفة للشرع، المتضمنة للكذب والتهويل والمبالغة، إنه ينظر أولاً إلى حكم
شراء تلك البضاعة واستعمالها، ثم ينظر إلى مدى أهميتها وإلى جودتها ثم إلى
ثمنها، ينظر إلى ذلك كله ثم يقرر شراءها أو عدمه، وإذا اشتراها وجربها يقرر
إن صلحت استمر في شرائها وإلا فلا. هكذا يتعامل المسلم العاقل حيث يضع
الأمور في نصابها دون النظر في الإعلانات والدعايات.
فيا أيها التجار اتقوا الله وراقبوه في كل ما تقولون أو تعملون، والله الهادي
إلى سواء السبيل.(36/85)
بريد القراء
الأخ عثمان بن محمد الخنين
أرسل لنا قصة قصيرة ورسالة فيها مقترحات نقتطف منها ما يلي:
1- ما تريدون نشره في كتاب لو يُنشر على حلقات في المجلة لتعم الفائدة ولو
كثرت الحلقات.
2- عمل صفحات قليلة للطفل المسلم.
3- إجراء تحسينات على الشكل الخارجي للمجلة.
4- فتح المجال للقراء أكبر مما هو عليه الآن مع المحافظة على مستوى
المجلة.
5- الكتابة عن بعض المذاهب الهدامة والاتجاهات المخالفة للإسلام
كالماسونية والباطنية والقومية والوطنية.
البيان: نشكر الأخ عثمان على اهتمامه وغيرته وقد حققنا بعض مقترحاته -
كما رأى - في العدد (33) بإصدار (البيان الصغير) وتغيير شكل الغلاف، ونعده
بتحقيق بقية المقترحات إن شاء الله.
وأما بشأن القصة القصيرة التي أرسلها فإنها لم تستوفِ شروط القصة، ولا
بأس بإعادة التجربة وننصحك بالإكثار من المطالعة ومعرفة الشروط الفنية للقصة.
الأخ إبراهيم الغامدي - جدة:
ما أرسلت من القصيد لا يصلح للنشر في المجلة، وليس هذا من جهة المعاني، فالمعاني طيبة ولا شك، ولكن من حيث الأسلوب والبناء، نرجو أن تكرر
المحاولات وأن تقرأ كتباً في النقد الأدبي القديم والحديث، وتقرأ لكبار الشعراء.
الأخ علي عبد الله زوعري - الرياض
أرسل لنا رسالة يبدي فيها ارتياحه للبيان وتشجيعه لها.
البيان: نشكر الأخ على تشجيعه، ونرجو أن نكون عند حسن ظن الإخوة
دائماً.
الأخ أبو مالك - القصيم
أرسل إلينا قصة نقلها من كتاب (الراقصون على جراحنا) .
البيان: نشكر الأخ أبا مالك على اهتمامه، ولكن ليس من منهج المجلة نشر
إنتاج أدبي موجود في كتاب أو مجلة أخرى، ونرحب بالإنتاج الجديد والجيد.
الأخ خزعل العازمي - الدمام
أرسل طالباً الاهتمام بأزمة الخليج.
البيان: نشكر الأخ خزعل على اهتمامه بأمور المسلمين.
الأخ عبد الله بن علي الطعيمي - عنيزة
أرسل كلمة قصيرة يرد فيها على العلمانيين الذين يريدون تطبيق مدنية الغرب
على حياة المسلمين، كما أرسل لنا قصيدة للشاعر (محمود غنيم) .
البيان: نشكر الأخ عبد الله على مشاركته ونتمنى له التوفيق وأن يكون من
الشباب المؤمن المدافع عن الإسلام في وجه التغريب.
الأخ دخيِّل بن عبد الرحمن الدخال - الأحساء
أرسل مشجعاً وشاكراً لصدور (البيان الصغير) وضرورة تربية النشء على
الأخلاق العالية والفضائل الإسلامية.
أرسل لنا الأخ عبد الله محمد البا حُسين هذه الاختيارات:
قال الإمام ابن القيم:
(ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره - تعالى - على كل حال، وفي كل موطن، فللذكر تأثيره العجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه) .
زاد المعاد، ج2، ص25
يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال:
(إن الإنسان بغير إيمان حقير صغير، حقير المطامع، صغير الاهتمامات
ومهما كبرت أطماعه، واشتد طموحه، وتعالت أهدافه، فإنه يظل مرتكساً في
الأرض، مقيداً بحدود العمر، سجيناً في سجن الذات، لا يطلقه ولا يرفعه إلا
الاتصال بعالم أكبر من الأرض، وأبعد من الحياة الدنيا، وأعظم من الذات..)
من ظلال سورة العاديات، ص3958
متى يحسن الثناء؟
(حالان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما، وهما: المعاتبة والاعتذار، فإنه
يحسن فيهما تعديد الأيادي، وذكر الإحسان وذلك غاية القبح فيما عدا هاتين الحالتين) .
الأخلاق والسير في مداواة النفوس: ابن حزم، ص78(36/87)
مراكز إسلامية
* أقام مركز الفرقان الثقافي في مدينة (إندهوفن) في هولندا دورة مكثفة في
بعض العلوم الشرعية، ابتدأت الدورة بتاريخ 26/12/90 وانتهت في 30/12/90
وقد درّس فيها المواد التالية: العقيدة، فقه المعاملات مع الكفار، السيرة النبوية،
كما درست المواد: مصطلح الحديث وأصول الفقه، وأصول التفسير بإعطاء فكرة
موجزة ومركزة عنها.
وفي المساء أقيمت ندوات ناقشت المواضيع التالية: واقع ومستقبل الإسلام
في الغرب، المرأة المسلمة: حقوقها وواجباتها، حاضر العالم الإسلامي، سلوك
الداعية المسلم، وقد تميزت الدورة بحضور مكثف من المسلمين المقيمين في هولندا، كما حضر عدد لا بأس به من الدول المجاورة وهذه الدورة هي الدورة الأولى في
هذا المركز ولعلها تستمر - إن شاء الله - لتكون عاملاً من عوامل تأهيل الشباب
للدعوة وحمل الفكر الإسلامي الصحيح.
* في المنتدى الإسلامي في لندن أقيم الملتقى الثقافي السابع وذلك خلال يومي
29-30 من شهر كانون الأول عام 1990 وقد استضاف الملتقى الدكتور محمد
صلاح الصاوي وحاضر حول (من معالم الدعوة الراشدة) بالإضافة إلى محاضرات
أخرى منها: الأُخوة الإسلامية بين المفهوم والتطبيق، واهتمامات الشباب المسلم،
وقد حضر الملتقى العديد من الشباب المسلم في بريطانيا.
* وقد ختم الملتقى بلقاء مفتوح مع الدكتور الصاوي تعرَّض فيه للعديد من
الموضوعات المهمة مثل إحياء مفهوم الأمة، البنوك الإسلامية، مفهوم تطبيق
الشريعة وغيرها من القضايا الحيوية.(36/90)
إصدارات جديدة
التوحيد وواقعنا المعاصر
تأليف: الدكتور عدنان علي رضا النحوي
صدر عن دار النحوي للنشر والتوزيع ص. ب. 1891 الرياض 11441
يتحدث المؤلف عن التوحيد كقضية أساسية في حياتنا، ويرجع جميع المشكلات
التي تعصف بالمسلمين إلى اضطراب التوحيد واختلال التصور الإيماني، وأن
التوحيد في صفائه وصدقه هو مفتاح صلاح واقعنا. فهو الحقيقة الكبرى في الكون، عليه يجب أن يقوم الفكر، والمنهج، والأدب، والعلم.
سلسلة بحوث نفسية وتربوية
تقديم وإعداد: د. فاروق عبد السلام - د. ميسرة طاهر
صدر عن دار الهدى للنشر والتوزيع - الرياض
شارع طارق بن زياد - ص. ب. 25590 فاكس 4621480 ويحتوي
على:
* الأسس التربوية الإسلامية للمناهج التعليمية.
ء أساليب المعاملة الوالدية وبعض جوانب الشخصية.
* النشاط المغرض لدى الأطفال وكيف نتعامل معه.
* مفهوم الذات.
* نحو نظرية للتدريس.
* العلاقة بين الأداء والتدريس لمعلمي الرياضيات واللغة العربية.
* مقياس الاتجاه نحو الغش لدى طلاب وطالبات الجامعة.
* اختبار مفهوم تعلُّم القراءة.(36/91)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
الاستسرار بالدعوة؟ !
الاستسرار بالدعوة كلها أمر مخالف للأصل الثابت المستقر، فلا يجوز اللجوء
إليه إلا عند الضرورة، وأعني بالدعوة بيان دين الله وشرعه وحكمه.
أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات فهو أمر
مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد البشري، إذ لا يترتب عليه كتمان للدين ولا
سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان، ولا بلاغ.
سلمان بن فهد العودة - الغرباء الأولون
هذه هي الحضارة..
إذا تعلمنا تخصيص نصف ساعة يومياً لأداء واجب معين، وخصص كل فرد
منا هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لدينا في نهاية
العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها
العقلية والخلقية والتقنية والاقتصادية والمنزلية.
وسيثبت هذا (النصف ساعة) عملياً فكرة الزمن في العقل الاسلامي، أي في
أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استُغل الوقت هكذا فلم يضع
سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي،
وهذه هي الحضارة.
مالك بن نبي - شروط النهضة، 141
إلى الله المشتكى..
لا يذوق العبد حلاوة الإيمان، وطعم الصدق واليقين، حتى تخرج الجاهلية
كلها من قلبه. ووالله لو تحقق الناس في هذا الزمان ذلك من قلب رجل لرموه عن
قوس واحدة. وقالوا: هذا مبتدع، ومن دعاة البدع. فإلى الله المشتكى، وهو
المسئول في الصبر والثبات، فلابد من لقائه [وقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى] [طه: 61] ،
وقال كذلك: [وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] [الشعراء: 227] .
ابن القيم - مدارج السالكين، 2/385
الأمم لا تكون في حالة انحدار حقيقي إلا إذا 0صارت راضية عن نفسها،
متباهية بواقعها وأنانية، يستحوذ عليها هاجس الرفاه المادي، وقد عبر أينشتاين
عن ذلك بكل وضوح حين قال:
(لم يحدث أن اعتبرت الرفاه والسعادة أهدافاً مطلقة، بل وإني أميل لمقارنة
مثل هذا الأهداف الأخلاقية بطموحات الخنزير، فالحياة التي يعيشها المرء من أجل
الآخرين وحدها التي تستحق العيش) .
(ولا تكون الأمة صادقة مع نفسها إلا إذا التزمت بقضية أكثر منها، وحين
يعتقد زعماء أمة ما أنها وصلت القمة، وإن هدفها الوحيد هو البقاء هناك فإنها أمة
منتهية سلفاً) .
ريتشارد نيكسون - (صنداي تايمز) ، 5/10/1988
قال الحسن: (اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم فإن الله لم يدعْ قولاً
إلا جعل عليه دليلاً من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولاً حسناً، فرويداً
بصاحبه، فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين) .(36/92)
تنويه وردّ
أرسل لنا الدكتور علي السالوس - حفظه الله - عن طريق هيئة الرقابة
الشرعية في مصرف قطر الإسلامي هذا الرد من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
على ما كتبته جريدة (الأهرام) :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة (الأهرام) - الصادرة في 18/2 ...
/1411 هـ الموافق 7/7/1990 م نقلاً عن معالي وزير الأوقاف المصري بأنني
أفتيت بجواز التعامل مع البنوك بالفوائد من أجل الضرورة.. اهـ المقصود.
ومن أجل إيضاح الحق للقراء وغيرهم أعلن أن هذا النقل لا صحة له، وقد
صدرت عني فتاوى كثيرة نُشرت في الصحف المحلية وغيرها بتحريم الفوائد
البنكية المعروفة؛ لأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة قد دلت على ذلك. وحسبنا
الله ونعم الوكيل، ونسأل الله أن يوفق المسلمين جميعاً لكل ما يوافق شرعه المطهر
ويعيذهم من أسباب غضبه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(36/94)
رمضان - 1411هـ
مارس - 1991م
(السنة: 5)(37/)
الافتتاحية
الشرق والغرب
ليس هناك منطقة في العالم تعرضت للغزو ورد الغزو، وقامت على أرضها ...
حروب ومعارك كالمنطقة العربية، أو ما يسمونه في لغة الغرب (الشرق الأوسط) ،
إنها التفاحة التي تغري الآخرين بقطفها، فهي دائماً في نظر هؤلاء بلاد (السمن
والعسل) ، جاءها الإسكندر من الغرب، وجاءها هولاكو من الشرق، وذهب
الغازيان وبقيت المنطقة محتفظة بهويتها وثقافتها، هكذا قدر لها، وهكذا ينظر إليها
الغرب، كما يؤكد تقرير صادر عن مجموعة العمل الخاصة بالشرق الأوسط التابعة
للمجلس الأطلسي حينما عبر عن لا (الأهمية العظمى) ، للشرق الأوسط. [1] .
لقد كنا نحاذر أن تقع هذه الحرب التي أعقبت أزمة الخليج، وكنا نتمنى ألا
تقع، لأنها ستترك جرحاُ ليسر من السهل برؤه في المدى القريب، ولكن ستبقى
هوية المنطقة (الإسلام) ، وستبقى أصالة المنطقة.
لقد تذكرنا في هذه الأيام قول أحد شعراء الإنكليز المشهورين (الشرق شرق
والغرب غرب، ولن يلتقيا) ، هذه المقولة التي حاول كثير من الكتاب في الشرق
والغرب أن يثبت عكسها، ولكنها الحقيقة التي تثبت نفسها مع الأيام، فطبيعة
الثقافة الغربية التي يرضعها الطفل من المنزل والمدرسة والمجتمع تختلف جذرياً
عن طبيعة الثقافة الإسلامية، فالغربي الذي يعطف على الحيوان، وفي الوقت نفسه
يخرب البلدان إنما يعبر عن ثقافته، وليس من باب التمثيل أن يعطف على الحيوان
لإظهار رقته ورحمته، ولكنها الثقافة الغربية، ومن النماذج الواضحة في
ذلك ما يروى أن جندياً إنكليزياً كان يصوب بندقيته على مواطن كيني، فما
كان من هذا الكيني إلا أن هجم وعض الإنكليزي فاستغرب الأخير هذا التصرف
والتفت إلى زميل له وقال له: انظر إلى هذا المتوحش....
كان أجدادنا على علم بعقلية الأوروبيين وطريقة تصرفهم، فعندما كتب مسلمو
الأندلس معاهدة مع ملك أسبانيا يؤمنهم على أموالهم وأعراضهم، وحرية تدينهم قام
فيهم القائد العربي موسى بن أبي الغسان وقال: «يا قوم لا تغشوا أنفسكم، ولا
تتسلوا بالمحال، ولا تظنوا أن ملوك النصارى وافون بمواعيدهم لكم، فوالله إن
الموت الأحمر هو أهون مما نتوقع، وإنما نحن مستقبلون أمراً أيسره اكتساح
الأوطان وفضيحة العيال وانتهاب الأموال وقلب المساجد» .
كما يعبر عن هذه الحقيقة المستشرق النمساوي الذي اعتنق الإسلام محمد أسد، عندما قال: «قد لا تقبل أوربا تعاليم الفلسفة (البوذية) ، أو (الهندوكية) ، ولكنها
تحتفظ دائماً فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن ومبني على التفكير، إلا
أنها عندما نتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي في
التسرب..» [2] .
ويقول غوستاف لوبون: «لقد تجمعت العقد الموروثة، عقد التعصب التي
ندين بها ضد الإسلام ورجاله، وتراكمت خلال قرون سحيقة حتى أصبحت ضمن
تركيبنا العضوي» [3] .
إن الغرب وهو في نشوة انتصاره لا يتنبه إلى قوانين التاريخ الصارمة، إنه
لا يستطيع العيش طويلاً وهو يجترح الأزمات ويمتص خيرات الشعوب، وله عبرة
في الامبراطورية الروسية، التي أضعفت الدولة العثمانية ثم بدأت تلتهم الأقاليم
الإسلامية في آسيا، ثم جاءها العقاب الخفي، وجدت نفسها فجأة خاوية على
عروشها، تستجدي المعونة الاقتصادية، وهكذا علمت روسيا وسيعلم الغرب أن
الظلم مرتعه وخيم.
__________
(1) وثائق 17/119 الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
(2) محمد البهي / الفكر الإسلامي ص 189.
(3) مالك بن نبي / وجهة العالم الإسلامي ص 28.(37/4)
وقفة البوطي مع ابن تيمية
عبد القادر حامد
لا تقل: كيف يكون هذا؟ وكيف يستوقف البوطي ابن تيمية؟ فهكذا كان!
افترض أنه استوقفه! ولكن هل وقف، رحمه الله، وهل أصاخ لتحرشات البوطي
بعد ستمائة وثمانين سنة من وفاته، لقد تُحرِّش به كثيراً في حياته وبعد مماته إلى
الآن، ولم يهادن، ولم ينحن، بل هاهو ما يزال يزداد على التحرشات سطوعاً
وانتشاراً. لقد تعاوره ناس من طبقات شتى، وناشته أسلحة عمالقة وأقزام، كلهم
يحاول جهده، ويجرب حظه! ولكن أين هؤلاء، ومن يذكرهم؟ ! ومن يقرأ لهم؟
نحن نجيب: لا يقرأ لهم - في الأغلب - إلا من يريد أن يجرب حظه مع ابن
تيمية من جديد، ليجرد عليه أسلحة ثبت أنها إما كليلة أو فليلة.
مجلدات، رسائل مجردة، فتاوى، قصائد، ترجمات.. كلها ساهمت في هذه
الملحمة التي بدأت في حياة ابن تيمية ولمّا تنته بعد: أهواء يختلط فيها الحسد
والغيرة، بالتصوف الأعجمي، بالعداء للسنة، بالحقد على الصحابة، بالحرص
على المنصب، بحب الظهور عند جهة مدخولة العقيدة، بالشعوبية المبنية على كره
كل ما هو عربي، بالتعصب للمذاهب والأشخاص، بكثير مما يصعب حصره من
الدوافع التي تظهر خطوطها في كلام أصحابها بادية للعيان، أو تلك التي تتوارى
وتتدارى وتتلفف وتتدثر، ولكن تدل عليها رائحتها وفحيحها من وراء الكلمات. كل
ذلك وأكثر منه قد أُرصِد ويُرصَدُ كي يخفت صوت ابن تيمية، ويسدل الستار على
المنهج الذي نصب له جهده وحياته. ولكن هل نجح ذلك الإرصاد في خفت صوته
وتغييب منهجه؟ ما أحرى ابن تيمية بمعنى قول المتنبي:
كم قد قتلتُ وكم قد متُّ عندكم ... ثم انتفضتُ فزال القبر والكفن
قد كان شاهد دفني قبل قولهم ... جماعة، ثم ماتوا قبل من دفنوا
هذا أمر ومنهج قد استتب، وهو إلى قوة وانتشار بحمد الله ومنه وكرمه.
إننا لا ندافع عن ابن تيمية، فابن تيمية يدافع عن نفسه بأسلوبه، وعلى
الرغم من ضياع كثير مما كتب، فيما بقي من تراثه كفاء خصومه، وإذا أشرنا إلى
فقرات من آرائه في مؤلفاته، فهذا ليس تعبيراً عن تعصب للرجل، بل إنصافاً
للحق المجرد الذي نؤمن به وندين الله عليه، فإذا أحبه محبوه فللحق الذي ينافح عنه، وإذا تحامل عليه من تحامل فللباطل الذي يمدون إليه بسبب أو أكثر.
كما لا نظن بابن تيميه العصمة، فهو بشر يصيب ويخطئ، ولكن المناقشة
العلمية شيء، والتحامل الصارخ، والتشفي العاري شيء آخر.
لا زال مغروساً في ذاكرتي ذلك الموقف الذي كنت عاجزاً عن فهمه وتحليله
يوم حدث، وذلك أني كنت طالباً في كلية الشريعة في دمشق، وكانت مقررة علينا
مادة سموها: الفقه المقارن، وكان تدريسها مسنداً للدكتور الذي نناقش بعض ما
جاء في كتابه هذا، وكان صنف ورقات تحتوي عدة مسائل فقهية خلافية. وكان
من بين هذه المسائل مسألة: الطلاق بلفظ الثلاث، هل يقع ثلاثا أم واحدة، وهي
مسألة مشهورة، وابن تيميه يخالف في هذه المسألة المفتى به عند الفقهاء، وطبيعي
أن الشيخ البوطي ينصر رأي الفقهاء ولا لوم عليه في ذلك، لكن الذي استوقفني في
ذلك الوقت أمران:
1- وضع الأدلة وسياقها كما ناقشها البوطي حتى ننتهي إلى ما انتهينا إليه من
تأييد رأي الجمهور، فعلى الرغم من الجهد الواضح والحشد وكثرة الأقوال، إلا أنه
ظل في أعماق النفس شيء من هذه الاستدلالات وطريقة عرضها.
2- الصورة التي عرض البوطي علينا المسألة فيها.
فلا أزال أذكر أنه عندما عرض الأدلة وبدأ يناقشها تغيرت صورته التي
أعرفها أنا على الأقل، فارتفعت لهجته واحتدت، وهذه الحدة كانت ترافق عرض
الحجج التي يعتمدها ابن تيمية، بل كنت أحس أن الشيخ - وهو الهادئ الرزين في
نظري -كان يتهيأ للنهوض عن كرسيه بغضب ظاهر ليدفع خصماً أمامه لم يبق له
معه كلام، ولا بد من اللجوء إلى لغة الدفع باليد، بعد عجز لغة الحجة والبرهان.
طبعاً لم يخلف هذا الموقف في نفسي شيئاً نحو الشيخ حتى عندما سعر الحرب بينه
وبين خصومه الذين يحرص على نعتهم بأقبح الصفات، لم تكن هذه الحروب من
اهتماماتي، فلم أتابع ما قال كل طرف في الآخر. حتى قرأت له هذا الكتاب،
فعجبت أن يكتبه دكتور سلخ مدة ليست بالقصيرة من عمره يدرس ويحاضر ويؤلف.
هل النضج يؤدي إلى هذه النتيجة؟ أم هي فتنة يفتن بها الشيخ بعد هذا العمر؟ أم هذا ديدنه في سائر إنتاجه؟
وبعد أن قرأت «وقفته مع ابن تيمية» أدركت تلك الصورة الغريبة، التي
عجزت عن تفسيرها في ذلك الوقت المبكر، لأنني لم أكن قد اطلعت على شيء
كاف مما كتب ابن تيمية، تؤهلني لإدراك ما وراء الآكام.
تتجمع خصائص البوطي في التأليف والجدل، وتحتشد على نحو بارز
وطريف حينما يتصدى لابن تيمية (منبهاً إلى أخطاء وقع فيها ومعتذراً له!) ،
وحتى يكون لتصديه هذا مؤيدون فلا بد من اللجوء إلى رمز له جمهوره، وهكذا فما
إن افتتح البوطي اللعبة التي سماها: «وقفة مع ابن تيمية» ، حتى دلف وألقى
الرمز بين يدي جمهوره! هذا الرمز هو الغزالي..
والمجيء بالغزالي إلى هذا المعمعان حيلة يراها البوطي ناجحة، فلا بد من
إثارة العواطف، وهذه لا تثور إلا بندب وتفجع وتوجع! ولا بد أن يكون موضوع
هذا الندب والتفجع والتوجع رمزاً معروفاً، ولعله يستخدم هذه الوسيلة تأثرً بالذين
يستغلون حب المسلمين قاطبة لآل البيت من أجل الوصول إلى أهداف أخرى.
وهو الذي تحول بآخره إلى الاحتطاب بحبلهم!
وسبب آخر وهو تحويل المعركة من طرفين يشك الجمهور في تكافئهما؟
وهما: البوطي وابن تيمية، إلى طرفين قد يوجد من الناس من يقول بتكافئهما وهما: الغزالي وابن تيمية! والتبعة على البوطي ستكون أخف وأهون - أو هكذا يظن
- إذا ما جعل هذين الإمامين يتصارعان وعندها قد يقف على مبعدة منهما يفرك
يديه ضاحكاً قائلاً:
وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبست نفضتُ لها يدي
يقول البوطي [ص 160] :
«ولكن ابن تيمية أنحى باللائمة- على الغزالي بسبب خوضه في تلك
المصطلحات والمقاييس (مصطلحات ومقاييس الفلاسفة) واتهمه أكثر من مرة بما
كان جديراً به أن يشكره عليه، انطلاقاً من قراره الجازم بأن الاشتغال بعلم الكلام
لإحقاق الحق الذي جاء به القرآن والسنة، عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه. ويضع البوطي على طريقته في الإيهام والتلبيس في الحاشية ما يشير إلى أن
مضمون ما قاله موجود في صفحة 184 من الجزء التاسع من مجموع فتاوى ابن
تيمية.
ولكن - قبل أن نرجع إلى الموضوع المشار إليه - ما مضمون كلامه؟
إن مضمونه أن ابن تيمية:
1 - أنحى باللائمة على الغزالي بسبب خوضه في مصطلحات ومقاييس
الفلاسفة.
2- اتهمه أكثر من مرة بما كان جديراً أن يشكره عليه!
ولكن ما هذا الذي كان يجب على ابن تيمية أن يشكر الغزالي عليه؟ ! لقد
تركه البوطي مبهماً!
3- إن لابن تيمية قراراً جازماً لا مثنوية فيه بأن الاشتغال بعلم الكلام لإحقاق
الحق الذي جاء به القرآن والسنة عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه.
نقول:
أما إن لابن تيمية كلاماً في الغزالي فلا ينكر ذلك أحد، وأما أن يكون هذا
الكلام حقاً أو باطلاً في نفسه فهذا متروك للعلماء ليقرروه، وهو مباح لكل ناظر
وباحث - لكن بشروط البحث والنظر - لينظر فيه ويبحث عن وجه الحق فيما
احتواه. ولكن غير المباح، بل المعيب؟ أن تدعى دعاوى لا دليل عليها لمجرد
تشويه السمعة والصد ليس إلا! وإذا كان البوطي غيوراً على من يحب - وهذا حقه
- فاللائق به أن يجمع أطراف كلام ابن تيمية في الغزالي، وأن يناقش ذلك مناقشة
العلماء، وأن لا يقصقص أطراف النقول والاستشهادات حتى توافق هواه، وتتفق
مع ما في نفسه من دخن على ابن تيمية.
ولنعد إلى ص 184 من الجزء التاسع من مجموع الفتاوى.
يتكلم ابن تيمية عن عيب نظار المسلمين طريق أهل المنطق، وبيانهم
قصورها وعجزها، ورأيهم في المنطق جملة فيقول:
» ومازال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، ويبينون ما فيها من
العي واللكنة، وقصور العقل وعجز النطق؛ ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي
واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك. ولا يرضون أن يسلكوها في نظرهم
ومناظراتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه.
وإنما كثر استعمالها في زمن «أبي حامد» ؛ فإنه أدخل مقدمة من المنطق
اليوناني في أول كتابه «المستصفى» ، وزعم أنه لا يثق بعلمه [1] إلا من عرف
هذا المنطق.
وصنف فيه «معيار العلم» و «محك النظر» ؛ وصنف كتاباً سماه:
«القسطاس المستقيم» ، ذكر فيه خمس موازين: الثلاث الحمليات؛ والشرطي
المتصل، والشرطي المنفصل. وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين، وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم، وصنف كتاباً في تهافتهم، وبين كفرهم
بسبب مسألة قدم العالم، وإنكار العلم بالجزئيات، وإنكار المعاد وبين في آخر كتبه
أن طريقهم فاسدة؛ لا توصل إلى يقين؟ وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين.
وكان أولاً لا يذكر في كتبه كثيراً من كلامهم: إما بعبارتهم؟ وإما بعبارة أخرى،
ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم؛ وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما
يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريق المتكلمين؟ ومات وهو مشتغل بالبخاري
ومسلم.
والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول؟ ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه
ما كان فيه من الشك والحيرة؛ ولم يغن عنه المنطق شيئاً.
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار
يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من
المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر
صحيح مسلم عند العقلاء، ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين
وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه. وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات
متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيباً مجملاً لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة
على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل
والكفر والضلال «. [مجموع الفتاوى 9/184 -185] .
هذا ما جاء فيه ذكر الغزالي في هذا الموضع، فهل فيه اتهامات؟ فقد قال ابن
تيمية أن نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، وأن هذه الطريق كثر
استعمالها منذ زمن الغزالي، وأنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه» المستصفى «، وزعم - أي الغزالي - أنه لا يوثق بعلم من لا يعرف المنطق،
وصنف في المنطق كتباً مثل:» معيار العلم «و» محك النظر «، وصنف أيضاً
» القسطاس المستقيم «و» تهافت الفلاسفة «، فهل هذا كذب على الغزالي؟
وبين أن الغزالي بيَّن كفر الفلاسفة وأسبابه، وكذلك ادعى على الغزالي أنه
حكم بفساد طريق المعرفة على طريق الفلاسفة وادعى ذمه لطريق المتكلمين؛ فهل
هذه مجرد دعاوى لا دليل عليها، أم أن أدلتها مبثوثة في كتب الغزالي المعروفة؟
وكذلك ذكره التطور الذي حصل لأبي حامد وأنه مات وهو مشتغل بالبخاري
ومسلم، هل هذه دعوى غير صحيحة؟ أم أنها لوم وشيء معيب أن يسند للغزالي؟
هل في قول من قال في عالم من العلماء: إنه قال كذا، وفعل كذا وبيان
أسباب ذلك ظلم لهذا العالم أو تهمة أو لوم؟
ثم ما معنى قولك:
» بل إن ابن تيمية - رحمه الله - ازداد حماسة في الهجوم على المنطق
ومقاييسه واصطلاحاته، حتى لكأن فرط الحماسة أنساه ما قد قرره بشأن علم الكلام، وجواز الاستفادة من اصطلاحات المناطقة وأساليبهم في بيان الحق، فأخذ يقرر
بأن ما يعتمده النظار من أهل الكلام من الأدلة العقلية شيء لا حاجة إليه ولا موجب
للاشتغال به؛ فإن القرآن جاء بما يغني عنه «، [ص 160] .
لماذا تغار على المنطق غيرتك على الغزالي حتى لكأنهما توأمان؟ ، وهل
علم المنطق وعلم الكلام شيء واحد في نظرك؟ إن ابن تيمية لم يخرج عن ما قرره، ولم يناقض نفسه -كما يحلو لك أن تثبت، وتقيم ما تسميه أنت أدلة على ذلك -
فالموضع الذي تشير إليه على أن ابن تيمية تحدث فيه طويلاً في علم الكلام، وحكم
دراسته وممارسته والاحتجاج في مسائل العقائد الإسلامية به؛ وانتهى بحمد الله إلى
أن ممارسته ليست بدعة، والاعتماد عليه في الدفاع عن العقائد الإسلامية ليس
محرماً، إذا لم يقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني ما قد يكون من المقولات
الباطنة!
نقول: هذا الفعل منك تحميل لكلام ابن تيمية ما لا يحتمل، وعلى طريقتك
في البتر والقصقصة والتشويه تستدل على ما تريده، وتلوي كلام ابن تيمية عن
مقصده، متوهماً أنك بهذا البتر والتشويه تصير كلامه ملائماً لهواك.
ولكن هيهات! فأي عاقل يقرأ كلام ابن تيمية في سياقه التام يكتشف استهانة
وتلاعباً بالنصوص لا يليقان بطلبة العلم فضلاً عن الذين نصبوا أنفسهم للتدريس
والإرشاد.
ولو وضعنا - هنا - الكلام الذي يحيل على شذراته؛ بتمامه؛ لطال
الموضوع، ولأمللنا القارئ، فليرجع من يشاء إلى ذلك الموضوع من مجموع
الفتاوى 9/293 - 327، وليقرأ كلاماً كانت له روح هناك، فجاء البوطي وانتزع
روحه، وجعله عضين، وقدمه على أنه هو الذي يقول به ابن تيمية!
والغريب أنه لا يفطن لهذا التشويه؛ فيبني عليه، أو يستنتج منه آراء شائهة
من مثل قوله:» فإن أحداً منهم لم يتبن المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة
اليونانيين « [ص 159] .
وقوله:» وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية على أذهان كثير
ممن يقرءون له بسطحية ودون صبر أو استيعاب « [ص 61] ، ففي كلامه هذا
أمور:
1- وصف لكلام ابن تيمية بالاضطراب.
2- انعكاس هذا الاضطراب على أذهان كثير ممن يقرءون لابن تيمية
بسطحية ودون صبر أو استيعاب، وهذه العبارة ملتوية أشد الالتواء، وبيان ذلك أن
وصف كلام ابن تيمية بالاضطراب تركه البوطي معلقاً، حتى إذا قال له قائل: يا
شيخ، كثير عليك أن تحكم على كل كلام ابن تيمية بالاضطراب، لربما قال: لا،
أنا لا أقصد جميع كلامه؟ وإنما أصف بالاضطراب هذه الفقرة التي نقلتها من
الجزء التاسع ص 225 من مجموع الفتاوى! فيقال له: حتى على هذه النية، أين
الاضطراب في هذا الكلام؟ وهل هذه الفقرة وحدها كافية لبلبلة أفكار من يحكم
عليهم البوطي هذا الحكم الجائر؟ فإن كان كلام ابن تيمية مضطرباً كله فهو يعني
قراءه، وأنت منهم! إلا أن تحصن ذهنك من الاضطراب بالابتعاد عنه، والفرار
منه فرارك من مجذوم! وياليتك فعلت هذا؟ إذن لكفيت واستكفيت، ولكن ها أنت
من قراء ابن تيمية! لكن استغفر الله، فقد كدنا ننسى ما قلت، فأنت من القلة القليلة
التي أفادها مفهوم كلامك السابق، والتي تقرأ له بعمق وصبر واستيعاب! ، فالحمد
لله الذي عصمك - عند نفسك - من الاضطراب!
مثال من المبالغة والتحدي الفارغ:
قد يظن ظان أن هجوم البوطي على ابن تيمية، واستظهاره بالغزالي آت من
دراسة مستفيضة لعلم الرجلين، ومن تعمق فيما كتبا، ثم من تبيُّن عادل لما كتبه
ابن تيمية حول الغزالي؛ أو حول المسائل العلمية التي تعرض لها، ومن توصل
إلى أن وجه الحق في هذه المسائل كان إلى جانب الغزالي ...
والحق أن كل ذلك لم يكن - وسوف نبرهن على ذلك - وإنما الذي كان أن
البوطي سمع من المتعصبين مثله أن ابن تيمية عاب على الغزالي، وهو بنظر
هؤلاء (قدس الأقداس) الذي لا يُمس ولا يُنتقد.
ومن جهة ثانية يريد البوطي أن يجعل هذه المشكلة - انتقاد ابن تيمية للغزالي
- سلاحاً من الأسلحة التي يرمي ابن تيمية بها، لعله يصيب منه مقتلاً بعد أن تيقن
أن علمه وآراءه لم تمت، وأنه لا زال حياً على الرغم من قول متعصب شعوبي
حاقد من المتأخرين [2] فيه:» وحيث لم يكن له شيخ يرشده في العلوم النظرية
أصبح علمه لا يرتكن على شيء وثيق خليطاً كثير التناقض، توزعت مواهبه في
أهواء متعبة، ثم أفضى إلى ما عمل وزالت فتنته برد العلماء عليه «.
ولا شك أن البوطي قد مر بهذه العبارة المظلمة، ولا ندري هل أمَّن عليها؟
أم أشاح عنها وجهه لقبحها وعفونة رائحتها؟ ! إن كان أمَّن عليها فقد أمَّن على
كذب، وإن كان أشاح عنها فمضمون كلامه عن ابن تيمية مخالفة عملية لهذه
الإشاحة!
وحتى نقيم الدليل على مجازفات البوطي ننقل فقرة من فقر كتابه تدلك على ما
حكمنا به عليه من قلة التعمق والتبين التي سببها العجلة أو الهوى أو كلاهما، يقول
عن الغزالي:
» ... وأما أنه قد انطلى عليه شيء من أوهامهم أو انزلق إلى أي من الباطل
الذي ضلوا في أوديته، فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه، بل شهد بنقيض ذلك ابن
تيمية نفسه (سبحان الله) ، وما عرف تاريخ الفلسفة رجلاً مزق الأوهام الفلسفية
بمباضع المقاييس الفلسفية ذاتها (هذه استعارة مكنية!) ، وانتصر للحق الذي دل
عليه كتاب الله عز وجل، بالاصطلاحات الفلسفية نفسها كالإمام الغزالي «
[ص 163] .
ليس ابن تيمية وحده من ينقض أمثال هذه الفقرة التهويلية التي جادت بها
قريحة الشيخ البوطي، بل هو عندما يشير إلى أن الغزالي تأثر بأساليب الفلاسفة
ينقل كلام العلماء قبله من جهة، ويعتذر للغزالي من جهة أخرى؛ لأنه لم يتيسر له
العلم بالسنة، التي تعصم الإنسان من العدوى بطرق الفلاسفة وأساليبهم، ومعروف
أن الغزالي قال:» بضاعتي في الحديث مزجاة «، وكتبه - ومن أشهرها الإحياء
- تشهد بذلك (ولا ندري أينكر البوطي ذلك؟ !) ، وابن تيمية في نقده ينهج المنهج
الأعدل، فيبين أوهامه وأسبابها وعذره فيها، ويذكر ما له من محاسن، ويذكر
أقوال العلماء فيه فلا يقبل ما جاء به دون نقاش، ولا يرد كل ما جاء به دون دليل، يقول عن الغزالي:
» ولكن كان هو وأمثاله -كما قدمت - مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر
لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن، - كما قدمناه -، وأهل
الفهم لكتاب الله والعلم، والفهم لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإتباع
هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.
ولهذا كان الشيخ «أبو عمرو بن الصلاح» يقول - فيما رأيته بخطه -:
«أبو حامد كثر القول فيه ومنه، فأما هذه الكتب (يعني المخالفة للحق) فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله» . ومقصوده: أنه لا يذكر بسوء، لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن. وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية.
ولهذا: فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن
العربي، فإنه قال: «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج
منهم فما قدر» . وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك
في كتبه. ورد عليه أبو بكر الطرطوشي، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني ورفيقه، رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه، ورد عليه الشيخ أبو البيان، والشيخ
أبو عمرو ابن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما، ورد عليه ابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي وغيرهم «. [مجموع
الفتاوى 4/65-66] .
ويقول عن كتابه الإحياء:
» و (الإحياء) فيه فوائد كثيرة؛ لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة
من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان
بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. وقد أنكر أئمة الدين على
«أبي حامد» هذا في كتبه، وقالوا: مرضه (الشفاء) يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة؛ بل موضوعة كثيرة. وفيه أشياء من أغاليط
الصوفية وترهاتهم. وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين
في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما
هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس
وتنازعوا فيه «. [مجموع الفتاوى10/551-552] .
وهكذا يتبين لنا من هاتين الفقرتين السابقتين حقيقة الدعوة العريضة من قول
البوطي:» فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه «! ياليته ذكر لنا أسماء من أهل هذه
الدنيا! وقوله كذلك:» بل شهد بنقيض ذلك ابن تيمية نفسه «! فهلا ذكر الشيخ
أين شهد ابن تيمية بنقيض ذلك؟ ! وما تبق من فقرة الشيخ فهو صراخ وحدة
وتحدي» قبضايات «لا علماء.
على أننا نضع هنا بين يدي البوطي درساً في النقد يعلمناه ابن تيمية لعله
ينتفع به، فتهدأ نفسه وتعتدل، ويضعه نصب عينيه إذا كتب في المستقبل معلماً
ومرشداً وناقداً، إذن، يكفر عن تحامله وأخطائه التي يقتحم فيها بدافع العجلة
والهوى، ولا ريب عندنا وعند الشيخ أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
الباطل.
يقول ابن تيمية في معرض ذكره شيئاً مما ينتقد على أبي ذر الروي واعتذاره
له، ولمن ينتقد عليه شيء من العلماء، وذكره ما هو معروف عنه من العلم والدين
والمعرفة بالحديث والسنة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل:
» ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات
مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل
السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل
وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً من المعتزلة، وهم
فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما
أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع
والباطل، وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات؟ ويتجاوز لهم عن السيئات،
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [الحشر 10] .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه
لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: [رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] [البقرة 286] .
ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه
صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم
أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقلّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين،
لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به
يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب، ولهذا تجد
كثيراً من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها،
فيقولون القول الموافق للسنة، وينفون ما هو من لوازمه، غير ظانين أنه من
لوازمه، وبقولون ما ينافيه، غير ظانين أنه ينافيه، ويقولون بملزومات القول
المنافي الذي ينافي ما أثبتوه من السنة، وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي
وملزوماته، فيكون مضمون قولهم: أن يقولوا قولاً ويكفروا من يقوله، وهذا يوجد
لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين، ويوجد في الحالين،
لاختلاف نظره واجتهاده.
وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة، التي يظن
الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق، وقد دخل فيها الحق والباطل، فمن لم ينقب عنها
أو يستفصل المتكلم بها - كما كان السلف والأئمة يفعلون - صار متناقضاً أو مبتدعاً
ضالاً من حيث لا يشعر.
وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة، كلفظ الجسم والجوهر والعرض
وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة،
وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله، فوقع منهم من الخطأ والضلال ما
أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقاً
محضاً موافقاً للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن تشتمل على حق
وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، واما متعمداً
لنفاق فيه وإلحاد. كما قال تعالى: [لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا
خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] [التوبة 47] . فأخبر أن المنافقين لو
خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين،
يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: إما لظن مخطئ،
أو لنوع من الهوى، أو لمجموعهما؛ فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من
الظن واتباع هواه، ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند
حلول الشهوات» .
وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] [الفاتحة 6-7] ،
فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والضالون عبدوا الله بلا علم.
ولهذا نزه نبيه عن الأمرين بقوله: [وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
ومَا غَوَى] [النجم 1-2] ، وقال تعالى: [واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ
أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ] [ص 45] . [درء تعارض العقل والعقل 2/102 - 105] .
صورة ابن تيمية كما رسمها البوطي:
إنه لشيء مؤسف لي أن أجمع خطوط صورة ابن تيمية كما رسمتها ريشة
البوطي الصناع، وأبرزها للقراء؛ حى يطلعوا على هذا الفن الذي يضطلع به
الرجل ويأخذ به نفسه، وبادئ ذي بدء فإني أهمس في أذن الشيخ البوطي همسة
لعلها تفيده في دنياه، وهي أن في هذا العصر - عصر ثقافة التلفاز - قد شاع هذا
النوع من الكتاب الذين يكتبون لهذا الجهاز، ويغذون برامجه بإنتاجهم، فيكتبون
قصصاً وحكايات يستخدمها ويعتمدها منتجو هذه البرامج والمسلسلات.
وقد كشفت في تصوير الشيخ لابن تيمية - رحمه الله -، هذه الموهبة النادرة
في التصوير الذي يناسب أهداف أصحاب هذه المسلسلات ومن يقف وراءهم،
وبخاصة إذا كانت مادتها تتعلق بشخصيات إسلامية تاريخية لها دور في البناء
الاجتماعي والفكري والحضاري للمسلمين، فتراهم ينتقون من الكتابات أكثرها
سطحية وتشويهاً، أو يتعاقدون مع «خياطي» الكتابة الذين يكتبون لا عن مبدأ أو
عقيدة، خلا عقيدة الارتزاق (والشيخ البوطي ليس من هؤلاء) ، فيسطون على
الكتب والمراجع، ويقصون منها ما يناسب شروط العقد! ويفصلونه زياً على
حسب الطلب، صيفياً أو شتائياً، رجالياً أو نسائياً، طويلاً ضافياً فضفاضاً، أو
قصيراً ممسوخاً، كاسياً عارياً، أو منتعلاً حافياً، وهكذا.. وابن تيمية من هذه
الشخصيات التي تعتبر موضوعاً غنياً لكتاب المسلسلات هؤلاء، والنفس المستفاد
مما صوره به البوطي نفس هؤلاء الكتاب: دعاوى عريضة، وتشويه مقصود،
وهوى غلاب والعياذ بالله.
هذه أمثلة مما جادت به قريحة الشيخ في تصوير ابن تيمية:
اللوحة الأولى:
هذه مائدة الفلسفة مفروشة، مصفوفة أطباقها - بتنسيق وترتيب جميل، وقد
أعدت وجهزت حتى يرتادها الناس، كل الناس، وفجأة يدخل صبي صغير طائش، وإن شئت فرجل أخرق مجنون يذود الناس يميناً وشمالاً عن هذه المائدة، يريد أن
يختص بها لنفسه فقط، لا يستفيد منها، بل «ليعثو [3] بأطباقها كما يحب» ،
تكسيراً وتحطيماً وتخليطاً، يضع من هذا الطعام على ذاك، دون مراعاة للأذواق أو
المراسم! وهو بين هذا وذاك «يصيح في كل من حوله» [4] ! !
هذه صورة ابن تيمية عند هذا الرجل الداعية الذي يحترم العلم والعلماء!
أليس هذا ما ينطق به كلامه التالي:
«أما الثاني (أي ابن تيمية) فقد تربى على مائدة الفلسفة يتناول منها ويعثو
بأطباقها كما يحب، ويصيح في كل من حوله! يطردهم عن المائدة، ويحذرهم من
أن يذوقوا منها مذاقاً، لأن كل ما عليها طعام آسن ضار غير مفيد! !»
[ص 163] .
صورة طريفة مع أنها مزعجة، وبخاصة عندما يختلط صراخ ابن تيمية -
رحمه الله - بصوت الأطباق التي ينهال عليها تكسيراً وتفتيتاً. وقديماً قيل: أعذب
الشعر أكذبه!
ولوحة ثانية:
هذا ابن تيمية قد طوح بنفسه في بحر الفلسفة، وتعرض لما لا يحسن أن
يتعرض له، وخدعته نفسه حين ظن أنه قادر على السباحة في هذا البحر،
والسلامة من أخطاره، فها هو يتطوح هكذا وهكذا مضطرباً تائهاً لا يدري كيف
الخلاص، كشخص فقد دليله في مفازة مترامية الأطراف لا يدري أين طريق النجاة..
اقرأ قول البوطي بنصه التالي وتأمل:
«والعجب الثاني، أنه - وهو المحذر من سمادير الفلاسفة وأوهامهم - لم
ينج من هذه الأوهام والسمادر، بل أصابه بعض رشاشها، بل أصابه بعض من
أخطار رشاشها؟ ومع ذلك فهو لم يتبنها ويعتقد بها من منطلق التثبت العلمي الجازم، ولكن تطوح في شأنها تطوح المضطرب، وناقض نفسه في حديثه عنها مناقضة
التائه وقع في مهمه لا يتبين سبيلاً للخلاص منه» [ص 163] .
وبعد:
فإن هذا الأسلوب الذي يكتب به البوطي ابن تيمية يناقض ما جاء في حاشيته
على (وقفته مع ابن تيمية) ص 158 والتي يقول فيها:
«ليس الهدف من عرض ما قد يؤخذ على ابن تيمية هنا، تفسيقه أو تبديعه، كما فعل بعض خصومه، وإنما القصد أن ننبه إلى خطأ ما وقع فيه، ثم إلى
التماس العذر له من خلال العثور على نصوص أخرى يناقض فيها نفسه في هذه
النقاط التي أخذت عليه..» .
لو أن البوطي فسق أو بدع لكان الخطب أهون والتبعة أخف محملاً على نفسه، إذا لا يعدو بعمله ذاك أن يكون كرر شيئاً قد قيل من قبل، ولم يأت بجديد، ولكن
الشيخ البوطي يأبى إلا أن يبذ الأوائل ببدواته وإبداعه، فيسخر ويتشفى، ويتعالى
ثم يتواضع، ويقدر ثم يعفو، ويدين المجرم بجرائمه الواضحة، ثم - لفرط
إنسانيته وفروسيته - يذهب ويفتش في حيثيات القضية، لعله يعثر على ما يجعله
يتجاوز عن إنزال العقوبة الرادعة المستحقة. هذا ما تدل عليه حاشيته تلك التي تلح
علينا بأن يكون لنا معها وقفة أخرى.
*يتبع*
__________
(1) هكذا في مجموع الفتاوى ولعلها: لا يوثق بعلم.
(2) زاهد الكوثري في مقدمته لكتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر.
(3) يراجع معنى يعثو في لسان العرب و (يعثو) هذه أخت (ينغصون) التي وصف بها الصحابة! .
(4) اقرن هذه العبارة بالعبارة الواردة في كتابه [ص 245] : (فصاح فيه أن يخرج) ! والتي أشرنا إليها في مجلة البيان العدد السابق (36) ص 14 وليُعلم أن هذه ليست عربية صحيحة ولا فصيحة ولا لائقة، بل هي - لسوء حظه وحظنا - لغة أزقَّة يزين بها الشيخ أسلوبه الراقي! .(37/6)
خواطر في الدعوة
وضوح الأهداف
محمد العبدة
اذا أردت لدعوتك أن تكون قوية مؤثرة تجمع عليها الناس، يؤيدونها
ويناصرونها، فعليك أن تكون واضحاً في عرضها، واضحاً في عرض أهدافها،
اذكر الحقيقة التي تؤمن بها ناصعةً وبصورة حاسمة، أما الغمغمة واتباع الطرق
الملتوية، فهذا سيبعد الطريق ولا يؤدي إلى الغرض المطلوب، ومعنى هذا أن
أفراد الدعوة أنفسهم يجب أن يكونوا متشبعين بفهمها، وفهم أهدافها ووسائلها،
وإذا لم يكونوا كذلك فهناك التشويش والخلط بين المراحل الأولى والمراحل الأخيرة، الذي يؤدي إلى التعثر والتخبط.
لقد كنت الأهداف المرحلية واضحة تماماً في السيرة النبوية، كان دعاؤه -
صلى الله عليه وسلم- مركزاً وواضحاً في البداية، دعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله
وحده، وترك كل ما يعبد من دون الله من أصنام وطواغيت وأهواء وشهوات، ثم
انتقل إلى مرحلة البحث عن مكان آمن للدعوة وأهلها، وأن تكون منطلقاً للتمكين
في الأرض.
فيسر الله له أهل يثرب، ودخلوا في دين الله وانتقلت الدعوة إلى الدولة، ثم
انتقلت الدولة من مرحلة الجهاد الدفاعي إلى مرحلة الجهاد، حتى يكون الدين كله
لله.
إن هذا الوضوح والإصرار عليه جعل بعض العرب يعجبون بالدعوة
وصاحبها، فإن الإصرار على الحق والدفاع عنه لا بد أن يوقظ الناس، وسيقولون
لو لم يكن هذا الشيء حقاً لما دافع عنه الناس بهذه التضحية..
وهذا الإصرار يتلوه النجاح، وهذا أيضاً من أسباب إقبال الناس عليه، فإن
الدعوة الحق لا بد أن تنجح ولو في بعض المراحل أو بعض الأحيان [واللَّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ] ، أما فشلها مرة بعد مرة، فهذا دليل على أن أفرادها لم يميزوا من
المقصد والوسيلة، فيتسرعون حيث البطء أو يبطئون حيث يجب الاندفاع.
وفي هذا العصر وجد زعماء من غير المسلمين وضعوا أهدافاً واضحة،
واستخدموا وسائل واضحة، وقد وصلوا إلى كثير مما كانوا يؤملون، يقول أحد
هؤلاء الزعماء:
«لا يمكن لحزب سياسي أن يبقى على المسرح ويحقق النجاح إلا إذا كانت
لديه أفكار ومعتقدات صلبة وخطة عمل واضحة» ونحن نقول أيضاً لا بد للعمل
الإسلامي من خطة عمل واضحة.(37/24)
مراجعات في عالم الكتب
رؤية إسلامية
لأحوال العالم المعاصر
إعداد: عادل الشدي
لاتزال المطابع تقذف لنا كل يوم بالجديد من الإصدارات، وطالب العلم حريّ
به أن يكون له قدر من المتابعة مما يطرح في الساحة يمكنه أن يعيش عصره ويفيد
من علم الآخرين وتجاربهم. وبين يدي كتاب جديد بعنوان (رؤية إسلامية لأحوال
العالم المعاصر) للأستاذ محمد قطب.
المقدمة:
تحدث فيها المؤلف عن أهمية تكوين رؤى مستقلة للأمة الإسلامية، وأن
الرؤى لها منطلقات إيديولوجية، وبناء على ذلك فتحديد الرؤية المتميزة مطلب
شرعي.
الفصل الأول: الجاهلية المعاصرة:
ومهد له بتعريف للجاهلية وناقش من ينفي عن الجاهلية المعاصرة هذا
الوصف.
ثم تحدث عن جذور الجاهلية المعاصرة وارتباطها بالجاهلية الرومانية
والإغريقية، وأنها استفادت من الأمة الإسلامية مع العلم: إرادة الحياة، ومواجهة
الظلم، واحترام العقل الإنساني، وعدم القداسة للبشر، وقد كادت تدخل الإسلام
لولا تشويه الكنيسة له. ثم تحدث عن خصائص الجاهلية المعاصرة، وأولها: إرث
العقلانية عن الجاهلية الإغريقية والرومانية، وثانيها: تحكيم العقل في التشريع
الذي نشأ عنه التمرد على حق الله في التشريع وعلى حكمته. والخاصية الثالثة:
تحكيم العقل في منهج الحياة، ونجحت في ذلك لكنها أخفقت في الأهداف.
ثم تحدث عن السنن الربانية التي تحكم أوضاع الجاهلية المعاصرة، وأجاب
عن تمكينهم بأن ذلك لهوان الدنيا على الله، وأن من سنته تعالى الإملاء للظالمين،
ولغياب الحق عن الساحة، وأخيراً فالتمكين ليس بمجرد الكفر إنما بفعل الأسباب،
ثم قارن بين تمكين الاستدراج وتمكين الرضا (الذي يكون للمؤمنين) .
الفصل الثاني: السيطرة العالمية لليهود:
وابتدأ الفصل بالإشارة إلى أنهم لم يعودوا يخفون مخططاتهم. ثم تحدث عن
العقدة اليهودية في احتقار الآخرين واستعبادهم. وأشار إلى ثلاث نماذج من مكرهم
(ما قام به بولس لإفساد النصرانية، ابن سبأ، إشاعة الفاحشة) .
ثم تحدث عن السيطرة الحالية لليهود، وبيّن أنهم يستغلون الأحداث ولا
يصنعونها، وبيّن كيف استغلوا ثلاث وسائل: الثورة الفرنسية وحطموا من خلالها
سلطة الدين المتمثل في الكنيسة، ورجال الإقطاع ليحصلوا على الثراء. ثم استغلوا
الثورة الصناعية التي أثروا من خلالها وحطموا القيم والأسرة والمجتمع عن طريق
تحرير المرأة. وأخيراً استغلوا الثورة الداروينية التي تقول بحيوانية الإنسان.
ثم أشار إلى أحوال اليهود بين الكتاب والسنة، ووعد الله ووعيده، وكيف أن
الله مكنهم بحبل من الناس، وعقوبة لهذه البشرية على كفرها، وأن هذا التمكين
مؤقت لا تلبث الأمة المحمدية بعده إلا أن تعود إلى الشهادة والقوامة.
الفصل الثالث: أمة التوحيد بين الماضي والحاضر:
وفيه قال: إن كل الأمم داعية إلى التوحيد في الأصل، لكنهم لم يسيروا عليه، كما سارت هذه الأمة. ثم قارن بين خيرية هذه الأمة وادعاء اليهود أنهم شعب الله
المختار، وأن هذه الخيرية ليست تعصباً عرقياً أو لجنس دون غيرهم، وهي
خيرية بحكم الله عز وجل. ولما كان دور هذه الأمة الشهادة والقوامة تطلب هذا
الدور الضخم ضخامة الأساس والإعداد.
ثم أشار إلى بعض لمحات من التاريخ وهي:
1 - الهداية للتوحيد فما من أمة حافظت على التوحيد كهذه الأمة، وكان من
نتائجه: الإيمان باليوم الآخر، وتحكيم الشريعة، وأن عاشت الأمة لم تعرف
الإقطاع، وكانت أقل بلدان العالم جريمة.
2 - كان الإسلام ميلاداً جديداً للبشرية.
3 - كانت حركة التوسع الإسلامي حركة فريدة في التاريخ - مضموناً
وأهدافاً - فحررت البشرية من الظلم، وقام فيها تجمع فريد على أساس الإسلام،
رغم اختلاف الأجناس والألوان.
4 - قامت على يد هذه الأمة حركة علمية واسعة، صححت أخطاء الإغريق
واكتشفت المنهج التجريبي، وقبل ذلك وأهم منه: قامت على أساس العقيدة.
5- قامت على يد هذه الأمة حركة حضارية ضخمة منبثقة من العقيدة، دون
تناقض أو تعارض أو خصام..
6- أن الإسلام قد أثر في جوانب كثيرة من حياة الأمة في اتجاه مغاير للبيئة،
فحول الذين اعتادوا الفوضى وعدم الانضباط إلى مجتمع منضبط بدءًا من الصف
في الصلاة والمواقيت وانتهاء بالدعوة والحرب والسلم.
7- وأخيراً تحدث عن الواقع المعاصر لأمة التوحيد، وبيَّن كيف انحسرت
المفاهيم الإسلامية في حسّ الكثير من المسلمين إلى شعائر ومظاهر هامدة.
الفصل الرابع: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:
وقد استعار هذا العنوان من كتاب لأبي الحسن الندوي، وبيّن في هذا الفصل
كيف أن العالم خسر كله بانحطاط المسلمين. ففقد النموذج الصحيح حين برزت
أوربا (النموذج الفاسد) ، ولو بقيت الأمة على ما هي عليه لما برز النموذج الفاسد.
ولقامت الثورة الصناعية في الأمة الإسلامية. وحينئذ تسلم من الربا الذي توصل
الغرب من طريق إباحته إلى أن استقر عند الناس أن الدين يقف عائقاً عن التقدم.
وهكذا كانت ستسلم من تحرير المرأة وما عاقب ذلك من فساد في القيم والعقائد
والأخلاق.
توقعات المستقبل:
وتحدث في هذا الفصل عن سقوط الأنظمة الجاهلية الشرقية والغربية،
وإفلاس جميع النظم في تقديم ما يسعد الإنسان. وذكر أربعاً من نقاط الخلل تتصف
بها الجاهلية المعاصرة والإسلام منها بريء. وأشار إلى أنه عندما نقول: إن
المستقبل للإسلام، فلا يعني إهمال الجهد والبذل. وركز في آخر المبحث على
العناية بالتربية الجادة، والشورى، والنظام، وحذر في آخر الفصل من استدراج
الإسلاميين ووقوعهم في شرك العلمانية والمهادنة معها..(37/26)
سؤال وجواب
العلم قبل العمل
عبد العزيز القارئ
ما معنى قول الصحابي: «تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن» ، ما المقصود
بالإيمان هنا؟ وكيف يكون قبل تعلم القرآن؟
حملنا هذا السؤال إلى الدكتور عبد العزيز القارئ، الأستاذ المشارك في
الجامعة الإسلامية، فأجاب مشكوراً:
روى الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال:
لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة
فيتعلم حلالها وحرامها، وأوامرها وزواجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ولقد
رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى
خاتمته، لا يدري ما أمره وما زاجره، وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل.
نفهم من هذا الخبر بعضاً من أهم معالم منهج الصحابة في تلقي الدين:
أولاً: لابد من التعلم قبل العمل، فالعلم قبل القول والعمل، هذه قاعدة أساسية
في منهج السلف يكررها علماء هذا المنهج ويؤكدون عليها، وتجدها عنوانا بارزاً
في صحيح البخاري. قد يقول قائل: هل نعطل العمل والدعوة والجهاد حتى نتعلم؟ التعلم نفسه عمل؛ إنه بداية الطريق، ألم تسمع قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة» ،
فماذا تريد غير الجنة؟ وبداية طريقها العلم، أما إذا غلبتك العجلة، فبدأت الدعوة
والجهاد بغير علم، فإننا نخشى عليك ألا تصل إلى الجنة، نقول هذا ونكرره في
مناسبات كثيرة هذه منها، شفقة على أولئك الذين لم يفهموا المنهج الصحيح، ولا
يحاولون فهمه، إنهم يتعبون الأمة، ولا يخدمون الدعوة، لماذا لا يتعلمون أولاً؟ !.
ثانياً: في عملية التعليم: العقيدة (أولاً) ، وهي التي عبر الصحابي عنها
بالإيمان، وهذا أمر واضح، فالتصورات الأساسية إذا لم تكن صحيحة، فكل ما
سيبنى عليها سيلحق بها، هنا في هذا الحديث يرتب الصحابي على فهم الإيمان فَهمَ
سائر أحكام الدين، كما يرتب العكس على العكس. ثم إننا نتساءل؟ إذا لم تكن
غاية المسلم هي معرفة الله وعبادته فما هي غايته؟ هل هناك هدف أغلى وأهم من
هذا للفرد والجماعة؟ إذا لم نعرف ربنا معرفة صحيحة فما فائدة جهودنا المتراكمة؟
وإذا لم نعبده عبادة صحيحة، فما هي الحكمة من جهادنا؟ لماذا لم يَفرَق بعض
الدعاة إذا ذكرت صفات الله؟ لا يريدون أن يعرفوه؟ ! لماذا يخاف بعض الدعاة
من تعليم الناس توحيد العبادة؟ بل قل: من تعلَّمه؟ ! ألا يريدون أن يعبدوا ربهم؟!
أحسنهم حالاً من بدأ يتعلم القرآن ونسي الإيمان، أي ذهب يتعلم أحكام الدين
في التشريع ونسي الأساس، وهذا كله انحراف عن منهج الصحابة الذي تلقوه من
النبي - صلى الله عليه وسلم-.(37/30)
فكر
بين المفكر والمختص
د. عبد الكريم بكار
يزداد تشعب العلوم يوماً بعد يوم، ويصبح الفرع فروعاً، ويتولد من العلم
الواحد علوم، وتتفجر المعرفة نتيجة الأعداد الضخمة من المثقفين الذين يعملون في
مجالات البحث العلمي، ونتيجة الوسائل الكثيرة المتاحة لهم، وعلى رأسها الحاسب
الآلى.
وإلى جانب هذا فإن العلم نفسه صار يفرز مشكلات جديدة، يوصف كثر منها
بأنه مصيري، ويتقدم العلم ويزداد تشابكه مع العلوم السياسية والأخلاقية! مما دفعنا
إلى تسليط الضوء على هذه القضية.
من هو المفكر؟
يمكن أن نقول بإيجاز: إن المفكر هو من يملك رؤية نقدية ينقل من خلالها
تناقضات مجتمعه ومشكلاته إلى حسِّ الناس وأعصابهم، لتصبح إحدى مفردات
همومهم اليومية، وهو بما يعرف من سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق، وبما
يملك من رؤية شاملة فاحصة للواقع والتاريخ يتمتع بـ (حاسة الاستشعار عن بعد) ، فيرى ما لا يراه الناس، فينذرهم ويوجههم نحو طريق الفلاح. وكثيراً ما تكون
حياة المفكر قلقة، بل قد يدفع حياته ثمناً لما يحمل من فكر، إذ أن المفكر كثيراً ما
يكون سابقاً لمعاصريه، وهذا يجعل إدراك أبعاد ما يقول غير متيسر لأكثرهم، كما
أن ما يحدثه من استبصار في مشكلات أمته يتعارض مع مصالح فئات في المجتمع، تقتات من وراء وجود تلك المشكلات، مما يثيرها عليه، ويجعله هدفاً لها. وقد
يكون المفكر متخصصاً في أحد فروع العلم، وقد لا يكون. وقليل أولئك الذين
يتقنون تخصصاً ما ثم تكون لهم رؤية مجتمعية شاملة.
أما المختص فإنه يكون - في الغالب - متبحراً في علم من العلوم التطبيقية أو
الإنسانية، فهو لا يصدر عنه إلا ليعود إليه، وكثيرًا ما يكون المختص فاقداً للوعي
الاجتماعي، إذ إن التخصصات في حالة من التوسع المستمر، كما أن مشكلاتها في
تزايد مستمر، ومهما بذل المرء من جهد بغية إتقان تخصصه وجد أن التراكم
المعرفي يبعده عن غايته تلك، وهذا يقتضي منه المزيد من الانهماك فيه، والمزيد
من البعد عن مشاكل الحياة اليومية، وبالتالي فهو يبتعد باستمرار عن الرؤية الشاملة.
وحياة المختص - في الغالب - أقرب إلى السلامة والاستقرار، لأن الفئات
التي تنزعج من المفكرين تتخذ من الاختصاصيين وسائل تساندها - ولو بصورة
سلبية - في الوصول إلى مصالحها.
ويمكن أن يقال: إن المختص يشبه طبيباً في قافلة كبيرة، فهو لا يعرف
الكثير عن أهداف المسيرة أو محطات التوقف، إذ إن معالجة الأعداد الكبيرة من
المرضى تستغرق كل وقته، أما المفكر فهو قائد القافلة الذي عنده معرفة تامة بكل
المشكلات الكبرى التي تواجه القافلة، كما أن مخطط السير واضح لديه تماماً،
وهذا في الغالب يجعله لا يتمكن من معرفة التفاصيل الدقيقة لكل شؤون الرحلة،
ولماذا يهتم بذلك وهناك المختصون الذين يعملون على علاجها وتسييرها.
التخصص ومشكلاته:
يجب القول ابتداء أن مجالات التخصص آخذة في التفرغ يوماً بعد يوم،
والباحثون يشعرون بضيق المجالات التي يعملون فيها وميلها إلى شدة التخصص،
وهذه الحال نفسها هي التي أدت إلى التراكم المعرفي الضخم الذي نراه اليوم، حتى
إن بعض المولعين بالإحصاء يقولون: إن المعرفة تتضاعف فيما بين كل عشر
سنوات إلى خمس عشرة سنة، وهذا كله ما كان ممكناً لولا التخصص الدقيق
والدقيق جداً، لأنه وحده الذي يسعف في رفع سقف المعرفة، وهو وحده الذي أدى
إلى وجود كل هذه الإنجازات التي نراها. والذين يحاولون إظهار أنهم على معرفة
موسوعية يعرضون - في الغالب - معلومات ناقصة أو مزيفة؛ لأن زمان المعرفة
الموسوعية قد انتهى.
ولكن لابد هنا من القول: إن ما تم من إنجاز علمي، وبذل في سبيله الغالي
والنفيس، إنما وجد من أجل خدمة الإنسان وتحقيق سعادته، وعلى المختصين أن
يتأكدوا من أن تلك الإنجازات حققت أهدافها، وظلت في مأمن من أن تستخدم
لتدمير إنسانية الإنسان، بل وجوده كله! !
ولنضرب لذلك مثالاً واحداً نجلو به ما نرمي إليه.
فقد كان من المعروف قبل الحرب العالمية الثانية أن العلماء الألمان قطعوا
شوطاً بعيداً في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة،
وكان من المسلم به أن هذه المحاولات ستسير في المجال العسكري، وكان هناك
خوف من أن تستغل الطاقة الهائلة التي تتولد عن انشطار الذرة في تدمير الإنسان
على يد هتلر الزعيم النازي، ومن ثم فإن مجموعة من العلماء الفارين من جحيم
النازية إلى أمريكا طلبوا من الرئيس (روزفلت) رئيس أمريكا آنذاك تخصيص
الأموال والوسائل اللازمة لإنتاج القنبلة الذرية قبل أن يتمكن العلماء الألمان من
صنعها وجعلها في يد حاكم مثل هتلر يستخدمها في فرض قيم معادية للإنسانية،
وكان في ظنهم أن حيازة أمريكا لها سوف يردع هتلر - فيما لو امتلكها - عن
استخدامها. وتم ذلك في مدة قصيرة حين أجريت أول تجربة ذرية في عام 1945
في صحراء نيفادا، ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى ألقيت أول قنبلة على
(هيروشيما) في اليابان في الثامن من آب عام 1945، وأعقبتها بعد أيام قنبلة
أخرى على (نغازاكي) مما عجل بالاستسلام النهائي لليابان.
وقد كان من رأي العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية أن تجرى تجربة دولية
أمام مندوبين من مختلف بلاد العالم لإطلاعهم على مدى القوة التدميرية للقنبلة،
ويطلب من اليابان أن تستسلم على هذا الأساس، ولكن الحاكم السياسي لأمريكا
آنذاك، وهو الرئيس (ترومان) كان له رأي آخر.
وتكفيراً عن الذنب أمضى كثير من أولئك - ومنهم أينشتين - بقية عمرهم في
الدعوة إلى السلام. ومن العسير على العلماء اليوم أن يتحكموا في كيفية استخدام
علومهم وتطبيقاتها حيث إن الشركات والمؤسسات الكبرى هي التي تنفق على
أبحاث العلماء في الغرب، كما أن الدولة في المعسكر الشرقي ترعى العلماء وتنفق
عليهم، مما يجعل إسقاط حقهم في التحكم فيها أمراً مسلماً به مسبقاً.
ولا تقف مشكلات التخصص المغلق عند هذا الحد، فقد وجد مثلاً أن بعض
الأمم تولي ثقة للمختصين والفنيين، وربما يحثونهم على القيام بتشكيل حكومة
تسمى بالحكومة (التكنوقراطية) ، أي حكومة الاختصاصيين، وقد خيب هؤلاء
الآمال في كثير من الأحيان، لأنه ثبت أنهم ينظرون إلى المشكلات الكبرى بمنظور
أضيق مما هو مطلوب؛ لأن مهنتهم وتخصصهم الدقيق يغلب عليهم، ومن ثم فإنهم
عاجزون عن تأمل الأمور من منظور شامل. ومن هنا فإن المجتمع كثيراً ما يلجأ
إلى السياسيين والشخصيات العامة لإصلاح ما أفسده المختصون.
إن في المجتمع حوارات داخلية غامضة، لا يقف عليها إلا من خالط الناس
في شرائحهم العديدة، ومن ثم يعجز غالباً المختصون عن قيادتهم وتحسس مشكلاتهم.
وقد عزلت التخصصات المغلقة أصحابها عن طبيعتهم الإنسانية حين تحول
العلم على أيديهم إلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضي تدريباً وتعليماً مكثفاً،
ومن ثم فإن المختص يتباعد تدريجياً عن رؤية الصورة الكلية للحياة، كما أن العلم
وفق هذا المنهج يفقد وظيفة من أهم وظائفه، وهي فقه الذات والعودة إليها واستكناه
أغوارها [وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ] [الذاريات: 21] . ومن ثم فقد برز اتجاه
يدعو إلى ضرورة خروج العالم من تخصصه إلى تخصصات أخرى قريبة منه
تتكامل معه وتثريه، كما نشأت دعوات للعلماء التطبيقيين أن يقرءوا في الدراسات
الإنسانية، وأن يعايشوا المشكلات اليومية لمجتمعاتهم - ولو بمقدار - حتى يحدث
التوازن في ثقافاتهم وشخصياتهم المجتمعية.
وهذه المشكلات هي مشكلات الباحث في العالم المتقدم مادياً، أما المختصون
عندنا فلهم إلى جانب هذه المشكلات مشكلات أخرى من نوع آخر، حيث إن
الباحثين في ميادين العلوم التطبيقية مازالوا إلى هذه اللحظة عند العلوم، أما
التطبيق فإن الأوضاع في العالم الإسلامي لا تساعد على التطبيق الصحيح، ولذلك
فإن من استطاع من الباحثين الهجرة إلى الغرب هاجر، ليجد هناك المجال الرحب
لتطبيق النظريات التي توصل إليها، وليضاف إنتاجه بعد ذلك للحضارة الغربية،
ومن لم يستطع الهجرة توقف النمو العلمي لديه، ثم تراجع؛ لأن العلم لا ينمو إلا
بالتجربة والتطبيق.
أما الباحثون في ميادين العلوم الإنسانية عامة فلهم مشكلة من نوع آخر، حيث
إن عدم تنظيم المعرفة لدينا بالشكل المناسب وانعدام التواصل بين الباحثين جعل
كثيراً منا يجاهد في غير عدو، وذلك لأن البناء المعرفي أشبه شيء ببناء ذي
طوابق، مع فارق واحد هو أن العلماء كلما انتهوا من بناء طابق معرفي انتقلوا إليه
وتركوا ما تحته فارغاً ليشكل أساس البناء ومنطلقاته، وهذا هو التراكم المعرفي.
والمشكلة أن كثيراً من الباحثين لدينا يرفضون الانتقال من الطابق الأول إلى ما فوقه، إما لعدم إدراكهم لضرورة الانتقال، وإما لعجزهم عنه، وإما لعدم معرفتهم أن
هناك طوابق أخرى فوقهم. وهذا ما نعنيه عند القول: إن المعرفة عند كثير من
باحثينا تفقد صفة التراكم اليوم.
إن كثيراً ممن يملك أفضل العقول لدينا مشغولون بنشر كتب تراثية أو كتابة
بحوث كتب خير منها من أكثر من قرن من الزمان، وقد يعمل الواحد من سنوات
في تحقيق كتاب مخطوط نقله مؤلفه عن كتاب مطبوع بين أيدينا، فما الحاجة إلى
تكرار غير مفيد! ! إن ما ينبغي العمل فيه في ميادين العلوم الإنسانية هو كل ما
يمثل إضافة للذات، أو يساعد في حل مشكلة واقعة أو متوقعة، وما عدا ذلك فهو
هدر لطاقات الأمة بأمس الحاجة إليها.
ولا يقف الأمر عند هذا، بل يتجاوزه إلى أن بعض المختصين يفني عمره في
حفظ مسائل وقراءة أبواب لا يحتاج إليها الواقع المسلم في شيء، ولو أنه التفت
إلى واقعه، ثم أعمل النظر فيما يحتاج إليه ذلك الواقع، من فقه، وفهم، وتفجير
للنصوص، وقراءة للتاريخ، لاستطاع عمل الكثير لهذه الأمة.
ومن هنا يرى بعض المفكرين أنه لا يمكن تنمية فقه الأولويات، وفقه
الموازنات في وضع حضاري شديد التعقيد، إلا إذا امتلك المختصون رؤية شاملة،
وعرفوا مواضع أقدامهم، من خلال معرفة الواقع المعاش والواقع التاريخي، ومن
خلال الانفتاح على الأنشطة الحياتية المختلفة.(37/32)
عقيدة
الشرك الأصغر تعريفه وأنواعه
عبد العزيز بن محمد عبد اللطيف
إن الشرك بالله تعالى أعظم ذنب عصي الله به، كما قال جل وعلا:
[إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان 13] .
ولما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «عن أي الذنب أعظم؟ قال:
أن تجعل لله نداً وهو خلقك» رواه البخاري ومسلم.
ولذا فإن الشرك وحده لا يغفره الله تعالى [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ]
[النساء 48] ، ومن ثم فهو محبط للأعمال الصالحة [ولَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام 88] .
ويقسم العلماء الشرك إلى قسمين، أحدهما شرك أكبر، وهو أن يصرف العبد
نوعاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى.
والآخر هو الشرك الأصغر، وهو موضوع هذه المقالة، وهذا الشرك من
الموضوعات المهمة التي تحتاج إلى دراسة وافية، نظراً لخطورته وشدة وعيده،
حيث خافه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صحابته - أكمل الأمة إيماناً -
رضي الله عنهم - ولكثرة من وقع فيه من المسلمين، فلا يكاد أحد ينجو منه إلا من
عصم الله، وأرجو من الله تعالى التوفيق في عرض هذا الموضوع المهم الخطير
للأخوة القراء، وهو جهد مقل سعى في جمع كلام أهل العلم في هذا الموضوع من
خلال العناصر التالية:
أولاً- تعريفه:
يمكن أن نعرف الشرك الأصغر بأنه هو: (ما أتى في النصوص أنه شرك،
ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر) [1] .
وهناك دلالات معينة يمكن اعتبارها ضوابط في تبيين الشرك الأصغر من
الأكبر، منها: صريح النص عليه، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أخوف
ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» رواه أحمد.
ومن الدلالات على الشرك الأصغر أن يأتي منكراً غير معرف، فإن جاء
معرفاً بـ (الـ) دل على أن المقصود به الشرك المخرج من الملة [2] ، ومن ذلك
قوله -صلى الله عليه وسلم- «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه أحمد وأبو
داود.
ومن الدلالات أيضاً على الشرك الأصغر ما فهمه الصحابة من النص،
فالصحابة أعلم الأمة بمعاني نصوص الكتاب والسنة، ومثاله حديث «الطيرة ...
شرك، وما منا إلا، ولكنَّ الله يذهبه بالتوكل» رواه أحمد والترمذي. ...
فإن آخر الحديث على الصحيح هو من قول ابن مسعود -رضي الله عنه-،
ومعناه: وما منا إلا ويقع له شيء من التطير.
ومن ذلك حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «من حلف بغير الله فقد
أشرك» رواه الترمذي وحسنه، فقد فسر ابن عباس -رضي الله عنه- أن الحلف
بغير الله من الشرك الخفي والذي يعتبر شركاً أصغر.. فقد قال ابن عباس عن قوله
تعالى: [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] [البقرة 22] ، «الأنداد هو الشرك
أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله،
وحياتك يافلان، وحياتي..» رواه ابن أبي حاتم.
والشرك الخفي يعتبر شركاً أصغر، حيث فسر الرسول -صلى الله عليه
وسلم- الشرك الخفي بالرياء، والذي يعد شركاً أصغر، وإليك الدليل عن أبي سعيد
الخدري -رضي الله عنه- مرفوعاً: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من
المسيح الدجال؟ قالوا: بلى! قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين
صلاته لما يرى من نظر الرجل» رواه أحمد.
وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- الشرك الأصغر «رواه الحكم وصححه [3] .
ومن هذه الدلالات أن يفسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الشرك الذي
جاء في نص بما يوضح أن المراد به ما دون الشرك الأكبر، ومن ذلك حديث
معاوية الليثي مرفوعاً:» يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقاً من رزقه،
فيصبحون مشركين؛ يقولون: مطرنا بنوء كذا «رواه أحمد. فالمراد بهذا الشرك
هو كفر النعمة ضد الشكر، وهو من الكفر الأصغر (العملي) ، لما أخرجه الشيخان
من حديث زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء (أي مطر) كانت من الليل، فلما
انصرف أقبل على الناس، فقال:» هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا
بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا
وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب «. وفي رواية لمسلم عن ابن عباس مرفوعاً:» أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد
صدق نوء كذا وكذا «.
ومن الشرك الأصغر ما يكون شركاً بحسب قائله ومقصده [4] ، فمثلاً الحلف
بغير الله تعالى - في حد ذاته - من الشرك الأصغر (شرك الألفاظ) ، لكن إن قصد
قائله تعظيم غير الله تعالى كتعظيم الله تعالى مثلاً، فهذا شرك أكبر.
ولا أنسى أن أشير إلى أن الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- قد
عرف الشرك الأصغر بما يلي:» كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك
الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة « [5] . ويبدو لي
والله أعلم أن الحد السابق للشرك الأصغر أكثر دقة وانضباطاً من هذا الحد الذي لا
يمكن تمييزه وحصره.
ثانيا: الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر:
إن الشرك الأكبر محكوم على صاحبه بالخروج من الإسلام في الدنيا،
والتخليد في النار، وتحريم الجنة في الآخرة، وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك، فلا يحكم على صاحبه بالكفر ولا الخروج من الإسلام، ولا يخلد في النار.
كما أن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، بينما الأصغر يحبط العمل الذي
قارنه.
وتبقى مسألة - هي محل خلاف - وهي هل الشرك الأصغر لا يغفر إلا
بالتوبة كالأكبر أم هو مثل الكبائر تحت المشيئة الإلهية؟
هناك من العلماء من قال: إن الشرك الأصغر لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة
لعموم الآية: [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ] ، لكن يدخل تحت الموازنة بخلاف
الأكبر الذي يحبط كل الأعمال كما سبق، فإن حصل معه حسنات راجحة على
ذنوبه دخل الجنة وإلا دخل النار [6] .
وكأن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يميل إلى ذلك حيث يقول مثلاً:
» وأعظم الذنوب عند الله الشرك به وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء، والشرك من جليل ودقيق، وخفي وجلي « [7] .
ويقول بعبارة أصرح من السابقة:» وقد يقال: الشرك لا يغفر منه شيء لا
أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن، وإن كان صاحب الشرك [أي الأصغر] يموت
مسلماً، لكن شركه لا يغفر له بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة « [8] .
لكن يفهم من عبارات ابن القيم أن الشرك الأصغر تحت المشيئة، حيث يقول
-رحمه الله-:» فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة،
فالمغلظة الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والمخففة
الشرك الأصغر كيسير الرياء « [9] .
ومرة يقول:» الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه [10] «إلى أن
يقول:» وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للمخلوق [11] «
وقد ذكر العلامة السعدي كلاماً مهماً في هذه المسألة، أنقل بعضه:» من
لحظ إلى عموم الآية [يعني قوله تعالى:] إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [] ، وأنه
لم يخص شركاً دون شرك، أدخل فيها الشرك الأصغر، وقال: إنه لا يغفر، بل
لا بد أن يعذب صاحبه؛ لأن من لم يغفر له لا بد أن يعاقب، ولكن القائلين بهذا لا
يحكمون بكفره ولا بخلوده في النار، وإنما يقولون: يعذب عذاباً بقدر شركه، ثم
بعد ذلك مآله إلى الجنة. وأما من قال: إن الشرك الأصغر لا يدخل في الشرك
المذكور في هذه الآية، وإنما هو تحت المشيئة، فإنهم يحتجون بقوله تعالى: [إنَّهُ
مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْوَاهُ النَّارُ] [المائدة 72] ، فيقولون: كما
أنه بإجماع الأئمة أن الشرك الأصغر لا يدخل في تلك الآ ية، وكذلك لا يدخل في
قوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] [الزمر 165] ؛ لأن العمل هنا مفرد
مضاف ويشمل الأعمال كلها، ولا يحبط الأعمال الصالحة كلها إلا الشرك الأكبر.
ويؤيد قولهم أن الموازنة واقعة بين الحسنات والسيئات التي هي دون الشرك
الأكبر؛ لأن الشرك الأكبر لا موازنة بينه وبين غيره؛ فإنه لا يبقى معه عمل
ينفع « [12] .
ثالثاً: أمثلة الشرك الأصغر وصوره:
الشرك الأصغر قد يكون ظاهراً جلياً، وربما كان خفياً دقيقاً، كما أنه يكون
في الإرادات والنيات، ويكون في الأقوال والأفعال.
- فمن أمثلة هذا الشرك: التطير: وهو التشاؤم بالطيور، والأسماء،
والألفاظ، والبقاع وغيرها، فنهى الشارع عن التطير وذم المتطيرين، قال تعالى:
[أَلا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] [الأعراف: 131] .
وقال -صلى الله عليه وسلم-:» لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر «،
وعن ابن مسعود مرفوعاً:» الطيرة شرك «رواه أبو داود والترمذي.
إن التطير سوء ظن بالله تعالى، وتعلق بأسباب موهومة.. ومن ثم فإن
التشاؤم إنما هو في نفس الشخص المتشائم لا في الشيء المتشائم منه، فوهمه
وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، ولذا لما قال معاوية بن
الحكم السلمي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ومنا أناس يتطيرون. فقال:
» ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم «رواه مسلم. لقد كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل ويكره الطيرة، لأن الفأل الحسن إنما هو حسن
ظن بالله تعالى، ودون تعلق للقلب بغير الله، بل فيه من المصلحة والسرور وتقوية
النفوس، وموافقة الفطرة إلى ما يلائمها.
وقد جاءت الأحاديث في بيان علاج ذلك منها:» من ردته الطيرة عن حاجته
فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا
طير إلا طيرك، ولا إله غيرك «رواه أحمد.
ولأبي داود عن عقبة بن عامر قال:» ذكرت الطيرة عند رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقال: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره
فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا
قوة إلا بك» .
إن هؤلاء المتشائمين والواقعين في شَرَك هذا الشرك الأصغر إنما هو لظنهم
أن التطير سبب في حصول نفع أو دفع ضر، ومن ثم فإنه يتعين على المكلف أن
يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدها: أن لا يجعل منها سبباً إلا ما ثبت أنه سبب شرعاً أو قدراً، والطيرة
ليست كذلك، فالشارع نهى عنه، وأما القدر فإن التطير ليس سبباً مادياً معهوداً في
حصول المقصود، ومن ثم فلا بد من إبطال التطير وإلغائه.
ثانياً: أن لا يعتمد العبد عليها بل يعتمد على مسببها ومقدرها مع قيامه
بالمشروع منها وحرصه على المنافع منها.
ثالثاً: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله
وقدره ولا خروج لها عنه [13] .
ومن أمثلة هذا الشرك، شرك الألفاظ، ومنه الحلف بغير الله لما جاء في
الأحاديث الكثيرة من التحذير من ذلك، ووصفه بأنه شرك، ومنه قوله - صلى الله
عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» رواه أحمد وأبو داود.
وكذلك حديث ابن عمر مرفوعاً: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان
حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» أخرجاه، وعن بريدة مرفوعاً: «من حلف
بالأمانة فليس منا» رواه أبو داود، وقد جاءت كفارة ذلك من حديث أبي هريرة
مرفوعاً: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله» رواه البخاري ومسلم.
ومن شرك الألفاظ ما ورد عن ابن عباس في قوله تعالى: [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَندَاداً] [البقرة 22] ، حيث قال -رضي الله عنه-: الأنداد هو الشرك أخفى من
دبيب النمل على صخرة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك
يافلان، وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار
لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا
الله وفلان، لا تجعل فيها «فلان» هذا كله شرك. رواه ابن أبي حاتم.
ومن الشرك الأصغر: الشرك الخفي: وهو الشرك في الإرادات والنيات،
ورحم الله ابن القيم عندما يقول عن هذا الشرك: «فذلك البحر الذي لا ساحل له،
وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئاً غير التقرب إليه
وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته» .
ومن هذا الشرك: يسير الرياء؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن يسير
الرياء شرك» رواه ابن ماجه وأما الرياء المحض فهذا من النفاق الأكبر المخرج
من الملة، كما ذكر ذلك ابن رجب -رحمه الله- في جامع العلوم والحكم. وقد سمى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرياء شركاً خفياً، وسماه شرك السرائر، فعن
أبي سعيد مرفوعاً: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟
قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من
نظر الرجل» رواه أحمد.
وعن محمود بن لبيد -رضي الله عنه- قال: خرج النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقال: «يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجل
إليه، فذلك شرك السرائر» رواه ابن خزيمة.
إن الرياء داء عضال، وآفة عظيمة تحتاج إلى علاج شديد وتمرين النفس
على الإخلاص ومجاهدتها في مدافعة خواطر الرياء والاستعانة بالله على
دفعها [14] .
وكما قال الطيبي عن الرياء: «هو من أضر غوائل النفس، وبواطن
مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة، فإنهم مهما قهروا نفوسهم وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات عجزت
نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فطلبت
الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العلم والعمل، فوجدت مخلصاً من مشقه
المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق، ولم تقنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى،
وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمده الله وحده، فأحبت مدحهم، وتبركهم
بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل، فأصابت النفس في ذلك أعظم
اللذات، وأعظم الشهوات، وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعبادته، وإنما حياته
هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة، قد أثبت اسمه عند الله من
المنافقين، وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين، وهذه مكيدة للنفس لا يسلم
منها إلا الصديقون، ولذلك قيل:» آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب
الرياسة «.
يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:» فمن خلصت نيته في الحق ولو
على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله [15] «.
وقد أرشد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى علاج لهذا الشرك، فقد جاء
في حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ذات يوم فقال:» أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقيل
له: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا اللهم إنا
نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه «رواه أحمد [16] .
__________
(1) انظر حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد ص 50.
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم 1/208.
(3) أكثر هذه الدلالات استفدتها مما كتبه الشيخ عايض القرني في رسالته الماجستير: ضوابط التكفير عند أهل السنة - جامعة أم القرى بمكة - ص 257-258، وكتاب حد الإسلام وحقيقة الإيمان لعبد المجيد الشاذلي ص 183.
(4) انظر مدارج السالكين 1/344.
(5) القول السديد في مقاصد التوحيد ص 43، انظر كتابه سؤال وجواب في أهم المهمات ص 18.
(6) انظر حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ص 50-1هـ، وانظر الدين الخالص لمحمد صديق 1/388، وقد أشار الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد باب من الشرك لبس الحلقة إلى أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
(7) جامع الرسائل 2/254.
(8) الرد على البكري (تلخيص كتاب الاستغاثة) ص 146، وانظر رسالة البيان الأظهر لعبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين ص10، وانظر تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 98.
(9) إغاثة اللهفان 1/98، وانظر الجواب الكافي ص 177.
(10) مدارج السالكين 1/339.
(11) المرجع السابق 1/341.
(12) عن كتاب الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العناد، حيث نقل هذا الكلام عن فتوى بعثها السعدي للشيخ عبد الرحمن الحصين سنة 1374هـ ص 188، 189.
(13) انظر الفتاوى لشيخ الإسلام 1/137، والقول السديد للسعدي ص 33- 34.
(14) انظر الرياء وأحكامه وعلاجه في الإحياء للغزالي، وكتاب مقاصد المكلفين للدكتور عمر الأشقر.
(15) انظر تعليق ابن القيم على هذه العبارة في إعلام الموقعين 2/178.
(16) هذا المبحث - أعني صور الشرك الأصغر وأمثلته - مأخوذ في غالبه من كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وانظر تفسير ابن كثير 2/475، عند قوله تعالى: [ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وهُم مُّشْرِكُونَ] [يوسف 106] .(37/38)
نحن والغرب
لمحات في طرق نقل التقنية
والتخلف التقني في العالم الإسلامي
د. عبد الله بن صالح الضويان
إن المتأمل في أحوال الدول يجد أن القرار بيد تلك الدول القوية عسكرياً
والتي وصلت إلى مستوى متقدم من حيث امتلاك التكنولوجيا. وعلى النقيض تجد
أن الدول المتخلفة (والمسماة مجاملة بالنامية) ، وفي مقدمتها الدول الإسلامية لا تملك
أي قدرة على اتخاذ القرار فيما يتعلق بالأحداث الدولية، بل فيما يتعلق بأوضاعها
الداخلية، ولا ريب أن السنن الربانية اقتضت أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم، وعملية التغيير النفسي هذه تشمل التغيير في شتى المجالات، فنرى أن
العالم الإسلامي متخلف سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، سواء على مستوى
الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات. ولا شك أيضاً أن عملية التغيير الشاملة هذه لا
بد أن تكون ضمن إطار متكامل ومتزن ثابت في جوانب، متطور في جوانب
أخرى، ذلكم هو المنهج الإسلامي الصافي من الخرافات والبدع الملائم لكل زمان
ومكان.
قال تعالى: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُونَ] ، وإن انتشار ظاهرة التدين بين الأمة وخاصة الشباب لهي بشارة خير،
ومع قناعتنا أن هذا الرجوع إلى الله وهذه الصحوة لابد أن تقرأ التاريخ، وتتمسك
بمنهج أهل السنة، حفاظاً عليها من الوقوع في الانحراف - أي انحراف كان - في
مجال التربية أو الفكر، فإنه لابد لهذه الصحوة أن تأخذ دورها في جميع المجالات:
الإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية، إننا نعيش في مرحلة
تأسيس تكنولوجي للعالم الإسلامي، وذلك يستلزم الابتداء من حيث انتهى الغرب،
هنا لابد من نقل ما توصل إليه من رقي تكنولوجي، واستلام عجلة القيادة منه، إن
عملية النقل عملية شاقة وطويلة، مضخمة، تأخذ بعين الاعتبار الضوابط الشرعية
التي تدين بها الأمة وهي مرتكزة على مبدأ إسلامي: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ] . وهذا البحث ما هو إلا
لمحات في قضية التخلف التكنولوجي (التقني) لدى الأمة الآن، وسبل تخطيها
ونقل التكنولوجيا إليها من دول سبقتها، قمت بتجميعه من مصادر متنوعة،
بالاضافة إلى بعض الاقتراحات والتي أدرجتها في آخر البحث. ولا بد أن أذكر
مرة أخرى بأن الأمة ما عادت تثق إلا بجيل الصحوة، وطرحت كل فكر ومفكر
وقائد ملحد علماني لا يقيم لدين الأمة وزناً، فهل نأخذ زمام المبادرة؟
ما هي التكنولوجيا:
إن تجديد المصطلحات أمر في غاية الأهمية، إذ بدونه سندور في حلقة
مفرغة، ولا نستطيع أن ننطلق من مفاهيم واضحة للوصول إلى حل أي مشكلة،
ونظراً للمطاطية التي اكتسبها مفهوم التكنولوجيا، فقد أصبح من الصعب التوصل
إلى تعريف دقيق موحد للتكنولوجيا يقبل به جميع المهتمين بالموضوع، لاسيما وقد
ارتبط لفظ تكنيك technique وهو قديم بلفظ تكنولوجيا technology، وهو
حديث نسبياً.
إن كلمة تكنولوجيا إغريقية الأصل، وهي تعني في عصر الحضارة اليونانية
والرومانية القديمة كل الفنون المتعلقة بالمهارة والبراعة وحذق الصناعة، وهي
الجهد المنظم الرامي لاستخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب العمليات
الانتاجية لتسخير البيئة المحيطة بالإنسان وتطويع ما فيها من مواد وطاقة لإشباع
مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية.. وبصورة عامة مجموع السبل التي
توفر للإنسان حياة مادية آمنة.
إن هذا التعريف فيه شيء من الشمولية المرضية، مع أنه يوجد تعريفات
أخرى ويستطيع أي واحد منا أن يعطي نفس التعريف، ولكن بألفاظ يختارها من
عنده، ومن التعريف يتضح الارتباط الوثيق بين لفظ العلم ولفظ التكنولوجيا.
العلم والتكنولوجيا:
للتفرقة بين العلم والتكنولوجيا نستطيع القول بأن العلم هو معرفة السبب (لماذا
Know - why) في حين أن التكنولوجيا هي معرفة (الكيف Know - how) .
العلم يأتي بالنظريات والقوانين العامة، والتكنولوجيا تحولها إلى أساليب
وتطبيقات في مختلف النشاطات والميادين، فمثلاً: إذا كانت العلوم الفضائية قد
توصلت إلى نظريات محددة عن طبيعة القمر وتنبأت بإمكانية إنزال الإنسان على
سطحه، فإن التكنولوجيا الفضائية قد استطاعت أن تصل إليه وتحصل على عينة
من تربته وتعيدها إلى الأرض ليتم فحصها من قبل العلماء لمعرفة مدى تطابق
خصائصها مع ما توقعته نظرياتهم.
كذلك يمكن القول بأن العلم يملك صفة العمومية أما التكنولوجيا فتملك صفة
الخصوصية، فالعلم نتاج فكري، أما التكنولوجيا فهي نتاج عملي، كذلك نلاحظ أن
العلم متاح لكل من يملك الذكاء والقدرة المادية لتحصيله على خلاف التكنولوجيا.
ومن هذا يأتي الفرق بين الاكتشاف والاختراع، فمثلاً اكتشف نيوتن قانون الجاذبية
وأينشتين النظرية النسبية، واكتشف الإنسان النار ضمن احتكاك حجرين ولكن
اخترع طرقاً وأساليب لتوليدها وهكذا، ولا نخلط بينهما بسبب حدوث بعضها
(الاكتشافات والاختراعات) بالصدفة كما هو معلوم. هذه مقدمة موجزة لتعريف
بعض المصطلحات الجافة والفكر الذي يوجه أمة من الأمم.
تأثير صراع الايديولوجيات على توجيه العلم:
يظن الكثير أن حقائق العلم غير قابلة للصراع الأيديولوجي، وفي حقيقة
الأمر يتعرض العلم والتكنولوجيا للخضوع للنزاعات الايديولوجية والقومية، وهذا
أمر نجده بصورة قليلة فيما يتعلق بكشف القانون العلمي، ولكن بصورة كبيرة في
الجانب التكنولوجي، وللتوضيح نورد بعض الأمثلة.
1- عندما هرب أينشتين من الحكم النازي ولجأ إلى السويد ثم أمريكا،
هوجمت نظرياته في ألمانيا، وقوطعت فيزياء أينشتين لفترة طويلة، وكان ينظر
في الاتحاد السوفييتي إلى النسبية على أنها نظرية مثالية.
2- لعب اليهود دوراً بارزاً للترويج لنظرية دارون في أوربا نكاية بالكنيسة،
وكانت من الأسباب التي غيرت فكرة الأوربيين حول عقيدة الخطيئة وصلب المسيح
(في عقيدتهم) لاسيما في بدء عصر النهضة في أوربا آنذاك.
3- في فترة من الفترات كان عالم الأحياء السوفييتي (لايسنكر) يحصل على
دعم السلطة الشيوعية، فكان يوفق بين نظرياته العلمية وبين النظرية الشيوعية كما
كان يحجب الكثير من الأبحاث العلمية عن أصدقائه ومواطنيه الذين كانوا على
خلاف معه، وكانت نتيجة ذلك تأخر هذا الفرع من المعرفة في هذه البلاد. ولهذا
فإن نتائج العلم تطوع أحياناً لفلسفات باطلة تبين علاقة الإنسان بالمجتمع والكون.
لهذا فحري بأهل الحق أن يستلموا الراية ليوقفوا الفوضى الضاربة الأطناب،
ويضعوا الإنسان في مكانه الصحيح.
أسلمة العلوم:
يأتي دور أسلمة العلوم في شكل متناسق مع عملية النقل التكنولوجي، لا
لإضافة أيديولوجية جديدة إلى العلم - وإن كان هذا مسوغاً لها - ولكن لكي تعيد
للعلم موضوعيته كما كان في عصر الحضارة الإسلامية، إن أسلمة العلوم ضرورة
حتمية، خاصة بعد ظهور نزعات في الغرب الآن مثل (العلموية) التي تقدس العلم
وتعتبره القادر على حل كل شيء. ويقابل ذلك نزعة (التكنوقراطية) والتي تؤكد
على أن التكنولوجيا أفضل من غيرها على صياغة قوانين المجتمع. يقابل هاتين
النزعتين نزعة أخرى وهي (اللاعلمية) وهي معادية للعلم وتحذر منه ومن خطورة
المادية المعاصرة، وأنها ستؤدي بالبشرية إلى الهلاك، ولابد من العودة إلى الفطرة
والبعد الكامل عن العلم. ونشير هنا إلى ذلك التحقيق عن منطقة في ويلز ببريطانيا
يعيش أهلها بعزلة عن العالم (منذ سنتين) ويوجد نفس التفكير عند مجموعات أخرى
في أمريكا.
هذه المسوغات كافية لبيان ضرورة أسلمة العلوم، بالإضافة إلى أن عقيدة
التوحيد تدفع العلم. إلى ما لا يعرفه الغرب؛ لأنها تعطي تصوراً أن هناك علماً
ظاهرياً وآخر غيبياً، ومن ثم يعرف الباحث حدود بحثه. وهذا من شأنه أن يشعر
العالم بالاطمئنان، لأن الظواهر التي يدرسها تتسم بالاضطراد والاستمرارية، حيث
إن مشيئة الله شاءت أن تؤكد استمرارية الأشياء واضطراد الظواهر، وأن التعميم
فيها له معنى من خلاله يتعرف الباحث على قدرة الله، وهذه نقطة مفقودة في
الفلسفة المادية الغربية.
التكنولوجيا فريضة وضرورة:
إن التكنولوجيا وتطورها له دور في توجيه الصراعات القائمة، وهذا يفرض
إعادة نظرة بصورة شاملة في الرؤية التغييرية، وتحديد أساليب العلم من أجل
التنمية المتكاملة للأمة الإسلامية لتفرض نفسها بين الأمم بقوة العلم والجسم، إن
التحديات اليهودية المعاصرة (مثلاً) تفرض على الأقطار الإسلامية الدخول في
عصر العلم والتكنولوجيا، وخلع ربقة التشكيلات والهياكل البالية على جميع
الأصعدة.
إن الغرب والشركات الاحتكارية الدولية الكبرى وهي تعمل على احتكار العلم
والتكنولوجيا، يضعان شروطاً صعبة على حركة المد الإسلامي، وجعلها تعيش في
واقع محدد لا تتعداه، وإن تدمير المفاعل النووي العراقي وخوفها من المفاعل
النووي البكستاني لدليل على سعي أعداء الأمة للحيلولة دون إنجاز تكنولوجيا متقدمة
في العالم الإسلامي، ولسنا بصدد ذكر مقولات قادة الغرب والشرق عن عدوهم
المشترك المقبل ولجوئهم إلى ما يسمى سياسة الوفاق الدولي، والذي هو في حقيقة
الأمر وفاق على عدو مشترك وهو المد (الإسلامي!) المتنامي، مع يقيننا بأن أهل
الباطل يختلفون على المصالح، كيف لا والخلاف قد يحصل بين دعاة الحق.
ولقد أثبتت الأحداث في الخليج ضرورة السعي إلى الاستقلال الكامل لأمة
الإسلام عن أعدائها في المجال الاقتصادي والعسكري والعلمي والفكري
والتكنولوجي، وفي اتخاذ القرار. وكل واحد من هذه المجالات يحتاج إلى بحوث
مستمرة يتبعها عمل جاد.
* يتبع *(37/48)
المسلمون في العالم
دروس من الأحداث
عبد العزيز بن ناصر الجليل
فإن من الأصول المستقرة في باب الإيمان بالله عز وجل: الإيمان بقضاء الله
وقدره، وأن شيئاً لا يحدث في هذا الكون صغيراً أو كبيراً إلا بعلم الله عز وجل
وإرادته وخلقه له قال تعالى: [إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر 49] وقال جل
شأنه [وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ] [القمر 53] .
كما أن الإيمان بالله سبحانه وقضائه وقدره وأسمائه وصفاته، لا يحصل إلا
بأن يجزم المسلم أن ما يكتبه الله عز وجل ويقدره في هذا الكون فمن ورائه حكمة
بالغة ولو ظهر للناظر أنه شر ومكروه. فالإنسان بإدراكه المحدود في الزمان
والمكان، ولأن من طبيعته الجهل والظلم، فإنه لا يمكن أن يدرك مآلات الأمور
وعواقبها، ولا يعلم بذلك إلا العليم الحكيم خالق الأشياء ومقدرها وعالم الغيب
والشهادة، قال تعالى [قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ ومَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ] [النمل 25] ، وقال تعالى: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ
اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك 14] ، وقال تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ
ولا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]
[الحديد 22] .
إذ الأمر كذلك فلا شك ولا ريب أن ما حصل من أحداث وشرور في أحداث
الخليج، إثر الاجتياح العراقي للكويت، لابد وأن نخضعها للأصول الآنفة الذكر،
وأن من حاد عن هذا المنهج فقد خسر إيمانه بالله عز وجل أصلاً، وانحاز إلى
معسكر الكفر والإلحاد الذين لا يؤمنون بشيء من هذه الحقائق، وإنما يفسرون
أحداث التاريخ تفسيراً مادياً معزولاً عن علم الله عز وجل وتقديره وحكمته البالغة
فيما يخلق، وعلى ضوء ما سبق فإن الواجب على المسلم إزاء هذه الأحداث أن
يؤمن إيمانا جازماً أن ما قدره، الله عز وجل في أحداث الخليج - وإن كانت موجعة
ومؤلمة - فإن من ورائها حكمة بالغة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين، والمرتبطة
باسمه (الحكيم) سبحانه وتعالى. ولقد ظهرت بعض الدروس والحكم جلية من
خلال هذه الأحداث المؤلمة، مع أن ما خفي علينا في غيب الله عز وجل من الحكم
والمصالح أكثر ومن هذه الدروس التي ظهرت ما يلي:
الدرس الأول:
التعرف على سنة الله عز وجل في التغيير، وهي التفسير الإسلامى للأحداث.
إن ما حصل من أحداث في دولة الكويت وما ترتب على هذا الحدث من أمور
ومستجدات قد فتح أعيناً عمياً وأذاناً صماً على حقيقة مهمة، وسنة ثابتة لا تتغير ألا
وهي: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد11] .
وأصبحنا والحمد لله نجد هذه الحقيقة على ألسن كثير من الناس الذين منّ الله
عليهم باليقظة بعد الغفلة، رجالاً ونساءً وعوام ومثقفين. وهذا بحد ذاته نعمة ومنحة
ورحمة من الله عز وجل لم تكن لتحصل لولا قدر الله عز وجل لهذا الحدث.
لقد كنا نعترف ونؤمن بهذه الحقيقة قبل ذلك ولكنه إيمان ضعيف أما الآن فقد
تحول هذا الإيمان إلى صورة واقعية عملية، صار الخبر فيها عياناً، ولا شك أن
الإيمان بهذه السنة الثابتة وأثرها على النفوس سيكون أبلغ وأقوى من الإيمان بها
قبل وقوعها، وكما هو معروف أن الطرق على الحديد وهو ساخن أقوى بكثير في
تليينه وتأثره من الطرق عليه وهو بارد.
كما أن رحمة الله عز وجل وحكمته البالغة قد تجلت في هذا الحادث بأنه لم
يترك الناس ينحدرون وبعجلة سريعة إلى الفساد وهم غافلون عما ينتظرهم من الهوة
السحيقة التي هم قادمون عليها لو استمر انحدارهم ولم يأت ما يوقفهم ويحد من
انحدارهم، ولذا فإن من رحمة الله عز وجل أنه يوقف الناس عن فسادهم بالوسائل
الشرعية للإصلاح، فيقدر عليهم أحداثاً مؤلمة تشدهم عن المزيد من الانحدار،
وتقف أمام تهالكهم على الفساد لعلهم يرجعون ويتوبون ويستيقظون من غفلتهم، قال
تعالى: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الروم: 14] ، وهذه والله هي عين النعمة والرحمة وإن
كان ظاهرها التشريد والقتل وفقد الأموال، فإن كل هذه المصائب تهون وتصغر
عند فقد الدين وما يترتب عن ذلك من مفاسد كبيرة فيما لو استمرت عجلة الفساد في
انحدارها الشديد ولم يأت للناس ما يوقفهم ويهز رؤوسهم ليستيقظوا ويتداركوا انفسهم
من السقوط في هوة سحيقة هم يتجهون إليها، لو لم يوقفهم الله عز وجل بما يقدره
من أحداث. وإن هذا الدرس العظيم لا يدركه ولا يستفيد منه إلا المؤمن الذي يجعل
من مثل هذه الأحداث باباً إلى التوبة ومحاسبة النفس والرجوع إلى الله عز وجل،
وتغيير الأحوال. أما المنافق والمادي والعلماني وغيرهم من أهل الإلحاد والزندقة،
فلا تراهم إلا ساخرين ومستهزئين من هذه المعاني العظيمة، والأصول الإيمانية
الثابتة، ولا تزيدهم هذه الأمور إلا كبراً ما هم ببالغيه، ولن يزيدهم هذا إلا رجساً
إلى رجسهم كما قال تعالى: [وإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إيمَاناً فَأَمَّا الَذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ يَذَّكَّرُونَ] [التوبة 124 -
126] ، وقال تعالى: [فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام 43] .
الدرس الثاني: تمييز الخبيث من الطيب:
يقول الله تعالى: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] [آل عمران 179] ، إن من
رحمة الله تعالى وحكمته البالغة أن يقدر أحداثاً مؤلمة تتميز من خلالها الصفوف،
وتتعرى فيها النفوس، فتظهر على حقيقتها للناس، وهذا هو الذي ظهر من خلال
هذه الأحداث، حيث ظهرت حقائق مهمة ساهمت في توعية الناس والدعاة منهم
بصفة خاصة، وذلك بحقيقة أعدائهم، وتهافت راياتهم، وانكشاف مخططاتهم،
وادعاءاتهم الكاذبة التي كانوا يخدعون بها الناس، وتعرت بذلك دول وأفكار
ودعوات، بل إن الإنسان نفسه قد تعرى أمام نفسه، وكشف من خلال هذه الأحداث
حقائق من حوله ومن نفسه ما كانت لتعرف لو لم يقدر الله عز وجل مثل هذه
الأحداث، وإن هذه الثمرة الكبيرة من توعية المسلمين بحقيقة أعدائهم وبحقيقة
الأفكار والنحل التي تتلاطم من حولهم ما كانوا ليعرفوا عنها شيئاً، وبهذا الكم الهائل
من المعلومات لولا تقدير الله سبحانه وتعالى لهذا الحدث.
وقد حقق الله عز وجل هذه الثمرة في أسابيع عدة ما كانت الدعوة الإسلامية
لتحصل عليها في عدة سنوات، والأيام حبلى بدروس وعبر جديدة، أليس هذا من
رحمة الله وفضله؟ بلى والله، ولا يعني هذا أننا نتمنى المصائب والفتن، معاذ الله، فإن المسلم لا يدري ما تكون حاله حينئذ وقد نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم -
عن ذلك بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا» متفق عليه.
ولكن أردت الإشارة هنا إلى ربط الأحداث بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة،
وأن شيئاً في هذا الكون لا يكون إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة، ويريد الله
عز وجل منه الخير للمسلمين في الحال أو المآل.
الدرس الثالث: أهمية التوحيد والتربية عليه:
لقد ظهر من خلال هذه الأحداث الأهمية البالغة لتربية النفوس على عقيدة
التوحيد الخالص، ولقد بدا من خلال الأحداث أن هناك ضعفاً شديداً في هذا الجانب
المهم في حياة المسلم، كما ظهر من خلال الأحداث أن هذا الأصل المهم من أصول
الإيمان لم يأخذ حقه من التربية العلمية والعملية، ولعل من أهم دروس هذا الحدث
أن يشعر المسلمون وأرباب التوجيه بضعف هذا الجانب، وما كان ليعرف هذا
الخلل لولا تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه الأحداث.
ومن مظاهر هذا الضعف ما حصل من الارتباك الشديد في بعض المفاهيم
العقدية، والتي تعتبر من الثوابت والأصول التي لا تتزعزع ولا تهتز ولا تتغير
مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة، ومن أهم هذه الأصول التي اعتراها
الاهتزاز: مفهوم الولاء والبراء، الولاء لله عز وجل ولرسوله -صلى الله عليه
وسلم- وللمؤمنين، والبراءة والعداوة للكافرين والمشركين والمنافقين بشتى مللهم
وأفكارهم. أما أن يصبح العدو صديقاً والصديق عدواً، وأما أن تبذل المحبة للكافر
والعداوة للمسلم، ويكون الميزان في الحب والعداوة موازين الأرض وموازين
المصالح الشخصية، فهذا كله مما ترفضه عقيدة التوحيد الثابتة، والتي تقوم الموالاة
والمعاداة على أساسها، وهذا هو أصل لا إله إلا الله الكلمة الطيبة التي وصفها الله
عز وجل بقوله: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا] [إبراهيم24-25] .
وهي الكلمة التي من أجلها أرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وجاهد من أجلها أنبياء
الله عز وجل ودعاته الصادقين، كما قال تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ] [الممتحنة 4] ،
أما ما سواها من المصالح الشخصية والموازين الأرضية عدم الثبات والروغان،
فالذي يحب وبعادي من أجل المصالح الدنيوية يدور مع هذه المصالح حيث دارت،
فقد يعادي في الصباح من أحبه في المساء وقد يوالي في المساء من عاداه في
الصباح، وصدق الله العظيم: [ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ
الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] [إبراهيم 26-27] ، اللهم
ثبتنا بقولك الثابت ولا تضلنا مع الظالمين.
ومما يؤيد الاهتمام الشديد بالتربية على التوحيد، ما ظهر من النقص
والضعف في توحيد التوكل والاستعانة والاستغاثة وغيرها، مما نتج عن هذا
الضعف من الركون إلى غير الله عز وجل من أعداء هذا الدين والثقة بما عندهم
أكثر من الثقة فيما عند الله عز وجل.
ولأجل كل ما سبق ظهر أن الحاجة ماسة جداً إلى مزيد من التربية على
العقيدة علماً وعملاً، بأن نتعلم أركان التوحيد وما يضاده من الشرك القديم والجديد،
وأن لا يستخفنا الذين لا يوقنون من أرباب السياسة والمصالح الأرضية فيستهوننا
معهم ويُركبوننا في ركابهم، بل يجب علينا الحذر الشديد منهم ومن مكرهم، وأن
نقبل على ديننا نتعلمه ونعمل به وندعو إلى الله ونصبر على الأذى فيه، وأن لا
نستطيل الطريق أو الوقت الذي نمضيه في تعلم التوحيد بكل متعلقاته كما يجب
علينا أن نعي واقعنا، وأن نربط ما تعلمناه من دين الإسلام بقضايا عصرنا
ومستجداته من الأفكار والنحل التي لم تكن موجودة عند أسلافنا، وأن يكون للتربية
الشاملة على التوحيد دورها في مواجهة الشرك المعاصر والتي تشن فيه العلمانية
معارك طاحنة ضد المسلمين بوسائل شتى أي أننا نربد منهجاً دعوياً يقوم على
(سلفية المنهج وعصرية المواجهة) ، ونقصد بالسلفية: العودة بأصول الفهم
والاستدلال إلى الكتاب والسنة وقواعد الفهم المعتبرة لدى أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان، وذلك لنتمكن من خلال هذا المنهج من
المواجهة السلفية المعاصرة لمشكلات عصرنا المتجددة، حيث لا نقصد بالسلفية:
الوقوف فحسب عند القضايا العقدية التي واجه بها سلفنا الصالح انحرافات عصرهم، وكانت فريضة الوقت يومئذ، ثم نتخلى عن المعارك الطاحنة التي تديرها
الجاهلية في المجتمعات المعاصرة حيث ضاعت إسلامية الراية وإسلامية النظم.
إن السلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بض المواقع تحرير العقائد
من شرك الأموات والتمائم، وتضرب صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم
والتي لا تقل خطراً عن شرك الأصنام، وكلا الشركين خطير، كما لا تقبل السلفية
الحقة أن تحارب التشبيه والتعطيل في صفات الله عز وجل وتقف عند ذلك ولا
تعلن الحرب على تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية وفصل الدين عن
الدولة. وإننا بهذا المنهج الشامل والسلفية المعاصرة نسلم وتسلم عقيدتنا الثابتة من أي خلط أو اهتزاز كما هو الحاصل في هذه الأيام ولكنها الفتن نعوذ بالله منها ما ظهر وما بطن.
وما أحسن ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم (واقعنا المعاصر) حول
أهمية التربية والرد على من يستطيل طريقها ويريد قطف الثمرة قبل استكمالها
فيقول ص486: (أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل) ؟ فلا
نستطيع أن نعطيهم موعداً محدداً فنقول لهم: عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة
من الآن! فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، إنما نستطيع أن نقول لهم
نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول..) ثم يستمر وفقه الله
حول هذا الموضوع إلى أن يقول: (.. ونكتفي بثلاثة أبعاد ننتقيها من بين أبعاد
كثيرة ومجالات عديدة لأنها ذات أهمية خاصة وذلك بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة:
يقول سبحانه وتعالى [إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] ، ولو أنك سألت
أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله ولكن انظر إلى
هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق يقول: فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه
الكلمة؟ دلالتها أن تلك البديهة التي نطق بها لم تكن «يقينا» قلبيا إنما كانت بديهة
ذهنية فحسب وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة، لأنها ليست عميقة الجذور. فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه
إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله هو المحي والمميت،
وأن الله هو الضار والنافع، وأن الله هو الذي المعطي والمانع وأن الله هو المسير،
وأن الله هو الذي بيده كل شيء.. ترى كم جلسة، كم درسا، كم موعظة، كم
توجيها يحتاج إليها الإنسان ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين إن الله هو الذي يدبر
وأن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله،
وانها حين تضره فهي بشيء قد كتبه الله له، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه
وضرائه سواء ويعلم - يقينا - أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا
نفعاً) .
الدرس الرابع: صحة الفهم وحسن القصد ودورهما في درء الفتن:
في أيام الفتن تضطرب الأفهام وتحتار العقول أمام الشبهات كما أن القلوب
تضعف أمام الشهوات ولا يعصم منها إلا من عصمه الله تعالى بعلم صحيح وفهم
دقيق يدرأ بهما الشبهات، وبدين وتقوى وصبر يدرا بها الشهوات ولا يسلم من
الفتن ورياحها إلا من تحلى بهاتين الصفتين: الفهم الصحيح، والقصد الصحيح
ومن فقد أحداً من هاتين الصفتين فقد عرض نفسه للفتن ولقد اتضح مظاهر فقد
هذين الأمرين أو أحدهما في هذه الأيام أيام الأحداث والفتن فسقط في هذه الفتن من
سقط وهلك فيها من هلك ولا يتعدى أسباب السقوط هذين الأمرين الآنفي الذكر
فبضعف اليقين والبصيرة تسيطر الشبهات وبضعف التقوى وفساد المقصد تسيطر
الشهوات. وصحة اليقين والفهم يتمان بأمرين اثنين: بالعلم بدين الله عز وجل
وأحكامه وشرعه، وبالعلم بالواقع والفقه فيه وأبعاده، فمن فرط فى أي من هذين
العلمين والفهمين فسد فهمه وعرض نفسه للشبهات وأخذ الباطل يحسبه حقاً. أما من
تحلى بالفهم بأحكام الله والفهم بالواقع ثم وقع الأول على الثاني فقد تمت له البصيرة
ووصل إلى الحق. ولكن معرفة الحق لا تكفي في النجاة من الفتن حتى ينضم إليها
التقوى والصبر وحسن القصد فينقاد إلى الحق الذي ظهر ويذعن له، وإلا لو كان
الصبر ضعيفاً أو القصد فاسداً فإن المسلم يتعرض للفتن من باب الشهوات فلا يصبر
على الحق والثبات عليه أمام المغريات والشهوات.
ولقد ساق الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذه المعاني بأوضح عبارة
وأدقها وأبلغها حيث قال -رحمه الله- في كتابه القيم (أعلام الموقعين) في معرض
شرحه لخطاب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-
في القضاء فقال في شرحه لقول عمر: (فافهم إذا أدلى إليك) :
«صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل
ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه
عليهما، وبهما يأمن، العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق
الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم
وقصودهم. وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم
في كل صلاة.
وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به الصحيح والفاسد، والحق
والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد وتحري الحق
وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلب
محمدة الخلق وترك التقوى.
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات
والعلامات، حتى يحيط به علماً.
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في
كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما
على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً؛
فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.
وبعد هذا الكلام المفيد من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وبعد
النظر الدقيق للمواقف المضطربة إزاء الأحداث والفتن هذه الأيام، وبعد خوض من
خاض وهلاك من هلك فيها إما بقلبه أو لسانه أو يده، يتبين لنا أن هناك خللاً في
منهاج الدعوة عند بعض الدعاة، ونقصاً في التربية، لعل من دروس هذه الأحداث
اكتشافنا لهذا الخلل حتى نتفاداه، ويمكن مما سبق تلخيص هذا الخلل في النقاط
التالية:
1 - عدم التربية على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله
المنضبطة.
2- عدم التربية على طلب العلم والفقه بالواقع والوعي الصحيح بسبيل
المؤمنين فيه وبسبيل المجرمين.
3- هناك خلل في القلوب وفساد في القصود لابد من تداركه والاهتمام بتزكية
القلوب وتربيتها على الإخلاص لله عز وجل وإنشاء همّ الآخرة والزهد في الدنيا
وعدم طلب محمدة الناس والتربية على الصبر والثبات أمام الشهوات والمغريات.
وعندما يتم التغلب على هذه الأنواع من الخلل ويربى الناس عليها وعلى
طلبها، فإنه بإذن الله تتم العصمة من الفتن وأخطارها، فبالعلم بدين الله والعلم
بالواقع نتقي الشبهات ونحسن القصد والإخلاص لله عز وجل، والصبر أمام
المغريات نتقي الشهوات والله أعلم وبعد:
فإن الدروس والحكم كثيرة وكثيرة، وليس مقصود البحث هذا هو التفصيل
فيها، ولكن ذكرت بعض هذه العبر والحكم والمصالح من هذا الحادث المحيط بنا
هذه الأيام؛ لنتذكر من خلاله أن لأسماء الله عز وجل وصفاته لوازم ومقتضيات لا
يتم الإيمان إلا بها، ومن هذه الأسماء الكريمة اسم الله (الحكيم) ، والذي هو
موضوع بحثنا في تفصيل لوازم هذا الاسم الجليل والتعرف على العبوديات التي
يضمنها، والآثار التي يتركها في القلب والجوارح، وما يلزم عليه من لوازم
ومقتضيات، ومنها ما تم استعراضه من الدروس الماضية لحدث واحد مما يقضيه
الله عز وجل ويقدره من بين أحداث وأحداث كثيرة تصغر في حجمها وتكبر ولكنها
كلها لا تخرج عن علم الله عز وجل وتقديره، ولا تخرج عن حكمته البالغة وتيسيره.(37/55)
المسلمون في أراكان (بورما) ومسيرة المعاناة
أحمد موفق زيدان
ما تزال مسألة الأقليات المسلمة غائبة عن أذهان كثير من المسلمين في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، بل حتى لو سألت الواحد منهم عن «أراكان» أو «تراقيا» أو غيرها لصعب عليه تحديد موقعها وشيئاً بسيطاً من تاريخها، ومسلمو الأراكان تعرضوا لهجمات شديدة من الاضطهاد والقتل والتعذيب والاستلاب على أيدي البوذيين البورميين في محاولة لاستيعابهم ضمن المجتمع البورمي في البداية، وعندما عجزوا عن هذه السياسة شرعوا في سياسة جديدة وهي التخلص من المسلمين إمَّا بالقتل، والإبادة، أو بطرد البعض إن عجزوا عن إبادته، وما مجازر 1922و 1942 و 1978 ببعيدة عن أذهان المسلمين المهتمين بشؤون
أراكان، وقد التقت (البيان) أخيراً ببعض أركان وأعمدة منظمة تضامن الروهنجيا
أراكان أثناء زيارة لهم لأرض الجهاد في أفغانستان، وحاورتهم وحصلت منهم على
منشوراتهم وبياناتهم ومجلاتهم في محاولة لعرض مسيرة المعاناة التي يعانيها هذا
الشعب، وهنا حصيلة التقرير:
1- خلفية تاريخية:
تقع (أراكان) جنوب غرب بورما على الحدود مع بنغلاديش، وتبلغ مساحتها
20 ألف ميل مربع، ويحدها غربا خليج البنغال الذي كان يسمى تاريخياً (بحيرة
العرب) ، ثم غير اسمه، ويحدها شمالاً بنغلاديش، وذلك على طول 171 ميل،
ومن الشرق جبال الأراكان التي تعتبر حداً فاصلاً بين أراكان وبورما الدولة الغازية، ويصل عدد سكان أراكان إلى 4 ملايين نسمة منهم 70% مسلمون. ويطلق على
سكان أراكان (الروهنجيا) وهي مأخوذة من (روهانج) وهو الاسم القديم لأراكان،
وتعرف الآراكيون على الإسلام في القرن الأول من هجرة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وذلك مع مجيء التجار العرب المسلمين إلى هذه البلاد، وكان لهؤلاء
التجار الفضل الأكبر بعد الله عز وجل في نشر الإسلام، بل وتذكر الروايات أن
التجار العرب كانوا يمرون بأراكان حتى قبل الإسلام؛ لأنها طريق تجارتهم،
وبدأت علاقات العرب مع بعض السكان المحليين منذ تلك الفترة، وفي القرن
الرابع عشر وحتى التاسع عشر بدأت قوميات أخرى غير العرب بالوفود إلى
أراكان، مثل الباتان والبنغال والفرس والمغول والمغارية، وبهذا الاختلاط اعتنق
الآراكيون الإسلام حتى غدا الإسلام دين الأغلبية في القرن الخامس عشر الميلادي.
وفي عام 1406م لجأ (نراميخله) ملك أراكان آنذاك إلى ملك البنغال المسلم،
وتسمى الآن (بنغلاديش) ويدعى (الياس شاهي) بسبب إغارة ملك بورما البوذي
على أراضي أراكان واحتلالها، واعتنق (نراميخله) الإسلام بعد 24 عاماً من مكوثه
عند الملك البنغالي، واستطاع (نراميخله) مع ملك البنغال في 1420م الانقضاض
على أراكان وطرد الملك البوذي منها وتأسيس مملكة إسلامية هناك بقيادته، وتعاقب
عليها حوالي 48 ملكاً مسلماً مدة 250 عاماً إلى أن غزاها البوذيون الزاحفون من
بورما مرة أخرى عام 1784م واحتلوا أراضيها.
ويقول الأستاذ محمد زكريا ويشغل منصب القائد العام لمجاهدي الحركة
الإسلامية في أراكان، وكان محاضراً في جامعة بورما: في أوائل 1420م دخل
15 ألف مسلم مجاهد من منطقة غزني في أفغانستان لبلادنا وأسسوا هناك مملكة
إسلامية، ويضيف الأستاذ زكريا في حديثه بأن المملكة الجديدة فرضت اللغة
الفارسية واستمر نفوذ هؤلاء الأفغان حتى عام 1784.
وفي عام 1784م قام البورميون بغزو أراكان واحتلال أراضيها، وبعد 42
عاماً من هذا الاحتلال أقدمت القوات البريطانية على احتلال بورما وأراكان، وذلك
عام 1824 م، واستطاع المستعمر البريطاني إحكام قبضته بضم أراكان لبورما،
وعشية الاستقلال وعندما حاولت الحكومة البورمية الجديدة تعيين الوزراء ضمت
وزيرين من المسلمين إليها وقامت بتعيين (12) عضواً مسلماً في البرلمان، فظن
المسلمون أن هذا يعني فتح صفحة جديدة بعيدة عن الاضطهاد والإبادة، ولكن
سرعان ما تلاشى الأمل؛ لتجاهل الرئيس البوذي لحقوق المسلمين، حيث أعلنوا
أن اسم بورما مشتق من (بوذا) ، وبالتالي فهي للبوذيين فقط، وعلى المسلمين إن
أرادوا البقاء معهم أن يغيروا حروف القرآن الكريم إلى الحروف البورمية وأن
يتبادل المسلمون والبوذيون الزواج، وأن يقوم المسلمون بالتسمي بأسماء بوذية،
وترفع النساء حجابها الشرعي، وبشكل مختصر فقد أرادوا تذويب شخصية المسلم
هناك.
حملات الإبادة والاضطهاد:
يقول الأستاذ محمد زكريا: (عندما عجزت الحكومة البورمية عن استيعاب
المسلمين في مجتمعها البوذي، وفشلت في سياسة التذويب والامتصاص، شرعت
في سياسة الإبادة والاضطهاد، ففي عام 1942 وقبل الاستقلال قتل من المسلمين
100 ألف شخص، وفر عشرات الآلاف إلى الدول المجاورة، مثل بنغلاديش،
ويتابع حديثه فيقول: مازلت أذكر عندما كنت صغيراً في الخمسينات، عندما أقدم
الجنود البوذيون على قطع رؤوس المسلمين وبدءوا يلعبون بها ككرة القدم
ويتقاذفونها، أما القتل والسلب والنهب فهو الغذاء اليومي للجنود البوذيين في مناطق
المسلمين، وأخذهم بالقوة للشباب والكبار من أجل استخدامهم في الأعمال الشاقة،
كبناء الطرق والجسور ونحوها دون دفع أي مقابل لهم، حتى ولا الطعام، وإذا لم
يجدوا الشباب في المنازل يأخذون النساء.
وبعد وصول الحكومة العسكرية للسلطة في بورما عام 1962م اشتد الفتك
بالمسلمين، ويتحدث عن هذه الفترة الأستاذ سيف الإسلام وهو يشغل نائب رئيس
الحركة في حديثه لـ (البيان) يقول: في عام 1978 أجبر 300 ألف مسلم على
الهجرة من أراكان إلى بنغلاديش وبعد سنة واحدة من حكومتهم هناك طردتهم
بنغلاديش بعد توقيعها الاتفاقية مع بورما الحكومة وأعادتهم لأراكان، وطلبت
الحكومة البورمية آنذاك مساعدة غذائية ونحوها لإعادة توطين المهاجرين دون أن
تعطي للمسلمين إلا النزر اليسير.
وفي عام 1982 قامت الحكومة البورمية بتعديل دستور البلاد بحيث يقضي
بسحب الجنسية من المسلمين الأراكانيين.
وسلكت الحكومة العسكرية الجديدة سياسة التأميم، وقام الجنرال (ينون) الجديد
الذي عزل رئيس الوزراء السابق (أونو) باتباع هذه السياسة، (وبعد مدة قليلة من
استيلائه على السلطة نفذ مخططاً واسعاً في تأميم ومصادرة العقارات والممتلكات
بصورة (الاشتراكية البورمية) وتحت هذا الشعار أمم 90 % من ممتلكات وعقارات
المسلمين، أما البوذيون فلم يتأثروا سوى بـ 10 % من أراضيهم، كما قامت
الحكومة الجديدة بمنع المسلمين من أداء الحج، وذلك في الفترة الواقعة بين
1962- 1968، وإذا سمحت بذلك في مجال محدود فهو لعملاء الحكومة، وليس
هناك عضو واحد من المسلمين في البرلمان البورمي ولا المجلس التشريعي.
ميلاد منظمة تضامن الروهنجيا:
يقول محمد زكريا: (رداً على هذه السياسات التعسفية والظالمة بحق شعبنا
قمنا في عام 1982 بتأسيس هذه المنظمة وذلك لمواجهة سياسات الحكومة البورمية
الرعناء تجاه المسلمين، وذلك لقيام حكومة إسلامية في أراكان منفصلة تماماً عن
بورما، وما زلنا نعد العدة حتى الآن لهذا تربوياً وعسكرياً) .
ويقول أحد منشورات الحركة: (نظراً لهذه الأوضاع الخطيرة التي يتعرض
لها المسلمون في أراكان استشعر جماعة صالحون مهمة واجبهم، ومسؤولياتهم نحو
دينهم، وعقيدتهم وأمتهم ووطنهم، فقاموا للجهاد في سبيل الله للدفاع عن أنفسهم
وأعراضهم، وللحفاظ على دينهم وعقيدتهم وهويتهم الإسلامية) .
ويحدثنا الأستاذ زكريا عن بداية التفكير والإرهاصة الأولى لتأسيس الحركة،
وهو الذي كان أحد عناصر الحركة الوطنية الأراكانية، والتي تتعارض توجهاتها
مع الحركة الإسلامية (روهجيا) يقول: (لم نكن في البداية على اطلاع
بالأيديولوجية الإسلامية، وبعد حضورنا المؤتمرات مع بعض الجماعات الإسلامية
في كوالالمبور ودكا وغيرها اطلعنا على ذلك واستفدنا كثيراً، وبدأنا بالاتصال مع
بعض الإخوة، حيث كنت أعرف الأخ عمر رئيس الحركة حالياً من الجامعة،
وكان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس المستشفى العام، وبعد التدارس توصلنا إلى
ضرورة قيام حركة إسلامية بعيدة عن الحركة الوطنية الأخرى المعارضة للتوجهات
الإسلامية) .
وحول نشاط الحركة يقون محمد زكريا وسيف الإسلام: (حتى الآن نركز
على التدريب العقدي لشبابنا والتدريب العسكري أيضاً ونحتفظ بـ 200-500
مجاهد في مخيماتنا التدريبية، ونرسل الباقين للداخل، وقمنا حتى الآن بتدريب
2000 مجاهد واكتسبنا أشخاص من كافة شرائح الشعب الأراكاني من علماء وطلبة
وموظفين وأساتذة جامعات، وبشأن تمويلنا فنعتمد على تبرعات إخواننا في الداخل
وتبرعات إخواننا المسلمين.
وعن سبب سماح الحكومة البنغلاديشية للحركة أن تزاول بعض نشاطها هناك
قال: (هناك حقيقة جغرافية وهي الحدود الطويلة بين أراكان وبنغلاديش، وليس
هناك أي حدود بين الأخيرة وبورما، ولهذا لا تريد بنغلاديش أن تستعدي شعباً
بكامله ضدها، وهذا ليس في صالحها مستقبلاً، والأمر الثاني هو وجود حركة
(شنتي بهيلي) الانفصالية البنغالية، وتتخذ من الهند مقراً لها، وإذا أرادت شن
هجمات على بنغلاديش، فلا بد أن تمر بأراضينا وعلاقتنا الجيدة مع بنغلاديش
ستعرقل من نشاطات هذه الحركة، ولعل مشاطرتنا لهم عقيدة واحدة سبب في ذلك) .
وبخصوص البدء بالعمل العسكري يقول سيف الإسلام نائب رئيس الحركة:
(حتى الآن نقوم بإعداد أنفسنا وسنقوم بالنشاط العسكري قريباً حالما يتحسن وضعنا
وتجهيزاتنا) .(37/66)
قراءة أولية
في حرب الخليج
هناك نظرية في التاريخ تقول: «إن وقوع الأحداث الكبيرة أمر محتم عندما
تتفاعل الظروف الموضوعية والأسباب المؤثرة» . ولكنها نظرية مرجوحة؛ لأن
الإنسان أولاً وأخيراً هو المسؤول عن أعماله في الخير والشر، فلو لم يتصرف
فلان كذا، أو يفعل فلان كذا لما وقع كثير من الحروب.
والكوارث العظام التي تصيب البشرية إنما هي نتيجة الظلم والفساد في
الأرض قال تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] [الأنعام 65] .
إن قراءة أولية في هذه الحرب تؤكد لنا:
أولاً: عند نزول الكوارث العظام لابد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي
يقول لنا: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] ، وإذا رجعنا إلى التاريخ الحديث سيتبين لنا
كيف هو من عند أنفسنا.
لقد وقعت الكارثة الأولى للمسلمين في هذه المنطقة عندما استطاع أعداء
الإسلام هدم الخلافة الإسلامية عام 1923، وقد ساعد فريق من العرب الإنكليز في
الحرب العالمية الأولى، ساعدوهم على ضرب الأتراك طمعاً في دولة عربية،
فكانت العقوبة أن عاش العرب تحت حكم الإنكليز والفرنسيين عشرات السنين.
وجاءت الكارثة الثانية عام 1948 بإنشاء دولة (إسرائيل) على أرض
فلسطين، فقامت على إثر ذلك انقلابات وثلت عروش، ولكن الناس اتجهوا إلى ... القومية والوطنية والاشتراكية، وما زالوا في هذا التخبط إلى أن جاءت الكارثة الثالثة عام 1967 حين احتلت إسرائيل سيناء والضفة الغربية والجولان، في الساعات الأولى من الحرب. وكانت صدمة عنيفة للناس، اتجه كثير من بعدها إلى الدين، وامتلأت المساجد وخاصة من الشباب المسلم، وأصبحت ظاهرة واضحة في كل أنحاء العالم الإسلامي، وأعجبت المسلمين كثرتهم، فتعجلوا قطف الثمرة، وأصيبت الدعوة الإسلامية بنكسات هنا وهناك، فهل جاءت هذه الحرب لتهز العالم العربي والإسلامي هزة أقوى من سابقاتها، ليعود مثخناً بالجراح متأملاً: ما هي الأسباب، وما هو السبيل وكيف، نتعامل في السياسة، وكيف يفكر الغرب، ولماذا وصل إلى ما وصل إليه؟
ثانياً: من أخطر ما ابتلي به المسلمون طوال حقب طويلة من تاريخهم،
وخاصة في هذا العصر هو داء الاستبداد والدكتاتورية، وما يعقب هذا من الذل
والهوان اللذين يمارسان على الشعوب، ففي هذه الأنظمة الفرد هو الذي. يستطيع
أن يورط أمة بكاملها في حرب لا تبقي ولا تذر، وما على كبار القوم والعلماء
والمثقفين إلا السكوت أو التصفيق لهذا القرار أو ذاك.
إنها مصيبة المصائب هذه التي ابتلي بها المسلمون وأهل الشرق عامة، حتى
سرى الداء إلى العلماء والدعاة، بينما نجد أن الشورى أصل أصيل في السياسة
الشرعية الإسلامية، وأعتقد أننا إذا لم نرجع إلى هذا الأصل في كل شؤوننا، فلن
يكون هناك أمل بالنجاح، وقد كتب علماؤنا السابقون حول هذا الموضوع وهم
مدركون لخطورته، وكانوا يعانون مثل ما نعاني نحن الآن، كتب الإمام
الطرطوشي عن الشورى وذكر مثالاً فقال: ألا ترى أن إبراهيم -عليه السلام- أمر
بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها، فيحمله حسن الأدب على الاستشارة فيه فقال: [يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى] ، فإذا كان هذا في أمر
إلهي فكيف في غيره؟ !
ثالثاً: لماذا يخاف قومي من اليهود، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنهم أضعف
مما نتصور، ورغم امتلاكهم للأسلحة المتطورة فإن عنصر الإنسان يبقى له دور
مهم، وهؤلاء يعتمدون على التكنولوجيا، لأنهم لا يملكون الإنسان الجاد، وهذا
يؤكد لنا مرة أخرى أن المشكلة ليست في صعوبة مواجهة الكيان الصهيوني، بل
في النية أصلاً لمواجهته، حتى لاسترجاع الأراضي التي فقدت عام 1967 على
الأقل، وحتى لتأييد الانتفاضة التي تقاتل بالحجارة، فلماذا مؤتمرات السلام
والحرص عليها، ولماذا لا يبحثون هم عن السلام.
رابعاً: أظهرت هذه الحرب خفايا الدول والمجتمعات الغربية، وانكشف ما
كان مستوراً، كان التعصب وكره الإسلام والمسلمين مغطى بقشرة رقيقة من الحرية
والديمقراطية. لقد تعرض المسلمون الذين يعيشون في الغرب في هذه الأيام
للاستهزاء والسخرية، ثم الشتائم والضرب، وقد وقع في الولايات المتحدة أكثر من
مائة اعتداء على المسلمين من شتى الجنسيات، وفي بريطانيا تعرض مسجد في
مدينة (ووكنج) لحرق أبوابه، كما تعرض مسجد في مدينة (باتلي) لاعتداء مماثل،
وفرنسا أشد من بريطانيا في هذا المجال، والكتاب الأكثر مبيعاً الآن في ألمانيا هو
كتاب (سيف الإسلام) وأنه الخطر القادم.
وفي ندوة تلفزيونية في بريطانيا قال أستاذ جامعي قادم من إسرائيل: «أنتم
تتحدثون عن عاصفة الصحراء، وتنسون عاصفة أشد وهي عاصفة الإسلام» .
لقد ظهرت الفجوة العميقة بين ما يعلنه الغرب، وما يريده فعلاً، هذا مع أنه
لم يقع منهم ضحايا كثيرة فكيف لو وقع!
خامساً: سيكون من نتائج هذه الحرب ظهور أصناف من الناس، منهم
المتشائمون الذين سيقولون (ما في فائدة) ، العرب كذا، والمسلمون كذا ... ودعنا
نبحث عن جهة في العالم نعمل ونعيش، ويكون بعضهم متديناً فيقول: نعبد الله
لوحدنا ولا نتدخل في شيء، وهؤلاء رغم إخلاصهم ولكن تصرفهم يدل على
ضعفهم، وعدم قدرتهم على الصبر والاستفادة من النتائج.
ومنهم الذين يضخمون المشكلة ودور الغرب وأننا لا نستطيع الوقوف في
وجههم، وأن العالم كله ضدنا، وهذا الصنف قريب من الأول، وهؤلاء وأولئك
ممن لم يرسخوا بعد.
والصنف الثالث هم الذين تهب عليهم العواصف فلا تبددهم، ويتابعون الجهد
وعملية الإنقاذ، ويعلمون أنه لا ينجي من النوائب إلا الإخلاص والوعي والعمل
الدءوب.
سادساً: أثبتت هذه الحرب أن العرب إذا لم يهتدوا بهدي الإسلام، الذي يغير
من تركيبتهم الداخلية ويصوغهم صياغة جديدة فإنهم سيعيدون حرب (البسوس)
و (داحس والغبراء) التي يفنى فيها المال والأهل والولد.
لقد قامت حرب البسوس بين ربيعة وبكر لأسباب تافهة، من أجل ناقة جرباء
ولم تنته إلا بعد أربعين عاماً.
إن الذين يراهنون على المد القومي يثبتون أنهم أغبياء للمرة الثانية، فليس
هناك إلا (الله أو الدمار) .(37/71)
ركن الأسرة
هكذا أتمنى أن تكون أمي
مؤمنة الشلبي
1- أتمنى أن تكون أمي وكل أم مسلمة من أرهف الإسلام مشاعرها، وفتح
نوافذ البصيرة في نفسها، فأضاء لها معالم الطريق الذي ستسير عليه في تربية
أبنائها، وتوجيههم بعيداً عن الخطر الذي يدسه لهم أعداء هذا الأمة، متبعة في ذلك
شتى الأساليب التربوية النبوية.
2- أتمنى أن تكون أمي على قدر كبير من الوعي والثقافة بما يدور حولها من
مؤامرات ودسائس تحاك لها بدقة وتدبير؛ لصرفها عن مهمتها الأساسية في تربية
أبنائها الذين هم شباب الإسلام وسده المنيع. ولتنهمك هي بتوافه الأمور وصغائر
الأعمال من إغراءات دنيوية مثيرة، وزخارف فانية، وموديلات جذابة كذابة،
وشهوات تؤجج، وزينة هدامة، وتقليد أعمى لأولياء الشيطان وجنود إبليس.
3- أتمنى أن تكون أمي وكل الأمهات المسلمات على يقين أن وظيفة الأم
المسلمة لا تقتصر على العناية بالأطفال من حيث المأكل والمشرب والملبس فقط،
فهذه هبة من الله أعطيت لها، إنما هي المسؤولية الكبرى تجاه الأبناء والتي طوق
الله بها عنقها، وجعلها بمقتضاها مسؤولة عن تربية أولادها تربية إسلامية قائمة
على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات فيشبوا مهيئين لتحمل المسؤوليات، وقادرين
على نشر الإسلام بقلوب مؤمنة ونفوس صافية.
4- أتمنى من أمي أن تغرس العقيدة الإسلامية في نفوس أبنائها، وأن
ترشدهم إلى الحلال والحرام، وتدربهم على العبادات التي تناسب أعمارهم كالصلاة
والصيام والصدقة، كما تحرص على أن تطرب أسماعهم بقصص السيرة،
وقصص أبطال الإسلام وعلمائه؛ لتثير في نفوسهم حب العلم والعمل والبطولة
والجهاد في سبيل الله.
5- أتمنى من أمي أن تنصب من نفسها حكماً بين أبنائها، فلا تظلم ولا تجور، ولا يذهب بها الهوى أن تميل مع بعض أبنائها دون البعض، بل تخصهم جميعاً
بحبها وعدلها، وتعترف بالفروق الفردية والعقلية بينهم، فلا تطالبهم فوق طاقاتهم،
وقدراتهم العقلية والجسمية المختلفة ما بين صغير وكبير وذكر وأنثى.
6- أتمنى من أمي أن تحرص على سلامة الجو العائلي من الخصومات التي
تؤدي إلى اضطراب شخصية الطفل وضعفها، مستخدمة من سيرة رسول الله
وصحبه المنهل الذي تنهل منه في كل موقف لها مع أبنائها.
7- أتمنى من أمي أن تعلم أنها موضع القدوة لأبنائها، فهي معقد نظرهم
ومنار حياتهم، فإن هي أحسنت وقرنت القول بالعقل غرست فيهم السلوك الراشد
والعادات الحسنة، وجعلت منهم شباباً صالحاً يكون موضع أمل الإسلام وعدته.
8- أتمنى من أمي أن تتيح لأبنائها التمتع بطفولتهم من لهو ولعب، وأن
تختار لهم الألعاب المناسبة لعقولهم، ضمن إمكانيات الأسرة، وضمن حدود ما
أباحتة الشريعة الإسلامية.
9- أتمنى من أمي أن تحرص على إيجاد جو من الحرية؛ ليتمكن أبناؤها من
التعبير عن أنفسهم وحاجاتهم دون خوف أو خجل أو تردد.
10- وأخيراً أتمنى من أمي ومن كل أم مسلمة - بعد أن تستفرغ كامل جهدها
لتعذر إلى الله بالأخذ بجميع الوسائل والأسباب المشروعة - أن تستغرق بالدعاء
وبسط أكف الضراعة إلى الله عز وجل؛ تناشده توفيقها وإصلاح ذريتها؛ فإن الله
سبحانه وحده هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(37/76)
البديل ...
عبد الله بن مبارك آل سيف
يشكو كثير من الناس الملتزمين من حاجتهم إلى معرفة البدائل عن منكرات
البيوت، وحاجتهم إلى سد فراغ أهاليهم ومن يعولونهم، ويتذرع كثير من الناس
بهذا الأمر إلى إبقاء هذه المنكرات في البيوت بشبهة عدم وجود ما يملأ فراغهم،
ولأجل هذين الأمرين دعت الحاجة إلى طرح مثل هذا الموضوع على الساحة،
فأذكر هنا ما يحضرني - ولعل هذا يشعل الحماس في قلوب الكتاب المجيدين
فيكتبون فيه - فأقول: من هذه البدائل:
1- العبادة: وهي من الأمور المهمة التي ينبغي تربية الأبناء والبنات
والزوجات والأهل عليها وإشغال وقتهم بها وكل وقت المسلم يمكن أن يكون عبادة
بالنية الصالحة.
فمثلاً من كان لسانه رطباً بذكر الله ألا يمكن أن يحس بالفراغ وضياع الوقت، وكذلك من يحافظ على الصلوات والنوافل والصيام والحج والعمرة والصدقة
وقراءة القرآن والنوافل المطلقة، فمن اشتغل بهذه العبادات سوف يشعر - بلا ريب
- بضيق في وقته، وأنه بحاجة إلى وقت أطول لإدراك كل هذه العبادات ولذا
نلاحظ أن وقت العلماء والعباد الصالحين هو وقت قصير في نظرهم، ويحسون
بقصر الوقت وضيقه ويتضايقون من ذلك، في حين أن أصحاب البطالة والفساد
يحسون بفراغ رهيب، ولذا تراهم يقولون: نقتل الوقت، بأي شيء كان يريدون
ملء فراغهم وقتل الأوقات وإهدار الأعمار الثمينة.
2- الاشتغال بالعلم وتعويد الأهل على مصابرته بالأساليب المناسبة وتحبيب
الأطفال إلى العلم وتحفيزهم بما يناسب، وسيأتي تفصيل هذا.
3- وضع دروس علمية في البيت على مدى الأسبوع، ويختار منها الدروس
المشوقة المحببة، مثل السيرة والتاريخ والتراجم، ومن ثَمَّ تطور إلى دروس أكثر
تنوعاً وعمقاً، ويراعى فيها الجانب التربوي بالربط بين العلم والعمل.
4- الاعتناء بمراعاة حفظ الأهل للأذكار والأدعية ووضع برامج حفظ على
المدى الطويل لحفظ الأذكار والأدعية.
5- وضع دروس لحفظ القرآن على مدى السنة، مع تكرارها في الأسبوع
أكثر من مرة، في برامج حفظ ومراجعة، سهلة، وجادة.
6- وضع مسابقات علمية في قراءة كتاب وإدراك القدرة على استيعابه وفهمه ... ومن ثَمَّ تنمية القدرات، ووضع مسابقات علمية بالأسئلة والأجوبة.
7- التشويق في القراءة والتحبيب فيها بوضع كتاب مشوق في القصص
السهلة الأسلوب، جيدة العرض، والمجلات الجيدة ذات المواد الجذابة.
8- إشغالهم في برامج علمية مفيدة تقربهم من الكتب وقد يطلعون في أثناء
الفهرسة على كتب تشد قلوبهم قراءتها، ومثل فهرسة كتب معينة أو إدخال
معلومات عن الكتب في برامج الكمبيوتر.
9- تكوين مكتبة خاصة في غرفة كل فرد، كل بحسبه وبما يناسبه، هذا
ينمي الاهتمام بالكتب والحفاظ عليها ومن ثَمَّ قراءتها والاستفادة منها.
10- الاستفادة من برامج الكمبيوتر الجاهزة والبرامج المفيدة فيه في التعليم
وتنمية الذكاء والقدرات.
11- النزهات المأمونة في حفظ وصون إلى أماكن مناسبة بعيدة عن التهتك،
وممارسة الألعاب المباحة فيها.
12 - اصطحاب الأطفال إلى مجالس الرجال لتعويدهم على الانطلاق في
الكلام ومعرفة آداب الرجال من كرم ومروءة وشهامة وخلق حسن.
13- إشغال الفتيات الصغيرات بأمور المنزل وتعويدهن على تدبير البيت
وإدارته والتعلم على فنون الخياطة والطبخ والنظام، والنظافة، وتعويدهن على
تحمل مسؤولية البيت وتربية الأطفال.
14- حضور المحاضرات القيمة والدروس العلمية المفيدة.
15- انتظام الأطفال في حلقات القرآن الكريم ومتابعتهم فيها.
16- وضع مكتبة صوتية في المنزل ومتابعة الأشرطة الجديدة واختيار
المناسب منها وتوجيه الأهل إليه.
17- ممارسة الألعاب الرياضية التي تقوي البدن بالنسبة للأطفال والمراهقين
والشباب وغيرهم، مثل ألعاب الكراتيه والجودو وغيرها، وأدوات رياضية تقوي
أجزاء معينة من الجسم.
18 - وضع أوقات مخصصة لزيارة الأرحام والأقارب ووضع برامج مفيدة
في هذه الزيارات.
19- بث هموم الأمة في مجالس الأنس والسمر؛ لتكون هموم الأمة تخالج
مشاعرهم وتسيطر على إحساسهم وبث الوعي بينهم وإرشادهم إلى مصادر الوعي
الموثوقة.
20 - استكتاب الأهل والأولاد وتعويدهم على الكتابة وتقويمهم فيها وتنمية
قدراتهم الكتابية وتحبيبهم فيها بوضع حوافز مناسبة.
21- ربطهم باللغة العربية والأدب العربي، وحفظ دواوين العرب، ووضع
برامج حفظ للقصائد المختارة وتحفيزهم بما يناسب.
22- التركيز على الاعتناء بالدروس المدرسية ومذاكرتها، ومتابعة حل
الواجبات، والمساعدة على شرح الغامض وتذليل الصعب..
وأخيراً وليس أخراً «الحاجة أم الاختراع» ومن جد وجد، ومن صدق أعين، ومن أخلص وفق.(37/78)
تربية
تعويد الأطفال تحمل المسؤولية
خولة درويش
«يرى جميع المربين أن تنمية الشعور بالمسؤولية لدى الطفل ينبغي أن
يكون الهدف الذي تسعى إليه تربيته وتعليمه فيما تقدمه له من خبرات وتتبع معه من
أساليب» [1] .
وذلك أن الإنسان اللاهي العابث لن يفيد أمته ولا نفسه بشيء ذي بال. وقد
غرس الإسلام في نفوس أتباعه منذ فجر الدعوة الإحساس بمشاعر الأخوة
والتزاماتها، ذلك أن الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين لن يتكون إلا نتيجة تحمل
المسؤولية فعلاً، أي عن طريق المشاركة مع الآخرين من أفراد الجماعة في دراسة
ومواجهة المشكلات العامة التي تضمهم وتربط بينهم جميعاً، وهذا نموذج من توجيه
النبوة يرشدنا إلى أسلوب بناء شخصية الناشئ، قال تعالى في قصة إبراهيم -عليه
السلام-: [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ
مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]
[القصص: 26] .
فلم يتعجل -عليه السلام- على ولده ليقضي أمر الله تعالى، وإنما شاوره
لتكون الاستجابة عن رضا نفس.
فاحترام شخصية الطفل وإشعاره بالثقة في نفسه خير معين له على تحمل
المسؤولية والقدرة على حمل التبعات.
-روى مسلم عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- «أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره
أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله لا أوثر
بنصيبي منك أحداً» رواه مسلم.
وهكذا يعتاد الطفل الجرأة الأدبية، وينشأ بعيداً عن الانهزامية، وفيه قوة رأي
وحجة.
هذا ولتحميل الأطفال المسؤولية حدود لا يجوز للمربي أن يتعداها. فلا يصح
تكليف الأطفال فوق طاقتهم، وكذا الاستعانة بهم استغلالاً لهم في أمور تجري فيها
الإجارة، وقد جاء في المدونة: وكل من استعان غلاماً ما لم يبلغ الحلم فيما ينبغي
في مثله الإجارة، فهو لما أصابه ضامن [2] . كما وأنه لا يصح بحال أن نئد
شخصياتهم، ونهدم فيهم روح الابتكار والتجديد بالتسلط، وحد باب الحرية أمامهم.
«إن التحكم الفارغ من الأبوين لمجرد الإلزام بالطاعة وتعويد الطفل عليها،
فذلك حري بأن ينتهي بالطفل إلى التمرد إن كان شديد المراس، أو الاستكانة
والانطواء إن كان لين القوام، وكلاهما فاسد» [3] .
ويبقى التوازن بين الضبط والحرية اللامسؤولة هو الأسلوب الحكيم، وخير
الأمور أوسطها.
نعود الطفل الاعتماد على نفسه في الأكل والشرب، بل واختيار ملابسه فتنمو
شخصيته، يشارك في ترتيب السرير والمائدة والكتب ... ونحوها، فينبذ الكسل
والتوكل والخمول ويتجه إلى العمل المنتج.
يتعامل مع مصروفه الشخصي بحرية موجهة.. ماذا يشتري وماذا يترك؟
وفي العمل تشاوره المربية: إنك سترتب ألعابك وتمسح غبار الغرفة، فأيهما ترغب
تقديمه الآن، وأيهما يؤخر إلى ما بعد ساعة من الآن؟
لعل ذلك يساعد في قدرته على تحمل المسؤولية، والإحساس برغبات
الآخرين، وتقدير قيمة ما سيعمله لأنه سيجني نتائجه. فعندما يخطئ ندربه كيف
يتعلم من أخطائه ونعالج الخطأ بحكمة، فيصلح الطفل ما أفسد، ويزيل آثار فعلته،
فإن وسخ ينظف، وإن تكلم بكلمة خاطئة يعتذر.. أو يحرم من لعبة ما.. وفي كل
حال لا بد من الحكمة والعبر في التعامل مع الأطفال، والنظر إلى الأسباب الكامنة
وراء أعمالهم من وجهة نظرهم هم، لا كما يراها الكبار، ومن ثَمَّ معالجتها
بتحميلهم تبعات أعمالهم. وبالمقابل تشجيع من يبدي استعداداً لتحمل المسؤولية،
نشعرهم بلهجة الحب والحنان بواجبهم وإمكانياتهم، وأنهم سيصبحون من أبطال
الإسلام، فقد كانوا أطفالاً مثله، وبذلك نبعث الثقة في نفوسهم ويتوثبون نحو العمل
الخير المفيد. فإذا بالبنت تعين أمها والولد يساعد أباه حسب إمكانيات الأطفال وكل
يبذل جهده راضياً ليعمل بعيداً عن اللهو والعبث.
__________
(1) مشكلات الأطفال اليومية ص 41 دوغلاس توم.
(2) المدونة - المجلد الرابع ص 420.
(3) منهج التربية الإسلامية - محمد قطب - ص 126.(37/81)
شعر
بني قومي
مروان كجك
لمن أشكو ضلالكم ... وأنتم مقلة الزمن
وأنتم أنس هذا الدهر ... ذي التنكيل والمحن
ألستم خير من ركبوا ... إلى الجوزاء والقنن
ألستم يا بني قومي ... دعاةَ الطيِّب الحسن
وأيديكم إذا امتشقت ... حسام الحق لم تهن
فمن في الأرض ينصفكم ... إذا حدتم عن السنن
ومن في الأرض يرفعكم ... إذا لذتم بكل دنٍ
ومن يا قوم يرحمكم ... غداة الروع والوهن
ومن يأسو جراحكم ... إذا ثعبت من الفتن
فهذا الناس قد جمعوا ... لكم في السر والعلن
جياعاً قد رأوا فيكم ... شهي الروح والبدن
تداعوا لا إلى خير ... سوى الإيذاء والإحن
صليب الأمس والأفعى ... وذاكم عابد الوثن
فقوموا نحو بارئكم ... وصونوا النفس عن دخن
وهبوا هبة الأبطال ... أهل البأس والفطن
وزحوا عن ضلالتكم ... فأنتم مقلة الزمن(37/84)
إعلام
المرحلة الإعلامية
والشريط الإسلامي
خالد بن صالح السيف
أحسبني لست بحاجة إلى اجترار الكتابة عن الدور الإعلامي وبخاصة بعد أن
استحال إلى حقيقة بدهية تستظهرها العامة فضلاً عن الخاصة.. وإن شئت فارقبها
جلية في تشكل عقلياتهم.. وأبعاد تفكيرهم.. ومنتهى إدراكهم، بل وفي منطق
ألسنتهم..
إذن فليس ثمة حاجة في إعادة كلام استمرأه القارئ من ذي قبل، ولا ضير
حينئذ في تجاوز هذا الجانب اتكاءً على ما سلف.
المفهوم قبل اختلاط الأوراق:
يبدو أن لكثرة تداول لفظة - إعلام - واستفحال انتشارها أحالها إلى مصطلح
لا يكتنفه غموض، وكأنه لا يحتاج إلى تعريف، مع أنها - حقيقة - مازالت غير
واضحة المعالم، ندرك هذا من خلال خلط فج بين مفهوم الدعاية ومفهوم الإعلام،
بل تجاوزه إلى خلط بين هذين المفهومين ومفهوم التعليم، وربما جاء عرضاً مفهوم
الدعوة أيضاً رغم اجتماعها في نقاط تلاق، مع تباين في بعض الوسائل، ومن قبل
في سبل الغايات، وسلامة المقاصد، وخلوص ذات الوسيلة من شوائب التحريم،
وبخاصة في جانب الدعوة إلى الله تعالى، ولا مشاحة في أن الوسائل ليس لها حكم
الغايات من حيث الأمر التوقيفي.
ما سبق لا يعفيني البتة من تجاوز المفهوم، بل أحسبه يضطرني بداهة إلى
إبراز مفهوم الإعلام إضافة إلى وسيلته من جانبي اللغة والاصطلاح: ففي اللغة:
ربما قصر على مجرد التبليغ.. ويقال: «بلغت القوم بلاغا» أي أوصلتهم الشيء
المطلوب، والبلاغ ما بلغك أي وصلك، وقد جاء في الحديث: «بلغوا عني ولو
آية» [1] .
كما يقال أيضاً: «استعلم لي خبر فلان فأعلمنيه حتى أعلمه» [2] .
نخلص من هذا التعريف إلى أن المفهوم اللغوي للإعلام هو: إحاطة الغير
علماً بشيء ليدرك حقيقته.
والوسيلة هي الأخرى: ما يتوصل به إلى الشيء برغبة.
وبإضافة كلمة واحدة على، ما سبق يقترب المعنى اللغوي من المعنى
الاصطلاحي وهو: إحاطة لغير علماً بشيء ليدرك حقيقته بقصد التأثير.
إذن فمحصلة المفهوم إجمالاً هي: تلك الأدوات المستخدمة في نقل المعلومات
والمفاهيم والمشاعر والعواطف وغيرها مما يؤثر في حياة الناس.
ما سلف أرجو أن يكون قدراً كافياً يبين عن هوية المفهوم تلافياً لاختلاط
أوراق المنظرين.
إذن.. فالإعلام من هذا المنطق ليس مرتعاً مستهجناً لترفيه فاحش، وليس
مرآة ينعكس على أثرها الواقع بتجاوزاته المريبة.
إنما هو وسيلة صالحة ذات قدرة فاعلة على التصحيح والتقويم في مسار أمة
وفق منهج راشد يستشرفه الخلص من أبناء الأمة..
تهيئة الطرح الإعلامي:
الوسائل الإعلامية متعددة، وخاصة ما يمكن استخدامه على نطاق واسع
شامل، وأحسبها تتراوح ما بين وسائل اتصال شخصي بمختلف أنواعها، ووسائل اتصال جماهيري، بيد أن ثمة عوامل تقتضي اختيار هذه الوسيلة منها: مدى توافر فاعليتها وتأثيراتها في محيط معين، كما أن ثمة أسساً للاختيار نفسه تدور حول ما تملكه هذه الوسائل من خصائص موضوعية أو وصفية، إضافة إلى مقدار خدمتها الإعلامية، ومدى الانتشار الجغرافي لها مع الإدراك المسبق لطبيعة ... الوسيلة وإمكانياتها الفنية.
كل ذلك تتم الإحاطة به مسبقاً ليتساوق مع مستوى طرح المادة الإعلامية
رغبة في استكناه بعد أثر «المعطيات الإعلامية» في الملتقى.. واستشرافاً من
لدن الإعلاميين - على اختلاف مساربهم - للأثر الفاعل والذي من أجله كان
التسخير الإعلامي.
وتجيء هذه الكتابة - المجتزأة - وقد قصرت على نوع واحد وحسب، وهو
شريط الكاسيت، لذا وسنضرب صفحاً عن الوسائل الإعلامية الأخرى.
ميلاد الكاسيت:
في ذات صباح يوم من أبريل عام 1877م تقدم إلى أكاديمية العلوم الفرنسية
العامل الفيزيائي (تشارلز كروس) ليسجل لديها فكرة محدثة لتسجيل الأصوات
وإعادة سماعها متى شاء مرة ثانية.
ولضعف القدرات المستحدثة حينها لم يتمكن من تطوير جهاز عملي لتنفيذ
فكرته، إلا أن هذه الفكرة لم تخبُ بعد، حيث رأت النور في شهر ديسمبر من العام
نفسه عندما أعلن في الولايات المتحدة الأمريكية كل من (توماس أديسون) ،
ومساعده الميكانيكي (جان كروسي) عن اختراع جهاز عجيب لتسجيل الصوت ومن
ثم إعادة إسماعه، وأطلق عليه اسم (الفونوغراف) ، وبذلك أسهم جهاز التسجيل
الصوتي في إحداث ثورة عارمة في مجال الاتصالات. وتحفل الأسواق اليوم
بالعديد من أنواع التسجيلات الصوتية التي بلغت ذروتها باختراع أشرطة (الكاسيت)
عام 1964 م وهو أصغر الأنظمة التسجيلية حجماً. وإفرازاً لما سلف ذكره مع ما
يمتاز به التسجيل الصوتي من ميزات متعددة تبوأ مكانة تعد من أهم وأبرز وسائل
الاتصال المؤثرة في المجتمعات على اختلاف أنواعها وتباين فئاتها.. ويحسن بنا
ألا نغفل في - سياقنا هذا -جانب الصناعة المتقدمة للتسجيل الصوتي، حيث
أسبغت عليه لبوساً بأن جعلته أكثر وسائل الاتصال الحديثة انتشاراً وتوزيعاً.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر بلدان العالم استهلاكاً للأشرطة بلغت
مبيعات الأشرطة فيها ثلاثة ملايين دولار سنوياً في إحصاءات مضت عليها سنوات
عديدة.
كما أن عدد شركات تسجيل الأشرطة فيها يبلغ أكثر من 1500 شركة ولو
لم تجيء هذه الأرقام في إحصاءات معتمدة لحسبتها ضرباً من المبالغة.
وليس ثمة شك في أن ما تحمله بين أعطافها لا يعدو عن كونه غناءً ماجناً
صاخباً أو فكراً منحلاً منتناً تمارس فيه الدعوة إلى التنصير وإلى الانحلال الأخلاقي
في أرذل صورة! كل ذلك يتم من خلال إدراك طبيعة الوسيلة - الشريط - إمعاناً
في تأكيد أثرها في الجماهير المتلقية قاطبة حيث الإغراء والإثارة. ...
ماذا بعد السنة؟ !
وعقب سنة من النوم غطت فيه أمتنا أفاقت على إثر غزو سافر لم تألفه من
ذي قبل إمعاناً في إباحة الفجور! ! ومحاولة جادة في سلب أثمن ما تملكه الأمة -
إسلامها - ليس غير! !
كل ذلك جاء ويجيء من قبل من لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة! وقد أقضت
مضاجعهم تباشير الصحوة الإسلامية، فلله الحمد من قبل ومن بعد [واللَّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] .
ونجم عن هذه الإفاقة المتأخرة جهود لا تزال في بدايتها، بيد أن هذا لا يبرر
لنا البتة - بقاءنا في المؤخرة.. ونروح من حينها ننحو باللائمة على المادة، وعدم
تناسبها مع طبيعة الوسيلة.. عند ذلك تقصر بنا الهمة عن تجاوز العقبات متذرعين
بحجج واهية لا تنهض لمدَّعٍ عادةً! ولست أدري من لهذه الثغور؟ ! إن زهد بها
المقتدرون ممن يقع على كواهلهم تبعات الواجب.. وليس ثمة نفل يُمَنُّ به.
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده، وليس عليه أن تتم المقاصد.
أمة فأل:
ومع ما سلف فإنا نربأ بأنفسنا أن يغشانا التشاؤم ونحن أمة فأل تربينا على
منهجه السوي وما ارتضينا به بديلاً.
وإنا ننتظر يوماً تتوافر فيه جهود علمائنا وطلاب العلم وذوي التخصص
والاقتدار في هذا المجال للانتقال بوسائل الإعلام عامة - وشريط الكاسيت بخاصة
- من أطواره الأولى إلى أن يؤدي دوره في التربية والبناء.
وأخيراً:
كم هو جدير بك أيها الأخ المسلم وأنت تدلف إلى أعتاب محالّ بيع الأشرطة
الخيرية أن لا تتعامل مع ما تقتنيه بالمقياس المادي؛ فإنك - والحالة هذه - خاسر
لا محالة! !
ولست أدري أين التساؤل - المفترض - من قبلك عن المردود الإيجابي
الخير لما تقتنيه - حيث المادة العقدية والشرعية والسلوكية والمعرفية بعامة، وأربأ
بك أن تنسى أن التعامل مع الله تعالى يقتضي التجرد من المساومة المادية.
__________
(1) رواه البخاري وأحمد والترمذي والدارمي في المقدمة.
(2) اللسان (مادة علم) .(37/85)
مفارقات
القراءة
خالد الموسى
إن المتأمل لحياة وواقع الشعوب الغربية يجد أنها شعوب قارئة متعلمة، بل
ومولعة بالقراءة، تحب الثقافة بمفهومها العام، وليس هذا إعجاباً بهم.. لا..
فالطريق مختلف.. لكنها حقيقة يعيشونها وسلوك يحيونه، فلا تجد شخصاً (بشكل
عام) إلا ويقرأ جريدة أو صحيفة مجلة أو قصة أو كتاباً.. تلمح ذلك في الشوارع
والمحلات التجارية.. في المكاتب، في الحدائق العامة والأماكن الترفيهية، في
الحافلات العامة والقطارات، ولن أخوض في ماهية ما يقرؤون من روايات تافهة
أو قصص سخيفة أو مقتطفات سطحية أو أو.. فهذا ينعكس عموماً على طبيعة
شعوبهم ونمط حياتهم الاجتماعية والفكرية.. ولن أتعمق أيضاً في خلفيات هذه
القراءة وهذا النشاط.. ولا الأسباب التي دعتهم، بل ونمت فيهم حب المطالعة
والقراءة.. من أساليب تربوية ومناهج تعليمية أثناء مراحل الدراسة.. لكن شيئاً
واحداً ملاحظاً ونؤكد عليه كظاهرة عامة واضحة: إنها شعوب قارئة.
والعجيب أن أمة الإسلام التي بدأت رسالتها بأول آية نزلت من السماء [اقْرأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ] . قلما تجد قارئاً ونادراً ما تجد مولعاً بالعلم أو شرهاً للمطالعة
وحب المعرفة. بل حتى طلبة العلم انتقلت إليهم العدوى، وكأنهم مرغمون أو
مجبرون على القراءة والتعلم.
وإنها لمفارقة أن تجد أعداء الإسلام والعلمانيين وأصحاب الفكر والمذاهب
الهدامة والتيارات المنحرفة لا يكلون ولا يملون من المطالعة والبحث والكتابة،
فتجد مؤلفاتهم وكتبهم تملأ الأسواق ومقالاتهم تغطي الصحف والمجلات والجرائد،
ويتناولون مواضيع مهمة، ويتطرقون لأبحاث جديدة.. فيبدو وكأنهم رواد الحضارة
والثقافة العربية المعاصرة.
وهذا الكسل له أسباب أذكر بعضها:
1- منهج التعليم والأسلوب التربوي الخاطئ في المدارس والبيوت المحشو
بكثرة المعلومات وإجبار الطلاب على الحفظ وملء دماغه بمعلومات مفيدة أو غير
مفيدة، وجعل ذلك أصلاً ومقياساً للنجاح أو التفوق يخلق نوعاً من الكراهية والملل
والضجر من القراءة وحب البحث. وغياب البحث العلمي وأسلوب تنمية التفكير
والمشاركة لكل ما يلائمه، وإعطاء الأطر العامة، وترك الخيار والتشجيع للطلاب
بالحب الذاتي والرغبة الداخلية للبحث العلمي.
2- طبيعة البيئة التي نعيشها والرواسب السلبية الراسخة منذ عهد الانحدار
الفكري والخلقي والعلمي، إضافة لتأثيرات رواسب الاستعمار الغربي الفكري
والثقافي والاجتماعي على مجتمعاتنا.
3 - التركيز والتصويب نحو هدف وغاية العلم والحياة: هي رغد العيش
ورفاهية الحياة، وليس هدفاً سامياً.. خلق في نفوس الكثير اللامبالاة وضعف
الإحساس وفقدان أهمية الوقت وأهمية العلم.
4- انعدام المسؤولية، مسؤولية حمل الرسالة وحمل الأمانة والنهضة بالأمة
النهضة السليمة التي أوكلت إلينا، كما يقول الله عز وجل: [إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ
عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ
كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] ، ومتى فقدت الأمة مسؤوليتها فقل عليها السلام.
5- نوعية ما يوجد في الأسواق وما يكتب في الصحف وما يوجد في وسائل
الإعلام، تنفر الفرد من الإقدام.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات
ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح
يدعو له» . أليس من جذور الإيمان التعلم والعلم والعمل به، وبالعودة لهذه الجذور
والأصول وحب العلم والعمل تعود لنا المكانة التي أرادها الله لنا.(37/90)
منتدى القراء
تصحيح مفاهيم
حول كتاب واقعنا المعاصر
زين الدين حاج الطيب
حينما نزل العمل الإسلامي إلى الساحة السياسية ثارت بلبلة في صفوف بعض الشباب الذين أخذوا أطراف الحديث حول هذا الموضوع مستدلين بتجارب لا يمكن
مقارنتها مع الوضع القائم في الجزائر [1] ومستشهدين في ذلك بمواقف الأستاذ
محمد قطب الذي تعرض في كتابه «واقعنا المعاصر» للعمل الإسلامي الذي
ينطلق من منبر الحكم ليصل إلى القاعدة مع العلم أن الحال في بلادنا يكاد يكون
العكس تماماً، والفرق شاسع بين طليعة تريد أن تبلغ الإسلام إلى الشعب من خلال
منبر الحكم وبين شعب يريد أن يبلغ الإسلام إلى منبر الحكم من خلال طليعة.
إن الجبهة الإسلامية هي وليدة إرادة شعب وليس إرادة أشخاص.
«فهي ظهرت وليدة روح وإرهاصات تاريخية وليست حركة كونتها جماعة
أرادت أن تكون حزباً، إنما هي مولود تاريخي» [2] .
إن من حظوظ الحركة الإسلامية في الجزائر هو كونها تتعامل مع شعب يتميز
بروح جادة يمكن أن نقارنها بحرارة الشعب الأفغاني ويكفي أن نشير بأن عدد
ضحايا أكتوبر كانوا أكثر من عدد ضحايا بعض الشعوب في ثوراتها التحريرية.
إنه لا يمكننا مقارنة الجبهة الإسلامية ببعض الحركات في الشرق، ولاسيما
في مصر، حيث تعرض الأستاذ محمد قطب لتلك التحالفات التي خاضها المسلمون
مع بعض الأحزاب من أجل الوصول إلى البرلمان. فالجبهة الإسلامية بقوة
أنصارها وولاء الشعب لا تزال متميزة بشعارها وأهدافها ووسائلها وهي بهذا غنية
عن أي تحالف يكون على حساب أهدافها.
وهذا الكلام لا يعني التقليل من شأن الحركة الإسلامية في مصر التي نعتبرها
هي الرائد في مطلع هذا القرن، إنما أردنا أن نقول إن للشعوب حظوظاً، وأن حظ
الحركة الإسلامية في الجزائر كان في عزيمة الشعب وحماسته وإخلاصه لدينه.
إن فضيلة الأستاذ حينما يتعرض للمسلمين الذين يشتركون في الحكم بعد ما
كانوا ينتقدونه ويقولون للناس: [ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ]
صادق في كلامه، مصيب في انتقاده - وموقف الجبهة الإسلامية في هذا الصدد
واضح ليس فيه التباس، فهي تستعمل المطالبة والمغالبة دون إفراط أو تفريط لقوله
تعالى: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] ، وقوله -عليه
الصلاة والسلام-: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خالفهم ولا من خذلهم» ، وتستعمل المطالبة لإقامة الحجة لقوله تعالى: [ومَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] وقوله تعالى: [ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ
حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ] .
كما تستخدم المغالبة لضمان مصالح الأمة والمحافظة على ثوابتها وصيانة
مكاسبها؛ لقول عمر بن الخطاب: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً» .
إن مسألة تحكيم شرع الله أصبحت مطلباً شعبياً وليست مطلب الحركة
الإسلامية فحسب وهذا ما يوافق قول الأستاذ محمد قطب في التغيير حينما قال:
(إن المسلمين يصلون إلى الحكم ممكنين في الأرض حين تعي الجماهير جيداً أن
«لا إله إلا الله» معناها: تحكيم شريعة الله [3] ، فالشعب الجزائري بوعيه الفطري
لمقتضيات الشهادة عبر عن رغبته في تطبيق شرع الله، وذلك من خلال الانتخابات
التي كانت فيها الأغلبية الساحقة للجبهة الإسلامية.
فالجبهة الإسلامية كالحوتة بحرها الشعب [4] ، شعب واع متحمس لدينه
وعقيدته.. ويكفي أن نشير بأن هذا الشعب في تجاوبه مع الجبهة أصبح مستعداً
لمواجهة أشد التحديات.
__________
(1) كتجربة السودان.
(2) استجواب الشيخ عباسي مدني مع مجلة الهلال الدولى.
(3) موضوع لمحمد قطب في مجلة الوعي العدد 19.
(4) تعبير الشيخ عباسي، في حوار مع مجلة السلام، انظر جريدة المنقذ العدد 20.(37/93)
أماه…
وليد بن إبراهيم
أماه أنت غريبة في موطني ...
هذا الرويبضة الحقير يذلك ...
هذا الرويبضة الحقير وغيره ...
زرعوا رغم أنوفنا ...
زرعوا على أشلائنا ودمائنا ...
يبنون كل رذيلة لا تحمد ...
أماه ثوبك طاهر منذ الشروق ...
أماه أعلم أنك لا ترتضين ...
أماه قد زرع الطغاة بأرضك ...
أماه هذا دورنا ...
نادى المؤذن.. فتوضأت أيدي الرجال ...
يطؤون أرضك يسجدون ...
وقلوبهم نور على نور ...
هم فتية رفضوا الخنوع أو القيود ...
أماه هذي روحهم ودماؤهم ...
نار على قلب الطغاة الحاقدين ...
أماه يا أرض العقيدة والسلام ...
أماه يا أم الأباة ...
أماه قد هلك الطغاة ...
قراء الكتاب ...
رفع السلام بأرضك ...
كَثُرَ الدعاة ...
قام الرجال لعرضك ...
بكت النساء لأجلك ...
علم الشيوخ نام الصغار بحبك ...
أماه عودي بثوبك ...
أماه عاد بياضك ...
أماه لسنا غريبين في موطني ...(37/95)
الفرار إلى الله
أمين فايز
أخبرني صديق أن شاباً اسمه خالد يسأل عني، فكرت ملياً، من يكون خالد
هذا؟ أهو ذاك الشاب السوري الذي قابلته في الجامعة منذ أكثر من ثلاث سنوات؟
نعم كان اسمه خالد، ولكن ما أحببته قط، كان لا يعرف ربه لا في صلاته ولا
صيامه، ولا أزال أذكره طويلاً، أشقر البشرة، تلمح في وجهه علامات الكبر،
فخوراً بعضلاته المفتولة، مخلصاً في تقليد الأمريكيين.
مرت هذه الذكريات سريعة في خاطري وأنا أدلف إلى المنزل عندما فوجئت
بذاك الشاب خالد، ولكنه الذي عرفت، ما هذه اللحية العظيمة، أين شعره الطويل، و (الشورت الأمريكي) ، لم أصدق ما أرى، قام إليَّ وعانقني عناق المحب الذي
يبحث عني من سنين، سألته عن أحواله ورغباته، فبادرني بلهجة جازمة وقال:
أريد أن أرحل عن هذا البلد، قررت الذهاب لأفغانستان، الحياة هنا بين الكفار لا
تطاق.
فهمت ما حدث، إنها الصحوة الإسلامية، لا تزال تجذب لها من هنا وهناك
شباباً هداهم الله وأعادهم إلى الصراط المستقيم، بعد ضياع أحمق، ونوم عميق.
أما قصة التزامه بدينه الحنيف فهي غريبة عجيبة، لقد تعرف على شاب
أمريكي مسلم، وراح هذا الأمريكي يحدثه عن الإسلام ويدعوه للرجوع إلى الله،
وإذا بخالد ينتفض ويفيء من غفلته ويقول لنفسه: أأمريكي لم يمض على إسلامه
سنوات قليلة يدعوني إلى التوبة، وقد كان الأحرى بي أن أدعوه للإسلام، إنه قدر
الله أن يكون هذا الأمريكي سبباً في هداية خالد، لقد نفض عن قلبه غبار الغفلة،
وبدأ حياة جديدة أراد فيها إرضاء الله، لقد تغيرت حياته بشكل جذري وطلق زوجته
اللاهية العابثة، التي بدأت تصفه بالجنون، وأبدله الله خيراً منها، وقرر أن يعيش
حياة إسلامية في هذه المدينة (سانتياغو) ، ولكن أنى له هذا في تلك البلاد، والفتن
فيها كقطع الليل المظلم، كيف يعيش هنا والمعاصي ترتكب أمام أعيننا، قال لي:
ماذا أفعل يا بني عندما تكبر في هذا المجتمع، لا بد أن أخرج إلى أفغانستان لقد
سمعت عن فضائل الجهاد في سبيل الله وقررت الخروج لأرض الجهاد.
سبحان الله كيف تتغير الأيام وتتغير الأهداف إنه الفرار إلى الله.(37/97)
السر الذي احتفظ به
السلطان عبد الحميد
أبو البراء عبد العزيز بن محمد
ما هو السر الذي احتفظ به السلطان عبد الحميد طوال حكمه (33) سنة، ولم
يبح به لأحد؟
ما هو السر الذي كان يؤمل عليه رجوع الدولة العثمانية دولة كبرى؟ ما هو
السر الذي احتفظ به وهيأ الظروف له حتى اتهمه الصديق بالضعف والعدو بالظلم
والغدر؟ لنستمع إليه حيث يقول في مذكراته (17 مارس 1333) :
(منذ أربعين عاماً وأنا أنتظر أن تشتبك الدول الكبرى مع بعضها البعض -
روسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا - كان هذا كل أملي؛ كنت أرى أن سعادة الدولة
العثمانية مرتبطة بهذا وجاء ذلك اليوم الذي كنت أنتظره، ولكن ... هيهات فقد
أبعدوني عن العرش، وابتعد الذين حكموا البلاد بعدي عن العقل والتبصر،
والفرصة العظيمة التي ظللت أربعين عاماً في انتظارها ولت وأفلتت من يد الدولة
العثمانية إلى الأبد.
جاهدت لكي لا يعزلوني عن العرش طوال ثلاثين عاماً، وجهادي هذا كان
من أجل هذه الفرصة. حبست الأسطول في الخليج ولم أخرجه ولو للتدريب،
وحبسي له كان من أجل هذه الفرصة. تجاهلت الحرب اليونانية لكي لا أدع
للإنجليز منفذاً للاستيلاء على كريت، وتجاهلي هذا كان من أجل هذه الفرصة،
بمعنى آخر: إن كل مجهودي قرابة ثلاثين عاماً، بصوابه وبخطئه، إنما كان من
أجل هذه الفرصة.
وحفظت هذا السر في نفسي أربعين عاماً. وسأوضحه لأحفادي لكي يعرفوا
أني لم أفاتح فيه أحداً، حتى مع أكثر صدوري العظام ثقة، لأني تعلمت بالتجارب
أن شيئاً يعرفه اثنان يخرج عن كونه سراً، ولذلك كان من ألزم الأمور ألا يعرف
مقصدي هذا أحد، وألا تحس به الدول الأجنبية.
كان تقديري أن استخدام العثمانيين لفرصة كهذه في وقتها، وبتبصر كفيل بأن
ينقذهم، فيعيدون لدولتهم مكانتها في مصاف الدول العظمى.
كان الواضح أن التنافس بين الدول الكبرى سيجرها أخيراً إلى التصارع
والتصادم فيما بينها، وعلى هذا فإن الدولة العثمانية أمام تصارع وتصادم كهذا
تصبح بعيدة عن أخطار التمزق والتقسيم، ويوم التصادم سيوضح قيمتها بين الدول. هذا هو سر سياستي التي استمرت 33 عاماً) .
رحم الله السلطان عبد الحميد الذي هُضم قدره من قبل مثقفينا، والذي كان
يفكر بقوة وإرادة أجداده سلاطين بني عثمان، وقاتل الله أدعياء العلم والتحرر،
كيف جروا هذه الأمة إلى ويلات وإلى نكبات عظام لها أول وليس لها آخر، حتى
أصبحت دولة عظيمة من دول الإسلام، تمتد عبر قارات ثلاث، أصبحت في مدى
عشر سنوات حفنة من تراب.(37/98)
الصفحة الأخيرة
هل هناك صحافة إسلامية؟
عبد القادر حامد
عندما نقول: صحافة إسلامية، نعني: صحافة تعبر عن شمولية الإسلام،
وتعرض عقائده وأحكامه كما أنزلها الله وطلب من البشر اتباعها، دون تحريف، أو
تعطيل، أو تزوير، أو استغلال.
ووجود صحافة من هذا النوع ضرورة شرعية وإنسانية. ولكن المشاهد مما
يسمى «صحافة إسلامية» بعيد عن تناول الإسلام بهذا الشكل الشامل، بل هناك
موضوعات هي من بدهيات الإسلام وأساسياته محظور على هذه الصحافة أن
تتعرض لها أو أن تضعها في اهتماماتها، وإذا تعرضت لها فبأسلوب فيه المدارة
والتورية والرمزية ما يجعله معدوم الأثر، قليل الفائدة.
نضرب على سبيل المثال موضوعات مثل التشريع، ومناهج التربية والتعليم
وصلة ذلك بعقيدة الأمة، وكذلك الجهاد وتحديد مفهومه شرعاً، ومسائل مهمة، مثل: الولاء والبراء، ومن هو العدو والصديق في نظر المسلم، ووضع النقاط على
الحروف في مثل هذه القضايا، وتوضيحها بدون لبس أو إجمال موهم أو مخل.
إن ما هو موجود من «صحافة إسلامية» غالباً ما يشتغل بقضايا فرعية
ونظرية يقتلها بحثاً، بينما يمر على القضايا الرئيسية مر الكرام، أو يتحرج من
البحث فيها، أو لا يمكنه ذلك لما هو مبثوث في طريقه من الحواجز والموانع.
إن البديل عن الحرية في تناول مثل هذه القضايا المصيرية هو الكبت الذي
يسبب الفوضى، ويشل الأفراد والجماعات عن إنجاز أي شيء نافع، ويعيق أي
توجه للخروج من جو السلبيات والعراقيل والمشاكل التي تعصف بالمسلم في هذا
العصر، وتجعله عرضة للمهانة والإذلال الذي أصبح وصمة لازمة له..(37/100)
شوال - 1411هـ
أبريل - 1991م
(السنة: 5)(38/)
الافتتاحية
دفاع عن المنهج
(3)
لم يشعر المسلمون أنهم بحاجة، إلى منهج يضبط أقوالهم وتصرفاتهم كما
يشعرون في هذه الأيام، حيث أثبتت الأحداث الأخيرة أنه بغياب هذا المنهج
ضاعت الرؤية الإسلامية الصحيحة، وغاب الوعي عن خطورة الأعداء، ووضح
العجز عن اتخاذ موقف يرضي الله سبحانه وتعالى، موقف تاريخي لتعلقه في
بأحداث كبيرة لها شأن في مستقبل الأمة.
وللمرة الثالثة نعود لنؤكد أن المنهج الصحيح هو منهج أهل السنة، فهو
العاصم من الزلل وهو الذي يهدي في حالك الظلمات، هذا المنهج هو الذي جعل أبا
بكر الصديق -رضي الله عنه- يقف من حركة الردة ذلك الموقف الصلب حتى
أذعن له بقية الصحابة، وهو الذي عصم الإمام أحمد حين تساقط كثير من ...
الشخصيات، وهو الذي جعل ابن تيمية يصمد للتتار في دمشق حين صمم أهلها
على تركها خوفاً من الدمار الزاحف، وحين فكر العلماء أنفسهم بترك دمشق، وقد
ذكرهم ابن تيمية بغزوة الأحزاب وأن النصر للمسلمين.
إن التمسك بهذا الميزان العادل والقسطاس ليس صعباً ولا هو من الأمور
المستحيلة بل كما قال تعالى: [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] فهو يسير
على من يسره الله عليه، وعسير على من لم يوفق لذلك لضعف في الرأي أو هوى
خفي، أو لجهل في فقه الكتاب والسنة، ومبادئ الإسلام الكبرى في السياسة والحكم
في الحرب والسلم، وفي تقدم الأمم ورقيها، وسنن الله في فشلها وذهاب ريحها.
إن هذا المنهج ليس للذين يقيسون الأمور بآرائهم، ويسمونها (اجتهاد) دون
علم شرعي دقيق ودون فقه للولاء والبراء، ولا هو للذين يبترون النصوص مع قلة
معرفتهم بالواقع ومعرفة مناط الحكم، والذين يتكلمون عن المصلحة لا يملكون
وسائل الاجتهاد، فكيف يجتهدون في أمور خطيرة؟ ! هلا استشاروا قبل أن يقدموا، وهلا دققوا في تحقيق المناط والإحاطة بكل جوانب القضية، وماذا يقول قادة
الرأي وزعماء الأمة حين يتركون شعوبهم تتيه في بيداء الأوهام وهم المكلفون
بقيادتها إلى مواقف العزة والكرامة، وإذا كانوا هم الرواد فإن الرائد لا يكذب أهله.
إن التمسك بالمنهج عند بعضهم كان نظرياً وعندما جاء التطبيق ابتعد كثيراً
عن الأصل، بل إن بعضهم لا يحبون امتلاك منهج ما لأن هذا يتعبهم، وهم تعودوا
التنقل حسب المزاج وما يسمونه (المصلحة) وهل هناك مصلحة غير مستنبطة من
فقه الكتاب والسنة وتطبيقات هذا الفقه عندما كان المسلمون يعيشون في ظل
الاستعلاء الإيماني اللهم لا مصلحه إلا في هذا الفقه، ولابد من العودة إلى هذا
المنهج. ...(38/4)
من مشكاة النبوة
(من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)
محمد المنجد
حديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، مشتمل على آداب جمة، ...
حتى عده بعض علماء الإسلام أحد أربعة أحاديث تتفرع عنها أبواب الخير، وعده
أبو داود -رحمه الله- أحد أربعة أحاديث يدور عليها مسنده.
- (من حسن) تربوية تورث في النفس التحفز لنيل المطالب العالية، ...
والوصول للكمال، ومحاولة تحسين المرء لإسلامه.
- وكلمة (ما) تدل على أن الحديث يعم جميع الأقوال والأفعال. ...
- وكلمة (ما لا يعنيه) أي ما لا يهمه في دنياه وآخرته سواء كان في ذلك ...
شؤون نفسه أم من شؤون الآخرين.
- وتحديد ما يعني منا يعتمد على الشرع ويستمد منه، كما يدل على ذلك ...
إسلام الواردة، فليس الناس الذين يحددون ذلك بأهوائهم وشهواتهم، إذاً لفسدت ...
السموات والأرض.
أولاً:
نماذج مما لا يعني المسلم عموماً، والداعية خصوصاً في أمر نفسه:
- أنواع اللهو واللعب التي تصد عن ذكر الله ويدخل فيها كثير من وسائل ...
الترفيه والتسلية اليوم كالأسفار التي لا يقصد بها غرض شرعي، كجهاد أو دعوة
إلى الله، أو هرب من أعداء الله، أو دنيوي صحيح كالتجارة المباحة وطلب
التداوي النادر.
- كثير من الهوايات المضيعة للوقت والمال، كجمع التحف النادرة واللوحات
الفنية التي تزخر بها بيوت الأثرياء، ينفقون فيها الأموال الطائلة، ويخصصون لها
زوايا في بيوتهم.
ولنسائل أنفسنا بتجرد: ماذا تفيد هواية جمع الطوابع، أو العملات والصور
وغيرها من صلاح في الدين أو الدنيا؟
القراءات الفارغة، وعند بعض الناس اليوم مضمونها جاهلي بعنوان (القراءة ...
للقراءة) فيقرأ ولا يميز بين الغث والسمين، والضار والنافع، ومن أمثلة تلك ...
القراءات:
- قراءة القصص والروايات والمقالات الرديئة التي تثير الغرائز بالطرق ...
المحرمة، أو تحلق بالقارئ في أجواء الخيال، أو تورث في نفسه دافع العنف ...
والإجرام أو الإعجاب بشخصيات الكفار.
- الإفراط في قراءة دقائق الأخبار، وتفاصيلها التي لا تهم المسلمين، ومتابعة ...
الجرائد والمجلات المتكاثرة، ووسائل الإعلام الأخرى، وقد يدخل الشيطان على ...
المسلم في ذلك من باب تكوين الوعي والإلمام بأمور السياسة العالمية، والحق أن ...
الناس يختلفون في هذا ويتفاوتون، والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.
- القراءة في الكتب والمجلات ذات الاهتمامات التافهة، ككتب التراث
الشعبي والمأكولات والأزياء المختلفة، وأخبار الفن الفاجر، وكم أضر تلك ...
القراءات بمن يفترض أنهن محاضن للجيل المسلم.
الخوض في بعض مسائل تنسب للعلم ولا تبنى عليها فائدة في الدنيا ولا في
الآخرة وليس إلى معرفتها سبيل صحيح فيها كبعض تفاصيل أخبار الماضين
وآثارهم.
ومن مسؤولية طالب العلم أن يفرق بين مثل هذا والتحقيقات العلمية المفيدة،
وعلى أية حال فكل مسألة لا يبنى عليها عمل ولا عقيدة (سواء أكان قول القلب أو ...
عمل القلب أو قول اللسان أو عمل الجوارح، خلافاً لما يفهمه البعض عند ذكر مثل ...
هذه القاعدة) فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه.
ولذلك نُهي عن الأغلوطات، وذم السلف المسائل وعابوها، ومنها السؤال ...
عما هو مستبعد الوقوع أو لا يقع عادة.
ويرتبط بما سبق ما يقع اليوم عند بعض الغثائيين في إنفاق الأوقات في تآليف
وتحقيقات (زعموا) فائدتها لا تساوي الاشتغال بها وقيمة محتوياتها لا تساوي الورق ...
الذي أنفق فيها.
أو الخوض في مسائل القضاء والقدر مثلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ...
(إذا ذكر القدر فأمسكوا) ..
ثانياً:
نظرات فيما لا يعني المسلم الاشتغال به من شؤون الآخرين:
التدخل في خصوصيات الآخرين وشؤونهم مما لا يصادم الشريعة الإسلامية
وليس مجالاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلبية عمت الكثيرين وهي نابعة
من غريزة الفضول وحب الاستطلاع.
ومن أمثلة هذا النوع:
- محاولة معرفة الأخبار الخاصة عن طريق الأسئلة الملحة المزعجة
المتكررة، من أين جئت؟ وإلى أين ستذهب؟ ومن كان عندك في البيت؟ ... إلخ.
التدخل المزعج بفرض الرأي على الشخص الأخر في الأمور العائدة إلى
الذوق المباح، كطريقة ترتيب أثاث المنزل وألوان السلع المشتراة ونحو ذلك.
التجسس بأنواعه وهو أخطرها، وورد النهي المقتضي للتحريم عن جميع
أنواع ووسائل التجسس على المسلم بكلمة واحدة من كتاب الله [وَلاَ تَجَسَّسُوا]
كنهي الرجل أن ينظر في كتاب أخيه إلا بإذنه.
ولنا عند هذا الموضوع وقفات تندرج تحت ما يمكن أن نطلق عليه أصلاً من
الأصول في هذا الموضوع، وهذا الأصل هو أن التدخل يختلف حكمه باختلاف
الأشخاص والأحوال.
من التدخل ما يكون دعوة إلى الله ونصحاً في الدين وليس تدخلاً فيما لا يعني، كنهيك الرجل عن منكر يفعله حتى ولو كان ضرره مقتصراً عليه يفعله وحيداً
داخل بيته.
وهنا يبرز أدعياء التحرر ويقولون هذا تدخل في الحريات الشخصية، وهذا
متوقع من أناس لا يفقهون مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن
والسنة وأهميتها في دين الله، وللرد عليهم موطن آخر، ويكفينا حديث البخاري -
رحمه الله- في القوم الذين استهموا على سفينة.
ومنه ما يكون وجيهاً معتمداً على صلة القرابة فالأب والأم أو الإخوة لهم
التدخل في أمور لا يصح أن يتدخل فيها غيرهم.
فمثلاً الأب الصالح يحق له معرفة أين كان ولده، ومن يصادق، وله عليه
الولاية وحق التأديب.
ومن التدخل ما يكون مطلوباً معتمداً على الصلة التربوية بين المعطي
والمتلقي، والمربي والمربَى من أمور التربية والتهذيب والتعليم، إلا أن تدخل
المربي في بعض الأحوال الشخصية لمن يربيه ضروري في تسديده، وتقويم ...
اعوجاجه، وتفصيل هذا طويل قائم على المصلحة الشرعية، ويتضح في الواقع ...
العملي، وفي الإشارة العابرة ما يغني عن الكَلِم.
ومما يضبط التدخل أيضاً (درجة الاستفصال) عند السؤال، فلو قابل رجل أخاه المسلم فسأله أتزوجت أم لا فقال نعم فقال له بارك الله لك وبارك عليك ... ... لَعُدَّ هذا أمراً حسناً من واجب سؤال المسلم عن أحوال أخيه المسلم، أما لو زاد عن ذلك واستفصل منه عن شيء محرج؛ لَعُدَّ هذا تدخلاً مستهجناً.
وقدوتنا عليه الصلاة والسلام كانت كل استفصالاته في موقعها، تدل المسلم
على خير أو تحذره من شر.
ولو استعرضنا مثلاً حديث جابر في البخاري لما سأله عليه الصلاة والسلام
عمن تزوج بها أبكراً أم ثيباً فقال بل ثيب فقال عليه الصلاة والسلام: «فهلا بكراً
تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك» فالسؤال هنا ليس تطفلاً أو مجرد حب
استطلاع، حاشا وكلا، وإنما سؤال المعلم الذي يريد من وراء السؤال التوصل إلى
نفع المسؤول.
ولما عرف السلف حدود السؤال والتدخل، ارتقت حياتهم الاجتماعية إلى
مستويات لم يعرفها العالم من قبل.
فهذا سعيد بن المسيب -رحمه الله- لما زوج ابنته الجميلة الفقيهة من تلميذه
الفقير ثم سأله كيف وجدت أهلك (سؤال عام) فقال بخير على ما يحب الصديق
ويكره العدو، لم يتدخل سعيد - رحمه الله - أكثر من ذلك وإنما قال إن رابك شيء
فالعصا، والقصة مشهورة في السير للذهبي وغيره.
ومن التدخل ما يكون حسناً في الأمور الدنيوية المباحة، كإبداء الخبرات
والإشارة بالرأي من غير إلزام من باب تقديم النصيحة.
ولما جهل الناس اليوم حدود السؤال والتدخل، انقسموا قسمين:
وقع الأول في الإفراط والثاني في التفريط، قسم يدسون أنوفهم في كل شيء، فجروا على حياتهم وحياة غيرهم شقاء ونكداً. وقسم وقع في التفريط فلا يسأل
عن أحوال إخوانه مطلقاً، فوقعت القطيعة وانقصمت عرى الأخوة.
ونتيجة لفقدان تمييز أواسط الأمور، فقد فَقَدَ السؤال عن الحال والصحة
الأهمية اليوم وأصبح أمراً شكلياً لا تأثير له في نفس السائل والمسؤول.
ومن تبلُّد الإحساس وخمود حرارة الإيمان أن ينظر بعض المسلمين اليوم إلى
أحوال إخوانهم المستضعفين في الأرض والمنكوبين نظرة اللامبالاة والإهمال الشديد
لأن أمرهم لا يعنيهم بزعمهم ما داموا بعيدين وما دامت القارعة لم تحل في دارهم،
فالاهتمام هنا والاعتناء من حسن الإسلام، والقاعدة عندنا: من لم يهتم بأمر
المسلمين فليس منهم.
وبالجملة فقد يكون التدخل واجباً مثل التدخل لتغيير المنكر، ويأثم لو لم
يتدخل وهو يستطيع.
وقد يكون التدخل مستحباً، مثل التدخل لتحسين وضع أخيك في طريقة كلامه
مثلاً.
وقد يكون التدخل مباحاً، كسؤال إنسان هل سافر أم لا.
وقد يكون التدخل مكروهاً، مثل سؤال رجل يتحرج في الجواب في أمر
خاص به.
وقد يكون التدخل محرماً، مثل التجسس على المسلم.
فالعلم الشرعي عامل أساسي للتدخل من عدمه.(38/10)
تتمة وقفة البوطي مع ابن تيمية [*]
عبد القادر حامد
مر معنا في المقال السابق تصوير البوطي لابن تيمية، وقد كانت تلك
الصورة على ما قد بيناه من استهزاء وبعد عن الإنصاف، وحطة في الأسلوب
تعكس نفساً قلقة بعيدة عن الاتزان.
وقد حاول البوطي جهده في رسمه تلك الصورة أن يضع في وهم قرائه أن
ديدن ابن تيمية هو هكذا: اضطراب وتطويح وتناقض، وصال وجال مشيراً إلى
هنة هنا، وهنة هناك، مما يعتبره هو مآخذ على ابن تيمية، ولكن حينما أحس أن
هذه الهنات قد لا تقنع قراءه برأيه في ابن تيمية هز كتفيه ونفض كنانته؛ فأخرج
منها هاتين الفاقرتين:
1- المسألة الأولى:
تعليق لابن تيمية على كتاب (مراتب الإجماع) لابن حزم.
2- المسألة الثانية:
رأي ابن تيمية في مسألة الكسب عند الأشاعرة.
أما المسألة الأولى؛ فهي مسألة حاول أعداء ابن تيمية قديماً وحديثاً أن
يستخدموها للنيل منه، فراشوا بها سهامهم، والبوطي يسير على هدي الكوثري عند
تعرضه لهذه المسألة، ورأي الكوثري في ابن تيمية معروف ومشهور. أما تحليل
هذا الموقف وأسبابه فلا زال يحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليه، لأن نتائج هذا
التحليل لها صلة بالمنهج العام الذي تقبل بمقتضاه الأقوال أو ترد، ويقوم على
أساسه فهم المسلم لتاريخه الفكري، وتتضح على ضوئه المؤثرات التي كان لها فعل
سيئ في حياة المسلمين خلال القرون الماضية. وشخص كالكوثري في تركيبته
الفكرية وخلفيته التربوية لا يمكن إلا أن يكره ابن تيمية وكل ما جاء به. ...
فابن تيمية له رأي فذ في العلاقة بين العرب والإسلام، وارتباط الإسلام باللغة
العربية، ويرى أن كره العرب نفاق، هذا مع أنه يقول: (فضل الشخص لا
يستلزم فضل الجنس) والكوثري أبسط ما يقال فيه من هذه الناحية أنه شعوبي، ...
وشعوبيته قد أدخلته مداخل صعبة وعنته عناء يعرفه من قرأ له.
وابن تيمية حر التفكير، حرب على التقليد والجمود، لا يسير خطوة دون
الاهتداء بالدليل والكوثري مقلد جامد ومتعصب ضيق العطن، حبس نفسه في حدود
المذهب الحنفي، ويرى أن الإسلام هو هذا المذهب فقط، فهو لذلك حرب على
الشافعية، والمالكية، وسم زعاف على الحنابلة، أما كبار علماء الحديث فأقل ما
يقوله فيهم أنهم (حشوية) ، أما ما يقوله في كل واحد منهم على انفراد: من تجن ...
وتحامل وتعسف، ومن تهم باطلة، ومن بعد عن منهج العلماء في النقد؛ فأمره
مشهور وشرحه يطول. وهكذا فقد حجّر واسعاً، ورسم لنفسه دائرة ضيقة من
دخلها فهو منه، ومن لا فلا!
هذا هو الكوثري الذي يسير البوطي على خطاه، فهل مثل هذا الصنف من
يقبل قوله في خصمه؟ ! أخصم وحكم؟ !
ولنعد الآن إلى المسألة التي اعتبرها البوطي مقتلاً من مقاتل ابن تيمية، وهي
ما جاء في تعليقه على مراتب الإجماع لابن حزم والتي قامت لها قيامة البوطي.
ونريد أن نناقش بعض ما ساقه من الدعاوى واحدة واحدة باختصار، فنقول:
هل صحيح أن ابن تيمية (يكفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي قد ...
يخالفهم فيها) ؟ ! لم يسق لنا البوطي دليلاً واحداً على ذلك، بل إن هذه المسألة التي ... اهتم لها وحشد لها بعض ما في جعبته من رخص التهم العشوائية دليل على أن ابن تيمية ليس ممن يهجم بالتكفير لأدنى المواقف الاجتهادية التي تخالف رأيه، ولينظر ... الشيخ البوطي في هذه المسألة هادئ النفس والنَفَس وسيتبين له ذلك، وكذلك فإن لابن تيميه كلاماً في غير موضع من كتبه يدلي بصريح العبارة على عكس ذلك، فمن ذلك قوله:
( ... هذا مع أني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - إني من أعظم الناس ...
نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت
عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة؛ وفاسقاً أخرى، وعاصياً
أخرى، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل
الخبرية القولية، والمسائل العملية) [مجموع الفتاوى 3/299] .
ومن ذلك أيضاً قوله: (مما يصلح أن يكون ضابطاً للتكفير) ، ودرساًً ... للذين يلقون الكلام على عواهنه-:
(ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي ... تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ...
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا ...
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ] وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى ...
أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة
الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن
أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم
حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم بدفع ظلمهم وبغيهم
لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله
ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه
عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف
أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا
كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة
هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمه من بعضهم على
بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطبهم
في حجة الوداع: «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
في بلدكم هذا في شهركم هذا» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «كل المسلم على
المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من صلى
صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله» وقال: «إذا
التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قيل: يا رسول الله؛ هذا
القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» وقال: «لا ترجعوا
بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ، وقال: «إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما» ، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر ابن
الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق،
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع
على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟» وهذا في الصحيحين.
وفيهما أيضاً: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة:
إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي -صلى الله عليه
وسلم- بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر
النبي -صلى الله عليه وسلم- لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة ببن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله
إلا الله، وعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لما أخبره، وقال: «يا أسامة،
أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم
أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية ولا كفارة، لأنه كان
متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم
مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] فقد بين الله تعالى
أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم
بالعدل.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين؛ لا يعادون
كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض
ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض؟ مع ما كان
بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل ربه «أن لا
يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم
فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعطه ذلك» وأخبر أن الله لا يسلط
عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي
بعضاً.
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ] قال: «أعوذ بوجهك» [أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] قال:
«أعوذ بوجهك» [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ] قال: «هاتان
أهون» .
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: ... [فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] وقال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة» وقال: «الشيطان مع
الواحد وهو من الاثنين أبعد» وقال: «الشيطان ذئب، الإنسان كذئب الغنم
والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم» [مجموع الفتاوى 3/283-286] .
وكذلك يشير إلى ضوابط تكفير أهل البدع في 3/353 من مجموع الفتاوى
فليراجع.
فلا ندري بعد ذلك ماذا سيقول الشيخ في هذه النصوص من أقوال ابن تيمية،
لعله يهز كتفيه ويقول: يعني ماذا؟ لقد أثبتنا في كتابنا هذا أن ابن تيمية متناقض!
وعندها يكون السكوت أفضل.
وبعد أن سقنا من أقوال ابن تيمية ما يكذب الدعوى بأنه (يكفر خصومه لأدنى
المواقف الاجتهادية التي يخالفهم فيها) نقول أيضاً: إن هذه المسألة التي يتواصى ...
بها خصومه شاهد على عكس ذلك، أي على أن ابن تيمية يتريث، ويبحث،
ويتوثق قبل أن يحكم. ويتحرج من إلقاء تهمة الكفر، أو إعلان الإجماع عليها دون
تثبت. فكيف ذلك؟ فلننقل عبارة ابن تيمية التي نقلها البوطي، وتحكم فيها ما تحكم، ... وحذف منها ما حذف، وفهم منها ما فهم، وسخر منها ما سخر، ولنضعها بين ...
حاصرتين ولننظر فيها نظر من يريد أن يفهم؛ لا من يريد أن يصطاد ويشوه.
يقول ابن تيمية:
(قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل ...
شيء فهذا حق. ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فإن القدرية الذين
يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله؟ أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين
ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ. والمعتزلة كلهم قدرية،
وكثير من الشيعة، بل عامة الشيعة المتأخرين، وكثير من المرجئة والخوارج
وطوائف من أهل الحديث والفقه نسبوا إلى ذلك منهم طائفة من رجال الصحيحين.
ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء) . [نقد مراتب الإجماع 168] ...
ما معنى هذا؟
إن هذا النص سيق أصلاً للرد على من ادعى إجماع السلف من أهل السنة
والجماعة على تكفير من خالف هذه المقدمة: (الله وحده خالق كل شيء) .
فالمسألة هنا ليست مسألة إثبات هذه الحقيقة ونفي عكسها؛ وإنما هي إثبات
دعوى الإجماع على أمر آخر، وهو تكفير من قال قولاً يخالف ما انطوى عليه هذا
العموم، فالسلف وأهل السنة والجماعة الذين اتفقوا على أن الله خالق كل شيء؛ لم
يتفقوا على تكفير من خالف ذلك، أي إن منهم من كفر؛ ومنهم من لم يكفر. ثم
استطرد ابن تيمية مفصلاً، فذكر من هؤلاء الذين لم يجمع السلف على تكفيرهم:
القدرية، وكثير من الشيعة، بل عامة الشيعة المتأخرين، وكثير من المرجئة
والخوارج، وطوائف من أهل الحديث والفقه، بل وبعض رجال الصحيحين نسب
إليه القول بأن: (أفعال الحيوان لم يخلقها الله) . ...
إذن؛ هناك رجل (وهو ابن حزم) يقول: اتفق السلف على كفر من خالف
القول بأن الله خالق كل شيء.
ورجل ثان (وهو ابن تيمية) يقول: لا، لم يتفق السلف على كفر من خالف
ذلك: فمنهم من كفر، ومنهم من لم يهجم بالتكفير.
ورجل ثالث (وهو الكوثري) ، يتتبع الثاني بما لا طائل تحته.
ورجل رابع (وهو البوطي) يؤيد الأول، ويستصغر بالثالث، ويتهم الثاني
(بالخلط والتخبط) طبقاً لمبدأ (رمتني بدائها وانسلت) ! ...
أما الأول: فساق القضية مجردة عن الدليل، على سبيل التعداد.
وأما الثاني: فذكر أدلته فقال: دليلي على أن لا إجماع على القول بالتكفير
لمن خالف منطوق أن الله خالق كل شيء أنني وجدت طوائف من المسلمين
(وسماهم) لم يتفق السلف وأهل السنة والجماعة على تكفيرهم، بل تنازعوا في
كفرهم، ومعلوم أن ابن تيمية ينقل ما يعرف، وهو الذي عاش في أواخر القرن
السابع وأوائل القرن الثامن، ومن يدري فلربما لو كان البوطي معاصراً، له وبلغه
قوله هذا لأثبته، كأن يقول: أما ما قاله البوطي في كتابه السلفية [1] : (غير أنني ...
ما سمعت وما رأيت إلى هذا اليوم أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها
الله، وها هي ذي كتب الفرق والملل والنحل أمامنا، ولم أجد في شيء منها مثل
هذا النقل عنهم) فيقال له: ما دامت كتب الفرق والملل والنحل أمامكم فافتح منها ...
الجزء الثالث من: (الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم) ص 54 واقرأ: ...
(قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده، فذهب أهل السنة ...
كلهم، وقل من قال بالاستطاعة مع الفعل؛ كالمريسي، وابن عون، والنجاربة،
والأشعرية، والجهمية، وطوائف من الخوارج، والمرجئة، والشيعة؛ إلى أن
جميع أفعال العباد مخلوقة، خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها. ووافقهم على هذا
موافقة صحيحة من المعتزلة: ضرار بن عمرو، وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد.
وذهب سائر المعتزلة، ومن وافقهم على ذلك من المرجئة، والخوارج والشيعة إلى
أن أفعال العباد محدثة، فعلها فاعلوها، ولم يخلقها الله عز وجل) . ...
فماذا عسى البوطي يقول بعد ذلك؟ أيصر على تكذيب ابن تيمية ويجمع إليه
تكذيب ابن حزم الذي يدافع عنه؟ هذا لا يكون! لأن القضية تسقط برمتها حيث
سقط موضوعها.
لقد كان البوطي في غنى عن هذه النهاية التي انتهى إليها لو أنه قرأ كلام ابن
تيمية كاملاً [2] ، ولم يحذف منه ما حذف ومع ذلك تراه يقول: (هذا هو كلام ابن ...
تيمية بطوله) ! ، والقارئ يعجب ويحار في تفسير هذا الحذف في هذا الموضع:
هل هو الحرص على تكذيب ابن تيمية وعدم الثقة فيما ينقل، مع أن الرجل لم
يرمه أحد من خصومه بالكذب والتقول، وخاصة في نقل آراء الناس والفرق، بل
المشهور عنه أن الناس تضبط ما عندها من آراء الفرق والمذاهب على نقله. أم
لأنه ذكر الشيعة فيمن ذكر ممن يقول بخلق أفعال العباد؛ فخاف البوطي من تبعة
النقل، أو جامل على الأقل، عادّاً ذلك من الحكمة مثلاً! أم هو دافع العجلة
والتسرع وغليان الدم؟ الله أعلم أي ذلك كان!
إن الشيخ يثير الشفقة حقاً.
يثير الشفقة حينما يحرص على أن يصم ابن تيمية بالتناقض.
ويثير الشفقة حينما يخلط اجتهاداته بكلام الكوثري.
ويثير الشفقة حين يقول: (ودونك فاستعرض ما هو مدون في مجموع فتاوى
ابن تيمية تجده يكرر الحكم بتكفير من ينساق وراء أحد هذين الوهمين في كل
مناسبة) .
ويثير الشفقة حينما يعد بنقل بعض من تلك النصوص، لكنه لم يفعل، ولكن؛ ... ألم يعلق الأمر على مشيئة الله؟ ! إذن، فلا لوم عليه!
تبقى مسألة أخيرة تتعلق بهذا الجدل غير المتكافئ، فالقارئ لتعليق البوطي
يخرج بنتيجة وهي أن ابن تيمية يرى رأي هؤلاء الذين يقولون: (إن أفعال العباد
محدثة، فعلها فاعلوها، ولم يخلقها الله عز وجل) .
بل يفهم القارئ - من حدته وخوضه يميناً وشمالاً - أن لا أحد يقول بهذا ...
القول إلا ابن تيمية، وهذا واضح من نفيه أن يكون أحد قد قال بذلك، وأنه (ما
سمع ولا رأى) ، لا هو ولا العلامة المحقق الكوثري [3] أن القدرية يعتقدون ذلك، ...
ولا يدري أن رأي ابن تيمية فيمن يقول بهذا القول يوجد في غير هذا الوضع الذي
يختص - فقط - في بيان حقيقة بعض الإجماعات التي يدعيها بعض الناس؟ وقد
أشار رحمه الله إلى ذلك بعبارة تبين مقصوده، وتدفع كل توهم فقال: (والمقصود
هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات) . أي لا مجال هنا لتفصيل
القول فيمن قال بالتكفير ومن لم يقل، لكن (الهوى يعمي وبصم) كما كتب الكوثري
في واحد من تعاليقه، وما أصدق هذا القول فيه وفي من يمشي على خطاه.
ويدعي أيضاً أن ابن تيمية (يمارس سعادة ولذة كبيرة في نقده معظم الأئمة
والعلماء) .
والجواب على ذلك: أما أن ابن تيمية ينقد كثيراً من العلماء فهذا حق، ولا
حرج عليه في ذلك إن شاء الله، فلم يزل العلماء ينقد بعضهم بعضاً ويرد بعضهم
على بعض، وهذا مما يفتخر به الفكر الإسلامي، ونعتبره مظهراً من مظاهر حرية
الفكر التي طبعت هذا التاريخ، وأما أنه يمارس سعادة ولذة كبيرة في النقد فهذا
يحتاج إلى بينة: إما من إقرار ابن تيمية نفسه؛ كأن يقول مثلاً: ما أسعدني حين
أنقد عالماً! أو: ما ألذ الهجوم على فلان من العلماء؛ أو ما في معنى ذلك! أو أن
ينقل لنا البوطي شيئاً مما نقد به ابن تيمية غيره، ويضع أصابعنا على تلك السعادة
وتلك اللذة! وحيث إنه لا إقرار من ابن تيمية، بل عكس ذلك كثير ومثبوت في
تضاعيف مؤلفاته؛ ولا نقل من البوطي، ولم يدع هو لنا -كما لم نعهد عنده -
القدرة على التدسس في مشاعر وأحاسيس ونوايا غيره؛ فستظل هذه دعوى لا تضر
إلا مدعيها.
ويتطرف البوطي في أوهامه وتقديراته، فيرى أن ابن تيمية يستسيغ
ويستجيز تبرئة الفلاسفة القائلين بقدم العالم من الكفر إذا كان في ذلك وسيلة لتخطئة
ابن حزم وبيان جهله! وهذه عبارته:
(.. إذ لما كان في الانتصار لمذهب الفلاسفة في هذه المسألة، بإبعاد ... تهمة الكفر عنهم بسببها على أقل تقدير، ما يظهر ابن حزم في الإجماع الذي نقله، ... في مظهر المخطئ المتسرع الذي لا يتثبت في الأحكام، فلقد كان للجنوح إلى مذهب الفلاسفة وتهوين القول بالقدم النوعي للمادة، ما يبرره! ولعل - من أقوى المبررات في نظره وشعوره [4] أن يصل إلى تخطئة ابن حزم وبيان جهله!) [كتابه ص 173] .
وحتى يكتمل عجبنا من هذه الجرأة، (ونستحي أن نسميها بغير هذا الاسم)
لنستمع إلى رأي ابن تيمية بابن حزم الذي يدافع عنه البوطي هذا الدفاع المبطل،
ويرى أن ابن تيمية يستحل الكفر إذا كان ذلك سبيلاً إلى ماذا؟ ! إلي أمر بسيط
بالنسبة للكفر؟ تخطئة ابن حزم وبيان جهله!
يقول ابن تيمية معقباً على ذم العلماء لابن حزم بسبب اتباعه الظاهر، ونفيه المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وما في كلامه من الواقعية في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر:
( ... وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا
مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال،
والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي
يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح
والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء) [مجموع
الفتاوى 4/19-20] .
ولا ندري بعد هذا كيف نوفق بين هذه الشهادة التي يشهدها ابن تيمية في ابن
حزم، وبين الشهادة التي يستخلصها البوطي ويقول: إنها ديدن ابن تيمية لا مع ابن
حزم بل مع معظم الأئمة والعلماء! والأعجب من هذا أنه يعتبر هذه الافتراءات
والترهات التي أوصله إليها تفكيره دفاعاً عن ابن تيمية حيث يقول:
(ولعل خير دفاع عنه (عن ابن تيمية) في تحليل أسباب هذا التناقض ...
العجيب الذي تلبس به، أن نتذكر طبيعته النقدية لمعظم الأئمة والعلماء، حتى لكأنه ...
يمارس سعادة ولذة كبيرة في ذلك) . أرأيت إلى هذا الدفاع؟ ! ألا يذكرك بتسمية
هجوم إسرائيل وإغارتها على ما حواليها من الدول واحتلالها أرضها دفاعاً؟ !
بل لا يستحي من تكرار هذا المعنى عندما يقول: (إن هذا التحليل لهذا
الاضطراب المتناقض [5] في موقف ابن تيمية في هذه المسألة هو - بنظري - ...
أقرب ما ينسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلامية التي لا نحب أن نرتاب فيها) ...
والحمد لله على أن وضع هذا الاحتراس: (بنظري) في ثنايا هذه النتيجة التي
وصل إليها، فهو احتراس جميل بقدر ما هو منصف، حيث لم يسد الباب أمام
أنظار أخرى تقرأ لابن تيمية وتحكم عليه.
المسألة الثانية: نظرية الكسب:
ينسب البوطي لابن تيمية مخالفته عامة أهل السنة والجماعة. ومن يسميهم
عامة أهل السنة والجماعة هنا هم الأشاعرة.
وعلى عادة البوطي في الإيهام والعبارات الملتوية، يدعي على الخصم
ادعاءات، ثم يبني على هذه الادعاءات نتائج، ثم يضع هذه النتائج في قوالب
المسلمات التي لا تقبل الجدل كما فعل هنا. فبعد أن أشار إلى رأي الفلاسفة القدماء
من أن الأشياء تكمن فيها أسباب ذاتية بالطبع؛ وإلى رأى بعض الفلاسفة
(الإسلاميين) كالفارابي وابن رشد من أن الأشياء فيها أسباب أودعها الله فيها؛ ... ويضع قاسماً مشتركاً بين أولئك وهؤلاء، وهو أن في الأشياء فاعلية كامنة في ذاتها ...
تسمى العلة أو السبب، ليصل إلى نتيجة موافقة ابن تيمية - القائل بالأسباب - ...
للفلاسفة، وهذا ما لا يغتفر.
ومن حيث الأصل فإن الحكم بصحة الرأي لا ينبني على موافقته لهذا الفريق
من الناس مهما كانوا، أو عدم موافقته، بل لا بد أن يكون هذا الرأي صحيحاً في
نفسه حتى لو أعرض عنه من أعرض، أو أخذ به من أخذ، ولكن العجب لا
ينقضي من البوطي الذي يتجاوز عن الغزالي في تبنيه منطق اليونان برمته،
وحكمه (أنه من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً) [6] ، بل يقرر أن ذلك ما هو جدير ... أن يشكره عليه ابن تيمية وغيره؛ فإذا ما قال ابن تيمية برأي وتبين أن ...
للفلاسفة قولاً يوافقه كانت جريمة، وأي جريمة!
نقول هذا ونتحفظ كثيراً على أن ابن تيمية وافق الفلاسفة، فهكذا أراد البوطي، وإلا فابن تيمية يرى رأيه مستنداً قبل كل شيء وبعده إلى الكتاب والسنة - وهذا
شأنه دائماً - وحتى في هذه المسألة فإن رأيه في غاية الوضوح والسطوع، ولا
يعكر عليه إلا الابتسار والتشويه والتدخل المغرض في ليِّ عباراته والتقول عليه،
وبتر ما يدفع أي شبهة في فكر الرجل وعقيدته، وكمثال على هذا البتر المغرض
فإن البوطي نقل عنه قوله:
(ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما ...
خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في ...
الحيوان التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد) . فسكت البوطي هنا، ووقف،
ووقوفه مريب جداً حيث إن تتمة الفقرة تقول: (كما أن من جعلها (أي الأسباب)
هي المبدعة فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره) . [مجموع الفتاوى 3/112]
واستبعاد هذه العبارة من الاستشهاد يهدم تهويلة البوطي من أساسها من أن (ابن
تيمية يثبت بكلامه هذا العلة الأرسطاطاليسية صراحة (! ) ويكرر نظرية الغريزة
بمعناها الفلسفي الذي يعطي المادة فعالية ذاتية مستقلة. وبتعبير أدق: إن ابن تيمية
يثبت من خلال كلامه هذا في السبب (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب (!) ،
وبهذا يخرج ابن تيمية هنا عن روح المذهب الإسلامي، ويعتنق أكبر الأفكار التي
يقوم عليها المنطق الأرسطاطاليسي كما يقرر الدكتور علي سامي النشار)
[كتابه 175] . ...
ومرة أخرى ننبه إلى أنه هنا خلط كلامه بكلام النشار، فبينما يبتدئ الفقرة
فتظن أن هذا كلامه؛ إذا به يختتمها محيلاً على النشار، لكن أين ينتهي كلامه؛
وأين يبدأ كلام النشار؛ فهذا غير مهم عنده.
ونحن هنا ننقل عبارة النشار للمقارنة، فهو يقول:
(.. أو بمعنى موجز إنه أثبت العلية الأرسططاليسية (زاد البوطي هنا: صراحة!) فأثبت بقوله هو الغريزة أو النحيزة، أو الخلق (اجتهد البوطي هنا
فأضاف كلمة: نظرية، وأضاف القوسين، وأضاف جملة: بمعناها الفلسفي الذي
يعطي المادة فاعليه ذاتية مستقلة. وهذا حتى يثبت إضافته على ما جاء به النشار،
فكم ترك الأول للآخر) أو بمعنى أدق: أثبت في السبب (ماهية) وجوهراً هو ...
مسبب السبب (عبارة البوطي: (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب) ! وبهذا ...
خرج عن روح المذهب الإسلامي، واعتنق أكبر الأفكار التي يقوم عليها المنطق
الأرسططاليسي) [7] . ...
البوطي والنشار:
لابد هنا من كلمة تضاف حول النشار، نضعها لما لها من مساس بمنهج
البوطي، فقد قرأت ما كتبه النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام)
وخاصة ما كتبه عن الغزالي وابن تيمية، ووجدته في الأغلب ينصف الرجلين،
ولا يجانبه الصواب إلا في هذا الرأي الذي يقّوِّم فيه رأي ابن تيمية في نظرية
(الأسباب) ، والنشار بالدرجة الأولى دارس فلسفة، وقد يكون معذوراً في اعتباره
أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة فقط، وأن من خالف الأشاعرة فقد خالف أهل
السنة، وأن نصيبه من الاعتماد على الأدلة - الشرعية في بحثه قليل إن لم يكن
معدوماً. وإنما قصاراه أقوال يجمعها لهذا وذاك، ومقارنات بين آراء فلاسفة
اليونان والغرب؛ وفلاسفة المسلمين، وعلى هذا فإذا قال ما قال بحكم التقليد فهذا ما
أداه إليه علمه، على أن له في تقييم تراث ابن تيمية ما يغضب البوطي ويضيق به
صدره، فهو القائل في ابن تيمية: (وليس هناك في الحقيقة من تكلم - فيما قبل
العصور الحديثة بما تكلم به ابن تيمية. لقد وصل حقاً إلى أوج الدرج في فلسفة ...
المنهج التجريبي بنقده للمنطق اليوناني القياسي، وبدعوته إلى المنطق الإسلامي
التجريبي، وعبر عن روح الحضارة الإسلامية الحقة في عصر الانهيار الحضاري
الإسلامي الذي عاش فيه) [8] . ...
ويقول في كتاب ابن تيمية: (الرد على المنطقيين) :
(أعظم كتاب في التراث الإسلامي عن المنهج، تتبع فيه مؤلفه تاريخ ...
المنطق الأرسططاليسي والهجوم عليه، ثم وضع هو آراءه في هذا المنطق في
أصالة نادرة وعبقرية فذة) [9] . ...
من المؤكد أن الشيخ البوطي قد مر على هذه الآراء في كتاب النشار، ولكن
لم يختر إلا ما يوافق هواه بغض النظر عن صحته. وكمقارنة بين الرجلين:
النشار والبوطي؛ فإن النشار يكتب عن ابن تيمية بعقلية العالم الحيادي، وحتى لو
أخطأ في بعض آرائه فلا يمنعه التعصب والهوى أن يعلن ما يعتقد أنه صواب، وما
يبدو من خطئه فمرجعه إلى ما ألفه واعتاده من آراء، أما البوطي فيكتب عن ابن
تيمية بعقلية الذي يصيح: يالثارات الغزالي، وعلم الكلام، وابن حزم، والصوفية، وابن عربي، ونظرية الكسب، يالثارات كل الأشخاص، وكل المسائل التي ...
تعرض لها ابن تيمية وعصف بها. وفي الجملة؛ فمن الصعب عليه أن ينصف من
يرى أن مصلحته في الهجوم عليه، إنه قد يوهمك أنه يحاول الإنصاف، ولكن
طبيعته لا تطاوعه في ذلك، وهذه كتبه هل ترى فيها شيئاً من إنصاف من ينزل
بساحتهم، بل هذا كتابه (السلفية) اقرأه وقلب النظر فيه، فإنك لن تعثر فيه على
رائحة إنصاف.
ومما عرضناه حول هاتين المسألتين اللتين جاء بهما البوطي ليستدل على
تخبط وتناقض ابن تيمية تبين لنا: من المتخبط ومن المتناقض؟ على أن عدم
الأصالة في الفهم؛ وعدم إصابة المعنى الصحيح للكلام قد تغتفر، فالناس فهوم
وطاقات. لكن الذي لا يغتفر هو البعد عن الأمانة في النقل، وتحريف الكلام
ليوافق الهوى.
وكلمة أخيرة: فالبوطي ليس مبدعاً في التعرض لهاتين المسألتين: لا من
حيث اختيارهما؛ ولا من حيث معالجتهما. ولم يفعل سوى أن دلل على قدرة لا
يحسد عليها في ادعاء اجتهادات ليست له، ويا ليتها كانت اجتهادات صحيحة! إذن
لهان الخطب! ولكنها اجتهادات خطأ فأصبحت بتبني البوطي لها وتعليقه عليها خطأ
مركباً.
__________
(*) سقطت من عنوان المقال في العدد الماضي كلمة: (البوطي) خطأ، فنرجو المعذرة.
(1) ص 166.
(2) الدفاع لعدم إثبات بقية الكلام هنا ليس العجلة، بدليل أنه ساق بعد ذلك قطعة من كلام ابن تيمية، لكن بعد إسقاط الفقرة التي ساق فيها ابن تيمية أدلته وأسماء الفرق المخالفة.
(3) ماأرخص الألقاب التي تكال جزافاً في سوق العلم! .
(4) حتى شعور ابن تيمية يدعي البوطي الإحاطة به! .
(5) لم أستطع هضم ولا فهم: (الاضطراب المتناقض) ،وأرجو ممن يأنس من نفسه القدرة على فهم هذه العبارة تفهيمي إياها.
(6) مناهج البحث للنشار 172 نقلاً عن المستصفى للغزالي 101/1.
(7) اختار البوطي الفعل المضارع: يخرج ويعتنق، ولعل ذلك للدلالة على الاستمرار، وليطبع الكلام بأسلوبه المميز!! .
(8) مناهج البحث للنشار 270- 271.
(9) مناهج البحث للنشار 369.(38/16)
خواطر في الدعوة
إنَّه أمر الله
محمد العبدة
كنا نقول في السنوات السابقة: إن المسلمين لا ينقصهم الإخلاص، وإنما جاء
الضعف والتقصير من جانب قلة الصواب ومعرفة سنن الله في التغيير، وهذا
الكلام - بمجمله - مازال صحيحاً، ولكن عند التدقيق سوف نجد أن
الإخلاص أيضاً تشوبه شوائب، ويحول حوله حوائل، من أعظمها حب الرئاسة، هذا الداء العضال الذي أهلك الناس قديماً وحديثاً، حتى قيل إنه آخر داء يخرج من قلوب العلماء، فكيف بالدهماء وأصحاب الأهواء و (مجانين الزعامة) .
وهذا الداء وإن كان غريزة في جميع البشر، إلا أنه قد يكون أظهر وأوضح
في بعض الشعوب والعرب حظهم وافر منه، إلا إذا هذبهم الإسلام وردهم إلى
الاعتدال والجادة المستقيمة، وقد فعل ذلك في الرعيل الأول فظهر أمثال أبي عبيدة ابن الجراح أمين الأمة، والذي لا يهمه إن كان أميراً أو مأجوراً وقد مدح الرسول - ...
صلى الله عليه وسلم- ذاك المؤمن في قوله: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في
سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة،
وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع له» [1] ... ولذلك قال العلماء: (ما صد عن الله مثل طلب الرفعة، ولا يفلح من شُمت
رائحة الرياسة منه) .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطي من هذه الدنيا المؤمن والكافر، وذلك
لهوانها ومنزلتها عنده، ولكنه سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في
الأرض على يد أناس عندهم شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في
الأرض، فكيف إذا كانوا مشعبذين يتخذون الدين مطية للدنيا، يبيعون دينهم بعرض
قليل، ويسخرون كل شيء لأهوائهم ومطامعهم، فهؤلاء أبعد وأبعد عن التمكين،
لأنه أمر الله ولا يعطيه إلا لمن أحب.
والعجيب أن زعماء الغرب عندما تنتهي مدة رئاستهم يرجعون إلى مكانهم
الأول ويعيشون مع المجتمع كأفراد عاديين، وربما رجع المدرس إلى عمله والتاجر
إلى تجارته، ولا يبحثون عن الرئاسة مرة ثانية، فهل يكون هؤلاء أقل حباً للرئاسة
منا وذلك لما اعتادوه من النظام الذي ارتضوه لأنفسهم، ونحن عندنا كتاب ربنا
يؤدبنا ويهذبنا!
أيكون لغير المسلمين منظمات ومؤسسات استطاعوا من خلالها التعايش بينهم، ولم تنهدم بسبب تسلط واحد منهم، ولا يقوم للمسلمين مثل ذلك، ولا يجتمعون
على صيغة تحل فيها عقد حب الرئاسة، ويتنازل المسلم لأخيه قليلاً حتى تستمر
آصرة التعاون؟
نرجو أن يكون لهم مثل ذلك وخاصة في مثل هذه الأيام.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد.(38/34)
منهج أهل السنة في
النقد والحكم على الآخرين
هشام بن إسماعيل
إن الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو عدة أمور:
أولاً: أهمية بيان منهج أهل السنة في النقد والحكم على الآخرين، لكثرة
صدور الأحكام من جهات إلى أخرى دون تحري المنهج السليم في إصدار الأحكام،
مما أدى إلى الوقوع في أخطاء جسيمة في حق الآخرين.
ثانياً: حاجة المجتمع إلى أن تكون عنده قواعد عامة في الحكم على الآخرين، ليكون الحكم بعلم وعدل وإنصاف، يقول ابن تيمية رحمه الله: (لابد أن يكون
مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات
كيف وقعت، وإلا يبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات،
فيتولد فساد عظيم) . [1]
ثالثاً: عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى.
رابعاً: الآثار السيئة المترتبة بسبب الانحراف عن هذا المنهج، من بخس
للناس، وتقطيع الأواصر، وحدوث الفرقة، ووقوع الغيبة والحسد والبغضاء،
وغير ذلك من الأدواء الكثيرة، والتي لا تخفى على القارئ لكثرة وقوع هذا الأمر.
القاعدة الأولى
الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين
حرم الله عز وجل الغيبة في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقال الله عز وجل: [وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ] [الحجرات /12] .
وتفسير الغيبة جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما
الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن
كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد
بهته» [2] .
ومعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن حرمة الأعراض بحرمة يوم
عرفة من الشهر الحرام في البيت الحرام، فقال: «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم
حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت» [3] .
وعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خيار
عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله: المشاءون بالنميمة، المفرقون
للأحبة، الباغون للبرآء العنت» [4] .
ومعنى الباغون للبرآء العنت: أي الذين يحبون أن تقع المشقة للأبرياء،
وغالباً لا يكون هذا إلا عن حسد وحقد.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تؤذوا المسلمين،
ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله
عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» [5] .
وقد كان السلف -عليهم رحمة الله - من أشد الناس بعداً عن الغيبة والخوف
منها.
ومن ذلك ما قاله البخاري - رحمه الله -: سمعت أبا عاصم يقول: منذ أن
عقلت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدا قط [6] .
وقال البخاري - رحمه الله -: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت
أحداً قال (الذهبي) : صدق رحمه الله، ومن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل،
علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه ... حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني
اغتبت أحداً، وهذا والله غاية الورع [7] .
وقال رحمه الله: (ما اغتبت أحداً قط منذ أن علمت أن الغيبة تضر أهلها) [8] .
بل إن المغتاب في الحقيقة يقدم حسناته إلى من يغتابه، حتى إن عبد الرحمن
ابن مهدي - رحمه الله - قال: (لولا أني أكره أن يعصى الله، لتمنيت أن لا يبقى
أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم
يعمل بها) [9] .
وأما ما يفعله بعض من ينتسب إلى الدعوة في هذا الوقت من غيبة الآخرين
بحجة التقويم والإصلاح، فإنه ينبغي لهم قبل أن يتكلموا في غيرهم أن يتدبروا عدة
أمور:
أولاً: يسأل نفسه، ما هو الدافع الحقيقي لكلامه في غيره؟ هل هو الإخلاص
والنصح لله ورسوله وللمسلمين؟ أم هو هوى خفي، أو جلي؟ أم هو حسد
وكراهية له؟ !
فإنه كثيراً ما يقع الأشخاص في غيبة غيرهم بسبب أحد الأمور المذمومة
السابقة، ويظن أن دافعه هو النصح وإرادة الخير، وهذا مزلق نفسي دقيق قد لا
ينتبه له كثير من الناس إلا بعد تفكر عميق وبإخلاص وتجرد لله تعالى [10]
ثانياً: ينظر في هذا الدافع الذي دفعه للكلام في أخيه المسلم، هل هو من
الحالات التي تجوز فيها الغيبة أم لا؟ [11] .
ثالثاً: أن يتأمل كثيراً قبل أن يقدم على الكلام في الآخرين: ما هو جوابي
عند الله تعالى يوم القيامة إذا سألني: يا عبدي فلان لم قلت في فلان كذا وكذا؟
وليتذكر أن الله تعالى يقول: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] [البقرة 235] .
القاعدة الثانية
تقديم حسن الظن بالمسلم
والأصل في هذه القاعدة هو قول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا] [الحجرات 12] .
فأمر الله عز وجل باجتناب كثير من الظن لأن بعض هذا الكثير إثم، وأتبع
ذلك بالنهي عن التجسس، إشارة إلى أن التجسس لا يقع في الغالب إلا بسبب سوء
الظن.
وأمر المسلم - في الأصل - قائم على الستر وحسن الظن به، ولذلك أمر الله
عز وجل المؤمنين بحسن الظن عند سماعهم لقدح في إخوانهم المسلمين، بل وشدد
النكير على من تكلم بما سمع من قدح في إخوانه.
ففي حادثة الإفك، عندما قيل ما قيل، بيّن الله عز وجل الموقف الصحيح
الذي ينبغي لكل مسلم أن يقفه، فقال سبحانه وتعالى: [لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ] ثم بيّن سبحانه وتعالى أن
التلفظ بهذا الكلام ونقله أمر عظيم، فقال سبحانه وتعالى: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (*) وَلَوْلا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] ثم وعظنا الله
عز وجل أن نعود إلى الوقوع في مثل هذا الذنب العظيم فقال: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن
تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] .
وقد بيّن سبحانه وتعالى أن مجرد نقل الجرح في الآخرين بلا ضرورة شرعية، وبلا تثبت وروية، أنه إثم، فقال سبحانه وتعالى: [لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ
مِنَ الإِثْمِ] .
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل
ما سمع» [12] .
وبوب الإمام مسلم في مقدمة الصحيح: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع،
وأورد تحته الحديث السابق، كما أورد قول الإمام مالك لابن وهب: اعلم أنه ليس
يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدث بكل ما سمع.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن
بعض ما سمع [13] .
وقد أمر الله عز وجل بالتثبت من الأخبار فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]
[الحجرات 6] .
القاعدة الثالثة
الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل إنصاف
والأصل في هذه القاعدة هو قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة 8] ، وقوله عز وجل: [وَلاَ تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود85] ونحو ذلك من الآيات.
يقول ابن جرير في آية المائدة: (يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا
بالله ورسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم
وأعدائكم، ولا تجورا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم
لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم
لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري.
وأما قوله: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا] ، فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قوم أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم من العداوة) [14] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع) [15] .
وقال الذهبي في ترجمة الفضيل: (قلت: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم
فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة
الناس، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في
العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع) [16] .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً، يتضح فيه المنهج الصحيح في
الحكم على الآخرين - وخاصة العلماء - إذا أخطأوا حتى في مسائل الاعتقاد،
يقول: (قلت: أبو ذر (يعني الهروي) فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث
والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن
والفضائل ما هو معروف به، وقد كان قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن
الباقلاني وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما
ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي، على طريقة ابن
خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به،
ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل
إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي، فأخذ طريق أبي جعفر السمناني الحنفي
صاحب القاضي أبي بكر ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي، فاخذ طريقة أبي
المعالي في الإرشاد.
ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله
في الرد على كثير من الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما
لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وعدل وإنصاف، لكن لما التبس
عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء وعقلاء، احتاجوا إلى
طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل
العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك:
ا- منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل.
2- ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [الحشر 10] .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله
عليه وسلم-، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي
استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]
[البقرة 286] .
ومن خلال النصوص السابقة؛ نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره - إن احتاج إلى ذلك شرعاً - إلا:
1- بعلم.
2- وعدل وإنصاف.
فمن تكلم في غيره بغير علم، فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف
الصالح، مخالف لقوله تعالى: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء 36] .
ومن تكلم في غيره بظلم وجور فقد خالف قوله تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] والكلام في الآخرين بدون علم، أو
بظلم وهوى سبب لكثير من التفرق بالقلوب، وحدوث الشحناء والحسد والتباغض،
بل سبب الفشل وذهاب وحدة الصف وقوته، والله المستعان.
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية (5/83) .
(2) رواه مسلم 4/2001.
(3) المصدر السابق 2/886-892.
(4) أخرجه أحمد 4/227، وعزاه صاحب حصائد الألسن ص 68 إلى صحيح الترغيب والترهيب، باب الترهيب من النميمة، وهذا الجزء لم يطبع.
(5) صحيح سنن الترمذي (2/200) .
(6) التاريخ الكبير 4/336.
(7) سير أعلام النبلاء 12/439.
(8) المرجع السابق 12/441.
(9) سير أعلام النبلاء 9/195.
(10) وللمعلمي في التنكيل 2/180 كلام نفيس جداً عن اتباع الهوى، ذكر فيه بعض مزالق الهوى الخفية.
(11) وانظر ما ذكره الشوكاني في كتابه: رفع الريبة عما لا يجوز من الغيبة.
(12) أخرجه مسلم في المقدمة برقم 5.
(13) المرجع السابق 1/10-11.
(14) انظر تفسير ابن جرير 10/95 تحقيق: أحمد محمود شاكر.
(15) منهاج السنة النبوية 4/337.
(16) انظر سير أعلام النبلاء 8/448.
(17) انظر تعارض العقل والنقل 2/101-103 (هامش غير مشار إليه ماس) .(38/36)
قراءة في كتاب
أزمتنا الحضارية
في ضوء سنة الله في الخلق
تأليف د. أحمد محمد كنعان
عرض وتقديم: محمد السيد المليجي
من رزق نور البصيرة، ونعمة الاستنباط، يستطيع أن يخرج من معطيات
الطبيعة التي تمثلت في سنة الله في مخلوقاته، الكثير والكثير من سبل التقدم
ووسائل الرفاهية التي تعود على الإنسان بالخير الوفير في وقته الذي يعيش فيه.
هذا ما يريده الدكتور كنعان أن يجسده في بحثه القيم.
دور المنهج السماوي في بناء الحضارات:
وفي وقفة سريعة وإطلالة عاجلة على أهم ما احتواه الباب الأول، بين لنا
الكاتب أهم الأسباب التي حالت دون تقدمنا ورقي مجتمعنا الإسلامي في العصر
الذي نعيش فيه والتي كان من أهمها (الغفلة عن منهج الله) .
فقد قدم لنا الباحث أهمية النظر في السنن التي تسير عليها المخلوقات، وفهم
مرادها وتسخيرها الصحيح لكي نستخلص منها ما يعيننا على صنع حضارة إسلامية
عريقة.
فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم ولا معرفة بالسنن التي تتحكم في حياة
الأفراد والمجتمعات، جاء الإسلام بقرآنه ودستوره الأزلي، فقدم لهم تلخيصاً وافياً
دقيقاً عن تلك السنن، حتى إذا فهموها وأخذوا بها في حياتهم، تغيرت نظرتهم
للكون والحياة تغييراً جذرياً، ولم يلبثوا أن أصبحوا أمة واحدة يشد بعضها بعضاً.
كما اكتسبت الأمة الإسلامية إلى جانب ذلك قدرة بفضل الله باهرة على تسخير
ما في أيديها لتنتفع به وتفيد به الآخرين، فحملت إليهم نور الهداية والرحمة حتى
انتشرت راية التوحيد في أرجاء المعمورة، وقد تم هذا الفتح المبين في سنوات
معدودات لا تعد شيئاً في عمر التاريخ ...
وهذا النور الذي استمر شعاعه ألف سنة بكاملها، دعا الكاتب إلى هذا التساؤل
المنطقي: ما الذي تغير حتى عاد المسلمون فانتكسوا؟ وكيف حط التخلف رحاله
في ديارهم بعد أن ظلت الحضارة الإسلامية أولى الحضارات تقدماً ورقياً على مدى
ألف سنة؟
يسوق لنا الباحث وجهة نظره، وجوابه عن هذا التساؤل في كلمتين خفيفتين
هما (الغفلة عن منهج الله)
وأعرب الكاتب عن مراده في معنى الغفلة حيث قال: وأهم ما تعنيه هذه
الغفلة، تجاهل السنن الربانية التي تحكم حياة الأفراد والأمم، وفهم هذه السنن
وتسخيرها على الوجه الصحيح، بالإضافة إلى ضعف اهتمامنا بمسألة السير في
الأرض، والبحث عن السنن التي يمكن أن تعيننا في تصريف شؤوننا المختلفة،
وتذلل لنا الصعاب وتيسر لنا أمر عمارة الأرض، وفق المنهج الذي يأمرنا إسلامنا
بإقامته في واقع الحياة، فالذي يطلب الأسباب لابد وأن يجد من يقوده إليها، وهنا
تبدأ رحلته معها.
فعلى قدر تسخيرها تجاه الطريق الصحيح يكون هناك التقدم والرقي
والإزدهار.
من ثمار النظر في السنن الكونية:
يطل علينا الباب الثاني والذي ضمنه الباحث عدة ثمار هي نتيجة للنظر
والتفكر في السنن الكونية.
وإن من أغلى هذه الثمار (الإيمان بالله تعالى) الذي يؤكد فهمنا واستجابتنا
والإقرار بأن هذا الكون البديع في آياته، لابد له من مبدع أوجد هذه السنن وسيرها
حسبما يريد الصالح العام للخلائق.
وبجانب هذه الثمرة اليانعة (ثمرة الإيمان) هناك ثمرات عديدة لها مساس
مباشر وعميق بسلوكنا وحركتنا في الحياة، ومنها على سبيل المثال، الحرية،
العلم، وهو المعرفة اليقينية بالسنن التي تحكم جزئية من جزئيات هذا الوجود.
مبدأ الاجتهاد في الشريعة الإسلامية:
هذه نقطة أخرى من نقاط الباب الثاني تعرض لها المؤلف ليثبت للغافلين عن
المنهج الإسلامي القديم، موافقته ومطالبته بالتفكر والاجتهاد القائم على مقدمات
علمية صحيحة سابقة، بالإضافة إلى الإعراب عن أهمية وجود الاستنباط في
المنهج الإسلامي بما يكفل لحياة الناس في كل وقت وحين حياة هادئة مطمئنة
يعيشون فيها.
فقد قسم المؤلف الاجتهاد في الشريعة الإسلامية على قسمين:
1- مسائل لا يجوز الاجتهاد فيها بل يجب الالتزام بالأحكام الشرعية التي
وردت بخصوصها مثل الصلوات الخمس والزكاة والصوم وتحريم الجرائم كالقتل
والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وما ورد فيها من عقوبات مقدرة مما هو
معروف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
2- مسائل يمكن الاجتهاد فيها إما لعدم ورود نص فيها، وإما لأنه ورد نص
ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معاً، فهنا المسائل يجوز الاجتهاد فيها
للوصول إلى حكم شرعي أو لمعرفة السنة التي تحكمها، وبذلك يجدد الكاتب تأكيد
الإسلام على أهمية الاجتهاد وثمرة ذلك على الفرد والمجتمع.
خلاصة النتائج التي توصل إليها الباحث:
ومع مطلع الفصل الثالث الذي يبين لنا قرب انتهاء الرحلة، يقدم لنا الدكتور
كنعان خلاصة النتائج التي توصل إليها وتعيننا في نفس الوقت على فهم طبيعة
الأزمة التي تحل بنا وترشدنا أيضاً إلى الطريقة العلمية والميسرة لتجاوز العقبات.
ومن بعض هذه النتائج:
1- أن لهذا الكون ربا، خلق كل ما في هذا الكون من خلائق وأخضها جميعاً
لسنن كونية تحكم كل صغيرة وكبيرة منها.
2- تتصف هذه السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، بمجموعة من
الصفات التي تعطيها صيغة القانون الرياضي الصارم، فهي من جهة ثابتة لا تتبدل
ولا تتحول، ومن جهة ثانية مطردة، تتكرر على الوتيرة ذاتها كلما توافرت
شروطها وانتفت الموانع التي تحول دون بلوغها.
3- وسنة الله في الخلق تسري على كل شيء في هذا الوجود من غير تمييز
سواء أكان هذا الشيء مادياً أم معنوياً، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق
هذا الوجود لسنن الله، سواء شئنا أم أبينا، وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هذه
السنن لكي نتمكن من تسخيرها فعما ينفعنا، وإلا فإن مخالفة السنن أو معاندتها لا
تأتي بخير.
4- يقتضي معرفة السنة التي يقوم عليها أي عمل قبل الشروع فيه، فإذا
عرفنا سنته علينا أن نهيئ الشروط اللازمة لهذه السنة.
5- فإذا فشلنا في إنجاز العمل المطلوب فإن هذا الفشل يعني وقوع خلل ما في
الخطة، ويمكن أن نحصر مواضع الخلل في ثلاثة مواضع رئيسية:
ا- عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف أو عدم إصابة السنة التي توافق
العمل.
ب - وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السنة وبلوغها.
ج- وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط أو بأكثر من الشروط
اللازمة السنة التي تتحكم بالعمل.
وبهذه النتائج يصبح الباحث مصيباً في محاولته في هذا المجال، وهي تعد
علامة بارزة تفتح الأبواب والنوافذ بمزيد من الدراسات والبحوث في هذا الموقع
الحيوي الهام والغائب بالنسبة لاستئناف المسلمين دورهم الحضاري، ومعالجة حالة
الركود التي يعيشونها.(38/45)
شذرات وقطوف
وفاء
وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليُغِصني بالطعام ويشرقني بالماء، وقد
استراح من لم تكن هذه صفته، وما مللت شيئاً قط بعد معرفتي به، وما رغبت
الاستبدال إلى سبب من أسبابي قد كنت لا أقول الألاَّف والإخوان ولكن في كل ما
يستعمل من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك.
ابن حزم
تعساء الغرب
(تثبت المعلومات التي تقع تحت ملاحظتنا بوضوح تام أن طريقتنا في
الجري وراء السعادة لا تثمر حياة طيبة، فنحن مجتمع من الناس التعساء على نحو ...
مزر، نعاني من الوحدة والقلق والاكتئاب والنزوع التدميري) .
فروم: الإنسان بين الجوهر والمظهر
مغامرات الأجداد
(نسي المسلمون الأيام السالفة التي كان فيها العشرون مسلماً لا غير ... يأتون من برشلونة إلى مزاكية من سواحل فرنسا ويستولون على جبل هناك ويبنون به حصناً ويتزايد عددهم حتى يصيروا مائة رجل، فيؤسسون هناك إمارة تعصف ريحها بجنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا، وتهادنها ملوك تلك النواحي، وتبقى خمساً وتسعين سنة مستولية على هذه الديار إلى أن تتألب الأمم الإفرنجية عليها) .
شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون
شاتي آل المهلب
قال الأخنس الطائي يمدح آل المهلب:
نزلت على آل المهلب شاتياً ... بعيداً عن الأوطان في الزمن المحل
فما زال بي معروفهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
***
(إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني) .
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
رسالة الجامعات (الرسمية) المتعارف عليها علمياً هي الوصول بالطلاب إلى
مستوى قوي ومتين ورفيع من المعرفة النظرية والتطبيقية، وهذا ما عملت وتعمل
له الجامعات في العالم قديماً وحديثاً. ولكننا نحن المسلمين - في مختلف أنحاء
الدنيا - ينبغي أن تكون رسالة الجامعة عندنا تزويداً بالعلوم، وترشيداً بالأخلاق في
وقت واحد.
(فالعلوم) في مفهوم الإسلام منذ جاءنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن
الكريم والسنة النبوية ليست مجرد نظريات وأفكار للتعليم أو الإلقاء أو التلقين
والحفظ؛ وإنما العلم في الإسلام: معرفة وسلوك، قول وعمل، فكر وخلق.
أحمد محمد جمال(38/50)
لمحات في طرق نقل التقنية
والتخلف التقني في العالم الإسلامي
د. عبد الله بن صالح الضويان
أية تكنولوجيا نريد:
مسألتان متعلقتان بنقل التكنولوجيا من حضارة إلى أخرى وهما:
1- ما يتعلق بالقوانين العلمية والتكنولوجيا التطبيقية.
2- ما يتعلق بالأهداف والمبادئ التي تجري تحت مظلتها وباتجاهها عمليات
البحث العلمي والتكنولوجيا، وتشكل هذه الأهداف جزاً لا يتجزء من موضوع العلم
والتكنولوجيا، مما يجعل عملية النقل عملية خطيرة وحساسة تحتاج إلى تمحيص
وتدقيق.
إن التقدم التكنولوجي المنشود ليس أحد المصنوعات الحديثة التي تشترى
بالبترول، وإنما هو حركة أمة تفاعلت مع واقعها ورفضت التواكل والخنوع
وتهيأت له أفكار نابعة من عقيدتها، اليوم ترى أحدث الآلات تباع في الأسواق
الاستهلاكية ولا يزيد ذلك الدول الإسلامية (النامية) إلا فقراً وتخلفاً واستعماراً أشد
وطأة. أمام هذا الوضع لا بد من الوعي بمشاكل الإنسان المسلم حتى يمكنه تقديم
البدائل الإيجابية المنطلقة من عقيدته.
إن التكنولوجيا الغربية بشقيها الشرقي والغربي ليس فيها حل لمشكلة الإنسان
لأن الفكر الغربي (الماركسي والرأسمالي) يتعامل مع الإنسان على أنه عالم أعداد
وأرقام، ولكن المسألة تختلف عندنا فعقيدتنا تنظر للإنسان على أنه خليفة في
الأرض وأن كل ما في الكون مسخر له.
في الوقت الراهن غالباً ما يحسم الأمر بالنسبة للاستفادة من التكنولوجيا
المعاصرة هو الاعتبارات السياسية لقادة الحكومات الإسلامية، مثلاً إجهاد بلادهم
بعملية التسليح للحفاظ على الكراسي، أو الميل إلى مشاريع تعطيهم الاعتزاز
والافتخار كمشاريع السدود والمطارات والمباني الضخمة التي يستهلك فيها رأس
المال وتدار من قبل شركات غير مسلمة مثلاً.
أو إشغال الشعوب بتكنولوجيا تزيد من تخلف المسلمين فمثلاً لقد أصبح بإمكان
الشباب المسلم مشاهدة مباراة كرة قدم تنقل إليه لحظياً من أوربا أو أمريكا بواسطة
قمر صناعي مصنوع من ألفه إلى يائه في الغرب، بينما في نفس الوقت لا يستطيع
أن يجري مكالمة هاتفية مع كثير من بقاع العالم الإسلامي ولكن يستطيع أي مواطن
مسلم في تونس أن يتابع قنوات التلفزيون الفرنسي.
ومما ينبغي ذكره أن حيازة نوع من التكنولوجيا في مجتمعاتنا لا يعني
بالضرورة التقدم بجميع جوانبه، ولتقريب هذا المفهوم، فإن المواطن العادي يفضل
مثلاً ساعة ثمينة لأنها لا تخطئ إلا ثواني قليلة كل ألف ساعة في الوقت الذي لا
يقاس الزمن الإجرائي أو زمن الإنجاز في بلداننا إلا بالأيام والأسابيع.
التكنولوجيا الملائمة:
إن ملائمة التكنولوجيا هي أهم المعايير في عملية النقل والمقصود ملاءمة
التكنولوجيا لظروف الدول النامية وينبغي النظر إلى الأمة الإسلامية كوحدة واحدة
(وإن كان هذا فيه شيء من المثالية) يغطي بعضها جوانب النقص عند البعض
الآخر، والملائمة تشمل ثلاثة معان.
ا- الملائمة الهندسية والفنية:
وهي الأساليب الفنية والميكانيكية المستخدمة في عمل لإتمامه بأعلى درجة
ممكنة من الدقة وبأقل قدر ممكن من هدر الموارد وبسرعة جيدة، فمثلاً لا يعتبر
المحراث الخشبي (الآن) تكنولوجياً ملائماً لحراثة الأرض مع أن ملائمة الأسلوب لا
تعين بالضرورة عدم قدرته على إتمام الأمر.
ب - الملائمة مع الظروف الجغرافية والبيئية:
من أهم أسباب نجاح الحضارة هو قدرتها على التكيف مع ظروف البيئة
المحلية، فمثلاً كان إنسان الجزيرة العربية متكيفاً مع البيئة عند استخدام بيوت
الطين المكيفة ذاتياً، في البيرو مثلاً أدى استخدام المبيدات الحشرية إلى ظهور
حشرات ضخمة قضت على جزء هام من إنتاج القطن، وقس على ذلك مثلاً مشكلة
السد العالي.
ج - الملائمة الاقتصادية:
كما أنه يتوجب على الدول المتقدمة (ذات رأس المال) أن تختار الأساليب
التكنولوجية التي تتطلب رأس مال كبير من أجل مستوى معين من الإنتاج
والخدمات، فإن نفس المنطق يدعو الدول النامية إلى استخدام تكنولوجيا كثيفة
العمالة نظراً لفائض عنصر العمل في الكثير من الدول النامية (تذكر أن عدد
المسلمين يبلغ المليار) .
ولكن الدول النامية (وخاصة الإسلامية) تواجه وضعاً اقتصادياً صعباً يجعلها
عاجزة عن الاستخدام الأمثل للأساليب التكنولوجية، لهذا يجب الأخذ بعين الاعتبار
عدة أمور مثل مدى توفر النقد الأجنبي عند هذه الدولة (أو الدول) ، مستوى التطور
الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي الذي بلغته الدولة التي تحاول إيجاد
التكنولوجيا الملائمة لظروفها.
إن التكنولوجيا الملائمة هي التي تعمل على إشراك أكبر قدر ممكن من الفنيين
والمهندسين والأيدي العاملة المدربة وغيرهم من أهل الاختصاص في المشاريع
بحيث تساهم في إبقاء هؤلاء في أوطانهم بدل أن ينضموا إلى العقول المهاجرة
وحدوث ما يسمى بـ (النقل المعاكس للتكنولوجيا) .
مظاهر التخلف التكنولوجي:
إن مظاهر التخلف التكنولوجي في مختلف البلدان الإسلامية متشابهة ويمكن
إدراج سمات وخصائص هذه البلدان وواقعها تجاه العلم والتطوير التكنولوجي بما
يلي:
1- تفشي الأمية إلى حد كبير بحيث أن كثيراً من الطاقات معطلة.
2- عدم الربط المباشر بين السياسات التعليمية والتربوية بسياسات التنمية
الشاملة في العالم الإسلامي ككل وعدم اعتبار أن الإنماء الكامل للفرد يحتل مركز
الصدارة في عملية التغيير المنشودة.
3- عدم وجود قاعدة صناعية وخاصة الصناعات الحديدية الثقيلة.
4- عدم وجود مؤسسات وأجهزة معنية بالتخطيط مركزياً لعملية نقل
التكنولوجيا وتوطينها.
5- عدم وجود أجهزة علمية للبحث العلمي وإن وجدت فليس هناك اهتمام
كبير بها (مالياً وبشرياً) وربطها بالأجهزة الأخرى في العالم الإسلامي.
6- عدم اشتراك العلميين والتقنيين وعلماء الاجتماع المسلمين اشتركاً علمياً
في إعداد الخطط.
7- لا تتوفر إحصائيات ومسوحات دقيقة لكافة الطاقات الإسلامية البشرية في
مختلف المجالات.
8- لا توجد سياسة واضحة للإعلام العلمي والتكنولوجي والجماهيري.
9- لا توجد علاقة بين المؤسسات العلمية (معاهد، جامعات) وبين تحديد
احتياجات التطور الصناعي والتقني.
10- لا يوجد برنامج واضح حول سبل تدفق المطبوعات العلمية والتقنية من
مختلف أنحاء العالم.
11- الاتجاه لتعريب العلوم والتكنولوجيا غير جاد.
12- عدم الاهتمام بتشجيع عقد الدورات والندوات التنشيطية في مختلف
مجالات العلم والتكنولوجيا.
13- عدم الجدية في الحد من عملية النقل المعاكس للتكنولوجيا المتمثلة بهجرة
الكفاءات والعقول المسلمة خارج بلادهم.
إن المؤسسات والحكومات مسؤولة مسؤولية كبرى تجاه هذا الوضع المتدني،
وهذا طبيعي طالما حركتها شهواتها ولم تحركها عقيدتها.
ومما ينبغي ملاحظته أنه مع تقدم الزمن فإن الدول الإسلامية تزداد تخلفاً
تكنولوجياً على نقيض الدول المتقدمة، من ذلك ما تدل عليه إحصائية من كتاب ألفه
مجموعة من الخبراء [1] أنه ارتفعت جملة صادرات الدول الصناعية إلى نحو
خمس عشرة دولة إسلامية في الشرق الأوسط في مجال الآلات من خمسة ونصف
بليون دولار عام 1985 إلى حوالي 100 بليون دولار عام 1982، ويوافق هذا
الارتفاع زيادة بلغت ثمانية أضعاف بمقياس الدولارات، وارتفعت فيما بعد أهمية
الصادرات الخدماتية وخاصة في المجالات التقنية والتسييرية وإدارة المشاريع.
__________
(1) لمزيد من التفصيل انظر مجلة الفيصل103 محرم 1406هـ ص67.(38/52)