أدب وتاريخ - قصة قصيرة
واستقام ربان الأسرة
أم أسامة خولة درويش
تمد (فاتن) يدها المرتعشة لترفع (مظروفاً) وجدته قد وضع تحت الباب
وتنظر إليه بدهشة وحيرة مربكة، إنه لزوجها الدكتور (عبد الحميد) وبعنوانه، ثم
تعطيه له بصمت ينبئ عما يدور في نفسها من تساؤلات ...
ينظر الدكتور للمظروف، وقد انقبضت أسارير وجهه، ويقول: غير معقول،
نفس عنواننا، وباسمي أيضاً ! .
ويفض الغلاف، ويتمتم قائلاً في دهشة:
- عجباً، إنه من ابني سامر! .
ويغوص في خواطره المبهمة:
كيف اهتدى سامر إلى منزلي هذا؟ ... لقد مضى على زواجي من (فاتن)
خمس سنوات وما عرّفت أحداً به ...
خواطر كثيرة.
- وهل تزوجت إلا من أجل الراحة والاستجمام؟ ! ثم يقول باستغراب:
- وماذا يريد سامر؟ ! لقد كنت في منزلهم أمس، أخذت لهم حاجتهم من
الطعام والأدوات المدرسية! !
ولا يعير (د. عبد الحميد) كلام زوجته أي انتباه، إنه مشغول بالرسالة
انشغالها بسرية بيتها وعدم معرفة العنوان حتى من أولاد زوجها!
وتدافعت الخواطر السريعة إلى (د. عبد الحميد) حالما رأى رسالة (سامر) :
- هل ألم بأحد إخوته خطر؟
-أم هل يريد تحديد موعد خطبة أخته (سلمى) ؟ !
-أم أن صاحب البيت قد طالبهم بأجرته؟ ! .
وفي بضع دقائق كانت الحقيقة تتضح وتظهر جلية بعد قراءة الرسالة، فقد
جاء فيها:
والدي الحبيب:
كم أبهجتنا زيارتك لبيتنا أمس، وكم سررت لسماع صوتك العذب يتردد صداه
في منزلنا، وغبطت أشقائي الصغار أنك ناجيتهم، ثم سارعت للخروج من الحمام
متلهفاً لرؤيتك، وإذا بي أجد البيت قد امتلاء طعاماً، وأشياء كثيرة - جزاك الله
خيراً -.
ولكني للأسف ما وجدتك، فقد وضعتها وغادرت المنزل بسبب أشغالك
الكثيرة - كما ذكرت والدتي حفظها الله -.
كم كنت أتمنى أن تخصص لنا من وقتك، وأن تجعل لنا نصيباً من يومك
لنحظى برؤيتك، ونستمتع بحلو حديثك، وجميل نصحك - لا حرمنا الله منك -
ولا أكتمك أني ما إن رأيت الطعام الوفير إلا وقلت في نفسي:
- يا سبحان الله! وهل يظن والدي أن السعادة في الطعام الوفير، والمتاع
الزائل؟ ! .
يا والدي العزيز: سامحك الله! إن الأغنام - وهي لا تهتم إلا بأكلها وشربها
- يتفقدها صاحبها باستمرار.
أتمنى أن نلقاك قريباً، أباً رؤوفاً كما كنا نعهدك من قبل. ونحن لن ننسى يا
والدي الحبيب حقوقك علينا، وارتباطك السعيد الذي حجبته عنا سنوات عدة.
لن نكون عثرة تحول دون سعادتك، وسنبقى أبناء بررة. تحياتنا إليك وإلى
حرمك المصون. وتحيات والدتنا الوفية إليكما.
ولدك: سامر
تنظر (فاتن) إلى (د. عبد الحميد) وهو يقلب الرسالة وما يزيد عن أن
يطويها ويضعها في جيب جلباب النوم الذي كان يلبسه.
وأما (سامر) فكثيراً ما يتحدث مع أمه التي أمضت عمرها تتمنى اليوم الذي
ينتهي فيه زوجها (
عبد الحميد) من دراسته، وطال ما أضناها في تأمين الجو
الدراسي المناسب له. إنها الآن بعد تخرجه تستعيد الماضي، تتمنى لو دامت تلك
الأيام، حينما كانت أحوالهم المادية بسيطة، إلا أنهم كانوا ينعمون بالمودة
والاستقرار.
وأما (د. عبد الحميد) فعندما أحس بتحسن مركزه العلمي والاجتماعي، وأنه
قد حصل على شهادة (الدكتوراه) بدأت الأفكار تتوالى عليه:
- إنه في وضع اجتماعي مرموق، ويحبذ أن تكون زوجته كذلك حتى
تستطيع أن تمثله في المجتمع.
- وهذه (المرأة الطيبة الساذجة) كما كان يسميها، هل يليق بها ذلك؟ !
هاهو سامر ولدها وقد علمته الأحداث، يفتح قلبه لها ويعاتبها على ما ظنه
تقصيراً منها أدى بوالده إلى البحث عن امرأة أخرى، وبنبرات خافتة حانية قال لها:
- لماذا يا أمي لم تكملي دراستك؟ ! وأنت تعلمين أن زماننا زمان العلم
والثقافة؟ ! وتتنهد (أم سامر) بحرقة وألم دفين، والدمعة تلمع في عينيها وهي
تجيب:
- والله يا بني ما قصرت، لقد بذلت قصارى جهدي في إقناع والدك لأتابع
تعليمي، وما كنت ألقى منه إلا السخرية والاستهانة بمطلبي.
لقد كان وضعنا الثقافي متقارباً عند زواجنا، فإذا به ينمي ثقافته، ويهملني أنا
أم أولاده وشريكة حياته، فأصبح البون بيننا شاسعاً.
ثم تعلق بتجرد وموضوعية تحكي واقعها المرير:
- حقاً، كم بين بدائية الثقافة وبين الدكتور في الفلسفة من بون شاسع! فما
الذي أوصله إلى ذلك؟ !
- لا أريد أن أصفه بالأنانية حين فكر في مصلحته فقط وتعلم على حساب
راحتنا ومصالحنا، لكنه على كل حال تناسى أنني زوجته التي فشل حتى في
تعليمها. كم كان يهزأ بالكبيرات اللائي يذهبن للدراسة ويقول (وربما يقصد الحاجة
أم ممدوح بالذات وقد قاربت الخمسين من عمرها) :
- تصوري عجوزاً شمطاء، تتوكأ على عصاها بيد، وتحمل (شنطة كتبها)
بيدها الأخرى!
ثم يقهقه ساخراً ... وما كانت ضحكاته تلك لتؤثر فيّ، قلت له:
- أليس ذلك أفضل من بقائها أمية؟ ! تتعلم القراءة والكتابة، بدلاً من أن
ترى جميع الصفحات سواداً، لاشيء عليها إلا طلاسم لا تفهمها. ثم إني لست
بعمر الحاجة إنها بعمر والدتي!
رد علي بازدراء، وهو يرمقني بطرف عينه:
- تريدينني مثل الأحمق (حازم) الذي يوصل بيده زوجته إلى المدرسة في
المساء، شأنه في توصيل أولاده في الصباح؟ !
ثم يردف قائلاً باستعلاء:
- إنه فارغ! وماذا وراءه من عمل؟ !
وتزيل (أم سامر) عن ولدها (الغبش) وتجلي الحقيقة بقولها:
- لا والله ما كان فارغاً، إنه رغم أعماله الكثيرة، يجد أن من واجبه
تخصيص وقت لأسرته، وهاهي زوجة (حازم) الآن في الجامعة، وقد نفضت
عنها أميتها ولحقت بركب الحضارة ...
يقولون يا بني: وراء كل عظيم امرأة ! !
أما علم هؤلاء أن هذا يعني أيضاً، أن أمام كل امرأة رجل ينير لها الطريق
ويمهد لها السبيل؟ !
ثم تفطن لواقعها، وتقول بتعقل:
- من حق والدكم أن يتزوج، سواء لأنه أصبح عالي الثقافة وامرأته شبه أمية
، أو لأدنى سبب رآه، وليس له أن يكون الزواج سبباً في تهربه من المسئولية،
والبعد عن تبعات الأولاد. أين العدل الذي أوجبه الإسلام؟ ! أم ظن أن العدل في
الطعام والشراب فقط؟ !
وتدخل سلمى لتخبرهم عن سخط شقيقها (سعيد) وخروجه من المنزل، فيهب
سامر واقفاً، ليلحق بأخيه، يبحث عنه بين المتسعكين والتافهين ... وتفلسف سلمى
ذلك بقولها:
- هذا نتاج الحرمان من عطف الأب ورعايته ... !
ويقع قولها كالقذيفة على قلب أمها، فتنفجر باكية ...
وتقبل سلمى على أمها، معانقة مقبلة لوجنتيها، تخفف عنها وتقول لها:
- أبقاك الله يا أمي، وجزاك عنا خير الجزاء، إذ لولا صدرك الحنون،
وحدبك الدؤوب علينا، لما علم إلا الله سبحانه ما سيحل بنا ...
ثم تقول ناقدة وحانقة:
- يحبون تكثير النسل ... ! أو ما علموا أنه قد لا يزيد إلا في غثاء السيل ...
! أو ليس للتربية ونوعية النشأة عندهم أهمية؟ !
وتتذكر الأم أن من واجبها التقريب بين الأب وأولاده، فتقول لابنتها في
رضى واستسلام:
- الحمد لله، إن والدك يختلف عن غيره من الناس، انظري أسرة (النزَّال)
كم يعاني أولاده من الضيق والضنك، بينما يتمتع والدهم وزوجته الجديدة بأبهى
المتع، وينعمون بأثمن الرياش وأعظم المسرات.
وتجيبها سلمى وكأنما لدغتها عقرب:
- كفانا الله الشر أن يكون والدي مثل (النزَّال) أو أن تكوني أنت مثل زوجته
الأولى ...
لقد وصل بها الأمر أن دست السم في طعام أرسلته له سراً، واكتشف الأمر،
وقيدت الجانية إلى السجن ...
وتنصب سلمى من نفسها قاضياً حين تقول:
- لقد كان الأجدر أن يسجنون الأب تأديباً له على ما فرط في حقها وبسبب
ظلمها وظلم أولاده! !
وتردف الأم:
- الحمد لله أنكم لستم كأولاده، فلا يكاد السجن يفرغ من أحدهم: هذا بتهمة
الاحتيال، وذاك للاقدام على الانتحار، وآخر للنشل ...
وفيلسوفة البيت (سلمى) تعلق بثقة بالغة:
- طبعاً ... الحرمان العاطفي والشعور بالظلم ينميان الميول العدوانية.
فالحمد لله الذي عوضنا بصدرك الحنون يا خير أم.
تقول ذلك وتنهال على يد أمها لثماً وتقبيلاً.
وأما (د. عبد الحميد) فلم يهداً له بال ولم يقر له قرار. إنه كلما تذكر
الرسالة عاد إلى قراءة سطورها ليجد الحقيقة أمامه واضحة: إنهم أولاده، مهما
هرب أو تهرب ... إنها زوجته مهما تعالى أو استعلى ... إنهم واقعه الذي يجب أن
يتعامل معه ... ثم إنه واجبه الديني قبل كل شيء … (العدل) ، به تستقيم الحياة
ويوضع كل شيء في نصابه ... وماذا لو تعكر مزاج (فاتن) بعض الشيء؟ ! فإن
كانت تحبه حقاً فستقدر وضعه، وإلا فلا خير فيها ... ! !
وإذا تبين لديه ذلك قرر مفاتحتها ومرافقتها لزيارة أسرته ... وبعد جلسات
معدودة، قضاها مع (فاتن) بين أخذ ورد صارت (فاتن) أخيراً طائعة راضية،
تشتري لابنته (سلمى) عقداً جميلاً لتحلي به صدرها بمناسبة خطوبتها ... وانتعش
فؤاد (أم سامر) بعد أيام قاحلة عانت فيها الكثير ... والتأم شمل الأسرة فعاد للبيت
إشراقه وبهجته، وفرح (سامر) وأشقاؤه بإخوتهم الصغار (أولاد فاتن) وأصبحوا
يلاعبونهم، ويركبونهم الأراجيح ويشترون لهم اللعب والهدايا والحلويات ...
يستمعون إلى أناشيدهم الشجية ويحكون لهم القصص الممتعة.
لقد عادت البسمة إلى شفاه الجميع، والكلمات الطيبة إلى أفواههم، والأنس
والسرور أصبح يغمر كيانهم.
وأحلى الساعات وأحبها إلى قلوبهم، عندما تجتمع أسرتهم الكبيرة بمرحهم
الحبيب وروحهم المتآلفة.
هاهي قد استقامت حياتهم عندما استقام ربان أسرتهم، وثاب إليه رشده،
وحقق ما يطلبه منه، ربه: (العدل) .(21/60)
شعر
زحوف النور
بقلم: أبي معاذ الخالدي
الانفعال الحق بالإيمان يدفع للأمام
إن العقيدة قوة قدسية ليست تضام
إن العقيدة قمة شماء شامخة المقام
هيهات ليس يضيرها وغد تمرغ في الرغام
يا ملتي السمحاء إن يشرق ضياؤك في الأنام
ويطل فجر زحوفك الغراء ينكسر الظلام
* * *
أهل العقيدة عند رب العرش في حصن حصين
لا يستطيع نزالهم أحد فربهم المعين
* * *
هبت جنود الكفر والتخريب في هذا الوجود
وتألبت ضد العقيدة كل شرعات القرود
وتصايح الباغون في الدنيا كدمدمة الرعود
يا راية رفت على بدر بماضيها السعيد
وتألقت من بعد في دنيا الورى للكون عودي
إن البرية في الضياع يقودها شعب اليهود!
* * *
وغداً سيشرق نورها الوضاء يهزأ بالدجون
إن الإله الواحد الديان خير الحافظين
* * *
أفلم يجد شعب الضلالة مسلماً صدق الولاء؟
لله دون تزيف وتردد دون التواء؟
ليصيح في وسط العماية حاملاً هدي السماء:
" الله أكبر " يسقط الشرك المزين بالطلاء
" الله أكبر " صرخة الأجداد في يوم اللقاء
" الله أكبر " لا يعوض فقدها طول البكاء! !
* * *
أيهود يومكمو دنا فلترقبوا الفتح المبين
الله يبعث جنده بالنصر.. ذلكمو اليقين(21/66)
وسائل الغزو الفكري في دراسة التاريخ
-2-
محمد بن صامل السلمي
تكلم الكاتب في الحلقة السابقة عن وسائل الغزو الفكري في تشويه التاريخ،
فذكر الوسيلة الأولى وهي اختلاق الأخبار، وإبراز المثالب، ويكمل في هذه الحلقة
بقية الوسائل.
2 -استخدام المنهج العلماني (اللاديني) في البحث والنقد:
وهذا من أخطر الوسائل وأعظم المنجزات التي حققها دعاة الغزو الفكري،
وتمكنوا من تقريرها في كثير من جامعات العالم الإسلامي ومراكز البحث العلمي،
ولهذا المنهج آثار سيئة على تراث المسلمين ودينهم لأنه قائم على أسس من الفلسفة
الوضعية التي تنكر الوحي والنبوات، ولا تقيم وزناً للمنهج الرباني. ومن عجب
أن يدعي أصحابه الموضوعية والحياد العلمي [1] ، مع كونه غير شرعي وغير
علمي، أما كونه غير شرعي فأمر لا يحتاج إلى دليل، أما كونه غير علمي فقد
ثبت بالاستقراء والتتبع لما يكتبونه عن التاريخ والثقافة الإسلامية أنه يقوم على
الأسس التالية:
أ - العمل على إخضاع النصوص للفكرة التي يفرضونها مسبقاً حسب أهوائهم،
ثم التحكم فيما يرفضون من النصوص المضادة لها بمجرد الهوى بل قد يصل
الأمر ببعضهم إلى تحريف النصوص عندما يعجز عن تفسير النص على ما يريد
وانظر أمثلة لهذا عند ولهاوزن، وكيتاني، ولامانس، وجولد تسيهر، وفيليب حتى،
وكارل بروكلمان.
ب -الضعف العلمي وقلة الإحاطة بمصادر الثقافة والتراث الإسلامي الأساسية،
لذلك تأتي آراؤهم وأحكامهم ناقصة الأدلة الصحيحة من النص أو الاستقراء.
ج - الجهل بمراتب المصادر العلمية أو تجاهل ذلك، ومن هنا يتحكمون في
المصادر التي يختارونها، فتجدهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ
الحديث النبوي، وينقلون من كتب التاريخ ما يحكمون به في الفقه، ويصححون ما
ينقله الدميري (مثلاً) في كتاب حياة الحيوان، ويكذبون ما يرويه الإمام مالك في
الموطأ، ويهاجمون صحيح البخاري، ويمجدون كتاب الأغاني [2] ..
د - فقدان الأمانة العلمية تجاه المباحث الإسلامية وذلك لخاصتين متأصلتين
في النفسية الأوربية شهد بهما كاتب مطلع من بني جلدتهم هو محمد أسد [3] ،
وواقع الحال يثبت ذلك:
الخاصية الأولى: هي كراهية الأوربيين للمباحث الدينية نتيجة للصراع بين
العلم والكنيسة الذي عاشته فترة طويلة من تاريخها.
والخاصية الثانية: الكراهة المتأصلة بينهم وبين المسلمين نتيجة للعداء
التاريخي في الأندلس وفي الحروب الصليبية إضافة إلى ما في طبيعة النفس الكافرة
من الجحود وكره الحق والإيمان وأهله، وقد لاحظ هذا محمد أسد في كتابه:
الإسلام على مفترق الطرق، وقال: إن المستشرقين لا يحتفظون تجاه البحث في
الإسلام بموقف علمي متزن ... وذكر مجموعة من الطرق التي يلجأون إليها في
تشويه الإسلام. [4] .
3 - التفسير الخاطئ والفهم العجيب للنصوص:
وهذا راجع إما للجهل حقيقة - هو أمر غير مستبعد - وخاصة أن جل
المستشرقين لا يكادون يدركون معاني الألفاظ العربية ودلالتها ولا يحيطون بكتب
العلم والثقافة الإسلامية، فيقعون نتيجة لذلك في أخطاء فاضحة، وإما تعمدا، وهذا
نابع من الحنق على المسلمين والعداء لهم، وإننا نلحظ هذا التفسير الخاطئ في
كتابات المستشرقين عن كثير من القضايا الإسلامية مثل الجهاد والرق، ومكانة
المرأة في الإسلام، والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمذاهب والفرق
الإسلامية ... الخ، لأن مثل هذه القضايا لا تفسر بناء على الوقائع التاريخية وحدها
بل لابد للكتابة فيها من معرفة الأحكام الشرعية وأصول التفسير والفقه وقواعد
الشريعة، لأن معرفة هذه الأصول أمر لازم لمن يحلل النصوص التاريخية عن هذه
القضايا ويفسرها، وهذا الجانب من المعرفة مفتقد - مع الأسف - عند عامة من
كتبوا في التاريخ الإسلامي من المعاصرين سواء من المستشرقين أو المتخصصين
في التاريخ من أبناء المسلمين وهذا راجع إلى الفصل القائم في كثير من دور العلم
بين الدراسات الشرعية والدراسات التاريخية.
ومن المعلوم أن التاريخ ليس هو الحدث وحده بل هو الحدث وتفسيره والحدث
وباعثه. ولاشك أن العقيدة تأخذ جانباً كبيراً في تحديد البواعث والأهداف، ومن
هنا تأتي ضرورة معرفة الاتجاهات العقدية عند من صنعوا الحدث ومن كتبوه ومن
فسروه، حتى نستطيع أن نقدر التقدير الصحيح والنسب الحقيقية لكل العناصر
الفاعلة في الحدت التاريخي، الذي هو عبارة عن فعل صدر من إنسان في زمان
ومكان معين وقبله ومعه، وبعده قدر الله المحيط بكل شيء، فلابد من إدراك هذه
العناصر الثلاثة الفاعلة في الحدث التاريخي ومعرفة أثر كل عنصر منها وحجمه،
حتى نفسر الحدث التاريخي تفسيراً مقارباً للواقع.
4 - الاعتماد على مجرد الهوى في النقد والتحليل للحوادث التاريخية:
إن نقد الأخبار يخضع لمقاييس وضوابط علمية قررها العلماء الذين كتبوا في
هذه المجالات مثل علماء الأصول وعلماء الجرح والتعديل وعلماء المنطق، ولابد
من الالتزام بهذه الأصول في نقد الأخبار، إذ لا يجوز رد الأخبار لمجرد عدم قبول
الإنسان لها وانشراح نفسه لما تدل عليه أو عدم تذوقه لمثل هذه الأخبار، لأن الحكم
بالذوق والهوى وعدم الموافقة الشخصية لا يجوز أن يدخل في ميدان العلم وإنما هذا
بميدان الأدب وماشاكله أليق لخضوعها للعاطفة والتذوق الشخصي، أما الأخبار
التاريخية فإنها وقائع عن حقائق ولابد أن تنقد على أصول نقد الحقائق العلمية،
ومن الأمثلة على هذه الوسيلة ما نجده عند كثير من المستشرقين وبعض من تأثر
بهم مع ادعائهم مناقشة القضايا بمنطق العقل والعلم ولكن إذا فتشت في كتبهم وجدت
أن ذلك مجرد دعوى لا دليل عليها بل الواقع يناقضها، وأن نقدهم للنصوص
والأخبار هو بمجرد الهوى والتذوق والميل الشخصي، انظر مثالاً على ذلك (طه
حسين) في كتابه: على هامش السيرة، الذي قيل إنه أحسن كتاب له في
الإسلاميات، وتراجع فيه عن كثير من آرائه السابقة فكثيراً ما يستخدم مثل هذه
العبارات المثيرة للشكوك: (قيل ويقال ويروى، وأكاد أقطع، وأكبر الظن! ! ..)
وقد قال عن حديث متفق عليه: " وأكاد أقطع أن هذا الحديث مهما كان سنده غير
صحيح " [5] .
فبمثل هذا القول يرد حديثاً في الصحيحين ويدعي مع ذلك اتباع المنهج العلمي
بل ينتقد علماء المسلمين ويشكك في معلوماتهم ومنهجهم العلمي! ! . 5-عرض جانب من الحقيقة ووضع الخبر في غير سياقه الصحيح:
وذلك أن التاريخ إذا عرض جانب منه وأخفي الجانب الآخر فإنه لا يعطي
الصورة كاملة بل يشوهها وخاصة إذا أخذت الصورة الضعيفة وجمعت النقاط السود،
فمثلاً إذا ركزنا في دراسة التاريخ الإسلامي على عرض جانب الأحداث الداخلية،
والحياة السياسية، وقيام الحكام، وسقوطهم، وثورات بعضهم على بعض وقلنا
بأن هذا هو التاريخ الإسلامي فإن الصورة تكون قاتمة ومشوهة، لأننا أخذنا أضعف
الصور وأشدها قتامة وقلنا هذه هي الحقيقة كاملة.
ولو أننا عرضنا مثلاً الجانب الذي ركز عليه صاحب كتاب الأغاني وأبرزناه
على أنه التاريخ الاجتماعي والخلقي لأعطانا صورة مشوهة لمجتمع الحجاز وأنه
عاش فترة من الخمول والانشغال بالملذات الحسية والغناء والطرب وما شابه ذلك.
وهذه النتيجة - مع الأسف - صرح بها وكررها كثير من الباحثين
المعاصرين من أمثال أحمد أمين، وطه حسين، وشوقي ضيف [6] .. وغيرهم من
مؤرخي الأدب وألمح إليها الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام
السياسي) وغيره من المؤرخين الذين كتبوا في تاريخ هذه الفترة [7] ... وهذه
الصور مع افتراض صحة كل الأخبار التي أوردها صاحب الكتاب - وهو افتراض
بعيد - لا تعطي الحقيقة كلها، ولا تصلح حجة لإصدار حكم عام على المجتمع
المدني والمكي، لأن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني خاص بالأغاني العربية،
كما يدل عليه اسمه، وكما صرح مؤلفه في مقدمة كتابه فهو إذن حديث عن فئة
خاصة أقلية النسبة للمجتمع، وأيضاً في أضعف نوعيات المجتمع وهي فئة المغنين
والجواري والعبدان وأصحاب اللهو والمجون، ثم إن صاحب الكتاب يعرض
الجانب الضعيف من حياة هذه الفئة، ولا يذكر مواطن الجد والشجاعة والرجولة
والاستقامة من حياتهم، ثم هي فئة لاتمثل المجتمع بأي شكل من الأشكال وإنما
ينظر إليها العقلاء في كل وقت وعصر حتى مع تغير المفاهيم وبعد كثير من الناس
عن حقيقة الدين إلى أنها فئة ساقطة ومحتقرة وخاصة في المجتمع الذي يتحدث عنه
صاحب الكتاب، فهذا الإمام مالك إمام دار الهجرة يقول عنهم: " إنما كنا نسميهم
الفساق " [8] وليس من الأمانة العلمية أن نصدر حكماً عاماً على مجتمع من
المجتمعات أو أمة من الأمم من واقع شريحة واحدة من شرائح المجتمع، كبيرة
كانت أم صغيرة، بل لابد من النظر إلى كافة جوانب حياة الأمة الإيجابية منها
والسلبية.
6-إضعاف دراسة التاريخ الإسلامي ومزاحمته بغيره:
إن من وسائل دعاة الغزو الفكري إضعاف دراسة تاريخ الأمة الإسلامية في
المدارس والجامعات ومراكز العلم في العالم الإسلامي، ومزاحمته من تواريخ الأمم
الكافرة سواء القديم منها والحديث، مما يضعف شأنه في نفوس الدارسين، حيث
يعطى لهم بصورة مختصرة ومشوهة، بينما يفسح المجال لدراسات واسعة في
التاريخ القديم، ويربط سكان كل منطقة بتواريخ الأمم الجاهلية التى عاشت فيها،
ففي مصر الفرعونية، وفي العراق البابلية والسومرية، وفي بلاد الشام الفينيقية،
وفي اليمن السبائية والحميرية، مما يوجد الوطنيات العرقية الضيقة ويفتت الوحدة
الإسلامية، ويشتت أوصال التاريخ الإسلامي، بحيث يبدو وكأنه نقطة في بحر أو
جدول صغير في نهر.
7- جعل واقع المسلمين في العصور المتأخرة الصورة الحقيقية لتعاليم الإسلام:
في عرض التاريخ الإسلامي في مثل تلك المراكز يجعل واقع المسلمين
المتخلف هو الصورة الحقيقية لتعاليم الإسلام، وهذا تشويه متعمد ومغالطة للحقائق
العلمية والواقع والغرض من ذلك تزهيد المسلمين في دينهم والفصل بينهم وبينه
حيث يصورون لهم الدين من خلال درس التاريخ بالصورة المتخلفة التي أنتجها
واقع المسلمين المنحرف عن تعاليم الإسلام، ثم يجعلون المسلم بين خيارين إما أن
يصبر على التخلف إذا أراد التمسك بدينه، وإما أن يأخذ سبيل التقدم لكن عليه أن
ينبذ دينه كما نبذت أوربا دينها، ويخفون في دهاء ومكر الخيار الثالث الذي هو
البديل الصحيح عن الخيارين السابقين، وهو النهوض بالأمة والرجوع بها إلى
مستوى دينها الحق، وبيان أن ما وقعت فيه الأمة من التخلف والانحطاط هو نتيجة
طبيعية لتخلفها في عقيدتها وإسلامها، لا نتيجة تمسكها به كما يصور ذلك أعداؤها
... ثم إن هناك فرقاً بين الدين الحق دين الإسلام؛ وبين الخرافة التي كانت عليها
أوربا وتسميها ديناً، حقاً إن أوربا لم تتقدم مادياً وعسكرياً وعلمياً إلا بعد أن نبذت
الخرافة وتخلت عنها وحررت عقلها من آثارها فإنها لم تكن على دين بل كانت على
خرافة. ولا شك أن هذا الأسلوب في عرض المسألة وتصويرها هو من التلبيس
المتعمد والتشويه المقصود الذي حاول المستشرقون زرعه في قلوب الناشئة من
أبناء العالم الإسلامي.
8 - إبراز دور الفرق الضالة وتضخيمه:
لقد وجد دعاة الفتنة من المستشرقين ومن لف لفهم وسلك طريقهم غايتهم
المنشودة في الفرق المنحرفة والخارجة على سبيل السنة مثل الخوارج، والرافضة،
والقرامطة وإخوان الصفا، والمعتزلة، وإلجهمية وأيضاً من الشخصيات الضالة
مثل ابن سبأ، وعبيد الله بن ميمون القداح، والحاكم العبيدي، وصاحب الزنج،
والحلاج، وابن عربي، وغيرهم فنشروا تراثهم واعتنوا بتاريخهم وضخموا
أدوارهم وأقاموا المراكز والجمعيات لخدمة ذلك، مع تصويرهم لحركاتهم وإبرازها
على أنها حركات إصلاحية ومعارضة للفساد، وهذا كله تزوير للحقائق وإخفاء
للأهداف الحقيقية التي تسعى تلك الفرق وأولئك الأشخاص إلى تحقيقها وهي تحطيم
الخلافة الإسلامية، وتبديل مفاهيم الدين الصحيحة بمفاهيم باطنية ووضعية، والكفر
ملة واحدة والكفار بعضهم أولياء بعض لذلك لا نستغرب من المستشرقين إحياء
تراث الفرق المنحرفة والشغب بها وبرجالها على التاريخ الإسلامي، ومزاحمة سير
رجاله وأبطاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة واتهام المؤرخين المسلمين بالتعصب
ضدهم وتحريف تاريخهم، لا نستغرب ذلك لأنه مقتضى كفرهم وعداوتهم لأهل
التوحيد والإيمان فهم يكيدون للمسلمين ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، ولا يتوقع من
ملل الكفر عدل ولا إنصاف، ولكن المستغرب أن يناصرهم ويشايعهم من ينتسب
للإسلام فيقوم بنشر سمومهم بين بني جلدتهم من المسلمين ليصرفوا به الأغرار عن
الصراط المستقيم.
9-تجاهل الترتيب الصحيح لمصادر التاريخ الإسلامي:
التاريخ الإسلامي له مصادر أصيلة دونها أهل العلم وفق منهجية علمية أصيلة
مستقلة ولها مراتب في التوثيق وفق شروط معلومة في المؤرخ وفي ما يكتب،
ولكن دعاة الغزو الفكري من المستشرقين والمنصرين وأعوانهم من داخل العالم
الإسلامي لا يعرفون هذا الترتيب، وإذا عرف بعضهم تجاهل ولم يلتزم حتى يحقق
رغبته في تشويه التاريخ الإسلامي وأهله، ولذلك نجدهم -كما سبقت الإشارة في
سمات المنهج العلمي عندهم - يرجعون إلى كتب الحكايات والسمر وكتب الأدب
مثل المستطرف، والأغاني والحيوان، وغيرها من كتب الطرائف والنوادر التي لم
يقصد مؤلفوها تدوين الحقائق التاريخية بقدر ما قصدوا إلى جمع الأخبار والحكايات
التي فيها تسلية وتغذية للمجالس بينما يغفلون كتباً من أوثق الكتب بما تضمنت من
الحقائق التاريخية مثل كتب الحديث النبوي من المصنفات والسنن والمسانيد
والجوامع التي تذكر أخبار السلف بالأسانيد، ومثل كتب الفقه التي تذكر السوابق
التاريخية والقضايا التي وقعت من القضاة والفقهاء والحكام، ومثل كتب السير
والتراجم.
ثم هم لا يوجد لديهم ميزان للمرويات غير منهج التوسم [9] ، والاستعادة
والترجيح العقلي، وهذا غير كاف لمعرفة صحة الرواية ونقد الأسانيد الذي اعتنى
به العلماء المسلمون في علم الجرح والتعديل ومصطلح الحديث وقوانين الرواية،
ومن المعلوم أنه لابد من إثبات صحة الأخبار والوقائع قبل البحث في تفسيرها
وتعليلها.
وختاماً: هذه بعض الوسائل التي استخدمها دعاة الغزو الفكري في تشويه
تاريخ الأمة الإسلامية ودينها، وهي ليست كل الوسائل ففي حصرها صعوبة بل لا
تنحصر لأنها تتجدد حسب الظروف والمقتضيات وحسب الأهواء والرغبات، ولأن
كيدهم مستمر كما أخبر الله -جل ذكره- في كتابه: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] .. وقوله: [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] . ذكرت هذه الوسائل
تحذيراُ وتنويراُ لبني قومي وديني عامة، وللمتخصصين في التاريخ الإسلامي
خاصة، رجاء أن ينفعهم الله بها ويتنبهوا لعظم خطر الدراسات الاستشراقية عن
تاريخ المسلمين وحضارتهم ونظمهم، ولله الموفق والهادي.
__________
(1) عن منهج البحث العلمي الأوربي والحياد والموضوعية انظر منهج كتاب التاريخ الإسلامي / 131 - 168.
(2) انظر: سفر الحوالي، العلمانية / 550.
(3) الإسلام على مفترق الطرق / 45، 52، 53.
(4) انظر الصفحات / 52 - 55، 58، 61.
(5) على هامش السيرة / 133.
(6) له كتاب: الشعر والغناء في المدينة ومكة في عصر بني أمية.
(7) يحسن الرجوع للرسالة القيمة التي أعدها الدكتور عبد الله الخلف في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان (مجتمع الحجاز في العصر الأموي بين الآثار الأدبية والمصادر التاريخية) .
(8) مجموع فتاوى بن تيمية 20 / 336.
(9) السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي / 135.(21/68)
شئون العالم الإسلامي
الجهاد الأفغاني: التعالي على الخلافات
فرح المسلمون في كل مكان حينما انسحبت روسيا وجيشها الأحمر من
أفغانستان تحت ضغط الجهاد الأفغاني الذي أقضى مضجع الشيوعيين وأذنابهم،
واعتبروا ذلك هزيمة للباطل الذي تقوده الشيوعية وانتصاراً للحق المظلوم المتمثل
بالإسلام.
وقد وضع المسلمون أيديهم على قلوبهم خشية من بنيات الطريق والمنعطفات
التي تنتظر إخوانهم المجاهدين في أفغانستان، لعلمهم أن مواجهة المشاكل الداخلية
قد تكون أصعب من مواجهة أعداء الخارج. وهذه قاعدة مطردة وسنة معروفة.
والمجاهدون - على ما بذلوا من أرواح وتضحيات على كل صعيد، وعلى
ما أظهروا من شجاعة اعترف بها العالم - فإن فيهم ما يخشى عليه ويخشى منه،
وصفوفهم ليست ممحصة تمحيصاً يدعو إلى الاطمئنان الكامل أنهم قادرون على
التغلب على العقبات التي نصبت لهم هنا وهناك. وكل الناس يعلمون أنه لا روسيا
ولا أمريكا ولا القوى المحيطة بأفغانستان ترغب في إقامة حكم إسلامي صافٍ من
شوائب المساومات والتنازلات. وإذا كنا لا نحب الكلام على السلبيات ولا تضخيمها،
فإننا أيضاً لا يحسن بنا أن نتجاهلها ونغفل عنها، ومن أخطر ما سيؤثر على
الجهاد الأفغاني وجود النزعات القبلية التي لها حساباتها الخاصة التي تختلف
ومقتضيات الجهاد.
والقبلية إذا وضعت كهدف، وعادى الإنسان على أساسها ووالى فإنها لا تأتي
بخير أبداً، وشواهد التاريخ ماثلة، وأقربها وأجدرها بأن يأخذ الشعب الأفغاني منه
عبرة ودرساً هو حال العرب الذين استغلهم الحلفاء في الحرب العالمية الأولى
ليضربوا بهم الأتراك، ويقضوا على كيان الدولة العثمانية، واعدينهم بالاستقلال
وتأسيس امبراطورية عربية وإعادة مجد التاريخ العربي، فعمل هؤلاء الحلفاء على
مصانعة القبائل العربية واستغلال حب هذه القبائل للمال ونزوعها الذي طال عليه
الأمد إلى العصيان وحياة السلب والنهب، فبثوا بينها الجواسيس، ووزعوا عليها
صرر الذهب وحرضوها أن تضرب مرافق الدولة، وتسطو على الحاميات
العسكرية بغارات دموية جعلت من المستحيل أن تكون هناك علاقة حسن جوار بين
العرب والأتراك فضلاً عن علاقة أناس يجمعهم دين واحد، وكانت النتيجة أن لا
دولة عربية قامت بل مِزَقُ دول، ولا القبائل العربية اغتنت، والمستفيد الأول
والأخير هو القوى الاستعمارية وأعوانها وأذنابها.
نقول هذا الكلام بعد أن بلغنا ما وقع فيه المجاهدون من رفعهم السلاح على
بعضهم، فمهما كانت الخلافات بين المسلمين لا ينبغي أن تؤدي إلى إراقة الدم بين
المسلمين وتفتيت وحدتهم التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص بهم ويفرح بها أشد
الفرح. بل إن صحافة العدو تنتظر مثل هذا الحدث لتضخمه وتنفخ فيه حتى تنفر
القلوب وتشحن الصدور وتجعل الأفغان مائة أفغان كما جعلت العرب اثنين وعشرين
عرب.
إن هناك من يتربص بالجهاد ليكبر أخطاء المجاهدين، وليحرك الإحن
والأحقاد، فلاشيء أقسى على أعداء الجهاد من وحدة المجاهدين، ولاشيء أدعى
لإبطال خططهم ومكايدهم من صدور المجاهدين على رأي واحد في المسائل
المصيريه والهامة، وإلا فبأي شيء نفسر أن تفتح دولة مجاورة أبواب سفارتها
للتعزية بمن قتل في الحادث المؤسف، هل طلباً للإصلاح، أم إثارة للمشاعر
وتحريكاً للخواطر وتعميقاً للفرقة بين أهل السنة؟
إننا مع عدم رضانا أن يسفك المسلم دم أخيه المسلم لاختلافهما في وجهات
النظر؛ ندعو الإخوة المجاهدين إلى ردم الهوة بينهم، وتجاوز الأخطاء حتى لا
تستثمر هذه الأخطاء من قبل من لا يرقب فيهم إلا ولا ذمة، ولا يريد بهم جميعاً إلا
الشر والوقيعة(21/78)
بدء الجهاد المسلح في أرتيريا
في يوم الجمعة 19 من ذي القعدة 1409 هـ الموافق 23 من يونيو 1989 م
أعلنت المنظمات الإسلامية الجهاد ضد الأحباش المتسلطين محطمة الحواجز النفسية
والمادية بعون الله، فأخذت مواقعها القتالية في قلب أرتيريا لا تخشى إلا الله، لتبدأ
الجهاد المقدس والمستمر فيها حتى النصر -بإذن الله-، وفي هذه المناسبة نقدم هذه
الدراسة عن القضية الأرتيرية.
مقدمة جغرافية وتاريخية:
تقع أرتيريا على الساحل الغربي الجنوبي من البحر الأحمر، ويحدها شمالاً
السودان، ومن الشرق البحر الأحمر، ومن الجنوب الصومال وأثيوبيا، ومن
الغرب أثيوبيا كذلك.
ومساحتها45 ألف ميل مربع، وعدد سكانها أربعة ملايين، 70% مسلمون
والباقي نصارى، وكثير من قبائلهم يرجعون إلى أصول عربية، ولهذا فاللغة
العربية هي اللغة الأكثر انتشاراً، وهي جزء من مملكة الحبشة المشهورة التي كان
ملكها فيما قبل الإسلام يسمى النجاشي، وكانت هذه المملكة تضم إلى جانب أرتيريا
، أثيوبيا، وجيبوتي، وجزءاً من الصومال وكينيا والسودان، وقد دخل الإسلام إلى
مملكة الحبشة عموماً - وأرتيريا جزء منها - في أول العهد النبوي حيث تمت أول
هجرة في الإسلام إلى الحبشة كما هو معلوم من السيرة النبوية.
وقد ظلت أرتيريا تابعة للدولة العثمانية من عام 1557 م إلى عام 1864 م،
ثم انتقلت إلى سلطة الدولة الخديوية في مصر، ثم احتلتها إيطاليا في عام1889م
وفي عام 1941م احتلتها انجلترا، وتآمر الانجليز مع هيلاسيلاسي ضد أرتيريا
المسلمة، فأسسوا حزباً نصرانياً في الأمم المتحدة وصوتوا لإنجاح قرار يقضي
بوجود حكومة أرتيرية تتمتع بسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في الشؤون
الداخلية، متحدة مع أثيوبيا فيدرالياً في الشؤون الخارجية والدفاع، وذلك في
سبتمبر عام 1950 م، وبعد سنتين احتل الجيش الأثيوبي المستعمرات التي كان
يحتلها الجيش البريطاني ... وعندها أصبحت أرتيريا مديرية أثيوبية يحكمها ممثل
الأمبراطور الحبشي..
ومن ذلك الوقت وحتى الآن لازالت السيطرة الأثيوبية تجثم على صدور
المسلمين في أرتيريا، وخلال ذلك أقامت أمريكا قاعدة عسكرية كبرى ... وكانت
أثيوبيا قد ألغت عام 1962 م النظام الفيدرالي الشكلي وأعلنت دمج أرتيريا في
أثيوبيا، حدث ذلك بمساعدة من أمريكا التي تبنت القرار في الأمم المتحدة ... والتي
منحت فيما بعد امتيازات استراتيجية على الأراضي الأرتيرية ...
مارس الطاغية هيلاسيلاسي وأوباشه أشد أنواع التعذيب والاعتداء على شعب
أرتيريا المسلم\.. وزج بالكثير منهم في السجون، ومارس معهم أبشع أنواع
التعذيب، وارتكب جنوده جرائم تتنافى مع أبسط قواعد الأخلاق والإنسانية، وقتل
الناس أفراداً وجماعات وانتهكت الأعراض وعلقت الجثث، واستخدمت السموم
بالطائرات من أجل الإبادة الجماعية، وفي شباط 1967 م شنت قوات الطغيان
الهيلاسيلاسية حملة إبادة ... ودمرت فيها أكثر من 62 قرية وقتل المصلون،
وأحرقوا في مساجدهم أثناء الصلاة بعد إحكام إغلاق المساجد عليهم..
وتحرك الشعب الأرتيري المسلم، فاندلعت ثورة هذا الشعب، وذلك في 1/ 9
/ 1961 وخرج فيها شباب كثير وكانت السمة الغالبة عليها سمة إسلامية، وإن
كانت تختلط بالروح الوطنية أحياناً، وقد كانت قوية في بدايتها، ولفتت أنظار
العالم إليها بما أحرزته من انتصارات، وشعر النصارى من الأريتيريين الذين كانوا
يؤيدون أثيوبيا في استعمارها، شعروا بأن الثورة قد تحقق انتصاراً يؤدي بالفعل
إلى الاستقلال، فرأوا أن من مصلحتهم الدخول في الثورة، فدخلوا فيها، هذا من
جانب، ومن جانب آخر فإن عدداً من الشباب الأريتيري الذي ينتمي إلى الإسلام
اسماً دخلوا في صفوف الثورة بأفكار منحرفة.. فدخلوا وكل منهم يحمل معولاً للهدم
داخل الثورة ... وما هي إلا سنوات قلائل حتى خرجت رؤوس الفتنة ... هذا
شيوعي ماركسي، وذاك بعثي اشتراكي ... وآخر قومي عربي.. فكان أول انشقاق
على الثورة هو ذاك الذي قام به أحمد ناصر الشيوعي مع مجموعة من حزب العمل
الشيوعي، فانشقوا بجبهة أسموها (جبهة التحرير الأريتري) ، ثم قام المدعو عبد
الله إدريس بانقلاب عسكري وأسر كل الشيوعيين بمن فيهم رئيسهم أحمد ناصر،
وأصبح هو رئيسها.
ثم انشقت (قوات التحرير الشعبية) برئاسة عثمان صالح سبي، علماني
الاتجاه، ثم انشقت الجبهة الشعبية لتحرير أريتيريا بقيادة (أسياس افورقي) وهي
حركة يسيطر عليها النصارى، وترفع شعار الشيوعية ومدعومة من مجلس الكنائس
العالمي.. لذا فهي حاقدة على الإسلام والمسلمين، تنشر الزنا والفساد، وهي الآن
الوحيدة التي تصول وتجول على أكثر من ثلثي الأراضي الأريترية المحررة..
وهناك قوات التحرير الشعبية - اللجنة الثورية - التي ترأسها عبد القادر
جيلاني، وهي مؤيدة من أحد الأحزاب القومية العلمانية العربية.
بعد ذلك تم تشكيل ما يسمى بالتنظيم الموحد وذلك بدعم بعض الجهات
العربية، حيث تم هذا التشكيل:
أ- جبهة التحرير الأريترية بقيادة عبد الله إدريس.
ب - قوات التحرير الشعبية.
ج - قوات التحرير الشعبية اللجنة الثورية بقيادة عبد القادر جيلاني.
وتم هذا التشكيل العلماني في عام 1405 هـ، وهذه الجهات كما ذكرنا ...
إما علمانية أو ماركسية أو قومية وطنية ... فلم تتبن أي واحدة منها الإسلام، ولو
حتى بالاسم.
الوجه الإسلامي للقضية الأرتيرية:
لم يكن المسلمون الصادقون من أبناء البلد الأرتيري ليتركوا قضيتهم يعبث
بها ذوو الاتجاهات الماركسية أو العلمانية من المسلمين والنصارى ويتفردون بتقرير
مصير هذا البلد المسلم.. ولكنهم أدركوا أبعاد قضيتهم.. وأدركوا كذلك أن سبيل
خلاصهم هو هذا الدين، ولذلك لجأوا إليه وبدأوا بالدعوة من خلال انتظامهم في عدد
من التجمعات والجبهات والاتحادات الطلابية الإسلامية والتي تشكلت بواسطة أبناء
الشعب الأرتيري المسلم، وكذلك من خلال تأثر عدد من الأرتيريين بالنشاط
الإسلامي الموجود حولهم في السودان، أو بواسطة الطلاب الأرتيريين الذين درسوا
في بعض البلاد العربية، وتأثروا بإخوانهم الدعاة هناك.
الصحوة للجهاد:
وقد كان للوضع الخطير الذي تمر به القضية الأرتيرية دور بارز في أن
تتداعى هذه التجمعات الإسلامية لتوحيد كلمتها وصفها ضد الاستعمار الأثيوبي،
وضد المنظمات العلمانية المجرمة، كما أن ممارسات الجبهة الشعبية داخل أرتيريا
واضطهادها للمسلمين هناك أشعر هذه التجمعات بخطورة الموقف.
ففي شهر سبتمبر الماضي (عام 88) اكتسحت هذه القوات الحاقدة - قوات
الجبهة الشعبية - أكثر من ستين قرية من قرى المسلمين، وأخذت الفتيات
المسلمات من أهلهن قسراً، وقتلوا الشيوخ والأطفال، فقاومهم المسلمون بالسلاح
الأبيض، وسقط عشرات القتلى، ومئات الجرحى ... وأصدرت الجماعات
الإسلامية بيانات تندد بهذا الهجوم الوحشي وتحتوي على أرقام وإحصائيات مريعة
من هول الجريمة.
ونتيجة لذلك تحرك المسلمون الأريتيريون اللاجئون في السودان في كل من
كسلا وفي معسكرات سمسم.. ووجدت ما سميت " بالانتفاضة " وتكونت في كسلا
لجنة سميت " اللجنة الإسلامية الشعبية للدفاع عن المستضعفين الأريتيريين " والتي
تضم بعض الإسلاميين، وجمهور من الشعب الأريتري في كسلا، وقامت بندب
المسلمين لمقاومة الجبهة الشعبية ونصرة إخوانهم في أريتريا.
كما أن الدور الإصلاحي الذي قام به بعض الإسلاميين بين بعض القبائل
الأريترية المتنازعة لأسباب عرقية قد ساعد في النهاية على تعجيل وحدة صف
الإسلاميين هناك، ففي 21 / 1 / 1409 هـ حدث خلاف ونزاع بين قبيلة
أساورتا وقبيلة الساهو الأريتريين وذلك في منطقة أم سقطة والأسباب عرقية
بالدرجة الأولى، فتشكلت لجنة في سمسم وسميت (لجنة الوفاق الإسلامي الأريتري
بمنطقة سمسم) هدفها إصلاح الحال وإنهاء الخلاف بين القبيلتين المسلمتين،
فبادرت نشاطها في المنطقة المذكورة، واتسع مدى نشاطها ليشمل العديد من القرى
، وكانوا في كل منطقة يمثلون الناس ويذكرونهم ويدعونهم إلى الإسلام ليكون موحداً
لهم وجامعاً بينهم، حتى التقوا في منطقة كسلا (باللجنة الإسلامية الشعبية للدفاع عن
المستضعفين الأريتريين) فاتفقوا على توحيد العمل الإسلامي ووضع برنامج عملي
مرحلي، ثم قاموا بمسح القرى والمناطق، يقابلون الناس، ويحثونهم على قبول
الإسلام كحل وحيد للقضية الأريترية.
وكان مما توصي به هذه اللجنة وتدعو إليه هو تقوى الله، ونبذ الفرقة،
وإعلان الجهاد تحت راية لا إله إلا الله وقيادة العلماء، والحذر من المنظمات
الشيوعية، والشخصيات المشبوهة، وكذا العصبيات المنبوذة وقد وجد حماس
واستجابة في أوساط الشعب الأريتري لهذا التوجه وبخاصة بعد معاناتهم الشديدة من
هذه المنظمات غير الإسلامية.
نشأة حركة الجهاد الإسلامي الأريتري:
ساعدت الظروف والإرهاصات التي ذكرناها، على تهيئة جو إسلامي عام
بين الأريتريين اللاجئين.. فانتهز الإسلاميون الفرصة وقاموا بزيادة حماس
المسلمين وإذكاء روح الجهاد فيهم، وتوحيد صفوفهم فنادوا بدمج الجماعات
الإسلامية في جماعة واحدة ... ولاقت الفكرة قبولاً لدى جميع الجماعات الأريترية
الإسلامية، حتى تشكل ما يسمى " بحركة الجهاد الإسلامي الأريتري " والتي عقدت
مؤتمرها العام الأول في الفترة ما بين 19 - 21 ربيع الثاني عام 1409 هـ، وتم
فيه انتخاب مجلس شوري يتكون من (51) عضواً، من بينهم مجلس تنفيذي من
11 عضواً، وقد أصدر المؤتمر بياناً في نهاية الاجتماع أشاروا فيه إلى تسلسل
الأحداث في أريتريا بدءاً من دخول الإسلام فيها وحتى الوضع الحالي، وأعلنوا فيه
عن قيام حركة الجهاد الإسلامي الأريتري، وناشدوا جميع المسلمين لنصرة الجهاد
الإسلامي الأريتري والوقوف إلى جانبه.
من متابعة مسيرة الأحداث السابقة، وما حصل في النهاية من وحدة بين
الأريتريين ومن معرفة الأشخاص القائمين على هذا الاتحاد تظهر لنا بعض النقاط:
1- تحرك بعض القائمين علي هذه الحركة الجديدة يمثل عاطفة إسلامية
جياشة، ونحسبها صادقة بإذن الله، وهذه العاطفة الصادقة كانت كافية تماماً للتغلب
على حزبية الشعارات التجمعية، وكسر طوقها، وتحطيمها، والاندماج تحت لواء
حركة جهادية واحدة وأمارة صحة في مسيرة العمل الإسلامي الأريتري.
2 - القاسم المشترك بين جميع أفراد مجلس شورى هذه الحركة هو أنهم
يتبنون عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد أعلنوا ذلك في بياناتهم وفي ما ظهر من
قياداتهم.
3- لاشك أنهم يعدون لأمر عظيم جلل، وهو الجهاد في سبيل الله، ضد
قوى معادية، وهم لا يملكون أرضاً ولا عتاداً، إلا أنهم أمام طريق شاق،
ويحتاجون إلى وقت غير قصير كي يشقوا طريقهم الجهادي وهم بحاجة إلى الدعاة
إلى الله والجماعات الإسلامية أن تدعمهم بكل ما تستطيعه من توجيه، ونصح
ومعونة مادية.
وبعد فإن القضية الأريترية هي قضية إسلامية تهم جميع المسلمين الذين يهمهم
أمر إخوانهم المضطهدين هناك والذين أصبحوا بين فكي كماشة، فالاستعمار
الأثيوبي من جهة، والمنظمات غير الإسلامية من جهة أخرى، ولا يمكن أن يخرج
هؤلاء من المأزق إلا بالجهاد في سبيل الله وبالوحدة الإسلامية القائمة على منهج
قويم، وهانحن نرى الآن صحوة الإسلاميين في أريتريا من خلال وحدتهم الأخيرة
ومن خلال دعوتهم إلى الجهاد في سبيل الله.. لذلك فنحن بعد أن ندعو الدعاة
والإسلاميين إلى مناصرة إخوانهم في أريتريا بعيداً عن أي شعارات حزبية قد تفرق
شملهم بعد أن تجمعهم نود أن نذكر إخواننا الأريتريين بالملاحظات التالية.
1- وجوب المحافظة على الوحدة القائمة على منهج أهل السنة والجماعة،
وعلى عقيدة التوحيد، والحذر من دخول الشعارات الحزبية التي تفرق ولا تجمع،
والصدق مع الله ثم مع المؤمنين في هذا التوجه، وأن يكون واقعاً مستمراً وليس
شعاراً مؤقتاً.
2 - اعلموا أنه لانصر إلا بوجود شروطه، ومن أهم الشروط هو الاتباع
والاجتماع، اتباع منهج صحيح والاجتماع عليه، وأن الانتكاسات التي تحدث داخل
الساحة الإسلامية اليوم سببها الغفلة عن المنهج والذي أنشأ الفرقة، ولن يكون أعداء
الله إلا أقزاماً أمام جحافل المؤمنين التي تحمل نور التوحيد والإيمان، المتوحدين
تحت لواء عقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة.
3 - الحذر من وجود المنافقين داخل الصف ولو رفعوا شعارات إسلامية،
لأن ميادين الجهاد من الميادين التي تغري أمثال هؤلاء بالظهور، وتجارة الجهاد
من قبل رموز محسوبة على المجاهدين من أهم إشكالات قضايا المسلمين الجهادية
اليوم.
4 - الاستفادة من دروس الجهاد الأفغاني الإيجابية والسلبية، وبخاصة أن
هناك تشابهاً كبيراً بين الساحتين من ناحية الانتماءات الفكرية وكذلك الولاءات
السياسية، فنستفيد من دروس إيجابية ضخمة أفرزها الجهاد الأفغاني، ونحذر من
سلبيات حصلت وتحصل هناك حتى لا نكرر أخطاءنا.
5- رصد لعبة الأمم في منطقة أريتريا وجنوب السودان والصومال وشرق
القارة عموماً حيث تترابط قضايا المنطقة هناك، وتتآمر قوى كثيرة على المسلمين
فيها، وهناك مخططات وترتيبات لمستقبل المنطقة في أذهان أولئك، فهناك مؤامرة
صليبية ماكرة هدفها إقامة كيان أو كيانات صليبية في المنطقة، وأطراف هذه
المؤامرة من داخل المنطقة ومن خارجها، فمن الداخل حركة قرنق في السودان،
والجبهة الشعبية في أريتريا، والجبهة الشعبية لتحرير تقراي، وتنظيم رابطة
الشعوب الأثيوبية، ويدعم هذه الحركات دول مجاورة مثل كينيا، وأوغندا، وكذلك
قوى خارجية، ودول غربية، كما أن لمجلس الكنائس العالمي دوراً مشبوهاً في
التخطيط لإقامة كيان نصرني هناك، وقد جاءت تحركات كارتر رئيس أمريكا
السابق في المنطقة، وكذلك محاولة الانقلاب الأخير في أثيوبيا لتصب في هذا
الاتجاه.
والمنطقة مرشحة لمزيد من التفجيرات المستقبلية، وما يصاحب ذلك من
مقايضات بين القوى المؤثرة فيها ... لذا فنحن ننصح إخواننا بالحذر من الوقوع في
لعبة المقايضات السياسية، أو أن يكونوا مادة لبعض فصولها، لذلك فالترابط بين
الدعاة عموماً في كل أرض الله، والتناصح بينهم كفيل بكشف مخططات خصومهم
وكفيل بتفويت الفرص على أعداء الجهاد وأعداء المجاهدين.
وفي الختام نسأل الله أن يعلي كلمته، وأن يعز دينه، وأن يوحد المسلمين
تحت رايته.(21/80)
مذابح الجمعة في مقديشيو - الصومال
رابطة العلماء في الصومال
وقعت مذبحة شنيعة في الحادي عشر من ذي الحجة 1409 هـ الموافق
الرابع عشر من يوليو 1989 م عقب صلاة الجمعة في معظم جوامع العاصمة
مقديشيو، مثل جامع الشيخ علي صوفي، وجامع التضامن الإسلامي، وجامع
سيغالي، وجامع الحاج يوسف، وجامع حي سيناء، وجامع صنعاء، وجامع
بيحاني، وغيرها من الجوامع في العاصمة، حيث هاجم الحرس الخاص لزياد
بري المصلين، وهم مدججون بالسلاح والعربات المصفحة داخل الجوامع وفتحوا
وابلاً من النيران عشوائياً على جموع المكبرين داخل الجوامع المذكورة تكبيرات
عيد الأضحى.
وتفيد الأخبار أن إطلاق النيران العشوائي قد شمل معظم العاصمة وضواحيها
وكان الحرس الخاص يلتقطون جثث الضحايا فور سقوطهم على الأرض ثم
يجمعونهم في أماكن خاصة ويحفرون لهم ويدفنونهم ليلاً في مقابر جماعية بواسطة
الجرافات بدون غسل، ولا كفن، ولا صلاة، وبدون علم ذويهم، كما هرب كثير
من الناس بجرحاهم إلى بيوتهم ومات بعضهم هناك بسبب عدم الرعاية الصحية لهم
، وتم دفنهم داخل بيوتهم خوفاً من جنود الحكومة، كما وجد كثير من الجثث بعد
أيام في الأزقة مما جعل عدد القتلى غير محصور حتى الآن لأن وفيات الجرحى
مستمرة يومياً لعدم الرعاية الصحية - كما قلنا - ولخوف الناس من الذهاب بهم إلى
مستشفيات الحكومة خشية الإبادة لذويهم وتدمير بيوتهم، كما حدث لمن حاول ذلك
كما أخبر شهود العيان من أهل البلاد، وكما نشرت جريدة الخليج بالتاريخ 22 / 7
/1989.
وقد لقي من جزاء ذلك أكثر من ألف وستة وأربعين شخصاً مصرعهم، ومن
بين القتلى خمسون شخصاً أعدموا فور القبض عليهم دون محاكمة، وذلك ماعدا
الاغتيالات الجماعية.
وقد ألقى القبض على كثير من الإسلاميين، منهم الشيخ إبراهيم محمد علي
خطيب ومدرس جامع سيغالي، والشيخ عبد الرشيد، والشيخ على صوفي خطيب
ومدرس جامع الشيخ علي الصوفي، والشيخ نور الدين علي أحمد الداعية المعروف
في البلاد، والشيخ شريف شرف مدرس التفسير بمسجد أربع ركن، ومحمد علي
طاهر الكاتب عن المخططات النصرانية ضد الإسلام في البلاد، حيث زج بهم في
السجون والمعتقلات حتى اكتظت السجون بهم، مما اضطر الحكومة إلى نقل عدد
كبير منهم إلى معسكرات التدريب مثل عيل جالي وطنانة، ومراكز الشرطة.
أسباب هذه الحوادث:
1- تزايد حركة التنصير في البلاد في السنوات الأخيرة حتى بلغ عدد هيئات
التنصير أكثر من 32 هيئة تنصيرية تتستر باسم الهيئات الخيرية لكن غرضها
الوحيد نشر المسيحية وتنصير أبناء المسلمين، وقد فسحت لهم الحكومة مجالاً
واسعاً، حيث أعطتهم الحرية كاملة ففتحوا في أنحاء البلاد مدارس خاصة لتنصير
أطفال المسلمين، ومراكز لتلقي الشباب مساعدات مادية ومحاضرات تنصيرية،
وتقدم لهم أيضاً وعوداً بإرسالهم إلى جامعات أوربا وأمريكا مستغلين بذلك أحوال
البلاد المعيشية والإدارية السيئة، وقد زعم ممثل الفاتيكان في الصومال أخيراً بأن
أكثر من اثني عشر ألف شاب صومالي دخلوا في المسيحية في الآونة الأخيرة.
2 -وبالمقابل فقد حاربت الحكومة نشاط الإسلاميين بالدعايات المغرضة
المضادة، وألقت القبض عليهم وأعدمت بعضهم، وحكمت على كثير منهم بالسجن
لمدد متفاوتة.
3- عداوة الرئيس الشديدة وكرهه للإسلام وأهله: فقد صرح بري عدة مرات
بمناسبات مختلفة بتصرحيات معادية للإسلام منها ما قاله حين أصدر قانون الأحوال
الشخصية بأن الإسلام قد ظلم المرأة، ونحن ننتصر لها ونسويها بالرجل في جميع
المجالات في الإرث والنكاح والطلاق وغير ذلك. وزعم بأن خمسين في المائة من
القرآن الكريم منسوخ إلا أن العلماء لا يفهمون ذلك، نشرت ذلك جريدة نجمه
أكتوبر الحكومية بتاريخ 1/ 1/ 1975 م ومن عادته أن يتهكم على العلماء ويقول
على سبيل السخرية والاستهزاء: السفهاء فعلوا ذلك، يعني العلماء الداعين للإسلام
وقد حدث مرة أن واجهه أحد العلماء بنصيحة فقال: أكره الناس إليّ من قال لي اتق
الله وخوفني بالله فهل الله سبع يأكل الناس؟ !
4 - قتل الأسقف الإيطالي في مقديشو: قتل الأسقف الإيطالي في مقديشو 9
/ 7 / 1989 م بيد مجهول، والجدير بالذكر أن المقتول لا يعرف له قاتل حتى
الآن، وملابسات القتل تؤكد بأن الحكومة هي وراء ذلك الاغتيال لأن القاتل فر
بسيارة الجيش ولأن الأسقف أعطى أسراراً كثيرة تتعلق بتجاوز السلطات لحقوق
الإنسان في الصومال للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي زارت البلاد
قريباً.
ومع هذا فقد ألصق زياد بري زوراً وبهتاناً تهمة قتل هذا الأسقف الكاثوليكي
بالإسلاميين، فعل ذلك لكي ينتقم من الأسقف الذي أفشى أسراره من جهة، وليتخذ
من ذلك ذريعة لضرب الإسلاميين الذين ضاق صدره من نشاطهم المتزايد وتأثيرهم
البالغ على الشعب من جهة أخرى، ثم أراد إرضاء الفاتيكان وأعداء الإسلام عامة
فأظهر لهم حزنه الشديد لقتل الأسقف المحبوب له كما يدعي، ووعد من يعثر على
القاتل بجائزة مالية قدرها عشرة ملايين شلنغ صومالي حسبما نشرت جريدتا البيان
والخليج بتاريخ 18 / 7 / 1989م كل هذه الأسباب وغيرها قد أثارت غضب
الشعب الصومالي المسلم، فأعلن العلماء على منابر المساجد غضبهم واستنكارهم
لمطاردة العلماء واتهامهم بما هم براء منه كما استنكروا التسهيلات الواسعة النطاق
التي تقدمها الحكومة لحركات التنصير.
اغتيالات جماعية:
تفيد الأخبار الواردة أن السلطات تداهم الناس في بيوتهم ليلاً وتأخذ الرجال
إلى خارج العاصمة وتطلق النار عليهم جماعياً.
وقد أفاد شهود عيان أن مائة وعشرين جثة وجدت ملقاة في منطقة (عين
عدى) وكذلك وجدت جثث أخرى في منطقة (الجزيرة) وذكر ناس من أهل البادية
أنهم رأوا حوالي ثمانين رجلاً يطلق عليهم النار ثم حفر لهم قليب كبير عند (طنانة) .
لا تغتروا بالتصريحات الكاذبة:
اعتاد زياد بري وأعوانه تضليل الرأي العام العالمي وفرض التعتيم الإعلامي
عما يجري داخل الصومال، فعلى المسلم أن يتتبع الأخبار الصحيحة من مصادرها
الموثوقة، وألا يغتر بتصريحات كاذبة من زياد بري وأعوانه الذين يشوهون
الحقائق خوفاً من التنديد العالمي لجريمتهم البشعة اللاإنسانية.
حدثت هذه الذابح في مقديشيو بعد تدمير شمال البلاد تدميراً شاملاً بيد جيش
زياد بري مستخدمين جميع الأسلحة العصرية في (هرجسة) و (برعو) وتوابعهما،
وقد فر من نجا من التدمير والرصاص من أهل تلك المناطق إلى الحبشة، ومازالوا
هناك لاجئين.
صرخة من مسلمي الصومال:
يستنجد الشعب الصومالي المسلم الجريح إخوانه المسلمين في أنحاء العالم كي
يتوسطوا لدى سلطات الصومال للإفراج عن المعتقلين، وإيقاف الاغتيالات
الجماعية، والسماح للعلماء بمزاولة نشاطهم كما يهيب الشعب بإخوانه المحسنين من
ذوي القلوب الرحيمة أن يمدوا إليهم يد العون والمساعدة لإنقاذ المنكوبين
والمتضررين من الأيتام والأرامل والعجزة حتى لا يقعوا في شراك التنصير الحاقد.(21/88)
بأقلام القراء
وضوح الهدف
عبد لله سليمان الفراج
إخواني القراء: من خلال صفحات مجلتكم الغراء " البيان " اسمحوا لي أن
أوجه لكم هذه الكلمات التي أخص بها إخوتي الشباب الذين هم أمل الأمة في إعادة
الماضي التليد، وبناء الحاضر الزاهر، وتأسيس قواعد مشرقة لمستقبل الأمة.
إخواني:
الحياة تافهة عندما يجد الشاب نفسه بلا ضابط، وفكره بلا محتوى، وحياته
بلا هدف، ولا معنى، مرحلة الشاب مرحلة حرجة ومنعطف حاد، فالمرء يفترسه
عاملا الفراغ وغموض الهدف، فيسلبان الشاب فترة ذهبية من حياته، يؤسس فيها
القواعد الأولى لحياة هادفة قد تكون منطلقاً لآفاق أوسع.
فالهدف لابد من وضوحه، وعندما نسأل عن الهدف لا نذهب بعيداً، فكتاب
الله بين أيدينا يقول فيه عز وجل: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] فتحقيق
غاية العبودية بمفهومها الشامل هو الغاية والهدف في الحياة.
علمنا الهدف فهل يكفي ذلك للوصول إليه، لا أظن أن هناك إجابة تزاحم
قولنا بأنه لابد من علم ومعرفة دقيقة بواقعنا، لكي نسير على بصيرة، فعندما ننظر
من حولنا نرى غزواً فكرياً خطيراً قد استشرى واستفحل خطره ونحن لاهون عنه
غافلون، فهو يسلك طرقاً خفية حتى ينفث سمومه، ولا تدري الأمة إلا وقد ضاعت
شخصيتها، وزالت معاني أصالتها وقوتها، سرى ذلك الغزو في جسد الأمة وترك
بصماته على كلى جزء من هذا الجسد، وما كان ذلك السريان إلا نتيجة لـ:
1- الفراغ الذي ملأ أوقات أفراد الأمة شيباً وشباناً، نساء ورجالاً.
2- ضعف الإيمان في قلوب أفراد الأمة، إلا من عصم ربك، وقليل ما هم.
3- غلبة الجهل المتراكم حتى في الطبقات التي تدعي العلم وحمل الشهادات.
4- قلة التربية الصحيحة السليمة للنشىء في البيت أو المدرسة، أو أجهزة
الإعلام، أو أجهزة الترفيه أو الشارع.
إخواني الشباب، يا أمل الأمة: ننظر إلى حالنا فلا نرى ما يرضاه ذوو الهمم
العالية من مخلصي هذه الأمة مما يجعل سؤالاً يؤرق أجفاننا وهو: ما منشأ ذلك
الحال؟ .
ولا يختلف اثنان على براءة ما نعتقده من ذلك، فعقيدتنا تدعونا إلى الصلاح
والإصلاح، واستغلال جميع الأسباب النافعة التي ترقي بنا وتعلينا، علمنا ذلك
وإدراكنا لواقع أمتنا يوجب علينا مضاعفة جدنا ونشاطنا، ولا نكون كمن رأى حال
الأمة وحرج موقفهم فتخلى عنها كالجبناء، والتفت إلى حضارات ومدنيات بُنيت
على الكفر والإلحاد، مزخرف ظاهرها خراب باطنها.
إن الأمة تريد منا شباباً عالمين عاملين وإلا فنحن في أمية من نوع آخر ليست
هي الجهل بالقراءة بل هي الجهل بالتزام ما نعتقده ونعلمه ونقرؤه التزاماً عملياً في
كل شؤون حياتنا في: المنزل، المكتب، الشارع، المصنع ...
إخواني: عليكم تلقى الآمال ومنكم يطلب الكثير، فالطريق طويل والصعاب
فوق ما نتصور ولكن قال تعالى: [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [
الله ولي الذين امنوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ] .
*****(21/92)
رسالة
الأخ طارق علي السقاف
- صنعاء-
أرسل رسالة طويلة يبدي فيها إعجابه بمجلة البيان ويتمنى لها التوفيق
والاستمرار في خدمة قضايا الأمة الإسلامية، ويتحدث أيضاً عن مشاكل المسلمين
في أنحاء كثيرة من العالم، ثم يبدي تعاطفه مع الانتفاضة في فلسطين المحتلة،
ويرى أن الأمل في الإسلام فقط كطريق لتحرير المقدسات وطرد الغزاة، ثم يقول
في رسالته:
( ... فلينظر المسلمون إلى حالهم اليوم، وليتخذوا من الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وصحابته مثلهم الأعلى، بدلاً من أن يتخذوا من الممثلين والممثلات،
والمفكرين العالميين وعباقرة الغرب قدوة لهم، وليهتموا بجيل الشباب، ويحثوه
على العلم النافع وذكر الله والتمسك بالتعاليم الإسلامية، بدلاً من اللهاث وراء
الحضارة الغربية المادية، لأن الشباب هم الجيل الذي سيتحمل مهام نشر دين
الإسلام، لذلك علينا تربيتهم تربية إسلامية صحيحة بعيداً عن المفاهيم المادية التي
من شأنها تخريب المجتمعات، كما يفعل الفكر الشيوعي الإلحادي القائم على إنكار
وجود الله) .(21/94)
الصفحة الأخيرة
العربية والإسلام
محمد رشيد رضا - الخلافة: 100
إن اللغة رابطة من روابط الجنس، وقد حرم الإسلام التعصب للجنس لأنه
مفرق للأمة ذاهب بالاعتصام والوحدة واضع للعداوة موضع الألفة، وقد نهى النبي
-صلى الله عليه وسلم- عن العصبية العمية الجاهلية وتبرأ ممن يدعو إليها أو يقاتل
عليها، وقد كان من إصلاح الإسلام الديني والاجتماعي توحيد اللغة بجعل لغة هذا
الدين العام لغة لجميع الأجناس التي تهتدي به، فهو قد حفظ بها وهي قد حفظت به
. فلولاه لتغيرت كما تغير غيرها من اللغات، وكما كان يعروها التغيير من قبله.
ولولاها لتباعدت الأفهام في فهمه، ولصار أدياناً يكفر أهلها بعضهم بعضاً، ولا
يجدون أصلاً جامعاً يتحاكمون إليه إذا رجعوا إلى الحق وتركوا الهوى، فاللغة
العربية ليست خاصة بجيل العرب سلائل يعرب بن قحطان، بل هي لغة المسلمين
كافة ولغة شعوب أخرى من غير العرب، وطوائف من العرب غير المسلمين، وما
خدم الإسلام أحد من غير العرب إلا بقدر حظهم من لغته، ولم يكن أحد من العرب
في النسب يفرق بين سيبوية الفارسي النسب وأستاذه الخليل العربي في فضلهما
واجتهادهما في خدمة اللغة، ولا بين البخاري الفارسي وأستاذه أحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهوية العربيين في خدمة السنة، بل لم يخطر في بال أحد من سلف
الأمة ولا خلفها قبل هذا العصر أن يأبى تفضيل كثير من الأعاجم في النسب على
بعض أقرانهم وأساتذتهم من العرب في ما امتازوا به من خدمة هذا الدين ولغته،
ولا نعرف أحداً من علماء الأعاجم له حظ من خدمة الإسلام وهو يجهل لغته ولولا
أن ظل علماء الدين في جميع الشعوب الإسلامية مجمعين على التعبد بقراءة القرآن
المعجز للبشر بأسلوبه العربي وأذكار الصلاة وغيرها بالعربية، ومدارسة التفسير
والحديث بالعربية؛ لضاع الإسلام في الأعاجم منها.(21/96)
ربيع الأول - 1410هـ
أكتوبر - 1989م
(السنة: 4)(22/)
الافتتاحية
التكلف قيود وأغلال
من صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- التواضع والبعد عن التكلف، وقد
انطبعت رسالة الإسلام بهذا الخلق الذي هو انعكاس للفطرة السليمة. وليس أضر
على الدعوة الإسلامية من التقيد بالرسوم والأشكال التي تعتبر حاجزاً بين كلمة الحق
ووصولها إلى الناس.
والذي يدرس حركة انتشار الإسلام في العالم سيظفر بهذه السمة تميز سلوك
المسلمين الأوائل بوضوح وجلاء، فقد حملوا هذه الدعوة بحرارة وقوة، هي صفة
الإيمان العميق، وببساطة وعفوية هي ميزة الخلق البعيد عن التعقيد، وصفة
النفوس الجادة التي لا تنشغل بالترف - بكل أشكاله - عن الحقائق.
إن الجنس العربي الذي حمل عبء الدعوة إلى الله قد اختاره الله لأسباب
كثيرة يعلم الناس منها ويجهلون، ومن هذه الأسباب أنه جنس فطري لم يتلوث
بأمراض المدنيات التي أفسدها الإنسان بغروره وجهله بنفسه، ولم تقتل حيويته
الفلسفات الجامدة والرسوم المتكلفة التي قيدت كثيراً من البشر وتحكمت فيهم. ولذلك
لم يكن يعبأ المسلمون الأوائل بكثير مما تواطأ الناس عليه من عادات ومراسم حين
كانوا يجدونها تخالف ما أمرهم الله ورسوله به، ولم يكترثوا بتحليل الناس
وتحريمهم إذا لم يكن لذلك برهان ودليل مما أنزله الله أو قرره رسوله. وليست هذه
الكلمة مخصصة لإبراز خصائص الجنس العربي؛ ولكن الغرض منها هو التنويه
بهذا الخلق الأصيل وهو البعد عن التكلف في الأمور كلها. لقد ابتعد المسلمون شيئاً
فشيئاً عن فهم الإسلام، ودبت فيهم أمراض اجتماعية وثقافية كثيرة، ومنها تأثرهم
بما وفد عليهم من أفكار غيرهم من الأمم. وهذا هو الواقع الذي كان ومازال،
والذي ينبغي أن لا ينكر أو يجادل فيه، لقد تراكمت مؤثرات أجنبية وأساليب غريبة
لا علاقة لها بالإسلام، وليست من روحه أو من أصوله، فحالت بين المسلمين
وبين التفاعل مع الحياة بما يمليه عليهم الصحيح من أصول دينهم، وأصبح
المسلمون يحاربون في جبهات ثلاث:
جبهة أعداء الإسلام الخارجيين.
وجبهة أعدائه الداخليين.
وجبهة الأفكار الدخيلة التي اعتنقها المسلمون بحسن نية.
وقد تكون هذه الأخيرة أشد الجبهات.
إذا رجعنا إلى هدي النبي فإننا نجد أن سيرته -صلى الله عليه وسلم- كانت
حرباً على التكلف حيثما كان وفى أي صورة وجد، التكلف في الأقوال والأفعال،
والتكلف في المعيشة، فقد ذم الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- الثرثارين،
والمتفيهقين وذم التنطع، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وينهى أن يسلك
معه في توقيره وإطرائه مبالغات الأعاجم، ولم يكن يتميز عن أصحابه بلباس أو
شارة، وكان طبعه أن يشارك أهل بيته أعمالهم، ويشارك أصحابه نشاطاتهم، ولم
يكن الدين عنده مظهراً وهنداماً لا يصح الإخلال به؛ بل حقيقة قلبية، وسلوكية
نابعة من ذلك تفيض خيراً لمصلحة الجماعة.
ما الذي نحتاجه اليوم في حياتنا الحاضرة من ذلك؟ .
إننا نحتاج إلى عزمة صادقة نصارح بها أنفسنا لنرى حيثما التفتنا حولنا
أكداساً من الأعراف الثقيلة التي تراكمت على الصورة الصحيحة للإسلام، هذه
الأعراف التي اختلطت بالعقائد والأخلاق الإسلامية حتى أصبح من الصعب على
كثير من المسلمين التمييز بين ال0أصيل والدخيل، والضروري وغيره.
إن كثيراً من هذه الرسوم والأشكال جاء عن طريق المدنيات الوثنية، وتبناه
المسلمون في فترات متعاقبة، فأعاقهم عن النهوض وعمل على شل حركتهم،
وأوضح مثال على ذلك الدولة العثمانية، فقد ورثت هذه الدولة من الأعراف الجامدة
والشكليات المكبلة - سواء من الإمبراطورية البيزنطية المغلوبة، أو من الشعوب
الكثيرة التي انضوت تحت حكم العثمانيين - ما أثر في بقائها، وساعد على ضعفها
فيما بعد، ثم على انتهائها.
ونحن إذ نذكر ذلك نذكره لاستنباط الدرس الذي يفيد في الدعوة الإسلامية،
فلن تنجح هذه الدعوة إلا بمنهج يشكل نبذ التكلف أحد أعمدته الرئيسية، اقتداء
بسيرة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، التكلف الذي يقيد العمل، ويهمل
الجوهر، ويلتفت إلى ما لا ينفع، إما لسهولته، وإما لسهولة خداع الناس
واسترضائهم بواسطته، هذا التكلف المقيت الذي يهدر طاقات الأمة فيما لا يجدي
ولا يثمر غير الخيبة والغفلة، التكلف الذي يجعل أمة تنفق الألوف المؤلفة على
الجوانب التافهة، وتقتر إلى أبعد حدود التقتير على الجوانب المهمة.
إن الأمم التي تبنى المسارح والمسابح ومدن الملاهي، وتستورد الفرق الفنية
من كل جهات الأرض من جهة، وتهمل التفكير الجدي في حل معضلة إطعام
شعوبها حتى لا تلجأ إلى استجداء البنك الدولي والدول الغنية من جهة ثانية؟ لهي
أمم غارقة في بحار التكلف مكبلة بأغلاله، وهى حين تخسر الملايين على مثل هذه
الترهات التي تشغل شعوبها بها لا تخسر مالها ومدخراتها فقط؛ بل تخسر شعوبها
وكرامتها، ولا يبقى لها من شيء تفتخر به إلا الأكاذيب التي لن يصدقها أحد.
لا مخرج لنا، ولا أمل في تحسن الحال ما لم ننفض عنا أردية التكلف،
وأثواب الزور، وأن نصدق مع الله ثم نكون صادقين مع أنفسنا فنبحث عن عللنا
ونعترف بها، وإلا فالبديل عن ذلك هو الفضيحة.
ألم يشر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: «المتشبع بما
لم يعط كلابس ثوبي زور» ؟ ! .
ونختم ما نحن فيه بما علقه الشيخ محمد حامد الفقي في كتاب (اقتضاء
الصراط المستقيم) ص 150، من كلمة حق مشرقة، حيث قال:
(.. والحق الذي لاشك فيه: أن الشيطان ما ركب إلى الأمة الإسلامية
لإفسادها إلا مطايا منافقي العجم، من فرٍس، وهند، وروم، حتى أكبهم على
وجوههم فيما هم فيه اليوم، من انحلال ووهن، في العقول والقلوب، والاختلاف
في العقائد، والتفكير، والأعمال. ولا صلاح لهم؛ ولا علاج مما هم فيه إلا بأن
يعودوا عربا في لسانهم، وتفكيرهم، وأخلاقهم، ليفقهوا القرآن، ويعرفوا هداية
الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فيكونوا بها مسلمين يستحقون أن يحقق الله لهم
ما وعد المسلمين الصادقين) .(22/4)
جلسة فكرية
عبد القادر حامد
دار نقاش بيني وبين أحد الأصدقاء المعنيين بالثقافة والأدب وبالأوقات التي
تمر بها الأمم بازدهار فكري، أو بجمود وسكون؛ وأسباب ذلك، وما الأمور التي
تؤدي بالأمة والجو الذي يلفها إلى إحدى النتيجتين فقال:
لم يحدث أن نهضت أمة نهضة فكرية دون تعاون واشتراك بين جهتين: بين
القادة وبين الشعوب. وإن شئت الدقة فقل: بين القادة السياسيين وبين القادة
الفكريين. وكل الظواهر التي يشمل خيرها أمة بعينها؛ فينقلها من الجهل إلى العلم، ومن التخلف والجمود؛ إلى التقدم والحركة هي نتيجة هذا التعاون. ومتى انفك
هذا التحالف والاتفاق الضمني بين هاتين الجهتين فهذا نذير الضعف والتحلل، أو
الفوضى وعدم الاستقرار.
قلت: إذن أنت ترى أن الأفراد لا يستطيعون أن يقوموا بهذه المهمة بمعزل
عن تحالفهم مع القادة؛ فماذا تقول في الآثار التي تركها مفكرون ومصلحون عبر
القرون لم يرتبطوا بقيادة تحالفوا معها لينجزوا ما أنجزوا، بل منهم من كان في
أماكن لم توجد فيها سلطة أبداً، ولكنهم خلفوا آراء أحدثت تحولاً عجيباً فيمن جاء
بعدهم؟ .
قال: إن الأفكار العظيمة قد تنتقل من عصر إلى عصر، مثلها مثل البذور
التي تدخر من وقت لآخر، أو تجلب من بلد إلى آخر.. لكن هذه الأفكار لا تعمل
وحدها، بل لابد لها من حملةٍ يحملونها عن إيمان بها واقتناع، ولكي تعطي أثراً ذا
بال لابد أن يتوفر لها المحيط الذي تتفاعل معه. أما إن كبتت وحيل بينها وبين
الناس بشتى الطرق؛ فمن أين لها أن يجتمع الناس عليها، وتحدث ما يرتجى منها؟! نعم؛ إنها لا تموت، ولكن تأثيرها مؤجل إلى أن تحين ساعة إطلاق سراحها.
قلت: هل تعنى أنه لابد من قوة مادية تقسر الناس على اتباع فكرة ما قسراً،
وتكرههم على قبول وجهة نظر واحدة، وتحارب ما عداها حرباً لا هوادة فيها؟
إذن وقعنا في الاستبداد المؤدي إلى الطغيان وهدر الحقوق، الذي يشل الشعوب
ويقتل فيها الحيوية ويزرع فيها اليأس والهزيمة.
قال: كأني بك تنظر إلى أمثلة تراها ماثلة أمامك؛ بأخبارها ومعاناة ناسها
وتخشى أن يهدم طغيان ببناء طغيان آخر بديل..
لا تنسَ أن هذه الأمم طبقت عليها مبادئ ليس بينها وبينها صلة، وليست
وليدة التدرج الطبيعي لنضج الأفكار الصحيحة، وإنما هي نزوات متطرفة في
رؤوس حفنة من أصحاب الأهواء، فرضتها عوامل عديدة، وهى من حيث المبدأ
تخالف الفطرة البشرية، وتخالف طبيعة الناس الذين طبقت عليهم، وتخالف أصل
النظريات التي اشتقت منها.
والأمر مختلف بالنسبة للإسلام، فأنت لست بحاجة إلى قهر الناس لقبوله،
لأن له رصيداً غنياً في الفطرة البشرية، ومن جهة ثانية فإن جذوره عميقة في تربة
المجتمعات الإسلامية، إنه الحق الذي لا يحتاج إلى من يشق له الطريق ويبين
محاسنه للناس، بل إلى الذي يرفع العوائق الاصطناعية، والسدود التي يتعمد
وضعها أمامه أعداء الحق من كل ملة، وفى كل عصر. وهو -في الوقت نفسه -
ليس بحاجة إلى التفنن في اختراع أساليب دعاية شيطانية لنقنع الناس به سيراً على
مبدأ: (الغاية تبرر الوسيلة) ، ولا إلى استيراد طرق تعذيب وحشية فاشية أو نازية
أو شيوعية حتى نكبح جماح معارضيه.
قلت: هل يعني ما قدمت أنك في شك من أن في حياة الأمم لحظات مصيرية، ومنعطفات حادة، ولحظات تغيير شامل، ينظر إليها دعاة التغيير، فتجري في
أحاديثهم، وعلى أقلامهم، فيعبرون عنها (بالثورة) ، وتارة (بالانقلاب) ؟ . قال:
أما إنه هناك منعطفات حادة ولحظات مصيرية في حياة الأمم فنعم، وأما أن هناك
شيء يصح أن يطلق عليه وصف (انقلاب) بالمعنى اللغوي الدقيق للكلمة؛ فلا.
والخلل يحصل من أن سطحية الأفكار؛ وسطحية كثير ممن ينشدون التغيير
والتجديد في المجتمعات تنعكس سطحية في استعمال اللغة فيحدث خلط وتشويش،
وتضيع الحقيقة في زحمة الخلط والتشويش.
فكلمة انقلاب تعنى - من حيث مدلولها اللغوي - أن الأوضاع انقلبت رأساً
على عقب، وأن كل شيء انعكس إلى ضده، وأن هذا الانعكاس والتغيير حصل
في فترة قصيرة جداً قد تكون نتيجة حركة عسكرية أو أهلية: نقول هذا لأن الكلمة
من حيث الوضع تستعمل لوصف واقع مادي، ثم استعيرت لتعبر عن واقع معنوي
أو ثقافي. ولكن، هل (الانقلاب) يحدث هكذا، فجأة، ودون مقدمات تمهد إليه،
وهل يغير كل شيء في المجتمع بضربة واحدة؟ وبعبارة أخرى: هل التغيير الذي
يحصل في مجتمع ما يحصل بخبطة واحدة دون أسباب ونتائج سابقة مترابطة؟ .
إن الواقع المشاهد لا يقول بهذا، بل يقر أن الحوادث التاريخية -مهما كانت
آثارها بعيدة الأثر وعميقة التأثير - ليست إلا حلقات في سلسلة مترابطة، وأن
شهرتها وانطباعها في ذاكرة مجموعة من الناس راجع إلى أن الإنسان عندما يذهب
لإعادة تركيب حلقات التاريخ من أجل فهمها، وانتزاع القوانين والعبر منها؛ إنما
يحاول أن يركب حلقات الماضي كما يحب أن يجدها هو.
ولا شك أن ماضي الأمة كماضي الفرد، فيه لحظات سعادة، ولحظات شقاء،
والإنسان بطبعه لا يحب إلا تذكر لحظات السعادة، وتجاهل غيرها، لأنه لا يحب
أن يتذوق طعم الشقاء مرتين، فتراه عندما يبني تاريخه لا يحب أن يستوقفه منه إلا
ما يرفع الرأس، وقد يضرب صفحا عما دون ذلك. لكن فئة قليلة جداً هي التي
تعيد تركيب التاريخ بأسلوب أقرب إلى المنطق العلمي وتحاول جاهدة - بسعة
علمها، وصبرها، وبعدها عن الهوى - رؤية جميع حلقاته - حلوها ومرها، نقول: تحاول، عن قناعة بأن الحياد والتعقل والموضوعية الباردة لا تتوفر كاملة في
دراسة التاريخ، مهما ادعى المدعون، ولكن قدراً من ذلك - تنتج عنه النتائج
الصحيحة والمقبولة - ممكن، وهو القدر الذي طالب الله به عباده بقوله: [أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] [الروم: 9] . أما الدهماء فغير قادرين إلا
على رؤية وتذكر ما يعتبرونه مهماً من الحوادث ولذلك؛ حينما يديرون مثل هذه
الكلمات: ثورة، انقلاب.. على ألسنتهم؛ يوقعهم نظرهم القاصر في نتائج خطيرة
هي معالم بارزة في كل مجتمع عاجز.
فمن ذلك:
ينظرون إلى التاريخ على أنه قفزات وفرص؛ لا مجال يخضع لقانون
السببية.
* تتحول النظرة إلى المجتمع إلى أنه مائدة قمار تحكمه قوانين الشطارة
والخداع والصعلكة، ولا تضبطه قوانين الجد والاجتهاد والتعب المثمر.
* يدب اليأس والكسل، وتتراخى الهمم، وتذبل الأرواح، وتصاب النفوس
بأمراض اجتماعية تميت الإنسان وهو حي.
* تطفو على سطح المجتمع الجيف المتحركة التي تزكم رائحتها أنوف
أصحاب النفوس القوية، والمبادئ القويمة، فيتخفى أكثر هؤلاء ويتوارون، ولا
يبقى منهم إلا قلة حالها شبيه بحال مدينة ضربها وباء مهلك أو زلزال مدمر، أو
فتنة مشتعلة: هلك فيها من هلك، وهرب منها من هرب، ولم يبق فيها إلا فئة
صغيرة، عليها يقع دفن الجثث، وتطهير الأمكنة، وإخلاء من لا يزال به رمق
إلى مواقع العلاج.
إذا رجعنا إلى اللحظات التي يصفها الناس بالمصيرية، أو المنعطفات الحادة
أو فترات الانقلاب نرى أن الذي أضفى عليها هذه الأوصاف هم الناس لأغراض
شتى، ولحاجات في نفوسهم، أما هي - في حقيقتها- فلا تعدو أن تكون حلقات في
مجرى التاريخ.
ولا ينبغي أن يفهم من كلامي أن فيه تقليلاً من قيمة بعض الأحداث؛ ولكن
الهدف منصب على أن أي حادثة مهما عظمت وعظم أثرها فهي وليدة ظروف أدت
إليها، وليست ضربة حظ عمياء، أو رمية من غير رامٍ.
قلت: أريد منك الفكرة الرئيسية التي تستفاد من هذا الحديث، حتى لا يتشعب
علينا الأمر فتضيع الفكرة، ونخسر العبرة.
قال: الغرض الأساسي من هذا الحديث هو الإشارة إلى علة الجمود الثقافي
والفكري الذي يخيم على العرب والمسلمين في هذه الفترة، وهذه العلة هي انعدام
التعاون الصادق بين طرفي القيادة في الأمة: الزعماء والعلماء، ونظرة كل طرف
إلى الآخر بعين الريبة والشك، وقيام العلاقة بينهما على الخوف.
ففي ظل الخوف ينشغل الفكر بتحصيل المأمن بدل أن ينشغل بالإنتاج المثمر، والخوف يعرقل المواهب إن لم يقتلها، وفى ظله يفرخ اليأس والقنوط، ويشيع
الانشغال بما لا يجدي، وينتشر السخف بدل الثقافة، وتروج الخرافات بدل الحقائق، ويكثر مستثمرو الآلام والأوهام بدل الأطباء الحكماء، ويهرب أغلب الناس من
مواجهة الحقائق إلى بلايا كالخمر والمخدرات والتدخين، وإلى ما قد يكون مثلها أو
أسوأ أثراً كالأحاديث الفارغة، والأدب المخدر، والفكر الكسيح.
كل ذلك مما يثمره الخوف والتوجس. وما لم تصحح هذه العلاقة المختلة،
وتبنى على أساس من الثقة والائتمان؛ فلا أمل في خير، ولا خروج من سبيل.
قلت: لكن الثقة والائتمان لن تكون ما لم يكن طرفا المعادلة قويين أمينين؟ ! .
قال: هذا.. أو ما نحن فيه!(22/8)
مقابلة
مع الشيخ الدكتور عبد العزيز القارئ
يسر مجلة البيان أن تلتقي بالدكتور عبد العزيز القارئ الأستاذ بقسم الدراسات
العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد التقى المحرر بفضيلة الدكتور
وطرح عليه بعض الأسئلة فأجاب عليها مشكوراً.
1 - نرجو أن تعطى القارئ فكرة عن مسيرتك العلمية، ومَن مِن العلماء كان
له الأثر الأكبر في حياتك العلمية.
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
فأجيب على هذا السؤال من باب التعارف المستحسن بين المؤمنين، خاصة
أنه سيتضمن الجواب تعريفاً ببعض العلماء الذين أدركتهم، وإلا فإني أعلم قدر
نفسي وقلة بضاعتي، أسأل الله أن يغفر لي ما لا تعلمون، ويجعلني خيراً ما
تظنون.
أقول: أول ما بدأت في الصغر بقراءة القرآن وحفظه على والدي الشيخ عبد
الفتاح بن عبد الرحيم القارئ رحمه الله، وهو قرأ على شيخه أحمد بن حامد
التيجمي المصري الرِّيدي بمكة المكرمة، وإسناده متصل إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وقد ذكرت ذلك في مقدمة كتابي (قواعد التجويد على رواية حفص عن
عاصم بن أبي النجود) ، وحفظت (التحفة) للجمزوري، و (المقدمة) للجزري،
وهما منظومتان في التجويد، ثم قرأت عليه قسماً من متن (القدوري) في الفقه
الحنفي، وبعد وفاة والدي رحمه الله سنة 1385 هـ تلقيت قراءة نافع بروايتي
ورش وقالون على تلميذ والدي الشيخ محمد الأمين بن أيدا عبد القادر الشنقيطي،
وذلك بمضمن نظم (الدرر اللوامع في مقرأ الإمام نافع) لابن برِّى الغرناطي.
أما الدراسة في المدارس الحكومية فبدأتها في المعهد العلمي بالرياض، ثم في
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام 1381هـ إلى 1389 هـ وتخرجت في
كلية الشريعة بها، ثم حصلت على درجة (الماجستير) ثم (الدكتوراه) في فقه
السياسة الشرعية من جامعة الأزهر بمصر.
وأبرز من كان له أثر في نفسي أثناء الطلب بعد والدي رحمه الله، هو سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز، أمد الله في عمره وبارك فيه، فقد كان سماحته أثناء
رئاسته للجامعة الإسلامية بالمدينة أبَّا مربياً، وعالماً ومُوجِّهاً، فأثر بعلمه وعطفه
وتواضعه، وبمواقفه الصلبة في حماية منهج أهل السنة والجماعة، وبنصحه
للمسلمين رعاة ورعية، وجرأته في الحق، أثر بكل ذلك في نفوس أبنائه الطلاب،
وأنا واحد منهم إذ ذاك، ثم فضيلة الشيخ محمد الأمين الجَنكي الشنقيطي، مؤلف
(أضواء البيان) وقد حظيت مع غيري من زملائي بدراسة أبواب القياس من روضة
الناظر عليه رحمه الله، وبحضور حلقته في التفسير في شهر رمضان من كل عام
في المسجد النبوي الشريف، وكان رحمه الله بحراً في العلم، خاصة في علمي
الأصول، والتفسير، ثم فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كان له أثر بالغ
في لفت انتباه طلبة العلم لما دَرَّس بالمدينة النبوية إلى العناية بعلوم السنة النبوية،
والشيخ الألباني كما هو معروف يعد من أبرز علماء الحديث في عصرنا الحاضر
أسأل الله أن يمن عليه بالصحة والعافية.
ومن الأئمة المتقدمين كان تعلقي وتأثري أكثر بإمامين: أبي حنيفة، وابن
تيمية، فمنهجهما في الفقه والاستنباط وشموليتهما في التفكير وعمق فهمهما للإسلام
كان مثار إعجابي وتعلقي. وربما أكون أدق تعبيراً إذا قلت إن أكثرهما تأثيراً في
تكويني العلمي هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الإمام الحنبلي بجهاده
المتوقد، وفكره المجدد، وفقهه العميق، وشمولية فهمه للدين، ولقواعده ونصوصه
لا يملك طالب علم كامل القريحة أن يقاوم جاذبيته وقوة تأثيره، ولابد أن لعدد من
أئمة السلف تأثيرا في نفسي وفى عقلي عندما كنت أدرس مؤلفاتهم كالإمام الشافعي،
والشاطبي صاحب الموافقات، والاعتصام، وغيرهما، فطالب العلم في العادة
يستفيد من كل منهل صافٍ يرده، والمناهل الصافية لدى السلف ما أكثرها.
وقد كانت المدينة النبوية أثناء طلبي للعلم في ربوعها شرفها الله زاخرة
بالحيوية العلمية والنشاط العلمي، في حلقات المسجد النبوي الشريف أو في فصولي
الجامعة الإسلامية، وذلك في السنوات من 1381 هـ إلى 1389 هـ.
2 - من الملاحظ أنه مع كثرة الجامعات في العالم الإسلامي، فإن عدد العلماء
قل والمستوى العلمي ضعف فما هو السبب في رأيكم؟ .
ج: أشهد أن العلماء قليل، والمستوى العلمي لطلبة العلم هزيل، وهذا من
أخطر مظاهر التدهور في وقتنا الحاضر، والسبب هو تدخل أهل السياسة والحكم
في شئون العلم والعلماء، وفي أمور الفقه والفقهاء، ومتى ما تسلطت السياسة على
العلم فإنه يضعف ويفسد حاله، لأن العلماء حينئذ يفقدون حرية الحركة واستقلالية
العلم، وهذان من أهم دعائم المسيرة العلمية في تاريخ الإسلام، إذا نظرت في
تاريخنا وجدت عصور الازدهار العلمية هي تلك التي حافظ فيها العلماء على
استقلالية مؤسستهم العلمية وعلى ابتعادها عن أهواء السياسة وتقلباتها، ووقفوا في
وجه السياسة إذا ما حاولت التدخل.
هذه الاستقلالية للعلم والعلماء ضرورة ملحة ليس للمؤسسة العلمية في الإسلام
فحسب بل للأمة كلها.. فإن من عوامل الانهيار والدمار للأمة أن يصبح العلم أسيراً
لشهوات السياسة، فإذا لم يصدع العالِم بكلمة الحق عند السلطان الجائر من يصدع
بها إذن؟ ! .
3 -إن كثيراً من الشباب لا يتمكنون من الجلوس لطلب العلم على أيدي
العلماء، في هذه الحالة بماذا تنصحونهم؟ وما هي الكتب التي يدرسونها لتحصيل
العلم الواجب عليهم؟
أحث كل شاب مهما كان مجاله واختصاصه الذي يشتغل به أن يحرص على
تلقي العلم في حلقاته على أيدي الشيوخ المعروفين بالعلم والورع ولو اقتضى الأمر
تذليل بعض العقبات، والرحلة في طلب العلم الواجب أمر وارد، وهي طريقة
السلف، ولكن إذا تعذر على بعضهم فعل ذلك فعليه أن يسدد ويقارب وينتقي ما يقرأ
ويحرص على الكتب التي تجمع بين أمرين: السهولة، واليسر، وأن تكون على
منهج أهل السنة والجماعة، وليبدأ بدراسة كتاب مختصر في التوحيد، مثل (تجريد
التوحيد) للمقريزي، أو (العقيدة الطحاوية) ، أو (عقيدة أهل السنة والجماعة للشيخ
ابن عثيمين) ، ونحو ذلك من المختصرات الميسرة المفيدة، وفى الفقه يختار متناً
فقهياً مشروحاً، مثل (العمدة) في الفقه الحنبلي أو (الكافي) كلاهما لابن قدامة، فإن
صعب عليه ذلك فليقرأ في كتاب (فقه السنة) للسيد سابق على ما في الكتاب من
مآخذ إلا أنها لا تمنع من الاستفادة منه.
وأسلوب تلقي العلم من الكتب بدلاً من الشيوخ ليس من منهج السلف، لكن
عند الضرورة لابد مما ليس منه بد، وأقترح لمن اضطروا إلى ذلك أن يخففوا من
مخاطر هذا الأسلوب بالمدارسة، وهى أن يجتمع الرهط من الشباب يتذاكرون العلم، فلعل بعضهم يكون أفقه من بعض، وبالسؤال كلما أشكل عليهم شيء، أو اختلفوا
في فهم مسألة، والسؤال اليوم متيسر مع سهولة الاتصالات التلفونية وتقارب
أطراف العالم بسببها.
وهنا نصيحة مهمة أسديها لهؤلاء الشباب الذين نتحدث عنهم، أن يحذروا من
الغرور، فإن هذه الآفة في العلم قاتلة، تكون سبباً لحرمان صاحبها من الاستفادة،
وربما كانت سبباً لاستدراجه إلى مهاوي البدع وحفر التنطع. على الشاب المسلم أن
يحرص على الاستفادة من كل من يثق بدينه ومنهجه وعقله وتجربته وعلمه وفهمه،
المهم أن يكون الذي تأخذ عنه دينك مستمسك بمنهج أهل السنة والجماعة «إن هذا
العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» هكذا قال سلفنا.
4 - نعلم أن لكم دراسة حول موضوع (الأحرف السبعة) للقرآن وعلاقتها
بالقراءات القرآنية، ما هي النتيجة التي وصلتم إليها في هذا البحث، وما هي
الوسيلة المثلى لتعلم التجويد؟ .
نشر البحث الذي تشيرون إليه في العدد الأول من (مجلة كلية القرآن الكريم
والدراسات الإسلامية) بالمدينة النبوية الصادر في عام 1403 هـ، وملخص ما
ترجح لديَّ في معنى الأحرف السبعة الواردة في الحديث المتواتر «أنزل القرآن
على سبعة أحرف» أن المراد سبعة أوجه من أوجه القراءة، وهذا حد أعلى
لاختلاف الأوجه، إذ أن القرآن العظيم منه ما نزل على وجه واحد وهذا أكثره،
ومنه ما نزل على وجهين، ومنه ما نزل على أكثر، لكن لا تزيد الأوجه في
مواضع الاختلاف من القرآن على سبعة، وهذا الاختلاف لا يضير النص القرآني
لأنه من باب خلاف التنوع لا من باب خلاف التضاد، فكل وجه تجد فيه زيادة في
المعنى تناسب المعنى الأصلي، وربما تكمله أو تفسره، فمثلاً في قوله تعالى:
[ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ] . الآية، فقوله؛ [يطهرن] بتسكين الطاء يحتمل أن يكون المراد منه
انقطاع الدم، ويحتمل أن يكون المراد الغُسل، لذلك اختلف الفقهاء في ذلك، فمنهم
من أباح مجامعة المرأة بمجرد انقطاع الدم، ولو قبل أن تغتسل، ومنهم من اشترط
لإباحة ذلك الاغتسال، فجاء الوجه القرآني الآخر [حتى يطَّهَّرن] بتشديد الطاء
والهاء مفسرا المراد، لأن هذه الصيغة - بالتشديد - لا تحتمل غير الغسل..
ثم إن في تعدد أوجه القراءة للنص القرآني وتنوعها تيسيراً للأمة،. ويتبين
ذلك بصورتين:
الأولى: العربي الذي نشأ لسانه على لهجة معينة - كالإمالة - مثلاً.
فإنه يجد سعة في الأمر إذا غلبه لسانه فأمال الألفات ذوات الياء أو هاءات
التأنيث عند الوقف، إذ يوافق ذلك حرفاً منزلاً، لكن هذه التوسعة منضبطة بحدود
المنزَّل، لأن قراءة القران توقيفية.
الثانية: الأعجمي إذا غلبته عجمته أثناء القراءة فقلب الصاد سيناً - مثلاً -
في قوله تعالى في سورة الفاتحة [اهدنا الصراط المستقيم.] . ففي الأمر سعة
لأنه وافق حرفاً منزلاً، وهكذا إذا وافق القارئ عربياً كان أو أعجمياً شيئاً من
الحروف المنزلة فإننا لا نُثرِّب عليه، وإلا فإنه يُلام إذا لحن في القرآن مع القدرة
على تجنب اللحن.
والطريقة الصحيحة لتعلم قراءة القرآن وتجويده هي التلقي من أفواه الشيوخ
المتقنين، فإن لم يجد الشاب المسلم من يقرئه فليستعن بالأشرطة الصوتية لتعليم
التجويد، وبالمصاحف المرتلة بأصوات المُجَوِّدين كالشيخ محمود الحصري رحمه
الله.
5 - في زحمة التيارات الفكرية نلاحظ تركيز بعض الناس على الأفغاني
ومدرسته، فما هو رأيكم؟ .
رأيي أننا من الناحية الفكرية تجاوزنا بكثير مرحلة جمال الدين الأفغاني
والشيخ محمد عبده والمدرسة التي يسمونها بالمدرسة العقلية، وهى أقرب إلى اسم
المدرسة الترقيعية، التي تحاول الجمع بين الفكر الغربي والإسلام، وذلك بإخراج
(طبعة عصرية) للإسلام، ولو أدى ذلك إلى تحريف بعض عقائده أو شرائعه
وتفسيرها تفسيراً بعيداً عن هيمنة الضوابط الشرعية والقواعد العلمية. ما حاجتنا
إلى أمثال الأفغاني من الشخصيات التي يلف الغموض كثيراً من آرائها ومواقفها؟
وفى علم الجرح والتعديل لا يؤخذ من مجهول الحال، ولا ممن كثرت أوهامه.
ديننا والحمد لله واضح، وضوابطه وقواعده واضحة، ومنهجه واضح، له منهج
واحد هو منهج أهل السنة والجماعة الذين استمسكوا بمنهج الصحابة رضي الله
عنهم في فهم النصوص وفقهها، ومنهجهم في العلم.
ونصوص الكتاب والسنة ليست حمىً مباحاً لكل أحد يفهمها كما يشتهي، بل
يلزم أن يفهمها بمنهج الصحابة، ويفسرها بمنهج الصحابة الذين هم المقصودون
عند إطلاق مصطلح: السلف.
في خاتمة هذه المقابلة، نشكر فضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ، ونسأل الله
له التوفيق في القول والعمل.(22/13)
قراءة في كتاب
محمد حامد الأحمري
الكتاب: اقرأ وربك الأكرم.
المؤلف: جودت سعيد.
الناشر: أيمن نويلاتي.
الطبعة الأولى 1408 هـ-1988 م 290 من صفحة القطع الصغير.
يأتي هذا الكتاب بعد عدد من المؤلفات للكاتب الإسلامي المعروف جودت
سعيد، وقد سبقه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) و (العمل قدرة وإرادة) و (مذهب ابن آدم
الأول) وغيرها، وقد سلسل هذه الكتب تحت عنوان: (أبحاث في سنن تغيير
النفس والمجتمع) كما سلسل أستاذه مالك بن نبي كتبه تحت (مشكلات الحضارة) .
يناقش المؤلف في هذا الكتاب قضايا عديدة جداً، يوحي السياق بكثرتها
وتزاحم أفكارها، تضيق بها حيناً فترفضها، ويدعوك زخم الفكر والإثارة إلى
الغضب والعناد والاستمرار فتقرأ بلا توقف، أسوق في هذا التعريف نزراً مما أثار
الكاتب، مشيراً إلى أفكار مهمة في الكتاب مقدماً ما يمكن اعتباره مما لا يتفق مع
الفكر الإسلامي القويم معقباً بعدها بالإشارة إلى بعض الجوانب الرائدة والمهمة في
الكتاب ملمحاً إلى أن الحسنات يذهبن السيئات.
اتجاه إنساني عالمي:
لدى الكاتب هذا الاتجاه الذي نسميه إنسانياً عالمياً مائعاً، يتعامل مع [لا
إكْرَاهَ فِي الدِّينِ] و [لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ] وما إليها من الأدلة القرآنية
ويفسرها تفسيراً خاصاً به. يقول بعد تقرير منهجه الغريب:
(إن التسامح هو حاجة إنسانية عالمية ملحة في هذا العصر، وظهرت آياته
بأنه هو الذي يرث الأرض) [ص246-247] هذا التسامح الذي يلح عليه المؤلف
ليس بالمفهوم الإسلامي، إنما هو مفهوم فلسفي بارد يعرض لمشكلات العالم، ثم
يرى حلها بخيالات الفلاسفة، فيرى أن المعرفة والتفكير العلمي سبيل لمجتمع
إنساني بلا خلافات، وهذه مسألة تتعارض مع بدهيات الواقع والعقل والشرع، فهذا
تاريخ البشر مشهود الآن ومعلوم من الماضي، وذلك واقع البشر منذ (ابني آدم)
والعقل يدل على تعارض المصالح وتنافس القوى واختلاف الأهواء، والشرع بين
لنا أمر آدم وإبليس والخير والشر والمؤمن والكافر، [ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ]
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ] [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى]
[قَاتلُوا الَذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ] ، «بعثت بالسيف» ... لكأنه يلغي جهاد
الدفاع فضلاً عن الطلب والابتداء، إنه يُغيب الجهاد.
قضية الجهاد والقتل:
تغيب في هذا الكتاب مسألة الجهاد والمواجهة والصراع، وقد جعل الله الجهاد
حلاً لصلف الكافرين وإدبارهم وتجبرهم، والكاتب منذ كتابه (مذهب ابن آدم الأول)
قد قرر تشنيع إراقة الدماء في الأرض، فهو لا يرى لهذه المسألة وجوداً في عالمه
الخيالي الفلسفي (الفاضل) وهو متأثر أو موافق لمالك بن نبي إذ جعل - الأخير -
من غاندي صاحب الحلول السلمية مثالاً متبوعا في بعض ما كتب.
وبلا شك إن الحل السلمي دائما هو المقدم ولكنه ليس الدائم أبداً. وتستولي
الأمنيات السلمية والتعاون واللطف والمودة على خيالات الفلاسفة من قديم، فالمدينة
الفاضلة للفارابي ومن قبله ومن بعده فلاسفة اليونان والمزج الغريب عند إخوان
الصفا ثم برتراند رسل في العصر الحديث والروحانية المشرقية لدى ميخائيل نعيمة
وجبران خليل جبران وأتباعهم، وهذه النزعة الراكدة التي تسمى ركودها تسامحاً
تظهر لدى المسلمين الآن وهم بحاجة لمن يوقظهم مع العلم أن قدسية المعرفة
وبرودها ينتج على العكس أحياناً فلاسفة عدوانيين ك (نيتشة) الذي مهد للنازية،
جودت يرى (أن السلام وليد العلم، وأن الإنسان لم ينقذه إلا العلم) [ص17] .
أي علم يريد؟ هل يمكن للكاتب أن يفسر التاريخ وبخاصة الحديث بمعزل
عن المعرفة التي قادت للصناعة فالسلاح فالأسواق والاستعمار. ألم يخدم العلم
الحربين ويهلك البشرية، ونحن الآن نعيش أقسى درجات الاستعمار الذي هو وليد
العلم! ! كيف تغفل خطورة الحد الآخر، وقد ناقش شيئاً من هذا دون تمييز لحامل
هذه المعرفة فالأمر عنده عام بلا حدود جادة.
الإغراب بلا داعٍ:
في الكتاب نص مجمل موهم لا يليق وجوده مع ما فيه من تعمية، إضافة إلى
مصطلحات ليست مفهومة لكثير من القراء، قال: (إننا بحاجة إلى ابستمولوجيا
جديدة لتحملها انتلجنسيا رائدة، لنتخلص من الدغمائية الهابطة والمثيولوجيا
المتغلغلة أو الثيولوجيا الخانقة، وقد قرر علماؤنا ألا مشاحة في الاصطلاح والمهم
أن نفهم المعنى ثم كل واحد يستعمل اللغة التي تساعد على الفهم الميسر والعلم
بالبيان وكل ما وصل إلى فهم الحقائق بأيسر السبل فهو الأولى) [ص 257 -
258] .
عجباً لهذا الكلام الذي ينقض بعضه بعضاً، أي يسر وبيان وتوصيل للحقائق
بأيسر السبل هنا؟ !
قد نقول لا بأس، لكن هذه الكلمات ذات معانٍ لا يليق إطلاقها وبخاصة
الثيولوجيا إنها تعنى التوحيد، علم الكلام وما حولها مما هو ضروري للمسلم والكلمة
لا تميز بين مصطلح أهل السنة وغيرهم في مسائل علم الكلام أو التوحيد والكاتب
يتعسف بعض التفسيرات حسب هواه أو فهمه كتفسيره: (اقرأ وارق) بأنهما عموم
القراءة في أي مجالات القراءة [ص 134] ، وتفسيره للنشأة الآخرة بأنها الأجيال
القادمة وليس البعث [ص 215] ثم هو يقدم الأسلوب المنطقي على النصوص [ص
266] .
مكانة القراءة:
على الجانب الآخر: ناقش المؤلف في المقدمة والمدخل قضية القراءة،
ودلالة كلمات القرآن الأولى التي تلقاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره له
أن يقرأ ولأمته أن تولى القراءة اهتمامها، وذكر أن إنجيل يوحنا بدأ أيضاً بـ (في
البدء كانت الكلمة) وعقب بأمثلة وأرقام تؤيد مكانة القراءة لدى - الأمم اليوم: منها
أن اليابان تصدر خمسة وثلاثين ألف عنوان سنوياً تقريباً، وهذا يمثل ضعفي ما
ينشر في الولايات المتحدة، يستشهد بقول توينبي على (أن ارتفاع نسبة قراءة
الكلمة المطبوعة هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى دول متخلفة
أو نامية أو متقدمة [1] [ص 27] .
يرى الأستاذ جودت سعيد أن الذكاء ليس أسمى من القراءة، وأن القراءة هي
التي تقعد الأقزام على رقاب العمالقة، ويشير إلى شهيد العلم الجاحظ الذي سماه
شهيد الكتاب والقراءة (!) الذي مات تحت كتبه كأنموذج لحرص الأمة الناجحة
على القراءة والعلم.
يؤكد المؤلف على قضية مهمة يفقدها الشباب والقارئ في هذه الأيام ألا وهي
الكزازة من كتب وكتّاب والتضييق على النفس في القراءة لنوع محدد من الكتب
وعدد محدد من الكتّاب. يقول:
(وإن القراءة المحدودة الضحلة المرعوبة لا تخلص من التقليد والآبائية) [ص
42] ومما ساق: (إن كون النبي -صلى الله عليه وسلم-أمياً معناه أن أحداً من
البشر لن يأتي بشيء وهو أمي) [ص 33] .
لقد نعى على الأمة إهمالها للقراءة وقال: (إن الأمي غير قابل أن يبلغ الرشد، وإن صلة الإنسان بالكتاب تغير من سحنة الإنسان وتؤثر في عضلاته وسمات
وجهه) [ص 76] وأحياناً يغالي في أهمية القراءة بما يتجاوز المدى [ص77] ثم
أنحى باللائمة على سذاجة المسلمين في تحرير المفاهيم فبدلاً من أن يفهموا سر [ن
* والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ] بدل تعظيم القراءة والمعرفة تحول الأمر إلى جمع
قصاصات الأوراق من الطرقات [ص79] .
الكتاب في مجمله من الكتب التي تستحق القراءة والتمعن وهو يحتاج إلى
مزيد من الرد والتحقيق في كثير مما كتب، وبعض أفكاره جديرة بالنشر والتأييد.
إنه يصدر في زمن شكا فيه المؤلف من عدم وجود الكاتب الذي يبعث نهم
القراءة أي لم يأت بعد ورثة الأنبياء بجدارة [ص254] .
ثم يختم الكتاب بتواضع جم بقول: (آه لقد شوهت الفكرة وعرضت أفكاراً في
منتهى الأهمية بشكل هزيل) [ص255] ثم كتب تلخيصاً مختصراً جداً لكتابه سماه
دليل الأفكار.
إن هذا التقديم مشاركة في قراءة الكتاب وفهمه ونقاشه وليست عائقا ولا حجراً
بالمقررات السابقة حرصت على إبراز جوانب مهمة في الكتاب، ومهمة في خطئها
وصوابها.
__________
(1) هذا النموذج للمقاييس المادية الصرفة دون مراعاة لجوانب أخرى كالتصنيف الذي يقيس نسبة ما يستهلكه الإنسان من الكهرباء والماء أو مستوى الدخول الفردية وهى كلها نظرات جزئية سطحية مادية لا تراعي روح الفرد ولا سعادته بجانب الوسائل المريحة فهي من التقدم المهم للإنسان.(22/19)
خواطر في الدعوة
ولولا رهطك لرجمناك
محمد العبدة
من المبادئ الأساسية في الدعوة الإسلامية التعاون والتناصر بين المؤمنين،
وتطبيق مبدأ الأخوة تطبيقاً عملياً، والابتعاد عن خلق التفاخر الجاهلي بالأنساب
والقبائل، هذا هو الأصل ولكن قد تأتى النصرة والمساعدة الفردية من القريب أو
العشيرة أو من صديق الدراسة، لا من قبيل التدين والأخوة الإسلامية، ولكن
عصبية نسبية، وأريحية ونخوة، فهل يرفض المسلم هذا التأييد، خاصة إذا كان
في مرحلة الضعف، مع أنه لا يتنازل عن شيء من دينه أو عقيدته، ولا هم
يساومونه أو يطلبون منه المداهنة.
إن بعضاً من الشباب المسلم ولحساسية هذا الموضوع، ولقلة فقههم في أصول
الدعوة يرفضون مثل هذه المساعدة والتأييد، ولكنهم لو تدبروا القرآن لوجدوا أنه
ذكر قصص الأنبياء وكيف امتنعوا بأقوامهم أو قبائلهم عصبية من أذى الكفار، قال
تعالى حاكياً عن شعيب عليه السلام وقومه: [قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا
تَقُولُ وإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ومَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ] [هود:
91] .
فهذه الآية تنبئنا أن الكفار لم يستطيعوا الوصول إلى شعيب بالأذى، خوفاً من
قبيلته.
وكذلك ذكر تعالى في صالح وقومه: [قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وإنَّا لَصَادِقُونَ] [النمل: 49] فهم يخافون من
أولياء صالح عليه السلام (عشيرته الأقربين) ولو فعلوا به سوءاً لفعلوه سراً،
ولحلفوا لهم أنهم ما فعلوا شيئاً، وقال تعالى مخاطباً نبينا عليه الصلاة والسلام: [ألم يجدك يتيما فآوى] أي آواك إلى عمك أبي طالب، قال الشيخ الشنقيطي معلقاً
على هذه الآيات: وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة
قريبه الكافر، ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه السلام ليس له عصبة ظهر هذا فيهم
لقوله تعالى: [قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] [هود: 80] ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بنى هاشم ولم يناصرهم بنو عبد شمس عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- لبنى المطلب تلك المناصرة التي هي عصبية النسب، لا صلة لها بالدين فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بنى هاشم وقال: «إنا وبنى المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام» ومنع بني عبد شمس وبني نوفل مع أن الجميع أولاد عبد مناف (أضواء البيان 3/41) .
هناك فرق بين الموالاة والمداهنة، وبين أن يعرض قريب أو صديق خدماته
ومساعدته لمسلم ويستفيد المسلم من هذا لدفع ظلم أو تخفيف ضرر، ويبقى الأصل
هو عدم موالاة الكفار وزجر أهل الفسوق والبدع، وكل هذا يحتاج لفقه في الدعوة
واستقامة على الطريق.(22/24)
صورة الثورة الفرنسية في تطبيقاتها العربية
د. مصطفى السيد
أمة الصحراء يا شعب الخلود ... من سواكم حلّ أغلال الورى؟
أي داع قبلكم في ذا الوجود ... صاح لا كسرى هنا لا قيصرا؟ !
من سواكم في حديث أو قديم ... أطلع القرآن صبحاً للرشاد؟
هاتفاً في مسمع الكون العظيم ... ليس غير الله رباً للعباد
بين تأليه الشعوب بجعلها مصدراً للتشريع، أو تأليه الفرد وتأليه الفكر في
غاب الضلال يظل الإسلام فرصة البشر الوحيدة في الخروج من المآزق المعنوية
والمادية، وأبيات (إقبال) التي صدر بها المقال تفسير لقول الله عز وجل [قُلْ إنَّ
هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى] كما تحدد بوضوح: أن لا دور إلا للإسلام، ولا بديل عن
الإسلام إلا الإسلام.
أقول ذلك، وقد بلغ صخب التنافس والتسابق على الإشادة والإشارة إلى
منجزات الثورة الفرنسية 1898م بلغ هذا التنافس ذروته، ولم ينكد على فرنسا
فرحتها، ويفسد عليها بهجتها سوى جارتها في الجغرافيا وشريكتها في التاريخ
(بريطانيا) التي امتلكت من الشجاعة ما افتقدتها الوفود العربية الإسلامية التي راحت
ترتجل معلقات الإطراء والمدح لهذه الثورة ودورها [*] .
مميزات الثورة الفرنسية، موجودة في بريطانيا قبل الثورة الفرنسية، ودموية
الثورة موثقة ومخلدة برائعة القاص الإنجليزي تشارلز ديكنز (قصة مدينتين) التي
صدرت عام 1850 م وقد حملت تاتشر نسخة من الكتاب هدية منها للرئيس ميتران.
أمر لافت للنظر أن تستحضر المرأة الإنجليزية تراثها أمام برج إيفل وفى
قاعات الإليزيه، ولكن النظر ينقلب حسيراً أن نجد رجالات العرب المسلمين لا
يحضرهم شيء عن الإسلام صاحب الدعوة العملية ليس لحقوق الإنسان فقط بل
لحقوق الحيوان «أإن لنا في البهائم لأجراً؟ فيجيب الرسول الكريم -صلى الله
عليه وسلم-: (في كل ذات كبد رطبة أجر) عليك الصلاة والسلام يا رسول الله
وأنت تخاطب (أُحُد) » هذا أحد جبل يحبنا ونحبه «.
هذه العاطفة التي تمتد إلى الجلاميد الصلاد هل يمكن أن يسبقها شيء في
الحقوق بكل صورها؟ .
ويقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجنازة يهودي، لا تقرباً إلى لجان
حقوق الإنسان بل ليكون وقوفه -والله أعلم- سنة ماضية لا تظاهرة إعلامية.
وإذا كانت مبادئ الثورة الفرنسية (المقدسة) هي التي تحكم أوربا في مطالع
القرن العشرين فلنر ثمرة ذلك.
يقول البير كامي 1913-1960 الحائز على جائزة نوبل والذي يعد فكراً
وشخصية، جزائرياً بحسب المولد والنشأة، وفرنسياً بحسب الثقافة والانتماء،
يقول: (إن سبعين مليون أوربي بين رجل وامرأة وطفل قد اقتلعوا أو نفوا أو قتلوا
خلال خمسة وعشرين عاماً بين1922-1947) [1] .
أما ضحايا هذه الثورة عشية ظهورها فبلغت كما يذكر فيليب دوفاليه مؤرخ
فرنسي معروف أربع مائة ألف مواطن في غرب فرنسا وحدها، وفى مصدر آخر
أن هذه المذابح الثورية (أتت على سبع سكان فرنسا) ، لقد قال أحد كبار الكتاب في
الغرب (بيتر فايس) : (وضعنا ماكينة الثورة، لكننا لا نزال نجهل طريقة استعمالها)
وأنا لا أدري إن كانت هناك ثورة حديثة قد تجاوزت هذا القول.
أما فكر الثورة الفرنسية - ونحن لا نزال في دائرة المراجع الفرنسية - فهو
تأليه العقل [2] .
وفى المصادر الغربية يقولون عن الثورة الفرنسية: (نصبت العقل معبوداً
تقدم له القرابين وتقام له الشعائر) [3] .
ولم يكن الغرب مجمعاً على تقديس هذه الثورة، فأهالي (فرساي) خذلوا كل
توسلات ميتران للمشاركة في احتفالات الثورة، ونفر من شباب جامعة السوربون
اقترحوا إقامة نافورة في ذكرى الثورة ترش الناس بالماء وان يكتب عليها شعار
الثورة معكوساً: غباء - حماقة - وحشية، وعلى غلاف (نيوزويك) الأمريكية 20
فبراير الماضي 1989 مقصلة وجسم ممدود ورأس مقطوع والعنوان: مراجعة
الثورة الفرنسية.
وإذا كان كلام الساسة المسلمين الذين شاركوا في أعراس باريس بمناسبة
مرور قرنين على الثورة الفرنسية في أواخر يوليو تموز 1989 والذين لهم قرص
في كل عرس، إذا كان كلام هؤلاء يصنف عادة أنه كلام بروتوكولي فالعجب
العجاب يتأتى من كهنة الثقافة عندنا الذين يعدون بداية وجودنا وميلادنا الإنساني يوم
دخلت خيول هذه الثورة مصر 1213- 1215هـ-1798-1801م إن هذا الوجه
الخادع للثورة الفرنسية جعل قطباً من أقطاب التاريخ المصري ينشد في بداية كفاحه
الوطني 1895: وهو مصطفى كامل ينشد ابتغاء الغوث من هذه الثورة:
أفرنسا يا من رفعت البلايا ... عن شعوب تهزها ذكراك
انصري مصر، إن مصر بسوء ... واحفظي النيل من مهاوي الهلاك
وانشري في الورى الحقائق حتى ... تجتلى الخير أمة تهواك [4]
إن هؤلاء جميعاً من المبهورين بالثورة الفرنسية ينطبق عليهم قول جومار
المشرف على بعثة الطهطاوي ورفاقه: (يظهر من فحوى كتاباتهم أنهم قبل أن
يكتبوا يفكرون بعقل فرنسي لا بعقل عربي) [5] .
إن هؤلاء جميعاً يعدون (محمد علي) 1182-1265هـ الأب الروحي للدولة
العربية الحديثة الوليدة العربية للثورة الفرنسية، وإن رفاعة الطهطاوي الذي ولد في
العام الذي انسحب فيه الفرنسيون من مصر 1801-1873 هو المنظر الثقافي
الأبرز لهذه الدولة ولتلك المرحلة.
وإن كان جمهور الكهنة في معابد الثقافة الهلنستية والغربية لا يزالون في
حالة استغراق تام وهم يرتلون أسفار الثورة الفرنسية، فإن نفراً من الباحثين قد أخذ
يقرأ هذه الثورة بعقل سليم معلنين أنها باتت من النفايات التاريخية وقد آن الأوان
للدخول في مناقصة بيعها وتصفية ملحقاتها من علمانية وحقوق إنسان الخ الأطر
الجميلة لمضامين فارغة.
إن الحملة الفرنسية على مصر قد نبهت مصر إلى تاريخها الفرعوني للالتفاف
على التاريخ الإسلامي، إن صورة فرعون الديكتاتور في القرآن كافية لمن ألقى
السمع وهو شهيد.
إن الحملة الفرنسية قد اصطحبت معها أكثر من (300) امرأة سافرة وكن
أزواجا أو خليلات للجنود وكن معرضاً أو نموذجاً لما تريده الثورة الفرنسية للمرأة
المسلمة في مصر وهو أن تحاكي هذه النماذج الهابطة الساقطة [6] .
إن نابليون عمل من خلال المجلس الذي شكله لحكم مصر على نسف آيات
المواريث التي تميز الرجال عن النساء [7] ، وذلك كله كان الأرضية التي انطلق
منها دعاة تحرير المرأة، ولقد كان الطهطاوي هو الجسر الأكبر الذي عبرت من
فوقه أفكار الثورة الفرنسية.
والحق أن قراءة إسلامية لجهود الطهطاوي الفكرية باتت أمراً ملحاً لعدة
أسباب:
* الثناء المطلق على الطهطاوي داعية ودعوة لدى كل حديث عن جذور
النهضة ومن مختلف المنابر والمواقع الثقافية إلا من عصم ربك.
* أثر الطهطاوية في الحكم والحكومات العربية الحديثة والمعاصرة لأنه كان
الجسر بين العرب والثورة الفرنسية، والانطلاق من دعوته وتجربته لتدعيم وترميم
كل جسور التقارب مع الغرب.
*دعوته نقض وإجهاض لدور الشريعة وإلا فبم نفسر كونه (أول من كتب
للمصريين في المباحث الدستورية، وعرب دستور فرنسا في ذلك الحين) ؟ [8] .
تترس العلمانيون واليساريون والتلفيقيون خلف الطهطاوية ليحتسبوا على
الإسلام سيئات الحكم في العالم الإسلامي في كل الأعصر، إرجافاً لإبعاد الإسلام
عن قيادة الحياة والمجتمع.
ترتب على مشروع محمد علي - والذي نفذه فكرياً الطهطاوي - انكماش
وتهميش لدور الأزهر التاريخي وذلك لصالح المدارس والبعثات التي شكلت العمود
الفقري للبنيان الثقافي الجديد، وألحق العلماء بهذا المشروع الجديد [9] .
وإذا كانت إقامة رفاعة في فرنسا التي بدأت عام 1826 قد وضعته بصورة
نهائية وتامة في صف المبهورين والمحامين عن فكر الثورة الفرنسية فإن ذلك ما
كان ليتم لولا جهود شيخه شيخ الأزهر حسن العطار أيامئذ، هذا الشيخ (الذي فر
إلى الشام عشية دخول الفرنسيين مصر ثم عاد ليلتقي معهم ويتصالح مع الحضارة
الغربية بل يتجاوز ذلك ليعجب بالفرنسيات ويتغزل بهن وهذا ليس كلام الدوائر
الإسلامية بل سطره رأس من رؤوس الحداثيين في مصر صلاح عبد الصبور في
كتابه (قصة الضمير المصري الحديث) ص 23 - 24، ولو قال غير عبد الصبور
هذا الكلام لنبز بالعري من الوعي وألبس حلة التطرف وكسوة التعصب. وهكذا
(كانت استجابة الطهطاوي الكاملة لما قدم له في فرنسا من أطعمة فكرية ومعتقدية) .
(لقد صرعت العلمية الغربية الطهطاوي عالماً وعاملاً، وأجبرته على أن يدفع ثمن
حضوره على مسرح الفكر الحديث، انقطاعاً كاملاً عن دورة الاجتماع الإسلامي
الداخلية، ولم يزوده هذا الحضور إلا بما يحتاجه في إطار الموقع الذي يحتله في
أجهزة التجربة التحديثية لمحمد علي، لم يكن مؤسساً لها، بل ملتحقاً بها على سبيل
التبعية الشاملة، ولم يكن الطهطاوي أزهرياً متنوراً يواجه التجربة الأوربية عن
قاعدة المكانة التاريخية للأزهر بل كان نتاج انهيار الدور التاريخي لهذه المؤسسة
والتحاق أفراد محددين بالسلطة الناشئة (سلطة محمد علي) فالطهطاوي لم يكن
أزهرياً متنوراً بقدر ما كان تعبيراً أزهرياً هامشياً لمشروع التحديث الناشئ على
أنقاض مؤسسة الأزهر التاريخية) [10] .
إننا نتساءل لماذا أهمل دور الجهاد والقتال من قبل الشعب المصري ضد
الحملة الفرنسية؟ ولماذا أغفل رفض قطاعات كثيرة من الشعب للتفرنس بكل
صوره؟ ..
ولماذا كان البحث عن أسباب القوة خارج حدود المجتمع الإسلامي؟ وبالتالي
لماذا لم يبحث الطهطاوي عن مصادر القوة داخل بنيان المجتمع الإسلامي وداخل
الخزين الفقهي والمخزون الفكري الإسلامي؟ .
ألم تكن سياسة الهروب هذه تكملة وتتويجاً لحالة هروب وانقطاع تاريخيين
للسلطة في العالم الإسلامي عن النموذج النبوي التاريخي من جهة، واستمراريته
المتحققة في تيارات الأمة القاعدية في المرحلة التي تلت انقطاع رأس الهرم
السياسي والفقهي الإسلامي عن النموذج النبوي الشريف) [11] .
وإذا انطلت على الأذهان أكذوبة التحديث وأصالتها وفائدتها المحققة فإننا
نتساءل عن ثمرتها على الأرض هل كانت في هيمنة بريطانيا على مصر (المحدَّثة)
لعشرات السنين؟ .
ولا بأس أن نثبت هنا ما قاله فهمي هويدي: (إن المصريين دفعوا كل فواتير
التحديث وضرائب التغريب كاملة دون أن يجنوا من ذلك ثمرة تذكر) [12] . ...
ويقول لويس عوض مقوِّماً رجالات عهد التحديث قديماً وحديثاً:
(السادات وأبناء محمد علي فصيل واحد في الفساد، وهذان العصران من
أسوأ عصور مصر، وعندما نتتبع العصرين سنجد أن التاريخ يعيد نفسه في الفساد
والنهب وفتح البلاد على مصراعيها أمام القوى الخارجية) [13] [**] .
لقد انفتحت اليابان على الغرب، محتفظة بكل مقوماتها الذاتية واعتزازها
بروحها ولغتها، فأخذت دون أن تدفع ضريبة معنوية، أما الانفتاح الطهطاوي فلم
يبق ديناً، ولم يأت بدنيا.
__________
(*) - لا غرابة في ذلك فموقف بريطانيا هو موقف الند للند أما مواقف الآخرين فهي مواقف العبد أمام السيد، وقد يظفر العبد بالعتق الجسدي أما العتق النفسي فيحتاج إلى زمن طويل حتى يكون، وقد لا يحصل أبداً التحرير.
(1) السير كامو: تأليف جرمين بري، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا [ص 13] .
(2) المصدر السابق / 243.
(3) قصة الضمير المصري الحديث: صلاح عبد الصبور.
(4) المصدر السابق / 243.
(5) البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهد عباس الأول وسعيد: عمر طوسون.
(6) دراسات في تاريخ مصر الحديث / 94 د عمر عبد العزيز.
(7) المصدر السابق /187، وكان اسم المجلس (فرمان الشروط) والذي وصم كل أعضائه من المصريين بالخيانة بعد رحيل نابليون.
(8) في الأدب الحديث، عمر الدسوقي / 26.
(9) مجلة الفكر العربي، بيروت، عدد 45، من مقال من أكمل ما قرأت في تحليل دور الطهطاوي د حسن الضيقة بعنوان (الطهطاوي وعقيدة التحديث) .
(10) من مقال: د الضيقة.
(11) المصدر السابق.
(12) الأهرام، رمضان 26 منه 1409 هـ.
(13) مجلة الشراع، عدد 369.
(**) ويلاحظ القارئ كيف استثنى لويس عوض عصر عبد الناصر من عصور الفساد ولو أنه لم يفعل لقلنا: (صدقنا وهو كذوب) ! ولويس عوض هو لويس عوض، وهل من عاقل ينتظر صدقاً منه ومن مدرسته؟ ! والعصر المستثنى (وهو حلقة في سلسلة) هو العصر الذي صنع لويس عوض، وسلطه ليفسد في الفكر، ويخرب في الثقافة، فكيف لا يستثنيه؟ ! .(22/26)
أغير الله اتخذ ولياً
محمد صالح المنجد
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فولاية المسلم لربه هي مسألة المسائل وأصل الأصول التي تتشعب عنها
التصورات، وتنطلق منها المواقف.
وتزداد الحاجة للتركيز على هذا الأصل في غمرة الخلط الحاصل اليوم في
ولاءات المسلمين، وفي غيابة فقدان هذا الأصل عند من أمسكوا بشيء من الأزمة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وهذا مقام مسافر فيه عرض لبعض مقتضيات هذه المسألة:
1 - إفراد الله بالولاية:
ويدل عليه قوله تعالى: [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] ويربي القرآن المسلم على تحديد هذا الأمر بينه وبين نفسه وأمام الآخرين
بوضوح وجلاء.
[إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ الَذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] [الأعراف: 196] .
وولاية المسلم للرسل وللمؤمنين نابعة من هذه الولاية وهذه الولاية متبادلة بين
العبد وربه، ولاء العبد لله وتولى الله لعبده؛ [اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا] . ...
إذن فولاء المسلم لا يصح أن يتجزأ شيء لله وشيء لغير الله.
2 - إفراد الله بالعبادة:
[قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ] . والانصهار فيها حتى يصل العبد إلى الدرجة المبينة في حديث «. فإذا أحببته
كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي
يمشى بها.. [
3-توحيد مصدر التلقي:
عن الله وحده الذي يقول:] وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ. [ويقول محذراً:] اتَّبِعُوا ... مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. [فمصدر التلقي إذن هو
الوحي فقط وليس القوانين الكافرة أو عادات القبائل أو أعراف المجتمعات أو بيوت
الأزياء. وحق التحليل والتحريم لله وحده وليس لأحد بعده سبحانه.
4 - التحاكم إلى الله وحده:
القاعدة:] إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ. [والاستفهام القرآني قوي إنكاري] أَفَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْتَغِي حَكَماً [والقرآن يحدد موقف المخالفين لهذه المسألة في آية] يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ. [فكيف إذاً صار المبدأ عند
البعض الاعتراض على أحكام الله؟ وكيف إذا آل أمر الآخرين إلى أن كرهوا ما
أنزل الله، فأحبط أعمالهم؟ !
5-توحيد الانتماء إلى حزب الله (أهل السنة والجماعة) :
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن صفات هؤلاء الغرباء التمسك بالسنة إذا
رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد
التوحيد وإن أنكر ذلك اكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله: لا
شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله
بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون
على الجمر حقاً، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم) .
وتوحيد هذا الانتماء يفيد كثيرا في تجميع الجهود وتوجيهها؛ لرفع شأن أهل
الحق وصد كيد أهل الباطل.
6 - استبدال ولاية الله بالولاءات الجاهلية:
كثيرون أولئك الذين لا يزالون يمتون بصلات وولاءات لأعداء الله بشكل
جزئي أو كلي، قد يأخذ صوراً مادية أو معنوية. على هؤلاء إن أرادوا النجاة من
نار جهنم أن يستدبروا أهل الباطل ويولوا وجوههم لأهل الحق، وتبني دين الله عز
وجل، وأن يقوم العزم في أنفسهم على عدم وصل حبال الكفار مرة أخر ى.
كانت الولاءات في الجاهلية تتعدد بتعدد القبائل والعصبيات فلما جاء الإسلام
أزالها وأبدلها بولاية الله، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل
الحرص على عدم تجديد وإحياء شعارات الجاهلية وولاءاتها في نفوس المسلمين.
روى البخاري رحمه الله تعالى تحت باب: ما ينهى من دعوى الجاهلية: عن
جابر رضى الله عنه قال: غزونا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ثاب معه
ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعّاب (يلعب بالحراب)
فكسع أنصارياً، فغضب الأنصاري غضباً شديداً، حتى تداعوا، وقال الأنصاري:
يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقال:» ما بال دعوى أهل الجاهلية، ثم قال: دعوها فإنها خبيثة «.
ونظرة تقويمية للواقع تخبرنا أن ولاء كثير من العجائز في قعر بيوتهن خير
وأحب إلى الله من كثير ممن ابتليت بهم الدعوة الإسلامية والذين تنازعتهم الولاءات
للجاهلية من كل جانب] ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً
لرجل هل يستويان مثلاً الحمد. لله بل أكثرهم لا يعلمون [.
7- محبة أولياء الله وفي مقدمتهم محمد بن عبد الله-صلى الله عليه وسلم-:
في الصحيح المسند من أسباب النزول، من رواية الطبراني في الصغير عن
عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنك
لأحب إلى من نفسي وإنك لأحب إلى من أهلي ومالي وأحب إلى من ولدي، وإني
لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي
وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت
ألا أراك فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً حتى نزل جبريل عليه
السلام بهذه الآية:] ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله [.
وهذا يقوي الأواصر والروابط بين أفراد المسلمين وخلاياهم في المجتمع
الإسلامي الكبير، ويقضي على دخائل النفس الخبيثة التي تنحرف بالمحبة في الله
إلى أغراض أخرى، وذلك إذا والى كل مسلم أخاه، بحسب حاله من الإيمان
والعمل الصالح.(22/33)
مصطلحات إسلامية
الاستخارة
إعداد: عادل التل
المعنى اللغوي:
جاء في مادة خير: الخاء والياء والراء أصله العطف والميل، ثم يحمل عليه، فالخير خلاف الشر، لأن كل أحد يميل إليه، ويعطف على صاحبه، والخيرة:
الخيار. قال في اللسان: الخير: الكرم، والخير: الهيئة، والخير: الشرف.
والاختيار: الاصطفاء.
والاستخارة: طلب الخير في الشيء وهي استفعال منه، واستخار الله طلب
منه الخيرة. ويقال استخر الله يخر لك، والله يخر للعبد إذا استخاره، اللهم خر لي
أصلح الأمرين، قال الأزهري: استخرت فلاناً أي استعطفته فما خار لي أي فما
عطف. وهناك قصة طريفة حول أصل الاستخارة كما جاء في اللسان: إن الصائد
يأتي الموضع الذي يظن فيه ولد الظبية أو البقرة، فيخور خوار الغزال فتسمع الأم، فإن كان لها ولد ظنت أن الصوت صوت ولدها فتتبع الصوت، فيعلم الصائد
حينئذ أن لها ولداً فتطلب موضعه، فيقال استخارها، أي خار لتخور ثم قيل لكل
من استعطف: استخار.
المعنى الاصطلاحي:
من المعروف أن الخير هو كل ما يرغب فيه الكل، كالعقل والعدل والفضل،
والشيء النافع ولكن للخير وجهان: الخير المطلق وهو مرغوب فيه بكل حال وعند
كل أحد، ومنه (لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة) خير مقيد وهو
خير لشخص وشر لآخر، مثل المال الذي ربما يكون خيراً لزيد وشراً لعمرو.
والاستخارة في الشرع: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما،
والاستخارة تكون بالتوجه إلى الله تعالى وهى تختلف عن الاستشارة التي توجه
للناس، والاستخارة فيها دعاء، ولكن دعاء خاص ومحدد في الشرع، وقد ذكر
النووي أنه يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم حاله النصيحة والخبرة،
ويثق بدينه ... فإذا ظهر أنه مصلحة استخار الله في ذلك.
وتكمن أهمية الاستخارة بأنها تسليم مطلق لله تعالى وانقياد له وإذعان لمنهجه، ورد الأمور كلها إليه والتبري من الحول والقوة بقوله تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 36] .
ومن خلال دعاء الاستخارة ندرك حقيقة هذا التوجه، فقد روى البخاري عن
جابر قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن: فإذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،
فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن
هذا الأمر خير لي في ديني وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاقدره لي،
وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال:
عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان
ثم رضني به. ويسمي حاجته) .
من أحكام المصطح:
والأصل في الاستخارة أن تكون في الأمر المباح، أما الواجب والمستحب فلا
يستخار في فعلهما، إلا إذا تعارض في المستحب أمران. أيهما يبدأ به، ويقتصر
عليه، وكذلك الحرام والمكروه، لا يستخار في تركهما، وتتناول الاستخارة العظيم
من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم.
ولقد شرعت الاستخارة للمسلم لطلب الخير في المستقبل، لذلك أبطلت عادات
جاهلية كانت قائمة على طلب الخير للإنسان في المستقبل إلا أنها كانت تجري
بأساليب غير شرعية ومنها:
الطيرة:
وهى التشاؤم، وأصل التطير، أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير،
فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأي الطير طار يمنة، يتيمن به، واستمر، وإن رآه
طار يسرة تشاءم ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير، ليطير فيعتمد الجهة التي
يطير إليها فجاء الشرع ونهى عن ذلك، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
: «الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» أخرجه ابن ماجه وهو
صحيح. وعن أبي هريرة: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل الحسن
ويكره الطيرة» أخرجه ابن ماجه وهو صحيح.
الاستقسام بالأزلام:
وهي عبارة عن أقداح توضع فيها أوراق ثم يختار واحد منها ليأتمر بما كتب
فيه، وقد جاء في سورة المائدة ما نهى عنه، ومنها قوله تعالى: [وأن تستقسموا
بالأزلام] .
السحر:
وهو طلب معرفة الغيب من السحرة. وفعل السحر كفر، والذهاب إلى الكهنة
والعرافين والمنجمين وكل هذا باطل بإجماع علماء المسلمين، وكذلك ما هو
معروف قديماً بضرب الرمل أو الحساب على النجوم أو الأبراج أو الاطلاع على
الفنجان أو قراءة الكف، وكل هذا باطل وغير شرعي.
وتنتشر هذه الانحرافات كلما ابتعدت الأمة عن شرع الله واتبعت الأهواء،
ولا عاصم من الفساد إلا بالعودة إلى منهج الإسلام نستمد منه مفهوم الحلال والحرام، ونستفتيه في شؤون حياتنا كلها. وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيما
رواه الترمذي: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء» .(22/37)
شذرات وقطوف
دور المعلم المتجدد كل يوم
إن الذين يتصورون عمل المعلم على أنه مثل باقي الوظائف أو الأعمال
الأخرى، أي عمل رتيب لا يتغير ولا يتبدل من يوم لآخر مثله في ذلك مثل
المحاسب الذي يجلس خلف مكتبه يراجع عشرات أو مئات الفواتير والمستندات
والدفاتر، الذين يتصورون عمل المعلم من هذا النوع.. يخطئون فهم طبيعة عمل
المعلم خطأً كبيراً.
إن المعلم يواجه في كل يوم من أيام عمله تحدياً جديداً يتمثل في حماس
الشباب الذين يحيطونه بأفكار جديدة وأسئلة متنوعة، وربما بمشاكل متجددة أيضاً،
إن كل يوم عمل في حياة المعلم إنما يمثل تحدياً جديداً عليه أن يقابله بما يستحق
وبما يتمشى معه. ليس هذا فحسب، وإنما كل درس يدخله يحتمل هذا المعنى، إذ
إن كل فصل يختلف عن الآخر من حيث طلابه، ومن حيث حماسهم ونشاطهم
وتفاعلهم، بل إن نفس الفصل في الصباح يختلف عنه في الظهيرة، وذلك رغم أنه
يضم نفس الأطفال أو نفس الشباب، وذلك أخذاً في الحسبان عاملي النشاط في
الصباح والتعب والإرهاق بعد الظهر.
تربية الأطفال
ثم تأتى مشكلة الأطفال، سينشئهم على الإسلام ويفسدهم الشارع والمدرسة
والمجتمع كله.. ومع ذلك فلا خيار.. وليس هناك بديل.. ولا حلول سحرية
للمشكلات! لا تستطيع -ولا يجمل بك - أن تحجز طفلك عن الشارع ... إنما
عليك أن تقوم بعملية غسيل يومية لما أصاب طفلك..!
وقد تفلح في ذلك تماماً وقد لا تفلح، ولكن عليك المجاهدة الدائمة في كل حال، وهو عذاب ومشقة، ولكنك تؤديه لله، وتعلم أن جزاءه الكامل عند الله، ويعينك
في ذلك أن تجعل العلاقة بينك وبين طفلك قوية متينة عميقة، فحين يكون الطفل
محباً لوالديه، متعلقاً برضاهما عنه، يكون وزن البيت في حسه أثقل من وزن
الشارع، فيستطيع البيت من ثم أن يصلح ما يفسده الشارع، كله إن وفق الله، أو
بعضه على الأقل بإذن الله.
محمد قطب - منهج التربية الإسلامية 2 / 193
من مكائد إبليس
لم أرَ لإبليس أصيد ولا أقبح ولا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته،
إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله، والثانية: استسهال الإنسان أن يسئ
اليوم لأنه قد أساء أمس، أو أن يسئ في وجه ما، لأنه قد أساء في غيره، فقد
صارت هاتان الكلمتان عذرين مسهلين للشر.
ابن حزم - الأخلاق والسير في مداواة النفوس / 31(22/40)
علماء معاصرون
جمال الدين القاسمي [1]
سليمان عبد الله الياسين
هو أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن
إسماعيل بن أبى بكر المعروف بالقاسمي، إمام الشام في عصره، محدثاً، فقيهاً،
مفسراً، مصلحاً وأديباً.
ولد الشيخ القاسمي في مدينة دمشق، يوم الاثنين لثمان خلت من شهر جمادى
الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف، نشأ في بيت علم وفضل، فوالده كان
فقيهاً، عالماً، أديباً، أفاد منه الشيء الكثير، فكان هذا عاملاً بالإضافة إلى ذكائه
واستعداده وقدراته على أن ينشأ نشأة علمية صالحة.
أخذ العلوم عن مشايخه على طريقة القدماء، نظراً في الأدلة، وتوثيقاً
للنصوص، ووقوفاً على أقوال السلف الصالح، الذين تعتبر أقوالهم مرجحة لما يقع
من خلاف في عصور المتأخرين، كل ذلك في حياة تقليدية يظهر عليها الجمود،
والجهل والتقليد.
نشأ الشيخ القاسمي في ظروف كانت الطرق الصوفية فيها في أوج انتشارها،
يعتنقها العامة حول بعض المشايخ الذين يشغلونهم عن العمل النافع الذي أمروا به
لإقامة المجتمع الصالح.
من هذا الوسط المختلف المشارب والمآرب دعا الشيخ القاسمي إلى العلم،
ونبذ التعصب والتقليد، وتصفية العقيدة مما علق بها من أفكار وفلسفات واعتقادات
دخيلة، وإرجاع مجد الإسلام، ورفع شأنه، وجعله الحكم على شئون الحياة كلها.
فكانت النتيجة أن اجتمعت عليه الجموع، وهذا حالهم في كل زمان، فهم
يختارون الأوساط التي تعينهم على ترويج ونشر أفكارهم ومعتقداتهم.
إن صفحات التاريخ لتضع أمام كل باحث ومفكر وطالب علم، حقيقة ذات
أهمية كبيرة وهى أن الخاصة من الرجال والعلماء والمفكرين هم وراء التجديد، ولا
أقصد بالتجديد تغيير حقائق هذا الدين العظيم، الذي تكفل الله بحفظه، ولكنه تجديد
العودة إلى الأصول، وتغيير المفاهيم الدخيلة، سواء في العقيدة، أو السلوك، أو
في مجال النظر والاستدلال.
لقد آمن القاسمي رحمه الله بنبذ التعصب والجمود، وفتح باب الاجتهاد لمن
ملك القدرة على ذلك، وكثيراً ما كان يستشهد بأقوال الأئمة الأربعة للتدليل على
أفكاره، فكان يقول: (إن من يطلع على كتب هؤلاء الأربعة رحمهم الله يرفض
التقليد، لأنهم أمروا تلامذتهم بالاجتهاد، وأن لا يجعلوا كلامهم حجة، وينقل كلاماً
للمزني - وهو من أئمة الشافعية- في كتاب الأم للشافعي فإنه يقول: أنقل لكم كلام
الشيخ الشافعي لا لتأخذوا به، فإنه كان نهانا عن التقليد فيقول: يجب الاحتياط
بالدين، والأخذ بالكتاب والسنة [2] .
وعليه فقد لفقوا له تهمة خطيرة يستحق عليها السجن والتعذيب؟ !
إنها تهمة الاجتهاد، وتأسيس مذهب جديد في الدين سموه (المذهب الجمالي)
وشكلوا لذلك محكمة خاصة مثل أمامها مع لفيف من العلماء، كان ذلك سنة 1313
هـ وله من العمر ثلاثون عاماً، ثم خلوا سبيله.
يقول في كتابه الاستئناس [ص 44] : (وإن الحق ليس منحصراً في قول،
ولا مذهب، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها) .
وفى كتاب إرشاد الخلق [ص 4] : يقول: (وإن مراد الإصلاح العلمي
بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد، وإنما المراد إنهاض
رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها) .
ونحن اليوم في عصر قد كثر فيه الخلاف، وذهبت فيه العقول منازل كثيرة،
ما أحوجنا إلى نبذ التعصب، وتحرير العقل من الهوى، والسعي وراء الأدلة
الصحيحة، فندور حيث دارت، ونتمسك بها ولا ننتصر لرأي ذاتي فربما كان خطأ
أو صواباً.
أخذ القاسمي العلوم عن كثير من المشايخ أمثال: الشيخ سليم العطار، قرأ
عليه شرح الشذور، وابن عقيل، وجمع الجوامع، وتفسير البيضاوي، وسمع منه
دروساً من صحيح البخاري دراية، والموطأ، ومصابيح السنة.
وقرأ على الشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الخاني، ووالده الشيخ محمد
سعيد القاسمي، وكان يحضر دروس الشيخ عبد الرزاق البيطار، مجدد مذهب
السلف في الشام، وقد استفاد منه الشيء الكثير.
وكان جميع أساتذته من المعجبين بذكائه ونباهته، يتوقعون له مستقبلاً مشرفاً
، ويتطلعون إلى ما يتحقق على يديه من نهضة عظيمة لمنطقة أحوج ما تكون إلى
الدعاة الذين يدعون إلى الله وفق أصول أصيلة في العقيدة والمنهج والتصور.
لقد اتصف رحمه الله بصفات العلماء الحميدة، فكان سليم القلب، نزيه النفس
واللسان، ناسكاً، حليماً وفياً لإخوانه، جواداً سخياً على قلة ذات يده، يأنس به
جليسه ولا يمل حديثه، حريصاً على الإفادة من أوقاته ولو كانت قصيرة، فقد جمع
مفكرة جميلة حوت من الفوائد واللطائف الشيء الكثير، (السوافح) وكان يربي
تلاميذه على حب الاعتماد على النفس، وعدم الكسب بالدَّين، والركون إلى الطغاة
والظالمين ومسايرتهم على ضلالهم، رغبة في عَرَضٍ من أعراض الدنيا،
ويستشهد على ذلك بابن تيمية، فإنه عَرَضَ عليه الحاكم منصب قاضي عسكر
براتب مغرٍ فأعرض عنها مخافة أن يكون عبداً وأسيراً لها.
وعن آثاره العلمية يقول ولده الأستاذ ظافر القاسمي في مقدمة كتاب قواعد
التحديث عند الترجمة لأبيه: (أما كتبه التي ألفها فقد قاربت المئة، وأقدم ما عثرت
عليه من مؤلفاته مجموعة سماها (السفينة) يرجع تاريخها إلى عام (1299هـ) ضم
فيها طرائف من مطالعاته في الأدب، والأخلاق، والتاريخ، والشعر، وغير ذلك
، وله من العمر ستة عشر عاماً، ومضى يكتب ويكتب إلى أن عجب الناس من
بعده كيف اتسع وقته- ولم يعش إلا تسعة وأربعين عاماً -لهذا الإنتاج الضخم،
فضلاً عن تحمل مسئولية الرأي، وترجيح الأقوال ومناقشتها، والرجوع إلى
المصادر، وفضلاً عن أعبائه العائلية، فلقد كان له زوج وسبعة أولاد، وفضلاً عن
إمامته للناس في الأوقات الخمسة دون انقطاع، ودروسه العامة والخاصة، وتفقده
للرحم، ورحلاته، وزياراته لأصدقائه، وغير ذلك من المشاغل [3] .
ومن مؤلفاته رحمه الله: محاسن التأويل: وهو تفسير للقرآن الكريم امتاز
بأنه ينقل من كل تفسير خير ما فيه على منهج السلف، وهو مطبوع (17) جزءاً.
(دلائل التوحيد، إصلاح المساجد من البدع والعوائد، قواعد التحديث من
فنون مصطلح الحديث، شذرة من السيرة النبوية، رسالة الاستئناس لتصحيح
أنكحة الناس، كتاب المسح على الجوربين، تعطير المشام في مآثر دمشق الشام،
حياة البخاري، شمس الجمال على منتخب كنز العمال، ميزان الجرح والتعديل،
موعظة المؤمنين في إحياء علوم الدين) وغيرها من الكتب والرسائل والمقالات.
وكان للقاسمي رحمه الله ميول شعرية فمن نظمه ما كتبه في دلائل التوحيد:
أدلة في وجود الحق قاهرة ... راحت لها شبه الإلحاد منكسرة
الحق يعلو ولا يعلى عليه فمن ... ناواه كانت جنود الله منتصرة
ونظم يرد على بعض الجاحدين الذين اتهموه ووشوا به إلى الوالي:
زعم الناس بأن مذهبي يدعى الجمالي ... وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني سلفي الانتحال ... مذهبي ما في كتاب الله ربى المتعالي
ثم ما صح من الأخ بار لا قيل وقال ... أقتضي الحق ولا أرضى بآراء الرجال
وهناك جوانب مشرقة، كان يتصف بها الشيخ القاسمي رحمه الله، حري
بالدعاة وبالمصلحين وبطلاب العلم أن يتحلوا بها: إنها عفة اللسان والقلم، وسعة
الصدر، ورحابته، وبشاشة الوجه وطلاقته، فقد كتب ولده الأستاذ ظافر القاسمي
عن هذا الجانب فيقول: (عرف عن القاسمي أنه كان عف اللسان والقلم، لم يتعرض بالأذى لأحدٍ من خصومه، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة، أو في مجالسه وندواته، وكانت له طريقته في مناقشة خصومه، لم يعرف أهدأ منها، ولا أجمل من صبره، وكثيراً ما قصده بعض المتقحمين في داره، لا مستفيداً، ولا مستوضحاً، ولا مناقشاً، بل محرجاً، فكان يستقبلهم بصدره الواسع، وعلمه العميق، فلا يخرج المقتحم من داره إلا وقد أفحم وامتلأ إعجاباً وتقديراً [4] .
وكانت وفاته مساء السبت 23 جمادى الأولى سنة 1332 هـ ودفن في مقبرة
الباب الصغير بدمشق. لقد كان رحمه الله عالماً قدوة له أثر طيب في نفوس
معاصريه وطلابه، وترك آثاراً علمية نحن أحوج ما نكون إليها في هذا العصر
الذي قل فيه العلم والعلماء مع تعطش الأجيال الإسلامية وحاجتها إلى الموجهين
والعلماء الربانيين. [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر ترجمته في: تاريخ علماء دمشق، الأعلام للزركلي، مقدمة قواعد التحديث، ترجمة لحياة القاسمي لولده الأستاذ ظافر القاسمي، شيخ الشام جمال الدين القاسمي، محمود مهدي الاستانبولي، مقدمة محاسن التأويل.
(2) شيخ الشام جمال الدين القاسمي، الأستانبولي/44.
(3) مقدمة قواعد التحديث / 31.
(4) قواعد التحديث / 31.(22/42)
حتى داخل جدران بيتك
عبد الحميد إبراهيم
غير مسموح لك أن تلقن أولادك ما تشاء من الأخلاق، وتنشئهم على ما تريد
من التربية، ولا نريد أن ندخل في جدل قد يطول حول هل للأب دور في تنشئة
أولاده على أخلاق معينة أم لا! هذه هي النتيجة لفقرة من برنامج إذاعي سمعته من
إحدى إذاعتنا العربية، وهذا البرنامج مخصص لمشاركة جمهور المستمعين في
إيجاد الحل لبعض مشاكل المستمعين الاجتماعية.
فقد عرض مقدم البرنامج ثلاث مشكلات، مختارة اختياراً خاصاً، وقدمت
تقديًما موجهاً على لسان ممثل، أو ممثلة، وسوف أختار مشكلة واحدة، وأعيد
روايتها باختصار، وأحاول أن أضيف وجهة النظر الأخرى التي لا يحب معد
البرنامج أن تذكر فيتجاهلها تجاهلاً، وغطاها بقدراته (الذكية) التي اختير لتقديم
مثل هذا البرنامج على أساسها، وبالإمكانات الموضوعة تحت يديه.
فتاة في السابعة عشرة من عمرها، متفوقة في رياضة معينة، ومشاركة في
مباريات على المستوى الوطني، والفرصة متاحة لها كي تشارك في مباريات دولية، ولكن حينما تعرض الأمر على أبيها، يضع اعتراضه على أن تسافر من أجل
ذلك، فتلح عليه وترجوه ولكنه يبقى عند رأيه، ومع أن رأيه هذا غير ملزم لها
واقعياً وقانونياً؛ لكنه من الناحية الأخلاقية والدينية له اعتباره، وهكذا كان التعليل
الذي قدم، وكأن الأخلاق والدين أمر طارئ على المجتمع وقوانينه، وبلية تراعى
لكونها بلية ومصيبة فقط، وأخيراً يخيرها بين أن تسافر لهذه الغاية وتضحي برضاه
عليها، وبين أن تكتفي بما حصلت عليه على المستوى الوطني، وتلتفت إلى
دراستها.
وهنا يطلب إلى المشاركين أن يدلوا بآرائهم: هل يشجعون البنت أن تضرب
برأي والدها عرض الحائط وتذهب حيث تشاء؛ أم ينصحونها أن تقف عند ما يريد
أبوها؟ .
خرج أربع إناث للتعليق:
كانت الأولى والثانية مسؤولتان في رعاية الشباب بالجامعة واتفقتا على أن
تشارك الفتاة في المباراة الدولية، والتسويغ الذي استندتا إليه أن المشاركة في
البطولات الرياضية خارج البلاد تكون تحت إشراف ورعاية من القائمين على هذا
الشأن، وأنه لا داعي للتشدد والتمسك من قبل الوالد برأيه، لأنه بذلك يقف عقبة
أمام طموحات ابنته، ويحرمها من فرصتها، وربما انعكس ذلك على نفسيتها
بالمشاكل والأمراض، من جهة أخرى فإنه سيئ الظن بالمسؤولين.
تقدمت الثالثة وهى - من صوتها - تبدو لا مبالية، ومتروكة هكذا، دون
تربية بيتية صحيحة. وقالت: أنا رأيي أن تسافر ولا تلتفت إلى رأي والدها
وعندما رد عليها مقدم البرنامج: بأن ذلك سيغضب والدها منها قالت: إنه سيغضب
لمدة قصيرة، وسيرضى عنها بعد ذلك. ولما قال لها المقدم: وهل تحبين أن
تغضبي والدك، قالت: أنا أفعل ما أشاء ثم آتي والدي وأقول له: يا بابا أنت قلبك
كبير وحنون والخ فيرضى عنى وتنتهي القضية! .
وتقدمت الرابعة بحل (يتزيا بزي الحكمة والتعقل كتسوية للموضوع!)
وقالت: تفعل كل ما يمكنها من أجل إقناعه حتى تسافر وهو راض عنها، فأجابها المقدم: ولكن قد لا يقتنع ويرفض كل المحاولات: عندها قالت بعد كل هذا لكون الذنب ذنبه، لأنه لا يقبل المنطق، وإذا خالفته وذهبت لا تلام! .
عند هذه النتيجة بدا أن البرنامج قد وصل ذروة التشويق، وحقق غرضه،
فالتفت معد البرنامج إلى حَكَمَ يفض النزاع وكان موظفاً رسمياً كبيراً والحق أن هذا
الموظف - كما بدا - لا يزال يحمل بين جنبيه أثارة نفس تميل إلى الإنصاف -
وإن كان ذلك على استحياء، أو قل: على خوف من النتائج - فقدم رأيه بصورة
رجاء إلى البنت محفوف باستثارة عاطفتها فقال: أنا رأيي أن لا تسافر، ولا
تتسبب في إغضاب والدها عليها، وإذا كان ذلك سيؤدي إلى حرمانها من فرصة
الفوز؛ فأنا واثق أنها بطاعتها لوالدها ستعوض هذه الفرصة المتاحة وسيحالفها
التوفيق. وهنا ختم معد البرنامج هذه الفقرة بموافقته على هذا الرأي، لكن من دون
أن يترك التعقيب على ذلك بما يظهر أنه غير مقتنع داخلياً، وقدم تعزيته للفتاة على
هذه الخاتمة فقال ما فحواه:
الأستاذ فلان وضع النقاط على الحروف ونحن نضم صوتنا إلى صوته ونقول
للفتاة بنت السبعة عشر: اسمعي كلام والدك وإذا أدى ذلك إلى ضياع الفرصة عليك، والتضحية بطموحاتك، فلا بأس؛ فالإنسان تضيع من أمامه فرص كثيرة في
الحياة، وجايز (!) أنك لن تفوزي في المباراة الدولية، وجايز (!) أنه سيكون
لك مستقبل زاهر آخر في غير الرياضة.
ملاحظات عامة على هذا البرنامج:
1- ينتقى هذا البرنامج قضايا خاصة لتخدم هدفا محدداً.
2- أسلوبه في طرح الآراء أسلوب انتقائي موجه.
3- يشيع الآراء التي تخالف ما هو سائد في المجتمع من أعراف وتقاليد نابعة
من الدين والعقيدة.
4- يعرض الآراء الإسلامية مشوهة أو محرفة ويفسرها على هواه.
5- كثيراً ما يجعل السلوكيات الطارئة والمنحرفة هي الأصل، وما عداها هو
الشاذ السلبي الذي ينبغي أن يحارب.
ملاحظات خاصة بهذه الفقرة المعروضة:
1- عدم الحياد في انتقاء الشخصيات الأربع لإبداء رأيهن، مما أعلى إيحاءً
بأن المجتمع بأسره لا يوافق الأب في موقفه من سفر ابنته وهذا غير صحيح.
2- أظهرت حجة المسؤولين من رعاية الشباب أن سلوك الأب ليس خطأ
شخصياً فحسب، بل هو غير قانوني أيضا وينطوي على مخالفة القوانين العامة
وهي إساءة الظن بمؤسسات الدولة.
3 - وكذلك أوحت حجة هاتين المسؤولتين- وبوضوح - أن الأب يسيء
استعمال مسؤوليته كأب، حيث يقف أمام سعادة ابنته، ويسبب الشقاء لها. وهذا
مما يشجع البنات والأولاد على عصيان والديهم مهما كانت الحجج التي يستندون
إليها في منعهم من بعض الأعمال لأنهم يتحولون في نظهرهم من آباء مهمتهم توفير
السعادة لأبنائهم إلى جلادين أو مستبدين جالبين للشقاء.
4 - وضع حجة الولد مقابل حجة الوالد فيها ما فيها من الإجحاف والظلم في
إظهار أمرين لا يطابق ولا يساوي أحدهما الآخر على أنهما متطابقان متساويان..
إن اللاشعور أو اللاوعي عند المستمع سيرتفع بحجة الولد؛ بينما سينحط
بحجة الوالد حتى يتسنى له أن يوازن ويقارن - وهذا الفعل له أثره على شريحة
عريضة في المجتمع، وهى التي تبدأ من سن التمييز حتى سن الرشد العقلي،
شاءت أم أبت -.
5- جواب الثالثة يوحي بأنها تستند إلى حقيقة مستمدة من الواقع (فهي واقعية) ، وهذه الحقيقة هي أن غضب الوالد على ولده، غضب من نوع خاص، ليس كأي
غضب آخر في بواعثه وأهدافه، إن شئت فقل: غضب مصطنع، يصطنعه
الإنسان من أجل تربية أبنائه التربية الصحيحة، ويجنبهم النتائج المؤلمة التي قد
تختفي عن أنظارهم وهم في حمى اندفاعهم، فهو شفقة لابسة ثوب غضب وحرص
وضن بشيء ثمين يخفيه صاحبه بهذا الغطاء تمويهاً، وهذا النوع من الأولاد
الأذكياء يستغلون هذه الحقيقة استغلالاً سيئاً يعود عليهم وعلى المجتمع بأسره
بالفوضى) والاضطراب، ويساعدهم على ذلك أن آباءهم - نتيجة ظروف نفسية
وضغوط من الواقع - ضيعوا تأثير هذا السلاح التربوي بضعف الإرادة،
وبالتطرف في (التدليل) فتمخض عن ذلك موجة كاسحة من الأهواء المنطلقة التي
يصعب كبحها، وكان أن بدأت تتحلل سلطة البيت شيئاً فشيئاً، وتخلى المكان،
وتلقي القياد لسلطة الشارع التي أنتجت خليطاً غير متجانس يبعث الغثيان، ويشهد
على مسببه بالفشل العام.
6 - جواب الرابعة يشر أن الأب بعيد عن المنطق والعقل، يحتاج ما يصلحه
ويعيده إلى رشده. وإذا علمنا أن نظرة الأب هذه تستند إلى أصل مستمد من أحكام
الإسلام ومن تعاليم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أن «المرأة لا تسافر
مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم» ، وأنها لا تخرج من بيت وليها أو زوجها
دون إذن منه وإلا لضرورة، وأن الضرورة تقدر بقدرها، وأن الإسلام لا يجيز ولا
يبيح هذا الانطلاق السافر، وهذا الاختلاط الذي لا ضرورة له باسم الفن تارة،
وباسم الرياضة تارة أخرى؛ وبإضفاء صفات البطولة على مثل هذه الأعمال التي
هي في ميزان الإسلام فساد، وأشر، وبطر، وانفلات - إن لم نقل غير ذلك -:
إذا علمنا أن نظرة الأب تستند إلى هذه القواعد أو إلى بعضها على الأقل؛ فهذا
يعنى أن كل هذه القواعد والأحكام مخالفة للعقل والمنطق، وسينتج عن ذلك
بالضرورة أنه حيثما كانت أحكام إسلامية وإرشادات ربانية، وتوجيهات نبوية فلا
عقل ولا منطق ثّم، وأن العقل والمنطق في اتجاه غير ذلك الاتجاه.
7 - جواب الموظف الرسمي الكبير يظهر أن كثيراً من المسؤولين يتمتعون
بحس من المسؤولية، وأنهم لو أتيحت لهم الفرصة لأظهروا أنه ليس من مصلحة
أي نظام أن يشجع على الانفلات والتمرد على سلطة الأسرة، ولكن هؤلاء غالباً ما
يحجزهم الخوف عن المجاهرة بالآراء الحقة.
8 - إن نتيجة البرنامج النهائية تبين أن كثيراً من المشرفين على البرامج
الإعلامية يستغلونها استغلالاً بشعاً لإظهار وجهات نظرهم الخاصة، وحجب
وجهات النظر الأخرى بحيل مستترة أو مكشوفة، وليست هذه الآراء متطابقة
بالضرورة مع وجهات النظر الرسمية، أو تمثلها تمثيلاً صحيحاً، وهذا يشير إلى
مرض آخر مستشرٍ في حياتنا الثقافية والفكرية يعيقنا عن إنجاز النافع، واستبعاد
الضار، ويمنعنا من التفكير في مشاكلنا وحلها بأسلوب علمي بعيد عن التحيز
والمداراة والتعصب لما يوافق الهوى، نعني مرض الشللية والمحسوبية، فعلى
الرغم من التغني بمحاربة الروح العشائرية والطائفية والحزبية والمحسوبية، وإبعاد
غير الأكفاء عما لا يحسنونه من الأعمال؛ فإن هذه الأمراض وأشباهها تفتك من
وراء ستار ويضيع في دخانها الإنصاف والعدل، ويصنف الناس على أساسها،
فيقدم بعضهم، ويقصى الآخر.
إن هذه البرامج المبنية على التحريف والتشويه والبتر لا تثمر في المجتمع إلا
اضطراباً، لا تؤصل فكراً، ولا تقوم سلوكاً، بل لا تزيده إلا تمزيقاً وانقساماً
وتوتراً، فإذا كان يظن معدّوها أنهم يستهدفون الإصلاح فقد ضلوا الطريق، وإذا
كانوا يقصدونها قصداً، ويعرفون ما تؤدي إليه، ويصرون على ذلك؛ فحسبنا الله
ونعم الوكيل.(22/48)
المسلم قارئاً ومثقفاً
جاسر الجاسر
القراءة عمل إيجابي بلا شك لأنها أول وأهم المراحل التي ينفض بها الإنسان
غبار الجهل من رأسه ليحل محله نور المعرفة وضياؤها، وهكذا تكون القراءة
معرفة ونمواً، وتكون وعياً ونضجاً، فكل خطوة يخطوها القارئ تصبح فيما بعد
سلماً إرشادياً يساعده على وضوح الرؤية ودقة الحكم، ويظل نضجه العقلي يتنامى
بصورة مطردة ليصبح بعد ذلك محكاً حساساً وصادقاً لكل محاولة تضليلية وكل
محاولة غزو خارجية أو داخلية، وهنا نستطيع أن نسمي القارئ مثقفاً.
وهذا يعنى بداهة أن كل قارئ ليس مثقفاً لأن بعض القراء رغم فهمهم للمعرفة، وحرصهم على استمرار القراءة يفتقدون حساً نقدياً أولياً يستطيعون من خلاله
تجنب الغث أو على الأقل إدراك غثاثته أو خطورته إن كان مضاداً، ومثل هؤلاء
القراء تكون قراءاتهم -إلا ما شاء الله - ضرراً عليهم وعلى غيرهم لأنهم يصبحون
مجرد أبواق مضخمة لهجمات شرسة مضادة دون وعى منهم أو إدراك، وإنما
بسبب اندفاعهم الأهوج، وافتقادهم التكوين المعرفي الأصيل والضروري للتعامل
مع الأشياء.
وهذا خطأ وقع فيه عدد كبير ممن يطلق عليهم تجاوزاً المثقفين المسلمين،
والذين تكون قراءاتهم واختياراتهم كحاطب الليل.
والمشكلة أن هؤلاء عادة يصبحون مسئولين أو مشرفين أو تربويين أو
إعلاميين بحيث يستشري خطرهم، ويعظم ضررهم فيجرفون معهم أجيالاً من
الشباب الذين تعاملوا معهم كمصادر أصلية ومباشرة للمعرفة، ولكن الرائد في هذه
المرة كذب أهله.
يجب بدءاً أن نقول أن الثقافة التزام، بمعنى أن المثقف فرد يتحرك من
منطلق ثابت، ويستند دائماً على إطار مرجعي ثابت، يرجع جميع القضايا
والمشاكل التي تعرضه إليه، ويمرورها من خلاله -أقصد من خلال الإطار- حتى
يعرف صلاحيتها من عدمها.
وهو دائماً ثابت في موقفه، فخور بالتزامه، حريص على عرض قضيته
والدفاع عنها ضد كل هجمة.
وحتى يصبح الإنسان مثقفاً فلابد أن تكون قراءاته منذ البداية موجهة بما
يتناسب مع تكوينه الفكري الأساسي، بمعنى أن المسلم لكي يكون مثقفاً فلابد أولاً
أن يكون تكوينه العقائدي سليماً وقوياً ولابد أن يستشعر معنى وأهمية كونه مسلماً
صحيح الاعتقاد، وهذا يعنى أن تكون قراءته الأولية تأسيسية حتى يتعرف على
جوانب دمه بشكل كامل وأن يعرف ما يراد به، لأن استشعار الخطر هو أول
ضمان على سلامة الخطوة القادمة.
ولابد أن يكون فخوراً بهذا الانتماء وأن يشعر بتميزه وتفوقه وأفضليته ومهما
كانت الظروف الظاهرية توحي بغير ذلك، لأن الاعتقاد النفسي بالتفوق هو المقدمة
لقلب وتغيير مثل هذه الظروف، ولابد أن يكون مقتنعاً بعمق بأن الأفراد الآخرين
قد يقعون في الخطأ، ولذلك فإنهم ليسوا مصدراً مأموناً في كل الأحيان، وإنما يجب
أن يقرأ لهم بحذر وترصد فإن الكلمة الخاطئة قد تصبح فيما بعد نواة لقناعة مغايرة، وهذا أمر يتساهل فيه معظم المثقفين حتى تدور عليهم الدائرة.
وهكذا فإن المثقف المسلم يعي بحدة معنى إسلامه، وأنه يجب أن تكون
خطواته وفق النسق الإسلامي، بمعنى أنه لا يمكن أن توجد قضية يمكن معالجتها
وفق منهج مغاير للإسلام لأن هذا الأمر ليست له سوى دلالة واحدة: الانحراف.
إن مما تشتمل عليه الحياة الفكرية في العالم الإسلامي نوعين من المثقفين:
مثقف ارتدادي التفكير. ومثقف إمعة. وكلا النوعين خطر على الأمة، فالمثقف
الارتدادي فرد يتخذ العلمانية موقفاً صريحاً وإطاراً مرجعياً، وهو يعي حتماً ما يفعل، بل إنه يفعله بقصد وتخطيط، ويسعى للهدم الصريح تحت اسم الثقافة والتجديد
والتطوير! ! .
ويزعم هذا المثقف أن الحضارة الغربية بكل إسقاطاتها وبكل انحرافاتها ملك
للإنسانية ككل، وأنها تمثل أرقى ما توصلت إليه البشرية في مجال الفكر والإبداع (!!) وأن الوسيلة الوحيدة لتقدمنا هي أن نلحق بركابهم، ونتعلق بأذيالهم، حتى لو
دخلوا جحر الضب لوجب علينا أن نتبعهم، لأنهم أدلاء هذا العصر ومرشدوه،
ومن تخلف عنهم تاه وضاع.
وهذا النوع من المثقفين يختبئ تحت مظلة المنافقين، فيبطن الشر ويظهر
الخير حتى يتمكن من بث سمومه، ويتخذ من الحرية ستاراً، ويدعي أنه يجب
علينا معالجة مختلف القضايا بمرونة، فلا نسمي القصص الجنسية عهراً ودعارة،
ولكنها أدب راقٍ وفن رفيع! وللأسف فإن أكثر من تعج بأسمائهم الصحف
والمجلات ويطفون على سطح الثقافة العربية هذه الأيام هم من هذا القبيل يشيعون
الأفكار الدخيلة، ويسفهون أصول الثقافة الإسلامية ويسخرون من الدعاة إلى الحق،
وينشرون الفوضى والفساد في أذهان الناشئة التي حيل بينها وبين الينابيع الفكرية
الصافية.
وهكذا يتحرك المثقف الارتدادي بكل سهولة ويسر بل وبترحاب أيضاً،
ويكون تحت الأضواء مما يسهل له بث سمومه ونشرها بين قطاع كبير من الشباب.
أما المثقف الإمعة فهو لا يمحص قولاً ولا يرد حرفاً، والحق أنهم ليسوا
مثقفين حقاً لأنهم لا يملكون رؤية ثابتة محدودة يتحركون من خلالها، ولأن مواقفهم
مائعة ومتناقضة، بل إنها أحياناً متغيرة حسب تغير وتبدل المدارس الفكرية التي
يغترفون منها.
ويفتقد المثقف الإمعة الوعي، لأن الوعي إمكانية إيجابية يتجاوز المرء
بواسطتها مكامن الخطر ومزالق الضياع، ويعاني الإمعة من (مركب نقص)
فيشعر أن القوة والمنفعة للآخرين أعني الأوربيين على وجه الخصوص، ويتصور
بحسن نية وسذاجة أن مناهجهم الفكرية هي الأصلح والأنسب لهذا العصر، ويظن
أنه من الممكن أن يسايرهم ويتابعهم حتى يستقل ثم بعد ذلك يرجع إلى دينه، وهذا
غباء مركب، ومثل هذا لا يرجى منه خير، لأن من شك في صلاحيته وقوة منهجه
الإسلامي فكأنما شك في أنه من عند الله، وهكذا يمرق من الدين، وإذا ظن مسلم
ذلك فهو ليس بمسلم ولا يمكن أن يكون فاعلاً ونشطاً في خدمة الإسلام، بل إن
المذاهب الأخرى هي التي تستفيد منه، ويكون بين ظهرانينا كأنه طابور خامس،
بل أسوأ من ذلك أحياناً. وحتى لا نكون متشائمين فإن فئة مخلصة تكافح عن هذه
العقيدة ولكنهم يتعرضون للهجوم من الطائفتين السابقتين، فالارتداديون يدركون
خطرهم وقوتهم، ولذلك يهاجمونهم بعنف أما الإمعات فإنهم يعتقدون أن هذه الفئة
المخلصة تسيء إلى الفكر الإسلامي وتحط من منزلته في نظر الآخرين! وبالتالي
يعترضون طريقهم.
ولكنها فئة مؤمنة، تعرف أن تجاهد في سبيل الله ولذلك لن يثنيها عن عزمها
شيء وستواصل طريقها بإصرار وكفاح وقوة، ويجب على هذه الفئة المؤمنة أن
تهتم بالنشء من أبناء المسلمين وأن تأخذ بأيديهم حتى لا يجرفهم التيار المدمر.
إننا نواجه في هذه الفترة تحديات خطرة، وما لم يكن تكويننا العقائدي سليماً
فالله وحده أعلم بما سيؤول إليه مصيرنا.(22/54)
لمحات في إصلاح النفس
عثمان جمعة ضميرية
دعوة الإصلاح والتغيير:
إن الدعوة الإسلامية التي حمل لواءها خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم-،
لم تكن دعوة إلى إصلاح جزئي يعالج انحرافاً معيناً وقع فيه المجتمع فاحتاج إلى
عملية ترقيع أخلاقية أو اجتماعية تنقذه من الهاوية التي تردّى فيها أو أشرف على
الهبوط فيها، عندما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
ولكن هذه الدعوة الخاتمة، جعلها الله تعالى دعوة تغيير شامل لما بالنفس
والمجتمع، لينشئ بذلك أمة خيرة فاضلة. [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [آل عمران: 110] .
وجعلها أمة قائدة رائدة وشاهدة على الأمم الأخرى، لأنها هي الأمة الوسط
العدل في عقيدتها ومنهجها: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] .
عملية بناء الأمة:
هذه الأمة التي تبث الخير، وتحمل الحق إلى العالم كله، ليثوب إلى دين الله
الواحد، لم تكن عملية بنائها وتربيتها عملية سهلة، هينة لينة، ولم يكن الطريق
إلى ذلك قفزات سريعة، يستعجل فيها الداعون الوصول إلى الهدف المنشود.
ولكنها كانت عملية بناء متكامل، يبذل فيها المسلمون الجهد والعناء، ويصبرون
على أشواك الطريق الذي يسيرون عليه بخطىً متئدة متدرجة، كل خطوة تسلمهم
إلى تاليتها ليكونوا بذلك على الجادة المستقيمة من الطريق بعد تلك المجاهدة
والمصابرة: [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]
[العنكبوت: 69] .
أثر الفرد في الإصلاح:
فلم يكن عجباً-والحال ما ذكرت - أن يبدأ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
بوحي من ربه في تربية الأمة كلها بتربية أفرادها أولاً، فالفرد هو الخلية الأولى
في بناء المجتمع، فليكن هو نقطة البدء في الإصلاح والبناء.. فإن إصلاح
مجموعة من الأفراد في كل بلدة، إصلاحاً يجعلهم أئمة في الهدى والخير والاستقامة
هو الذي يؤدي إلى استقامة شؤون البلدة كلها ونظافة حياتها الاجتماعية..
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يربي جيل مكة:
وظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً
يعني بتربية أفراد من أمته، حتى إذا اجتمع له منهم عشرات، شرع في بناء الدولة
الصالحة والحضارة الإنسانية ... إن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وابن مسعود..
وأمثالهم من الرعيل الأول، هم الذين أقاموا صرح الدولة الإسلامية والحضارة
المؤمنة المشرقة، وهم الذين كان يجتمع إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في شعاب مكة وفي دار الأرقم، وفى فناء الكعبة، يقوي أرواحهم، ويصقل نفوسهم، ويهذب أخلاقهم، حتى إذا مضى -صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى والتحق
بالرفيق الأعلى، كان لهم في التاريخ شأن أي شأن! وكان لهم في هداية البشرية
نصيب وأي نصيب [1] .
التأثير بين الفرد والمجتمع:
ومن سنة الله تعالى في الحياة الاجتماعية أنه لا يتم تغيير ما بالمجتمع حتى
يبذل المرء جهده في عملية التغيير النفسي أولاً: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] . وهذا التغيير والتزكية للنفس هو مفتاح الفلاح
وسبب الفوز: [ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن
زَكَّاهَا * وقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] [الشمس: 7-10] [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى *
وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] [الليل: 5-7] .
فلا صلاح لمجتمع إلا بصلاح أفراده، ولا صلاح للفرد إلا بتهيئة المناخ
الطيب النظيف، فهناك علاقة متبادلة بين هذا وذاك، ولعل في هذا إشارة إلى
واحدة من الحكم الكثيرة التي تتجلى في دعامة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر،
لتكوين الرأي الفاضل والمجتمع النظيف، الذي يعرف المعروف ويدعو إليه،
وينكر المنكر ويحذر منه.
الطريق العملي للإصلاح:
ولعلك تتساءل -أيها المسلم الغيور- عن الطريق العملي لهذا الإصلاح الذي
ينشده الإسلام للفرد، ليكون خطوة على طريق الإصلاح الشامل للمجتمع الإنساني
كله؟
* وما أظن أن أحدا ينازع في أن الخطوة الأولى في بناء النفس وإصلاحها،
هي التي تقوم على التوحيد المطلق لله سبحانه، وأن يشعر الإنسان بعبوديته
الخالصة لله سبحانه، فيمتلئ قلبه محبة وإجلالاً لله، ليدفعه ذلك إلى طاعته واتباع
أوامره ومتابعة نبيه تتتت: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن
قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة: 21] . [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] [الأعراف: 3] .
وقد فطر الله تعالى الإنسان على التوحيد: [فِطْرَتَ الله الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله] [الروم: 30] .
ولن يقبل الله تعالى من إنسان دينا غير هذا الدين: [إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ
الإسْلامُ] [آل عمران: 19] ، [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] [آل عمران: 85] .
وهذه هي العقيدة التي تحرر صاحبها من الوهم والخرافة ومن العبودية للهوى
والشهوة والشيطان، لتجعله عبداً لله تعالى وحده، فيشعر عندئذ بحريته الحقيقية
وإنسانيته الكاملة.
* وهذا القلب الذي أصلحته ليكون سبباً لصلاح الفكر والشعور والجسد،
سيكون قلباً حياً حساساً ومحكمة داخلية في نفسك، تشعرك بالمسؤولية، وتدفعك إلى
القيام بالواجب، فتنصف من نفسك لغيرك، وتترك الانتصاف لها من الغير، فإن
فعلت ذلك كنت أحسن الناس خلقاً وأطيبهم معاملة، فغدوت أحب إليهم من نفوسهم
وأقرب إليهم من أقاربهم، وهذه هي الخطوة الثانية على الطريق.
* ويبقى أمامك أن تعود إلى هذه النفس فتجملها بالمعاني الفاضلة وتحملها
عليها - ان استعصت عليك - وإلا فإنها ستنبع من نفسك وتفيض على الآخرين من
حولك. فإن العقيدة لابد أن يظهر أثرها في الأقوال والأعمال، فهي المرآة التي
ينعكس فيها سلوك الإنسان ومعاملته لربه سبحانه، وللناس من حوله، وإلا كانت
عاطفة فائرة، أو مستسرة في القلب، أو كلمات يديرها الإنسان على لسانه، لا
تجاوز الحنجرة، وأصبحت أماني لا تنفع صاحبها: [ليس بأمانيكم ولا أماني أهل
الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا. ً ومن
يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا
يظلمون نقيرا] [النساء: 123-124] .
__________
(1) انظر: أخلاقنا الاجتماعية للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله.(22/58)
منبر الشباب
وجهة نظر
أبو زكريا عباس
لقد امتن الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطاً، وهو شرف
يجب أن يحافظ عليه المسلمون، حتى لا تغرق سفينة الأمة في بحار الفتن، ولا
تضطرب بأمواج الفرقة والشقاق. إلا أن هذا الشرف -وللأسف الشديد- قد ضاع
فيما ضاع من خصائص هذا الدين ومقوماته، حتى أصبح اختلال التوازن وعدم
الاعتدال والحيدة عن الوسطية سمة مميزة للمسلمين، وخصوصاً في العصر
الحاضر، ولقد حدث هذا بتأثير من قوتي شد وجذب، إحداهما جنحت إلى التفريط، وهو تقصير في أداء الواجب مذموم، والأخرى جنحت إلى الإفراط، وهو غلو
منهي عنه حتى في شعائر التعبد.
ثم نتج عن هذا تخلخل بناء الإسلام الكامل، حتى أصبحت كثير من المفاهيم
الإسلامية أشلاء متناثرة على أرض الإسلام لا تمثل شيئاً من حقيقته في واقع
المسلمين.
ومن المؤسف جداً أن يسري هذا الداء العضال إلى كيان الدعوة المتماسك
وبنيانه المرصوص لينخر فيه كما ينخر النمل الأبيض في الورق العتيق، حتى
يفقده صفة تداعي سائر الأعضاء لشكوى العضو الواحد.
حدث هذا حتى في صفوف الدعاة المخلصين حينما فقدت نظرية النسبة
والتناسب في أساليب الدعوة من أجل البناء المتكامل المتين. ومن هنا تشعبت
الطرق واختلفت الموارد وتعددت المناهج للدرجة التي تجعل اللبيب حيران،
والطبيب الماهر عاجزاً عن تشخيص الداء، ناهيك عن معرفة الدواء.
فتارة تكون مصيبة المسلمين في حسه هي مجرد جهلهم بهذا الدين، وعدم
النضج الفكري الذي ينشئ لديهم القناعة التامة بدينهم، ولذلك فالعلاج الذي ينبغي
أن يوصف في مثل هذه الحالة هو عرض نظرية الإسلام وحقائقه وأصوله العامة،
وكشف القناع عن زيف الحضارة الغربية الكافرة، وفضح المخططات اليهودية
الخبيثة، وفضح عوار السياسة، وحبائلها؛ حتى يتضح الصبح لذي عينين،
ويتسنى للمسلمين القناعة الفكرية بما يملكون من كنوز السعادة، ومفاتيح القيادة،
التي تجعلهم بحق خير أمة، وبعدها يصبح السلوك والتعامل الإسلامي أسهل من
شرب الماء البارد!
وهو في نظره تارة أخرى جهل عوام المسلمين وكثير من أبناء الإسلام،
وخصوصاً أهالي القرى النائية والبوادي والبلدان الفقيرة التي أطبقت على أهلها
الأمية بأحكام الإسلام الفقهية وأركانه الأساسية، فهم في أشد حاجة لمن يعلمهم أمور
دينهم، وحينئذ فالعلاج الناجع هو صرف الجهود لتعليمهم وشد الرحال لتدريسهم
وتوجيههم.
ومرة ثالثة: أن المشكلة تكمن في الجهل ولاشك، ولكن المبادئ العامة
للإسلام معلومة ومعروفة لدى الكثير من أبنائه، فلماذا لا يكون هناك الفهم العميق
للعلوم الإسلامية وذلك بالعكوف على طلب العلم الشرعي ومعرفة القواعد الفقهية
والمصطلحات الحديثية، لأنه حينما يعكف أبناء المسلمين وطلاب العلم على دراسة
العلم ومسائله، فسوف تحل مشاكلهم الناتجة عن الجهل تلقائياً، بالإضافة إلى أن
العلوم والمناهج الإسلامية بحاجة إلى تصفية وتنقيح حتى يستقي أبناء المسلمين من
معين صاف صحيح.
ومرة أخرى: ربما يكون هذا تضييعاً للوقت وتبديداً للجهود، فالعلم ليس كل
شيء، والناس بحاجة فقط إلى تنبيه ووعظ وإرشاد وجلاء للقلوب التي غلب عليها
الران، لأنهم مسلمون، وقلوبهم طيبة، ونياتهم حسنة، ولا يحتاج كبير جهد،
فالعلة فقط هي أنهم انشغلوا بدنياهم عن آخرتهم وبهواهم عن أوامر ربهم، فلذلك
ليسوا في حاجة إلا إلى كلمات الوعظ والنصح والخطب المنبرية التي توقظ القلوب
من غفلتها، وتنفض عنهم غبار الشهوات والشبهات فيعودون إلى الله ربانيين حنفاء.
ومرة رابعة أو خامسة يملي عليه أن مكمن الضعف وسر الانحطاط ليس هذا
أو ذاك، فإن المسلمين ليسوا بحاجة إلى الدروس والخطب فهي تلقى عليهم بكرة
وعشياً، دون أن تغير من واقعهم شيئاً إن الطريق هو الطريق التربوي، فالمسلمون
في أمس الحاجة إلى قدوة حسنة، وأنموذج عملي يسيرون على خطاه، وبذلك
تستقيم خطوات المجتمع كله - حتى وإن كانوا لا يدركون من العلم إلا قليلا! -
والبلسم الشافي حينئذ هو أن يربى شباب الإسلام بخاصة لأنهم عدة الأمة وعتادها
بوسائل التربية المختلفة التي تتفق وروح الإسلام في سلوك عملى، وتعايش واقعي، حتى يمثلوا القدوة المطلوبة للمسلمين بل وللناس أجمعين! .
وأخيراً يجد من يقول له: ألم تقرأ التاريخ؟ ألم تعرف نقطة الانحراف وبداية
خط الانكسار؟ ألم تدر أن المسلمين لم يصبهم ما أصابهم إلا حينما تخلوا عن الجهاد
المقدس، وأعرضوا عن هذه الفريضة العظيمة التي بواسطتها تظهر عزة الإسلام
وقوة المسلمين؟ فلماذا - إذاً - تذهب بعيداً، إن العلاج بين يديك. إنه إحياء هذه
الشعيرة والانخراط في سلك المجاهدين في سبيل الله فإما النصر وإما الشهادة، وهذه
نهاية الأرب وغاية المقاصد ... وماذا تريد بعد الشهادة في سبيل الله؟ .
ويترك صاحبنا تائها في طريق الصحوة، لا يدري أين يسير ... ومن أن
ينطلق. وهل يترك جميع هذه الوسائل؟ وما هو الحل الصحيح إذن؟ هل يسلكها
جميعاً؟ وكيف يتم له ذلك؟ هل يسلك أحدها؟ وماذا يختار منها؟ هل يختار
أشرفها وأرفعها في نظره؟ أم يختار أسهلها وأقصرها عليه؟ ولماذا؟ وما هو
ضابط المسألة؟ ثم ماذا يكون موقفه بعد ذلك من الطرق الأخرى؟ .
والسؤال الأخير الذي نطرحه عليه: أليست جميع هذه الأساليب صحيحة،
وإن كان الخطأ والقصور قد يطرأ على أي منها، وإن كان الإفراط أو التفريط قد
يتسلط على أي منها، ولعل الجواب يكون (نعم) ! ولكن الأمر الذي يندى له الجبين
أن تغيب عن أذهان كثير من سالكي هذه السبل تلك الحقيقة، ويظن كل من سلك
طريقا منها-سواء لقناعته به، أو لميول ورغبات نفسية معينة لديه، أو لقدرات
وملكات وهبها الله إياه، أو لضرورة الواقع والظروف الزمنى، ومتطلبات المرحلة، أو لغيرها من الأسباب -أن هذا فقط هو سبيل الدعوة الصحيح والوحيد. فيظل
يدعو إليه ويضخم هذا الجانب على حساب الجوانب الأخرى، وربما يحققها ويلقي
اللوم على إخوانه السائرين فيها، بل وربما يدعو إلى حصر جهود المسلمين -كل
المسلمين-في رقعة محصورة وزاوية ضيقة فتكون بؤرة مضيئة حقاً، ولكن حولها
هالة كبيرة من الغبش والظلام..
وإنما ظن هذا وأمثاله هذا الظن لغلبة هواه الذي جعله ينظر إلى الأمر من
زاوية ضيقة، أو لأنه يرى أن التوازن والتوافق بين جميع هذه الأساليب ضرب
من المستحيل، وما درى أنها جميعاً روافد تصب في مصب واحد، وأن الجمع
بينها ممكن جداً، والدليل على ذلك أنه وجد في سلف هذه الأمة من تحققت فيه هذه
الجوانب المختلفة، وهو فرد واحد. فهو المعلم، وهو الداعية. وهو المربي.
وهو المجاهد. وهو الواعظ وهو وهو. إلى غير ذلك، فإذا أمكن تحقيق هذا
التوازن في حياة شخص أفلا يمكن تحقيقه في حياة أمة؟(22/63)
الفراغ
إسماعيل بن صالح آل عبد الرحيم
أحسب أن المجتمع يستطيع الخلاص من مفاسد كثيرة لو أنه تحكم في أوقات
فراغه، لا بالإفادة منها بعد أن توجد، بل بخلق الجهد الذي يستنفد كل طاقة،
ويوجه هذا وذاك إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده، فلا يبقى مجال يشعر امرؤ بعده
أنه لا عمل له.
إن الفراغ في الشرق يدمر ألوف الكفايات والمواهب، ويخفيها وراء ركام
هائل من الاستهانة والاستكانة، كما تختفي معادن الذهب والحديد في المناجم
المجهولة!
يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألت
عنه فقيل لا حرفة له، سقط من عيني.
وقال أيضاً: إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً (أي فارغاً) لا في عمل دنيا ولا
في عمل آخرة..
وقال حكيم: من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه،
أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه،
وظلم نفسه!
والفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، إذ النفس لابد لها من
حركة وعمل، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلد الفكر وثخن العقل وضعفت حركة
النفس واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب، وربما حدث له إرادات
سيئة شريرة ينفس بها عن هذا الكبت الذي أصابه من الفراغ [1] .
وقد نبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى غفلة الألوف من الناس عما
وهبوا من نعمة العافية والوقت فقال: «نعمتان من نعم الله مغبون فيها كثير من
الناس: الصحة والفراغ» [2] .
ويقصد بالفراغ: الخلو من المشاغل والمعوقات الدنيوية المانعة للمرء من
حيث الاشتغال بالأمور الأخروية.
وفى الحديث الآخر: «اغتنم خمساً قبل خمس» -وعد منها - «وفراغك
قبل شغلك» [3] .
يقول بعض الصالحين: فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، وكان السلف
الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغاً لا هو في أمر دينه ولا هو في أمر
دنياه.. ولهذا قيل: الفراغ للرجل غفلة وللنساء غلمة: أي محرك للغريزة.
ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع راغ الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة
والجدة [4] وفى هذا يقول أبو العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة!
ويقول آخر:
لقد هاج الفراغ عليه شغلاً ... وأسباب البلاء من الفراغ
ولقد قطع الله تعالى المعذرة لأهل الفراغ بقوله: [وجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ
فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ والْحِسَابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً] [الإسراء: 13] فأتاح لهم التكسب
من نعم الله وفضله والنظر في مخلوقاته والتفكر فيها واسترجاع طاقات العقل بما
ينفع من أمور الدنيا والآخرة.
وبتعدد أنواع الفراغ يمكننا تقييم الحالات التي يصاب بها الشخص من إهدار
الأعمال على هامش المفسدة، فجعل الله صفة (الفراغ العقلي) للدواب وذلك لأنها
غير مهيئة لاستخدام عقلها، فشابهها الإنسان عندما يعطل دور عقله في تحصيل
العلوم النافعة، وهذا هو سر تمييز عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرجال حين
قال: أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، ومروءته خُلُقه [5] .
فلابد من إدراك أهمية ملء الذهن بما ينفع، فإذا عاش الإنسان في فراغ عقلي
فإنما كتب على حياته الدمار، وأما من ملأ عقله بما ينفعه في دنياه وأخرته فالفوز
حليفه في الدنيا والآخرة، وذلك لأنه كان يغذي عقله لما خلق له في تدبر أمر الله
جل علاه والحقوق اللازمة له والتفكر في مخلوقات الله كما أمر تبارك وتعالى بذلك
حين قال: [وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ والشَّمْسَ والْقَمَرَ والنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] [النحل: 12] .
وأما الفراغ القلبي.. فأوضح الله تبارك وتعالى أن ملء الفراغ القلبي يكون
بالإيمان، وهذا ما أكده ابن مسعود رحمه الله حين طلب منا أن نتفقد قلوبنا في
المواطن الإيمانية بقول: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القران، وفى
مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن
عليك بقلب فإنه لا قلب لك) [6] .
وما عليك في هذه المرحلة إلا أن تقض على هذا الفراغ بتقوية صلتك بالله،
حتى تضع في قلبك إيماناً قوياً، بدل فراغ قاتل يسمم حياتك.
والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وذلك هو الفراغ النفسي.. فمن
أطلق لنفسه العنان تهوي به ذات اليمين وذات الشمال، فإن هذه صورة تمثل
النفوس الفارغة التي صورها لنا سيد قطب بقوله: (إنها صورة (النفوس الفارغة)
التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف وتهزل في مواطن الجد، وتستهتر
في مواطن القداسة..
والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة
والجدب والانحلال، فلا تصلح للنهوض بعبء ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام
بتكليف وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة [7] .
فهذه هي حالة النفوس الفارغة. فلا قول ولا عمل ولا إيمان ولا دين همها
اللعب واللهو في الدنيا ويتبعه حسرة وندامة يوم القيامة.
إن إدراك الإنسان قيمة الزمن، وإيجاد الحل للفراغ ليس إلا إدراكاً لوجوده
وإنسانيته ووظيفته في ركام هذه الحياة.
فأين الذين قاموا بما تقتضيه هذه الخصال فإن الحساب عسير. يقول الحسن
البصري رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على
دراهمكم ودنانيركم! .
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم
غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وإذا كان هذا هو حرص سلفنا على الوقت وتقدير قيمته وخطره، فإن مما
يدمى القلب، ويمزق الكبد أسى وأسفاً: ما نراه -البوم - عند المسلمين من إضاعة
للأوقات فاقت حد التبذير إلى التبديد. حتى يجلسون الساعات الطوال من ليل أو
نهار حول مائدة النرد أو رقعة الشطرنج، أو لعب الورق. أو غير ذلك -مما يحل
أو يحرم - لا يبالون لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة، فإذا سألتهم عن عملهم هذا
قالوا بعبارة تفقدك الأمل فيهم (نقتل الوقت) ، وما يدرون أنهم يقتلون أنفسهم في
الحقيقة، وسوف يندمون حين يقال لهم: [أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ
وجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ] [فاطر: 37] .
إذاً فالفراغ داء قتال إذا لم يمضه صاحبه بما ينفع وإذا أراد الله سبحانه بالعبد
خيراً أعانه بالوقت وجعل وقته مساعداً له، وإذا أراد شراً جعل وقته عليه، وناكده
وقته حتى يفقد وظيفته في هذه الحياة.
وأفضل ما تصان به حياة إنسان أن يرسم لها منهاجاً يستغرق أوقاتها، ولا
تترك فرصة للشيطان أن يتطرق إليها بوسوسة، أو إضلال، فإن ذلك هو بداية
حمل النفس على المتاعب العقلية والبدنية من غير عمل ناجح.
إن المسلم يغالي بالوقت مغالاة شديدة لأن الوقت عمره، فإذا سمح بضياعه،
وترك العوادي تنهبه فهو ينتحر بهذا المسلك الطائش، والإسلام دين يعرف قيمة
الوقت وخطر الفراغ، ويقدر خطورة الزمن يؤكد الحكمة الغالية (الوقت كالسيف
إن لم تقطعه قطعك) ، وما فشت المنكرات وازدادت حدة العصيان وانتشار الجرائم
إلا بازدياد نسبة الفراغ، ذلك لأنه يفتح على هؤلاء المجانين أبواباً عديدة.. على
رأس كل باب شيطان يدعو إلى الرذيلة، فعند ذلك هل يتحكم الشخص بعقله أمام
هذه الأبواب فيربي فراغه على التحصيل والاستفادة أم ينفذ من أحد هذه الأبواب؟ ! فالزمن نعمة جلى، ومنة كبرى لا يدريها ويستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون
الأفذاذ، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الليل والنهار يعملان فيك
فاعمل فيهما) نعم أنت خلقت للعبادة والعبادة عمل تستلزم منك عدم إهدار أوقاتها بين الغفلة والكسل.. ويقول الحسن البصري: يا ابن آدم. إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك (، فالإنسان مأمور باغتنام أوقات فراغه. حتى ولو لم تكن مناسبة للاغتنام، لأن الأماني والأحلام لا تصنع حاضراً ولا تبنى مستقبلاً، وهذا ما عناه أحمد بن فارس الرازي بقوله:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا
ويُلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي: متى؟
والأيام تنطوي على ما عمل فيها بلا استرجاع إلى يوم القيامة فأهل الفراغ
تطوى صحائفهم اليومية معظمها على عتبة الفراغ والبطالة. إن هؤلاء هم أولى
بالحجر عليهم من الحجر على أهل إضاعة المال، فهذا يمكن استرجاعه والتصرف
فيه والاستفادة منه أما الوقت فلا!
يقول الإمام الحسن البصري: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن
آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود
إلى يوم القيامة) ولو قلبنا صفحات تاريخنا الإسلامي لوجدناه مليئاً برجال سابقوا الزمان، وملؤوه بالعلم والمعرفة، فتخلد ذكرهم وهم بين طبقات الثرى، كانوا دائماً بين أروقة العلم والعبادة لأن قيمة الزمن عندهم ترتبط بالغاية من الخلق وهي العبادة.
ومع ذلك فإننا نحن الآن لا نبني بفراغنا شيئاً ثمرته خير للأمة والفرد، لأننا
لا نبالي بمرور الوقت الذي استغله وتحكم فيه أعداؤنا، فمثلاً لقد أهدرنا وقت قراءة
القرآن الذي هو الروح لتحريك الأمة وهو مصنع الرجال الأفذاذ.
ولي دعوة في آخر هذا المطاف للشباب لأنهم هم عماد المستقبل، وهم القوة
الدافعة لحضارات الأمم وتقدمها، وهم أصحاب طاقات جبارة تتفجر في وسط العالم
لأنها هي مرحلة الإنتاج، أدعوهم إلى استغلال هذا الوقت العنفواني المزهر في
تربية النفس وصقلها بين أجنحة المواهب، وصرف الهمم إلى الإنتاج البشري
المثمر، ذلك لأني أرى الكثيرين من شباب اليوم فارغي النفوس والقلوب والرؤوس.. فلا علم ولا عمل، ولا دين ولا إيمان ... ولا نرى لهم أثراً على الساحة العالمية
سوى الانتصارات الرياضية، والانخراط في سلك التائهين.. والناظر إلى الغرب
وواقع الشباب فيه يدرك مدى الانحطاط الخلقي الذي يغوص في وحله الألوف من
أصحاب الصرعات الانحرافية التي بدأ. فيروسها ينتقل إلى طاقات الشباب
الإسلامي حتى يعيشوا في خواء روحي وفراغ عقلي. نسأل الله لنا ولهم الهداية
والتوفيق.
__________
(1) من مشكلات الشباب: الشيخ محمد بن عثيمين.
(2) رواه البخاري , رقم 6412.
(3) رواه الحاكم في المستدرك 4/306.
(4) أي القدرة المالية.
(5) أدب الدنيا والدين للماوردي /19.
(6) الفوائد لابن القيم /148.
(7) الظلال 4/2367.(22/67)
أدب وتاريخ
قصة قصيرة
اليقين
وائل صبري
الحمد لله المعطي والمانع..
قال الزوج هذه الكلمات من أعماق قلبه وهو يرفع بصره إلى السماء، متأملاً
في نجومها المتلألئة وهي تسبح في بحر كثيف من السواد الداكن..
كان الفرح ينمو ويكبر في ذلك القلب المرهف كزهرة تفتحت أكمامها مع
بداية الربيع.. وكان الكون كله من حوله يبدو - في عينيه - باسماً أنيساً ملؤه
المحبة والفرح والأمل.. وكان يشعر وكأن الدنيا بأسرها تزف إليه التهاني مع كل
نسمة للأثير في تلك الليلة الجميلة..
كيف لا؟ وقد سمع ذلك الخبر الذي كان ينتظره منذ سنين.. ينتظره وقلبه
مفعم بالأمل والرجاء واليقين. مبارك إن شاء الله.. زوجتك حامل..
كان هذا هو الخبر.. وكانت تلك هي الكلمات. أما المشاعر فكان لا يعلم
وصفاً لحالها إلا الله.
وعاد الزوج إلى البيت.. وفتح كتاب الله الكريم على الآيات التي كان كثيراً
ما يقرؤها ودمعة وحيدة حرى تترقرق في عينيه.. وبدأ يقرأ.؛ [كّهيعص * ذِكْرُ
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً * قَالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي
واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ولَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً * وإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن ورَائِي
وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ولِياً * يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ
رَبِّ رَضِياً] ولكن الدموع كانت في هذه المرة تنهمر من عينيه سيلاً مدراراً يغسل
وجنتيه الوضيئتين ويخضب لحيته الكثيفة.. وفى يوم الجمعة.. عندما ذهب إلى
المسجد.. أشرق وجهه بالبشر والحبور.. وامتلأ صدره بالثقة والأمل.. وهو
يسمع الخطيب يتحدث عن الأولاد والبنين، ويهدر بصوته قائلاً: وكيف لا تفرح
أيها الأب بفلذة كبدك وتعتني به. وهو امتداد لسجودك وركوعك وتسبيحك وتهليلك.. وهو قطعة من جسدك تمشى أمامك على الأرض..
وخرج من المسجد ولسان حاله يقول: سأعتني به إن شاء الله. وسأعمل على
أن يكون امتداداً حقيقياً مباركاً لركوعي وسجودي وتسبيحي وتهليلي بإذن الله رب
العالمين.
ومرت الأيام. وكان يتردد - أثناءها - بشكل دوري على المستشفى مع
زوجه لإجراء الفحوص الطبية المعتادة.. إلى أن جاء يوم..
- هذا هراء.. غير معقول! !
كان الزوج يقول هذه الكلمات للطبيب - في ذلك اليوم - والنيران تتأجج في
قلبه.. ويزيد أوارها أنين زوجه المسكينة التي أذهلها هول الموقف فلم تجد تعبيراً
عما في فؤادها المشتعل أصدق من الدموع..
- هذا ليس هراء يا سيدي وهذه هي الصورة أمامك. إن هذا الشيء الذي
يسكن رحم زوجك الفاضلة ليس جنيناً.. أنا لم أر في حياتي مثل هذا.. إنه.. إنه
يا سيدي شيء أو مخلوق لا يعلم طبيعته إلا الله! ! إ. ونظر الزوج إلى الصورة
مرة أخرى.. ثم أشاح بوجهه.. فقد كانت الصورة التي أجريت لرحم زوجته
غريبة حقاً ففي وسط الصورة.. وحيث كان يفترض أن تظهر ملامح الجنين
المعروفة.. لم يكن يبدو سوى كتلة ملتفة من اللحم دون أية أطراف أو معالم..
كانت الصورة - كما قدر الجميع- لمخلوق لم ير إنسان له مثيلاً على الإطلاق..
غير أن أحداً لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة في ذلك الموقف الرهيب..
وانقضت دقائق ثقيلة من الصمت كأنها دهر.. تماسك بعدها الزوج المجروح
وقال موجها حديثه للطبيب:
- والعمل؟ . أقصد.. ماذا تقترح أن نفعل الآن أيها الطبيب؟ .
- في الحقيقة.. أعتقد أن الأمر الوحيد الذي يمكن عمله الآن هو.. هو
الإجهاض.
- ماذا؟ .. الإجهاض..
- أعتقد أنه لا مفر من ذلك يا سيدي على الإطلاق.. ربما يكون ذلك مؤلماً
بعض الشيء.. إلا أنني أظن أن الألم سيكون مضاعفا.. وطويلاً.. بعد ذلك إذا لم
نتدارك الأمر الآن.. وأعتقد أنكم تفهمون تماماً ما أعنيه..
قالها الطبيب وهو ينظر إلى نظرات الزوجين التي تلاقت في حوار صامت
قصير ولسان حالهما يقول: إننا نفهم تماماً ما تعنيه.. يا سيدي الطبيب..
ومرة أخرى.. ساد الصمت الثقيل أرجاء الغرفة.. لكنه كان في هذه المرة
صمتاً له دوي هائل.. لم يقطعه غير كلمات الزوج الهادئة الرتيبة:
- حسناً.. حسناً.. سنفكر ملياً في هذا الأمر.. وأعتقد أن لدينا متسعاً من
الوقت على كل حال.. شكراً.. السلام عليكم.
وخرج الزوج.. وزوجه التي لم تنطق بحرف واحد طوال الوقت تتكئ على
ذراعه.. ونظر الطبيب قليلاً إلى الممرضتين اللتين شهدتا المشهد كله.. ثم أطرق
برأسه.. وألقى بيديه في جيوب معطفه وغادر الغرفة هو الأخر.. فقد كان الموقف
لا يحتمل أي كلام..
لم يصل الزوجان إلى البيت إلا وكان الزوج قد فكر ملياً وحسم الأمر.. وكان
هذا علامة على عودة مؤشر قلب هذا الرجل الكبير للاستقرار على موجة الإيمان
واليقين التي عهدها في نفسه.. وعهدها الناس فيه.. بعد تلك الهزة العنيفة..
ومع أول خطوة داخل المنزل قال:
-لقد انتهى الأمر.. والأمر لله من قبل ومن بعد على كل حال.. ثم أردف
موضحاً حين رأى عيون زوجه الدامعة مليئة بالتساؤل والاستفهام:
- لقد نفخت الروح - والله أعلم - في هذا الجنين.. فأنت الآن في شهرك
السادس.. والإجهاض معناه الآن قتل هذا المخلوق المسكين.. وهذا مالا نفعله على
الإطلاق.. إن شاء الله..
كانت الكلمات تنساب من فمه بهدوء وطمأنينة غريبة.. ورغم أن تباشير
دمعة حارة كانت تترقرق في عينيه إلا أنه مضى يقول:
- إن الله هو الذي ينفخ من روحه في هذا المخلوق.. وهو.. هو وحده الذي
يحق له أن يأخذ ما أعطاه.. أما نحن.. فليس لنا من الأمر شىء.. غير الدعاء
والرجاء.
واستسلمت الزوجة الحزينة أول الأمر.. ودونما إدراك منها لطبيعة ذلك
الاستسلام.. هل كان قناعة منها بكلمات زوجها؟ أم كان رضى بالأمر الواقع؟ ..
أم أن الذهول الذي أصابها منذ اللحظة الأولى كان يلفها فى حناياها فلا تجد في
نفسها قدرة على التفكير واتخاذ القرار؟ ..
والحقيقة أن هذا كان التفسير الحقيقي لموقفها بادىء الأمر.. إلا أن مشاعر
اليقين والصبر والرجاء والتي كان زوجها يبثها - دائما - في كل مناسبة.. سرعان
ما بدأت تتغلغل في أعماق فؤادها الكليم لتملأه شيئاً فشيئاً أمناً وطمأنينة وسكينة..
لم تستطع أن تفسره إلا أنه كان رحمة وعوناً من الله.
وبهذه المشاعر المفعمة بالتعلق بالله الواحد الأحد.. واجهت - أكثر من مرة
- موقف بعض الممرضات اللواتي عرضن عليها - خفية ودون علم زوجها - ومن
منطلق الإشفاق والرثاء! مساعدتها في التخلص من حملها العجيب. مرة بالأدوية
والعقاقير.. وأخرى بالتعب والإرهاق.. وثالثة بطرق أخرى.. غير أنها كانت
تتذكر في كل مرة كلمات زوجها عن الواهب.. الواهب الذي له وحده الحق في أخذ
ما وهب.. فتقف.. بكل إصرار في وجه تلك المحاولات التي ظلت تتكرر حتى
الأيام الأخيرة التي سبقت موعد ولادتها.. هذه الولادة التي كانت تترقبها جموع
العاملين في المستشفى.. بعد أن طارت بقصتها الركبان.. داخل المستشفى
وخارجه.. إلى أن جاء ذلك اليوم المشهود..
- أنا لا أصدق ما أرى! ! .. الله أكبر.. الله أكبر.. ما أجمل هذه المولودة..
بهذه الكلمات الممزوجة بدموع الفرح.. كانت تصيح الطبيبة التي أشرفت
على ولادة الأم المؤمنة الصبور.. وسرى الخبر سريان الكهرباء في أسلاكه بين
جموع المرتقبين.. وكأن مساً أو عدوى أصابت الجميع، فإذا دموع الفرح تنهمر
من عيون خليط غريب غير متجانس من البشر.. ليغرق الجميع في موجة صاخبة
من التهاني والفرح وهم يروون ما حدث:
- لقد كانت مولودة جميلة.. فيها شيء واحد غريب.. فقد كان شعرها طويلا
مسدلاً.. ولما كانت متكورة على نفسها في رحم أمها.. فقد كان الشعر يغطي
جسمها الصغير.. الأمر الذي أظهرها في الصورة على ذلك الشكل الغريب..
- وفى تلك الأثناء كان الزوج ساجداً في غرفة الانتظار.. كان قد سمع
بالخبر وعلم بتفاصيله.. بل كان قد رأى الطفلة وانطلق بالآذان في أذنها الصغيرة.. وحنكها بشيء من التمر اتباعاً لسنة نبيه العظيم.. لكنه كان في تلك اللحظات
يهيم بقلبه وروحه بعيداً.. بعيداً عن كل هؤلاء الناس.. حتى أنه ما عاد يسمع شيئاً
من كل ذلك الضجيج..
كان إحساسه كله يتركز في أن الأمر كله كان امتحاناً لصبره وإيمانه..
امتحاناً ليقينه.. وكان - وهو ساجد سجدة الشكر - يحس أنه بعون الله نجح في
ذلك الامتحان.. وبدرجة الامتياز..(22/74)
أدب وتاريخ
أثر الإسلام في حركة الإصلاح البروتستانتية
د. السيد محمد الشاهد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
تتفق المصادر العربية والغربية على أن العصور الوسطى المسيحية كانت
امتداداً للعصور التي سبقتها من حيث احتكار الكنيسة لحق تسيير جميع شئون الحياة
العامة والخاصة في الغرب، كما تتفق على أن ذلك الوضع كان سبباً في ركود
الحضارة الغربية التي بدأت عند اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ثم توارت
آثارها بعد سيطرة الكنيسة في الدولة الرومانية ابتداء من القرن الرابع الميلادي.
ويطلق المؤرخون على الفترة الواقعة بين القرن الرابع وحتى العاشر
الميلاديين (عصر الظلام) كما يطلق بعض المؤرخين المحدثين على الفترة التي
تلتها أي العصور الوسطى (عصر الجهالة) كما يقول (ساذرن) في كتابه (نظرة
الغرب إلى الإسلام في العصور الوسطى) ولديورانت في كتابه (قصة الحضارة)
انظر [ج 27، صفحة 114] .
وقد عم ظلم رجال الكنيسة البسطاء الذين كانت تفرض عليهم الضرائب
الباهظة والتي كانت كثيراً ما تؤدي بهم إلى الاسترقاق لخدمة رجال الكنيسة سداداً
لديونهم إلى جانب اعتمادهم المطلق على رجال الكنيسة فيما يتعلق بأمور دينهم
لجهلهم بالكتاب المقدس الذي كان مكتوباً باللغة اللاتينية التي لا يعرفها سوى قلة
نادرة.
أما الساسة فكانوا يعينون ويعزلون حسب رغبة رجال الكنيسة بسبب تعاطفهم
مع أفراد الشعب البسطاء أو إهمال إرسال نصيب الكنيسة من الضرائب أو ما إلى
ذلك.
أما العلماء فكانوا يتهمون بالسحر والزندقة إذا قالوا بآراء علمية تخالف آراء
رجال الكنيسة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك إعدام جيرارد وبرونو (1600م) ،
ومحاكمة جاليلو (1642م) حيث اضطر إلى الرجوع عن قوله بدوران الأرض إنقاذاً
لحياته.
بذلك اتسعت الجبهة المناوئة للكنيسة فضمت كثيراً من أفراد الشعب البسطاء
وبعض الساسة، وكثيراً من العلماء بالإضافة إلى بعض رجال الكنيسة الذين كانوا
غير راضين عن هذا الظلم.
وفي تلك الفترة كان الإسلام قد عرف في الغرب، خاصة بعد أن انتشرت
أقسام تعليم اللغة العربية في معظم جامعات أوربا بعد موافقة الكنيسة على ذلك في
عام1315م بغرض محاربة الإسلام ونشر النصرانية (التنصير) ، وقد كانت توجد
ترجمة لمعاني القرآن الكريم منذ عام 1143 أنجزها أحد رجال الكنيسة يدعى
روبرت الكينوتى، وقد ظهر بعد ذلك بفترة وجيزة أول معجم عربي لاتيني. (انظر: تراث الإسلام شاخت وبوزوورث (1/ 9 3) .
وبذلك تيسر للغربيين الاطلاع على إنتاج المسلمين الفكري بالإضافة إلى
التعرف على الإسلام من مصادره، ففي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي كان
هناك عالم نصراني يجيد العربية، ويحفظ القرآن الكريم، وصحيحي البخاري
ومسلم، وكان يدعى (ريموند مارتيني) ، وقد حاول هذا الرجل معارضة القرآن
بسورة ركيكة نسجها باللغة العربية على منوال بعض آيات القرآن، ونص هذه
السورة التي اخترعها لا يزال محفوظاً في بعض المصادر العلمية (انظر.
الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، قاسم السامرائي، ص90) .
مما سبق يتأكد لنا أن الإسلام كان معروفاً بشكل جيد في الغرب خاصة عند
رجال الكنيسة المهتمين بالتنصير وكذلك بين معظم العلماء من غير رجال الكنيسة،
ولم تقتصر معرفة هؤلاء على كتب الفلسفة الإسلامية أو العلوم الطبيعية كما هو
شائع في مصادر تاريخ الفلسفة ولكن كانت كتب العقيدة الإسلامية وأولها القرآن
الكريم، وكتب السنة النبوية من أوائل ما اهتموا به وترجموه إلى لغتهم اللاتينية
حيث سبقت ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية كتب فلسفة ابن رشد التي
يعزو إليها كثير من المؤرخين التأثير القوي للإسلام على الفكر الغربي، وهذا
الواقع يثبت خطأ ادعاء مفكري الغرب بأن أسلافهم في العصور الوسطى كانوا
يهتمون فقط بترجمة كتب الفلسفة اليونانية التي كان العرب قد نقلوها إلى العربية،
وقد فقدت أصولها اليونانية بعد ذلك..
ويمكننا أيضاً أن نقول بأن الفلسفة والعلوم العربية الإسلامية قد أيقظت وأثرت
الفكر والعلوم الغربية بينما كان أثر العقيدة الإسلامية أبعد في إيقاظ الفكر الغربي
بشكل عام، والفكر الديني بشكل خاص.
وقد كان لانتشار المعرفة بالإسلام عقيدة وفكراً ولغة بين العلماء والمهتمين
بأمور الدين أن وجدت الكنيسة نفسها في مواجهة جبهتين: جبهة داخلية يمثلها
بعض العلماء والحكام وكثير من أفراد الشعب البسطاء. وجبهة خارجية يمثلها
الإسلام والفكر الإسلامي عن طريق من تأثروا به وأعجبوا بمبادئه وقوة حجته.
ولم ينج بعض رجال الكنيسة من هذا التأثر والإعجاب، فكانوا بذلك سنداً
لمعارضي الكنيسة دون قصد في غالب الأحيان، وكانت النتيجة الحتمية لازدياد
طغيان الكنيسة وتشددها في محاربة كل ما من شأنه دفع عجلة التقدم والتحضر
ومحاولة اللحاق بالحضارة الإسلامية أن انفجر صراع مرير بين الكنيسة
ومعارضيها الذين حاولوا إصلاحها من الداخل دون جدوى فنشبت الحرب الشهيرة
التي قادها (مارتن لوثر) عام 1521 م تقريباً واستمرت حوالي ثلاثين عاماً راح
ضحيتها ملايين من البشر من النصارى أنصار الكنيسة والمعارضة وتعرف هذه
الحرب بحرب الثلاثين عاماً أو حرب الفلاحين، والتي أدت إلى انشطار الكنيسة
الكاثولوكية إلى كنيستين: كاثولوكية وبروتستنتية (أي المعارضين) وتسمى أيضاً
الكنيسة الانجيلية لأن مؤسسها (مارتن لوثر [ت 1546 م) كان أول من أمر
بترجمة الكتاب المقدس (التوراة والانجيل: العهد القديم والعهد الجديد) إلى اللغات
المحلية، آنذاك، وأولها اللغة الألمانية.
ولم تكن ثورة لوثر ولا معارضات سابقيه من رجال الكنيسة والعلماء خلال
العصور الوسطى وعصر النهضة (أي من القرن الحادي عشر إلى السادس عشر
الميلادي) نتيجة سوء الأوضاع الداخلية وفساد الكنيسة الاجتماعي والخلقي فحسب
بل لابد من اعتبار سبب آخر يضاف إلى ذلك جعل توقيت هذا الانفجار يتأخر إلى
القرن السادس عشر ولا يحدث مثلاً في عصور الآباء (عصر الظلام) حيث كان
طغيان الكنيسة ومساؤها أكثر منه فيما تلا ذلك من قرون.
هذا السبب الآخر والأقوى في نظري، هو انتشار المعرفة بالإسلام، عقيدة
وفكراً في الغرب، فقد كان الإسلام هو المحرك للعقل الأوربي بعد أن أيقظه من
سبات دام طوال عصور الظلام والعصور الوسطى، كما يقول (غوستاف لوبون)
في كتابه (حضارة العرب) ] ص 527 [، أما مارتن لوثر فإنه من المأثور عنه أنه
كان يعرف القرآن معرفة جيدة، وله كتابات تهجم فيها عليه تدل على مدى اهتمامه
بالقرآن وتأثره به (انظر مجلة عالم الكتب، مجلد 6، العدد 4 /1406هـ، ص
555) ، وقد كان رجال الكنيسة المحافظون يتهمونه بأنه يريد أن يقيم مملكة -صلى
الله عليه وسلم- بدلاً من مملكة عيسى عليه السلام، ويستشهدون على ذلك بدخول
بعض أنصاره في الدين الإسلامي. (انظر. الاستشراق: قاسم. السامرائي، ص
25) .
ويعتبر هذا دليلاً قوياً على انتشار الإسلام بين بعض معارضي الكنيسة وتأثر
الكثير منهم به، لأن مثل هذا الاتهام لا يمكن أن يأتي من فراغ.
أما الدليل الواضح على صحة ادعائي بتأثر مارتن لوثر وحركته الاصلاحية
بالإسلام تأثراً قوياً فهو ما يجده القارئ واضحاً في مبادئ عقيدته الجديدة، والتي
يعتقدها نصف المسيحيين تقريباً، أي عقيدة (البروتستنت) وأهم هذه المبادئ التي
تعكس بوضوح أثر الإسلام فيها هي:
ا - منع اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها.
2 - رفضه لوساطة رجل الكنيسة بين العبد وربه عند طلب المغفرة،
والصلاة على القديسين، وعصمة الباباوات.
3-إيمانه بالقضاء والقدر مع مسؤولية الإنسان عن أفعاله.
4 -رفضه لعقيدة الذنب الموروث، وإيمانه بأن رحمة الله تسع كل شيء.
5-اعتماده على العقل في فهم النصوص الدينية مع تفضيله الإيمان بالنص إذا
تعارض مع العقل.
6 -اعتماده الكتاب المقدس الذي جاء به عيسى عليه السلام المصدر الوحيد
للإيمان، وليس ما صدر عن الباباوات.
7 - أمره بترجمة الكتاب المقدس إلى لغات أخرى متداولة (محلية) ، بعد أن
كانت الكنيسة تحرم ذلك وتمنع الصلاة بلغة أخرى غير اللاتينية التي لم يكن يفهمها
من يردد كلماتها من غير المتعلمين.
أضف إلى ذلك ما كان يقوله عن بابا الكنيسة: (إن المسيح الدجال الحقيقي في
الواقع ليس محمداً بل البابا في روما.. وأن كنيسة روما هي كنيسة الشيطان، وقد
ألف في ذلك كتاباً أسماه (ضد الباباوية التي أسسها الشيطان) .
لقد ساعد لوثر مناوئي الكنيسة من العلماء، بطريق غير مباشر ودون أن
يقصد إلى حرمان الكنيسة من الإشراف على شؤون الحياة العامة، إذ انفصلت
السلطة السياسية والفكرية عن السلطة الدينية وظهر ما نسميه في اللغة العربية خطأ
(بالعلمانية) ، وحقيقة المصطلح في أصله اللاتيني لابد أن يترجم إلى (العصرانية) .
وقد كان لهجوم لوثر الكاسح على الكنيسة، والذي أسفر عن شطرها إلى
كنيستين ناصبت كل منهما الأخرى العداء، كان ذلك بتأييد غير مباشر لما نادى به
العلماء والسياسيون من فصل شؤونهم عن الكنيسة أي (عصرنة) الحياة العلمية
والسياسية.
ولا يمكن في هذا المجال إهمال أثر الإسلام المباشر في نشأة الاتجاه
العصراني في الغرب الذي بدأ في الظهور بعد الاحتكاك المباشر بالمسلمين
وبالإسلام، بدءاً من القرن التاسع الميلادي، حيث ظهر هذا الأثر واضحاً في
بعض الشخصيات العلمية المعروفة في الغرب آنذاك وبعده، حيث يمكننا أن نفرق
بين ثلاث مراحل للعصرانية.
1 - عصرانية علمية.
2 - عصرانية سياسية.
3 - عصرانية قانونية.
بدأت في القرن الحادي عشر واكتملت في القرن التاسع عشر بتأميم أملاك
الكنيسة.
ويعتبر بطرس أبيلارد (1079-1142) من أوائل من نادوا باستقلال العلم
عن الدين الكنسي، الذي لم يجد فيه أي مساعدة أو تشجيع على تحصيل العلم، بل
وجد محاربة العلماء بشتى الطرق، وكان أبيلارد ممن تأثروا بالفكر الإسلامي
والعقيدة الإسلامية التي كانت قد انتشرت في أوربا عن طريق الترجمة خاصة في
الأندلس، وكانت معرفته بالإسلام سبباً مباشراً لوقوفه ضد رجال الكنيسة واتهامهم
بالجهل حتى بالكتاب المقدس الذي تناوله هو بالنقد، وألف كتاباً أسماه (نعم ولا)
ناقش فيه كل ما جاء في الكتاب المقدس، وأشار إلى التحريفات التي دخلت إليه
ورفضها وأثبت خطأها، حتى قيل: إنه كان يستغني بكتاب أبيلارد الموسوم ب
(نعم ولا) عن الكتاب المقدس أو أنه قد أصبح (بالفعل) يغني عن دراسة الكتاب
المقدس كما يقول (كولتون) (انظر: نشأة الجامعات في العصور الوسطى: جوزيف
نسيم، الاسكندرية , 1971م، ص 99-103) .
ولقد ظل هذا الاتجاه ينمو في أوربا طوال القرون التالية حتى ظهر روجر
بيكون (ت1294م) وتلاه مارسيليو البادوفاني (ت1343م) ووليام الأوكامي (ت
1350 م) ونادوا جميعاً باستقلال العلم عن الكنيسة. (انظر: الاستشراق، قاسم
السامرائي، ص 75 - 76، فلسفة العصور الوسطى، عبد الرحمن بدوي، ص
79-84 , 166، 182، وما بعدها) .
وقد زاد هذا الاتجاه وانتشر مع زيادة الإقبال على قراءة الإسلام والفكر
الإسلامي واكتشاف البون الشاسع بين موقف الكنيسة المناوئ للعلم والعلماء،
وموقف الإسلام الذي يجعل تحصيل العلم عبادة وفرض على كل قادر ويرفع شأن
العلماء حتى يجعلهم ورثة الأنبياء. ويبقى لنا سؤال في هذا المجال: لو افترضنا
أن رجال الكنيسة كانوا قد استجابوا إلى ما نادى به العلماء والمفكرون وأصلحوا
مساوئهم، هل كان ذلك سوف يؤدي إلى إنهاء التيار أو الاتجاه العصراني المعادي
لسلطة الكنيسة المطلقة؟ .
الحقيقة أن هذا الاتجاه كان سيستمر رغم ذلك، لأن الكتاب المقدس بغض
النظر عن كونه محرفاً، يخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي أو اجتماعي أو
اقتصادي أو علمي.
هكذا نرى أن العصرانية كانت تطوراً طبيعياً للأوضاع الدينية والفكرية التي
سادت أوربا في تلك الفترة ونتيجة منطقية للنقص الموجود في الكتاب المقدس وعدم
صلاحيته لتسيير أمور الحياة العامة، لخلوه من أي تصور سياسي أو اقتصادي أو
اجتماعي.. الخ، وأهمية هذا الايضاح تكمن في كونها رداً على من ينادي بتبني
العصرانية في مجتمعنا الإسلامي تقليداً للغرب النصراني، فإن كانت العصرانية قد
ظهرت لتعوض نقصاً في الأناجيل من الناحية السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، فالإسلام قد جمع كل ذلك في تصور كامل يعجز العقل البشري عن محاكاته فضلاً
عن أن يأتي بأفضل منه. والله من وراء القصد.(22/80)
قراءات تاريخية
موسى بن نصير
عندما تولى موسى بن نصير أفريقية والمغرب كانت البلاد في قحط شديد،
فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه
سائر الحيوانات وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج وأقام
على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى، وخطب الناس، ولم يذكر الوليد ابن عبد
الملك فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله
عز وجل. فسقوا حتى رووا.
ابن خلكان - وفيات الأعيان 5/319
وذكرهم بأيام الله
كان القاضي منذر البلوطي إماماً عالماً فصيحاً خطيباً شاعراً أديباً، كثير
الفضل، جامعاً لصنوف الخير والتقوى والزهد، له وقع في النفوس وعليه حلاوة
وطلاوة، دخل يوماً على الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي وقد فرغ من بناء
المدينة الزهراء وقصورها، وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف، وقد زخرف
بأنواع الدهانات وكسى الستور، وجلس عنده رؤوس دولته وأمراؤه، فجاءه
القاضي فجلس إلى جانبه، وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه،
والقاضي ساكت لا يتكلم فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم؟ فبكى
القاضي وانحدرت دموعه على لحيته فقال. ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله
يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك
تمكنه من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل
الكافرين والفاسقين. قال الله تعالى: [ولَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ ومَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * ولِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً
وسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وزُخْرُفاً..] [الزخرف: 33] . قال: فوجم الملك عند
ذلك وبكى وقال: جزاك الله خيراً، وأكثر في المسلمين مثلك.
ابن كثير - البداية والنهاية 11/307(22/87)
من فقه الدعوة
قائد.. وأمة
د. محمد محمد بدري
يتطلع كثير من الإسلاميين إلى السماء مبتهلين إلى الله تعالى أن يرزقهم قائداً
كصلاح الدين.. ويرى الكثيرون أنه لا ينقصنا إلا القيادة الحكيمة، وأن هذه
الصحوة الإسلامية التي تملأ الآفاق لا ينقصها إلا القائد المتميز فقط! !
ولا شك أن هذه هي إحدى طرقنا الخاطئة في التفكير والنظر وهي (النظرة
الأحادية) .. فنحن نتعلق دائماً بما يمكن أن نسميه (الرجل الوحيد) .. رجل أسطورة
يغير واقعنا في لحظة ويتحول بنا من مؤخرة القافلة البشرية إلى قيادتها بضربة
واحدة من عصاه السحرية؟ ! ! . ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك
عجز الرجل الوحيد عن حل مشاكلنا وتغيير واقعنا؟ ! .
إن هذا الفهم الخاطئ لدور القائد والأمة في تحمل المسئوليات يضر بالقادة
ويضر بالأفراد، فعلى مستوى القادة ينمي فيهم هذا الفهم الفردي في التخطيط
ويجعلهم يتصارعون مع كل من يحاول المشاركة في الرأي أو العمل، وفي نفس
الوقت فإن هؤلاء القادة لا يستطيعون عمل كل شيء بمفردهم فينتهي الأمر إلى
الفشل والإحباط.، ثم لنفرض أن لديهم إمكانية القيادة بمفردهم إلا أن هذا النوع من
التفكير والعمل يسبب وأد القيادات الوسيطة. وأما على مستوى الأفراد فإن هذا
الفهم يطمس في عقولهم مفهوم المسئولية الجماعية، ويشيع فيهم روح التواكل على
القيادات وحدها.. فإذا دعاها الداعي إلى التضحية أجاب لسان حالها [فاذهب أنت
وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون] ومهما كانت قسوة الهزيمة أمام عيونها فإنها تظل
تنتظر حدوث المعجزة وظهور القائد المخلِّص! ! بل وينفق الأفراد أوقاتهم في
الحديث عن هويته وشخصيته؟ ! .
وغاب عن هؤلاء أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لم يقم بما قام به بمفرده،
ولم ينتصر وحده والناس يتواكلون لا يريدون بذل جهد ولا تقديم تضحية، وإنما
كان مع صلاح الدين رجال يعملون ويضحون..
وإذن، فالاعتقاد بأن حاجتنا هي فقط لقائد مسلم ملهم أمر وفهم خطر وضار
لأسباب كثيرة أولها وأهمها:
أنه يصطدم بالقوانين القرآنية التي تقرر أن التغيير إلى الأفضل أو الأسوأ لا
يحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به (القوم) (الأفراد) لما بالأنفس من مفاهيم
واتجاهات.. قال عز وجل: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] .
فالآية كما نرى تربط التغيير بتغيير ما (بقوم) (جماعة) (أمة) ، وليست فرد
واحد.. (أمة بالمصطلح الإسلامي) لكلمة (أمة) .. وهي الجماعة التي تدين بعقيدة
واحدة، وتتجمع على أصولها وتدين لقيادة قائمة على تلك العقيدة.
وإذن فوجود القائد ليس هو كل القضية وإنما هو شطر القضية، وشطرها
الآخر هو وجود (الأمة) ، ولابد من شروط في القيادة وشروط في الأفراد أو (الأمة)
والتفاعل بين الجانبين والانسجام بينهما.. فأمر القيادة منوط بتلك (الصفوة) المؤمنة
من العلماء المخلصين والقادة القادرين، - وهي العناصر ذات الخبرة والوعي
الشمولي والتي تتوفر فيها ملامح العمل القيادي- والتي تستطيع العمل في مستوى
قيادي أدنى من القيادة الرئيسية حتى لا يكون هناك ثغرات أثناء العمل.. بالإضافة
إلى أن إعدادهم يهيئهم ويؤهلهم لاستلام القيادة مستقبلاً، وهؤلاء هم الذين يشكلون
الحلقات القيادية الوسيطة التي تسد الفجوة بين القاعدة العريضة من الجماهير
المسلمة، وبين القيادة وهى التي عبرها تتم عملية (بعث الأمة) بدعوة التوحيد
بمفهومه السلفي الواضح على ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب الأهواء
واختلاط العقائد.
وكأني برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضى ثلاثة عشر عاماً يربي هذه
الفئة، ويصنع الرجال، ويدرب القادة لتحمل مسئولية نشر دعوة الحق بعده -صلى
الله عليه وسلم-، لقد كان-صلى الله عليه وسلم- يصنع رجالاً يحملون هذه العقيدة
فكراً وشعوراً وممارسة، ويربي (أمة) تتلقى أمر الله فيغدو لديها فعلاً وتطبيقاً
ويتحول إلى وقائع وأحداث، فلابد أن يلتزم الدعاة إلى الله الآن هذه الخطوة ...
ولنذكر دائماً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المؤيد من ربه عز وجل
مكث بمكة - كما يروي ابن كثير- يتبع الناس في منازلهم.. عكاظ والمجنة..
وفى المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله
الجنة» .
ولنذكره -صلى الله عليه وسلم- وهو يهتف بربه عز وجل يوم بدر «اللهم
إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» .. فهذه حقيقة يجب
على الدعاة اليوم أن يقفوا أمامها كثيراً، إن الدعوة لابد لها من (صفوة) تحملها
و (أمة) تحميها..
(أمة) تحمل هذا الدين، وتهدي به وتحاول أن تقول: [ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ] . (أمة) قال الله عنها: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ، (أمة) رعيلها الأول أبو بكر
العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام،
(أمة) تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع.. الجنسية فيها للعقيدة، والوطن فيها
دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن.
وهذه (الأمة) تتواصل حضارياً مع كل جماعة تعمل من أجل الحق: «لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» ووجود هذه الجماعة وتلك (الأمة)
ضرورة كوجود (القائد) ونصر الله الذي تحرزه هذه (الأمة) لا يتم بثبات فرد بل
لابد من ثبات عدد معين، قال تعالى: [إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ] ، بل إن الله عز وجل يخبر أن الفقه بسنن الله في التغيير يؤثر في نتيجة
المعركة مع الكافرين.. قال الله تعالى: [وإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَذِينَ
كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ] .، وهذا يلفت النظر إلى خطورة أن يبقى في الأمة
من لا يتمتعون بالوعي والفقه لسنن الله في التغيير.. تلك السنن التي تربط التغيير
بتغيير (القوم) و (الأمة) وليس فرد واحد، وإدراك ضرر وجود غير الواعين في
الأمة لابد أن يولد لدينا شعوراً بالخطر أن يكون المركب الذي يحمل الحركة
الإسلامية يحتوي نماذج من الأفراد لا يعرفون سنن طفو الأجسام على الماء فيسعون
بحسن نية لخرق السفينة كما ورد في الحديث.
وإذن فلابد من بعث (الأمة) لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة
البشرية مرة أخرى.. وإنه لتفكير سديد ذلك الذي يرى أن عودة (الأمة المسلمة)
إنما يكون في نفس الظروف والشروط التي ولدت فيها أول مرة، فحين ولدت هذه
(الأمة) كان ذلك الميلاد صادراً عن عقيدة واضحة قوية ولسان يستمد من القرآن
وسحره وتأثيره وهذا هو الطريق اليوم.. تصحيح مفهوم العقيدة وتخليصها مما
شابها من علوم الكلام والإرجاء وتجليتها ناصعة واضحة، ودعوة الناس إلى أن
يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام الأولى وهى (تصديق خبر الرسول جملة وعلى
الغيب والتزام شرائعه جملة وعلى الغيب) وبناء عليه وضع قضية الشريعة موضعها
الصحيح في أصول الاعتقاد وتجريد مفاهيم الإسلام من التلبس بغيرها من المفاهيم
الغريبة عليه.
ثم الانطلاق بهذا المفهوم انطلاقاً جاداً يتربى خلاله الأفراد على الأخلاق
الإسلامية ويدرسون الحركة الإسلامية وخط سير الإسلام في التعامل مع كل
المعسكرات والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد
بشدة، وبخاصة من المعسكرات الصهيونية والصليبية.
فإذا وصل الأفراد إلى ذلك المستوى من الخلق والفهم فقد تكون لدينا جيل
(الصفوة) الذين على أكتافهم تقع مسئولية تكوين وتربية الدعاة الصادقين الذين
عبرهم يتم بعث الأمة وإحيائها من جديد ...
وختاماً نؤكد أننا لن نستطيع أن ننقذ ذريتنا من الأجيال القادمة من براثن
الجاهلية إلا بالعمل الشاق وتربية جيل مسلم و (أمة) مسلمة وعندما نحقق ذلك نكون
قد انتصرنا على الجاهلية من حولنا وشرعنا في بناء حياة جديدة إذ بدأنا عملنا
بجهود جماعة و (أمة) وليس جهد فرد واحد (قائد) ..(22/89)
بأقلام القراء
الحرف الرديء. يسقط
من مساهمات القراء ننشر هذه القصيدة للقارئ الكريم الأخ صالح العليان -
كندا:
لتكسر الأقلام..
ثم تمزق الأوراق.
والأيدي التي لم تنصف المظلوم..
بل لحقت سراب الفخر..
تطلبه ولو أدى إلى وأد الحقوق..
لتخسأ الكلمات إن صبغت
بأفكار من يخور كعجل فيه مس من جنون..
أعماه تطبيل ينادي أين أصحاب الفنون؟
ليكون فذاً.. قائداً.. حسن الظنون..
هل يدركون.. أولئك الداعون..
ماذا ينطقون؟
أفكاركم قد انتنت..
والدود أتلف لبها..
لكن تنكره العيون..
ماذا استفاد الشعب من فكر ينادى بالمجون..
قولوا انتصرنا..
والعدو توسعت أملاكه..
وتعددت ثكناته..
قولوا استحال الجوع..
والأحياء ما بقيت لهم غير الضلوع
والعجز والأمراض صارت قاضياً..
كم تكذبون! !
زالت غشاوات.. فأبصرت العيون..
لترى الحروف تمجُّ ناراً..
إنها ما تكتبون..
أثوابكم قد رقعت..
وتعدد الصناع..
أمر يبعث الإضحاك في سن الوليد..
من كان فيه قطرة من عزة..
تأبى عليه بأن يميد..
نهج النبي محمد..
حل لأهوال العبيد..
هذي الشعوب قد اقسمت:
غير الشريعة لا تريد..(22/94)
الصفحة الأخيرة
التقليد من الوجهة النفسية
إن الله تعالى جبل بني آدم، بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين
المتشابهين. وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم.
حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. ولما كان بين
الإنسان مشاركة في الجنس الخاص: كان التفاعل فيه أشد. ثم بينه وبين سائر
الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلابد من نوع تفاعل بقدره. ثم بينه وبين
النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلابد من نوع من المفاعلة.
ولأجل هذا الأصل: وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم
أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الأدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان
اكتسب من بعض أخلاقه، ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل،
وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من
أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق
الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النُّفرة.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة؛ توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور
الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم،
كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من
غيرهم ممن جرّد الإسلام.
والمشاركة في الهدى الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً، وإن بعد المكان
والزمان، فهذا أيضاً أمر محسوس.
فمشابهتم في أعيادهم ولو بالقليل؛ هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي
هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به، ودار التحريم
عليه.
فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق
والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات. وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط.
ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر
زواله بعد حصوله لو تفطن له. وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع
يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة.
اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص 220(22/96)
جمادى الأولى - 1410هـ
ديسمبر - 1989م
(السنة: 4)(23/)
الافتتاحية
مؤتمرات
تكثر في هذه الأيام المؤتمرات التي تبحث في الإسلام وعلاقته بقضايا
اجتماعية وسياسية كثيرة، ويقف الإنسان حائراً أحياناً في تكوين رأي صحيح حول
هذه المؤتمرات: دوافعها وأهدافها. من ينفق عليها، ومن يستفيد منها. ومن
القضايا التي يعاد القول فيها الحديث عن القومية والإسلام، ونسبة كل منهما للآخر.
إن الدخول، في الأهداف والدوافع وتواريخ الشخصيات التي تشارك في هذه
المؤتمرات قد يكون من قبيل التنجيم، والرجم بالغيب، لكن هناك دلائل لا يخطئها
من ينظر الأمور بهدوء وصبر وعمق.
وأولى هذه الظواهر أن الفترة الحالية تشهد ازدياداً في الوعي الإسلامي عند
المسلمين، وإلحاحاً من هذا الوعي على واقعهم الاجتماعي الذي يعيشونه، وعندما
نقول: ازدياداً في الوعي نعني ازدياداً نسبياً بالنسبة إلى فترة قريبة طغى فيها ما
سمي بالمد القومي، ولا نقصد أن المسلمين قد وصلوا إلى الدرجة المطلوبة من
الوعي.
وأثر هذا الوعي يتمثل في مظاهر كثيرة نجد آثارها في كل مكان، ويراقبها
غير المسلمين بمشاعر هي خليط من القلق والخوف والترقب والاشمئزاز وفقدان
الاتزان.
والغريب في الأمر أن أصحاب النظرة التحامية على الإسلام والمسلمين
يدركون عمق المأزق الذي يفصل بينهم وبين قناعة الناس بهم، فخلال فترة ليست
بالقصيرة أمسكوا بزمام الأمور في أغلب البلاد الإسلامية، ووضعت القوى ...
المستفيدة من ضعف المسلمين بين أيديهم إمكانيات هائلة، استخدمت في خطين
متوازين:
الخط الأول: تغييب الإسلام، وتجهيل الناس به عن طريق إضعاف ...
مؤسساته، وإبعاد علمائه عن نقاط التأثير، ومطاردة دعاته المخلصين.
الخط الثاني: إشاعة أفكار بديلة لتحل محل الفكر الإسلامي، وإقامة مؤسسات
بديلة للمؤسسات الإسلامية تملأ الفراغ وتبني أجيالا جديدة بأفكار (جديدة) ولا مانع
أن تكون هذه الأفكار مستوردة من الشرق أو الغرب. نقول: خلال هذه الفترة كان
من المنتظر أن لا تقوم للإسلام قائمة في النفوس بعد أن أهمل هذا الإهمال المقصود، وأُقْصِيَ هذا الإقصاء المملوء بالتشفي.
لكن الأمور لا تسير حسب ما يريد لها أهل الباطل، بل المسلم يعتقد أن وراء
أيدي البشر يد عليا، هي يد الله الذي تكفل بحفظ دينه:
[وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا
لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: 171-173] .
وأمام هذا الواقع يبرز عند القوميين تساؤل: أين ما فعلناه طيلة هذه السنين؟
وكيف لم ترتض هذه الجموع ما قدمناه لها؟ وأين الخطأ؟ هل في الأهداف التي
رفعناها ذاتها؟ أم في الأسلوب؟ أم أن هناك سبباً خارجياً لعله في هذا الإسلام؟ !
فلماذا لا نحاول أن نراجع الخطة، ونقترب قليلاً من أنصاره لنرى: كيف يفكرون؟ وما هي نقاط الضعف ونقاط القوة عندهم؟ إن نظرة هؤلاء عن الإسلام تظل
نظرة خارجية لا يمكن أن تدرك إشكالية القضية من جذورها.
وهي تشبه نظرة الغربيين والمستشرقتين إلى الإسلام، فهؤلاء عندهم علم
واسع يثير الإعجاب، ويفتن الألباب، ولكنهم عاجزون بسبب تكوينهم العقائدي
ونظراتهم المسبقة عن سبر القوة الحقيقية لهذا الدين، وما ذلك إلا لأن فطرهم
مشوهة، ومن كانت فطرته مشوهة يستغرب الأمر البسيط، ويحتقر المهم، وتنقلب
عنده الأمور فيضخم جوانب يحسبها شيئاً وهي لاشيء، ويستهين بجوانب مهمة لا
يدرك ولا يريد أن يدرك أهميتها.
وكذلك هؤلاء المستغربون يجدون صعوبة في تحليل تمسك الناس بأهداب
دينهم، وصدورهم عن منهجه في نظرتهم للماضي والحاضر والمستقبل، مع أن
في هؤلاء المستغربين من يتمتع بعلم غزير وشهادات رفيعة قد حصل عليها من
أشهر الجامعات، ومن له لسان ذَلِق إذا خطب، وقلم غني إذا كتب، ولكن إذا
نظرت إلى تحليلاتهم أصابك العجب العجاب.
[أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً؛ فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ ! أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] [الجاثية:
23] .
وحتى لا نظلم الناس الذين يشاركون في مثل هذه المؤتمرات فلابد أن نشير
إلى اختلاف مشاربهم، ولكن مع هذا فإن اختيارهم لم يأت بشكل اعتباطي، بل
هناك اعتبارات متعددة تدفع إلى انتقائهم، ولكن الملاحظة التي قد تبدو في شكل
مأزق هي أنه يؤتى بشخصيات وتقدم بصورة على أنها تمثل الإسلام، وهذا التمثيل
مشكوك فيه، لأن أكبر قدر من المسلمين غير متاح لهم أن يقوِّموا هذه الشخصيات
ولا أن يفوضوا أحداً ينطق باسمهم.
وكذلك فإن في هذه اللقاءات يحصل خلط وتشويه للحقائق عن علم أو عن
جهل، ويتبنى الكلام باسم الإسلام قوم لو كان هناك نظام (حسبة) لحُجِر عليهم أن
يلوا أمر أنفسهم، فضلاً عن يتقدموا ليتكلموا عن الإسلام.
وقد أصبح من المعيب أن يطلق بعض من يوصفون بالمفكرين ألسنتهم في
الكلام على النظام الإسلامي نقداً وتقويماً وقد يكون بعضهم غير مسلم أصلاً؛
فينبري للرد عليهم - باسم الدفاع عن الإسلام - قوم يكتفون بلغة التبرير أو التشويه
أو الاعتذار.
ومما يلفت النظر أن روح الوصاية ووضع الإسلام في قفص الاتهام تحسها
في أغلب المؤتمرات التي تناقش قضايا للإسلام فيها رأي متميز: كقضية القومية،
وقضية المرأة، وقضية التشريع.
على أن أخطر الآثار المترتبة على هذه اللقاءات هو ما يتوصل إليه
المؤتمرون من مواقف لا تخلو من تسويات وتنازلات تحمل على أنها مواقف
إسلامية يستدل بها من قبل الذين يهاجمون الإسلام.
إن تقويمنا لهذه المؤتمرات هو أنها لا تجدي المسلمين شيئاً - إن لم تضرهم - فمن سلبياتها أن محاضرها وبحوثها ومناقشاتها تتلقفها دوائر المخابرات العالمية
المعنية بتتبع أخبار المسلمين فتبني مواقفها على أساس دراسات مشكوك في صحتها، مما ينتج عنه سوء تقدير وتخبط، وهذا مشاهد في ما تبثه أجهزة الإعلام الغربية
عن الإسلام والمسلمين في العالم، والذي يستند أكثره إلى العداوة المتأصلة،
والآراء المسبقة، ومثل هذه المعلومات المغلوطة.(23/4)
مجددون معاصرون
سيد قطب
نبذة عن حياته:
في قرية صغيرة من قرى الصعيد ولد الأستاذ سيد قطب رحمه الله في عام
1906.
وحدثنا الأستاذ الشهيد عن نشأته في قرية (موشا) في كتابه (طفل من القرية) ، وعن دراسته فيها، وكيف كوّن مكتبة لا مثيل لها في هذه القرية، وهو لا يزال
طالباً في المرحلة الابتدائية.. وحدثنا أيضاً عن العقلية التي يفكر بها أهل هذه
القرية، والخرافات التي تعشش في عقولهم، والبؤس الذي يلف هذه الطبقة من
الناس ... وكان هذا الذي ذكره في كتابه المهم شأن القرى كلها لا نقول في صعيد
مصر وحده، وإنما في العالم الإسلامي كله.
وفي عام 1921 م غادر الأستاذ قريته (موشا) ليكمل دراسته في القاهرة،
وكان من المفترض أن يغادرها قبل هذا الوقت لكن حرب 1919 م كانت سبب ...
تأخره ووقف التدريس وانصراف الناس لما هو أهم من الدراسة.
وفي القاهرة التحق الطالب النجيب بمدرسة عبد العزيز الأولية، وبعد أن أتم
دراسته فيها انتقل إلى دار العلوم وكانت في مستوى المعاهد المتوسطة وأتم دراسته
فيها عام 1933 م.
وبعد تخرجه من دار العلوم جرى تعيينه مدرساً في دمياط ثم في بني سويف،
ثم انتقل إلى حلوان - القاهرة - مدرساً في مدرستها الابتدائية، وانتقل أهله إلى
القاهرة بعد أن اشترى منزلاً في حلوان، وكان ذلك بعد وفاة والده، ثم توفيت
والدته بعد انتقالهم إلى القاهرة بقليل.
وبرز اسم سيد كأديب موهوب في مصر، وأصبح اسمه معروفاً في المجلات
الأدبية المشهورة: كالرسالة، والثقافة، والمقتطف.. وأصدر في الأربعينيات كتباً
مهمة منها:
- التصوير الفني في القران.
- طفل من القرية.
- كتب وشخصيات.
- النقد الأدبي أصوله، مناهجه.
- العدالة الاجتماعية في الإسلام.
وفي مجال التعليم تدرج في وظائف الوزارة.. ففي عام 1944 أصبح مفتشاً
في التعليم الابتدائي.. ثم في الإدارة العامة للثقافة التي كان يرأسها أحمد أمين.
وفي عام 1948 سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية في بعثة تدريبية، تم
اختياره بالذات لها، ولم يكن في رحلته ملتزماً بدراسة معينة أو بزمن معين يقضيه
هناك، وقد أكسبته هذه البعثة خبرة واسعة بطبائع الأميركان وأساليبهم، وله كتابات
مهمة بعنوان (أميركا التي رأيت) نشرت في مجلة الرسالة، و (إسلام أميركاني) في
كتابه (دراسات إسلامية) ، وقد جمعها أحد المهتمين بكتابات سيد في كتاب سماه
(أميركا من الداخل بمنظار سيد قطب) .
وعاد من الولايات المتحدة عام 1950 إلى مصر ليخوض معارك سياسية ضد
طغيان فاروق، وفساد الأحزاب، وهيمنة المستعمر الإنكليزي.. واستقطبت هذه
الكتابات فيمن استقطبت ضباط انقلاب (23 يوليو) ، فأعجبوا بها، وتعرفوا على
كاتبها، وقامت بينهم وبينه علاقات، وتم اختياره بعد نجاح الانقلاب مستشاراً
لمجلس قيادة الثورة، ثم أميناً عاماً مساعداً لهيئة التحرير، وكان مرشحاً ليكون
وزيراً للمعارف أو للإعلام لكنه رفض الوزارة والجاه عندما لمس سوء نوايا قادة
الانقلاب، وأدرك بأنهم ليسوا جادين في تحكيم شرع الله، وارتاب رحمه الله في
اتصالاتهم المشبوهة.
ولم يجلس الأستاذ سيد في منزلة عندما رفض الوزارة والمغريات، وما كان
لداعية مجاهد أن يفعل ذلك، وإنما انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في أحلك
ظروفها وأشدها قساوة ... انضم إليها وهو يعلم بأنهم على أبواب محنه.
واختار الإخوان الأستاذ سيد قطب ليكون رئيس تحرير لصحيفتهم (الإخوان
المسلمون) ، فلم يتردد، ولم يعتذر لاسيما وهو يعرف خبث وغدر قائد الانقلاب ... وخاض أستاذنا معركة ضد الانقلابيين كتلك المعركة التي خاضها ضد فاروق وزبانيته، وكشف صلات هؤلاء الانقلابيين الضباط بالولايات المتحدة الأميركية، وأصبحت صحيفة الإخوان المسلمين من أشد الصحف التي كان يخشاها عبد الناصر وزملاؤه.
ودخل سيد السجن عام 1954 م مع عدد من قادة الإخوان المسلمين، ثم أفرج
عنه وعنهم بعد قليل، ثم عاد إلى السجن في العام نفسه 1954 بعد حادث المنشية
حيث كان نصيبه مما سمي (محكمة الشعب) خمسة عشر عاماً من الأشغال الشاقة،
وأفرج عنه في (مايو) من عام 1964 بعد توسط الرئيس العراقي عبد السلام
عارف، ثم أعيد اعتقاله في (أغسطس) عام 1965، وقدم لما أسموه (محاكمة) ،
وتم إعدامه في 26 (أغسطس) من عام 1966 م رحمه الله وأسكنه الفردوس
الأعلى.
ومن أهم مؤلفاته على الإطلاق تلك المؤلفات التي أصدرها وهو في السجن:
- في ظلال القران.
- هذا الدين.
- المستقبل لهذا الدين.
- خصائص التصور الإسلامي.
-معالم في الطريق.
- الإسلام ومشكلات الحضارة.
- مقومات التصور الإسلامي، وقد صدر هذا الكتاب بعد إعدامه بوقت متأخر.
أهم الجوانب التجديدية في دعوة سيد:
أولاً: كيف نقدم الأسلوب إلى الناس:
يحلو لبعض الناس القول: إن سيداً رحمه الله كان تلميذاً لمن سبقه من الدعاة
في هذا الميدان ... ومن يدقق النظر بمؤلفات أستاذنا وسيرة حياته يتبين له خطأ هذا
القول ومجانبته للصواب.
ومن الأمثلة على ذلك أن معظم كبار الدعاة الكتاب كانوا يدافعون عن الإسلام
بأسلوب فيه كثير من الضعف؛ فإذا راجت بضاعة الديمقراطية بين الناس راحوا
يتحدثون عن ديمقراطية الإسلام ... وإذا فتنت شعوبنا بالاشتراكية، صنعوا للإسلام
اشتراكية، وإذا أطنب المفكرون في الحديث عن الحضارة كتبوا المقالات بل
والمؤلفات في التعريف بحضارة الإسلام ... لقد كان الإسلام عند هؤلاء الكتاب
اشتراكياً.. قومياً ... ديمقراطياً.. تقدمياً.
أما الأستاذ سيد فقد رفض هذه الأساليب، وحذر منها. انظر إلى قوله:
(وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة.. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى!
لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً، ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم
المنحرفة ... سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة.. هذه الجاهلية التي أنتم فيها
نجس والله يريد أن يطهركم ... هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن
يطيّبكم.. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم ... هذا الذي أنتم فيه
شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم.. والإسلام سيغير
تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة
التي تعيشونها ... ) .
وقال أيضاً:
(هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام. لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة. سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم أم في أي مكان خاطب الناس فيه.
نظر إليهم من علٍ، لأن هذه هي الحقيقة، وخاطبهم بلغة الحب والعطف
لأنها حقيقة كذلك في طبيعته. وفاصلهم مفاصلة كاملة في غموض فيها ولا تردد
لأن هذه هي طريقته، ولم يقل لهم أبداً: أنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم
وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو إنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها.. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام.. مرة تحت عنوان:
(ديمقراطية الإسلام) ! ومرة تحت عنوان: (اشتراكية الإسلام) ! ومرة بأن
الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا
لتعديلات طفيفة! ! ! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات) .
وتأثر شباب هذا الجيل بأسلوب سيد فأعرضوا عن الأساليب السابقة الضعيفة، لاسيما وأن سيداً رحمه الله أشبع هذا الموضوع بحثاً في مؤلفاته بتفسيره القيم (في
ظلال القران) ، والذين عاشوا تلك المرحلة يدركون ما هو الجديد الذي جاء به
صاحب الظلال ... وكان الحق مع الدعاة الشباب الذين تأثروا بطريقة سيد في
عرض الإسلام.
ثانياً: شرح معاني لا إله إلا الله وربطها بالحاكمية:
وأهم مسألة استحوذت على الأستاذ سيد رحمه الله في بداية السجن وحتى لقي
وجه ربه تفسير معاني ومدلولات لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
لقد كان يرى أن جهل المسلمين بمعاني الشهادتين هو سبب هذا الضياع
والفساد الذي يلف العالم الإسلامي، كما كان يرى أن مهمة أنبياء الله الذين اختارهم
الله وأرسلهم للعباد شرح معاني لا إله إلا الله، وذكر في الظلال أدلة كثيرة على ذلك
من كتاب الله وسنة رسوله.
وكان يرى أن (المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله..
هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا اله، وأن محمداً رسول الله.
وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي، كما تتمثل في الشعائر التعبدية،
كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء) .
ومن الأدلة على شدة اهتمامه بالركن الأول من أركان الإسلام قوله في
(المعالم) (طبيعة المنهج القرآني) ، وفي مقدمة سورة الأنعام:
(ظل القرآن المكي ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر
عاماً كاملة، يحدثه فيها عن قضية واحدة، قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة
عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى
لكأنما يطرقها للمرة الأولى.
لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا
الدين الجديد ... قضية العقيدة ... ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة) .
وقال بعد استطراد مهم: (ومتى استقرت عقيدة [لا إله إلا الله] في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه [لا إله إلا الله] ) .
كان رحمه الله يعلم أن هذه المسألة سوف تفجر قلوب الانقلابيين غيظاً وحقداً
عليه.. ولكنه مجدد مجاهد يواجه الناس بمشكلاتهم، ويضع الحلول لها، ولا
يخشى إلا الله سبحانه وتعالى. وراجع نهاية كتابه: (معالم في الطريق) ، فصل (هذا هو الطريق) لتراه كأنه يتحدث عن إعدامه على أيدي العسكريين من ... خلال حديثه عن أصحاب الأخدود.
ثالثاً: الوعي السياسي ونضوج الخبرة:
كان للأستاذ سيد اهتمامات سياسية وهو لا يزال طالباً في المرحلة الابتدائية،
وحدثنا في كتابه (طفل من القرية) عن القصائد التي كان ينظمها والخطب التي كان
يكتبها داعياً فيها إلى تأييد ثورة 1919 م، وازدادت اهتماماته السياسية بعد انتقاله
للقاهرة لاسيما عندما كان تلميذاً للعقاد، الذي ارتبط أدبه بالسياسة وخاض معارك
ضارية ضد بعض الأحزاب، وكان سيد ساعده الأيمن في هذه المعارك؛ الأدبية
منها والسياسية.
ومن تجاربه الغنية في هذا الميدان رحلة أميركا وما شاهده فيها من تناقضات
ومن مواقف حاقدة ضد الإسلام والمسلمين ... والمرحلة التي سبقت دخوله السجن
أي من عام 1950 وهو تاريخ عودته من الولايات المتحدة حتى عام 1954، وهذه
الفترة وحدها كافية لتكوين نضوج سياسي عنده، ومن الكتب الإسلامية السياسية
التي أصدرها في هذه المرحلة:
- معركة الإسلام والرأسمالية.
- السلام العالمي والإسلام.
- دراسات إسلامية.
يقول الأستاذ سيد في (معالم في الطريق) فصل (التصور الإسلامي والثقافة) : ...
(إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة. كان عمله ...
الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية.. ما هو من
تخصصه، وما هو من هواياته.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره. فإذا هو
يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم - وما كان يمكن أن
يكون إلا كذلك - وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره. فإنما
عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها..
وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها كذلك! ! وعلم علم اليقين أنه
لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي! !) .
إذن عاش أستاذنا أربعين سنة يقرأ ما هو من تخصصه وما هو من هواياته،
ولم تكن حياته قاصرة على القراءة، بل كانت الخبرة لا تقل أهمية عن القراءة ...
ولهذا فقد كتب لنا رحمه الله كتابات ناضجة عن الموضوعات التالية:
- الصهيونية.
- الصليبية.
- الشيوعية.
- الرأسمالية.
- الاستبداد، والعبودية، والذل.
- الاستعمار وأساليبه.
- فضائح الحضارة الغربية.
وهذه فيما نعلم أمور انفرد فيها أستاذ هذا الجيل عن غيره من المجددين
المعاصرين الذين حُرِموا هذه الخبرة وهذا النضوج السياسي ... وكانت مواقفه
السياسية لا تنفصل عن عقيدته وحسن فهمه للإسلام.
وبعد:
هذه أهم الجوانب التجديدية عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله.. وعندما ابتلاه
الله بالسجن والتعذيب والتهديد بالقتل صبر على ذلك صبراً شديداً رغم ما كان يعانيه
من أمراض وضعف في جسمه، ولم يتراجع عن مواقفه الإسلامية، رغبة أو رهبة، ولهذا فقد تضاعف رواج كتبه بعد تنفيذ حكم الإعدام به، ومما ساعد على
انتشارها: عذوبة الأسلوب، وإشراقة الديباجة، ومتانة العبارة وقوة الحجة،
وحضور البديهة.. وقلَّ أن تجد داعية وليس في مكتبته كتاب من كتب سيد قطب،
وفضلاً عن ذلك فقد ترجمت هذه الكتب إلى معظم لغات العالم.
رحم الله الأستاذ سيد قطب رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل
خير.(23/8)
إنما أعظكم بواحدة
عبد العزيز بن ناصر السعد
[ ... وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا
آتَيْنَاهُم مِن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم
بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ
لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] [سبأ: 43-46]
من هذه الآيات البينات يتضح أن الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت
بسبب اتهامهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالكذب تارة وبالسحر تارة أخرى
دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم وآثار آبائهم
ومتبوعيهم دون دليل.
وقد أقام الله عز وجل هذه الموعظة العظيمة التي من أخذها بجميع مقوماتها
فلا بد أن يصل إلى الحق وهو في الآية كون النبي -صلى الله عليه وسلم- رسولاً
من عند الله عز وجل، ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون
ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون، [مَا بِصَاحِبِكُم مِن
جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظة
العظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة وهي:
- القيام لله تعالى: [أَن تَقُومُوا لله] والتجرد في طلب الحق.
- مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ [مَثْنَى وَفُرَادَى] .
- التفكر والاجتهاد فيما يقوله المخالف [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] .
وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير رحمهم الله تعالى. يقول
الشوكاني في (فتح القدير) حول قوله تعالى [إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ] : أي أحذركم
بواحدة وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي [أَن تَقُومُوا
لله مَثْنَى وَفُرَادَى] . وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي: قيامكم
وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً لأن
الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام لطلب
الحق وإصداق الفكر فيه [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما
جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن [مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ] وذلك لأنهم
كانوا يقولون أن محمداً مجنون، فقال لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا
لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنصدق هل رأينا بهذا
الرجل من جنة أي جنون أو جربنا عليه كذباً ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه وليتفكر
ولينظر. فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- صادق وأنه
رسول من عند الله عز وجل وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون اهـ.
ويقول النسفي في تفسيره [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ] : أي بخصلة واحدة وقد
فسرها بقوله [أَن تَقُومُوا لله] الآية. على أن عطف بيان لها. وقيل في محل
الرفع والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي [أَن
تَقُومُوا لله] أي لوجه الله خالصة لا لحمية ولا لعصبية بل لطلب الحق. [مَثْنَى]
اثنين اثنين، و [فُرَادى] فرداً فرداً [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] في أمر محمد وما جاء به،
أما الاثنان فيتفكران يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران
نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق. وكذلك الفرد يتفكر
مع نفسه بعدل وإنصاف وبعرض فكره على عقله. ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن
الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر ويمنع الروية ويقلل الإنصاف فيه
ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب. اهـ.
ويقول الشيخ السعدي (في تفسير الكريم المنان) في تفسيره لهذه الآية: أي
أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها وهي طريق نصف
لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك وهي [أَن
تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى] أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص
لله عز وجل مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين وفرادى كل واحد يخاطب
نفسه بذلك فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم وأجلتموه وتدبرتم أحوال
رسولكم هل هو مجنون فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته ووصفه، أم هو
نبي صادق منذر لكم؟ فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم
أن رسول الله ليس بمجنون، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجها..
فكل من رأى أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا سواء تفكر وحده أو
مع غيره؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه. اهـ.
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى حول ظلال هذه الآية: وهنا يدعوهم دعوة
خالصة إلى منهج البحث عن الحق [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ] الآية، إنها دعوة إلى
القيام لله عز وجل بعيداً عن الهوى ... بعيداً عن المصلحة، بعيداً عن ملابسات
الأرض.. بعيداً عن التأثر بالتيارات في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة،
بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تستشجر في القلب فتبعد به عن الله تعالى. دعوة
إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ولا مع العبارات
المطاطة التي يبتعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها، دعوة إلى منطق
الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة
والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن
الحقيقة، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات، وعلى مراقبة
الله عز رجل وتقواه وهي [وَاحِدَةٍ] إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق:
القيام لله لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم
التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.. [أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى] مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في
غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في
هدوء، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق. [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا]
فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر. وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده.
إن هو إلا القول المحكم القوي المبين اهـ.
وبعد هذه النقول من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح
مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:
الشرط الأول: [أَن تَقُومُوا لله] :
إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل، وبدونه يفسد العمل، ولا يوفق فيه
صاحبه ولا يبارك له فيه، فالقيام لله عز وجل هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن
ذلك مع المتابعة فيه للرسول صلى الله عليه وسلم.
فالإخلاص في البحث عن الحق والصدق في طلبه شرط أساسي للوصول إلى
ذلك الحق، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق حتى ولو كان مثل فلق
الصبح، لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه عز وجل ثقل عليه الانقياد للحق
وقصرت همته عن بلوغه والعمل به.
فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله
عز وجل وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره، ولو على لسان مخالفه، وأن يعلم
أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
ولكن قد يكتنف القائم لله عز وجل بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي
على الحق أو تلبسه بالباطل، فيقبل الباطل ظاناً أنه الحق وذلك بسبب بعض
الظروف المحيطة به لذلك فإنه لامناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله
عز وجل ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود وذلك من.
الشرط الثاني: [مَثْنَى وَفُرَادَى] :
والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أو
تشوه وجهه، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ما
تتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال، مما قد
يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه وظاناً أن
الحق مع الأكثرية، دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق،
وضيعت معالمه، فاشتبه مع غيره، خاصة عند من قلت بصيرته وقل نصيبه من
هدى الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حدث من اتهام
قريش للرسول -صلى الله عليه وسلم- بشكل جماهيري غوغائي، وقولهم ساحر
وكاهن ومجنون.. الخ، فوعظهم الله عز وجل أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له
ويبتعدوا عن هذه الأجواء ويرجعوا إلى أنفسهم، حيث يقف الإنسان مع نفسه أو
معه صاحبه ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول صلى الله عليه
وسلم، فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى وهو ما جاء في ختام الآية [مَا بِصَاحِبِكُم
مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] .
ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب
المناظرة في جو جماعي، لأن المناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق
في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد، بخلاف حال الجماعة فقد يعز عليه
الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله، والله تعالى عليم
بمسارب نفوس خلقه، خبير بطبائعهم فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ويعلم ما
يصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ومنهجه القويم [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] .
الشرط الثالث: [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] :
وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين
السابقين، فالتفكير والعلم وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى
الحق وتبين الهدى من الضلال، وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة ألا وهي قضية
العلم الشرعي، ومعرفة دين الله عز وجل، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد
أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية ووجهت إليهم هذه
الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه فلذلك
كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإقامة الدليل على
ما يتهمونه به، إذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة فإن الأمر بالنسبة
لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية فلا بد أن يكون مؤهلاً من
الناحية العلمية لبحث هذه المسألة، ودراسة أوجه الخلاف حولها، وإلا لم يكن
للتفكير فائدة كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة، وقد كان عند كفار مكة من العلم
بأحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفاته وصدقه وأمانته ما يكفي، ولو أنهم
فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول صلى
الله عليه وسلم. وكذلك الحال لكل مختلفين أو متناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما
يختلفون فيه فإنه لا فائدة من التفكير، لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال
القضية المختلف فيها فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية
والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال
القضية المختلف حولها وملابساتها.. الخ. فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول
إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه، فلذلك نجد مثال هؤلاء يوجههم التقليد
الأعمى دون فكر أو نظر.
وإذا كان الله عز وجل قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق
فيما اختلف فيه، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من
الحوار والمناظرة لابد منها، فالمتتبع لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في
الدعوة إلى الله وحده يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة
والنصح، وتبين الحق من الباطل، والصبر على ذلك، مع شدة رفضهم للحق
وعنادهم وتعنتهم، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله عز وجل تستلزم شيئاً من
ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه. ولكثرة الخلاف الواقع بين
طوائف المسلمين اليوم، وخاصة بين الطوائف إلى أهل السنة؛ فإنا نقدم هذه
الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية
بإذن الله عز وجل إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة، وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه
المناسبة ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف، وقبل ذكر
هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع، وبعض التعريفات والوقفات
السريعة.
أهمية هذا الموضوع:
إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها،
وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على
ما يلي:
1- من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله عز وجل هي بذل الأسباب في هداية
الناس ودلالتهم إلى الخير، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه
في الرأي، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي لكي
يصبر ويستمر في دعوته فقد ينفر الناس منه وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى
الصراط المستقيم.
2- إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف ترجع للظروف الملحة في هذا
العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفرقة الموجودة بينهم، وذلك
لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار مما يكون له الأثر في
تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية، وهذا يؤدي إلى
الوحدة المنشودة.
3- كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي
تكون بين أفراد المجموعة الواحدة، بل أفراد العائلة الواحدة لأن فقد هذه الآداب
يضخم المشاكل ويجعل من الحبة قبة كما يقولون.
الفرد بين الجدال والحوار:
الجدال: مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة، ومقابلة الحجة
بالحجة.
والحوار: الجواب. حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه. فهو مراجعة في
الكلام بين طرفين أو اكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما، وقد
يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي كما ذكر
تعالى في سورة المجادلة حيث قال: [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] فسمى الله سبحانه
وتعالى مجادلة المرأة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ومجاوبته لها محاورة، والله
أعلم. وعلى أية حال فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود
عليها الألفة والبحث عن الحق. والجدال غالباً ما يكون جوه صاخباً وقد ينشأ عنه
خصومة وعناد.
ما هي نتيجة الحوار؟
ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر
ويتفقان على موقف واحد فهذا نجاح لاشك فيه. وإنما يعتبر الحوار ناجحاً أيضاً إذا
توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح. أو في الإطار الذي
يسعه الخلاف، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّىء
الطرف الآخر.
بعض الآيات والأحاديث الواردة في آداب الحوار وحسن المناظرة:
قال تعالى:
-[وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً]
-[وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] .
-[وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] .
-[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ] .
-[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] .
-[وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] .
-[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ
بَيْنَ النَّاسِ] .
-[فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] . والآيات في ذلك كثيرة.
أما الأحاديث النبوية فمنها:
- «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» .
- «الكلمة الطيبة صدقة» .
- «تبسمك في وجه أخيك صدقة» .
- «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟» .
- «الكبر بطر الحق وغمط الناس» .
- «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها» .
- «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» .
- «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» .
- «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطيه على العنف،
ومالا يعطي على سواه» .
والأحاديث في ذلك كثيرة.
والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب
الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء
الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث وهي قوله تعالى: [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم
بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ
لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] .
وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً
لمن أراد الوصول إلى الحق، ولأن الحوار المقصود منه الوصول إلى الحق فإن
هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي:
الأصل الأول: الإخلاص لله عز رجل والتجرد الكامل قبل الحوار وأثناءه ...
وبعده [أَن تَقُومُوا لله] .
الأصل الثاني: العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية
والواقعية [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] .
الأصل الثالث: اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة [مَثْنَى وَفُرَادَى] .
الأصل الأول: الإخلاص لله عز وجل والقيام له وحده [أَن تَقُومُوا لله] :
ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات نذكر منها ما يلي:
أ - تصحيح النية قبل الدخول في الحوار: وذلك بمساءلة النفس عن الغرض
من الحوار هل هو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى كحب الظهور
وإفحام الخصم أو أن يرى الناس مكانه، فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم
المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله عز وجل وأنه يريد الحق ولو ظهر
على لسان الطرف الآخر.
ب - حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر: فالمتحدث البارع مستمع
بارع فلابد من حسن الاستماع والانتباه لما يقوله الطرف المقابل وعدم مقاطعته
وتركه حتى ينتهي ويدون أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً وهذا من
التواضع وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين حتى لا يحصل العجب بالنفس وأنه الذي
ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك، كذلك على المحاور
المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله بل يعطي الفرصة
المكافئة للطرف الآخر حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص أو الاحتقار
للطرف الآخر، وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون
مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز
وكما يقال: (إذا أردت أن ينفض الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث) .
ج - مراقبة النفس أثناء الحوار: جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن
يركزوا انتباههم على الطرف الآخر يحصرون الملاحظات على فكرته وطريقته في
الحوار، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها
ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار.
ولاشك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من
غيره، وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات.
د - التسليم بالخطأ: الإنسان بشر يخطىء ويصيب، فمن الطبيعي أن
يخطىء المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره، والإخلاص لله عز وجل يفرض
عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب، بل يشكر لصاحبه فضله في
تبصيره له بالخطأ.
هـ - الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران: قد يلجأ المحاور إلى
الأساليب الغامضة بل الكذب أحياناً إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس
على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها
الإخلاص لله تعالى والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي
يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طرح سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة
عليه فيعتذر عن الإجابة، ولا يلجأ إلى الغموض واللف والدوران لأنه إذا فقدت
الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار.
و الأمانة: لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة وأن لا
تقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك فهذا نقص
في الدين والإخلاص لأنه أخو الكذب فضلاً عن أنه يُعرِّض من هذه صفته للسخرية
وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.
ز - الإنصاف: من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار
الصحيحة والأدلة الجيدة وحسن الاستدلال والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف
الآخر ويسلم بها وأن يذكر الطرف الآخر الإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو
في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع
الطرف الآخر والظروف المحيطة به والتي أدت به إلى الرأي المخالف.
ح - وضع الخطأ في حجمه الطبيعي وتجنب الشماتة: عند وضوح خطأ
الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان
وتفقده الدعوة من جراء خطئه كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا
يداخله الشيطان فيشعر بالتعالي على الطرف الآخر أو يشمت به وبفكرته الخاطئة،
فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه.
ط - على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية وكل ما يشعر باحتقار
أحدهما للآخر أو ازدرائه لفكرته أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم أو التبسمات
والضحكات التي تدل على السخرية.
ي - تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث: حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس
فيقع فيها العجب والغرور، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة
في الحديث كتكرار (نحن، أنا، عندنا … الخ) مع ما فيها من المضايقة للطرف
الآخر.
*يتبع*(23/17)
قراءة في فكر مالك بن نبي
- الحلقة الأخيرة -
محمد العبدة
بعد الحلقة الأخيرة في قراءة فكر مالك بن نبي كانت النية متجهة للكتابة عن
بعض أخطائه ضمن الكتابة عن المدرسة التي تأثرت به، وفي مكان آخر غير
صفحات هذه المجلة، ولكن بعض القراء أشاروا وطلبوا أن تكون الكتابة عن مالك
في المجلة حتى تتضح الصورة، وتظهر الإيجابيات والسلبيات كي تقع الفائدة
المرجوة وتتجنب الأخطاء، واستجابة لهذا سأكتب عن الأخطاء ضمن المنهج
الصحيح في الجرح والتعديل؛ وهو أنه إذا غلب على الرجل الخير فالأولى تقديم
إيجابياته والتغاضي عن سلبياته أو ذكرها مجملة ما أمكن ذلك، وما أردت في
المقالات السابقة إلا عرض خلاصة أفكاره عن أمراض العالم الإسلامي وشروط
النهضة، وهي أفكار تستحق الدراسة والتأمل، ونتمنى أن يستفيد منه المسلمون في
كل مكان. فقد أصاب فيها المحز، ووضع الإصبع على الجرح، ورغم مرور
سنين على طرحها، لكن مشكلة المسلمين لا زالت كما حللها وكتب عنها.
إن الأخطاء التي سنتكلم عنها ليست أخطاء عادية مما يقع لكل كاتب، فكان
لابد من ذكرها والتنبيه عليها.
النظرة السطحية للأحداث والشخصيات:
كان مالك بن نبي عميقاً في فهم غور الاستعمار وأساليبه الخفية للتسلط على
العالم الإسلامي، وعميقاً في معالجة (القابلية للاستعمار) عند المسلمين، ولكنه في
عالم الواقع والسياسة فيه سذاجة أو طفولة سياسية، وهذا ليس غريباً فقديماً تعجب
الإمام ابن الجوزي من شخصية أبى حامد الغزالي، كيف يجمع بين الفقه والذكاء
من جهة، وبين الصوفية وحكايات العجائب والخرافات من جهة أخرى.
أ - أعجب مالك بثورة 23 يوليو في مصر، ومدحها ووضع آماله فيها من
ناحية الإصلاح الزراعي والصناعة، وإنشاء وزارة الثقافة والإرشاد، والحياد
الإيجابي، وكل الدجل والشعارات التي أطلقها مهرج هذه الثورة.
فثورة يوليو 1952 عند مالك (من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري،
وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم
الإسلامي) [1] (وكل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر خطت
للنهضة العربية الاتجاه الصحيح الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون
العام ... ) [2] .
كيف يكون هذا الزعيم بهذه الصفات ونحن لا نعلم أن هناك زعيماً آخر في
العصر الحديث ترك بلاده خراباً مثل جمال عبد الناصر؟ كيف لا يدري مالك بن
نبي وهو من هو في فهم اللعبة الاستعمارية أن عبد الناصر كان ضمن (لعبة الأمم) ،
وأنهم ساعدوه على صنع هذه البطولة المزيفة، وحتى لو كانت هناك بعض
الإصلاحات المادية - وهي لم تتحقق فعلاً - فأين الحديث عن الاستبداد السياسي
وكرامة الشعب المسحوقة؟ بل أين تطبيق الإسلام؟ .
2 - علق مالك بن نبي آمالاً كبيرة على مؤتمر باندونغ، واعتبره كتلة سلام
للعالم، واعتبر هذا التنوع الذي يضم تسعاً وعشرين دولة، تضم تراثاً فكرياً متفاوتاً
(يمكن بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام) ، [3] . هذه
نظرته لهذا المؤتمر، والحقيقة أنه كان يحب التكتلات الكبيرة لمواجهة الغرب، وقد
يكون معه بعض الحق في هذا، ولكن مثل هذا التكتل كان يحمل بذور فشله،
وقضية الحياد التي يرفعها لم تكن صحيحة، فكل دولة منحازة، والهند التي كانت
من أبرز أعضاء المؤتمر وتدعي السلام والروحانية كانت تحمل بين جوانحها الكره
العميق للمسلمين، بل إن صورة الهند العداونية كانت من البديهيات عند الشباب
المسلم في الستينات، ولم ينخدعوا بكلام الدبلوماسي الهندي (ليس لدينا من الخشوع
ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونغ) [4] ، ويصدق مالك بن نبي أن نهرو حمل
رسالة اللاعنف التي سلمه إياها غاندي، ونهرو هذا يكتب في (المجلة العصرية)
مقالتين ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الحركة ضد القاديانية ويؤيد جانب
القاديانية) [5] ، وهند نهرو هي التي احتلت كشمير وأخذتها بالقوة، فأين السلم وأين الديمقراطية التي تدعيها؟ وما الفرق بين الهند وباكستان في (القابلية للاستعمار) .
وقد أدرك مالك أخيراً عدم جدوى أي محاولة تجمّع ليست عناصره
منسجمة [6] ، كما كان يلمح في آخر حياته بأن ثورة 23 يوليو لم تقم بالواجب، ولاشك أن الكبار من أمثال مالك بن نبي يتراجعون إذا عرفوا الحق. ...
3 - كانت روسيا بعد الثورة الشيوعية تدعي أنها دولة صديقة للشعوب وللعالم
الثالث، وأنها ليست دولة استعمارية، وقد صدّق مالك بن نبي هذه المقولة، يقول:
(فالمناخ الاستعماري الذي تكوّن في أوربا وأمريكا على حد سواء، وفي الاتحاد
السوفييتي قبل الثورة أيضاً) ولكن الحقيقة أن روسيا مستعمرة قبل الثورة وبعدها،
ولم تتخل عن جشع الدول الكبرى، وهي وجه آخر للحضارة الغربية.
4 - نقد مالك الانتخابات السياسية التي تطالب بالحقوق فقط وتنسى الواجبات، وتعتمد أسلوب المظاهرات والحفلات، وهو محق في هذا، ولكنه شارك في هذه
الوسائل، وساعد (مصالي الحاج) في قيام الحزب الوطني، مع أنه ينتقده هو
وحزبه، ولكنه حب الحركة ثم يكتشف الأخطاء بعدئذ.
اللاعنف:
أعجب مالك بن نبي بقصة (اللاعنف) عند غاندي، فهو يذكرها دائماً، بل
يذكرها بخشوع، ويبني عليها أحلامه الفلسفية في السلام العالمي، واتجاه العالم نحو
مناقشة قضاياه بالسلم والحوار والفكر، يقول عن منطقة جنوب شرقي آسيا: (هي
مجال إشعاع الفكر الإسلامي وفكرة اللاعنف، أي مجال إشعاع حضارتين:
الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوكية، الحضارتان اللتان تختزنان أكبر ذخيرة
روسية للإنسان اليوم) [7] .
ويحلق في الخيال والطوباوية عندما يقول: (فكذلك رفات غاندي التي ذروها
فإن الأيام ستجمعها في أعماق ضمير الإنسان من حيث سينطلق يوماً انتصار
اللاعنف ونشيد السلم العالمي) [8] . (هذا الرجل (غاندي) كان يتقمص إلى درجة
بليغة الضمير الإنساني في القرن العشرين) . [9] .
إن فكرة (السلم العالمي) بمعنى أن يحل السلام في العالم بشكل دائم، أو أن
العالم يتجه نحو هذا الهدف، هذه الفكرة غير واقعية وغير شرعية، وهي فكرة
خيالية محضة، فهي تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره القرآن الكريم [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: 251] كما تنافي مبدأ الجهاد في
الإسلام، وهي غير واقعية لأن من طبيعة البشر التغالب والعدوان إن لم يردعهم
رادع، والدول الكبيرة القوية تأكل الضعيفة إن لم يكن عسكرياً فاقتصادياً.
والبشرية لن تبلغ رشدها في عمرها الثالث فتصبح الفكرة ذات قيمة قي حد ذاتها كما
يتصور مالك بن نبي [10] ، بل إنها كثيراً ما تتردى من الناحية الإنسانية،
والبشرية لا تبلغ رشدها إلا إذا حكمها الإسلام.
إن فكرة (اللاعنف) و (الإنسانية) من الأفكار الخطيرة التي بذرها مالك
ووسعها بعدئذ تلامذته، وحاولوا اللف والدوران كثيراً حول مبدأ الجهاد الإسلامي.
الإنسانية والعالمية:
وقريب من مبدأ (السلام العالمي) كان مالك يحلم بأن تتوحد الإنسانية في
مجتمع عالمي، ويظن بأن البشرية تسير بهذا الاتجاه، (فالعالم قد دخل إذن في
مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار) [11] ،
(وحين اتجه العالم إلى إنشاء منظمة اليونسكو، كان يهدف إلى (تركيب) ثقافة ...
إنسانية على المدى البعيد) [12] (وما محكمة العدل في لاهاي والقانون الدولي،
والقانون البحري إلا مظاهر خاصة لذلك الاتجاه العام الذي لايفتأ يمهد الطريق
لتوحيد العالم) [13] .
هذا المفهوم للإنسانية مفهوم وهمي يراد به محو الشخصية الثقافية الحقيقية
لكل مجتمع ولكل أمة، وإذا كان العالم قد تقارب وانتشرت الأفكار في كل مكان،
وقد يستفيد المسلمون من ذلك في نشر دينهم الذي يملك عناصر التأثير والقوة،
ولكن أن يتوحد العالم في مجتمع واحد فهذا مفهوم ذهني مجرد، وإذا كان هو نفسه
شعر بأن فكرة الأفرو آسيوية صعبة التحقيق، ولذلك عاد وكتب عن (الكومنولث
الإسلامي) ؛ فكيف يظن أن العالم يسير نحو الوحدة؟ !
ضعف ثقافته الشرعية:
لم يتصل مالك بن نبي بعلماء عصره ليستفيد منهم، ورغم اعترافه بأهمية
جمعية العلماء في الجزائر التي كان على رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ إلا
أن علاقته بها كانت فاترة ويعترف هو بعد لأي أنه كان مخطئاً في هذا [14] ،
ولذلك كانت دراسته للإسلام نابعة من قراءاته الشخصية وهي قليلة إذا قيست
بقراءاته في الفكر الغربي، وهذا ما جعله يخطئ في أمور كثيرة سواء كانت في
الفقه والأحكام أو في النظرة لبعض جوانب التاريخ الإسلامي، فمن رموز الثقافة
عنده الفارابي، وابن سينا، وابن رشد [15] .. (والمجتمع الإسلامي في عصر
الفارابي كان يخلق أفكاراً وفي عهد ابن رشد يبلغها إلى أوربا وبعد ابن خلدون لم
يعد قادراً على الخلق ولا على التبليغ) [16] .
وفي العصر الحديث فإن من رموز الثقافة عنده جمال الدين الأفغاني، وهو
موقظ الشرق، وهو رجل الفطرة ... الخ. وإطلاقه هذا القول جزافاً يدل على
ضعف ثقافته الشرعية.
وفي التاريخ يلمز كثيراً بنى أمية دون وضع الضوابط للإنصاف والتقويم
الصحيح. وبسبب عدم وضوح توحيد الألوهية ظن أنه من الممكن اتصال العالم
الإسلامي بروحانية الهند (وليس بوسعنا أن نغض من قيمة الدور الذي يمكن أن يؤديه اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند) [17] .
ولم يشر في كتبه إلى موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية، وكان معجباً بدولة
الوحدة عام 1958 مع أنها لا تطبق شرع الله، وهناك أخطاء جزئية لا نريد
التفصيل فيها ونعتقد أنه لو نبه عليها لتراجع.
وقبل أن ننهي هذه القراءة لفكر مالك بن نبي لا بد من التنبه لأمور: ...
أ - هذه السلبيات والأخطاء يجب أن لا تمنعنا من الاستفادة من الإيجابيات،
فهذا المفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر.
وكأني أسمع بعض المسلمين يقولون: ما دامت هذه آراؤه فما الفائدة من
قراءة كتبه؟ وهذا خطأ فادح منهم، فنحن نقرأ لأعداء الإسلام ونستفيد منهم؛ فكيف
بمفكر كان يسعى - حسب جهده - لخير المسلمين، وإن أخطأ في مواضع.
2 - إن مالك بن نبي شخصية كبيرة، فهو يتراجع عن الخطأ إذا تبين له،
لقد نصح جمعية العلماء في الجزائر بصدق وقال كلاماً دقيقاً في هذا (لقد كان على
الحركة الإسلامية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية) [18] (وبأي غنيمة أراد العلماء أن يرجعوا من هناك وهم يعلمون أن مفتاح القضية في
روح الأمة لا في مكان آخر) [19] ، وهو يقصد سير العلماء في القافلة السياسية
عام 1936.
ويقول: (فيما يخصني لقد بذلت شطراً من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء) [20] ، ويتأسف لأن الجمعية لم تدعه للمساهمة في شؤونها الإدارية، ومع ذلك فقد تراجع واعترف أن موقفه من الجمعية لم يكن طبيعياً بسبب نظرته الخاصة للشيخ ابن باديس.
3 - رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا
أن أمله في التغيير بقي معلقاً في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي
للمسلمين (فالعالم الإسلامي لا يستطيع أن يجد هداه خارج حدوده بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن لا يقطع علاقته بحضارة تمثل أحد التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم العلاقة معها) [21] ، (والمسلم لا يزال يحتفظ بالقيمة الخلقية، وهو ما ينقص الفكر الحديث، فالعالم الإسلامي لديه قدر كبير من الشباب الضروري لحمل مسؤولياته مادياً وروحياً) [22] .
فهل يتحمل الشباب هذه المسؤوليات؟ نرجو ذلك.
__________
(1) الصراع الفكري / 22.
(2) تأملات / 178.
(3) فكرة الأفرو آسيوية / 98.
(4) المصدر السابق / 7.
(5) مسعود الندوي: تاريخ الحركة الإسلامية في الهند / 220.
(6) - فكرة كومنولث إسلامي / 7.
(7) في مهب المعركة / 87.
(8) المصدر السابق لم 208.
(9) المصدر السابق / 207.
(10) إنتاج المستشرقين / 35.
(11) مشكلة الثقافة / 14.
(12) المصدر السابق / 96.
(13) وجهة العالم الإسلامي / 154.
(14) بقي له ملاحظات مهمة على جمعية العلماء سنذكرها في نهاية المقال.
(15) ثروة النهضة / 71.
(16) مشكلة الثقافة / 48.
(17) وجهة العالم الإسلامي / 170.
(18) شروط النهضة / 38.
(19) المصدر السابق / 34.
(20) في مهب المعركة / 190.
(21) وجهة العالم الإسلامي / 127.
(22) المصدر السابق / 157.(23/29)
صور من عداء المشركين للدعوة
معن عبد القادر
مقدمة:
وقف المشركون من دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقفاً لا يتغير
في جوهره وهدفه، فهو العداء المستحكم، والسعي الحثيث إلى قتل الدعوة في
مراحلها المختلفة، إلا أن هذا الهدف قد ظهر في صور متعددة تتخذ مرحليّة جلية
في العداء. وهذا المقال يلقي الضوء على أهم تلك الصور، ويشير إلى المرحلية
التي سلكها المشركون في العداء، معرجاً على موقف أهل الحق - متمثلين في
رسول الله وصحبه - من هذه الصور المختلفة.
1- مرحلة عدم الاكتراث بالدعوة:
بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة منذ أن نزل عليه [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ
قُمْ فَأَنذِرْ] وكانت دعوته في بادىء الأمر سرية، ولا يُفهم من ذلك أن المشركين
في تلك الفترة لا يعلمون عن محمد ودعوته شيئاً، لكن حيث جاء الرسول بما
يخالف ما عليه القوم مخالفة كلية، وحيث علم أنه ليس من السهولة أن يلتف الناس
حوله إذا جهر بالدعوة بينهم مجتمعين، فقد كان يتخير من يتوسم فيه القبول فيسرُّ
له بآمر الدعوة، وهكذا خفي على المشركين أو الكثير من أتباع الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ولكنهم لم يخف عليهم أن للرسول دعوة. فهذا أبو ذر وعمرو بن
عنبسة وغيرهم يأتون النبي لأنهم قد سمعوا به، وانتشر بينهم أنه يدعو إلى أمر
جديد، إلا أن الرسول وهو في بداية أمره لم يواجه قومه بتسفيه ما هم عليه، فلم
ينشأ عندهم الشعور القوي بالخطر من دعوته، فكان من أثر ذلك أنهم لم يكترثوا
بأمره.
جاء في سيرة ابن هشام: (فلما نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر
آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته) [تهذيب
سيرة ابن هشام / 55] .
وهكذا الأمر دائماً، عندما لا يشعر أهل الباطل بأن في دعوة الحق خطراً
عليهم، فإنهم لا يبدون اكتراثاً بأمرهم، وإن كانوا لا يخفون بغضهم وكراهيتهم
واستهزاءهم بالحق وأهله، ولكن أنى لدعوة أن تنتشر ويظهر أمرها، وتقوم
بالأمانة المنوطة بها، وهي تستر ركناً عظيماً من أركانها وهو الكفر بالطاغوت.
قد يكون هذا ممكنا في حق فرد، ولكنه لا يكون في حق دعوة بأكملها.
2 - المحاولات غير المباشرة لإسكات الرسول صلى الله عليه وسلم:
ولما أعلن الرسول كفره بآلهتهم، وتسفيه معتقداتهم، حاول المشركون أن
ينهوا الأمر بمحاولة إسكاته عن القيام بدعوته، وذلك عن طريق عمه أبى طالب،
فمن ذلك طلبهم منه في المرة الأولى أن يكف ابن أخيه عنهم أو يتركهم ليروا أمرهم
فيه فردهم أبو طالب رداً جميلاً. (التهذيب / 55) .
ولما لم تثن تلك المحاولة الرسول عن عزمه حاولوا مرة أخرى بلهجة أشد.
(التهذيب / 56) وكان جواب الرسول واضحاً صريحاً وقاطعاً في أنه لا أمل في
ثنيه عن دعوته: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه
الشمس شعلة من نار) (التعليق على فقه السيرة / 110) .
3 - صياغة الاتهامات لتضليل العامة:
ولما أيقنت قريش أنها لا تستطيع ثني الرسول عن الصدع بدعوته، حولت
جُلَّ جهودها إلى إنشاء مناعة عند عامة العرب ضد الإيمان به، أو حتى الاستماع
إليه، فاجتمعت قريش قبل موسم الحج بزعامة الوليد بن المغيرة لصياغة الاتهامات
المناسبة لصد الوفود عن الاستماع إلى الرسول (فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد
حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم
هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه
بعضاً) (التهذيب / 57) ، فتقلبت أقوالهم بين ساحر وكاهن وشاعر، ثم استقر رأيهم على اتهامه بالسحر، كما تظهر القصة، وإن كانوا في الحقيقة لم يستقروا على اتهام واحد [إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ] .
ومن ذلك ما لقي به المشركون الطُفَيل بن عمرو الدوسي، وأعشى قيس،
وغيرهم ممن كان يقدم مكة للسماع من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان من مشيئة الله أن جعل من تلك الاتهامات والتحذيرات دعاية للدعوة ...
وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر
ذكره في بلاد العرب كلها) (التهذيب / 58) .
4 - مرحلة التعذيب لفتنة المؤمنين:
ولما لم تفلح تلك المحاولات في صد الناس عن الإيمان بالدين الجديد،
تواصى المشركون فيما بينهم بالتفنن في التعذيب لرد من آمن بمحمد عن دينه، وقد
لخص كبيرهم أبو جهل مخططهم في ذلك: (وكان أبو جهل الفاسق.. إذا سمع
بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك
لنسفهن حلمك، ولنفيِّلَنَّ رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله
لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به ((التهذيب / 71، 72) .
وبدأت مرحلة التعذيب الرهيب كفعل أبى جهل بآل ياسر، وأمية بن خلف
ببلال، ويكفي في تصوير شدة هذا التعذيب ما يرويه سعيد بن جبير قال: (قلت لعبد
الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا
ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر
الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى
إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده) (التهذيب / 72) .
ولقد أصاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك المرحلة شيء من الأذى، كالذي فعله به عقبة بن أبى معيط حين وضع سلا جزور على رأسه وهو ساجد،
وعندما اجتمع عليه المشركون حول الكعبة ففرقهم أبو بكر عنه.
والحقيقة أن التعذيب لم ينته عند مرحلة معينة، بل استمر طويلاً، إلا أن
الهدف منه في المرحلة الأولى والدعوة في طفولتها كان المحاولة في رد الأتباع
القلائل عن دينهم، وتخويف غيرهم من الدخول في الدين، لكن بعد أن قويت
شوكة الدعوة كان التعذيب لمجرد الانتقام، ولتنفيس الغيظ والحنق الذي في نفوس
المشركين، أو للأخذ بشيء من ثاراتهم من المسلمين، ومن ذلك ما فعله المشركون
بخبيب حين صلبوه.
ولابد لنا هنا من وقفة عند أثر هذه المرحلة على أتباع الدعوة، وعلى سير
الدعوة نفسها:
- أخرجت تلك الابتلاءات نماذج عظيمة في الثبات على دين الله، والتضحية
في سبيل العقيدة.
- وكان فيها تربية صلبة للأصحاب أعدتهم رجالاً لتلك الدعوة، فوق ما
ارتفعت به درجاتهم عند الله.
- وزادت من الترابط بين أتباع الدين الجديد.
- وأدت إلى شيء من تعاطف العامة من المشركين مع هؤلاء المستضعفين.
وهذه وغيرها مكاسب عظيمة للدعوة، كان الابتلاء سبباً مباشراً لها.
ووقفة أخرى مع موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يرى أتباعه
يعذبون:
لقد أصاب رسول الله أذى من المشركين، لكنهم لم يكونوا ليبلغوا منه شيئاً
كثيراً لمكانة عشيرته بينهم، ولكن عديداً من أصحابه واجه فتنة لا طاقة لكثير من
البشر بها، فماذا كان موقف الرسول من ذلك؟ .
لقد أبدى الرسول تعاطفاً شديداً وشفقة حانية على أتباعه من المعذبين، فكان
يمر بآل ياسر، ويثبتهم على مصابهم، ويعدهم الجنة، وكذلك كان حال المسلمين
ممن لم يصبهم الأذى، فهذا أبو بكر ينفق ماله على إعتاق المعذبين من الرقيق.
ولم ينته دور الرسول عند التعاطف والإشفاق، بل كان يبحث عن كل ما من
شأنه أن يخفف المصاب عن أتباعه من حلول عملية.
فكان يأمر من أسلم من الضعفاء أو ممن يخشى عليه الفتنة أن يكتم إسلامه
عن أهله، ويأمر بعض من يأتيه من قبائل العرب مسلماً أن يعود إلى قبيلته لأنه لا
سند له بمكة.
ولما علم أن في الحبشة ملكاً لا يظلم أمرهم بالهجرة إليه فراراً بدينهم.
إذن: كان الرسول يرفع من معنوياتهم، ويذكرهم بالأجر والثواب، ويؤكد
نصر الله إياهم بعد حين، وفي نفس الوقت كان يبحث لهم عن حلول عملية تخفف
من وقع الفتنة عليهم.
إن التعاطف والسعي لتخفيف وطأة التعذيب على المسلمين أمر مطلوب،
وواجب على القيادة المسلمة تجاه أتباعها، أما التخلي عن شيء من المنهج، ولا
أقول الأسلوب والسياسة، تفادياً للمواجهة، واتقاءً لبطش الجاهليين، فأمر لا
يرضاه الله، وقد عصم منه رسوله، وللأسف فقد سقط في هذا المزلق بعض
المخلصين بدافع إخلاصهم وشفقتهم على إخوانهم.
إن الإسلام وهو دين الرحمة قد جعل للأفراد رُخَصاً يجيز لهم الأخذ بها وقت
الشدائد تصل إلى التلفظ بكلمة الكفر، ولكن لا يجوز لأحد مهما بلغت به الفتنة أن
يهادن في دين الله أو يحرف في منهجه.
إن بعض المخلصين، وقد أحزنهم وشق عليهم ما نزل ببعض إخوانهم، وقد
بدءوا يبدون التميع، ويبدون التفاوض مع الجاهلية، بمبادئهم لتخفيف الوطأة على
إخوانهم.
وبدأوا ينطلقون من منطلق (كفانا أشلاء ودماء) وبدأ منهجهم يتكيف مع هذا
المنطلق في جوهره وليس في أسلوبه فقط. إن أشلاء إخواننا ودماءهم غالية على
كل مسلم غيور، ولكننا أيقنا أنها الثمن الذي أراده الله للنصر ... وللجنة.
إن الدعوة التي اشتدت عليها الفتنة، فبدأت تغير من منهجها، ومرة أخرى لا
أقول: من أسلوبها؛ قد سقطت في الابتلاء الذي جعله الله سنة في الدعوات:
[أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] .
[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ] .
إن التربية التي ترسخ في النفوس أن الابتلاء سنة الله في الدعوات، مهمة
جداً، مهمة للقادة حتى لا يسقطوا في الابتلاء، ويحرفوا المنهج تفادياً لهم، فيضلوا
ويضلوا. مهم للأتباع حتى يثبتوا بتثبيت الله لهم عند الابتلاء، وحتى لا يتسبب
ابتلاؤهم في صب جام غضبهم ولعنتهم على إخوانهم وعلى منهجهم لأنه بزعمهم
السبب فيما وقعوا فيه.
إن أي مسلم غيور، لتذهب نفسه حزناً وهماً على ما يصيب إخوانه في
العقيدة، وهو مطالب بأن يبذل وسعه في سبيل التخفيف عنهم، وإن كان ما نقدمه
حقيقة قليل جداً، وذلك لتراكم الظلم من كل جهة، ولبخل بعضنا وقعودهم عن بذل
كل إمكاناتهم وقدراتهم في سبيل نصرة إخوانهم، ولكن لا يجوز لنا أن يجرفنا الهم
والحزن إلى التخلي عن شيء من منهجنا تفادياً للمواجهة، وفي موقف رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- من خباب رضي الله عنه وهو يأتيه شاكياً عند الكعبة تثبيت
لتلك السنة في نفوس أصحابه بضرب المثل بما لاقاه أسلافهم من المؤمنين، ثم ثبته
بتأكيد نصر الله لهم ولو بعد حين.. يقول خباب: «أتيت النبي -صلى الله عليه
وسلم- وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت:
يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو مُحْمَرٌ وجهه فقال: لقد كان من قبلكم
ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه،
ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن
الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله»
(البخاري 7/164) .
وكذلك خرج بأصحابه مثخناً بالجراحات يوم أُحد، وذهب منهم سبعون شهيداً
من خيرة الصحابة، وهو عدد ليس بقليل في ذلك الوقت من عمر الدعوة، لقد كانوا
عشر جيش المسلمين، فماذا كان من الرسول بعد هذا البلاء المبين؟ يقول ابن
إسحاق: (قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم نفرا من أصحابه) (التهذيب/194) ثم كان ما كان من هذيل في يوم الرجيع إذ قتل وفد رسول الله جميعهم، وكانوا ستة كما عدهم ابن إسحاق.
ثم ماذا؟ ثم بعث رسول الله أصحاب بئر معونة على رأس أربعة أشهر من
أُحد (التهذيب/200) وقتل فيه أربعون صحابياً من خيار المسلمين غدراً وخيانة.
بلاء على إثر بلاء، ولكن الدعوة مستمرة، والمنهج محفوظ، يختار الله من يشاء
من المخلصين إلى جواره، وتبقى بقية القافلة في سيرها إلى الله كما أمرها الله.
5 - مطاردة الفارين بدينهم خارج الحدود:
(فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على
أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً
لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه، فخرج
عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أرض
الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم) (التهذيب /72) .
ولكن طغاة قريش لم يطب لهم العيش، وهم يرون أتباع الدعوة وقد أصابوا
داراً وقراراً عند ملك الحبشة، فكان ما كان من مؤامرات حتى يخرجوهم من دارهم
التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها.
وكان من رحمة الله بعباده المؤمنين، ومن حمايته لدعوته وحفظه لها أن رد
وفد قريش خائباً، وجعل للمسلمين من عدل النجاشي ملجأ، وإن لم يكن على دين
الإسلام في بادىء الأمر. وهذه الصورة بكل جوانبها لا تزال تكرر نفسها.
يضطهد المسلمون في أرضهم، فيفرون بدينهم منها، ويحاول الطغاة أن
يتبعوهم بأذاهم حيث ما كانوا، فتدرك المؤمنين رحمة الله فييسر لهم من الأسباب ما
يحفظهم من الأذى، ونحن نرى تلك الأسباب في الغالب يهيئها الله على أيدي كفار
آخرين يملكون شيئاً من حرية الفكر واحترام الإنسان، فسبحان من ينصر دينه
بالرجل الفاسق.
6- المفاوضات (الإغراءات) المادية:
ولما لم تفلح كل تلك المحاولات مرة أخرى في قتل الدعوة، أو حتى في
إيقاف انتشارها الواسع، وعندما قوي أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- واشتد
أمرهم بإسلام حمزة وعمر وغيرهما، لجأ الطغاة إلى محاولات لإغراء الرسول
بأمور الدنيا، كي يتنازل عن دعوته.
ومثال تلك المحاولات مفاوضة عتبة بن ربيعة أرسلته قريش مندوباً عنها
ليعرض على الرسول الملك والجاه والمال كي يكف عن دعوته.
ولا تزال تلك الوسيلة تستخدم لشلِّ الدعوة وشراء الدعاة، فيتم بذلك احتواءهم
وتسييرهم إلى الوجهة التي يراد لهم السير فيها، وكم من داعية لم يسقط بالترهيب
والتهذيب سقط بالإغراء والترغيب.
7 - المفاوضات الدينية والسعي وراء التنازلات:
وتمثل تلك المرحلة أخبث وأخطر ما تفتق عنه تخطيط الطغاة ومكرهم. إن
أهل الباطل ليس لهم منهج ثابت محدد يلتزمون به، وإنما يدورون مع مصالحهم
حيث دارت، ومصلحتهم العظمى كما يرونها في عداء الحق والسعي لإطفاء نور
الله، ومن هنا فإن أهل الباطل لا يجدون غضاضة ولا صعوبة في أن يعترفوا
بشيء من الحق ويتفاوضوا مع أهله إذا كان في ذلك قضاء على الحق وأهله ولو
بعد حين.
أما أهل الحق فموقفهم مختلف تماماً، إنهم لا ينطلقون من مصالح معينة، إن
لهم منهجاً ثابتاً محدداً أنزله الله إليهم، وأمرهم باتباعه وحذرهم من مخالفته،
وقضيتهم في جوهرها إنما هي استمساك بهذا المنهج الثابت ومحافظة عليه، والذب
عنه حتى الموت.
ومن هنا فإنهم ليس لهم من الأمر شيء، ولا يملكون أن يتنازلوا عن شيء
من هذا المنهج لأي هدف كان، إذ أن منهجهم هو قضيتهم، ومصلحتهم في العض
عليه بالنواجذ، وتحقيق أي هدف في الحياة الدنيا، ولو بدا سامياً عند البعض لا
يجوز أن يتم بالتنازل عن شيء من المنهج.
وتدبروا في موقف أهل الباطل من التنازلات [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] إن
لديهم الاستعداد للمداهنة، ولا مانع لديهم من التنازلات عن شيء من باطلهم في
مقابل تنازل أهل الحق عن شيء من حقهم.
يقول ابن كثير في تفسير سورة الكافرون: (قيل إنهم (أي كفار قريش) من
جهلهم دعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون
معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة فأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيها أن
يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: لا أعبد ما تعبدون) .
إنه لا فرق البتة بين أن يعبد المشركون آلهتهم أبد الدهر، أو يعبدوها سنة
ويعبدوا الله سنة بعدها، كله باطل، وما يضير المشركين أن يقدموا مثل هذا
التنازل، وهم بذلك يكسبون الاعتراف الصريح من أهل الحق بشرعية ما عليه أهل
الباطل.
ولكنه فرق أبعد مما بين السماء والأرض، بين أن يعبد المسلمون الله كل عام، أو يعبدوه عاماً ويعبدون آلهة المشركين عاماً بعده، إن الصورة الأولى هي الحق، والثانية باطل من جملة الباطل وشتان بين الحق والباطل.
وماذا يكسب المسلمون من مثل هذا التنازل؟ اعتراف أهل الباطل بحق أهل
الحق في الوجود؟ ! وماذا يعني لو تم ذلك؟ هل حققنا قضيتنا؟ وكيف نحقق الكفر
بالطاغوت وهو قرين الإيمان بالله ونحن نقدم مثل هذه التنازلات؟ .
وثبت الله رسوله أمام هذا الكيد الجديد [وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئاً قَلِيلاً] وعلمنا الموقف الذي نقفه من هذا الكيد، وحذرنا من المداهنة في دين
الله، بل جعل من أصول ديننا معاداة الكافرين وبغضهم والبراءة منهم، حتى يقطع
كل سبيل إلى الجلوس معهم لتقريب وجهات النظر! !
8- المواجهة المسلحة:
ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم في كل مناسبة، ورعى دعوته حتى شبَّت
وقوي عودها، وأحس المشركون بخطر الدعوة على وجودهم، كانت المواجهات
المسلحة ولابد أن تكون، فكانت بدر ثم أحد والخندق وغيرها من السرايا والغزوات، ثم كان يوم الفتح الأكبر، فتح مكة.
وصدق الله وعده للمؤمنين وهم بمكة يعذبون، أو وهم في الحبشة يطاردون،
أنه ناصرهم على الكافرين.
هذه أبرز صور العداء التي واجهتها الدعوة الأولى، ولا يملك المسلم الذي
يعيش في هذا العصر وهو يراجع تلك الصور إلا أن يتساءل [أَتَوَاصَوْا بِهِ] .
إن المحاولات هي ذاتها، وإن أصبحت في كثير من الأحيان أعنف وأشد
خطراً على الدعوة، لازدياد كيد العدو من جهة، ولضعف إيمان المسلمين من جهة
أخرى.(23/36)
خواطر في الدعوة
أيها الدعاة ...
لا تفسدوا الأخوة
محمد العبدة
من أثمن ما يملكه المسلم في هذه الحياة الدنيا بعد الصلة بالله عقد الأخوة
الإيمانية الذي عقده مع من يحبهم في الله، وتعاهد معهم على العمل سوية في سبيل
نصرة دين الله. هذا العقد من أقوى الأسباب لمجابهة الصعاب والتحديات، ولحل
المشكلات التي تعترض الطريق، وبه يشعر المسلم أنه ليس وحيداً، فهناك من يشد
أزره ويضع يده على يده، غير أن هذه الأخوة قد تعكر صفوها هنات وهزات،
هي صغيرة ولكنها تكبر مع الأيام ويكبر أثرها، فتنفر القلوب، وتقع الوحشة وهذا
مزلق خطير يجب على الأخ المسلم تجنبه فخسارة أخ لا يعوضها أي شيء.
إن كثرة العتاب وكثرة المماراة والجدل، خاصة إذا شابها نية إظهار التميز
وفضل العقل، بل وكثرة المزاح؛ من الأشياء التي تؤدي إلى الوحشة، قال
أصحاب طب القلوب: (إذا قصَّر الأخ في حق أخيه فالواجب الاحتمال والعفو والصفح إلا إن كان بحيث يؤدي استمراره إلى القطيعة فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح، والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكل) .
إن الأخوة التي نحرص عليها كل الحرص، ونعض عليها بالنواجذ خاصة في
مثل هذه الأيام والظروف التي تمر بالمسلمين لها حقوق إذا قمنا بها فلعلها تستمر
وتقوى، ومن هذه الحقوق التفقد لأحواله والسؤال عن حاجاته، قبل أن يضطر إلى
طلب المساعدة والعون، فهذا هو الأليق، وهذا هو الذي يفرحه ويسره، فإذا نسيت
وسألك حاجته فبادر إلى قضائها، وإذا لم تفعل هذا فكبّر على هذه الأخوة، ومنها:
الوفاء والثبات عليها، فلا يذكره إلا بخير، ويحفظ غيبته، فلا يعرض به أمام
الآخرين بأسلوب ظاهره الشفقة والنصح وباطنه الغيبة المحضة، بل يجب عليه
استحضار محاسن أخيه وحفظه في أسراره فلا يبثها للآخرين، وبذلك لا يدع
للشيطان مدخلاً: [وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] .
ومن حقوقها: ترك التكلف حتى لا يشعر الأخ أنه غريب عن أخيه، ولا
يلجئه إلى الاعتذار دائماً، بسبب هفوة صغيرة، وكلمة عابرة، ويحاسبه على
النقير والقطمير، وليتذكر قول الشاعر:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟
والأخوة الإيمانية أكبر من هذا، فإذا أفسدتها ما نحن فيه من أنانية وضيق أفق، وانشغال بصغائر الأمور أحياناً، فيجب أن نعترف أنه ليس هاهنا أخوة، بل
كلمات خطابية جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، وما نحن فيه إنما هو مخالطة
رسمية، وصورة مشوهة عن أخلاق المسلمين الأوائل، ومجاملات ليس لها أثر في
العقل والدين.(23/46)
في إشراقة أية
[كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ]
د. عبد الكريم بكار
يشكل انهيار العلاقات الاجتماعية إحدى أهم المشكلات التي تعانى منها
المجتمعات الحديثة حيث نما الشعور بالفردية والتوحد، وحُكمت المصالح الخاصة
في كثير من شئون الحياة، وقد أصاب أمة الإسلام شيء من ذلك، فاضمحلت
ضوابط التربية الاجتماعية التي تشكل الحس الجماعي لدى الفرد المسلم مما أشاع
الفوضى الفكرية والاجتماعية، وضخم مشاكل المسلمين الاقتصادية لأن عمليات
التنمية لا تتم على ما ينبغي في مجتمع واهي الروابط مختلف الأفكار والمفاهيم.
ومن هنا شددت تعاليم الإسلام على ضرورة المحافظة على العلاقات
الاجتماعية وإقامتها باستمرار على هدي الرسالة الخاتمة التي تعد استمراراً لدعوات
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وتحقيقاً لذلك التواصل قصَّ الله تعالى علينا أخبار الأمم السابقة والعواقب
الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات دون أن يرفع أحد
منهم رأساً أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم فقال تعالى: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ]
[المائدة: 78-79] .
فقد أجرم القوم مرتين: مرة حين وقعوا في الآثام، وأخرى حين تركوا
المعاصي تشيع فيهم دون أن تسود فيهم روح التناهي عنها.
وقد جاء في الحديث ما يفسر تدرجهم نحو الحال التي استوجبت لهم اللعن،
فقد روى ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن أول ما
دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله
ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن
يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..] » [1]
لقد طال العهد بصالحي بني إسرائيل فبدأت المناكر تزحف إلى حياتهم عن
طريق أهل الأهواء والشهوات، وكان فيهم صالحون فقاموا ونهوا أصحاب ...
المعاصي ووعظوهم ولكن هؤلاء تأصل فيهم المنكر وصار النزوع عنه أمراً
عسيراً، وكان الأمر يتطلب من صالحيهم جلداً وصبراً ومفاصلة إلا أن درجة التوتر الحيوي عند أولئك الصالحين لم تكن كافية بحيث يشعرون بالتميز ويشكلون تياراً نشطاً يحاصر أولئك العصاة ويشعرهم بالشذوذ والإثم ...
وكانت المرحلة التالية سيطرة شعور العجز والضعف على أولئك الصالحين
مما جعلهم يخالطون أهل المعاصي ويرضون عن أعمالهم أو يظهر للناظر أنهم
كذلك فضاعت معالم الحق وجاءت أجيال تالية فنشأت في الانحراف وشبت فيه
وصار التفريق بين المعروف والمنكر أمراً غير متيسر لكل الناس.
وكانت العاقبة أن ضرب الله قلوبهم بعضهاً ببعض، وهذه العبارة في الحديث
النبوي ترمز إلى حالة من الفوضى المصحوبة بالعذاب حيث فقدت تجمعاتهم
الشروط الضرورية لبقائهم واستمرارهم المادي والمعنوي فكانت أيام الله في خاتمة
المطاف جزاء ما فعلوا.
إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغنى عن شريحة فيه تتمثل
فيها المثل العليا لذلك المجتمع تحفظ عليه وجوده المعنوي المتمثل في عقيدته
وأخلاقه وضوابط علاقاته وهؤلاء يمثلون الخيرية في ذلك المجتمع كما قال عليه
الصلاة والسلام: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له في أمته حواريون
وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون
مالا يفعلون ... » [رواه مسلم] .
إن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهج في
أرواحهم والحيوية في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعهم همهم الأكبر، فيسعد بهم ذلك
المجتمع إذ يحفظون عليه توازنه واستقامته وشروط استمراره، وكما لا يشترط
لصحة المجتمع جسمياً وبيئياً أن يكون كل أفراده من الأطباء كذلك لا يشترط في
المجتمع المسلم أن يكون كل أفراده من الدعاة الناصحين ولكن ينبغي أن تتوفر نسبة
كافية في المجتمع مسموعة الصوت واضحة التأثير تملأ الفراغ الثقافي وتملك من
الوسائل المؤثرة ما يسمح باستمرار وضوح جادة الحق والخير والصواب ويسمح
باستمرار سنة المدافعة بين الحق والباطل على وجه مكافىء وهذا ما يشير إليه قوله
عز اسمه: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .
وقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئة الطيبة الخيرة المُحَارَبة دائماً
وتلقى الأذية والعنت وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات
والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ (المختزلة) حيث يكثفون هموم البشرية كلها
في هم واحد هو همهم، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحهم مهما عظمت إلى
رغباتهم ومصالحهم هم، وعلى كل حال فإن الذي يظن أنه باستطاعته أن يسير في
دروب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقوماً للمعوج ومحارباً للأهواء والشهوات
وناصراً للمظلوم ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم فهو واهم في ذلك وإلى هذا أشار
لقمان وهو يعظ ابنه حين قال: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] [لقمان: 17] فقد أشعر
ابنه بما يلحقه من الأذية إذا هو قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن نظراً للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة التي
تعد قلبها النابض وبصيرتها النافذة فإن الله تعالى قرن محاربة هذه الفئة بالكفر به
وقتل رسله حيث قال جلَّ وعلا: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ] [آل عمران: 21-22] .
واليوم والأمة تسعى جاهدة إلى الخروج من نفق الظلمات نافضة عنها غبار
الضعف والفرقة والتبعية والتخلف؛ تكثر المشاريع الحضارية المطروحة في البلاد
الإسلامية من قبل أهل العلم والفكر، كما يكثر الضرب في الأرض لدراسة
التجارب الحضارية الحديثة والمعاصرة للأمم الأخرى، والنتيجة الملموسة إلى هذه
الساعة من وراء كل ذلك سلبية والسبب في ذلك - والله أعلم - أننا نأتي البيوت من
غير أبوابها ذلك لأن التخلف المادي الذي يعاني منه المسلمون ليس هو المرض
ولكنه من أعراض المرض، والمعالجة الصحيحة تكون بتفحص المرض وأسبابه
وجذوره فإذا عالجنا المرض ذهبت كل أعراضه، أما المرض فهو كامن في الخلل
الذي أصاب رؤية المسلمين للدنيا والآخرة، والخلل الذي أصاب أخلاقهم ومقاصدهم
وعلاقاتهم ببعضهم بعضاً، مما ترتب عليه مفاسد جمة قعدت بالسواد الأعجم من
المسلمين عن أن يكونوا لَبِنَاتٍ صالحة في أي بناء حضاري فذٍ متميزٍ، وغاب عنا
روح الفريق حين التفت كلٌّ إلى مصلحته الخاصة ضارباً عرض الحائط بكل شيء
وراءها. ولابد من وقفة متأنية عند هذه النقطة نظراً لخطورتها وكثرة المشكلات
الناشئة عنها.
إن كثيراً من مجتمعات المسلمين اليوم لا يتوفر فيه ما يجعله صالحاً لإطلاق
اسم (مجتمع) عليه لأن التفلت من الواجبات الشرعية والوقوع في المحظورات -
والتي في مجملها تشكل الحس الجماعي عند المسلمين- يجعل صفة الفردية طاغية
على هذه التجمعات وإن بدت حسب الظاهر في صورة مجتمعات منظمة متحدة..
إن المجتمع - كما يقول مالك بن نبي - الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له
ليس مجتمعاً ولكنه إما مجتمع في بداية تكونه وإما مجتمع بدأ حركة الانسحاب من
التاريخ فهو بقية مجتمع.
واليهود حين أرادوا تدمير المجتمعات الغربية خططوا لتضخيم جانب الفردية
على حساب الحس الجماعي حتى كثرت القضايا التي يعدها العرف هناك
خصوصيات تخضع بمزاج الفرد ومصلحته، وكانت النتيجة التي انتهوا إليها تفكك
تلك المجتمعات على نحو مخيف ذهب بأمن الحياة وروائها وسيعصف بكل الجهود
العزيزة التي بذلت في بناء الحضارة الحديثة في يوم من الأيام.
وقد انتقلت هذه العدوى إلى بلاد المسلمين فصار كثير من المسلمين غير
مستعد لقبول نصيحة من أحد بحجة أن ما يلاحظ عليه يعود إلى خصوصياته التي
لا تقبل أي نوع من التدخل. وهذا الصنف من الناس - وهو يمثل اليوم في
المسلمين الأكثرية - على غير دراية بفلسفة هذا الدين في إقامة المجتمعات وإنشاء
الحضارات مما يجعل رؤيتهم للحياة كثوب ضم سبعين رقعة مختلفة الأشكال
والألوان.
وبإمكان المسلم من خلال نظرة سريعة في بعض النصوص أن يتعرف وجهة
الشريعة في هذا، وإليك حديث السفينة الذي وضع النقاط على الحروف في هذه
المسألة بصورة مدهشة، فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على
سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من
الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» [رواه البخاري] .
إن هذه السفينة تمثل المجتمع الإسلامي الذي توحدت عقائده وتوحد اتجاه سيره
وتوحدت غاياته والمخاطر والتحديات التي تواجهه، وإن القائم في حدود الله تعالى
هو تلك الفئة الصالحة الملتزمة بشرع الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر،
وإن الواقعين فيها هم أولئك الذين ينتهكون حرمات الله من ترك الواجبات والوقوع
في المحرمات، والحديث يقرر أن ما يتوهمه بعض الناس من خصوصياته ليس
كذلك كما أن الذين احتلوا أسفل السفينة كانوا واهمين قي ظنهم أن لهم الحرية الكاملة
في التصرف في أرض السفينة.
وذلك لأن تصرفهم فيها بخرقها يمس مصالح الذين فوقهم بل مصائرهم.
ولنضرب لما يتوهمه بعض الناس من خصوصياتهم مثلاً من حياتنا المعاشة حيث
وقع في خلد كثير من الناس أن الصلاة عبادة بدنية تعبر عن صلة خاصة بين العبد
وربه، وأن المقصر في أدائها لا يؤذي جاراً ولا ينتهك لمجتمعه حرمة، وبذا تكون
الصلاة من المسائل الخاصة بالمرء، يؤديها كلما حلا له ذلك، ويتركها كلما عنَّ له
ذلك، ومن ثَمَّ فإن مساءلة الناس له عنها يعد ضرباً من الفضول الذي ينفر منه ذوق
الإنسان المعاصر ذي الإحساس المرهف والرسوم الاجتماعية الدقيقة.
ولكن الأمر في نظر الشريعة الغراء ليس كذلك إذ إن فقهاء الأمة مجمعون
على أن الصلاة ليست من خصوصيات الإنسان التي يقف المجتمع المسلم تجاه
تاركها صامتاً غير مبال ولا مؤاخذ، لذلك رأى بعض الفقهاء أن تاركها (كسلاً) مقراً
بفرضيتها يقتل كفراً، وبعضهم قال يقتل حداً، وبعضهم ذهب إلى أنه يسجن إلى
أن يصلي، وهم في هذا يصدرون عن فهم صحيح لطبيعة عمل هذا الدين في
تسيير دفة الحياة الاجتماعية، لأن المعصية حين تشيع في الناس يستوجبون نزول
العقوبة وذهاب الريح، ولا تشيع الفاحشة إلا حين يغض المجتمع الطرف عنها
وطالما أجهض الجهد الإنساني الضخم في إعمار الأرض بسبب التقصير في جانب
العبودية لله تبارك وتعالى وشواهد الماضي والحاضر ناطقة بذلك، وكيف لا والله
تعالى يقول: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ العِقَابِ] [الأنفال / 50] . وكيف لا والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول
مجيباً لمن سأله: أنهلك وفينا الصالحون؟ : «نعم إذا كثر الخبث» [أخرجه
الشيخان] .
نعم إن الأمن حين يضطرب حبله لا يضطرب على الطالحين وحدهم، وإن
الأسعار حين تغلو لتفوق طاقة الناس لا ترتفع بالنسبة للطالحين فقط، وإن العدو
حين يستبيح الحمى لا يستثنى أحداً وهكذا ...
وإذا كان أصحاب الأهواء والشهوات لا يبصرون أكثر من مواقع أقدامهم ولا
يعبأون بحاضر ولا مستقبل فإن على المجتمع أن يتحمل المسؤولية تجاه حاضره
ومستقبله وآخرته.
__________
(1) أخرجه الترمذي وحسنه.(23/48)
ملاحظات على الموسوعة الميسرة
في الأديان والمذاهب المعاصرة
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
إن دراسة المذاهب والفرق سواءً كانت إسلامية أو غير إسلامية، قديماً أو
حديثاً، من الأهمية والخطورة بمكان، خاصةً في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه فرق
الضلال، ونِحَل الابتداع فتعددت السبل، وكثرت المشتبهات، ولعل هذا يؤكد
ضرورة الدراسة الجادة لهذه الفرق والنحل، ورضي الله عن عمر بن الخطاب الذي
كان يقول:
(إنما تنقض عُرى الإسلام عروةً عروةً، إذا نشأ في الإسلام من لا ... يعرف الجاهلية) . وكان حذيفة بن اليمان يقول: (كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن
يدركني) .
ويأتي كتاب (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة) والذي
أصدرته الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض [*] ، يأتي هذا الكتاب كخطوة
إيجابية في مجال البناء العلمي للشخصية الإسلامية الأصيلة، ولعله يسد ثغرة كبيرة
في دراسة الواقع المعاصر، فشكر الله للقائمين على هذه الموسوعة، ونفع الله
بجهودهم.
لقد تضمنت هذه الموسوعة (في طبعتها الأولى سنة 1409) دراسة ثمانية
وخمسين مذهباً، وكانت مرتبة على حسب الحروف الهجائية، وكان المنهج الذي
سارت عليه دراسة كل فرقة أو دين على النحو التالي:
1- التعريف.
2 - التأسيس وأبرز الشخصيات.
3 - الأفكار والمعتقدات.
4 - الجذور الفكرية والعقائدية.
5 - الانتشار ومواقع النفوذ.
6 -- مراجع للتوسع.
وقد لاقت هذه (الموسوعة) - فيما أعلم - رواجاً وانتشاراً في الأوساط
الإسلامية، نظراً للحاجة الملحة لدراسة مثل هذه الموضوعات ولما تضمنته هذه
الموسوعة من مادة علمية جيدة، تم عرضها بأسلوب ميسر وموجز.
ومن باب النصيحة، والاستجابة لطلب القائمين على هذه الموسوعة - كما
ذكروا في مقدمة الموسوعة - أحب أن أبدي بعض الآراء والملاحظات راجياً من
الله أن تنشرح لها صدور أصحاب هذه الموسوعة، وأن يرزق الجميع حسن القصد
واتباع الحق.
أ - ملاحظات عامة:
1 - تضم الموسوعة كما زاخراً من الأديان والفرق الإسلامية وغير
الإسلامية، والمذاهب الفكرية والحركات الإصلاحية.. وقد رتبت حسب حروف المعجم.. والذي يظهر لي أن هذا الترتيب غير كاف.. وأنه لابد من ترتيب آخر حسب حقيقة هذه المذاهب وأفكارها.. فمثلًا يجعل قسم خاص للأديان، وقسم آخر للفرق الإسلامية، وثالث للحركات الإصلاحية.. وهكذا.
2 - جاء في مقدمة الموسوعة (ص 9) أن دراسة هذه المذاهب مبني على
الموضوعية والإنصاف.. لكن الالتزام بالموضوعية لا ينافي النقد والمناقشة التي
تنطلق من باب إيضاح الحق وتصحيح الأخطاء، ومن ثم فلابد من نقد هذه المذاهب
ومناقشتها ولو على سبيل الإيجاز والاختصار، فأرى ضرورة إضافة نقطة هامة في
منهج دراسة هذه المذاهب وهي بعنوان التقويم أو النقد لذلك المذهب [1] .
3-هناك بعض المصطلحات التي لابد من تحديدها وتعريفها لغة واصطلاحاً
مثل كلمة الدين، والمذهب، والملة، والنحلة..
4 - عرفت الموسوعة بالكثير من المذاهب والفرق.. ولكنها لم توضح ابتداء
أصحاب المنهج الإسلامي الأصيل، وهم - بلا شك - أهل السنة والجماعة.. فكان
من المناسب جداً بيان منهج أهل السنة، وذكر خصائصهم وصفاتهم، وتوضيح
منهجهم في التلقي والعقيدة والسلوك وغيرها.. ولاشك أن في هذا تعريفاً بالمنهج
الأصيل ودعوة إليه.. كما أن فيه تحديداً للمنطلق الصحيح في تقويم المذاهب
الأخرى، وأما ما تضمنته الموسوعة من حركات إصلاحية سلفية كدعوة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله، فهي بمثابة التجديد لمذهب أهل السنة.
ولعل أصحاب الموسوعة يتنبهون لهذا، خاصة إذا علمنا أن أول أهداف
الندوة العالمية هو: خدمة الفكر الإسلامي الصحيح على أساس من التوحيد الخالص.
5 - جاء في مقدمة الموسوعة أنها توخت الحركات التي لها وجود واقعي
ملموس في عالم اليوم.. لكن - وكما هو معلوم - أن الأفكار لا تموت، ولكل قوم
وارث، فالمعتزلة مثلاً لم تذكر ضمن الموسوعة.. ومع ذلك فإن فكر المعتزلة لا
يزال قائماً موجوداً [2] ، وكذلك نجد الموسوعة لا تذكر الخوارج باستثناء الإباضية، مع أن فكر الخوارج الغالي لا يزال موجوداً، وما خبر جماعة شكري مصطفى
في مصر عنا ببعيد [3] ، بل إن فكر الجبرية (القائلين بأن الإنسان مجبور على
فعله فلا اختيار له) وكذلك فكر القدرية النفاة (القائلين بأن الإنسان يخلق فعل نفسه)
لا يزال موجوداً وظاهراً [4] ، وأيضاً فمذهب المرجئة له رواج وانتشار، زاد من
امتداده تهاون المسلمين، وضعف تمسكهم بشعائر دينهم، وانتشار التصوف،
ووجود المؤسسات التعليمية التي تقرر مذهب الأشاعرة - وهم مرجئة في باب
الإيمان - وغير ذلك من الأسباب.
والأعجب من هذا كله أن أصحاب الموسوعة لم يتحدثوا عن مذهب الأشاعرة
والماتريدية! ! ولا أظن عارفاً مهماً قلت معرفته وثقافته يجهل وجود وانتشار
المذهب الأشعري والماتريدي، ومن ثم فلا يتصور أن مذاهب الأشاعرة والماتريدية
(قد اندثرت، وعفى عليها الزمن، وتجاوزتها ذاكرة التاريخ) [5] ، فهاهم الأشاعرة والماتريدية بكتبهم وعلمائهم ومفكريهم ومؤسساتهم التعليمية وغيرها قد ملأوا واقعاً كبيراً يراه كل صاحب عينين.
6 - عند ذكر (مراجع للتوسع) .. لاحظت على الموسوعة في دراستها
لكثير من المذاهب والأديان، أنها لا تميز بين المراجع المقررة والمؤيدة لمذهب ما [6] ... وبين المراجع الناقدة لذلك المذهب، وبين المراجع التي تعرض ذلك المذهب
دون نقد أو تأييد، فحبذا لو يراعى هذا الأمر.. كما يلاحظ عدم ذكر مراجع مهمة
ومستوفية، مع أنها مطبوعة ومنتشرة.. وفي نفس الوقت تذكر بعض الجرائد
والمجلات غير المتخصصة ضمن مراجع للتوسع.
7 - أقترح تعديلاً طفيفاً على عنوان الموسوعة وذلك بإضافة (الحركات)
فيكون العنوان كالتالي: (الموسوعة الميسرة في الأديان والحركات ... والمذاهب المعاصرة) .
والداعي لهذا الاقتراح وجود بعض الحركات الإصلاحية في الموسوعة كحركة
الإخوان، والجماعة الإسلامية في الهند والباكستان وهي بلا شك ليست أدياناً جديدة، ولا مذاهب فكرية مستقلة. وأيضاً يمكن إضافة بعض الحركات الأخرى المستقلة
كالجبهة الإسلامية القومية في السودان، وكحركة الاتجاه الإسلامي في تونس فلهذه
الحركات المحلية ما يميزها عن غيرها مما يعطى مبرراً للتعريف بها. ومن
الحركات أيضاً حركة الجهاد، وجماعة أنصار السنة وأهل الحديث.
وهناك بعض المنظمات الهامة كمنظمة التحرير الفلسطينية، وحركة أمل
الشيعية، والجبهة الشعبية الأريترية، والجبهة الشعبية لتحرير السودان.. الخ.
بل يمكن أن يقال: ما المانع من التعريف ببعض الأحزاب المحلية المختلفة،
كالحزب الجمهوري، والحزب الديمقراطي، وحزب الليكود، وحزب العمل،
والحزب الشيوعي المصري والتونسي ... الخ.
فكرة الموسوعة - فيما يشر لي - لا تمنع من التعريف بما ذكرت، لاسيما
مع الوجود الواقعي المؤثر لتلك الحركات أو الأحزاب والمنظمات، ومع الأهمية
القصوى للتعريف بها وبأهدافها.
8 - هناك بعض التداخل والتشابه والترابط بين بعض المذاهب والاتجاهات
كأن يكون هذا المذهب فرعاً عن آخر أو جزءاً منه، فعند ذلك لا داعى للفصل
بينهما، وإليك بيان ذلك:
أ - الإسماعيلية، الحشاشون، الدروز، القرامطة، النصيرية: فكل هذه
المذاهب تدخل تحت الباطنية فمن الأفضل وضعها في مكان واحد تحت عنوان
الباطنية ثم التحدث عن كل واحدة حسب ما هو موجود في الموسوعة، ويدخل
تحت الباطنية ويحتاج إلى كلام مستقل البهرة والآغاخانية ... الخ.
ب - الصوفية، التيجانية: فالتيجانية تدخل تحت مسمى الصوفية فمن
الأفضل وضع الصوفية ثم الكلام عن الطرق الصوفية في مكان واحد كالقادرية
والرفاعية والنقشبندية والتيجانية وغيرها.
ج - التغريب، العلمانية: لا فرق بينهما فالعلمانية أصل نشأتها في الغرب
ومن يحاول نشرها في البلاد الإسلامية يسمى من دعاة التغريب أو العلمانية، فكل
داعية للتغريب هو داعية للعلمانية، والعكس صحيح.
د - النصرانية، التنصير، المارونية: فكل ذلك يمكن أن يدخل تحت مسمى
النصرانية، ثم يشار إلى مذاهب النصرانية كالمارونية والكاثوليك والبروتستانت..
الخ.
والتنصير هو الدعوة إلى النصرانية.
هـ - الماسونية، الروتاري، الليونز: فمن المعلوم أن الروتاري والليونز
من مراكز الدعوة إلى الماسونية فلا داعي للفصل بينهما.
و اليهودية، الصهيونية، يهود الدونمة.
ز - القومية العربية، البعث العربي الاشتراكي.
ب- ملاحظات جزئية:
1 - ص 16 / س 9 - 16 عند ذكر معتقد الإباضية في أسماء الله وصفاته
يلاحظ على الموسوعة أنها عرضت توحيد الإباضية بعبارة توهم الموافقة والتأييد! ! مع أن من المعلوم أن للإباضية تعطيلاً في باب الصفات [7] .
2 - ص 17 / س 12 ذكرت الموسوعة معتقد الإباضية في حكم مرتكب
الكبيرة في الدنيا، ولكنها لم تذكر معتقدهم في الحكم على العاصي في الآخرة..
وهم يعتقدون تخليده في النار [8]- موافقة لبقية الخوارج والوعيدية عموماً - كما
أن الموسوعة ذكرت معتقد أهل السنة في هذه المسألة بشيء من القصور (انظر
الموسوعة ص 17 / س 14، 15) فأهل الكبائر تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء
عذبهم بعدله، وإن شاء غفر لهم برحمته، فليس جميع العصاة يدخلون في النار
تطهيراً كما هو في الموسوعة.
3 - ص 18، عند ذكر الجذور العقائدية والإباضية قالت الموسوعة (الإباضيون يعتمدون على القرآن والسنة) فأقول: هل هم بالفعل يعتمدون على نصوص الوحيين.. وما معنى هذا (الاعتماد) .. فكلٌّ يدعي وصلاً بليلى.. ولا أدري لمَ لمْ تذكر الموسوعة مسند الإباضية (المقدس) أعني مسند الربيع بن حبيب، الذي يعتبرونه أصح كتاب بعد القرآن، كان الأجدر التعريف بهذا المسند (المنحول) وتقويمه.
4 - ص 73 / س 10: جاء في الموسوعة: (تصنف هذه الفرقة
[البريلوية] من حيث الأصل ضمن جماعة السنة الملتزمين بالمذهب الحنفي) ! !
ويبدو أن هذا التصنيف يحتاج إلى إعادة نظر.. فهل يقال عن البريلوية أنهم من
جماعة السنة ولهم من الاعتقادات الباطلة ما قد يخرجهم عن الملة فضلاً عن
السنة؟ [9] .
5 - ص 26 / س 16: تقول الموسوعة عن التيجانيين: (من حيث الأصل
هم مؤمنون بالله سبحانه وتعالى) فأقول: صدق الله حيث يقول: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] [يوسف: 106]
فكيف يقال عن التيجانيين أنهم مؤمنون بالله وبإطلاق مع اعتقادهم بوحدة
الوجود.. ودعوى علم الغيب وتفضيل صلاة الفاتح على كتاب الله؟
6 - ص 136 / س 15: تقول الموسوعة عن حزب التحرير: (لا
تخرج دعوتهم عن أن تكون واحدة من الجماعات الإسلامية التي تحمل فكر أهل
السنة والجماعة) .
لا أدري ما هذا الفكر السلفي الذي يحمله هذا الحزب المتحرر مع شناعة
أخطائهم وعظم انحرافهم [10] ؟ نسأل الله عز وجل الهداية للجميع.
7 - ص 257 / س 11: تقول الموسوعة عن الزيدية بأنها: (تتصف
بالاعتدال والقصد) فأقول: هل يمكن أن توصف الزيدية بالاعتدال والقصد.. وأصول الزيدية هي أصول المعتزلة الخمسة؟ فأين الاعتدال والقصد ممن يعطل الصفات الإلهية، وينفي القدر؟ ويحكم على العاصي من عصاة الموحدين بالتخليد في النار؟
8 - ص 257 / س 18، س 23: بالنسبة لدعوى أن زيد بن علي تتلمذ
على واصل بن عطاء.. هناك من ينفي هذا التتلمذ وينكره [11] ، وأيضاً ذكرت
الموسوعة أن من تأليف زيد بن علي كتاب (المجموع) مع أن هناك قول قوي بعدم
ثبوت نسبة (المجموع) إلى زيد [12] .
9 - ص 259 / س 23: جاء في الموسوعة عن الزيدية بأنهم: (يميلون
إلى الاعتزال.. والجبر والاختيار) فكيف يجتمعان؟ جبر واختيار! مع أن الزيدية
يغلب عليها نفي القدر تأثراً بالمعتزلة، وفي نفس الصفحة / س 23 - 25 في هذه
السطور خلط بين رأي زيد، وبين رأي الزيدية عموماً.. فإن زيداً يقول بأن
العاصي لا يخلد في النار، بينما الزيدية تقول بتخليده كالوعيدية.
10 - ص 274: ذكرتم بعض تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
وأنصار دعوته.. وهناك من تلاميذ الشيخ وأنصار دعوته ممن لهم نتاج علمي
ظاهر، وآثار علمية بارزة ومع ذلك لم يذكروا مثل الشيخ حمد بن معمر، وعبد الله
أبي بطين، وسليمان بن سحمان، ونحوهم، ومن أنصار دعوته خارج الجزيرة:
محمد بشير السهسواني، ومحمود الآلوسي، ومحمد رشيد رضا، وغيرهم.
11 - ص 278 عند الحديث عن انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. وأرى أن الموسوعة يمكن أن تعطي أكثر تفصيلاً عن آثار هذه الدعوة دون
سطور مقتضبة.. ولعلها تعيد النظر في ذلك فتوضح آثار هذه الدعوة السلفية علماً
وعملاً في واقع الأمة الإسلامية، وقد ذكرتم أن هذه الدعوة السلفية أثرت على
المهدية والسنوسية والأفغاني (!) ومحمد عبده، فهل على ما ذكرتم دليل وبينة؟
12 - ص 299، جاء في الموسوعة عند تعريف الشيعة الاثنى عشرية (هم
تلك الفرقة من المسلمين الذين تمسكوا بحق على في وراثة الخلافة) .
هذا كلام مجمل وفيه غموض، وتشم منه رائحة المداراة، كان ينبغي أن
تذكر أصول عقيدة هؤلاء التي من أنكر واحداً منها اعتبر كافراً، وكذلك رأيهم في
مخالفيهم الرئيسيين: أهل السنة، ورأيهم كذلك في القرآن، والصحابة. وتعريف
الشيعة الإخبارية والأصولية والفرق بينهما.
13 - ص 352 / السطر الأخير وما قبله: حيث تقول الموسوعة: (لقد
عملت الطرق الصوفية على نشر الإسلام في كثير من الأماكن) ثم تقول الموسوعة:
(لقد اعتمد الحكام على أقطاب الصوفية في التعبئة الروحية للجهاد ولصد غارات ...
الكفار، ومن هؤلاء الأقطاب أحمد البدوي) .
وأقول: إن التصوف أعظم معول هدم وتخدير ينخر في جسد الأمة الإسلامية.. بل ربما كانت سبيلاً للصد عن سبيل الله.. وأيضاً متى كانت الصوفية (تعبئة
روحية للجهاد) ؟ لقد كان منهم من يخذل من شأن الجهاد ويكتفي بجهاده الأكبر كما
يزعمون (جهاد النفس) ، ومن ثم فإن الاستعمار الأجنبي كان يشجع الطرق الصوفية
ويبرزها [13] .
ومن المحزن أن يذكر البدوي، فيوصف بأنه (قطب) محرك للجهاد، ولصد
غارات الكفار.. إن أحمد البدوي داعية استغل التصوف ستاراً لإرجاع الحكم
الرافضي الذي انقرض بزوال الدولة العبيدية في مصر على يد صلاح الدين
الأيوبي، ولكن فشل في ذلك ولله الحمد، بل يذكر عن أنه كان لا يشهد الصلوات
الخمس! ! [14] .
ولعل الموسوعة تعيد النظر في دراسة الصوفية.. فتذكر مراحل تطور
التصوف من تشدد ورهبنة إلى رموز وغموض وابتداع ثم إلى كفر واتحاد وزندقة.. ومن الواجب ذكر أخطائهم وسوءاتهم وما أكثرها.
وفي ختام هذا المقال أحب أن أذكر بأن الموسوعة تحتاج إلى مزيد دراسة
وتقويم. وكفي المرء نبلاً أن تعد معايبه، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أفردت الموسوعة بعض المآخذ والانتقادات على جماعة التبليغ (ص 119) ، وحزب التحرير (ص 138) والحركة المهدية (ص 470) ، فالمطلوب الاستمرار في النقد والتقويم مع البقية، فبالنقد الصادق المؤدب يتم تصحيح المسار، والاستفادة من الأخطاء.
(2) انظر مثلاً كتاب: (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) للدكتور فهد الرومي، وكتاب (المعتزلة بين القديم والحديث) لمحمد العبدة وطارق عبد الحليم، وكتاب (العصريون معتزلة اليوم) ليوسف كمال.
(3) انظر كتاب (الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو) لمحمد سرور بن نايف زين العابدين.
(4) انظر كتاب (حرية الإنسان في الفكر الإسلامي) ، د فاروق الدسوقي.
(5) (الموسوعة الميسرة) / 9.
(6) - بعض الفرق والمذاهب في الموسوعة فقره عن أهم كتبهم وهم الدروز (ص 226) ، الطاوية (ص 0 36) ، المورمون (ص 78 4) ، النصرانية (ص 501) ، الهندوسية (ص 532) ، اليهودية (ص 569) وهذه فقرة مفيدة جداً فيا حبذا لو استمر هذا المنهج مع بقية الفرق التي لها كتب معتمدة.
(7) انظر مثلاً نفيهم لرؤية الله في اليوم الآخر من أحد كتبهم: (أصدق المناهج في تمييز إباضية من الخوارج) ، لسالم بن حمود الإباضي، ص 27.
(8) انظر الكتاب السابق: (أصدق المناهج) ، ص 27، ? ص 34، 35.
(9) انظر معتقداتهم في (الموسوعة الميسرة) ، ص 70 - 73.
(10) انظر بعض هذه المآخذ كما ذكرت في (الموسوعة الميسرة) ، ص 138 - 140.
(11) انظر كتاب (الإمام زيد بن علي المفترى عليه) لشريف الخطيب.
(12) انظر كتاب (الإمام زيد بن علي المفترى عليه) لشريف الخطيب.
(13) انظر كتاب (أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة) للدكتور علي ابن نفيع العلياني، وكناب: (رسالة الشرك ومظاهره) ، لمبارك الميلي.
(14) انظر كناب (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة) ، د أحمد صبحي منصور.(23/55)
مقابلة مع الشيخ: علي بلحاج
عضو الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر
منذ أحداث أكتوبر عام 1988 والجزائر تسير باتجاه تغيير البيئة السياسية
الداخلية، فقد سمحت الدولة بما يسمى (التعددية الحزبية) وكان من نتائج ذلك أن
ظهرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي أعلنت أهدافها ومبادئها في بياناتها التي
نشرت في الصحف [1] ، والتي تتلخص في السعي لإعادة الحياة الإسلامية لبلد
عربي أصيل قاوم فرنسا مقاومة باسلة خلال عشرات السنين، ويرأس هذه الجبهة
الأستاذ عباس مدني، ومن مؤسسيها البارزين الشيخ علي بلحاج والشيخ ابن عزوز. ... وقد اعترفت الدولة الجزائرية مؤخراً بالجبهة كحزب سياسي له حق العمل ضمن
أهدافه ومبادئه.
وحرصاً من (البيان) على معرفة أوضاع المسلمين في كل مكان من أنحاء
العالم الإسلامي، وخاصة في بلد مثل الجزائر، وحرصاً على معرفة الحقائق من
أصحابها فقد رأينا أن نحاور الشيخ علي بلحاج أحد مسؤولي هذه الجبهة.
وقد كان بودنا أن نلتقي برئيس الجبهة الأستاذ عباس مدني أثناء زيارته لندن
ولكنا لم نتمكن من ذلك، وعسى أن تتاح لنا الفرصة للقائه في المستقبل القريب إن
شاء الله.
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أنه بعد هذا اللقاء مع الشيخ علي بلحاج أصدرت
الجبهة صحيفتها الأسبوعية (المنقذ) وقد نشرت فيها بيانها الرئيسي، نسأل الله أن
يوفق العاملين في الجبهة لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
س1 - نرحب بالشيخ علي، ونريد منك في البداية أن تحدثنا عن العلماء
والدعاة الذين تأثرت بهم في الجزائر.
ج 1 - من العلماء والدعاة الذين تأثرت بهم الشيخ عبد اللطيف السلطاني،
والشيخ سحنون، كما أنني درست على يد الشيخ العرباوي رحمه الله، وهو الذي
كان عنده حلقات علمية ودرسنا عليه: التوحيد وأصول الفقه، والفقه المقارن،
وهو الذين ترك أثره في نفوسنا، فكان يعلم ويربي في نفس الوقت، وكان يواسينا
إذا نزلت بنا بعض المشاكل، وكان يحدب علي شخصياً، وله مواقف شجاعة في
نقد المجتمع.
س 2 - ومطالعاتك الشخصية هل تذكر لنا الكتب التي تكثر من قراءتها؟
ج 2 - من الكتب التي شغفت بها كثيراً، كتب السلف رضي الله عنهم،
وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، تعلمت منهما الاستقلال في
الاستدلال، ونبذ التعصب المذهبي وتصفية العقيدة الإسلامية من العقائد الفاسدة.
وهناك كتب فكرية كثيرة، لأننى في الحقيقة كما أدرس لابن تيمية، أدرس لغيره
وخاصة من المعاصرين كالشيخ حسن البنا وسيد قطب، كما أقرأ ما يكتب عن
الحركات الإسلامية في العالم، وبالطبع نأخذ الحق ونترك ماعداه إذا قام الدليل على
ذلك، فلست محصوراً في زاوية واحدة لا أتجاوزها.
س 3 - كان من الواضح لكل من عايش البعث الإسلامي في الجزائر، ومن
خلال ظهور الثورة الإيرانية ومحاولتها لتصدير أفكارها، أنك كنت من القلائل
الذين تصدوا لتأثيرها وفكرها، فهلاّ حدثتنا عن شيء من هذا، ودورك في ذلك؟
ج 3 - إن أفكار وعقائد الشيعة، كنا قد درسناها في الكتب، مثل منهاج
السنة وغيره، وقد تركت مثل هذه الدراسة أثراً في نفوسنا وفي أذهاننا وقد تحركوا
في الجزائر فعلاً والتف الشباب حول السفارة الإيرانية، فرأينا في ذلك خطراً على
الدعوة الإسلامية وأنه من واجبنا أن ننبه لهذه الأخطار والمفاسد التي تمس الجانب
العقدي، ولذلك رددنا على الشيعة ونقدنا الخميني من خلال كتبه وتصريحاته، رغم
ما وجدنا من مضايقات ممن كانوا متأثرين في ذلك الوقت بالشيعة.
س 4 - هل تذكرون لنا نماذج من تلك المضايقات؟
ج 4 - بدأت المضايقات من بعض الدعاة الذين أحسنوا الظن بإيران، وكانوا
يرون أنه ليس من الحكمة في شيء أن نتعرض لعقائد الشيعة، والدولة الإيرانية في
طور التكوين، بل ينبغي علينا أن نسكت رغم قناعتنا بأنها عقائد فاسدة، حتى لا
نمكن للاستعمار العالمي.
بهذه الحجج وأمثالها حدثت لنا مضايقات واتُهِمْنا بأننا لسنا من أهل الحكمة،
وأننا من أهل التسرع والتهور ولكن الذي كنا ندين الله به أن العقيدة لا يمكن
التسامح فيها، قد نتسامح في بعض الأخطاء الفرعية، أمّا أن تكون مصيبة
المسلمين في عقائدهم فهذا من الشيء الذي لا يمكن السكوت عنه، وقد ظن بعضهم
وصرح لي بذلك أن الخلاف بيننا وبينهم في الفروع مثل الخلاف بين الأئمة الأربعة!!.
س 5- هل للشيعة نشاط الآن في الجزائر؟
ج 5 - النشاط موجود، ولكن ليس هناك واحد منهم يصرح أنه شيعي،
هناك أناس ذهبوا ودرسوا في (قم) هناك بعض المساجد تباع فيها أشرطة الشيعة،
ويقولون: نحن نقرب بين المذاهب؟ ! .
على كل حال، هناك فرق أخرى تنشط أيضاً في الجزائر، هناك الطرق
الصوفية، ولكننا نحن نعمل بقدر المستطاع لتبيان منهج أهل السنة والجماعة.
س 6 - وموقف الإسلاميين ... هل ترى أن ذلك الموقف كاف؟
ج 6 - أما عن موقف الإسلاميين فالتقصير موجود، لأنه إذا بقى في مثل
هذه المسائل داعية أو اثنان أو ثلاثة، وكبار الدعاة وأصحاب الكلمة ساكتون عن
هذا، فأظن أن هذا الموقف فيه تقصير كبير، وينبغي لكل الدعاة، وكل من يزعم
أنه على مذهب أهل السنة والجماعة أن لا يسكتوا عن الباطل، ولا يقولون: (سكوتنا سياسي فقط، نتعاطف معهم سياسياً لا عقائدياً) .
س 7 - ما هو تعليقك على هذه العبارة الأخيرة؟
ج 7 - هذه العبارة لا أصل لها من الصحة بالطبع، لأن الحق أحق أن يقال
وأن يتبع.
س 8 - ننتقل إلى موضوع آخر ... هل من الممكن أن تحدثنا عن الجبهة
الإسلامية للإنقاذ، وانضمامك إليها باختصار؟
ج 8 - الجبهة الإسلامية للإنقاذ، هي جماعة من جماعات المسلمين،
والجبهة ما هي إلا وسيلة فقط وليست غاية، ونحن لا ندعو إلى تحزيب الإسلام،
وإنما رأينا فيها مجالاً للعمل للإسلام، والعمل ليس كما يظن عمل سياسي بحت،
بل عملها في ميادين كثيرة، تعمل في ميدان التربية، وتعمل في ميدان التوعية
للشعب، وتعمل في ميدان السياسة، وبكلمة أخرى: لا يمكن أن نغض الطرف عن
جانب من جوانب الإسلام، ونحن انضممنا إليها لأننا رأينا فيها فرصة نستطيع من
خلالها أن نقدم للإسلام خدمات في جو من الراحة.
س 9 - وهل من الممكن أيضاً أن تحدثنا عن رابطة الدعوة الإسلامية والفرق
بينها وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟
ج 9 - الجبهة الإسلامية للإنقاذ لها منحى تعمل فيه، منحى واضح وموجود
في مشروعها، أما الرابطة فهي تهتم بأمور الدعوة أكثر مما تهتم بالعمل السياسي،
فهي ترى أن تكون فوق العمل السياسي. ونحن والحمد لله مع أننا أعضاء في
الجبهة الإسلامية فنحن أيضا من الأعضاء المؤسسين لرابطة الدعوة الإسلامية.
س 10 - وهل الرابطة أيضاً تتبنى منهج أهل السنة والجماعة، أم أنهم
يقبلون في صفوفهم من لا يسير على هذا الطريق؟
ج 10 - على كل حال، نحن نحاول فيما نعرض في جلساتنا دائماً أن يكون
المنهج السائد هو منهج أهل السنة والجماعة، هذا ما أستطيع الإجابة عنه الآن.
س 11 - هل لك كلمة أخيرة تريد أن تقولها، نصيحة للمسلمين أو تعليقاً
على الوضع في الجزائر؟ أو أي كلمة أخرى؟
ج -11 - أنصح نفسي الخاطئة وإخواني المسلمين، أن طريق النجاة إنما
يتمثل في الاستمساك بكتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي
فهم السلف الصالح، وأي طريق نسلكه لاستئناف حياة إسلامية بعيدة عن كتاب الله
وسنة رسوله سيؤدي إلى طريق مسدود، وقد أثبتت التجارب ذلك.
وأنصح المسلمين أيضاً أن لا يتحزبوا، ولو كانوا وسط أحزاب، فيجعلوا تلك
الأحزاب وسائل لا غايات، وأن يبتعدوا عن التعصب المذهبي، كما يبتعدوا عن
التعصب الحركي وأن يجعلوا الحق فوق الأشخاص لا العكس.
وأشكركم على إتاحة هذه الفرصة، لأقول كلمة جاشت في نفسي إبراء للذمة،
ونحن نقبل النصح من أي جهة، بشرط أن يكون مدعوماً بدليل من كتاب الله وسنة
النبي صلى الله عليه وسلم.
المجلة: ونحن نشكر الأخ الشيخ علي بلحاج على هذه الفرصة الطيبة وندعو
الله سبحانه وتعالى أن يوفقه والعاملين في الجبهة الإسلامية وكل الدعاة الصادقين في
الجزائر لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
__________
(1) سننشر فقرات من بيان الجبهة في قسم شؤون العالم الإسلامي، من هذه المجلة.(23/66)
أغير الله أتخذ ولياً
(2)
محمد صالح المنجد
في هذا المقال يتابع الكاتب تعداد مقومات الولاء والبراء.
8 - تحمل الأذى في سبيل تحقيق ولاية الله:
وقد جرت سنة الله بامتحان المؤمنين [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ] . ولابد أن يلاقي المؤمن في سبيل تحقيق
ولاية الله أنواعاً من الأذى المادي والمعنوي - خصوصاً في هذا العصر - وانظر
ماذا جمعت هذه الآية [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً؛ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الأُمُورِ] .
وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم- يعبر لنا عما لقي في هذا السبيل: «لقد
أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي
ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط
بلال» [عن أنس، صحيح الجامع] .
قال ابن القيم في (المدارج) : (فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في
دينه وفقهاً في سنة رسوله وفهماً في كتابه، أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن
نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس
عنه وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله
عليه وسلم) .
9 - الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام:
وهذه الخطوة ضرورية حماية لدين المسلم واستفادة من طاقاته في المجتمع
الإسلامي وحرمان الكفار من ذلك مع ما في ذلك من الأذى النفسي والتغرب عن
الأوطان وفراق الأهل والعشيرة.
وفي صحيح مسلم: «عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان
لي، أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال: بضعاً، وإما
قال: ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي، قال: فركبنا سفينة،
فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا هاهنا،
وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، قال: فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعاً، قال: فوافقنا
جميعاً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال:
أعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إلا لمن شهد معه إلا
لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معنا، قال: فكان ناس من الناس
يقولون لنا - يعنى لأهل السفينة - نحن سبقناكم إلى بالهجرة، قال: فدخلت أسماء
بنت عميس وهي ممن قدم معنا، على حفصة زوج النبي في زائرة، وقد كانت
هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر رضي الله عنه على حفصة
وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بن عميس،
قال عمر رضي الله عنه: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم. فقال
عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم،
فغضبت وقالت كلمة: كذبت يا عمر، كلا والله، كنتم مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض العداء والبغضاء
في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم
طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن
كنا نؤذى ونخاف، سأذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسأله، ووالله
لا اكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-
قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان)
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألوننى عن هذا
الحديث. ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه
ليستعيد هذا الحديث مني» .
هذا الحديث العظيم في الجانب الإيجابي وفي الجانب السلبي نجد في الحديث
الصحيح: «ولكن البائس سعد بن خولة» يرثي له رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أن مات بمكة نقرأ الحديث ونحن نتوجع ونتألم عندما نرى آلاف الطاقات
الإسلامية تعمل في تقوية أنظمة الكفار وأجهزتهم ونتساءل أين تسخير الطاقات
والمواهب لخدمة هذا الدين.
أليس الولاء لله يمنع من تقوية الكفار ومناصرتهم والإقامة بين أظهرهم.
10- رفض موالاة الكفار أو التحالف معهم:
لا يجتمع حب الله وحب أعداء الله في قلب مسلم أبداً، وما حلاّ في قلب إلا
تدافعا حتى يخرج أحدهم صاحبه:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكان
وتحقيق الولاية يقتضي بغض الكفار وعدم توليهم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً
مُّبِيناً] .
وتتضح خطورة هذا الأمر في قوله تعالى: [وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] .
قال العلامة صديق حسن خان في كتابه العبرة مما جاء في الغزوة والشهادة والهجرة، ص 243:
(وأما القوم الذين في بلاد المسلمين ويدعون أنهم من رعية النصارى
ويرضون بذلك ويفرحون به وأنهم يتخذون لسفنهم بيارق وهي التي تسمى الرايات
مثل رايات النصارى إعلاماً منهم بأنهم من رعاياهم فهؤلاء قوم أشربوا حب
النصارى في قلوبهم ... وقصروا نظرهم على عمارة الدنيا وجمعها ... وأن
النصارى أقوم لحفظها ورعايتها. فإن كان القوم المذكورون جهالاً يعتقدون رفعة
دين الإسلام وعلوه على جميع الأديان وأن أحكامه أقوم الأحكام وليس في قلوبهم مع
ذلك تعظيم للكفر وأربابه (ما أصعب هذه الشروط!) فهم باقون على أحكام الإسلام
لكنهم فساق مرتكبون لخطب كبير يجب تعزيرهم عليه وتأديبهم وتنكيلهم، وإن
كانوا علماء بأحكام الإسلام، ومع ذلك صدر منهم ما ذكر فيستتابوا فإن رجعوا عن
ذلك وتابوا إلى الله، وإلا فهم مارقون ... فإن اعتقدوا تعظيم الكفر ارتدوا وجرى
عليهم أحكام المرتد) اهـ.
وانظر للتقريع في هذه الآية: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً. الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً] .
إن هذه المواقف القلبية لبعض المسلمين تجاه الكفار تناقض ولاية الله.
إلى هؤلاء نسوق هذا النص لفقهائنا: في (الروضة النواوية) في باب الردة:
ولو قال معلم الصبيان أن اليهود خير من المسلمين بكثير لأنهم يقضون حقوق
معلمي صبيانهم كَفَرَ. انتهي.
إذن لابد من بغض الكفار وعداوتهم ولكي تتحقق ولاية الله لا بد من:
11 - مفاصلة الكفار واتخاذ المواقف منهم:
إذا كانت ولاية المؤمن تقتضي موالاة أحبابه ومعاداة أعدائه فعليه لا تجوز
موادة الكافر ولو كان أخاً شقيقاً ونحب أخا الإسلام ولو كان حبشياً أو رومياً أو
فارسياً أو قوقازياً..
وفقه الصحابة لمسألة المفاصلة عظيم فهماً وتطبيقاً. قال ابن حجر رحمه الله
في ترجمة عامر بن عبد الله الجراح، وهو أبو عبيدة في (الإصابة) : (نزلت فيه
[لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] الآية، وهو فيما أخرج الطبراني بسند
جيد عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر
فيحيد عنه، فلما أكثر، قصده فقتله فنزلت) ، وألفاظ القصة تغني عن التعليق عليها.
ولم تقتصر المفاصلة واتخاذ المواقف من الكفار على مسألة القتال فقط، ففي
حديث إسلام ثمامة سيد اليمامة في (صحيح البخاري) : «ثم دخل المسجد فقال
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على
الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما
كان من دين أبغض علي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من
بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، (ثم ذهب ليعتمر في مكة
فقال لكفار قريش) : لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي
صلى الله عليه وسلم» .
الله أكبر، كم في هذا الموقف من عجب.. رجل يسلم لتوه فيفهم أن ولايته لله
تفرض عليه أن يفاصل الكفار ويعبر عن عدائهم وهو بين أظهرهم ويصارحهم
بموقفه منهم في وجوههم.
اللهم مِنّ علينا بولايتك وتولنا برحمتك وارزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك،
والحمد لله أولاً وآخراً.(23/71)
أدب وتاريخ (قصة قصيرة)
المخادع
خولة درويش
ما رأيت مثل (عائدة) اعتزازاً بزوجها، وزهواً بآرائه وتصرفاته، والتي
تعتبرها (كياسة ولباقة) .
إنني كلما أكبرت فيها إعجابها بزوجها، وتقديرها له، رحت أتساءل: - (أهي محقة في ذلك؟ !) .
وأتاح تقاربنا في السن، أن أتعرف على مكنونات نفسها خلال ما تفضيه إلي
من آمالها ومسراتها، فضلاً عن علاقة الجوار والزمالة.
وكثيراً ما حدثتني بسعادة وانشراح عن مغامرات زوجها الطبيب (بديع)
ومقالبه الناجحة، التي كانت أشبه بصفقات تجارية من حيث نتائجها المادية
وأرباحها الخيالية.
وإن أنس لا أنسى يوم كانت ضحكاتها العالية، وقهقهاتها الرنانة تملأ أرجاء
البيت وهي تحدثنا عن آخر (شطاراته) بقولها:
- (في صباح الأحد الماضي كان الضباب يخيم على كل شيء، على الجبال
والشعاب والشجيرات المتناثرة التي حال الظلم دون الاستمتاع برؤيتها.
كان الدكتور (بديع) يقود سيارته مسرعاً إلى مقر عمله في الضاحية المجاورة. ... وأثناء الانحدار إلى سفح الجبل، ومع السرعة الكبيرة، ارتطمت سيارته ارتطاماً
عنيفاً بسيارة العامل المسكين التي كانت أمامه، والتي رغم وضاعتها كان يصحب
عائلته فيها ... (قالت ذلك بتقزز وامتعاض) أحس (بديع) على أثرها بدوار شديد
... أنسته إياه المواقف المتلاحقة. فهاهو قد نقل مع سائق السيارة المصابة إلى
المستشفي، وكان ذلك المسكين جسداً لا حراك فيه. أما طفلاه اللذان كانا في المقعد
الخلفي فقد أُخِذا إلى غرفة العمليات لعلاج كسور مختلفة في جسميهما فضلاً عن
جروحهما التي كانت تنزف بشدة..
وتتفاخر (عائدة) - سامحها الله - وتقول ضاحكة:
- لكن بديع بديع! ليس كغيره. تحامل على نفسه، ثم تناسى آلامه ومتاعبه، وهبّ واقفاً يمسك بيد السائق المسجى، ثم يصب في أذنيه كلمات يعلنها بكل ثقة
وصلابة:
- (أنا طبيب وأعرف أنك لا تشكو من شيء؟ قم فوالله إن لم تفتح عينيك
حالاً، لأخذت حقي منك، ولدفعت الثمن غالياً. فأغرمك أجور عيادتي بسبب
حادثك المفتعل ... ! ! فأنت المعتدي، ثم يردف مردداً مقولته التي يدأب على
إعلانها:
- (والشرع يرضي الجميع ... ! !) .
وأردفت تقول بفرح واعتزاز:
- تصوروا بعد لحظات، ومجرد أن أفاق المسكين، وفتح عينيه المذعورتين
بعدما سمع التهديد، أشار إلى الشرطة.
- (دعوه يسامحني، فأنا غير مصاب ... ! !) ثم تتابع (عائدة) :
وركب (بديع) سيارته وذهب سعيداً إلى عمله، وكأن شيئا لم يكن ...
استمعت إلى قصة (عائدة) وأنا في ذهول، وصرت أحدث نفسي:
- (حقا لقد كان الضباب يغلف كل شيء، حتى القلوب البشرية؟ ! حتى قلوب الأطباء الذين تحتم عليهم رسالتهم تضميد جراح الآخرين ومسح آلاماهم؟ !
وتوالت الخواطر والتساؤلات:
- أهذا أمر يدعو إلى الزهو؟ ! أين التدين الذي كانت تنشده (عائدة) في
زوجها؟ ! بل أين الكياسة؟ !
لقد تزوجت منه وهي تعتبره (لقطة) فريدة في عصرها، مركز مرموق.
وثقافة عالية، فضلاً عن يسر حال أهله، أما هو فإن لم يكن كثير المال، لكن ثراء
(عائدة) يمكنها من الاحتفاظ بمستواها المعيشي الراقي، ثم إنه فوق ذلك: (متدين
عصري) كما كانت تقول.
وعندما كان والدها الشيخ (عادل) رحمه الله يقول لها مبيناً رأيه: ...
- إنني لا يعجبني هذا الصنف من الناس. إذ كثيراً ما يكتنفه الكذب
والغموض. وحيث كان الكذب والمراوغة كان الزيغ أو النفاق ...
لكن (عائدة) ساهمت مع إخوتها بإقناعه أن (بديعاً) مسلم مثقف ودبلوماسي
لبق، يحسن التصرف وتدبير الأمور و ... إنه يحرص على أن يتصدر الصفوف
الأولى في المحافل الدينية، ويجيد المناظرة ولو كان قرنه من كبار العلماء. وهذا
ما اكتسبه من طول مرافقتهم.
وتم الزواج السعيد، وهو دؤوبة على ذكر أخباره وأسفاره.
كم كانت فرحة، وهي تحدثنا عن قصة الفلاح الطيب وهو يلبس ثيابه
البسيطة، ويضرب باب العيادة بعصاه ويقول؛ وتحاول عائدة أن تقلده بصوت
مرتفع أجش:
- (السلام عليكم يا دكتور ... أدخل؟ !)
ثم يدخل ويشكو ألماً في بطنه لا يحتاج إلى أكثر من مسكن، فربما كان ألمه
بسبب برد عارض في تلك الأيام.
ولكن الطبيب (بديع) بديع! !
هول الأمر وضخمه وأمر (المسكين) أن يمض يومه في العيادة في غرفة
مجاورة لغرفة الطبيب، وذلك لمراقبته خوفاً من نتائج خطيرة قد تعود على صحته
إذا أهمل نفسه ويحاسب الله عليها الطبيب ... !
ويتكرر ذلك لمدة أسبوع للاحتياط، فالحذر طيب، ومراقبة الله واجبة! !
يوماً يجري (بديع) بعض الفحوصات للمسكين، ويوماً تعمل له بعض
التحاليل وآخر يعطى المسكنات مع تدليك لبطنه! ثم تتابع (عائدة) : ...
- وبعد الأسبوع المشهود، كانت فرحة الفلاح لا توصف عندما أخبره (بديع) أنه تماثل للشفاء، وتعلق بمزيد من المرح:
- أما نحن فقد فاض عن حاجتنا آنذاك البيض الطازج، والدجاج البلدي،
وهدايا الجبن والزبد التي يأتي بها للطبيب الماهر، فهو سيساعده في شفائه من
الأمراض الخبيثة....
وتضيف قائلة على لسان زوجها: (الحياة شطارة والسعي على العيال فيه
الأجر والثواب) ويسوء ذلك الموقف الحاضرات، فتستنكر إحداهن بقولها: - (وهل يثاب المرء على مثل هذا الكسب، وقد خالطه الخداع؟ ! وتساندها أخرى: - ألم يعلمنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن يطبع على الخلال
كلها إلا الكذب والخداع؟ !
ولكن (عائدة) لم تلق بالاً لكل ما يقال:
وحتى السيدة والدته لم تسلم من مقالبه ...
كانت عائدة تتمنى أن تسافر إلى أوربا حيث لم يتح لها السفر لقضاء شهر
العسل، وهي تريده سفراً على نفقة (بديع) وأنى له ذلك بإمكانياته المادية المحدودة؟! وتسر لي (عائدة) أن (بديعاً) قد عمل لوالدته فصلاً مسرحياً خفيف الدم، فقد
تودد لها واستعطفها، وزين لها أنه يريد الذهاب إلى أوربا ليكمل دراسته وهي
فرصة العمر ... ويعود بعدها ليصبح من أحسن أطباء البلد لاختصاصه النادر الذي
سيحصل عليه. ويقول لها وهو يشبع يديها لثماً وتقبيلاً:
- لا تحرمينى من تحسين مستقبلي. ثم يرجوها قائلاً:
- سأكون ابنك البار الذي يدخله رضاك الجنة إن شاء الله..! وتتابع عائدة:
وكانت دراسته من روائع ما يتصوره الدارسون ... في ملاهي باريس
وشواطئ إيطاليا ... وكنت رفيقته على نفقة الحاجة والدته رحمها الله ...
أسأل الله الهدى لعائدة: إني كلما ذكّرتها بعدم الحرص على المتع الفانية،
كانت تسخر مني وتقول:
- نحن نرضي الله، ولا نهمل العبادة، ونعيش دنيانا كما نحب.
وعندما سألتها مشفقة عليها:
- وهل يرضيك الاختلاط على الشواطىء، وهو محرم في ديننا؟ !
ردت بانفعال:
- سامحك الله، وهل تظين أنني أسكت على مثل هذا؟
والله لقد ذكرته مرة حين كان يتحدث عن جمال الحسناوات على الشاطىء
بحديث قدسي للرسول صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس
من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» .
فابتسم وهو يقول:
- إنها غيرة النساء، ثم إني لا أعيرهن أكثر من نظرة أخوية بريئة! ! .
.... وتمر السنون القليلة، وأزور بيت أخيها الكبير لأجد (عائدة) وقد
اختفى مرحها، وظللتها الكآبة والأسى، وأضحت ساهمة الوجه، مقطبة الجبين
تحكي دموعها شقاء حاضرها، وبؤس مستقبلها القاتم، وعلمت من حديث هامس
في الغرفة المجاورة، أنها تعيش أزمة عائلية مع زوجها! !
في الحقيقة، كنا جميعاً في ذهول أمام هذه النتيجة المؤسفة، وتتنهد أختها
الصغرى وهي تقول: هكذا الرجال.. لا عهد لهم!
وتؤمّن امرأة أخيها على تولها - سواء مجاملة أم حقيقة -:
- صدقت، ما رأيت زواجاً سعيداً مثل زواجهما، وهذه نتائجه! .
وتدعو لها بإشفاق: كان الله في عونك يا ست عائدة.
وأتحسس أسباب النكد المفاجئ فأجد أن زوجها قد أخذ منها وكالة ليشرف على
تدبير أموالها وليحفظها لها. وليجنبها الاختلاط بالرجال الذي يحرمه ديننا ... ثم
فوجئت أنه قد باع قطعة أرض من أملاكها دون أن يستشيرها، ولما سألته عن
السبب، أشعرها أنه التجاري اليقظ الحريص على مال زوجته. فالأراضي إلى
كساد، وعليه أن يغتنم الفرصة ولا يفوتها، وإضاعة المال حرام ... ! !
ثم يطمئنها بقوله:
- على كل حال، الأموال موجودة، وإن شئت نسخنا البيع. واسترضاها
بذلك. وبعد مدة وجيزة، اشترى لنفسه (فيلا) جميلة في الشارع المجاور.
ولما ساءلته عن مالها ثمن الأرض. صار يراوغ ويخادع، ويمنيها أن (الفيلا) لها، وإن شاءت سجلها باسمها. أليس هو وإياها كنفس واحدة؟ !
واستفحل الأمر، وتحول إلى مشادة عنيفة عندما بدأت تجابهه بواقعه:
- إنني لو كنت أقدر الأمور، لعرفت النتيجة يوم سفرنا لأوربا، إن من
يكذب على أمه حري به أن يكذب على زوجته والناس أجمعين، ومن يستبيح لنفسه
الكذب فقد زجها في النفاق ...
تقول ذلك وهي توطن نفسها على تحمل ثورة (بديع) فقد يشتمها أو يلطمها
أو ... وتتلمس رأسها بكلتا يديها وهي تنظر إليه بتوجس.
لكنه يقابلها ببرود، ويقول بخبث وملق، وهو يرسم على وجهه ابتسامة باهتة:
- بيدك حق، وكل ما تقولينه جميل ولطيف. والحب الذي بيننا لن تمحوه
هذه الكلمات..
ثم تكشف له النقاب عن سوء طويته بردّها المقتضب اللاذع:
- إنك لا تحب إلا نفسك، إلا المادة والشهوات. إن الذي لا يحب دينه ولا
يصدق مع ربه، لا يمكن أن يصدق مع أحد.
وهنا لا يملك وقد ضاق صدره بالمأزق المهين. إلا أن ينكمش مخذولاً
ويتوارى منهزماً، وقد عذبه الله بالحرص والجشع والخداع، ويتمتم بكلمات مبهمة
تفضح غيظه الدفين.
وتأتي بعدها (عائدة) إلى بيت أخيها. وآخر عهدها بزوجها أن تدافعا عند
الباب وهو يصر على منعها من الخروج، ويسعى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وتركته يستعطفها بصرخات متشنجة:
- يا عائدة لا تفضحيني، أولست زوجك ولي حق عليك، لا تخرجي وكل ما
تريدينه يأتيك رغباً وطوع أمرك ... يا عائدة! !
ولكنها لا تأبه لما يقول وتخرج تشيعها توسلاته ورجاؤه، وهو يبكي على ثقة
الناس به تلك التي عالق حياته يبنيها بخداعه.
... وهاهي (عائدة) وقد أسقط في يدها، تتحسر وتتأوه، وهواجسها الدفينة
تأبى إلا أن ينطلق بها لسانها.
- آه لو كنت عاقلة حقاً لما اقتنعت أن هناك (متديناً عصرياً) كما توهمت
طوال حياتي معه.
وبقلب يتحرق أسى، ونفس استيقظت بعد غفلة، تتابع بين آهاتها وشهقاتها:
- رحمك الله يا والدي وطيب ثراك كم كان نظرك بعيداً. ورأيك سديداً وأنت
تقول:
- المؤمن واضح، لا مواربة في سلوكه ولا غموض، آلف مألوف قريب
من النفوس السوية، بعيد عن الخداع والأنانية. يتصرف بميزان الإسلام وأخلاقياته.(23/77)
ذات الخمار
أبو عاصم الحكمي
بُلِّغْتِ يا ذاتَ الخمارِ مناك ... وحباك ربُّكِ عزةً ورعاكِ
لبيتِ صوتَ الحق دونَ تلعثم ... وعصيتِ صوتَ الفاجرِ الأفَّاك
جانبت أخلاقَ العدوِّ تكرماً ... وتبعت خُلْقاً سنه مولاك
وزَهِدْتِ في أزيائهم وعُروضهم ... وجعلت مطلبَكِ الشهَي أُخراك
وُفقتِ يا أختاه في نيل الرضا ... فتضرعي شكراً لذي نَعماك
***
أختاه إن خسر العدو بجولة ... سيعاودُ الأخرى، ولن ينساك
ألقى بأختك في الحبائلِ فانثنت ... تدني الفسادَ لقومها بحماك
فتأهبي دوماً وكوني حرةً ... لا يخدعَنْكِ الكاذبُ المتباكي
زعم الدعارةَ والخنا حريةَ ... هتكاً لعرضك فاحذري! إياك!
***
أختاه قد تلقين ضيماً أو أذىً ... فثقي بربك واثبتي لعداك
فالابتلاء يزيد دينك قوةً ... والمؤمناتُ صبرنَ قبلُ لذاكِ
فلأمِّ عمارٍ وأمِّ عمارةٍ ... أسمى المواقفِ من ذوي الإشراك
وكذاكَ أسماءٌ وإِنْ تستخبري ... عنهن تاريخَ العلا أنباك
***
أختاه من للنشىء يصقل فكرهه ... ويريهم السَّنَنَ القويم سواك؟
يا بنت " فاتحِ " لقنيهم في الصبا ... تاريخَ مجدٍ كان للأَتراكِ
شهدت به الدنيا وذلَّ لسيفِهِ ... كلُّ الملوكِ وكان فيه عُلاك
أضحى به صرح الشريعة شامخاً ... وهَوَتْ لديه معاقلُ الإِشراك
***
أختاه إن الدربَ صعبٌ مجهدٌ ... يحتاج زاداً والتقى هي ذاكِ
قومي إذا جن الظلام ورتلي ... آياتِ ربِّك وَلْتَجُدْ عيناك
فالله حرَّمَ أن تَمَسَّ جهنمٌ ... عيناً بكت فلتَسْعَدي ببكاكِ
وَلْتَذْكري بظلامه قبراً غداً ... يمسي من الدنيا به مثواكِ
صومي نهارَك ما استطعتْ فإنه ... يُطْفَى به يومَ الحساب ظماك
ولْتَحْسُنِ الأخلاقُ منك يَكُنْ بها ... حبُّ النبي وقربِهِ، وكفاك(23/84)
قراءات تاريخية
قال القاضي ابن شداد في وصف صلاح الدين الأيوبي:
(وكان رحمه الله من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، لا يهوله
أمر، ولقد وصل في ليلة واحدة من الإفرنج إلى عكا نيفٌ وسبعون مركباً وأنا
أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو لا يزداد إلا قوة نفس.
وكان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد عظيم الاهتمام به، ولو حلف
حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد وفي
الإرفاد لصدق وبّر في يمينه، ولقد كان الجهاد قد استولى على قلبه وسائر جوانحه
استيلاء عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا اهتمام
إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في
سبيل الله أهله وولده ووطنه وسكنه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب
بها الرياح يمنة ويسرة.
وقال القاضي الفاضل:
وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، وقد ألف له كتب عدة
في الجهاد، وأنا ممن جمع له كتاباً، جمعت فيه آدابه وكل آية وردت فيه، وكل
حديث روي فيه.
قال: وسرنا مع السلطان على الساحل طالبين عكا، وكان الزمان شتاء،
والبحر هائجاً هيجاناً عظيماً، وموجه كالجبال وكنت حديث عهد برؤية البحر،
فعظم أمر البحر عندي، واستخففت رأي من يركب البحر، فبينا أنا في ذلك إذ
التفت إليّ وقال في نفسه: أنه متى يسرّ الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد
وأوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم (الصليبيين) أتبعهم فيها حتى لا
أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت، فعظم وقع هذا الكلام عندي
وحكيت له ما خطر لي.
فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها، وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجسرها.
اللهم إنك تعلم أنه بذل جهده في نصرة دينك، رجاء رحمتك فارحمه ... ) .(23/86)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
ميلاد الجبهة الإسلامية للإنقاذ
ننشر فيما يلي نص بيان الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي ووفق على إعلانها في
الجزائر.
بسم الله الرحمن الرحيم
تعرف البلاد تناقضات على جميع المستويات، من ذلك شعب طموح يريد
النهوض بنفسه إلى مستويات مقاصد الشريعة الإسلامية والنموذج الإسلامي القرآني
السني على مستوى النظم، النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي في
النطاق الحضاري الإسلامي لمواجهة مستجدات أزمة الحضارة في الوقت الذي بقي
فيه النظام الحاكم عاجزاً عن مواجهة القضايا الأساسية التي تطرحها حيثيات الأزمة
السياسة والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والحضارية وقد آل أمر البلاد إلى خطر
الضياع والبلبلة انعكس في حيرة هزت الشعب هزة عنيفة وكان الشباب أكثر تأثراً
بهذه الحيرة.
وإذا كانت الدعوة الإسلامية قد أخذت على عاتقها مسؤولية توجيه الشعب
الجزائري والسير به نحو المنهج القويم والصراط المستقيم المانعين من المخاطر
المذكورة آنفاً والضامنين للنجاة والمحققين للمراد من الصحوة الإسلامية التي ما
فتئت تشكل معقد آمال الأمة.
ولئن كانت الدعوة الإسلامية محاصرة بالضغوط المعادية للإسلام وللشعب
الجزائري في الداخل والخارج فإن الدعوة كانت دوماً تشع على العقول بأنوار
الهداية، وتنعش الضمائر بالغذاء الروحي الذي تذخر به أخلاق القرآن والسنة
وتشحذ الإرادة الخيرة للأمة بالطاقة الإيمانية الفعالة مما جعل الشعب الجزائري
يقوى على مواجهة النوائب ومصارعة الاستعمار الحديث، كما قوي بالأمس على
سابقه الاستعمار القديم.
وبعد أن جربت مختلف الأيدلوجيات الحديثة؛ الشرقية منها والغربية، وثبت
إفلاسها بما لاشك فيه لم يبق للشعب الجزائري إلا أن يجد في العمل بدينه القويم
لإنقاذ مكاسبه التاريخية الرسالية الحضارية وثرواته البشرية والطبيعية دون أن
يضيع الوقت الذي أصبح يشكل أهم العوامل في نجاح الخطة الإصلاحية الشاملة.
ولتحقيق ذلك لابد من هيئة تستوعب كل المطالب والحاجات التي تكون في
مستوى مستجدات الأزمة، وتوظف كل أو جُل الإمكانات والطاقات كي تثرى
الحلول على قدر مطالب النهضة الشاملة والصحوة الحقة، وتوفر لها إذكاء عبقرية
الجيل وذكاءه وإنماء خبراته، واستقامة مسلكيته كي يكون في مستوى الجهد
الرسالي والعمل الجاد المبدع في مختلف مجالات الحياة، وميادين الحضارة من أجل
ذلك كان ميلاد الجبهة الإسلامية للإنقاذ إرهاصة تاريخية ساعد على ظهورها نفسية
الشعب الجزائري المفعمة بالإيمان التائقة إلى عزة الإسلام وعدل شريعته، وهي
القرآن والسنة وقيم أخلاقه والتأسي برسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجيال
الصحابة والتابعين لمواصلة الرسالة.
مواصفات الجبهة الإسلامية للإنقاذ:
1 - إنها تعمل على وحدة الصف الإسلامي، وتحافظ على وحدة الأمة لقوله
تعالى: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] ولقوله صلى الله عليه
وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» رواه البخاري.
2 - تقديم بديل كامل شامل لجميع المعضلات الأيدلوجية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية في نطاق الإسلام كما جاء في القرآن والسنة مع مراعاة
الشروط النفسية والاجتماعية والجغرافية والطبيعية محددة في الزمان بكل أبعاده
النفسية والحضارية. قال تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ] [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] ، ولقوله تعالى: [إِنَّ
هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ، ولقوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت
فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي» .
3 - من خصائص منهجيتها الاعتدال والوسطية والشمولية لقوله تعالى:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] وقوله -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه:
«يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» .
4 - ومن ميزات طريقتها الاعتدال في الجمع بين المطالبة والمغالبة دون
إفراط أو تفريط. لقوله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم» ، وتستعمل المطالبة لإقامة الحجة لقوله
تعالى: [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] ، وقوله تعالى: [وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ] . كما تستخدم المغالبة لضمان
مصالح الأمة والحفاظ على ثوابتها وصيانة مكاسبها لقول عمر بن الخطاب: (متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) .
5 - ومن طرقها العملية، العمل الجماعي وجودة توظيف الجهد الكلي للإرادة
الكلية للأمة مما يجعلها تتخلص من النزعة الفردية والطفرية الارتجالية، وورطة
المحسوبية والوقوع في الأغراض الشخصية ونبذ الاتكالية. لقوله تعالى:
[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ، ولقوله تعالى:
[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] ، ولقوله تعالى: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله،
ولأئمة المسلمين وعامتهم» ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «اعقلها ثم توكل» .
6 - ومن مهامها: تشجيع روح المبادرة وتوظيف الذكاء والعبقرية وجميع
الإرادات الخيرة في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري.
7 - ومن خصائصها الإنقاذ الرسالي التاريخي الحضاري الشامل أسوة
برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منقذ البشرية، لقوله تعالى: [وَكُنتُمْ عَلَى
شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا] .
ولتحقيق ذلك تحدد الجبهة خطتها في مشروع شامل مختصر مركز (البرنامج
السياسي) في محاور تضعها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بين يدي الأمة ليتم أمر التغيير
الشامل في نطاق الحل الإسلامي.(23/89)
تطورات الجهاد الإسلامي في أريتريا
1 - بتاريخ 6/12/1409 هـ الموافق 9/7/1989 م قامت (الجبهة الشعبية)
بهجوم واسع النطاق على (سرايا المجاهدين) في جنوب القاش بقوات كبيرة (حيث
أحضرت لواءين من الساحل وثلاث كتائب وسريتين من بركا والقاش) ودارت
المعارك في تلال ووديان (فانكو) بالقاش، فقاتل المجاهدون بشجاعة منقطعة النظير
.. وحين نفد العتاد منهم قاتل المجاهدون بالسلاح الأبيض أعداء الدين والوطن،
وكبدوهم خسائر فادحة. وكانت خسائر العدو (3) مقابر جماعية دفنهم العدو نفسه
بجرافات، و (35) قتيلاً دفنهم الشعب. وقد استشهد من المجاهدين في هذه المعركة
(25) شهيداً، وأسر (39) مجاهداً، بعضهم من الجرحى، ومن قاتل بالسلاح
الأبيض.
2 - وفي يوم 7/12/1409 هـ، الموافق 10/7/1989 م هاجمت قوات
أخرى من الجبهة الشعبية في شمال القاش (سرية المجاهدين) في منطقة (بلتوبياي)
فقد تم تدمير القوات الأولى المهاجمة، ثم وصلت تعزيزات أخرى، فعجزت عن
النيل من المجاهدين، وردت خائبة. وكانت خسائر العدو كبيرة في القتلى
والجرحى. وقد دفن منهم بالقرب من ميدان المعركة (18) قتيلاً، فوصلت إلى
منطقة (فورتو) (3) عربات محملة بالجرحى مات بعضهم بعد وصولهم مباشرة. أما
المجاهدون الذين أنتظروا في منطقة (محصنة) فلم يفقدوا إلا أسيراً واحداً.
3 - استسلمت أعداد كبيرة من قوات الجبهة الشعبية، أثناء المعارك والأيام
التالية خارج الحدود الأرترية، وقد بلغ عددها حتى الآن (1735) مقاتلاًً.. هذا
ويعيش تنظيم الجبهة الشعبية بعد انتصارات المجاهدين عليهم حالة من اليأس
والانشقاقات الداخلية.
[وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ](23/93)
نداء من جبهة تحرير مورو الإسلامية
رئيس جبهة تحرير مورو الإسلامية
سلامات هاشم
تواصل جبهة تحرير مورو الإسلامية جهودها في تصعيد عملية الدعوة إلى
الله والجهاد في سبيل الله، وقد ذكرنا في تقاريرنا السابقة أن قوى الكفر والإلحاد قد
اتفقت على حرب الجماعات الإسلامية المجاهدة التي تقودها جبهة تحرير مورو
الإسلامية، ويتعاون هؤلاء الكفار والملحدون مع العناصر العلمانية والوطنية الذين
يلبسون لباس الإسلام أمام المسلمين لخداعهم والاستهزاء بهم كما في قوله تعالى:
[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] .
وإذ نجاهد في سبيل الله ضد هؤلاء الأعداء نستخدم جميع الأساليب المناسبة
وكافة وسائل الجهاد اللازمة فنجاهدهم بالمال والنفس كما نجاهدهم باللسان والبنان
وإننا نخوض المعارك ضد هؤلاء الأعداء في ميادين الحرب الثقافية والاجتماعية
والسياسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية إضافة إلى الحرب بالسلاح.
ولاشك أن أقوى سلاح لمواجهة هؤلاء الأعداء في الميادين الحربية المذكورة
هو سلاح الإيمان والتقوى والعلم والمعرفة إضافة إلى السلاح الحربي التقليدي
كالبنادق والمدافع وأمثالها.
لذلك تبذل الجبهة الإسلامية جهودها في الدعوة ونشر الوعي الإسلامي بجانب
نشر العلم والمعرفة والثقافة الإسلامية والعربية، وللجبهة أجهزة خاصة لهذه
المهمات النبيلة وتشرف على عدد كبير من المساجد والمعاهد والمدارس كما تشرف
على عدد كبير من الدعاة والأئمة والمربين والمدرسين والمعلمين، وتعمل على رفع
مستواهم العلمي والثقافي والفكري، وتدربهم على ممارسة الحياة الإسلامية
الصحيحة، وتقوم بنشاطات متنوعة كعقد الندوات الدينية والعلمية والثقافية وإقامة
المخيمات الإسلامية وغير ذلك من النشاطات التي تعين على تحقيق أهداف الدعوة
والجهاد.
وقد أقامت الجبهة مخيماً إسلامياً كبيراً هذا العام في قاعدة أبي بكر الصديق
حيث مقر القيادة العامة للدعوة والجهاد، وحضر المخيم أكثر من مائتين من قادة
الجهاد ورجال الدعوة والتربية والتعليم، وغيرهم من الشخصيات الإسلامية الذين
أتوا من جميع أنحاء بانجامورو، واشترك في إلقاء المحاضرات بعض الأساتذة
والدكاترة من البلاد الخارجية - أي خارج الفلبين - وبانجا ومورو، وكان موضوع
المخيم: القيادة الإسلامية الصحيحة، وقد اخترنا هذا الموضوع لأهيمة القيادة
الإسلامية الصحيحة في توجيه المجتمع إلى المنهج الإسلامي الصحيح، وناقش
الحاضرون أهمية القيادة والفرق بين القيادة الإسلامية الصحيحة والقيادات الأخرى
بما فيها القيادات العلمانية والوطنية والقومية التي لا تهتم بالدين بل تبتعد عنه
وتهمل الجانب الروحي، كما ناقشوا أسباب انحراف القيادات في المجتمعات
الإسلامية.
والجبهة تهتم بهذا الأمر لأنها ترى أن سبب عدم تطبيق الحكم الإسلامي
الصحيح في بلاد المسلمين هو وجود حكام فاسدين وقيادات غير إسلامية أو منحرفة
في هذه البلاد، ولابد من تصحيح هذا الوضع وتجنب حدوثه وخاصة في البلاد
التي يجاهد أهلها ويعملون على إعادة بناء مجتمعهم ليكون مجتمعاً إسلامياً صحيحاً.
وبعد انتهاء المخيم الإسلامي مباشرة عقدت الجبهة دورتها السنوية الثامنة في
نفس المكان وحضرها جميع أعضاء مجلس الشورى وممثلوا المقاطعات
والمحافظات المختلفة في بلاد مورو، وذلك لمراجعة القرارات السابقة ووضع خطة
مناسبة لمواجهة الظروف الحالية، وكانت للجبهة برامج إسلامية وسياسية
واقتصادية واجتماعية وتربوية شاملة، وتتلخص فيما يلي:
1- التحول الإسلامي (أي تحويل المجتمع في المنطقة إلى مجتمع إسلامي
صحيح) .
2- الاكتفاء الذاتي، على الأقل في المواد الغذائية والحاجات الضرورية
الأخرى.
3- رفع مستوى التنظيم والكفاءة القيادية والإدارية علماً بأن للجبهة حكومة
موازية لحكومة العدو.
4- إنشاء قوات إسلامية مسلحة قوية في إيمانها وتنظيمها ونظامها وأجهزتها
الحربية، وكفاءتها القيادية والقتالية.
5- تحرير أرض مورو.
6- إقامة حكم إسلامي وتطبيق شريعة الله.
وقبل الختام نكرر نداءنا الموجه إلى الأخوة في الإيمان المهتمين بأمر إخوانهم
وبالقضايا الإسلامية، إننا نناديهم للوقوف بجانب إخوانهم في الدين الذين يجاهدون
في سبيل الله ويخوضون معارك مصيرية ضد الهجمة الصليبية الشرسة، وضد
القوى الموالية للاستعمار الغربي والشرقي، وهي تعتبر الحرب الواقعة بين
المسلمين والنصارى فرصة يلزمها انتهازها لبسط نفوذها وسيطرتها على المسلمين.
إننا نناديهم للوقوف مع إخوانهم المسلمين الصامدين أمام أعداء الله في هذه
المنطقة بما فضل الله عليهم من مال أو عالم أو فكرة أو خبرة، وما إلى ذلك لينالوا
الثواب العظيم عند الله مع إخوانهم المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/94)
الصفحة الأخيرة
حتى لا تكون نهايتنا كنهاية الموريسكيين [*]
عبد القادر حامد
تتوالى على المسلمين نكبات وضربات متنوعة في مناطق مختلفة من العالم،
وعلى الرغم من عنف هذه الضربات ودمويتها إلا أن العالم لا يعيرها الاهتمام الذي
يعيره لفرد غير مسلم يعتدي عليه، بل الاهتمام الذي يعيره لبعض أصناف
الحيوانات التي تشتغل أجهزة الإعلام بإثارة الخوف عليها من الانقراض كما هو
حاصل بالنسبة للفيلة والحيتان والحيوانات الأخرى..
بل إن هذه المذابح التي تنفذ ضد المسلمين هنا وهناك إن ذكرت تذكر مخففة
مشوهة في زاوية منسية من مجلة أو صحيفة، ثم سرعان ما ينساها ليس المعنيون
بحقوق الإنسان فقط؛ بل المسلمون أنفسهم.
ولاشك أن مما يميت ما يحدث للمسلمين من ويلات وما يُخفي ما ينزل بهم من
قهر وإرهاب هو فقدان جو الحرية الذي تنتقل فيه المعلومات، وتتجاوب أصداؤها
في جنبات العالم محدثة أثراً.
وأمام هذا الواقع فإن المطلوب من كل مسلم يشهد تعدياً لا مسوغ له على
حرمة مسلم أو مسلمة؛ أو ظلماً يقع على هذه الفئة المسلمة أو تلك؛ أن يسجل ذلك
بأي وسيلة تمكنه: كتابةً أو تصويراً أو تسجيلاً صوتياً، ولا يستهين في شيء من
ذلك ولا يستثقله، ولا يقل في نفسه: ما الفائدة؟ لا يمكنني أن أنشر أو أذيع ما
أعلم، فرب يوم يأتي سيتاح له أن ينقل شهادته للناس، وإذا كان قد سارع بكتابتها
حين وقعت، فلن يضير مضي الزمن ما كتب، حيث ستنتقل هذه الحادثة بحرارتها
إلى الأذهان وكأنها حدثت الساعة، ولا يستصغر شأنه وليكتب بأي أسلوب يحسنه،
فالصدق صدق بأي لغة نقل وبأي أسلوب قيل.
وكم من مصائب وقعت على المسلمين من قبل أعدائهم ذهب أثرها أدراج
الرياح بسبب استهانة المسلمين بالتسجيل والحفظ، وما خبر الموريسكيين عنا ببعيد.
__________
(*) الموريسكيون: هم المسلمون الإسبان الذين تعرضوا لأبشع أنواع القهر والتعذيب ومحاكم التفتيش وأجبروا على اعتناق المسيحية، بعد القضاء على الحكم الإسلامي في إسبانيا، وعلى الرغم من استمرارهم بممارسة الشعائر الإسلامية سراً إلا أنهم أخيراً ذابوا في المجتمع الإسباني المسيحي.(23/100)
جمادى الآخرة - 1410هـ
يناير - 1990م
(السنة: 4)(24/)
الافتتاحية
حرب صليبية جديدة
هل ما يجري في فرنسا هذه الأيام هو محاربة للحجاب الإسلامي فقط؟ أم هو
محاكمة للإسلام نفسه وحرب صليبية جديدة؟ إن قضية الطالبة التي رفضوا
تسجيلها في المدرسة بسبب الحجاب، والطالبات اللاتي أبعدن من المدرسة بسبب
الحجاب، لازالت هذه القضية مثار جدل واسع في أوساط المجتمع الفرنسي
والصحافة الفرنسية، وعلى مستوى الدولة كذلك.
قالت صحيفة (لوبوان) : «إذا أرادت فرنسا أن تحافظ على علمانية المدرسة
وعلمانية الدولة فإنها لا تستطيع أن تؤخر طويلاً حل الإشكالات الدينية التي يثيرها
حضور الإسلام في الغرب» .
وعلى مستوى الدولة شهد البرلمان الفرنسي جلسة صاخبة ناقش فيها النواب
موضوع الحجاب الإسلامي وانقسموا ما بين معارض وبين من يعتبره تصرفاً تابعاً
للحرية الشخصية ولا مانع منه، كما انقسم الوزراء؛ فوزير التربية يرى أن إبعاد
الطالبات ليس من أهداف المدرسة، بينما وزير الدفاع يرى منع الطالبات من
ارتداء الحجاب، وقال المفكرون رأيهم؛ فالفيلسوف (أندري فروسار) يرى أن
وضع الحجاب على الرأس قضية لاتمس إطلاقاً العلمانية، بينما يقول (آلان
فانكليل) أن قرار منع ارتداء الحجاب متوافق مع مفهوم العلمانية، وأعلنت زوجة
الرئيس ميتران: «إذا ما ألزم دين ما أتباعه بالامتثال لتعاليم معينة فيجب علينا أن
نترك لهم حرية الامتثال» .
وإذا كان وزير التربية قد حسم الموقف وأعلن عن استعداد المدرسة الفرنسية
لاستقبال الحجاب الإسلامي، وقال: «إن ارتداء الحجاب أو إبراز أي مظهر
يوحي إلى انتماء ديني لا يمكنه أن يشكل دافعاً فعلياً لطرد التلاميذ من المدرسة» .
وكذلك كانت كلمة مجلس الدولة الذي هو أعلى هيئة قضائية إدارية، لكن قضية
محاربة الإسلام نفسه لم تحسم، فموجة العداء للإسلام بدأت تنتعش في فرنسا (وفي
أوربا بشكل عام) وخاصة من الأحزاب التي يسمونها يمينية متطرفة، وقد اتخذوا
من الحجاب بداية للهجوم على الإسلام والمسلمين في فرنسا، ويعللون هذا الهجوم
بأن هؤلاء المغتربين لم يندمجوا في المجتمع الفرنسي، وهذه كلمة مهذبة، وقصدهم
(لم يذوبوا) في المجتمع الفرنسي أو الغربي.
وخاضت بعض الأحزاب أو الشخصيات الانتخابات على أساس محاربة
الحجاب أو الإسلام، وأصيب هؤلاء الفرنسيون بالسعار ضد المغتربين المسلمين،
وتحول الأمر إلى عنصرية مكشوفة وهي أن الجنس الآري يجب أن يبقى نقياً
ولذلك لابد من طرد هؤلاء المهاجرين.
وليس عجيباً أن لا يتكلم هؤلاء المتعصبون عن تميز الطلاب اليهود، وعن
مدارس اليهود المستقلة لأن حقيقة هذا السكوت وهذا الولاء ذكرها القران الكريم:
[بعضهم أولياء بعض] [المائدة: 51] .
وقد يقول بعض الناس: أنتم تحاكمون دولة غربية نصرانية في موضوع
الحجاب، مع أن هناك دولاً تحكم شعوباً إسلامية وتحارب الحجاب، ونقول: هذا
صحيح، ونحن هنا نحاكم هؤلاء إلى شعاراتهم المرفوعة عن الحرية والديمقراطية
وعدم التدخل في شؤون الآخرين الدينية والشخصية، أما الدول التي تحارب
الحجاب في ديار الإسلام فهي تحكم بالشريعة التي سماها بعض العلماء بـ (الملك
الطبيعي) وهو حمل الناس على مقتضى الغرض والشهوة فقط، وسمى ما عليه أهل
الغرب الان بـ (الملك السياسي) وهو حمل الناس على مقتضى النظر العقلي،
وعلى هذا فهذه الدول لاهي تحكم بالإسلام، ولا تحكم بالعقل والسياسة والنظام كفعل
الغربيين.
إن صمود الجالية الإسلامية في فرنسا لهو شيء مشرف، ولا شك أن هذه
الجاليات الكبيرة في أوربا تستحق الاهتمام والرعاية سواء من بلادهم الأصلية أو
من المسلمين بشكل عام، والتشجيع لإثبات الهوية الإسلامية حتى لا تبتلعهم حضارة
أوربا.
ملف التعليم:
عندما فتحنا ملف التعليم في الأعداد السابقة كنا نشعر بخطورة الموضوع
وأهميته البالغة، فالطاقات والأجيال يجب أن لا تذهب هدراً بسبب الطرق التقليدية
المتبعة مع الصغار والكبار على حد سواء، وقد شارك بعض الأخوة في هذا المجال، وكانت مشاركة الدكتور عبد العزيز القارئ حفظه الله ناقداً لبعض مناهج تعليم
وتربية أجيال المتفقهين، كانت محل استحسان ورضى من الجميع، ولا يزال
الموضوع بحاجة إلى إثراء، ولا يزال موضوع التعليم بشكل عام بحاجة للأقلام
المخلصة من أهل الاختصاص والخبرة والغيرة على أجيالنا ليوضحوا وجهة نظرهم
في الطرق المتبعة الآن وخاصة في المراحل الأولى من التعليم، وإنها والله لأمانة
في أعناق كل مسؤول عن تربية الأجيال، ماذا تعلم وكيف تربى؟ وما هي الوسائل
الناجحة، وحرام أن تذهب سنوات العمر الأولى دون فائدة علمية أو عملية.
وأخيراً نذكّر بقول الدكتور محمد إقبال في أثر التعليم إذا كان موجهاً وجهة
غير إسلامية " «إن التعليم هو (الحامض) الذي يذيب شخصية الكائن الحي ثم
يكونها كيف يشاء، إن هذا (الحامض) هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيمائية، هو
الذي يستطيع أن يحول جبلاً شامخاً إلى كومة تراب» .
وحتى لا تتحول الأجيال إلى كومة تراب لابد من إعادة النظر في مناهج
التعليم.(24/4)
في المنهج والاستدلال
ضرورة الاجتهاد
للمحافظة على مواصفات المجتمع الإسلامي
د. عابد السفياني
ينقسم الاجتهاد إلى واجب شرعاً وجوباً عينياً، وواجب كفائياً، وإلى مندوب، ومكروه، ومحرم [1] . وقد نقل العلماء الثقات عن الصحابة -رضوان الله
عليهم- الإجماع على العمل بالقياس وهو نوع من الاجتهاد.
فثبت بذلك وقوع الاجتهاد منهم -رضوان الله عليهم-، وأنهم مجمعون على
مشروعيته [2] .
وأما أقسام الاجتهاد من حيث الحكم التكليفي فهي كما يلى:
الأول: إذا تعين على المجتهد النظر في واقعة لم يجد من يفتي فيها غيره،
أو نزلت بالمجتهد نازلة وخاف فوات الحادثة فإنه يجب عليه وجوباً عينياً الاجتهاد
على الفور وإن لم يخف فواتها وجب عليه الاجتهاد على التراخي.
وأما الثاني: فهو واجب وجوباً كفائياً إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
وأما الثالث: فهو المندوب وهو السؤال عن حادثة يمكن أن تقع ويحتاج إليها، مثاله في السنة: ما رواه المقداد بن الأسود أنه قال: «يا رسول الله أرأيت إن
لقيت رجلاً من الكفار فقاتلنى فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة
فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: لا تقتله..» الحديث، وفيه دلالة على جواز السؤال بلفظ «أرأيت»
عن المسائل التي يمكن أن تقع [3] .
وأما الرابع: فهو المكروه أو المحرم وهو الاشتغال بالمسائل الفرضية التي لا
يمكن أن ينبني عليها عمل أو لم تجر العادة بوقوعها [4] .
والإجماع المنعقد على وجوب الاجتهاد، ومنه وجوب العمل بالقياس وهو
نوع منه يتضمن الرد على من يقول بقفل باب الاجتهاد أو يدعو إليه، ذلك أن
الإجماع المنعقد لم يقصر الوجوب على عصر دون عصر، بل الوجوب على الأمة
وهي لا تنقطع في أي عصر إلى سقوط التكليف وذلك بفناء الدنيا، والإجماع على
وجوبه منقول عن الصحابة، فهو إجماع متقدم ولا عبرة بمخالفة من خالف بعد ذلك، والمخالف لفرضية الاجتهاد لم يخالف في جميع أنواعه، بل إن العلماء من
الأصوليين نصوا على أن تحقيق المناط، وهو نوع من الاجتهاد، لم يقل أحد
بانقطاعه.
وأما مخالفتهم في الأنواع الأخرى فهم محجوجون بإجماع الصحابة وأن
خلافهم ليس معتبراً، مع مصادمتهم للبديهيات، ذلك أن النص إما أن يعلم بدون
اجتهاد وذلك مستحيل، وإما أن يعلم باجتهاد وهو المطلوب، فالاجتهاد إذاً ضرورة
بهذا المعنى، كما أنه الطريق إلى معرفة عجائب القرآن التي لا تنقضي ... ولم
يدرك المجتهدون في العصور المتقدمة كل عجائبه ... ومن ثم كان الاجتهاد ضرورة
لفهم النص وتطبيقه، ولا يسد مسده شيء آخر في فهم أحكام هذه الشريعة.
ولقد أشار الإمام الشافعي إلى حكمة الاجتهاد فبين أنها هي الابتلاء، وذلك أن
الله -سبحانه وتعالى- أنزل القرآن على هذا النحو، وكذلك السنة لكي يبتلي عباده
فينظر أيجتهدون في طلب الحق مبتعدين عن تأثير الشبهات والشهوات أم يقصرون
في طلبه [5] .
ومن الحكمة أيضاً ما أشار إليه الدكتور الأفغاني في كتابه: «الاجتهاد» :
وذلك بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وبالنسبة لأصحابه.
أما وقوعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فذلك تعليم للأمة من بعده،
وأما حكمة شرعية الاجتهاد بالنسبة للصحابة في عصره فذلك لتدريبهم وتعليمهم
كيفية الاجتهاد وحتى يكونوا مستعدين لحمل الأمانة الكبرى بعد وفاة الرسول -صلى
الله عليه وسلم- وهي الحكم بما أنزل الله، وإدخال الحوادث الجديدة تحت أحكام
هذه الشريعة حتى يعلم حكم الشرع في كل ما ينزل بالمسلمين وتدريب من بعدهم
على ذلك، ولولا الاجتهاد لزاد عدد الحوادث التي يتصرف فيها المسلمون بآرائهم
المحضة أو بقوانين وأعراف غير دينية، وذلك - مع طول الأمد - سبب من أكبر
الأسباب في الانحراف عن شريعة الإسلام [6] .
وأجمل هنا بعض الحكم التي تظهر لي من فرضية الاجتهاد وكونه طريقاً إلى
التجديد والنمو والحركة: إن هذا الدين أنزله الله على عباده مفرقاً ولم ينزله جملة
واحدة، قال تعالى: [وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]
[الإسراء: 106] .
ومعنى فرقناه أي أنزلناه جزءاً جزءاً ولم ننزله جملة واحدة [7] وذلك في
بضع وعشرين سنة تثبيتاً للرسول -صلى الله عليه وسلم-، حيث ينزل لكل حادثة
تقع ما يخصها من الأحكام ويتعلمه الناس في غير عجلة، ويتدرج بهم حتى يربيهم
ويفقههم فيقترن العلم بالعمل آية آية وسورة سورة، ويقع لكل حدث ما يخصه من
البيان والتوجيه. وهذا المعنى الذي تحقق في عصر النبوة مازال متحققاً في كل
عصر -بعد ذلك - يسير في الطريق نفسه ويسعى للغاية التي خلق العباد من أجلها
وهي عبادة الله وحده بلا شريك.
وبيان ذلك: أن المسلمين بعد عصر النبوة يحتاجون إلى بيان الأحكام التي
تخص الحوادث التي جاءت في عهدهم، وهذه الحوادث لم يكن فيها نص بعينها -
ولا بد من الرجوع إلى الوحي لمعرفة هذه الأحكام.
ثم تأتي حوادث أخرى تحتاج إلى أحكام فلابد من الرجوع إلى الوحي، وهكذا
في كل عصر وفي كل مكان.
وحين يرجعون في المرة الأولى إنما يستنبطون الحكم للحادثة الأولى ثم
يرجعون مرة أخرى وثالثة ورابعة وذلك حسب تجدد الحوادث فيجدون في الوحي
العلم والفقه والتربية - وهم يسيرون في الوقت نفسه في طريقهم لا يقفون لحظة
واحدة، تماماً كما كانوا في عصر النبوة: عمل وجهاد وتربية وتعليم، حتى توفي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا يريد الله هذا الدين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
دين عمل وجهاد وتربية، وهذا الجهد في التعريف بالحق ونشره والتفقه فيه
وتطبيقه على الحوادث إنما يكون من طائفة من المسلمين بذلت نفسها لتعلم العلم
وتعليمه، كما قال تعالى: [ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ
مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]
[التوبة: 122] .
فهذا النفير والتفقه والنذارة إنما يصبر عليه طائفة من المسلمين وهؤلاء يبرز
منهم أئمة في الدين يهدون به وبه يعدلون، فينشرونه ويعلمونه للناس ويقيمون به
العدل في الأرض ومن العدل استنباط الأحكام لكل حادثة تعن وتطبيقها.
وعند تحقيق ذلك يرفعهم الله درجات، ويجعلهم منار هداية للناس لا تنقطع،
يتسلمها الناس جيلاً بعد جيل: [وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] .
وهذا التفقه والنذارة والهداية وإقامة العدل في الأرض لا يكون إلا بالاجتهاد.
أما الذين آمنوا فهم مكلفون جميعاً بإقامة فروض الكفاية، وذلك بأن يقيموا لكل
فرض من فروض الكفاية طائفة منهم ويعينوهم على ذلك [8] ، فإذا سعى المؤمنون
في تجهيز طائفة منهم ليتفقهوا في الدين حتى يصلوا إلى درجة الاجتهاد كان ذلك
سبباً في رفع منزلتهم عند الله، وعن هذا الطريق تتحقق الهداية وإقامة العدل
الرباني في هذه الأرض، عن طريق سعي المؤمنين جميعاً، وتكامل جهودهم،
وتقديم المجتمع لخيارهم ليكونوا هم قادة الناس، والبناة لمنهج التربية الإسلامية.
__________
(1) تيسير التحرير 4 / 179.
(2) جامع بيان العلم وفضله / 66، أعلام الموقعين 1 / 217.
(3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله 2/89 وفي الحديث جواب عن قول من منع السؤال عن المسائل الفرضية واشترط وقوعها أولاً ثم الجواب عنها انظر جامع بيان العلم 2 / 139 ولعل النهي إنما هو مخصوص بما لا يمكن أن يترتب عليه عمل ولا تقتضيه حاجة.
(4) أعلام الموقعين 1 / 69، جامع بيان العلم139.
(5) الرسالة: مسألة رقم 59.
(6) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 309 - 310.
(7) تفسير ابن كثير 3 / 68 - 9 6.
(8) الموافقات 1 / 114.(24/8)
مصطلحات إسلامية
الإسرَاف
إعداد: عادل التل
المعنى اللغوي:
السَرَف في كلام العرب له أصل واحد، يدل على تعدي الحد والإغفال أيضاً، تقول: في الأمر سَرَف، أي مجاوزة القدر، ويقولون أن السَرَف: الجهل،
والسَّرِف: الجاهل.
قال ابن الأعرابي: أسرف: إذا أخطاء، وأسرف إذا غفل، وأسرف إذا
جهل. قال شمر: سرف الماء ما ذهب منه في غير سقي، فيقال أروت البئر
النخيل وذهب بقية الماء سرفاً، والسَرَف القصد، سَرِفُ الفؤاد: غافل، سرِف
العقل: أي قليل العقل.
المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب الأصفهاني: الإسراف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان،
وإن كان في الإنفاق أشهر. وقال ابن حجر في الفتح: الإسراف مجاوزة الحد في
كل فعل أو قول. وهو في الإنفاق أشهر.
ومنه فإن الإسراف يكون في الإنفاق وغيره، يقول تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ] [الزمر: 39] . ويقول في
شأن الإنفاق: [وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ]
[الأعراف: 31] .
وهكذا فإن الإسراف يشمل كل تجاوز في الأمر، وقد جاء في القرآن الكريم
على معاني متقاربة ترجع جميعها إلى الأصل اللغوي وهو التجاوز في الحد.
- الإسراف صفة من صفات الكافرين، يقول تعالى: [وكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ
أَسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ] [طه: 127] .
- والإسراف صفة من صفات الجبارين الذين يملكون بأيديهم السلطة والمال،
يقول تعالى: [وإنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وإنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ] [يونس: 83]
وقال تعالى: [ولا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ] [الشعراء: 151] .
- والإسراف والتبذير يلتقيان في معنى الإنفاق بغير طاعة، ولكن الإسراف
أعم من التبذير، لأن التبذير معناه التفريق وأصله إلقاء البذر في الأرض واستعير
لكل مضيّع ماله، يقول تعالى: [إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ]
[الإسراء: 27] .
والإسراف والسفه يلتقيان في معرض الغفلة والطيش وخفة النفس ونقصان
العقل، وإن ما يحصل من السفيه في إنفاق المال بما لا يرضي الله ليبين الحقيقة في
أن السفه سبب من أسباب الإسراف.
ويختلف الإسراف عن الكرم رغم أن كلاً منهما عطاء، لكن الكرم يكون وفق
أصول الشرع, مثل: إطعام الضيف، وإكرام الفقير، ومنه فإن البخل ضد الكرم،
وليس ضد الإسراف وإنما الإسراف ضد الاعتدال والاستقامة، والإسراف قرين
الكبر والمخيلة يظن المسرف أن له فضلاً بإسرافه، فيصيبه الكبر والبطر.
والإسراف كما يكون من الغني، فقد يكون من الفقير أيضاً، لأن الإسراف في هذه
الحالة أمر نسبي.
من أحكام المصطلح:
قدم الإسلام للبشرية منهجاً متكاملاً وتصوراً واضحاً عن طبيعة التصرف في
جميع شئون الحياة، وبين بشكل واضح حدود الحلال والحرام فيها، ونهى عن
الإسراف في شتى صوره.
إن أبشع صور الإسراف عندما يكون في معصية الله والتعدي على حدوده،
فهو محرم بالإجماع.
وأما الإنفاق في المباحات فيجب الالتزام بالعدل والاستقامة والتوسط فيها،
حتى لا يتحول الإنفاق على المأكل والمشرب والملبس إلى البذخ والتفاخر والتعالي
على الناس، بل إن أشر مواضع الإسراف أن تقام الولائم العظيمة ويدعى إليها
الأغنياء، ويحرم منها الفقراء وإن ما يلقى منها في الفضلات ليشبع خلقاً كثيراً من
أهل الحاجة في مناطق المجاعة.
وأما المبالغة في بذل المال طاعة لله وفي سبيله، فلا يكون إسرافاً بالمعنى
الإصطلاحي، وإن كان هذا البذل مشروطاً بأن لا يضيع المنفق من يعول، ويذر
ذريته عالة على الناس، وقد تصدق أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بكل ماله.
وفي مجال العقوبات والحدود؛ فإن الشرع قد أقر عقوبات محددة على أفعال
معلومة، ولا يجوز التجاوز في تنفيذها عن حدها المقرر، وقد شدد الإسلام على
الالتزام بهذا المنهج في قوله تعالى: [ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا
يُسْرِف فِّي القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً] [الإسراء: 33] ، أي لا يتجاوز في القتل إلى
غير القاتل من إخوانه وأقربائه كما كان يفعل أهل الجاهلية قديماً، وكما هو الحال
اليوم مع أهل الجهل حيث تنتشر أعمال «الأخذ بالثأر» التي تتعارض مع أحكام
الإسلام.
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ
الكَافِرِينَ] [آل عمران: 147] .(24/13)
خواطر في الدعوة
وحدة الصف ووحدة المنهج
محمد العبدة
إذا كانت وحدة العمل الإسلامي من المطالب الملحة عند كثير من الدعاة الذين
بدأوا يتحسسون مواطن الخلل ومواطن القوة عند المسلمين، وإذا كان هذا المطلب
مما يأمر به الدين ويحث عليه لأنه من التعاون على البر والتقوى، فإنه يزداد
إلحاحاً في هذه الأيام التي تجري فيها تغيرات في العالم لم تكن بالحسبان ولم يتوقعها
أحد؛ انهيارات في الكتل الشرقية، وانحسار للشيوعية، وتقارب بين الغرب
والشرق، والمستفيد حتى الآن هو الغرب الرأسمالي الليبرالي، وقدمت روسيا
تنازلات كثيرة في سبيل التقرب من هذا الغرب، الذي يمتلك التقنية والمال
والسيطرة السياسية، فمن يقف في وجه هذا التكتل على الأقل من الناحية الحضارية
والعقائدية؟ مَن من شعوب العالم الثالث يملك هوية واضحة، ومنهجاً متكاملاً؟ لا
يوجد سوى الإسلام، ومن المفترض أن يقود الشعوب الإسلامية العلماء والدعاة،
وإذا كانوا غير مؤهلين لذلك ولم يستطيعوا الجلوس على مائدة الحوار والتعاون فلمن
تترك الساحة؟
كنت أحاضر في أحد المراكز الإسلامية عن واقع الإسلام اليوم وما يحدث في
أوربا هذه الأيام، وعندما جاء دور الأسئلة أو المناقشة علق أحد الحضور (وأظنه
من العمال المتعلمين) قائلاً: «الدنيا سائرة وإذا كنتم تريدون أن يكون للإسلام
حضور فيجب أن تبدأوا وتسرعوا، وإلا فالناس لا ينتظرونكم طويلاً ... »
وعجبت من نظرته الواقعية وتذكرت رأي ابن خلدون في أن العوام الذين يملكون
الفطرة السليمة والتجربة العملية عندهم القدرة على معرفة الواقع، وخاصة الواقع
السياسي أكثر من أصحاب التنظير المجرد الغارقين في الثقافة الذهنية الباردة،
وتذكرت قول صديق أرسل لي رسالة قال فيها: «إذا كان المطل [1] ممكناً في
الأسلاف المستحقة مالياً فهو متعذر في الاستحقاقات الحضارية» .
وعندما نتكلم عن وحدة الصف ووحدة العمل الإسلامى فإنما نعني تجمع
أصحاب المنهج الواحد، منهج خير القرون وليس تجمعاً يرضي الجميع مع التساهل
في شيء من شريعة الله، فهذه من مداخل الشيطان التي ظاهرها الخير وتأليف
القلوب، وباطنها تجمع هش لا يصمد في وجه التحديات الداخلية والخارجية.
إن هؤلاء الكفار يمكرون في الليل والنهار ولا يملون من كثرة الاجتماعات
وكثرة المناقشات وتقليب وجهات النظر للاستقرار على أمر يريدونه.
أيطلب أهل الباطل أمرهم بجد ونحن نطلبه ببطء وتراخ؟ وينطبق علينا قول
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز
المؤمن» .
__________
(1) المماطلة.(24/16)
أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
تمهيد:
للعادات والتقاليد عند العرب، أثر عظيم في تنظيم حياتهم الاجتماعية، ولها
سطوة لا يستطيع الفرد أن يتخلى عنها، وقد تقوم مقام الدين أو القانون.
لقد جاء الإسلام وفي العرب بعض المزايا الحميدة، التي لا يمكن إنكارها،
ولكن طابع الشر والظلم والفساد في التصورات والمعتقدات كان يطغى على ذلك
الخير فيهم ويغمره، وكانوا بحاجة شديدة إلى نور الوحي، فبعث الله فيهم رسوله
الكريم، وأمره أن يبشر وينذر، ويتحمل في سبيل ذلك ضروباً من المجادلة والتعب
والأذى.
ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن تلك المحاسن والمناقب هي من بقايا
دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل -عليهما السلام-، بقيت بين العرب بشكل أو
بآخر [1] ، وهذا ما نجده في قوله - صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق» [2] .
والواقع أن القيم الرفيعة والخلال الحميدة، انتشرت بين العرب في الجاهلية
انتشاراً واسعاً، عجت بها أشعارهم، وسارت فيها أخبارهم، وكان من هذه الخلال
ما اجتمعوا عليها أو كادوا، وكان منها ما تحلى بها الكثير منهم.
ومن أهم ما اجتمعوا عليه ثلاث: الكرم والشجاعة والغيرة. وأما التي تحلى
بها الكثير منهم فمنها: العفة والترفع عن الدنايا، ومنها الصدق والوفاء، ومنها
حفظ السر والترفع عن جليس السوء.. ومنها الحلم والرزانة وغير ذلك.
على أن القوم ساد بينهم بعض القيم الوضيعة والأخلاق الذميمة، فكما كان
منهم الأوفياء الصادقون، كان منهم الغدارون والكذابون، وكما كان منهم الأوفياء
وحفظة العهود؛ كان منهم الخونة واللصوص والبخلاء [3] .
وسوف أستعرض - بإذنه تعالى- هذه القيم كما صورها الشعر الجاهلي
موضحاً نماذج - تتسع لها صفحات المجلة - من الأخلاق السامية والذميمة. ثم
أستعرض مدى التغيير أو التعديل، أو التقويم الذي جاء به الإسلام مما ينسجم مع
هديه ومعتقداته، وأختم حديثي عن موقفنا من هذه الأخلاق، ومدى تطبيق
مجتمعاتنا المعاصرة لهذه القيم، بعد تجليتها في الجاهلية والإسلام.
1- الكرم:
بواعث الكرم في العصر الجاهلي:
لقد تميز العرب بإكرام الضيف، وتاهوا بهذه المكرمة، وافتخروا بها على
الأمم، ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء
القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، حيث «كان العرب يعيشون في بادية
شحيحة بالزاد وحياتهم ترحال وتجوال، وكل واحد منهم معرض لأن ينفذ زاده،
فهو يقري ضيفه اليوم لأنه سيضطر إلى أن يضيف عند غيره في يوم، فليس في
البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ ملاجئ تعتبر
قوارب النجاة.. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة
سقط حق الضيافة إلا إذا جدد المضيف وزاد عليها» [4] .
على أن العرب كانوا يكرمون الضيف لكلفهم بحسن الأحدوثة وطيب الثناء،
ولأنهم ذوو أريحية تسعد نفوسهم بمساعدة المحتاج وإطعام الجائع.. وكان المال
وسيلة عندهم لا غاية، وسيلة إلى كسب المحامد.
كان الكرم وسيلة هامة من وسائل السيادة.. يقول حاتم الطائى:
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا ما تقولون سيدا [5]
والعربي ينكر البخل، لأنه مزر بأخلاق الرجال، وواضع من عوالي
الصفات.. فالشاعر عمرو بن الأهتم يدعو زوجته لأن تدع لومه لبذله المال، فهو
يشفق على الحسب الذي رفع بناءه، والكرام يتقون الذم ببذل القرى، ثم يتطرق
إلى ضيف طرقه ليلاً وكيف رحب به، ويصف لنا ذلك اللقاء:
ذريني فإن البخلَ يا أمَ هيثم ... لصالح أخلاق الرجال شروق
ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
ومستنبحٍ بعد الهدوء دعوته ... وقد حل من نجم الشتاء خفوق
فقتلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا صبوح راهن وصديق
وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق [6]
صورة رائعة من صور الكرم عند العربي، يستقبل ضيفه بالترحاب والطعام، وهو يتقي الذم والقالة؛ بالإطعام والقِرى.
لقد أصبح الكرم عند كثير من العرب طبعاً وسجية، إذ ملك عليهم نفوسهم
حتى أن حاتم الطائي يخاطب زوجته ويوصيها إذا صنعت له الطعام، أن تطلب له
ضيفاً ليشاركه فيه، فهو لا يريد أن يأكل وحده مخافة أن يتحدث الناس عنه بالبخل
بعد موته. فهو يقول:
أيا ابنة عبد الله وابنةَ مالك ... ويا ابنةَ ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جارَ بيت فإنني ... أخاف مذماتِ الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف مادام ثاوياً ... وما فيَّ إلا تلك من شيمةِ العبد [7]
مظاهر الكرم عند العرب وصدق تطبيقهم لهذا الخلق [8] :
بالغ العرب في الحفاوة بالضيف والتعهد له، وتفننوا في إكرامه، وتلمس
الأسباب التي تدخل على نفسه السرور، ومن ذلك بسط الوجه له ومضاحكته
والترحيب به ساعة قدومه حتى يأنس وينزل وهو مطمئن. يقول عمرو بن الأهتم:
وضاحكته من قبل عرفاني اسمه ... ليأنس، إني للكسير رفيق [9]
بل كانوا يقدمون له أشهى ما يملكون، مع إيناسهم له. قالوا: " اتمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة ".
ولن يتلهى العربي عن ضيفه حتى ولا بالزوجة والولد. يقول عروة بن الورد:
فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحادثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع [10]
وكانوا خير رفيق لصاحب الطريق، لا يختصون أنفسهم دونه بمال أو بظهر
أو بماء.
وعرف بعض الأجواد بكرمهم، ومن أجواد العرب أزواد الركب وهم ثلاثة
من قريش، وإنما قيل لهم أزواد الركب، لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب [11] .
ومن صدق تطبيقهم لهذا الخلق تعميم الدعوة إلى الطعام ليحضره كل من له
إليه حاجة، ومن شؤونهم التي تدعو إلى العجب والإكبار حبهم لكلابهم بسبب ما
كان يجلبه نباحها من الأضياف وضلال الطريق من المسافرين.
ومن مظاهر كرمهم العجيبة هداية الضيوف ليلاً بالنار التي يوقدونها لإنضاج
الطعام، أو للاستدفاء، وكانوا يوقدونها على المرتفعات لتكون أبين وأوضح. يقول
حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ ... والريح يا غلام ريح صر
إن جلبت ضيفاً فأنت حر [12]
الإسلام والكرم:
جاء الإسلام فأقر هذا الخلق الكريم، وشجع على البذل والسخاء، وحث على
إكرام الضيف، إلا أنه جعل إخلاص النية لرب العالمين يرتفع بمنزلة العمل
الدنيوي البحت فيجعله عبادة متقبلة. قال تعالى: [إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ
مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُوراً] [الإنسان: 9] .
وابتعد الإسلام في هديه عن المن والأذى والرياء، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ] [البقرة: 264] .
وحث الإسلام على البذل إلا أنه نهى عن الإسراف والتبذير [إنَّ المُبَذِّرِينَ
كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] [الإسراء: 27] .
ونفر من الشح وكنز الأموال، فقد روى البخاري في صحيحه: «ولا
صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه،
فإذا فر منه سمع من يناديه: خذ كنزك الذي خبأت فأنا عنه غني، فإذا رأى أنه
لابد له منه سلك يده في فمه فيقضمها قضم الفحل» .
فهذه الأموال والكنوز المستخفية في الخزائن أشبه بالثعابين الكامنة في
جحورها كأنها رصيد الأذى لأصحابها، بل إنها تتحول إلى حيات فعلاً تطارد
صاحبها لتقضم يده التي غلبها الشح ومنع حق المسلمين فيها.
والمسلم كريم يؤثر إخوانه على نفسه، ويقدم من كسبه الحلال الطيب إلى
إخوته الأتقياء، ولا يغدق أمواله بسخاء على غيرهم ولا يرضى أن يكون بقرة
حلوباً لسفلة القوم من الملحدين الطغام اتقاء شرهم [13] .
وهذا ما يصوره الحديث الشريف إذ يقول -عليه الصلاة والسلام-: «لا
تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي» [14] .
الجود والعطاء عند الرعيل الأول من هذه الأمة:
إن الجود والسخاء يتمثلان فيمن اصطفي الله من عباده كالنبيين والصديقين،
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة، ولذا
فقد انتقل إلى الرفيق الأعلى «وما ترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا وليداً،
وترك درعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير» [15] .
وقد حث رسول الله أصحابه على الإنفاق في سبيل الله ورغبهم في السخاء
فكانوا يصدرون عن طبع أصيل وسجية محبة للخير. قال تعالى: [لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] [آل عمران: 92] .
وكان بذل الصحابة مضرب الأمثال، فقد أخرج الشيخان عن أنس -رضي
الله عنه-: وقد تصدق أبو طلحة -رضي الله عنه- بعين بيرحاء وكانت مستقبلة
المسجد، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء
فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ] قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول
الله، وذكر الآية ثم قال: إن أحب أموالي إليّ بيرحاء وإنها صدقة لله، أرجو برها
وذخرها عند الله، فضعها يارسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول
الله: «بخٍ! ذلك مال رابح! ذلك مال رابح» [16] .
ولما نزلت الآية الكريمة: [مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] ...
[البقرة: 245] قال أبو الدحداح -رضي الله عنه-: يارسول الله قد أقرضت ربي ... حائطي، وفيه ستمائة نخلة، فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعيالها، فنادى يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي « [17] . ...
وكان الجود والسخاء من أبرز صفات المؤمنين طوال القرون واشتهر أجواد
في الإسلام أنسوا الناس ذكر حاتم الطائي وابن سعدى وكعبة بن مامة [18] وغيرهم
مثل أجواد الحجاز الثلاثة: عبيد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن
العاص [19] .
تنفير الإسلام من ظاهرة الشح:
حذر الإسلام من البخل لأنه يقطع الأواصر، ويحبط الأعمال، ولا يورث إلا
التباعد والتحاسد.
عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
» اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم « [20] .
وقال تعالى: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] .
ظاهرة الشح في الحضارة الحديثة:
مما سبق يتبين لنا أن العربي كريم في جاهليته، جواد سخي في إسلامه،
على اختلاف الدوافع والنوايا، أما أدعياء الحضارة الحديثة فلا يفهمون هذه القيم،
إذ لا يهتم المفتون منهم بحضارة الإفرنج إلا لمصلحته الخاصة، فإذا هو يعاني
خواء روحياً وجفافاً عاطفياً، نتج عنهما شعور عميق بالحرمان من الصداقة
والأصدقاء المخلصين..
لقد غاب عن الأذهان في حضارة هذا القرن، الإيثار والتضحية بين الأهل
والجيران وذلك بسبب لوثة هذه المدنية الحديثة ... فالأنانية طاغية، والتبرم سائد،
رغم كثرة الأموال، لكنه الهلع من شبح الفقر، والخوف على فوات الملذات.
إن النفس الشحيحة لن يصدر عنها خير، والنفس المجدبة لن تستطيع التأثير
والإفادة، ولو زعم صاحبها أنه من كبار الدعاة إلى الله.
الواجب على المربين أن يغرسوا خلق السخاء والكرم في نفوس الناشئة،
فالنفس التي تعود على البذل، ستكون بإذن الله نفساً خيرة معطاء، مجاهدة في
سبيل ربها، مرتفعة على شهوات الدنيا، وجواذب الأرض الهابطة. ستكون هذه
النفس مشاعل خير نيرة، تضىء الطريق أمام صحوة جادة على طريق الرعيل
الأول بإذن الله. والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر: أدب الحنيفية: رسالة ماجستير، أم القرى، حبيب بن حنش الزهراني، ص 381 383.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده: 2 / 381.
(3) انظر رسالة المعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى 1402 هـ، محمد الشيخ محمود صيام.
(4) تاريخ العرب قبل الإسلام: د جواد علي 4 / 575.
(5) ديوان حاتم: ط بيروت، ص 8.
(6) المفضليات: رقم القصيدة (23) ، ص 125.
(7) ديوان حاتم الطائي، ص 3 4، ط بيروت 63 9 1 م، ونسبها المبرد إلى قيس بن عاصم المنقري في كتابه الكامل.
(8) انظر تفصيلاً لذلك في: الحياة العربية في الشعر الجاهلي، الموفي، ص311 - 232، والعقائد والقيم في الشعر الجاهلي، ص 309-328.
(9) الأشباه والنظائر: 2 / 100.
(10) الديوان: ص 101.
(11) انظر: بلوغ الأرب للآلوسي: 1 / 91 - 92.
(12) انظر: الحياة العربية من الشعر الجاهلي، ص 316 - 318، وبلوغ الأرب 1/6.
(13) انظر شخصية المسلم: د محمد علي الهاشمي، ص 143-213.
(14) رواه أبو داود والترمذي.
(15) انظر حديث ابن عباس في مسند الإمام أحمد 1 / 300.
(16) انظر: حياة الصحابة: 2 / 157.
(17) انظر: المصدر السابق 2 / 62 1، وقال الهيثمي 9 / 4 32: رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات.
(18) وكانا مضرب المثل في الجود، يقول جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
... ... فما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأوفى منك يا عمر الجوادا.
(19) انظر بلوغ الأرب: 1 / 4 9 - 99.
(20) رواه مسلم: 2578 كتاب البر والصلة.(24/18)
من أدب الحوار
إنما أعظكم بواحدة
عبد العزيز بن ناصر السعد
تكلم الكاتب في الحلقة السابقة عن الأصل الأول: أن تقوموا الله. ويتابع هنا
عن الأصل الثاني: ثم تتفكروا..
الأصل الثاني: العلم:
ويدخل تحته التفصيلات التالية:
1- الاتفاق:
على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية لأن النقاش
والمنهج مختلف سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة، وسوف لا يسلم أي طرف
لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط، وحتى تتضح هذه المسالة أكثر نضرب
لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في (الاعتصام، الباب الرابع) تحت عنوان: مآخذ أهل البدع في الاستدلال فذكر منها (باختصار) :
أ - أن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة أو
الموضوعة أحياناً في العقائد والأحكام وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة لأنهم لا
يرضون الاستدلال بالضعيف فضلاً عن الموضوع في باب العقائد والأحكام فإذا لم
يتفق مع الطرف المحاور على هذا المنهج فلن يفلح الحوار في أي نتيجة لأن الأدلة
التي سيشترك بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده.
ب - ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة حيث يرفض الاستدلال
بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر، وهذا المنهج
مرفوض أيضاً عند أهل السنة حيث أن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحاً
للاستدلال ولو كان آحاداً، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداءً فلن يفلح الحوار
في أي نتيجة. إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات وقبل طرح الأدلة ودلالتها عن
المقصود لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد.
ج - كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه
والتعصب لها، ونبذ أي دليل يخالف ذلك بل إن بعض الملل المبتدعة من يرون أن
أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من
أقوالهم بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال فإذا لم يتفق على
خطاء هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة هو الأصل وكل ما خالفهما
مرفوض مهما كان قائله فإنه لا فائدة من النقاش.
د- ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات فيصحح
بهما الضعيف ويضعف الصحيح ويحلل ويحرم ويشرع بهما ما لم يأذن به الله، فإذا
لم يتفق ابتداءً على ضلال وخطأ هذا الاستدلال فلن يفلح الحوار ولن تتحقق أهدافه
أبداً، وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى
الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جداً.
2- مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافاتهم:
فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب
والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم
في الحوار لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشويش للطرف الآخر ينعكس
أثره على إيجابية الحوار.
3- البيان وحسن العرض:
إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل في إيضاح
الفكرة وأدلتها، ومما يكون له أكبر الأثر على قبول الطرف الآخر للفكرة، وإقناعه
بحسن الاستدلال عليها، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم أو الألفاظ
المجملة التي تحتمل عدة معان من غير توضيح للمعنى المراد منها.
4- البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة:
إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين كالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور
المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ويحس كل منهما أن
هوة الخلاف قليلة، وهذا له مردوده النفسي في الحوار وبالتالي فإن البدء بنقاط
الخلاف يوسع فجوة الخلاف ولو من الناحية النفسية ولذلك يحرص أن يلقى على
الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها " بنعم " ويتجنب ما يكون جوابه النفي
لأن كلمة " لا " عقبة كؤد يصعب التراجع عنها، والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة
فمثلاً في سورة المؤمنون يقول تعالى: [قُل لِّمَنِ الأَرْضُ ومَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ
* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ
عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ] فهنا نجد أن الله -سبحانه
وتعالى- ألقى عليهم الأسئلة التي يعرف جوابهم عليها مسبقاً لكي يصل إلى تقرير
توحيد الألوهية لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.
5- التوثيق:
ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية فلا يستدل
بشيء إلا مسنداً لقائله ومصدره الذي أخذه منه وأن يستعان بذكر الإحصائيات التي
تخدم الفكرة والمراجع التي رجع إليها لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر
والإحصائيات الموثقة أعمق أثراً في النفوس من ذكرها مجردة، كما ينبغي في مثل
هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة والحجج الواهية.
6- عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تماماً:
والتفكير العميق في أدلته ثبوتاً ودلالة وأن لا يقدم على تصحيح فكرة ما أو
تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماماً.
7 - الإحاطة بمواطن الخلاف:
في القضية المطروحة للحوار والإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه وما لا
يجوز، لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف فيحصل الاختلاف والفرقة حول
مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين
علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة " رفع الملام عن الأئمة
الأعلام ".
وفي هذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف، وأنواعها، وما هو
المحمود منها، وما هو المذموم، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف، والمسائل
التي لا يسعها، إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف، فنقول وبالله التوفيق. إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين:
1 - قسم يحمد فيه أحد الطرفين ويذم الطرف الآخر مثل الاختلاف الواقع بين
المؤمنين والكافرين، أو بين أهل السنة وأرباب البدع وهذا القسم الاختلاف فيه هو
المذكور في قوله تعالى: [ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ ومِنْهُم مَّن كَفَرَ] ، وكقوله
تعالى: [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] . فكل ما يتصل بقضايا العقيدة
وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم
فهو داخل تحت هذا القسم.
2 - قسم يذم فيه الطرفان المختلفان إذا سبب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة،
ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سبباً في الفرقة والمفاصلة، وهذا
النوع من الاختلاف هو الذي وسع السلف -رحمهم الله تعالى-، ولم يحصل بينهم
بسببه افتراق ولا بغضاء، فكل ما وسع السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- فيما
اختلفوا فيه فيجب أن يسعنا، ويندرج تحت هذا القسم عدة صور نجملها فيما يلي.
أ - اختلاف في تحديد موضوع الخلاف: وذلك بأن نجد أحد المختلفين قد
ذهب إلى موضوع من النزاع غير ما ذهب إليه الآخر فذاك سماه باصطلاح معين
والآخر سماه باسم آخر فظهر أن هناك اختلافاً والحقيقة غير ذلك فلو حددت
المصطلحات ودقق في المعاني والألفاظ لظهر أن هناك اتفاقاً وليس اختلافاً , وهذا
الأمر لا يأتي إلا بالتفكير الهادئ مع الإخلاص لله -عز وجل-.
ب - قد يتضح بعد التفكير وتحديد موضع النزاع أن هناك اختلافاً لكن هذا
الاختلاف ليس اختلاف تضاد بمعنى أن المعنى الكلي ليس فيه خلاف إنما الخلاف
في تنوع آحاد هذا الكلي وتعدد الأمثلة التي تحته كمن يذهب إلى معنى جزئي وآخر
يذهب إلى معنى جزئي آخر يندرج كلاهما تحت المعنى العام الكلي، مثال ذلك
تفسير (الصراط المستقيم) في قوله تعالى [اهدنا الصراط المستقيم] فقائل بأنه
القرآن وآخر أنه الإسلام وآخر أنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكل هذه
المعاني لا اختلاف بينها لأن مرادها واحد وكل قول داخل تحت الآخر.
ج - وهذه الصورة من الاختلاف الذي وسع السلف -رحمهم الله تعالى- بأن
يكون المعنيان متغايرين لكن ليس بينهما منافاة لأن هذا قول صحيح ورد فيه دليل
وذاك قول صحيح ورد فيه دليل أيضاً ولا يجوز أن يكون هذا سبباً في الاختلاف،
وهذا كثير في المنازعات لعدم معرفة أحد الطرفين بما عند الآخر من دليل، ومثال
ذلك الاختلاف في صفة الإقامة للصلاة فمن قائل بشفعها وقائل بإفرادها والاختلاف
في القراءات.. . الخ.
وكل ما ورد في الشريعة عليه دليل صحيح ووسع السلف الصالح فإنه لا
يجوز أن يكون سبباً في الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتباغض، وهذا بالطبع لا
يأتي إلا نتيجة التفكير والبحث وعدم التعجل في رد قول المخالف إلا بعد الاطلاع
على كل ما يتعلق بالموضوع من أدلة واستنباطات، فقد يتضح بعد البحث أن كلا
القولين ثابت وصحيح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبذلك ينتهي الخلاف.
د - الخلاف حول قضية معينة ورد الدليل عليها وأورد المخالف دليلاً آخر
مخالفاً لها لكن أحد الدليلين أقوى من الآخر وأرجح، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يكون
سبباً في الفرقة لأن ما وسع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة
السلف ينبغي أن يسعنا، وهذا يقع في كثير من الأحكام التي اختلف فيها العلماء
وعندما يعلم أن هؤلاء الأئمة ما اختلفوا لهوى في نفوسهم بل وقف كل منهم مع ما
عنده من الدليل فربما وصل أحدهم ما لم يصل الآخر أو صح عنده ما لم يصح عند
غيره كما بين ذلك شيخ الإسلام في رسالته: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ولكن
مع ذلك فالواجب في هذه الحالة العمل بالدليل الراجح وترك المرجوح عند من تبين
له ذلك بوجه شرعي.
ولكن هذا لا يعني موافقة من يأخذ بالأقوال الشاذة أو بعض سقطات العلماء
والتي يكون الدليل على خلافها بل الواجب تصحيح المخالف وإرجاعه إلى الدليل
وتوضيح وجه الشذوذ فيما أخذ به لأن هناك من يقول (أي قضية لم يجمع عليها
الصحابة فالأمر فيها واسع) وهذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه فقد ذكر الشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه الله- في رسالة له لم تطبع
بعد، كلاماً جيداً حول هذا الأمر ننقل منه المناسب لموضوعنا. يقول -رحمه الله
تعالى-:
" وأما احتجاجه بقول النووي إن العلماء إنما ينكرون على من خالف ما أجمع
عليه وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب.
قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه، فيقال
في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي بل تصرفت فيها وأخذت ما تهوى
وتركت بقية العبارة لأنه عليك مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض. قال النووي بعدما
تقدم: لكن إن أريد به على جهة النصيحة أي الخروج من الخلاف فهذا حسن
محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من
الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة أو وقوع في خلاف آخر. هذا كلام النووي
فقد استبان لك أن مراده إذا لم يظهر دليل ولم يترجح جانب الأفكار بكتاب أو سنة
أو إجماع أو قياس جلي.. وأما أقوال الآحاد من العلماء فليست بحجة إذا لم يقترن
بها دليل شرعي ومازال العلماء يردون على من هو أجل منه " أ. هـ.
وبعد هذا التفصيل فيما يجوز الاختلاف فيه ومالا يجوز، نتوجه إلى جميع
المختلفين أن يقفوا وقفة مع نفوسهم، ويسأل كل واحد منهم نفسه أو صاحبه ومن
يخلص له النصح والتذكرة: أين نحن من أنواع الاختلاف، وأين نحن من البغي
والاعتداء في الخلاف، وأين نحن من أدب الخلاف وأخلاقه، وما كانت الأمة
لتفترق إلا بسبب البغي والحسد والجهل فلنقف مع موعظة الله -عز وجل- لنا ومع
ما جاءنا به القرآن الحكيم والذي جعله الله لنا هدى وشفاء ورحمة وموعظة: [قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] .
8- أن يعطى كل طرف في الحوار راحته وحريته في التعبير عن فكرته
والاحاطة بها من جميع الوجوه لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل
الأفكار وترابطها واضطرابتها.
9- لا أعلم:
وذلك بأن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله -عز
وجل- بأن يقول لا أعلم عند السؤال عن مسألة لا يعلمها أو لم يبحثها بحثاً كافياً،
وأن لا يستحي من ذلك وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن
وجد جواباً.
10 -التفريق بين الفكرة وصاحبها:
وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية بعيداً
عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات
الأشخاص ونواياهم ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم
بالجرح والتعديل حسب مقاييس أهل السنة وذلك عندما نخشى ضلالالتهم أو تأثر
الناس بأفكارهم ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف.
11 - إقفال المناقشة:
عندما تتسع شقة الاختلاف أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أموراً أساسية
برزت لم يتم التحضير لها أو لا يكفي الوقت لمناقشتها فيحسن في مثل هذه الأحوال
إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له، كما ينبغي
قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد أو مستهتر أو كان
دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار.
الأصل الثالث: ظروف الحوار والمتحاورين
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة وقد أشارت الآية
الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى [مثنى وفرادى] وسنشير هنا -إن شاء
الله تعالى- إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار لأن إلغاءها يؤثر كثيراً
على طبيعة الحوار ونتيجته، ومن هذه الجوانب ما يلي:
1 -مراعاة الجو المحيط بالحوار:
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي والمؤثرات المحيطة بالحوار وذلك كما في الآية
الكريمة حيث يوجه الله -عز وجل- طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية
والغوغائية لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء حيث التقليد الأعمى والتبعية
للأكثرية بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما
فإنه أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة وبقدر ما يقل المتحاورون
أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره.
2 -مراعاة الجو الحسي للحوار:
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق.. الخ، لأن وجود ما
يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش وخسارة، وقد يبتر النقاش أو
يختصر دون وصول إلى نتيجة وذلك حتى يبتعد عن ما يؤذي في مكان الحوار
كذلك مما يتعلق بهذا الجانب اختيار المكان الهادئ وإتاحة الزمن الكافي للحوار فلا
تصلح أماكن الدراسة والعمل والأسواق للحوار أبداً وذلك لضيق الوقت ولوجود ما
يشغل.
3-مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاوَر أو المحاوِر:
فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب أو
حاجة لنوم أو بسبب جوع أو يعاني من إرهاق نفسي كهم أو غم أو حزن لأن هذه
الظروف لابد أن تؤثر حتماً على الحوار إما بتره قبل تمامه أو حدوث انفعالات
وغضب وتوتر يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
4 - أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار:
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على
سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب، إذ من الصعب أن
يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف ولو بسيط معهم. لأن في جلسة
التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الآخر ولو بشكل مبدئي من
خلال مظهره وحديثه ونبرات صوته وحصيلته العلمية مما يكون له الأثر في معرفة
الظروف النفسية والميولات الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في
طريقة وأسلوب الحوار مع الناس كل حسب ظروفه، ويمكن أن تتم جلسة التعارف
هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء يتم فيه أحاديث غير رسمية عن الصحة والعمل
والأولاد وعن رأيه في الكتاب الفلاني وفي الفكرة الفلانية، وعن أي أمر عام ليس
له علاقة بموضوع الحوار. فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ
المرء بأشخاص لم يضع لهم في ذهنه أي تقدير لهم ولظروفهم فيؤدي إلى فشل
الحوار كأن يخبر على أن الشخص لطيف وسهل التعامل وحليم ويفاجأ بالعكس تماماَ.
5 - أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه وأن يتجنب
مناظرة ذي هيبة يخشى أن يستحي من مناظرته لئلا يؤثر ذلك على قوة الحجة
والجرأة على الإدلاء بها.
6 - ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد وتقابلهما فيه وأن ينظر
بعضهم للآخر لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها وفي هذه
الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف.
7 - مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي) ، والذي يكون له مردوده
النفسي على أطراف الحوار وسلامة قلوبهم وصفائها، والانقياد للحق عند ظهوره،
ومن هذه الآداب:
أ- احترام الطرف الآخر والتأدب معه وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ،
وعدم السخرية برأيه، وأن يثني عليه بما فيه، وفكرته من الإيجابيات والخير
الكثير.
ب - التلطف في العبارات أثناء الحوار، فبعض العبارات قد تفتح مغاليق
النفوس وهي يسيرة على من يسرها الله عليه من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس
وتزيل الجفوة وتهيء النفوس لاستقبال الحق، والأمثلة في ذلك كثيرة كمناداة
الطرف الآخر بكنيته وإذا كان أكبر سناً أو علماً بياأستاذي وشيخي.. اسمح لي..
عفواً.
ج -ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار فهذا يضفي على
الحوار جو الألفة والأنس.
د - اجتنب الغضب ما أمكن ولو عارضك الطرف الآخر أو أغلظ القول لك،
واستخدم الرفق واللين.
هـ -تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر فالنفس غالباً لا
تتحمل قول (أخطأت) أو (سأثبت لك أنك مخطئ) أو (أنا أخالفك في الرأي) فهذه
الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته.
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك: لكن أرى رأياً آخر قد
أكون مخطئاً فيه، أو لعلك تصلح لي خطأي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه
ببعض الإضافات فتقول: هل لك أن تفعل هذا أو ما رأيك في إضافة هذه العبارة..
أو ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل.. الخ.
8- التحدي والإفحام: وهذا الأسلوب يلجأ إليه المماحكين الذين همهم الجدال
والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق
وإنما الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضلل بسببهم
وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم
واضطرابها. لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم والذكاء
والشجاعة بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه أو سطحيته أو نحو ذلك.
9- المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة:
تحديد هدف الحوار قبل الدخول فيه أمر مهم والمحافظة على الهدف أثناء
الحوار أيضاً أمر مهم لأن ذلك يحافظ على التركيز وعدم الخروج عن موضوع
الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار مما يكون له
الأثر في ضياع الوقت وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد:
فهذه جملة في أصول الحوار وآدابه أعرضها على علاتها ونقصها لعلها تفتح
المجال لعلماء الأمة ودعاتها بأن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص
منه، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه.
كما أسأل الله -عز وجل- أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها
الخلافات وخيم اليأس على بعضهم، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب
الناس بعضهم إلى بعض أن يقوموا لله -عز وجل- ويتفكروا مع أنفسهم أو مع
بعضهم البعض وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ويعلم وإن كان مخطئاً في شيء
فقد أصاب في أشياء أكثر مادام أنه من أهل السنة وأتباع السلف.
فيا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ويا محبي محمد - صلى الله عليه
وسلم - جردوا أنفسكم لله تعالى واقتدوا بسلف الأمة الذين كانوا حريصين على جمع
الكلمة وسلامة القلوب، وكان أبغض شئ لديهم الفرقة والاختلاف، فهذا عبد الله بن
مسعود -رضي الله عنه- عندما قيل له: أن عثمان بن عفان أتمَّ بالمسلمين في منى
وكانت السنة القصر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم لم يمنعه ذلك من أن يأتم
بعثمان ويتم الصلاة معه أربعاً، فلما قيل له في ذلك قال: إن الخلاف شر. فحري
بمن أحب السلف والتزم بمنهجهم أن يلتزم بمنهجهم الشامل في الاعتقاد والسلوك،
وما تم عرضه في هذا البحث يمثل إن شاء الله تعالى بعض آداب السلف الصالح
في حوارهم واختلافهم وهي بدورها الآداب التي هدانا الشرع إليها لنخرج من
الاختلاف الذي قدره الله تعالى على كل أمة، وأن لا نستسلم لهذا الاختلاف بل
ننازعه بقدر الله -عز وجل- وأسبابه الشرعية التي شرعها الله لنا والتي لا سبيل
للنجاة والخلوص من الشرور إلا بالرجوع إليها، ومن سلك سبيل الهدى وصدق مع
الله -عز وجل- في طلبه للجماعة والائتلاف يسر الله له سبيله وألف بينه وبين
إخوانه من الدعاة الصادقين، ومن سلك سبيل الضلال من الزيغ والفرقة والاختلاف
أضل الله سبيله وأزاغه عن الهدى [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ
المُحْسِنِينَ] ، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(24/26)
شذرات وقطوف
الجرأة على الأمور
إن الذي يورث جيل الإفرنج الإقدام على الأمور والكلام، هو تعويدهم الجرأة
في الأمور، فإن إلقاء الرعب في قلب الصغير كلوافح الرياح العاصفة على الغرس، فلا يمكن بعد ذلك أن يصلح للمسائل الجليلة.
أحمد فارس الشدياق
***
طرائف
قال أحد الأدباء: أمور ثلاثة عجلت هرمي:
1 - أن يحضر كل الضيوف دعوتك ماعدا واحداً تضطر إلى انتظاره.
2 - أن تضع زوجك الصحون على المائدة وابنك الذي أرسلته ليأتي ببعض
الحاجات من السوق ما يزال غائباً.
3 - أن يذهب ضيوفك جميعاً إلا واحداً، إنه ذلك الذي سكت طوال السهرة
فلما أراد أن يودعك عند الباب بدأ يتكلم، وتشعر وهو يحدثك أن حديثه ليس له
نهاية.
***
آفة المزاح
قال سعيد بن العاص لابنه:
اقتصد في مزاحك فالإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجرئ عليك السفهاء،
وتركه يقبض المؤانسين ويوحش المخالطين.
***
متى؟ !
متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يَثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا
وأن تَرفَّع الوضعاء يوماً ... على الرفُّعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا
القاضي عبد الوهاب المالكي(24/38)
تربية
على طريق الإصلاح النفسي
عثمان جمعة ضميرية
صلاح القلب أساس لصلاح الفرد:
لعل أعظم ما في هذا الإنسان وأشرفه، هو القلب الذي يفقه به، ويتعرف من
خلاله على خالقه -سبحانه وتعالى-. ولذلك نعى الله تعالى على أولئك الذين وهبهم
القلب فعطلوه عن الفقه والفهم، فقال: [ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ والإنسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: 179] .
وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القلب وصلاحه سبباً
لصلاح الإنسان، كما أن فساده سبب لفساد الإنسان فقال: " ألا وإن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي
القلب " [1] .
والقلب الحي السليم أصل كل خير وسعادة وحياة: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا]
[الأنعام: 122] .
أقسام الناس في هذا القلب:
والناس في هذا القلب ثلاثة أصناف:
- قسم ألهمه الله رشده، وأسعده بمعرفته، وهدى قلبه، فجعله سالماً من أن
يكون فيه شائبة من شوائب الشرك، بل أصبح خالصاً لله تعالى في عبوديته: إرادة
ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وخشية ورجاءً، وعملاً ومتابعة.
وهذا القلب هو الذي ينفع صاحبه يوم القيامة: [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ *
إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] [الشعراء: 89] .
- وقسم استهوته الشياطين، فأخلد إلى الأرض، وكأنه تجرد من إنسانيته،
وأقام على حيوانيته، فمات قلبه وأصبح لا يعرف حياة ولا نوراً، فحقت عليه كلمة
العذاب، وكان من الغاوين: [واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ
هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [الأعراف: 75-76] ، [أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ] [الزمر: 19] .
- وقسم ثالث؛ له قلب به هدى وإيمان ورشد، شرح الله صدره للإسلام
فعرف الله بعض المعرفة، ولكنه وقع تحت سيطرة بعض الشهوات فهو يغالبها،
والشيطان يزين له السوء والرغبات، فهذا الصنف من الناس ينازع الخير والشر،
وكثيراً ما يشعر المؤمن هنا بحلاوة المجاهدة، إذ المجاهد من جاهد نفسه في الله.
ويشعر بمرارة الهزيمة أمام الشيطان، فهو بحاجة إلى جرعات من المضادات،
بحاجة إلى معالجة الأعراض التي قد تبدو عليه فتكون مؤشراً على خطر كبير
ومرض قد يستعصي علاجه ما لم نبادره بذلك.
فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: " تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب
أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود
القلوب على قلبين:
قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً (منكوساً) لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا
ما أُشْرِب من هواه. وقلب أبيض، فلا تضره فتنة مادامت السموات
والأرض " [2] .
المجاهدة وإصلاح القلب:
وما أحوجنا إلى أن نجاهد أنفسنا وأن نجاهد الشيطان، وما أحوجنا إلى أن
نجلو قلوبنا، وأن نسأل الله تعالى أن يثبتها وأن يصرفها إلى طاعته، فقد ورد في
الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " ما من قلب إلا وهو بين
اصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه،
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. والميزان بيد الرحمن عز وجل يخفضه
ويرفعه ".
وفي رواية: " والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم
القيامة " [3] .
وفي حديث آخر: " مثل القلوب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبها الريح ظهراً
لبطن " [4] .
طرق الإصلاح:
ولعله مما يساعدنا على ذلك أن نتبصر بعيوبنا، ونتعرف على أمراض
نفوسنا وقلوبنا، ليكون ذلك سبيلاً إلى علاجها ودوائها، ومن أراد ذلك - وينبغي له
أن يفعل - فإن أمامه أربع طرق:
الطريق الأول: العلم الذي يبصرنا بذلك ويوضح الطريق أمامنا، فهو
الكشاف الذي يكشف لنا خبايا العلل. وسبيل ذلك والطريق إليه هو: مصاحبة كتاب
الله تعالى ومدارسته، ومدارسة حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتأسي
به واتباعه.
والطريق الثاني: أن تطلب لك أخاً ناصحاً شفيقاً، وصديقاً صدوقاً، يبصرك
بعيوبك، ويرى أن ذلك واجب عليه يفرضه الإسلام عملاً بقوله -عليه الصلاة
والسلام-: " الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامتهم " [5] .
وقد كان أمير المؤمنين الفاروق عمر -رضي الله عنه- يقول: رحم الله
امرءاً أهدى إلينا عيوبنا. ولنذكر أن المؤمن مرآة أخيه المؤمن.
الطريق الثالث: أن تنظر إلى ما يقوله فيك خصومك، فإنهم يتلمسون لك
المعايب، فلا تأس على فعلهم ذاك، فإنهم بهذا يعرفونك بعيوب نفسك التي قد تغفل
أنت عنها، أما هم فلا يسكتون. وقديماً قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
والطريق الرابع: مخالطة الناس ومعايشتهم، فإذا رأيت منهم مالا تحمده من
الصفات التي نهى الله تعالى ورسوله عنها فخذ نفسك بالابتعاد عنها والحذر منها،
وتحل بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات التي تحبها في الناس وتحببك أنت إليهم.
فهلا حاولت ذلك أيها المسلم وجربت وجاهدت نفسك ليكتب الله تعالى لك
الهداية إلى السبيل الأقوم وإلى الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة [والَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) أخرجه أحمد وابن ماجه والبغوي بإسناد صحيح.
(4) أخرجه مسلم.
(5) أخرجه مسلم.(24/40)
اقتصاد
صندوق النقد الدولي
ومديونية العالم الثالث [*]
حمد سليمان البازعي
تعتبر مشكلة الديون الخارجية لدول العالم الثالث من أهم المشاكل التي تهدد
استقرار الاقتصاد العالمي، لذا تجمع دول العالم على ضرورة إيجاد حل لهذه
المشكلة، لكن هذه الدول تختلف على كيفية الحل. فمن دول ترى أن من الأنسب
إعفاء الدول المدينة من ديونها، إلى دول ترى أن الأنسب تشجيع الدول المدينة
على الوفاء بالتزاماتها عن طريق إقراضها قروضاً جديدة حتى تتمكن من سداد
الديون القائمة. وهذا الإقرار لابد أن يتم عن طريق المؤسسات المتخصصة، أو
يخضع على الأقل لإشرافها. ومن هذه المؤسسات صندوق النقد الدولي والذي
سنعرض في هذه المقالة - بإيجاز - لدوره في هذه المشكلة.
لكن قبل ذلك لابد من مقدمة عن:
حجم ديون العالم الثالث:
تميز عقد السبعينات الميلادي من هذا القرن بأنه عقد التنمية قامت فيه دول
العالم الثالث رغبة في الانطلاق من حلقة التخلف المفرغة بمشاريع جبارة تطلبت
رؤوس أمول ضخمة، ولم يكن أمام هذه الدول من وسيلة لتمويل هذه المشاريع
سوى الاقتراض الخارجي، خصوصاً من الدول المتقدمة وبنوكها، لكن هذا
الاقتراض لم يجلب معه ما كان مؤملاً من نمو وزيادة، وإنما أوقع هذه الدول في
شرك المديونية، فالدخل الناتج من هذه المشاريع لا يكفي لسداد الأموال المقترضة
مما استدعى الاقتراض لسداد الديون القائمة وهكذا.
وبنظرة عاجلة لأرقام ديون العالم الثالث نرى أنها وصلت إلى أرقام خيالية، فطبقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، زادت هذه الديون من 722 بليون دولار في عام 1982 إلى 890.6 بليون دولار في عام 1985، ثم قفزت إلى 117 بليون دولار في عام 1988، أي بمعدل زيادة سنوية قدرها 24 %.
وبنسبة هذه الديون إلى مجمل إنتاج دول العالم الثالث من سلع وخدمات نجدها بلغت في عام 1982، 35.9%، كما بلغت 45.2% في عام 1985، أما في عام 1988 فقد بلغت 47.4%، وهكذا فإن هذه الديون تستهلك ما معدله 43% من مجمل إنتاج هذه الدول، ويعتبر هذا استنزافاً لثرواتها في وقت هي أشد ما تكون حجة إليه، لكن لصورة تبدو أكثر إيلاماً عند نسبة هذه الديون إلى مجمل إيرادات الصادرات في الدول المدينة، فقد بلغت هذه النسبة لعينة من 112 دولة 166 % عام 1958، أما في عام 1988 فقد بلغت هذه النسبة 189.7 % [1] ، أي إن مجمل إيرادات صادرات هذه لدول لا تكفي ـ أو بمعنى أصح لا تغطي ـ سداد ثلث هذه الديون.
وقد يتساءل القارئ الكريم: ما سبب هذه الزيادة الخيالية في حجم هذه الديون؟ والجواب على ذلك يتطلب تحليلاً لكل العوامل التي يعتقد الاقتصاديون أنه وراء
هذه لزيادة، وهذا خارج عن نطق هذه المقالة إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة العابرة
إلى أهم هذه العوامل، وهي:
1 ارتفاع أسعار واردات دول العالم الثالث، وبخاصة أسعار السلع الرأسمالية، والتي تعتبر أساساً لانطلاق عملية التنمية، هذا الارتفاع صوحب بانخفاض في
أسعار صادرات هذه الدول، أو على الأقل بقاءها على ما هي عليه مما جعل
الحاجة ماسة لتمويل الفرق بالاقتراض الخارجي.
2- سياسات التوسع في الإقراض من قبل البنوك الغربية، حيث وجدت هذه
البنوك نفسها تحتفظ بفوائض عالية وذلك بفضل الفوائض المسماة بـ "
الدولابترولية " هذه الفوائض جعلت الحاجة ماسة للبحث عن أسواق مربحة
لتصريفها، وكان سوق العالم الثالث هو الأكثر ترشيحاً لاستقطاب هذه الفوائض،
وهذا الإقراض يتم غالباً على أساس أسعار فائدة (تتغير حسب سعر السوق) وتحت
شروط قاسية.
3- الارتفاع المذهل لأسعار الفائدة، وخصوصاً في بداية الثمانينات حيث
تجاوزت أسعار الفائدة معدل 20% مما أدى إلى الزيادة في عبء خدمة هذه الديون. بالإضافة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار (عملة تقويم الديون) مقابل عملات كثير
من الدول المدينة مما زاد في قيمة الديون الفعلية.
4 -الكساد الذي عم الدول الصناعية خلال الفترة ما بين 1981 -1983 مما
انعكس سلباً على دخول دول العالم الثالث وذلك من خلال:
أ- انخفاض طلب الدول الصناعية على منتجات تلك الدول.
ب- هذا الانخفاض في الطلب أدى إلى انخفاض في أسعار تلك المنتجات.
ج- لجوء الدول الصناعية إلى سياسات الحماية كفرض التعاريف الجمركية،
مما أدى إلى صعوبة دخول منتجات دول العالم الثالث إلى أسواق هذه الدول.
كل هذه العوامل الأربعة ساهمت بتفاقم أزمة المديونية، التي باتت تهدد
استقرار الاقتصاد العالمي، وقد بلغت هذه الأزمة حد الانفجار في شهر أغسطس من
عام 1982 م عندما أعلنت المكسيك (ثاني أكبر دولة مدينة في العالم بعد البرازيل)
أن احتياطياتها قد شارفت على النضوب، وأنه ليس باستطاعتها الوفاء بالتزاماتها.
في تلك الأثناء برز صندوق النقد الدولي كعامل حسم في علاقة الدول الدائنة
مع الدول المدينة.
دور صندوق النقد الدولي:
أنشئ صندوق النقد الدولي في عام 1944 م بموجب اتفاقية بريتون
وودز [2] ، وطبقاً لهذه الاتفاقية فقد انحصرت مهمة الصندوق في:
1 - وقوفه مستعداً لإقراض أي دولة عضو تعاني من عجز في ميزانها
التجاري مع العالم الخارجي، في حين أن تبني أي سياسة داخلية لمعالجة هذا العجز
(كتخفيض الإنفاق الحكومي مثلاً) يمكن أن يؤدي إلى آثار سلبية على مستوى
العمالة في الداخل [3] .
2 - مراقبة التزام الدول الأعضاء بنظام أسعار الصرف الثابتة والمقرة في
تلك الاتفاقية [4] .
استمر الصندوق في ممارسة مهمتيه هاتين حتى انهارت اتفاقية أسعار
الصرف الثابتة فعلياً عام 1971 فتغيرت تبعاً لذلك مهمة الصندوق، وبدأ الصندوق
منذ ذلك الحين بمهمة من نوع جديد وهي الإقراض لا بغرض تصحيح الاختلال
الطارئ على الموازين التجارية للدول الأعضاء، وإنما لمعالجة الاختلالات الهيكلية
في اقتصادياتها. بذلك بدأ الصندوق يمارس دوراً أكبر بدخوله شريكاً مع الدول
المقترضة في تقرير السياسات الاقتصادية، والتي يجب على الأخيرة الأخذ بها.
هذه السياسة غالباً ما يطلق عليها سياسة: " التقشف " أو السياسات المشروطة ولم
يأت هذا الدور طبيعياً ومن دون معارضة، وإنما أتى مفروضاً من قبل الدول
المتقدمة، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ارتأت أن إقراض الدول
الغربية أو بنوكها لدول العالم الثالث لا يعطي للدول الدائنة الحق في إملاء شروطها
على الحكومات المدينة، ولو فرض أن هذه الأخيرة قبلت هذه الشروط فإن شعوبها
من الممكن أن لاترضى بوصاية دولة أجنبية في تقرير سياسة داخلية. لذا كان
الصندوق من أفضل من يقوم بهذا الدور دون إثارة الحساسية الوطنية، فأصبح
الصندوق بذلك ملجأ للدول الباحثة عن قروض، لكن هذه القروض غالباً ما تكون
مصحوبة بإملاء السياسات الاقتصادية التي يجب على الدولة المستفيدة الأخذ بها.
ومن هذه السياسات:
1 - رفع القيود المفروضة على أسواق السلع والعملات، والعمل على جعل
هذه الأسواق حرة كما تفترض النظرية الاقتصادية.
2 - تخفيض سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.
3-تخفيض القيمة الفعلية للأجور.
بالإضافة إلى هذا الدور يعتبر الصندوق جهة حكم وتقييم لمقدرة الدول المدينة
على السداد والوفاء بالتزاماتها. فالصندوق تبعاً لذلك يقوم بمهمة تصنيف الدول
حسب قدرتها على السداد. فالدولة التي يصنفها الصندوق على أنها دولة " موثوقة "
تجد من السهل الحصول على ما تريد من قروض سواء من الصندوق مباشرة، أو
من غيره من الدول [5] . هذه الثقة تحصل عليها الدولة بتمسكها بحرفية شروط
الصندوق وسياساته. أما الدولة التي ترى الأولوية لمصلحة غالبية شعبها فإنها
ستجد من الصعب -إن لم يكن من المستحيل - تطبيق شروط الصندوق، وبذا
تصل الثقة بمثل هذه الدولة إلى أدنى درجاتها. ويصبح من العسير على مثلها
الحصول على معونة أو قرض، لذا أصبح الصندوق عاملاً محدداً لغرض دول
العالم الثالث في الحصول على قروض.
نقد دور الصندوق:
إن للصندوق دوراً مهماً في تقرير السياسات الاقتصادية على المستوى الدولي. ونظراً لحجم وأهمية هذا الدور فقد حظي هذا الدور وآثاره بدراسات مستفيضة.
ونظراً لأن سياسات الصندوق قد جربت في كثير من دول العالم الثالث فقد
كانت هذه السياسات وآثارها ولازالت محل دراسات متعددة لتقييم هذه الآثار.
هذه الدراسات دلت على نتائج متطابقة في كثير من الأحيان، متعارضة في
أحيان أخرى، فأغلب هذه الدراسات ترى أن دور الصندوق ممثلاً بسياساته هو
دور سلبي في مجمله فلم ينتج عن توصيات الصندوق لمعظم دول العالم الثالث
سوى غرقها في ديون أصبح من العسير الانعتاق منها، كما أدت إلى الكساد وإعاقة
النمو.
وحتى في الحالات النادرة التي يستشهد بها على أنها نجاح للصندوق في
مهمته؛ لا يمكن الجزم بأن نتائج سياسات الصندوق كانت كلها محبذة. وحتى
النتائج الإيجابية منها لم تكن بمستوى ما بشر به الصندوق وخبراؤه [6] ؛ فمثلاً
يلاحظ أن كثيراً من الدول المستفيدة من خدمات الصندوق وجدت نفسها قد تورطت
في إنتاج لا يتمشى مع أولوياتها واستيراد استهلاكي حمّل ميزان مدفوعاتها عبئاً قد
فاق حجم ما حصلت عليه من معونة!
هذه النتائج -لكثير من المراقبين - تعتبر غير مستغربة وإلا فماذا يمكن أن
تنتظره دول العالم الثالث من مؤسسة أنشئت ونظمت بطريقة تضمن سيطرة العالم
الغربي عليها؟
وبنظرة سريعة لتوزيع أوزان الأصوات في نظام الصندوق يبدو ذلك جلياً؛
فالولايات المتحدة الأمريكية تتحكم بأكثر من عشرين بالمائة من الأصوات، وأوربا
الغربية بثمان وعشرين بالمائة. أما دول العالم الثالث فتتحكم فقط بحوالي ثلث
الأصوات على حين أن عددها يبلغ ثلاثة أرباع الأعضاء!
وباختصار يرى كثير من المراقبين أن سياسات الصندوق لم تؤد إلى النتائج
المأمولة، بل أدت إلى العكس من ذلك. ومن أهم السلبيات التي نجمت عن تطبيق
مثل هذه السياسات ما يلي:
1 - استنزاف موارد الدول النامية من خلال إيقاعها في شرك المديونية.
2 - تكريس التبعية لدول الغرب بأن أصبح كثير من دول العالم الثالث يدور
في فلكها وتحت رحمة بنوكها.
الصندوق والاستقرار السياسي في العالم الثالث:
كان من آثار سياسات الصندوق الاقتصادية ما امتد إلى الجانب السياسي،
ويكاد يجمع كثير من كتاب دول العالم الثالث على ربط المناخ السياسي المتأزم في
كثير من هذه الدول بتدخل الصندوق في تقرير السياسات الاقتصادية الداخلية، فكما
مر معنا يشترط الصندوق على الدولة طالبة القرض أن تتبنى السياسات الخاصة
بحد النفقات الحكومية، وذلك برفع الإعانات عن السلف الضرورية وتخفيض الدعم
الحكومي للإنتاج المحلي مما يؤدي إلى رفع الأسعار. كما أن اشتراط تخفيض قيمة
العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية يؤدي إلى رفع أسعار السلع المستوردة التي
تمثل بالنسبة لكثير من هذه الدول مخرجاً من محدودية الإنتاج المحلي مما يعيق
برامج التنمية. كما إن ارتفاع أسعار هذه السلع يجعلها بعيدة عن متناول (وأحياناً
حتى عن نظر) غالبية السكان.
من هذه المنطلقات النظرية نرى أن سياسات الصندوق تحمل غالبية السكان
من ذوي الدخول القليلة عبئاً ليس باستطاعتهم تحمله. وحتى لو تحملت هذه الجموع
بتأثير حملة دعائية تعدها بنيل فردوس الصندوق المزعوم؟ سرعان ما يبلغ السيل
الزبى فتنطلق هذه الجموع بمظاهرات وأعمال عنف تبرماً بالوضع القائم، والأمثلة
على ذلك كثيرة لا مجال لذكرها، لكن يكفينا - كمثال - ما حدث في فنزويلا قبل
بضعة شهور فبعد اتفاق فنزويلا مع الصندوق رفعت الحكومة الدعم عن كثير من
السلع الضرورية تشكل قوت غالبية السكان، كما سرحت الحكومة عدداً من
موظفيها تخفيضاً وحَدّاً لنفقاتها فكانت النتيجة أن خرجت مظاهرات عنيفة خلفت
وراءها مئات القتلى والجرحى.
وكمثال على أن سياسات الصندوق تجعل العبء على غالبية السكان دون
الصفوة الغنية ما حدث في بيرو في بداية الثمانينات فخلال ثلاث سنوات ومنذ العام
1980م فُقد حوالي مليون فرصة عمل كما أن أجور الوظائف الباقية انخفضت
بشكل كبير. أما في البرازيل -أكبر دولة مدينة حالياً ب (115) بليون دولار - فقد
انخفض معدل الأجر الحقيقي بحوالي الربع عما كان عليه في عام 1980 [7] .
هذه السياسات ساهمت وتساهم في تأزيم المناخ السياسي في دول العالم الثالث، مما يجعل الدول الرأسمالية - في النهاية - هي المستفيدة الوحيدة، فاضطراب
المناخ السياسي يجعل رؤوس الأموال في دول العالم الثالث تهاجر إلى حيث
الاستقرار المزعوم في الدول الرأسمالية. هذه الأموال المهربة والمسروقة من أفواه
الجوعى والمستنزفة من موارد هذه الدول تساهم في تكريس تبعية دول العالم الثالث
للغرب الرأسمالى. وباختصار شديد: إن تدخل الصندوق في تقرير السياسات
الداخلية لدولة معناه شل مقدرة هذه الدولة على اتخاذ القرار، حيث ينتقل مكان
صنعه من العاصمة المحلية إلى واشنطن حيث مقر الصندوق.
وختاماً نعلق بالتالي:
إن فشل الصندوق في تقديم المعونة المثمرة والاستشارة المفيدة يرجع بشكل
أساسي إلى الأسس النظرية التي قامت عليه سياسات الصندوق، فعوائق التنمية
تتمثل طبقاً لهذه الأسس في نقص المدخرات. فما على الدولة الراغبة في الانطلاق
إلى عالم أرحب حيث النمو والتنمية سوى شد الأحزمة أو الاقتراض من الخارج إن
لم تجد عملية شد الأحزمة، لذا فمشكلة الصندوق تكمن في فشله في الإحاطة
بجوانب التنمية المتعددة. فالتنمية عملية حضارية معقدة، ومن غير الممكن
تبسيطها من خلال علاقات رياضية، ومن ثم تتركها لميكانيكية السوق هذه العملية
تقتضي إخضاع طرائق الانتاج والتفكير لاحتياجات المجتمع وليس العكس كما أن
الطريق إلى ذلك ليس بالضرورة أن يكون تكراراً للتجربة العربية. فالطريق الذي
سلكته الدول الغربية للنمو ليس الطريق الوحيد كما أنه ليس بالأمثل وبشكل أدق:
إن لكل دولة ظروفها التي تملي عليها طريقاً معيناً دون سواه.
__________
(*) يحرص الكاتب الكريم على استخدام كلمة (مديونية) وهي لغة غلط وإن كان أهل الاقتصاد والقانون يستخدمونها بكثرة ويمكن أن تسد كلمة دين وديون مسدها.
(1) الأرقام مأخوذة عن:united nations economic (worled economic survey) 1989.
(2) سميت هذه الاتفاقية باتفاقية (بريتون وودز) نسبة إلى المدينة التي عقدت فيها الاجتماعات التي توصلت إلى هذه الاتفاقية المدينة تقع في ولاية نيوها مشير بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد وقع على هذه الاتفاقية أربع وأربعون دولة اعتبرت أعضاءاً في الصندوق، إلا أن عدد الأعضاء كان في تزايد مستمر ويبلغ الآن (151) دولة منها بعض دول المعسكر الشرقي؛ كبولندا ويوغوسلافيا، ورومانيا.
(3) اكتسب هذا الاجراء أهمية متزايدة خصوصاً من تجربة الدول الغربية المريرة مع البطالة والتضخم في فترة ما بين الحربين العالميتين، فلقد تمخض عن هذه التجربة أن محاربة هاتين المشكلتين لن يكون عن طريق ميكانيكية السوق وحدها بل لابد من تدخل هذه الدول لذا حرصت هذه الدول في اتفاقيتها المنشئة للصندوق أن تتمتع بالمرونة في تبني السياسات الكفيلة بإعادة التوازن لاقتصادياتها داخلياً وخارجياً.
(4) اتفق على ربط عملات الدول الأعضاء بأسعار صرف ثابتة مقابل الدولار والذي ربط بسعر ثابت بالذهب على أن تحتفظ كل دولة إما بالدولار أو الذهب كاحتياطي نظامي بحيث تقف أي دولة مستعدة لشراء أو بيع عملتها مقابل هاتين العملتين أما الولايات المتحدة فقد نصت الاتفاقية أن تحتفظ بالذهب فقط كاحتياطي نظامي وأن تقف مستعدة لبيع وشراء ما تريده الدول الأخرى وذلك بالسعر الرسمي للدولار مقابل الذهب.
(5) لاحظ مدير الصندوق في دراسة اعدت في عام 1983 أن كل دولار يقرضه الصندوق يؤدي في المقابل إلى إقراض تجاري قدره أربعة دولارات وهذا يعطي دلالة واضحة على أهمية دور الصندوق في حصول الدول النامية على قروض.
(6) معظم الدراسات التي توصلت إلى أن للصندوق دوراً إيجابياً كانت عبارة عن دراسات قام بها خبراء الصندوق أنفسهم، لكن كثيراً من الباحثين المستقلين يرجعون مثل هذه النتائج إلى اعتماد هؤلاء على إحصاءات رسمية من قبل الحكومات، ويشكك هؤلاء الباحثون في مدى صحة مثل هذه الإحصاءات بل على العكس من هذه النتائج الإيجابية يرى هؤلاء الباحثون أن دراساتهم دلت على نتائج سلبية كزيادة في معدلات التضخم وانخفاض في نصيب العمل في الدخل العام.
(7) ومن الأمثلة على ذلك من العالم العربي ما حدث في مصر وتونس والجزائر وأخيراً الأردن فالمظاهرات التي انطلقت في كل دولة من هذه الدول كانت احتجاجاً على ارتفاع الأسعار خصوصاً أسعار السلع الضرورية قوت غالبية السكان هذا الارتفاع جاء نتيجة لتطبيق توصيات الصندوق والتي يعتبر تطبيقها متطلباً أساسياً لأهلية الدولة للحصول على القروض.(24/44)
منبر الشباب
فاعتبروا يا أولي الأبصار
موزة بنت محمد
عندما تمر عليك آية من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه تدعو أو تأمر بتفكر أو أخذ عبرة.. فلابد لك من التوقف والنظر ولا يجوز أن
تمر عليها بدون ذلك وتكون كمن قال فيهم-عز وجل: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ
عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24] .
وقال تعالى [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ *
هُوَ الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن
يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي
الأَبْصَارِ] [الحشر: 12] .
هذا أمر ودعوة من الله -عز وجل- إلى عباده [أولي الأبصار] ، الذين
يبصرون ويفقهون، وليس إلى الذين قال عنهم: [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ
أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ
هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: 179] .
دعوة لهم للنظر بعين البصيرة والاعتبار لهذا الحادث والذي نورده هنا وهو
قصة إجلاء بني النضير عن المدينة المنورة وذلك كما ورد في السيرة.
كان سبب ذلك الجلاء أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا سبعين رجلاً، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعاً إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر انتقاماً لأصحابه، وكان مع القتيلين عهد وأمان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم به عمرو فلما رجع وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال: " لقد قتلت رجلين لأودينهما " وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، فلما أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم
قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - وكان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً إلى جنب جدار من بيوتهم - فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك أحدهم فصعد البيت ليلقي عليه الصخرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم- فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة ثم تبعه أصحابه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم، فسار حتى نزل بهم فتحصنوا منه بالحصون واستمر حصاره لهم عدة أيام اختلفت في عددها. وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول لله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، ففعل، وتم إجلاؤهم على ذلك.
يتصور الكثير منا أن اليهود في المدينة المنورة ما كانوا سوى قوم مستضعفين
لاحول لهم ولا قوة، اللهم إلا في الدسائس وإشعال نار الفتنة من خلف الستار.،
وبهذا التصور لا يكون إخراجهم أمراً يستدعي الاعتبار والتبصر ولكن الحقيقة
ليست كذلك وهذا ما يدل عليه سياق الآية الكريمة.
يقول الدكتور صابر طعيمة: " من الأشياء التي تثير الدهشة أنه في بدء دعوة
الإسلام كانت أرض العرب في منطقة الحجاز مقسمة قسمة عجيبة بين نفوذ العرب
ونفوذ اليهود وسيطرتهم، ففي بدء بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -
كانت قوة اليهود الاقتصادية والسياسية كبيرة ومزعجة في شمال الحجاز، ولقد
بلغت القوة اليهودية في السيطرة على شمال الحجاز ما تعادل به نفوذ قريش وقوتها
في جنوبه. ويمكن القول إن سيطرة قريش كانت تشمل جنوبي الحجاز من منطقة
يثرب (المدينة) حتى الطائف وكذلك كان نفوذ اليهود يمتد من شمال الحجاز إلى حد
يمكن معه القول إن هذا النفوذ كان يمتد من المدينة حتى تيماء في أقص حدود
الحجاز الشمالية ملتقياً بحدود سوريا لمسافة تقدر الان بحوالى 450 كيلو متراً ".
وما يهمنا هنا هو منطقة يثرب (المدينة المنورة) فلقد كانت تسكنها قبائل يهود
(بني قينقاع) و (بني النضير) و (بني قريظة) ويبين الدكتور محمد السيد الوكيل
مواقعهم فيقول: " واننا لنلاحظ أن هؤلاء قد انتشروا في يثرب ولم يقيمواً جميعا في
منطقة واحدة فيها " فقد استوطن (بنو النضير) أسفل المدينة و (بنو قريظة) نزلوا
بأعلى المدينة أما (بنو قينقاع) فقد نزلوا في وسط يثرب بين العالية والسافلة،
وهكذا أحاط اليهود بقبائلهم الثلاث بيثرب من أعلاها وأسفلها وفيما حولها من الشرق
والغرب، وكأنهم أرادوا بهذا الانتشار في المدينة أموراً قد خططوا لها من قديم
الزمان نجملها فيما يلي:
1- الناحية السياسية:
لقد أفادهم تفرقهم هذا من الناحية السياسية فائدة كبيرة، حيث كانوا لا
يظهرون بمظهر المتكتلين أمام السكان الأصليين، وعندئذ لا تثور ثائرتهم ولا
يتحرشون بهم فيعيشون آمنين على مستقبلهم غير متعرضين للفتن والقلاقل، كما أن
تفرقهم هذا مكنهم من محالفة قبائل متعددة، ومكنهم من حرية الحركة والعمل مما
كان له أكبر الأثر في الناحيتين الاقتصادية والعسكرية.
كما أن انتشارهم هذا ومحالفتهم لقبائل متعددة أوجد لهم نفوذاً هائلاً تسلطوا
بواسطتة على مقاليد الأمور في يثرب. ولقد اعتمد اليهود في سياستهم على مبدأ
إثارة الأحقاد - فرق تسد - حتى يشتغل عدوهم بنفسه ولا يفكر فيهم وهذا ما حصل
حتى سيطروا وتملكوا.
2 - الناحية الاقتصادية:
نزل اليهود أخصب مناطق المدينة زراعياً وأجودها تجارياً فحفروا الآبار
وغرسوا البساتين وكانوا صناعاً، وأحدثوا سوقاً لهم في يثرب، وبذلك استطاع
اليهود أن يسيطروا على الناحية الزراعية والتجارية والصناعية وكانت لهم اليد
العليا في اقتصاد يثرب زيادة على ما أرهقوا به العرب من الربا والاحتكار.
3 - الناحية العسكرية:
كان هذا التوزيع لمراكز القوة اليهودية يكفل لليهود وقتها القدرة على الانتشار
وأن يمدوا أيديهم على مساحة كبيرة من الأرض يعملون على استغلالها واستثمارها، ولذا كان عليهم أن يقوموا بتحصين أماكن تجمعهم وإمدادها بالقوة العسكرية
وتخزين كميات من السلاح وإعداد مجموعات منهم للقتال بنية الحفاظ على ما
اكتسبوه حتى يمكن لهم دوام السيطرة والبقاء، زد على هذا إحساسهم بأنهم أغراب
وغير مرغوب فيهم، من هنا فقد اشتهر اليهود بصناعة الأسلحة من سيوف، ونبال، ودروع، وسهام، ونصال، فكانوا يصنعونها ويتخذون منها لأنفسهم ويبيعونها
لغيرهم.
وإلى جانب هذه الأسلحة تفننوا في بناء الحصون والآطام يلجأون إليها إذا
دهمهم عدو أو فاجأهم خصم، وهذه الحصون تعتبر في زمانهم كالتحصينات
العسكرية في زماننا، وكانوا يخزنون فيها الماء والقوت والوقود وجميع ما يحتاجون
إليه بكميات تكفي لفترة طويلة من الزمان حتى إذا حوصروا أو اضطروا إلى المكث
فيها مدة طويلة كان عندهم ما يغنيهم فلا يحتاجون إلى شيء من خارج هذه الحصون
ومما يؤيد ذلك حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير خمس
عشرة ليلة، ولبني قريظة خمساً وعشرين ليلة. وكانوا يشيدون هذه الحصون من
الحجارة الصلبة المنحوتة بأشكال هندسية ويجعلون سمك الجدار فيها متراً أو اكثر
وكانت تقام من طابقين أو ثلاثة.
ويدل على هذا قوله سبحانه [من صياصيهم] أي حصونهم، كما يدل على
قوتهم وتدربهم على القتال ما جاء في ردهم على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - حين قال لهم بعد أن نصره الله في بدر: " يا معشر اليهود احذروا من الله - عز وجل- مثل ما نزل بقريش من النقمة ... وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم " فأجابوه: " يا محمد إنك ترى أننا كقومك؟ ! لا يغرنك أنك لقيت قوماً لاعلم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أننا نحن الناس "!
وسياق الآية الكريمة يؤكد اعتدادهم بقوتهم وحصونهم وتقدير المسلمين
والعرب لهذه القوة وذلك بقوله تعالى [مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ] فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم، ولاهم كانوا يسلمون في
تصور وقوعه فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن
تخرجوهم منها كما أخرجوا، وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا
تردها الحصون [فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ]
فسبحان الله! ما أشبه اليوم بالأمس [فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] .
المراجع:
- سيرة ابن هشام.
- تفسير ابن كثير.
- (بنو إسرائيل بين نبأ القرآن وخبر العهد القديم) الدكتور: صابر طعيمة.
- يثرب قبل الإسلام، الدكتور محمد السيد الوكيل.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.(24/53)
شعر
الغرفة السرية
مروان كجك
إن شئت أن تطأ البلدْ
بحذاء حقدك والحسدْ
فاختر أكابر أهلِها
وذوي النجابةِ والرَّشَدْ
وأمرْ جنودِك بالنذالةِ والشراسةِ واللددْ
لا ترحمنْ طفلاً ولا شيخاً ولا أماً تلدْ
وابعث إلى من قد ترى فيهم رئيساً معتِمدْ
وأمر جنودك أن يسوسوه بنارٍ إن حَرَدْ
ثم ليعودوا مرة أخرى بأمضى وأشد
ولينظروا: هل عاد يسألُ عن أحد؟
هل ما يزال الحق فيه يَتَّقِدْ؟
فإذا تراءى أنه أضحى كما نبغي له
أو قام حيناً وَقَعَدْ
فلترفعوا تقريركم
للقائد الأعلى لكم
قولوا له:
صاحبنا لما يزل يرجو الأحَدْ
ونخاف أن يستيقظ الإسلامُ فيه
من جديد أو يَلِدْ
مازال يحلم بالفضيلةِ والرجولةِ والولدْ
مازال يهذي بالبطولة والفحولة والعددْ
مازال يؤمن أن للإسلام جولاتٍ ستهزم من وَفَدْ
قولوا له، للقائد الأعلى لكم:
ولذاك نقترح الدواء المعتمد:
" لابد من قتل العقيدة أولاً
لتحل أخرى
نحن نصنعها له
وإذا عصى وأبى علينا، أو مَردْ:
فالقهر يوقظْ
والسجون مدارسٌ
والقتل أنفى
بل وأشفى لمن اختار اللَّدَدْ!
... ... ... ... ... ... ... ... ... إمضاء: ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... هذا يعتمد.(24/58)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
باكستان والولايات المتحدة
أهمية باكستان:
تولي الولايات المتحدة الباكستان اهتماماً غير عادي، وتنظر إليها كمجال لا
يمكن الاستغناء عنه بسبب الميزات التي يتمتع بها. فباكستان يعتبر من العشر دول
الأكثر سكاناً في العالم، إلى جانب أهميتها الاستراتيجية، فوقوعها في شبه القارة
الهندية، ومجاورتها للاتحاد السوفييتي وإيران والهند والصين والمحيط الهندي كل
ذلك يكسبها موقعاً جغرافياً فريداً يجعلها مطمعاً للذين يؤثرون في السياسة العالمية،
وكذلك دورها كدولة لها أهميتها ضمن مجموعة الدول الإسلامية، وقربها من منطقة
الخليج، ودورها في مجموعة عدم الانحياز وعلاقاتها مع الدول العربية يعطيها
أهمية كبرى لا يمكن تجاهلها من قبل القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة
التي تحرص على بسط نفوذها في كل مكان من الأرض، والاحتفاظ بحرية التحرك
في المناطق والنقاط الاستراتيجية من العالم.
إن أميركا أول من يدرك أهمية باكستان جغرافياً وبشرياً، وهي في تعاملها
معها تبذل جهوداً لا يستهان بها من أجل فهم واستيعاب أسلوب هذا التعامل، ولا
تعتبرها دولة ثانوية غير مهمة كجمهوريات أمريكا اللاتينية مثلاً.
نظرة الباكستان إلى أميركا:
يرى الباكستانيون أن اعتماد الباكستان على الولايات المتحدة اعتماد
اضطراري يدفعهم إليه موقع بلادهم الحرج الجغرافي والسياسي، وهم يعرفون أن
الولايات المتحدة - كغيرها من الدول الكبرى - لا تعطي شيئاً مقابل لا شئ، إن
لها مصالح في المنطقة تريد المحافظة عليها، لكنهم يعللون اعتمادهم هذا على
الولايات المتحدة أنه لاخيار لهم فيه، حيث إن علاقتهم مع الهند تشكل مرضاً دائماً، ولابد من البحث عن جهات توفر لهم حداً من الحماية، وهم يعتقدون أن عمقهم
الطبيعي هو العالم الإسلامي، ولكن لأن أنظمة العالم الإسلامي خذلتها في صراعها
مع الهند.
ثم اكتشفت الباكستان عملياً أن أميركا ليست بالحليف الذي يعتمد عليه وقت
الأزمات، وأن السياسة الأمريكية سياسة منافقة لا تعتمد مبادئ الصداقة، بل ولا
تلتزم بالوعود التي تقطعها وقت السلم، وكان هذا الاكتشاف بعد حربها الأولى مع
الهند في أول الستينات، وعند انفصال البنغال (باكستان الشرقية) بتحريض من
الهند ومساندتها في أواسط السبعينات.
وأمام هذه الحقيقة فإن باكستان تحرص على الحصول على مساعداتها من أي
مصدر مع إبقاء علاقاتها مع أميركا.
نظرة الولايات المتحدة إلى باكستان:
تنظر الولايات المتحدة إلى باكستان كدولة مهمة ذات ثقل سياسي وجغرافي
مهم، فباكستان في نظهرها تتميز بدبلوماسية نشيطة وذكية، وعندها جيش كبير
وذو كفاءة عالية، وهي دولة مهمة على كل المستويات، وعلى الرغم من وجودها
إلى جانب دولة قوية وكبيرة كالهند؛ فإن سياستها تكاد تضارع السياسة الهندية
وأثرها في نظر أميركا إن لم يفق أثر الهند فهو يعادله على الأقل، وذلك لأن
علاقاتها مع كتل كبرى لها وجودها على الساحة الدولية يجعل من الصعب تجاهلها.
ويمكن أن نقول: إن هناك هاجساً غير مريح للأمريكان سواء في حالة
تعاملهم مع الباكستان أو في تجاهلهم لها.
أ- فهم -إذا تعاملوا معها- يتعاملون بحذر شديد، فمن جهة لا يريدون تقويتها
بالقدر الذي يغضب الهند، ويقدمون لها من المساعدات التي تجعلها قادرة على حفظ
مصالح الولايات المتحدة فقط، دون الذهاب في ذلك بعيداً إلى الحد الذي يجعل من
الصعب عليهم كبح جماحها فيما إذا أصبحت قوة عظمى تتمتع باستقلالية تساعدها
على التحرك بحرية، وهذا النهج من التعامل هو الأسلوب الذي تتعامل به القوى
الغربية والشرقية مع أي دولة في العالم الإسلامي.
ب - وهم - أي الأميريكيون - لا يشعرون بالاطمئنان إذا ما تجاهلوا
باكستان لأنهم يعتقدون أنها ستظل تبحث عن مصادر تقوية بعيداً عنهم ولن تكون
النتائج مضمونة، ولذلك فإنهم - مع مساعدتهم لباكستان - تراهم ينظرون بعين
الشك والريبة إلى علاقاتها هنا وهناك.
وهم يرونها مهمة لهم لأن هدفهم المركزي هو بقاء منطقة جنوب شرقي آسيا
خاضعة للنفوذ الأميركي، ولا يريدون تقويض الوضع القائم هناك أو تعرضه
للاضطراب، ويمكن أن يلمح المحلل ثلاثة ركائز على طول هذا المحور الممتد من
البحر المتوسط إلى المحيط الهادي، تعتبر ركائز أساسية للنفوذ الأميركي وهي
تايلاند وباكستان وإسرائيل، وباكستان بالنسبة لأميركا هي أصعب هذه الركائز من
ناحية التعامل معها.
أميركا وبنازير:
إن الظروف التي قتل فيها ضياء الحق تضيف شكاً جديداً إلى جملة الشكوك
السابقة التي تحيط بعلاقات الولايات المتحدة بباكستان والتي يعرفها الباكستانيون -
أو أكثرهم - معرفة أكيدة.
وقد أصبح واضحاً الآن أن أميركا تتدخل بصراحة فجة في توجيه السياسة
الباكستانية، فقد أحيطت بنازير بوتو بدعاية غير طبيعية، وأبرزت بعد مقتل
ضياء الحق بشكل يجعل من المستحيل أن لا تفوز في الانتخابات التي حصلت،
وتصريحاتها كانت صريحة بخطبة ود أميركا ومعها القوى الغربية التي ردت التحية
بأحسن منها، وسواء قلنا: إن تصريحات بوتو وما ترتب عليها من موافقة جماعية
غربية على توليها السلطة كانت خطوة ابتدائية منها؛ أو كانت فضلاً من ارتباطات
سرية؛ فإن النتيجة واحدة. فلاشك أن تشجيع الغرب - وعلى رأسهم أميركا -
لبوتو ينبع من عدة اعتبارات:
1- لأنها علمانية المنشأ، غربية الثقافة والفكر.
2- لأنها تكن في قرارة نفسها كراهية للإسلام تخرجها في كثير من
تصريحاتها وأحاديثها على شكل هجوم: على المتطرفين والأصوليين.
3- لأنها أول امرأة تتصدى لهذا المنصب الخطير في قطر كبير مهم من
الأقطار الإسلامية، فإذا نجح المسعى في جعل امرأة تقود هذا القطر الكبير فسيكون
ذلك أمثولة لغيره من الأقطار الإسلامية كي لا تعارض هذه القضية التي سبقها إليها
قطر مهم جداً وقام على أساس الإسلام، من سيظل يجادل في هذه القضية!
وأميركا تعلم أن في تولي امرأة أعلى منصب في الدولة في قطر إسلامي
سابقة مهمة، ستكون لها آثارها على التيارت الموجودة داخل البلاد، فمن وجهة
نظرها يعتبر هذا إضعافاً للتيار الذي يتمسك بالإسلام، والذي تضفي عليه كثيراً من
النعوت والأوصاف بغية تفريقه وإضعافه، وتقوية لأعداء الفكرة الإسلامية من كافة
الاتجاهات، وإذا قوي هؤلاء فهم الذين يضمنون مصالح أميركا وغيرها من القوى
المعادية للإسلام ويمررون ما تريد بشتى الوسائل.
والولايات المتحدة تعلم جيداً أن قاعدة بوتو الشعبية ليست من القوة الحقيقية
بحيث تجعل مستقبلها في السلطة مطمئناً، ولهذا فهي لا تفتأ تقدم لها النصائح،
فأميركا تعلم أن فوز بوتو في الانتخابات كان نتيجة تحالفها مع جماعة المهجرين،
وهؤلاء لهم حساباتهم ومطالبهم التي إذا لم تنفذ فسيسهل عليهم التخلي عنها، وقد
حصل هذا فعلاً وأصبحت بوتو وحزبها مكشوفين، وتعرضت لهزة كادت تطيح بها. وكذلك فإن قوتها -وهي قوة غير مطلقة طبعاً- لا توجد إلا في إقليم السند، بينما
مركز الثقل بالنسبة لباكستان هو في إقليم البنجاب الذي لا أثر لها فيه والذي يكاد
يوازي باقي أقاليم باكستان مجتمعة.
ويمكن أن نلمس أثر النصائح الأمريكية بالمحاولات المتكررة لإضعاف
سيطرة الجيش، وانتقاء شخصيات ورتب مؤثرة فيه، وأحالتهم إلى التقاعد أو نقلهم
إلى مناصب لا أهمية لها.
إن أكبر تحد لسلطة بوتو هي قوة الإسلاميين كما تعتقد الولايات المتحدة ولذلك، فإن أي تحرك باتجاه إضعاف هؤلاء من قبل بوتو يلقى الترحيب من الولايات
المتحدة، ونستطيع أن نلمس حماسة الولايات المتحدة للتغييرات التي طرأت على
مسار توجهات الدولة، فعند الولايات المتحدة كثير من المصطلحات المضللة التي
تخفي نواياها في حرب التوجه الإسلامي في أي دولة. فإذا أحست أن نظاماً من
الأنظمة أبدى نية في ضبط التسيب الخلقي والاجتماعي عن طريق بث المفاهيم
الإسلامية ودعمها بما يهدد المفاهيم الغربية المنحلة نرى أميركا ترفع مصطلح القلق
على حقوق الإنسان وحرية الفكر والعقيدة أو حقوق المرأة ورفع الظلم عنها، وهذا
ما يلمح من نظرتها إلى باكستان في عهد ضياء الحق - وأخرياته على وجه الدقة -
في حين نجد أن أميركا لا تستطيع أن تخفي سعادتها وفرحها حين ترى أجهزة
الإعلام الباكستانية قد اتجهت إلى مسار أكثر حرية مما كانت عليه في أثناء حكم
ضياء الحق، ولا يغيب عن بالنا أن خصوم الإسلام حين يذكرون الحرية في هذه
المجالات يعنون: حرية الفساد والإفساد، والتحلل الأخلاقي بعيداً عن أي ضوابط
شرعية أو دينية.
ومن أهم التطورات التي طرأت على الباكستان وعلاقتها بقضية أفغانستان
تشجيع أميركا لبوتو لتبني الحل السياسي، والتخلي عن الجهاد، وهي لا تخفي
تذمرها من وجود حركات جهادية لاترضى أن تهادن الشيوعيين.
مثلث العلاقات الأمريكية الباكستانية الهندية:
إذا ما نظر الباكستانيون إلى القوى الخارجية التي يمكن أن يعتبروها مسؤولة
عن نصيب كبير مما يحدث لهم من مشاكل؛ فإن نظرتهم عندما تتعدى الهند تتجه
مباشرة إلى الولايات المتحدة، لأنهم يعتقدون - بحق - أن أميركا غير بعيدة عما
يحدث في باكستان وحواليها.
وإذا نظرنا من زاوية إسلامية خالصة فإننا نجزم بأن المسؤول الأول عن إبقاء
الخوف المستمر - وذي الأسباب الوجيهة - من التهديد الهندي هو الولايات المتحدة، وأميركا التي تعتبر أن لها الحق أن تملك مالا حدود له من القوة، تجد من غير
المعقول ولا المنطقي أن تكون هناك قوة إسلامية في أي بقعة من العالم متحررة من
الضغوط، بعيدة عن التهديد الدائم، وهذا ما يفسر لنا كيف أنها تستخدم موازين
مختلفة في علاقاتها مع القوى الخارجية، فهي من جهة تغض الطرف عن امتلاك
الهند للأسلحة النووية، وتغض الطرف عن محاولات الهند المتكررة للانتقاص من
سيادة الباكستان، بل والتدخل بقوة السلاح لفصل باكستان الشرقية عن الغربية،
وتعتذر عن ذلك بمعاذير باردة جداً لاتثبت عند النقد، فتدعي مثلاً بأنها لا تستطيع
أن تفعل شيئاً للهند، أو أن يدها مغلولة للتأثير على الهند، ولكنها حينما يترامى إلى
علمها أن باكستان تسعى لإنتاج السلاح النووي لتوازن الموجود عند جارتها
المتطلعة للتمدد تفقد أميركا صوابها، فتهدد بقطع المساعدات ما لم يتوقف العمل
النووي، وتهدد بأنواع كثيرة من الضغوط لعل من أخطرها وأشدها انعكاساً على
حياة الباكستان هو العمل على عدم استقرار البلاد، باستغلال الثغرات العرقية.
ويكاد الإنسان العاقل المنصف يقضي عجباً من موقف الولايات المتحدة في
انزعاجها الذي لا حدود له من امتلاك الباكستان للأسلحة النووية؛ ومن صمم أذنيها
عن امتلاك دولة مثل إسرائيل لذلك! لو لم يكن لأمريكا من المواقف الغريبة
المخزية ضد المسلمين (وهي كثيرة) إلا هذا الموقف، وكان لها من الأفضال
وإلإحسان إليهم عدد النجوم (وهذا غير مُسَلَّم) لكان هذا الموقف وحده جديراً واكفياً
في أن يغرس في قلب كل ذي عقل وضمير حى من المسلمين كراهية لا تزول
مادامت هناك دولة اسمها الولايات المتحدة في الوجود!
إن موقف أميركا من عداء الهند لباكستان نابع - إذن - من أنها لا تجد لها
ناقة ولا جمل في هذا الصراع، ولا تستفيد منه شيئاً، وهي من جهة لا تريد
إغضاب الهند ولا تحب انتصار باكستان.. وحيث إن الباكستان لا يمكن ولا
تستطيع أن تذهب بعيداً في تحقيق رغبات أميركا، لذلك لن تنتفع بشيء جوهري
من علاقاتها معها، وفي هذا الصدد تلتزم أميركا تجاه علاقة الباكستان بالهند بما يلي:
1 - لاتزود الباكستان بأسلحة لتقاتل بها الهند.
2 - لا تلبي أى طلب لتزويد الباكستان بأسلحة لا يمكن استعمالها إلا ضد
الهند.
3 - إذا طلبت باكستان سلاحاً متطوراً، وأدى ذلك إلى قلق واحتجاج من
الهند فإن أميركا يمكن أن لاتوافق على هذا المطلب خاصة إذا دفعت الهند ثمناً
سياسياً مقابل ذلك.
ومن أجل فهم معادلة كون أميركا المورد الرئيسي للباكستان بالأسلحة من جهة؛ وعدم تلبية طلباتها فيما يضر الهند فلابد أن ندرك أن أميركا تحرص أن تكون
باكستان سوقاً لأسلحتها، وأنها تعلم أنها لو لم تمد باكستان بالأسلحة بتاتاً فستتجه
هذه إلى مصدر آخر للأسلحة فأمامها السوق مفتوحة والمصادر كثيرة لذلك تحرص
أميركا على بيع باكستان السلاح فتكسب مالاً ونقوداً، ولكنها من جهة ثانية لا
تتورط كثيراً فتكون صفقاتها مشروطة بعدم إغضاب الهند، التي تحرص أميركا
على كسبها أيضاً.
المعادلة الأمريكية الباكستانية الأفغانية:
يشكل الدور الذي لعبته وتلعبه أميركا في الصراع على أفغانستان فصلاً لا
يتسع المجال هنا لبسطه، ولكن الذي تجدر الإشارة إليه الآن هو أن دعم الولايات
المتحدة للأفغان كان دائماً دعماً مشروطاً ومبنياً على حسابات تهم أميركا وحدها.
وقد مر هذا الدور الأميركي بثلاثة مراحل:
1 - المرحلة الأولى: التي كانت مع بداية الغزو الشيوعي لأفغانستان، واتسم
الدور الأميركي فيها بشيء من الانتظار وعدم التورط بدعم المجاهدين صراحة،
لأن القوى على الساحة الاقليمية لم تكن توضحت وتميزت بعد.
2 - المرحلة الثانية: وكانت في أواسط مدة وجود الروس في أفغانستان
وتميزت بدعم المجاهدين ببعض الأسلحة الأميركية المتقدمة كالصواريخ، وكان ذلك
عن طريق باكستان - وبدا في هذه المرحلة تصميم باكستان على الوقوف مع
المجاهدين واستمرار دعمهم، بل إن تصريحات ضياء الحق وأعماله أظهرت ثقة
كبيرة بالنفس بالنسبة للمسلمين في شبه القارة الهندية ووسط آسيا أنهم لن يكونوا بعد
اليوم هدفاً للقوى الاقليمية: الهندية من جهة والسوفيياتية من جهة أخرى، وهكذا
اضطر السوفييت في مجرى هذه الفترة أن ينسحبوا من أفغانستان.
3 - المرحلة الثالثة: ما بعد انسحاب الروس، وهنا طرأ تغير على مجرى
الأحداث خاصة بعد مقتل ضياء الحق، وتولي بوتو السلطة في باكستان، وبعد
الانفراج الحاضر على الساحة الدولية بين الأمريكان والروس. وكان لذلك كله آثاره
السلبية على أهداف المجاهدين التي تتلخص بإخراج الروس من أفغانستان وإسقاط
عملائهم، وأن تكون أفغانستان دولة محكومة من قبل فئات الشعب التي عانت من
الاحتلال والتشريد والتي عملت وضحت من أجل طرد الغزاة عن أرضها.
ولكن ظهر لأميركا أنه خلال تصدي الشعب الأفغاني للاحتلال الروسي برزت
على الساحة قوى وجماعات عندها استقلالية في التفكير، وليس من السهل التأثير
عليها بشكل كامل، وتبنت هذه الجماعات خطاً متشدداً (بنظر أميركا) والخط
المتشدد بنظرها هو أن تستوحي هذه الجماعات فكرها التنظيمي وأهدافها من عقيدتها
ومن تاريخه، لذلك فإن هذه الجماعة تطمح إلى أن توجه الحكم في أفغانستان -إذا
وصلت إليه - سيكون إسلامياً، وهذا طموح مشروع نابع من عقيدة الأمة ومن
واقع الأمر، فالصمود الذي أظهره هذه الشعب في وجه الزحف الشيوعي مستمد من
تمسكه بإسلامه، والذين أقضوا مضاجع الشيوعيين في أفغانستان هم المجاهدون
المسلمون لا القوميون، ولا غيرهم من أنصار الملك السابق، ولكن مع هذا فإن هذا
الطموح لا تراه أميركا طموحاً مشروعاً، وهي تمد المسلمين بالسلاح كي يمنعوا
الشيوعية من التمدد وتهديد مصالحها الحيوية، لكن أن يكونوا أحراراً في بلادهم
يطبقون قوانينهم وشرائعهم الخاصة بهم والنابعة من عقيدتهم فهذا لا يكون ولا ينبغي.
ولذلك كانت أميركا غير راضية عن توزيع الأسلحة على المجاهدين من قبل
المخابرات الباكستانية، وكانت لا تود أبداً إعطاء أصحاب الاتجاه الإسلامي الذي
تسميهم الأصوليين أي أسلحة مؤثرة، وتلتقي الولايات المتحدة مع بنازير بوتو في
عدم تفضيلهما قيام نظام أصولي في أفغانستان.
وإذا أضفنا إلى ذلك الانفراج الحالي بين الشرق والغرب، وضغط الهند
والسوفييت على المجاهدين وطموح إيران لتكون لاعباً رئيسياً من جملة اللاعبين
ونقاط التلاقي بينها وبين هؤلاء على الساحة الأفغانية سندرك الصعوبة البالغة التي
يمر بها الشعب الأفغاني الذي وقع ضحية الجغرافيا والقوى والمحيطة به.
خاتمة
من مجمل دراسات العلاقات الباكستانية الأميركية يتضح لنا أن اعتماد
الباكستان على أميركا اعتماد اضطراري وهو من وجهة النظر الباكستانية أهون
الشرور (وإن كانت هذه النتيجة قابلة للمناقشة) ، وباكستان من حيث المبدأ تعتقد
أن عمقها هو العالم الإسلامي، ولكن لأن أنظمة العالم الإسلامي خذلتها في صراعها
مع الهند، بل نظرت إليها نظرة لا تخلو من شماتة وتشف وتفضيل للجانب الهندي
لذلك لجأت إلى أميركا، واكتشفت باكستان عملياً أن أميركا ليست بالحليف الذي
يعتمد عليه من أجل رفع الظلم وتحقيق العدل، بل اكتشفت ان السياسة الأميركية
في جوهرها سياسة منافقة لا تعتمد مبادئ الصداقة، بل لا تلتزم بالوعود المقطوعة
في فترات السلم حينما توضع هذه الوعود على محك التجربة وقت الأزمات.
وهكذا استمرت الباكستان تبحث عن الحلفاء فاتجهت إلى الصين ثم حاولت
مع روسيا لفترة قصيرة، ثم للعالم الإسلامي ثانية ثم لعدم الانحياز، وعلى الرغم
من كثرة أصدقاء الباكستان بين دول العالم الثالث فإن هؤلاء الحلفاء الضعاف لا
يستطيعون تقديم شيء لها في صراعها المرير مع الهند!
إن وضع الباكستان على غاية من التعقيد والخطورة، وإننا نلمح هذه الخطورة
من الحالة التي تلح عليها باكستان وهي محاولة الحصول على أي عون ضد مطامع
الهند، وخاصة بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان.
يرى المراقب هذا الوضع الحرج الذي يحيط بالمسلمين في تلك المنطقة
المهمة من العالم، ثم يسأل نفسه: هل المسلمون هناك على مستوى هذا التحدي؟
وهل هم على قلب رجل واحد في فهم عقلية القوى المحيطة بهم، وفي فهم نوايا
الولايات المتحدة؟ يشعر الإنسان بخيبة أمل لأن الجسم الإسلامي ليس منيعاً بما
يكفي لمواجهة التحديات، وأن القوى الكبرى لا تتلاعب هذا التلاعب في مصائر
الشعوب، ولا تستهتر هذا الاستهتار، وتمعن بالمكر والتلون إذا واجهت تصميماً
صادقاً، وعزائم تعتمد على الله وحده.(24/61)
الدور الإيراني في القضية الأفغانية
عبد الرحمن نموس
إن هدف إيران أن تبسط تأثيرها حيث استطاعت، وخصوصاً بين المسلمين، وإذا هي وجدت صعوبة في التمدد غرباً، فإن ذلك لن يثنيها أن تصر على تنفيذ
أهدافهاً شرقاً، خاصة وأن جارتها أفغانستان ذات الأغلبية السنية الساحقة تعيش
محنة يمكن أن تستغل.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم تحسين علاقتها بالسوفييت الذين كانت تنعتهم
بنعوت لا تقل عن نعوتها لأمريكا.
هذا التحسن الذي بدأ قبل موت الخميني، وتوج بزيارة رفسنجاني لموسكو،
انعكست آثاره على الجهاد الأفغاني بشكل مباشر.
من هذه الآثار:
عندما تفاوض نائب وزير الخارجية السوفييتى (فورنتسوف) مع قيادات
المجاهدين في إسلام آباد، ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود نتيجة التعنت
السوفييتي؛ نصح رئيس دولة إيران خامنئي قيادات المجاهدين بالاستمرار في
المفاوضات وعدم قطع الحوار مع موسكو.
وازداد هذا الوضوح في الموقف الإيراني عندما تم الإعلان عن حكومة
المجاهدين الموقتة (الأولى) برئاسة أحمد شاه أحمد زي في فبراير (شباط) 1988
فلم يعلن الإيرانيون مجدداً تأييدهم لهذه الحكومة فضلاً عن أن يعترفوا بها كحكومة
إسلامية. وبدلاً من أن يتم الدعم والتأييد لهذه الحكومة بدأت العراقيل توضع في
طريقها من قبل الموالين لإيران، فقد ذكر المهندس أحمد شاه أحمد زي رئيس
الحكومة الموقتة للمجاهدين في ذلك الوقت أن وزير الصحة الشيعي لم يحضر أي
اجتماع من اجتماعات الحكومة بعد تشكيلها وتبين أنه سافر إلى استراليا سراً لأنه
(حسب بعض المصادر المطلعة) تلقى تهديدات بالاغتيال إذا مارس أي نشاط في الحكومة المذكورة لأنهم يريدون مقاطعتها حتى يتمكنوا من فرض الشروط التي يريدونها.
أما بعد حل حكومة المجاهدين الموقتة الأولى وانعقاد مجلس الشورى في مدينة
الحجاج بإسلام آباد فقد كان للإيرانيين شأن آخر في التعامل، فقد رفضت المنظمات
الشيعية المتمركزة في إيران الاشتراك بأقل من 120 عضواً في المجلس، أي بعدد
يوازي عدد المشتركين من منظمتين جهاديتين من منظمات الاتحاد السباعي حيث
تم تخصيص ستين مقعداً لكل منظمة كما طالبوا بخمس وزارات في الحكومة التي
ستنبثق عن المجلس، ولما كانت هذه النسبة عالية جداً بالنسبة إلى تعداد الشيعة في
أفغانستان فقد رفض المجاهدون هذا الطرح بإصرار باعتبار أنه لا يستند إلى أي
أساس من الواقع، فلا على أساس أنهم طائفة دينية مستقلة يستحقون هذه النسبة،
ولا على أساس أنهم أقلية عرقية يستحقونها، ولا على أساس تواجدهم الجهادي على
الأرض، وأصر هؤلاء على مواقفهم حتى أنهم قاطعوا جلسات المجلس، وبدأت
تظهر بالأفق ملامح أشياء أكثر من عدم التأييد للمجاهدين، وأكثر من مجرد إرضاء
الاتحاد السوفييتي إعلامياً، فقد نقلت وكالة أنباء البنيان أن السفير الإيراني في
إسلام آباد طلب من المتحدث الرسمي باسم المجاهدين في حينه " الأستاذ سياف "
حضور جلسات المجلس وعندما رفض سياف الطلب قال السفير: إذا لم تعطوا
الشيعة مائة وعشرين مقعداً فلن نعترف بحكومتكم.. . كما هدد بالقيام بأعمال عنف
داخل أفغانستان تستهدف المجاهدين، كما طلب السفير طلباً مشابهاً من المهندس
حكمتيار مما دعى حكمتيار للرد عليه بالقول: إننا مستعدون لنقل الجهاد إلى خارج
حدود أفغانستان.
وعندما اعترفت حكومة البحرين بحكومة المجاهدين الجديدة نقل راديو
طهران نبأ الاعتراف قائلاً: اعترفت البحرين بالحكومة السنية التي شكلها الائتلاف
السباعي في بيشاور.
ثم ختم الإيرانيون هذه المواقف بزيارة هاشمي رفسنجاني لموسكو بعد موت
الخميني، والعمل على تطوير العلاقات بين البلدين على حساب المجاهدين، ففي
البيان المشترك الذي أذاعته إذاعة موسكو في نهاية زيارة رفسنجانى: أن وجهتي
نظر موسكو وطهران متطابقتان حول القضية الأفغانية.
المصلحة فوق المبادئ:
عندما لم تتحقق مصالح الإيرانيين ومن خلفهم مصالح الائتلاف الثماني
الشيعي في تحقيق المطالب التي يريدون؟ لم يجد بعض قادة تلك المنظمات حرجاً
في الاتصال بنظام كابل ومحاولة الاتفاق معه على نقاط تحقق مكاسب أفضل مما
يمكن تحقيقه عن طريق التفاوض مع المجاهدين، فقد زار وفد من الائتلاف الثماني
كابل لإجراء مفاوضات بهذا الخصوص وقد أكد هذه الزيارة قادة ميدانيون في
الجبهات التي حول كابل منهم القائد عبد الحق قائد جبهات كابل التابعة للحزب
الإسلامي جناح مولوي يونس خالص، حيث أصدر بياناً يشجب فيه هذه الزيارة
ويندد بالأعمال التي تقوم بها قيادات الشيعة وتشكل طعناً للجهاد، كما أن المهندس
حكمتيار أمير الحزب الإسلامي لم ينف هذه الأخبار عندما سألته عنها في مؤتمر
صحفي عقده في بيشاور في أواخر أبريل الماضي، إنما قال: " وصلتنا تقارير
بذلك ولكن لم تصلنا معلومات عن طبيعة المفاوضات ".
وحتى لا يستمر هؤلاء في خططهم في هذه المرحلة الحساسة من عمر الجهاد
فقد زار وفد من المجاهدين برئاسة الأستاذ رباني أمير الجمعية الإسلامية طهران
للتفاوض مع هؤلاء، والوصول إلى نتيجة لكنه لم يفلح ولم يغلق باب المفاوضات
إنما كانت هنالك جولات أخرى في بيشاور ترأس وفد الشيعة فيها كريم خليلي،
ولكنها أيضاً لم تفلح حيث أصر الشيعة على مطالبهم بأكثر من 100 مقعد في
مجلس الشورى، أي نسبة 20% من المجلس ونسبة موازية في مجلس القيادة
الأعلى وفي الحكومة.
لماذا هذا الإصرار على حق مزعوم لا يستند إلى أساس من الواقع! ربما
كانت مبررات هذا الإصرار هي:
1 - فكرة تصدير الثورة، واستغلال ظروف أفغانستان الحالية من أجل ذلك،
بعد فشل الفكرة في الحدود الغربية.
2 - الاستفادة من الثغرات الحاضرة من خلال ضعف حكومة نظام كابل،
ومن خلال عدم استقرار حكومة المجاهدين، واستغلال ذلك الضعف من أجل إملاء
الشروط، وتقوية الجناح الشيعي في أفغانستان.
3 - التركيز على زيادة نسبة الشيعة في ظل غياب الإحصائيات الرسمية
كعامل دعم لتحقيق البندين السابقين، وقد نقل الكاتب أمير طاهري في جريدة
الشرق الأوسط:
أن إيران منحت 2 ر1 مليون أفغاني الجنسية الإيرانية وتريد لهم البقاء على
ثنائية القومية، وتصر على أن الشيعة يزيدون على ربع سكان أفغانستان، وإذا
تحقق هذا فسيكون من حقهم التمسك بربع المناصب الحكومية والوزارات.
4-العمل على عدم قيام أي حكومة إسلامية مستقلة في أفغانستان خارج إطار
الاحتضان الشيعي ولو أدى ذلك إلى التعاون مع أي جهة كانت، وهذا واضح من
التفاوض مع نظام كابل وإمكانية قبول بعض المناصب الحكومية عنده، بدلاً من
الوقوف مع حكومة المجاهدين ودعمها.
فقد نشرت أخبار قوية في بيشاور مفادها أن الائتلاف الثماني الشيعي وبعض
المنظمات الصغيرة المنشقة عن منظمات المجاهدين الأصلية شكلوا نواة لحكومة
إسلامية أفغانية في طهران والمنظمات الصغيرة هي: حركت انقلاب إسلامي/جناح
رفيع الله مؤذن، حركت انقلاب إسلامي/جناح نصر الله منصور، مجموعة محمد
أمين وقاد، حزب شوراي اتفاق، إضافة إلى الائتلاف الثماني الشيعي.
ولما سئل الأستاذ رباني القادم من إيران بعد العيد الأضحى قال: إن ما تم
تشكيله ليس حكومة أخرى لكنه لجنة مشرفة على أمور الجهاد، ولم يعط رباني
تفصيلات أكثر.
وأياً كانت هذه اللجنة فإن عملها يعتبر تكتلاً انشقاقياً عن صف الجهاد العام في
وقت هو بحاجة إلى الوحدة وتماسك الصف والتضامن وقد توج الشيعة محاولاتهم
الرامية إلى تحقيق مكاسبهم الخاصة بتركيز قواتهم المسلحة (حسب تقارير عسكرية
من الداخل) حول كابل ليكون لهم شرف مشاركة فعالة تتناسب وطموحاتهم عند سقوط العاصمة.
وأمام هذه المحاولات الموغلة في النزعة الأنانية يتحتم على المجاهدين أن
يتخذوا مواقف أكثر صلابة وأكثر ثباتاً تجاه أي أقلية تحاول استغلال الظروف
والثغرات لتحقيق أهداف ومكاسب ليست من حقها أو تحاول اللعب على أكثر من
حبل وفق أسس مصلحية لا مبدئية.
كما يترتب على المجاهدين مد الأيدي وبناء العلاقات الأفضل مع بقية
الأحزاب الجهادية من أهل السنة والتي تنتظم خارج الائتلاف السباعي، فمثل
هؤلاء كان ومازال لهم دور مشرف في الجهاد وكانوا وما يزالون أحزاباً جهادية
إسلامية من أهل السنة والجماعة، وكل ما في الأمر أنهم لم ينصهروا تحت الاتحاد
السباعي لأمور سياسية.
والخلاصة أن المطلوب من المجاهدين الفعليين رص الصفوف، وإزالة
الخلافات الجانبية، والتنبه إلى ما يحاك لهم في الخفاء، ولاعذر لهم بادعاء الجهل
بذلك، لأن القاضي والداني والعالم والجاهل أصبح على بأن الروس الذين عجزوا
عن تنفيذ مآربهم بالقوة العسكرية المباشرة لمن يتخلوا عن استغلال نقاط ضعف
محيطة بالمجاهدين إن لم تكن قادرة على هزيمتهم فهي لاشك ستجعل تحقيقهم
لأهدافهم المشروعة صعباً، ولن يفشل هذه الخطة ويهزمها سوى الوعي والتعالي
على الخلافات والعصبيات وإخلاص النية لله الذي يُعادَون من أجل التمسك بدينه لا
لشيء آخر.(24/72)
رحم الله الشيخ عبد الله عزام
في يوم الجمعة 26 ربيع الثاني / 1410 والموافق 14 /11/ 1989 امتدت
يد الإجرام في مدينة بيشاور إلى الداعية المجاهد الشيخ عبد الله عزام فقتل مع
ولديه - رحمهم الله -، وقد كان في طريقه لصلاة الجمعة عندما فجروا سيارته على الطريقة (اللبنانية) ، وعلى الطريقة نفسها سيبدأ التحقيق وربما لا ينتهي إلى نتيجة.
وإذا كانت الأنباء لم تذكر حتى الآن من وراء هذا الحادث اللئيم، فإننا
نستطيع القول: إن الجهات التي نفذت هذا الحادث هي التي لا تريد المجاهدين
العرب في بيشاور الذين جاءوا لمساعدة إخوانهم الأفغان احتساباً لله تعالى، وأرادت
هذه الجهات أن تضرب أحد رموز هذه المشاركة كرسالة موجهة إلى البقية، ولكن
هيهات.. فإن وقوف الشباب العربي المسلم مع الإخوة الأفغان هو رمز لمسيرة
طويلة من الجهاد في أفغانستان وفلسطين، وأرتيريا، وغيرها من أنحاء العالم
الإسلامي، وإن الدماء الفلسطينية التي سالت على ربى أفغانستان لها دلالة خاصة
على هذا التواصل.
هناك جهات كثيرة لا تريد هذا التواصل، ولا تريد أن يمتد هذا الجهاد إلى
مناطق أخرى يحتلها أعداء الإسلام، والغرب والشرق لا يريدون شيئاً اسمه
(الجهاد) وكان للشيخ عبد الله وللإخوة العرب الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني كان
لهم دور في إذكاء هذه الروح بين الشباب المسلم، ولهذا السبب قتلوه، رحمه الله
وأجزل مثوبته، وعظم الله أجر أهله وإخوانه.(24/77)
مسلمو الهند والتعصب الهندوسي
لا يزال المسلمون في الهند يتعرضون بين الحين والآخر لموجات من
التعصب الديني الهندوسي، وتقع المذابح الوحشية التي تدل على الحقد الدفين الذي
تكنه صدور هؤلاء على المسلمين، وقد وردت الأنباء أخيراً بوقوع مثل هذه المذابح
التي راح ضحيتها المئات من المسلمين، وذلك عندما قام الهندوس بتحدي مشاعر
المسلمين في محاولة منهم لهدم المسجد البابري (نسبة إلى الملك بابر المغولي الذي
بناه عام 1528 م) وإقامة معبد لهم فوق أرض المسجد، ورغم أن هذا المسجد لا
تقام فيه الصلاة إرضاء لمشاعر الهندوس منذ عام 1948 عند انفصال باكستان عن
الهند.
جاءت هذه الأحداث قبل الانتخابات العامة، ومع أن المسلمين يدلون
بأصواتهم (مع الأسف) لصالح حزب المؤتمر (حزب راجيف غاندي) إلا أن راجيف
وقف صامتاً إزاء هذه الأحداث طمعاً في أصوات الهندوس.
ونحن نقول للمسلمين في الهند: لا ينفعكم حزب المؤتمر ولا أحزاب
المعارضة التي حققت تقدماً في الانتخابات الحالية ولا التعاطف والاحتجاجات
الإسلامية - رغم أنه لابد منها - لا ينفعكم إلا أن تقفوا موقفاً موحداً، وأن يرد
الاعتداء بمثله، وتدافعوا عن أنفسكم وأعراضكم وأموالكم، فالبكاء والصراخ
والشكوى لا تأتي بطائل، ولكم في الشباب الفلسطيني المسلم، وأطفال الحجارة
لعبرة، لماذا تساعدون الأحزاب الهندوسية؟ لماذا لا يكون لكم شخصيتكم المستقلة
أم هو الإحساس بالضعف بسبب التفرق، وبسبب الآراء الضعيفة من الذين يحبون
(سلام) غاندي! .(24/78)
تركيا ... محاكمات تنتظر كنعان إيفرين
انتهت الفترة الرئاسية للرئيس التركي كنعان إيفرين في 9/ 11/ 1989 م
ولكن هل سيترك إيفرين ليخلد للراحة باقي عمره في جو هادئ، بعيداً عن التعب
والإرهاق والانشغال بالظهور أمام الشعب وإلقاء الخطب؟ والجواب: قد لا يكون
ذلك، فهناك جهات عديدة تعتزم رفع دعاوى ضده، وقد بدأت بعض تلك الجهات
فعلاً بالتحرك لتقديمه للمحاكمة. ويقول عزيز نسين - وهو أحد الذين ينوون ذلك -: سأرفع ضده دعوى جزائية لأنه هو المسؤول عن قيام الانقلاب العسكري، ويجب
على الآخرين فعل الشيء نفسه، حتى لا يفكر عسكري مثله بالقيام بانقلاب آخر في
المستقبل.
وصرح أحد أعضاء حزب الشعب واسمه عزيز جواد قائلاً: سأرفع دعوى
عليه لاستخدامه سلطاته في التأثير على قرارات رؤساء المحاكم. وقال أحد
المتهمين في جمعية السلام، وهو كمال أناضول: إن كنعان كان يوجه التهم
المختلفة ضد أشخاص أبرياء، وكان تصرفه هذا بعيداً عن الإنصاف، وكان قد
تعدى صلاحياته المعطاة له لشعوره بالقوة، وقال: لن أنسى له ذلك، كما طالبت
إحدى الصحفيات بالوقوف ملياً عند احاديثه وتصريحاته التي كان يُدلي بها أمام
الشعب لما كانت تشتمل عليه من إساءة للدين وتطاول على أحكام الشريعة، لاسيما
حجاب المرأة المسلمة، ومنعه المرأة من ارتدائه مما سبب ترك أعداد كبيرة من
الطالبات للدراسة. هذا كله بالإضافة إلى تذمره وضيقه ذرعاً بمدارس الأئمة
والخطباء.
لقد فعل إيفرين كل ذلك تجاه الإسلام والمسلمين إلا أنه لم يتعرض يوماً
لأديان الأقليات الأخرى.
إن الشعب التركي المسلم لن ينسى لإيفرين هذه المواقف وسوف يطالب دوماً
بمحاسبته.
جريدة الوحدة الإسلامية 30 /10/ 1989م(24/79)
قراءات تاريخية
قتل العلماء إخضاع للأمة
قد لا يعلم كثير من الناس أن الدولة العبيدية، والتي يسمونها (الفاطمية) كان
من شرورها أن قتلت كثيراً من علماء السنة في المغرب العربي وغيره، واستمر
هذا الشر في أحفادهم الإسماعيلية الذين مارسوا الاغتيالات لعلماء السنة.
وهذه أسماء بعض العلماء الذين قُتلوا ذكرتهم كتب التراجم مثل سير أعلام
النبلاء للذهبي:
في سنة 361، وبعد أن استقر معد بن إسماعيل العبيدي الملقب (بالمعز) في
القاهرة، أحضر بين يديه العالم أبو بكر النابلسي وجرى هذا الحوار بينهما:
المعز: أنت الذي يقول: لو معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة
والمصريين (العبيديين) بواحد.
- لا، بل لرميتكم بتسعة ورميت الروم بواحد.
- ولم؟
- لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية.
فأمر المعز العبيدي بضربه بالسياط، ثم سلخ جلده، سلخه يهودي، ثم قُتل -
رحمه الله-، ولعنة الله على الظالمين.
محمد بن الحُبْلي
قاضي مدينة برقة، أتاه أمير برقة (العبيدي الفاطمي) فقال: غداً العيد، قال
القاضي: حتى نرى الهلال، ولا أُفَطِّر الناس وأتقلد إثمهم، فأصبح الأمير بالطبول
والبنود أهبة للعيد قال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فطلبه المنصور العبيدي
(حفيد عبيد الله المهدي) فقال له: تصل وأعفو عنك فامتنع، فأمر به فعلق في
الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق ثم صلبوه على خشبة [1] . ...
ابن البَرْدون
الإمام الشهيد تلميذ ابن الحداد، قتله أبو عبد الله الشيعي، وقال له لما جُرّد
للقتل: أترجع عن مذهبك؟ فقال الإمام: أعن الإسلام أرجع، ثم صلب وقد كان
بارعاً في العلم [2] .
ابن خيرون
الإمام أبو جعفر محمد بن خيرون المعافري، أمر عبيد الله المهدي (مؤسس
الدولة العبيدية التي تسمى بالفاطمية) أمر بأن يداس هذا العالم حتى الموت، فقفز
عليه الجنود السودان حتى مات، وذلك بسبب جهاده وبغضه لعبيد الله وجنده [3] .
ابن قائد
أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي بن قايد الأواني، زاهد، خاشع، ذو تأله
وأوراد، قدم (أوانا) [4] وأعظ باطني، فنال من الصحابة فحمل ابن قائد في محفة
وصاح به: يا كلب، انزل، ورجمته العامة، فهرب وحُدّث (سنان) كبير
الإسماعيلية في الشام بما تم لهذا الباطني فندب اثنين من رجاله فأتيا ابن قائد،
وتعبدا معه أشهراً، ثم قتلاه، وهربا في البساتين فَنكِرَهما فلاح يعمل بمزرعته
فقتلهما جزاه الله خيراً [5] . ...
__________
(1) سير أعلام النبلاء15 / 374.
(2) المصدر نفسه 14 / 216.
(3) المصدر نفسه 14 / 217.
(4) قرية شمالي بغداد.
(5) سير أعلام النبلاء 21 / 295.(24/80)
أخبار حول العالم
فضائح الشيوعيين
ما من يوم يمر إلا وتبرز الصحف على صفحاتها الأولى أنباء الإصلاحات
الجذرية التي تمر بها أوربا الشرقية وما ترتب على ذلك من منح لبعض الحريات
في بعض مرافق الحياة، ومن بين ما تمخضت عنه هذه الإصلاحات تخفيف القيود
التي كانت مفروضة على الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، وسنورد فيما يلي
مقتطفات من مقالات نشرت في صحف أوربية شرقية ووكالات أنباء كانت قد
تناقلتها صحف عالمية وتكشف هذه المقالات عن حياة الرفاه والبذخ التي كان يعيشها
أعضاء الأحزاب الشيوعية الحاكمة في وقت كان يصعب فيه على المواطن العادي
تأمين قوت يومه إلا بصعوبة بالغة.
ففي ألمانيا الشرقية كتبت صحيفة (ألمانيا الجديدة) مقالاً افتتاحياً في الأسبوع الأول لتسلم إدارة تحريرها الجديدة تساءلت فيه:
( ... من هم أولئك الذين يحرص رئيس نقابات العمال على تحقيق ...
مصالحهم؟) ثم ذهبت الصحيفة تتحدث عن نمط الحياة التي كان يعيشها هذا ... المسؤول السابق فتقول:.. لقد كان للمسؤول حقل منعزل للصيد يقع على ... سواحل بحر البلطيق توفرت له كل مستلزمات الرفاهية والترف، ويشتمل الحقل على غابة يقوم ستة عمال على العناية بها لتبقى جاهزة طوال السنة، وقد كان هذا الحقل الذي تبلغ مساحته (2000) هكتار مخصصاً حسب القانون للاستخدام الشخصي للمسؤول، أما مسكنه الفخم الواقع في ضواحي مدينة برلين الشرقية فقد فرشت جميع غرفه بقطع أثاث فاخرة صنعت يدوياً من خشب البلوط، وقد وضع في كل غرفة من غرفه جهاز تلفزيون إلى جانب حمام ومغطس وحمام بخاري) .
ويعلق المسؤول ذاته على ممتلكاته فينفي عنها صفة البذخ ويقول: إن ما
أملكه لا يزيد على ماخصص لي كمسؤول في هذا المنصب، ثم يقول: إن من أهم
الأولويات بالنسبة لي هي مصالح العمال!
وذكرت الصحيفة أن هناك قصوراً فخمة أخرى لهذا المسؤول وكذلك لوزير
الاقتصاد السابق في أماكن متفرقة من البلاد، وذكرت اللجنة البرلمانية التي تقوم
بالتحقيق بتهم الفساد أن الملايين من الماركات قد سرقت من خزانة الدولة وأنفقت
على شراء منازل فخمة لأقرباء كبار أعضاء الحزب بأثمان تنقص كثيراً عن قيمتها
الحقيقية، كما كشفت اللجنة أن منازل باهظة التكاليف قد شيدت لأبناء رئيس
وزراء سابق وأقرباء لأعضاء سابقين في المكتب السياسي للحزب.
كما علم أن (اريك هونيكر) رئيس الوزراء المعزول كان يملك هو الآخر -
مع أعضاء في الحزب الشيوعي-حقولاً للصيد تبلغ مساحتها (6745) ميل مربع لا
تستخدم إلا مرة أو مرتين في العام، وأن ما بين (5 - 7) ملايين مارك ألماني
كانت تسحب من خزانة الدولة للصيانة والعناية بهذا الحقول.
وقد ذكرت وكالة الأنباء أيضاً أن أكداساً كبيرة من الأسلحة والذخيرة قد
اكتشفت في منطقة الحدود، وأن سماسرة سلاح كانوا يسوقونها إلى دول الشرق
الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية باستخدام اسم إحدى شركات التصدير الألمانية
كغطاء لعملياتهم.
الفاتيكان والكرملين
بعد قطيعة دامت أكثر من سبعين عاماً بدأت المياه تعود إلى مجاريها الطبيعة
بين الكرملين والفاتيكان، وتم تمهيد الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما
وذلك أثر الزيارة التي قام بها ميخائيل غورباتشوف للفاتيكان في 1/ 12 / 1989
وبعد ساعات من انتهاء الزيارة أعلن في موسكو عن إزالة عقبة مهمة كانت تقف
عائقاً أمام إعادة العلاقات وهي السماح للكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية بإعادة مزاولة
نشاطها بشكل قانوني بعد أن كانت قد منعت من ذلك بعيد الحرب العالمية الثانية في
فترة حكم ستالين وضمت ممتلكاتها إلى الكنيسة الأرثوذوكسية.
وقد اتسمت أجواء الزيارة بالدفء والبعد عن الرسميات، وأعرب الجانب
السوفييتي عن ثقته بالدور الذي يمكن أن تؤديه الكاثوليكية في انجاح البروسترويكا، وأجرى الطرفان محادثات خاصة اقتصرت على شخصيهما دون الحاجة إلى
مترجم، وفي نهاية الزيارة وجه غورباتشوف دعوة للبابا لزيارة الاتحاد السوفييتي
إلا أن البابا علق قبوله للدعوة بمدى الإصلاحات التي وعد القادة الروس بإجرائها
وفي ذلك إشارة منه إلى إعادة الصفة القانونية للكنيسة الأوكرانية، كما أكد البابا
على ضرورة فسح المجال له لزيارة أوكرانيا فيما لو تمت الزيارة. كما أعلن
الفاتيكان عن دعمه لسياسة إعادة البناء (البروسترويكا) التي ينتهجها غورباتشوف.
التايمز 1، 2 /12/ 1989 م
تصاعد نسبة الانتحار في الجيش الإسرائيلي
مع دخول الانتفاضة الفلسطينية عامها الثالث، تشير الإحصائيات الإسرائيلية
إلى ارتفاع ملموس في حالات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين، مما يثير قلق
إسرائيل من انهيار معنويات جنودها.
فقد أقدم في هذه السنة - 1989 م - ما يقرب من خمسين جندياً على الانتحار، وهو ضعف عدد الذين انتحروا في السنه الماضية، وتنفي مصادر الجيش بقوة أن
تكون هناك أية صلة بين ظاهرة الانتحار هذه وبين استمرار الانتفاضة، ووصف
رئيس أركان الجيش عمليات الانتحار بأنها واقع أليم ووعد بأن تدرس هذه الظاهرة
على أعلى المستويات، وأكد أن معدلات الانتحار في السنوات الماضية كانت أعلى
مما هي عليه الآن إلا أنه لم يعط أية تفاصيل. وخلافاً لما صرح به رئيس الأركان
فإن الإحصاءات تؤكد على أن معدل الانتحار بين أفراد القوات المسلحة في ازدياد
مستمر.
وتشير الأرقام الواردة من إسرائيل إلى تزايد في أعداد الجنود الإسرائيليين
الذين يرفضون الذهاب إلى قطاع غزة والضفة الغربية حيث مسرح الانتفاضة، فقد
سجن ما يقرب من مائة جندي لرفضهم أوامر الذهاب إلى هناك. ويقول الناطق
الرسمي لمنظمة (لكل شيء حد) أن الأعداد الحقيقية للجنود الرافضين أكبر من ذلك
بكثير وذلك بسبب اتفاق البعض مع قادتهم من أجل أداء الخدمة داخل إسرائيل.
نيوزويك 4/12/1989، التايمز 5/12/1989 م
نقشبنديون!
قام البوليس في منطقة (لفكا) في قبرص التركية بمداهمة مكان لإقامة مريدين
نقشبنديين وتم القبض على خمسة منهم عندما كانوا في ضيافة أحد شيوخ الطريقة.
والخمسة المقبوض عليهم هم، قبرصي تركي واسترالي وثلاثة من الألمان وجرم
هؤلاء كان حيازة وتعاطي المخدرات.
وحسب تصريح مديرية البوليس فقد عثر في منزل شيخ الطريقة المخصص
للضيوف على المخدرات التي كانت على شكل قوالب وسجائر.. وقد استمرت
عملية المداهمة يومين واشترك فيها ثلاثون شرطياً، وتم استجواب ستين شخصاً
من المريدين وقد كانوا من جنسيات مختلفة.
جريدة قبرص التركية 21/8/1989 م(24/83)
الحضارة المعاصرة ... الوجه الآخر
اميركا: الصَيف الأسْوَد
د. عبد الله أحمد عمر
قد لا يتصور الإنسان مدى معاناة الأمريكان السود حتى تطأ قدماه الأرض
الجديدة، هذه المخلوقات البشرية التي كرمت لإنسانيتها، تزهق معنوياً ومادياً
وأخلاقياً وصحياً في ما يعرف اليوم بالعالم الحر.. والمتقدم.
ولعل فترة الستينات من هذا القرن قد شهدت تحولاً كبيراً في أوضاع السود.
فلأول مرة يعترف بهم كآدميين ويسمح لهم بممارسة حقوقهم المدنية التي تثير دهشة
كثير منا من الذين يحملون خلفية راقية لمفهوم الإنسان كما حدده المنهج القرآني..
وأخيراً سمح للأمريكي الأسود الذي استوطن الأرض الأمريكية لقرون بأن
يركب نفس الحافلة، ويأكل في ذات المطعم، ويرسل أولاده إلى تلك المدرسة التي
ظلت مغلقة في وجهه مشرعة لذوي الدماء الزرقاء " السادة البيض " وظل الرجل
الأبيض البروتستانتي غالباً هو المسيطر على السلطة حتى اليوم مع إعطاء حق
الضجيج والاعتراض أو ما يسمى بحرية الرأي للأقليات المستوطنة مع مشاركة لها
في السلطة حسب اتجاه رياح المصلحة.
ويمكن القول أن الأقلية الوحيدة المستفيدة من هيكل السلطة الأمريكية هي
الجالية اليهودية.. لحسن تنظيمها وتوزيع الأدوار فيما بينها بين أقصى اليمين إلى
أكثر فئات اليسار تطرفاً.. وبين القوى المتدينة بالمفهوم المسيحي / اليهودي، أي
بمفهوم العهد القديم، إلى أكثر الأصوات ارتفاعاً في صف العلمانيين: الليبراليين..
ولعل سائلاً يتساءل: أين الأقلية الكبرى عن هذه الحمى.. أعني أين السود عن
التأثير في مجرى الأحداث.. مع كونهم أكبر الأقليات وأقدمها على الصعيد
الأمريكي.. والجواب يأتي من خلال الأحداث المتلاحقة التي شهدتها أمريكا هذا
الصيف، وبالذات نيويورك قلب أمريكا المتناقض فهي التي تحاول الإجابة عن هذا
السؤال المحير..؟ ولتحدد قطعاً مدى " الحرية " " والمساواة " " والإنسانية " التي
يرفع الغرب شعارها.
صدر التقرير الفدرالي لهذا العام ليقول: إن الأمريكي الأسود قد تقهقر دخله
مقارنة بأوائل السبعينات.. ففي حين شهدت معظم الأقليات ازدهاراً اقتصادياً؛ كان
نصيب السود مزيداً من الفقر وأمراضه الفتاكة في مجتمع لا يقيم للإنسان قيمة إلا
بقدر " القوة " التي كانت بصورة طلقات رصاص في عهد الأجداد من رعاة البقر.
والتي أصبحت " الدولار " في عالم القرن العشرين.
إن فهم عقلية الأمريكي مهم جداً. فمهما كانت شعارات الحرية، والازدهار
الحضاري براقة فإنها تحمل لغة واحدة للتفاهم.. " القوة " لقد أزاح الأمريكي الأول
خصومه من الهنود الحمر بها.. وثبت أركانه كأقوى قوة دولية من خلالها.. هذا
على صعيد الأمة، أما الأفراد فإن القوة بشتى أشكالها كقوة التنظيم والضغط، وقوة
التحالفات، وقوة المال بشكل خاص هي التي تصوغ مركز أي فرد علواً ونزولاً..
دع عنك كل تلك الشعارات الجميلة المهذبة.. فبقدر قوتك كفرد بقدر حاجة المجتمع
من حولك لك، بقدر الكسب الذي تحققه في الحياة العامة مهما كنت عنصرياً،
شريراً، حاقداً أو مدمراً.. إن اللغة هنا ليست لغة التهذيب، والتضحية
والأخلاق.. هي ذات المفاهيم المتوحدة التي تأخذ صوراً متعددة غاية في السذاجة كقوة العضلات أو غاية التعقيد كقوة الضغط بشتى وسائله كما تتقنه بعض الشخصيات والأقليات التي فهمت بعمق العقلية الأمريكية العاشقة لهذا الاصطلاح.
وهكذا فإن السود قد عاشوا مرحلة " تآكل " بطيئة فغدوا خلالها سلاحاً مهماً
من أسلحة المقارعة لخصوم أخذوا في التضخم والنمو.. من الناحية المتفق عليها..
مادياً. ولم يكن هذا التقرير سوى اعتراف رسمي بمدى الظلم المحيق الذي يعيشه
الإنسان القلق في هذه القارة ما لم يدرك خفايا اللعبة، لقد دفع الفقر هذه الأقلية إلى
الجريمة بشكل بدا منظماً ومبرمجاً حتى اقترنت الجريمة بصورة الرجل الأسود
وأخذ زعماء الجريمة البيض يتلاشون تدريجياً من ذهن الأمريكي ليحل محلها
مفتولو العضلات، غلاظ الشفاة، قساة القلوب من السود.
ولما عصفت مشكلة المخدرات بالمجتمع الأمريكي مؤخراً لتصبح الهم الأول
لأمة ممزقة بمشاكلها الداخلية.. كان السود الأرض الخصبة لتسويق وترويج
واستهلاك المخدرات هرباً من عالم قاس موحش لا يجدون فيه نافذة للأمل.. بينما
وجد البعض فيه طريقاً لفرض مفهوم القوة من خلال الكسب الاقتصادي الضخم
والسهل الذي تدره تجارة السموم.
ومن خلال التراكمات المتلاحقة أصبح لون البشرة مرتبطاً بسلوك مشين،
فكلما ازداد سواد البشرة قفز إلى الذهن بصورة تلقائية الجريمة، والمخدرات،
والفقر، والضياع.. من خلال تعميق الصورة عبر أجهزة الإعلام الموجهة، وشهد
الصيف المعركة الحتمية لذلك الصراع المتواصل وتلك الصورة المغروسة..
فالأمريكي الأبيض أصبح لا يريد أن يرى مجرد رؤية ذلك المخلوق المتوحش..
المجرم.. القذر.. وليس هناك أوضح من ذلك المثال الذي شهدته شوارع نيويورك
في نهاية ليلة صيفية هادئة كان خلالها يوسف يبحث عن عنوان في حي غالب
سكانه من البيض الذين رأوا في تواجده كارثة مزلزلة.
إنها خلايا " الميلانين " التي تلون ذلك لآخر، وتصبغ صورته بتلك المشاهد
المفزعة التي يراها (السيد) الأبيض من خلال وسائل الإعلام يومياً.
وشرع السيد الأبيض في استخدام سلاحه القانوني وزاده الظافر " القوة " في
صورتها الساذجة عضلياً.. مما أودى بحياة الفتى الأسمر على أيدي أربعة من
السادة المهذبين، المتحضرين، المتواضعين جداً.. واجتاحت الحي الأبيض
مظاهرات السود تندد بالظلم.. ولكن قطعان السادة اعترضتها لتردد تلك المقولة
السمجة " نحن لسنا عنصريين.. ولكننا لا نحب السود.. فقط ".
ولم يكن ذلك الصراع يأخذ جانباً واحداً، فقد أطلقت صناعة السينما خلال
الصيف الماضي شريطاً يختلف عن أشرطة الغثاء والعبث الشيطانية، ذلك أن
الشريط كتبه أحد السود وقام ببطولته وإخراجه وهو شاب في العشرينات من عمره، لقد رأى أن يستخدم صورة من صور القوة المؤثرة.. (الإعلام) فأطلق شريطه ...
(المنعوت) بافعل الشيء الصحيح (Do the right thing) وخلاصته أن شاباً أسود يقتل على يد أبيض يملك مطعماً في حي غالب سكانه من السود.. الذين لا يحتملهم السيد الأبيض مما يعبر عنه من خلال تلك الجريمة.. الدامغة.. ولكن
الشرطة التي يسيطر عليها السيد الأبيض تدافع عن المعتدي وتحميه من هؤلاء
الرعاع.. فيثور الدم النافر في سكان الحي الذين يرون الظلم بأبشع أشكاله ينال من
أعراضهم.. فيفعلون الأمر الصحيح في رأي الكاتب وهو أن يثوروا على السلطة
الغاشمة وأن يستخدموا العنف والقوة التي لا يعرف (السيد) سواها عنصراً للتفاهم.
لقد أثار الشريط موجة نقاش حادة خصوصاً أن نفس المفهوم الخاص بالقوة
واستخدامها قد رفعه قبل ربع قرن المغدور به مالكوم اكس.. أو زعيم المسلمين
السود الذي كان يمثل خطراً على أساسات الصراع الذي يسيطر عليه السيد الأبيض
فسقط مضرجاً بدمائه.. بعد أن عرف أصول اللعبة.
ويبدو أن تسلسل الأحداث قد دفع السود إلى إعادة التساؤل: (لماذا نحن؟ !
ومن نكون؟ ! وما هي هويتنا؟ ! وما العمل؟ !) وإن كانت تلك الأسئلة بديهية
وأساسية فإنها تشهد عرضاً ملحاً وشهية مفتوحة للإجابة عليها.. لهؤلاء الذين
جردوا من إسلامهم حينما جلبتهم سفن السيد المتحضر الذي عرف أن الرقيق
المستعبد خطر عليه إذا حمل عقيدة.. مهددة لأصل حضارته.. فعمل بجد على
تجريدهم من أهم أسلحة المواجهة.. وجعلهم نظرياً يحملون ذات الملة كأتباع في
المعتقد كما هم أتباع في الرق.
ويظهر أن الإجابة واضحة وسهلة كما هي عميقة ومتشابكة بفعل ضعف
الطرح الإسلامي القوي الذي يعيد لهذه الفئة كرامتها وعزها وجذورها.. لكن جزءاً
من المخطط الذي يتكشف لأمريكا السوداء يحتاج إلى جهد عميق وعمل مثابر..
وإن كانت الأحداث قد كشفت كثيراً من الأقنعة فإن الأسئلة الملحة تحتاج
لأكثر من كشف أقنعة وفضح مخططات.. إنها تحتاج إلى توجه مباشر نحو الأسئلة
الحادة التي يطرحها الإنسان المعذب عن هويته وأصله ومستقبله.
إن هذا المأزق الذي تعيشه الأقلية السوداء في أمريكا لشاهد عيان على الظلم
الصارخ لهذه الحضارة المعاصرة وإدانة واضحة للمبادئ الجوفاء التي تتغنى بها
أمريكا اليوم، فهؤلاء القوم يحرمون من ممارسة حقوقهم المشروعة في ظل الهيمنة
المبطنة للرجل الأبيض والتي تبدو شرعية في ظل قوانين المساواة التي تسطر على
الورق.. أي أن عملية القهر تتم ضمن إطار الشرعية وحتى لو ارتفعت أصوات
هؤلاء بالمساواة والمشاركة السياسية والاجتماعية لضمان حقوقهم فإنها لا يمكن أن
تسفر عن واقع ملموس لأن الديمقراطية المزعومة تسمح للضحية برفع صوت
الاستنكار والاحتجاج والمعارضة.. أما أن تتحول هذه الاعتراضات إلى قوة مضادة
لدفع الهوان فهذا مالا يمكن أن يحدث حتى ولو لاكت الألسن شعارات الحرية
والمساواة والانسانية التي تجيد استخدامها القوى المؤثرة في صنع القرار الأمريكي،
لأنها شعارات وهتافات ليس إلا..(24/87)
بأَقلام القرَّاء
* كتب الأخ ياسر عبد العزيز طاكشندي هذه الكلمة بعنوان:
يا إمامنا صل فإنك لم تصل
إن مسئولية الإمام بالمسجد مسئولية من المسئوليات الجسيمة التي لا يعيها
كثير من الأئمة والعلماء في عصرنا هذا، بل ولا يعيرها في أيامنا هذه الكثير ممن
يقومون بالإمامة أي اهتمام.
فإذا أردنا أن نلقي الضوء على أحد هذه الجوانب فأول ما يلفت انتباهنا هو
الحديث الذي رواه الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه-. قال: بينما نحن
جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل رجل صلى فقام فسلم على النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فقال: إرجع فصل، فإنك لم تصل، فعلها ثلاثاً، ثم
قال: والذي بعثك بالحق نبياً لا أحسن غير هذا فعلمني. فقال له النبي - صلى الله
عليه وسلم - إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم
اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً،
ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.
وإذا ما نظرنا إلى موقف النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
الذي ورد آنفاً فإنه رغم أن النبي كان جالساً مع أصحابه يحدثهم إلا أنه لم تفت عليه
أن يراعي شئون المصلين في المسجد والنظر في صحة صلاتهم، بل ولم يكتف
بذلك مرة بل فعلها ثلاث مرات وهو يراقب هذا الرجل.
والمتمعن في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام يجد أن
القيام بمهام الإمامة ليس عبارة عن طقوس وحركات يؤديها الإمام ويكررها
المأمومون خلفه، بل يتعين عليه أن يراعي من هم حوله فهذا من مسئولياته وكما
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. وهذه
المسئولية تتفاوت بحسب القدرة.
فيجب على الإمام مراعاة شئون من حوله جميعاً سواء كانت مما يتعلق بأمور
الدين، أو الدنيا، ذلك لأن الإسلام لم يفرق بين أمور الدين والدنيا لأنه نظام حياة
كاملة وشاملة لأعمال الإنسان المسلم في جميع أحواله، وأطواره، لكن الذي فرق
أمور الناس بين دين ودنيا هم العلمانيون وجميع أعداء الإسلام، حتى صرنا
مقتنعين بما أملاه الغرب - وأذياله من العلمانيين - علينا من التفرقة بين الدين
والدنيا.
فهل لأئمتنا ولنا أن نعي الدور المنوط بنا تجاه ربنا ثم تجاه مجتمعنا الذي
نعيش فيه؟ .(24/92)
* ومن الأخ أحمد منصور المنصور من الرياض جاءتنا هذه المساهمة:
الكلام والعمل
لا تعجز اليوم أن تجد في الأمة متكلمين كثيرين يحسنون تنميق الكلام
ويتشدقون به، ولكنك ستجد مشقة وعناء في الحصول على من يعمل بعلمه،
فهؤلاء وجودهم عزيز وهم في الأمة قليل، وعلمهم حجة لهم لا عليهم، وسواهم
ممن لا يعمل بعلمه علمهم حجة عليهم يوم القيامة.
ولقد كان سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- لا يتجاوزون العشر آيات من
القرآن حتى يعرفوا معانيهن ويعملوا بهن، وعلى هذا فالاقتصاد في الوعظ من هدي
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي وائل شقيق ابن سلمة قال كان ابن
مسعود -رضي الله عنه- يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني اكره أن أملكم،
وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها
مخافة السآمة علينا. متفق عليه.
وعن أبي اليقظان عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة
من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة» رواه مسلم.
فانظر رحمك الله كيف جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - طول صلاة
الرجل وكثرة عمله، وقصر خطبة وقلة كلامه؛ علامة على فقهه، وما أكثر تعليم
النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وأمره إياهم أن يفعلوا فعله في مثل قوله -
صلى الله عليه وسلم -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وقوله - صلى الله عليه
وسلم-: «خذو عني مناسككم» ، وصدق الله العظيم إذ يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] .
فهل يعي هذا المسلمون عامة والدعاة منهم خاصة، فرب داعٍ إلى الله بخلقه
وعمله قبل دعوته لهم بكلامه ومثل هذا دونه خرط القتاد، فنحن اليوم أحوج ما
نكون إلى أمثال هؤلاء، إلى من يكون قدوة حسنة تتمثل فيه تعاليم الكتاب والسنة
كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر، نسأل الله -عز وجل- أن يمن على الأمة بأمثال هؤلاء إنه جواد كريم.(24/94)
الصفحة الأخيرة
الشكلية
عبد القادر حامد
إن الشكلية جسم بلا روح، ففي الأعمال؛ إذا لم يكن هناك إخلاص؛ يفقد
العمل قيمته وتأثيره، فالإخلاص هو روح كل عمل، العبادة - مثلاً - إذا لم تكن
قائمة على إخلاصها لله، وتنبثق من تحرير القصد له وحده -عز وجل- لاتقبل ولا
تثمر أثراً، وتصبح مجرد حركات عضلية وتمتمات لسانية قد ينخدع بها من يراها، ولكن الله تعالى لا يعدها شيئاً، ولا يعبأ بصاحبها ولا يقيم له وزناً.
وقل مثل ذلك في المبادئ؛ كل مبدأ له حقيقة هي روحه، خذ الديمقراطية
التي يتغنى بها الكثير من المسلمين، ويتصورونها المنقذ، فقد استوردوا شكلها ولم
يستطيعوا استيراد روحها، (ربما لغرابة هذه الروح عن محيطهم في أصل منشئها!) فصار عندهم قانون انتخاب، وأبنية يطلق عليها اسم البرلمانات أو مجالس
الشعب أو الأمة، وأشخاص يطلق عليهم اسم نواب وممثلين، ومعارك انتخابية،
وصناديق وبطاقات اقتراع، وغيرها من مفردات الديمقراطية، ولجان برلمانية،
وقوانين تقدم لإقرارها أو رفضها.
إن كل أشكال ورموز الديمقراطية قد تجدها هنا، أو هناك في عالمنا العربي
والإسلامي، ولكن شيئاً واحداً مفقود لا تحس له ظلاً، ولا تشم له رائحة وهو
الروح في هذه المفردات والأشكال، الروح التي توفر الكرامة، وتلبي الرغبة
المشروعة، وترفع الرؤوس التي كادت تعتاد الانحناء من تواتر الظلم والقهر.
وإذا انفقت عمرك تبحث عن هذه الروح المفقودة فلن تجدها، لأن ما
استوردناه في الأصل استوردناه جسداً بلا روح، وكنا مثل بني إسرائيل حينما أتوا
على قوم يعكفون على أصنام لهم، [قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ
إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهاً وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ] [الأعراف: 138-140](24/96)
رجب - 1410هـ
فبراير - 1990م
(السنة: 4)(25/)
الافتتاحية
هل هناك أمل في صلاح حالنا؟
-التحرير-
للإجابة على هذا السؤال لا بد أولاً من الإشارة إلى هذه الحال التي نطلب لها
الصلاح: هل هي سيئة ومضطربة وتحتاج إلى إصلاح؟ والجواب: نعم إن
حالنا- نحن المسلمين - قد بلغت من السوء حداً لا يرضى عنه مخلص، ركود
وكل شيء من حولنا يتغير، وجمود وكل ما نراه تحت أقدامنا يتحرك، وعدم مبالاة
بعظائم الأمور، واهتمام بسفسافها، وفي حين تبدو بوارق أمل هنا وهناك في أنحاء
متفرقة من عالمنا الإسلامي؛ لكن هذه البوارق سرعان ما تنطفئ فكأنها لمعة برق
في ظلام متراكم أو سراب بقيعة!
هناك من لا يرى أملاً في حاضر ولا مستقبل، ينظر من حوله فيرى الحياة
مُسَمّمة، فساد تضج منه الأرض والسماء، غش وخداع يقدم بصورة إخلاص وتفانٍ، وجبن متحكم تقدمه وسائل الإعلام المحترفة على أنه الشجاعة والنخوة، معارك
مختلفة يخرج منها نكرات أبطالاً، ومعارك حقيقية يغفل دور مديريها، محاباة
للأقارب والمحاسيب ولو كانوا سفلة معتوهين، وإقصاء للأكفاء الأحرار الذين
يعانون الكبت والتجاهل، أو يدفعون دفعاً لخدمة الأمم الأخرى التي تقف بالمرصاد
للمواهب التي لا يعرف أهلها لها قيمة. ليل مطبق بظلمات بعضها فوق بعض من
أخرج يده فيه لم يكد يراها..
هذا ما تراه العين، أما ما غاب عنها فيحتاج إلى مواهب أدبية جبارة لتصفه
بصدق. وتحيط بخطوطه ودهاليزه.
إن سوء الأحوال الاجتماعية يزداد طرداً بتناقص أثر الدين في المجتمع،
وعلى الرغم من أن المسلم يعتقد أن الله حافظ دينه، وناصر أولياءه؛ وأنه لا يخلي
الأمة من قائم بالحق داع إليه إلا أنه ليس من الحكمة ولا من تمام الوعي أن يتجاهل
الهجمة الشرسة التي تشتد على الإسلام يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة.
ومع أن الإسلام يكسب كل يوم حجة جديدة، ويؤيده الله بمؤيدات عديدة، إلا
أن حكمته تعالى اقتضت أن هذا الدين كلما تأكدت حججه وتبلجت أمام الأنظار
براهينه؛ ابتلى الله أتباعه بصنوف جديدة من الابتلاء، وعرضهم لأساليب من
الكيد قد لا يكون جربها فيما سبق نمرود إبراهيم وفرعون موسى.
إن أساليب المكر والقهر التي تجرب على دعاة الحق في البلاد الإسلامية
إن اختلفت في صورها وأشكالها، فهي تلتقي مع الأساليب القديمة - التي
عومل بها الدعاة إلى الله على مدار القرون - في نتائجها وآثارها. مهما اختلفت
الأساليب: بين صلب وقتل وتعذيب، بين تجويع وتضييق وتنكيل، بين وضع
الصخور على الصدر والظهر في الرمضاء الملتهبة أو بين استعمال الوسائل الحديثة
التي تفتقت عنها العقول الشيطانية، أو تعذيبه عذاباً نفسياً كالإهانة والإذلال واقتحام
الخصوصيات وافتراء الفضائح وإلصاقها به ...
لكن النتيجة هي هي: الموت أو النفي أو الجوع أو الإذلال أو الحبس.
ما موقف المسلم من هذا كله، من اشتداد وطأة التعذيب والمطاردة وافتراء
الأكاذيب وتشويه الحقائق وليّ الوقائع؟ هل يتخلى عن دينه؟ وهل يتنازل عن
أوليات عقيدته وأساسيات يقينه ابتغاء السلامة، وإيثاراً للعافية، وموافقة لدعاة
الفتنة؟ !
كلا، كلا.
إن المسلم سيظل يقرأ القرآن ما دام هناك قرآن. وسوف يمر في قراءته على
هذه الآيات من سورة العنكبوت [الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ
لا يُفْتَنُونَ ولَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ أَمْ
حَسِبَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإنَّ
أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ومَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
العَالَمِينَ] [العنكبوت: 1-16] .
وسوف يظل يتساءل في نفسه:
من هؤلاء الناس؟
وما الفتنة؟ وكيف تكون؟
من المؤمن الصحيح؟ ومن المؤمن الكاذب؟
من الذين يجترحون السيئات ويحادون بها الله؟
من المجاهد؟
ثم هل لهذه المصطلحات مقابل في هذه الأزمان؟
هل هناك أناس يؤمنون إيماناً قولياً وآخرون يؤمنون إيماناً عملياً؟
هل هناك من يتعرض للفتنة؟ من هم، ما مواصفاتهم؟
من الفاتنون؟ ما حقيقتهم من يمثلهم؟
هل في الأرض الإسلامية من يحارب الله بالمعصية ويتجرأ على شرع الله
بالهزء والسخرية؟
هذه الآيات - وغيرها كثير في القرآن الكريم - تطرح أسئلة كثيرة تتطلب
من المسلم التالي للقرآن أجوبة، وهذه الأجوبة موجودة سواء عالن بها المسلم أم لم
يعالن، وهي أجوبة ينبني عليها موقف لا بد له منه شاء أم أبى.
إن حياة الأمة الإسلامية مرتبطة بهذا القرآن فهماً وتطبيقاً ومواقف، فإذا
حملت الأمة هذا الكتاب بقوة، وفهمت وقاست واقعها عليه كانت أمة إسلامية حقاً،
وإذا رضيت أن يتلى في المساجد فقط تلاوة لا روح فيها، أو يحمل للبركة أو يتلى
على الأموات فقد فقدت عنصر الحيوية فيها كأمة إسلامية متميزة وانخرم من
إسلامها بمقدار ما انخرم من فهمها لما يمثله القرآن في بنائها.
إن المسلم التالي للقرآن لا يفقد الأمل أبداً، يلمح سنة الله في تصارع الحق
والباطل؛ فيعلم أن الباطل مهما تضخم وانتفخ وتجبر لا بد أن يذهب مخلفاً وراءه
اللعنة عليه وعلى دعاته وحراسه، وأن الحق هو القاعدة التي بني عليها الكون،
والباطل هو الشذوذ.
وإن أشد حالات الباطل سوءاً ضرب العبودية على الشعوب والجماعات،
ونصب الأفراد المغتصبين ما ليس لهم من صفات وحقوق آلهة يُسَبَّحُ بحمدها بكرة
وعشياً، وجعلها مصدر النعمة والإلهام لجموع عريضة من البشر، واحتكارها
المنافع، وادعائها ما لا تعرف من الفضائل ... إن الجموع التي تقاد بهذه الطواغيت، وتساس بمثل هؤلاء المفلوكين جموع بطن الأرض خير لها من ظهرها، هذا إذا
لم تنفض عنها غبار الذل المضروب والعبودية الباطلة.
بعض الناس الذين يتملمون من وقع الظلم في ديارنا مشغولون بعقد المقارنة
بين ما عايشوه وما بين ما عايشته شعوب أوربا الشرقية. ويفركون أيديهم توقعاً
للنهاية التي حلت بطواغيت شرقي أوربا أن تحل ديارهم، والرياح التي هبت هناك
فكنست ممن كنست؛ أن تواصل مسيرها حتى تصل إليهم فتفعل ما يتمنون!
ولا نستطيع أن ننكر وجوه المشابه بين ما عندنا وما عند غيرنا من أشكال
العسف والجَبَرية، ولكن كم هو مفيد أن نتذكر أن هناك اختلافات لا بد من وضعها
في الحسبان حتى لا نستعجل في التوقعات.
ومن ذلك:
1 - إن أجهزة الإعلام الغربية لعبت دوراً لا يستهان به في سقوط رموز
الشيوعية، وهيأت الرأي العام في تلك البلاد ليضغط ضغطاً بعيد الأثر. أضف إلى
ذلك دور الكنيسة (الكاثوليكية) بوجه خاص. في حين ليس لنا صحافة حرة فاعلة،
والإعلام الغربي يقف على الحياد، ويصمت صمتاً مشبوهاً تجاه قضايا العدالة
والحرية في العالم الإسلامي، وكذلك ليس عندنا جهاز مستقل له أثر كالكنيسة
الكاثوليكية، يعبر عن ضمير الأمة الإسلامية.
2- قيض الله لأكبر دولة ابتليت بالسيطرة الشيوعية رجلاً أوتي الجرأة أن
يعترف بمفاسد هذا النظام، وما جره على محكوميه من نكبات (ولسنا معنيين بما إذا
كان غورباتشوف مخلصاً للدعوة الشيوعية أو غير مخلص؛ يريد أن يهدم هذا
النظام من أساسه، أو يبحث عن دور تاريخي عن طريق إصلاح الشيوعية) فلما
وجد هذا الشخص وجهر بما جهر به تبينت تلك الشعوب أنه يمكن تحدي تلك
الأنظمة غير الأصيلة التي تستمد قوتها من ذلك النظام المنخور الذي لم يعد بإمكان
أحد أن يدافع عنه.
أما نحن فإن سوء أحوالنا لم يسببه استمدادنا الشرعية لا من (غورباتشوف)
ولا من (بوش) بل إن الطغيان الذي يمارس علينا عميق الجذور بعيد الغور،
طغيان متوارث مرد عليه وارثوه، ومرنت عليه المخلوقات التي يطبق عليها.
إن ما يسود في بلادنا ليس شيوعية حتى إذا تأثرت الشيوعية تأثرنا، ولا
اشتراكية حتى إذا ما عدلت الاشتراكية عدلنا، ولا رأسمالية شبيهة برأسمالية الغرب، إن ما يسود في بلادنا هو خليط عجيب فيه من كل نظرية خرقة ومن كل فلسفة
مزقة، ومن كل واد عصاً، وإذا ما ذهبنا نقيس ما عندنا على ما عند غيرنا أعيانا
القياس وأصابتنا الحيرة.
وفي الجملة إن ما أصاب شعوبنا الإسلامية من تردي أحوالها، وضربها
بالتفرق، وإذكاء نار العداوة بينها، وتسليط لئام الخلق يتحكمون بها، ويجرون
عليها سياساتهم ومخططاتهم، وغير ذلك من أنواع البلاء ... كل ذلك بسبب
إعراضها عن الله، وتضييعها المنهج الذي يعصمها من ذهاب الريح، والضلال
عن الحقيقة. ولن يكون هناك أمل في إصلاح، وانتقال من التيه والضياع إلى
الطريقة الواضحة الموصلة إلى ما ترجو إلا بعثورها على هذا المنهج وتمسكها به.
وليس من طريق إلا الإسلام ولا من منهج إلا القرآن الكريم وسنة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم- «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا
الله»(25/4)
في إشراقة آية
[فاعتبروا يا أولي الأبصار]
د. عبد الكريم بكار
هذه آية جليلة الشأن في الكتاب العزيز سرت مسرى المثل، وذاعت على
الألسنة والأقلام؛ لأنها تعني وجوب الاستفادة من تراكم الخبرات البشرية، وأخذ
العظة والعبرة من أحوال الأمم السابقة، والمعاصرة، وتوفيراً للجهد، واختصاراً
للطريق، وفراراً من عذاب الله تعالى ...
وقد قص الله تعالى علينا في سورة الحشر قصة جلاء بني النضير من المدينة
إلى خيبر والشام مبيناً وقوع ما ليس في الحسبان، فقال تباركت أسماؤه: [هُوَ
الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن
يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] [الحشر: 2] .
لقد كان خروج بني النضير في تلك الصورة المهينة الذليلة حدثاً بعيداً عن
أذهان بني النضير وأذهان المسلمين لأن الأسباب المادية التي أخذ بها القوم كانت
على درجة من الإتقان والإحكام تحول دون تصور ما وقع..
ولكن العزيز الجبار الذي لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه أتاهم من حيث لم
يحتسبوا أتاهم من الداخل، فألقى في قلوبهم الرعب، فخارت عزائمهم، وأدركوا
أن قوتهم ما عادت تغني عنهم شيئاً.
وما أشبه الليلة بالبارحة ! !
فهذه هي النظرية الشيوعية تنهار اليوم في أسرع مما كان يدور في خلد البشر، وهذه هي مئات الألوف من الكتب والمجلدات التي سطرت في فلسفة النظرية
وترويجها وتكييف البشر معها تغدو رماداً تسفوه رياح التغيير العاتية في وجوه
السدنة والكهنة والمرتزقة والأذناب وأشباه الأذناب..
لقد كان سقوط النظرية الشيوعية أمراً لا مفر منه، ولكن المذهل هو انهيار
البناء الذي أنفق فيه ثلاثة أرباع القرن من الزمن مع ملايين الأنفس وما لا يحصى
من الآلام والعذابات وصنوف المعاناة الإنسانية في أسرع من لمح البصر.
قد كانت أفكار (كارل ماركس) رد فعل لحرمان طويل ومعاناة شخصية قاسية. والناموس العام لردود الأفعال البعد عن الموضوعية وفقدان الاتزان. وقد قبل
أفكار (كارل ماركس) في البداية صنفان من البشر:
صنف طحنه الظلم والحرمان، وتقلب دهراً في التعاسة، وطرق كل باب
للخروج من نفق الظلمات الذي ولد فيه فإذا بنظرية تعده بجنة على الأرض تنسيه
طعم كل ما مضى من العناء والبلاء، فهبَّ إلى اعتناقها والترويج لها على أنها
الحل الأخير والمخرج الوحيد.
والصنف الآخر - وهم الكثرة من الأشياع - وجد في السلطات المطلقة التي
تركزها النظرية في قبضة الحزب الشيوعي والدولة الماركسية ما يلبي من خلاله
كل طموحاته الشخصية من الجاه والمال والتسلط، وما يتفرع عن ذلك من شهوات
وملذات ومصالح..
ولم يمض وقت طويل حتى أدرك الذين كانوا يحلمون بالفردوس أن الخبر
غير الخبر وأن المحصول غير المأمول..
ولكن إدراك الشعوب كثيراً ما يأتي متأخراً بعد فوات الأوان..
فقد ركزت الحكومات البلشفية المتعاقبة على صناعة السلاح دون باقي
الصناعات حتى تتمكن من كسر شوكة أي معارضة محتملة للثورة على حين أنها لم
توفر لشعوبها أحذية جيدة تنتعلها..
وجمعت إلى ذلك تجنيد عشرات الألوف من المخبرين السريين الذين يحصون
أنفاس الشعوب ويعدون نبضات قلوبهم.
ولجأت الشعوب إلى سلاحها الماضي وحيلتها الأخيرة، فشرعت في المقاومة
السلبية، وأدارت ظهرها لخطط التنمية المتعاقبة التي كانت تضعها الحكومات
الشيوعية. ومن البدهي أن الحكومة تخطط وأن الشعب ينفذ فإذا لم ينفذ الشعب
كانت الخطط حبراً على ورق أو صرخة في واد، وهذا ما جرى لقد كان كل عام
يمر يعنى مزيداً من الفروق المعيشية والحضارية بين أتباع الشيوعية وأتباع
الرأسمالية، وحين انهار جدار (برلين) أدرك الألمان الشرقيون - الذين كانوا يُدلُّون
بأنفسهم على أشياعهم من أبناء أوربا الشرقية- الفجوة الضخمة التي تفصلهم عق
الألمان الغربيين، فالدخل عند الغربيين عشرة أضعاف الدخل عند الشرقيين،
والهواتف عشرة أضعاف وأعداد السيارات مضاعفة وهكذا على هذه اللازمة..
وفى اعتقادي أن الأحزاب الشيوعية انهارت بهذه الصورة؛ لأنها عجزت عن
بناء حضارة مناسبة للعصر تغني شعوبها عن تكفف الآخرين وتوجد الثقة بالأسس
النظرية التي قامت عليها، وأسباب أخرى من هذا القبيل لا نقصد هنا إلى تعدادها.
هل من معتبر؟
كانت الأحزاب الشيوعية والحكومات التابعة لها بحاجة إلى نوعين من
المراجعة:
الأول: مراجعة أصول النظرية وقواعدها الأساسية والتي أثبتت السنين أنها
خيالية ومتناقضة.
الثاني: قياس آراء النظرية من خلال الواقع الذي أفرزته التجربة الطويلة،
لمعرفة مكامن الخلل ومواضع الداء في النظرية والتطبيق. ومع أن (برجنيف) كان
يقول: إذا لم نستطع كشف الأخطاء قتلتنا، فإن سدنة الأحزاب الشيوعية بدءاً بقائل
هذه الحكمة لم يستطيعوا الكشف عن أي خطأ ذي شأن فضلاً عن القدرة على
الإصلاح. وكان الشغل الشاغل هو التبرير والدفاع والثناء بالجملة على الوضع
القائم.
وفى عالمنا الإسلامي اليوم الكثير الكثير من الأخطاء وأصناف القصور على
المستويات كافة. ووجود الأخطاء أمر طبيعي؛ ذلك لأن حركة الزمن تدع الكثير
من الجديد بالياً، وتوجب استمرار الاجتهاد والتكييف بين المبدأ والمصلحة، وبين
الوسائل والغايات، وبين الأساليب والأهداف. وخلال عمليات التكييف هذه تحصل
مفارقات تحسب للأمة تارة وعليها تارة أخر ى.
والأمة الحية اليقظة لا تكف أبداً عن عمليات المراجعة وقياس أداء المناهج
والأساليب والأصول، كما لا تمل من بحث المعوقات وطرح الحلول لها.
وإذا كان الآخرون يحتاجون إلى نوعين من المراجعة فإننا بحمد الله نسير في
طريق لاحبة رسمها الأصفياء الأولون من رسل الله وأوليائه، ومن ثم فإننا بحاجة
إلى نوع واحد منها، وهو التأكد من موافقة خطانا لروح الشريعة الغراء ونصوصها
ومدى توفر الشروط النفسية والاجتماعية التي يجب توفرها في حياة خير أمة
أخرجت للناس.
وتتشخص هذه المراجعة في المفردات التالية:
1 - امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء وأنواع التقصير في مسيرتنا
الحياتية.
2 - التفريق الدقيق بين الأمراض وأعراضها حتى لا نعالج مظاهر المرض
وأعراضه ونترك حقيقته، فيكون العلاج مؤقتاً.
3-البحث في البنى التحتية لتلك الأخطاء للوقوف على عللها الأولى وأسبابها
الحقيقية اهتداء بقوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ]
[العنكبوت: 20]
4- التغيير في برامجنا وأساليبنا بما يتناسب مع نتائج تلك المراجعات.
5- وضع صمام الأمان الذي يحول دون تكرار الوقوع في تلك الأخطاء.
6- غرس روح تحمل المسؤولية في أفراد الأمة والتربية على الشجاعة
الأدبية الباعثة على محاصرة الخطأ والنقد البناء، وتنمية روح المبادرة الفردية
لديهم.
وإذا فعلنا هذا فإنا نكون قد ضمنّا استمرار الثقة بأصولنا الاعتقادية والفكرية،
وأوينا إلى ركن شديد يعصمنا من الأعاصير العاتية والانهيارات المدمرة.
وليس هذا على وارثة تراث الأنبياء والمكلفة بتبليغ الكلمة الأخيرة بعزيز.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.(25/9)
خواطر في الدعوة
بين يدي الدعوة
محمد العبدة
إن وسائل دعوة غير المسلمين كثيرة، والداعية الموفق يختار من الأساليب ما
يشعر أنه مؤثر وناجح، وبعض الناس قد لا يستجيب للدعوة إلا أن يرى شيئاً
عظيماً يجعله يقف مبهوراً معجباً، شيئاً يشده إلى الإسلام شداً، ويأسره أسراً
ويجعله يعيد حساباته ويفكر بعمق ويقارن بين الماضي والحاضر ثم يتخذ في نفسه
القرار.
لقد قرر أن يستسلم ولكنه استسلام الحازم المطمئن الذي عرف الحقيقة فعلاً
وليس استسلام العاجز أو صاحب غرض.
هكذا وقفت ملكة سبأ التي كانت تعبد الشمس هي وقومها عندما دعاها سليمان
عليه السلام إلى الإسلام أبت أن تنقاد مع اعترافها بضعفها أمام قوة سليمان وجنوده، ولكن عندما دخلت الصرح وحسبته لجة [قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأَسْلَمْتُ
مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [النحل: 144] لقد عُرضت عليها مظاهر القوة
الخارقة لتؤثر في قلبها وتقودها إلى الإيمان، وفى الإسلام ليس الأصل هو
المعجزات المادية - وإن جاءت عفواً وإكراماً فلا بأس- ولكن أليس التزام المسلم
بدينه وتطبيقه في كل شئون حياته أكبر معجزة.
وفى قصة إسلام خالد بن الوليد رضى الله عنه أنه خرج من مكة ميمماً شطر
المدينة فلقيه في الطريق عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقال له: إلى أين يا
أبا سليمان؟ قال: لقد استقام الميسم (وضح الطريق) وهاجرا معاً إلى المدينة.
إن خالداً قائد عسكري فذ، ولا يخفى عليه أن انتصارات محمد -صلى الله
عليه وسلم- إنما هي انتصارات دين سماوي، انتصارات نبي يمثل الكمال البشري
مؤيد من الله يسدده ويرشده، وبعد معارك وصراع من بدر إلى الحديبية استسلم خالد
بن الوليد ولكنه استسلام القوي العاقل الذي يعرف مواقع الحزم واتخاذ القرار
المناسب.
وقد سمعنا في العصر الحديث أن بعض الكفار من الأوربيين أسلموا عندما
رأوا صفوف المسلمين في الصلاة، وخشوعهم وإقبالهم على الله. قال الفيلسوف
الفرنسي (رينان) : (كلما رأيت صفوف المسلمين في الصلاة أتأسف أني لست مسلماً) إنها كلمة صدق من كذوب، فما الذي يمنعه عن الإسلام.
إن عرض الإسلام عرضاً جذاباً مع العلم الراسخ قد يكون من المؤثرات
الفعالة في إقبال الناس على هذا الدين، كما وصف ابن عباس -رضي الله عنه-
حين فسّر سورة البقرة في أيام منى من الحج، قال من سمعه: (لو سمع تفسيره
يهود أو نصارى لأسلموا) وإن أعظم دعوة للإسلام هو التزام المسلمين بشريعة الإسلام وشعائره وآدابه وأخلاقه، وإصرارهم على هذا، وتحديهم للمجتمعات المنحرفة.(25/14)
في المنهج والاستدلال
أثر الاجتهاد
في المحافظة على منهاج الأمة وعقيدتها
د. عابد السفياني
المحافظة على التزام هذه الأمة بعقيدتها ومنهجها:
إن المجتمع الإنساني لا بد له من الحركة والنمو، لأن هذه هي طبيعة الإنسان
الذي كلف بمهمة إقامة الخلافة على هذه الأرض ... ويشترك المجتمع الإسلامي مع
سائر المجتمعات التي تحكمها المِلل الأخرى في هذه الخاصية ويفترق عنها في أمور
منها:
أ-أن المجتمع الإسلامي يمثل الأمة الواحدة للبشرية جمعاء، فلا يعرف
القوميات، بل يعيش الناس فيه أمة واحدة ولو كانوا من شعوب وقبائل مختلفة.
ب -أن مهمته إقامة الخلافة على الأرض طبقاً للمنهج الرباني لا كما تصنع
المجتمعات الأخرى في إعراضها عن هذا المنهج.
ج -أن مهمته القوامة على البشرية: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس] [البقرة: 143] . [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ
ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 104] .
فهو مجتمع يشترك مع المجتمعات المخالفة له في خاصية الحركة والنمو
والتأثر والتأثير، ويفارقها في كونه مجتمع عقيدة ربانية ومنهجاً إسلامياً مهمته إقامة
الخلافة على الأرض والقوامة على البشرية ... ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بطريق
الاجتهاد.
فالاجتهاد وهو عنوان (الحركة والنمو) هو السبيل الوحيد لحفظ توازن
المجتمع الإسلامي، ولا يقوم إلا بعد عمل وتفقه ينتشر ليغطي أكبر مساحة من
المجتمع الإسلامي، وهذا طريق لحفظ رسالته، ومن هذا الجهد ينشأ عمل خر على
مستوى أكبر يتدرج حتى يسلمنا إلى مرحلة وجود المجتهدين ... وإلى هنا يتحقق لنا
أمران:
أ - قيام المجتمع بنشر الوعي الديني عن طريق تفقه الأمة في العلم.. وهذه
هي القاعدة التي ينبني عليها ما بعدها.
ب -ظهور صفوة من الفقهاء يمثلون أهل الاجتهاد.
وبهذا يحفظ توازن المجتمع الإسلامي فحركته ونموه الطبيعيان اتجها اتجاهاً
سليماً ونتج عن ذلك عمل إيجابي فهو من جانب حفظ جهد الأمة من أن يضيع
وينحرف، ومن جانب آخر حمل الأمة على أداء رسالتها الخاصة بإقامة مجتمعها
على المنهج الرباني.
ومجتمع كهذا لا بد وأن تنتشر رسالته لأنه قد مثلها في نفسه أحسن تمثيل،
وهي رسالة الدين الخاتم الذي يحقق العدل الرباني في الأرض فإذا حدثت مرحلة
التأثر والتأثير أو قل: زادت وقويت فإن المجتمع الإسلامي يحمل معه عدته
وسلاحه، ومن أعظم عدته وسلاحه (الاجتهاد) . إن المجتمع الإسلامي كما يريد
أن ينشر المنهج الرباني في الأرض - على الطريقة الربانية- فإن المجتمعات
المخالفة تريد أن تدس جاهلياتها وانحرافاتها في المجتمع الإسلامي أو تقذفها فيه ...
وهي لا تصنع ذلك إلا وهو محفوف بكثير من المغريات المادية التي تشتمل على
نفع محض بل وفيها حاجيات وضروريات، وقد يكون المجتمع الإسلامي في بعض
الأحيان لا يمتلكها ولم يقدر بعد على تصنيعها.. وهنا إن لم يكن المجتمع الإسلامي
يملك عدة (الاجتهاد) يضعف أمام هذه المغريات ثم يفقد توازنه ويبدأ تأثير الغزو
الفكري يعمل عمله فيه، وأما إن كان يملك هذه العدة فإن موقفه سيكون إيجابياً
ونذكر من آثار هذا الموقف ما يؤكد ضرورة الاجتهاد للمجتمع الإسلامي ومنها:
1- أثر الاجتهاد في رفع معنوية الأمة وزيادة إيمانها بمنهجها الرباني. بيان
ذلك: أن الأمة التي تبذل جهدها في بناء أفرادها على منهجها الخاص عن طريق
التربية والتعليم ونشر مفاهيم دينها نشراً صحيحاً وتعرف رسالتها حق المعرفة؛ أمة
ولاشك قوية معنوياً، وهذه هي القاعدة التي ينبثق عنها الاجتهاد كما سبق وأن قلنا.
وأما زيادة الإيمان بهذا المنهج الرباني فيكون بأن يعلم أبناء المجتمع الإسلامي
في كل حين -مع كل حادثة تجد في هذا المجتمع - أن منهجهم يشملها بحكمه
ورحمته وأنها لن تبقى معلقة بلا حكم ... ولن نذهب نبحث لها عن حكم في غير
هذا المنهج وهنا تزداد الأمة تمسكاً بمنهجها وتزداد عزة وقوة.
2 - أثر الاجتهاد في حفظ الأمة من أن تتسلل إليها آثار الغزو الفكري
الجاهلي ... وذلك يتحقق بأن يقوم المجتهدون بالنظر في جهد الأعداء المادي
والمعنوي، فينظرون في مجموعة ويفرقون بين الحق والباطل، والنافع والضار ثم
يختارون -ومنهجهم الرباني هو الحكم وعزتهم وقوتهم تجعلهم يحكمون هذا المنهج
ويختارون وهم في توازن كامل، فلا يقعون في متابعة أعدائهم ولا يرفضون كل
شيء ... بل يختارون وهم لا يزالون يمثلون الرسالة - الربانية والقوامة على
البشرية، ولا يضرهم ولا ينقصهم في شيء أن يأخذوا ويختاروا ما ينفعهم ... ولا
يضرهم ولا ينقصهم أن يرفضوا ما لا ينفعهم ... ولا يمكن أن نفرق بين الضار
والنافع وما يوافق المنهج الرباني وما يخالفه إلا عن طريق (الاجتهاد) .
3 - أثر الاجتهاد في هداية الأمم الأخرى - وذلك قبل الجهاد - إن موقف
المسلمين هذا لا شك سيكون له أكبر الأثر في أعدائهم فأول ما يعلمه الأعداء أنهم
أمام أمة لا يمكن أن تُستغفل وتُمتطى وهذا له تأثير نفسي عميق يجعل الأعداء في
موقف التأثر والإعجاب والانبهار أمام هذه الأمة القوية التي تحسن أن تختار لنفسها
حسب ما يرتضيه منهجها الرباني، والأثر الذي يتبعه مباشرة أن يعرف الأعداء-
بعد انكسارهم النفسي-أن في الأرض منهجاً متوازناً يفرق بين الحق والباطل والنافع
والضار ولا يهدر طاقات العقل البشري النافعة ... ويحول في الوقت نفسه بين
انحرافات البشرية وبين الفطرة الإنسانية ليقوم العدل في الأرض ... وهذا المنهج
هو (الإسلام) وهذه دعوة عملية لها من الإيجابية وحسن التأثير شيء عظيم.
هذه هي بعض آثار الاجتهاد في داخل الأمة وفى علاقاتها مع أعدائها، وهو
دليل قاطع على ضرورته وفرضيته وأنه لا تصلح هذه الأمة إلا به ولا تهتدي
البشرية إلا به، وإن لم يتحقق فإن تلك الآثار الإيجابية تنقلب لتكون آثاراً سلبية
والضد بالضد، وضد الحركة والنمو الجمود والتقليد.
ولنتصور نقيض تلك الآثار وضدها.. لكي ندرك الخسارة التي وقعت فيها
هذه الأمة لما أهملت مهمة الاجتهاد (1) وخاصة لما اجتمعت عليها الأمم كما تجتمع
الأكلة إلى قصعتها، كل أمة من أمم الكفر معها نافع وضار، نافع يتمثل في ماديات
ضرورية وحاجية، وضار يتمثل في مبادئ ومفاهيم جاهلية لا تحفظ ديناً ولا
عرضاً ولا عقلاً.. بل ترتكس في مجال العقائد والأخلاق إلى مستوى الكفر
والشرك والفتنة والإغراء ونتج عن ذلك أنظمة وضعية تعارفت عليها تلك الأمم
وانبثقت من عقائدها وأخلاقها....
وكانت عملية الاجتهاد كفيلة بالتفريق بين الضار والنافع ... وكفيلة أيضاً
بمراعاة الأحوال الجديدة التي نشأت من طبيعة المجتمع الصناعي واستنباط أحكامها
الخاصة بها ومراعاة الضوابط التي تحفظ الضرورات الخمس: الدين والعرض
والنفس والعقل والمال، فإن المجتمع الصناعي -وإن كان محتاجاً إلى عملية
الاجتهاد كما يحتاجها المجتمع الزراعي والرعوي- إلا أنه أشد حاجة لها، أضف
إلى ذلك أن السلبيات التي تنتج عن تعطيل مهمة الاجتهاد أو عدم القيام بها على
الوجه المطلوب تظهر آثاراً على نحو مخيف وخطير في المجتمع الصناعي أشد
بكثير من ظهورها في غيره من المجتمعات ذلك أنه مجتمع الحركة الفوارة والتجدد
المستمر فإن لم ينضبط بعملية الاجتهاد ازدادت تلك السلبيات واستمرت في الازدياد.
وهذه الحكمة التي تحدثت عنها هي أعظم حكمة لمهمة الاجتهاد لأنها سبيل
عظيم للمحافظة على التوحيد وأحكامه الذي تمثله هذه (الشريعة) والمحافظة على
المجتمع الإسلامي من آثار الشرك وأحكامه الذي يمثله الغزو الفكري الحديث
1- وقعت الأمة في ضد ذلك تماماً لما أهملت هذه الفريضة وزادت ردود
الفعل من داخلها الأمر سوءاً فقد اختلفت مواقف العلماء من آثار النهضة الأوربية
فمنهم من رفضها كلها ومنهم من قبلها بدون تمييز ... وهذان موقفان سلبيان ...
ومنهم من نادى بالتمييز بين الضار والنافع ... وهذا موقف إيجابي ولكنه لم يكن له
من القوة والانتشار ما يسمح له باكتساح التيار الذي نتج عن سلبية الموقفين السابقين، وقد كان قيام العلماء بعملية الاجتهاد - كما بينت وعدم اختلافهم عليها وتخلفهم
عنها- كفيلاً بأن يحول بين الأمة وما وقعت فيه من تلك السلبيات العظيمة وأعظمها
أنها أصبحت فريسة لآثار الغزو الفكري الحديث.(25/16)
مفاهيم إسلامية
الدين والدنيا
بقلم / محمد العبدة
وترى الدنيا انطوت في كسبه ... ليس منها ذرة في قلبه
(إقبال)
لا نبتعد كثيراً إذا قلنا إن الاختلال في توازن أمور الدين والدنيا كان ولا يزال
أحد الأسباب التي جعلت المسلمين يتعثرون في نهضتهم ويضعفون في الوصول إلى
أهدافهم.
إن كثيراً من المسلمين يحملون مفهوماً خاطئاً عن الدنيا أو عن التوازن بين
الدنيا والدين، فتراهم يطربون عندما يسمعون قصص الزهد غير الشرعي، وقص
الزهاد الذين يتركون الدنيا كلها، والواعظ الذي يذم الدنيا دائماً يقبل الناس عليه
ويسمعون منه، ويعجبون به.
لا شك أنها معادلة صعبة ودقيقة تلك التي تجمع بين الدنيا والدين، أو بين
الدنيا والآخرة، وأي خلل في فهم هذه المعادلة سيؤدي إلى أخطاء كبيرة وتقصير
عما يريده الله سبحانه وتعالى من المؤمنين من التمكن في الأرض وإعمارها بالعدل
ونشر الإسلام.
المفهوم الإسلامي للدنيا والدين:
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ] : (الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية
ودار رحبة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل،
والحسنة في الآخرة أعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر وتيسير
الحساب) (1) . وقال في الظلال: (إنهم يطلبون الحسنة في الدارين ولا يحددون
نوع الحسنة، وهذا التعليم الإلهي يحدد لمن يكون الاتجاه، ويقرر أنه من اتجه إلى
الله وأسلم له أمره، وترك له الخيرة فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة إن
الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا
ولكن يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها) (2) .
فالدنيا في المفهوم الإسلامي الصحيح وسيلة وذريعة لتحصيل مقاصد الشريعة
(فالمقصد هو الدين ولكن لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرعية)
(3) والكسب في الدنيا من الواجبات لأنه لا يستطيع الاستقلال بالعبادة إلا بتأمين
ضروريات حياته، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (4) ، فإذا كانت الدنيا
بهذه المثابة وأنها منزل وممر لا موطن ومقر فالآخرة هي دار الجزاء، قال تعالى:
[فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ] إذا كانت كذلك (فالواجب الكشف عن
جهة انتظامها واختلالها، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها) (5) ويقصد الماوردي:
بما أنها مطية للآخرة، فإنها إذا فسدت فربما أدى فسادها إلى إنقاص الدين. فإذا
وصلت الحال بأهلها إلى قلة الأمن وقلة الرزق أو التهارج والقتل والعيش الذليل
وتسلط الأعداء وقهرهم للمسلمين، فمن المؤكد أن هذه الأمور تضعف الدين كذلك
فلا يستطيع المسلم أن يقول: أنا أحفظ ديني وأدع الدنيا لمن هو راغب فيها أو
للكفار..
يقول الماوردي: (لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلاف أمورها لن
يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها، لأنه منها يستمد.. ومن فسدت
حاله مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثراً،
لأن الإنسان دنيا نفسه) (6) .
ما ورد في القرآن حول الدنيا:
عندما يبتعد الناس عن منهج الأنبياء وعن اتباع الشرائع الإلهية، تصبح
الدنيا محورهم الأساسي، وهى آمالهم وموضع لذاتهم، ويصبحوا عبيداً لها. ولا
فكاك لهم من أسرها. يقول الأستاذ محمد قطب: (وكان الخلل في الجاهلية العربية
هو انفصال الدنيا في حس الناس عن الآخرة لعدم إيمانهم بالآخرة، وهو الآن
انفصال الدنيا في حس الناس عن الآخرة لاستصغارهم شأن الحياة الدنيا واحتقارها، ولأول وهلة يبدو هذا الأمر هو عين الإيمان) (7) .
جاء القرآن الكريم ليصحح هذه الأوضاع ويضع المسلم على الجادة المستقيمة، فالدنيا ليست غاية وإنما وسيلة، ولا بد من إعمارها. ففي هذه الدنيا نعبد الله
ونتعلم ونجاهد. قال تعالى: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ
يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) .
[ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105]
[نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ] [فصلت: 31] .
[فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] [آل عمران: 148] .
[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ] [الأعراف: 32] .
وذكر الزينة في هذا المجال له دلالته الخاصة، إذ الزينة جمال والجمال شيء
زائد على الضرورة.
(وأما ما جاء في القرآن من ذم للدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح
المفرطين) (8) كقوله تعالى: [ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْوٌ] [الأنعام: 32] .
وقوله تعالى: [واضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً]
[الكهف: 45] .
فهي دعوة إلى عدم التعلق بالدنيا الفانية وأنها قصيرة لا تستحق أن تجعل غاية، كقوله سبحانه: [ورَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّوا بِهَا] [يونس: 7] .
وقد بعث الله الأنبياء هداة للبشرية ولم يكن من منهجهم الإعراض عن عمارة
الدنيا، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: [واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ
قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً] وقوله تعالى على لسان صالح:
[وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ
الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] .
ما جاء في الأحاديث حول الدنيا:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»
فهي سجن بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من جنات، وجنة الكافر بالنسبة لما ينتظره
في الآخرة من العذاب. وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا ملعونة
ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه» فذكر الله وما والاه هو كل عمل خير يقصد
به إقامة الدين، وهذا مطلوب في الدنيا.
ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه
إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- العملية
من الدعوة والجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، أكبر دليل على هذا التوازن فلم يمنع
الصحابة اشتغالهم بالتجارة أو الزراعة من الجهاد والتعلم ونشر الإسلام.
أصناف الناس في مراعاة أمور الدنيا:
1-المنهمكون فيها وهم شر الدواب.
2 - المبتعدون عنها غاية الابتعاد، وهذا مخالف للسنة الكونية والشرعية.
3-صنف وسط وفوا الدارين حقهما وهم الأفضل، لأن بهم قوام أسباب الدنيا، وهذا الصنف هو الذي يتناولها ويراعي فيها ما يجب فيقتصر لنفسه على تناول
بلغته، ويجعل الباقي مصروفاً إلى ما دعي إليه من الجهاد والعلم والنفقة على
المحتاجين وكل أبواب الخير..
(يتبع)(25/21)
شذرات وقطوف
مهزلة الشعر الحر
-التحرير-
(.. الذي يقرأ الشعر الحر، يجده يتميز بركاكة الأسلوب، وضعف المعاني، وكثرة الألف اظ الأجنبية الشائعة فيه، وعدم التزامه بضوابط، اللغة نحواً وصرفاً ... أثبت ما ذكرته عملياً ... طلبت من أحدهم أن يحضر ورقة وقلماً، ثم أمليت عليه شعراً حراً، بدون معنى ولا هدف، وقد استغرق إملائي عشر دقائق فقط، ثم أوردت القصيدة إلى صحيفة في بغداد بدون ذكر ناظمها، وفي اليوم التالي وجدت القصيدة منشورة في الصفحة الأولى محاطة بإطار خطي جميل، ومقدمة تقديماً رائعاً، يصف الشاعر بالعبقرية، ويصف الشعر بالروعة والجمال. وأشهد أنى كنت متعمداً ألا يكون للقصيدة أي معنى، وأن الحاضرين عند إملائها لن يفهموا حرفاً واحداً، فكيف إذن فهمها المحرر الأدبي في الصحيفة الذائعة الصيت، الواسعة الانتشار، وكيف أقدم على نشرها مهللاً مكبراً! !) .
اللواء الركن محمود شيت خطاب
الوسيط في رسالة المسجد العسكرية ص 207 - 208
من أقوالهم:
(أحق الناس بالرحمة العاقل إذا تسلط عليه الجاهل) .
أبو الحسن العامري
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
حاتم الطائي
غربة
قال الشاعر محمد بن نصر بن عنين يصف غربته عن دمشق:
فارقتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيراً
أسعى لرزق في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقتراً
وأصون وجه مدائحي متقنعاً ... وأكف ذيل مطامعي متستراً
أشكو إليك نوى تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهراً
لا عيشتي تصفو، ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحه الكرى(25/26)
أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
2 - الشجاعة
كانت الشجاعة عند العرب صنو الكرم في تعشقهم لها، وافتخارهم بها.. إنها
إقدام في مواطن الإحجام، وعدم مبالاة بالحياة ولا بالممات. (والعرب لم تزل
رماحهم متشابكة وأعمارهم في الحروب متهالكة، وسيوفهم متقارعة، قد رغبوا عن
الحياة، وطيب اللذات ... كانوا يتمادحون بالموت، ويتهاجون به على الفراش
ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه) [1] .
لقد كانت الشجاعة مفخرة العربي.. ذلك أن أهل البادية بعيدون عن الحامية،
يحملون السلاح دائماً، يعيشون في العراء غير محتمين بأسوار وجدران أو أبواب،
وهم (يتجافون عن الجوع، ويتوجسون للنبات والهيعات، وينفردون في البيداء مدلين ببأسهم، واثقين بنفوسهم، قد صار البأس لهم خلقاً والشجاعة سجية) [2] .
إن الدفاع عن القبيلة وحماية محارمها، كان يفرض على العرب أن يعشقوا
الشجاعة والفروسية، وإن الصحراء تربي في نفوس أبنائها صفات الشجاعة
والجرأة والكبرياء العنيدة، كبرياء الرجال الأحرار (وإذا تقصينا حياة العربي منذ
طفولته أدركنا أن الشجاعة، ولدت معه، وأنه شب وكبر وهى تتمشى في دمه ...
وطالما فزع طفلاً على قعقعة السلاح، وصيحات المقاتلين، وسمع الأقاصيص عن
شجعان من القبيلة حموها وردوا المغيرين عليها، أو هجموا على أخرى وأجلوها،
ثم شب فرأى الأبطال في ميدان الوغى تتنازع، ثم كبر فشارك في المواقف وأفنى
العمر في المعارك فلا عجب أن كانت الشجاعة خلقاً عاماً عند العرب) [3] . وقد
اختار الغالب منهم سكنى البوادي على الحضر، لما كان فقد العز فيه، والجبن إنما
ينشأ من حب رغد العيش وطيب الحياة وعدم المبالاة بما يزري بعلو الحسب وأين
ذلك منهم؟ ولقد كابد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تأليفهم واتحاد
كلمتهم) [4] .
إن ما دعا إليه الإسلام هو الجوهر الحقيقي للشجاعة.. الشجاعة في الحق،
لا الحمية في الباطل، والجهاد الخالص، لا للسمعة والرياء [5] تلك الحمية التي
تجعل مائة ألف سيف تغضب لغضبة رجل، لا يسألونه في أي شيء غضب؟ !
مظاهر الشجاعة في الجاهلية: [6]
كان للشجاعة عند العرب مظاهر متعددة، ومن تلك المظاهر الأنفة والحمية
وإباء الضيم. يقول عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل [7]
ومن مظاهر الشجاعة عندهم حب النجدة وإجابة الصريخ إذ لا يفعل ذلك إلا
الشجعان الأقوياء، ولا يتخلف عنه إلا المبلد الجبان. يقول طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وإن أدع للجلى أكن من حماتها ... وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد [8]
وكانوا يعتبرون حب المغامرة والترحال من مزايا الرجال الأشداء. يقول
النمر بن تولب:
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن الجلوس مع العيال قبيح
فالمال فيه تجلة ومهابة ... والفقر فيه مذلة وقبوح [9]
ومن مظاهر شجاعتهم أيضاً إصرارهم على الثأر مهما كلف الأمر، وقد بالغوا
في ذلك كثيراً، وكان من محامد القبيلة أن تكثر قتلاها في الحروب، لأن هذا دليل
على ألفتهم لها. قال بشامة بن حزن النهشلي:
إني لمن معشر أفنى أوائلهم ... قول الكماة: ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إياه يعنونا
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم ... مع البكاة على من مات ييكونا [10]
على أن الشعر لم يكن كله تصويراً لشجاعة الشجعان وإنما سجل حالات كثيرة
من اعتراف الشاعر بجبنه أو جبن حلفائه أو عشيرته فليس كل عربي بشجاع في
الضرورة وإنما طبيعة الحياة البشرية أن تتنازعها بواعث عدة أو صفات شتى،
ولكل قاعدة شواذ..
لقد صرح كثير من الشعراء بفرارهم، وتلمسوا المعاذير لنفوسهم ولا تهمنا
هذه المعاذير، إنما يعنينا أنهم اعترفوا بالفرار ولم يكتموه، فر ذات يوم أوس بن
حجر من جموع بني عبس، واعتذر بأنه لما شهد الجموع خاف لأنهم شجعان،
ودافع عن نفسه بأن فراره اليوم لا معرة فيه لأن شجاعته مشهورة وبلاءه محمود.
فهو يقول:
أجاعلة أم الحصين خزاية ... علي فراري إذا لقيت بني عبس
وليس الفرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا جربت منه الشجاعة بالأمس [11]
هذه الطاقات الهائلة، وهذه الشجاعة النادرة، (حتى بالهزيمة، فهي صراحة
جريئة) بعد أن كانت تسخر للغزو أو للثأر، وجهها الإسلام لإحقاق الحقوق، ورد
المظالم ونشر العدل في كل مكان.
الإسلام والشجاعة:
صار المسلم يقاتل في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن أجل إنقاذ المستضعفين في
الأرض. قال تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]
[البقرة: 193] .
أصبحت غاية الجهاد في الإسلام، مرضاة الله تعالى.، وجنة عرضها
السماوات والأرض: [إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ] [التوبة: 111] .
إن الشجاعة عنوان القوة في الرجال، وعليها مدار إعزاز الأمة ورفع
شأنها، ولذلك عدها الإسلام من أكرم الخصال، وجعل المتصفين بها الأحب
إلى الله. يقول عليه الصلاة والسلام: ( «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من
المؤمن الضعيف» ) [12] ، ويقول أيضاً: ( «شر ما في المرء شح هالع. وجبن
خالع» ) .
وما كانت الشجاعة في الإسلام للتبختر والخيلاء، والاعتداد بالقوة والرياء،
وإنما جعلت لإظهار حق في هذه الحياة.. أو طمس باطل أمر الله بطمسه، ودفنه
وإخفائه [13] .
إن الشجاعة في نظر الإسلام، شجاعة مقيدة بأوامر الشرع فلا شطط ولا ظلم
ولا عدوان، إنما عزيمة صادقة لإحقاق الحق، وإرادة نافذة لضبط النفس عن
شهواتها ونزواتها. وقد تميز المسلمون بهذه الشجاعة النادرة، وكانوا عند أوامر
ربهم، فرفعوا لهذا الدين راية، وأصبحوا في شجاعتهم مضرب الأمثال، وقدوتهم
في ذلك كله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن
أنس -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق
ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعاً وقد سبقهم إلى
الصوت وهو على فرس لأبي طلحة (رضى الله عنه) في عنقه السيف وهو يقول:
«لن تراعوا لن تراعوا» . وفى حنين عندما انكشف المسلمون ثبت عليه الصلاة
والسلام، وفي ذلك يقول البراء بن عازب -رضي الله عنه-: (ولقد كنا إذا حمي
البأس نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الشجاع الذي يحاذي به) [14] .
لقد تخرج على منهج هذا الدين قادة عظام خاضوا معارك فاصلة في تاريخ
العالم، فخالد بن الوليد بطل اليرموك، وسعد بطل القادسية، وأبو عبيدة قائد فتوح
الشام ... أخضعوا الدول الكبرى من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله خفاقة ونشر
العدل والمساواة في رحاب الإسلام.
ولن يستطيع أبناء القصور الوارفة، والحلل الوثيرة من أبناء اليوم، أن
يستردوا ما فتحه هؤلاء الأصحاب الكرام، وإننا بحاجة لغرس أخلاق الرجولة
والشجاعة في أبنائنا، بدلاً من التباكي على مقدسات سلبت، وأعراض انتهكت،
وما ترك المسلمون الجهاد قط إلا أذلهم عدوهم واستباح حماهم.
الجرأة في تبيان الحق:
ومن الشجاعة الجرأة في تبيان الحق، وإنكار المنكر، ومن أفضل الجهاد
كلمة حق عند إمام جائر.
وكانت سيرة علماء هذه الأمة ناصعة، لأن الأمر بالمعروف واجب شرعي،
ومن هذه المواقف: موقف ابن تيمية رحمه الله مع قازان ملك التتار، ومما جاء في
مقابلته قوله: (أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام ... فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت) ، ثم خرج من بين يديه مكرماً معززاً. بذل نفسه في طلب حقن
دماء المسلمين فبلغه الله ما أراده وكان سبباً لتخليص غالب أسرى المسلمين من
أيديهم. وكان رحمه الله يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه [15] .
ومن العلماء العاملين العز بن عبد السلام، الذي نذر نفسه للجهر بكلمة الحق. ذكر السبكي في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد إلى
القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، فالتفت الشيخ إلى السلطان
وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح
الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم. الحانة الفلانية تباع فيها
الخمور. فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبى. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون:
[إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ] . وقد أمر السلطان بإقفال الحانة على الفور، ثم يسأل
الشيخ أحد تلاميذه: أما خفته؟ قال الشيخ: والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط [16] .
واليوم: ابتعدت الشعوب عن رجولة العرب في جاهليتها لتحافظ على كرامتها
وعزتها، وعن شجاعة السلف الصالح الذين تفانوا في خدمة هذا الدين، استهانوا
بالموت فوهبت لهم الحياة الكريمة.
إن الفتن شديدة، والخطوب تحيط ببلاد المسلمين من أعدائهم في الشرق
والغرب، ولن يتصدى لهذه الشرور إلا فتيان عرفوا ربهم، وصفت عقيدتهم،
واستقام سلوكهم فتقدموا غير هيابين ولا وجلين: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ]
__________
(1) بلوغ الأرب: الآلوسي 1 / 103 - 104.
(2) مقدمة ابن خلدون: 105 / ط الأزهرية بمصر.
(3) الحياة العربية من الشعر الجاهلي: الدكتور الحوفي، ص 331، ط هـ.
(4) بلوغ الأرب: الآلوسي 1 / 107.
(5) واقعنا المعاصر: الأستاذ محمد قطب / 167.
(6) انظر رسالة المعتقدات والقيم: محمد محمود صيام 0 33 -349، والحياة العربية للحوفي: 332 - 337.
(7) ديوان عنترة، ص 120، شرح عبد المنعم شلبي.
(8) شرح القصائد للتبريزي / 96.
(9) الديوان /9 4، والبيتان منسوبان أيضاً لعروة بن الورد في ديوانه /43.
(10) شرح الحماسة: العسيلان / 77، وبعضهم ينسبها إلى المرقش الأكبر.
(11) ديوان أوس.
(12) صحيح مسلم: كتاب القدر 4 / 2052.
(13) انظر المعتقدات والقيم: 778.
(14) انظر حياة الصحابة 2 / 610.
(15) من رسالة الكواكب الدرية، نقلاً عن حياة شيخ الإسلام لمحمد بهجة البيطار.
(16) معالم الثقافة الإسلامية، عبد الكريم عثمان.(25/28)
معالم في التربية
نحو المرتقى المنشود
صالح بن علي الكناني
إن المرتقى الذي بلغه عبد الله بن مسعود الهذلي -رضي الله عنه- حين وضع
قدمه على صفحة عنق أبى جهل -أعظم رمز من رموز الجاهلية في زمنه، بل هو
فرعون هذه الأمة - ذلك المرتقى كان صعباً حقاً، ولم يكن مرتقى لابن مسعود،
إنما كان مرتقى الإسلام على رغم أنف الجاهلية، ولم تبلغه الأمة إلا بعد معاناة
طويلة، وتربية شاقة دقيقة، ومحن وشدائد تنقطع دونها الأعناق.
واليوم والجاهلية تتبجح، وترفع عقيرتها بنداءات الكفر، وتستبد وتعربد ولا
تجد من يقف لها أو يردها عن حياض الإسلام، اليوم تظهر الحاجة - وإن تكن قد
ظهرت منذ زمن بعيد -إلى جيل يدير التاريخ كدورته الأولى، فيضع أمته على قمة
المرتقى، بعد أن استطابت عيش السفوح وحظائر الوديان قروناً طويلة، ولكي
يخرج هذا الجيل - البركان - لا بد له من تربية طويلة جادة، وصبر ومصابرة
على اللأواء والجهد، وتمحيص وتخليص من شوائب الاعتماد والعمل والمسار.
أقول هذا وقد رأيت شيئاً من الخلل والاضطراب في تربية شباب الإسلام، ما بين
فجاجة تلتقط الشاب من حمأة الجاهلية، فلا تمر به ساعات، أو أيام إلا وهو
(الداعية) المشار إليه بالبنان، أو رتابة تراوح به زمناً طويلاً فيقطع من عمره
سنوات ولم يبتعد عن نقطة البداية غير خطوات، والطريق أمامه طويل طويل،
والعودة إلى نقطة البداية أقرب وأيسر، وليته إذا عاد يقف عن نقطة البداية، ولكن
الغالب أنه يعود إلى ما قبلها وهنا تكون الكارثة. أو صياغة جزئية تأخذ من الإسلام
جانباً واحداً فتجعله إسلاماً كاملاً، وتغفل عن عمد أو جهل ما سواه، فيخرج لنا
أرباع رجال وأسباع وأعشار، وتغيب حقائق الدين الكبرى عن عيون أولئك، فلا
يرون إلا ذلك الجزء الذي تعلموه، وفى كل هذه الحالات للشيطان ظفر كبير.
من أجل ذلك كتبت هذه الأسطر، رجاء أن تعين على إنارة زوايا الطريق
للسائرين -كل السائرين - وهذه معالم التربية المطلوبة:
أولاً: هي تربية عقدية فكرية:
تقوم على نصوص الوحيين، وتلتزم منهج السلف الصالح في تفسيرهما
وفهمهما، والاستنباط منهما، وتنزيل أحكامهما على قضايا الواقع المعاصر، تربية
تجلي المفاهيم الاعتقادية، وتغرسها في أعماق القلوب، وتتعاهدها حتى تصبح
يقينيات راسخة، لا تتصدع لشبهة، ولا تنحني لرغبة ولا لرهبة، أصولها في
الأفئدة، وفروعها في الجوارح، وثمراتها في واقع الحياة، ومالها الروح والريحان، والمقعد الصدق عند المليك المقتدر، تروى بماء التوحيد الخالص، وتشرق عليها
شمس اليقين، ويحميها ذو القوة المتين، ويباركها الله رب العالمين، لأنها انطلقت
من علم صحيح: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ] [محمد: 19] .
ثانياً: هي تربية روحية:
قوامها الخشية، وتقوى الله في السر والعلانية، والخشوع عند سماع القرآن.، خشوعاً يملا القلب خوفاً من الله، ورجاء لما عنده، وحباً للقائه، خشوعاً تجري
معه ينابيع العيون، وتتفجر به أنهار الطمأنينة، وتلين لأصدائه الجلود.
ثالثاً: وهي تربية جماعية:
ترسخ مفهوم الأمة الواحدة، والجسد الواحد، يقوم بين أفرادها ترابط عضوي
مصيري قوي، حتى كأنهم البنيان المرصوص، ليس فيه لبنة شاذة ولا فاذة،
وتعمق في النفوس أن الذئب إنما يدرك من الغنم القاصية، مع التوازن والاعتدال،
فلا تغرق الفرد في بحر الجماعة فيضمحل ويتلاشى، ولا تحمله على أكتافها
فيتعالى ويتناشى، تحفظ له كيانه، وترتب له في البنيان مكانه، يلين هو في أيدي
إخوانه، ولكنه ليس بإمعة، بل هو ناقد بصير، إذا رأى ما يريبه نصح واجتهد
وبلغ، فإن نفع ذلك وإلا قال: لا، بملء فيه، من غير أن يهدم البنيان، أو
يزعزع الأركان.
رابعاً: وهى تربية متدرجة:
تعطي كل أحد ما يصلحه ويلائمه، وتعد لكل مرحلة ما يناسبها وتوفر لها
احتياجاتها، فلا تتجه لإعداد الولاة، في وقت تكون حاجتها إلى توفير الدعاة، ولا
تنصب السقوف وهى لم تُحكم بعد بنيان القواعد والعمد، وإن التجاوزات والقفزات
سبب للبلاء، وتجاهل المراحل والسنن الربانية، واستعجال الوصول قبل الآخرين، يعرض السائرين لمخاطر الافتراس أو الاندراس، وأيهما كان فالنتيجة متقاربة،
وإن مرحلة [كُفُّوا أَيْدِيَكُم] [النساء: 77] غير مرحلة [انفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً]
[التوبة: 41] . فهي تلبس لكل حالة لبوسها، وحين تكون في مرحلة فإنها تعد
أحسن الإعداد وأكمله، لما يتلوها من مراحل، وإذا نظرت إلى الحاضر بعينين،
نظرت إلى المستقبل بألف عين.
خامساً: وهي تربية واعية:
تعرف ما يحيط بها من الأشواك، وما يصوب إليها من السهام، وما يوضع
في طريقها من العوائق والعواثير، وتدرك أن خفافيش الظلام لا يطيب لها طلوع
الشمس، ولذلك تثير الغبار، وتفجر قنابل الدخان، علها تحجب النور عن أبى
عامر الفاسق وأحفاده، لا ينفكون يحفرون الحفر ليقع فيها الدعاة المجاهدون، وأن
ابن أبي وسلالته داخل الصف يخذلون ويخبلون (إشارة إلى قوله تعالى في الآية
[47] من سورة المائدة [لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً] وأن أبا جهل
وورثته لا يزالون يقاتلون عن أحساب الجاهلية وموروثاتها، وأن الشهوانيين
والمارقين والحداثيين يقولون: [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] .
إنها تعلم الخطط وأربابها، وتبصر مساربها وأبوابها، وتحيط بكل ما يعلمه
الخصوم من مكر الليل والنهار، وتعي ما ينبغي أن يقال وكيف يقال، وما لا ينبغي
أن يقال، ومتى-إذا شاء الله تعالى-أن يقال.
سادساً: وهى تربية عالية:
تعلق النفس بمعالي الأمور، وترفعها عن سفسافها، وتفرغ النفوس من
حظوظها العاجلة، فلا ترضى إلا لله، ولا تغضب إلا له، ولا توالي إلا فيه، ولا
تعادي إلا لأجله، وتتعلق بالمبادئ لا بالأشخاص، وكم جر التعلق بالأشخاص
والمسميات على أمة الإسلام من الفرقة والشتات، وذهاب الريح، وضياع الهيبة،
إنها تربية تجعل النفس تستجمع خصال الخير، وأبواب البر، ورؤوس الأخلاق
الفاضلة، تحب هداية الناس، وتسعى إلى ذلك ما استطاعت، وتفرح بها سواء
تحققت على يديها أو على يدي غيرها، تحسن أدب الاستماع والحوار، وتغتفر
زلات المجتهدين، وتحسن الظن بالصالحين، وتلتمس لهم المعاذير فيما أخطأوا فيه، وترى أخطاءهم - إن لم يكن بد من رؤيتها - تراها قطرات سيئات في بحار
حسنات.
سابعاً: وهي تربية جهادية جريئة:
ترى أن من أهم واجباتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله
ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، تقول الحق لا تخشى فيه لومة لائم، تعرف
الفرق بين المداهنة المرفوضة، والمداراة المقبولة، تفتح عيونها على الحق، ولا
تغمضها ولو للحظة عن الباطل، وترى أن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان
جائر، وأن «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره
ونهاه فقتله» -حديث حسن رواه الحاكم عن جابر.
وبعد:
أيها المربون الفضلاء! هل صبغت مناهجكم التربوية على نحو هذه الأسس؟
وهل كان التنفيذ على نحو الصياغة؟ ذلك ما نرجو أن يكون والله الهادي إلى سواء
السبيل، وهو وحده المستعان.(25/34)
بحوث
شرح اعتقاد أهل السنة في الصحابة
محمد عبد الله الوهيبي
إن اعتقاد أهل السنة في الصحابة يمثل الركيزة الرئيسية لدراسة تاريخهم -
رضي الله عنه-م، ولا بد أن يحصل الانحراف والتشويه لتاريخهم إذا درس بمعزل
عن العقيدة، ولأهمية هذا الموضوع نجد عامة كتب الاعتقاد عند أهل السنة تبينه
بشكل جلى، ولا يمكن أن نجد كتاباً من كتب أهل السنة التي تبحث جوانب العقيدة
المختلفة إلا ونجد هذا المبحث.
ولذلك أريد في بحثي هذا أن أبرز أهمية هذا الاعتقاد بجوانبه المختلفة،
ومدى الخطورة المترتبة على تركه من حيث بحث تاريخ الصحابة. وقد قسمته
كالتالي:
1، 2- أدلة عدالتهم من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة، اخترت أبرز
الآيات والأحاديث الظاهرة الدلالة على ذلك مع تعليقات بعض الأئمة.
3- منزلة الصحابة لا يعدلها شئ، بحثت فيه فضلهم على من بعدهم.
4- أنواع سبهم، وحكم كل نوع، وضحت فيه الفرق بين السب الذي يطعن
في عدالتهم وما دون ذلك، وكذلك من سب ما تواترت النصوص بفضله، وما دون
ذلك، ومن سبهم جملة أو سب بعضهم، وأشرت في آخر الفقرة إلى حكم من سب
أم المؤمنين عائشة بما برأها الله منه، ومن ثم أحكام بقية أمهات المؤمنين.
5- وأتبعت ذلك بحث الآثار المترتبة على السب أو لوازم السب.
6- وأخيراً بحثت الموقف فيما شجر بينهم وضحت فيه بعض الأسس
والجوانب التي ينبغي أن ينظر إليها الباحث حين بحثه لما شجر بينهم لكيلا يقع في
سبهم.
وبعد: أخي القارئ: لا أزعم أني سآتي بجديد، وإنما جمعت أقوالاً مختارة
للأئمة، ورتبتها ترتيباً معيناً لهدف محدد، وهو الدفاع عن أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فهو جهد يضم إلى كل الجهود التي يدافع أصحابها عن
الصحابة سواء في مجال العقيدة أو الفرق أو التاريخ أو الحديث أو غيره. [1]
1- من أدلة عدالتهم في الكتاب والسنة:
إن عدالتهم عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية أو مما هو معلوم من
الدين بالضرورة ويستدلون لذلك بأدلة لا تحصى من الكتاب والسنة.
عدالتهم في القرآن:
[لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] [الفتح: 18] . قال جابر بن عبد الله -
رضي الله عنه-: (كنا ألفا وأربعمائة) [2]
هذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم تزكية لا يخبر ولا يقدر عليها إلا
الله، وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم ومن هنا رضي عنهم (ومن رضي عنه
تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، فلا يقع الرضا
منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر فلا
يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضى عنه) [3] . ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح
مسلم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل النار إن شاء الله من
أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها» الحديث [4] .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا
عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى ومن رضى الله عنه لم يسخط عليه
أبداً.. فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه
عنه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو
علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك) [5] .
وقال ابن حزم: (فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي
الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم
ألبتة) [6] .
ومن الأحاديث الواردة في عدالتهم ما يلي:
1 -عن أبى سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عوف
شيء فسبه خالد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أحداً من
أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» [7]
رواه مسلم.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: ( ... وكذلك قال الإمام أحمد وغيره:
كل من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به
فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك) [8] .
2 - وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
( «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة
لأصحابي فإذا ذهبت أنا أتى أصحابى ما يوعدون» ) رواه مسلم في فضائل
الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-أمان لأمته.
2 -منزلة الصحابة لا يعدلها شيء:
لا بد من تعظيم الصحابة ومعرفة أقدارهم ولو كان اجتماعهم به -صلى الله
عليه وسلم- قليلاً.
قال الحافظ ابن حجر ذاكراً ما يدل على ذلك: (فمن ذلك ما قرأت في كتاب
أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، قال: كنا عنده (أي أبى سعيد)
وهو متكئ فذكرنا علياً ومعاوية فتناول رجل معاوية، فاستوى أبو سعيد الخدري
جالساً - فذكر قصته حينما كان في رفقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها
أبو بكر ورجل من الأعراب - إلى أن قال (أبو سعيد) : ثم رأيت ذلك البدوي أتى
به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أدري ما نال فيها لكفيتكموه) [9] قال الحافظ: ورجال
هذا الحديث ثقات (9) .
فقد توقف عمر رضى الله عنه عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه
لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن
شأن الصحبة لا يعدله شيء (9) .
روى البزار في مسنده بسند رجاله موثوقون من حديث سعيد بن المسيب عن
جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن الله اختار أصحابي على
الثقلين سوى النبيين والمرسلين» (9) .
حدثنا وكيع قال: سمعت سفيان يقول: في قوله تعالى: [قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ
وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَذِينَ اصْطَفَى] قال: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم (9) . ...
فهذا الاصطفاء والاختيار. أمر لا يتصور ولا يدرك ولا يقاس بعقل ومن ثم
لا مجال لمفاضلتهم مع غيرهم مهما بلغت أعمالهم.
قال ابن عمر: (لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل
أحدكم عمره) ، وفى رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم أربعين سنة) ، رواه أحمد
في فضائل الصحابة وابن ماجة وابن أبى عاصم بسند صحيح قاله الألباني [10] .
من كل ما سبق ذهب جمهور العلماء إلى أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل
لمشاهدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه
بالهجرة أو النصرة أو ضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد
ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة (إلا للذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من
بعده، فظهر فضلهم) [11]
قال الإمام أحمد رحمه الله في عقيدته: (فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن
الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال) [12] .
وقال النووي: (وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها
بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [13] . أيضاً
التزكية الداخلية لهم من الله عز وجل العليم بذات الصدور مثل قوله تعالى: [فَعَلِمَ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ] وقبول توبتهم: [لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ]
الآية، ورضاه عنهم: [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ] ... إلخ، كل ذلك اختصوا به، فأنى لمن بعدهم مثل هذه التزكيات؟
لكن يقول قائل [14] : لقد وردت بعض الروايات الدالة على خلاف ما ذكرت
مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبى ثعلبة: «تأتي أيام للعامل فيهن
أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم» [15] .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا
رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: «قوم يكونون من
بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» [16] . فكيف الجمع بين هذه الروايات وما ذكر
سابقاً؟ .
أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة أهمها:
1 -حديث (للعامل فيهن أجر خمسين) لا يدل على الأفضلية لأن
مجرد زيادة الأجر على بعض الأعمال لا يستلزم ثبوت الأفضلية مطلقاً.
2 - أن المفضول قد توجد فيه مزايا وفضائل ليست عند الفاضل ولكن من
حيث مجموع الخصال لا يساوي الفاضل.
3 - وكذلك يقال الأفضلية بينهما (إنما هي باعتبار ما يمكن أن يجتمعا فيه
وهو عموم الطاعات المشتركة بين سائر المؤمنين، فلا يبعد حينئذ تفضيل بعض
من يأتي على بعض الصحابة في ذلك، أما ما اختص به الصحابة رضوان الله
عليهم وفازوا به من مشاهدة طلعته -صلى الله عليه وسلم- ورؤية ذاته المشرفة
المكرمة، فأمر من وراء العقل إذ لا يسع أحد أن يأتي من الأعمال وان جلت بما
يقارب ذلك فضلا عن أن يماثله) [17] .
4 -أما حديث أبى جمعة فلم يتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ
الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ أخرجه الطبراني. قال الحافظ في الفتح: (وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد
الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه، والله
أعلم) (17) .
وأخيراً ينبغي التنبيه في آخر هذه الفقرة إلى أن الخلاف بين الجمهور
وغيرهم في ذلك لا يشمل كبار الصحابة من الخلفاء وبقية العشرة ومن. ورد فيهم
فضل مخصوص كأهل العقبة وبدر وتبوك.. إلخ.
وإنما يحصل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة ولذلك استثنى
الإمام ابن عبد البر أهل بدر الحديبية [18] .
3 - أنواع سب الصحابة -رضي الله عنهم- وحكم كل نوع:
السب: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم من
السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحو هما [19] .
وسب الصحابة رضوان الله عليهم دركات بعضها شر من بعض، فمن سب
بالكفر أو الفسق، ومن سب بأمور دنيوية كالبخل وضعف الرأي، وهذا السب إما
أن يكون لجميعهم أو اكثرهم، أو يكون لبعضهم أو لفرد منهم، وهذا الفرد إما أن
يكون مما تواترت النصوص بفضله أو دون ذلك.
وإليك تفصيل وبيان أحكام كل قسم:
1-من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق جميعهم أو معظمهم فلا نشك في
كفر من قال بذلك لأمور من أهمها:
أ- أن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وبذلك يقع
الشك في القرآن والأحاديث لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول.
ب- لأن في ذلك إيذاءً له -صلى الله عليه وسلم- لأنهم أصحابه وخاصته
فسب أصحاب المرء وخاصته والطعن فيهم يؤذيه ولا شك، وأذى الرسول -صلى
الله عليه وسلم- كفر كما هو مقرر.
ج- أن في هذا تكذيباً لما نص عليه القرآن من الرضى عنهم والثناء عليهم
(فالعلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي) [20] ،
ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً حكم هذا القسم: (.. وأما من جاوز ذلك إلى
أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نفراً قليلاً لا يبلغون
بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما
نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر
مثل هذا فإن كفره متعين.. إلى أن قال: ... وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من
دين الإسلام) [21] .
وقال الهيثمي رحمه الله: ( ... ثم الكلام (أي الخلاف) إنما هو في سب
بعضهم أما سب جميعهم، فلا شك في أنه كفر) [22] .
ومع وضوح الأدلة الكلية السابقة ذكر بعض العلماء بعض الأدلة التفصيلية
ومنها:
1-مر معنا تفسير العلماء للآية الأخيرة من سورة الفتح [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ] .. إلى قوله: [لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] الآية. استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه
الآية كفر من يبغضون الصحابة لأن الصحابة يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو
كافر، ووافقه الشافعي وغيره [23] .
2 - وفى الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: ( «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» ) وفى
رواية: ( «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق» ) .. ولمسلم عن أبى
هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( «لا يبغض الأنصار رجل آمن
بالله واليوم الآخر» ) ... فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقاً لا
يؤمن بالله ولا باليوم الآخر [24] .
3-ومن ذلك ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
أنه ضرب بالدرة من فضله على أبي بكر ثم قال عمر: أبو بكر كان خير الناس
بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كذا وكذا ثم قال عمر: من قال غير هذا
أقمنا عليه ما نقيم على المفتري [25] . وكذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبى
طالب: لا يفضلني أحد على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري [26] .
(فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي -رضي الله عنهما يجلدان حد
المفتري من يفضل علياً على أبي بكر وعمر، أو من يفضل عمر على أبى بكر مع
أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب، علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا
بكثير) [27] ..
2- ومن سب بعضهم سباً يطعن في دينهم كأن يتهمهم بالكفر أو الفسق وكان
مما تواترت [*] النصوص بفضله (كالخلفاء) فذلك كفر-على الصحيح -لأن في هذا
تكذيباً لأمر متواتر. روى أبو محمد بن أبى زيد عن سحنون قال: من قال في أبى
بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم من
الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد [28] . وقال هشام بن عمار: سمعت مالكاً
يقول: من سب أبا بكر وعمر قتل، ومن سب عائشة - رضي الله عنها قتل، لأن
الله تعالى يقول فيها: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] فمن
رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل [29] .
أما قول مالك في الرواية الأخرى: (من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة
قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن) [30] . فالظاهر- والله أعلم
- أن مقصود مالك -رحمه الله - هنا في سب أبي بكر -رضي الله عنه- فيما دون
الكفر، يوضحه بقية كلامه عن عائشة -رضي الله عنها حيث قال: من رماها فقد
خالف القرآن. فهذا سب مخصوص يكفر صاحبه (ولا يشمل كل سب) ، وذلك لأنه
ورد عن مالك القول بالقتل فيمن كفَّر من هو دون أبى بكر [31] .
قال الهيثمي مشيراً إلى ما يقارب ذلك عند كلامه عن حكم سب أبى بكر:
(.. فتلخص أن سب أبى بكر كفر عند الحنفية، وعلى أحد الوجهين عند الشافعية،
ومشهور مذهب مالك أنه يجب به الجلد فليس بكفر، نعم، قد يخرج عنه ما مر
عنه في الخوارج أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالين إن اقتصر على السب
من غير تكفير لم يكفر وإلا كفر) [32] .
وقال أيضاً: ( ... وأما تكفير أبى بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي -صلى
الله عليه وسلم- بالجنة فلم يتكلم فيها أصحاب الشافعي، والذي أراه الكفر فيها
قطعاً..) [33] .
وقال الخرشي: (من رمى عائشة بما برأها الله منه ... ، أو أنكر صحبة أبى
بكر، أو إسلام العشرة، أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة أو واحداً منهم
كفر) [34] .
وقال البغدادي: (وقالوا بتكفير كل من أكفر واحداً من العشرة الذين شهد لهم
النبي -صلى الله عليه وسلم-بالجنة، وقالوا بموالاة جميع أزوج سول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأكفروا من أكفرهن أو أكفر بعضهن) [35] .
والمسألة فيها خلاف مشهود ولعل الراجح ما ذكرنا. وأما القائلون بعدم كفر-
من هذه حاله -فقد أجمعوا على أنه فاسق لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب يستحق
التعزير والتأديب على حسب منزلة الصحابي ونوعية السب. وإليك بيان ذلك:
قال الهيثمي: (أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على أنهم
فساق) [36] .
وقال ابن تيمية: (قال إبراهيم النخعي: كان يقال شتم أبي بكر وعمر من
الكبائر وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال
الله تعالى: [إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ] .. الآية وإذا كان شتمهم بهذه
المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد، ولا كفارة..
وهذا مما لا نعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على
أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم.. وعقوبة من أساء فيهم
القول) [37] .
وقال القاضي (عياض) : وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب
الجمهور أنه يعزر ولا يقتل … [38] .
وقال عبد الملك بن حبيب:
(من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً، ومن
زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى
يموت ... ) [39] .
فلا يقتصر في سب أبى بكر -رضي الله عنه- على الجلد الذي يقتصر عليه
في جلد غيره لأن ذلك الجلد لمجرد حق الصحبة، فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها
مما يقتضي الاحترام لنصرة الدين وجماعة المسلمين، وما حصل على يده من
الفتوح وخلافة النبي -صلى الله عليه وسلم-وغير ذلك كان كل واحد من هذه الأمور
يقتضي مزيد حق موجب لزيادة العقوبة عند الاجتراء عليه [40] ، وعقوبة التعزير
المشار إليها لا خيار للإمام فيها بل يجب عليه فعل ذلك.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً عن مساويهم ولا
يطعن على أحد منهم بعيب ولا ينقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان
تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه،
وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلّده الحبس حتى يموت أو يراجع) [41] .
فانظر أخي المسلم إلى قول إمام أهل السنة فيمن يعيب أو يطعن بواحد منهم
ووجوب عقوبته وتأديبه. ولما كان سبهم المذكور من كبائر الذنوب -عند بعض
العلماء- فحكم فاعله حكم أهل الكبائر من جهة كفر مستحلها.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مبيناً حكم استحلال سب الصحابة: (.. ومن خص بعضهم بالسب فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله ...
كالخلفاء فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، ومكذبه كافر، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه، أو
إباحته فقد تفسق لأن سباب المسلم فسوق وقد حكم البعض فيمن سب الشيخين بالكفر
مطلقاً والله أعلم) [42] .
وقال القاضي أبو يعلى تعليقاً على قول الإمام أحمد رحمه الله حين سئل عمن
شتم الصحابة، فقال: ما أراه على الإسلام، قال أبو يعلى: (فيحتمل أن يحمل
قوله: ما أراه على الإسلام، إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط
القتل على من لم يستحل ذلك مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي) ثم ذكر بقية
الاحتمالات [43] .
يتلخص مما سبق فيمن سب بعضهم سباً يطعن بدينه وعدالته وكان مما
تواترت النصوص بفضله أنه يكفر - على الراجح - لتكذيبه أمراً متواتراً، أما من
لم يكفره من العلماء فأجمعوا على أنه من أهل الكبائر ويستحق التعزير والتأديب ولا
يجوز للإمام أن يعفو عنه ويزاد في العقوبة على حسب منزلة الصحابي، ولا
يكفر- عندهم -إلا إذا استحل السب، أما من زاد على الاستحلال كأن يتعبد الله عز
وجل بالسب والشتم فكفر مثل هذا مما لا خلاف فيه ونصوص العلماء السابقة
واضحة في مثل ذلك. وباتضاح هذا النوع بإذن الله يتضح ما بعده بكل يسر
وسهولة ولذلك أطلنا القول فيه
(يتبع)
__________
(1) بعد مشورة مع كاتب هذا البحث رأينا أن المبحثين الأول والثاني هما من الوضوح بمكان، وحتى لا نطيل على القارئ فقد اخترنا نموذجاً من الأدلة وسيرد خلال البحث ذكر كثير من الأحاديث التي تبين عدالتهم (التحرير) .
(2) فتح الباري: 7 / 1 34 - 2 34، صحيح مسلم، رقم 856.
(3) الصواعق المحرقة، ص 316.
(4) مسلم بشرح النووي: 16 / 58.
(5) الصارم المسلول، ص 577 - 578.
(6) الفصل في الملل والنحل: 4 / 148.
(7) شرح مسلم: 6 1 / 2 9-93.
(8) الصارم المسلول، ص 581.
(9) الإصابة 1 / 12.
(10) فضائل الصحابة 1 / 57، 60 ? شرح الطحاوية، 531.
(11) فتح الباري 7 / 7.
(12) شرح أصول اعتقاد أهل السنة: اللالكائي 1 / 160.
(13) مسلم بشرح النووي 16 / 93.
(14) من أشهر من قال بذلك الإمام ابن عبد البر والاستدلال المذكور هو من أقوى استدلالاته، والجمهور على خلاف قوله كما أشرنا.
(15) رواه أبو داود: (41، 43) والترمذي 2 / 77 1، وابن ماجة (4041) وابن حبان (1850) قال الترمذي: حديث حسن.
(16) رواه احمد والدارمي والطبراني وصححه الحاكم، قال ابن حجر: إسناده حسن، الفتح 7 / 6.
(17) الصواعق المحرقة، 321.
(18) الفتح، 7/7.
(19) الصارم المسلول، 566.
(20) الرد على الرافضة، 19.
(21) الصارم المسلول، 591، 592.
(22) الصواعق المحرقة، 379.
(23) الصواعق المحرقة، 317، تفسير ابن كثير 4 / 204.
(24) الصارم المسلول، 586.
(25) فضائل الصحابة 1/300، وصححه ابن تيمية، الصارم: 590.
(26) فضائل الصحابة 1 / 82، والسنة لابن أبي عاصم2 /5 7 5.
(27) الصارم المسلول / 591.
(*) بعض العلماء يقيد ذلك بالخلفاء والبعض يقتصر على الشيخين ومن العلماء من يفرق باعتبار تواتر النصوص بفضله أو عدمها ولعله الأقرب والله أعلم، وكذلك البعض ممن يكفر ساب الخلفاء يقصر ذلك على رميهم بالكفر، والآخرون يعممون بكل سب فيه طعن في الدين.
(28) الشفا للقاضي عياض: 2 / 1109.
(29) الصواعق المحرقة / 384.
(30) الشفا: 2/ 1109.
(31) المصدر نفسه: 2/ 1108.
(32) الصواعق/386.
(33) المصدر نفسه/385.
(34) الخرشي على مختصر خليل: 8/74.
(35) الفرق بين الفرق/360.
(36) الصواعق المحرقة/383.
(37) الصارم المسلول: 582 - 583.
(38) مسلم بشرح النووي: 16/93.
(39) الشفا: 2/1108.
(40) الصواعق المحرقة / 387.
(41) طبقات الحنابلة: 1 / 24.
(42) الرد على الرافضة / 19.
(43) الصارم المسلول / 576، وراجع أيضاً: 574 - 575.(25/38)
من خطب الجمعة
الإنفاق في سبيل الله
محمد أمين المصري
هذه الخطبة ألقاها الدكتور الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله في دمشق
بتاريخ 30/2/1384 الموافق 15/7/1964، وموضوع الخطبة لا يزال حياً
وبحاجة للتأكيد وكثيراً ما سمعناه يؤكد ويكرر على هذا الموضوع، وينتقد ما عليه
المسلمين من الأنانية.
ووفاء للشيخ الداعية ننشر هذه الخطبة (وهي لم تنشر سابقاً ضمن خطبه
وأحاديثه) لعل الله ينفع بها..
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون، يقول الله تباركت أسماؤه في محكم تنزيله:
[لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ?وقال
تعالى [ومَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ] وقال تعالى: [ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ] .
وهكذا أيها الأخوة، وهكذا أيها الأخ المؤمن، لا تكاد تتلو بضع آيات من
كتاب الله إلا وتجد حضاً كبيراً، وتجد دعوة قوية تهيب بك أيها المؤمن أن تنفق في
سبيل الله، تنفق لمن؟ إنك تنفق على أخ لك مثلك. ما الغرض من ذلك؟ التغرض
من ذلك أن يكون هناك تعاطف بين المسلمين، أن يكون هناك تراحم بين المسلمين، حتى يكونوا كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد، كل
عضو ندب نفسه لمعونة هذا العضو كي لا يكون في المسلمين شقي واحد ولا بائس
واحد ولا محروم واحد. أيها الأخ الكريم: لا تتلو آية فيها دعوة إلى الصلاة إلا
وتجد آية فيها دعوة إلى الزكاة، ولا تتلو آية فيها دعوة إلى الإيمان إلا وتجد آية
تدعى فيها إلى الجهاد واية ثالثة تدعى فيها إلى الإنفاق في سبيل الله.
قال تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] . وقال تعالى: [إنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ] خافت من عظمة الله، من كبرياء الله،
من سطوة الله، من جبروت الله [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] .
أيها الأخوة: الأمة يجب أن تكون جسماً واحداً، المجتمع يجب أن يكون بناءً
واحداً. هنالك الضمان الاجتماعي، هنالك التكافل الاجتماعي، هنالك العدالة
الاجتماعية، كل ذلك مبعثه من الإيمان، من الرحمة، من حب المؤمنين، لا يؤمن
أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن
من بات شبعان وجاره جائع.
أيها الأخوة: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم-
نبياً، وكفرنا بكل مبدأ يغاير الإسلام، كفرنا بكل نحلة تأتينا من ديار الأعداء،
وتركنا وهجرنا كل مذهب يغاير مذهب الإسلام، إنما هو كفر وإيمان إنما هو
ضلال وهدى، إنما نستمسك بدين محمد -صلى الله عليه وسلم- وندع كل شريعة
باطلة. أيها الأخوة لا نعرف ضماناً إلا ضمان الإسلام، ولا نعرف تكافلاً إلا تكافل
الإسلام، ولا نعرف عدالة إلا عدالة الإسلام، أما ما وراء ذلك فألفاظ كاذبة
ودعوات زائغة واشتراكيات منحرفة ضالة وذلك لأن الإسلام ينظر إليك على أنك
إنسان على أن لك روحاً، على أن فيك معاني الإنسانية، تستطيع أن تعلو فوق
الحيوانية، تستطيع أن تسمو فوق المادة، تستطيع أن تؤمن بالله وتهب نفسك لله
وتعيش في سبيل الله وتنفق مالك لله، الإسلام أيها الأخوة يربيك على أنك إنسان
تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر وترضى بما أمر الله، وتذر ما أمرك الله بتركه، كل
ذلك سهل عليك فتنفق مالك كله إن اقتضى الأمر في سبيل الله كما فعل أبو بكر حين
جاء بماله كله فوضعه بين يدي الرسول في غزوة تبوك، فقال له رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: «يا أبا بكر ماذا تركت لنفسك وأهلك؟» قال: تركت لهم الله
ورسوله. وجاء عمر بنصف ماله وجاء عثمان بشيء كثير جداً ووضعه بين يدي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه» ، قدم آلاف الدنانير ومئات الإبل وهكذا
جهز جيش العسرة.
الانطلاق عندنا من الإيمان، من مبادئنا أن يكون الإنسان إنساناً، أما الإنسان
الذي لا يعرف إلا شهوته، لا يعرف إلا طعامه، لا يعرف إلا شرابه، لا يعرف إلا
منافعه، إنسان مثل هذا يجب أن ينزع ماله وتوضع له القيود ويغل بالأغلال، أما
المؤمن فليس له ذلك. ترك الإسلام للمؤمن الحرية، ترك لطاقاته أن تندفع، ترك
لإمكاناته أن تتبارى وأن تقوم بمشروعات، إن إنساناً واحداً يستطيع أن يقوم أحياناً
بما لا تستطيع أن تقوم به أمة. الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، الأكثرية
على الغالب بسطاء وسطاء تجد بينهم نابغة واحداً، الإسلام لا يقول لهذا الواحد
نكبت حريتك، نمنعك من التصرف، نغل يديك، بل نقول له: انطلق بقوتك ولكن
أنت وقوتك وإيمانك وطاقاتك لله وفى سبيل الله وللأمة، فإذا دق جرس الخطر
تقدمت بنفسك ومالك.. هذه تربية الإسلام، تربية الإسلام إطلاق للقوى، إطلاق
للطاقات مع تربية القلب حتى يكون قلباً مؤمناً فإذا كان كذلك كان كل ما لديه له،
كل سعيه كان في سبيل الله. نظرة الإسلام أن نطلق القوى ونربى القلوب ونعتبر
الإنسان بشراً سوياً. نظرة أولئك ألا نعتبر الإنسان بشراً سوياً بل نفعياً أنانياً لا
سبيل للرحمة إلى قلبه. لا تسمح له بالانطلاق، ينطلق في سبيل نفسه وكبت غيره. أنا لا أدري هل أستطيع أن أفرق بين نظرتين نظرة الأمل بك أيها الإنسان ونظرة
سوء الظن بك أيها الإنسان، نظرة على أنك تؤمن بالله واليوم الآخر، ونظرة على
أنك قطعة من الكون ألقيت وستنتهي، هذه الحياة تكون منطلقاً لك ومسرحاً للذاتك
أنت، أما نظرة الإسلام فإنه أطلق وربى من الداخل، أما نظرة أولئك فاعتبروا
الإنسان حيواناً وبهيمة.
أيها الأخوة: أما الذنب فهو ذنبنا، ذنبنا نحن المسلمين، هل يصح أن يقال
إن مجتمعنا مجتمع إسلامي؟ لا. هل نمثل الإسلام تمثيلاً صحيحاً؟ هل هذا
المجتمع هو الذي وصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؟ لا بكل أسف، لا ليس الأمر كذلك إننا لا نمثل
الإسلام، نحن الآن أنانيات محضة، قلوب بعيدة متنافرة يصدق علينا ما يقول
أولئك كأننا والله لا نؤمن بالله ولا نؤمن باليوم الآخر، نحن لا نمثل الإسلام ولا
نستطيع أن ندافع عن الإسلام ولا نستطيع أن نذيع للملأ أن كلمة الله هي العليا لا ن
الناس ينظرون إلى الإسلام من خلال هذه النفوس الواهية المتواكلة الضعيفة
المستخذية فلا نستطيع أن نقول هذا هو الإسلام، فانظروا نحن قد جنينا إثمين:
أولاً: جنينا على أنفسنا وسنلاقي جزاء عملنا.
ثانياً: جنينا على سمعة الإسلام.
إن الناس ينظرون إلى الإسلام من خلال أعمالنا ومن خلال مجتمعنا، هذا هو
المجتمع الإسلامي فانظروا إلى الإسلام، الذنب ذنبنا الإثم إثمنا، الجريمة جريمتنا.
لو كان هناك مجتمع واحد إسلامي في العالم كله لكان حجة على النظريات وحجة
على المذاهب، ولتبين للناس جميعاً أن الإسلام هو الكمال وأن ما تتخبطون به من
نظريات ومذاهب هو الضلال والبطلان، ولكن هؤلاء يتخبطون ويتنقلون بين
المذاهب ولا يظنون أن الإسلام لديه الحل إلا نفر يسير منهم ولكنهم قلة، نفذت
أبصارهم إلى ما وراء المجتمع الإسلامي وإلى الإسلام وحقيقته واستطاعوا أن
يعرفوا الإسلام. لو كان هناك مجتمع إسلامي واحد لكان حجة على الشرق وحجة
على الغرب، ولكان مجتمعاً مثالياً.
أيها الأخوة: لم يكن كذلك أسلافنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
نحن أيها الأخوة أصبنا بضعف، وهذا الضعف الذي أصبنا به رضينا به وسوغنا
لأنفسنا ما نحن فيه وقلنا هذا هو الإسلام، المؤمن لا يبالي بما في المجتمع، المؤمن
لا يهتم بشئون الأمة، المؤمن لا يندفع إلى الخير، المؤمن لا يجاهد في سبيل الله
وفي سبيل إيقاف الشر عند حده، كل واحد منا شأنه كذلك وهو يرى أنه مؤمن وهو
يرى ألا طاقة له، وهو يرى أن هذا قضاء الله، وكل ذلك حيل ركبها الشيطان،
وسولتها النفوس، وليس الواقع كذلك حينما نسمع آيات الله تجبهنا وتصدع وجوهنا
نلتفت إلى حيلة أخرى، نقول: لا! ذلك لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أما نحن المساكين أين نحن من أولئك، الآيات تدعونا إلى الجهاد، ونحن
همتنا أدنى، رضينا بالأدنى. رضينا بالمرتبة الدنيا وانتهى ذلك إلى أن مجتمعنا لا
يمثل مجتمعا إسلامياً صحيحاً
حين نزل قوله تعالى: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] لن تنالوا
درجة البر، مرتبة البر، أن يقال إنك من أهل البر، من الأبرار عند الله، لن
تنالوا هذه الدرجة حتى تنفق من كرائم أموالك وتنفق من طيبات ما كسبت، تنفق
ونفسك طيعة راضية بما تنفق، درجة عالية لا تصل إليها بكل أسف. حين نزلت
هذه الآية تبارى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه، يقول أحدهم: يا
رسول الله، إن أحب مالي كذا وكذا أضعه صدقة. وجاء أبو طلحة - كما يروي
الشيخان البخاري ومسلم - جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يا
رسول الله سمعت قول الله تعالى [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] وإن
أحب مالي إلي بستان. اسمه بستان بيرحاء، بستان من أطيب البساتين مقابل
مسجد الرسول فيه عين ماء عذبة يدخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشرب من
تلك العين يقول أبو طلحة: إن أحب مالي إلى بستان اسمه بستان بيرحاء وإني
أجعله صدقة أرجو برها وذخرها يوم القيامة، يقول رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «بخ بخ قد سمعت ما تقول اجعلها في الأقربين» أو كما قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-. سمع أبو طلحة قول الله تعالى: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى
تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] فبادر ونفذ، لم ذلك أيها الأخوة؟ لأن الإيمان خالطت بشاشته
قلبه وخالطت حلاوته قلبه. تربية أولئك خير من تربيتنا.
إن مجتمعنا لا يمثل المجتمع الإسلامي الصحيح، إن تربيتنا التي نشأنا عليها
ليست تربية إسلامية صحيحة، الأمر الأساسي التربية، الأمر الأساسي المدرسة،
وإن مسلمي هذه البلاد لا ينفقون على المدارس وإن هذا ضعف كبير جداً. أنفقوا
على المدارس الإسلامية، فكروا في هذا الأمر. هذا خير ما يجب الاجتماع عليه
وخير ما يجب التقيد به، نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا ويلهمنا الاستمساك بكتابه وسيرة نبيه، أقول قولي هذا واستغفر
الله.(25/50)
منبر الشباب
الأهواء الخفية
عبد الفتاح سعد
تحت النفس شهوات وحظوظ شتى لو نظر البصير إليها لأنكر نفسه التي بين
جوانحه. وما إنكار المرء لنفسه إلا وليد فترات المحاسبة والمراجعة للنفس وميولها. ومما جبلت عليه النفس حبها وولعها بثناء الآخرين وتقريظهم.
لذا تجد من الناس ناساً قد أجهدوا أنفسهم في الأعمال والطاعات الظاهرة بغية
الثناء والمديح يحسبون أنهم على شيء، وما فطنوا أنهم لا خلاق لهم.
وفئة أخرى ليست بأحسن حالاً من السابقة فهي ما تفتأ تتكلم عن إخلاصها
وأنها تحب التخفي في أعمالها وطاعاتها وتذكر لذلك شواهد وقصص، وتحذر من
مغبة الوقوع في الرياء فيحصل لها الثناء والمديح لما يرى ويسمع عن إخلاصها في
إخفاء أعمالها وتحذيرها من الرياء، وهذه الفئة تخطئ إذ تذكر ذلك بل تنسى أن
(من ظن في إخلاصه إخلاصاً احتاج إخلاصه إلى إخلاص) .
ومن الناس ناس يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا لذا تراهم ينتحلون أعمال
الآخرين ويسرقون جهود المبدعين حتى يتحول الثناء إليهم من بعد ذلك ...
وعلى شاكلة هؤلاء من يدلسون من حيث يدرون أو لا يدرون فهم إن وجدوا
نثراُ رائعاً أو نظماً جيداً أو حكمة بليغة من مصدر أصلي في كتاب ما ذكروا
المصدر الأصلي وتجاهلوا أو ذهلوا عن وجادتهم من ذلك الكتاب وكأنهم بالفعل قد
رجعوا إلى المصدر الأصلي، وهؤلاء لا يختلفون عن السابقين إلا قليلاً، لأن
الناظر سيثني على جهودهم في الرجوع إلى ذلك المصدر الأصلي وسيحمدون ولا
ريب بما لم يفعلوا. والنفس في أثناء مرضها بتلك الشهوة لا تفطن إلى أخلاط من
شهوات خفية تتولد لتحقيق تلك الشهوة الكبرى..
فمن ذلك ترى النفس تحب ذم مخالفيها وبخس حقوقهم وإنزالهم في غير
منازلهم وتتجاهل حسناتهم وفضائلهم. فالشهوة الأولى أوقعت النفس في شهوات
أخرى، ولعلك ترى أناساً ينتصرون لأقوالهم وآرائهم عن طريق توهين آراء
الآخرين أو نسبتهم إلى ضحالة في الرأي وسطحية في التفكير، أو ضيق في الأفق
وعدم شموله، إلى آخر تلك الاتهامات وكأنها بذلك تومئ إيماء أنها صاحبة النظرة
الثاقبة والآراء السديدة، فينال رأيها المديح والإطراء.
وقد تعظم علائم المرض، ويتضخم هذا الورم السرطاني، فيصرف صاحبه
عن الأعمال والطاعات الخفية البعيدة عن المحيط الخارجي، فلا قيام لليل ولا صيام
تطوع، ولا صدقة تخفيها يمينه عن شماله. ولعل السبب أن الدافع للعمل لدى تلك
النفس هو المحيط الخارجي وبغية ثنائه وإطرائه، فإذا غاب المحيط الخارجي. فما
الباعث إذن على العمل؟
ولن نبعد عن الشهوة الأولى كثيراً عندما نرى من يدعون علم ما لا يعلمون،
فلعلهم قرءوا مقدمة كتاب وخاتمته وفهرس المحتويات ويزعمون بعد ذلك علماً
بالكتاب وإدراكاً لمضمونه حتى إذا جمعهم مجلس مع الناس ورأى الناس منهم تلك
الادعاءات انبهروا فأثنوا عليهم وأشاروا إليهم بالبنان: هؤلاء هم القراء!
ولا تقف تلك الشهوة عند ذلك الحد، بل تمضي بصاحبها إلى الجدال
والمخاصمة بغية الانتصار لتلك النفس، أو قل: بغية إرضاء تلك الشهوة الخفية..
والذين يقعون في ربقة تلك الشهوة يجهدون أنفسهم تفكيراً في أحسن السبل
وأحسن الأساليب وأحسن الكلمات.. إلخ. ثم يبررون ذلك بقولهم: نريد كسب ثقة
الآخرين وأن نكون عند حسن ظنهم، وهم في الحقيقة يريدون التشبع بثنائهم، ومن
ثم يصلون إلى حظوظ ومناصب.. إلخ.
ألا ترى معي كم من الوقت يمضي؟ وكم من الجهد يضيع من أجل إشباع تلك
الشهوة؟ ولا إخالك عزيزي القارئ تظنها دعوة إلى التكاسل والخمول وعدم إتقان
العمل، وإنما هي دعوة إلى سبر المقاصد والنيات والحذر من أخطار تلك الشهوات. ومتى أصابت تلك الشهوة من النفس مقتلاً؟ ترى صاحبها يحب المادحين
والمثنين، ويبغض أو - على الأقل - لا يلتفت إلى من يمحضه النصح والتوجيه.
فكم من طالب شهرة خر صريعاً قبل الاشتهار مع التحذير والتوجيه من الناصحين.
وكم من طالب رياسة ومجد تحركه تلك الشهوة فتهون عليه المبادئ والقيم، ويتنازل
عن كثير. والله المستعان ...
ولما فقه سلفنا الصالح قوله تعالى [فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى]
[النجم: 32] استشعروا خطر تلك الشهوة فملكوا قياد نفوسهم وأطفأوا نيران تلك
الشهوة قبل الاستفحال، ولما علموا آثار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- طبقوها
على أنفسهم فما تأبت عليهم غرائزهم وشهواتهم بل خرجت نفوسهم من حظوظها.
ألا تسمع عمر رضى الله عنه يقول: (رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي) . وكم
من السلف الصالح من جاءته الرياسة والقضاء منقادين فأباهما، بل قال سفيان
الثوري مربياً أتباعه ومن بعدهم: (ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في
الرياسة) [1] .
وما زالت أصداء قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في
وجوههم التراب» [2] يتردد في نفوسهم وتستقيم عليه جوارحهم.
__________
(1) العوائق / 87.
(2) سير أعلام النبلاء: 1 / 388.(25/56)
أدب
متابعات ... ومطالعات
إعداد: يحيى محمد رسام
خصصت مجلة الهلال المصرية عددها الأخير (ديسمبر 89 م) (كعدد تذكاري
لعقد الثمانينات.. عمالقة.. وأحداث عامة) ، وقد احتوى العدد على بعض القضايا
الأدبية الجديرة بالإشارة والتعقيب والتعليق ومن ذلك ما يلي.
القضية الأولى: محمود شاكر ... منجم الأصالة العربية:
نشرت المجلة كلمة قصيرة عن الأستاذ الأديب محمود محمد شاكر، تعتبر
بحق شهادة صدق، نوردها حتى يطلع القارئ الكريم -ممن لا يتابع أمثال هذه
المجلات -مع شيء من الاختصار:
قالت المجلة تحت عنوان: (محمود شاكر.. منجم الأصالة العربية) :
(شهدت حقبة الثمانينات من هذا القرن اعترافاً متتابع الخطوات، بمكانة
الأديب العربي الكبير محمود محمد شاكر، بدءاً من منحه جائزة الدولة التقديرية في
الأدب عن عام 1981م ثم اختياره لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1983م، وحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب عام 1984م.. بصفته
مفكراً إسلامياً بارزاً.
وقد تألق اسم الأستاذ محمود محمد شاكر في سماء الأدب العربي باعتباره أديباً
شاباً في فترة الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن وخاصة بعد صدور كتابه
(المتنبي) الذي نشرته مجلة المقتطف في عدد خاص منها في عام 1936م، فضلاً
عن عشرات المقالات، والقصائد الشعرية في مختلف الصحف والمجلات إلى بداية
الخمسينات من هذا القرن، حيث توقف لفترة عن الكتابة لينصرف إلى تحقيق
العديد من أمهات كتب التراث العربي والإسلامي، حتى استفزته بعض الظواهر
الأدبية في بلادنا، فامتشق قلمه في مجلة (الرسالة) من جديد في عام 1964م،
وأنشأ سلسلة من المقالات في الرد على ما كتبه لويس عوض في (الأهرام) عن
رسالة الغفران للمعري، وهي المقالات التي جمعها بعد ذلك، الأستاذ شاكر في
واحد من أهم كتبه وعنوانه (أباطيل وأسمار) .
وفي العام الماضي نشر كتاب (الهلال) للأستاذ محمود شاكر (رسالة في
الطريق إلى ثقافتنا) التي أنشأها لتكون مقدمة للطبعة الثالثة من كتابه عن (المتنبي)
وكان لها بدورها دوي هائل في الأوساط الأدبية والثقافية ... ولكن الكتابة
والتحقيق والمعارك الأدبية لم تكن هي كل جهود الأستاذ محمود شاكر في خدمة
الثقافة العربية ففي فترة كمونه في داره بمصر الجديدة معتزلاً الكتابة عاكفاً على
نشر كتب التراث كان بيته قد شرع في التحول إلى (جامعة) يقصدها الدارسون من
مختلف أرجاء الوطن العربي للتتلمذ- على يديه، ولا تزال كذلك إلى اليوم، حتى
استحق وصف المرحوم الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل له بأنه، (كنز الثقافة
العربية، والمنجم الباقي لأصالتها العريقة) [1] .
كانت هذه الكلمة - الصادقة - والتي شكلت صفحة واحدة فقط من صفحات
الهلال والتي تقترب من مئتي صفحة بمثابة شهادة حق في حق الأستاذ محمود شاكر
باعتباره أحد العمالقة في عقد الثمانينات والذي خصص العدد للحديث عنهم..
ومجلة الهلال، والتي أنشئت لمحاربة الأصالة، وتأصيل التبعية، بدأت منذ فترة
ليست قصيرة تفسح المجال لنشر بعض المواد الإيجابية..
وجدير بالذكر أن الأستاذ محمود شاكر حفظه الله كان قد أطلق على (لويس
عوض) في مقالاته بمجلة (الرسالة) (صبي المبشرين أجاكس عوض) ... وإذا كانت المجلة قد أحسنت عندما أشارت إلى سبب عودة الأستاذ شاكر للكتابة في الستينات وذلك: (عندما استفزته بعض الظواهر الأدبية في بلادنا) . فإنها لم تشر إلى الأسباب التي جعلت اسمه يتألق في سماء الأدب، وهو لما يزال أدبياً شاباً، في فترة الثلاثينات والأربعينات.. وما أغفلت المجلة ذكره، هو أعظم دور لعبه الأستاذ محمود شاكر حينذاك، وهو انتصابه بشجاعة لمنازلة عميد الأدب طه حسين عندما افترى على الشعر الجاهلي، مدعياً عدم جاهليته وأنه من صنع المسلمين ليفسروا قرآنهم، وقد فضحه الأستاذ شاكر على الملأ بعد ما أبان بأن هذه المقولة إنما سطا عليها الدكتور طه حسين، وادعاها لنفسه بينما هي في الأصل دعاية استشراقية تولى كبرها المستشرق المشهور مرجليوث.
ثم نازله أخرى، عندما تجرأ الدكتور طه حسين وبوقاحة فريدة، فسطا على
كتاب (المتنبي) الذي أشارت إليه المجلة وأعاد إخراجه باسم (مع المتنبي) .
وقد ذكر كل ذلك الأستاذ شاكر في مقدمة كتابه (المتنبي) بأسلوبه الرائع،
وجدير بكل شاب مسلم غيور أن يقتني هذا الكتاب ويعيد قراءة المقدمة الطويلة،
والتي لو أخرجت لوحدها لكانت كتاباً كاملاً ... ففيها من كشف أساليب أدباء الحداثة
الكثير مما لا زال يمارسه الكثير منهم في ساحة الثقافة العربية..
القضية الثانية: رأي ناقد كبير في أدب الثمانينات:
لعل من أهم المواد التي نشرتها (الهلال) ضمن عددها التذكاري المشار إليه، ... ذلك المقال الذي خصصته للحديث عن (مستقبل الأدب.. في بلاد العرب)
ونظراً لأهمية الموضوع، فقد انتدبت المجلة للكتابة حوله الأستاذ الدكتور: شكري
محمد عياد والذي كتب مقالاً رائعاً، يعد تقويماً جاداً، ومنصفاً للأدب العربي في
الثمانينات، ونظراً لأن المقال قد احتوى على لطائف وطرائف كثيرة كلها جدير
بالقراءة الواعية المتأنية، فقد رأينا أن نختار أهمها ونسلط عليها مزيداً من الأضواء، ونضعها في إطارها الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيه.
اللطيفة الأولى:
اعترف الأستاذ الدكتور عياد، بعجزه عن متابعة ما ينشر سواء في مجال
الدراسات الأدبية والنقدية الأكاديمية (رسائل الماجستير والدكتوراه) والتي يقول
عنها (والحمد لله على أن معظمها يبقى محصوراً في طبعته المحدودة، والتي تكفى لحصول أصحابها على الدرجة) ! (أو ما تنشره المجلات الأدبية) الشهرية (أو) الفصلية (من دراسات مبتدئة أو مترجمة أو مقتبسة وأن ذلك ناتج عن ضيق وقته كما قال.
ونحن مع تقديرنا لهذا الاعتراف، إلا أن وجه الشاهد هو فيما قاله بعد ذلك
مباشرة عندما خاطب القارئ بقوله:) وإذا كان ضيق الوقت عذراً غير كاف في
نظرك، فهل يشفع لي عندك، أن ما أقرأه من القسم الأول رسائل الماجستير
والدكتوراه يصيبني عادة (بغثيان شديد) وأن ما أقرأه من القسم الثاني - ما تنشره
المجلات الأدبية الشهرية والفصلية - يجعلني عادة أشعر بالغباء الشديد..) انتهى.
والذي نريد قوله هنا أن رأي الأستاذ الدكتور عياد له أهمية خاصة في تقويم
أدب الثمانينات ويمكن أن ينسحب على الأدب الحديث في العقود الأخيرة، وأغلبه
أدب علماني حداثي، لأنه كلام خبير، فالأستاذ الدكتور كما رأيت معدود في كبار
النقاد المعاصرين وأشهرهم، وله مكانته التي لا تنكر، بدليل أن (الهلال) طلبت
منه أن يكتب لها عن (مستقبل الأدب.. في بلاد العرب) وبالتالي فالرأي السابق
ليس كلاماً لأحد علماء الدين، أو خطباء المساجد حتى يتهم من قبل بعض الأدباء
بالتحيز، أو أنه يسل سيف الإرهاب.. ولكنها الحقيقة المرة التي يجب أن يسلم بها
الأدباء من القوميين والعلمانيين والحداثيين الذي عناهم الأستاذ أن أدبهم يصيب
قارئه (بالغثيان الشديد) ليس ذلك فحسب، ولكنه أيضاً (يشعر بالغباء الشديد)
ولذلك فقد اعتذر الأستاذ الدكتور عن الكتابة عن هذا الأدب الذي يطبع سواء
كرسائل ماجستير أو دكتوراه، أو ما تنشره المجلات الأدبية الشهرية والفصلية قائلا: كيف أكتب إذاً عن شيء لا أقرؤه وإذا قرأته (لا أستسيغه، أو لا أفهمه؟) هل
أكون كعابر الطريق الذي تسأله عن مكان ما، لأنك تفترض فيه العلم، فيصفه لك،
لتتبين بعد أن تكل قدماك ويتصبب عرقك أنه أبعدك عن المكان المقصود أميالاً
كثيرة، وكنت على بعد خطوات منه؟) .
اللطيفة الثانية:
إن أمثال الدكتور الناقد الكبير شكري عياد، (لا يستسيغ ذلك الأدب، ولا
يفهمه) .. والدكتور غير متهم في قدرته على الفهم، ولكنه فعلاً أدب لا يستساغ ولا
يفهم.. وأهمية هذا الكلام أنه يبطل دعوى أدباء الحداثة، والتي يكررونها دائماً
وهي أنهم (لا يكتبون أدباً لا يفهم) وأن العيب ليس فيهم، لكن العيب في القارئ
الذي لا يفهم أدبهم، أو الأصح (مغزى إبداعهم) .. ولأن تلك الدعوى باطلة،
كشف زيفها النقد المحايد والمنصف (والشجاع) ولأن الأستاذ يعرف قدر نفسه،
ويحترمها فهو ليس مستعداً للكتابة عن مثل هذا الأدب، لأن في ذلك تضليلاً للقارئ..
والذي سوغ للأستاذ الدكتور إعلان تقويمه ذاك أنه ناقد محايد ومنصف
وشجاع، وليس من أدباء الطوائف الأدبية، الذين يتعصبون (لإبداع) . الشعراء
والقصاص المنتمين، فيعددون مزايا، ويشيرون إلى نواحي (الجمال والإبداع) فيه، حتى لو كان خالياً من كل جمال، أو إبداع، بل حتى لو كان لا يستساغ، ولا
يفهم، ويثير الغثيان، ولذلك فقد أكد الأستاذ عياد حقيقة مهمة في نهاية كلامه السابق
هي أن ما ينشر في هذه المجلات (ليس الأنضج فنياً، أو الأصدق تعبيراً عن زمنه) ؟ !
اللطيفة الثالثة:
فإن سؤالاً يفرض نفسه هنا، هل كل ذلك هو الأدب العربي في الثمانينات،
أم أن هناك نوعاً آخر من الأدب، هو أنضج فناً، وأصدق تعبيراً عن زمنه، ولكنه
يتجاهل ويُعزل عن الجماهير، لأن الطائفية الأدبية المتربعة على عرش الصحافة
ووسائل الإعلام في دنيا العروبة تضرب حوله أستاراً من التعتيم والحصار حتى
تخنقه، فلا يعرفه أحد.. وللإجابة على هذا السؤال والذي لا يقل أهمية عما سبقه،
نصحبك عزيزي القارئ معنا في رحلة قصيرة جداً لنقرأ معاً هذه الفقرات الثلاث
المختارة من مقال الدكتور عياد السابق:
1 - قال الأستاذ وهو يتحدث عن الموقف السلبي الذي تلعبه الصحافة سواء
اليومية أو الأسبوعية في بلادنا العربية والتي يفترض فيها كما يرى الدكتور أن:
(تقوم بدور الوسيط بين الكتاب والمجلات الأدبية والعلمية المتخصصة، من ناحية،
وبين وسائل الإعلام الجماهيرية المسموعة والمرئية من ناحية أخرى.. وهذا ما
يلاحظ - وما زال الكلام للدكتور- في صحافة البلدان المتقدمة ونفتقده في صحافتنا)
ثم يقول: (وهكذا تسهم صحافتنا بموقفها السلبي من (الثقافة الراقية) في تدني المادة
الثقافية التي تقدمها الإذاعة والتلفزيون على الخصوص بل وتشترك معهما في التدني
(ثم يقول مباشرة:) أما (الأدب) فيبقى معزولاً عن الجماهير، ومن ثم تتكون له
في بلادنا العربية المنكوبة بالطائفية طائفية أخرى من نوع عجيب (طائفية ...
الأدباء..) .
2 - وأما عن دور الطائفية الأدبية في إفساد الأدب والأدباء خاصة الشبان
منهم، قال: (فالطائفية الأدبية هي المسئولة في تقديري عن رواج النزعات الشكلية بين الأدباء الشبان، إن لغة (القصة الحديثة) هي أشبه باللغات السرية التي تتفاهم بها فئة من الناس تريد أن تخلق لنفسها عالماً خاصاً منعزلاً عن عالم الناس، وكثيراً م ايكون هذا العالم الخاص (بريئاً وساذجاً، ليس فيه أكثر من الانفلات من العالم المادي البشع.. ولكن الطائفية الأدبية في أحيان أخرى توجه لخدمة طائفية أخرى زرقاء الناب تقطر سمها رويداً، رويداً، لتحول الشباب المتحمس للحداثة إلى خونة وجواسيس) .
3-هناك تحالف بين النزعات الشكلية في الأدب، وبين طائفة النقاد، في
نفس الوقت الذي يتجاهل فيه الإبداع الحقيقي.. قال: (والنزعات الشكلية عند
بعض المبدعين تحظى بالعناية كلها من طائفة النقاد المخصصين، إذاً لا (تباعد)
هنا، بل تحالف وثيق! ! ولكنه تحالف يتم على حساب الإبداع الذي يجري في
حضن المجتمع، فهذا الإبداع يتجاهل حتى حين يأتي من قبل أدباء استطاعوا أن
يرسخوا أقدامهم، ويدعموا شهرتهم في أدوار سابقة والإغراء قوي، إنه إغراء
(العلمية) من ناحية و (العالمية من ناحية أخرى) ..
وقد وضح للقارئ - أو لعله قد أدرك أي نوع من الأدب هذا الذي يُتجاهل
ويُعزل عن الجماهير وتقف منه الصحافة الطائفية موقفاً سلبياً فلا تسمح بنشره، إنه
الذي وصفه الدكتور (بالثقافة الراقية) .
ووصفه أيضاً بالأدب هكذا معرفاً في قوله: (أما الأدب فيبقى معزولاً عن
الجماهير) .
ووصفه ثالثاً: بالإبداع الحقيقي في الفقرة الثالثة عندما قال: (بأن النزعات
الشكلية تحظى بالعناية من النقاد، بل بينهما تحالف ولكنه يتم على حساب الإبداع
الذي يجري في حضن المجتمع، فهذا الإبداع يُتجاهل حتى وإن جاء من قبل أدباء
كبار مشهورين ولهم مكانتهم، ولكنه ما دام يناقض أدب الحداثة أو أدب الطائفية فلا
يسمح بنشره، وستمنع الجماهير من معرفته.
فهل يصح لنا أن ندّعي بأن الدكتور عياد يريد بكل ذلك: الأدب الحق، لا
المزيف، أدب الفضيلة لا الرذيلة، الأدب الأصيل لا المستورد، الذي يجلب
السعادة، لا الذي يثير الغثيان، والاشمئزاز، الأدب الذي يحاربه الحداثيون،
وأدباء الطوائف، وتتجاهله الصحافة المدفوعة الحساب من خارج الحدود أو من
داخلها ولكن بإيعاز وتوجيه من الخارج..
نظن أننا قد وضعنا النقاط على الحروف، وأشرنا إلى الحقيقة بوضوح، أما
الأستاذ الدكتور، فقد أشار إشارات هنا وهناك ووضع ما يقصده بين كلام كثير،
واكتفى بالتلميح دون التصريح وهو معذور لأنه كان يقفز على الأشواك.. ولذلك
فقد كان نبيهاً جداً عندما كتب مقالته تلك تحت عنوان صغير (القفز على الأشواك)
__________
(1) الهلال، ديسمبر 89 م، ص13.(25/59)
شعر
(قالوا سلوت) قصيدة
على محمد
قالوا سلوت عن القريض فقلت هل ... تسلو الطيور طبيعة الطيران؟
تَهبُ الورودُ إلى النسائم عطرها ... من غير ما منٍّ ولا إحسان
ويزمجر الإعصار خِلقة ربه ... ويغرد القُمري في الوديان
ويرتل الشلالُ إيقاع الهوى ... ترتيلَ خلٍ بارع ولهان
وتفتح الأزهار عند ربيعها ... ويذيبها كمداً خريف دان
والشعر عندي ضحكة رنانة ... وتأوه الثكلى على الولدان
إني طليق بيد أن أحبتي ... في قبضة الطغيان منذ زمان
يتعاورون الذل والبطش الذي ... قد صار فناً باهظ الأثمان
فإذا غفوت أرى جمال وجوههم ... وإذا صحوت تهدني أحزاني
فألوذ بالأحلام والأمل الذي ... أرخى علي ملاءة السلوان
وأبيت في المحراب أدعو راجياً ... فرج الكريم العادل المنان
وأظل أبكي إخوتي وأحبتي ... حتى يسيل الدمع أحمرَ قان
هل يحسن المهزوم إلا عبرة ... بعد الضياع وفرقة الإخوان؟
ماذا أؤمل بعد فرقة أخوتي ... وتبادل اللعنات بالأطنان؟
ماذا أؤمل بعد أن عُبد الهوى ... وتعلق الزهاد بالرنان [1]
ملك الزمام أرانب وضفادع ... تهوى النقيق وبسمة السلطان
وتخلت الأبطال عن درب الفدا ... فتفرد الأقزام في الميدان
فإلى متى يبقى النحيب شعارنا ... ونحمل الأخطاء للطليان؟
__________
(1) الرنان: الأصفر الرنان وهو الذهب، كناية عن المال.(25/67)
شئون العالم الإسلامي
الانتفاضة في عامها الثالث
التحرير
كنا ولا نزال نعتقد أن الصراع الذي يدور على أرض فلسين المباركة إنما هو
صراع حضاري بين الإسلام واليهودية الصهيونية ومن ورائها أوربا وأمريكا، وهو
صراع طويل، تعرضت له بلاد الشام سابقاً خلال قرنين من الزمان (491-689هـ) .
وفي هذا العصر استطاع اليهود تثبيت أقدامهم في فلسطين. واستطاعوا
بالتخطيط والإعلام جرّ شعوب وحكومات أوربا وأمريكا لمساعدتهم، ومقابل كل هذا
الدعم والزخم كان العجز والفشل والتفرق والتمزق ممن ادعى التصدي لإسرائيل،
وبعد الهزائم المتكررة وبعد الوعود والانتظار الذي لم يأت بطائل، وبعد المحاولات
الدائبة للمتاجرة بقضية من أعز القضايا عند المسلمين، بعد هذا قام الشعب
الفلسطيني بثورته ضد الاحتلال والقهر والذل، فهو- لا غيره- الذي يعيش المعاناة
اليومية، وكانت الشرارة الأولى من غزة ومن مساجد غزة، وكان الجيل الذي ولد
وعاش هذه المعاناة أقوى مراساً وأقدر على العطاء من الجيل الذي عاش معاناة
الإقامات ووثائق السفر والعمل في البلاد القريبة أو البعيدة، هذا الجيل هو الذي
وقف يتحدى إسرائيل، ولكن كوامن التضحية موجودة عند الجميع وخاصة إذا كانت
على أساس ديني، فعندما بدأت الانتفاضة، اشترك فيها الجميع، رجالاً ونساء،
صغاراً وكباراً، وبرز الشباب المسلم يعلم الناس أن القتال يجب أن يكون في سبيل
الله، حتى لا تتحول التضحيات إلى أهداف أرضية وتوقع الناس أن تستمر هذه
الانتفاضة أياماً أو أسابيع ثم تنتهي بالقمع الإسرائيلي، ولذلك فلا داعي للمخاطرة
والخسائر، وأخطأت التوقعات، فها هي المقاومة تدخل عامها الثالث، وقد سألنا
بعض القراء عن حقيقة هذه الانتفاضة، وهذا السؤال وإن كان غريباً ولكن نقول له: إن الشعب الفلسطيني هو الذي قام بها، وهو شعب مسلم، وكانت بدايتها من
مساجد غزة، والشباب المسلم في غزة والضفة من أعمدة الانتفاضة، وما يحدث
الآن في فلسطين هو جزء من صراع طويل، ونحن لا نتوقع في الظروف الدولية
الراهنة إزالة دولة إسرائيل - وإن كنا نتمنى ذلك - ولكن إضعاف هذا العدو هو
مقدمة لزواله إن شاء الله، وإذا كانت الانتفاضة تضم أصنافاً شتى من الناس وليست
راية الجميع راية إسلامية، إلا أنها أوجدت تغيرات إيجابية في بنية المجتمع
الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال ومن هذه الإيجابيات:
1 - ازدادت الألفة والمحبة بين الناس، وازداد التضامن والتكافل الاجتماعي، ونسي الناس الخصومات والمشاكل واشتغلوا بعدو واحد، بل إنهم في الخصومات
في كثير من الأحيان أصبح مرجعهم العلماء (مثل الشيخ أحمد ياسين فك الله أسره) .
2 - تُركت كثير من العادات السيئة في الأقوال والأفعال.
3 - رجع كثير من الناس إلى دينهم وامتلأت المساجد وبعضهم -خاصة من
الذين بقوا داخل فلسطين المحتلة منذ عام 1949- لم يكونوا يعرفون عن الدين شيئاً، عادوا الآن إلى المساجد.
4 - كسر حاجز الخوف من اليهود، بل إن ما يقوم به الشباب الصغار في
فلسطين يدل على شجاعة وبطولة تدعو إلى الإعجاب..
5 - خسائر اليهود: أكدت إحصائية فلسطينية أن خسائر العدو هي قتل (72)
جنديا و (21) مستوطناً وجرح وإصابة أربعة آلاف جندي، وإعطاب وإتلاف
4995 سيارة عسكرية و (2000) سيارة للمستوطنين، و (250) مكتباً وإدارة.
وتقدر الخسارة التي تكبدتها إسرائيل خلال عامي الانتفاضة ب 17 مليار دولار.
6 -توقف المد الاستيطاني الصهيوني فلم نعد نسمع عن إنشاء مستعمرات
جديدة في الضفة الغربية.
وكل هذا لا يعني أن الانتفاضة لا تعانى من سلبيات أو مشاكل، فمثل هذا
التحدي الكبير لا بد أن يوجد بعض السلبيات، فقد استخدمت إسرائيل سلاح
الاقتصاد، وحاصرت الناس بهذا السلاح، وإذا كان الشعب استطاع التعاون
والتكامل حتى الآن فهو لا يستطيع إلى ما لا نهاية، واستخدمت إسرائيل سلاح
التفريق بين الإسلاميين وغيرهم ولكنها فشلت، واستخدمت أصحاب النفوس
المريضة في التجسس وغير ذلك، ونجحت نوعاً ما وتصدى المسلمون لمن يتعاون
مع العدو بالمحاكمات العادلة.
وإذا كان في الانتفاضة العلمانيون وغيرهم فنحن نريد من الإسلاميين أن
يكونوا هم الأقوى ليقودوا الشعب الفلسطيني إلى العزة والكرامة، ولا يكون ذلك إلا
باتحاد كلمة المسلمين ووعيهم السياسي حتى لا تسرق الجهود وينصب نفسه لقيادة
الشعب من لم يُضَحِّ يوماً من الأيام.
وعلى الشعب الفلسطيني بشكل عام أن لا يسمح بسرقة جهوده ويحولها
لمكاسب رخيصة أصحاب السلام الهزيل.
إن ما يفعله أطفال الحجارة وشباب الإسلام في فلسطين هو مرحلة من
الصراع كما قلت، ويجب أن تستمر هذه المرحلة ولا تذهب هدراً(25/70)
المسلمون في أوربا
-التحرير-
نشرت مجلة الجمعية الجغرافية الملكية مقالاً مفصلاً عن ظاهرة تواجد
المسلمين في أوربا الغربية وأعدادهم ونظرة الغرب إليهم، ولأهمية المقال نقتطف
منه ما يلي:
تشهد أوربا الغربية من بعد الحرب العالمية الثانية غزواً إسلامياً جديداً يختلف
كلياً عن سابقه، فالغزو الجديد لا تقوده الجيوش التي صقلتها الحروب [1] بل
عوضاً عن ذلك هو تحرك هادئ ويأتي متدرجاً أحياناً من المسلمين القادمين من
شمال أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، حيث يأتي المبعدون من تلك المناطق
إلى أوربا بحثاً عن آمال جديدة وفرص عمل.
ليس هناك أسلوب دقيق لمعرفة كم من المسلمين يعيشون في أوربا الغربية
اليوم، فبعضهم قدم قبل عدة عقود من الزمن وهم الآن مواطنون ضمن المجموعة
الأوربية، والبعض الآخر ولد في أوربا من عائلة أسيوية أو أفريقية. كما أن منهم
أوربيون بيض اعتنقوا الإسلام، بالإضافة إلى صنف رابع وهم الذين هاجروا إلى
هذه الدول بصورة غير قانونية وهم لذلك يعيشون على هامش المجتمع خشية
الاعتقال والطرد.
إن معرفة حجم تواجد المسلمين في أوربا أمر شاق جداً ذلك أن الدول الأوربية
ومنظماتها لم تضع بعد نظاماً معيارياً تتمكن من خلاله من إجراء عملية الإحصاء،
فبعض الدول عندها سجلات للأجانب إلا أنها لا تأخذ بعين الاعتبار قضية الدين في
إحصاءاتها وبذلك لا يكون في سجلاتها إشارة إلى حجم المسلمين. إلا أنه وعلى أية
حال، وبناء على إحصاءات المجموعة الأوربية والمنظمات الخيرية وشخصيات
أكاديمية بارزة فإن عدد المسلمين في أوربا الغربية يقدر بـ (5ر 7) مليون، وهنا
يجب التأكيد على أن هذا الرقم لا يمثل إلا تخميناً تقريبياً وأن الرقم المذكور قد
يصل وفقاً لمصادر أخرى إلى (12) مليون.
وتشكل فرنسا وألمانيا الغربية والمملكة المتحدة لوحدها موطناً لما لا يقل عن
خمسة ملايين مسلم. إلا أن ظروف تواجد هذا الكم تتفاوت جذرياً من دولة إلى
أخرى، ففي المملكة المتحدة أصبح عدد كبير من المهاجرين من باكستان والهند
وبنغلاديش مواطنين بريطانيين، وشهدت الساحة الاقتصادية نموأكبر فئة مسلمة
مالكة للمنازل والمحال التجارية، وفى شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي قامت
مجموعة من المسلمين (البيض والسود) بتشكيل الحزب الإسلامي البريطاني الذي
يعتبر الأول من نوعه في أوربا والذي يتخصص بشئون المسلمين.
إن الثقة التي دفعت المسلمين في بريطانيا إلى الإقدام على أعمال كهذه قد
تعكس مقداراً أكبر من التسامح من جانب المجتمع البريطاني بعمومه. ويعلق جون
سولت الدكتور في جامعة لندن والجغرافي المتخصص في حقل الهجرة الجماعية
على هذه الظاهرة فيقول: (هناك انقسام حضاري بين المهاجرين أو المهاجرين
سابقاً وبين أفراد المجتمع الأصليين في كل من فرنسا وألمانية الغربية، وهو أمر لا
وجود له في بريطانيا [2] . كما أن قضية البريطانيين السود هي حقيقة مقبولة منذ
فترة طويلة. وفى فرنسا مواطنون فرنسيون نتيجة التزاوج بين الفرنسيين البيض
وبين أهل المستعمرات السوداء، أما وجود ألمان سود فهذا غير وارد ألبتة.
إلا أن جغرافيين متخصصين آخرين يخالفون هذا التفسير الذي قدمه الدكتور
سولت، حيث تقول الدكتورة جولي وهى باحثة رفيعة المستوى في مركز بحوث
العلاقات العرقية التابع لجامعة ووريك، تقول في مقابلة أجريت معها مؤخراً: (إن
المجتمع البريطاني لم يمنح البدائل الكافية للمسلمين، قد يكون المسلمون في
بريطانيا مواطنين حقاً، إلا أن معدلات البطالة ما زالت هي الأعلى بين صفوفهم،
كما أنهم ما زالوا معزولين عن التيار العام في المجتمع، أما في فرنسا فإن أيدلوجية
الثورة هناك تنص على تحقيق المساواة في الحقوق بالنسبة للجميع) [3] .
وفي الوقت الذي يتصدر فيه مسلمو بريطانيا الدور في مضمار النشاط
الإسلامي فإن هذا النشاط الجديد أخذ في اكتساح معظم دول أوربا الغربية. فقد
ارتفعت مآذن المساجد والمراكز الإسلامية في معظم المدن الرئيسية، وقد أصبحت
قضايا المساواة في الحقوق وفرص العمل وتحقيق الاستقلال الثقافي والديني من
الأمور الأساسية التي يطالب بتحقيقها المسلمون عبر القارة الأوربية.
وتضيف الدكتورة جولي قائلة: (إن هذه النهضة الجديدة التي يشهدها الإسلام
على نطاق عالمي تعزى جزئياً إلى الأحداث في الشرق الأوسط التي منحت الإسلام
مكانة بارزة في الصحافة العالمية وجعلته موضع اعتزاز وافتخار. إلا أنها - أي
النهضة - في الوقت ذاته تأتي كإفراز لذلك التمرد من جانب المسلمين ضد الصورة
العنصرية والثقافية المفروضة عليهم من جانب المجتمع الأبيض.
وعلى الرغم من أن ظاهرة الوعي الإسلامي الحديثة أصبحت منتشرة في
جميع أنحاء أوربا، إلا أن ظروف هجرة المسلمين تختلف إلى حد كبير من بلد إلى
آخر. ففي بريطانيا ترجع أصول كثير من المهاجرين فيها إلى مستعمراتها الهندية
السابقة التي حكمتها بريطانيا إبان عهد الإمبراطورية، ولقد كانت هجرة هؤلاء منذ
البداية مرتبطة بمسألة الحصول على الجنسية البريطانية. أما في فرنسا فإن الجزء
الأكبر من هجرة المسلمين إليها كان قد حدث في السبعينات عندما استقدمت البلاد
العمالة الأجنبية - ومعظمهم من الرجال - بصورة رئيسية من الجزائر التي كانت
قد نالت استقلالها، إلا أن هؤلاء المهاجرين كانوا على علم مسبق بأنه سوف يكون
لهم الحق في العمل في فرنسا إلا أنه لا يسمح لهم بحال إلحاق أفراد عوائلهم بهم.
أما ألمانيا الغربية التي كانت قد جردت من مستعمراتها بعد الحرب العالمية
الأولى فقد كانت أكثر صرامة في قوانين الهجرة. فالحكومة الألمانية شجعت ومنذ
فترة طويلة استقدام الأيدي العاملة التركية، إلا أنها جعلت لهم الأمر واضحاً منذ
البداية بأنهم لن يكونوا مواطنين ألمان أبداً، وأنه يتعين عليهم يوماً ما الرجوع إلى
بلادهم. وبطبيعة الحال فإن كثيراً من العمال الأتراك (الضيوف) لم يرجع إلى
تركيا كما كان مخططاً له على الرغم من ظروف العيش المتواضعة جداً التي
يعيشونها في النزل التي تنفق على إدارتها الحكومة. كما أن كثيراً منهم لا يملك
تصريح الإقامة ويحاول التواري عن الأنظار خشية إلقاء القبض عليه ومن ثم
الإبعاد. إن الدافع الحقيقي وراء هذه السلوكيات قد يبدو سهل المعرفة، ذلك هو
استمرار الاضطرابات الاجتماعية والركود الاقتصادي الذي تشهده تركيا في هذه
المرحلة.
لقد أدى تواجد العمالة التركية في ألمانيا إلى ردود فعل عنصرية من جانب
الألمان البيض، وإن ردود الفعل هذه قد تنامت خلال السنة الماضية كنتيجة للنظرة
التي ينظر بها أحياناً إلى مسلمي أوربا على أنهم يشكلون خطراً أصولياً بسبب
حملات احتجاجهم المستمرة ضد نشر كتاب سلمان رشدي، ففي الانتخابات الأوربية
التي جرت في شهر حزيران (يونيو) من العام الماضي حصل الحزب اليميني
المتطرف في ألمانيا على نسبة 7% من الأصوات بعد الحملة التي قادها من أجل
طرد العرب والأتراك بالقوة من البلاد. ولم يدع رئيس الحزب الجمهوري أي
شكوك تحيط بموقفه تجاه الدور الذي يلعبه مليوناً مسلم في ألمانيا، فقد صرح حديثاً
: (لن ترفرف راية الإسلام الخضراء يوماً فوق ربوع ألمانيا، ولن نكون بيتاً لفقراء
دول حوض البحر المتوسط) .
كما أن فرنسا كانت قد شهدت هي الأخرى تنامياً في قوة حزب الجبهة القومية
اليميني المتطرف ذي الاتجاهات العنصرية والمناهض لعمليات الهجرة. وكان
رئيس الحزب قد حذر من غزو إسلامي جديد لأوربا مقترناً بالعنف يشابه ما كان قد
جرى في العصور الماضية. وعلى الرغم من هذه المزاعم التي لا يتقبلها العقل،
فقد كانت نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب في الجولة الأولى من الانتخابات
الرئاسية الفرنسية في عام 1988 هي واحد إلى سبعة.
ولقد ارتفعت في فرنسا - كما هو الحال في باقي دول أوربا - نسبة حوادث
الاعتداء على المسلمين، إلا أن نسبة المواليد بين المسلمين ارتفعت هي الأخرى.
يقول الدكتور ج. بيتش المتخصص في حقل الهجرة وإحصاء السكان في جامعة
أوكسفورد: (إن نسبة المواليد بين المهاجرين تفوق إلى حد كبير نظيرها بين
السكان الأصليين، والواقع هو أن تعداد المهاجرين سوف يستمر بالنمو حتى في
حالة إقفال الباب أمام هجرات مستقبلية) .
وعلى الرغم من إقفال تلك الدول الأوربية أبواب الهجرة أمام العمالة الأجنبية
منذ فترة طويلة، إلا أن الهجرة غير القانونية ما زالت مستمرة وبمعدلات تنذر
بالخطر، وتشكل أسبانيا وإيطاليا المحطة الأولى للهجرة غير القانونية القادمة في
غالبيتها من شمال أفريقيا، وذلك لسهولة الدخول نسبياً إلى هاتين الدولتين، ومنهما
يواصل المهاجرون رحلتهم شمالاً باتجاه دولة أوربية أخرى.
وعلى الرغم من النمو المطرد في تعداد المسلمين في أوربا فإن بروز تيار
إسلامي أصولي متعصب في أوربا الغربية غير وارد ولا يتنبأ به إلا عدد قليل من
المتخصصين في حقل الاجتماع والجغرافية، كما يرى آخرون أن النهضة الإسلامية
التي تشهدها أوربا اليوم هي نتيجة صياغة سيئة لقوانين الهجرة التي كانت قد
صيغت قبل عدة عقود من الزمن.
وبغض النظر عما إذا كان الأمر في صالح أوربا أم لا ? فإن أوربا الغربية قد
باتت خليطاً معقداً من المجتمعات المختلفة عرقياً وحضارياً، وقد وصلت الشعوب
الأوربية بذلك إلى نقطة اللاعودة.
إن الطريق الأمثل لإيجاد مجتمع متجانس مستقبلاً يكون في دمج مسلمي أوربا
في المجتمع على نطاق واسع [4] . إن استمرار تواجد الأحياء التي يتمركز فيها
أبناء الدين الواحد أو العرق الواحد لا يؤدي إلا إلى انكماش وانزواء هذه الأقلية
المتنامية الحجم وإلى إبراز التوترات بين شعوب أوربا المتعددة الخلفيات الحضارية
مجلة الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية كانون أول/1989م
__________
(1) يقصد الكاتب فتح االمسلمين لأسبانيا.
(2) لا نعتقد أن هذا الكلام دقيق، فإذا كان اكثر المهاجرين مسلمون فلا بد أن يوجد التمايز الثقافي.
(3) هذا نظرياً وأما عملياً فالتعصب في فرنسا أشد منه في بقية الدول.
(4) هذا ما يرغبه الأوربيون، أن ينصهر المسلمون في الثقافة الغربية ولكن الواقع أن كثيراً منهم لم ينصهر، وبعضهم عاد إلى وعيه بالهوية الإسلامية، والغربيون يطالبون بما ليس من حقهم فما الذي يضرهم من محافظة المسلمين على انتمائهم؟ وليس صحيحاً أن بقاء المسلمين على دينهم يوجد توترات بين شعوب أوربا، وهذا تهويل وتحذير من المجلة إلى الحكومات الغربية.(25/73)
ألبانيا
آخر حبة في عنقود الشيوعية في أوربا
الصنداي
مع اكتمال مسلسل انهيار الأنظمة الشيوعية في دول الكتلة السوفيتية والتي
كانت رومانيا آخرها، تكون ألبانيا هي الدولة الوحيدة في أوربا التي ما زال يتسلط
على شعوبها نظام ماركسي، هذا إذا ما استبعدنا الاتحاد السوفييتي الذي منه بدأت
شرارة الشيوعية الأولى وفيه انطفأت.
وألبانيا دولة مسلمة، دخلها الإسلام إبان الفتوحات العثمانية في أوربا، يبلغ
عدد سكانها (2. 84) مليون ويشكل المسلمون ثلثي هذا العدد ومعظمهم من السُنَّة،
وسيطر عليها الشيوعيون في أواخر الحرب العالمية الثانية وهي منذ ذلك اليوم دولة
ذات نظام ماركسي منعزل عزلة شبه تامة عن باقي دول العالم، يعتبر نفسه - أي
النظام - الممثل الوحيد للشيوعية الحقيقية في العالم، فهو لا يعتد بأنظمة الاتحاد
السوفييتي أو الصين أو يوغوسلافيا، بل ولا يقيم علاقات دبلوماسية معهم. وتعتبر
مدن ألبانيا هي الأمكنة الوحيدة في العالم التي ما زالت تبقي على تماثيل ستالين في
ميادينها العامة..
وما زال شعب ألبانيا المسلم يخضع لقوانين ماركسية صارمة، فأطفال
المدارس لا زالوا يرددون قسم الولاء للشيوعية كل صباح، ومعارضو النظام لا
يجدون شفقة ولا رحمة، وليس أمامهم إلا السجن أو الإعدام، وعناصر قوات الأمن
منتشرة في كل مكان، والصحافة تخضع لرقابة صارمة، أما مناطق الحدود فهي
تزدحم بأبراج الأنوار الكاشفة التي تكشف كل من يحاول الفرار من البلاد، فقضية
غلق أسوار الدولة بهذه الكيفية تعتبر من المبادئ الأيدلوجية للنظام.
أما فيما يخص الجانب الاقتصادي من الحياة اليومية، فإن فقدان السلع
الأساسية والأغذية هو سمة السوق المحلية، كما أن طوابير الناس التي تمتد
لمسافات طويلة وتبدأ من الساعة السادسة صباحاً بحثاً عن رغيف خبز أو قطعة لحم
تعتبر مشهداً يومياً مألوفاً. والنظام الاقتصادي لا يتيح للفرد حق التملك باستثناء
أشياء محدودة جداً؟ فحيازة السيارة ما زال من المحظورات على المواطن الألباني، على الرغم من تمتع أعضاء الحزب بقيادة السيارات الفاخرة التي يصطحبونها
معهم إلى منتجعاتهم الصيفية.
وعلى الرغم من هذا وذاك، وعلى الرغم من القبضة الحديدية التي يحكم بها
هذا البلد المسلم، والستار الحديدي الذي يحجب عن العالم الخارجي كل ما يحدث
داخل هذا السجن الكبير؟ فإن الأنباء المتسربة من هناك تشير إلى حدوث موجات
سخط كبيرة بين أوساط الشعب، وتقارير تتحدث عن خروج مظاهرات احتجاج
كبيرة مضادة للحكومة في 14/12/1989? في إقليم سكوتاري ومدينة سكودر
الشمالية هي الأولى من نوعها. وتشكل الجامعات والمعاهد - حيث نخبة الشباب
المثقفين والمفكرين - بؤراً لموجات السخط والغليان الشعبي.
قد تبدو أعمال الاحتجاج والمظاهرات هذه - والتي نفتها الحكومة - صغيرة
في حجمها، إلا أنها على كل حال تمثل ثغرة في كيان النظام الشيوعي (الحقيقي)
هناك وبداية الطريق لسقوط آخر قطع (الدومينو) الحمراء في أوربا.
صنداي كوروسبوندنت والتايمز 24/12/1989م
دائرة المعارف البريطانية(25/79)
أخبار حول العالم
-التحرير-
أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير يوم 31/12/1989م على طرد
عيزرا وايزمان الذي يشغل منصب وزير العلوم في الحكومة الائتلافية إثر تقارير
تحدثت عن لقاء بينه وبين مسؤولين في منظمة التحرير الفلسينية.
وتحدث شامير عبر شاشة التلفزيون قائلاً: (لو التزمت الصمت من جانبي
فسأكون مشاركاً بالفضيحة) ومن المعروف أن القانون الإسرائيلي يحظر إجراء لقاءات مع أعضاء في المنظمة. وكانت تقارير في شهر حزيران (يونيو) الماضي قد ذكرت أن محادثات دارت بين وايزمان ومسؤولين كبار في منظمة التحرير في مدينة جنيف. كما ذكر وزير الشئون العربية في حكومة شامير أن وايزمان كان قد أجرى اتصالات مع ياسر عرفات عن طريق طرف ثالث..
وقد نفى ياسر عرفات أن يكون أعضاء في المنظمة قد أجروا أي اتصالات
مع وايزمان، واعترف عرفات أن عدة أعضاء في المنظمة قد سعوا قبل عامين
للالتقاء بالوزير المطرود إلا أنهم فشلوا!
وكالة الأنباء الفرنسية 31/12/89
إسرائيل تتهيأ لتدفق اليهود السوفييت عليها
كان المسؤولون الإسرائيليون يتوقعون وصول حوالي ربع مليون يهودي إلى
فلسطين المحتلة خلال الأعوام الثلاثة القادمة، أما الآن فإنهم باتوا يتوقعون أن هذا
العدد قد يصل إلى المليون، هذا وإن ألف يهودي يصلوا أسبوعياً إلى إسرائيل
قادمين من الاتحاد السوفييتي، ويقول أحد المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية: إن
اليهود السوفييت يسارعون بالفرار في هذه المرحلة خوفاً مما قد تتمخض عنه حالة
عدم الاستقرار التي يمر بها الاتحاد السوفييتي من موجة عداء للسامية.
وعلى صعيد الاستعدادات لاستقبال هذا العدد من القادمين، أقرت الحكومة
الإسرائيلية خطة لبناء (20) ألف منزل وبرنامجاً لتوفير فرص عمل جديدة لأكثر
من (20) ألف عامل. ويرى رئيس الوزراء أن في الزيادة الكبيرة المرتقبة في عدد
اليهود مبرراً إضافياً لرفضه منح تنازلات إقليمية للفلسطينيين..
ومما يذكر أن10% فقط من اليهود السوفييت المهاجرين كانوا يختارون
الذهاب إلى إسرائيل في العقد الماضي، إلا أن هذه النسبة قفزت إلى 41% في
الشهر الماضي.
ويستبعد المسؤولون اليهود أن تؤدي هذه الزيادة المفاجئة في الهجرة إلى
إحداث أي متاعب لإسرائيل، ويعلق رئيس الوكالة اليهودية على هذا فيقول: علينا
أن نتذكر بأن إسرائيل كانت قد ضاعفت عدد المواطنين اليهود في الفترة ما بين عام
1948إلى1951م ليصل إلى 1. 3مليون بدون أي صعوبات، فلماذا لا يستطيع
(3. 5) مليون يهودي استيعاب (100) ألف مهاجر سنوياً؟ .
الاندبندنت 12/1/1990م(25/81)
مشاهدات في أوربا
الجدار الذي تحطم
محمد سليمان
عندما تعبر الحدود من ألمانيا الغربية وتضع قدمك في ألمانيا الشرقية تنتقل
إلى عالم آخر، عالم مختلف تماماً، فجأة ترى الوجوه العابسة البائسة، وجوه
الجنود الموظفين الذين يخاف بعضهم بعضاً (فالتجسس من أهم مواصفات المجتمع
الشيوعي) ومع ما حصل من التغيرات ولكن أثر التربية الشيوعية والإرهاب
والتجويع لا يزول بسهولة.
وإذا تقدمت خطوة أخرى واجتزت الحدود، وبعد ساعات من المسير تطلب
مكاناً ترتاح فيه قليلا من وعثاء السفر، ولكن هيهات، فتستمر في السير حتى
تصل برلين الغربية، وهي جزيرة من الغرب في وسط ما سمي بالديمقراطيات
الشرقية، قال لي أحد الأصدقاء في برلين الغربية وهو بائع للفواكه والخضار:
عندما دخل أهل برلين الشرقية لأول مرة، ورأى الأطفال منظر البرتقال والعنب
والموز لم يصدقوا، كانوا يصيحون بأعلى أصواتهم: ماما هذا برتقال، هذا عنب. مساكين كانوا يرونه في الصور فقط، يقول هذا الصديق: كان منظراً محزناً،
فالأب والأم لا يستطيعان شراء هذه الفواكه لأنها مرتفعة الثمن بالنسبة لعملتهم،
فقلت له: هذه ألمانيا الشرقية فكيف بباقي دول أوربا الشرقية التي هي أقل منزلة
والحالة فيها أسوأ.
وعندما تصل برلين الغربية لا بد أن تذهب لترى الجدار الذي تحطم، الجدار
الذي فصل بين أهل المدينة الواحدة بين الأقارب والجيران لأكثر من سبعة وعشرين
سنة، وكان الحراس يقتلون كل من تسول له نفسه بالهرب، ولكنه الآن بلا حراس
والناس يكسرون منه قطعاً للذكريات وفي بعض المناطق فتحوا ثغرة فيه، لا شك
إنها لحظات تاريخية ومنظر مؤثر في النفس، لقد جرى التغيير بسرعة هائلة، من
كان يصدق أن هؤلاء الجنود الذين يقفون عند بوابة (بردنبرغ) يرون الناس
يحطمون الجدار ولا يكلمونهم، بل إنك تنظر في وجوه الجنود وعيونهم تجد فيها
نوعاً من الذل.
سبحان الله، متى تتحطم الجدر عندنا، هذه الحدود الوهمية التي رسمت لنا،
أو على الأقل متى تلغى التأشيرات والعوائق بين البلاد العربية والإسلامية؟ .(25/83)
تعريف وعرفان
-التحرير-
إن من أصناف الناس من لا يحظى بواسع شهرة، ولا بكبير منصب، ولكنه
يعمل أعمالاً عظيمة، وينجز مهاماً جساماً. ومن - بين أولئك الناس الأخ العزيز
الدكتور عبد الله الخاطر الذي فجعنا بوفاته - يرحمه الله - فجر يوم - السبت 2/6/
1410 هـ الموافق 30/12/1989. وعرفاناً لجميل صنع هذا الأخ نكتب هذا
التعريف الموجز سائلين المولى أن يتقبله، ويتغمده بواسع رحمته ورضوانه..
تعريف:
هو الدكتور عبد الله بن مبارك بن يوسف الخاطر آل بو عينين التميمي من
أهل الدمام بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، ولد عام 1375هـ. في
مدينة الظهران، وتخرج من كلية الطب جامعة الملك سعود بالرياض عام 1400 هـ/
1980م ثم عين معيداً في كلية الطب جامعة الملك فيصل بالدمام، وابتعث إلى
بريطانيا للدراسات العليا في معهد مودزلي للطب النفسي في لندن عام 1983م.
حصل على شهادة البور في الطب النفسي من جامعة لندن عام 1985م ثم حصل
على شهادة البوبد الأردني في الطب النفسي من المجلس الطبي الأردني عام 1987
م حيث عين استشارياً في الطب النفسي في كلية الطب جامعة الملك فيصل، تزوج
عام 1399هـ وله خمسة أولاد: ثلاثة أبناء وابنتان، أكبرهم في الحادية عشرة
وأصغرهم لا يتجاوز ستة أشهر، وابنه الأول اسمه مبارك.
عرفان:
لقد كان رحمه الله تعالى يعيش لدعوته الإسلامية، ويحيا على البذل لها
والتضحية في سبيلها، والجهاد بكل سبيل لإعلاء كلمتها. وكثيرون هم الذين كان
رحمه الله سبباً في هدايتهم وتوجيههم وتربيتهم على الإسلام، سواء في بلده أو
خارجها، وعلى الأخص بريطانيا. وبالرغم من أنه لم يتخصص في الشريعة إلا
أنه كان داعية لها، وكان يسعى جهده من أجل العمل للإسلام فمن ذلك أنه أنشأ حلقة
لدراسة العلوم الشرعية في عام 1983م في لندن باللغة العربية وباللغة الإنجليزية،
ووصل عدد المواظبين عليها إلى ما يزيد على السبعين حيث أصبحت معلماً متميزاً
للدعوة الإسلامية على منهج أهل السنة والجماعة هناك، وانتقلت هذه الحلقة إلى
المنتدى الإسلامي الذي كان هو أحد العاملين على إنشائه.
إن أسرة المنتدى الإسلامي والعاملين به ليشعرون بفراغ كبير بفقد الأخ
الدكتور عبد الله الخاطر، ويشاركون أهله وإخوانه ومحبيه ومعارفه العزاء
والمواساة، ويسألون الله له الرحمة والرضوان، وأن يسكنه فسيح جناته في مقعد
صدق عند مليك مقتدر وأن يحشره الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ألئك رفيقا.
وبهذه المناسبة تقدم البيان كلمتين لاثنين من إخوانه الذين صحبوه وعرفوه
عن قرب، رحمه الله رحمة واسعة.(25/85)
رثاء ووفاء
د. عبد الرزاق الحمد
أخ حبيب، وخل وَفِي، ذلك الذي وقع خبر فقده علي كالصاعقة، ...
وهزني فأربك كياني، وصدمني فأخل توازني، وأغمني فوق المصيبة غما، إذ كنت ... ... ...
بعيداً فلم أتمكن من مواساة قلبي بنظرة أخيرة ولا بخطوة أخطوها في تشييع ... جثمانه، وحضور جنازته، أو حتى مشاركة أهله وأحبابه ومواساة نفسي بمواساتهم، وتعزيتها بتعزيتهم.
لقد عرفته منذ أكثر من خمسة عشر عاماً حين كنا ندرس معاً في كلية واحدة،
وكانت بيننا أخوة في الله، ومحبة وود عميق، أسأل الله أن يدوم ذلك في يوم ...
القيامة في ظل عرش الله تبارك وتعالى، يوم تنقطع الوشائج، وتتصرم العلائق،
إلا بين المتقين [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] .
عرفته صاحب مبدأ وعقيدة تملأ عليه حياته وقلبه، يعتز بها فوق كل شيء،
ويقف عند حدودها في كل شيء وكانت له مواقف مشرفة أعتز أنني أخ وصديق
محب لصاحبها.
عرفته داعية إلى الله بنفسه وبما يملك أينما كان، وحيثما حل، فلم تخدعه
الدنيا، ولم تقعد به العقبات، وأنشطته ومحاضراته شاهد على ذلك.
عرفته واسع الأمل، كبير التفاؤل، لا تقف غاياته وآماله عند نفسه ولا عند
الدنيا وأعراضها، وعرفت فيه الطموح والعمل الجاد الدءوب والصبر والاحتساب،
وأخيراً عرفته وفياً لإخوانه وأحبابه بعيداً عن الحقد والريبة والغل، أحسبه كذلك.
ذلكم هو الأخ الحبيب الدكتور عبد الله بن مبارك بن يوسف الخاطر الذي وافاه
أجله يوم السبت 2/6/1410هـ، غفر الله له ولنا ورحمه وعافاه، وعفا عنه،
وأكرم نزله، ووسع مدخله.
اللهم لا تفتنا بعده، ولا تحرمنه أجره واغفر لنا وله.
ومن مشاعر الأخوة والمحبة والوفاء له كانت هذه القصيدة:
أدمع العين منهلَّ السحاب ... أيطفئ لوعتي طولُ انتحابي
وكيف وفي الفؤاد لها اعتلاج ... من النيران يهدر كالعُباب
أكف الدمع عن عيني كأني ... أجرَّم أو أهدد بالعقاب
وفي نفسي من اللأواء شيء ... يفتت شدةَ الصخر الصلاب
تكاد جوانحي من فرط حزن ... من الزفرات تُضرَم بالتهاب
وزاد من البلية في مصابي ... غيابي عن شهودك واغترابي
وأني لم أمتِّع منك عيني ... وما غبرت وجهي للثواب
يكاد القلب من أسف عليه ... يواسيني بطيفك عن عتابي
فمن لوم وأحزان توالى ... كضرب البِيض أو طعن الحراب
فصارت لوعتي تورى بقلبي ... ومنها القلب يرمي بالشهاب
كما البركان لا ينفك حتى ... يحمحم في الفضاء وفى الهضاب
فلا دمعي سيطفئ نار حزني ... ولا كتمي يخفف من مصابي
فحسبي أن من أبكيه شهم ... عفيف القلب واليد والثياب
له في الحق سبق والتزام ... مواقفه على نهج الكتاب
صدوق ما تراه أخا نفاق ... جزيل البذل من غير اطّلاب
يعيش من التفاؤل في خضم ... من الآمال ممتد الرحاب
له جلد على الغايات حتى ... ليجنيها على رغم الصعاب
سليم الصدر رغم (الربو) فيه ... تنزه أن يدنس بارتياب
وفي الود مرضيُّ السجايا ... بدهر عمه طبع الذئاب
غدا للدعوة الغراء سيفاً ... ينال العز في هجر القراب
فلست تراه إلا في هواها ... حثيث الخطو ينعم في الجواب
أعبد الله رحت وأنت غض ... طري العود ريان الشباب
فإن أبكي عليك فذاك ضعفي ... ونبل الضعف في حب الصحاب
وإن أغلو بمدحك إن عذري ... علوك في فؤادي وفي الجناب
وإن منا وجدت له عيوباً ... وعيبك في المناقب كالسراب
عليك الرحمة المهداة تترى ... كعبق المسك في الظل الرطاب
دواماً ما تعاقبت الليالي ... وما درج النسيم على التراب
ويجمعنا بظل العرش ربي ... إذا انفصمت عرى يوم الحساب
أرى الأحياء يقصر عن مداهم ... بأن الموت ذو ظفر وناب
وما أعياه من شيب حجاهم ... ولا أعياه من غض تصاب
وكل الناس تترى في قطار ... وإن جهلوا بساعات الركاب
فمن يضع الحياة على هواه ... بمرح حسرة سوء العذاب
ومن تكن المعالي في مناه ... لنصر الدين يسعد في المآب
أخا الإسلام ما الغايات إلا ... جهاد للشهادة في احتساب
ترقع عن معاقرة الدنايا ... وعن غدر وغل واضطراب
وأفسح للسماحة كل صدر ... بحب أخيك معلول الرضاب
فما الآجال تفسح باختلاف ... وأعداء الشريعة كالعقاب
طواغيت الخيانة قد تداعوا ... بنهش لحومنا مثل الكلاب
ونحن على التحزب والدعاوى ... نعد جيوشنا يوم الضراب
وأسباب الفلاح لنا اتحاد ... وإعداد وصبر في الطلاب
وفي الأحداث معتبر ولكن ... قليل من يوفق للصواب(25/87)
كنت قدوة وستبقى رحمك الله
خالد عبد الله أحمد
كان للأخ الفاضل الكريم عبد الله بن مبارك الخاطر رحمه الله تعالى جوانب
مشرقة في حياته، وستبقى مضيئة بل أكثر إضاءة بعدما جاءه الأجل وانتقل إلى
خير مما كان عليه. فرحمه الله رحمة واسعة ونور عليه في قبره، ونعَّمه في
برزخه ويوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وبحكم قربي من الأخ رحمه الله تعالى، فإنه وبحق قد كان في محل من
يصلح للاقتداء به، وهذه جوانب قد رأيتها في حياة الأخ، واستفدت منها وستبقى
إن شاء الله موضع استفادة لكل طالب حق.
أولاً: الشعور بواجب الفرد تجاه أمته ودينه، فلقد كان رحمه الله ذا همة
عالية في تسهيل أمر المصلحة العامة والتي كانت مقدمة على المصلحة الخاصة،
وهذه خصلة عظيمة يحتاجها كل داعية حتى يسير إلى بر الأمان، ويصدق عليه
قول صاحب الظلال في الصحابة: إنهم قد خلصوا نفوسهم من حظ نفوسهم.
ثانياً: إثبات شمولية هذا الدين الرباني العظيم، فلقد تخصص رحمه الله
تعالى في دراسة الطب النفسي حتى استطاع أن يحصل على الزمالة (ما تعادل
درجة الدكتوراه) فكان أن سخر هذه الدراسة لخدمة المسلمين فجاءتني مقالاته في
هذه المجلة (مجلة البيان) عن مشاهداته في بريطانيا، وسجلت له محاضرات قيمة
تربوية لها صبغتها الشرعية وهي كالآتي:
1 - مداخل الشيطان على الصالحين.
2 -كيف أستفيد من الطب النفسي؟
3 - ماذا يحصل إذا التزمت بديني؟
4 - الهزيمة النفسية عند المسلمين.
5-الحزن والاكتئاب
6- فن التعامل مع الإنسان.
7 - المخدرات.
وكأنه كان يهيب بأصحاب التخصصات غير الشرعية: إنه بالإمكان
خدمة دينكم ومنهجكم من خلال تخصصاتكم.
ثالثاً: الواقعية التي نلمسها جميعاً من عناوين محاضراته رحمه الله، حيث
كانت منطلقة من واقع الناس واحتياجاتهم وهكذا الإيجابية فيما ننقله إلى الناس
ونطرحه بين أيديهم، فإلى الخطباء والوعاظ والكتاب والمحاضرين، إلى كل أولئك
وغيرهم لتكن منطلقاتكم واقعية لتصيب الهدف وتقترب منه.
رابعاً: صبره وتحمله لما يريد أن يصل إليه، فقد كان يأخذ بما يسمى بسياسة
النفس الطويل، فالأعداء يكيدون، ووعد الله قائم لا محالة، والمستقبل لهذا الدين
كما وعد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فكيف يمكن لداعية أن يبقى على ما
هو عليه إن كان ممن يستعجل الثمرة؟
خامساً: حين شُيِّعت جنازة الأخ رحمه الله، ورأيت الجمع الغفير من صغير
وكبير بين باك مشدوهٍ أيقنت قول القائل: (إنك لن تسع الناس بمالك ولكن بحسن
خلقك) فلقد كان والحق يقال سمحاً طيب المعشر مع أهله، وأبنائه، ومن يكبره
ويصغره سناً، ففاز بحب الناس، فكانت بشرى خير لمن عرفه، وذلك لأن الله
يقول: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً] وكما جاء في
السنة في بيان أن أهل الصلاح يوضع لهم القبول في الأرض.
وفى الختام، أسأل الله العلي القدير والمحي المميت أن يرزق الأخ درجات
الأنبياء والصديقين والشهداء، وأن لا يحرمنا من أن نجتمع به وأمثاله من أهل
الخير والصلاح في ظلال على سرر متقابلين، آمين.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «يقول عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل
الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» . رواه البخاري(25/90)
الصفحة الأخيرة
بعثات التنقيب تزوير في التراب والحجارة
-التحرير-
وأخيراً جاء التاريخ يحسم الجدل الدائر حول تكاثف حركات التبشير في
الخليج، فبعد أن حفرت بعثات التبشير أركانها في أطراف الجزيرة العربية مستعينة
بغفلة المسلمين أولاً وبالمستعمرين ثانياً، وبغض نظر المنتفعين ذوي النظرة
القصيرة ثالثاً؛ تحاول أن تلفق لوجودها هناك أسانيد تضفي على هذا الوجود صفة
قانونية، والأسانيد موجودة وهي هناك في بعثات التنقيب عن الآثار، وبعثات
التنقيب وبعثات التبشير منذ كانت وبخاصة في العالم الإسلامي خطان متوازيان
ومتساندان بل ومتداخلان في أحيان كثيرة.
والشهادة التي جاءت لتحسم هذا الجدل قدمتها البعثة الفرنسية للتنقيب عن
الآثار في الكويت، حيث (اكتشفت هياكل أثرية لكنيسة قديمة (!) في منطقة القصور بجزيرة فيلكا) [1] .
والاكتشاف كان عرضياً، أي إن بال المنقبين المعروفين بالموضوعية كان
خالياً من البحث عن كنيسة! هل تريد دليلاً؟ تابع الخبر: (إن البعثة الفرنسية
نقبت عن أجزاء الكنيسة في السنوات الماضية دون أن تعرف بأنها كنيسة (!) إلا
أنها اكتشفت في حملتها لهذا العام.. الأجزاء المتبقية التي تدل على أنها لكنيسة (يا
للغرابة) بجميع تفاصيلها الصغيرة، خصوصاً في الجانب الهندسي والمعماري! .
(أرأيت!) .
وليس هذا فحسب فالشهادة الترابية والحجرية تخبرنا بما هو أكثر! فتشهد:
(على أن الكنيسة ظلت تعمل حتى العصر العباسي (أوله أو آخره؟ !) ولزيادة
الاطمئنان حتى لا يتسرب الشك إلى هذا الخبر فهو مدعم بتأكيد البعثة الفرنسية التي
(محلها الصدق) ، والتي أكدت أن الكنيسة هجرت في فترات متقطعة (!) وأعيد
استخدامها فيما بعد، (!) .
وقاصمة الظهر تأتي في نهاية الخبر فالبعثة (لم تستبعد احتمال (تقول:
احتمال، فشعارها مخافة الله والبحث العلمي) أن تكون الكنيسة قد حولت فيما بعد
إلى مسجد (يا حرام!) وأن البعثة قد حاولت إثبات ذلك بالتنقيب في أحد الجوانب
إلا أن الدلائل لم تحسم هذا الافتراض) .
لقد شهد تاريخ المسلمين كثيراً من تزوير اليهود والنصارى قديماً وحديثاً،
ولعل هذه الحوادث تذكرنا بحادثة قديمة حين أظهر اليهود في بغداد كتاباً محفوراً
على قطعة من نحاس، وزعموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتبه ليهود
خيبر وأسقط عنهم الجزية، وشهد على ذلك من الصحابة سعد بن معاذ، ومعاوية
بن أبي سفيان وطلبوا إسقاط الجزية عنهم بناء على ذلك. ولكن كان في المسلمين
علماء يكشفون عن هذا الزيف حيث عرض الكتاب على الخطيب البغدادي، فأثبت
أنه مزور بدليلين تحملهما الرقيقة المزعومة وهما أن معاوية أسلم يوم فتح مكة في
السنة الثامنة وفتح خيبر كان سنة سبع، وسعد بن معاذ مات بعد غزوة الخندق سنة
خمس قبل فتح خيبر.
فمن لنا اليوم من العلماء حتى يكشف هذا العبث الذي يُقدم إلى أجيالنا المسلمة
على أنه تاريخ موثق؟ !)
__________
(1) جريدة القبس 13/12/1989م.(25/96)
شعبان - 1410هـ
مارس - 1990م
(السنة: 4)(26/)
الافتتاحية
حوار الأقرباء أم البعداء؟
-التحرير-
دعا مركز دراسات الوحدة العربية إلى ندوة في القاهرة ما بين 25 - 27
أيلول/1989 وتحت عنوان (الحوار القومي - الديني) وقد حضر هذه الندوة عدد
غير قليل من الكتاب القوميين الذين يرون الصلة ما بين العروبة والإسلام، أو
بدءوا بالتكلم عن الإسلام ودوره الحضاري، كما حضرها القوميون العلمانيون
وبعض الإسلاميين والمشايخ، وكانت الموضوعات تدور حول تطبيق الشريعة
الإسلامية، ومحاور الالتقاء والتفاهم بين العروبيين والإسلاميين، والأزمة التي تمر
بها الأمة ودور المفكرين في هذه الظروف، وقد نشرت مجلة المستقبل العربي
بعضاً من الأوراق التي قدمت للندوة، كما نشرت جريدة الشرق الأوسط اليومية
ملخصاً ليوميات الندوة.
ولنا على هذه الندوة الملاحظات التالية:
1 - إن فكرة الحوار والتواصل، وسماع الأطراف من بعضها، والتعرف
على الفكر الآخر، شيء جيد ولا غبار عليه بشرط أن يكون الرائد إلى ذلك هو
التوصل إلى الحق وليس الترف الفكري. وجميل أن يتراجع الناصريون والقوميون
ويعترفوا بقصورهم السابق في دراستهم للإسلام، وأن التيار القومي عندما حكم أبعد
الإسلام وبطش بدعاته، ونرجو أن تتوضح الصورة أكثر في المستقبل ويعترفوا
بأن عبد الناصر أساء للعروبة والإسلام.
2 - من الواضح أن كثيراً ممن شاركوا في هذه الندوة كانوا يطرحون حلولاً
توفيقية وسطية ما بين الإسلام والقومية العلمانية، وكأن لسان حالهم يقول: قربوا
خطوة ونقرب أخرى، حتى نلتقي في منتصف الطريق، فالأستاذ محمد فائق (وزير
إعلام مصري سابق) ينتقد النظرة السلفية التي تريد إعادة عجلة التاريخ إلى
الوراء! ! .
والأستاذ فريد عبد الكريم يدعو إلى عدم إقحام الدين كل دائرة من دوائر
نشاطنا. والدكتور عصام نعمان ركز على أنه لا عصمة للفقهاء (لم يقل بعصمتهم
أحد من المسلمين) ولكنه يريد أن يقول: إن باب الاجتهاد مفتوح للجميع، وبمثل
هذا قال مسعود الشابي واتهم الإسلاميين بأنهم يحتكرون المرجعية الدينية. والدكتور
محمد عمارة يجوز أن يتولى القضاء الإسلامي رجل غير مسلم لأنه منفذ للقانون
فقط.
وقد طالب الدكتور رضوان السيد كل طرف بالتنازل: (فعلى القوميين
التقدميين أن يسقطوا من أجل الحوار شرطهم العلماني الذي يفصل أمتنا عن تاريخها، وعلى الإسلاميين أن يسقطوا من أجل الأمة شعار تطبيق الشريعة الذي يشرذمهم
في الراهن ولا يجمع) [1] ودعا فهمي هويدي للالتقاء حول موضوع الحرية وحقوق الإنسان والقضية الفلسطينية كقضايا متفق عليها الآن بين الطرفين.
هذا الطلب حول التنازلات يأتي من طرف القوميين رغم أن موقفهم ليس هو
الأقوى، وهم الذين طلبوا الحوار ودعوا إليه ومع ذلك فإنهم يشترطون على الطرف
الآخر (الإسلاميين) أن يكون متنوراً ويؤمن بالديمقراطية والتعددية، أي أنهم
يريدونه إسلامياً عصرانياً يتنازل لهم ويلتقي معهم في منتصف الطريق، وإذا كانوا
جادين في الحوار فلماذا لا يسمعون من الطرف الأقوى على الساحة؟ وقد أحسن
الدكتور رضوان السيد في الرد عليهم عندما قال: (إذا كنتم تقصدون لجوء بعض
الحركات الإسلامية إلى العنف، فإن الماركسيين الجدد هم أول من دعا إلى الحرب
الشعبية الداخلية، ولم تتهموهم بالظلامية وعدم الاستنارة) [2] .
3 - إن شعارهم الذي رفعوه هو (الحوار القومي-الديني) ولم يقولوا (القومي-
الإسلامي) وهذا مقصود طبعاً لأن الديني تعني أي دين، وفيه أيضاً تحجيم للإسلام
على أنه (نحلة) أو مذهب يستفاد منه روحياً واجتماعياً، والكل يعلم أن الإسلام دين
شامل مهيمن، مكون للأمة من جميع جوانبها.
4 - إن ملاحظاتنا هذه لا تعني السلبية أو النقد، فبعض المشاركين تكلموا
كلاماً جيداً - وإن من وجهة نظرهم - ولكنه يتصف بالرزانة والتعقل، وإذا كانوا
سيساعدون فعلاً في إزالة القهر المفروض على المسلمين فهذا شيء طيب، ونريد
منهم التدليل على هذا لأن الإسلاميين ذاقوا من الاتجاه القومي الويلات، وكلام
فهمي هويدي أن الإسلاميين وقعوا في أسر الماضي، وإن كان فيه شيء من الصحة
ولكن هل يريد منهم نسيان هذا والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين؟
5 - بعد فترة من انتهاء هذه الندوة سئل أحد الدعاة الإسلاميين عن رأيه في
الحوار مع العلمانيين، فرحب بهذا كثيراً، بل دعا إلى الحوار مع الكل، مع
المستشرقين والفاتيكان… وليس هذا مجال التعليق على جدوى أو أهمية مثل هذه
الحوارات، ولكن أليس من الأجدى والأولى الدعوة إلى الحوار مع الفصائل
الإسلامية ودعوتهم إلى التعاون والتقارب والتنسيق، وإذا كنا غير متحفظين على
أي حوار نافع فأصحاب المنهج الواحد أولى بالمعروف.
__________
(1) مجلة المستقبل العربي، العدد 130، الصادر في شهر 12/1989.
(2) المستقبل العربي /130.(26/4)
مصطلحات إسلامية
التوبة
إعداد: عادل التل
المعنى اللغوي:
التاء والواو والباء في أصل اللغة، كلمة واحدة، تدل على الرجوع. قال في
اللسان: التوبة: الرجوع عن الذنب، والتوب مثله. قال ابن منظور: أصل تاب
عاد إلى الله ورجع. ومعنى تاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة.
التواب بالنسبة لله تعالى تعني: كثرة قبوله توبة العباد حال بعد حال، أما
بالنسبة للعبد: العبد الكثير التوبة، ومن الألفاظ التي تشارك هذا اللفظ بالمعنى:
ثاب، وأناب، وآب.
المعنى الاصطلاحي:
يجتمع الاستغفار والتوبة في كثير من الدعاء، وطلب المغفرة يعني طلب
الستر، ففي اجتماع ذلك مع التوبة يكون المعنى متكاملاً لذلك كان رسول الله-صلى
الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم
أكثر من سبعين مرة» رواه البخاري.
شرائط التوبة:
1 - ترك الذنب لقبحه: أي بالإقلاع عن المعصية سواء كانت من الكبائر أو
من الصغائر، والأصل أن يكون ترك الذنب قد جرى بإرادة حرة وإلا لم تعتبر توبة
إذا كانت بطريق القهر أو العجز.
2 - الندم على ما فرط: وهو أن يندم المذنب على فعلته التي تركها ويشعر
بالحزن والأسف كلما ذكرها وهو مهتم بذلك لشعوره بعظم الذنب وقبحه وإدراكه
مبلغ التفريط الذي صدر منه.
3 - العزيمة على ترك المعاودة: وهي النية التي تنشأ في قلب التائب تحقق
صدقه بالتوبة وهي بمثابة العهد الذي يقطعه بعدم الرجوع إلى الذنب وتحول الإرادة
من المعصية إلى الطاعة.
4 - تدارك ما أمكنه من الأعمال: إذا كانت التوبة من معصية كانت بين
العبد وربه، فإن كانت متعلقة بتقصير في صيام أو زكاة أو غير ذلك، فلا بد من
تأدية العمل موضوع التقصير حسب المطلوب شرعاً. وأما إذا كان الذنب متعلق
بحق الناس، فلا بد من التحلل منهم وطلب الصفح أو إرجاع الحق إلى أصحابه إذا
كان مادياً. وتكون التوبة تامة إذا تحقق معها الاتجاه نحو الطاعة والعمل الصالح،
قال تعالى: [ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحاً فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَاباً] .
موضوع التوبة:
تشمل التوبة جميع الذنوب الصغيرة والكبيرة، وقد روى أنس بن مالك قال:
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: «يا ابن آدم إنك
ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت
ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني
بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة» صحيح
رواه الترمذي.
ولا بد من التساؤل إلى متى تصح التوبة؟ قال تعالى: [إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكَانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً، ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ
قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً]
[النساء: 17-18] .
روى ابن ماجه والترمذي بإسناد حسن قال: رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-: «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر» .
أما الجهالة فقد روى ابن جرير عن قتادة عن أبي العالية أنه كان يحدث أن
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو
جهالة. وقال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله تعالى خطأ أو عمداً فهو جاهل
حتى ينزع عن الذنب. وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]
ذكر القرطبي في التفسير أقوالاً للعلماء في معنى التوبة النصوح:
1 - هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع، وروي عن ابن
مسعود بسند صحيح (كما ذكر ابن حجر) مثل ذلك. وعن عمر وأبي معاذ أيضاً.
2 - قال قتادة النصوح: الصادقة الناصحة، وقيل الخالصة، يقال: نصح
أي أخلص له القول.
3 - قال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر إذا ذكره.
من أحكام المصطلح:
إن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين ولا يطردهم من الجماعة إن
أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين، بل يفسح المجال لهم ويبين لهم الطريق ويشجعهم
على سلوكه، فلا حرمان من رحمة الله لمن لجأ إليه، وذلك كما يفعل أصحاب
الديانات الأخرى حيث يقوم رجال الدين بطرد بعض الأفراد من الرحمة.
والتوبة واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو
كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة..
يقول تعالى ذكره: [وتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
وقال أيضاً: [إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ] ويقول رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت
خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما
صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا
أنت» رواه البخاري وابن ماجه والنسائي.(26/7)
مشاهدات في أوربا
مدرسة طارق بن زياد
محمد سليمان
عندما وصلنا إلى مدينة (هلموند) في هولندا، والتي تبعد عن العاصمة
أمستردام حوالي (130 كم) ، كان القائمون على المسجد يرددون كثيراً (المدرسة
الإسلامية) ، فسألتهم عن هذه المدرسة، فقالوا: الأفضل أن تراها وهي قريبة في
مدينة مجاورة اسمها (إندهوفن) ، وفي اليوم التالي اتجهنا إلى المدرسة التي أطلقوا
عليها اسم (طارق بن زياد) ، وهي مدرسة ابتدائية متكاملة بفصولها ومرافقها قدمتها
الدولة للجالية الإسلامية في هذه المدينة.
تجولنا في فصولها ومرافقها، وكان كل شيء يوحي بأنها إسلامية، ثم كان
هذا الحوار مع أخوين من الجالية العربية المغربية وهما من الأعضاء الخمسة
المشرفين على المدرسة:
-كيف بدأت قصة المدرسة؟
- كنا نعاني كثيراً من خطر ضياع الأطفال في المجتمع الغربي، فأسسنا
مسجداً للصلاة بالاشتراك مع الإخوة الأتراك، وبدأنا بتعليم الأطفال القرآن الكريم
في هذا المسجد في عطلة نهاية الأسبوع، ثم ضاق المسجد بنا فانتقلنا إلى مكان
أوسع وفكرنا في زيادة حصص اللغة العربية، وكنا نعاني من عدم وجود مدرسين
مؤهلين، وفي عام 1986 تفاقمت مشاكل الاختلاط في المدارس، وكنا نذهب
كمندوبين عن الجالية نناقش هذه المشاكل مع إدارة المدرسة، ثم تكلمنا مع البلدية
حول خصوصية المسلمين وثقافتهم، فقالوا: هذا قانوننا، وإذا كنتم تريدون غير
هذا فابحثوا عن مدرسة خاصة بكم، وقال أحد الموظفين في البلدية: عندي القانون
الذي يسمح لكم بمدرسة خاصة بكم، من هنا بدأت الفكرة، ذهبنا إلى البلدية نبحث
معهم الموضوع، وطلبنا من بعض الهولندلين مساعدتنا فقالوا: إذا كنتم تستطيعون
صعود الجدار فابدءوا، ولكننا لم نيأس.
-كم من الوقت استمر هذا البحث؟
حوالي ثمانية أشهر، في 31/3/87 دفعنا الطلب إلى البلدية، وبعد شهر
وجدنا تجاوباً وسجلنا أنفسنا كجمعية، وقدمنا لهم قائمة بأسماء الأطفال الذين يرغب
الآباء في تدريسهم في مدرسة إسلامية، وافق المجلس البلدي بعد مناقشات حادة فيما
بينهم، ثم وافقت المحافظة والوزارة بعد ضمان من مؤسسات تعليمية.
- هل يعني هذا أن الوزارة وافقت على تقديم البناء وكل تكاليف المدرسة
ورواتب المدرسين والموظفين؟
- نعم، ولكن نحن ندفع تكاليف النشاط فقط.
- متى افتتحت المدرسة؟
- في 14/8/88 وكان عدد الأطفال الذين سجلوا (160) طفلاً تتراوح
أعمارهم ما بين (4-8) سنوات ولكن الذين حضروا فعلاً كانوا (45) ثم زاد العدد
بعد شهر إلى (104) والمدرسة الآن تحوي فصلين حضانة وثلاثة سنوات ابتدائي.
- من المشرف الفعلي على المدرسة؟
-لجنة مؤلفة من خمسة أعضاء كلهم مسلمون ومن جنسيات مختلفة، وهم
الذين يشرفون على المناهج.
- كم عدد المدرسين المسلمين؟
- عندنا ثلاثة مدرسين للدين واللغة، ومُدرسة هولندية مسلمة.
- والبقية؟
- المدير هولندي وهو متجاوب معنا تماماً لأنه جاء حسب الشروط التي أعلن
عنها، وبقية المدرسين هولنديون أيضاً.
- هل تحذف بعض الفقرات من المناهج التي تخالف الإسلام؟
- نعم، مثل كتاب القراءة، هناك صفحات عن أعياد النصارى اتفقنا مع
المدير على حذفها.
- ودروس الموسيقى؟
ليس هناك درس موسيقى، وعوضنا عن هذا بتعليمهم الأناشيد، ويتعلمون
التجويد طبعاً، وعندما جاء المفتش سمع من الطلاب وهم يقرءون فأعجبه ذلك.
- هل هذه أول مدرسة من نوعها في هولندا، أعني مدرسة حكومية إسلامية؟
نعم، وقد فتحت بعدها مدرسة في أمستردام تشرف عليها الجالية المصرية،
ومدرسة في روتردام تشرف عليها الجالية التركية، ونتوقع في هذه السنة أن يصل
عدد المدارس الإسلامية إلى سبع عشرة مدرسة.
- هل تخططون لتأهيل مدرسين؟
بعد إنشاء هذه المدارس، بدأ بعض الشباب بالتوجه نحو التأهيل التعليمي،
ولكن في أمستردام هناك كوادر من الإخوة الأتراك متخصصون في التدريس.
- هل تجدون مضايقات من الشعب الهولندي؟
في البداية، حصلت مضايقات، أحرقوا المكتب وهددوا بالهاتف والرسائل.
- هل هو حزب عنصري؟ .
نعم، ولكنهم لا يصرحون بهذا، والآن استقرت الأمور وليس هناك مشاكل.
شكرت الأخوة في (إندهوفن) و (هلموند) على هذا اللقاء وهذا التعرف على
المدارس الإسلامية، والتي تشكل إحدى الحاجات الرئيسية للجالية الإسلامية في
أوربا، وأظن أن الدعم الذي يلقاه المسلمون في هولندا لتأسيس مدارس إسلامية لا
يوجد مثيل له في باقي دول أوربا.
إن إبعاد التأثير الغربي عن أطفال المسلمين من أهم ما يجب العناية به، وهو
هدف من أهداف المنتدى الإسلامي، كما أن موضوع التعليم بشكل عام هدف من
أهداف مجلة البيان.(26/10)
في التربية والعمل
وقفة مع الدعاة
عبد اللطيف الوابل
إن المتأمل في حال الأمة الإسلامية اليوم وما وصلت إليه من فرض نفسها
على الواقع حتى أصبحت ترى أفواجاً من الشباب يلتزمون في دين الله سراعاً في
قوة وحماسة وعزم؛ يجد في نفسه أملاً قوياً ويحس في صدره بفرحة غامرة،
وحين يمد خطوة قليلاً فيدخل في خضم هذه الأمواج المباركة يقف متألماً حزيناً إذ
يرى الأمراض الصغيرة الخطرة تصيب بعض هذه الأفواج الموعودة بنصر دين الله، ... هي صغيرة ويمكن تلافيها حين يتيقظ لها ذوو الألباب وهي خطرة لأنها سرعان
ما تنتشر في صفوف الدعاة كانتشار النار في الهشيم فتهدم هذا البنيان المبارك
وتهلكه، ويتذكر المرء قول الشاعر:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها كلام
ولما كان الخلل في ضبط الكلام وعدم الالتزام بمنهج الإسلام في استقامة
اللسان من أهم أسباب هدم صفاء الأخوة ونقاء المحبة، بل من أهم أسباب تقويض
البنيان وضياع الجهود وتفرق الكلمة أحببت أن أذكِّر هذه الأفواج المباركة ببعض
معالم هذا المنهج وذكر بعض الأمثلة مما يحصل في صفوف الدعاة ثم أبين ما
يحصل من جراء الانحراف عن الالتزام بهذه المعالم الواضحة، مع يقيني بأن كثيراً
منها قد لا يخفى على أغلب طلبة العلم والدعاة ولكن واجب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر يلزم المرء بنصح إخوانه وتذكيرهم براءة للذمة وحرصاً على جمع
القلوب ووحدة الكلمة.
وقبل البدء في الحديث عن هذه الأمور أحب أن أنقل كلمة للأستاذ سيد قطب
رحمه الله حين تطرق لظلال قول الله سبحانه [وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ
إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُواً مُّبيِناً] يقول رحمه الله:
(فالشيطان ينزع بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت، وبالرد السيئ يتلوها فإذا جو الود
والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء.. والكلمة الطيبة تأسو جراح
القلب وتندي جفافها، وتجمعها على الود الكريم) .
أولاً: منهج الإسلام في استقامة اللسان:
1 - اختيار أحسن اللفظ وأجمله حين الكلام سواء كان ذلك في محاضرة أو
موعظة أو نقاش علمي أو نقد بناء أو نصيحة صادقة أو غير ذلك لأن في ذلك كله
أماناً من نزغات الشيطان وتسويله.
2 - الإمساك عن الكلام إلا لمصلحة راجحة والتحرز الشديد من الكلمة
وحصرها في نطاق ضيق، يقول الإمام النووي رحمه الله: اعلم أنه ينبغي لكل
مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى
استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام
المباح إلى حرام، أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.
وكم كلمة أشعلت حروباً وأوقدت عداوة الدهر بكامله! ! ..
3 - وزن الكلام وضبطه والتأمل فيه وفي عواقبه قبل إخراجه وعدم التسرع
فالكلمة إذا خرجت لم تعد.
4 - القول بالعدل والصدق وإن كان ذلك على أقرب قريب سواء كان ذلك
مختصاً بالأفراد أو الجماعات أو المؤسسات الإسلامية، والحذر كل الحذر من
مسايرة الحماس والعواطف الجياشة وخاصة في المحافل العامة وعلى منابر النصح
والإرشاد.
5 - البعد عن تحريف الكلام وليه والمغالطة فيه وأن يكون كلامه لإخوانه
واضحاً صريحاً غير محتمل للتأويلات للشحناء والبغضاء والتدابر وانعدام الثقة.
6- الالتزام بالقول وتصديقه بالفعل وعدم الفصل بينهما.
7- ترك الجدل والمراء وكل صنف من أصناف الكلام المؤدية إلى فساد
القلوب وشحناء الصدور من لمز أو همز أو غمز مع اللين في القول لإخوانه
المؤمنين وترك الغلظة والفحش.
8 - محاسبة النفس على كل كلمة خرجت والنظر في عاقبتها والخشية من الله
سبحانه حين السؤال ووزنها بميزان الله أهي مما يرضي الله أم مما يسخطه، فإن
كانت الثانية أتبع السيئة بالحسنات.
9 - التحلي بلباس التقوى في كل حال من أحوال الكلام فإن الله هو المطلع
وهو الذي سيحاسب، كيف وقد قال سبحانه: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ
وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
ثانياً: بعض الأمثلة الناتجة عن عدم الالتزام بهذه المعالم:
قبل البدء في ذكر هذه الأمثلة أود أن أنبه أن ذكري لها ليس من باب الشماتة؛ وإنما من باب بيان عيوبنا حتى نصلحها ونتناصح بيننا حتى يستقيم البناء ولأجل
أن يتنبه لها المربون المصلحون فيحفظون بتجنبها هذا البناء الشامخ ويسدون الباب
على أعداء الإسلام من المنافقين ممن يتربصون بهم الدوائر ويسعون في إشعال نار
الفتنة بين أفراد الحركات الإسلامية الملتزمة بمنهج السلف الصالح.
1- أصبحت أعراض كثير من الدعاة لحماً طرياً يؤكل بالليل والنهار فالغيبة
تُعمل خنجرها في لحوم الدعاة إلى الله وبألسنة مَن؟ إنها ألسنة إخوانهم وأحبابهم
وصدق من قال:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
فترى طالب العلم يدرس في نهاره؛ بل ويذكِّر الناس بتحريم الغيبة ويتلو
عليهم قول الحق سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً
فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ] ثم يجلس مع صاحبه في المساء
الساعات الطويلة لا على صحيح البخاري أو صحيح مسلم أو أمر يهم شأن المسلمين
بل على ذكر فلان الداعية، وماذا له وماذا عليه، وهكذا حتى يجر الحديث بعضه
بعضاً فلا ينتهي مجلسهم إلا وقد قاموا عن مثل جيفة حمار، ضيعوا أوقاتهم وتحملوا
أوزار غيرهم وهتكوا أعراض إخوانهم، ولو كان هذا الحديث لمصلحة شرعية
راجحة لكان الأمر يسيراً، لكنه أصبح كالفاكهة يتفكه بها. فأين أولئك من قوله
سبحانه: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ومن قول الرسول -صلى الله
عليه وسلم-: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم -
إلا حصائد ألسنتهم» .
2 - الرجم والتخرص دون تبين أو تمحيص أومعرفة، فتسمع أحياناً في
مجتمع الدعاة ألفاظاً عجيبة قد لا تسمعها من عوام الناس فترى بعضهم يصف بعضاً
لأنه لم يوافق هواه أو ليس على شاكلته بأنه عميل وذاك جاهل، وهذه المؤسسة
مشبوهة، وتلك مجلة فيها كيت وكيت، وهكذا تتوالى الألقاب والأوصاف، والله قد
خاطب المؤمنين بقوله: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] وفي الحديث: «إياكم والظن
فإن الظن أكذب الحديث» ، ويقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة:
«إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان، الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها
درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في
جهنم» ويقول الحسن البصري رحمه الله: (ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه) .
3 - بخس الناس أشياءهم وترك العدل في القول فتسأل فلاناً الداعية عن كتاب
معين أو مركز إسلامي أو مجلة أو عن داعية آخر أو غير ذلك فيحدثك ويجيبك
حسب هواه ورغبته فإن كان السؤال عن أمر موافق لهواه رفعه فوق السماء وإلا
كال له الشتم والمذمة، وأقل أحواله أن يطلب منك غض الطرف عنه وعدم
الالتفات إليه فأين المسكين من قول الله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] وقوله: [وإذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] وقوله: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] وحين بعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن
رواحه يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: (والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة
والخنازير وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا
قامت السموات والأرض) .
4 - مخالفة العمل للقول ... فترى مجموعة من الدعاة يتفقون على أمر بينهم
لمصلحة الدعوة ومن باب.. التعاون على البر والتقوى وما إن يتفرقوا إلا وقد
خالف العمل القول وامتثل كل منهم المثل السائد: (كلام الليل يمحوه النهار) بل إنك
تسمع أحياناً داعية يذكر الناس في محاضرة أو موعظة أو مجلس فينتقد حالة
مرضية في مجتمع الدعوة وسرعان ما تراه يقع فيما نهى عنه قبل أن ينهي
محاضرته وكأن الأمر أصبح مألوفاً ومعتاداً، والله قد مقت من هذا وصفه بقوله:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ] .
وأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق فقال: [وبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا] وقال: [وأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] .
5 - الوقوع في النميمة والتخصص في إفساد القلوب عن طريق اللسان الذي
خلقه الله لذكره وتلاوة كتابه، فترى أقواماً قد تخصصوا في الإيقاع بين الدعاة
وطمس معالم الود والصفاء، وما علموا أنه لا يدخل الجنة نمام وأن شر الناس من
يسعى بينهم بالنميمة، فليتذكر أولئك قول الله سبحانه: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ
وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ ويَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
هُوَ الحَقُّ المُبِينُ] .
6 - عدم الاتزان في القول والتردد بين الإفراط والتفريط فيوماً يذكر فلاناً
الداعية فيرفعه فوق منزلته التي هو فيها حتى كأنك ترى صحابياً من خيرة أصحاب
محمد -صلى الله عليه وسلم- وحين يتغير الهوى وتزول المصالح ترى ذاك الذي
كان في الأفق قد نزل إلى الحضيض، وهذا كله نتيجة الشطط والبعد عن الحق
وميزان العدل.
7 - تفسير النصيحة على غير وجهها وتقديم الظن السيئ على حسن النية مما
تسبب في انعدام النصح وتركه بين الدعاة إلى الله. فحين يأتي الناصح ليقول حقاً
يتبادر لذهن المنصوح أولاً الظن السيئ، والتفسير المغلوط، فلا يقبل النصح بل
ربما قال له أنا أعرف بحالي! وكأن المسكين معصوم عن الخطأ والزلل.
ولا نشك بأن الدعاة إلى الله سبحانه بشر وأنهم يخطئون ويذنبون، لكن حين
تصبح بعض هذه الأمثلة ظواهر تراها بالليل والنهار، هنا يحتاج الأمر إلى لفت
الأنظار وشد الانتباه لمعالجة هذه الظواهر المرضية، والكيس من دان نفسه
وحاسبها، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
ثالثاً: عواقب البعد عن معالم منهج الإسلام في ضبط اللسان:
1 - التباعد والتباغض بين الدعاة إلى الله وعدم استفادة بعضهم من بعض
وخاصة إذا كانوا من مدارس مختلفة.
2 - انعدام الثقة في صفوف الدعاة مما تسبب في حيرة كثير من الشباب لأنه
لم يعد يعرف الصادق من غيره فذاك يثني على فلان، وذاك يرد، ومن هنا كثرت
المدارس وتعددت الطرق وتباعدت القلوب.
3 - انعدام البركة وتأخر الثمرة وهذا نتيجة عدم الالتزام الصادق بأمر الله
ومنهجه. فكم ترى من الدعاة وكم تبذل من جهود فإذا بحثت عن الثمرة وجدتها لا
تتناسب مع هذه الجهود؛ بل والمصيبة أنك ترى أحياناً ثمرات لكنها تقطف بأيدي
الأعداء وصدق الله إذ يقول: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] .
4 - كثرة قالة السوء في صفوف الدعاة لأن الذي لا يحمي بيته ويحفظه
يصبح مرتعاً للصوص حتى لا تكاد تميز بين اللص وصاحب الدار، وهكذا نرى اليوم في صفوف الدعاة أنواعاً من المنافقين وقالة السوء، يظن
من لا فطنة له أنهم من رواد هذه الصحوة المباركة.
ولهذا أصبح ستار الدعوة سهل الاختراق من كثير من أعداء الإسلام.
5 - غياب النقد والمراجعة والتناصح لأنه قد اختلطت المفاهيم فلم يعد يفرق
الداعية بين النقد البناء والنصح الصادق وبين السب والشتم والتخرص وهكذا تضيع
الجهود والتجارب دون استفادة من الدروس وأخذ العبر وتصحيح المسار.
6- ضعف التخطيط وضياع الجهود على المستوى العام للدعوة وانعدام عنصر
التعاون الشامل بين الحركات الإسلامية ولو على أقل الأمور في الخطوط العامة،
فذاك يبني وأخوه يهدم ما بنى وهذا يتعامل مع إخوانه بأسلوب سياسة الشرق
والغرب، فكيف يحصل التخطيط الشامل والتعاون والتنسيق وبأي حال يمكن أن
تصب جهود الدعاة كلها في مصب واحد؟ .
7 - قسوة القلوب وصدؤها وبلادة الحس وعدم الشعور بالإثم فأصبحت ترى
أقواماً اعتادوا على الانحراف عن هذه المعالم فلا يؤثر فيهم نصح ولا يمنعهم
تخويف بالله، فإن نصحت لا تجد إلا قبولاً بارداً وعاطفة سريعة الانطفاء وعزيمة
كاذبة على ترك هذا الخلق الذميم سرعان ما تنتهي ويردها قلبه القاسي.
فإليك أخي الداعية أسوق هذه التذكرة وتلك الالتفاتة لعلها تصادف قلباً قد آلمه
ما يرى من حال الدعاة فتتمكن فيه النصيحة ويتذكر ما نسى، ويحملها لغيره نصحاً
لله وفي ذات الله فإن المرجع هو إلى الله وحده والسؤال سيكون في القبر لك وحدك
حين الظلمة والوحشة، فاتق الله واخشَ يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.(26/13)
خواطر في الدعوة
بين الشيوخ والشباب
محمد العبدة
لا أعتقد أن التشدد أو التساهل كلمتان مناسبتان لوصف داعية إسلامي أو اتجاه
إسلامي، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- غضب غضباً شديداً عندما رأى معاذاً
رضي الله عنه يطيل في القراءة في الصلاة وهو إمام وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟
فالمتشدد، يوحي للناس بشكل غير مباشر أن هذا هو الإسلام، وقد يصرف بعض
الناس عن الخير، والمتشدد كأنه يتمنى في داخله لو أن الإسلام أمر بهذا أو شدد في
هذا، وهو في هذه الحال يضيق على نفسه وعلى المسلمين، ويحاول أن يفهم
النصوص فهماً خاصاً، وقل مثل ذلك في المترخص أو أكثر فهو يحاول التهرب
من النصوص أو الالتفاف عليها، ويتقرب من الناس ويشعرهم أن الإسلام ليس
بالذي يتصورونه، ويضغط عليه أقوام يريدون (فتاوى) جاهزة تناسبهم، فإذا
استجاب يطلبون منه أكثر، ودين الله بين الغالي والجافي، وأظن أن المسلم يعرف
هذا من نفسه إذا راقبها، وبحث في داخلها، هل يميل إلى التشدد لشهوة في نفسه أم
لا؟ وكلا الطرفين فيه شهوة خفية.
التقيت بشباب يميلون إلى التشدد، لا نتهمهم في إخلاصهم وحبهم لهذا الدين،
وحبهم لنشره بين الناس وتطبيقه منهجاً وسلوكاً، ولكنهم أتوا من قبل قراءاتهم
للكتب وقلة العلماء الربانيين الذين يوجهونهم ويوضحون لهم كل مسألة، صغرت أم
كبرت، فظهر لهم بعد طول القراءة، أن هذا من السنة، وهذا من السنة ولا
يفرقون بين السنة التي نؤمر بها على وجه المتابعة والتعبد والمشروعية، وبين
السنة التي فعلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على وجه العادة في قومه وكونه
بشراً، وإلى هؤلاء نقول: ارفقوا بأنفسكم وبالمسلمين؛ نحن لا ندعوكم إلى
التساهل أو ترك شيء من الإسلام، ولكن تأكدوا قبل أن تلتزموا بشيء أو تلزموا
الناس، تأكدوا من مشروعيته، ثم كيفية عرضه على الناس، وإلا جاءت النتائج
بعكس ما تؤملون، إنكم تريدون الخير للمسلمين، وتجدون الإعراض عنكم.
وفي الأسبوع الذي التقيت فيه بهؤلاء الشباب قرأت مقابلة في إحدى الصحف
لأحد الشيوخ الدعاة، تكلم فيها عن المرأة وصب جام غضبه على الإسلاميين الذين
يخنقون أنفاسها، ولا يبرزونها لتكون قائدة من قواد العمل الإسلامي، ويقول:
(ورغم أن المرأة ذهبت للجامعة وخرجت للعمل والسوق، ولكنها لا تزال محرومة
من الصلاة في المساجد (يقصد الصلوات الخمس)) . نحن لا نقلل من أهمية فهم
المرأة للإسلام ودورها في ذلك، ولكن لماذا يستدرج الدعاة دائماً للكلام عن المرأة
وكأنها هي المشكلة الرئيسية، فإذا حلت هذه المشكلة حلت كل المشاكل، وهذا ديدن
الصحفيين، يريدون (الفتاوى) التي تعجبهم لينشروها بين الناس، وفي تلك المقابلة
قال الشيخ: (إن الديمقراطية المعاصرة هي الشورى الإسلامية) هكذا وبكل بساطة
وسهولة. مع أن الخلاف بينهما كبير (وليس هذا مجال تفصيله) ولكنه لو قال: إن
الإسلام يكره الاستبداد؛ والديمقراطية - على ما فيها من خلل كبير وهذا يعترف به
الغربيون - هي أفضل من النظم الدكتاتورية لكان كلامه صحيحاً. أما أن تكون
الديمقراطية التي تمارس الآن هي الشورى الإسلامية أو صنواً لها فهذا تساهل،
والفتوى أمانة برقاب العلماء، والصراط المستقيم الأعدل هو المطلوب.(26/20)
الإعجاز التشريعي
قاعدة لاستمرار عملية الاجتهاد
د. عابد السفياني
لا عجب أن تتشكل خيوط الإعجاز التشريعي، والإعجاز الكوني، فالله هو
صاحب الخلق والأمر، وإن من أبرز ملامح هذه المشاكله ما يلي:
1- الكون خلقه الله وقدر فيه طاقاته، فبقدر ما يتعامل الإنسان معها بقدر ما
يستخرج منها، فالماء طاقة مقدرة في الأرضإذا استخرجها الإنسان فإنما استخرج
طاقة كامنة يسر الله لها استخراجها ولكنها ليست خلقاً جديداً مستأنفاً في الأرض
[قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ، وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ] [فصلت: 9-10] .
وفي هذه الآية دلالة على أن الله جعل في هذه الأرض جميع ما تحتاجه
البشرية من الطاقات، وكل جيل يستخرج منها ما يطيق حسب قدراته ونشاطه
ومبلغه من العلم، وكذلك هذه الشريعة، جاءت نصوص الوحي بها متضمنة معاني
لا حصر لها، فقد جعلها الله شاملة لما يشاء أن يعلمه للبشر في جميع أجياله، وكل
جيل يعلم منها ما يحتاج إليه في جميع شئونه، فيستخرج منهاجاً يحكم حياته كلها،
فيحفظ له هذا المنهج عقيدة صحيحة - فيسلم من التخلف العقيدي وهو الارتكاس
إلى الجاهلية البشرية - ويحفظ حياته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فتتحقق
حينئذ العبادة في هذه الأرض وهي المهمة التي خلق الله الإنسان من أجلها.
يأتي كل جيل ليرتبط بهذه الشريعة، ويجد علماؤه فيها كل ما يحتاجه في تلك
الأمور - وليس شيئاً من ذلك قد أنزل إنزالاً جيداً مستأنفاً، كلا، وإنما هو متضمن
في هذه الشريعة، تماماً كما هو الشأن في هذا الكون فيقف كل جيل ليجد ما يحتاجه
من الطاقات في هذا الكون مدخراً له، ويجد المنهج الصحيح الذي يحكم له جزئيات
حياته مدخراً له في هذه الشريعة فيعلم أن له رباً خلق له كوناً يعيش فيه ليستخرج
طاقاته، وإلهاً أنزل له شريعة ليستخرج منها ما يبصره بالمنهج الصحيح، وهذه
أول ملامح تلك المشاكلة بين الإعجاز الكوني والإعجاز التشريعي.
2- إن هذا الكون لا تضاد فيه ولا تناقض بل هو صنعة محكمة مبدعة وهذا
هو الإعجاز الذي يقابله إعجاز تشريعي حيث أنزل الله شريعته لا تضاد فيها ولا
تناقض ولا اضطراب، بل هي قول محكم.
وملامح هذه المشاكلة تظهر في مثل قوله تعالى عن بيان امتناع هذا الكون عن
الفساد والاضطراب: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] [الأنبياء: 22] .
نعم لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لاقتضى ذلك أن تتعد الإرادات
في تدبير هذا الكون، فهذا يسير القمر إلى جهة، وآخر يأمره بضدها، وهذا يريد
الشمس جارية، وذاك يريدها ساكنة، وحينئذ يقع الفساد، فلا يمكن أن تتعدد
الآلهة - وكل إله يستحق الألوهية-كلا لو كان كذلك لفسدت السموات والأرض.
وشريعة الله التي هي كلامه المعجز ووحيه إلى نبيه لا يمكن أن تتعارض
ولذلك قال تعالى: [ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً]
[النساء: 82] .
نعم لوكان القرآن من عند غير الله لوجدنا فيه ذلك الاختلاف، فلما لم نجد
قطعنا حينئذ أنه من عند الله، مثل سلامة الكون من الفساد دلنا ذلك على أنه من
خلق الله، وهذا وذاك هو سند الثبات في هذا الكون وفي هذه الشريعة إلى أن تقوم
الساعة فيقدر الله حينئذ ما يشاء، والثبات هو من أهم معالم الإعجاز التشريعي
والإعجاز الكوني.
3 - من مظاهر الإعجاز في الكون أنك تجده متجدداً معطاء بفضل من الله،
والإنسان يستثمر ذلك العطاء، وكلما اتجه الإنسان إلى الاستثمار الصحيح وجد
خيراً كثيراً بإذن الله، وفي هذا الكون طاقات كلية ثابتة يستخرج منها الإنسان -
عن طريق الاستثمار الصحيح -طاقات جزئية لا حصر لها، ولذلك يختلف البشر
في إمكان - الحصول على ذلك ما بين مستكثر ومستقل، وقد حمل الله الإنسان هذا
الجهد ليكابد الحياة ويعمل ويعمر الأرض فتتحقق العبادة بإقامة الخلافة فيها.
والإنسان في كل ذلك ليس خالقاً ولا منشئاً حتى وإن اكتشف، لأن أصل
الخلقة لله سواء في الكون أو الإنسان، وجهد الإنسان إنما هو اكتشاف لما يسره الله
له حسب السنن الربانية.
وكذلك هذه الشريعة - التي هي وحي من الله - جعلها سبحانه متضمنة لكليات
تشريعية تحفها جزئيات تشريعية كذلك، ثم كلف الأمة المتبعة لهذه الشريعة أن تجهد
جهدها في إقامة فرض الكفاية وهو التعلم، وتهيئة طائفة منها لتقوم بمهمة التعليم
والاجتهاد وذلك كله فرض كفاية، وعلى الأمة العمل لإقامته، وهؤلاء المجتهدون
يستثمرون تلك الكليات التشريعية، وقد علموا منها ومن تلك الجزئيات كيف يتم
الاستثمار وتتحقق مقاصد الشريعة، وحينئذ يتحقق لكل جيل عن طريق -
المجتهدين- الحكم في مسائل لا يمكن حصرها البتة، وهذا هو غاية الاستثمار
للكليات التشريعية [1] ، وهذا الاستثمار اكتشاف لحكم الله، وليس إنشاء ولا
تشريعاً تماماً كما تبين لنا في الإعجاز الكوني، ذلك أن الله وحده هو الخالق
والمشرع والآمر سبحانه لا إله إلا هو.
4 - من مظاهر الإعجاز الكوني أنك تجد شجرة واحدة - وهي آية من آيات
الله -تتفرع عن أصلها فروع كثيرة جداً، وتجد أيضاً أنواعاً كثيرة من المخلوقات -
كالهواء والبذر والتربة.. - تجتمع لتخرج - بإذن الله - الزرع بجميع أجناسه،
الذي يصلح لسد كثير من حاجات الإنسان.
وإنك لتجد هذه الملامح في الإعجاز التشريعي:
فمثلاً إذا تأملت في العموم اللفظي وجدته كأصل الشجرة الواحدة تقوم عليها
تلك الفروع الكثيرة، فاللفظ العام يشتمل في دلالته على فروع كثيرة، أصله لفظ
واحد وفروعه لا تنحصر.
وإذا نظرت في مثال آخر وهو العموم المعنوي وجدت جزئيات من الشريعة
قد اجتمعت من كل مكان على معنى واحد، فأصبح هذا المعنى جنساً ينتج لنا أحكاماً
خاصة بمسائل كثيرة بل يصبح مثل العموم اللفظي، فهناك لفظ عام تبنى عليه
فروع شتى، وهنا جزئيات كثيرة يخرج منها أصل واحد يحكم به على جزئيات لا
تنحصر، فهل رأيت مثل هذا الإعجاز، شجرة واحدة في الأصل تنمو فروعها
وتتكاثر، وجزئيات متناثرة-من تراب وماء وهواء وبذور- تجتمع لتخرج بإذن الله
شجرة ذات فروع كثيرة، عمومات لفظية-هي عمدة الشريعة - يتفرع عن كل واحد
منها فروع لا تنحصر، وجزئيات كثيرة يتفرع عنها فروع كثيرة جداً تشابهها في
الحكم -عن طريق القياس الشرعي- وهذه الجزئيات تجتمع مرة أخرى لتنتج العموم
المعنوي فيحكم به على فروع لا تنحصر. هكذا في دورة تشريعية معجزة لا أجد
لها شبيهاً إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي
تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك أبصرتها تنطلق في
دورة جديدة تبدد تلك الشكوك، هذه دورة الإعجاز الكوني الذي يقول الله عنها
متحدياً البشر في جميع العصور: [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَذِينَ مِن دُونِهِ
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [لقمان: 11] .
وهذه هي دورة الإعجاز التشريعي الذي يقول الله عنها متحدياً كذلك: [قُل
لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ
مَدَداً] [الكهف: 109] .
أقول - والله أعلم بمراده - إن هذه الشريعة وهي كلام الله لا تنفد أبداً-مهما
قدر الله أن يخلق من الأجيال على هذه الأرض وسيجد فيها كل جيل ما يحتاجه
يستنبطه منها علماؤه -فلا تنفد أبداً، بل ينفد البحر دون أن ينفد منها شيء.
__________
(1) نتحدث هنا عن الوضع السوي الذي خلق الله الإنسان له، وإلا فإن هناك أجيالاً تنحرف عن مقصد الإعجازين الكوني والتشريعي فلا هي استثمرت طاقات الكون، ولا هي اتبعت الشريعة، وهذه الحالة السيئة مرت بأجيال كثيرة جداً من أجيال البشرية.(26/22)
فقه
التسعير في الفقه الإسلامي
عثمان جمعة ضميرية
ما حكم التسعير، وهل هو جائز إطلاقاً، أو محرم إطلاقاً، أو يجوز في حين
دون آخر، ومتى يجوز ومتى لا يجوز؟ هذا ما سنبحثه بشيء من الإيجاز، نبين
فيه آراء العلماء ومستندهم، ليظهر الرأي الراجح، بتوفيق الله تعالى.
-1-
التسعير في اللغة هو: تقدير السعر، أو هو الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه:
أسعار، وقد أسعروا وسعَّروا بمعنى واحد، أي: اتفقوا على سعر.
وقال الفيومي في المصباح المنير: سعَّرت الشيء (تسعيراً) : جعلت له
(سعراً) معلوماً ينتهي إليه، و (أسْعَرته) بالألف، لغة، وله (سعر) إذا زادت قيمته، وليس له (سِعْر) إذا أفرط رخصه [1] .
وفي الاصطلاح الفقهي: اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه، وفيما يلي
بعض تعريفاتهم:
1- عرف القاضي البيضاوي السعر بأنه: القيمة التي يشيع البيع عليها في
الأسواق، والتسعير: تقدير هذه القيمة [2] .
2 - وبين ابن القيم حقيقة التسعير، فقال: إنه إلزام بالعدل ومنع عن الظلم،
وهو يشمل تسعير السلع والأعمال، ويتفق في هذا مع شيخه ابن تيمية رحمه
الله [3] .
3 - وعرف الشوكاني التسعير بأنه: أمر السلطان ونوابه، أو كل من ولي
من أمور المسلمين شيئاً، أهل السوق ألا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا، فيمنعون من
الزيادة أو النقصان لمصلحة [4] .
-2-
وقد ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، إلى أنه لا يجوز
للحاكم أن يسعر على الناس مطلقاً، وإن فعل ذلك يكون فعله هذا إكراهاً يكره معه
البيع والشراء، ويمنع صحة البيع عند بعضهم.
وذهب المالكية إلى جواز التسعير في الأقوات مع الغلاء، وقالوا: ليس لمن
أتى السوق، من أهله أو من غير أهله، أن يبيع السلعة بأقل من سعرها، ويمنع
من ذلك. وله أن يبيع بأكثر.
وذهب بعض العلماء، كسعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن: إلى
جواز التسعير مطلقاً.
وذهب كثير من العلماء، كمتأخري الحنفية وبعض الحنابلة، كابن تيمية وابن
القيم إلى جواز التسعير في أحوال خاصة، بل وإلى وجوبه أحياناً أخرى [5] .
ويمكن تصنيف هذه المذاهب والأقوال ورجعها إلى مذهبين اثنين: مذهب
القائلين بتحريم التسعير ومنعه، ومذهب القائلين بجوازه.
-3-
استدل المانعون للتسعير بأدلة، منها ما يأتي:
1 - حديث أنس رضي الله عنه، قال: غلا السعر في المدينة على عهد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا: فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إن الله هو المسعِّر، القابض الباسط
الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في
دم ولا مال) [7] .
وجه الدلالة في هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه.
الثاني: أنه علل الامتناع عن التسعير بكونه مظلمة، والظلم حرام (7) .
2 - ما رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيباً له في السوق، فقال له
عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا [8] . فلما رجع عمر
حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال: إن الذي قلت لك ليس عزمة مني ولا
قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت
فبع.
وقال مالك: لو أن رجلاً أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس، لرأيت أن
يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، وأما أن يقال للناس كلهم - يعني لا
تبيعوا إلا بسعر كذا - فليس ذلك بالصواب [9] ..
3 - قال الشافعى رحمه الله: إن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن
يأخذها، أو شيئاً منها؛ بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي يلزمهم الأخذ فيها،
وهذا ليس منها. والله تعالى يقول: [لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل إلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ] [النساء: 29] [10] .
وقال قاضي زاده الحنفي: إن الثمن حق العاقد، فإليه تقديره، فلا ينبغي
للإمام أن يتعرض لحقه، إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة [11] .
4 - التسعير سبب الغلاء، لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً
يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها
ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها
ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الْمُلاك، في
منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه،
فيكون حراماً [12] .
-4-
وبالنظر في هذه الأدلة التي سبقت يتبين أنها لا تدل على المنع من التسعير
كقاعدة عامة في كل الأحوال والظروف، ولكنها تدل على المنع من التسعير في
الأحوال العادية التي يكون التسعير فيها مجحفاً بحق البائع أو العامل الذي يقوم بما
يجب عليه من امتناع عن الاحتكار أو التواطؤ لإغلاء الأسعار ورفعها، وذلك أن
الامتناع عن التسعير جاء معللاً، والأحكام تدور مع العلة وجوداً وعدماً.
فالحديث الشريف يبين أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- امتنع عن التسعير
نظراً لأن فيه مظلمة، وذلك لأنه لم يكن هناك ما يقتضي التسعير في ذلك الوقت.
لأن ارتفاع الأسعار لم يكن بفعل التجار واحتكارهم، وإنما كان ذلك نتيجة لعوامل
أخرى لا دخل فيها لهم [13] .
وقد رد شيخ الإسلام احتجاجهم بالحديث وبين علة امتناع النبي -صلى الله
عليه وسلم- عن التسعير فقال: (وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالمدينة؛ لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء (أجرة) ، ولا
من يبيع طحيناً وخبزاً، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم،
وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين، ولهذا جاء في
الحديث: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون» [14] ?وكذلك لم يكن في المدينة
حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها
ويلبسونها) [15] .
وقال أيضاً: (من احتج على منع التسعير مطلقاً بقول النبى -صلى الله عليه
وسلم- «إن الله هو المسعر ... » قيل له: هذه قضية معينة، وليست لفظاً عاماً،
وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشيء إذا قل
رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه، كما جرت به العادة، ولكن الناس
تزايدوا فيه - فهنا لا يسعر عليهم.
ثم ضرب أمثلة على جواز إخراج الشيء عن يد مالكه بعوض المثل،
وقال: والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه
بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق، ولم يُمَّكن المالك من المطالبة بالزيادة على
القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم وهم إليها أضر؟ مثل
حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره [16] .
وقال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لجامع الترمذي: (وقال سائر
العلماء بظاهر الحديث، لا يسعر على أحد. والحق: التسعير، وضبط الأمر على
قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا
بالضبط للأوقاف ومقادير الأموال. وما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- حق وما
فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل
أموال الناس والتضييق، فباب الله أوسع وحكمه أمضى) [17] .
وأما ما رواه الإمام مالك في الموطأ، من قصة عمر بن الخطاب مع حاطب
بن أبي بلتعة فيرى بعضهم: أنه يتعلق بالبيع بأقل من ثمن المثل، وعندئذ فلا
يجوز للحاكم أن يتدخل في تحديد السعر، لأنه إنما يتدخل بالتسعير إذا عرضت
السلعة بأكثر من ثمن المثل لما في هذا العرض من استغلال لحاجة الناس، وأما إن
عرضت بأقل من السعر فلا يجوز التدخل.
فإن قيل: في هذا ضرر على أهل السوق فالجواب: أن هذا باطل، بل في
قولكم أنتم الضرر على أهل البلد كلهم، وعلى المساكين، وعلى هذا المحسن إلى
الناس، ولا ضرر في ذلك على أهل السوق، لأنهم إن شاءوا أن يرخصوا كما فعل
هذا فليفعلوا، وإلا فهم أملك بأموالهم، كما أن هذا أملك بماله [18] .
وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: لا يلام أحد على المسامحة في البيع
والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله
تعالى [19] .
وأما أن الناس مسلطون على أموالهم، فهذا صحيح، ولكنه ليس على إطلاقه، إذ هناك قواعد أخرى تحكم على هذا الأصل، كقاعدة رفع الضرر، وقاعدة
المصلحة العامة ووجوب تقديمها على المصلحة الخاصة، كما أن الرضا لا يعتبر
في بعض الحالات التي يتعارض فيها هذا مع مصلحة عامة. كما أن التسعير لا
يخالف آية الرضا في التعامل.
الخلاصة: وبهذا تبين أن التسعير ليس فيه مخالفة للحديث الشريف ولا للآية
الكريمة التي استدل بها المانعون للتسعير، كما أن فيه مصلحة عندما تدعو الحاجة
إليه، لذلك أجازه الحنفية أيضاً: (إذا تعلق به رفع ضرر العامة، فإذا كان أرباب
الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعدياً فاحشاً كالبيع بضعف القيمة، وعجز
القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس بمشورة من أهل
الرأي والبصيرة، إذا تعدى أرباب القوانين وظلموا العامة، فيسعر عليهم الحاكم
دفعاً للضرر عن المسلمين، بناء على ما قاله أبو يوسف، فإنه اعتبر حقيقة الضرر، إذ هو المؤثر في الكراه) [20] .
كما أجازه الشافعية أيضاً عند الاضطرار، كما نقل ذلك عنهم ابن تيمية وابن
القيم، حيث يقول ابن القيم رحمه الله: (وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة
وتقديرها هو الشافعي، مع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن
يبذله بثمن المثل، وتنازع أصحابه في جواز تسعير الطعام إذا كان بالناس حاجة
إليه، ولهم فيه وجهان) [21] .
-5-
وبهذا أصبح التقارب حاصلاً بين المجيزين للتسعير والمانعين، لأن التسعير
إذا كان ظلماً، والحاجة لا تدعو إليه فهو غير جائز، ولا ينبغي لولي الأمر أن
يفعله. وإن كان فيه مصلحة ورفع ضرر عن العامة جاز لولي الأمر، بل وجب
عليه ذلك إن تعين طريقاً لتحقيق المصلحة.
وهذا هو ما حرره ابن القيم وبسطه وأقام الأدلة عليه حيث قال: (.. وأما
التسعير؛ فمنه ما هو محرم ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس،
وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو
حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من ...
المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل
فهو جائز، بل واجب.
فأما القسم الأول: فمثل ما روي عن أنس: غلا السعر على عهد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ... ? فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف
من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى
الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بحق.
وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها - مع ضرورة الناس إليها
-إلا بزيادة على القيمة المعروفة؛ فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى
للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هاهنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به،
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته إلزام بالعدل ومنع من الظلم، وهذا
كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق.
-6-
إلا أن التسعير ليس قاعدة عامة في المعاملات المالية - كما سبق - فلا يلجأ
إليه ولي الأمر إلا إذا دعت الحاجة، وقد ذكر بعض الباحثين. أربع حالات تتدخل
فيها الدولة بتسعير السلع، بل بإجبار أصحابها على بيعها، وهي نموذج لحالات
أخرى تتحقق المصلحة فيها بالتسعير:
1 - حاجة الناس إلى السلعة.
2 - الاحتكار.
3 - حالة الحصر (حصر البيع بأناس مخصوصين) .
4 - حالة تواطؤ البائعين [22] .
-7-
فإذا اقتضت المصلحة والعدل التسعير، فإن واجب ولي الأمر أن يفعل ذلك،
ولكن يجب أن يحقق هذا السعر العدالة، وأن لا يكون مجحفاً بأحد الطرفين: البائع
والمشتري، وأن لا يدخل على أحدهما الضرر، وبذلك يتحقق السعر الصالح الذي
يسمح بعلاقات أخوية بين البائع والمشتري [23] ، ولتحقيق ذلك يستعين بأهل
الخبرة والرأي.
وقال ابن حبيب من فقهاء المالكية، في صفة التسعير: (ينبغي للإمام أن
يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى
يرضوا به ... وعلى هذا أجازه من أجازه. ووجه ذلك: أن بهذا يتوصل إلى
معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا
يكون فيه إجحاف بالناس ... ) [24] .
وجماع الأمر:
أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل، لا وَكْس
فيه ولا شطط - لا نقصان ولا زيادة - وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه
لم يفعل. وبالله التوفيق.
__________
(1) انظر المصباح المنير: 1/277، وراجع مادة (سعر) في لسان العرب وأساس البلاغة.
(2) رسائل مفتي زادة نقلاً عن: الملكية في الشريعة، د عبد السلام العبادي: 2/ 301.
(3) الطرق الحكمية، لابن القيم، ص (387) ، طبعة محي الدين عبد الحميد.
(4) نيل الأوطار للشوكاني: 5 / 335، دار الجيل، بيروت.
(5) انظر: الهداية للمرغيناني مع فتح القدير والعناية: 8/127، بدائع الصنائع 6/297، حاشية ابن عابدين: 6/399-400، المغني لابن قدامة: 4/ 239-240، منتهى الإرادات: 2 /159، الأحكام السلطانية للماوردي: ص (256) ، المحلى لابن حزم: 9 /672، سبل السلام للصنعاني: 3/32.
(6) أخرجه أبو داود في الإجازات، باب التسعير: 5/92، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في التسعير، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في التجارات، باب من كره أن يسعِّر: 2/471-472، وصححه ابن حبان، ص (271) من موارد الظمآن، وعزاه في تحفة الأحوذي لأبي يعلى والبزار.
(7) المغني لابن قدامة: 4/240 وانظر: سبل السلام: 3/32.
(8) الموطأ للإمام مالك، ص (279) من رواية الإمام محمد بن الحسن، و (651) من رواية يحيى الليثي.
(9) انظر: الطرق الحكمية لابن القيم، ص (298) ، المغني 4/240، المحلى لابن حزم: 9/673.
(10) الطرق الحكمية، ص (300) .
(11) العناية للبابرتي على الهداية للمرغيناني: 8/127.
(12) المغني لابن قدامة: 4/240.
(13) انظر: الخراج لأبي يوسف، ص (52 - 53) .
(14) أخرجه ابن ماجه في التجارات: 2/728 وفي إسناده: على بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وعزاه في نصب الراية: 4/ 261 لإسحاق بن راهويه والدارمي وعبد بن حميد وأبو يعلى في مسانيدهم، والبيهقي، ورواه العقيلي في الضفاء، وأخرج مسلم في البيوع، باب تحريم الاحتكار في الأقوات عن معمر بن عبد الله العدوي: (لا يحتكر إلا خاطئ) .
(15) الطرق الحكمية، ص (298) ، آراء ابن تيمية في الدولة للأستاذ محمد المبارك، ص (121) .
(16) الطرق الحكمية، (303 - 304) .
(17) عارضة الأحوذي شرح الترمذي، لابن العربي.
(18) المحلى لابن حزم: 9/674.
(19) شرح الزرقاني على الموطأ: 3/299.
(20) انظر: الهداية وشروحها، 8/127 ? حاشية ابن عابدين: 6/400- 401.
(21) الطرق الحكمية، ص (307) ، آراء ابن تيمية، ص (124) ، وظاهر الأحاديث لا تفرق بين الطعام وغيره، والضرر يكون بإغلاء ثمن الطعام وغيره من الحاجيات.
(22) انظر الطرق الحكمية، ص (285-287) .
(23) الإسلام والتنمية الاقتصادية، تعريب نبيل صبحي، ص (44) ، وانظر: المبادئ الاقتصادية والبناء الاقتصادي للدولة، ص (71- 76) ، الهداية وشروحها في الفقه الحنفي: 7/127.
(24) انظر: المنتقى للباجي، شرح موطأ الإمام مالك: 5/19.(26/27)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
الخلق العظيم
قال الإمام أحمد حدثنا أسود، حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من
بني سواد قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت:
أما تقرأ القرآن؟ [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] قال: قلت حدثيني عن ذاك، قال:
صنعت له طعاماً، وصنعت له حفصة طعاماً، فقلت لجاريتي: اذهبي، فإن جاءت
هي بالطعام فوضعته قبل فاطرحي الطعام، قالت: فجاءت بالطعام قالت: فألقته
الجارية فوقعت القصعة فانكسرت (وكان نطع) قالت: فجمعه رسول اللة -صلى الله
عليه وسلم- وقال:
(اقتصوا، أو اقتصي (شك أسود) ظرفاً مكان ظرفك) قالت: فما قال شيئاً.
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير 4 / 402
الْمُشَرِّع
فى لغة العلم الشرعي فإن هذا المعنى لا تجد إطلاقه في حق النبي -صلى الله
عليه وسلم- ولا في حق عالم من علماء الشريعة المطهرة،.. فلا يقال لبشر:
شارع ولا مشرع، وفي نصوص الكتاب والسنة إسناد التشريع إلى الله سبحانه
وتعالى، قال تعالى: [شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ]
وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى»
رواه مسلم، لهذا فإن قصر إسناد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى أخذ في كتاب علماء
الشريعة على اختلاف فنونهم صفة التقعيد فلا نرى إطلاقه على بشر حسب التتبع.
معجم المناهي اللفظية-للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد
صراع اجتماعي
من أهم الحقائق المفترضة في صراعنا مع الجاهلية أنه صراع اجتماعي،
قائم بين واقع إسلامي وواقع جاهلي.
وافتراض هذه الحقيقة يحتم أن يدخل المسلمون بتلك الصفة الاجتماعية في كل
مراحل الصراع.. من لحظة الاستضعاف إلى فرصة التمكين ووقت الامتداد..
ففي بيت الدعوة تنشأ الحدود الفاصلة بين الصواب والخطأ بمقياس الدعوة في
حياة الدعاة، مثل الحد بين زينة الله التي أخرج لعباده والترف المحظور، وبين
السكن إلى الزوجة والركون إليها، وبين السعي المشروع للرزق والانشغال المنهي
عنه بالمال، وبين الحب الفطري للذرية وبين الافتتان بها..
وفي بيت الدعوة تكون حياة الكفاح منبعاً للحب لا يجف بين الزوجين،
فالحياة في بيت الدعوة إما لحظة وداع وأمل، أو لحظة حنين وشوق، أو لحظة
لقاء وفرحة، فهي حياة طيبة، وعيشة راضية، وعمر مبارك، ووقت مليء.
بيت الدعوة - رفاعي سرور(26/36)
بحوث
اعتقاد أهل السنة في الصحابة
(2)
محمد الوهيبي
3 - إن سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في الدين ... بينا في
الفقرة السابقة رجحان تكفير من سب صاحبياً تواترت النصوص بفضله من جهة
دينه. أما إن لم تتواتر النصوص بفضله فقول جمهور العلماء بعدم كفره، وذلك
لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة إلا أن يسبه من حيث الصحبة.
4 - إن سب بعضهم سباً لا يطعن في دينهم وعدالتهم ... فلا شك أن فاعل
ذلك يستحق التعزير والتأديب، ولكن وحسب مطالعتي لأقوال العلماء في المراجع
المذكورة لم أر أحداً منهم يكفر فاعل ذلك (ولا فرق عندهم بين كبار الصحابة وصغارهم) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. وأما إن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا
في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك
فهو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل
كلام من لم يكفرهم من العالم) [1]
وذكر أبو يعلى من الأمثلة على ذلك: (اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة [2] .
ومما يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي، وضعف الشخصية والغفلة وحب
الدنيا ونحو ذلك وهذا النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ وكذلك الدراسات
المعاصرة لبعض المنسوبين لأهل السنة باسم الموضوعية والمنهج العلمي
وللمستشرقين أثر في غالب الدراسات من هذا النوع.
ولعل من المناسب هنا أن نقف وقفة قصيرة جداً نبين فيها فساد هذا المنهج
وخطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة، ونبدأ ذلك بالتعريف بالمنهج الموضوعي
عند الغربيين، المنهج الموضوعي) أن يبحث الموضوع بحثاً عقلياً مجرداً بعيداً
عن التصورات الدينية [3] ، فنقول رداً على ذلك:
أ- المسلم لا يمكن أن يتجرد عن عقيدته بأي حال من الأحوال إلا أن يكون
كافراً بها [4] .
ب- وكذلك نقول بالنسبة للتاريخ الإسلامي: إذا ثبتت الحوادث في ميزان نقد
الرواية فبأي منهج نفهمها ونفسرها؟ إذا لم نفسرها بالمنهج الإسلامي فلا بد أن
نختار منهجاً آخر فنقع في الانحراف من حيث لا نعلم وبناء على ذلك يجب أن
نحذر من تطبيق هذا المنهج على تاريخ الصحابة ويجب أن نعلم أيضاً) أن ما
يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعي لتاريخ الصحابة هو السب الوارد في كتب أهل
البدع وفي كتب الأخبار، وتسميته بالمنهج العلمي لا يخرجه عن حقيقته التي عرف
بها عند أهل السنة، وأيضاً تسميته بذلك لا تعلي من قيمته، كما لا يعلي من قيمته
أن يردده كُتَّاب مشهورون، وفيهم أولوا فضل وصلاح، وإنما كل ما فعله المحدثون
أن أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة لما كانت الدولة دولتهم [5] .
والذي أوصي به نفسي وإخواني الباحثين في تاريخ الصحابة أن لا يتخلوا عن
عقيدتهم -ومنها الاعتقاد بعدالة الصحابة وتحريم سبهم -عند بحثهم، فالله الله أن
يؤتى الإسلام من قبلهم، وليعلموا أن لأهل السنة منهجاً واضحاً في النظر إلى تلكم
الأخبار كما سيأتي في آخر البحث.
5- سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ... أجمع أهل
العلم على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد كفر
قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا
خلاف. وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا
الحكم فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل (قيل له: لِمَ؟
قال: من رماها فقد خالف القرآن [6] . وقال ابن شعبان في روايته عن مالك لأن
الله تعالى يقول: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] فمن عاد
لمثله فقد كفر) [7] .
والأدلة على كفر من رمى أم المؤمنين صريحة وظاهرة الدلالة منها:
أ- ما استدل به الإمام مالك أن في هذا تكذيباً للقرآن الذي شهد ببراءتها،
وتكذيب ما جاء به القرآن كفر. قال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم
الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه
الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن [8] ، وقال ابن حزم تعليقاً على قول الإمام مالك
السابق: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها) [9] .
ب -أن فيه إيذاء وتنقيصاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وجوه دل
عليها القرآن الكريم.
1- فرق ابن عباس رضي الله عنهما بين قوله عز وجل: [والَّذِينَ يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] … الآية سورة النور، وبين قوله عز وجل: [إنَّ الَذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ] ... الآية سورة النور، فقال
عند تفسير الآية الثانية: (هذه في شأن عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة. ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ: [والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] إلى قوله: [إلاَّ الَذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا] فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل
لأولئك توبة.
قال فَهَمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فقد بين ابن عباس أن
هذه الآية إنما أنزلت فيمن قذف عائشة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لما في
قذفهن من الطعن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعيبه فإن قذف المرأة
أذى لزوجها كما هو أذى لأبيها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه. وأن
زنا امرأته يؤذيه أذى عظيماً ... ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي
بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف) [10] .
2-وإيذاء رسول الله-صلى الله عليه وسلم-كفر بالإجماع، قال القرطبي عند
قوله تعالى: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً] [النور] ، يعني في عائشة لأن
مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من
أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لما في ذلك من إذاية رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله) [11] .
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما خرجاه في
الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله-صلى الله عليه
وسلم- فاستعذر عن عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني
أذاه في أهل بيتي ...
فقوله: من يعذرني أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني
من أذاه في أهل بيتي والله لهم.
فثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه وقال
المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية: مرنا نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا
بضرب أعناقهم، ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على سعد استئماره في
ضرب أعناقهم) [12] .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين
زوجة رسول رب العالمين -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة لما صح ذلك
عنه فهو من ضرب عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ولسان حال رسول
الله-صلى الله عليه وسلم-يقول: (يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن آذاني في
أهلي) [13] [والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا
بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً] [الأحزاب / 58] ، فأين أنصار دينه ليقولوا نحن نعذرك
يارسول الله؟ …) [14] .
3- كما أن الطعن بها رضي الله عنها فيه تنقيص برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من جانب آخر، حيث قال الله عز وجل: [الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ] [الآية من
سورة النور] ، قال ابن كثير: (أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت
خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً ولهذا قال تعالى: [أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا
يَقُولُونَ] أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان) [15] .
5- سب بقية أمهات المؤمنين..
اختلف العلماء في قذف بقية أمهات المؤمنين، والراجح الذي عليه الأكثرون
كفر فاعل ذلك، (لأن المقذوفة زوجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى
إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي وغيرها منهن
سواء) [16] .
وكذلك يكفر لأن في ذلك تنقيص وأذى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقذف حليلته [17] ، وقد بينا ذلك عند كلامنا عن حكم من قذف أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها فليراجع.
أما إن سب أمهات المؤمنين سباً غير ذلك فحكمهن حكم سائر الصحابة على
التفصيل المذكور سابقاً. والله أعلم.
6 - لوازم السب:
تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم،
وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم، وذلك لعلمهم بما قد يؤدي إليه ذلك السب من
لوازم باطلة تناقض أصول الدين.
فقال بعضهم كلمات قليلة لكنها جامعة أذكرها في مقدمة هذا البحث ثم أوضح
-بعض الشيء - ما يترتب على السب غالباً.
وسأركز في الرد على السابة من القسم الأول والثاني ممن يزعمون كفر أو
فسق مجموع الصحابة أو أكثرهم أو الطعن في عدالة من تواترت النصوص بفضله
كالخلفاء رضي الله عنهم. قال الإمام مالك -رحمه الله- عن هؤلاء: (إنما هؤلاء
أقوام أرادوا القدح في النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في
أصحابه، حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين)
[18] ، وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة
بسوء فاتهمه على الإسلام) [19] .
وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من
أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فأعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول -
صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ? وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا
ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [20] . وقال الإمام أبو
نعيم رحمه الله: (فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون
القلب في دينه) [21] ويقول أيضاً: (.. لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في
النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته والإسلام والمسلمين) [22] ، وتحذير
العلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة، وتأمل قول إمام أهل السنة: 0 يذكر أحداً من الصحابة بسوء) وقول أبي زرعة: (ينتقص أحداً..) فحذروا من ينتقص (مجرد انتقاص) أو ذكر بسوء (وذلك دون الشتم أو التكفير) أحداً (وليس جميعهم) فماذا يقال فيمن يسب أغلبهم؟ وإليك أخي القارئ إيضاح بعض لوازم السب:
1 - يترتب على القول بكفر وارتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفراً يسيراً
الشك في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في
المنقول، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون - والعياذ بالله - ولذلك
صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن
والبعض أخفى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية، فإذا اتهم الصحابة
رضوان الله عليهم في عدالتهم صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها. ومع
ذلك يزعم - بعض هؤلاء - إيمانهم بالقرآن، فنقول لهم: يلزم من الإيمان به
الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم وأن الله لا يخزيهم وأنه
رضي عنهم ... إلخ، فمن لم يصدق ذلك فيهم، فهو مكذب لما في القرآن ناقض
لدعواه.
2-هذا القول يقتضي أن هذه الأمة - والعياذ بالله - شر أمة أخرجت للناس،
وسابقي هذه الأمة شرارها، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، وأنهم
شر القرون [23] ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
3 - يلزم من هذا القول أحد أمرين، إما نسبة الجهل إلى الله - تعالى عما
يصفون- أو العبث في هذه النصوص التي أثني بها على الصحابة، فإن كان الله عز
وجل -تعالى عن قولهم- غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم
الحسنى فهو جهل والجهل عليه تعالى محال، وإن كان الله عز وجل عالماً بأنهم
سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث، والعبث في حقه
محال [24] ، ويتبع ذلك الطعن في حكمته عز وجل حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام فجاهدوا معه وآزروه ونصروه واتخذهم أصهاراً له حيث زوج ابنتيه ذا النورين (عثمان) رضي الله عنه، وتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، فكيف يختار لنبيه أنصاراً وأصهاراً مع علمه بأنهم سيكفرون؟ ! !
4- لقد بذل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- جهوداً خارقة في تربية
الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً حتى تكوَّن بفضل الله عز وجل المجتمع
المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه فكان -صلى الله عليه وسلم- أعظم مرب
في التاريخ. ولكن بالعكس من ذلك فإن جماعة تدعي الانتماء إلى الإسلام ونبي
الإسلام تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة تهدم المجهودات التي قام بها النبي -صلى
الله عليه وسلم- في مجال التربية والتوجيه، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح
أو مرب خبير مخلص [25] لم يكن مأموراً من الله كما كان الشأن مع رسول الله-
صلى الله عليه وسلم- إنها ترى أن المجهودات الجبارة التي بذلها محمد -صلى الله
عليه وسلم- لم تنتج إلا ثلاثة (أو أربعة وفقاً لبعض الروايات) ظلوا متمسكين
بالإسلام إلى ما بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم
بالإسلام - والعياذ بالله - فور وفاته -صلى الله عليه وسلم- فأثبتوا أن صحبة النبي -
صلى الله عليه وسلم- وتربيته أخفقت ولم يعد لها أي تأثير. وهذا الزعم يؤدي
إلى:
أ - اليأس من إصلاح البشرية.
ب - وعدم الثقة بالمنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق.
ج -وإلى الشك في نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن الدين الذي لم
يستطع أن يقدم للعالم عدداً وجيها من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في
أيام الداعي وحامل رسالته الأول، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي زمن طويل
على عهد النبوة؟ ! وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة
القويمة ولم يعودوا أوفياء لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- بعد انتقاله إلى الرفيق
الأعلى، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي -صلى الله عليه
وسلم- أتباعه إلا أربعة فقط؛ فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء
الأخلاق؟ وأنه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء ويرفعه إلى قمة
الإنسانية؟ بل ربما يقال: لو أن النبي -صلى الله عليه وسلم-كان صادقاً في نبوته
لكانت تعاليمه ذات تأثير، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب ووجد من بين
العدد الهائل ممن آمنوا به بعض المئات الذين ثبتوا على الإيمان، فإن كان أصحابه
-سوى بضع رجال منهم - منافقين ومرتدين - فيما زعموا - فمن دان بالإسلام؟
ومن انتفع بالرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ وكيف يكون رحمة
للعالمين؟ ! [26] .
العلم والعمل
قال حكيم لرجل يستكثر من العلم دون العمل:
(يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح، فمن تقاتل به؟)
__________
(1) الصارم المسلول: 591.
(2) نفسه 576.
(3) راجع منهج كتابة التاريخ، العلياني 138 (بتصرف) .
(4) راجع في تفصيل، وفي الرد على دعوى الموضوعية بحث مخطوط للدكتور محمد رشاد خليل، ص34-37.
(5) راجع أيضاً البحث القيم للدكتور محمد رشاد خليل فمنه أخذت هذه الفقرة، ص 55، 57، وفي البحث المذكور أبرز المؤلف المنهج الصحيح للنظر في تاريخ الصحابة من خلال مذهب أهل السنة فجزاه الله خيراً.
(6) الصارم المسلول، 571.
(7) الشفا، م 2، ص 1109.
(8) ابن كثير 3/276 عند تفسير قوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ] وذكر الإجماع في البداية والنهاية 8/92.
(9) المحلى: 11 / 415.
(10) الصارم المسلول، ص 45 تفسير القرطبي 12/209، ابن كثير3/ 276.
(11) القرطبي: 12/205.
(12) الصارم المسلول: 47، 49.
(13) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(14) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(15) ابن كثير: 3/278.
(16) البداية والنهاية 8/93.
(17) الشفا: 2/1113 وراجع أيضاً الصواعق المحرقة/387، المحلى 11 /415.
(18) رسالة في سب الصحابة، 47.
(19) البداية والنهاية 8/139.
(20) الكفاية للخطيب البغدادي، 97.
(21) الإمامة لأبي نعيم / 344.
(22) نفسه /376.
(23) انظر الصارم المسلول / 592.
(24) انظر اتحاف ذوي النجابة: محمد بن العربي التباني / 75.
(25) صرح بعض من تولى كبر تلكم المزاعم والتهم والضلالات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينجح وأن الذي ينجح في ذلك المهدي الغائب (أي مهديهم) راجع الرسل والرسالات للأشقر/ 212، 213.
(26) صححه الألباني بطرقه وشواهده: السلسلة الصحيحة1/34.(26/38)
منبر الشباب
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
حكمت الحريري
(اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا
قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب في سبيلك، فبعزتك لا تدخلني النار) . قلت: ويرحم الله عبداً قال آمينا.
هذا ما أورده الأستاذ النواوي في مقدمة كتابه (رؤية إسلامية في الصراع
العربي الإسرائيلي) .
كم كان مؤثراً في نفسي ذلك الدعاء، وكم استوقفتني تلك الكلمات، فالدعاء
توفيق من الله الذي تتم بنعمته الصالحات، يا رب لا تعذب لساناً يخبر عنك ... ولا
يداً تكتب في سبيلك..
وإن من بين الأيادي التي كتبت في سبيل الله أحد الأفراد القلائل من الدعاة
الذين باعوا نفوسهم لله ولم يسترخصوها لغير دين الله عز وجل، ذلك الداعية الذي
صنف كتاب (الإسلام بين العلماء والحكام) ثم كان مصيره عليه رحمة الله مصير
القلة الذين كان موضوع كتابه عنهم حيث كان معجباً بموقفهم وقد عمل بما علم،
وما ذكره نظرياً عاشه عملياً فهنيئاً لمن شرح صدره للإسلام.
فقد كتب عليه رحمة الله عن محنة كثير من العلماء العاملين وبين مواقفهم من
الحكام عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وجعفر الصادق، وأبي حنيفة،
ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، والعزبن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن
تيمية، ولقد هممت بوضع ملخص لذلك الكتاب في بضع صفحات ولكني وجدت أن
الملخص يخل بالموضوع فلا بد لمن أراد أن يعرف الحقيقة بعين اليقين، لا بد له
من الرجوع إلى الكتاب فالخلاصة لا تغني عن الأصل.
وأحببت إذ فاتني ذلك في (البيان) - أي ذكر الملخص - ألا أدع الفرصة
تفوتني لأتحدث عن بعض المواقف التي ذكرها رحمه الله تعالى وأضيف إليها ما
شاء الله لي أن أضيفه من ذلك.
ومن بين الذين كتب عن محنتهم ومواقفهم من الحكام، الإمام البخاري أمير
المؤمنين في الحديث، الذي نذر حياته لجمع حديث رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-، وتمييز صحيحه من ضعيفه، وطاف البلاد الإسلامية لهذا الغرض.
كانت محنة الإمام البخاري على يد أمير خراسان (خالد بن أحمد الذهلي)
الذي طلب منه وهو في بلده بخارى أن يحضر إليه ليسمع أولاده منه، فأبى أن
يذهب، وقال: في بيتي يؤتى العلم.
وأراد الأمير أن ينفر الناس عن السماع منه فلم يستجيبوا لذلك، ثم أمر بنفيه
من بلده إلى (خرتنك) وهناك مرض ومات على أثر ذلك في ليلة عيد الفطر،
رحمه الله تعالى.
ولكن الخير لا ينقطع من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب
المروءة والنخوة لم ينتهوا في هذه الأمة إلى يوم القيامة بحول الله وقوته. فعندما
وصل خبر محنة البخاري إلى بغداد تضجر الناس واهتزت ضمائرهم وغضبوا لما
نزل بالعالم الورع التقي الزاهد، وبقي الأمر في نفس الموفق بن المتوكل أخي
الخليفة المعتمد، يتحين الفرصة المناسبة للانتقام لأمير المؤمنين في الحديث من
ذلك الظالم.
ولما دخل موسم الحج وصل أمير خراسان خالد بن أحمد الذهلي إلى بغداد وما
إن بلغ الموفق خبر وصوله حتى أمر باعتقاله مخفوراً ثم طرح في السجن حتى
مات.
وأما سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى فله مواقف سجلها
تاريخ الإسلام ولا تزال موضع فخر واعتزاز لكل من شهد لله بالوحدانية ولمحمد -
صلى الله عليه وسلم- بالنبوة والرسالة.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فلم تكن محنته بأيسر من غيرها وما جرى له من
محن وابتلاءات يطول الحديث عنها، وقد سارت بذكره الركبان رحمه الله تعالى،
وما وجدت عالماً من العلماء المنصفين يكتب عن المجددين إلا وذكر شيخ الإسلام
ابن تيمية، ولم يكتب أحد عن الأعلام إلا وكتب عنه رحمه الله، وقد أفردت في
سيرته مصنفات عظيمة، ولا حاجة بنا إلى ذكر شيء من سيرته أو محنته في هذا
المقال، ولكني أحيل على بعض ما كتبه عنه العلماء مثل: سير أعلام النبلاء
للذهبي، والبيطار في كتابه (حياة شيخ الإسلام) والندوي.. والمودودي، وابن
حجر.. وغيرهم كثير.
هذا ما ذكره مصنف كتاب (الإسلام بين العلماء والحكام) رحمه الله تعالى
رحمة واسعة.
وأضيف إلى تلك السير محنة الإمام النووي رحمه الله تعالى وخلاصتها أن
الظاهر بيبرس أراد أن يجمع المال من الناس لصد خطر التتار الزاحف على بلاد
الشام، وكان يحتاج إلى المال والعتاد لمقابلة الغزاة وصدهم، وأخذ السلطان فتوى
العلماء بتأييد عمله فكتبوا له وأفتوه بما أراد ما عدا الإمام النووي بقي متمسكاً برأيه
ممتنعاً عن فتواه بهذا الأمر، وقد كان كثير النصح للسلطان، ولكن السلطان رد
النصيحة في هذا الموضوع أي بجمع المال، فالخطر الداهم شديد وفساد التتار
وتخريبهم لبغداد وغيرها لم يكن خافياً عليهم، وعندما وجده مصراً على عدم فتواه
استدعاه، وهنا كان جواب النووي، ورده على السلطان عنيفاً وقال له: ...
(أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بند قدار وليس لك مال ثم مَنَّ الله عليك وجعلك م لكاً وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائة جارية لكل جارية حق من الحلي فإن أنفقت ذلك كله وبقيت مماليك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن، دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية) .
فغضب الظاهر من جواب النووي وقال له: اخرج من بلدي -أي دمشق -
فخرج إلى بلده نوى بحوران التي هي مسقط رأسه، فقال الفقهاء: إن هذا من كبار
علمائنا وصلحائنا. وممن يقتدى به فأعده إلى دمشق، فرسم برجوعه، ولكن الشيخ
امتنع، وقال: والله لا أدخلها والظاهر بها فمات الظاهر بعد شهر.
ومنذ بضعة عشر عاماً كان للشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى موقفاً
شبيهاً بهذه المواقف، من حيث الرجولة والصدع بكلمة الحق وقد كلفه ذلك الموقف
حياته، وأمثال الذهبي الذين قدموا أرواحهم في سبيل الله كثر نسأل الله أن يجعل
أعمالهم خالصة لوجهه الكريم، ولكن لم تكن الشعوب التي شهدت موقف الذهبي
وغيره في عصرنا، لم تكن مواقفها هي مواقف الشعوب التي عاصرت محنة
النووي والعز بن عبد السلام وابن تيمية.
فلم تهتز ضمائرهم لإهانة هؤلاء العلماء وإيذائهم مثلما اهتزت ضمائر أولئك
الناس في عهد النووي وغيره. هذه أمثلة من تاريخنا الإسلامي العريق، [إنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ] .(26/47)
البيان الأدبي
نظرة في منهج تاريخ الأدب
د. عبد الله خلف
إن الناظر في كتب تاريخ الأدب الحديثة ليعجب مما يجده فيها من أحكام
يصدرها مؤلفوها على المجتمعات الإسلامية الأولى، وما تشير إليه من شيوع
مظاهر اللهو والعبث والمجون، علاوة على ما تضمنته من مبالغات في حديثها عن
الجوانب السلبية في حياة الأفراد، مما يدفع المرء إلى التساؤل بإلحاح عن مدى
صحة تلك الأحكام. ولا سيما أننا نرى أولئك الدارسين يشيرون إلى أنهم اعتمدوا
في ذلك على مصادر مشهورة من كتب التراث، قاصدين إضفاء الصفة العلمية
عليها، وإحاطتها بهالة من التوثيق.
وبذلك أصبحت كتب التراث بما تتضمنه من ثروة خبرية وهائلة مصدراً -
لكثير من الدراسات التي شوهت معالم التاريخ الإسلامي في جوانبه السياسية
والاجتماعية والثقافية بسبب البعد عن المنهج العلمي في التعامل مع النصوص.
لقد تعرض تاريخنا منذ العصور الأولى ولا زال يتعرض لحملة تشويه كبرى، تمثلت قديماً في وضع طائفة كبيرة من الأخبار والحكايات التي تخدم أهل الأهواء
على اختلاف اتجاهاتهم، وتمثلت في العصر الحاضر في الدراسات التي استندت
إلى تلك الأخبار، ولم يعد من العسير على الذين يتبنون آراء شاذة، أو يريدون
تشويه معالم الصورة المشرقة لتاريخنا أن يجدوا من الأخبار ما يسندون به وجهات
نظرهم. كما أن كثيراً من الباحثين الذين لم ينطووا على نوايا سيئة وقعوا في
التخليط، ووصلوا إلى نتائج غير سليمة، بسبب تأثرهم بدراسات الآخرين من جهة، وبسبب عدم اتباعهم منهجاً علمياً يمكنهم من الاستفادة من التراث من جهة أخرى.
ويكاد يكون من المتفق عليه أن كتب التاريخ والأدب التراثية تحتوي على عدد
كبير من الأخبار والحكايات الباطلة، وأن الذين صنفوا في هذين الموضوعين
حشدوا في كتبهم ما وصل إليهم منها دون تمحيص إلا في القليل النادر. وممن أشار
إلى ذلك أبو بكر بن العربي الذي حذر من روايات المؤرخين وأهل الآداب لما
يتضمنه كثير منها من الاستخفاف بالسلف [1] ، ويقول ابن تيمية بعدما أثنى على
أهل الحديث [2] : (بخلاف الأخباريين فإن كثيراً مما يسندونه عن كذاب أو
مجهول، وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض) .
وأخذ النووي على ابن عبد البر حكايته عن الأخباريين، لأن الغالب عليهم
الإكثار والتخليط [3] .
ولم يقتصر التحذير من روايات الأخباريين على العلماء، فقد نص على هذا
كثير من الأدباء. يقول الجاحظ مصوراً سهولة الكذب على الرواة وسهولة
نشره [4] : 0 وما هو إلا أن ولد أبو مخنف حديثاً، أو الشرقي بن القطامي، أو الكلبي، أو ابن دأب، أو أبو الحسن المدائني، ثم صوره في كتاب وألقاه في الوراقين إلا رواه من لا يحصل ولا يتثبت ولا يتوقف، وهؤلاء كلهم يتشيعون (.. ويقول أحمد أمين [5] :) وجاء حماد وخلف الأحمر - كما سبق - وأمثالهما فعدوا من الظرافة أن يتزيدوا، وتسابقوا في الوضع، واستغلوا إعجاب الناس بالجديد الذي لم يسمع من قبل ... فكان من ذلك ما أدركه المفضل الضبي من أن تمييز الصحيح من غير الصحيح أصبح بعد هؤلاء الكذبة المهرة عسيراً ومحالاً.
وتحدث زكي مبارك عن كتاب الأغاني مشيراً إلى خلق الأصفهاني الذي كان
مسرفاً في اللذات والشهوات مما دفعه إلى الاهتمام بأخبار الخلاعة والمجون،
وإهمال الأخبار التي تصور الجوانب الجادة في حياة الأفراد والمجتمعات. ثم ذكر
أن هذا الأمر أفسد كثيراً من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا، عليه [6] ، والأصفهاني
نفسه الذي يعد كتابه أضخم مجموعة أخبارية في تاريخ الأدب يصرح بأن منهجه
يقوم على جمع كل ما رواه الناس وتداولوه، ولو كان كذباً، لئلا يشذ عن الكتاب
شيء مما تناقله الرواة.
وإذا كان الأمر على ما ذكرنا من كثرة الأخبار الباطلة، وما يحمله كثير منها
في طياته من تشويه لمعالم التاريخ الإسلامي في مختلف جوانبه، أو لحياة بعض
الأشخاص فإنه لا بد من الاحتراز وتحكيم العقل والمنطق في قبول الأخبار أو
رفضها إذا كان إسنادها غير مقبول. وهذا أمر لا مفر للباحث منه إذا كان هدفه
الوصول إلى الحقيقة، وإلا فإنه سوف يسهم في ترسيخ الأخطاء وتشويه المعالم
الصحيحة، وسيكون خطؤه أعظم من خطأ السابقين الذين كانوا يروون الأخبار
عالمين بأن فيها الغث والسمين متبرئين من عهدتها، لأنه عندما يقبل ما رووه دون
تحقيق سيكون بمثابة من يرى صحة ما احتوته تلك المصنفات، وسيجد نفسه أمام
كثير من الغرائب والمتناقضات فإن قبلها جميعاً وقع في التناقض. وإن قبل بعضها
ورد بعضها دون تحقيق صار صاحب هوى، وبذلك يكون قد ابتعد عن المنهج
العلمي، وفقد جانباً من أهم ما يتميز به المحققون.
ولا بد للباحث من الاستعانة بالأخبار ذات الإسناد المقبول لرسم الخطوط
العامة، والمعالم الرئيسية لموضوع البحث، لكي تكون مقياساً يستعين به على قبول
غيرها من الروايات أو رفضه، ولا يمكن للباحث الاستغناء عن كل خبر لا يصح
سنده لأننا في هذه الحال سنجد حلقات كثيرة مظلمة في تاريخ الأفراد أو التاريخ
العام، ولن نجد من الأخبار ذات الإسناد المقبول ما يكفي لإضاءتها. وسبب ذلك أن
العلماء والرواة السابقين لم يكونوا يولون الإسناد أهمية إلا في الحديث النبوي وما
يتصل به. أما ما عدا ذلك فلم يكونوا يرون بأساً في نقله وتداوله بدون إسناد، أو
بإسناد فيه بعض المتهمين. ومما يدل على ذلك ما ذكر عن إبراهيم بن الجنيد أنه
سأل يحيى بن معين عن إبراهيم بن مناذر الشاعر، فقال: لم يكن ثقة ولا مأموناً.
قال له إبراهيم: إنما نكتب شعره وحكايات عن الخليل بن أحمد، فقال: هذا نعم،
وأما الحديث فلست أراه له موضعاً [7] .
وكون الخبر من ذلك النوع لا يعني القطع بعدم صحة مضمونه وليس أمامنا
لكي نقرر قبوله أو رفضه إلا دراسة متنه وتحليله وتحكيم العقل فيه ومقارنته
بالأخبار المقبولة.
وللنصوص الأدبية الإبداعية من شعر ونثر أهمية كبيرة في إضاءة بعض
الجوانب من حياة الأفراد أو المجتمعات، إذا ما تمت دراستها بمعزل عما حيك
حولها من حكايات. ومن أمثلة ذلك أنه قد اشتهر بين كثير من المعاصرين أن
الاختلاط والسفور كانا شائعين في مجتمع الحجاز في العصر الأموي، وأن النساء
كن يبرزن للرجال، ويتعرضن للشعراء ليتغزلوا بهن ويجلسن معهم مجالس السمر
المختلطة حتى في غيبة أوليائهن. ويستدل هؤلاء على ذلك بالقصص والحكايات
الباطلة. ويزعمون أن الشعر الحجازي، ولا سيما شعر عمر بن أبي ربيعة يدل
على صحة آرائهم.
بيد أن المتأمل في شعر عمر وغيره من شعراء الحجاز المعاصرين له يدل
على خلاف ما توهمه أولئك الدارسون، ومن ذلك ما نجده في شعر عمر من
الحديث عن مغامراته الليلية، وتسلله تحت ستار الظلام للقاء من يحب حيث يبدو
من يسعى إلى ذلك اللقاء بصورة الذي يريد أن يقدم على أمر شديد الخطر، فهو لا
بد أن يكون منتبهاً شديد الحذر، وأن يأخذ بجميع أسباب الحيطة لأن انكشاف ذلك
الأمر سوف يسبب له المتاعب، ويعرضه لخطر عظيم، وهو لا يستطيع الوصول
إلى ما يريد في النهار، ولكنه يتسلل إليه في الظلام بعد أن ينام الحي، ويغفل
الرقباء ويهجع الحراس. والأمثلة التي تبين لنا ذلك من شعره كثيرة جداً لا يتسع
المقام هنا لأكثر من واحد منها، وهو قوله في رائيته المشهورة:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيان ونوم سُمَّر
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال حباب [8] وشخصي خشية الحي أزور [9]
إن في تصوير الشعراء لمغامراتهم الليلية ما يكشف لنا عن إحساسهم العميق
بالرقابة التي يفرضها المجتمع على الذين يريدون الخروج على أنظمته وقيمه
وتقاليده، وهذا يدل على مدى التحفظ الذي كان يسود المجتمع، ويوحي بما كان
يهيمن على العلاقات بين الرجال والنساء من الجد والالتزام بالحدود الشرعية.
ولعل في هذا ما يدل بوضوح على أن النصوص الأدبية يمكن أن تساعد
على الوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الباحث في تاريخ الأدب.
وهناك خطأ آخر وقع فيه كثير من المعاصرين، وأدى إلى إصدارهم أحكاماً،
خاطئة في حق المجتمعات الإسلامية الأولى، وهو نقص الاستقراء، والتعميم
الخاطئ حيث يعتمد الباحث على عدد قليل من المصادر ويهمل غيرها، وإذا وجد
بضعة أخبار حول أديب حكم من خلالها على حياته، دون أن يكلف نفسه عناء
البحث والتنقيب عن غيرها، وقد يحكم على مجتمع أو عصر بكامله من خلال ما
يقرؤه عن عدد قليل من الناس فيقع في التعميم الخاطئ. وهذا الأمر قد يكون بسبب
ضعف همة الباحث ورغبته في الوصول إلى نتائج سريعة، ولكنه ربما حدث
بسبب سوء نيته وحبه للترويج لمظاهر أو أفكار منحرفة عن طريق ادعاء أنها
كانت شائعة عند أسلافنا، ولا مبرر لرفضها وإنكارها في العصر الحاضر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاهتمام بتحقيق الأخبار والاستقصاء
والاستفادة من النصوص الأدبية لا يتنافى مع محاولات التنظير التي يهتم بها بعض
الدارسين، ولا مع ما يقومون به من دراسة وتفسير وتحليل لبعض الظواهر الأدبية، إذ أن ذلك جزء مهم من الدراسات الأدبية الحديثة. ولكن تلك الدراسات لن تكون
ذات قيمة علمية ما لم يكن الأساس النصوصي الذي بنيت عليه سليماً مقبولاً.
__________
(1) العواصم من القواصم / 260.
(2) مجموع الفتاوى 27/479.
(3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي / 116.
(4) كتاب البغال المطبوع ضمن رسائل الجاحظ 2/225-226.
(5) ضحى الإسلام 2/315 - 316.
(6) أبو الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني لمحمد عبد الجواد الأصمعي / 179 - 187.
(7) انظر الأغاني 18 /208.
(8) الحباب: الحية.
(9) الأزور: المائل أو الناظر بمؤخر عينه.(26/52)
قوموا قياماً ... ثم افزعوا
قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي
عبد الحميد إبراهيم
لقيط بن يعمر الإيادي شاعر قديم جاهلي مقل، ولا يعرف له إلا هذه القصيدة، وكانت قبيلته إياد ينزلون سواد العراق، وهي منطقة شمال شرقي الجزيرة
العربية الآن، وكان لقيط كاتباً في ديوان كسرى، ولما علم أن كسرى ينوي غزو
قبيلته إياد كتب إليهم بهذه القصيدة يحذرهم ويستنهضهم، فوقع الكتاب بيد كسرى
فقطع لسانه.
أبلغ إياداً وخلل [1] في سراتهم ... إني أرى الرأي -إن لم أعص- قد صعا
يا لهف نفسي إذا كانت أموركم ... شتّى، وأُحْكِمَ أمر الناس فاجتمعا
ألا تخافون قوماً لا أبا لكم ... أمسوْا إليكم كأمثال الدَّبَى [2] سرعا
فهم سراع إليكم؛ بين ملتقط شوكاً، وآخر يجني الصاب والسَّلعا [3]
لا الحرث [4] يشغلهم بل لا يرون لهم ... من دون بيضتكم رِيّاً ولا شبعا
وأنتم تحرثون الأرض عن سفه ... في كل معتمل [5] تبغون مُزْدَرَعا
وتلبسون ثياب الأمن ضاحيةً [6] ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا
مالى أراكم نياماً في بُلَهْنيةٍ [7] ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا؟!
فاشفوا غليلي برأي [8] منكم حصد ... يصبح فؤادي له ريان قد نقعا
صونوا جيادكم واجْلَوا [9] سيوفكم ... وجددوا للقسي النبل والشِّرعا
لاتُثْمروا المال للأعداء؛ إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا [10]
هيهات لا مال للأعداء؛ إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
والله ما انفكت الأموال مذ أبد ... لأهلها (إن أصيبوا مرة) تبعا
قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمن من زعا
وقلِّدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضَّ مكروه بهخشعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره [11] ... يكون متَّبِعاً طوراً ومتَّبَعا
حتى استمرت على شَزْر مريرته [12] ... مستحكم الرأي لا قحماً ولاضرعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرِّفعا [13]
لقد بذلت لكم نصحي بلا دَخَل [14] ... فاستيقظوا، إن خير العلم ما نفعا
شرح القصيدة
بلِّغ ما سأقول لك قبيلة إياد، واخصص أشرافهم ورؤساهم بهذا التبليغ، فقد
أصبح الأمر واضحاً لا يحتاج إلى انتظار، ما أشد تلهفي وتوجعي إذا واجهتم
التهديد والخطر بالفرقة، واجتماع الناس عليكم بالتفرق والتشتت.!
القوم (الفرس) قد احتشدوا لكم عن آخرهم ينوون غزوكم، وهم مثل الجراد
في كثرتهم، ألا تخشون عاقبة غزوهم لكم؟ !
هاهم يسارعون إليكم، كل منهم يتجهز ويعد العدة لا ستئصالكم. ولم تشغلهم
عنكم دنيا من زراعة وتجارة، بل تركوا كل أعمالهم وشواغلهم وتفرغوا لاستباحة
ساحتكم وقهركم، هذا وأنتم مع كل هذه الأخطار المحدقة بكم لا زلتم من ضعف
عقولكم مشغولين بزراعتكم حريصين على عمل هنا وعمل هناك، آمنين حين
يخاف الناس، مستكينين حيث ينظر الناس للخطر المحدق، لا تحركون ساكناً مع
أن الخطر على مرأى البصر منكم قد تجهز واستعد لإبادتكم.
ما هذا الأمن والدعة والخمول الذي أراكم نائمين فيه، في وقت تدق حولكم
أجراس الخطر وتشتعل حولكم النيران، وقد أذنت ساعة الحرب التي لا مرد لها؟ ! فأجمعوا أمركم على رأي قوي واحد يشفي الفؤاد المتحرق الذي طال انتظاره
للنصر.
استعدوا بكل أنواع الاستعداد وتعبَّئُوا بكل أشكال التعبئة؛ من الاعتناء بالخيل
وتدريبها؛ وتجهيز عدة الحرب من سيوف وقسي، واتركوا صرف الوقت في
تثمير المال جانباً الآن، لأن الأعداء إن يتغلبوا عليكم فلن تنفعكم هذه الأموال التي
ستكونون معها ملكاً للمتغلب. وأي نفع للزرع والإبل الذي تصرفون إليه همكم الآن
إن ضربت عليكم الذلة والمسكنة؟ المال تبع لأصحابه فمن يقهر الناس يسخرهم
ومالهم لمنفعته.
هيا هبوا هبة رجل واحد فالأمر لا يحتمل التأجيل أو التقاعس، ففن لا يحس
بالفزع لن يعرف الأمن. واجتمعوا على قائد مقدام بصير بالحرب قادر على حمل
تبعاتها، لا شخصاً قتل رجولته الرخاء، واعتاد خفض العيش، واستنام إلى الدنيا
وملذاتها، وليس رجلاً ضعيف النفس، ينهار لأول مكروه يعترضه.
أسندوا أمركم لرجل عرك الأمور، وحنكته التجارب، وتقلبت عليه الأيام
بحلوها ومرها حتى اشتد أسره، واستحكمت إرادته، لا هرماً ولا ضعيفاً، ولا
يشتغل بتثمير المال وحيازته وتكديسه، ولا يهتم بأولاده يبحث لهم عن تأمين
المستقبل المادي ويترك الاهتمام بأمر الرعية.
هذا نصحي قدمته لكم مخلصاً، فأفيقوا من غفلتكم ولا تكتفوا بسماع هذه
النصيحة أو حفظها دون العمل بها، فإنه لا خير في علم لاينتفع به.
على هامش القصيدة
هذه القصيدة خطبة حماسية، تعلو نبراتها وتهبط وتتراحب موجاتها وتنقبض
بقدر ما يسمح بذلك (البحر البسيط) ، جملها مباشرة وواضحة، وعناصر الإثارة
فيها نابعة من النظر إلى مشكلة وجود الجماعة برمتها، وهذا أبلغ في التأثير.
وبما أنها من الوضوح بما لا يجعلنا بحاجة إلى الوقوف كثيراً عند التحليل
والشرح؛ فإن من المناسب إلى أن نشير على هامشها بإشارات عدة تلقي الضوء
على دلالتها المطلقة من عقال الحادثة التاريخية المحدودة.
1 - أول ما يحذر منه الشاعر، ويعبر عنه تخوفه وقلقه الشديد منه هو داء
الفرقة، وهذا الداء الذي ينجم عنه تقديم المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية،
ويكون الباعث على تجاهل آثاره المدمرة هو قصر النظر وعدم التفكير في العواقب.
2 - الاشتغال بالكسب واستغراقه للجهود مجتمعة - دون تفكير بجانب الوقاية
من المخاطر المتوقعة، وحماية هذه المكاسب من العدو الطامع المتربص بها -أخذ
من الشاعر جهداً غير قليل في التحذير منه..
3 - القضية الثالثة قضية القيادة والريادة ومواصفاتها. فقد أبرز الشاعر
الصفات العامة للقائد المطلوب بأن يكون:
أ - واسع الأفق كريم النفس.
ب - خبير بأمور الحرب.
ج - بعيد عن الترف.
د - صبور قوي الإرادة عند الملمات.
هـ - عنده خبرة وتجربة ولم يقفز إلى القيادة قفزاً.
و غير هرم ولا ضعيف الشخصية.
ز- لا يسخر منصبه لمصلحته الخاصة ومصلحة عائلته.
هذه القضايا الثلاث، بل هذه الأمراض الثلاثة: الفرقة، وتقديم الأقل أهمية
على المهم (الخلل في ترتيب الأولويات أو إهمال بعضها) ، واستغلال المناصب
العامة من أجل الأغراض الخاصة؛ لم تزل أمراضاً قديمة - حديثة، عميقة الجذور
بين المجتمعات البشرية، وعلى الرغم أن كثيراً من الأمم قد وجدت الحلول التي
تحد من أخطار هذه الأمراض (ولا نقول: اقتلعتها من جذورها) إلا أننا - نحن
العرب من بين الأمم - لم نهتد إلى حل يجنبنا الويلات التي عانيناها من الفرقة
والجهل والطغيان والاستبداد.
إن قبيلة إياد التي يستنهضها الشاعر بقصيدته تشكل في عرف تلك الأيام
الدولة بالنسبة للفرد، وهذه الدولة الصغيرة التي كان وجودها مهدداً بتسلط كسرى
وجبروته استطاعت أن تثبت في وجهه وتهزمه عندما تنبهت إلى عوامل القوة
الكامنة، وفزعت إلى قوتها الذاتية وطاقاتها المذخورة.
ولا أريد أن أستغل حرب (ذي قار) التي كانت جواباً عملياً على التحذير في
هذه القصيدة من أجل الإشادة بالنعرة القومية والعصبية العنصرية التي لجأ إليها في
يوم من الأيام أصحاب الفكر القومي الذي قدم مقابل الفكر الإسلامي؛ بل الغرض
هو المقارنة بين حالتين تاريخيتين واستخلاص الدرس والعبرة من أولاهما للثانية
لوجود تشابه بينهما..
ف (إياد) كانت مهددة بقوة خارجية، والعرب الآن مهددون بقوى خارجية،
وإياد كانت أثناء ذلك التهديد غافلة عما يحاك لها. ونحن فينا غفلة شديدة عما يحاك
ويدبر لنا، وكان لقيط بن يعمر هو المحذر من ذلك الأمر المنذر بالخطر، وأهل
العلم والمفكرون هم اليوم الذين يقومون بهذه المهمة.
واستهلاك الجهود في الزراعة والتجارة وتثمير الأموال هو ما يجب أن
يوضع في مكانه الصحيح وأن يضاف إليه جهد آخر هو جهد الدفاع الصحيح
والحماية لهذه الجهود والأموال التي يحتال علينا العدو في اقتناصها بشتى الخدع
والأساليب، فالأموال التي تبقى بعد استهلاك الكثير منها في الفسق والفجور
والكماليات والمشاريع الديكورية، والمظاهر الخادعة وفي غير ذلك مما لا فائدة منه
على المدى الطويل؛ تستهلك عن طريق دعم مصانع الأسلحة الغربية التي تصنع
آلات الدمار والفناء للبشرية المعذبة بسيطرة مفاهيم هذه الحضارة الأوربية
المتغطرسة.
يبدو أننا أنزلقنا من حيث لا نشعر إلى الحديث عن السياسة، ونحن لا نريد
ذلك، ولكن إيحاءات هذه القصيدة دفعتنا إلى هذا الاستطراد الوبيل دفعاً.
وكلمة أخيرة: إذا نحن جردنا تاريخنا من كل ما له علاقة بالإسلام منذ موقعة
(ذي قار) إلى اليوم، واستبعدنا كل اللمعات المضيئة من ذلك التاريخ فماذا يبقى
من أشياء صالحة للاعتزاز بها؟ ! سوف نرى أن أحوالنا ما زالت في تراجع منذ
ذلك الوقت إلى الآن حيث أحيطت كل مجموعة من القبائل والأوزاع بسياج قرئت
عليه طلاسم خرافية سموها (القانون الدولي) وحفظت في أقبية لندن وباريس
ومبنى عصبة الأمم ومن بعدها هيئة الأمم! ورضينا نحن بهذه الخطوط الوهمية
المقروءة عليها تلك التهاويل الخرافية! وهاهي دول الغرب الصليبي، (والاتحاد
السوفييتي الصديق وبلدان المنظومة الاشتراكية) كلها تشارك في تجديد العهد على
إغاظتنا وإنزال الآلام في قلوبنا - بمشاركتها في جلب موجات من اليهود الجدد إلى
فلسطين بعد كل مساهماتها الماضية - على الرغم من تغزلنا بأسمائها، وتمطقنا
بذكرها في الحقبة السوداء الماضية؛ فلا ندري ماذا نفعل، ولا نقف وقفة صحيحة
لا كالمسلمين الذين يأبى عليهم دينهم قبول الضيم، والرضا بنتائج الكيد والخداع؛
بل ولا كعرب الجاهلية الذين استنهضوا فنهضوا، واستفزعوا ففزعوا! ! فهل إلى
خروج من سبيل؟ ! نرجو ذلك.
__________
(1) خلل في سراتهم: خص أشرافهم بالتبليغ والتحذير نصع الرأى: بان ووضح.
(2) الدَّبى: صغار الجراد.
(3) يجنى الصاب والسلعا: الصاب والسلع: نوعان من الشجر ويجني الصاب والسلعا كناية عن إضمار الشر وإعداد السلاح.
(4) الحرث: الزراعة بيضتكم: أرضكم وأصلكم.
(5) المعتمل: موضع العمل المزدرع: موضع الزرع.
(6) ضاحية: ظاهرة لا تفزعون: لا تنفرون، ولا تتهيئون.
(7) البلهنية: رخاء العيش ولينه.
(8) الرأي الحصد والمستحصد: الرأي المبرم القوي.
(9) واجلوا سيوفكم: اشحذوها وأعدوا للقتال.
(10) جدع الأنف: قطعه، وهو كناية عن الذل والخضوع.
(11) حلب الدهر أشطره: جرّب الدهر وعركته الأيام.
(12) استمرت مريرته: اشتدت قوته الشزر: شدة الفتل القحم: الشيخ الفاني الضرع: الضعيف.
(13) الرِّفع: جمع رفعة.
(14) بلا دخل: بلا غش، بل نصحت لكم مخلصاً في النصح.(26/57)
شعر
الحرية
محمد نموس
أخبرنا أستاذي يوماً عن شيء يدعى الحرية
فسألت الأستاذ بلطف أن يتكلم بالعربية
ما الحرية؟ !
هل هي مصطلح يوناني عن بعض الحقب الزمنية؟ !
أم أشياء نستوردها أو مصنوعات وطنية؟ !
فأجاب معلمنا حزناً وانساب الدمع بعفوية
قد أنسوكم كل التاريخ وكل القيم العلوية
أسفي أن تخرج أجيال لا تفهم معنى الحرية
لا تملك سيفاً أو قلماً، لا تحمل فكراً وهوية
***
وعلمت بموت مدرسنا في الزنزانات الفردية
ونذرت لئن أحياني الله وكانت في العمر بقية
لأجوب الأرض بأكملها بحثاً عن معنى الحرية
وقصدت نوادي عروبتنا أسألهم أين الحرية؟
فتواروا عن بصري هلعاً وكأن قنابل ذرية
ستفجر فوق رءوسهم وتبيد جميع البشرية
فدنا رجل يبدو أن ذاق عذاب الشُرَط السرية
لا تسأل عن هذا أبداً أحرف كلماتك شوكية
هذا رجس، هذا شرك في دين دعاة الوطنية
ارحل؛ فتراب مدينتنا يحوي آذاناً مخفية
تسمع مالم يحك أبداً وترى قصصاً بوليسية
ويكون المجرم حضرتكم والخائن حامي الشرعية
ستبوء بكل مؤامرة وبقلب نظام الثورية
وببيع روابي بلدتنا يوم الحرب التحريرية
وبأشياء لا تعرفها وخيانات للقومية
وتساق إلى ساحات الموت عميلاً للصهيونية
واختتم النصح بقولته وبلهجته التحذيرية
لم أسمع شيئاً لم أرَكُمْ ما كنا نذكر حرية
هل تفهم؟ عندي أطفال كزغاب الطير البرية
***
وسألت جموع المغتربين أناشدهم ما الحرية؟
فأجابوا بصوت قد دوى: فَجَّرت هموماً منسية
لو ذقناها ما هاجرنا وتركنا الشمس الشرقية
بل طالعنا معلومات في المخطوطات الأثرية
أن الحرية أزهار ولها رائحة عطرية
كانت تنمو بمدينتنا وتفوح على الإنسانية
ترك الحراس رعايتها فرعتها الحمر الوحشية
***
وسألت أديباً من بلدي هل تعرف معنى الحرية؟ .
فأجاب بآهات حرّى: لا تسألنا، نحن رعية!
ووقفت بمحراب التاريخ وقلت له ما الحرية؟
فأجاب بصوت مهدود يشكو من وقع الهمجية
الحرية:
أن يحيا الناس كما شاء الرحمن لهم بالأحكام الربانية
وفق القرآن ووفق الشرع ووفق السنن النبوية
لا وفق قوانين الطغيان وتشريعات أرضية
وضعت كي تحمي أشخاصاً تقفو الأهواء الشخصية
الحرية:
ليست نصباً تذكارياً يغسل في الذكرى المئوية
الحرية لا تستجدى من سوق النقد الدولية
الحرية لا تمنحها هيئات البر الخيرية
الحرية نبت ينمو بدماء حرَّى وزكية
الحرية تنزع نزعاً
تؤخذ قسراً
تبنى صرحاً
يعلو بسهام ورماح ورجال عشقوا الحرية
إن تغفل عن سيفك يوماً فلقد ودعت الحرية.(26/64)
ذكريات من مواسم الهجرة
-1-
د. مصطفى السيد
ما كنت أحسب -وأنا أضع عصا الترحال- في رحلة من مواسم الهجرة
نحو الخليج، في مطالع التسعينيات من القرن الرابع عشر الهجري ما كنت أحسب
أني سأستقر مجاوراً لمرابع (تميم) وفي مدينة من مدن القصيم [1] ، وما دار بخلدي
أن للتاريخ حضورًا في (نجد) يتجاوز الكتب الراقدة فوق رفوف المكتبات، أو
المحفوظات الرسمية في صدور الرجال.
إن هذا الجحود لعبقرية المكان وما أكنَّته (الكثبان) كأنه أمر متوارث، وكأن
الأدباء تواصوا به، فاضطربت أقوالهم في مواطن الأيام ومواضع الوديان وأماكن
المياه في مهبط إلهام الشعر العربي في (نجد) فتقاذفوا وديانها بين جنوب وشمال،
ويمان وشآم.
إن (عزرا باوند) [2] (1885-1972) قد ذرع بحر (إيجه) جيئة وذهاباً،
ويستلهم كل حجر ومدر ويستنطق كل واد وجبل عن أخبار القوم في الإغريق،
ولقيت اليونان من عشاق حضارتها ما لم تبلغ نجد مده ولا نصيفه.
نجد في الأدب العربي معادل موضوعي لليونان في الآداب الغربية فهي خزانة
الأدب وعتائد [3] الهوى، استضاءت بنور الوحي، ثم كبت كبوة كأداء - الردة -
ثم وثبت تختزن في وعيها دواوين الفصاحة وتراث الأيام، فلم تهن اللغة ولم يغب
الشعر، بل أطل جذعاً فوق منابر الشام والعراقين وخراسان ومصر، مفعماً بالقوة
مترعاً بالمروءة، لم تزور عنه (حداثة) قصور الشام، ولم تقصه بلاد الرافدين فلم
يلق جحوداً ولا كنوداً كالذي يقنّع به الآن.
-2-
قاتل الله شيطان الشعر، فقد استهدفت بحديثي أرض تميم، وما رميت إلى
استنطاق كل حجر ومدر في نجد، فلذلك الأمر أهله، لقد أوسعتني النوى شسوعاً،
وقذفت بي المطامع لأفتح عيني حين أفتحها في قلب نجد، دار الزمان دورته،
وعادت نجد مهجراً ومهاجراً، تؤمها رحلة الشتاء والصيف.
من القاهرة وبيروت إلى (هجرة) [4] تمثلت في بضعة بيوت، إنها مأساة،
فزعت منها إلى مملكة الخيال لأجبه جحافل الواقع، لقد أسبلت عيناي معاً، وتلفت
القلب إلى قريتي في البقاع والأشجار التي اصطفت على مداخلها كأنها حرس شرف.
كيف الشجيرات التي على طريق البلد؟
طويلة أم انحنت حزينة في كمد؟
تزورها بلابل من الشمال تغتدي
أم أنها عارية الأعراف في توجد؟
أية عبقرية للشاعر الجاهلي التي جعلته يتجاوز الفناء المفروض على الأرض
إلى البناء الذي أقامه في عالم الكلمة، لقد وجد في (أبيات) القصيدة عوضاً عن
(الأبيات) التي جدت يد الفناء في هدمها، حتى باتت مسكونة بعويل الريح،
مقطونة برماد التذكر، ليت نقادنا يخبروننا عن الوشائج بين بيت الشِّعر وبيت
الشَّعر، الذي لم تطق ميسون بنت بحدل الكلبية أن تغادره عندما انطلقت بهذا
الحوار الداخلي:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
كل هذا الحوار يقول إن الوطن ليس شملة يسهل خلعها كما لا يصعب ارتداء
غيرها.
في تلك (الهجرة) قرأت كتاباً لحسن عبد الله القرشي عن عنترة لأقف من
خلاله على المعالم الخفية للمكان، لم يكن ذاك اختياراً، بل كان الكتاب الوحيد
الموجود في مكتبة المدرسة عن الأدب الجاهلي، ولكن لحسن الحظ فإن (نجد آل
الشيخ) قد استهوتني أكثر من نجد الجاهلية، لقد لفت نظري تغلغل فكر الشيخ محمد
بن عبد الوهاب وحضوره على كافة المستويات العوام والمتعلمين، ولا تكاد تجد لهم
ثقافة غيره في مكتبة مطوع الهجرة، وجدت فيها طائفة صالحة من الكتب: زاد
المعاد، البداية والنهاية، كتب آل الشيخ، ارتحلت بخيالي إلى بلدي لأقارن بين
مكتبة إمام المسجد في هذه القرية ومثيلاتها عندنا حيث تجد غالباً (مولد العروس)
و (دلائل الخيرات) وكتب تفسير الأحلام، وبقية المخدرات الفكرية من مصنفات أهل
التصوف.
-3-
كنت ملول الطبع ولا سيما إذا أكرهت على جُلاس لا يفيدون علماً، ولا
ينشرون من التاريخ عبراً، هذه النماذج البشرية التي لا نجد في كلماتها إلا لكمات
للحياة الجادة، يجرجر أحدهم عمره في سوح العجز، يموت أسى، ويقضي كمداً
إن خسر بضع دريهمات في صفقة عقدها، أو وقعة اقتصادية شهدها، ولكن خسارة
عمره لم ترفع منه رأساً، ولم تعل صوتاً، وأنى يرفع رأسه وهو لم يتعهد إلا فراغ
جيوبه، ولم يدر بخلده أن في رأسه، بل في قلبه أوعية بملئها يتميز البشر
ويتفاضل الخلق، لأشد ما تألمت على هؤلاء الذين يصرفون أعمارهم في هروب
منظم، ولا تبخل عليهم ذاكرة العجز باسم مهذب لهذا الفرار، وما أكثر الأسماء
(المرفوعة) والمسميا ت (المخفوضة) .
ومن فضل الله علي أن انتقلت بعد تلك القرية (التي ليس بها أنيس إلا اليعافير
وإلا العيس) إلى ماء لتميم، إلى وادي الرس، فأرشفنا على ظمأ زلالاً، أسرتني
حلاوة ذاك الماء، وكثيراً ما استحضرت وفاء السموأل واسترجعت كرم حاتم، بل
إن صاحب الماء تجاوز بسمو الإسلام وشعب الإيمان هذه الرموز الجاهلية، وصدق
رسول الله-صلى الله عليه وسلم- القائل: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام
إذا فقهوا) ، ولم يكن الماء التميمي في جو نجد اللاهب يزيل جفاف الفم فحسب بل
يزيل أيضاً جفاء القلب، وما أن تضيء أنوار الحديث حتى أشعر أننا في غير
زماننا وخارج مكاننا نستفتي ابن منظور، ونراجع (المغني) ولا يحسم الجدل إلا
(بالفتاوى) ولا نغيب عن العصر أو يغيب عنا وحول الماء الندي والخلق تمثل بفتية
أقصوا الدنيا وإن لم تقصهم، وفارقوها وإن لم تبرح لهم مغازلة وإليهم متشوفة.
-4-
كان صاحب الماء يطربه الحديث، ويعجبه هذا المعرض التاريخي الدائم،
قناة للتواصل، يسع مرتادي هذا الماء بحلمه ويغضي عن بعض التجاوزات
بابتسامة طبعت على شفتيه، وكان الطعام والإكرام أقل ما يجده الناس في هذا
المورد التميمي، وإذا ذكر أحد الحاضرين حاجة إلى مال أو افتقار إلى جاه - أسر
صاحب الماء ذلك في نفسه ولم يبده - ليندفع بعد ذلك بسرور غامر يسد الخلة
ويستشفع لأصحاب الحاجات.
لقد تواضع شيخ تميم، الأحنف بن قيس واصفاً نفسه بالتحالم ليقر لقيس بن
عاصم بالحلم ولم أر في صاحبنا التميمي - على ما فيه من الشمائل - أظهر من
التواضع وحرصاً نادراً على كتمان معروفه وإظهاره عيوب نفسه، وما إن يسمع
من أحد المختلفين إلى مجلسه، حديثاً عن مسلم يخرج بماله أو نفسه ثم لا يعود
بشيء من ذلك إلا وتجده يغالب دموعه متسائلاً عن مدى استحقاقنا لهوية الإنسان بله
الإسلام، ثم يردد (الله يرحم الحال) .
ولئن فارقنا هذا الماء فهو لم يفارقنا، وعندما يرتد البصر حسيراً، يتلفت
القلب، ويسعف العقل باستحضار شريط الأطلال ليبدأ الحوار الداخلي إذا تعذر
الحديث الخارجي.
-5-
لم تكن هذه الكلمات انعكاساً لكل ما انطبع على صفحات المرايا النفسية، بل
هي بعض الوفاء وأنى لمثلي أن يؤدي حقاً لأقوام درست في (مجالسهم) أبجدية
(الفلاح) ، وكان ممن حملت معي بعد النأي والبعد صوتاً قرآنياً يتغنى بالمصحف
ويحبر الآي تحبيراً.
ومن تمام الرواية، أن رواد الماء التميمي لم يتفرقوا قبل تلاوة كفارة المجلس.
«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» .
ما أجمل الصحراء التي تمضي فيها القوافل
وتتلى الصلوات، وتساق المحامل،
فاسجد على رمالها المحرقة
واحرق الجبين حتى يبقى عليه الأثر.
محمد إقبال
__________
(1) يقصد الكاتب مدينة (الرس) من مدن القصيم في المملكة العربية السعودية.
(2) شاعر غربي مشهور.
(3) عتائد: مفردها عتيدة، صندوق تضع فيه المرأة ما يعز عليها من طيب وبخور.
(4) بيوت قليلة في البادية.(26/67)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
مشكلة الفرات من نتائج العصبية القومية
-التحرير-
أبلت الصحف والمجلات العربية بلاء حسناً في عرض قضية (نقص المياه)
و (حرب المياه) . وقدمت تحليلات كثيرة حول هذا الموضوع الذي أبرزته
واهتمت به الصحافة العالمية. وأشارت إلى أن الحرب المقبلة التي قد تنشغل بها
الدول العربية فيما بينها، أو فيما بينها وبين جيرانها في المستقبل قد تكون حروباً
على المياه، وأن تركيا تريد أن تسخر موضوع المياه لتحقيق أغراض سياسية
واستراتيجية في المنطقة.
وقدمت هذه الصحف بعض الأرقام الإحصائية التي أصدرتها دول حوض
الفرات عما يمكن أن يكون تصوراً أولياً عن نسبة استحقاق كل دولة من ماء الفرات، وعما تنوي أن تحتجزه تركيا من مائه، وما سمحت بمروره، وعن مستقبل
توزيع الحصص. وهناك ملاحظات حول المعلومات والتحليلات التي تضمنتها هذه
الصحف، ومن ذلك:
1 -كان هذا الموضوع متشابهاً حيث عرض، وكانت أكثر الصحف تنقل عن
بعضها الأرقام والنتائج المتوقعة، وليس من اختلاف إلا في التلاعب في بعض
الجمل والألفاظ الرابطة، والتي يظن المحررون بسذاجة أنهم - بمهارتهم وحنكتهم
-يستطيعون أن يقنعوا القراء أنهم يحققون سبقاً صحفياً لمطبوعاتهم؛ سواء على
مستوى أهمية القضية وما تمثله في الواقع؛ أو على مستوى تحليلها.
2 -كل التحليلات العربية تقريباً كانت تتكئ على التحليلات الغربية ونظرتها
المسبقة المغرضة إلى المنطقة، أي تناول القضية وكأنها بنت الواقع الحالي دون
ربطها بقرائنها التاريخية والجغرافية، والنظر إلى أن الحالة الراهنة هي حالة
مطلقة لن يدركها التبديل ولا التحويل.
ولتوضيح ذلك نقول:
إن الأوربيين - مؤرخين، وصحفيين، ومفكرين - لا ينظرون إلى العالم
العربي كوحدة فكرية وتاريخية بينها من الروابط ما بين أقاليم فرنسا، أو بريطانيا،
أو إيطاليا، أو غيرها، بل ينظرون إلى العرب كما يحبون أن يروهم: منقسمين
على أنفسهم، بينهم من الخلافات العميقة التي يستحيل حلها، ولا شيء يجمعهم،
وأن هذه الحدود التي تفصلهم هي حدود أزلية أبدية! وكأنهم ليسوا هم الذين رسموا
هذه الحدود على الورق أولاً، ثم نفذت على الأرض ثانياً، لا العكس - كما هو
الطبيعي في كل البلاد، ما عدا تلك التي فتحها المسلمون؛ أو دخلها وانتشر فيها
الإسلام!
يتجاهل هؤلاء الأوربيون في تحليلاتهم أن الحدود بين العراق والشام،
وبينهما وبين تركيا بل الحدود بين دول المشرق العربي جميعها؛ لم تبرز إلا بعد
اتفاقية سايكس -بيكو عام 1916 وأنها لم تنفذ على هيئتها الحالية تقريباً إلا بعد عام
1920.
إن النظرة التي ينظر بها الأوربيون إلى هذه البلاد هي أنها بلاد كانت مشرعة
الأبواب على مصاريعها، تدخلها الموجات البشرية الغازية من جهاتها الأربع.
وأنهم إذا حدوا لكل رقعة حدوداً، ورسموا لها مجالاً لا تتعداه؛ فقد أسدوا إليها
معروفاً لا ينبغي أن ينكر أو ينسى.
ولكن، هل بقيت كلمة حول قضية المياه لم تطرح؟ أو شيء غامض لم
يكشف عنه الحجاب؟ .
والجواب: نعم، هناك مسألة يمليها التصور القائم على أساس الإسلام،
وتتهرب الصحافة العربية التي تسير على هدي الصحافة الغربية من تناولها من هذه
الزاوية. وسواء كان هذا التهرب جهلاً أو تجاهلاً؛ فالنتيجة واحدة.
هذه المسألة هي مسالة القومية التي استوردناها - عرباً وأتراكاً - من الغرب، فنفخت في أنوفنا، وأعمتنا عن رؤية الحقائق كما هي، وجعلتنا نتعصب للجنس
على حساب الحق، ونبرز الفوارق العنصرية، ونخفي ما نتفق عليه، والذي هو
مبرر عزتنا، وعنوان حضارتنا - وهو الإسلام الذي خرجنا بفضله من الظلمات
إلى النور، وقدمنا عن طريقه إلى العالم شيئاً نعتز به ونفتخر، والذي قد لا تزول
كراهية الغرب بتاتا للعرب وغيرهم من أمم الشرق إذا تخلوا عنه؛ ولكن ستكون
كراهيتهم لهم ما داموا يعتزون به ولا يرضون عنه بديلاً أكثر وأكبر.
إن القضايا الاقتصادية التي تؤثر على العلاقات بين الشعوب لا تعالج معالجة
معزولة عن القضايا النفسية والتاريخية التي توجه هذه الشعوب، ونعني بذلك هنا
قضايا العقائد والمبادئ. هناك عقائد ومبادئ تتصارع على هذه الرقعة من العالم،
هناك قوى ظاهرة تتحرك تحت الشمس، وقوى خفية تتحرك في الظلام، والقوى
الظاهرة والخفية لم تتوقف يوماً عن محاولات العبث في أمن هذه المنطقة المهمة من
العالم، ولا تريد لها أن تهدأ أو تستقر.
لقد نجح الاستعمار وأعوانه أن يصدروا إلينا (النظرية القومية) ، ويغرسوا
العنصرية التي ألوت بمجد العرب والترك، وأضرت بهم محلياً وعالمياً، وجعلتهم
يتسولون القروض والحسنات من الغرب الصليبي والشرق الملحد، وغادرتهم مجرد
صغار لا قيمة لهم، وسلعاً للمساومة لا حول لها ولا قوة.
إن كل نظرية لا بد لها من ثمار ونتائج، وإن هذه الثمار والنتائج تقوم بما
تعطيه من خير لمصلحة أكبر عدد من المنتفعين بها، وخير المعنيين بها مباشرة
وإن العصبية القومية التي مزقت البشرية، وكنا نحن - المسلمين - أشد ضحاياها
غباءً، لما نملك من أسباب الهداية؛ لم تثمر لنا إلا مر الثمر، ولم نجن من ورائها
إلا السراب! نعم، استفاد منها قوم؛ استفاد منها الغرب وأعوانه، واليهود
وأشياعهم، واستفاد منها من يتاجر بآلامنا وفرقتنا، ويراهن على زوالنا واندثارنا.
ماذا ينتظر الذين جروا - ويجرون - وراء الغرب الذي طغى في البلاد،
فأكثر فيها الفساد، ونشر فيها الأوبئة النفسية والجسدية؛ نشر الأفكار الهدامة
كالقومية والمبادئ الباطلة كالشيوعية والوجودية، وضمن حرية التحلل الخلقي
وصدر الإيدز وسائر الأمراض (الإفرنجية) .. ماذا ينتظرون من نتائج لما صنعته
أيديهم التي نفذت خطط (لورانس) ، والتي كانت تهدف - فيما تهدف إليه -إلى دق
إسفين سميك عريض في علاقة العرب والترك، والقضاء على رابطة الدين
الإسلامي التي تجمعهم.
لا شيء ينتظر إلا مزيداً من التمزق والحروب والويلات التي تذهب هذه
الشعوب الإسلامية وما تثمره وتملكه وقوداً لها.
إن العصبية القومية تستمد غذاءها من الجانب المظلم من الإنسان، يل من
الجزء الحيواني فيه؛ من الأثرة، والشح، والحقد، والكراهية، والحسد، ومن
حب التسلط والتفاخر والتعالي على الآخرين بقهرهم.. ومن سائر الأهواء
الشخصية والجماعية.. في حين أن الرابطة الإسلامية رابطة اختيارية متطلعة إلى
الحق، وتستمد شرعيتها من وعي الإنسان بذاته، ومن إدراكه لدوره الذي حده
خالقه له، هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي؛ فإن الرابطة
الإسلامية هي التي جعلت للعرب دوراً تاريخياً على الأرض، وحملهم هذه الرسالة
إلى العالمين هو الذي يحترمهم من أجله من يحترمهم من أهل الحق، ويكرههم من
أجله من يكرههم من أهل الباطل. وفضلهم يتجلى في تضحياتهم وبلاءاتهم الأولى
التي دخل بسببها من دخل في الإسلام من الشعوب الأخرى. ومن ينكر فضل
العرب في ذلك فهو إما مكابر متعصب؛ أو جاهل يحتاج إلى نصح وتعليم.
على أن كل هذا لا يجوز أن يعطي العرب حق التسلط على غيرهم من
الشعوب وهضمهم وتنقصهم، والنظر إليهم من فوق؛ بل ينبغي للعرب وغير
العرب من المسلمين أن يقولوا: [الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ] .
إن ما بين العرب والترك من العلائق والروابط الطيبة أكثر بكثير من
الاختلافات التي ضخمها أعداؤهم، ونجحوا في زرع العداوة بسببها بينهم. وإن
علاج مشكلة المياه يكون بإبراز تلك العوائق والروابط والتذكير بها، فالعرب
والترك مسلمون، والعرب والترك كانوا أمة واحدة، هدفها واحد، وعدوها واحد،
وهم الآن متجاورون، لا زال الهدف واحداً، والمصير واحداً، والعدو هو هو.
ولست أدري، بل ولست أعقل: كيف تجتمع دول أوربا على أمور تحرم
علينا نحن المسلمين، ولئن كانت هناك نقاط التقاء بين الطليان الكاثوليك والإنكليز
البروتستانت وبين الألمان البروتستانت والإسبان الكاثوليك.. يجتمعون عليها
ويستثمرونها في تقوية أنفسهم وفيما يعود بالفائدة على شعوبهم؛ أفليس بين العراق
والشام من روابط يبنى عليها؟ ! أليس بيننا - نحن العرب - وبين الأتراك من
العلائق ما بين الأوربيين؟ ! إي والله بل أكثر! ! لو أنصف المتنفذون من هؤلاء
وهؤلاء.
بعد أن تفرق المسلمون إلى قوميات، وانشعبت القوميات إلى وطنيات،
وأشرفت الوطنيات أن تتطاير طائفيات؛ فإن هذا ليس بمقنع أعداءهم، بل لن
ينثنوا عن الانقضاض بكل الوسائل عليهم حتى يستحيل عليهم الخروج مما رموا به.
ومع هذا فإن أخطاء التاريخ قابلة للتصحيح إذا ما صحت العزائم وخلصت
النوايا، ورزقت الأمة برواد تلتف حولهم، فيخرجون بها من الضيق إلى الرحابة،
ومن التبعية إلى امتلاك القرار.
وإذا كان يصعب علينا أن نطالب بوحدة أقطار حوض الفرات - لأن هذا قد
يكون غير واقعي، وإغراقاً في الخيال، وأحلام يقظة - فلا أقل أن تتذكر أن بينها
أرحاماً قطعت ولا يستحيل وصلها؛ وقدراً مشتركاً من العلاقات التاريخية، وبعد
كل ذلك وقبله؛ جواراً أبدياً. وإن مما أمر الله به الإحسان إلى الجار ذي القربى،
والجار الجنب، والصاحب بالجنب.(26/73)
الجبهة الشعبية
والعبث الأمريكي بالقضية الأرترية
بلال محمد
في الوقت الذي أعلنت فيه الشيوعية إفلاسها عالمياً بدأت القوى الصليبية
بإعادة ترتيب أوراقها للوثوب على مواقع التأثير، وبالذات تلك التي كانت تأمل
العثور على متنفس من خلال وجودها داخل القفص الماركسي الحديدي.
وحيث إن النظام الإثيوبي كان أحد الذين أووا إلى الكهف الشيوعي منذ
صعوده إلى سلم القيادة قرر أن يجعل من بلاده بؤرة المد الشيوعي وموطناً لنفوذها
الأمر الذي مكنه من تلقي الدعم السوفياتي بعناية فائقة للقضاء على من أسماهم
بالانفصاليين المتمردين في شمال البلاد.
وبعد أن كان الروس في سابق عهدهم ينعتون ارتباط أرتريا بإثيوبيا فدرالياً
وأنه تم برضى أحد الطرفين، دون الالتفات إلى رغبة الآخر، غيروا من سياستهم
وأبدوا صفحة الغدر فأدانوا حركة التحرر الإرترية رغم تلويحها بالشعارات
الماركسية ووصفتها (برافدا) عام 1987 بالإمبريالية التي تهدف إلى إضعاف
إثيوبيا وحرمانها من منافذ البحر الأحمر.
وقالت: إنه في هذه الظروف تورط الانفصاليون الإرتريون في لعبة يلعبها
الآخرون وإنهم يساهمون موضوعياً في تنفيذ المخططات الإمبريالية..
إلا أن فشل نظام (الدرق) الإثيوبي في سحق المقاومة الإرترية بالسلاح
الروسي أوصل السوفيات إلى قناعة تامة بأن الحسم العسكري غير ممكن لإحلال
السلام، وإن طريق السلام في إثيوبيا سيبقى مسدوداً ما لم يتم التفاوض مع القوى
الإرترية، وعليه أظهر الروس فتورهم وهبوط حماسهم ومارس جورباتشوف
ضغوطاته على منجستو للتخلي عن عنجهيته العسكرية والنزول إلى ساحة الواقع.
وفي ذات الوقت أخذ الجيش الإثيوبي يشهد موجات من التبرم من مواصلة
الحرب في إرتريا، وصار ينادي بالبحث عن بدائل أخرى لحل الأزمات الإرترية،
وتزايدت في وسطه حركات التذمر، وخلايا المعارضة السرية حتى قام في عام
1988 بمحاولة انقلاب فاشلة على منجستو.
وإثر هذه المحاولة لم يجد قائد الدرق بداً من طرح القضية الإرترية على
بساط منظمة الوحدة الإفريقية ولأول مرة في التاريخ بعد أن ظل مجرد الحديث
حولها محرماً بوضعها تحت بند عدم التدخل في الشئون الداخلية، طالب منجستو
زعماء الكتلة الإفريقية مساعدته في حل القضية الشائكة، التي استنزفت اقتصاده،
وبهذا تكون القضية الإرترية وضعت قدميها على منعطف جديد.
إلا أن الشيء الذي يستدعي وقفة تأمل هو عودة أمريكا وللمرة الثانية إلى
العبث بالقضية الإرترية لصالح القوى الصليبية العالمية، فقد أخذت أمريكا في
الآونة الأخيرة تبدي اهتماماً بالغاً بالقضية حيث أجرت عدة اتصالات ببعض الرموز
الإرترية عبر أحد رؤسائها السابقين (جيمي كارتر) ولأمر في نفسها أناطت المهمة
برجل كامب ديفيد الذي أسعف المنطقة بزياراته المتكررة ولقاءاته العديدة التي
نظمها مع العناصر الصليبية في كل من إرتريا، والسودان، وإثيوبيا.
وهكذا ظهر كارتر فجأة ليكون وسيطاً بين نظام منجستو والجبهة الشعبية
الإرترية وبالفعل تم عقد لقاء بينه وبين الأمين العام للجبهة الشعبية إسياس أفورقي
في العاصمة السودانية الخرطوم بتاريخ 19، 22 أبريل 1989 وذلك عقب عودته
من أديس أبابا عاصمة إثيوبيا.
وبهذه السرعة انقلبت أمريكا رأساً على عقب من قمة جفائها وغلظة عدائها
للشعب الإرتري وبعد أن جعلت في أذنها وقراً عن سماع مطالبه منذ اندلاع ثورته
إلى وسيط يؤرقه مآسيه ويسعده إسداء المعروف إليه.
كما أن الجبهة الشعبية الإرترية التي عودتنا التنديد بمواقف الولايات المتحدة
وسائر القوى الإمبريالية من القضية الإرترية أصبح الوجه الأمريكي منذ حلول
الثمانينات من أحب الوجوه إليها فأخذت تتبنى مواقف سياسية مباينة بنهجها
الماركسي وهذا لا يعني إلا أن العناية الأمريكية وبعد دقة ودراسة متأنية طبعاً وقع
اختيارها بالدرجة الأولى على الجبهة الشعبية الإرترية فمنحتها المباركة الرسمية
لتلج مؤسساتها السياسية، ومن ثم سهل على قيادة الجبهة الشعبية التردد بين الحين
والآخر على الولايات المتحدة للتعبير من خلال منابرها السياسية عن آراء تنظيمها
وتوجهه الجديد.
وباتت اللقاءات التي تعقدها قيادة التنظيم تحظى بقدر كبير من اهتمام
المسئولين الأمريكان وتشهد حضورهم ومتابعتهم، ففي ظل رعاية أعضاء من
وزارتي الخارجية والدفاع بالإضافة إلى عدد من السفراء والصحفيين والكتاب
وأعضاء المؤسسات الأمريكية الكبرى عقد الأمين العام إسياس أفورقي لقاء في 3
مايو 1989 بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، ومُكن في مدينة
سان فرنسيسكو من اللقاء بمنظمة (نادي كومنولث) حيث خاطب ما يربو على
مائتين وخمسين شخصاً بمقر النادي ونقل حديثه هذا عبر موجات الأثير إلى كل
أنحاء مدينة سان فرنسيسكو وضواحيها وعكست صداه أكثر من مائتين وتسع
وسبعين محطة إذاعية في الولايات المتحد ة [1] .
وأخيراً كلل هذا النشاط بلقاء أتلانتا [2] التمهيدي بولاية جورجيا بين وفد
الجبهة الشعبية برئاسة الأمين محمد سعيد، والوفد الإثيوبي برئاسة (أشاقري) والذي تمخض عنه لقاء نيروبي [3] وهو اللقاء الذي تم فيه الاتفاق على اختيار
نيريري رئيس تنزانيا السابق نائباً للرئيس الأمريكي جيمي كارتر في الإشراف على
سير المفاوضات.
ولكن السؤال الجدير بالطرح هنا: لماذا كانت الجبهة الشعبية هي الفصيل
الذي وقع عليه اختيار الإدارة الأمريكية دون غيره؟ .
فيما أحسب ليس لدي كثير من الإرتريين والمهتمين بأوضاع الساحة الإرترية
جواب أكثر من أن يقال: إن الثقل العسكري الذي تمثله الجبهة الشعبية في الساحة
الإرترية أهّلها لأن تتبوأ مكانها المناسب في قضية السلام الأمريكى، وهذه الرؤية
وإن كانت تمثل جزءاً من الحقيقة فإنها ليست كل الحقيقة، وحتى هذه الجزئية منها
ما كان لها أن تكون إلا بعد أن رأت القوى الصليبية العالمية أن تجعل من الجبهة
الشعبية الفصيل الذي لا منافس له، وذلك بالدعم الإعلامي والعسكري الذي أغرقت
به ساحة التنظيم [4] ، وحين انفرد لها بالساحة وخلا بها وحيداً أتته مهرولة تتكئ
عليه في تنفيذ مخططها الرامي إلى بسط الهيمنة الصليبية في البحر الأحمر، فهي
تدرك تماماً أهمية موقع إرتريا الذي يطل على قاعدة عريضة من البحر الأحمر،
ومن ثم رأت ضرورة إيجاد حليف لها يؤمن مصالحها ويتحرك وفق وحيها لا سيما
وأن المنطقة تشهد تمدداً إسلامياً، وحيث إن الهيمنة الإسلامية على إرتريا تؤكد
هوية البحر الأحمر وانتماءه الإسلامي فإن القوى الصليبية ممثلة في الولايات
المتحدة وحلفائها لن تتوانى في إقصائه عن السيطرة الإسلامية.
ولهذا كانت الجبهة الشعبية الإرترية هي اليد التي ارتضت (السي آي إيه)
مصافحتها والعمل على وضع القضية الإرترية بين فكيها، فمنذ وقت مبكر كانت
وكالة الاستخبارات الأمريكية قد زرعت رجالها في قلب الثورة الإرترية عبر
قاعدتها (قانيو ستيشن) [5] في أسمرا، وظلت تتفقد النبتة بالسقاية والحماية حتى
أينع ثمرها، وحان وقت قطافها.
وهكذا انتقلت قضية شعب مسلم إلى إدارة صليبية تتدحرج بين أقدام الثالوث
الصليبي إسياس أفورقي، وكارتر، ونيريري الذي سجل أبشع تاريخ في التنكيل
بالمسلمين العرب في زنجبار.
وكانت أمريكا على يقين من الوصول إلى هذه النتيجة وجني هذه الثمار من
خلال مراقبتها للصراعات الدائرة في القرن الأفريقي، فما انزعجت أصلاً من
التدخل الروسي في القرن الأفريقي لأنها أيقنت بأن الاتحاد السوفياتي سوف يجد
نفسه غارقاً في مشاكل لا طاقة له بها وأنه سيفشل وسيفقد موقعه في إثيوبيا كما فقده
من قبل في مصر والسودان والصومال.
ومن هنا ظلت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس كارتر تحافظ على علاقتها
بإثيوبيا وتمد نظام (الدرق) بمساعدات عسكرية حتى عام 1977 وحتى إلى ما بعد
77 بقيت العلاقات الاقتصادية بين إثيوبيا والولايات المتحدة قائمة.
وكان من حرص الإدارة الأمريكية على مصالحها في المنطقة، أن أسندت إلى
كارتر مسئولية تأكيد السيطرة الصليبية على البحر الأحمر، ومن هنا رغم إدراكها
بقصور الجبهة الشعبية وعجزها عن تمثيل الشعب الإرتري كله لما تعانيه من عزلة
جماهيرية وقع اختيارها عليها، ومحال أن يكون هذا الاختيار وليد الصدفة ومحض
العفوية بل كان لأمر قد قدر في دهاليز الاستخبارات الأمريكية، وسوف تنجاب عنا
كل غشاوة من شأنها أن تحول دون هذه الرؤية الصحيحة السليمة إذا ما استحضرنا
بيان الخارجية الأمريكية الذي صدر في 11 حزيران يونيو 1977 والذي قال فيه
كارتر نفسه: (إني ميال إلى أن أتحدى بقوة وبطريقة سلمية الاتحاد السوفياتي وآخرين من أجل النفوذ في مناطق العالم التي نشعر أنها أساسية بالنسبة لنا الآن أو أنها قد تصبح كذلك خلال خمسة عشر سنة أو عشرين سنة من الآن) .
إن هذا التحدي كفيل بأن يفسر لنا الغاية التي يهدف إليها تحرك كارتر وإنه
ليس قائماً في وجه السوفيات فحسب، وإنما يتخطاهم إلى غيرهم. ومن ثم إن
عبارة (وآخرين) هي جماع كل قوة تسول لها نفسها مزاحمة الأمريكان في مناطق
النفوذ التي قد تصبح ولو بعد عشرين سنة هامة بالنسبة للأمريكان.
واقتضت الخطة الأمريكية حالياً قص أجنحة التنظيمات الأخرى وتقليم
أظافرها فأغرت حليفها بتصفية كل القوى الإرترية المنافسة والتي تحاول الاقتراب
من الساحة فكان لها ما رأت وأرادت [6] ...
بقي أن ندرك حقيقة أخرى من وهي: إذا كانت الجبهة الشعبية هي الفصيل
الجدير باقتفاء أثر كارتر والسير على خطاه، فإن التنظيمات الأخرى جديرة أيضاً
بأن تلعب الولايات المتحدة الآن على حبالها حسب الحاجة، كما أن إثيوبيا ذاتها
رسم لها أن تستغل نفور الشعب ومعارضته للجبهة الشعبية بإيجاد شرائح من
صنائعها فاستطاعت أن توجد عدداً من رجال الطرب واللهو وطائشي الرأي أطلقت
عليهم ممثلي المنخفضات [7] واستدعت نفراً إلى كينيا لتراهن بهم على أطروحتها
وتوقع الجبهة الشعبية في مأزق حرج.
وأياً كانت الأسباب التي دفعت هذه العناصر إلى الارتماء في أحضان
المخابرات الإثيوبية فإن الأطروحات التي يتبنونها لا تمثل إلا سطراً على حقائق
التاريخ، فما كانت إرتريا يوماً من الأيام جزءاً لا يتجزأ من إثيوبيا، ولم تكن
الثورة الإرترية وليدة اضطهاد وقع وزال كما يحلو لهؤلاء الاستسلاميين أن يروجوا.
إن بروز هذه الفئة تزامن مع ظهور حركة الجهاد الإسلامي الإرترية وهذا
يوحي إلى أنه يمكن أن يستخدموا كأداة للشعب تكفه عن الالتحاق بالحركة، وذلك
أن غياب الفكر الإسلامي عن الثورة الإرترية في فجر نشوئها إذا كان من أهم
العوامل الأساسية في تحويل مسارها والتلاعب بها تارة من قوى اليسار، وأخرى
من قوى اليمين فإن وجوده الآن ممثلاً في حركة الجهاد الإسلامي الإرترية يجعل من
الصعوبة بمكان استقطاب العنصر المسلم الثائر الواعي لإسلامه والتلاعب بعواطفه. ولا يتأتى هذا في نظرهم إلا حين توضع أمامه هذه الدمى المعممة والتي تحرك
وفق الإرادة الإثيوبية وحلفائها اليهود.
والخلاصة إن منطقة القرن الأفريقي مقبلة على أمر يتعارض مع هويتها
الإسلامية، وإن عودة الولايات المتحدة إلى القضية الإرترية لا يرمي إلا إلى
تطويق الصحوة الإسلامية وإخماد جذوتها المتقدة - لا قدر الله -عبر تمكين عناصر
صليبية إرترية من التحكم بزمام القضية، وكذلك العمل على امتصاص الشعور
الإسلامي المتنامي في أوساط الارتريين بدفع بقية التنظيمات العلمانية التي يتربع
على عرشها أناس لا يحملون من الإسلام إلا اسمه إلى مائدة التفاوض مع إثيوبيا.
__________
(1) انظر مجلة ساقم لسان حال الجبهة الشعبية عدد 23، يونيو 1989م.
(2) بتاريخ7/9/1989م.
(3) عقد لقاء نيروبي في 20 نوفمبر 1989 م، وستعقبه جلسات في كل من الخرطوم والقاهرة وتنزانيا وهرارى بزمبابوي.
(4) تم ذلك عن طريق ما يعرف بالجمعيات الإنسانية وهيئات الإغاثة الأوربية ورجال الصحافة الغربية.
(5) يقال إن إسياس ذاته كان على اتصال بالقاعدة الأمريكية بأسمرا عن طريق تسفا يوهينس برهي أحد عملاء نظام هيلا سلاسي وحلفائه.
(6) وقفت حركة الجهاد الإسلامي وحدها بصلابة في وجه سياسة التصفية وعززت وجودها في الساحة - ولله الحمد - بينما لاذ غيرها بالفرار.
(7) يقول كاسا كيبدا عن هؤلاء: (إن هؤلاء يطالبون بالحكم الذاتي الخاص والمساواة الكاملة في الحقوق الدينية والقومية وقد اتفقنا مع هذه الفتنة واستجبنا لمطالبها) انظر المصدر السابق.(26/78)
قتل الشيخ عبد الله عزام ...
خطوة نحو أفغنة الجهاد الأفغاني
أحمد زيدان
فقد الجهاد الأفغاني يوم 24/11/1989 أحد أشد مناصريه المسلمين وهو
الشيخ الدكتور عبد الله عزام الذي لقي ربه إثر انفجار لغم في مدينة بيشاور
الباكستانية وهو متجه مع اثنين من أولاده إلى مسجد (سبع الليل) الذي اعتاد الشيخ
رحمه الله أن يصلي فيه، وعند تقاطع الشارع الرئيسي مع الزقاق المتجه إلى
المسجد انفجرت عبوة ناسفة قدرها خبراء المتفجرات ب 20 كلغ من مادة ال ت.
ن. ت شديدة الانفجار، الأمر الذي أدى لانشطار السيارة ثلاثة أقسام.
الشيخ عبد الله عزام أمير مكتب خدمات المجاهدين الذي يعتبر أكبر وكالة
إسلامية تدعم المجاهدين والمهاجرين الأفغان أسس خمسة مستشفيات في داخل
أفغانستان وعدداً من المستشفيات في باكستان لخدمة المهاجرين والمجروحين الذين
أخلوا من الجبهات إلى باكستان، كما أقام عدداً من المدارس داخل أفغانستان وفي
باكستان للمهاجرين.
الجهات المتورطة بالاغتيال:
لا شك أن هناك مؤامرة عالمية حاك خيوطها أطراف وجهات متعددة للقضاء
على أحد رموز هذا الجهاد. والذي أعتقده في هذا الحدث بأن هناك مخططين
وهناك منفذين، ويمكن أن نعد من الجهات المتورطة أو المستفيدة من الحدث:
1 - القوى الكبرى (أمريكا، وروسيا) .
2 - نظام كابل وشيوعو باكستان.
3 - دولة باكستان.
4 - الشيعة.
سنحاول في هذا المقال أن نذكر الأدلة والقرائن على كل طرف من هذه
الأطراف.
1 - القوى الكبرى (روسيا - وأمريكا) :
يقول المتابعون لأحداث هذا الجهاد بأن سياسة الانفراج الدولي التي يتجه إليها
العملاقان تنافي السماح لأي تجمع إسلامي بالجهاد والإعداد له، ولا شك أن الشباب
العربي الذين تجمعوا حول الجهاد الأفغاني ليس شيئاً قليلاً، ونحن هنا لا نكشف
سراً-مما يقلق هذه الدول ويهدد مصالحها في مناطق نفوذها من العالم.
ومن العجيب أن تشهد باكستان زيارة نائب رئيس الاستخبارات الأمريكية قبل
أيام من عملية الاغتيال حيث إن مثل هذه الشخصيات قلما تزور باكستان وكان آخر
زيارة لمسئول استخباراتي أمريكي هو (وليم كاسي) رئيس الاستخبارات الأمريكية
أيام الرئيس ضياء الحق.
وقد حرص القنصل الأمريكي في بيشاور قبل شهر من الاغتيال الالتقاء
بالشيخ عبد الله رحمه الله إلا أن الأخير رفض اللقاء.
كما يدرك ويعرف من له أدنى اهتمام بالقضية الأفغانية أن الشباب العرب في
ساحة الجهاد وعلى رأسهم الشيخ عبد الله عزام يعتبرون عقبة كبيرة في وجه الحلول
التصفوية والسلمية المجحفة بحق المجاهدين الأفغان، إضافة إلى أن الشيخ عبد الله
لعب دوراً محورياً في التوفيق بين قادة الجهاد الأفغاني، أو على الأقل تقريب
وجهات النظر بين الأطراف المتعارضة، يقول الأستاذ برهان الدين رباني: (وقد
قضى الشيخ عبد الله ليلة الجمعة أي ليلة الاغتيال كل يومه في محاولة الاصلاح
بيني وبين حكمتيار حتى طرق علي الباب في الساعة الثانية عشرة ليلاً يطالبني
بالتوقيع على وثيقة الصلح ووقعت وقال لي: إن موعدنا في إسلام آباد غداً) وكان
الشيخ عبد الله رحمه الله سيغادر بيشاور إلى إسلام آباد بعد أدائه صلاة الجمعة في
مسجد العرب.
2-نظام كابل وشيوعيو باكستان:
يستبعد المهتمون بالأحداث مقدرة نظام كابل على تنفيذ مثل هذه المحاولة حيث
إنه مشغول في كابل، ولا يستطيع تنفيذ مثل هذه المحاولة في وضح النهار في
شارع مزدحم من بيشاور، خاصة وأن ترتيبات العملية تحتاج لأربعة أيام على
الأقل.
وقد علق حكمتيار أمير الحزب الإسلامي على تورط نظام كابل بالعملية: (لا
يمكن لهذا النظام الذي يعاني الأمَرّين في داخل كابل أن يقدر على تنفيذ مثل هذا
المخطط) ويستبعد أيضاً أن يقدر الشيوعيون في باكستان تنفيذ مثل هذا المخطط،
إذ أنهم لم يسبق لهم أن فجروا أو قتلوا أو اغتالوا في مثل هذا المكان المكشوف أمام
الجميع. وأما المجاهدون الأفغان فيستبعدون تورط الشيوعيين في ذلك ويرجحون
جهات أخرى سيأتي الحديث عنها.
3 - باكستان:
يتفق الأغلبية إن لم نقل الجميع على تورط باكستان في العملية إذ أنه لا يعقل
أن يعمل هذه العملية أشخاص وتستغرق منهم أربعة أيام كترتيب للاغتيال وفي
شارع مزدحم دون معرفة واطلاع المخابرات الباكستانية أو البوليس الباكستاني،
الذي اعتاد أن يجوب الشارع في كل اليوم. حتى أنهم بدءوا يضعون جنود على
فتحة الزقاق المتجه للمسجد بعد المحاولة الأولى وهي زرع متفجرة تزن 2 كغ تحت
منبر الشيخ عبد الله وكانت مؤقتة أن تنفجر أثناء خطبة الشيخ ولكن الله سلم حيث
إنها ستقتل وتجرح كثيراً من المصلين العرب الذي اعتادوا أن يؤموا المسجد.
الشيخ قاضي حسين أحمد زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان اتهم الحكومة
بالتورط في الاغتيال وهدد إذا لم تكشف الحكومة عن الجهة المنفذة فتقوم الجماعة
الإسلامية بتسيير المظاهرات، ولكن لم يحصل شيء من هذا حتى الآن.
4-الشيعة:
الأكثرية من المراقبين يشيرون إلى تورط الشيعة في الاغتيال، ففي يوم
محاولة اغتيال الشيخ الأولى في مسجد سبع الليل قام الشيعة في بيشاور بتوزيع
بيانات وباللغة العربية الركيكة عن الوهابية وشتمها وأن هؤلاء العرب الذين قدموا
لمساندة الجهاد الأفغاني وهابيون.
أحد الشباب قال لي بأنه التقى مع الشيخ عبد الله رحمه الله قبل اغتياله بأيام
ونصحه باتخاذ احتياطات أمنية، فرد عليه الشيخ بأنه يتوقع أن يقوم الشيعة بمثل
هذه المحاولات.
ومنذ أربع سنين حدثني أحد الشباب العرب المساندين للجهاد الأفغاني بأنه
اعتقل في إيران لعلاقاته مع الأحزاب السنية هناك ودعمه لها فالتقى به رفسنجاني
رئيس الدولة حالياً وطلب منه إملاء وتعبئة ملف كامل عن نشاطات الشيخ عبد الله
عزام ودوره في الجهاد الأفغاني، لكن الأخ رفض وبقي في السجن فترة طويلة إلى
أن تدخل بعض قادة الجهاد وأفرجوا عنه.
الأستاذ نور الله عماد نائب أمير الجمعية الإسلامية قال في حفل تأبيني للشيخ
بأنه عندما كان في رحلة إلى دولة حدودية ليحضر مؤتمراً دولياً عن القضية
الأفغانية، كان المسئولون هناك مهتمين جداً بمعرفة أدق التفاصيل عن الشيخ
ويسألون عنه وعن نشاطاته فأدركت منذ ذلك الوقت بالمؤامرة، واتصلت بالإخوة
في باكستان ليحذروا الشيخ من ذلك، وينصحوه بأن يأخذ احتياطاته.
أحد مسئولي (الحزب الإسلامي - حكمتيار) ذكر من جملة الأطراف المتورطة
في اغتيال الشيخ الشيعة ودلل على ذلك بقوله: (إن الشيخ عبد الله في نشاطاته
بداخل أفغانستان ودعمه لتجمعات السنة أحبط محاولات الشيعة في استغلال الوضع
ورأوه عقبة كئود في تمرير مخططاتهم) .
الاغتيال حلقة في التخلص من مؤيدي الجهاد:
الجميع يتفق على أن الاغتيال ما هو إلا حلقة متصلة في القضاء على
مناصري هذا الجهاد من العالم الإسلامي، وقد بدأ المخطط منذ حادثة طائرة ضياء
الحق.
وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة استهداف زعماء أهل السنة، وتحولت آلة
الاغتيال من تصفية القادة السياسيين إلى القضاء على علماء أهل السنة فهل يفكر
المعنيون بحماية لهم أو ترتيب إجراءات أمنية لهم.
ولا شك أن مستقبل الوجود العربي في القضية الأفغانية يكتنفه الكثير من
الغموض حيث أشار الأستاذ سياف إلى توقع سلسلة انفجارات واغتيالات للشباب
العربي لإجبارهم على الرحيل.
المهندس حكمتيار طالب العرب بالبقاء وألا يتركوا الأفغان في منتصف
الطريق. أما البروفيسور رباني فذهب بعيداً إلى دروس التاريخ خاصة في حوادث
المسلمين في آسيا الوسطى عندما حولوها قومية وحصروها وعندما صفي المسلمون
هناك لم يأبه لهم أحد أو يكترث بهم، وكذلك فقد تعرضت القضية الفلسطينية لأعظم
خطر عندما تحولت من إسلامية إلى قومية، وهانحن أيها الإخوة (يخاطب العرب
الحضور) في هذه اللحظات الحاسمة نقول لكم إن أرضنا أرضكم وأخوتنا ما تزال
وستستمر إن شاء الله ونحن كما قال تعالى: [إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ] .
تفريغ الساحة من العرب لمصلحة مَنْ؟
الخيوط جميعها تشير إلى أن أطرافاً متعددة تنوي تفريغ الساحة من العرب
ونشير هنا إلى عدة أمور سترافق هذا التفريغ لو حدث - لا سمح الله-
1 - استفراد المنظمات الصليبية الطوعية والحكومية بإعمار أفغانستان
والتعامل مع المجاهدين الأفغان وبالتالي لا يستبعد أن يرضخ المجاهدون لبعض
سياسات هذه المنظمات، حيث إن المنظمات الإسلامية تلعب دوراً رائداً في الحفاظ
على إسلامية الأفغان بل والترقي بها ورفع مستواهم.
وإن حدث هذا - لا سمح الله - فسيواجه الأفغان أنفسهم وحدهم بالساحة،
ويشعرون بأن إخوانهم المسلمين تركوهم في منتصف الطريق ولا يستبعد قبولهم
بالحلول الجزئية والترقيعية، إضافة إلى أن الصليبيين سيكون لهم موطئ قدم في
هذه الديار، وكذلك فإن بعض الشباب العربي المضطهد في بلاده وجد باكستان ملاذاً
وملجأ له. وبهذا يبقون الشباب في حالة من التهجير والشتات.
2 -إن تفريغ الساحة من العرب سيعمل على إضعاف هذا الجهاد، حيث إن
الشباب العرب كان لهم دور فعال في هذا الجهاد ومافتئت إذاعة كابل تشير إلى
خطر تواجد العرب في أفغانستان، وهذا يدركه كل من عايش القضية الأفغانية،
وبالتالي سيشعر الشعب الأفغاني بأنه وحيد في الساحة.
3 -لقد خشي أعداء هذا الجهاد من وحدة المسلمين التي تجسدت في هذا
الجهاد واختلط الدم العربي والأفغاني، وشارك المسلمون من شتى الجنسيات في هذا
الجهاد، وهذا يعطل أكبر برنامج ومخطط تسير عليه الدول الكبرى في وحدة الأمة
الإسلامية، ولا يروق لها أن ترى المسلمين أمة واحدة، وقد أشار إلى هذا المفهوم
المهندس حكمتيار - حفظه الله-.
وأخيراً:
فهذه هي نتيجة من يسير على هذا الدرب، ونسأله سبحانه وتعالى أن يتغمد
الشيخ عبد الله عزام بواسع رحمته وأن ينزله منازل الشهداء والصالحين، كما نسأله
ألا يحرمنا أجره وألا يفتنا بعده وأن يغفر لنا وله ويصبر أهله وذويه وأصدقاءه
وأتباعه إنه قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.(26/84)
واقع المسلمين في بريطانيا
-التحرير-
هذا هو تتمة المقال المترجم الذي بدأناه في العدد السابق عن المسلمين في
أوربا، ويتحدث كاتبه هنا عن المسلمين في بريطانيا، ننقله دون تعليق لأن فيه
الكثير من الواقع والإنصاف.
قسم الترجمة
منذ أن قام متظاهرون ساخطون بإحراق نسخة من كتاب سلمان رشدي في
مدينة برادفود في شمال إنكلترا ومسلمو بريطانيا يتعرضون لمراقبة وفحص دقيق لا
نهاية لها من قبل أجهزة الإعلام.
لقد فجرت قضية رشدي حرباً كلامية مرة بين الذين يسعون إلى منع الكتاب
ومحاكمة مؤلفه بتهمة الإساءة للإسلام؛ وبين أنصار حرية التعبير، لقد توعد
المسلمون كلاً من رشدي وشركة (بنغوين) التي قامت بنشر كتابه بالانتقام بأساليب
مختلفة مما أدى إلى إحداث عاصفة من ردود فعل غاضبة، فقد دعا جمع من الكتاب
والمعلقين الشرطة إلى محاكمة أولئك المسئولين عن التحريض على قتل رشدي،
كما حذر آخرون من خطورة بروز تيار أصولي إسلامي في بريطانيا.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذا الجدل الحاد حول حرية التعبير ونشوء
الأصولية قد غطى حقيقة أخرى تدعو للقلق وهي تصدع العلاقة المتزايد بين
البريطانيين البيض وبين مسلمي بريطانيا الذين يقدر عددهم بـ (1. 4) مليون
ذوي الأصول الآسيوية، ومما يلاحظ أن المسلمين الذين تظاهروا في كل من
برادفورد ولندن كانوا يحملون لافتات متطابقة تقول: الجحيم لحزب المحافظين،
الجحيم لحزب العمال، وفي الحقيقة فإن كثيراً من المسلمين يشعرون بأنه ليس
هناك حزب سياسي في بريطانيا يتبنى قضاياهم.
إن غضب مسلمي بريطانيا الذي أججته مؤخراً قضية كتاب رشدي له جذوره
التي ترجع إلى أعوام الطفرة الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، في
عقدي الخمسينيات والستينيات، فطبقاً للإحصائيات البريطانية فإن ما يقرب من
(629) ألف مهاجر من الهند، وباكستان وبنغلاديش قدموا إلى بريطانيا خلال هذين
العقدين للعمل في مصانع الفولاذ والنسيج والملابس البريطانية مقابل أجور لا يقبل
بها العمال الإنكليز عادة.
وكما هو حال كثير من المهاجرين في أنحاء العالم، فإن خطة مهاجري
بريطانيا كانت العمل وادخار ما أمكن من المال ثم العودة إلى البلاد، إلا أنهم
سرعان ما اكتشفوا أن المعيشة في بريطانيا باهظة التكاليف، وأن الحصول على
مسكن أمر صعب، وأن موجة التمييز العنصري المناهضة للآسيويين واسعة
الانتشار، وكان هؤلاء المهاجرون يرسلون ما يفيض عن حاجتهم من أموال إلى
عوائلهم في بلادهم إلا أنه بدا للكثير منهم عدم العودة إلى أوطانهم، لذلك قرروا
استقدام عائلاتهم إلى بريطانيا منفقين على ذلك أموالهم المدخرة، ولم تكن مؤسسات
الضمان الاجتماعي في بريطانيا قادرة - أو في تعبير أصح راغبة - في التعاون
مع الوافدين الجدد.
وفي البيئة الجديدة شرع الأطفال الآسيويون الذين لا يتكلمون الإنكليزية ألبتة
بالذهاب إلى المدارس في المدن المختلفة ليتعاملون مع من لا يعرف شيئاً عن لغتهم
أو ثقافتهم، ويرفض الأطفال الذين ترعرعوا في محيط إسلامي تناول الوجبات
الغذائية المقدمة من قبل إدارة المدرسة خوفاً من احتوائها على ما قد يحرمه الإسلام، كما أن بعضاً منهم كان عرضة للسخرية والإهانة والتعالي عليه من قبل الطلاب
البيض.
وعندما رد أهالي الأطفال على هذه السلوكيات بإبقاء أطفالهم في البيوت بعيداً
عن المدرسة، هددت السلطات المحلية بمحاكمتهم.. ففي مدينة برادفورد مثلاً،
والتي تضم أعلى نسبة من السكان الآسيويين في بريطانيا، أمضى المسلمون خمسة
عشر عاماً من المحاولات المستمرة قبل أن يتمكنوا من الحصول على موافقة يزود
بموجبها أطفالهم بوجبات غذائية تتفق مع تعاليم دينهم.
لقد مرت الجهود التي بذلها المسلمون لإرساء كيانهم في أجواء قاسية من
التمييز العنصري. ففي نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات وهي الفترة التي بدأت
فيها المتاعب تواجه مصانع النسيج، ارتفعت معدلات البطالة وارتفعت معها
موجات الاستياء، وارتفعت في تلك السنوات وبشكل منتظم حوادث الاعتداء
العنصرية ضد المسلمين. وفي تقرير لوزارة الداخلية صدر عام 1981 م تبين أن
الآسيويين أكثر عرضة للاعتداءات العنصرية بنسبة 50 %.
لقد جاهر مسئولون في الحكومة البريطانية بالشكوى من حوادث الاعتداء
العنصري، فقد عبر تقرير وزارة الداخلية لعام 1989م عن القلق حيال ما سيتحمله
المجتمع من ثمن باهظ على المدى الطويل إذا ما سمح لتيار النزعة العنصرية
الخفي بالتشجيع والانفلات، وعلى الرغم من هذه الاحتجاجات فإن عدداً من أعضاء
حزب المعارضة يزعمون أن حكومة المحافظين مصدر للتمييز العنصري المنظم
وليس علاجاً له.
وبغض النظر عمن هو المسئول، فإن إحدى آثار التمييز العنصري على
المدى الطويل قد تكون نمو الروح النضالية لدى مسلمي بريطانيا، ففي موسم
الصيف الماضى اتخذت المظاهرات التي نظمها المسلمون في مدينة برادفورد طابعاً
عنصرياً مقلقاً، حيث أخذت مجموعات من الشباب الآسيويين بتحطيم الواجهات
الزجاجية للمحال التجارية والسيارات وهددوا المارة. ومنذ ذلك الوقت والاشتباكات
المتفرقة في الشوارع آخذة في الحدوث في بعض المدن.
ويعلق رئيس مجلس المساجد في مدينة برادفورد على هذه الأحداث في مقابلة
أجريت معه مؤخراً فيقول: (إن هذا ليس من الأصولية في شيء، إن الكثير من
أولادنا هم مواليد هذه البلاد، وهم بذلك من حملة الجواز البريطاني إلا أنه ليس في
استطاعتهم الحصول على عمل، كما أنهم لا يلقون معاملة منصفة) .
إن المسلمين البريطانيين يعانون من إحباط على نطاق واسع، وإن هذا
الشعور بالإحباط له أسبابه القوية. تشير حسابات دائرة التوظيف إلى أن نسبة
العاطلين عن العمل بين الشباب (16-24 سنة) المنحدرين من أصل باكستاني
وبنغالي تصل إلى 37%، وهي تعتبر أعلى نسبة بالمقارنة مع أي طائفة عرقية
أخرى في بريطانيا.
ويقوم المسلمون في بريطانيا بحملة تهدف إلى إقناع الحكومة بسن قوانين
هجرة أكثر إنصافاً، وإلى توفير فرص عمل متكافئة، كما يطالبون بتخصيص
حصص دينية إسلامية خاصة في المدارس، وإلى الاعتراف بقوانين الشريعة
الإسلامية في الزواج والميراث وإلحاقها بقانون الدولة، وفي الحقيقة لقد بذل
المسلمون في هذا المضمار جهوداً كبيرة لعدة سنوات، إلا أن الحكومة لم تلق لهم
بالاً، حتى جاء رد الجالية المسلمة على كتاب رشدي عنيفاً جداً، وقد تكون هذه
المسألة على ما تثيره من قلق، حافزاً لتحول اجتماعي أكثر عمقاً، يكون الإسلام
هو نقطة ارتكازه..
يقول الدكتور (شابير أختر) وهو من المتخصصين في حقل تاريخ الأديان،
وكان قد حاز على تجربة في هذا المضمار من جامعة ألبيرتا في كندا ويقيم حالياً في
برادفورد: (إن جوهر القضية هو أن الشباب الآسيويين وجدوا فجأة من يقتدون به
في صفوف المسلمين الملتزمين، ففيما مضى كان الاجتماعيون العلمانيون وزعماء
التحرر هم الذين يتكلمون باسم الجالية الباكستانية، أما الآن فإن ذلك قد تغير كلية،
فدعاة التحرر يريدون أن يجعلوا من قضية العرق وقضية المرأة والرجل عناصر
بديلة عن الدين - في عملية سن القوانين) .
لقد افتقد مسلمو بريطانيا في الماضي أي شكل من أشكال المنظمات الوطنية
أو الدينية، كالكنيسة الأنكليكانية أو الكاثوليكية، أو العقيدة اليهودية، أما الآن فإن
المجالس الإسلامية آخذة بالتكون على الصعيدين الإقليمي والوطني، وهذه المجالس
هي المسئولة عن تنظيم المظاهرات الكبرى التي تطوف شوارع المدن البريطانية،
كما أصبح عدد من قادة المسلمين يتمتعون بمكانة على الصعيد الوطني، ولربما
تحولت جهود هؤلاء القادة فجأة إلى حركة واسعة النطاق.
مجلة الجمعية الجغرافية البريطانية، كانون أول / 1989 م(26/89)
خبر ... وتعليق
-التحرير-
1 - بمناسبة خروج الزعيم الأفريقي (نلسون مانديلا) من سجنه في دولة
جنوب أفريقيا. سألت صحيفة (الشرق الأوسط) الكاتب فهمي هويدي عن رأيه فقال: ...
(المسلمون هم أولى الناس فرحة بإطلاق سراح مناضل أفريقي كبير مثل مانديلا، وبكل خطوة تتخذ على صعيد تحقيق المساواة بين بني الإنسان) .
تعليق:
لا شك أن المسلم يكره التمييز العنصري، ويحارب ما تمارسه دولة جنوب
أفريقيا وأمثالها ويفرح لأي انتصار للحرية على الظلم، ولكن السؤال الموجه إلى
الأستاذ هويدي: لماذا لم نر لك فرحاً بمجاهدة الأفغان للطغيان الشيوعي، ولماذا لا
تكتب عن المجاهد عبد الله عزام أو الأبطال الذين جاهدوا الظلم والطغيان ولا يزال
كثير منهم في السجون حتى الآن؟ ! .
***
2 - تدفق اليهود السوفييت على إسرائيل وباتفاق ومباركة من روسيا وأمريكا، وشعرت إسرائيل بالقوة وأنها بحاجة إلى الأرض لتوطين هذا العدد الكبير من
اليهود. وكان رد فعل الجانب العربي هو (تصاعد الانتقادات والاحتجاجات) ! ! .
وعقد ياسر عرفات اجتماعاً مع نائب وزير خارجية روسيا و (أبدى الجانب
السوفييتي تفهمه) وفي نيويورك قال مندوب الجامعة العربية: إن الدول العربية
تنظر بقلق شديد إلى موضوع الهجرة، وأن العرب في الأمم المتحدة سيشكلون لجنة
لمواجهة هذا الأمر! !
تعليق:
رجعت حليمة لعادتها القديمة، ورجعت مهازل الاحتجاجات والشكوى وتشكيل
اللجان، ورجعت الكلمات السمجة المزرية (ننظر بقلق) . ومن يهن يسهل الهوان
عليه.(26/94)
واحة البيان
مرض الروح
-التحرير-
قيل للشعبي: تمرض الروح؟ قال: نعم من ظل الثقلاء، قال بعض أصحابه: فمررت به يوماً بين ثقيلين، فقلت كيف الروح؟ قال: في النزع.
وقيل للأعمش: مم عمشت عيناك؟ قال: من النظر إلى الثقلاء.
العمل
اغلب عدوك بالعمل
لا بالكلام المرتجل
فالفعل يبني أمة
أما الكلام فيبتذل
محمد الأزهري
تغذية
أكدت دراسة طبية أمريكية أن استهلاك زيت الزيتون الذي يعتبر من
أساسيات التغذية في حوض البحر المتوسط يخفض من نسبة الكولسترول والسكر
في الدم.
حِكَم وطرائف
- ما دام الإنسان يجلس فلا يعرف إن كان أعرج أم لا.
- ما دام الإنسان ينام فلا يعرف إن كان أعور أم لا.
- ما دام الإنسان يصمت فلا يعرف إن كان كاذباً أو صادقًا.
قرأت أخيراً
- مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا.
- العثمانيون في التاريخ والحضارة للدكتور محمد حرب.
- برنامج عملي للمتفقهين للدكتور عبد العزيز القارئ.
- حوار هادئ مع الشيخ الغزالي.(26/95)
الصفحة الأخيرة
ظلم ذوي القربى
عبد القادر حامد
أحد القراء من اليونان أرسل إلينا يشكو من محاربة بعض الإخوة المسلمين
لمجلتنا (البيان) ويستغرب ذلك ويظهر ألمه وأسفه، وجواباً على ذلك نقول للأخ
الكريم:
الاستغراب معقول ومفهوم، ولكن الألم والأسف لا ينبغي أن يتطرق إلى
النفس من هذا العمل. فنحن نعلم أنه منذ ظهور العدد الأول من مجلة (البيان) لم
يرق ذلك لبعض الذين يدعون تمثيل العمل الإسلامي، وأنهم ناصبوها العداء،
وتجنبوها بالتجاهل والتحذير الهامس، ولم يسمحوا لها أن تعرض في واجهات
مكتباتهم ونواديهم، مع أن هذه الواجهات لا تخلو من عرض الصحف والمجلات
التي لا نقول إنها لا تمثل الفكر الإسلامي، بل إن منها ما تخصص في تنقص
المسلمين وحرب قضاياهم، وتكبير خلافاتهم، والتحامل عليهم. وإن الإنسان
ليدركه العجب، وتعروه الدهشة من كيل المدائح التي تكال لكثير من أعداء الإسلام
المكشوفين من قبل أناس يتواصوا فيما بينهم من التحذير من مجلة البيان ومقاطعتها.
ولكن كل ذلك لا يجوز بحال أن يثنينا عن مهمتنا التي نصبنا أنفسنا من أجلها، فإن الحق أبلج، و (الشمس لا تغطى بغربال) ، وإننا نضع مثل هذه الأساليب في
حرب منبر من منابر الدعوة في نصابه الصحيح، فلا نقول مثلاً إن هذا تآمر من
أعداء الإسلام علينا، ولا أن الذين يحاربوننا بمقاطعة مجلتنا مندسون لتخريب
العمل الإسلامي، بل نقول: إن الذي يدفع إلى هذه الأعمال ضيق في الأفق،
وعصبية حزبية، وحسد مبعثه الكبر وغمط الناس من قبل إخوة كان من المتوقع أن
يكونوا عوناً على كل كلمة صادقة وجهد جاد.
هذا مع أننا لا نستنكف عن عرض أي مطبوعة إسلامية تتبنى قضايا الإسلام
والمسلمين ضمن إطار أهل السنة والجماعة، وليس عندنا عقد تجاه أي مجلة
صدرت أو ستصدر، وحالنا مع هؤلاء كقول الشاعر:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس كبير القوم من يحمل الحقدا(26/100)
رمضان - 1410هـ
أبريل - 1990م
(السنة: 4)(27/)
الافتتاحية
بل ظاهرة أصيلة عامة
-التحرير-
من الأفكار التي يحاول أعداء الإسلام إشاعتها بالإلحاح بتردادها أن عودة
المسلمين إلى التمسك بدينهم ووضعه في الاعتبار ليست ظاهرة أصيلة عامة، وإنما
هي ظاهرة جزئية يقوم بها شباب يائس يعيش تحت ضغط ظروف اجتماعية
واقتصادية صعبة، وأغلقت في وجهه كل الأبواب، فلجأ إلى الإسلام كنوع من
الهروب من مشاكله، وصنع لنفسه جواً يشعر فيه بالأمان والاطمئنان!
وقد جعلوا من عودة الشباب المسلم إلى الاعتزاز بعقيدته وإحلالها المحل
الأول من حياته نوعاً من أحلام اليقظة التي لا تعدو - عند الإغراق فيها - أن
تكون مرضاً نفسياً يحتاج إلى علاج! ! .
وهذه النظرة القاصرة المغرضة نابعة ابتداء إما من التحامل على الإسلام كدين، ... والكراهية العميقة له؟ وإما من الآثار الفكرية للمبشرين والمتربين في معاهدهم
ودهاليزهم. أي أنها تعود إلى سببين رئيسيين:
أ- كره للأديان عموماً والإسلام خصوصاً.
ب- جهل عميق بالإسلام؛ كيف ينتشر وكيف ينحسر.
إن هذه التحليلات المغرضة التي تمتلئ بها الصحف والمجلات أجنبية وعربية
عن أسباب رجوع الإنسان إلى عقيدته تبدو مضحكة في كثير من الأحيان
كما تبدو سمجة وثقيلة، وما أشبهها بكلام كثير من المستشرقين عن الإسلام
وأحكامه، وعن شخصية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل إن هذه
التحليلات امتداد لذلك الفكر الذي أرساه المستشرقون، وعمل على ترسيخه أولياؤهم
في عالمنا الإسلامي.
ونحن نقول: إنه على الرغم من غثاثة هذا الفكر وسطحيته فإنه يجد من
يسمعه ويتعلق به ويعجب به من بيننا. ويساعد على ذلك أن هناك تقصيراً سببه
تقاعس أهل الفكر الصحيح، وأجواء فكرية تحدث من تكاسل هؤلاء؛ وجرأة أهل
الباطل التي تحتضن الغث وتروجه، وتقصي النافع وتشوهه.. لكن الذي يفوت
هذه التحليلات هو طبيعة الإسلام كعقيدة، وطبيعته في التفاعل مع الحياة، ويظنون
أن العقيدة الإسلامية إذا كانت في حالة ضمور فهي في طريقها إلى الموت دائماً.
نعم: قد يوجد من تضمر عقيدته، ثم تموت، ولكن هؤلاء نسبتهم قليلة، وبما أن الساحة ليست لهؤلاء فقط، حتى لو حُوْول إخلاؤها لهم بكل السبل، فإن من طبيعة البشر عامة أن تستخدم الاستقراء والاستنتاج كعمليات منطقية بسيطة، فتدرس الظواهر هنا وهناك، وتستنتج منها نتائج تعمل بمقتضاها. والمسلم إنسان قبل كل شيء، لو نظر حوله لوجد عشرات ومئات الظواهر والدلائل التي تلفته إلى دينه لفتاً، وتجعله يقتنع أنه لا يتلاعب به المتلاعبون ولا تجوز عليه الدعاوى والخدع إلا إذا كان رقيق الدين ضحل العقيدة. هذا على المستوى الفردي.
أما على المستوى الجماعي - سمه القومي أو الوطني إن شئت- فإنه كما
يستعبد فرد فرداً، ويهضم قوي حق ضعيف؛ فإن أمماً تأكل أخرى، وتذوب
حضارات وتندثر وتبنى على أطلالها حضارات، ولا يودي بالأمة سوى ضعف
العقيدة، وانحلال الروابط الدينية التي تجمع أفرادها ومؤسساتها، وعندما تنهزم
الأمة نفسياً، فتتخلى عن قيمها ومفاهيمها، وتجلب قيم ومفاهيم القوي تطبقها
راضية مختارة بلا تمحيص وبلا خجل؛ فهذا هو الانهيار والاندثار والذوبان بعينه. وقد ينخدع بعض الناس فتنعكس عندهم السنة الكونية التي تقول:
" حيث يكون الحق تكون القوة " فتصبح في نظرهم: " حيث تكون القو ة ...
يكون الحق " وهذا هو طريق الشيطان كما قال تعالى: [الشَّيْطَانُ ... يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] [البقرة: 268]
وهكذا فإن من طبيعة المسلم أنه يمكن أن يؤوب إلى الحق، وإلا لما كان هناك من
التوبة، ويمكن أن يراجع نفسه فيصدقها وتصدقه، والله يحوطه ويرعاه سواء كان
مهتدياً أو ضالاً، وهو رحيم بعباده يصرِّف عليهم العبر والحوادث، ويمتحنهم
بالمصائب والرغائب [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم
مُّبْصِرُونَ] [الأعراف: 201] " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر
الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم " (جزء من حديث أبي ذر المشهور الذي رواه
مسلم) .
وكما يتوب المسلم عن الفواحش كالزنا، وشرب الخمر، والاستهتار
بالمحرمات كذلك يتوب عن إهمال أمر الدين وعدم إحلاله المحل الأول في حياته
وعن التغني بالشعارات والبدع التي تستورد من أعداء الله شرقاً وغرباً، ويتوب
عن تجزئة الإسلام أجزاء؛ فهذا يرفضه، وهذا يقبله، وهذا ضروري؛ وهذا
هامشي! وعن قياس الإسلام على سائر النحل والأديان الأخرى، واعتبار حاله
بأحوالها، وعن تضييق المفهوم الرباني للإسلام وتقليصه إلى أن يقتصر على هذه
الحركات التي تمارس في المسجد، وإلى هذه التراتيل التي تسمع عند موت شخص، ولا شيء بعد ذلك.
وباختصار، فكما تكون التوبة من الموبقات الخلقية والسلوكية وارتكاب
الفواحش، والتهاون بأركان الإسلام؛ تكون أيضاً من الموبقات والفواحش الفكرية
والعقيدية الشائعة. وإذا شئنا أن نناقش تحليلات هؤلاء الجهلة بظواهر الأمور -
فضلاً عن جهلهم بنوايا المسلمين الذين يرجعون إلى دينهم زرافات ووحداناً - فإن
الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي يذكرونها لا تكفي وحدها لتفسير ذلك، وهذا
تكذيب للواقع، وإساءة إلى هذه الجموع العريضة من الشباب المسلم الذي يجتهد في
إثبات عقيدته والتمسك بهدي ملته، وتشكيك بتوجه هؤلاء؛ فلو كان العامل
الاقتصادي هو الدافع فما بالنا بهؤلاء الذين اختاروا هذا الطريق على الرغم من
البحبوحة التي يعيشون فيها؟ ماذا يدفعهم إلى هذا؟ أهو طمع في الزيادة؟ !
ثم ما بال هذه الجماهير التي ذاقت بسبب تمسكها بعقيدتها كل أنواع المحن من
قتل وسجن وتضييق وتشريد.. ومع هذا لم ترض الدنية في دينها، ولم تفتنها
التهديدات ولا الإغراءات عن التخلي عما تؤمن به؟ ! .
إن طرق المغريات المادية والمعنوية لم تزل مفتوحة أمام طلاب الدنيا، وما
على الإنسان الذي يريد المطامع الدنيوية إلا أن يشير ولو إشارة إلى امتعاضه من
المظاهر الإسلامية، ويتهجم على هذا التيار من الفهم والتفكير الذي يحس ويلمس
بين الجماهير المسلمة؛ حتى يُحْتَضَن وترفع درجته لينصب إما أديباً عبقرياً، أو
مفكراً مستنيراً جريئاً، وبعد أن يكون نكرة فقيراً مطوياً في براثن الإهمال والضعة؛ يصبح معرفة غنياً طافياً على سطح المجتمع.
إن تفسير رجوع الناس إلى دينها هذا التفسير الفج مثل تفسير كارل ماركس
للتاريخ، وبقدر تهافت الماركسية وانهيارها؛ ستنهار هذه التفسيرات والتحليلات إن
شاء الله. وهذا التفسير والتفسير المادي للتاريخ هو نفسه تفسير المستشرقين
والمستغربين للفتوح الإسلامية بأنها فتوحات وهجرات اقتصادية خرج فيها العرب
من جزيرتهم تحت ضغط الحاجة، وانساحوا في البلاد للنهب والسلب لتحسين
وضعهم الاقتصادي! وهكذا تجرد هذه الموجات الكاسحة من الشباب المسلم من أي
دافع مشروع، ومن أي هدف نبيل، وتشوه صورتها لتبدو موجات مسعورة، تنشر
الفوضى والتخريب، ليكون ذلك مسوغاً لضربها أو علاجها بكافة الطرق، تجرد
هذه الجماهير من الأحفاد كما جردت أجدادها من الغايات السامية، والأهداف
العظيمة، وتصاغرت تضحياتهم ودماؤهم المسفوحة في كل ربوة، وفوق كل ثرى
لتكون من أجل البحث عن لقمة الخبز فقط، أما سبيل الله، والجنة، وجزاء
الصابرين، وغسل العار، والعزة الإيمانية، وحرب الظلم والطغيان، والرباط،
والشهادة، ومن هو في سبيل الله، ومن هو في سبيل الشيطان. كل ذلك لا قيمة له
ولا وجود له في نظر علماء الاجتماع الذين يبحثون في الظواهر الإسلامية وهم
يعيشون خارجها.
ولكن أنى لإنسان أن يصف لك ألمك كما تشعر به حتى ولو كان طبيباً ألمعياً؟
تشتكى ما اشتكيتُ من ألم الشو ... ق إليها والشوقُ حيث النحول
وإذا خامَرَ الهوى قلبَ صب ... فعليه لكل عين دليل(27/4)
مفاهيم إسلامية
الدين والدنيا
محمد العبدة
وترى الدنيا انطوت في كسبه ... ليس فيها ذرة في قلبه
(إقبال)
كيف اختل التوازن؟ !
لا شك عندنا أن الصحابة رضوان الله عليهم هم القدوة وهم النموذج في فهم
الإسلام، وأقوالهم وأفعالهم هي التي تدل على هذا الفهم، وبالرجوع إلى سيرتهم
نجد أن حياتهم كانت طبيعية ليس فيها تكلف وتعمق، يأخذون بالأسباب في الكسب
من تجارة وزراعة أو عمل يدوي، ويخصصون جزءاً من أوقاتهم للعلم، وإذا دعا
داعي الجهاد فهم الرجال، وفيهم الأغنياء دون بطر، والفقراء مع التعفف، كانوا
أبعد الناس عن التهالك على الدنيا، فتحوا البلدان وأنشئوا المدن، وأقاموا الدول.
الخلل إذن جاء بعدهم، جاء من يقول: إن الدنيا ضرة الآخرة وليست طريقاً
لها، وأشاع الزهد بمعنى ترك الدنيا وعدم الاهتمام بها، ويمكن أن نعدد بعض
الظواهر التي أدت إلى هذا الخلل:
1- الزهد الأعجمى:
نقل الصوفية إلى المجتمع الإسلامي، فلسفات الهند في تعذيب الجسد وحب
(الفقر) كما نقلوا رهبانية النصارى، وروجوا هذه البضاعة باسم الزهد المشروع،
وحاولوا تأييد هذه (الرهبنة) بذكر ما كان عليه الجيل الأول من السمو حيث لم تكن
الدنيا في قلوبهم وراحوا يذمون الدنيا بمناسبة وبغير مناسبة، وساعدهم على ذلك
القصاص الجهلة، الذين وجدوا الكلام في هذا الموضوع من الأشياء المحببة لدى
الجماهير، وهكذا أصبحت مرتبة الزاهد الذي لا يتكسب ويعيش في زاوية أو رباط
هي أعلى المراتب، وسمع المسلمون وأعجبوا بمن يقول: (لو أن الدنيا بحذافيرها
عرضت علي حلالاً ولا أحاسب بها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر الرجل
الجيفة) [1] .
ووضع هؤلاء الصوفية كلام الله سبحانه وتعالى عن الدنيا أو كلام الرسول -
صلى الله عليه وسلم- في غير موضعه، ولم يفهموه حق الفهم، وقد أدبنا الله
سبحانه وتعالى في القرآن بأن نذكر القضية ونقيضها حتى يتم التوازن، فلا يذكر
عذاب النار إلا ويذكر نعيم الجنة، ولا يذكر الفجار إلا ويذكر الأبرار، فعندما نذم
الدنيا يجب أن نبين على أي شيء يقع الذم.
يقول الشيخ رشيد رضا: (ومن أضر ما حدث بعد الخلفاء الراشدين الغلو في
التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا ضرة الآخرة على الإطلاق، ومن
أكبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ، فزرع أهله في قلوب
الأمة الإسلامية فسيل الكسل، وما التكايا التي أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند
النصارى) [2] . (والذين لبسوا لبوس الصالحين نفثوا في الأمة سموم المبالغة في
التزهيد، وأكثرهم يريد إنفاق كسب الكاسبين عليهم وهم كسالى لزعمهم أنهم بحب
الله مشغولون) [3] .
هؤلاء البطالون الذين لا يريدون الكد والتعب، ويتخوفون الصراع مع
الأعداء، يلجئون إلى حيلة الزهد والانزواء وكيف يكون إذن التمكين في الأرض
والحكم بشريعة الإسلام، وهذا كله يختلف عن الاغترار بالدنيا والانغماس في
شهواتها.
2- الخلل في فهم طبيعة الإنسان:
قد يظن بعض الناس أن الأمور الدنيوية أو اللذات الحسية هي نقص في
الإنسان بتأثير من الفلاسفة الذين يفكرون تفكيراً خيالياً، ورهبان النصارى الذين
يستقذرون الأمور الحسية وهذا غير صحيح، بل هي بوجه من الوجوه كمال إذا لم
تطغِ، وإذا لم تصرفه عن الآخرة (والدليل على أن اللذات الجسدية ليست نقصاً:
أن عالم الآخرة لا يخلو منها، فهو عالم يكون الإنسان بهخ في أعلى أوج الكمال،
فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء [4] ومن هذا الباب يشنع النصارى على نبينا عليه الصلاة والسلام كثرة الزواج،
ويحاول بعض المسلمين الرد عليهم بأساليب تبريرية، فالأكل والشرب والزواج
ليست عيباً في الإنسان، لأن طبيعته ليست من جنس الملائكة.
3- أسباب نفسية:
عندما يفشل بعض الناس في الحياة ولا يستطيعون إعمار الدنيا بالخير
والتمكن فيها، واستخلاصها من أيدي الكفار، عندنا يلجئون إلى حيلة نفسية وهي
التركيز على الزهد، وإقناع النفس أن نعيم الدنيا زائل، والكفار لهم الدنيا ونحن لنا
الآخرة، وربما في دخائلهم يحبون الدنيا حباً جماً، لقد انتشر التصوف وازداد بعد
ضعف الدولة الإسلامية أو فشلها في الوقوف أمام زحف التتار، فكثرت الزوايا
والربط والهروب السلبي من متطلبات الكفاح.
عودة إلى المفهوم الإسلامي:
1 - إن ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذكر للدنيا لا يفهم
منه إلا التحذير أن يتنافسها المسلمون فتهلكهم، وإلا أنها لا تساوي شيئاً بالنسبة
للآخرة لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشتغل بها، فقد دعا وجاهد وأسس
دولة الإسلام، وكان بعض كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعهم الرسول -صلى
الله عليه وسلم- إلى ترك المال وترك الاشتغال بالتجارة.
وكذلك ذم الدنيا الوارد على لسان بعض العلماء (إنما هو راجع إلى أفعال بني
آدم التي تقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته) [5] .
2-ربما يتكالب الناس على الدنيا في زمن معين أو في بلد معين، فيأتي عالم
رباني ويتكلم عن الدنيا وموقعها بالنسبة للآخرة وذلك فيما يرد الناس إلى التوسط
والتوازن، فهذا صحيح وهذا يختلف عن الذي يجعل الفقر هو الأصل، ويذم الدنيا
دائماً.
ذكر الخلال في كتابه (الحث على التجارة) حديثاً عن عائشة رضي الله عنها
قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة) ثم أتى برواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه لم يستطع الجمع بين التجارة والعبادة، وقد علق محقق الكتاب أن الخلال ساق أثر أبي الدرداء ليبين أنه حالة خاصة بمن لديه سعة من المال لينفق على العيال ثم ساق كلام الذهب (الأفضل الجمع بين الأمرين) .
3 - الإسلام يحث على العمل والكسب: قال سفيان بن عيينة: (ليس من
حب الدنيا أن تطلب منها ما يصلحك) وعن الإمام أحمد بن حنبل (أحب الدراهم
إلي درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان) [6] .
وعن سعيد بن المسيب: (لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثاً
لمن بعده) [7] .
وقد جاء في القرآن عن داود عليه السلام: [وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ]
[الأنبياء: 80] ، وصح عن زكريا عليه السلام أنه كان نجاراً، وأما ما اشتهر ...
بعدئذ من احتقار للمهن، فهذا شيء أتي به المسلمون من قبل الفلاسفة اليونانيين
الذين كانوا يعظمون العمل العقلي ويحتقرون المهن، ويرتبون المجتمع طبقات
حسب أهوائهم، إن كتب بعض العلماء توحي بالاحتقار للمهن كقول الإمام الماوردي: (وأشرف الصناعات صناعة الفكر وأرذلها صناعة العمل) [8] وهذا قد يكون من
أسباب تخلف المسلمين فى الصناعة في الوقت الذي تقدم فيه الأوربيون واستعمروا
العالم.
4 -إن الاستمتاع بالدنيا وملاذها والترفه فيها وإن كان بالحلال، ولكنه يوشك
أن يؤدي بالمؤمن إلى حبها والتعلق بها، فالمؤمن يبقى على حذر منها ويبتعد عن
مواطن الزلل والشبهات، ويعود نفسه على العيش الخشن حتى يكون على استعداد
للجهاد في أي وقت، وهذا لا يمنع من لبس الثوب الحسن والنعل الحسن كما سأل
أحد الصحابةرسول الله-صلى الله عليه وسلم-عن التجمل بهذا وحبه للنظافة في
مسكنه وثوبه فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله جميل يحب الجمال)
وهذا لا ينقص درجته عن الذي يفضل الخشونة في مأكله أو ملبسه. وأما الآية
[أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا] [الأحقاف: 20] قال الشيخ
الشنقيطي في تفسيرها: (التحقيق إن شاء الله في مثل هذه الآية هو أنها في الكفار
وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم لأنه تعالى ما أباحها
لهم ليذهب بها حسناتهم) [9] .
وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك
فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.
والخلاصة أنه لا بد من التوازن الدقيق في هذه المسألة، فلا تكن الدنيا أكبر
همنا، وفي نفس الوقت لا نغتر بترهات الصوفية وتخبطات القصاص الوعاظ،
ونحن لا نريد تضخيم دور المال ولكن واقع البشرية اليوم يقول إن للاقتصاد دور
بالغ، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، وكيف تقوى الدعوة الإسلامية دون أخذ
الأسباب، وكيف نريد من شعوب تعيش على فتات موائد الغرب أن تنهض وتساعد
في إقامة حكم الله في الأرض.
ولهذا قلنا: إنها معادلة صعبة.
__________
(1) شرح حديث الزهد لابن رجب / 75.
(2) المنار: 33 / 175.
(3) المنار: 4/383.
(4) - المنار3/100.
(5) شرح حديث الزهد لابن رجب / 47.
(6) أبو بكر الخلال: الحث على التجارة والصناعة /35، تحقيق محمود بن محمد الحداد.
(7) المصدر السابق/80.
(8) أدب الدنيا والدين، تحقيق د محمد صباح/243.
(9) أضواء البيان 7/393.(27/8)
فتاوى في الصيام
أعدها وجمعها:محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله،
وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه طائفة من أحكام الصيام، مجموعة من كلام أهل العلم، من المتقدمين
والمتأخرين، بطريقة السؤال والجواب.
س: ما هو فضل الصيام؟
ج: في ذلك آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تعالى: [إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ] قال أهل التفسير: هم الصائمون.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن في الجنة باباً يقال له الريان: يدخل
منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ ،
فيقومون فيدخلون منه، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (وفي رواية: من
دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً) [صحيح الجامع الصغير، رقم 2121،
وانظر صحيح الترغيب 1/410] .
وفي الصحيحين، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «قال الله عز
وجل، كل عمل ابن آدم له (وفي مسلم: يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى
سبعمائة ضعف) إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة» (وفي رواية
صحيحة: يستجن به العبد من النار) .
وفي حديث يحيى بن زكريا: «وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه
صرة مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك» [صحيح الجامع الصغير رقم (1720) ] .
س: ما حكم من صام رمضان استشفاء من مرض أو تخفيفاً للوزن؟
ج: إن اقتصرت نيته على هذا فليس له في الآخرة من نصيب، قال تعالى:
[مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا
مَذْمُوماً مَّدْحُوراً، ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم
مَّشْكُوراً] [الإسراء/18-19] .
ويجب أن تكون نية المؤمن مطابقة لحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [صحيح الترغيب
1/415] وينبغي على الدعاة أن يبينوا للناس معنى كلمة (احتساباً) ويدعوا ذكر
الفوائد الدنيوية للمؤلفة قلوبهم.
س: كيف يحكم بدخول شهر رمضان؟ ..
ج: بأحد أمرين:
- الأول: رؤية هلاله، لقوله تعالى: [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فإذا
أعلن ثبوته مصدر موثوق وجب العمل بذلك.
- الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولا مانع من توالي شهرين أو أكثر في
السنة الهجرية كل منها 29 يوماً أو 30 يوماً.
س: إذا أسلم الكافر، أو بلغ الصبي، أو شفي المريض، أو أقام المسافر،
أو طهرت الحائض، أثناء النهار في رمضان فماذا يجب عليهم من جهة الإمساك
والقضاء؟
ج: إذا أسلم الكافر، أو بلغ الصغير، أثناء النهار لزمهما إمساك بقية اليوم
وليس عليهما قضاؤه، ولا قضاء الأيام التي قبله من الشهر، لأنهما لم يكونا من
أهل الوجوب عند الإمساك.
- وإذا شفي المريض، أو أقام المسافر، أو طهرت الحائض، فالأحوط
الإمساك بقية اليوم (للخلاف في المسألة) وعليهم قضاء هذا اليوم، وما فاتهم قبله.
والفرق بين القسمين: أن القسم الأول تحقق لديهم الشرط أما القسم الثاني فقد زال
عنهم المانع.
س: متى يؤمر الصبي بالصيام؟
ج: قال الخرقي: وإذا كان الغلام عشر سنين، وأطاق الصيام أخذ به.
قال ابن قدامة: واعتباره بالعشر أولى، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أمر بالضرب على الصلاة عندها، واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما
من الأخرى، واجتماعهما في أنهما عبادتان بدنيتان من أركان الإسلام، إلا أن
الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة، لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيقه. [المغني مع
الشرح 3/90] .
فما بالك أيها الأخ المسلم بمن يمنع أولاده من الصيام رحمة بهم بزعمه! !
س: رجل بلغ من الكبر عتياً، وأصبح لا يعرف أولاده، ولا الجهات
الأصلية، فماذا عليه في الصوم؟ .
ج: إذا كان الواقع ما ذكر، فليس عليه صلاة ولا صيام ولا إطعام. وإذا كان
يعود إليه عقله أحياناً، ويذهب أحياناً، فإذا عاد إليه صام، وإذا ذهب عنه سقط
عنه الصيام.
س: ما حكم الصيام للمريض؟
ج: إذا ثبت بالطب أن الصوم يسبب هلاك المريض فلا يجوز له الصيام،
أما إن ثبت أن الصوم يجلب المرض له أو يضر بالمريض بزيادة مرضه أو تأخير
شفائه أو يؤلمه أو يشق عليه الصيام، فالمتسحب له أن يفطر ثم يقضي.
س: شخص مصاب بقرحة في معدته، ونهاه الطبيب عن الصيام مدة خمس
سنوات. فما الحكم؟
ج: إذا كان الطبيب الذي نهاه عن الصوم ثقة مأموناً خبيراً في طبه، فيتعين
السمع والطاعة لنصحه، وذلك بإفطاره في رمضان حتى يجد القدرة والاستطاعة
على الصوم، لقوله تعالى: [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فإذا شفي من مرضه، تعين عليه صوم أشهر رمضان التي أفطرها.
س: ما حكم العاجز عن الصيام عجزاً كلياً لمرض لا يرجى شفاؤه أو لكبر
سنه؟
ج: عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، نصف صاع من قوت البلد، (مثال: قرابة1. 5 كغ من الأرز) يدفعها في أول الشهر كما فعل أنس رضي الله عنه،
ويجوز أثناءه أو في آخره.
س: رجل مريض أخبره الأطباء أن شفاءه ممكن، فهل يجزئه الإطعام؟
ج: لا يجزئه الإطعام، ويجب عليه الانتظار حتى يشفى ثم يقضى.
س: رجل مريض ينتظر الشفاء ليصوم، فمات، فماذا عليه؟ .
ج: ليس عليه شيء لأن الصيام حق لله تبارك وتعالى، وجب بالشرع ومات
من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج.
س: شخص صام جزءاً من رمضان ثم عجز عن إكمال الباقي، فماذا يعمل؟
ج: إن كان عجزه لأمر طارئ يزول، انتظر حتى يزول ثم يقضى، وإن
كان عجزه لأمر دائم، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً كما تقدم.
س: ما حكم الصوم للمسافر؟
ج: إذا شق عليه الصوم في السفر فالأفضل أن يأخذ بالرخصة فيفطر. وإن لم
يشق عليه صام والفطر جائز.
س: متى يفطر الصائم؟
ج: في ذلك حديثان:
- الأول: حديث أنس رضي الله عنه أنه أفطر على دابته قبل أن يخرج وقد
تهيأ للرحيل.
- الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين، قال: خرج
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه
ليراه الناس ثم أفطر. فالأحوط أن لا يفطر المسافر إلا إذا خرج من بلدته وفارق
البيوت.
س: رجل قرر في إحدى الليالي من رمضان أن يسافر غداً في النهار، فهل
يجوز له أن يبيت نية الإفطار؟
ج: لا يجوز له ذلك، بل ينوي الصيام، لأنه لا يدري ما يعرض له، فقد لا
يستطيع السفر، فإذا سافر أفطر إن شاء كما تقدم.
س: رجل أراد مواقعة أهله في رمضان، فسافر من أجل ذلك؟
ج: فعله حرام، لأنه قصد التحايل، وهو آثم ولا يجوز له الفطر
[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وهُوَ خَادِعُهُمْ] .
س: هل يجوز الإفطار في المطار؟
ج: إن كان المطار داخل البلد أو في حدودها فإنه ينتظر حتى تقلع الطائرة
وتبتعد، ثم يفطر، وإن كان المطار خارج البلد، جاز له الفطر في المطار.
س: غربت الشمس في المطار فأفطرنا بعد الصيام، فلما أقلعت الطائرة
وارتفعت رأينا الشمس مرة أخرى، فما حكم الصيام؟
ج: الصيام صحيح، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا أقبل الليل من
هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» [متفق عليه] .
س: من صام في بلد، ثم سافر إلى بلد آخر، صام أهله قبله أو بعده، فماذا
يفعل؟
ج: يفطر بإفطار أهل البلد الذين ذهب إليهم، ولو زاد على ثلاثين يوماً
(بالنسبة له) لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصوم يوم تصومون، والفطر
يوم تفطرون» [رواه الترمذي وهو حديث صحيح] . لكن إن لم يكمل تسعة
وعشرين فعليه إكمال ذلك الشهر (بعد يوم العيد) ، لأن الشهر لا ينقص عن تسعة
وعشرين يوماً.
س: صامت امرأة، وقبل الغروب بلحظات خرج منها الدم، فما حكم
صيامها؟
ج: إن خرج فعلاً، فقد بطل الصوم وهي مأجورة، وتقضي بدلاً منه، أما
إن أحسَّت به داخل الجسم ولم يخرج، أو خرج بعد الغروب، فصيامها صحيح.
س: امرأة طهرت قبل الفجر في رمضان، ولم تغتسل إلا بعد الفجر، وكذلك
رجل أصبح جنباً ولم يغتسل إلا بعد الفجر، فما حكم صيامهما؟
ج: صيام المرأة المذكورة صحيح، وكذلك صيام الجنب، لحديث عائشة
رضي الله عنها المتفق عليه: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدركه الفجر
وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم» . وكذلك النفساء مثل الحائض في الحكم
إذا طهرت قبل الفجر. ولكن يجب التعجيل بالاغتسال لإدراك صلاة الفجر.
س: هل يجوز للمرأة استعمال حبوب لمنع الحيض في رمضان؟
ج: يجوز أن تستعمل المرأة أدوية لمنع الحيض في رمضان إذا قرر أهل
الخبرة الأمناء من الأطباء ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها. وخير لها أن تكف
عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر، إذا جاءها الحيض في رمضان
وشرع لها قضاء الأيام التي أفطرتها ورضي لها بذلك ديناً.
س: شخص لم يدر أن رمضان قد دخل، إلا في صباح اليوم التالي، فماذا
يعمل؟
ج: يمسك ذلك اليوم، ويقضي يوماً بدلاً منه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا صيام لمن لم يفرضه من الليل» [صحيح الجامع الصغير رقم (7516) ] .
س: ما هي المفطرات؟
ج: ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن من المفطرات ما يكون من نوع
الاستفراغ: كالجماع والاستقاءة، والحيض والاحتجام. ومنها ما يكون من نوع
الامتلاء: كالأكل والشرب (وما في معناها كالحقن المغذية) ومن الخارجات نوع لا
يقدر على الاحتراز منه: كالأخبثين، وإذا خدعه القيء والاحتلام في النوم،
وخروج الدم من الجروح، والاستحاضة، بخلاف ما إذا استقاء عمداً أو استمنى
عمداً. [الفتاوى25 /265] .
والمفطرات (ما عدا الحيض والنفاس) لا تفسد الصوم إلا إذا فعلها الشخص
مختاراً غير مكره، ذاكراً غير ناسٍ، عالماً غير جاهل.
س: ما حكم قطرة العين والأذن؟
ج: لا تفطر كما ذكر أهل العلم، وكذلك: الطيب والكحل، وأخذ الدم
للتحليل، والرعاف، والحقنة الشرجية، والإبر غير المغدية، والغبار، وذوق
الطبّاخ للطعام دون دخوله إلى جوفه، ومن تمضمض فدخل الماء رغماً عنه إلى
جوفه، ودواء الربو الذي يؤخذ بطريق الاستنشاق، وبلع الريق. وكذلك السواك
فهو جائز في جميع أجزاء النهار.
س: ما حكم التقبيل في نهار رمضان؟
ج: إذا عرف الشخص من نفسه أنه إذا قبّل لا يخرج منه شيء، جاز له
التقبيل، كما ورد في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم،
أما إذا كان يعلم من عادته أنه سينزل، أو لا يضمن نفسه، فلا يقبل، لأنه إذا أنزل
عند التقبيل أو اللمس فقد فسد صيامه.
س: ما حكم بقايا الطعام في الفم، وفتات السواك، واستخدام معجون الأسنان؟
ج: إذا طلع الفجر عليه فعليه إخراج بقايا الطعام من فيه ولايجوز بلعها.
وكذلك لا يجوز بلع فتات السواك، وإذا وصلت إلى حلقه رغماً عنه، فليس عليه
شيء. وكذلك الدم الخارج من اللثة لا يفطره إذا بلغ جوفه دون قصد. أما بالنسبة
لمعجون الأسنان فإنه لا يخلو من حالين:
أحدهما: أن يكون قوياً، ينفذ إلى المعدة ولا يتمكن الإنسان من ضبطه، فهذا
محظور عليه، ولا يجوز له استعماله، وعلى الأقل فهو يكره.
أما إذا كان يمكنه أن يتحرز منه، فإنه لا حرج عليه في استعماله..
س: ما حكم الأكل والشرب أثناء الأذان؟
ج: إن سمع الأذان وعلم أنه يؤذن على الفجر، وجب عليه الإمساك، وإن
كان يؤذن قبل طلوع الفجر، لم يجب عليه الإمساك حتى يتبين له الفجر، وإن كان
لا يعلم حال المؤذن هل أذن قبل الفجر أو بعده، فالأولى والأحوط أن يمسك إذا
سمع الأذان، ولا يضره لو شرب أو أكل شيئاً حين الأذان لأنه لم يعلم بطلوع الفجر، لكن عليه أن يحتاط بالتقويمات التي تحدد الوقت بالساعة والدقيقة.
س: ماذا يفعل من غربت الشمس وهو يقود سيارته، وليس عنده ما
يفطر به؟
ج: ينوي الفطر بقلبه، ولا يفعل كبعض الجهال: يمص أصبعه أو يبلع
ريقه.
س: لم يخبر أمه بطلوع الشمس شفقة عليها حتى يتسنى لها الشرب، فما
الحكم؟
ج: الأحوط أن تعيد الصيام، ويستغفر هو ويتوب.
س: إذا رأى شخص صائماً يأكل ناسياً، فهل يجب عليه أن يذكره؟
ج: نعم يجب عليه ذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «إذا نسيت فذكروني» ولأنه بالنسبة للمشاهد يعتبر منكراً يجب تغييره، ولأنه
من باب التعاون على البر والتقوى.
س: ما حكم التهنئة بدخول شهر رمضان؟
ج: لا حرج في ذلك.
نسأل الله أن يعيننا وإخواننا المسلمين على صيامه وقيامه كما يحب ويرضى،
والله تعالى أعلم.
المصادر:
-المغني مع الشرح الكبير - الجزء الثالث.
-مجموع الفتاوى لابن تيمية - الجزء الخامس والعشرون.
مجالس شهر رمضان -للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
مجلة البحوث الإسلامية - العدد الرابع عشر.
-فتاوى مجلة الدعوة.
-فتاوى نور على الدرب - للشيخ عبد العزيز بن باز.
- فتاوى نور على الدرب - للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين.(27/13)
خواطر في الدعوة
الصحبة القديمة
محمد العبدة
جاء في كتاب (فضائل الصحابة) أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
شكى خالد بن الوليد إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال رسول الله-صلى الله
عليه وسلم-لخالد: «يا خالد لمَ تؤذي رجلاً من أهل بدر، لو أنفقت مثل أحد ذهباً
لم تدرك عمله» [1] . وجاء في صحيح مسلم: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد
الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» [2] .
ومع بقاء هذه الأحاديث على عمومها، ولكن من الواضح أن رسول الله وجه
خالداً رضي الله عنه إلى احترام صحبة معينة وهي الصحبة القديمة، فهؤلاء لهم
منزلة خاصة، منزلة أوائل من أسلم وسار مع الدعوة في دربها الطويل من التعذيب
والحصار والهجرة، سار مع الدعوة في السراء والضراء، وكان مع الوحي الإلهي
وهو يتنزل آية آية وسورة سورة، هؤلاء الصحب هم أجدر الناس بحب رسول
الله-صلى الله عليه وسلم-وتقديره لهم.
والذين جاءوا بعد ذلك قد يكون فيهم من يملك طاقات ومواهب ويقدم خدمات
جلّى للدعوة الإسلامية، ولكن يبقى للرعيل الأول منزلتهم، والإسلام ليس فيه
طبقية ولا كهنوت، وكل يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وليس عندنا شيخ ومريد،
ولكن من له باع طويل في الدعوة، والتقى ظاهر عليه فيجب أن يحترم ولا يتطاول
عليه من هو ناشئ غِرٌ، والحقيقة أنه ليس أضر على العمل الإسلامي، بل على
الأمم من نشوء صراع بين الجيل القديم والجيل الجديد، فلا يستفاد من خبرة أولئك
ولا من حماسة هؤلاء.
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى أهل بدر عتاباً شديداً بسبب اختلافهم حول
الغنائم، وكان هذا الخلاف بين الشباب والشيوخ، فقال الشباب: نحن جمعنا
الغنائم وطاردنا العدو، وقال الشيوخ: ونحن كنا ردءاً لكم ونحمي رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-، فأنزل تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] [الأنفال: 1] .
فليحذر الدعاة من هذا المزلق، الذي يتلبس باسم الأمر بالمعروف أو بشبهة
استعجال الطريق، أو قد يكون جهلاً بعواقب الأمور، والعجيب أن يسبقنا الغربيون
إلى هذه الفضيلة، فلا يدعون فرصة تفوتهم إلا ويستفيدون من كبارهم وعقلائهم،
ولا يهملونهم بل إن هذا الأمر واضح عند العوام في بلادنا فيقولون:
الذي ليس عنده كبير، يشتري له كبير أو الذي ليس عنده كبير ما عند هـ
تدبير.
والمسلمون في هذه الأيام بأشد الحاجة إلى كل طاقة وكل خبرة، ونرجو أن لا
تتبدد بالخصومات المفتعلة.
__________
(1) الإمام أحمد بن حنبل / فضائل الصحابة، تحقيق وصي الله بن محمد بن عباسي.
(2) صحيح مسلم 7/188.(27/22)
أعلام الإسلام
ابن جرير الطبري إمام المفسرين
محمد محمد توفيق
هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، ولد سنة
224 هـ، في بلدة آمل عاصمة طبرستان ببلاد فارس.
عاش عصراً من أزهى عصور الإسلام تقدماً وإنتاجاً على جميع المستويات
الفكرية، فقد كان عصر جمع وتبويب وتصنيف ونقد، ووضع قواعد عامة للعلوم،
واستقراء للجزئيات.
صفاته:
عفيف النفس، لا يقبل الهدية إلا إذا كان يقدر على المكافأة عليها، فيه زهد
وورع وتقوى، رفض المناصب التي عرضت عليه. كان يتمتع بعقلية واعية نيرة، وحافظة لاقطة، وقلب نابض بالإيمان، وعقيدة متينة، ونفسية مطمئنة، وجرأة
في الحق. حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأمَّ الناس وهو ابن ثماني سنين،
وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين.
برع في الفقه والحديث والقراءات والنحو والحساب وغيرها، ووهب العلم
عمره. وماله، شهد له الجميع بسعة العلم ودقة التفكير.
كان شافعي المذهب، ثم انفرد بمذهب مستقل لم يكتب له الدوام، وذلك
لذهاب مدوناته، وتفرق أصحابه وأتباعه.
رحلاته:
رحل إلى كل من الري، والبصرة، وواسط، والكوفة، وبغداد، وبيروت،
ومصر، طلباً للعلم وبدلاً له، إلى أن مات ببغداد عام 310 هـ.
من شيوخه:
في الحديث: محمد بن حميد الرازي، وهناد بن السري، وإسماعيل بن
موسى.
وفي التاريخ: محمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن أحمد بن حماد
الدولابي، ومحمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد بن الأعلى
الصنعاني، وبشر بن معاذ، ومحمد بن بشار بن بندار.
وفي الفقه: الحسن بن محمد الزعفراني، وأبو سعيد الإصطخري، والربيع
بن سليمان الجيزي تلميذ الشافعي.
وفي اللغة: أحمد بن يحيى ثعلب..
وغيرهم كثير من مختلف المذاهب، ومن مختلف الأقطار.
تلاميذه:
تتلمذ عليه الكثير من أشهرهم: أبو بكر بن كامل بن خلف، وعبد العزيز بن
محمد الطبري، وأبو إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الطبري.
كتبه:
- جامع البيان عن تأويل القرآن (جامع البيان في تفسير القرآن) ، وقد اعتمد
في تفسيره هذا على المأثور الذي صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو
الصحابة رضي الله عنهم، أو التابعين، وكان يهتم بالأسانيد وتقييم الرجال، ويبتعد
عن التفسير بالرأي، ويعرض أوجه القراءات، ويبتعد عن التعمق الفارغ
والتفريعات الهامشية والتكهنات غير المفيدة، ويستشهد على المعنى اللغوي بأحاديث
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وكلام العرب وأشعارهم، ويعتني بالإعراب فهو
يوضح المعنى.
- تاريخ الأمم والملوك.
- كتاب آداب النفس الجيدة والأخلاق النفيسة.
- اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام.
- صريح السنة (يوضح فيه مذهبه وعقيدته) ..
- الفصل بين القراءات.
- آداب القضاة.
- فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وغيرها كثير، ومما يدل على ذكائه وحفظه أنه قال:
لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي
يتحقق به، فجاءني يوماً رجل، فسألنى عن شيء من العروض، ولم أكن نشطت
له قبل ذلك، فقلت له: علّي قول أن لا أتكلم في شيء من العروض، فإذا كان في
غد فصر إلي، وطلبت من صديق لي كتاب (العروض) للخليل بن أحمد، فجاء
به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضياً.
رحم الله أبا جعفر وأسكنه فسيح جناته ...(27/24)
مصطلحات إسلامية
الصبر
إعداد: عادل التل
المعنى اللغوي:
الصبر: هو حبس النفس، ويقال: صبرت نفسي على ذلك الأمر أي حبستها.
قال عنترة عن نفسه:
فصبرت عارفةً لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تَطَلَّعُ
والمصبورة: المحبوسة على الموت.
والصبير: الكفيل، وإنما سمي بذلك لأنه يصبر على الغرم، جاء في لسان
العرب: صبر يصبر صبراً، فهو صابر وصبار وصبير وصبور، والأنثى صبور
أيضاً.
قال الجوهري: الصبر حبس النفس عند الجزع.
والصبر الجراءة، ومنه قول الله تعالى: [فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] والصبر: الإكراه أيضاً.
وصبير القوم: زعيمهم المقدم في أمورهم.
والصبور: هو القادر على الصبر.
والتصبر: تكلف الصبر.
المعنى الاصطلاحي:
الصبر لفظ عام وربما خولف بين أسمائه باختلاف مواقعه.
- فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبراً لا غير، ويضاده الجزع.
- وإن كان في محاربة سمي شجاعة، ويضاده الجبن.
-وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر.
- وإن كان في إمساك الكلام سمي كتماناً ويضاده الذل.
- وإن كان في إمساك عن الطعام سمي صياماً.
وهكذا نستطيع أن نصف كل ما يحتاج إلى الثبات على شيء أو الإمساك
عن شيء صبراً.
والصبر والحلم قرينان، لأن الحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب
وضده الحماقة.
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد
الذي يملك نفسه عند الغضب» .
من أحكام المصطلح:
الصبر أساس الابتلاء في حياة الفرد والجماعة. يقول تعالى: [ولَنَبْلُوَنَّكُم
بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ والأَنفُسِ والثَّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] [البقرة: 155] .
عندما يقف المسلم داعياً إلى الله تعالى، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق الذي آمن به؛ فيتعرض للأذى والعذاب، وتنزل به المحن
والخطوب، فلا بد من الصبر والثبات أو الانحراف والفساد.
يقول تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ، ولَقَدْ
فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 2-3] .
يقول أحد الدعاة: الصبر زاد الطريق في هذه الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، بالإيذاء والابتلاء.
الصبر على أشياء كثيرة:
- الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها وضعفها.
- والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصرفهم
وانحراف طباعهم وغرورهم.
- والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وتصعير
الغرور والخيلاء.
- والصبر على قلة الناصر، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات
الكرب والضيق.
- والصبر على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار، واستقبال الرخاء
في تواضع وشكر.
والصبر على هذا كله - ومثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق ...
لا تصوره الكلمات..
إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق وتذوقها انفعالات وتجارب
ومرارات. [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ] [آل عمران: 200](27/27)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
العظمة الحقيقية
حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو
أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً.. لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً.. لقد
اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة! .
إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف
على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم
ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع!
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملق
هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً.. إن التوفيق
بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد؛ هو العظمة
الحقيقية.
سيد قطب - أفراح الروح
أهل العبودية
.. لم ينسبوا إلى اسم ... فلم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء
التي صارت أعلاماً لأهل الطريق..
وأيضاً، فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه فيعرفون به دون غيره
من الأعمال فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة، وأما العبودية المطلقة:
فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف
أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم، فلا يتقيد برسم ولا
إشارة، ولا اسم بزي، ولا طريق وضعي اصطلاحي ... بل إن سئل عن شيخه؟
قال: الرسول، وعن طريقه؟ قال: الاتباع، وعن خرقته؟ قال: لباس التقوى،
وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة، وعن مقصوده ومطلوبه؟ قال: [يُرِيدُونَ وجْهَهُ] وعن رباطه؟ قال: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ والآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإقَامِ الصَلاةِ وإيتَاءِ
الزَّكَاةِ] وعن نسبه؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ابن القيم - مدارج السالكين " بتصرف "
أنشودة رمزية
لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق.
ستحمل إشعاعات الصباح الجديد، ظل جهدك المبارك، في السهل الذي تبذر
فيه.
وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك.. بعيداً عن ظلك.
ستتابع شمس الحق سيرها دون تراجع، وستعلن قريباً انتصار الفكرة وانهيار
الأصنام، كما حدث يوم تحطم " هبل " في الكعبة.
مالك بن نبي - شروط النهضة " بتصرف "(27/30)
بحوث
الإمساك عمّا شجر بين الصحابة
محمد الوهيبي
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم
فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا» [1] . وهكذا كان من منهج أهل السنة الإمساك
عن ذكر هفوات الصحابة وتتبع زلاتهم وعدم الخوض فيما شجر بينهم. قال أبو
نعيم رحمه الله: فالامساك عن ذكر، أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
وذكر زللهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه، من
أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: [والَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ] .
ويقول أيضاً في تعليقه على الحديث المشار إليه: (لم يأمرهم بالإمساك عن
ذكر محاسنهم وفضائلهم، إنما أمروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في
ثورة الغضب وعارض الموجدة) [2] . إذاً الإمساك المشار إليه في الحديث الشريف إمساك بخصوص يقصد به (عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة، والانتصار لأخرى) [3] . وذلك مما لم نؤمر به، إنما أمرنا بالاستغفار لهم ومحبتهم ونشر محاسنهم وفضائلهم. (لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل) [4] .
وهذا مما نحتاجه في زماننا، حيث ابتليت الأمة المسلمة بجامعاتها ومدارسها
بمناهج - يزعم أصحابها الموضوعية والعلمية - يخوضون فيما شجر بين الصحابة
بالباطل دون التأدب بالآداب التي علمنا إياها عز وجل ورسوله -صلى الله عليه
وسلم- كذلك ابتليت بالفرق الضالة التي نشرت ذلك فى بعض البلاد، بل إن
العدوى-وللأسف- وصلت بعض الإسلاميين حتى إن بعضهم يجمع الغث والسمين
من الروايات حول الفتنة التي بين الصحابة ثم يبني أحكامه دون الاسترشاد بأقوال
الأئمة الأعلام وتحقيقاتهم، من أجل ذلك أردت أن أشير إلى بعض الأسس ...
والتوجيهات التي ينبغي أن يعرفها الباحث إذا اقتضت الحاجة أن يبحث وينظر إلى
الروايات فيما شجر بينهم.
1 -إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل، بل الأصل العقدي
عند أهل السنة هو الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة، وهذا مبسوط في عامة
كتب أهل السنة في العقيدة كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة لابن أبي
عاصم، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني، والإبانة لابن بطة، والطحاوية
وغيرها. ويتأكد هذا الإمساك عند من يخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة وذلك
بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك
مثله (لصغر سنه أو حداثة عهده بالدين..) لحقيقه ما حصل بين الصحابة
واختلاف اجتهادهم في ذلك فيقع في الفتنة (بانتقاصه الصحابة) من حيث لا يعلم..
وذلك مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف وهي ألا يعرض على
الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم، قال الإمام البخاري رحمه الله: باب
من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال علي رضي الله عنه:
حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ . قال الحافظ في الفتح
تعليقاً على ذلك: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبني أن يذكر عند العامة ومثله
قول ابن مسعود: (ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)
رواه مسلم.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها
الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب..
إلى أن قال: (وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم) [5] .
2 - وإذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم فلا بد من التحقق والتثبت في
الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]
هذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق لكي لا
يحكموا بموجبها على الناس فيندموا، فوجوب التثبت والتحقق فيما ينقل عن
الصحابة وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصاً ونحن نعلم أن مثل هذه
الروايات دخلها الكذب والتحريف، إما من جهة أصل الرواية، أو تحريف بالزيادة
والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة
هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن
يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما [6] ، من أجل ذلك لا
يجوز أن يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع
وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد
تيقنا ما ثبت في فضلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم
بطلانها [7] .
3 -أما إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل وكان ظاهرها القدح
فيلتمس لهم أحسن المخارج والمعاذير، قال ابن أبي زيد: (..والإمساك عما شجر ...
بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب) [8] . وقال ابن دقيق العيد: (وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما
هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً أولناه تأويلاً حسناً لأن الثناء
عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك
والموهوم لا يبطل المحقق والمعلوم) [9] ، هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم.
4 - أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم، وثبت في ميزان النقد
العلمي فهم فيه مجتهدون، وذلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف
اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
أ- قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف وأن مخالفه باغ فوجب
عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه
صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
ب -وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق مع الطرف الآخر،
فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
ج - وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضايا وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح
أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا
يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك [10] .
إذاً هذا القتال هم متأولون فيه، لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها
بسببها وذلك لا يخرجهم من العدالة بل هم في حكم المجتهدين في مسائل الفقه فلا
يلزم نقص أحد منهم إنما هو بين أجر وأجرين. ومن المهم أن نعلم أن القتال الذي
حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل
وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون
علي ولا قال ذلك طلحة والزبير ... وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء-
بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان رضي الله عنهم -، وهو من
باب قتال أهل العدل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على
قاعدة دينية - أي ليس بسبب خلل في أصول الدين -[11] . ويقول عمر بن شبه: (إن أحد اًلم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا لأحد
ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان وترك الاقتصاص
منهم) [12] .
ومما يؤكد ذلك هذه الرواية التي ذكرها ابن كثير: (جاء أبو مسلم الخولاني
وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني
لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً،
وأنا ابن عمته، والطالب بدمه، فائتوه فقولوا له، فليدفع إليَّ قتلة عثمان، وأسلم له، فائتوا علياً، فكلموه. فلم يدفعهم إليه [13] ) وفي رواية: (فعند ذلك صمم أهل
الشام على القتال مع معاوية) [14] .
وأيضاً جمهور الصحابة، وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة، قال عبد الله
ابن الإمام أحمد: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أيوب السختياني عن
محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. قال ابن تيمية: (وهذا
الإسناد أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في
منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل) [15] . فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا
مثل هذه النصوص الصحيحة؟ وتكون منطلقاً لهم، لا أن يلطخوا أذهانهم
بتشويشات الإخباريين ثم يؤولون النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة
المزجاة.
5- ومما ينبغي أن يعلمه المسلم حول الفتن التي وقعت بين الصحابة-مع
اجتهادهم فيها وتأولهم - حزنهم الشديد وندمهم لما جرى، بل لم يخطر ببالهم أن
الأمر سيصل إلى ما وصل إليه، وتأثر بعضهم التأثر البالغ حين يبلغه مقتل أخيه،
بل إن البعض أيضاً لم يتصور أن الأمر سيصل إلى القتال، وإليك بعضاً من هذه
النصوص المؤثرة:
أ-فهذه أم المؤمنين عائشة تقول -كما يروي عنها الزهري -: (إنما أريد أن
يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم
أقف ذلك الموقف أبداً [16] ، وكانت إذا قرأت: [وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] تبكي حتى يبتل خمارها) [17] .
ب -أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيقول الشعبي: (لما قتل طلحة
ورآه علي مقتولاً، جعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: عزيز علي أبا محمد أن
أراك مجدلاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري (همومي
وأحزاني) وبكى عليه هو وأصحابه، وقال: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين
سنة) [18] ، ويقول رضي الله عنه: (يا حسن يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر
يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة) [19] . وكان يقول ليالي
صفين: (لله در مقام عبد الله بن عمر وسعد بن مالك (وهم ممن اعتزل الفتنة) إن
كان بدًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطره ليسير) [20] . فهذا قول أمير
المؤمنين رغم قول أهل السنة إن علياً ومن معه أقرب إلى الحق [21] .
ج -ويقول الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو ممن شارك في القتال بجانب
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها،
فقال مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك! إنا نبصَّر ولا نبصِر، ما
كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا
فيه أم مدبر؟) [22] .
وهذا معاوية رضي الله عنه، لما جاءه نعي علي بن أبي طالب، جلس وهو
يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي، فقالت امرأته، أنت بالأمس تقاتله،
واليوم تبكيه؟ فقال: ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله
وسوابقه وخيره، وفي رواية (ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه
والعلم) [23] .
وبعد كل هذه النقولات كيف يلامون بأمور كانت مشتبهة عليهم؟ فاجتهدوا
فأصاب بعضهم، وأخطأ الآخرون وجميعهم بين أجر وأجرين، ثم بعد ذلك ندموا
على ما حصل وجرى، وتابوا من ذلك، وما حصل بينهم من جنس المصائب التي
يكفر الله عز وجل بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم ومنازلهم قال -صلى الله عليه
وسلم-: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يسير في الأرض ليس عليه خطيئة»
[24] ، وعلى أقل الأحوال لو كان ما حصل من بعضهم في ذلك ذنباً محققاً، فإن
الله عز وجل يكفره بأسباب كثيرة من أعظمها الحسنات الماحية-من سوابقهم
ومناقبهم وجهادهم -، والمصائب المكفرة، والاستغفار، والتوبة التي بها يبدل الله
عز وجل السيئات حسنات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
6 - وأخيراً نقول إن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من
الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة،
ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، ثم إذا كان
قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون إما قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر
له بسابقته، أو بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف
الأمور التي هم فيها مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغفور في
جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من إيمان وجهاد وهجرة ونصرة وعلم نافع وعمل
صالح [25] .
يقول الذهبي رحمه الله: ( ... فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع
بينهم وجهاد محّاء وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم
العصمة) [26] .
إذاً اعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة، فالعدالة استقامة السيرة
والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى
والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه.. (ثم لا خلاف في أنه لا يشترط
العصمة من جميع المعاصي ... ) [27] .
ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معايبهم ومساويهم مطلقاً - كما مر سابقاً -،
وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ لصحابي، فلا بد أن يقترن بذلك ذكر
منزلة هذا الصحابي وتوبته وجهاده وسابقته..، إن وجد شيء من ذلك، فمثلاً من
الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، دون أن نذكر توبته
وسابقته وأنه من أهل بدر، ومن الظلم أيضاً أن نذكر ماعزاً وزلته ولا نذكر توبته
التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه، [28] وهكذا فالمرء لا يعاب بزلة يسيرة
حصلت منه في فترة من فترات حياته، وتاب منها، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص
البداية إن كانت له حسنات ومناقب، ولو لم يزكه أحد، فكيف إذا كثرت فيه
التزكيات، وكيف إذا زكاه خالقه، الخبير بما في نفسه؟ .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 2/78/2.
(2) الإمامة/347.
(3) منهج كتابة التاريخ، محمد بن صامل السلمي، ص 227، 228.
(4) منهاج السنة 3 / 192.
(5) فتح الباري 1 / 225.
(6) انظر منهاج السنة 3 / 17، 19.
(7) المصدر السابق 3 / 209 بتصرف.
(8) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ص 8.
(9) أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم / 360 عبد العزيز العجلان.
(10) مسلم بشرح النووي 15 / 49.
(11) فتح الباري 13/ 56.
(12) سير أعلام النبلاء، الذهبي 3 / 140 بسند رجاله.
(13) البداية والنهاية 8 / 129.
(14) منهاج السنة 3 / 186، وراجع في نفس الموضوع نصوص أخرى تدل على قلة من حضر الفتنة من الصحابة.
(15) مغازي الزهري، 154.
(16) سير أعلام النبلاء 2 /177.
(17) أسد الغابة، ابن الأثير 3 / 88، 89.
(18) منهاج السنة 6 / 209 (محقق) .
(19) المصدر نفسه 6 / 209 (محقق) .
(20) فتح الباري 12 / 67.
(21) تاريخ الطبري 4 /476.
(22) تاريخ الطبري 4/476.
(23) البداية والنهاية 8/14، 130.
(24) الترمذي، رقم 2401، قال: حسن صحيح.
(25) انظر الواسطية بشرح هراس / 164 - 167.
(26) سير أعلام النبلاء: 10 / 93.
(27) منهج المحدثين للأعظمي / 23 - 29.
(28) الإمامة لأبي نعيم / 340، 341، منهاج السنة 2/207، محقق.(27/32)
كتاب في مقال
المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية
تأليف: عبد الله أحمد الشبانة
عرض: أحمد أبو عامر
من أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم هو ما سيطر عليهم من روح الانهزام
أمام أعداء الإسلام، وضعف الهمة من بعث روح المقاومة والمغالبة، والعجز عن
مجرد التفكير في ذلك، حتى بلغت أمتنا في ذلك مبلغاً من الانحطاط والتقهقر
والتخلف لا نريد عليه ... ونحن اليوم في أشد الحاجة إلى تعرية هذا المرض
الخبيث الذي يقلب الموازين ويعكس المفاهيم حتى أصبحنا نظن العدو صديقاً،
والأبيض أسود، والغاش ناصحاً، والناصح غاشاً، وهذا ما حدا بالمؤلف إلى علاج
هذه الظاهرة المرضية في واقعنا، وقبل أن يحدد معنى الهزيمة النفسية تطرق إلى
مدخل لبيان أهمية معرفة هذه الظاهرة كبداية لعلاجها ثم عن مظاهر الهزيمة النفسية
في ثلاثة أبواب:
أولاً: في مجال الفكر، وتطرق فيه للفكر التربوي ثم الفكر الإعلامي.
ثانياً: في مجال النظم، وتطرق فيه للنظامين الاقتصادي والسياسي.
ثالثاً: في مجال السلوك، وتطرق فيه للسلوك الفردي والسلوك الاجتماعي.
ثم بين خطر هذه الظاهرة في محيط الفرد، ثم في محيط الأسرة ثم في محيط
الجماعة والأمة. ثم تطرق المؤلف إلى أسباب هذه الظاهرة وعوامل تكوينها،
وأرجعها إلى أسباب وعوامل ذاتية، ثم أسباب وعوامل خارجية. ثم تطرق المؤلف
إلى طريق علاج هذه الظاهرة ووسائل القضاء عليها.
ومما يجدر ذكره أن المؤلف استعرض الجهود العلمية والفكرية والتي سبقته
لعلاج وبحث هذه الظاهرة في النفس والمجتمع، ومن سبق إلى البحث فيها أمثال
(شكيب أرسلان) في كتابه (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم) وكذلك أبو الحسن
الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ومالك بن نبي في (شروط
النهضة) وأبو الأعلى المودودي في كتابه (واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم)
ود. ناصر العقل في كتابه (التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإسلامية) وهو لم يطبع بعد طبعته الأولى، وهذه فرصة للدعوة لإعادة طبع الكتاب لأهمتيه في هذا
الباب ... وغيرها من الأبحاث الهامة في هذا الباب.
وقد وضح طرق علاج هذه الظاهرة ووسائل القضاء عليها في بابين:
1 - طريق التربية والتعليم.
2 - طريق التوجيه والإرشاد (الإعلام) .
وفي خاتمة الكتاب جمع المؤلف خلاصة ما تضمنه البحث من أبواب وفصول، وأكد أنه كبير الأمل وعظيم الثقة في أن نجاحاً كبيراً سيتحقق من جراء الأثر
الإيجابي للعلاج، وأن شفاء الأمة من هذا المرض سيتم بإذن الله من هذا الداء
الخطير، وستمضي بحول الله تعيد سيرة سلفها الصالح، وأمجادها الغابرة، ونبه
إلى أن واجب كل مسلم واع مدرك للخطر منتبه لما يراد بالأمة وما تساق إليه بل ما
سيقت له منذ أزمان أن يعمل بكل ما أوتي من قوة وبكل وسيلة ممكنة لتبصير الأمة
بالأخطار التي هددتها وتهدد كل فرد من أفرادها..
وأن واجب المسئولين في كل دولة واجب مضاعف، وخاصة مسئولو ذينك
المجالين المهمين: (التربية والإعلام) ثم نبه إلى نوع من الانهزامية لم يتطرق له
لعدم دخوله في منهج البحث وهو ما تتعرض له الأمة في مجال الأدب ومناهج النقد
عن طريق ما يسمى بالحداثة والتي انكشفت كل أوراق أدعيائها بما ظهر من
دراسات علمية وموضوعية حول ذلك.
والكتاب دراسة يلمس فيها القارئ حسن القصد وحسن البحث ولن يعدم كل
قارئ للكتاب من أصول ومعلومات علمية قيمة تزيد ثقافته وتناقش كثيرًا من
الشبهات المطروحة في الساحة بمنهج علمي جدير بالتقدير والاحترام.(27/40)
تربية
التربية: الواقع والبديل
عدنان محمد عبد الرزاق
التربية أم التعليم:
حرصت معظم دول العالم في السنوات الأخيرة على تسمية المؤسسات
والوزارات المهتمة بشئون التعليم بالتربية بدلاً من التعليم، وبعضهم قرن التربية
بالتعليم حرصاً منهم على أهمية التربية، وعلى أن التعليم جزء من التربية،
والتربية أعم وأشمل.
وهذه حقيقة أدركها سلفنا الصالح إذ كانوا يسمون معلم الأولاد: المؤدب
والمربي. وهنا يحضرني قول ابن المبارك رحمه الله: (تعلمنا الأدب ثلاثين عاماً
وتعلمنا العلم عشرين) .
وليست هذه التسميات الحديثة إلا نتيجة أبحاث وتجارب طويلة قامت هنا
وهناك وتناولها الأبناء عن الآباء.. وهي ليست حكراً على أحد بل تنتقل من بلد
لآخر بل هنالك مؤسسات متخصصة بنقل تجارب الآخرين وخبراتهم مثل منظمة
(اليونيسكو) إذ لها نشاط واسع في هذا المجال، والمربون المتخصصون يستطيعون
تمييز الخبيث من الطيب..
ولا يمكن فصل التربية عن التعليم، فالتربية إذ تسعى لبناء الإنسان السوي
المحب للفضيلة ذي الشخصية المتوازنة المتحلي بمكارم الأخلاق فهي حريصة أن
يكون هذا الإنسان متعلماً مثقفاً بالعلوم المختلفة، فهو هدف من أهدافها.. فالتربية
تواكب التعليم، وأكثر ما تكون وضوحاً في سنين الدراسة المتقدمة، الابتدائي
والإعدادي.. وتقل في سني الدراسة المتأخرة، حيث تكون شخصية المتعلم قد
تبلورت، وهذا لا يعني انعدامها ...
ولا بد حتى تتضح صورة التربية ممزوجة بالتعليم من ذكر بعض الأمثلة من
المنهج والمربي والطالب.
فمن حيث المنهج نورد بعض الأمثلة التي تهدف إلى التعليم البحت وأخرى
إلى التربية والتعليم معاً، ففي الحساب مثلاً، لنأخذ هذا المثال:
مع سعيد 50 ريالاً صرف منها 10 ريالات، كم بقي عنده؟ يمكن صياغة
المثال نفسه حتى يحقق غاية تربوية وتعليمية فيصبح كالتالي: مع سعيد 50 ريالاً،
أعطى فقيراً قابله 10 ريالات، كم بقي عنده؟
وفي العلوم أيضاً انظر إلى هذه المعلومة الموجودة في الكتب:
حبت الطبيعة الزرافة عنقاً طويلاً لتستطيع أكل أوراق الأشجار. ويمكن
صياغة هذه المعلومة؛ بل يجب أن تصاغ كالتالي:
خلق الله للزرافة عنقاً طويلاً لتستطيع أكل أوراق الشجر.. على افتراض أن
المعلومة صحيحة، فهنا تربية مع تعليم.
وهكذا في مختلف المواد تستغل النصوص وتتضافر المعلومات لتحقق أهداف
سلوكية ووجدانية بالإضافة إلى الأهداف التعليمية حتى يحمل الطالب الأدب
والفضيلة والعلم.
هذا في المناهج؛ أما في مجال المربي والطالب فما أكثر المواقف اليومية
التي تمر والتي تحمل مئات الفرص لكي يتربى الطالب من خلالها ولا بد هنا من
ذكر بعض الأمثلة:
لنتصور أن طالباً أخطأ في الإجابة الصحيحة يمكن أن يقال له ما يلي:
- خطأ اجلس.
- أنت بواد ونحن بواد.
- غير فاهم أبداً، مع بعض عبارات التوبيخ أحياناً ...
ويمكن أن يقال له: جزاك الله خيراً لقد اقتربت من الإجابة، ويسأل من
يساعد أخاه أو يكمل له الإجابة؟ .
فالعبارات الأولى ليست من التربية بل العكس تعين على إحباط الطالب.
والإجابة الأخيرة من المربي أنقذت الموقف ولم يشعر الطالب بأي شيء غير عادي..
مثال آخر: دخل المدرس الفصل ووجد الطلاب قد أمسكوا بطالب سارق
وجدوا عنده قلم زميله، وتعالت الأصوات: سارق، سارق! فما كان من المدرس
إلا أن صاح معهم سارق! كيف تسرق؟ والله لأفعلن وأفعلن.. وانهال عليه ضرباً
وتوبيخاً.
وتصرف آخر بديل: أسكت المعلم الطلاب وقال: لا، سعيد لا يسرق،
كيف يسرق ويعرف أن السرقة حرام؟ ! لا بد أنه أخطأ وظن أن القلم قلمه،
ووضعه في الحقيبة، أليس ذلك يا سعيد؟
سعيد: بلى يا أستاذ… تلافى الفضيحة ثم بينه وبين سعيد يعالج الأمر إذا
اقتضى ذلك بالطرق المعروفة.
فالسرقة والكذب والاعتداء والحيل كل ذلك يحصل مع الأطفال في المراحل
الأولى، ولكن يجب أن يعالج بحكمة لأن موقفاً واحداً ارتجالياً مع طالب قد يحطم
شخصيته ويجعله غير سوي طيلة حياته، وإنني لا أنسى ذلك المدرس الذى كاد
يحطم طالباً صغيراً لأنه بال بولاً لا إرادياً في الفصل، وأصبحنا شباباً كباراً حين
نمر بذلك الطالب فيطرق خجلاً وحرجاً منا لأننا نعرف القصة، وحين حصل مثل
ذلك مع مدرس آخر وأصر الطلاب على أن الطالب بال في الفصل على ملابسه،
وقف المدرس إلى جانب الطالب بحكمته وصرف انتباههم بلباقة عن التفكير في هذا
الموضوع حتى سرعان ما نسوه وانتهى الأمر.
إن الطفل يحتاج إلى يد حانية تمسح على رأسه.. وتأخذ بيده إلى شاطئ
التوازن النفسي بعيداً عن الخلل والشروخ.. وهذا ما دعا بعض الدول الغنية إلى
تعيين (أخصائي اجتماعي) في كل مدرسة يعالج مثل هذه الأمور.. ولكن التجربة لم
تنجح لسببين:
الأول: سوء اختيار هؤلاء الأخصائيين.
والثاني: المعلم أولى بحل هذه الأمور ومعالجة هذه المواقف وذلك لعدم
التوسع في نشر مثل تلك الأسرار والمشاكل.
وخلاصة القول لا بد من التربية أولاً، والتعليم معها ثانياً وخاصة في
المراحل الأولى، إذ تعتبر المدرسة امتداداً للبيت فيجب أن تتضافر جهود المربين
على ذلك، ليحمل العلم المتزنون الصالحون المؤدبون المحبون للفضيلة لكي يؤتي
هذا العلم ثماره، ويحمله أهله..
على يد من يتربى الأبناء؟
أول ما يتبادر إلى الذهن أن الأبناء يتربون على أيدي معلمي وزارة التربية
والمؤسسات التابعة لها.. نعم هذه حقيقة، ولكن هل هؤلاء فقط؟ أم هنالك مصادر
أخرى تؤثر في العملية التربوية؟ إذاً ما هي هذه المصادر والمؤسسات المعنية
بالتربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وبنسب مختلفة؟ والتى لا بد لكل مشتغل
بأمور التربية أن يضعها في حسابه؟ :
1 - البيت: وهو أولها وأهمها وأطولها مدة وامتداداً وهو الأساس.
2 - والمدرسة.
3 - البيئة والمجتمع: كالمساجد، والمكتبات، والمحاضرات، والأندية
والجمعيات، ووسائل الإعلام باختلافها وبتنوع أساليبها.. والخدمة العسكرية في
بعض الدول لها دور كبير في صقل شخصية الأفراد.
وكذلك سياسة الدولة العامة، هل هي قائمة على احترام مواطنيها، وحرصها
على أن يكونوا عاملين منتجين تهيئ لهم العيش الكريم أم عكس ذلك تحرص
على قهرهم وإذلالهم وإبقائهم مستهلكين ضعفاء؟ كل هذه المؤسسات التي ذكرنا
والتى فاتنا ذكرها تترك بصماتها جلية واضحة على شخصية ذلك البرعم، وكل
واحدة منها تحتاج إلى كتب لتتناولها بالشرح والتفصيل والتأثير وما لها وما عليها.
التربية من خلال المدرسة:
حينما تذكر المدرسة نعني بذلك المؤسسة الرسمية المعنية بالتربية والتي تكون
غالباً تحت إشراف الحكومات، وقد اتفق المربون على أن عناصر العملية التربوية
ثلاثة:
1 - المنهج أو الكتاب.
2 - والطالب.
3 - والمربي.
المناهج:
قبل الحديث عن المناهج لا بد من الكلام عن أهداف التربية إذ أن المناهج
تخدم تلك الأهداف..
تعتبر أهداف التربية في كل بلد عنواناً لسياسة ذلك البلد لبناء مجتمع يحقق له
طموحاته وتطلعاته، فمن البديهي أن تختلف أهداف التربية من بلد لآخر.. فأهداف
التربية في اليابان مثلاً تهدف إلى إقامة قاعدة صناعية عريضة تختلف عن أهداف
التربية في إسرائيل إذ تهدف لبناء قاعدة عسكرية عريضة، والقاسم المشترك بين
الأمم من أهداف التربية هو إعداد المواطن (الصالح) ..
وهنا ومن خلال الأهداف تكمن خطورة الأمر إذ توجه كافة الوسائل والأنشطة
لخدمة ذلك الهدف وقلما تجد بين الأهداف هدفاً يدعو لترسيخ العقيدة الصحيحة أو
إعداد الإنسان المسلم الحق ... وإذا وجد مثل ذلك قرن بشيء آخر أفسده كأن يكون
الهدف: إعداد الإنسان المؤمن بالله والوطن..
وهذه الأهداف العامة تتشعب إلى أهداف خاصة ثم توضع في قوالب مختلفة
لتشكل فيما بعد مع المواد العلمية المناهج المقررة للتدريس.
إذاً تصاغ المناهج وفقاً للأهداف من قبل متخصصين بالمواد العلمية وعلماء
نفس وتربية، ومدرسين ذوي خبرة طويلة ... ثم تفرغ في كتب، وتجرب وتعدل
بين الحين والآخر لتشكل دليلاً للمعلم والطالب وخطاً عريضاً يسترشد به وفق ما
رسم له. والحديث عن المناهج وما سببته من غسل دماغ الناس وتزوير التاريخ
يطول جداً، ولكن أقول: إن أغلب المناهج التي بين أيدينا مترجمة ومنقولة عن
غيرنا بسلبياتها دون الإيجابيات وبعض النظريات أو الفرضيات قد تركها أصحابها
ونحن ما زلنا متعلقين بها.
الطالب:
وهو محور العملية التربوية فالجميع يعمل لأجله.. والجهود والتجارب كلها
من أجل أن تحقق له المزيد من المكاسب.. فيجب أن تكون المدرسة بالنسبة له
حياة وليست إعداداً للحياة، يتعلم من خلالها وهو يلعب ويلهو، وهي امتداد طبيعي
للبيت، وتغيرت كثير من المفاهيم فلم يعد الطفل صفحة بيضاء تكتب فيها ما تريد
بل هو جملة من الانفعالات والإحساسات تحتاج إلى توجيه وتصعيد.. ويجب أيضاً
أن يكون الطالب إيجابياً يتعلم بنفسه، والمعلم سلبياً يراقب ويوجه، وخرج الطلاب
في دول الغرب من سجون الصفوف إلى المخابر والمزارع والمعامل للتعلم
وأصبحت العملية تعلُّمية وليست تعليمية كذلك الثواب والعقاب والواجبات كل ذلك
خضع لتجارب كثيرة وأبحاث كلها تهدف إلى إعداد هذا المتعلم ليكون شخصية
متوازنة صالحة.
أما في كثير من الدول العربية فلا يزال الطالب بين جدران الفصول يتلقى
الخطب والمحاضرات النظرية وأسيراً يعد الساعات حتى يسمع جرس الانصراف
في حين زميله في الدول الأخرى تراه يبحث في المختبر والمعمل ويخترع ويشجع..
المربي:
وهو في العملية التربوية الأهم على الإطلاق والمنهج بعده في الأهمية وهو
الرأس إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.. إذ يستطيع المربي
الفاضل أن يغطي سلبيات المناهج ويستطيع المربي الفاشل أن يغطي إيجابيات
المناهج أيضاً..
والأهم من ذلك والأصعب أن الطالب لا يتربى على يد المربي من خلال
الدروس فقط بل يأخذ عنه أضعاف ذلك من خلال النشاطات والإعجاب الشخصي
والمحاكاة حتى في اللباس والمشي والكلام، يأخذ في هذا المجال وقد يتأثر به ويأخذ
عنه أكثر مما يأخذ عن الأب.
فأين هذه الشخصية المتزنة الطيبة القدوة إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية
عن المنكر الذي يضع مخافة الله نصب عينيه حاملاً هذه الأمانة محباً لها، عارفاً
بصعوباتها.. كيف يختار؟ .
يخضع اختيار المدرسين إلى اعتبارات تتوافق مع سياسة البلد لتضمن تحقيق
الأهداف التي رسمتها وتطبيق المناهج التي أعدتها لذا تختلف الدول في ذلك.
وتتفق في شيء واحد وهو حصوله على المؤهل الذي يؤهله للعمل، وإذا لم تسع
الدولة لتأمين المدرس الكفؤ فهي تهدم بيتها بيدها مهما طال الزمن أو قصر.
أما المؤهل فينقسم إلى قسمين:
الأول علمي: فيجب أن يكون المدرس ملماً إلماماً جيداً بالمادة التي سيدرسها.
الثاني تربوي: وهو حصوله على مؤهل تربوي يدرس من خلاله:
1 - طرق تدريس المواد: أي كيف يوصل هذه المواد للطالب وفن ذلك.
2 - تربية وعلم نفس: وهي معرفة المراحل النفسية والانفعالية التي يمر من
خلالها الطالب ليسهل عليه التعامل معه بدقة ويأخذ بيده.
فلا يعتبر مربياً من لم يحصل على المؤهل التربوي الثاني ولو كان في مادته
في أعلى الدرجات ... ومع أهمية هذا الأمر فقد غاب عن أذهان كثير من الناس
وممن نحسبهم على خير. وقد فطن له وتنبه له كثير من الدول التي قطعت شوطاً
كبيراً في هذا المضمار؛ ففي فرنسا مثلاً يختار خيرة المربين للمرحلة الابتدائية،
وتكون رواتبهم أعلى الرواتب، ويحترمون من الجميع، ولم لا؟ ، لأن الأساس
هنا والبناء هنا، وبناء الإنسان أهم بكثير من بناء البنيان.. والرابح هو المجتمع
في حين سمي (دار المعلمين) في إحدى الدول العربية (مأوى العجزة) وكنا نسمعها
من مدرسينا إذ ينصحوننا بأن لا نعمل في التربية والتعليم أبداً لما لاقوه، حتى قالوا: اشتغل أي عمل ولا تشتغل معلماً، وإذا أراد شخص أن ينتقص من الآخر يقول
له (معلم أولاد) .
وليست هذه هي المصيبة فحسب بل هذه نصف المصيبة والنصف الآخر أن
المعلمين أنفسهم صدقوا هذا وعرفوه، وإذا أردت المزيد يكفي الاطلاع على
مجلاتهم التي تصدر عنهم وعن النقابات لتراها مليئة بالنكات والرسوم الكاريكاتورية
التي تحمل هموم المعلمين ومشاكلهم وخاصة الاجتماعية والمادية، حتى يخيل إليك
أنهم متسولون.
فالمعلم يعرف نفسه ويعرف قدره في المجتمع لذا تراه متخفياً لا يظهر أنه معلم
فلقد أمضينا ثلاث سنوات ونصف مع زميل لنا وأخفى عنا أنه معلم وحين عرفنا
فيما بعد قال: حتى إذا تكلمت يسمع لي.
ومعلم آخر يدعي أنه بائع أمام أناس اجتمع بهم وحين سئل عن السبب قال:
تريدون أن يضحكوا مني؟ ! ..
فبأي نفسية يربي هؤلاء وبأي عطاء يعطون وأي قدوة يكونون؟ ! إن ذلك
الواقع الأليم شائع ليس في الدول التي تسمي فقيرة فحسب؛ بل في الدول الغنية
أيضاً قلما تجد شباباً يتقدمون إلى هذه المهنة إلا من ضاقت عليهم المهن الأخرى
وينتظر أي فرصة ليتفلت منها.
هذه الهموم ينقلها المربون إلى الأبناء والأبناء إلى من بعدهم، وهكذا يتراكم
الجهل والخطأ ويتنكر المجتمع الجاهل للمعلم، والمعلم للمجتمع والطالب.
هل يمكن من خلال هذا الواقع إعادة ترتيب الأوراق وأن تقوم عملية تربوية
متكاملة تجمع بين آخر ما وصل إليه العالم من تجارب في هذا المضمار وبين تعاليم
ديننا الحنيف؟ ..
الجواب: نعم: بإذن الله.. فإذا صيغت الأهداف صياغة جديدة لبناء مجتمع إسلامي قائم على الفضيلة منتج آخذ بالأسباب والسنن الكونية مواكب لركب العلم الحديث غدت المناهج تخدم هذه الأهداف، واختير المدرس الكفؤ الذي يتقي الله ليحمل هذه الأمانة، وتعاونت مكانة المؤسسات المعنية بالتربية من بيت ومدرسة وإعلام ومساجد وجمعيات… تعاونت جميعاً على هدف واحد أظن أن ذلك يحقق التربية التي نصبوا إليها، وهذا لا يتحقق إلا من خلال الأجهزة العليا المسئولة عن السياسة العامة.(27/42)
طب وتغذية
د. عبد السلام معروف
تحت عنوان: (الماشية البريطانية خطر على الصحة) كتبت صحيفة (الديلي
تلغراف) البريطانية مقالاً تحدثت فيه عن أمراض الماشية، نوجزه فيما يلي:
أعلنت لجنة السوق الأوربية المشتركة أن الماشية البريطانية خطر على
الصحة، وفرضت حظراً على استيراد الماشية التي ولدت قبل شهر (يوليو)
1988، وهذه الخطة سوف تكلف المزارعين من الخسائر (7) ملايين جنيه،
وسوف تهدد تجارة الماشية الحية التي تبلغ (47) مليون جنيه في السنة، وقد فشلت
جهود الحكومة البريطانية في تهدئة خوف المستوردين من (مرض الجنون البقري)
المعروف علمياً بالتهاب المخ البقري.
إن إحصائيات وزارة الزراعة تفيد أن المرض قد أصاب (9436) من
المواشي، وهناك خوف من انتشار المرض إلى الإنسان، وإن لجنة الأطباء
البيطريين التابعة للسوق الأوربية المشتركة أعلنت أنه لا جدال في أن لحم البقر
البريطاني غير صالح للاستهلاك، وقد أعلنت الحكومة الألمانية أن بريطانيا هي
الدولة الوحيدة في أوربا التي يوجد بها (مرض الجنون البقري) بسبب الوسائل غير
الصحية التي تتبع في تحضير غذاء الماشية. اهـ
ديلي تلغراف 24/1/1990
تعليق:
الحقيقة أن سبب هذا المرض المنتشر هو طريقة التغذية التي تعتمد على غذاء
حيواني يحتوي على أحشاء الأغنام الميتة، ولذلك منع هذا الغذاء ابتداء من يوليو
1988.
إن هؤلاء الغربيين لم يكتفوا بأن أفسدوا فطرتهم فأرادوا إفساد فطرة الحيوان
أيضاً، فالنباتات هي الغذاء الطبيعي لمثل هذه الحيوانات، ولكن جشعهم المادي
الذي لا حدود له والذي لا تقف أمامه أي نظرة إنسانية جعلهم يستخدمون أي وسيلة
رخيصة لتسمين الحيوانات، وقد حرم الإسلام أكل لحوم الحيوانات المفترسة لحكم
كثيرة، جاء في صحيح سنن الترمذي عن جابر قال: (حرم رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- - يعني يوم خيبر - الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من
السباع، وذي مخلب من الطير) [1] .
فهل يريد هؤلاء تحويل الأبقار إلى آكلة لحوم؟ ! وقد حدث في بريطانية
حادثة تشبه هذه الحادثة، وهي أزمة البيض التي أدت إلى استقالة وزيرة الصحة،
وإتلاف الملايين من البيض بسبب وجود جرثومة (السارمانيللا) وقد اتضح أن
السبب في ذلك هو إطعام الدجاج غذاء ذا مصدر حيواني مستخلص من الدجاج
الميت ولكنهم لا يعتبرون ولا يذكرون.
__________
(1) صحيح سنن الترمذي 2/83 تحقيق الألباني.(27/50)
البيان الأدبي
النهاية
شعر:مروان كجك
مِنْ كُلِّ حَدْبٍ أقبِلوا ... مِنْ كلِّ صَوْبٍ عجِّلوا
فَلَقَدْ دَنا العهدُ الذي ... قالَ النبيُّ سيحصُلُ
فالأرضُ نرقُب جمعَكم ... والغرقدُ المستعجِلُ
والبَحرُ والسهلُ الفَسِ ... يحُ وصَعْقَةٌ لا تُمْهِلُ
لَنْ تُفلتوا مِن قَبضةِ ... الأبطالِ لا لَن تَرحلوا
فَقبورُكم في أرضِنا ... وهُنا الأماني تُقْتَلُ
لم يحمِكم غدرٌ وَلَمْ ... يَشفعْ لكم ما يُبذَلُ
فَلأنتم أخزى مَقا ... ماً في البَرِيِّةِ يُنزَلُ
وَلأنتُم أشقى رها ... ناً يا يهودُ واضحَلُ
ولأنتم نَتّنُ الزما ... نْ وخُبْثُهُ المتَرذَلُ
مَهْما عَلَوْتُمْ يا أفا ... عي فَالسقوطُ مُؤَمَّلُ
سُدْتُم غَداةَ تناثرت ... منّا الرُّؤى والمِشعَلُ
سُدْتُم غَداةَ تفيرت ... أردانُنا والموئِلُ
وعَلوتُمُ ظلماً وعدوا ... ناً فَسَادَ الأرْذَلُ
عُملاؤكم لَن يقطفوا ... ثَمَراً ولن يُستَمهَلوا
خانوا الأَمانةَ مِثَلكم ... لم يأنفُوا أو يَخْجَلوا
باعوا البلادَ وأرسلوا ... أَثمانَها لبُنُوكِكُم فتأمَّلوا
لم يتركوا اليتيمةٍ ... إرثاً ولا مَا يُحملُ
قالوا: الأمانة أن نبي ... عَ ونشتري لا نُسألُ
فَلَقَدْ صَعِدْنَا للكرا ... سي والرؤوسُ نُجَنْدَلُ
ولقد سكرنا والأما ... سي بالأضاحي حُفَّلُ
لا لَن نثوبَ لرُشدْنا ... حتى تُقَطَّعَ أرجُلُ
لا لن نثوبَ لرُشدْنا ... حتى يسبخً الأسفَلُ
إنّا عَلى العهدِ القدي ... م نَصونُهُ وَنُقَبِّلُ
إنَا يهودٌ مثلُهُمْ ... لكنّنا نَتَجَمَّلُ
يا جامع الشملِ الشتي ... ت رمالُنا تَتَملمَلُ
عطشى، نَقَلَّبُ، تلتوي ... حيناً وحيناً نرحلُ
تقتانُ من لبَأ البشا ... رةِ، همُّها المستقَبلُ
فلْيرفعوا راياتِهم ... فوقَ الرُّبا ولْيُقْبلُوا
وليَجْمَعُوا أشتاتَهم ... من كلْ صِنْفٍ يَنْسِلُ
فهُنا عَلى بطحائنا ... طِفْلٌ يشدُّ ويحمِلُ
لم تُلهِهِ قيثارةُ الغو ... غاءِ أو مَنْ يَجْهَلُ
ميثاقُ وفي قلبه ... واللحنُ أصدق أجملُ
باعَ الطفولةَ بالرجو ... لةِ، لم يَرُعْهُ المَقْتَلُ
وهنا على بطحائِنا ... وعْدٌ صَدوقٌ صَينقَلُ
لابدُ آتٍ يومُهُ ... والحقُّ لا يتبدَّلُ
فالله يُمهِلُ مَنْ بغى ... لَكِنَّه لا يُهْمِلُ
هذا يقينٌ صَادقٌ ... إني لأقسمُ، مُقبِلُ
فَلينسجُوا أكفانهم ... وليَحْمِلُوا ما يُحْمَلُ
وليُقْبلوُا بفروعْهم ... وأصولِهم وليَدْخُلوا
فالمسجد الأقصى انتضى ... السيفَ الذي لا يُجْهَلُ
ونوازعُ الإسلامِ في ... كلّ القلوبِ نَغَلْغَلُ
فَلْتُسْرِعوا بمجيئكم ... حانَ القِطافُ فعجّلوا
ولَقد دَنا العهد الذي ... قَال النبي سيحصلُ
القاهرة
29-1-1990(27/52)
ثغرة الأدب بين دعاة الإسلام وخصومه
يحيى محمد رسام
لا شك أن الصحوة الإسلامية وقفت في وجه خصومها، وتصدت لكل
الجبهات، فأعادت للإسلام صفاءه وبهاءه، كما أعادت للمسلمين اعتزازهم بدينهم،
ولكنها ولأسباب كثيرة نسيت أو تجاهلت ثغرة لم تقدرها حق قدرها وظنت أنها
سهلة هينة، مع أنها عسيرة وخطيرة تلك هي ثغرة الأدب من شعر وقصة ورواية.. ونقد ...
خطورة هذه الثغرة:
يمكن إدراك خطورة هذه الثغرة إذا ألقينا نظرة على ما يقوم به الأعداء من
ناحيتها حيث استغلوها أيما استغلال، وتسللوا من خلالها إلى عقول كثير من أبناء
الإسلام وأذواقهم، ويكفي أن تجول ببصرك في وسائل الإعلام التي تزخر بالأسماء
(اللامعة) لمن يسمونهم الأدباء والمبدعين والنقاد، بل يكفي لإدراك هذا أن تتأمل
وبقليل من العمق الواقع الثقافي والإعلامي في البلاد الإسلامية، فما من بلد إسلامي
إلا وتصدر فيه عدد من المجلات والصحف، من الفصلية إلى اليومية التي
تخصص كثيراً من صفحاتها لنشر إنتاج أولئك (المبدعين! !) على أنه الغذاء
للعقول والأفكار، ومن الإشادة بهؤلاء تصنع الطاقات وتشهر مع الأيام ويخدعون
بها الناس.
وبعملية استقرائية بسيطة لعدد من تلك الصحف والمجلات في بلد عربي
صغير المساحة قليل السكان متوسط المستوى الثقافي، ندرك مدى العناية التي
يوليها أولئك لهذه الثغرة.
الأدب وسيلة فاعلة ومؤثرة:
إن الفئات الرافضة للإسلام يتوسلون لنشر أفكارهم المسمومة وإقناع الجماهير
بمعتقداتهم بهذا الجانب من النشاط الفكري الإنساني وبما تعلموه من تجاربهم،
وبتوجيه من أسيادهم اهتدوا إلى هذا الأسلوب، وهو أن يتدثروا برداء الأدب،
وعن طريقه وتحت مظلته يستطيعون وبكل سهولة ودون معارضة أن يطرحوا
أفكارهم وآراءهم، ولا شك أن الأدب وسيلة نافذة وسريعة، وقوية التأثير في
النفوس، وهم لذلك لا يألون جهداً في تجنيد كل طاقاتهم في هذا السبيل،
ويستخدمون الشعر والقصة والمسرحية وإن كان الذين يطلعون على هذا الإنتاج في
هذه المرحلة فئة محددة، ولكن في المرحلة الثانية يأتي دور الناقد كشارح وموضح
أو مروج لهذه النصوص الأدبية.
وقراء هذه المرحلة يزدادون نسبياً نتيجة الإغراء الذي يقوم به الناقد والذي
يخترع - في الغالب - للعمل الأدبي من الخصائص والميزات ما لم يخطر في بال
صاحبه أصلاً. وهناك مرحلة ثالثة حيث يقوم الناقد بالإشارة أو ترشيح النص
الأدبي لأداء دور أخطر وأعمق أثراً، فإن كان النص قصيدة شعرية رشحها لتكون
في منهج الأدب والبلاغة، وإن كان النص مسرحية رشحها للتمثيل على خشبة
المسرح، وإن كان رواية رشحها لتكون فيلماً سينمائياً لأنها في نظره تعالج أمراضاً
اجتماعية وفيها أبعاد سياسية! ! ويفعلون ذلك لعلمهم أن غالبية الجماهير لا زالت
خارجة عن نطاق التأثر في المرحلتين السابقتين.
الإشارة بالرموز:
ثم انظر إلى الإصرار على إشارتهم برموزهم في كل حين، وبمناسبة ودون
مناسبة في الوقت الذي يتجاهلون فيه عن عمد كثيراً من الرواد الأصلاء، ونضرب
مثالاً واحداً لهذه الظاهرة بما يلقاه أمثال طه حسين من احتفاء وتكريم وإشادة به
ويهمل أمثال أحمد حسن الزيات والرافعي والمازني وسيد قطب ومحمود محمد شاكر
وغيرهم [1] .
أخطر ميادين الصراع:
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن موقف الإسلاميين من الأدب، نحب أن نؤكد
على أن هذا الميدان من ميادين الثقافة أحد أخطر ميادين الصراع بين الإسلام
خصومه [2] وأن معركتنا مع أدباء الحداثة وبقية المستغربين هي معركة سياسية
عقائدية، وهم من خلال الأدب والثقافة يوجهون أخطر طعناتهم لأعز ما تملك الأمة: عقيدتها وشريعتها.. فالعصر الأموي عندهم لا يزيد عن كونه عصر الأخطل
وجرير والفرزدق وصراع القيسيين واليمانيين، وأما العصور العباسية فهي عصور
ليالي الرشيد وأبي نواس والعباس بن الأحنف، والجواري والمغنيات، وهم في
نفس الوقت لا ينسون الإشادة بالحركات الباطنية وحركة الزنج والقرامطة وكل
الشخصيات المنحرفة كميمون القداح وعلي بن الفضل ومنصور اليمن.. ويتفاخر
بعضهم بالانتساب إليهم فهذا يكتب (بسيف علي بن الفضل) والآخر يفخر بتوقيع
مقدمات كتبه (حفيد بن الفضل) ، ويخرج أحد الشعراء في بلد صغير وفقير ثمانية
دواوين شعرية متتالية، كلها تحريض للمرأة على الخروج على أوامر الإسلام،
وسخرية بالعلماء الذين يهاجمونه، بل ينتقص من أحكام الأسرة في الإسلام، ثم
يقدم أديب مشهور أحد دواوينه [3] ويدعو الشباب لقراءة دواوينه، فالشاعر في
نظره عالج بشجاعة أخطر القضايا الاجتماعية.
دعاة الإسلام والإهمال المخل:
إذا كان شأن الأدب كما ذكرنا فما هي المساحة التي يحتلها في برامج وخطط
أنصار الفكر الإسلامي من الشباب، إن الجواب على ذلك ميسور ولا يحتاج لكبير
عناء، فما علينا إلا أن نتصفح أدبيات الصحف والمجلات الإسلامية لندرك مدى
الفقر الذي تعانيه في هذا الجانب، فليس هناك مجلة واحدة على طول العالم
الإسلامي وعرضه مخصصة لهذا الجانب، وتكتفي المجلات الإسلامية بتخصيص
صفحات محدودة لباب الأدب، وإذا كان ذلك أمراً مؤلماً للنفس، ويدعو للأسى،
فإن الأكثر إيلاماً هو عدم اهتمام المشرفين على أبواب الأدب بالمشاركات الأدبية
التي يرسلها القراء وعدم تشجيعهم الناشئة. فأنى بعد ذلك للأدباء الإسلاميين أن
يبدعوا وأنى للمواهب الشابة أن تنمو وتتطور؟ وهل ننتظر أن تنشر لهم مجلات
العلمانيين الذين يخصصون المجلات الكبيرة لنشر المقالات الطويلة والبحوث
المعمقة والقصائد الحديثة، وهكذا يظهر جليًّا مدى الخلل الذي أصاب هذا الجانب
ومدى الإغفال الذي لقيه عند المسلمين.
من أين جاء الخلل؟ :
هل جاء الخلل من جهة سوء الفهم لدى البعض لموقف الإسلام من الشعر
أساساً؟ والجواب أن هذا احتمال وارد؛ بل وقوي وله ما يفسره، فرغم ما كتب
عن صلة الأدب بالإسلام إلا أن غيوماً من دعايات وشبهات أعداء الإسلام حول هذه
القضية تركت آثارها في النفوس، ويمكن ملاحظة أعراض ذلك القصور، من
خلال ملاحظة أن كثيراً من النابهين من أصحاب التخصصات العلمية في الأصل،
لم يتجهوا إلى الدراسات الأدبية عندما أرادوا خدمة الإسلام بالدراسات غير العلمية،
وكثيراً من الدعاة الذين كان لهم مساهمات أدبية جيدة في بداية حياتهم انصرفوا عن
الأدب والشعر، وكأن ذلك يزري بهم، فإذا كان ذلك هو حال من يفترض فيهم أنهم
الموجهون لسير الدعوة فكيف غيرهم؟ وهنا لا بد أن نسأل ما مدى صحة وسلامة
هذا الموقف؟ لنرى أولاً ما هو موقف الكتاب والسنة في الشعر والأدب بشكل عام.
موقف القرآن والسنة من الشعر والأدب:
قال تعالى عن الشعراء:
[والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وأَنَّهُمْ يَقُولُونَ
مَا لا يَفْعَلُونَ، إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وانتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]
وإذاً فهذا هو القرآن الكريم، قد هاجم بعنف الشعراء المناوئين للدعوة
الإسلامية وشنع عليهم، وفي الوقت نفسه أشاد بالشعراء المؤمنين، وأشار إلى
أوصافهم وأنهم يعملون الصالحات ويذكرون الله كثيراً وينتصرون بعد ما ظلموا،
وأنهم لا بد أن يقوموا بواجب الجهاد بالكلمة.
وأما موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يحرض ويشجع من يرى
فيهم ملكة الشعر لمواجهة الشعراء المحاربين للدعوة الإسلامية والأحاديث كثيرة في
حض وتشجيع حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم، الذين
كانت ألسنتهم سيوفاً حادة في وجوه الكافرين ويدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم-
لبعضهم بأن يؤيده روح القدس إذا هو هجا الكفار.
وإذا كان ذلك هو موقف القرآن والسنة وموقف الصحابة من الشعر والشعراء، فقد يقال: فماذا عن بقية عناصر الأدب كالقصص والأمثال؟ واتباع الأساليب
البلاغية والبيانية؟ فنقول: أما استخدام القرآن للقصة كأسلوب مؤثر وفعال في
تبليغ الدعوة وغرس المفاهيم وتحليل مواقف أعداء الدعوة الظاهرة وصلتها بدخائلهم
فذلك واضح لا يحتاج لبيان، بل إن أسلوب بعض القصص القرآني فيه كل عناصر
القصة من عناصر التشويق وتصوير الشخوص واستخدام الحوار وحل العقدة في
النهاية وانتصار الخير دائماً مثل قصة (يوسف) عليه السلام. وكذلك استخدام
القرآن للأمثال وهو من ألوان الأدب.
وقد أُمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يعظ الكافرين ويقول لهم في
أنفسهم قولاً بليغاً. والدعاة في كل عصر مأمورون بما أمر به الرسول الكريم عليه
الصلاة والسلام، ولا شك أن تأثير من له صلة بالأدب لأعمق وأبلغ في نفوس
الجماهير ممن لا حظ له في ذلك، بل إننا نرى أن الجفاف في أسلوب بعض الدعاة
من أسباب إعراض بعض الناس عنهم، يقول الأستاذ محمد قطب:
(إن الأدب لا بد أن يكون في خدمة الدعوة، فإن أعداءنا يستخدمونه ضد
الإسلام وأخلاقياته، وإن الآداب من أقوى الوسائل التي إن استخدمناها نكون قد
أدينا واجباً مهما) .
يعتبر الأستاذ أبو الحسن الندوي أن الأدب من أقوى العوامل في (الإفساد) أو
(الإصلاح) ولذلك لا يجوز أن نفصل بين الأدب والأخلاق.
__________
(1) وأخيراً حصل صبي المبشرين لويس عوض على جائزة الدولة التقديرية في مصر.
(2) انظر: محمود شاكر: أباطيل وأسمار.
(3) الشاعر هو الشرفي والأديب هو الدكتور المقالح.(27/56)
قصة قصيرة
العقوق
خولة درويش
يا لفرحة (أم نديم) وهي ترى عروس ابنها الجميلة (سها) تزف له، إنها
فرحة طالما انتظرتها لتجبر قلبها الكسير، ولتأسو جراح نفسها المكلومة، ويا
لسرورها وهنائها! ها هو ابنها تكتمل رجولته إذ يعمر بيت والده (المرحوم خالد)
فتسعد بذلك كما سعدت يوم تخرج من كلية الهندسة وعين في إحدى الشركات
الكبرى، فتركت مهنة الخياطة التي ما كانت لتعمل بها لولا الحاجة، كانت تمضي
سحابة يومها في استقبال زبائنها من الراغبات في الأناقة، وتسهر جل ليلها خلف
ماكينة الخياطة لتؤمن لعيالها الحياة الهانئة الكريمة بعيداً عن الحاجة، تتطلع إلى
أملها الكبير (نديم) ليحمل عنها أعباء أضحت تنوء بحملها، وهي على أبواب
شيخوخة مبكرة جلبها كدح النهار وهمِّ الليالي لإعالة أيتام، وتأمين الحياة الكريمة
لهم بعيداً عن العوز والفاقة.
لكن صاحباتها ممن يعرفن (سها) المعرفة الحقة كان يحدوهن تفاؤل حذر إلى
تحفظ في الفرح والسرور، وما منعهن الإقدام على نصيحتها إلا الخوف من أن
يتهمن بالغيرة ذلك أن جمال (سها) البارع قد ملك على (أم نديم) قلبها بل وعقلها
أيضاً، ولم تدر أن هذا الجمال لم يورث (سها) إلا غطرسة وكبراً بل وتسلطاً في
الرأي يلمسه كل من يعاشرها..
ومنذ أن اقترنت بـ (الأستاذ نديم) أضافت إلى سلطانها وجبروتها عش
الزوجية الجديد. فأضحت رغباتها أوامر عند أفراد الأسرة جميعاً وأصبح زوجها لا
يتوانى عن تنفيذ ما تحب أياً كان ذلك… وإن حدث التواني أو التأجيل.. فلا اعتذار
يقبل، بل ينطلق السخط من فمها فيحول المنزل إلى جحيم لا يطاق.
وكان الجميع يطلب لنفسه السلامة برضاها، وعمل ما يروق لها، فهل
ترضى؟ ! لا زلت أذكر يوم كانت (سها) تشكو حب ابنتها (سلوى) لجدتها وعماتها
وبرها لهم وتعلقها بهم.
وعندما قلت لها سائلة ومقربة بين وجهات النظر:
- وماذا في برها بجدتها وقربها من عماتها؟ ! أوليس ذلك مما يفرح الأم؟
إن من يبر جدته ويحسن إلى عمته قادر أن يكون أكثر إحساناً إلى أمه ... ولكن
هيهات أن تقتنع (سها) أو ترضى بهذه الأقوال..
لقد حجب هواها الجامح جمال الحقيقة، فما وجدت منه إلا النفور، لقد امتقع
وجهها وهي تقول:
- لا ليس كل الناس سواء، هؤلاء كالثعابين التي تقذف بالسم، إنهم أعداء
بثياب الأهل والأقارب.
ويجمح بها الانفعال فتتابع الكلمات تتدفق من فمها:
- يكفي المرارة التي جرعوني إياها عن طريق ابنهم ووساوسهم له، أيريدون
أن يذيقوني الويل من أولادي أيضاً؟ !
وأرادت أن تختصر الحديث فهبت واقفة وهي تتوعد بأمر لا ترعوي عن
إظهاره.
- والله لن أدع لهم مكاناً في بيتي… فإما أنا أو هم، وليعمل ابنهم ما يشاء،
فمنزل أهلي يسعني ...
ويأتي الزوج.. ويحتدم النقاش، ويخونه بيانه ومنطقه، ولم تسعفه أية حجة
حتى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) .
لامس حسها الغليظ فما وجد منها غير التبلد واللامبالاة والإصرار على موقفها
المشين. فما كان من الزوج الذي اعتاد الانصياع لزوجته المتسلطة إلا أن رضخ
لرغبتها، ورأى أن والدته برحابة صدرها، أكثر تقديراً للأمور من زوجته.
فقرر مفاتحة الأم الرءوم، وقال لها بصوت كسير حزين:
- عزيز علي أن أقول لك يا خير أم، أنني ابنك البار بك، والذي يفديك
بالغالي والرخيص ... ويسود صمت ثقيل، فالموقف الجلل يمنع الكلمات المتعثرة
من أن تظهر، فتغوص في أعماق حنجرته.
ونظرات الأم الحائرة ترمقه في دهشة وتساؤل.
ثم يكمل وقد غلبت عليه الأثرة قائلاً:
- إن (سها) قد أتعبتني، وتجد أن لا حق لأحد في زوجها وبيتها، فماذا أعمل؟! وبين دهشة الأم وحسرتها، سالت دمعة أسيفة من عينيها، وفي بساطة تعسة
قالت بتسليم حزين:
- اعمل ما تريد، أما أنا وأخواتك فنفوض أمرنا إلى الله..
ثم خرجت وبناتها من البيت ... وفي نفسها تعتلج المشاعر الأليمة، والضيق
المكتوم و (سها) تشيعها بابتسامة تحكي قسوتها وفظاعتها، وتخلو من كل معاني
الإنسانية.
.. وعاشت الأم حياة بائسة قد لا تصل إلى حد الكفاف ... وهي التي لا تفتأ
تسمع عن حفلات ابنها وولائمه، ونفسها تتوق إلى لقمة طعام من كده وسعيه، فلا
تلقى إلا صدقات بعض المحسنين الذي يرجون ثواب الله في إعطاء الصدقة
للمتعففين من ذوي الحاجات، أمثالها!
فما أشق ذلك على النفس التي ما اعتادت الاستخذاء، لكنه السن والحاجة! !
وأما (سها) فهل وجدت السعادة التي كانت تنشدها؟ !
أم هل أصبحت التطلعات المبتذلة هي مقياس السعادة؟ !
ها هو البيت قد فرغ لها، ففرحت وفرح أهلها، إذ خلا المنزل فما ينغصهم
أحد، كما سول لهم عقلهم القاصر، وما دروا أن البر وصلة الرحم توسع الرزق
وتسعد العيش! !
ويتحامل (نديم) على نفسه ويرحب بهم فيزيد ذلك من غبطتهم.. ثم لا يلبث
أن ينقلب الترحيب إلى تجهم وكدر، ويبلغ الأمر حدة عندما أعلن موقفه بوضوح،
وقد شعر أنه الذليل في بيته، الجريح في رجولته، وأصر على عودة أهله (والدته
وأخواته) الذين لا معيل لهم غيره، ليشاركوه النعم التي أنعم الله بها عليه.
ولكن أنى توافق (سها) على ذلك؟ ! وهي التي ترفض حتى الكلمة الطيبة من
ابنتها لهم… إن الغيرة قد أكلت قلبها. والهواجس الخبيثة قد أفسدت عيشها، فما
تطيق أن ترى زوجها يسر لهم بحديث، أو يبادلهم الابتسام أو حتى الهموم، وتصر
على الرفض… وتضحي بأهلها عندما أعلنتها بعنجهية بعد جدل طويل:
-إن كان يروق لك بعدي عن أهلي فمن الآن فصاعداً لن أجعل أحد منهم يأتي
لبيتك، فلا أهلي ولا أهلك، هل أعجبك ذلك؟ !
فيرد وقد تخاذل أمامها كعادته:
- نعم أعجبني.
ويوصد بيت العقوق أبوابه أمام أهل كل من الزوجين، ويكتفيان بأنفسهما
وقرنائهما ...
وتمر الأيام والسنون ... ويحين موعد زفاف ابنتهم (سلوى) ويجد الأستاذ
(نديم) أن هذه فرصته كي يشعر بحقه الطبيعي في القوامة على المنزل ورئاسة
الأسرة. وأن يظهر أمام أصهاره بالمظهر اللائق كرجل يحترم نفسه.
ودون استشارة حرمه (سها) دعا أهله لحضور الفرح كما دعا أهل زوجته
أيضاً.. وهكذا.. أصبح عرس (سلوى) الفرح الذي وارى جراح أقاربها ولمَّ شعث
أهلها..
وسادت الحياة طبيعية، لولا نذر الانتكاس التي كانت تظهر بين الحين
والآخر فيعالجها نديم بصبره الدءوب وإصراره العنيد على عدم التفريط بوشائج
القربى وصلة الأرحام.
وأنا اليوم وبعد سنوات قليلة من هذا الزواج، أرى (سها) - ولأول مرة - في
انهيار مريع تبكي بمرارة وحرقة ما أسبغته على ابنتها (سلوى) من رفاه وما تلقى
منها من الجحود.
فيبلغ بها الانهيار مداه وقد أسقط في يدها فتغطي وجهها بكلتا يديها وتنشج
كالطفلة الصغيرة وهي تكوم جسدها الكليل على إحدى الأرائك، تنتحب من أعماق
فؤادها المكلوم، وكلمات لا تكاد تبين تخرج من بين شهقاتها:
- آه من سلوى! قد صار لزوجها بيت ولا يأذن لي بدخوله! !
يا لها من عاقة، عاقة لا خير فيها، جحودة منكرة للجميل! ويزداد تشنجها،
عندما يمر أمام مخيلتها، شريط جحودها هي لفضل أهلها وحقوق زوجها وأهله ...
وكأنها تقول: ألا ما أشبه الليلة بالبارحة، ومن جرع غيره كأس العلقم احتساه بما
قدمت يداه.(27/61)
من عيون الشعر
حنين إلى الوطن
قال أبو العلاء وهو في بغداد يحن إلى موطنه في الشام:
1- أإخواننا بين الفرات وجِلَّق ... يد الله لا خبَّرتُكم بمحال
2- أنبئكم أني على العهد سالم ... ووجهي لما يبتذل بسؤال
3- وأني تيمَّمت العراق لغير ما ... تيممه غيلانُ عند بلال
4- فأصبحت محسوداً بفضلي وحدَهُ ... على بعد أنصاري وقلة مالي
5- ندمت على أرض العواصم بعدما ... غدوت بها في السوم غير مُغَال
6- ومن دونها يومٌ من الشمس عاطلٌ ... وليل بأطراف الأسنة حال
7- وشعث مداريها الصوارم والقنا ... وليس لها إلا الكماة فوالِ
8- أروح فلا أخشى المنايا وأتقي ... تدنُّس عرض أو ذميم فعالِ
9- إذا ما حبالٌ من خليلٍ تصرمت ... علقت بخلٍ غيره بحبال
10- ولو أنني في هالةِ البدر قاعدٌ ... لما هاب يومي رفعتي وجلالي
الشرح:
1- يد الله: قسم، أي أحلف بيد الله لا خبرتكم إلا بيقين.
2- وجهي لما يبتذل بسؤال: لم أهن وجهي بسؤال أحد من ماله.
3- قصدت العراق استزادة للعلم لا لمدح أحد ونيل مكافأة كما كان يفعل
غيلان بن عقبة (ذو الرمة) في قصده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري،
وكان والياً على البصرة، لمدحه ونيل نواله.
4- هذا بيت في الفخر، أي أصبح الناس يحسدونني على فضلي مع قلة مالي
وبعدي عن أنصاري.
5- ندمت على أرض العواصم: ندمت على مفارقة أرض العواصم وهي
المنطقة التي فيها بلدته (معرة النعمان) .
6- يوم عاطل من الشمس: لا تظهر فيه الشمس لكثرة الغبار. وليل حال
بأطراف الأسنة: مزدان ببريق أطراف الرماح وهو هنا يشير إلى أن البلاد بين
العراق والشام في تلك الفترة كانت غير مستقرة، تشتعل فيها الحروب والفتن.
7- الشعث: جمع أشعث وهو الذي لا يتعهد شعره بالغسل والترجيل.
والمداري: الأمشاط، لما وصفهم بأنهم شعث جعل السيوف والرماح التي تعمل في
رءوسهم في المعارك كالمداري.
8- لا يخاف المنايا بل يخشى الفعال المذموم وما يدنس العرض، وهذا كقول
أبي الطيب:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
9- تصرمت: تقطعت.
10- الهالة: الدائرة التي ترى حول البدر إذا حال دونه غيم، أي لو كنت في
هذا المكان المرتفع لجاءتني منيتي ولما هابتني من أجل جلالي ورفعتي.(27/66)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
زلزلة العقيدة أولاً ثم تنهدم الأسوار
أساليب حملات التنصير في أندونيسيا
إمباكت انترناشنال
(نجمبسان) قرية نائية مهملة تقع على سفح جبل ميرابي في مقاطعة سليمان
في إقليم بوغي جاكرتا، وتمثل نموذجاً للقرية الأندنوسية من حيث ارتفاع عدد
السكان وصلاحيتها كمرتع للبعثات التبشيرية.
لقد كانت مفاجأة سارة لأهل القرية عندما زارهم في أحد الأيام رجل وامرأة
من العرق الأبيض برفقة أناس من أهالي البلد. جاءوا محملين بالهدايا؛ أرز،
سكر، ملابس مستعملة للصغار والكبار، بل حتى الأدوية الطبية التي كان لها نتائج
سحرية. ما أشد جهل هؤلاء القرويين المساكين! ! حيث لا يعرفون كيف يتاجر
أصحاب الأدوية هؤلاء بأدويتهم، وكيف أصبحت الدول النامية أمكنة تصريف لما
لا تبيح قوانين الدول المتقدمة توزيعه من الأدوية.
ويتخذ الرجال مواضعهم حول هذه الخيرات بينما النساء الخجولات ينظرن
إلى الفساتين المطرزة وهي تخرج من الصناديق، ويتعجبن من أخوات لهن يلبسن
هذه الملابس الخفيفة التي لا تكاد تستر الأجساد! ويقبل من بعيد طفل عليه مظاهر
الشغب فيرتدي لباساً واسعاً، ويختال فيه فينفجر الحاضرون بالضحك على هذا
المنظر الطريف، فيتعثر الطفل بسيره ويسقط على الأرض فتهرع الأم نحوه
وتصفعه على خده، فيرتبك ويبكي، ويعتكر الجو بعض الشيء.
يدخل شيخ القبيلة، وقد كان يراقب الموقف من بعيد، ثم يطلب من الجميع
الالتزام بالنظام، ويسأل: ماذا يحدث هنا؟ فيقوم أحد البيض فيرحب به باللغة
المحلية، ويقدم له رسالة توصية من المشرف العام، وضعت في ظرف كبير.
يأخذ شيخ القبيلة الظرف ويتحسس لفائف الورق بداخله ويضعه في جيبه، فهو أمي!
لقد أنجز نصف المهمة! وقرر هؤلاء الزوار الكرماء الرحماء البقاء في
القرية البائسة لإنقاذها من مصيرها الأسود! !
أيتها السيدات! هذا مال افتتحن به دكاكين على جوانب الطرق! لستن
ملزمات بشيء! أليس بيع الأطعمة والدخان والعلكة يدعم دخل العائلة ويرفع من
مستوى الدخل القومي؟ ! وكيف تنهض أمة إذا كان نصف مواطنيها عاطلاً عن
العمل، مهدراً وقته وقوته في عمل البيت والعناية بالأطفال؟ !
وأنتم أيها الفلاحين هذه بذور من نوع جيد، وهذه أدوات زراعية حديثة،
وهذه أسمدة ومبيدات حشرية.. مجاناً.. بدون مقابل! فضاعفوا منتجاتكم الزراعية، وطوروا أساليبكم الزراعية! يا أهل القرية: إن أرضكم لا تفي بحاجاتكم
الضرورية. ولذلك فهذه أبقار وأغنام استثمروها، فهي منيحة لكم، ليس عليكم إلا
أن تعيدوا لنا ما تلده، أما ما تبقى من فوائدها فهو لكم، فاحملوا عليها، واحلبوا.
وحتى إذا أرجعتم إلينا ما تلده هذه الماشية فهي منكم وإليكم، ستكون وقفاً مشتركاً
على أهل القرية، وربما أعدناها إليكم ثانية، كل ذلك مجاناً وبدون مقابل!
لكن، حاجة من عاش لا تنقضي! وكلما اعتمد أحد على غيره بحاجاته
الضرورية فسوف يصبح رهينة في يديه خوفاً من انقطاع هذه الحاجات، ولذلك فهو
مستعد لكل شيء يطلبه ولي النعمة من أجل الإبقاء على الامتيازات التي جاءت عن
طريقه!
خدمات كثيرة لا حصر لها تقدم لأهل هذه القرى المسكينة؛ دورات مجانية
لتعليم طرق الزراعة، النجارة، الخياطة، تصليح السيارات وأجهزة الراديو، اللغة
الإنكليزية، حتى الرقص! والذين يشتركون في هذه الدورات ليسوا كلهم مسلمين،
فأصول اللعبة تقتضي إبعاد الشبهات والتغطية! لكن سواء شارك مسلمون أو غير
مسلمين (من بوذيين ووثنيين) فعلى الجميع حضور دورة في النصرانية.
الأيام تمر، والخدمات تزداد، وتتسع دائرتها، فإذا ما احتاج أحد من أهل
القرية أن يرمم بيته فما عليه إلا أن يقصد شيخ القرية الذي تحول إلى مسئول مهم
في مجال تقديم المساعدات!
أما الشباب الذين ينهون الدراسة المتوسطة أو الثانوية ولا يستطيعون مواصلة
دراستهم العليا، وهم بمسيس الحاجة إلى مهنة أو عمل، يجد الواحد منهم الفرصة
هنا مفتوحة أمامه للعمل كبائع في محل يملكه نصراني، أو كمعلم في مدارس
البعثات التبشيرية. وهؤلاء جماعة منهم قد قبلوا مراسيم (التعميد) وآخرون
يتهيئون للحاق بهم، ومن يرفض ذلك تسحب منه وظيفته.
إن الناس في المجتمعات الفقيرة غالباً ما يكونون بحاجة ملحة للمال، وقد
حلت هذه المشكلة هنا بإقامة جمعيات قروض ائتمانية. وتمنح هذه الجمعيات
قروضاً بشروط سهلة، وليس عليك أن تسأل من أين تأتي هذه الأموال؟ .
والشخص المعمد مؤهل لقروض إضافية، بل يعفى فيما بعد من التسديد! ولا تجد
من هؤلاء الزوار سوى الضحك والمزاح ولقمة العيش، ونادراً ما يتحدثون في
أمور تخص الدين أو الفكر. ومع ذلك فإن الأهالي تواقون لمعرفة حقيقة هؤلاء
الناس اللطفاء، وماذا يدفعهم لمساعدتهم؟ . فيجيب الزوار: إننا خدم عيسى اليسوع، وهذه الهدايا التي أتينا بها هي منه عليه السلام، وهنا يجيب أهل القرية عيسى ...
نعم نعم إننا نعرف عيسى ونحترمه ونعزه. فيسألهم الزوار، ألا تعتقدون أنكم في
تحسن أحوالكم مدينون للهدايا التي أرسلها عيسى لكم؟ ! لا يستطيع أهل القرية نفي
نصف الحقيقة هذه! ولو انبرى من يناقش الفكرة الخاطئة التي انطوى عليها هذا
الجواب فإنه يسكت من أكثر من جهة بأن يقال له: إن كل الأديان جيدة، وكل
المؤمنين سيدخلون الجنة، وقد يستثار المسلم بين الفينة والأخرى ولكنه يعود فيعتقد
أن هذا الأبيض منصف ألم يسو بين الدينين؟ !
وبالجملة فإن القاعدة الأساسية في هذا المجال هي: البحث عن الضعيف
والانتهازي، وعدم الدخول في جدل مع من يفهم دينه. وثمة أسلوب آخر مع رجل
الشارع كأن يقال له إن الإسلام دين صعب الاتباع! حيث عليك أن تستيقظ مبكراً
في الصباح لتأدية الصلاة، ثم تكرر ذلك أربع مرات أخرى في اليوم منذ سن الرشد
وحتى الموت. أما في النصرانية فلا شيء ينغص عليك نومك، ولا تعاني من ذلك
النظام الصارم الذي عليك الالتزام به خمس مرات في اليوم وعلى مدى الحياة.
وكل ما هو مطلوب منك هو المجيء إلى الكنيسة مرة في الأسبوع وذلك في
يوم الأحد، وبذلك لا حاجة إلى ترك عملك، والإسراع إلى صلاة الجمعة، فيوم
الأحد عطلة في جميع أنحاء العالم، (وهذا إثبات آخر على أن النصرانية دين حق)
كما أن المهمات التي يطلبها الرب في الإسلام صعبة للغاية، في حين أن ربنا رب
حنون.
وهكذا فإن البعثات التبشيرية لا تعتمد في عملها على الخبز وحده فالشيء الذي
لا يتحقق عن طريق الخبز يتحقق عن طريق المناهج الثقافية، والعكس صحيح.
وهناك شبكة من مدارس البعثات التبشيرية أنشئت منذ زمن بعيد، مهمتها
إعداد جميع القيادات المستقبلية للمجتمع الإسلامي، فالمدرسة التي يقوم على إدارتها
البيض في منطقة (كامبونغ) تتمتع بمنزلة رفيعة قد تفتقدها أرقى المدارس في
أوربا. وفي مدرسة (كامبونغ) على كل طالب أخذ دروس في النصرانية واجتياز
اختبارات فيها. وقد تأثر بعض الطلاب بهذه المناهج في حين تم تعميد أعداد منهم،
أما الأغلبية فقد باتت في منأى عن دينها الأصلي، وينتقى الشباب الذين تسهل
قولبتهم - ذكوراً وإناثاً على حد سواء - وذلك منذ المراحل الأولى، وإعدادهم لتسلم
مناصب قيادية مستقبلية، وتتبع المناهج التعليمية عادة بأفلام سينمائية وإن عرض
فيلم سينمائي في قرية - بغض النظر عن محتواه وأهدافه - يعتبر حدثاً عظيماً
مثيراً للفضول، فيأتي أهل القرية زرافات ووحداناً ليشهدوا الفيلم ويتشبعوا برسالته
اللطيفة! وقد تكون هناك بعض اللقطات غير اللطيفة التي قد تستثير الناس بعض
الشيء، وإذا ما حدث ذلك وأراد بعضهم أن يحتج ويمشي باحتجاجه إلى آخر
الشوط فإن شيخ القرية (الذي عرفت عقدة النقص عنده مسبقاً وهي الشره إلى المال)
مكلف بقطع الطريق على مثل هذه الحالة!
ويعقب عرض الفيلم احتفالات دينية، ومن يحتج أو يطلب من الآخرين عدم
المشاركة في هذه الاحتفالات التبشيرية فقد يتهم بالتعصب! ومن ثم يتعرض
لمضايقات من قبل الجهات الرسمية! وإحدى نتائج عروض الأفلام والاحتفالات هذه
هي ظهور الأندية، ويشجع الشباب ذكوراً وإناثاً على الاختلاط وهذه هي بعض
الحوادث تقع، والأواصر الأخلاقية والثقافية تضعف، وكثيراً ما يبلغ عن حوادث
زواج بين مسلمات ونصارى عن طريق علاقات الصداقة الناشئة في الأندية، إلا
أن أعظم إنجاز حققته هذه الحملة هو انتزاع الروح الإسلامية، وأصبح بإمكان
الغزاة التحرك في كل الاتجاهات بعد أن انهدمت الأسوار أمامهم! وأصبح إنشاء
الكنائس يفرض فرضاً على قرى منتخبة، وغالباً دون حاجة لإذن مسبق من
وزارتي الداخلية والشئون الدينية. أما في الأماكن التي يخشى وقوع معارضة
خطيرة فيها من قبل السكان فيلجأ إلى أبنية عادية أولاً ثم يعدل الغرض من
استعمالها تدريجياً وبهدوء من سكن إلى كنيسة، وأخيراً ترتفع لافتة مشيرة إلى
وجود كنيسة في المنطقة!
وهناك طريق أخرى أشد مكراً لزرع الكنائس في المناطق الإسلامية الخالصة
وذلك باستغلال خطط الحكومة الأندونيسية في نقل السكان من المناطق المزدحمة
إلى مناطق أقل ازدحاماً، فإذا كان هناك مناطق لا تستقبل إلا مسلمين بين سكانها؛
فلا مشكلة في ذلك عند النصارى، حيث يطلب منهم التسجيل كمسلمين بغرض
التسرب إلى تلك المناطق، وما إن يستقروا هناك حتى يكشفوا عن وجههم الحقيقي، ويشرعوا في بناء الكنائس.
ولا تقتصر الخدمات التي تقدمها هذه البعثات على معالجة المرضى ورعايتهم
بل تمتد إلى ما وراء ذلك بكثير. فإذا أدخل مسلم في إحدى مستشفيات البعثات؛ أو
أنه تلقى علاجاً من قبلهم فإنه يشجع ويحث على أن يكون دخوله في النصرانية هو
الطريقة المثلى للرد على هذا الجميل الذي يتلقاه منهم، وإذا كان من المتعذر إنقاذ
حياة المريض فإن البعثة تتعهد بدفع الديون المستحقة على ذويه ورعايتهم بعد وفاته، وأكثر من ذلك فإنهم قد يدفنونه على نفقتهم بشرط أن يكون الدفن حسب الطقوس
المسيحية، وهذا يحقق مقولة: (نصراني ميت خير من مسلم حي) !
وعلى الرغم من كل أساليب الترغيب المتاحة من قبل هؤلاء المبشرين؛ من
طعام وشراب، وكلمات مؤثرة وغير ذلك إلا أن ثقتهم ضعيفة بأساليبهم وإنجازاتهم، فعلى الرغم من أن الإسلام شيء سيئ (في نظرهم) إلا أنه لا يبدو أن استخدام
شعاراته ومصطلحاته أمر سيئ! حيث نرى النصارى يرددون كلمة: عيسى
اليسوع.. عيسى اليسوع.. بالطريقة نفسها التي يردد فيها المسلمون كلمة التوحيد:
لا إله إلا الله. بل إن النصارى الكاثوليك يقومون في بعض المناطق بتنظيم صلاة
جمعة وذلك لمنافسة صلاة الجمعة عند المسلمين. وفي كثير من الأماكن يرتدي
المبشرون الطاقية الأندونيسية التي يتميز بها المسلمون، ويحيون الناس بـ (السلام
عليكم) ويتجولون هنا وهناك متظاهرين بأنهم مسلمين.
وعندما يثير قادة المسلمين الأندونيسيين حججاً دينية في شكواهم للبابا حول
سلوك وتصرفات المبشرين المتبعة بين المسلمين فإنهم يقحمون أنفسهم في جدل
ديني لا ينتهي ولا ينحسم، والأجدر بهم أن يلجئوا إلى القوانين والأعراف التجارية
المعتمدة في السوق المشتركة، التي تنص على أن بيع سلعة مزيفة تحت علامة
مسروقة أو منتحلة يعتبر جريمة.
--------------------------------------------
العام ... ... مسلمون بروتستانت كاثوليك
-------------------------------------------- ... 1945 ... ... 95.0 ... - ... ... ... -
1971 87.5 ... 5.1 ... ... 2.3
1980 87.1 ... 5.8 ... ... 0.3
1985 ... 86.9 ... 6.5 ... ... 3.1
-------------------------------------------
تناقص نسبة المسلمين في أندونيسيا (8%)
عن مجلة إمباكت انترناشنال 21/12/1989.(27/69)
أحداث أوربا الشرقية والصحوة الإسلامية
د. غازي الخطيب
إن أحداث أوربا الشرقية المتسارعة والتغييرات في المعسكر الشيوعي بشكل
عام، لهي خطوة إلى الأمام على طريق الصحوة الإسلامية وتحدٍ جديد في أفق
مستقبلها.
فهي خطوة إلى الأمام للأسباب التالية:
1 - ازدادت الحركة الإسلامية قرباً من جماهيرها. فللصحوة الإسلامية
طرفان:
الحركة الإسلامية رائدة صحوتها، والجماهير محققة أهدافها. فالحركة
الإسلامية في معزل عن الجماهير لا تستطيع أن تحقق آمالها. وكلما تعمق التفاعل
فيما بين طرفي الصحوة الإسلامية، ازدادت فعاليتها.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت الساحة الإسلامية مسرح تجارب
للتيارات غير الإسلامية، ولاقت الشيوعية ومشتقاتها بشكل خاص، رواجاً بين
عامة الناس، ممن جهل حقيقتها، بدعوى مناهضة الرأسمالية.
أما الحركة الإسلامية وغيرها من الأفراد والجماعات العالمة بحقائق الأمور،
فالشيوعية كانت مبدأ فاسداً منذ البداية ومفلساً منذ إنشاء دولتها في روسيا. فمن
المعلوم أن الشيوعية كان من المفروض أن تطبق في أعقاب فشل الرأسمالية،
وظروف روسيا آنئذ وحالياً هي أبعد ما تكون عن ذلك، وقد نجحت الحركة
الإسلامية في تغيير مفاهيم أفراد وقطاعات من الشعب عبر مناقشات السجون
وصفحات المجلات والكتب. أما عموم الناس، فقد استمرت خاضعة للتأثير الخادع
للدعايات الوهاجة والمغرضة للشيوعية ومشتقاتها.
وما يحصل الآن على الساحة الأوربية، أن تلك الشعوب استجابت لدواعي
فطرتها، ونبذت الشيوعية وراء ظهورها، وأعلنت إفلاس المبدأ من داخل ذاتها،
وانطبق عليها تشخيص عمرو بن العاص قبل أربعة عشر قرناً من الزمان في
تعقيب له على حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «تقوم الساعة والروم
أكثر الناس» الوارد في صحيح مسلم، قال: «لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً
أربع: إنهم لأحلمهم عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك» وعلى الساحة الإسلامية تساوي العالم بحقيقة الشيوعية والجاهل بها في الحكم
عليها، واتحدت المواقف منها بين الحركة الإسلامية والجماهير..
2 - وفرت الحركة الإسلامية جهوداً كانت تبذل في محاربة الاتجاهات
الشيوعية وكشف حقيقة ولاءاتها. فمن نتائج أحداث أوربا الشرقية أن عدم المبرر
لتوجيه الجهود لتوضيح حقيقة الشيوعية. فإذا كان المورد للسلعة قد أوقف إنتاجها،
فالأولى للمستهلك أن يوقف استيرادها، وإصرار المستهلك على ترويج الشيوعية
في ظل هذه الظروف، لهو استخفاف بالجماهير واستهزاء بها، وهذا الترويج لن
يدوم طويلاً لأنه مخالف لمنطق الأحداث.
كذلك انعدمت واجهة استخدمت لمحاربة الإسلام من خلفها، فالشيوعية
ومشتقاتها قد استخدمت كقناع من قبل الرأسمالية لتحجيم استجابة الجماهير للصحوة
الإسلامية. وكان على الحركة الإسلامية أن تكرس الجهود لا لنقد الشيوعية كمبدأ
فقط، وإنما لكشف حقيقة ولاء كثير من الاتجاهات أيضاً، أما الآن فقد سقط القناع
وأفلس المبدأ، ولم يبق إلا العداء السافر للصحوة الإسلامية.
3 - نقص عدد أعداء الإسلام من حملة المبادئ الهدامة والمناهضة له، فإن
سقوط الشيوعية لم يواكبه ظهور مبدأ جديد، بل تكريس لمبدأ حالي هو الرأسمالية،
فقد انتهت الحرب الباردة والتقى الشرق الشيوعي مع الغرب الرأسمالي، وليس لهما
من ماض مشترك يحنون إليه؛ بل ماضٍ يهربون منه، وكلما جاءت أمة لعنت
سابقتها، ومستقبلها يبنى على أنقاض ماضيها.
أما الحركة الإسلامية فلها في ماضيها ما يضيء لها المستقبل، وفي عقيدتها
ما يرشدها إلى الطريق المستقيم. فهي بذلك لا تنتقل من حال إلى حال ومن نقيض
إلى نقيض، فالثبات في العقائد والتطور في المسالك لا يتناقضان، بل يكمل بعضها
بعضاً، في توازن دقيق، يضمن للأمة الإسلامية ديمومة سلامة العقيدة والفكرة.
ففشل الشيوعية إثبات منطقي لصلاحية الإسلام، دين الله للإنسان. قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ] [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحاً
فَمُلاقِيهِ] .
4 - نقص عدد المبادئ التي لا بد أن تخضع للتجارب لإثبات فشلها أمام
الشعوب، أما الإسلام فباق خالد ينتشر أفقياً وعمودياً.
فالأول هو انتشاره في قطاعات الشعب كلها، والثاني هو تعميق الشرع
والفكر الإسلامي في عناصر الحركة الإسلامية. ولتحقيق الأهداف المرجوة وإحداث
التغيير المطلوب، لا بد من محصلة للبعدين متوازنة متوسطة، وإلا تعثر الركب
وانحرف المسار وطال الطريق، وقد أفلحت الحركة الإسلامية في تحقيق البعد
الثاني أكثر من الأول، إذ الإقناع يحصل من طريقين: طريق قصير، هو طريق
النظر والاستدلال العقلي المبني على بصيرة إيمانية، وآخر طويل، هو طريق
التجربة المبني على المعاناة والممارسة الفعلية. وبشكل عام، يصلح الأول للأفراد
والجماعات، ويصلح الثاني للشعوب والأمم.
وقد حث القرآن على النظر والتفكر في آيات كثيرة [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلُ] [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ] . أما التجربة والمعاناة ففيها آيات
كثيرة أيضاً. [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ]
[ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ] [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ]
فعلى الحركة الإسلامية أن تصبر على مشاق الطريق وتبني نفسها بناء سليماً
على العقيدة الصافية، وتتحلى بالصبر الجميل على الشعوب، بحيث تكون مؤهلة
لقيادة الجماهير حين تصحو من غفلتها وتردها رداً جميلاً لعقيدتها وفطرتها، وتحقق
لها السعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
وعلى الحركة الإسلامية، في أثناء تجربة الشعوب والأمم للمبدأ المتبقي،
مبدأ الرأسمالية، واجب مهم. هذا الواجب يتضمن الوعي المبني على العلم
والمعرفة بحقيقة الرأسمالية، مع إمكانية تمييز الغث من السمين، والصالح من
الطالح، والسلبي من الإيجابي، وحيث يتم ذلك كله من خلال منظور إسلامي مبني
على أصول شرعية وحركية، مستلهمة من القرآن وسنة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ففي الحديث: «خياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام، إذا فقهوا»
وفي قول لعمر: (ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية) . وفي سيرة ابن تيمية مثال يحتذى وأمل يرتجى لدعاة القرن
العشرين.
إذ فقه ابن تيمية عقائد الكفار والضالين والمنحرفين، ورد كيدهم في نحرهم. ونراه يرد على مقولاتهم بفقه فاق علم أنفسهم بعقائدهم، وبأسلوب شابه شدة وغلظة عند مخاطبة غلاتهم ورؤسائهم، وتخلله رفق وحنو عند مخاطبة عامتهم وجهالهم.
وتساوى عنده في فقه عقائد الكفار من روم وفرس، وعقائد المدسوسين ممن انتسبوا
إلى ملة أهل القبلة من الفرق الضالة. ولعل في سيرة ابن تيمية وغيره من الدعاة
السابقين له واللاحقين به، ما يدعو إلى القول: خيار دعاتنا اليوم، من فقه الإسلام
وعلم عقائد أهل الضلال.
ورواج الشيوعية في بلاد الإسلام لم يكن مثله في أوربا الشرقية، وفي ذلك
مصداق لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وقف على قبور شهداء أحد
بعد سبع سنين: «لست أخاف عليكم بعدي أن تشركوا بالله شيئاً، ولكن أخاف
عليكم الدنيا أن تنافسوها» ويستوقفنا الشطر الثاني من الحديث، لربطه بأحداث
الساعة، فالأحداث وإن أدت إلى سير الصحوة الإسلامية خطوة إلى الأمام، فهي قد
أثارت تحدياً أمامها، وذلك بفعل الأسباب التالية:
1 -انتقال الصراع من مرحلة العداء في الخفاء إلى مرحلة العداء في العلن.
فبعد سقوط أقنعة الشيوعية والباطنية على المستوى العالمي وفشلها في وقف مد
الصحوة الإسلامية التي ظهرت لها آثار إيجابية جهادية تبلورت في أحداث
أفغانستان والأرض المحتلة، شعرت ملة الكفر أن التهديد المتجدد من أرض الإسلام
يستدعي اتحاد الشرق والغرب وإنهاء الحرب الباردة، ناهيك عن تأثير التيار
الوحدوي بين دول أوربا الغربية المتمثل في السوق الأوربية المشتركة على تغيير
طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب. فهم جميعاً إذا اكتوت مصالحهم بالإسلام،
وشتى إذا تضاربت مصالحهم فيما بينهم. فهي ثلاثة مراكز قوى بدأت بالتبلور على
المحيط العالمي، وهي وإن كانت جغرافياً وسياسياً منفصلة، فقد اتفقت جميعها على
أمرين: تحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعوبها؛ ومعاداة الإسلام.
وعلى الحركة الإسلامية أن تدرك وتعي أبعاد التحدي الجديد. فصراع العلن
هو غير صراع الخفاء. والمجابهة القتالية هي غير المجابهة الفكرية. وصبر على
هذا هو دون صبر على ذلك، والعداء الجديد يستدعي أمرين: تكاتف وتعاون
الاتجاهات المختلفة في الحركة الإسلامية وتقديم البديل الواعي والقادر على قيادة
الأمة الإسلامية إلى بر الأمان.
2 - تحولت طبيعة الصراع العالمي من صراع بين العقائد الضالة إلى صراع
بين دنيا وآخرة. فصراع الشرق والغرب كان المحور الذي تدور عليه العلاقات
بين دول العالم، وتوزعت ولاءاتها فيما بين طرفي هذا المحصور. شرق إلحادي
وغرب مادي، أما الآن فقد فشلت الشيوعية وطالب رئيسها بتطبيق الشيوعية بوجه
إنساني. وهل يتم ذلك دون دين؟ وهل من دين يضمن استمرارها وبقاءها غير
المسيحية؟ وهكذا، وقبل لقاء رئيسي العملاقين تم لقاء رئيس الشرق ورمز الغرب
الكنسي.
فهي دنيا يسعى إليها هؤلاء من شرق وغرب، وآخرة تعيش معهم، عند
البعض منهم، سويعات في كنائس يوم الأحد، هما عالمان منفصلان دين ودنيا،
ولكن مع تبعية الدين للدنيا، وارتباط مصلحة الثانية بالأولى، فها هو الشمال قد
اتحد بهدف تحقيق الرفاهية الدنيوية لشعوبه في ظل الدين الكنسي. عبد الدرهم
في كل أحواله وعبد الكنيسة في بعض حالاته، فالإنسان هناك يعيش في ظل
تصور فاسد وسلوك دون ضابط، وفي ظل خواء روحي ومادية قاتلة، داء معروف
ودواء مجهول، بريق يخدع الأنظار ودوامة تحجب القلوب.
فالغزو الحديث للعالم الإسلامي يستهدف إفساد السلوك عوضاً عن إفساد
التصور، إذ فشلت شيوعية ملحدة وباطنية منحرفة في إفساد التصور العقدي
الإسلامي عند الشعوب المسلمة، وتستهدف الجهود الآن مخاطبة البطون بدلاً من
مخاطبة العقول، فهي دنيا يسعى لتطويعها هؤلاء، وإلهاء شعوبها بها، عن الآخرة، ويتم ذلك التطويع في ظل أساليب حديثة، تتخطى الحدود السياسية وتتجاوز
المسافات الجغرافية المتباعدة، مجتمع عالمي مفتوح، فرده إنسان عالمي،
تكنولوجيا المعلومات والتصنيع تجعل نقل الصوت والصورة والخير آنياً وبناء
الحضارة المادية متسارعاً، وليس أمام المسلم، في ظل هذه الظروف، إلا البناء
السليم للتصور العقيدي والسلوك الإسلامي، القادر على مقاومة التيار المضاد بالعلم
والعمل، دون انعزال وتقوقع.
وإفساد السلوك ليس كإفساد التصور، بل هو أخطر منه، إذ يخضع للثاني
الجاهل بالإسلام دون العالم به، والجاهل والعالم سواء أمام تأثير الأول، إذ يقاوم
إفساد السلوك تقوى القلوب ويقاوم إفساد التصور علم العقول.
وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من تقليد تصرفات وسلوك
الفرق غير الإسلامية، مثل قوله تعالى: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ
أَنفُسَهُمْ] و [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً] و [ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ]
فها هي الحركة الإسلامية أمام التحدي الجديد، إما أن ترتفع بنفسها إلى
مستواه أو تتحطم تحت أمواجه، وهي في أسلوب عملها، إما أن تنتقل إلى مرحلة
التتحالف والتعاون أو تستمر في مرحلة التخالف والوصاية.
ألم يأن للذين يحملون لواء الحركة الإسلامية أن تقدر التحديات التي تهب
ريحها من الشمال حق قدرها، كما قدروا هم التحدي القادم من الجنوب حق قدره؟
ألم يأن للحركة الإسلامية أن تدرك أن الصراع هو صراع بين أمم وحضارات،
وليس بين أمم وجماعات أو بين جماعات وجماعات [وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] ألم يأن للحركة الإسلامية أن تعتبر بأحداث الماضي في سير
الأولين والآخرين.(27/75)
البابا يدعو الشباب التشادي ليكونوا قساوسة
-التحرير-
أمضى البابا جون بول الثاني آخر يومين من رحلته بعد أن زار خمس دول
أفريقية في تشاد حيث زار مدينتي (سارة) و (ماوندو) الواقعتين في أقصى ...
الجنوب، ذكرت ذلك صحيفة (الواشنطن بوست) الصادرة يوم 1/ فبراير 1990م
والتي نقلت عنه كذلك دعوته الشباب التشادي للتفرغ للعمل في الكنيسة ومناشدته
إياهم أن يصبحوا قساوسة. جاء ذلك في الخطاب الذي ألقاه في اليوم الثاني لزيارته
(الخميس1/2/90م) أمام بضعة آلاف من التشاديين المسيحيين بحضور (ماتياس
نجرائيري) مطران تشاد الوحيد، ومجموعة القساوسة هناك والبالغ عددهم (189)
قسيساً يمثل التشاديون منهم أقل من عشرين بالمائة والبقية أجانب.
ومعلوم أن مسيحيي تشاد تابعون للكنيسة الكاثوليكية الرومانية وهم لا
يتجاوزون نسبة 5% من مجموع السكان الذي يربو على الخمسة ملايين كما تصل
نسبة المسلمين فيه إلى 60%، والبقية وثنيون يعيشون غالباً في الجنوب حيث
ينتشر ويعمل بينهم هؤلاء المسيحيون ومن ورائهم الفاتيكان وجمعيات التنصير
المختلفة التي فتح أمامها المجال بعد دخول البلاد تحت سيطرة المستعمرين
الفرنسيين في العقد الثاني من هذا القرن، فأفرخت بضعة أحزاب وجمعيات سياسية
كان لها أثر مباشر على تطورات الأمور في تشاد، كما تربى في مدارسها بعض
من قُدِّر له أن يحكم البلاد ولسنوات طويلة أمثال فرانسوا تومبلباي وفيلكس معلوم.
واليوم وإن لم يعودوا على رأس الحكومة إلا أنه لا زال لهم فيها نفوذ قوي
وهم يشكلون نسبة عالية من سكان أكبر مدينتين بعد العاصمة (إنجامينا) هما
(سارة) وسكانها 124. 000 نسمة، و (ماوندو) وسكانها 87. 000 نسمة، وتعتبر الأخيرة المنتج الرئيس للقطن الذي يقع على رأس قائمة الصادرات التشادية، كما أنهم يتلقون دعماً قوياً من الفاتيكان الذي لا يألو جهداً في استغلال حاجة الناس وفقرهم إلى الغذاء والدواء والتعليم في إيجاد وتوفير بيئة مناسبة لنشر المسيحية بينهم.
إن أمام المسلمين في تشاد مراحل طويلة وصعبة لا بد من تجاوزها حتى يتم
لهم التمكين لدينهم، وتخليص بلادهم من الحروب والانقسامات الداخلية، وإخراجها
من أزمتها الاقتصادية المزمنة، ولذلك فإن الحاجة ماسة لأن يقدم المسلمون لتشاد
وشعبها المسلم دعماً قوياً في كل المجالات؛ اقتصادية وتعليمية أو غيرها، وأن
يساعدوها ويمدوها بالمال والرجال وأن يتعاونوا في ذلك دولاً وشعوباً.(27/81)
بريد القراء
-التحرير-
الأخ الأمين عبد القادر من أرتيريا أرسل رسالة يشيد فيها بمستوى المجلة،
ويتمنى لو أننا نهتم بقضية أرتيريا وننشر حولها التحليلات التي تعطي فكرة للقراء
عن هذا الموضوع ... ونحن نشكر الأخ على رسالته وثقته بالمجلة ونود أن نشير
إلى أننا من المهتمين بقضية أرتيريا اهتمامنا بأي بلد فيه مسلمون موحدون يؤمنون
بدعوة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقد نشرنا في العدد 26 من البيان
موضوعاً طويلاً عن تطورات القضية الأرتيرية.
* * *
الأخ عبد الله غالب أحمد - تعز
أرسل يعبر عن إعجابه بموضوعات المجلة وحرصها على سلامة اللغة
العربية، ويسأل عن أقرب طريق للحصول عليها.
البيان: نشكر الأخ عبد الله على حرصك وحبك للعلم والمجلة توزع في اليمن
ويمكنك الاتصال والعنوان موجود في داخل المجلة وإذا أردت الاشتراك المباشر
فأرسل لنا قسيمة الاشتراك والمبلغ المطلوب وجزاك الله خيراً.
* * *(27/83)
بأقلام القراء
لماذا انهزمنا؟
ماجد عبد العزيز
روت كتب السير أن الفرنجة أعدوا جيشاً عظيماً للاستيلاء على الأندلس،
ولكن قبل أن يتحرك هذا الجيش تنكر أحد جواسيسهم في صورة تاجر، ودخل
البلاد لكي يتعرف على أحوال المسلمين، وفي أول خطوة داخل أرض الأندلس
الإسلامية التقى هذا الجاسوس المتنكر بصبي مسلم يبكي تحت ظل شجرة، قال
الجاسوس للصبي: لماذا تبكي؟ .
فقال الصبي: أبكي لأني رأيت طائرين فوق هذه الشجرة فأردت أن أصيدهما
بضربة واحدة غير أن طائراً واحداً سقط بينما طار الآخر ونجا.
فرجع الجاسوس من لحظته إلى قومه ونصحهم بالتريث والانتظار حتى تتبدل
أفكار هؤلاء الأطفال لأن قوماً هؤلاء أطفالهم لن يهزموا مهما بلغت قوة أعدائهم،
لهذا لا بد من استعمال سلاح أشد فتكاً من سلاح السيوف والرماح، ألا وهو سلاح
النساء، والغناء، والملذات، والشهوات، ويا للأسف فلقد حدث هذا فعلاً وبعد
سنوات قليلة أصبح الأندلس فردوساً مفقوداً وتحول إلى قصيدة يترنم بها المسلمون
وأغنية ونشيداً ...
وتتساءل الآن لماذا انهزم المسلمون، لماذا انهزم ألف مليون مسلم أمام شرذمة
من أحفاد القردة والخنازير؟ فخذوها مني صريحة أيها المسلمون! !
والله ما انهزمنا إلا عندما حدنا عن الصراط المستقيم، والطريق القويم، الذي
أنزله رب العالمين، والله ما تداعت علينا الأمم وتكالبت علينا الشعوب وتطاول
علينا السفهاء إلا عندما غيرنا ما بأنفسنا فغير الله حالنا، فانتكست قيمنا، وانعكست
مفاهيمنا، فأصبح إعفاء اللحى تزمتاً؛ وتقصير الثياب تطرفاً؛ وتستر النساء تخلفاً؛ والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام رجعية.
والله ما ذللنا إلا عندما حلت المجلات الخليعة والأغاني الماجنة محل
المصاحف، والله ما هنا إلا عندما غابت شمس خديجة وعائشة وحفصة عن سماء
دنيا نسائنا وفتياتنا، وعلت وجوه تلك الهابطات السافلات من الممثلات والفنانات،
والله ما تقهقرنا وتخلفنا إلا عندما أصبح قدوة الواحد منا مغنٍ ماجن أو لاعب فاشل،
أو ممثل جاهل، ونسينا أبا بكر وعمر وعثمان وعلي الذين رفعوا شأن هذه الأمة،
وفجروا بركان التوحيد في أرجاء المعمورة حتى رفرفت راية الإسلام على الشواطئ
وقمم الجبال ...
فعودة صادقة إلى المنبع الصافي؛ إلى كتاب الله وسنة نبيه، لينصرنا الله
ويغير حالنا من هزيمة وذلة إلى نصر وعزة مصداقاً لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] .(27/85)
أهمية العقيدة والدعوة إليها
أم زياد المالكي
أرسل الله سبحانه رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
الكافرون وجاءوا من عند الله مبشرين ومنذرين متحدين على هدف واحد ويدعون
إلى عقيدة واحدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من نوح عليه السلام إلى
خاتمهم وأفضلهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي بعث رحمة للعالمين، ليخرج
الناس من الظلمات إلى النور، وسار على نهجهم السلف الصالح، يستلهمون سر
وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا
وفتح الله لهم أبواب الخير في كل مكان ورفعوا راية التوحيد في مشارق الأرض
ومغاربها، لأن الذي بدءوا به هو الأهم قبل المهم، وانطلاقهم في دعوتهم من
تحقيق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لأن ذلك هو الأساس الذي
أمروا أن يبدءوا به.
قال الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي
وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] وقال تعالى: [واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً] والعقيدة مهمة جداً لنيل المقصود في الآخرة، أساس كل عمل وتكفر الذنوب
والكبائر إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن
عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة حيث ينشر له تسعة
وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يأتي ببطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمداً عبدوه ورسوله) فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة.
فالعقيدة هي رأس الأمر كله والجسد لا يستقيم بلا رأس، ولكن الأمر اليوم قد
تبدل في أهمية العقيدة والدعوة إليها، فقد يرتكز الداعي إلى أمور لا تستقيم إلا
بالعقيدة، فبعضهم يدعو إلى مكارم الأخلاق أو يدعو إلى السياسة الصحيحة ...
وبعضهم يدعو إلى صفاء النفوس وطهارتها، لكن لا أهمية لهذه الأمور إن لم يكن
الأساس قد وضع لها، وهي العقيدة الصافية الخالصة من كل شائبة فتراهم يبدءون
بالدعوة إلى بعض الفروع، ويزعمون أنها متى أقيمت فسوف يأتي الأمل تلقائياً..
إن الدعوة الصحيحة هي التي تقام على ما قامت عليه دعوة السلف الذين
جعلوا الدين وحدة متكاملة ينطلق في السياسة والأخلاق وجميع الأمور من العقيدة
الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة، وعند الهتاف بأن الدعوة لا بد أن تكون على
العقيدة لا يعني إهمال الجوانب الأخرى أنما يعني وجوب التأسيس وتكون أعمالنا
من منطلق العقيدة.(27/86)
قديم جديد
أهمية الزراعة
وخطر الزهو والخيلاء والزينة
علي مبارك [1]
أسباب تأخر الزراعة:
كان لتأخير الزراعة أسباب كثيرة، وأقواها: تأثير الاحتقار بأهل الفلاحة،
وعدم الالتفات إليهم، وترك التبصر في أحوالهم، وارتكاب ما تضيع به ثمرات
الفلاحة، من تسخير أهلها بالعسف والقهر، والتعدي عليهم بما يقهقر حالهم، ويفسد
عليهم أعمالهم، وكالتغالي في الزينة والزهو والإكباب على اللعب واللهو، خلافاً لما
يزعمه أخساء العقول من أن ذلك من لوازم الثروة، فإن بطلانه لا يخفى على كل
ذي بصيرة.
أضرار التفاخر والزينة:
فضرر حب الزهو والفخر كضرر المحاربة، بل أضر، لأن المحاربة، وإن
كانت تضر بأرض الزراعة لا تضر بالأمة، وإن أضرت فضررها وقتي، ومما
يؤيد ذلك أنك ترى بعض الجهات وقع فيها محاربات كثيرة وهي الآن أحسن مما
كانت قبل الحرب، لأن الغالب أن الحرب إذا كانت في جهة وأتلفت منها شيئاً زاد
عمار الأخرى بقدر ما تلف من الأولى، وقد ينتبه الجميع بعد انقضائها فيتركون
الرفاهية فيعودون إلى أحسن مما كانوا. فعلمنا من ذلك أن الحروب وكذا الأمراض
الوبائية ليست السبب في تدمير الأمم أصلاً، بل السبب في حب الزهو والزينة
ليس إلا، لأنا لو فرضنا أن فرساً واحداً دخل مدينة للخيلاء به، لا لعمله، لم تشك
أنه يأخذ من ريع تلك المدينة لمؤنته ما يعدل مؤنة أربعة من نوع الإنسان، وهذا
فرس واحد، فما بالك بأفراس؟ ! أو ما بالك بغيره من الحيوانات التي لا فائدة فيها
إلا النظر لذاتها؛ أو التأمل في ألوانها وهيئاتها؟ !
ولا يقال: إن اقتناء الحيوانات - وإن كثرت مؤنتها-لاضرر فيه، لما يترتب
عليه من تسميد الأرض بروثها، فتزيد في محصولها بقدر مؤنة الدواب والحيوانات
التي بها؛ لأن ذلك إنما يقال في الدواب والحيوانات التي بالقرى وأرض الزراعة،
وأما الحيوانات التي بالمدن فلا، لأن روثها بها لا قيمة له، بل قد يصرف عليه
دراهم لإخراجه من محله، مع ما يلزم لذلك من تعطيل أشخاص من أهل الفلاحة
لخدمتها وجلب مؤنتها.
معيار الثروة:
وقد توهم بعضهم أن كثرة الأمة وقلتها تابع لما يستهلك؛ قلة وكثرة أعني أنه
كلما كثر المستهلك كثرت الأمة وكلما قل قلت، وهذا التوهم لا يسلم به إلا لو
اقتصر على ما لا بد منه، والواقع غير ذلك، فإنا نرى القليل من الأمة يصرف
أضعاف ما يصرفه الكثير منها، فإذا تأملنا ذلك وجدنا أن معيار الثروة وعدمها تابع
لكثرة المشتغلين بالزراعة وقلتهم، فكلما كثروا أخصبوا، وكلما قلوا أجدبوا، فأي
قوم لم يشتغلوا بأمر الزراعة وتوابعها؛ كانوا وبالاً على الأمة عموماً، وعلى
المشتغلين بها خصوصاً، فحينئذ يجب على ولاة الأمر التنبه لذلك، وحمل أهل
البطالة على العمل، ولا سيما الشحاذين الذين اتخذوا التكفف صنعة، فإنهم يتفننون
في الحيل ويتعللون بما تسوله لهم أنفسهم من العلل، فلا يمضي على الواحد منهم
زمن قليل إلا وتحصل على جزء من المال. فمثل هؤلاء يجب منعهم وأمرهم
بالتكسب لئلا يقتدي بهم من يميل إلى البطالة والكسل، ليستغني بهذه الصنعة
الخبيثة عن التكسب بالعمل.
واجب الدولة تجاه الزراعة:
فإذا تمهد هذا علمنا أن فن الفلاحة والزراعة هو الأصل، بل هو أساس ثروة
البلاد وعمارها، وأصل رفاهية أهلها، فيجب على كل حاكم احترام المشتغلين بها
والالتفات إليهم كل الالتفات، ومساعدتهم بأنواع المساعدات، وتطييب قلوبهم
والرأفة بهم، وإلا كان كمن هدم أساس بيته بفأسه، لأن مثل كل ملك مع رعيته
كمثل شكل هرمي، الملك كرأسه والرعية كقاعدته وأسه، ورجال الدولة ما بين
ذلك على قدر درجاتهم، فكما أن كل جزء من أجزاء هذا الشكل حامل لثقل ما فوقه
وهكذا إلى الطبقة السفلى فتكون هي التي عليها ثقل الجميع، كذلك أرباب الحكومة
السياسية على اختلاف درجاتهم كلما فسدت درجة سرى ضررها إلى من دونها
وهكذا، حتى تجتمع جميع المضار على الضعفاء وأهل الفلاحة، فلو قصر الملك
نظره على من يليه من رجال دولته، وصرف عمن دونهم نظره، فسد نظامه،
واختلت مملكته وأحكامه، فكما أنه لا بقاء للشكل إلا بقواعده، كذلك لا بقاء لملك إلا
برعيته، فإن تنبه الحاكم وأنصف من نفسه عرف كيف يصون ولايته من الخلل،
بأن يشمل بنظره جميع رعيته، لا يفرق بين الأجانب منهم وذوي قرابته، ولا بين
ضعيف منهم وقوي، وخص جميع أهل الفلاحة عندئذ بالعناية والالتفات، لأنهم
الحاملون لأثقاله، القائمون بمصالحه وأعماله، إذ لولاهم ما كان للملك قوام ولا تم
له نظام، وحيث كانت الأرض لا تفيد إلا بقدر ما تستفيد، لا فرق عندها بين عظيم
فتكرمه ولا فقير فتحرمه، بل إن قام صاحبها بما يجب لها وخدمها انتفع بها وإلا
عدمها، وهي على اختلاف أنواعها؛ لا يخلو شيء من أجزائها عن فائدة، حتى
الرمل الذي لا يصلح للزراعة لو وضع منه شيء في الأرض السبخة، أو البرك
المالحة لأصلحها، وكذلك أخراس [2] الأرض لو نقيت مما فيها وحرثت، لكانت
أصلح من غيرها، وكذلك الأرض الحجرية يؤخذ منها أحجار للمباني العظيمة ذات
الأسوار، فما من إنسان في أي مكان وتيسرت له أسباب الراحة وانتفت عنه
الموانع إلا تيسر له منه أضعاف قوته، وتحصل على ما لا يتحصل عليه غائص
البحر لياقوته، فلو فرض أن فداناً غرس أشجاراً لا تثمر؛ وترك إلى نحو عشرين
سنة لكان فيه من الخشب والفحم ما يقوم بمال عظيم مع أنه لم يلزم له إلا قليل من
العمل والعمال، فما بالك لو غرس أشجاراً ذات ثمر، فلو فرضنا أن ذلك الفدان
بعينه كان في المدة المذكورة، يزرع حبوباً لكانت فوائده أكثر منها في الحالتين
السابقتين، فعلم من ذلك أن الناس تابعة للزراعة، كثرة وقلة، ولو كان ذلك الفدان
بعينه في ضاحية من ضواحي المدن قد هيأ له صاحبه محابس لريه، وغرس فيه
أشجاراً، وأجرى إليه أنهاراً وجعل فيه عروشاً أما كان بذلك يساوي أضعاف مثله
من أرض القرى والأرياف؟ وما ذاك إلا لكثرة عماله واحتفاف الناس به، فهذا
دليل على أنه كلما كثرت الناس بأرض زاد محصولها، وأن الإنسان لو خلي ونفسه
لجعل من الأرض الحجرية بساتين وكروماً.
( ... ) فلو أحصينا عدد قرية وفرضنا أنهم قائمون بخدمة أرضهم حق القيام
كان عددهم دائماً فى زيادة، لأن المجمع عليه عند أرباب الفلاحة أن الأرض كلما
خدمت زاد محصولها، فليس محصول المحروث مرة كمحصول المحروث مرتين،
ولا محصول الأرض التي تسقي بماء المطر كالتي تسقى بماء العيون، ولا
محصول الأرض التي سقيت كمحصول الأرض التي لم تسق، وهذا من محسنات
الزراعة.
فالفلاحة لا شك أنفع الصنائع، إذا توفرت أسبابها، وانتفت الموانع عن
أربابها، خلافاً لقوم ذموها واستقبحوها، وعدلوا إلى دماء الناس وأموالهم
فاستباحوها، مع علمهم بأن فوائد الفلاحة لا تعدلها فوائد، وإدرار أرزاقها دائماً
متزايد، وهم الأثينيون وسكان آسيا، فكانوا يزعمون أن الفلاحة والتجارة مما يوهن
القوى البدنية، ويورث الذل للذرية، فتركوا الصنائع ولم يلتفتوا لما فيها من المنافع، وعدلوا إلى نهب الأموال، وأسر ما قدروا عليه من نساء ورجال، وعم ذلك
جميع أوربا فأنتج خرابها، وأفسد العمار الذي كان بها، وكان المنقطع للفلاحة وقتئذ
الأرقاء، ومن يأوي إليهم من الغرباء، فارتحلت عنهم حينئذ الفضائل الدثرية [3] ،
وقد كانت بقعتهم عين منبعها ومرج مرتعها، وانظر إلى الرومانيين وما كانوا فيه
من الخمول والتوحش، فلما أفاقوا من خمولهم وتفننوا في الفلاحة علت شهرتهم
وقويت شوكتهم، ثم تقادم بهم الزمن وأهملوا أمر هذا الفن واشتغلوا بالمحاربات فآل
أمرهم إلى الخراب، وضعفت دولتهم وانحطت صولتهم، وانتهى بهم الحال إلى أن
تقاسم أرضهم المتبربرون. وبالجملة فلم نر جهة أهملت فيها الزراعة إلا حل بأهلها
القحط والمجاعة.
مدار الازدهار على الأمن والاستقرار:
إلا أنه بغير العدل لا يتم صلاح، إذ لولاه ما قدر مصل على صلاته، ولا
عالم على نشر علمه، ولا تاجر على سفره، وهو صفة في الذات تقتضي المساواة، وهذه الصفة أكمل الفضائل، لشمول أثرها، وعموم نفعها، وإليها الإشارة بقوله
-صلى الله عليه وسلم-: «بالعدل قامت السموات والأرض» .
وتوضيح الكلام يحتاج إلى مقدمة في هذا المقام، ذلك أن الله تعالى لما خلق
الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبث فيها من كل دابة، فكان فيما
خلق نوع الإنسان، ولعلمه أنه ليس كغيره من سائر الحيوان، أحوج بعضه إلى
بعض في ترتيب معاشه ومؤنه وتحصيل ملبسه ومسكنه، لأنه ليس كسائر
الحيوانات التي تحصل بنفسها ما تحتاج إليه من غير صنعة، بل خلقه ضعيفاً لا
يستقل وحده بأمور معاشه.
ثم مست الحاجة بينهم إلى سائس عادل، وملك عالم عامل، يضع فيهم ميزاناً
للعدل وقانوناً للسياسة توزن به حركاتهم وترجع إليه معاملاتهم، وكان مباشرة هذا
الأمر من الله تعالى بنفسه من غير واسطة على خلاف ترتيب المملكة وقانون
الحكمة، فاستخلف عليهم من الآدميين، خلائف، وضع في قلوبهم العلم والعدل
ليحكموا بهما بين الناس، حتى يصدر ترتيبهم على قانون مشروع، وتجتمع كلمتهم
على أمر متبوع، ولا تتحقق العدالة إلا بعد العلم بأوساط الأمور، المعبر عنها
بالصراط المستقيم، ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره إلا إن أثرت في نفسه، إذ
التأثير في البعيد قبل القريب بعيد، قال تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ
أَنفُسَكُمْ] [البقرة: 44] ، فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه
الخلق، وصفت له النعماء، وأقبلت عليه الدنيا، فهنئ بالعيش واستغنى عن الجيش، وملك القلوب وأمن الحروب، ولم يخلق الله تعالى أحلى مذاقاً من العدل، ولا أمرَّ
من الجور، لأن أُس الملكة وأركانها، وثبات أحوال الأمة وبنيانها: العدل
والإنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية، فهما قاعدة كل مملكة،
وأصل كل سعادة ومكرمة.
__________
(1) علي بن مبارك (1824-1893) : وزير مصري، من المؤرخين العلماء العصاميين النوابغ سافر مع بعثة مصرية إلى باريس، وعاد إلى مصر فتقلب في الوظائف، ثم عين ناظراً للأوقاف المصرية، وأضيفت إليه المعارف، فأنشأ مدارس كثيرة، وله مؤلفات من أشهرها: الخطط التوفيقية في 20 جزءاً، وقصة سماها (علم الدين) ضمنها مباحث دينية واجتماعية، ومنها أخذنا هذا البحث.
(2) أخراس الأرض: الأرض البكر التي لم تستعمل سابقاً.
(3) أي الكثيرة من (الدثر) - بفتح الدال وسكون الثاء - ومعناه الكثير.(27/88)
الصفحة الأخيرة
المطبوعات الإسلامية
عبد القادر حامد
هناك صنفان رئيسيان للمطبوعات الإسلامية: قديم وجديد.
أما القديم، فمنه ما يتعلق بالنواحي العقائدية والفقهية البحتة ككتب التفسير
والفقه والحديث والأصول، ومنه ما يتعلق بمعالجة قضايا هي بنت تلك العصور
القديمة على ضوء الإسلام، وكلا النوعين مبذول ولا تشكو المكتبة الإسلامية من
قلته.
وأما الجديد: فمنه ما يدخل في الدائرة الأولى من القديم: وهو التفسير
ومحاولات تنزيل بعض الأحكام الفقهية على الوقائع المعاصرة، ودراسات تتعلق
بالحديث وأصوله، والدفاع عن حجية الحديث في مجال الإيمان والأحكام، وهذا
أيضاً موجود ولا حَجْر عليه.
ومن الجديد ما يقابل الثاني من القديم وهو معالجة ومناقشة القضايا المعاصرة
على ضوء من الأصول الإسلامية، وهذا ما تفتقر إليه المكتبة الإسلامية، بل تفتقر
إليه الأجيال المعاصرة من المسلمين وعلى الرغم من وجود مقدار لا بأس به من
المطبوعات التي تصدت وتتصدى لهذا المجال؛ لكن العوائق التي تعترض وصولها
إلى جماهير المسلمين كثيرة، وأكثر القضايا التي يجب أن يكون للإسلام فيها فكر
واضح مقترن بحدوثها لا يصل هذا الرأي والفكر إلى من يجب أن يصل إليه إلا
بعد مرورها وبعد أن تصبح حدثاً تاريخياً أعطى نتائجه وأصبح في ذمة الماضي،
ولهذا السبب يبدو الفكر الإسلامي متأخراً عن معالجة قضايا الساعة.
لكن الذي ينبغي التنبه له هو أن هذا التأخر ليس مبعثه الفكر الإسلامي،
وإنما مبعثه أسباب خارجية ومعوقات توضع قصداً، وتبذل في سبيلها أموال طائلة، وتسخر لها عقول جبارة لتحتكر تقديم وجهة النظر التي إن سمح للإسلام للمشاركة
فيها فلا يسمح له إلا بعد أخذ العهود والمواثيق عليه أن يكون ضمن الخط المرسوم!(27/94)
شوال - 1410هـ
مايو - 1990م
(السنة: 4)(28/)
الافتتاحية
صناعة الفكر
في هذه الأيام التي لا نزال نتلمس فيها طريق النهضة وطريق التغيير، نحن
بحاجة إلى مفكرين (فقهاء) وبالمعنى العام لكلمة (فقه) وهي: الفهم العميق للإسلام،
كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس «اللهم فقهه في الدين
وعلمه التأويل» .
نحن بحاجة إلى فقهاء علماء يعرفون سنن التغيير وأمراضنا الاجتماعية
وواقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة، وما هي الخطوات المرحلية التي يجب أن نبدأ
بها، وإذا كان الغرب ينتقل إلى الهم الاقتصادي والثورة (التقنية) فإننا في بلاد
المسلمين لازلنا بحاجة إلى التخطيط الفكري؛ فإن هذه البضاعة لا تزال عزيزة،
وإذا وجدت فإنها بضاعة غير رائجة، فلا تزال المنزلة الأولى للخطيب والواعظ،
وصاحب الحديث الجذاب والبلاغة الأدبية، ولا تزال المجلة الفكرية، والمحاضرة
الفكرية ثقيلتي الظل على السامع أو القارئ المسلم بشكل عام، وإذا حدث ودعي
مفكر لندوة أو محاضرة فهي من باب (التملح) أو لكسر الروتين السائد، إن مشكلة
(المسلم) لا تحل إلا بتحديدها تحديداً دقيقاً، والتفكير فيها، وهذا لا يؤتاه إلا (أولو
الألباب) وعندما ذكر القرآن الكريم أن عشرين من المؤمنين. يغلبون مائتين من
الذين كفروا قال: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ] .
ولذلك قال عبد الله بن مسعود يصف بعض المظاهر في آخر الزمان: «يكثر
الخطباء ويقل الفقهاء» .
عندما كان العلماء الفقهاء هم الموجهون أو هم الحكام كانت الأمور تسير سيراً
صحيحاً، وعندما انفصلت السياسة عن الفكر أصيبت بالانحراف ثم بالتدمير، وفي
دول الغرب الآن نجد أن السر في قوتها «هو تكامل الفكر والسياسة، واعتماد
رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر السياسة والإدارة على ما يقدمه رجال الفكر
العاملون في مراكز البحوث والدراسات خلال اللقاءات الدورية التي تجمع بين
الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخلية والخارجية، ففي بلد كالولايات المتحدة
هناك حوالي تسعة الآف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث شؤون السياسة
والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية ... » [1] .
لا شك إنهم في الغرب يمارسون هذه الصناعة ويشجعونها، بل عندهم (بنوك)
للأفكار، فالذي يقدم فكرة جديدة، تخزن حتى تأخذ طريقها للتنفيذ، ونحن لم
نمارس هذه الصناعة - إلا في القليل -، وقد يكون من الأسباب الداعية لذلك ما
تعودنا عليه من حب للسهولة، فلا نريد أن نتعب أنفسنا بالتفكير العميق في مشكلة
من المشاكل، وكيف تحل، وإنما نكتفي بكلام عام وصحيح في نفس الوقت،
كالطبيب الذي يصف لكل مريض أقراص (الأسبرين) ، فلا هي تضره ولا هي
تنفعه النفع المطلوب، فأنت تسمع من يقول لك: حل المشكلة في (الرجوع إلى الله)
وهذا كلام صحيح، ولكن كيف يكون الرجوع إلى الله؟ كيف تحل العقد الاجتماعية
المتشابكة، كيف نظهر علماء - فقهاء، كيف نستفيد من الطاقات ونجمعها ونضعها
في موضعها الصحيح؟ ! ، هذا لا جواب عليه!
وسبب آخر قد يكون عائقاً عن وجود (أولي الألباب) وصناع الفكر الذين
يقدمون الحلول الصحيحة، ألا وهو التأثر ببعض المنهج الظاهري بين صفوف
طلبة العلم، وأقول: بعض المنهج الظاهري؛ لأن لابن حزم جولات رائعة في فهم
الإسلام، ولكن أخذ الجانب الأسهل عنده، فإن نفي الحكمة والتعليل، وبالتالي نفي
القياس يُضعف الجانب الاستنباطي الاجتهادي.
إننا مطالبون بالتفكير كما جاء في القرآن الكريم: [وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 44] .
إننا مطالبون بالتفكير في آيات الأنفس والآفاق، في أسرار التشريع، وفي
سنن التغيير الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وفي منهج الرسول - صلى الله عليه
وسلم - في (فقه التغيير) .
وهذا التفكير يأتي بالتأمل والتعمق في فهم الأمور، يقول الشيخ الأديب محمود
محمد شاكر:
«فإن العقل هبة الله لكل حي، ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من
معالجة النظر، ومن التربية ومن التعليم، ومن الثقافة، ومن الآف التجارب التي
يحياها المرء في هذه الحياة [2] .
وأخيراً فإننا نتمنى أن يزداد عدد الفقهاء الحكماء ليقودوا الأمة، فإنهم هم
المؤهلون لهذا، وعند فقدهم يسود الأغرار، وتسود لغة العاطفة التي لا تغني عن
الحق شيئاً» .
__________
(1) ماجد عرسان الكيلاني / هكذا عادت القدس / 282.
(2) مقدمة لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي / 9.(28/4)
آية من كتاب الله
[إن هذا القرآن هذا يهدي للتي هي أقوم]
قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
«ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام من أن التقدم لا يمكن
إلا بالانسلاخ من دين الإسلام باطل لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم
في جميع الميادين التي لها أهميه في دنيا أو دين، ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، قال تعالى: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] ، وقال:
[وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ (10) أَنِ
اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا] فقول [أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ] يدل
على الاستعداد لمكافحة العدو، وقول: [وَاعْمَلُوا صَالِحًا] يدل على أن الاستعداد
في حدود الدين الحنيف، وانظر قوله: [وأَعِدُّوا لَهُم] ، فهو أمر جازم بمسايرة
التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأولى إذا طرأ تطور جديد، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين؛ فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم كالنسبة
بين الملزم ولازمه، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم كما صرحت به الآيات المذكورة.
أضواء البيان 3 / 396(28/7)
من نور النبوة
1 - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل
القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» .
2 - عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: «أراني في المنام أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر،
فناولت السواك الأصغر فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما» .
3 - عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء
فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء
فأقدمهم سناً، ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا
بإذنه» .(28/8)
من تاريخ التغريب
الاسماعيلية الجديدة [*]
(1)
د. عبد الله الخلف
كثيراً ما نقرأ أن العرب ممثلين بمصر سبقوا اليابانيين في محاولة الاتصال
بالغرب، والاستفادة منهم في مجالات العلوم والتقنية والإدارة، ونعلم أنه بينما نجح
المشروع الياباني في تحقيق أهدافه نجاحاً باهراً، لم يحقق المشروع العربي إلا
الإخفاق والفشل الذريع.
ولئن كان السبب الذي أدى إلى إخفاق المشروع العربي واضحاً بيناً في
أصوله وإطاره العام - وهو عدم الاعتماد على المنهج الإسلامي -، فإنه بحاجة إلى
كثير من الدراسة والبحث في جزئياته وتفاصيله. ومن أبرز المواقف التاريخية
المتصلة بهذا الموضوع، والتي يمكن الوقوف عندها والتأمل فيها لما لها من قيمة
في إضاءة جانب من هذه القضية، ذلك الاحتفال الكبير الذي أقامه الخديوي
إسماعيل عام 1869 م بمناسبة افتتاح قناة السويس.
لقد أراد إسماعيل أن يظهر دولته أمام ضيوفه الأوربيين بمظهر الدولة
المتقدمة التي لا يقل مستواها الحضاري عما وصلت إليه بلدان أوربا، وأراد أن
يبرهن على ما زعمه من أن مصر قطعة من أوربا لها من الروابط معها أكثر مما
لها مع جيرانها.
من أجل ذلك انتهز هذه الفرصة، وسافر بنفسه إلى أوربا لتوجيه الدعوة إلى
زعمائها لحضور الحفل فاستجاب له عدد من أولئك الزعماء، منهم الامبراطورة
أوجيني زوجة امبراطور فرنسا نابليون الثالث، وامبراطور النمسا، وولي عهد
بروسيا، وشقيق ملك هولندا وزوجته، وعدد كبير من رجال السياسة والاقتصاد
وغيرهم من المدعوين الذين بلغ عددهم قريباً من ألف.
وقد بُذلت جهود كبيرة، وصرفت أموال طائلة في سبيل إظهار مصر بمظهر
يعجب هؤلاء الضيوف. ومن ذلك إقامة عدد من القصور الفخمة، وإنشاء حديقة
كبيرة في القاهرة، وتم تنفيذ طريق يصل إلى الأهرام في مدة وجيزة لكي يتمكن
الضيوف من زيارتها، كما أنشئ عدد من السكك الحديدية لتسهيل تنقل الضيوف،
وتم بناء دار الأوبرا في القاهرة، وكلف موسيقي إيطالى مشهور بوضع أوبرا لتمثل
أمامهم، كما تم إنشاء عدد من المدارس التي لم يكن الهدف الأول منها تعليمياً،
ولكن ليباهي بها إسماعيل ضيوفه، وتم استقدام خمسمائة طاهٍ وخادم من أوربا
علاوة على عدد كبير من الموجودين في مصر.
وقد أقام كثير من المدعوين - ومنهم الامبراطورة أوجيني - مدة تزيد على
الشهر، وقاموا برحلات في أنحاء مصر لمشاهدة معالمها وآثارها، وأقيمت لهم في
أثناء ذلك حفلات الغناء والرقص الباذخة، كل ذلك على نفقة مضيفهم حتى إن أحد
المدعوين قال: «لم نصرف شيئاً بالمرة خلال هذه الرحلة، لقد شاهدنا كرماً لا
مثيل له» .
أما الاحتفال الكبير فقد استمر خمسة أيام، قام موكب المدعوين خلالها بمسيرة
من بور سعيد إلى السويس في مظاهر من الأبهة والبذخ الذي لم يشهد له كثير من
الضيوف مثيلاً. حتى إن الامبراطورة قالت: «يا إلهي لم أر في حياتي أجمل من
هذا» . وكان هذا البذخ مثار سخط كثير من عقلاء البلد، ولكنه كان موضع الرضا
والترحيب من ثعالب أوربا الذين كانوا يتربصون بمصر الدوائر، ويتحينون
الفرص للانقضاض عليها. وقد ذكر أن أحد رجال الخديوي شكا من ذلك إلى أحد
الأمراء الأوربيين قائلاً: «إننا نأكل أحجار الأهرام حجراً حجراً» فرد عليه
بخبث: «لا تهتم سنقرضكم المال اللازم لتشتروا منا الإسمنت لإعادة بنائها» .
ولذا لم يكن غريباً أن تؤدي هذه التصرفات إلى إغراق مصر بالديون مما لم
تستطع إيراداتها الوفاء به، فاضطر الخديوي أخيراً إلى بيع أسهم مصر في القناة
لإنجلترا، فلم يعد لها فيها أي نصيب. واستغلت الدول الأوربية الأمر فعينت
مندوبين منها يتصرفون في إيرادات مصر ومصروفاتها بحجة حماية حقوق الدائنين
الأوربيين وتسديدها، وأخيراً وقعت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي، بعد أن هيأ
إسماعيل بأعماله السيئة أفضل الظروف لإنجلترا لتحقيق أهدافها.
من خلال هذا العرض يتبين لنا أن هذا الرجل قد فتن بالغربيين، واستمات
في أن يطهر دولته بمظهر ينال إعجابهم. ولكن نظرته إليهم، وفهمه لسر قوتهم
كان موغلاً في السطحية والسذاجة، وكان اهتمامه منصباً على المظاهر بعيداً عن
الجوانب الجوهرية. وقد اتضح هذا من خلال الأسلوب الذي اتبعه في محاولته
اللحاق بهم ووضع مصر في مصاف دولهم، وهو أسلوب يحمل بذور الفشل الذريع، ويؤكد جهل صاحبه وقصر نظره.
ولم يكن هذا العمل الذي بدر منه في هذه المناسبة عملاً طارئاً، ولكنه يعبر
عن منهجه الإصلاحي، وموقفه الحضاري من الغرب. وهو منهج قائم على أساس
دعواه أن مصر قطعة من أوربا، وبدلاً من أن يزرع في نفوس شعبه العزة،
والإحساس بالتميز والاستعلاء بما لديهم من مبادئ سامية وتراث عريق راح يجرهم
إلى تبعية ذليلة مهينة، ويغرس في نفوسهم، حب التقليد الأعمى.
لقد غاب عن الخديوي إسماعيل أن الأمم مهما كانت درجتها من الضعف لا
يمكن أن تتخلى بسهولة عن أصالتها، وجذورها التاريخية والحضارية، وتسقط في
أحضان الآخرين فكيف إذا كانت تنتمي إلى خير أمة أخرجت للناس، وغاب عنه
أن الشخصية الحضارية للأمة لا يمكن أن تتبدل بمجرد أن يلبسها ثياب الآخرين
ويضفي عليها مظاهرهم، ولم يكن يدرك أن طريق الإصلاح والنهضة إنما يبدأ
بالإنسان قبل أي شيء آخر، وأن هذا الإنسان لن يستجيب بسهولة لمحاولات
الإصلاح ما لم نخاطب فيه نوازعه الفطرية وخصوصيته الحضارية، ونشعره
بتميزه وأصالته.
وكم كان الفرق عظيماً والبون شاسعاً بين منهج إسماعيل والمنهج الياباني الذي
قام على أساس من التميز والأصالة، ولم ينظر من أوربا إلا إلى الجانب الذي يفتقده
ويحتاج إليه من علوم وتقنية سرعان ما استوعبها واحتواها بأساليبه التعليمية
والتربوية الخاصة، حتى إن الأمريكيين واجهوا صعوبات كبيرة في فرض
نظرياتهم التربوية عليه بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن الأمر لم ينته بفشل الخديوي إسماعيل في مشروعه وما جره على بلده
من مصائب، فقد تابعه وسار على منهجه معظم القيادات السياسية لبلاد المسلمين
على اختلاف في درجة التقليد، وعلى تفاوت في إظهار التبعية والولاء. كما أن
الاهتمام بالمظاهر والأبهة الكاذبة والرغبة في نيل إعجاب الغرب لا يزال هاجساً
يستحوذ على تفكير كثير من تلك القيادات، ويدفعها إلى بذل الغالي والنفيس في
سبيلها، لتتمكن من إرضاء غرورها، حتى لو اضطرت إلى حرمان شعوبها من
أهم الضروريات، وإلى إغراقها بالديون والمشكلات.
ولا تزال هذه التجارب الفاشلة تؤتي ثمارها المرة، وتدفع بالشعوب المسلمة
إلى مهاوي التخلف والضعف والهوان.
__________
(*) ليس المقصود بالاسماعيلية المذهب الباطني المعروف، ولكنه نهج الخديوي إسماعيل القائم على البذخ والإسراف والرعونة في تقليد قشور الحضارة الأوربية.(28/9)
وحدة العمل الإسلامي
تحت راية أهل السنة والجماعة
محمد محمد بدري
تواجه الحركة الإسلامية المعاصرة تحديات كثيرة، من خارجها ومن داخلها.. تواجه من خارجها مكر أعدائها وكيدهم، وتواجه من داخلها أمراض التعصب
والهوى والجهل واتباع الرؤوس الجهال، وما ينتج عنها من فرقة واختلاف!
فأما التحديات الخارجية فنستطيع أن نقول أنها فشلت سياسياً وأمنياً في إحراز
أي مكسب على حساب الحركة الإسلامية المعاصرة! !
وأما التحديات الداخلية فهي -فيما نحسب -الخطر الحقيقي الذي يعوق مسيرة
الحركة ويباعد بينها وبين أهدافها.
وبينما يختلف الإسلاميون في كثير من الأمور، إلا أنهم جميعاً متفقون على
أن الفرقة والاختلاف هي آفة الحركة الإسلامية المعاصرة، وهي الداء الذي يشل
أية فاعلية ممكنة لتلك الحركة.
ولا شك أن الوحدة والائتلاف بين العاملين للإسلام هي أمنية كل مسلم غيور،
والذي يجعل تحقيق هذه الأمنية الغالية ممكناً هو أن ندرك متطلباتها ونعرف الأسس
الصحيحة التي تكفلها.
ومساهمة في بيان هذه الأسس وتلك المتطلبات نضع بين أيدي إخواننا
العاملين للإسلام هذا المنهج للائتلاف والوحدة كخطوة على طريق الوحدة الشاملة،
ونأمل منهم تفهمه، ونقده، وترشيده بل ونطالبهم بتهذيبه والإضافة إليه بما يثري
إيجابياته ويلفظ سلبياته، ويقرب من جدوى ثماره.
أولاً: أهل السنة وطريق الوحدة:
يدعو البعض إلى الوحدة والائتلاف بين الجماعات الإسلامية، فإذا سألته ...
كيف؟ قال لك: إن هذه الجماعات أمة واحدة، والوحدة والائتلاف بينها تكون ... بانضمام هذه الجماعات إلى جماعتنا؛ لأننا نحن أصحاب الفهم الصحيح!! ، ولأننا ... نسير في الطريق الأصلح والأصوب، أو لأننا أكثر عدداً، أو غير ذلك من الأسباب؟ ! .
ولا شك أن التفكير في الوحدة بهذه الطريقة هو لون جديد من التعصب في
ثوب الدعوة إلى الوحدة، ولا شك أننا لا يمكن أن نخطو خطوة واحدة في طريق
الوحدة المنشودة بهذه الطريقة؛ لأن كل جماعة ستدعي أنها صاحبة الفهم الصحيح؟ ! فما هي الجماعة التي يجب أن يلتزمها الجميع؟
إنها الجماعة التي ألزمهم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:
«افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين
فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» ،
فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه
وأصحابي» . وفي رواية قال: «الجماعة يد الله مع الجماعة» .
فالفرقة الناجية هي الجماعة -وصفتها من كان على مثل ما كان عليه النبي -
صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سئل
عن الفرقة الناجية بين الوصف الذي صارت عليه ناجية، بمعنى أنه - صلى الله ...
عليه وسلم- بين الوصف الضابط للنجاة لأي جماعة بدون تخصيص لمن تقدم ومن
تأخر، وهو وصف غير قابل للانقطاع في أي زمان كما قال -صلى الله عليه
وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ولا
من خذلهم إلى قيام الساعة» .
وهو وصف إذا تحقق في فرد أو جماعة، كان ذلك الفرد أو تلك الجماعة من
الفرقة الناجية «أهل السنة» .. فالسنة راية مكتوب عليها «ما كان عليه النبي -
صلى الله عليه وسلم - وأصحابه» وأهل السنة أهل الراية، وهم الطائفة ...
المنصورة «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» وهم الجماعة التي أمر
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتزامها..
وهي هي الجماعة التي ندعو فصائل الحركة الإسلامية إلى الالتزام بها،
«جماعة أهل السنة» الجماعة العامة الواسعة، وهي تضم الآن كل من لم ينحرفوا
عن طريق «أهل السنة والجماعة» إلى مناهج أهل البدع الضالين، تضم كل
هؤلاء دونما شرط أن يجمعهم اسم واحد أو حزب واحد؟ !
فنحن لا ندعو إلى جماعة جديدة أو اسم من الأسماء التي يتصارع عليها
العاملون للإسلام وإنما هي دعوة إلى الانتماء لسلف هذه الأمة من الصحابة
والتابعين الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله
عليه وسلم-.
دعوة إلى الانتماء لجماعة «أهل السنة» الذين ميزهم دائماً اجتماعهم على
الاتباع دون لم الابتداع فهم يمثلون الامتداد الطبيعي لما كان عليه النبي - صلى الله
عليه وسلم -، وراية «أهل السنة والجماعة» هي الراية التي ينضوي تحتها
المخلصون أفراداً وجماعات، الراغبون في العمل من أجل الإسلام مهما كانت
انتماءاتهم.. ثم نوزع فيما بيننا الأدوار، أدوار الأفراد وأدوار الجماعات لتقوم
بمهمة التغيير المنشود.
ثانيا -كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة:
لا شك أن التوحيد بين الأطراف المتنازعة لا يكون على حساب المنهج السليم، ولا يكون على حساب التفريط في سلامة الأصول، وحرصنا على الائتلاف
ووحدة الكلمة لا ينفعنا إن نحن فرطنا في وضوح كلمة التوحيد أو تساهلنا في
اهتزاز أصولها، بل لو حاولنا ذلك -والعياذ بالله - وقعنا في الشقاق والفرقة من
حيث أردنا الوحدة والائتلاف، ولذلك فنحن حين ندعو للائتلاف لا نعني الائتلاف
مع أصحاب المذاهب المعادية للإسلام من علمانية ووطنية وقومية واشتراكية ...
ورأسمالية وغيرها، ولا مع الفرق الضالة التي وصفها رسول الله - صلى الله عليه ...
وسلم -، والذين ابتعدوا وانحرفوا عن منهج أهل السنة، وهنا لابد من التفرقة بين
هؤلاء وبين المختلفين من أهل السنة الذين وإن وقع بعضهم في تأويل فاسد ولكنهم
لم يفاصلوا أهل السنة ولم يفارقوهم، فهؤلاء لا يخرجون عن مسمى أهل السنة،
فيجب علينا دائماً أن نفرق بين من يتنكبون طريق الإسلام وينحرفون عن منهج
أهل السنة وبين الذين يخطئون وهم يسيرون على هذا المنهج، فهؤلاء أحوج إلى
التصويب والرعاية والحوار منهم إلى المواجهة والاحتقار.
ثالثاً - شرعية العمل الجماعي:
لا شك أن العمل الجماعي واجب شرعي، ولا شك أن ما هو مطلوب من
الجماعات من إنجازات لا يقدر فرد أو أفراد متفرقون أن يقوموا به، ومن هنا فنحن
لا ننكر العمل الجماعي من خلال جماعات أهل السنة العاملة في الساحة الإسلامية،
ولا نريد أن يتخلى الأفراد عن جماعاتهم التي يتعاونون معها، ولكننا نريد من
الجميع أن يدركوا أن ولاءهم لجماعاتهم يكون في. إطار ولائهم للجماعة الأم..
جماعة أهل السنة والجماعة، وأن لا يقدموا المصلحة المتوهمة لجماعتهم -الصغيرة
على المصلحة الشرعية الحقيقية للجماعة الكبيرة.
فلا ترفع أسماء ورايات يدعى الناس إليها، ويترك الأصل الذي ينبغي الدعوة
إليه، ولا تكون هذه الأسماء داعية للتعصب لشخص دون رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، ولا تكون هذه الأسماء هي ما يعقد عليها الولاء والبراء، بل الموالاة
والمعاداة تكون على الإسلام، والدعوة تكون إلى جماعة أهل السنة.. وليس إلى
جماعة فلان أو طريق فلان..
فنحن في أمس الحاجة إلى دعوة مفتوحة عالمية لكل الأمة، والله عز وجل قد
أنعم علينا وكفانا باسم الإسلام.. [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ، نقول لكل العاملين المخلصين:
إن الأعمال الكبيرة لا يقوم بها فرد وإنما تقوم بها مجموعات متعاونة تعمل حسب
خطة تكاملية مدروسة، ولن نستطيع الوصول إلى أهدافنا عبر أفراد، بل
مجموعات منظمة تضمن استمرار العمل وتعطيه الفاعلية، فتعالوا نجتمع معاً لنكون
مجتمعاً من صفوة المجتمعات وصفوة الأفراد.
رابعاً - قلة تنقذ الموقف:
إن من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين تأليف القلوب واجتماع الكلمة
وصلاح ذات البين، فالله تعالى يقول: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] ،
وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة
والاختلاف.. وأهل هذا الأصل - كما يقول ابن تيمية - هم أصل الجماعة، ولذلك
نقول أنه من الأمور الطيبة أن توجد في الساحة الإسلامية مجموعة واعية تتبنى فكر
أهل السنة والجماعة، وتعمل على التقريب بين فصائل الحركة الإسلامية؟ ! ومن
انتدب نفسه لهذه المهمة فيجب عليه أن يتلطف في ادخال المفيد النافع على من
يحدثهم دون جدل، بل بالأدلة الموضوعية.
ولا شك أن وجود هذا الصنف من الدعاة هو المقدمة الصحيحة لتعميم مفاهيم
أهل السنة والجماعة في كل الحركة الإسلامية، وإزالة الحواجز بين العاملين
للإسلام، بحيث لا يتحرج فرد من الانتساب إلى فصيل من فصائل الحركة
الإسلامية، والتعاون مع الآخر في الخير.. فيخرج بذلك جيل من الإسلاميين
تتطابق أهدافهم في الحياة بدل أن تتنابذ، وتتكامل أفكارهم بدل أن تتصارع وتختلف؟! وتكون غايتهم خالصة لله عز وجل.
ولن تكون هذه المجموعة التي نتحدث عنها حزباً أو جماعة، وإنما هي بمثابة
مدرسة تربوية تركز على تنظيف عقول أفرادها من المقولات الخاطئة المتعصبة،
وتسير قلوبهم ونفوسهم من الأغراض الشخصية، ثم مراجعة الأفكار وأساليب العمل
المطروحة على الساحة الإسلامية، وهكذا يمكن أن تبرز حركة تجديدية إصلاحية،
تتضافر فيها الجهود، ويهجر فيها الأفراد خصوماتهم.
خامساً - حوارات فعالة:
فلابد من حوارات مفتوحة مع كل الدعاة الصادقين، ولابد من تعارف فصائل
الحركة الإسلامية بعضها على بعض عن قرب والحذر من الشائعات، وكثيراً ما
يحل هذا اللقاء الكثير من الاختلافات التي يثيرها نقلة الأخبار ومثيري الإشاعات؟ !.
ولنجعل من هذه الحوارات لوناً من ألوان الشورى حول مجموعة القضايا
الأساسية في الدعوة، ولعل الله عز وجل أن يخرج منها جيلاً يهتدي إلى سبيل
عودة أمة الإسلام، ويحدد مواطن الخلل ويكتشف الطريق الأصوب، ويجمع
البصيرة إلى جانب البصر، ويلتزم منهاج الطائفة القائمة على الحق الحاملة للرسالة
الخالدة «أهل السنة والجماعة» .
ولا شك أنه لإنجاح هذه الحوارات لابد لها من قواعد، فقواعد الحوار فضلاً
عن أنها آداب وأخلاق فهي جزء رئيسي ومؤثر في فعالية أي عمل يبنى على
الحوار، وما أي عمل في بدايته سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات والأفكار.
إننا ندعو كل إخواننا إلى العمل على تكامل فصائل الحركة الإسلامية وتعاونها
في هذا الإطار الذي نحسبه صواباً، ولا ندعي له الكمال، وإنما هو محاولة وخطوة
على الطريق يعوزها التواصل المستمر.. نقصد منها إلى إزالة السدود النفسية بين
الدعاة إلى الله وتحطيم الأسوار الحزبية التي قد تحمي غير الأكفاء وتحرم العمل من
إمكانات وطاقات كبيرة، ولنسير جميعاً إلى أهدافنا تحت راية أهل السنة والجماعة.(28/13)
من أعلام الجهاد في العصر الحديث
الشيخ عز الدين القسَّام
محمد محمد توفيق
هو محمد عز الدين بن عبد القادر القسَّام، ولد عام 1871 م في بلدة جبلة من
قضاء اللاذقية في سوريا، ونشأ في أسرة مسلمة كريمة، ودرس بالأزهر في مصر، والذي كان له دور كبير في ذلك الوقت في بث مبادئ الإسلام ونشرها في كل
أنحاء الوطن الإسلامي، وبعد انتهاء دراسته بالأزهر رجع إلى بلدته، وعين مدرساً
بالجامع الكبير، فغرس في تلاميذه معاني العزة والكرامة، باثاً فيهم روح الجهاد في
سبيل الله، ومرشداً إياهم إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، حتى وضعت فلسطين
والعراق تحت الانتداب الإنجليزي، وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسى،
وأعطى وزير خارجية بريطانيا (بلفور) وعده المشؤوم بإنشاء وطن قومي لليهود في
فلسطين وذلك في 2 نوفمبر 1917 م.
في هذه الأثناء انضم الشيخ إلى عمر البيطار ورفاقه لمقاومة الاحتلال
الفرنسي، واستطاعت فرنسا التغلب عليهم لقلة ذخيرتهم وأسلحتهم، ولضعف
تنظيمهم، فصدر عليه حكم بالإعدام، وفاوضوه على إلغاء ذلك الحكم وتحقيق ما
يتمناه من مال ومنصب فرفض، ولما اشتدت عليه الملاحقة والطلب رحل إلى
فلسطين في ضاحية الياجور بالقرب من حيفا - والتي كانت قاعدة من قواعد التهويد
في ذلك الحين عام 1922م - وهناك عمل مدرساً بالمدرسة الإسلامية، ثم انضم
إلى جمعية الشبان المسلمين عام 1926 م، وانتخب رئيساً لها عام 1928 م
وأصبح مدرساً وخطيباً في جامع الاستقلال عام 1929م، وفي نفس السنة عين
مأذوناً شرعياً، وقام بتأسيس مدرسة ليلية لمحو الأمية.
وقد مكنته كل هذه الأعمال من الاتصال بكافة طبقات الأمة، فبدأ بتأليف
القلوب، ونشر المحبة، وإزالة الخصومات ونبذ الأحقاد، وتعميق الوازع الديني
في النفوس، والتوعية بمؤامرات الحكومة البريطانية على فلسطين، والتوعية
بمخاطر هجرة وبيع الأراضي، وعمل على تكوين قاعدة إيمانية صلبة من
المجاهدين ضد أعداء الله سبحانه وتعالى وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان يتصف بقوة الإيمان، وحسن السيرة والمعاشرة، وكان لبقاً وخطيباً بارعاً،
وعاقلاً يدرك ماذا يصنع ويفهمه كل الفهم، غير متسرع ولا مندفع، وكان يلوم
بعض المشايخ وطلبة العلم على أمور منها:
- محاولاتهم وسعيهم الحثيث إلى تجويف الدين وجعله هياكل نظرية مفرغة.
- إبعاد الدين عن السياسة، واقتصارهم على المواعظ النظرية فقط.
- إغراقهم في التنعم بعيشهم بينما غالبية الشعب تعاني من الفقر والحاجة.
- عدم دعوتهم إلى الجهاد وطرد الإنجليز والصهاينة.
- إنفاق الأموال في تزيين المساجد وزخرفتها بدلاً من الإعداد للجهاد.
فالتف حوله الناس وساعدوه، وزاد أيضاً عدد الجواسيس عليه، وفي عام
1925 م أسس (المنظمة الجهادية) ، وبدأت عملها في سرية بالتحريض على
الجهاد، والتدريب عليه، وقسمت هذه المنظمة إلى خمس مجموعات هي:
المجموعة الفدائية (أو وحدة التدريب العسكري) ، ومجموعة التهيئة والأعداد،
ومجموعة التمويل، ومجموعة الوعظ والدعاية، والمجموعة السياسية.
وفي عام 1935 رفع الشيخ راية الجهاد - وكان عمره قد تجاوز الستين -
وترك حيفا إلى جبال جنين القريبة منها. وكانت خطته أن يتوزع رجاله على قرى
المناطق الجبلية حتى يضموا إليهم أكبر عدد من المجاهدين، فإذا اكتمل العدد الذي
يريده هاجم مدينة حيفا واحتل دوائر الحكومة ومراكز الشرطة والميناء، وبعد أن
يستتب له الأمر يعلن قيام حكومته، ويقوم أعوانه في المدن الأخرى بمثل ذلك.
وبعد يومين فقط، وقبل أن يتم له ذلك، قتل أحد أعوانه فرداً من دورية
شرطة (يهودي) ، فهاجمت قوات كبيرة جميع القرى المجاورة، فاشتبك معهم أعوان
القسام، وقتل اثنان من أفراد الشرطة، فأدركوا أن الجهاد الحاسم على وشك
الاستنفار، فأرسلت نجدات إلى تلك المناطق تساندها طائرات استكشافية،
فحاصروا الشيخ ومعه مجموعة من أعوانه، ودارت معركة أبلى فيها وأتباعه بلاءً
حسنًا، وكان في مقابل كل مجاهد أربعين جندياً، وقتل ومعه الشيخان محمد الحنفي
ويوسف الزيباوي، وجرح ثلاثة وتمكن الباقون من الإفلات.
وصلى عليه وعلى رفاقه جمع غفير، وصلى عليه الناس صلاة الغائب في
كل مكان. وحمل الراية من بعده إخوانه وتلاميذه ومنهم الشيخ فرحان السعدي،
ومحمد صالح الحمد (أبو خالد) ، وعطية أحمد عوض، ويوسف سعيد أبو درة،
وعبد الله الأصبح، وحسين العليّ الزبيدي، وتوفيق إبراهيم (أبو إبراهيم الصغير) ، وأحمد عبد الرحمن جابر، وغيرهم.
ولم تمض شهور قليلة على قتله حتى كانت فلسطين كلها تغلي وتضرب من
أقصاها إلى أقصاها أطول إضراب في التاريخ، والذي لم ينته إلا حينما تدخل
الملوك العرب على أمل أن تتفهم حليفتهم بريطانيا مطالب الفلسطينيين، وكان
تدخلهم هذا مشفوعاً بتضييق الخناق على المجاهدين الذين أصبحوا في حاجة إلى
السلاح والذخيرة، والغذاء والدواء.
وها هي الأرض - اليوم - تشتعل غضباً على اليهود، وإخواننا هناك
يحتاجون إلى السلاح والذخيرة بدلاً من الحجارة والزجاجات الحارقة، ويحتاجون
إلى الغذاء والدواء بعد أن ضيق عليهم اليهود الخناق، ويحتاجون إلى الرجال
لمناصرتهم، ويحتاجون إلى الدعاة لشحذ هممهم، وبالجملة يحتاجون إلى الدعم ...
فهل نخذلهم؟ ! .
لقد كان القسام بحق علماً للجهاد في فلسطين، فرحمه الله، وأنزلنا وإياه
منازل الشهداء، ومنَّ على المسلمين بالعزة والنصر.(28/19)
خواطر في الدعوة
فوائد المحن
محمد العبدة
اللهم إنا لا نتطلبها، ونقول سنصبر عليها أو نحن مستعدون لها، فلا يجوز
لمسلم أن يعرض نفسه للفتنة وقد لا يصبر عليها، أو يضع نفسه موضع الذل
والهوان، أو موضع المتسلط عليه من الكفار، فنصبح فتنة للذين كفروا، ولكن إذا
تعرض المسلم للمصائب والمحن بقدر من الله ولحكمة يريدها الله، فلابد أن يصبر
ويتقي الله، وبعدها يؤتي الله نصره من يشاء، وعندما يتعرض المسلمون للمحن
والرزايا فلاشك أن في ذلك فوائد كثيرة يريدها الله، كتمحيص الصفوف ومعرفة
الصابرين المجاهدين، والدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل.
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام - رحمه الله - لفتات طيبة في هذا
الموضوع، ننقلها بطولها لأهميتها، قال:
(وللمصائب والمحن فوائد تختلف باختلاف رتب الناس:
أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.
الثاني: معرفة ذل العبودية وكسرها، وإليه الإشارة يقول تعالى: [الَذِينَ إذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ] ، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده،
وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره، لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.
الثالثة: الإخلاص لله تعالى، إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه: [وإن
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ] .
الرابعة: التضرع والدعاء: [وإذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا] .
الخامسة: تمحيصها للذنوب والخطايا: «ولا يصيب المؤمن وصب ولا
نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به عن سيئاته» رواه مسلم.
السادسة: ما في طيها من الفوائد الخفية: [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ
اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً] ، ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم - عليه السلام - كان في
طي تلك البلية أن أخدمها هاجر، فولدت إسماعيل لإبراهيم - عليهما السلام -،
فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين، فأعظم بذلك من خير كان في طى تلك البلية.
السابعة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء
والتكبر والتجبر.
ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كالذين
أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وتغربوا عن أوطانهم، وتكاثر أعداؤهم، ولم يشبع
سيد الأولين من خبز مرتين، وأوذي بأنواع الأذية، وابتلي في آخر الأمر بمسيلمة
وطليحة والعنسي، قال - عليه الصلاة والسلام -: «مثل المؤمن كمثل الخامة من
الزرع تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج» .
الثامنة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى، فإن المصائب تنزل بالبر
والفاجر، فمن سخطها فله السخط ومن رضيها فله الرضا) اهـ.
ونحن نسأل الله تعالى أن يمكن للمسلمين بعد المحن والرزايا وأن يستفيد
المسلمون الدروس الكبيرة من هذه المحن.(28/22)
أخلاق
الغيرة بين الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم وعنوان عرضهم، ولذلك
فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها، والدفاع عنها زوجة وأماً، ابنة وأختاً،
قريبة وجارة، حتى يظل شرفهم سليماً من الدنس، ويبقى عرضهم بعيداً من أن
يمس.
ولم يكن شيء يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهن، ولذلك كانوا
يتجشمون في الدفاع عنهن كل صعب، ولا يضنون بأي غال، لقد كانت الغيرة
تولد مع القوم وكأنهم أرضعوها فعلاً مع لبان الأمهات [1] .
وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف كان
لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف؛ لأن العدوان على العرض يجر
الويلات والحروب، وكان لابد من الغيرة على العرض حتى لا يخدش.. والعفة
شرط من شروط السيادة فهي كالشجاعة والكرم.
وكان العرب أغير من غيرهم [2] ؛ لأنهم أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها،
وقد وصل العرب في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق
العار بهم من أجلهن.
وأول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنهم أُغير عليهم، فنهبت بنت
لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، وخيرت رضى منها بين أبيها ومن هي عنده،
فاختارت من هي عنده، فغضب والدها وسن لقومه الوأد، ففعلوه غيرة منهم،
وشاع الوأد في العرب بعد ذلك.
ومن نخوة العرب وغيرتهم أنهم يكنون عن حرائر النساء بالبيض، وقد جاء
القرآن الكريم بذلك، فقال سبحانه: [كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ] ، وقال امرؤ القيس:
(وبيضة خدر لا يرام خباؤها) .
ويكنون عنها بالنخلة:
ألا يا نخلة في ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
ومن نخوة العرب وغيرتهم أنه كان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم
الرجال، والرعاء، ثم النساء إذا صدرت كل الفرق المتقدمة، حيث يغسلن أنفسهن
وثيابهن ويتطهرن آمنات ممن يزعجهن، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء
فهو الغاية في الذل.
وكان للغيرة عند القوم مظاهر كثيرة [3] ، منها: حبهم لعفة النساء عامة،
ونسائهم خاصة، ومنها: حبهم لحيائهن وتسترهن ووفائهن ووقارهن.
وقد أشاد الشعراء بعفة النساء وتمنعهن ووفائهن، قال علقمة بن عبدة [4] :
منعمة ما يستطاع كلامها ... على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب فيها البعل لم تفش سره ... وترضى إياب البعل حين يئوب
ومن أجمل ما قيل في خفر النساء وعفتهن قول الشنفري الأزدي في غزله،
وهو من الصعاليك الفتاك [5] :
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفت
أميمة لا يخزي فتاها حليلها ... إذا ذكر النسوان عفت وجلت
إذا هو أمسى آب قرة عينه ... مآب السعيد لم يسل أين ظلت
وكان من مظاهر الغيرة عند العرب، ستر النساء ومنعهن من الظهور أمام
الرجال. يقول الأفوه الأودي [6] :
نقاتل أقواماً فنسبى نساءهم ... ولم ير ذو عز لنسوتنا حجلاً
على أنهم كانوا يفخرون بغض البصر عن الجارات، ويعتبرون ذلك من
العفة والغيرة على الأعراض، كان كشف الستر بجارح النظرات، وهتك
الأعراض بخائنة الأعين، وفضح الأسرار باستراق السمع لا يترفع عنه إلا كل
عفيف، وما أجمل قول عروة ابن الورد [7] :
وإن جارتي ألوتُ رياح ببيتها ... تغافلتُ حتى يستر البيت جانبه
وقول عنترة [8] :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
أين من هؤلاء بعض الشباب اليوم الذين يتسكعون في الأسواق أو يتلصصون
حول الحرمات، وبعض وسائل الإعلام تعرض المسلسلات الماجنة التي تدرب
الشباب على التحلل والعدوان
لقد كانت عند العرب أخلاق كريمة، بعث نبي الرحمة - عليه الصلاة
والسلام - ليتممها، ويقوم ما انحرف منها، ويسمو بها وبأمثالها.
الغيرة في ضوء تعاليم الشرع الحنيف:
لقد حمد الإسلام الغيرة، وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في
النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حمية ودفاعاً عن الأعراض، والمؤمن الحق
غيور بلا شطط يغار على محارم الله أن تنتهك، وفي الحديث الشريف أن سعد بن
عبادة - رضى الله عنه -قال كلاماً بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دل
على غيرته الشديدة، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «أتعجبون من غيرة
سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني» [9] .
هذه هي الغيرة، غيرة الإسلام على المحارم والأعراض، المنبثقة من غيرة
رب العباد، والمتمثلة في خاتم المرسلين، وهي ليست بخافية على أحد من الناس،
قال تعالى: [إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ] [الأعراف: 33] .
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم
الفواحش، ما ظهر منها وما بطن» [10] .
ومن أجل أن يكون المجتمع المسلم نظيفاً، أمر الإسلام بعدد من الأوامر
والنواهي، ليحفظ هذا المجتمع طاهراً نقياً، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية ومن
علامات هذا النقاء.
ولذلك فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن، وعدم إبداء زينتهن، يقول
تعالى: [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]
إلى قوله تعالى: [ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ]
[النور: 31] ، [وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى]
[الأحزاب: 33] .
وحرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير محارمهن، كما حرم الخلوة بهن. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والدخول على النساء» . فقال رجل من
الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» [11] والحمو
أخو الزوج وما أشبهه من أقاربه.
وقاك - صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، امرأتي خرجت حاجَّةً، واكتتبتُ في غزوة كذا وكذا، قال:» ارجع فحج مع امرأتك « [12] .
تطهير وتحصين لهذا المجتمع الفاضل، فلا خلوة ولا ريبة، وحتى الجهاد
يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته، فلا تسافر وحدها، هذه روح
الشرع الحنيف والمتأولون كل يوم قد يطلعون علينا بجديد.
ومن لوازم هذه الغيرة: الحياء. قال صلى الله عليه وسلم:» الحياء من
الإيمان، والإيمان في الجنة « [13] .
ومن ذلك أيضاً: غض البصر: قال تعالى: [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ … وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]
[النور: 30-31] .
يقول سيد قطب - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:» إن الإسلام يهدف إلى
إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات
اللحم والدم في كل حين.. والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة
والجسم العاري.... كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة،
وإبقاء الدافع النظري العميق بين الجنسين سليماً « [14] .
الغيرة في حضارة القرن العشرين:
عرفنا مما تقدم أن الغيرة خلق عربي أصيل، ارتفع به الإسلام آفاقاً عالية
سامية، وقمماً شامخة، في ظل مجتمع وارف الظلال.
ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين، مع ضعف الوازع الديني، وهجمة
الغرب الشرسة، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الاجتماعية
والأخلاقية.
ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف، وحتى غيرة أهل الجاهلية، انحدرت
وتلاشت في كثير من الأوساط، إذ أصبح الاختلاط (بين ما يسمى بالأسر التقدمية)
شائعاً، حيث الأحاديث المشتركة والموائد المختلطة.
كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: إنه زار إحدى
الجامعات الألمانية ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجاً مستلقين على
الحشائش في فناء الجامعة.. قال: فقلت في نفسى: متى أرى ذلك المنظر في
جامعة أسيوط لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه! ! [15] .
أهل الصعيد لماذا؟ لأنه ما يزال لديهم بعض أخلاق المسلمين وحيائهم.
وفي المطارات ما يراه المسافر من مظاهر شائنة، لا تحرك غيرة ولا رجولة، لقد حاولت بعض الأقلام الهابطة أن تنتزع عن الفتاة المسلمة كل خلق أو تقليد،
حتى الحياء الذي كانت تتميز به الفتاة المسلمة الشرقية.
قال سيد قطب - رحمه الله- في هذا الشأن [16] :» وحين تكون القيم
(الإنسانية) لأخلاق (الإنسانية) كما هي في ميزان الله هي السائدة في مجتمع، فإن
هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً ... أو بالاصطلاح الإسلامي ربانياً مسلماً..
والقيم والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة ولا مائعة، وليست كذلك قيماً
وأخلاقاً متغيرة «.
» إن المجتمعات التي تسود بها القيم والأخلاق الحيوانية، لا يمكن أن تكون
مجتمعات متحضرة مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي! «.
» وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث تتخلى
عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان. ففي هذه المجتمعات لا تعتبر
العلاقات الجنسية غير الشرعية ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة رذيلة أخلاقية،
إن المفهوم الأخلاقي ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية
أحياناً. في حدود مصلحة الدولة «.
مثل هذه المجتمعات مجتمعات مختلفة من وجهة النظر الإنسانية، وهي كذلك
غير إسلامية؛ لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته..» .
وأخيراً أخي القارئ: فإن معايير الأخلاق قد اهتزت في عصرنا الحاضر،
ولابد من أن نوليها الاهتمام الكافي الذي يوجبه علينا دينناً.
وإن التطبيق الواقعي لهذه الأخلاق، في حياة المسلمين اليوم بات واجباً
إسلامياً، ومنهجاً تربوياً دعوياً، طالما أهمل في قطاعات كبيرة من مجتمعات
المسلمين والناس عموماً في هذا القرن.
إلا أن الأمل كبير في الأجيال المؤمنة، لتقوم الانحراف، وتزرع الفضيلة،
وتكون قدوة حسنة، وواقعاً حياً لما كان عليه سلف هذه الأمة.
__________
(1) المعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي: محمد محمود صيام /350.
(2) انظر بلوغ الأرب: الآلوسي 1/140 - 143.
(3) انظر: الحر في الحياة العربية، والمعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي.
(4) المفضليات، رقم 119، ص 391.
(5) المفضليات رقم 20، ص 108، والنثا: ما اخبرت به عن الرجل من حسن أو سيئ، والحليل: الزوج.
(6) الأغاني 1/165، طبعة الثقافة.
(7) الديوان: ص 30 تحقيق عبد المنعم الملوحي، دمشق.
(8) الديوان: ص 185 شرح الأستاذ عبد المنعم شلبي.
(9) صحيح البخاري: كتاب النكاح باب الغيرة.
(10) صحيح البخاري، كتاب النكاح، ومسلم: كتاب التوبة 4/4114، واللفظ لمسلم.
(11) عمدة الأحكام /179.
(12) صحيح البخاري: كتاب النكاح، وانظر فتح الباري 9/331.
(13) صحيح ابن حبان: 2/454، كتاب الرقائق، وانظر المعتقدات والقيم / 786.
(14) في ظلال القرآن 4/2510 - 2511.
(15) عن واقعنا المعاصر: ص 294 - 295، الأستاذ محمد قطب.
(16) في ظلال القرآن: 3/1258.(28/24)
أدب الاختلاف
موقف أهل السنة من مسائل الاجتهاد
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
في ظلال الصحوة المباركة التي تعيشها الأمة الإسلامية في أقطار المعمورة
انتعشت الحركة العلمية، وأقبل كثير من الشباب -ولله الحمد والمنة - على طلب
العلوم الشرعية المختلفة - وهذا بلا شك مؤشر من مؤشرات الخير - ولكن أصيب
بعض طلاب العلم بآفتين خطيرتين:
الآفة الأولى: تسرع بعض طلاب العلم بالفتوى وهم لا يحملون من أدواتها إلا
القليل. وقد قال الإمام ابن القيم: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم
بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات
والعلامات، حتى يحيط به علماً.
والثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو
على لسان رسوله في هذا الواقع.
ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم
أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله
ورسوله» [1] .
والآفة الثانية: أن بعض طلاب العلم إذا بذل وسعه وقاده اجتهاده إلى تبني
رأي في مسألة من المسائل، يرى بأن ما توصل إليه هو عين الحق الذي لا حق
غيره، وكل ما خالف قوله ليس مرجوحاً فحسب، بل هو باطل..!
ويقوده هذا إلى أنه يريد أن يلزم الآخرين بالنتيجة التي توصل إليها، ويوالي
في ذلك ويعادي، فمن وافقه كان المحبوب المقرب، ومن خالفه كان المقلد الجاهل! وقد يؤدي هذا - في بعض الأحيان - إلى التنازع والتقاطع وتفرق الكلمة.
وسوف أبين منهج أهل السنة والسلف الصالح في هذا الباب، وعملي فيه هو
الجمع والترتيب، ولكن قبل الدخول في لب الموضوع وعند بيان موقف هؤلاء
العلماء تجاه بعضهم في مسائل الاجتهاد لابد من الإشارة إلى ملحوظتين:
1 - إن علماء الأمة ما كانوا يختلفون تشهياً، بل كان اختلافهم مبنياً على
اجتهاد.
2 - أن العلماء هم أقرب الناس إلى الله وأكثرهم خشية له، قال تعالى: [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] [فاطر: 28] ، وقد ظهرت آثار هذه الخشية
في فتاويهم وتورعهم عنها، قال سفيان: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا
في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بداً من أن يفتوا» .
أولاً: ذم الفرقة والاختلاف:
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم
مُّسْلِمُونَ (102) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 102-
103] ، وقال تعالى: [إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ ومَا اخْتَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] [آل عمران: 19] .
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن
الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم [2] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:» تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا « [3] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» ألا أخبركم بأفضل من درجة
الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن: تحلق
الدين!» [4] .
ثانياً: منهج الصحابة في مسائل الاجتهاد:
اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - في مسائل كثيرة، مع أنهم: (أبر
الأمة قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصحهم مقصوداً، وأكملهم نظرة، وأتمهم إدراكاً
وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد
الرسول [5] ، ولم يؤد هذا الاختلاف في يوم من الأيام إلى التباغض أو التقاطع، بل كان يعذر بعضهم بعضاً مع بقاء الألفة والمحبة) .
أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلى بنا عثمان بن عفان
-رضي الله عنه - بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رضي الله
عنه -، فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى
ركعتين، وصليت مع أبي بكر - رضى الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات
ركعتان متقبلتان [6] ، وزاد أبو داود:» قال الأعمش: فحدثنى معاوية بن قرة
عن أشياخ: أن عبد الله صلى أربعاً. قال: الخلاف شر « [7] ، وفي رواية
للبيهقي:» إني أكره الخلاف « [8] .
قال ابن تيمية:» وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها، على أن إقرار
كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح،
والمواريث، والعطاء، والسياسة، وغير ذلك. وحكم عمر أول عام في الفريضة
الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني التشريك في واقعة مثل الأولى، ولما
سئل عن ذلك؟ قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين
ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على
وجوب متابعتهم. وتنازعوا في مسائل عملية اعتقادية، ك: سماع الميت صوت
الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه قبل
الموت، مع بقاء الجماعة والألفة ... « [9] ..
وقال أيضاً:» ... وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا
تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]
[النساء: 59] ، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما
اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين،
نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة
خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ... وأما الاختلاف في
الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم
يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ... « [10] .
ثالثاً: منهج السلف الصالح في مسائل الاجتهاد:
اختلف السلف الصالح - رضي الله عنهم - في مسائل كثيرة جداً، ولم يكن
ينكر بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، بل كانت قلوبهم الكريمة السورة تتسع
لمثل هذه الأمور، وإليك بيان منهجهم:
قال يحيى بن سعيد الأنصاري - وهو من أجلاء التابعين:» ما برح أولو
الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله،
ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه « [11] .
وقال سفيان الثوري أيضا:» ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني
أن يأخذ به [12] .
وقال يونس الصدفي: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون
إخواناً وإن لم نتفق في مسألة» [13] .
قال الذهبي تعليقاً على كلام الإمام الشافعي: «هذا يدل على كمال عقل هذا
الإمام، وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون» .
وقال أحمد بن حنبل: «من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على
مذهبه ويشدد عليهم» [14] .
ومن لطيف ما أثر عن الإمام أحمد بن حنبل في هذا الباب قوله: «لم يعبر
الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن
الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً» [15] .
وقال ابن قدامة المقدسي: «لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات» [16] .
قال ابن تيمية: «مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر
عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه» [17] .
وقال أيضاً: « ... فأما أن هذه المسألة - يعني: الاختلاف في ذبائح أهل
الكتاب - أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر
على الآخر بغير حجة، فهذا خلاف إجماع المسلمين ... فقد تنازع المسلمون في
جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب
القول الآخر إلا بحجة شرعية.
وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها
غير الله، وفي شحم الثرب والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر، كالإبل والبط ونحو
ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا، ونحو ذلك من
مسائل.
وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين، فمن صار إلى قول مقلداً
لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلداً لقائله. لكن إن كان
مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت» [18] .
وقال شمس الدين الذهبي: « ... ثم إن الكبير من أئمة العلم إذ كثر صوابه
وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه: يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته
وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك» [19] .
وقال ابن قيم الجوزية: «.. ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن
الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله
بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز
أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين» [20] .
رابعاً - عدم الإنكار لا يؤدي إلى ترك البيان وإظهار الحجة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر
باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية،
فمن تبين له صحة أحد القولين: تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار
عليه» [21] .
وقال أيضا: «ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة،
وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل
الجهل والأهواء» [22] .
خامساً - الاجتهاد السائغ لا يؤدي إلى التفرق والبغي:
قال ابن تيمية: «.. ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع
البغي لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: [ومَا اخْتَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] [آل عمران: 19] . وقال: [إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] ، وقال: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] [آل عمران: 105] .
فلا تكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي» [23] .
وقال أيضاً: «قاعدة: في صفات العبادات التي حصل فيها تنازع بين الأمة
في الرواية والرأي، مثل: الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر،
والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف، ومثل التمتع
والإفراد والقران في الحج، ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة
والشعائر أوجب أنواعاً من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون:
أحدها: جهل كثير من الناس أو اكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه
الله ورسوله، والذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته والذي أمرهم
باتباعه.
الثاني: ظلم كثير من الأمة أو اكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم، تارة
بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما
أوجب الله من حقوقهم وصلتهم -لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى
يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخراً عند الله
ورسوله، ويتركون من يكون مقدماً عند الله ورسوله لذلك.
الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مديناً باتباع
الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من
الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن أهل السنة والجماعة،
كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم.
وقد قال تعالى في كتابه: [ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَذِينَ
يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ] [ص: 26] .
وقال في كتابه: [ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً
وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ] [المائدة: 77] .
الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير
بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى
يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللمز والهمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي
والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض،
وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماع والائتلاف من
أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله.
وهذا الأصل العظيم وهو: الاعتصام بحبل الله جميعاً وأن لا يتفرق، هو من
أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في
مواطن عامة وخاصة.. وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها،
هو: التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها
وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده
الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك. لكن يعلم أن
رعايته من أعظم أصول الإسلام، ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من
هذه الأمة بالسنة والجماعة، ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول
ذكره، وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو
الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة ... » [24] .
سادساً: وقال في أن الاختلاف في المستحبات لا يؤدي إلى التفرق بل ينبغي
تركها تأليفاً للقلوب:
«.. وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب علم الاجتماع على جواز ذلك
وإجرائه، ويكون ذلك بمنزلة القراءات في القرآن؛ فإن جميعها جائز، وإن كان
من الناس من يختار بعض القراءات على بعض، وبهذا يزول الفساد المتقدم، فإنه
إذا علم أن ذلك جميعه مجزئ في العبادة لم يكن النزاع في الاختيار ضاراً، بل قد
يكون النوعان سواء، وإن رجح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدها أفضل لم
يجز أن يظلم من يختار المفضول ولا يذم ولا يعاب بإجماع المسلمين، بل المجتهد
المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين. ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة، ولا أن
يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور
أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة
الواجبات يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك. ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو
تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً، وذلك أفضل إذا كان مصلحة ائتلاف
القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، وقد أخرجا في الصحيحين: عن عائشة أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:» لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية
لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه وباباً
يخرجون منه « [25] . وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد
يترك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها، ولهذا نص الإمام
أحمد على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا كان
بالمدينة، قال القاضي: لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها للتأليف وليعلمهم
أنه يقرأ بها، وأن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة
الجنازة.
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، وبهذا يزول الشك والطعن، فإن الاتفاق إذا
حصل على جواز الجميع وإجزائه علم أنه داخل في المشروع، فالتناوع في
الرجحان لا يضر، كالتنازع في رجحان بعض القراءات وبعض العبادات وبعض
العلماء ونحو ذلك، بل قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاً من القراء أن
يقرأ كما يعلم، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك، فمن خالف في ذلك كان ممن ذمه
الله ورسوله، فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك [26] .
سابعاً - المسائل التي يسوغ فيها الإنكار والمسائل التي لا يسوغ فيها الإنكار:
تنقسم المسائل التي اختلف فيها إلى قسمين:
القسم الأول: ما يسوغ فيها الإنكار، بل يجب في بعض المسائل، وذلك إذا
خالف القول نصاً - من كتاب أو سنة - قطعي الدلالة، أو إجماعاً صحيحاً، كمن
يقول بتحليل الربا، أو شرب الخمر، أو ينحرف عن منهج أهل السنة والجماعة
في باب العقائد المجمع عليها.
والقسم الثاني: المسائل التي لا يسوغ فيها الإنكار، كمسائل الاجتهاد التي لا
تتوفر فيها نصوص قطعية الدلالة، أو لا يوجد فيها نصوص بالكلية، وليس فيها
إجماع صحيح، ومن أمثلة ذلك:
1 - اختلاف العلماء في الذهب الملبوس هل تجب فيه الزكاة أم لا؟
2 - عدد ركعات صلاة التراويح.
3 - النزول إلى السجود هل يكون على اليدين أم على الركبتين؟
وغير ذلك من الأمثلة التي اختلف فيها السلف الصالح فما وسعهم يسعنا.
قال الإمام ابن القيم:» وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس
بصحيح. فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أو العمل.
أما الأول: فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً،
وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.
وأما العمل: فإن كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب
درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها؟ !
والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة
وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على
من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل
الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم،
والصواب: ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به
وجوباً ظاهراً، مثل: حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها - إذا
عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به - الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء
الأدلة فيها « [27] ..
الخاتمة:
في هذا العصر الذي تكالبت فيه قوى الشر من الشرق والغرب على المسلمين
يحتاج أهل السنة والجماعة إلى رص الصفوف وتكاتف الأيدي وتآلف القلوب ...
وإلى نبذ جميع أسباب الفرقة الوهمية التي ليس لها حظ من الأثر أو النظر، ونبذ
الأهواء والتعالي على حظوظ النفوس.. ينبغي أن تتسع صدورنا لمسائل الاجتهاد،
وأن لا تستهلكنا الاختلافات اليسيرة، وأن نترفع عن القيل والقال والجدل العقيم
الذي يقسي القلوب ويورث ضغائن القلوب، وقد قال المصطفى - صلى الله عليه
وسلم -:» ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل « [28] ، وإن أمانة
حمل هذا الدين وتبليغه للناس أمانة عظيمة، سوف نسأل عنها بين يدي جبار
السموات والأرض، [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء: 89] .
__________
(1) إعلام الموقعين: 1 /87 - 88.
(2) أخرجه: أحمد 3/313، 366، ومسلم 4/2166، والترمذي 1937.
(3) أخرجه أحمد 2/268، 329، 389، 400، 465، 483، ومسلم4/ 1987.
(4) أخرجه أحمد 6/444، وأبو داود 4919، والترمذى 2509، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/359.
(5) إعلام الموقعين 1/79.
(6) أخرجه البخاري: 1084، 1657.
(7) أخرجه أبو داود: 1960.
(8) أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى 3/144.
(9) قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية3/136.
(10) مجموع الفتاوى 24/172 - 173.
(11) جامع بيان العلم وفضله 2/80.
(12) الفقيه والمتفقه 2/69.
(13) سير أعلام النبلاء 10/16 - 17.
(14) آداب الشافعي ومناقبه للرازي ص 44، وحلية الاولياء 9/96.
(15) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/186.
(16) المصدر السابق 1/186.
(17) مجموع الفتاوى 20/207.
(18) مجموع الفتاوى 35/233.
(19) سير أعلام النبلاء 5/279.
(20) إعلام الموقعين 3/283.
(21) مجموع الفتاوى 30/80.
(22) مجموع الفتاوى 53/212 - 213.
(23) الاستقامة 1/ 31.
(24) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (3/115 - 117) ، وانظر قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (3/ 140 - 142) .
(25) أخرجه أحمد 6/57، 67، 92، 102، 113، 136، 176، 179، 239، 247، 253، 262، والبخاري 126، 1583، 1584، 1585، 1586، 3368، 4484، 7243، ومسلم 2/968 - 973.
(26) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 3/124 - 125.
(27) إعلام الموقعين 3/288، ونسب ابن مفلح نحو هذا الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الآداب الشرعية 1/186.
(28) أخرجه: أحمد 5/252، 256، وابن ماجه / 48، والترمذي / 3253، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع.(28/31)
البيان الأدبي
ثغرة الأدب بين دعاة الإسلام وخصومه
يحيى محمد رسام
ذكر الكاتب في الحلقة السابقة أهمية الأدب وخطورته، ومقدار ما يناله من
اهتمام العلمانيين، وبالمقابل ما يلقاه من إهمال الإسلاميين، وفي هذه الحلقة يذكر
المقترحات والملاحظات:
مقترحات للعلاج:
بعد أن تبين لنا خطورة هذه الثغرة واتساع مساحة ذلك الخلل، فإننا نطرح
بعض المقترحات التي نرى أنها ضرورية وإيجابية:
أولاً: على العاملين في الدعوة الإسلامية تشجيع الطاقات الشابة ممن يؤنس
فيهم ميل إلى الأدب، ودعوتهم إلى التخصص في الدراسات الأدبية والإعلامية،
ليؤدوا من خلالها واجبهم الدعوي.
ثانياً: دعوة الأدباء الإسلاميين للعمل على تشجيع المواهب الناشئة
واحتضانها، وتنمية الجانب الأدبي لديها ودفعها لمزيد من الصقل والتطوير، عن
طريق الإشادة مرة، والنقد الأدبي مرة أخرى.
ثالثاً: العمل على إيجاد مجلة أدبية أو أكثر تختص بالأدب وفنونه ونشر
الدراسات الأدبية والنقدية، وعن طريقها يتم التواصل بين الأدباء، كما يتم
التعارف والتعاون.
رابعاً: السعي لإقامة ندوات أدبية وإحياء أمسيات شعرية، يدعى لها الأدباء
والشعراء والنقاد، وتعالج فيها قضايا الأدب الإسلامي.
خامساً: إفساح المجال لركن الأدب والثقافة والنقد الأدبي في الصحف
والمجلات الإسلامية، ودعوة كل قادر للمشاركة بالكتابة، وأن يتولى تحرير تلك
الأبواب في الصحف والمجلات أصحاب نفوس مليئة بالأمل وسعة الأفق.
ملاحظات لابد منها:
1- يلاحظ على بعض أدبائنا - وخاصة الشعراء وكتاب القصة - أنهم
يحصرون قراءاتهم في جوانب معينة من الثقافة، مع أنه من الأهمية بمكان أن
يكون الأديب المسلم على اطلاع واسع بإنتاج الشعراء والأدباء من كل مكان،
وخاصة مشاهير الأدباء العالميين، ممن ترجمت بعض آثارهم إلى العربية، وأما
من لديه القدرة على متابعة إنتاج أولئك في لغاتهم الأصلية، فذلك أدعى - بلا شك
- إلى أن يرفد الأديب المسلم ثقافته ويوسع آفاقه [1] ، والأدباء المسلمين من غير
العرب هم أولى الناس بأن يطلع على إنتاجهم.
2- إن بعض الأدباء المسلمين لا يتعرضون بالقدر الكافي للقضايا الحيوية
التي تعيشها الأمة، أو بتعبير آخر: تنقصهم الجرأة في معالجة بعض الأحداث
المعاصرة أو التطرق إلى معاناة الجماهير اليومية، فمثلاً قضية الحرية لا تعطى
حجمها المطلوب، كما يطرحها أعداء الإسلام، وإن كان طرحهم لها مشوهاً
ناقصاً [2] .
الأدباء الإسلاميون وممارسة النقد:
على الكبار من الأدباء أن يلتفتوا إلى عامل مهم من عوامل نشر الأدب
وتوسيع قاعدة قرائه، وهو أن يمارسوا (النقد الأدبي) على أوسع نطاق، فيتناولون
إنتاج الأدباء الآخرين بالدرس والنقد الصادق والمحايد، وجوانب التميز أو الضعف، وبيان ما تحتويه تلك الأعمال من مضامين وأفكار، ولعل القصور في هذه القضية
أوضح من عين الشمس - كما يقال -، ولعل من ملامحها تلك الشكوى المرة التي
يتحدث عنها بعض الأدباء الإسلاميين، وفحواها أن العلمانيين حاصروهم إعلامياً
خلال العقود الماضية ولا يزالون، ونذكرهم أن الأديب والشاعر إذا لم يجد من
يعرف الجمهور بأدبه فلن يجد من يقرأ له، وبالتالي يموت إبداعه، ذلك أن مهمة
الناقد هو أنه يمثل جسراً بين المبدع والقارئ، وإذا كان كبار أدبائنا يجأرون
بالشكوى من تجاهل النقاد لهم، فلماذا يمارسون نفس الدور مع إخوانهم الشباب،
فلا يشيدون بمن يتمتع بمواهب أدبية، ولا يدعون لقراءة إنتاجهم، وما من إنسان
إلا وترتاح نفسه لكلمة تشجيع أو استحسان، وهذا شيء فطري، بشرط أن لا
يخرج هذا التشجيع إلى دائرة الملق والإطراء الكاذب.. ونحن لا نريد الإشادة
بالمحاسن فقط، بل نريد من يتعقب جوانب النقص والقصور، والمهم أن لا يكون
هناك إهمال.
وإنها لمسؤولية تتحملونها، وما ندعوكم إليه هو جزء من حق إخوان لكم،
وإذا أردتم أن تستفيد الأجيال من إنتاجكم فعليكم ممارسة النقد الأدبي، وغربلة إنتاج
الأدباء، سواء الرافضين للإسلام أو الناشئين من الشباب المسلم؛ وإن ما ينشر من
سموم مقلدي الغرب أو الشرق لهو بأشد الحاجة إلى نقد أدبي قوي مستوحى من
ينابيعنا الصافية.
__________
(1) نتكلم عن الأديب المسلم المحصن بطبيعة الحال أمام الشكوك والشبهات، أما من لا يزال في مرحلة البناء الفكري فنخشى عليه أن يخدع أو تنطلي علبه بعض المفاهيم.
(2) لا شك أن العلمانيين توفر لهم فرص للعمل في وسائل الإعلام ومراكز الثقافة ودور النشر الكبرى، حتى إنك تجد بعضهم يترك مهنته الأساسية ويتفرغ للأدب، ثم يدعى للمشاركة في - المؤتمرات وتقام له الأمسيات، وعندما يهاجمون الاستبداد في بلد ما يخضعون له ويتملقون له في بلد آخر.(28/43)
البيان الأدبي
درب الأخوة (شعر)
أبو معاذ الخالدي
أشجان قلبي في صماخك تخفق ...
شعراً على سنن الهدى يتألق ...
أسعى لأفرغ في القصيد مشاعراً ...
فياضة.. فيصد عني المنطق ...
يا إخوتي درب الأخوة روضة ...
غناء ... فيها كل غصن مورق ...
يتفيأ الأحباب تحت ظلالها ...
نزلاً ... به الأنداء جذلى تعبق ...
حبي لكم - يا إخوتي -لما يعد ...
سراً ... وكيف؟ وكل عين تنطق! ...
بمحبة الله العلي ... أحبكم ...
حباً على جنبات قلبي يشرق ...
ولكل فرد في الفؤاد مكانه ...
ما ضاق عنه القلب ... وهو الضيق! ...
***
نفسى الخؤون تجرني نحو الثرى ...
والطين ... والروح الأبي يحلق ...
وأظل بينهما كنسر طائر ...
حيناً.. وحيناً في الحضيض يصفق ...
رباه عبدك مذنب قعدت به ...
آثامه ... فهو الأسير الموثق ...
إن لم تداركه بسابغ رحمة ...
فخساره بين الأنام محقق ...
أستغفرُ الله العظيم جرائراً ...
فيها كتاب بالحقيقة ينطق ...
***
في بطن أمك -يا نسي -تتابعت ...
آلاؤه، فهو الكريم المغدق ...
وبظهر آدم موثق أعطيته ...
ألا تضل ... فهل يخان الموثق؟ ...
وأتيت دنياك - التي علِّقتها ...
نضواً، حقير الشأن، حياً ترزق ...
لو هبت النسمات أزعج مسها ...
بشراً ... يكاد لمسها يتمزق! ...
فإذا استويت نسيت سابغ فضله! ...
وهو الذي يولي الجميل ... ويرزق ...
***
يا إخوة الدرب الظليل تحية ...
للراحلين ... وكم جديد يخلق!(28/46)
البيان الأدبي
صور من الحياة
د.عمر عبد الله
ما إن أخذت مكاني من الطائرة، حتى رأيت ذات الرجل ... كان أكثر
المسافرين حديثاً وانشراحاً ... ولم يترك فرصة لتقديم المساعدة لأحد إلا بادر..،
وعلى الرغم من جسده النحيل وقامته الصغيرة، فإنه بدا أكثر أهل الحافلة الجوية
نشاطاً!
أقبل نحوي وقال: يبدو أنك صديقي في الرحلة..، ومرافقي في المقعد. -
أجبت: يبدو ذلك.
استقر على الكرسي المجاور.. وتنهد ثم قال:
- كم من الوقت ويحل وقت المغرب؟
- ربع ساعة.
- اللهم يسر ولا تعسر.. لقد كان الجو لطيفاً اليوم.. حمداً لك يا واهب النعم. أخذ في ترتيل دعاء السفر ... ثم التفت إلي قائلاً:
- أتعرف أنني تعلمت هذا الدعاء من مذيع الطائرة ... جزى الله خيراً من
بادر لنشره وإذاعته.
-- يبدو أنك تسافر كثيراً؟ .
- نعم.. كل أسبوعين.. كل نصف شهر أسافر إلى الرياض لأخذ
«الكيماوي» .
- الكيماوي؟ !
- علاج.. لقد ابتليت بمرض خطير ... انظر ... ثم وقف يريني ندباً من
أثر الجراحات التي بدت متعددة.. استأصلوه من البطن لكنه انتشر في بقية الجسم
بعد عامين من العملية.. قضاء.. وقدر..!
-الحمد لله على كل حال.
وأخذت أسترسل معه في الحوار، فعرفت أنه فراش في دائرة حكومية وأنه
أب لسبعة أطفال أكبرهم في التاسعة، وبقية ذريته من الإناث، ثم تابع:
- تعرف يا أخي.. إن نعم المولى كثيرة..، ووالله إنني بخير.. أشعر أنني
بنعمة مادمت أدب على الأرض، وعقلي معي ولساني يلهج بالثناء لصاحب المجد
والملكوت.
سألته وقد كانت هيأته تدل على ضعف الحال:
- هل تملك داراً لك ولأولادك؟
- يا «مطوع» السعيد هو الذي يملك داراً هناك في الفردوس.. أما هنا
فالديار عارضة!
كان يصر على مناداتي بلقب (يا مطوع) وحينما أعلن دخول وقت الإفطار
أصر على أن لا ألمس أكل الطائرة قائلاً:
- أكل خواجات يا مطوع ... لا يصلح لنا، هاك التمر الحقيقي.. دع عنك
«المعلب» ! .
- كلاهما خير.
- نعم ولكن حلفت عليك إلا أن تأكل.
- شكرته وأكلت من قصعته ... فإذا به يفاجئني وقد أخرج قرطاسا مليئاً
«بالسمبوسة» وأقراص «الفلافل» .
- سم الله وكل يا مطوع.
- جزاك الله خيراً.
- أبداً يكفي اثنين، دائماً أحضر فطور جاري في المقعد.. أتعرف أجر
المفطر.. لا شك أنك تعرف يا مطوع..
- دعوت له وأخذت تحت إلحاحه آكل وأتحدث معه عن أسرته ومصاعبه
المادية فبدا إيمانه عميقاً، وتوكله مطلقاً مع ما يواجهه من نوائب.
- تعرف أنني لا أملك بيتاً ولكني مطمئن.. مطمئن تماماً لو نزل القضاء
قريباُ.
-كيف، هل هناك أقرباء يرعونهم؟
- يا مطوع.. كنت أحسبك ستفهم.. وراءهم من يطعم الطير في أعشاشها
ويرزق الأجنَّة في الأرحام.. لن ينساهم ربهم..، إنني أتركهم في حال أسعد من
حالي حين تركني والدي يتيماً ... دع عنك المستقبل وتأمينه.. لا يؤمن القادم إلا
رازق كل ذي كبد رطب! !
- صدقت، لكن الأسباب مطلوبة..
- علم الله أنني لم أقصر ... هاأنذا أقطع رحلتي السبعين طلباً للعلاج ...
وهاهم أهلي يطلبون مني أن أقلل من جهدي بسبب المرض.. إنني أعمل «قهوجياً» في حفلات الأعراس ... وهي مستورة ... مادام أنه رزق شريف، وكدح
لا يعيب.. فأنا بخير.
استمر الحديث حتى قطعته إطارات الطائرة وهي ترتطم بالأرض.. ولا
أدري لماذا شعرت بالارتباط بهذا الإنسان البسيط، لقد تعلمت منه معاني عظيمة
نعرفها جميعاً، لكن لا يطبقها أو يمارسها بتلك القناعة سوى من رزقوا توكل الطير
الخماص وهي تغدو، كم كان رائعاً وهو يضع مفاهيم القدر والسبب، وكم كان
مقنعاً وهو يعيش النظرية والتطبيق بلا انفصام، كم كان كريماً وهو الفقير، ومقداماً
وهو الضعيف، وشريفاً وهو المكافح، ومطمئناً في عصر القلق..
ودعته وأنا أقول كما قال أحد العلماء: «اللهم امنحني إيماناً كإيمان العجائز» وتفارقنا.. وأنا أصر أن يقبل دعوتي لإيصاله للمستشفى وهو يجيب بلهجة
حازمة:
- سائق سيارة الأجرة ينتظرني.. إني أعرفه، وأنا أعينه وهو أبو العيال
عندما أنقده الأجرة.. لا جعلك الله سبباً في قطع رزق محتاج! ! !
حقاً كم هو عظيم هذا الدين وهو يحول هذه الشخصيات إلى أمثلة للفطرة
السليمة والإيمان العميق في عصر القلق والبعد عن الله.(28/48)
البيان الأدبي
جناية الاستغراب على الأدب العربي
خميس بن عاشور
لكل أدب من الآداب خاصية وميزة يتميز بها عن غيره، ولا تكون شخصية ...
الأدب واضحة ما لم يتحلَّ بهذه السمات الخاصة، ولا يعقل أن يتقمص أدب معين
جميع الخصائص الفنية للآداب المختلفة في جميع العصور، مثلما يريد المحسوبون
على الأدب العربي، فهو عندهم تارة أدب شرقي؟ وطوراً أدب غربي، وفي
أحسن الأحوال يجمع بين هذا أو ذاك بأسلوب مبتكر ...
إن اللغة العربية لا يسعها أن تقحم في كل الميادين الفكرية المعاصرة إلا
مكرهة، لأن الكاتب العربي المستغرب ليس بمقدوره الاستغناء عن أداته في التعبير «اللغة (، هذه اللغة التي ترتبط بمفاهيم عقدية ارتباطاً وثيقاً، وأول هذه المفاهيم تلك التي تضمنها القرآن الكريم، الكتاب الأول للعربية بلا منازع.
فبأي حق تظل الميادين التي تجد فيها العربية ذاتها مهجورة؟ ! وما ذنب هذه
اللغة إذا ما انحط أهلها وتخلفوا عن ركب التقدم؟ .
نستطيع أن نقول: إن التراث يدخل في صميم التركيب الذي يتكون منه
الأدب العربي، ومع ذلك فلا نحتاج إلى من يذكرنا بضرورة المعاصرة؛ لأنه لا
يخطر بلب العاقل أن العربي عندما ينشئ أدباً سيعمد إلى مقبرة فيلقي على سكانها
من الأموات ما جادت به سليقته وما فاضت به مخيلته.
لقد دأب المستغربون على تشويه شخصياتنا التاريخية عن طريق إحياء
أكاذيب القصاص وشعراء الشعوبية، حتى ترسخت بعض المفاهيم الهدامة التي
تخدش نزاهة وكرامة أبطالنا التاريخيين الذين قادوا الحضارة الإنسانية ... ولم يبق
للمستغربين إلا أن يدعونا صراحة لدخول جحر الضب، حتى تكتمل بذلك أمنيتهم
الغالية. وماذا أفاد» جورجي زيدان «في رواياته التاريخية التي هي انعكاسات
لعقيدته وفكره المستغرب الذي يدعم به آراء المستشرقين.
إن الإسلامية أشمل وأعم من تلك المفاهيم الضيقة التي يعتنقها من لا تعنيهم
هذه المسألة من المستغربين عامة، فالأدب العربي أدب إسلامي كذلك، وبالتالي فهو
أدب عالمي تبعاً لعالمية الإسلام، وهو بذلك لا يحتمل بعض المحاولات الذليلة
لجعله إقليمياً انعزالياً، كما يريده عبيد المدرسة الاستغرابية.
وهناك قضية أخرى وهي العالمية، فالعالمية فكرة نسبية تعتمد على مقاييس
الذوق الغربي، فالأدب العالمي بالمفهوم السائد هو الأدب الذي ترضى عنه الأذواق
والمقاييس الغربية، فالعالمية هي ذلك الطوق الذي يجعله الأديب المستغرب في
عنقه ليصل إلى هذا الهدف الكبير، وهو الحظوة بدخول جحر الضب..! ، ومما
لا ريب فيه أن متعصبي نصارى العرب من هذه الحيثية ليسوا أمناء على العربية؛
لأنهم عاجزون عن الدخول في كل الميادين التي تميز الأدب العربي منذ القديم.
وربما يتساءل البعض عما قدمه نصارى العرب الأولون سواء في الجاهلية أو في
الإسلام، والجواب هو أن مساهمة الأقدمين كانت لصالح اللغة العربية التي كانت
قوية بقوة الثقافة الإسلامية آنذاك، أما اليوم فلا يمكن أن تكون هذه المساهمة كذلك
بعدما أصبحت الغلبة للثقافة الغربية ذات العقيدة النصرانية في عمومها، ومادام
الصراع الثقافي اليوم قائماً بين الغرب القوي المسيطر وبين غيره من الثقافات -
التي منها ما ذاب في بحار التغريب، ومنها ما يذوب ومنها ما هو باق يتحدى
عوامل الإفناء كالعربية - أمام هذا الصراع فإنه ليس للأديب اليوم من خيار إلا أن
ينحاز إلى فئة من الفئتين، أما محاولة التوفيق فهي مسبقاً في كفة الغرب الراجحة.
ومن هنا كثرت القواقع والحفريات الممسوخة التي تحس ترجيع أصوات
الرياح التي تخترقها بشكل وتخرج بأشكال مختلفة..
إن الأدب الذي يسمونه تراثياً - رغم رداءة بعضه - هو في الحقيقة أدب حي؛ لأنه - وإن كان نبتة ضئيلة - يمتلك جذوراً يستقي بها مادة الحياة. وعلى العكس من ذلك فإن حياة الشجرة التي اجتثت من تربتها الأصلية إلى تربة أخرى غريبة عنها موقوفة على مدة بقاء الماء في عروقها وأوراقها، والأدب الذي ينتمي إلى المدرسة الاستغرابية هو أدب ميت، أو هو في طريقه إلى هذا المصير البئيس،
وذلك لمجرد ما تنتهي مهمته المتمثلة في التبليغ؛ لأن المثقف الواعي لا يحبذ
القراءة لصور منقولة، بل يلجأ إلى الأصل ليقرأ الأدب الغربي بلغة غربية.
فالحروف العربية المقحمة في هذا الأدب هي حروف شكلية، وتحف فنية
جميلة مجردة عن الحياة لا مناص من توظيفها مؤقتاً، حتى يصل المارد الغربي
فيجوس خلال الديار، وقد مهد لذلك وكلاء الغرب عندنا بالدعوة للعامية والإقليمية
والتأليف على منوال هذا المنهج التفكيكي. وقد يخرج هؤلاء بين الفينة والفينة،
لإحداث بعض الزوابع الفكرية والثرثرات الأدبية سرعان ما تقوم مكبرات الصوت
المستغربة بتفخيمها إلى درجة الثورات التجديدية؛ والمعارك والحروب الأدبية،
تارة بمنح الوسام الفلاني للأديب الفلاني؛ لأن عبقريته أوصلته إلى سب عشيرته
واللهو بآثارهم وآدابهم، وتارة بإيثار الكاتب الفلاني بالجائزة الفلانية؛ لأنه أحدث
بدعة في مسار الأدب والفكر العربيين، حتى أضحت هذه المكرمات دليلاً كافياً على
العمالة والردة الفكرية.
إن أفضل الجسور التي يمر عليها الغرب هم عبيد المدرسة الاستغرابية،
ولاسيما نصارى العرب الذين يمثلون نسبة لا تعكس كونهم أقلية من ناحية العدد،
ولكنهم من جانب آخر نصارى، كما هي عقيدة الغرب الدينية. فهم إذاً لا يجدون
من الحرج ما يجده العرب الآخرون عند الاحتكاك بالثقافة الغربية التي تحن إليهم
ويحنون إليها، ولا يفعل مثل ذلك العرب المنتمون إلى الإسلام إلا وفي نفوسهم عقد
كثيرة، فغياب هذه العقد عند نصارى العرب جعلهم القنطرة المفضلة للعبور
والتلاقح ثم الذوبان البارد..
إن المستغربين لا يستطيعون قراءة التراث بغير عقولهم النابتة على أصول
الغرب، ولذلك جاء أدبهم خالياً من الوجدان العربي، ميتاً موتاً معنوياً، وهذا ما
يجعلنا نجزم بأن غير العربي المسلم لا يمكن أن يكون أميناً على العربية وآدابها..
إن كثرة الإنتاج النقدي لا تعكس التطور الحقيقي للإنتاج الأدبي الإبداعي،
وخاصة بعدما أفل نجم الأسلوبيين من أمثال الرافعي والمنفلوطي ومحمد البشير
الإبراهيمي، وقد تكون العلة هي أن الإبداع في الأدب العربي لا يتحقق في معزل
عن التراث، فالإنتاج الأدبي اليوم تغلب عليه الانتماءات المختلفة التي تصب في
مجملها في بحر الثقافة الأوربية، هذه الانتماءات التي يجمع أغلبها على التنكر
للتراث والعبث به، كلما سنحت بذلك فرصة، وهذا ظناً بأن ذلك كفيل بتحقيق
الإبداع الذي يرضى عنه الغرب، ولكن النتيجة كانت تراجع الإبداع الأدبي، وتقدم
الإنتاج الفلسفي التأملي المشبع بأخلاط من العقائد والنحل، حتى وإن لبس هذا
الانتاج أشكالاً أدبية مختلفة، وكذلك فإن سيطرة المدرسة الاستغرابية اليوم على
الأدب والنقد رسخ هذا التوجه المنحرف الذي تستحسنه الثقافة الغربية؛ لأنه يضع
لها وبدون مقابل أفضل الموصلات التي تنقل مضامين هذه الثقافة إلى الشعوب
المختلفة واضحة وضوح كل لغة لدى أصحابها؛ لأن هذه الشعوب تمثل المجال
الحيوي لانتشارها الاستعماري في زيه القشيب، وعلى العكس من ذلك فإن الاتجاه
نحو الإبداع باعتماد سبله السليمة يقوي الآداب الأهلية ويحميها من الانحلال في
الآداب الغازية.
إن بعض الأساليب التي توظف الحرف العربي، إن لم تكن ترجمات رديئة ...
لقراءات مستغربة - كحال بعض» المسارات [1] الفكرية العميلة لوكالات الغرب
- فهي دون شك تثير التقزز والآلام؛ لأننا سنضطر إلى استرجاع معلوماتنا في
التحليل النفسي لكي نعثر على الحلول والتوفيقات الملائمة لما يصادفنا من عقد
لاشعورية هي نتيجة لعدم القدرة على نسيان ما في هذه اللغة نسياناً تاماً، مع
الشعور بالضآلة والقزمية أمام محتويات الفكر والثقافة الغربية الباهرة، ولا ندري
لماذا لا تثير الميادين البناءة -بالنسبة لنا- في الفكر الغربي كلف المستغربين
وشغفهم، فهم لا يستوردون إلا ما يجعلنا نتمرغ في تربة الغرب، حتى لا نرفعها
مرة أخرى، وقد يطرق بعضهم أحياناً أبواب الديار ولكنه يتخطى الأزمان، لكى
يجد نفسه مستريحة إما مع الفراعنة بناة الأهرام، وإما مع الفينقيين أو الوندال.
وفي غياب من الحركة النقدية العربية الأمينة فقد تجرأ الكثيرون على اختراق حدود
الأدب والفكر العربي، وصنع أجهزة الدعاية والإعلام الموجه من السخفاء والتافهين
عمالقة.
__________
(1) مجلة (المسار المغربي) تصدر في الجزائر وهي مثال نموذجي لذلك.(28/51)
تاريخ
الطبقة الخامسة من الصحابة
في كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد
«عرض وتحليل»
د. محمد بن صامل السلمي
إن الغالبية العظمى من مصادرنا التاريخية من أمثال، مغازي ابن إسحاق،
ومغازي الواقدي وطبقات ابن سعد، وأنساب الأشراف، وفتوح البلدان، وتاريخ
الطبري، وتاريخ بغداد، وتاريخ دمشق، قد دونت على منهج الجمع والتقميش، لا
على منهج التحديث والتفتيش، على حد قول الناقد البارع يحيى بن معين: إذا
كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش [1] .
فلا يستغرب الباحث الناقد وجود مجموعات من النصوص والأخبار الدخيلة
والموضوعة في هذه المصادر وأمثالها، مما دون على هذا المنهج؛ لأنه قد قام على
اختراع ونشر وإذاعة هذه النصوص الباطلة جيش كثيف من أصحاب الأهواء
والحاقدين على دين الإسلام وأهله، وأصحاب الاتجاهات البدعية تشويهاً لتاريخنا
وتأييداً لأهوائهم ونحلهم الباطلة.
وهذه النصوص والأخبار الموضوعة هي إحدى الوسائل التي استخدمها
المستشرقون في تشويه تاريخنا الإسلامي، كما أننا نجد صداها - مع الأسف - في
بعض الكتابات التاريخية المعاصرة.
ولذا فإن الأمر يتطلب من الباحثين صرف الهمم إلى تحقيق هذه المصادر
والعناية بها، وتمييز صحيحها من سقيمها على مثال ما تم في ميدان السنة النبوية،
حتى تعرف النصوص الباطلة، ويكشف ريفها ويصحح ما بني عليها من أحكام
ونتائج، وذلك على ضوء القاعدة الذهبية التي قررها علماؤنا: «إن كنت ناقلاً
فالصحة، وإن كنت مدعياً فالبرهان والدليل» .
ومن المعلوم أن مجرد وجود الخبر في كتاب أو مصدر دون على منهج الجمع
والتقميش لا يجعله صحيحاً، ومن ثم فلا يعفى من يستدل به من المسؤولية والتبعة
ما لم يتأكد الباحث من صحته أو يقف على ما يؤيده.
وكتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد البصري المتوفى سنة 230 هـ -
والمشهور بكاتب الواقدي - يعتبر من أوسع المصادر وأقدمها في تاريخ الصحابة،
وصدر الإسلام، وفي هذه المقالة نعرض لدراسة الطبقة الخامسة من الصحابة في
هذا الكتاب [2] وذلك في النقاط التالية:
- أهمية هذا القسم من كتاب الطبقات.
- منهجه في عرض المادة العلمية.
- دراسة تحليلية لهده الطبقة.
أهمية هذا القسم من كتاب الطبقات:
يحتوى هذا القسم على تراجم صغار الصحابة - رضي الله عنهم -، ومعرفة
هذه الطبقة من الصحابة مهمة في علم الحديث، حتى يعرف اتصال الرواية أو
إرسالها، لأن بعض هؤلاء الصحابة ليس لهم سماع ورواية عن النبى - صلى الله
عليه وسلم -، وإنما لهم رؤية وإدراك، وبعضهم لم يسمع من النبى - صلى الله
عليه وسلم - إلا القليل، فتكون أحاديثهم التي لم يسمعوها من النبي - صلى الله
عليه وسلم - من باب مرسل الصحابي الذي لم يسمعه من الرسول - صلى الله
عليه وسلم - مباشرة، وإنما سمعه من صحابي آخر، وبعض هؤلاء ينازع في
صحبته، وابن سعد يثبتها، وهذه فائدة.
كما اشتملت هذه الطبقة على تراجم وأخبار مجموعة من الشخصيات المهمة
والمؤثرة في الحياة العلمية والفكرية، والحياة السياسية والاجتماعية، فابن عباس،
والحسن، والحسين، وعبد الله بن الزبير بن العوام، من الشخصيات المشهورة في
التاريخ الإسلامي، والمؤثرة في مجرى الأحداث، وقد تزعموا قيادة المجتمع في
عصرهم، وشاركوا في إدارة الدولة الإسلامية، وفي الجهاد، وفي الأحداث
الداخلية، والقضايا العامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى
جمع شمل الأمه واتحادها، كما حصل على يد الحسن بن علي. كما قاموا
بالمعارضة لما رأوه خروجاً عن القاعدة الإسلامية وترك الشورى في الولاية ...
العظمى، كما فعل الحسين بن عليّ وابن الزبير من رفضهما البيعة ليزيد، ثم خرج
الحسين إلى العراق، فكانت المأساة العظمى بقتله، واعتصم ابن الزبير بمكة
رافضاً البيعة، حتى إذا مات يزيد دعا إلى نفسه، فبويع بالخلافة في معظم الأقاليم
الإسلامية، ولكن بني أمية ومن شايعهم لم يبايعوا له، بل عقدوا بيعتهم لمروان،
ثم لابنه عبد الملك، وجرت أمور عظيمة، حتى حوصرت مكة، وضربت الكعبة
بالمنجنيق، وقتل ابن الزبير مظلوماً في حرم الله.
وهذه الأحداث وقع في عرضها من الإخباريين والمؤرخين قديماً وحديثاً خلط
وتشويه، يحتاج إلى تحقيق وتحرير، وابن سعد بما عرض من المعلومات
والأخبار المسندة يساعد على إجلاء الصورة وتبين الحقيقة، والتمكن من نقد
المرويات على ضوء أسانيدها، وقد تحقق لنا هذا من خلال المنهج العلمي الذي
سلكناه في تحقيق نصوص هذه الطبقة، وقد وجدنا أن ابن سعد ينفرد بذكر نصوص
لا توجد عند غيره، سواء في باب الأخبار والوقائع، أو في باب الآثار عن
الصحابة - رضي الله عنهم - من الأقوال والأفعال، وبعض هذه النصوص بأسانيد
صحيحة، وبعضها بأسانيد يستفاد منها في الشواهد والمتابعات لنصوص أخرى،
فترفع درجتها، وبعضها بأسانيد ضعيفة جداً.
كما أن في الأحاديث والآثار التي أوردها في تراجم أهل هذه الطبقة والبالغة:
خمسة عشر وسبعمائة سنداً، يستفيد منها أهل العلم في زيادة الطرق وتقويتها لما
هو مروي عند غير ابن سعد.
وفي ترجمة ابن عباس أورد نصوصاً غاية في الأهمية، توضح المنهج الذي
ينبغي أن يسلك في معاملة المخالفين، وكيفية محاجتهم، وبماذا يحاجون؟ فقد
أرسله عليّ بن أبي طالب إلى الخوارج الذين أنكروا التحكيم، وخرجوا على عليّ
- رضي الله عنه - فقال له عليّ: اذهب إليهم، وخاصمهم، وادعهم إلى الكتاب
والسنة، ولا تحاجهم بالقرآن؛ فإنه ذو وجوه.
وفي النص الثاني: القرآن حمال ذو وجوه، تقول، ويقولون، ولكن حاجهم
بالسنن؛ فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج ابن عباس إليهم، فحاجهم بالسنن فلم
تبق بأيديهم حجة [3] .
فبيان الحق وإزالة الشبهة أول ما ينبغي أن يبدأ به مع المخالف، ثم إن
المحاجة والمناظرة في المسألة موضوع الخلاف لابد أن تكون على منهج واضح
صحيح، وبحجة بينة قاطعة للنزاع، ولذا قال عليّ: القرآن ذو وجوه، تقول،
ويقولون، أي في تأويل الآيات، ولكن السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
تحدد الوجه المراد من الآية، وعندئذ لا مجال للاجتهاد في تأويل المراد بالآية مع
وجود النص من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أورد نصوصاً توضح موقف بعض الصحابة، مثل: ابن عباس، وابن
عمر، من الأحداث التي جرت في وقتهم، مثل: بيعة يزيد، وخروج الحسين،
وبيعة ابن الزبير، فقد بايع ابن عمر وابن عباس ليزيد بن معاوية، ونصحا من لم
يبايع بالبيعة والدخول فيما دخل فيه عامة المسلمين، مع أنه يوجد في الأمة من هو
أفضل من يزيد وأولى بالأمر منه، ولكن لا يتوصل إلى ذلك إلا بارتكاب مفاسد
أعظم من المصالح التي تتحقق بتولية الأولى والأفضل، وقد نظرا - رحمهما الله -
إلى الأمر نظرة شمولية، فاختارا أخف الضررين جلباً لأكبر المصلحتين، وهذا هو
منهج الاعتدال الإسلامي في التعامل مع مثل هذه الأحداث، وقد التزما بهذه البيعة،
ولم يخلعا يزيداً عندما خلعه أهل المدينة، ولما دعاهما ابن الزبير إلى البيعة له بعد
موت يزيد قالا له: أنت في زمن فرقة وليس عندنا خلاف، ولكن ننظر حتى يتم
الأمر وتأتسق لك البلاد، كما أنهما لم يبايعا لعبد الملك الذي دعا إلى نفسه في الشام، ولا لمروان قبله، فتركا الأمر حتى يجتمع الناس على واحد، وهكذا ينبغي أن
يكون التعامل مع مثل هذه الأحداث، ينطلق من مبدأ شرعي ملتزم، ونظرة شمولية، توازن بين المصالح والمفاسد، بحيث تتحقق أكثر المصالح وتندفع أكبر المفاسد،
وما حمد الذين خرجوا موقفهم، وما تحقق ما أرادوا من المصالح إلا بارتكاب ما هو
أعظم من المفاسد، ولكنهم مع ذلك اجتهدوا فأخطأوا في اجتهادهم والله يثيب المجتهد
وإن أخطأ.
منهجه في عرض المادة العلمية:
لقد عرض ابن سعد مادته العلمية وفق منهج يتسم بالدقة، والأمانة،
والموضوعية، وجودة السبك والتنسيق، إلا في مواطن قليلة، قد يلاحظ فيها
التكرار، أو التعارض، وعذره في ذلك يعود إلى طبيعة الأسلوب العلمي الذي اتبعه
في تدوين المعلومات، والذي يقوم على الجمع والاستقصاء للروايات الواردة في
الموضوع الواحد، وتدوينها بالأسلوب الحديثي القائم على الإسناد لكل معلومة وإن
قل شأنها، والمستكثر للطرق وإن كانت المعلومة واحدة، وهذا الأسلوب يحقق
الموضوعية العلمية، فينقل إلى القارئ الأقوال، برواتها، وألفاظها، دون أن
يتدخل بالانتقاء والحذف، الذي يؤدي إلى سلك الموضوع في اتجاه معين وهذا لا
يجعلنا نعتقد أن دوره هو الجمع فقط، ذلك أنه مع الجمع قام بعملية التصنيف
والترتيب حيث وضع كل مادة علمية في موضعها المناسب، كما أنه مارس النقد
والترجيح [4] بين الروايات - بعد أن وضعها أمام القارئ، وحتى لا يلزمه برأي
محدد - ولكنه لم يكثر من هذا.
- ومن معالم منهجه الالتزام بالإسناد في غالب الكتاب [5] وأسانيده منها ...
المتصل، ومنها المرسل، ومنها المعلق، ومنها المنقطع، ومنها المبهم، مثل قوله: أُخبرت، ذُكر لي، روى قوم، قال بعض أصحابنا، قيل، روي، زعم بعض
الناس.
كما أنه يستخدم الإسناد الجمعي في الأخبار الطويلة، ثم يقطعه بأسانيد مفردة، ثم يعود لسياق الخبر الأساسي، بقوله: رجع الحديث إلى الأول.
- بعض التراجم مطولة [6] ، ويقسم الكلام فيها إلى مباحث وموضوعات،
ويجعل لها عناوين، وبعضها مختصراً جدًا [7] ، بل بعضها بدون ترجمة، ولعل
مرد هذا إلى عاملين:
أولهما: مدى أهمية الشخص المترجم له وأثره في الحياة العامة أو الحياة
العلمية.
وثانيهما: مدى توفر المعلومات عن الشخص المراد ترجمته، فبعض
الأشخاص تكون المعلومات عنهم كثيرة، وبعضهم ممن لا تتوفر عنه معلومات عند
المصنف على أقل تقدير.
يبدأ الترجمة بذكر الاسم، ثم يسوق النسب ويرفعه إلى القبيلة التي ينتسب
إليها، ثم يذكر أولاده، الأبناء والبنات، وأمهاتهم، ثم ينسب الأم ويرفع نسبها إلى
البطن أو القبيلة، إلا إذا لم تتوفر لديه معلومات.
ويوضح - غالباً - حال الأبناء من زواج وإنجاب، أو موت قبل الزواج، او
انقراض النسل، ويذكر
تاريخ ولادة المترجم له إذا توفرت المعلومات، ويذكر بعض شيوخه وتلاميذه، وبعض ما روى، وانتقاله من مصر إلى آخر.
ويذكر تاريخ وفاته، وسببها، ومكانها، وينهي ترجمة غير الصحابي -
غالباً- بالحكم عليه جرحاً وتعديلاً، وبيان منزلته عند المحدثين.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 11/85.
(2) وقد يسر الله لنا تحقيقها على منهج علمي معلوم مقررة قواعده وأصوله منهج المحدثين.
(3) انظر السند رقم (91، 92) في الطبقة الخامسة (مطبوعة على الآلة الكاتبة) ، وهما بمعنى واحد والنص صحيح أخرجه أحمد وغيره وإن كان ابن سعد رواه من طريق الواقدي.
(4) انظر: أمثلة لذلك في الطبقات: 3/245، 247، 449، 575، 583، 601، 626، والسند رقم 677، في الطبقة الخامسة.
(5) يقل استخدام الإسناد كلما اقتربنا من عصر المؤلف، وخاصة عن التابعين وأتباعهم في المناطق التالية: واسط، وخراسان، والمدائن، والرى، وقم، وهمدان، وبغداد، والأنبار، والعواصم والثغور، ومصر، وأيلة، وأفريقية، والأندلس.
(6) مثل تراجم الخلفاء الأربعة، وخاصة عمر، ومثل ترجمة ابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد الله بن الزبير، وبعض التابعين مثل: محمد بن الحنفية، وسعيد بن المسيب، وعليّ بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن البصري.
(7) انظر الطبقات: 5/245 - 252 و 7/226، 227، 7/245، 7/ 284، 285.(28/56)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
ماذا وراء انتصارات الجبهة الشعبية في مصوع
بلال محمد أحمد
ثلاثون عاماً مرت على الصراع الأرتيري الأثيوبي، ورحى الحرب مازالت
دائرة يتعاقب عليها الطرفان دون أن تسحق أحدهما نهائياً، وإن كان الطرف
الأثيوبي ظل يراهن على تصفية المقاومة الأرتيرية عسكرياً، بيد أن الأيام أثبتت
له ولغيره عدم جدوى هذه الفكرة، بل لمس بيده ما نجم عن هذه السياسة من مآسي
عمت أثيوبيا كلها، إذ كان من مضاعفاتها تفجر الثورات في إقليم تجراي، وأرمو،
وتفاقم الأزمات الاقتصادية وتضعضع الأمن، وفقد الاستقرار، وتردي الأوضاع
الاجتماعية، فالتشتت الأسري، ومظاهر التسول والتسكع كل ذلك من السمات
البارزة التي خلفتها المشكلة الأرتيرية على العاصمة الأثيوبية أديس أبابا حيث تجد
شعارات الحرب المعلقة على الأبنية الشاهقة والداعية إلى توجيه كل شيء إلى
ساحة القتال تظلل من تحتها أرصفة مليئة بالجوعى، والمتسولين.
ولم يأبه (منجستو) بكل معاناة شعبه وحصر دائرة تفكيره في الأرتيرية
عسكرياً إلا أن الجبهة الشعبية الأرتيرية التي أريد لها الانفراد بالساحة الأرتيرية
بددت أحلامه وحالت دون تحقيقها، وكانت جبهة «نادو» في الساحل الشمالي من
أرتيريا أبرز المواقع التي تحطم فيها كبرياء العدو الأثيوبي، تلتها انتصارات
مصوع الميناء الأرتيري الذي سقط مؤخراً على يد الجبهة الشعبية بعد مقاومة من
الجيش الأثيوبي لم تدم أكثر من ست ساعات تقريباً، حيث فوجئت القوى البحرية
الأثيوبية بزوارق تغرق سفنها القتالية ولم تمض لحظات إلا وصار الجيش الأثيوبي
بين قتيل وأسير وغريق ومحاصر في جزر دهلك [1] .
لقد بهرت هذه الانتصارات جموعاً كثيرة من الأرتيريين وهي بحق إنجاز
عسكري كبير إلا أن هذا لا يعني أن تمضي هكذا دون وقفة تأمل وتفكر، ورغم أن
العاطفة هي سيدة الموقف غالباً إلا أن النظرة الواقعية تزاحمها أحياناً، وأيا كان
مردود هذا الانتصار على القضية الأرتيرية، فإن عدة عوامل ذاتية وأخرى ...
موضوعية تجمعت لتجعل منه تاجاً يلمع على رؤوس الجبهة الشعبية الأرتيرية.
معاذ الله أن نغمط الناس حقهم وإن كانوا دعاة إلحاد وزندقة، فالتضحيات
المقدمة من قبل الجبهة الشعبية مصانة ومقدرة غير أن حجم ما منيت به من خسائر
يتضائل ويتصاغر لو قورن بأهمية الموقع واستراتيجيته، حيث لم ترق المقاومة
الأثيوبية للهجوم إلى مستوى أهمية الموقع، بل كانت ظاهرة الهروب
والاستسلام تسود الأوساط الأثيوبية المقاتلة، فهل في الأمر شيء ما؟ .
ثمة أمور تجري وراء الكواليس وهي جديرة بالاستنطاق والتقصي فعالمنا
اليوم مليء بالمتناقضات والمؤامرات التي تحيكها قوى الاستكبار العالمية لتحقق
مصالحها وأهدافها، والمرء حين يعود إلى الوراء قليلاً يجد العامل الأمريكي يحتل
موقع الصدارة من بين هذه العوامل، ثم تأتي بعد ذلك عوامل داخلية أخرى من
خلالها تبدو الجبهة الشعبية الفارس الذي لا يقهر.
فمند أن تآمر الأمريكان على القضية الأرتيرية في فترة تقرير المصير ظل
اهتمامهم بالمنطقة ينمو مع نمو الثورة الأرتيرية وتطورها، ولم يغب عن بالهم أن
يوماً ما سيحل تكون فيه مصالحهم على خطر وقد حدث بعد سقوط حليفهم
هيلاسلاسي عام 74 م أن تسلل الروس إلى أثيوبيا غير أن هذا التسلل وإن كان لم
يربك الأمريكان بشكل مفجع إلا أنه لم يجعلهم يغضون الطرف عن البحث عن
حليف لهم يؤمن مصالحهم ويقيهم شر نمو حركات إسلامية جهادية في منطقة تشهد
تمدداً إسلامياً، لذا شهدت الخرطوم عاصمة السودان حضور رجال الاستخبارات
الأمريكية يشاركون في عملية تهريب الفلاشا إلى إسرائيل، وفي ذات الوقت
يراقبون عن قرب وكثب حركة التحرر الأرتيرية بفصائلها المتعددة ويجمعون حولها
دراسات وتقارير، وعبر عملية معقدة ودقيقة للغاية استطاع الأمريكان أن يتخلصوا
من أعتى تنظيم يمثل توجهاً ماركسياً خطيراً ويحمل في ذات الوقت بين أحشائه
توجهاً إسلامياً، وآخر قومياً عربياً يمكن أن يكون لهما شأن إذا ما تركا ينموان
ويتكاثران ذلكم هو تنظيم جبهة التحرير الأرتيرية المجلس الثوري الذي لفظ أنفاسه
الأخيرة عام 1981م بعد أن ألقى عتاده العسكري أمام الجيش السوداني نتيجة
تعرضه لهجوم شكلي من الجبهة الشعبية.
ومنذ ذلك الحين خلت الساحة للجبهة الشعبية وانفردت وحدها بالجيش
الأثيوبي، تطارده من مكان إلى آخر، وتفرغت لتقوية بنائها الداخلي اقتصادياً
وعسكرياً، وشرعت في إبرام تحالفات مع قوى المعارضة الأثيوبية، لاسيما تلك
التي اتخذت من الولايات المتحدة موقعها الرسمي، وتولت أجهزة الاستخبارات
الأمريكية مهمة استمالة كبار ضباط الجيش الأثيوبي وقياداته العسكرية للسير وفق
الخطة الموضوعة لإسقاط منجستو، ومن هنا كانت العمليات العسكرية التي تشنها
الجبهة الشعبية على مواقع العدو الأثيوبي لا تلقى دفعاً قوياً، بل على العكس من
ذلك كان يرتب لها مسبقاً من القيادات العسكرية الأثيوبية المتآمرة، كما حصل في
موقعة «أفعبت» التي أسر فيها خبراء روسيون، وغنمت منها معدات عسكرية
هائلة.
وأشركت الجبهة الشعبية في محاولة الانقلاب التي نظمتها الاستخبارات
الأمريكية عام 1989 م على منجستو حيث أعلنت وقف إطلاق النار من جانبها،
وتفاعلت معها بحماس.
وسبق هذه الأنشطة العسكرية تحولات جذرية أتت على التنظيم من قواعده،
وجعلت منه يميناً متطرفاً بعد أن كان يساراً، حيث قرر في مؤتمره الأخير الذي
عقد عام 87 م إدانة السياسة السوفياتية العالمية بإصرار من الأمين العام (إسياس
أفورقي) الذي وصف السوفيات بالوقوف أمام نضالات الشعوب على المستوى
العالمي وخاصة القرن الأفريقي، ولم يبد المؤتمر اعتراضاً على السياسة الأمريكية
المعادية لتحرر الشعوب الأفريقية والأسيوية، في حين أن تصريحات ما قبل هذا
المؤتمر ظلت تؤكد قدرة الجبهة الشعبية على الإفلات من قبضة الإمبريالية
الأمريكية، حيث صرح عام 1981م لجريدة الوطن الكويتية قائلاً: نحن ضد
الإمبريالية بشكل استراتيجي لا يتغير مهما كانت التغيرات التي تحدث في المنطقة
أو في أرتيريا.. نحن لن نقف إلى جانب الإمبريالية الأمريكية لمواجهة ما يسمونه
بالخطر السوفياتي في هذه المنطقة، نحن لن نكون أداة لتغيير استراتيجيات
إمبريالية في المنطقة، كما لن نكون أيضاً أداة لتنفيذ الاستراتيجية السوفياتية رغم
أننا مازلنا نعتبر الاتحاد السوفياتي في قائمة الأصدقاء.
ويلمس المرء اليوم فارقاً كبيراً بين حاضر التنظيم وماضيه، ويبدو أن الراية
الماركسية التي رفرفت على أرضية التنظيم إنما كانت تكتيكاً اقتضته طبيعة الخطة
المرسومة، فعلى صعيد قيادة التنظيم تحولت من قيادة جماعية إلى قيادة فردية،
حيث قرر المؤتمر تنصيب (أسياس أفورقي) أميناً عاماً للتنظيم، ليس بجانبه مساعد
ولا لجنة قيادية جماعية، وهمش رمضان محمد نور الذي شغل فيما مضى منصب
الأمين العام.
وقد سبق هذا الاجراء القيادي التخلص من عناصر ماركسية يخشى بأسها،
حيث تمت تصفية القائد العسكري إبراهيم عافه، المنافس الرئيسي لأسياس أفورقي
تحت ظروف غامضة..
عقب هذه التحولات الجذرية في المواقف الفكرية والسياسية تحركت أمريكا
بمبادرة كارتر للسلام، ومن قبل كان الاتحاد السوفياتي قد طلب من فرنسا عام
1988 م أن تلعب دورها في إخماد فتيل الصراع المشتعل في القرن الأفريقي، إلا
أن شروع كارتر في مبادرته قطع على فرنسا طريقها.
ومن جانب اخر ضغط الروس على منجستو وأنذروه بقطع المعونات
العسكرية التي بلغ حجمها أكبر من ستة آلاف مليون دولار سنوياً إن لم يسارع في
حل مشاكله بالطرق السلمية، وأوضح الكرملين لنظام منجستو أنه لن يجدد معاهدة
التسلح مع أديس أبابا 1991م، كل ذلك أرغم منجستو ودون رغبة منه أن يجلس
مع الجبهة الشعبية في مائدة التفاوض في أتلانتا، ثم نيروبي، ولعل منجستو رأى
فيها مظلة استراحة يلتقط فيها أنفاسه ريثما يبحث عن حليف آخر، إلا أن ضربات
الثوار في تجراي جعلت منه كلباً مسعوراً ينبح دون توقف، فقد وصلت قواتهم إلى
مشارق العاصمة أديس أبابا، وأخذت الجبهة الشعبية الأرتيرية تعمل على ترتيب
قواها العسكرية للإجهاز على نظام منجستو المهترئ، وعلى حين غفلة منه شنت
غاراتها براً وبحراً على مدينة مصوع، وتم الاستيلاء عليها، وبالطبع لم يكن هذا
الهجوم مفاجئاً للاستخبارات الأمريكية التي كانت بالتأكيد على علم بترتيباته.
ويمكن أن نلمس هذا من خلال الندوة التي أقامها الأمريكان إثر سقوط مصوع، فقد نشرت جريدة الحياة تاريخ الجمعة 9/3/1990 الموافق 12/8/1410 أن
الأمريكان عقدوا عقب سقوط مصوع ندوة شارك فيها هيرمان كوهين مساعد
سكرتير الدولة لشؤون القارة الأفريقية، وأندريو ناتوسيوز مدير الإغاثة الأفريقية
في وزارة الخارجية الأمريكية، وبول هنز الكاتب الخبير في شؤون القرن الأفريقي، والباحث أدموند كيلر، والأستاذ الجامعي جان هاوك، ومسؤول جمعية الإغاثة
الكاثوليكية، وتوصلوا إلى نقاط أبرزها:
1 - الشعب الأرتيري ربط بأثيوبيا فدرالياً ضد رغبته وذلك قبل أن تضم
أرتيريا نهائياً عام 1962، ومنذ هذا التاريخ فإن الشعب الأرتيري يحارب في
سبيل حقوقه الشرعية وحقه في تقرير المصير.
2 - على الحكومة الأثيوبية أن تقول بصراحة ما إذا كانت حقاً راغبة في
تحقيق السلام؛ لأنها أولاً ماطلت في القضايا الشكلية لبدء المفاوضات الحقيقية قبل
أن تقف عقبة كأداء في وجه مشاركة الأمم المتحدة كطرف محايد ومراقب في
مجرى سير المفاوضات وعليه فإنها تتحمل ما يترتب على ذلك.
3 - الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا تقاتل الجيش الأثيوبي بأسلحته التي
استولت عليها إبان المعارك وأن الأرتيريين الموجودين في المهجر يقدمون لهم دعماً
مادياً.
4 - إن تنظيم الجبهة الشعبية بات وطنياً أكثر مما كان ماركسياً على صعيد
القيادة والقاعدة، ولم يعد لدينا أي شك في ذلك.
5 - إن الجبهة الشعبية في تقديرنا لن تعلن استقلال أرتيريا بعد استيلائها
على مدينة مصوع؛ لأنها قبل ذلك ستعمل لخلق أرضية إيجابية على الصعيد الدولي
عموماً وعلى صعيد الدولتين العظميين خصوصاً، وفي نهاية الندوة صرح بول
هونز بقوله: لابد من إزاحة منجستو هيلي ماريام حتى يتحقق السلام بين أرتيريا
وأثيوبيا.
وقال مشاركون في الندوة أن الدعم الإسرائيلي لأثيوبيا في خضم هذه
التطورات التي يشهدها القرن الأفريقي عموماً، والصراع الأرتيري الأثيوبي
خصوصاً خطأ كبير.
وهذا الموقف الأمريكي في هذا الظرف بالذات يبعث على التساؤل، ذلك أن
ارتباط أرتيريا بأثيوبيا إنما تم بإصرار من أمريكا التي دعمت نظام هيلاسيلاسي
سياسياً وعسكرياً، تأميناً لمصالحها الاستراتيجية، وصرح وزير خارجيتها جون
فستر دالاس 1950 قائلاً: (إن المصلحة الاستراتيجية في البحر الأحمر
وضرورات الأمن والسلام في العالم يقتضيان ضم أرتيريا إلى أثيوبيا الصديقة) ،
وكلما أرادت أمريكا تأمين مصالحها في منطقة ما ركبت ظهر السلام وعزفت على
قيثارته، فقد دعمت موقف هيلاسيلاسي تذرعاً بالأمن والسلام، وهاهي الآن تتذرع
أيضاً بالأمن والسلام وتحمل منجستو مغبة عرقلته لمساعيها، ألم تكن أمريكا هي
التي عكرت صفو الأمن والسلام في هذه المنطقة وحكمت على شعوبها بالموت
والتشرد، ويكفي أن أسياس أفورقي قال في تصريح له عام 1987م: يجب أن لا
ننسى بأن الولايات المتحدة هي أصل البلاء الذي يعم أرتيريا منذ ثلاثة عقود أو
أكثر.
فما الذي بشرت به حتى تقلب ظهر المجن، وتسجل هذا الموقف الجديد من
القضية الأرتيرية؟ أم لم تعد أرتيريا ذات أهيمة للمصالح الأمريكية؟ أم أعطيت
عهوداً ومواثيق تضمن لها بقاء مصالحها الاستراتيجية؟ وما هي يا ترى النتائج
التي يتحملها منجستو بإعاقته لمفاوضات السلام؟ ألا يمكن أن تكون هذه العبارة-
حبلى بالجنين الأمريكي - أعني الاستقلال الكلي أو الجزئي؟ .
وهل صحيح أن الجبهة الشعبية لا تتلقى دعماً خارجياً وتكتفي بما تغنمه من
أسلحة وبما تحصل عليه من إسهامات الأرتيريين في المهجر؟ إذن من أين أتت
الزوارق البحرية؟ حتى ولو قبلنا مقولة اقتنائها من الأسواق الحرة، فكيف نصدق
خلو هذه الأسواق من إشراف المخابرات؟ أم أن هذا تمهيد وتوطئة للعون الأمريكي
المنتظر؟
ثم ما هي العوامل التي جعلت الأمريكان يؤكدون وبدون شك وتردد وطنية
تنظيم الجبهة الشعبية على مستوى القيادة والقاعدة ألأن القيادة أصبحت في قبضة
أسياسي أفورقي وزمرته بعد أن أقصي عنها قطعان الجويم من أبناء المسلمين الذين
عبدوا ماركس ولينين وظلوا عليهما عاكفين؟ وماذا وراء هذا التأكيد بالوطنية
لتنظيم الجبهة الشعبية؟ ألا ترى معي أن الأمريكان يعبدون له الطريق المؤدي إلى
أرتيريا وإعلان كيانها؟
إن الأيام مثقلة والأحداث تشير إلى أن فصول المسرحية قد اكتملت أو كادت
وفيما يأتي من أيامنا سنشهد تحركاً واسعاً على المستوى الدولي تمهيداً لإعلان
أرتيريا المستقلة على يد الجبهة الشعبية، وسيسعى الأمريكان جهد طاقتهم في إيجاد
أرضية صالحة تسير عليها قدما أسياسي أفورقي بأمن وسلام، وتذهب في ذات
الوقت بمنجستو إلى حيث لا رجعة، فكما صرح بول هونز في نهاية الندوة: (لابد من إزاحة منجستو هيلي ماريام حتى يتحقق السلام..، طبعاً السلام الذي
يخدم مصالح أمريكا ليس إلا) .
وسوف لن يغفل هذا التحرك عن تطمين إسرائيل التي طالما أبدت تخوفها من
استقلال أرتيريا وتحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية إسلامية، ولكن إذا ما كان
هذا ممكناً ومتوقعاً، فهل يمكن أن تترك أثيوبيا حبيسة بلا منفذ بحري أم ستطرح
حلول أخرى؟ مهما كان فإن الغرب ينظر إلى أثيوبيا نظرة إشفاق وعطف؛ لكونها
جزيرة مسيحية في محيط إسلامي، من هنا يستبعد جداً أن تسحب أرتيريا بكامل
مساحتها من الخارطة الأثيوبية دون أن يقتطع منها ميناء عصب الواقع جنوب البلاد
على المدخل الشمالي لمضيق باب المندب، ويستشف هذا من بعض المعلومات التي
تسربت إلى دوائر دبلوماسية أجنبية في أديس أبابا، حيث أفادت هذه الدوائر بأن
آخر المعلومات التي سربتها شخصيات أثيوبية مقربة من الحزب الحاكم تفيد بأن
استقلال أرتيريا إذا كان شراً لابد منه للخروج بالبلاد من متاهة أطول حرب عرفتها
القارة السوداء، وللحيلولة دون تمزق أثيوبيا إلى أشلاء قومية، وعرقية، وربما
قبلية، وتسخير كل الطاقات لبناء أثيوبيا الحديثة يفترض الشروع في إرساء أسس
سياسية جديدة تحفظ ماء وجه أثيوبيا [2] .
صحيح أن من الفصائل الأرتيرية من لا يقبل التنازل عن شبر من أرضه،
ولكن يبدو أن المطبخ الأمريكي قد فرغ من إعداد الوجبة بجميع مشهياتها،
والضيوف المدعوين علم كل منهم مأكله ومشربه، وبهذا تكون أمريكا أسدلت
الستارة لتبدأ مرحلة جديدة تحمل على عاتقها حماية المولود الجديد من الحركات
الإسلامية الجهادية، وتزويده بكل ما يسهل له عملية قمعها وإزالتها من الوجود،
وكفى بك أن تعلم أن الجبهة الشعبية نشرت في مجلتها (ساقم) . العدد الثامن عشر
الصادر في يناير 1989م ما يضعك على يقين مما قلتُ، حيث قالت: «إن صيغة
ما يعرف بالبديل الإسلامي هي صيغة غير مقبولة في أرتيريا ولا تتماشى مع الواقع
الأرتيري، وأصحاب هذا التوجه تنتفي عنهم صفة الوطنية» .
ولا يخفى ما تنطوي عليه عبارة (تنتفي عنهم صفة الوطنية) فإنها مشحونة بما
هو معروف وغير معروف من أساليب الإرهاب.
__________
(1) هي مجموعة جزر أرتيرية تقع في البحر الأحمر قال أبو المقدام:
ولو أصبحت خلف الثريا لزرتها نفسي ولو كانت بدهلك دورها.
(2) الحياة: 2 - 3 كانون الأول - ديسمبر /1989م.(28/63)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
إنصافاً لعلماء اليمن
وتعقيباً على فهمي هويدي حول الوحدة اليمنية
يحيى محمد أبو زيد
يعيش اليمنيون هذه الأيام آمال تحقيق الوحدة بين الشعب الذي فرقته الحدود
المصطنعة والتي قامت على أساسها الدول الإقليمية الصغيرة، ولا خلاف بين
العقلاء أن الوحدة خير من التجزئة خاصة في هذا العصر الذي تتكتل فيه الدول
الكبرى، فكيف سيكون مصير الدول الصغرى؟ !
ولاخلاف كذلك أن الوحدة إذا لم تقم على أساس متين فتأجيل قيامها أفضل من
التعجل فيها، والتجارب الوحدوية السابقة خير مثال على ذلك، وليس هناك أساس
متين غير الإسلام؛ فهو هوية الأمة وثقافتها وحضارتها. وعند الحديث عن الوحدة
بين شطري اليمن طُرح مشروع دستور دولة الوحدة، وهو مشروع فيه ما لا
يتناسب مع تطلعات الأمة وأمانيها في حفظ دينها، وقد قام علماء في اليمن الشمالي، ومن قبيل النصيحة بنقد هذا المشروع، وبيان الثغرات الخطيرة فيه، وبدلاً من
تأييدهم في تحفظاتهم أو مناقشتهم مناقشة علمية قام الصحفي فهمي هويدي بالرد
على العلماء في مقالات نشرت في صحيفة الأهرام، وفي عدة صحف عربية أخرى، وقد تيسر لي أن أقرأ بإمعان ما كتبه في هذه الصحف، فوجدته قد أخطأ ووقع في
زلات، وخاصة في المقالين الثاني والثالث، وحشر نفسه في غير ما يجيد مع فقر
في خلفيات الموضوع، وخاطب العلماء بما لا يليق بهم، ولا أخفي على القارئ
أنني ظننت ابتداءً أن الرجل قد غرر به وأعطي معلومات مغلوطة وغير دقيقة عن
موقف العلماء فيما ذهبوا إليه، خاصة وأن له تجربة سابقة عندما كتب عن اليمن
متأثراً ببعض ما سمعه من ذوي التوجه العلماني الذين رافقوه عند زيارته لليمن في
العام الفائت. ولكن تبين لي أنه قد اطلع على ما كتبه العلماء في بيان ملاحظاتهم،
وعجبت أشد العجب إذ كيف يلتبس عليه الفهم في مسائل وضحها العلماء بأجلى
بيان.
مزالق هويدي:
جاءت مآخذ العلماء على مشروع دستور الوحدة في نقاط تسع، أوردها فهمي
هويدي مختصرة اختصاراً مخلاً، ومع ذلك فإن القارئ الواعي سيكفيه ما أورده من
كلامهم ليقتنع بما قالوه، خاصة أنهم أشفعوا ما قالوه بالدلائل والتفاسير العلمية من
الكتاب والسنة، بالإضافة إلى استنادهم للدستور الدائم لليمن، قال العلماء في نقدهم
لمشروع الدستور:
(نص المشروع على أن القانون يحدد الحالات التي يحرم فيها المواطن من
حريته) ، وعقبوا على ذلك: (وذلك ما يفتح الباب للعدوان على حريات الناس
بالقانون) ، بينما في دستور اليمن الشمالي الحالي ينص على كافة الحريات في حدود
الشريعة، وأن للدماء والأعراض حرمتها، ولكن مشروع الدستور لم يشر إلى ذلك
فما كان من الأستاذ فهمي هويدي إلا أن عقب بقوله:
(إنهم - أي العلماء - باسم الغيرة على الدين قدموا الإسلام وكأنه ضد
المساواة وضد الحرية، وضد المرأة) ويتابع نقده: «إنهم شغلوا أنفسهم بالعقائد
والضمائر والأخلاق وما قد يوصف بأنه حقوق الله، بينما لم تحتل حقوق الناس في
خطابهم حظاً يذكر» .
وعجيب أن يفهم هويدي من خطاب العلماء أنهم غير حريصين على حقوق
الناس مع أنهم نقدوا مشروع الدستور؛ لأنه أعطى مجلس الرئاسة الحق في إعلان
حالة الطوارئ التي في ظلها يتمكن الحكام - والكلام للعلماء - من الظلم والجور
واستعباد شعوبهم. ثم على افتراض أنهم شغلوا أنفسهم بالكلام عن (حقوق الله) أفلا
يستحقون الشكر على ذلك، أم أن حقوق الله لا مكان لها لدى الأستاذ؟ ، وكيف
غاب عنه ما تفعله الحكومات بشعوبها في ظل قانون الطوارئ.
وهل صحيح أن علماء اليمن قدموا الإسلام وكأنه ضد المرأة، وقد قالوا في
مأخذهم التاسع: إن من ثغرات مشروع الدستور أنه ألغى الأحكام الخاصة بالنساء،
وقرر المساواة بين الرجل والمرأة، «بينما كان النص في الدستور الحالي: للنساء
من الحقوق وعليهن من الواجبات ما تكفله الشريعة (، فهل في هذا الكلام ما يُشمُّ
منه بأنه ضد المرأة؟ ! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!
وهل الأستاذ هويدي أكثر إنصافا للمرأة من خالقها ونبيها الكريم، وهل من
مصلحة المرأة أن تتساوى مع الرجل؟ ! إن واقع الأمم التي استجابت لإغراء كلمة
(المساواة) تتمنى اليوم لو أنها لم تفعل.
ادعاء آخر تنقصه الحصافة:
ثم إني أتساءل كيف يدعي الأستاذ هويدي: بأن العلماء قد قاموا بمحاكمة
وثيقة بالغة الأهمية لمشروع الدستور دون أن يكونوا مسلحين بالحد الأدنى من
المعرفة المطلوبة لمباشرة تلك المحاكمة» .
هل لدى الأستاذ هويدي مستند أو أثارة من علم تؤيد صحة ما ذهب إليه،
وهل امتحن أولئك العلماء، أم غره أن صحف ومجلات وندوات العلمانيين
وحكوماتهم تفتح له الباب على مصراعيه ليقول ما يريد، وهل كان يظن أن تلك
الصحف والمجلات تفسح له صدرها لو أنه التزم الجادة دائما؟ !
وشاهد آخر على تحامله:
قال في نهاية العبارة السابقة: «وعلماء اليمن طالبوا الدستور بما لا ينبغي
أن يكون فيه، وفهموا مصطلحاته على غير وجهها الصحيح! ! والحقيقة أنهم
حاكموا مشروع الدستور إلى الدستور الدائم، وهل يجب عليهم أن يتنازلوا عن
المبادئ الإسلامية من أجل إرضاء ذوي الأهواء! كما يريد الأستاذ هويدي الذى
ندعوا الله أن يبصره بعيوب نفسه ويجنبه مرض الغرور ومغبة اتباع الهوى.(28/71)
الجزائر في الصحافة الغربية
لابد أن نتابع ما تكتبه الصحف الغربية المهمة عن بلادنا، ونحلل أبعاد العقلية
التي يفكر بها القائمون على هذه الصحف ... وهذه ترجمة لمقال نشرته صحيفة
التايمز في عددها الصادر في 26/2/1990 وعنوان المقال: «ثورة الجزائر
ليست إلا جعجعة» وأهم ما ورد في هذا المقال:
أن فرنسا تفكر بالتدخل في الجزائر إذا انفجر الوضع الحالي فيها، ولقد
استفاضت الأخبار التي تؤكد عزم فرنسا على اتخاذ مثل هذا الموقف، وهذا لا
يعني أنها الآن واقفة على الحياد ولا تتدخل، الحقيقة أن لها تحركاً واسعاً ولها
أنصار داخل الجزائر.
تأزم الخلافات بين قادة جبهة التحرير، وتهديدات قادة الجيش بأنهم لن يقفوا
مكتوفي الأيدى إذا فشلت التجربة الديمقراطية، أو ازداد المد الإسلامي، وهذا أيضاً
صحيح، فخلافات قادة الجبهة لم تعد من الأسرار، والهوة واسعة بين الأطراف
المتصارعة.
أما رموز المعارضة الذين وضعهم بن جديد في الحكومة، فالمقصود رموز
المعارضة داخل جبهة التحرير، وهذا شأن الأحزاب الحاكمة في بلادنا. أما
الأحزاب الجديدة من غير جبهة التحرير فلا نعلم أنهم يشاركون في الحكومة،
وتستدرك الصحيفة نفسها فتقول: إن الحكومة والجمعية الوطنية كلها من أعضاء
حزب جبهة التحرير.
إن الوضع غير مستقر في الجزائر، والناس يشكون من انتشار الفساد وغلاء
الأسعار، وهناك جهات فعالة في جبهة التحرير ناقمة على كل ما يحدث، ولن
تتردد هذه الجهات إذا-استطاعت السيطرة على شؤون الحزب الحاكم - في نسف
الدستور الذي سمح بتعدد الأحزاب، والعودة إلى الوضع الذي كان في عهد بومدين. ولا نعتقد أن الإسلاميين في الجزائر غافلون عن ذلك.
ثورة الجزائر
«نحمد الله على أحداث عام 1988 م، فلولاها لحدث انفجار في الجزائر،
لاسيما وأن الجزائريين يشاهدون على شاشات التلفاز صور المظاهرات الشعبية
العارمة التي تجتاح أوربا الشرقية، هذه كلمات قالها مسؤول حكومي رفيع المستوى
بلسان فرنسي متقن. إلا أن الآخرين في المدن الجزائرية الكبرى قد لا يذهبون إلى
حد التوجه إلى الله بالشكر من أجل ذلك الأسبوع الذي مر عليه الآن ما يقرب من
سبعة عشر شهراً، والذي كان حافلاً بأحداث شغب خطيرة، فتح خلالها رجال
الجيش نيران أسلحتهم على المتظاهرين الشباب فقتلوا - وفقاً للتقديرات المتحفظة -
عدة مئات. وليس من المؤكد أن يلي أحداث أكتوبر أحداث أشد خطورة منها.
ويعرف عن الحكومة الفرنسية قلقها الشديد حيال الأجواء الملتهبة في هذا البلد
الذي كانت تظن فرنسا أنه سيبقى تحت حكمها على الدوام. وتقول تقارير صحيفة
فرنسية أن باريس قد تفكر بالتدخل بشكل من الأشكال إذا ما انفجر الوضع الحالي
وتحول إلى نزاع مفتوح.
إن الانفجار السياسي سيكون احتمالاً كبير الوقوع يوم الخميس (1/3/1990م) ، ... وهو اليوم الذي يتوقع أن يشنّ فيه الاشتراكيون المتشددون تحدياً محسوباً
للإصلاحات الاقتصادية الأخيرة، وذلك في اجتماع اللجنة المركزية لحزب جبهة
التحرير الوطني الحاكم.
وكانت الجبهة قد تشكلت لخوض معركة التحرير الضروس التي دامت ثمانية
أعوام، ومنذ تحقيق النصر في عام 1962م وهي تترأس دولة ذات نهج اشتراكي
ونظام حزب واحد. ويسعى أفراد النظام السابق إلى إحداث تغيير في المكتب
السياسي للحزب الذي يشكل فيه دعاة الإصلاح أغلبية، والذي كان قد تم انتخابه في
شهر كانون أول (ديسمبر) الماضي.
لقد كانت المشكلة الرئيسية لأولئك الذين خرجوا إلى الشوارع في عام 1988م
سوء الأوضاع الاقتصادية، ومنذ ذلك الوقت لم يحصل تبدل في أي شيء، يقول
أحد رجال الأعمال الجزائريين: لو أن أحداث الشغب وما رافقها من سقوط القتلى
قد وقعت في هذه الأيام، أي في أعقاب التطورات التي اجتاحت أوربا، لما كان
بإمكان الحكومة الصمود.
ولكي يجعل المسؤولون الشعب يستوعب هذه الحقيقة؟ وهو يراقب ما يحدث
في أوربا الشرقية؟ ، فإن ما كان يطلق عليه اسم حوادث 1988 أصبح يطلق عليه
الآن ثورة 1988.
وخلافاً لما يحدث في دول أوربا الشرقية، فإن ثورة الجزائريين يتم توجيهها
من الجهات العليا، فقد تقدم الشاذلي بدستور جديد للبلاد، كما أن نظام الحزب
الواحد قد انتهى رمزياً مع تشكيل عشرين حزب سياسي جديد، إلا أنه لم تجر بعد
أية انتخابات عامة في البلاد. وتتألف الحكومة والجمعية الوطنية بشكل كامل من
أعضاء حزب جبهة التحرير.
ويتحدث الرئيس الشاذلي بن جديد عن الحاجة إلى الوحدة الوطنية، وقد
وضع بعض رموز المعارضة في الحكومة، إلا أن حسين آيت أحمد - الذي عاد
مؤخراً من منفاه - طالب علانية بحل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات. كما أن
القوات المسلحة والمتركزة حالياً في ثكناتها وفقاً لمطالب الدستور الجديد أعلنت على
لسان قادتها بأنها لن تقف موقف المتفرج إذا ما فشلت العملية الديمقراطية، أو ازداد
المد الإسلامي الجزائري المتطرف وأصبح يشكل خطراً.
لقد أصبحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ - منذ أن باتت هي الحزب الإسلامي
الوحيد المرخص له في المغرب العربي - أكبر مظلة يتجمع تحتها وبشكل مطرد
الأنصار الساخطون على نمط معيشتهم اليومية، ولجبهة الإنقاذ سيطرة على خطب
الجمعة في مساجد العاصمة الرئيسية، وقد ناشدت الجبهة - وهي أقوى أحزاب
المعارضة - أعضاءها ضرورة تحقيق الوحدة فيما بينهم.
إلا أن الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات عارمة احتجاجاً على
ارتفاع نسبة البطالة، وغلاء الأسعار، وانتشار الفساد، مازالوا ينتظرون من يوفر
لهم العمل والسكن. وقد نجحت الجبهة في استغلال حالة الشعور بخيبة الأمل التي
أصابت هؤلاء الشباب أروع استغلال، وهو الأمر الذي باتت الدول المجاورة
للجزائر تخشى من عواقبه.
التايمز 26 / 2 / 1990م(28/74)
اضطرابات تركستان الصينية
أخبر قادمون إلى بكين من أورومكي - عاصمة تركستان الشرقية - عن
حدوث اضطرابات قرب مدينة كشغر في أوائل شهر نيسان (إبريل) ، وأن قوات
الأمن الصينية قامت بقمع المتظاهرين بعد أن قتلت ما لا يقل عن (65) مسلماً
تركستانياً، ومنعت المراسلين الصحفيين من دخول المنطقة، ولم يصدر عن أي
مسؤول صيني أي تعليق عن الأحداث. ومن المحتمل أن تكون الأحداث قد امتدت
الى مناطق أخرى من تركستان. وكانت هذه الاضطرابات قد بدأت عندما منعت
السلطات الصينية الأهالي من بناء مسجد جديد ومدرسة دينية في المنطقة. وتعكس
الطريقة التي تعاملت بها قوات الأمن مع الأحداث حساسيتها من الخطورة التي
تنطوي عليها، لاسيما وأن المنطقة تمثل حقلاً لبرنامج التجارب النووية، ومركزاً
هاماً لمحطات التنصت الأمريكية الموجهة نحو الاتحاد السوفييتي، كما أن قربها
الجغرافي من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة يجعلها غير مستقرة، وكان رئيس
الوزراء الصيني قد دعا في شهر شباط (فبراير) الماضي إلى الاحتراس والحذر من
تلك الحفنة من الانفصاليين، وقال: «إن علينا استئصال جميع النشاطات
الانفصالية وهي في طور تشكلها» .
ويبلغ تعداد السكان في إقليم تركستان الشرقية - الذي تعادل مساحته ضعف
مساحة فرنسا - (14) مليون، منهم نسبة 60% من المسلمين و 30% من
الصينيين الذين كانوا قد نُقلوا من أماكن مختلفة من الصين لإحداث تغيير
ديموغرافي في الإقليم، ويحتكر هؤلاء جميع المناصب العليا هناك، لاسيما الحزب
والجيش.
وكانت تركستان الشرقية قد شهدت مظاهرات احتجاج واسعة النطاق في
عامي 1981م و1988م، قام الجيش بقمعها في آنها، ويعتبر تاريخ تركستان
الشرقية منذ احتلال الصين له أول مرة في منتصف القرن الثامن عشر حافلاً
بالثورات والاحتجاجات التي كانت تقابل دائماً من قبل الصينيين بالبطش وسفك
الدماء.
فايننشيال تايمز 11/4/1990
الأيكونوميست 14/4/1990
الإندبندنت 15/4/1990(28/78)
أخبار حول العالم
قواعد إسرائيلية في أرخبيل دهلك
ذكرت وكالة رويتر للأنباء في 16/4/1990م: أن الجبهة الشعبية لتحرير
أريتريا وجهت تحذيراً إلى الحكومة الأثيوبية من عواقب دعوة وجهتها الأخيرة إلى
إسرائيل لإنشاء قواعد لها في أرخبيل دهلك الواقع في البحر الأحمر قبالة الساحل
الأرتيري، وأشارت الجبهة إلى أن هذا التطور الجديد سيعني تورطاً إسرائيلياً
مباشراً في الحرب الدائرة في أرتيريا ضد القوات الأثيوبية، وهو يأتي في أعقاب
نجاح الأرتيريين في تحرير ميناء مصوع.
****
إيران: قتل واعتقالات بالجملة
ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية في نبأ لها من طهران: أن قوات الحرس
الثوري قامت في يوم 15/4/1990م باعتقال (65) شخصاً بتهمة إطلاق شعارات
سياسية في مكان عام في ضواحي طهران الشمالية، وأوردت الصحف الإيرانية
الحدث وقالت: إن «مشاغبين» قاموا بالإخلال بالأمن العام وأطلقوا شعارات ضد
الأخلاق العامة. كما ذكرت الصحف الإيرانية أن اشتباكات أخرى وقعت في حي
فقير في جنوب العاصمة، وأن أعداداً من المواطنين غير محددة قد تم اعتقالها.
ومما يجدر ذكره أن وسائل الإعلام الإيرانية كانت قد ذكرت أن ما لا يقل عن
(30) شخصاً قتلوا، وتم جرح أعداد كبيرة في مصادمات مع حراس الثورة
والجيش النظامي من جهة «وأعداء الثورة» من جهة أخرى، وذلك في منطقتي
سيستان وبلوشستان المحاذية لباكستان وأفغانستان.
الحياة 17/4/1990م
***
هروب الهندوس من الانتفاضة
في وقت تشتد فيه مجابهة المسلمين الأصوليين في وادي كشمير - بشكل ينذر
بالسوء - للقوات الهندوسية المعززة، أخذ عشرات الآلاف من الهندوس
المستوطنين هناك بترك منازلهم وقراهم والابتعاد عن مسرح الانتفاضة التي يقودها
المسلمون (الانفصاليون) ، وتضيف هجرة الهندوس هذه بعداً جديداً للصراع هناك
الذي يكتسب هذه المرة طابعاً دينياً لم يعرف من قبل، وقد غادر ما يزيد على
(120) ألف من الهندوس وهو ما يشكل نصف عددهم هناك، ويستعد النصف
الآخر للرحيل، ويترافق هذا الرحيل مع قيام منظمات جهادية بفرض الإسلام
الأصولي على مرافق الحياة اليومية هناك، وتسيطر هذه المنظمات على مجريات
الحياة اليومية في كشمير في وقت اختفى فيه التعلق التقليدي بالصوفية المتحررة.
من جهة أخرى، استمرت تهديدات الحرب من كلا الطرفين: الباكستاني
والهندي، بشأن النزاع في كشمير على الرغم من تأكيد مسؤولين في إسلام آباد
ودلهي على عدم توقع وقوع قتال على نطاق واسع.
التايمز 16/4/1990م(28/79)
الزاوية الطيبة
رياضة المشي.. والصحة
د.خالد الموسى
إن رياضة المشي رياضة سهلة وبسيطة، يقدر عليها الصغير، والكبير
السليم، والسقيم الصحيح، والمعافى والمريض، وهي بحد ذاتها ممتعة ومسلية،
خاصة إذا اختار صاحبها وهاويها الأماكن الطبيعية المناسبة كالتمشي في الحدائق
تحت ظلال الأشجار، أو على شط البحر أو الأنهار. فتضفي جمال الطبيعة مع
التأمل في قدرة الخالق وتسبيحه وحمده على نعمه متعة شخصية.
والمشي والهرولة رياضة مفيدة لكل أعضاء الجسم إذ أثبتت الدراسات الحديثة
فائدتها في:
1 - علاج أمراض القلب الوعائية: حيت ينصح مرضى القلب بالتدرج
بالمشي والهرولة، وذلك لأنها تؤدي إلى:
أ - تقوية العضلة القلبية وزيادة النتاج القلبي الفعال.
ب - إنقاص وتخفيض نسبة الدهون الضارة والكولسترول بالجسم.
ج - زيادة نسبة الدهون الواقية من تصلب الشرايين والمفيدة للجسم.
2 - علاج ارتفاع التوتر الشرياني: حيث أظهر الكثير من الدراسات جدوى
علاج ارتفاع الضغط الشرياني الخفيف والمتوسط الشدة بالمشي والهرولة اليومية
لمدة ساعة إلى ساعتين، حتى بدون اللجوء للأدوية في كثير من الحالات.
3 - علاج البدانة وزيادة الوزن: حيث تعتبر مع الحمية الغذائية حجر
الزاوية في علاج البدانة، وذلك بحرق كميات لا بأس بها من الحريرات والسعرات
الواردة للجسم. ولها الدور الأول والأساسي للمحافظة على الوزن وثباته، وذلك
بالاستمرار اليومي على المشي.
4 - علاج الآلام العضلية والمفصلية: حيث تؤدي إلى تليين وسهولة حركة
ونشاط المفاصل واتساع مدى فعاليتها إضافة لارتخاء العضلات وليونتها مع تخفيف
الشد والتشنج الذي كان بها، وأيضاً تقوية تحمل العضلات والمفاصل.
5 - علاج عسر الهضم ومتلازمات تشنج الكولون والإمساك المزمن، حيث
تساعد على حركة الأمعاء وتخفيف الآلام الكولونية إضافة لتخفيف الغازات والشعور
بالانتفاخ والغثيان. مع تنظيم إفراغ الكولون.
6 - تساعد في عملية التنفس الطبيعي بتقوية عضلات التنفس والعضلات
الصدرية، مما يزيد السعة الرئوية والتبادلات الغازية الدموية وبالتالي فعالية التنفس
وتحسين وظيفة الرئتين في كثير من الأمراض التنفسية المزمنة.
والمهم في فائدة هذه الرياضة البسيطة الخفيفة أن يتعود عليها الإنسان
وببرنامج شبه يومي أو أسبوعي بدون انقطاع ويمكن استغلال الوقت من خلال
المشي بمراجعة بعض الكتب الصغيرة أو قراءتها أو حفظ القرآن ومراجعته أو بذكر
الله تعالى، وبذلك يرتبط مع الله عز وجل إضافة للفائدة الجسمية.(28/81)
الزاوية الطبية
أمراض عصرية في الميزان
د. خالد الموسى
سنتناول في سلسله من الحلقات بإذن الله بعض الأمراض القديمة - الحديثة
من منظور عصري، ومن منظار إسلامي بنفس الوقت، وسواء كانت هذه
الأمراض عضوية أم نفسية أم اجتماعية وسلوكية أو بيئية.. لما لها من تأثير ضار
على الإنسان، سواء على صحته أو نفسيته وسلوكه، أو ما يفسد بيئته ومحيطه من
التأثيرات الضارة..
ونظراً لانتشار الكثير من هذه الأمراض في عصرنا، فإنه من الواجب علينا
توضيح هذه الأوبئة العصرية، بصورة مبسطة وعلمية، كخطوة أولية للحفاظ على
الصحة.. بل والوقاية من الأمراض أصلاً.. وذلك كضرورة دينية؛ لأن ذلك من
تحقيق مقاصد الشرع في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
التدخين ذاك السّم القتال
لقد عرف التدخين والتبغ عند الهنود الحمر في أمريكا اللاتينية والمكسيك
وكوبا، ومن ثم انتقل إلى أرجاء العالم. لقد اعتاد كثير من الناس على تدخين
السجاير أو الغليون أو النرجيلة، وتفشت هذه العادة السيئة في كثير من المجتمعات
الإسلامية، بل والأسر المسلمة والبيوت المتدينة والمحافظة، وذلك نتيجة للاحتكاك
والاختلاط الاجتماعي والدولي والتجاري منذ القديم وإلى الآن بصورة أوسع وأسرع.
وللأسف لقد ساد مفهوم خاطئ عند البعض بأن التدخين يمثل وجهاً حضارياً
جديداً، ومعبراً عن الرقي والمكانة الاجتماعية، ودليلاً على المستوى الثقافي
والمركز العلمي.. بل اعتبره البعض دلالة على الرجولة وعلامة على القوة
والشباب، ودلالة على الفتوة والنشاط.
وقد تفشت هذه العادة حتى عند النساء والسيدات في مجتمعاتنا بدعوى التمدن
والتقدم والرفعة الاجتماعية ... ومع هذا برزت مغريات، وراجت دعايات خاطئة
بأنه يريح النفس، ويهدئ الأعصاب، ويساعد على قوة التركيز، وزيادة النشاط
الذهني.
ونسي أو تناسى أولئك أن هذا السلوك هو اتجاه خاطئ وعادة خطيرة.. سواء
على مستوى الفرد أو المجتمع، بل إنه انتحار بطيء مع سبق الإصرار والتصميم
وقتل النفس، وطريق للهلاك، والدمار. يقول تعالى: [ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ] [البقرة: 195] .
ومن هذه التهلكة تأثير التدخين (بشتى أنواعه) على معظم أجهزة الجسم بشكل
تدريجي وبطيء.
ومنذ البدء نشير إلى أن التأثير الضار للتدخين يكون باتجاهين مهمين:
1 - تأثير ضار موضعي مباشر: عن طريق استنشاق أغبرة ودخان السجاير
أو الغليون والنرجيلة.
2 - تأثير ضار عام: بما يحتويه من مواد كيماوية ضارة.. ومسرطنة:
كالنيوكوتين والقطران وتأثيراتها على الجسم وأجهزته.
ورغم انتشار التدخين في البلاد الغربية، فحملات التوعية ومكافحة التدخين
والمراقبة على شركات تصنيع السجاير لتنقيته من القطران والمواد المسرطنة،
وبالرغم من التوضيحات الضارة على علب السجاير، واتخاذ القوانين الصارمة
ببعض المجالات، ما زالت السجاير تشكل نسبة كبيرة من أسباب الوفيات في العالم
والتي تقدر بالملايين سنوياً، وللأسف ما زلنا نحن في مجتمعاتنا، كبقية بلدان
العالم الثالث نروج للسجاير بوسائل الإعلام المختلفة، فضلاً عن فقدان المراقبة لما
تحويه السجاير من المواد المسرطنة والضارة، ومن نسبة تركيزها في السجاير.
يسير العالم نحو حرب ضد السجاير والتدخين.. فحري بنا نحن المسلمين أن
نكون أول من يتخذ خطوات إيجابية للوقوف أمام تفشي هذه العادة السيئة والخطيرة.
وطبقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية، فإن التدخين يعتبر أخطر وباء عرفه
الجنس البشري، والوفيات الناتجة عنه تعد أكثر الوفيات التي عرفها تاريخ الأوبئة، وخصوصاً في الدول الفقيرة، حيث تكثف شركات التدخين دعايتها، وتروج أردأ
أنواع الدخان وأخطرها ضمن خطة تستهدف الربح المادي أولاً وتدمير لبنية تلك
الشعوب ثانياً.
نسأل الله لكل مدخن أن يرزقه الإقلاع الفوري عن هذا الوباء القتال.(28/83)
منبر الشباب
الجرح والتعديل في ثقافتنا المعاصرة
إبراهيم بن محمد العبد الله
إذا كان موضوع الجرح والتعديل قديم الطرح، فإن الرؤية الجديدة والصياغة
الحديثة له تجعل منه موضوعاً جديراً بالبحث والدراسة والمدارسة الواسعة.
وقد تبين لي - من خلال مثاقفة بعض المفكرين والقراءات المتعددة لكثير من
الكتَّاب من أصحاب الفكرة الإسلامية - أننا بحاجة ملحة إلى صياغة هذا الفن
العلمي والتخصص النادر على واقعنا الثقافي في البلاد الإسلامية، ولعل هذا يعتبر
من الواجبات على أهل العلم والدعاة المخلصين العارفين بالله وبعباد الله.
وعلى هذا سار علماء الجرح والتعديل الأوائل معتبرين أن جرح الضعفاء في
الأمة من النصيحة، بل من الواجبات الشرعية التي ألزموا أنفسهم بها.
يقول الإمام الترمذي - رحمه الله - معللاً كلام علماء الجرح والتعديل بقوله:
«وإنما حملهم على ذلك - عندنا - والله أعلم: النصيحة للمسلمين، لا يظن بهم
أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغيبة! وإنما أرادوا - عندنا - أن يبينوا ضعف
هؤلاء لكي يعرفوا؛ لأن بعضهم كان صاحب بدعة أو متهماً في الحديث - وبعضهم
- كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على
الدين وتثبيتاً له. لأن الشهادة في الدين أحق أن يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق
والأموال» اهـ. [كتاب العلل للإمام الترمذي 5/1739] .
وبهذا تبين لنا أن الجرح والتعديل ضرورة ملحة وفريضة شرعية على علماء
الأمة في القديم والحديث؛ لصيانة شريعة الله عز وجل وحفظاً لسنة المصطفى -
صلى الله عليه وسلم - من ضلالات المنحرفين وافتراءات الأعداء.
وبعد نظر ومعايشة فكرية لما يظهر في ساحتنا وأسواقنا الفكرية من أحاديث
متنوعة حول «الإسلام والحل الإسلامي» لمشكلاتنا المعاصرة والملازمة للأمة
الإسلامية في واقعها المتخلف أخلاقياً وعلمياً وحضارياً. فإني أرى أنه من اللازم
على علماء أهل السنة الذين يملكون رؤية شمولية عن الإسلام أن يحيوا هذا المنهج
السديد في حفظ دين هذه الأمة، بالتأصيل والربط بالواقع، لكي يتمكن أبناء
الصحوة الإسلامية في عالمنا الإسلامي من الحذر من طرح رؤية وفكر أهل الباطل
المتكلمين بلسان الإسلام، وطرح الحلول لواقعنا المتخلف في جميع جوانبه وزواياه
المتنوعة.
ولكى يحذر شباب هذه الصحوة من الإملاءات الفكرية في الكتب والمنشورات
والمجلات التي تحمل التشكيك في صلاحية هذا الدين، وأشد ما يحتاج إليه في هذا
الأمر هو بيان حال هؤلاء الكتاب الذين يدافعون عن الإسلام، ويحملون حماساً قوياً
للإسلام، ومع هذا كله لا يلتزمون بالإسلام سلوكاً ومعتقداً عملياً في حياتهم إنما هو
الإسلام الفكري فقط.(28/86)
مشاهد من المطارات العربية
محمد سليمان
كثيرة هي هموم المواطن العربي، فرياح التغيير لم تصله بعد، حتى يتنسم
نسائم الكرامة والإنسانية، في أوربا يستعدون لعام 1992، وهم الآن يتنقلون
بالبطاقة الشخصية، عند الحدود يبرز البطاقة من بعيد، فيهز الموظف المسؤول
رأسه بالموافقة ودون حاجة للتأكد، منظر مؤلم لنفس العربي المسلم الذي لا يرى
هذه المعاملة من موظفي (الحدود) ، فالشك هو الأصل، والحسابات والهواجس تأكل
رأسه قبل دخوله، وحتى ينتهي من الإجراءات.
في أحد المطارات العربية كان أصحاب الشارات الأجنبية يدخلون دون
صعوبات، ولكن العربي (ينظر في أمره) ، وتذكرت قول شاعرنا الكبير المتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
وفي مطار آخر انتظر ركاب الطائرة ثلاث ساعات ونصف بالتمام والكمال،
حتى جاء دورهم ليتخذ الموظف المسؤول إجراءات الدخول، هذه الشعوب التي
كانت بالانتظار ليس لها أهمية عند الموظف لأنهم غير (مواطنين) .
ألا يشعر هؤلاء أن هذه المعاملة تغرس في القلوب الأحقاد والضغائن، وأنه
لا أحد يستفيد من هذه التصرفات؟ لقد كان المسنون من المنتظرين يجلسون على
الأرض من التعب، وبعد كل هذا يأتي زميل الموظف المكلف ويقول له:
إذا لم ينتظموا في الدور فاتركهم حتى الصباح..! مرحى مرحى لهذه
الإنسانية ولهذه الأخلاق.
في الصورة المقابلة وفي المطار نفسه كانت هناك أشياء إيجابية يرتاح لها
المسلم، ففي رحلة العودة، وبعد إجراءات الخروج حانت الصلاة، فجاء عدد كبير
من الموظفين للصلاة معنا، وكان سمتهم يدل على أنهم اختاروا الإسلام عن رضاً
وقناعة، وأن بعضهم عاد إلى الله من قريب ووجد الطمأنينة والراحة في كنف
الإسلام. صور متناقضة لعلها تزول قريباً ويعود الانسجام، وتتوحد مظاهر السلوك
في الشخصية المسلمة.(28/88)
مكتبة البيان
1 - الكتاب: الجهاد الأفغاني ودلالاته.
المؤلف: الأستاذ محمد قطب.
الناشر: مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة - جدة.
حجم الكتاب: 110 صفحة من القطع الصغير.
***
2 - الكتاب: الغرباء الأولون: أسباب غربتهم ومظاهرها.
المؤلف: الشيخ سلمان العودة.
الناشر: مكتبة ابن الجوزي - الدمام.
حجم الكتاب: 255 صفحة من القطع المتوسط.
***
3 - الغرب في مواجهة الإسلام: معالم ووثائق.
المؤلف: مازن المطبقاني.
الناشر: مكتبة ابن القيم - المدينة المنورة.
***
4 - صحيح سنن أبي داود باختصار السند.
المؤلف: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض.
***(28/90)
الأخ عبد الله حماد الجهني - الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة:
أرسل لنا قصة قصيرة، ونحن إذ نشكره على ذلك وعلى ثقته بالمجلة نطلب
منه التعمق. في قراءة أصول فن القصة القصيرة، ونرجو أن نتسلم منه تجارب
أكثر نضوجاً.
***
الأخ: محمد فرحان عبد الظاهر - الإسماعيلية - مصر:
أرسل إلينا يسأل بعض الأسئلة ونحن نجيبه على ما نستطيع منها:
1 - عنوان الأخ يوسف إسلام هو:
Br. Yosif islam
Islamia school trust / Islamic circle organisation
2 Difswell Street
London N7 8JX
2- لا ندري عن الحزب الإسلامي الألماني شيئاً، أما الحزب الإسلامي
البريطاني فيمكنك ومراسلته والحصول على معلومات عنه، وعنوانه هو:
Islamic Party of Britain
Hazelwell House
Hazell Road
Birmingham B30 2PQ
Tel. 0860-646828
3- قضية هجرة اليهود السوفييت ننظر لها من منظار النظرة الإسلامية إلى
قضية فلسطين، وإلى اليهود بشكل عام والصراع معهم الذي لم يبدأ باحتلالهم
فلسطين فقط، بل بمحاربتهم الإسلام والمسلمين منذ فجر التاريخ الإسلامي.
4 - لقد كتبنا عن الشيخ حسن البنا - رحمه الله - في العددين السادس عشر
والثامن عشر.(28/91)
بأقلام القراء
ضوابط الإعجاب
أحمد بن أحمد جعفري
لا شك أن المسلم يعجب بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو
سيد ولد آدم، وكذلك يعجب بصحابته الكرام، أولئك الذين اصطفاهم الله سبحانه
لصحبة نبيه، والتربي على يديه، حتى يصبحوا مشاعل هدى للأمة من بعدهم،
وما أجدرنا أن نقرأ سيرهم ونتشبه بهم فقد قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
ومع وجود كثير من الأسماء اللامعة في تاريخ المسلمين المعاصر ممن يهتم
بالدعوة إلى الله والعلم المبني على المنهج الصحيح؛ ويستحوذون على إعجاب كثير
من الأنصار والأتباع؛ لكن لا يعني هذا عصمة هؤلاء وبعدهم عن الخطأ، ثم
التطرف في الإعجاب بهم والإقبال على ما يكتبون دون وعي، ودون إبداء
ملاحظات إن وجدت، فينبغي أن نفهم جيداً أن لا معصوم من البشر إلا الأنبياء
والرسل لا غيرهم، وقد يخطىء هذا المفكر أو الكاتب في كتابه أو مقالته، مما قد
يطعن في بعض شرائع الإسلام ومنهج المسلمين، عند ذلك قد تجد، بل حتماً ستجد
المعجب بمثل هذه الآراء، المتعصب لها المنقاد لها؛ لأنهما صدرت ممن؟ !
صدرت من فلان الفلاني، المفكر العلامة (الذي لا يخطىء) ، هكذا تصورهم، نعم
قد يكون بعض هذا التصور صحيحاً، لكن ليس بهذه المبالغة التي يضعونها.
وعندما يهب بعض الصادقين المخلصين من طلبة العلم وغيرهم في الرد على
بعض الأفكار الناتجة عن مثل هؤلاء المفكرين، عند ذلك يهب المعجبون [بدون
مناقشة] لعدم تصديقهم، وأن هذا افتراء عليه وو ...
عفواً دعونا نبحث ما الذي يدفعنا أو يدفع الكثير إلى الإعجاب المطلق، إن
ثمة أشياء لعلك أيها القارئ الكريم تدركها في واقعنا المرير:
1- عدم بناء القاعدة السليمة القوية من العقيدة السليمة وعدم تغلغل هذه العقيدة
في القلب.
2- عدم الوعي الكامل بما يخالف دين الله أو يطعن فيه.
3- عدم المعرفة الكاملة بحال الكاتب وإلى أي مدرسة ينتسب.
هذه بعض الدوافع، ويمكن أن تكون ثمة أسباب أخرى.
وصلى الله على نبينا وسلم.(28/92)
قديم جديد
من الأشياء القديمة المتجددة ما شكى منه المؤلفون أو الكتاب، من الإعراض عن القراءة أو من كثرة اقتراحات القراء، وفي هذه الزاوية ننقل كلاماً للأديب عباس محمود العقاد، وللشيخ محمد عبده.
(1)
المقترحون والمؤلفون
بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء، ولا تكف عن
اقتراح، ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس
عليها واجب تفرضه على نفسها.
إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟
وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟
وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح؟
وإن كتبت للمسرح قالوا: ولم لا تحيي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة
إلى إحياء ذلك التراث؟
وإن أحييت التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث،
فنحن أحق الناس بالكتابة فيه.
وإن جمعت هذه الأغراض كلها قالوا لك: والقطن؟ ومسائل العمال؟
ورؤوس الأموال؟ ، وكل شيء إلا الذى تكتب لهم فيه.
وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي
على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض.
إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن
قدمت له صنفاً من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه
الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر
المبذول.
سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة من القراء معروف، سرَّه أن الجمهور
في بلادنا العربية لم «يتشكل» بعد، وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلاً إذا وجدت
فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به
المئات.
وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيراً حتى يتم لنا
«التشكيل» المنشود، وهو غير بعيد.
العقاد: يسألونك / 192
2
«وإنا لو فرضنا أن كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم،
مع التنزه عن الأغراض، فبعد ما عمّ الذهول، واستولت الدهشة على العقول وقل
القارئون، والكاتبون لا تجد لهم قارئاً، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم،
والفاهم قد يحمل ما يجده على غير ما يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع
الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير ... »
محمد عبده: العروة الوثقى /56.(28/94)
الصفحة الأخيرة
تجارة الورق
عبد القادر حامد
تقذف المطابع العربية كل يوم أكداساً هائلة من الكتب والدراسات التي تدور
حول الإسلام ولكن هل يجري تقويم ونقد صحيح بعيد عن المجاملة لأكثر ما تقذف
به هذه المطابع؟ الجواب: لا.
إننا نرى - مع الأسف - أن كثيراً من المؤلفين المتطفلين على مهنة العلم
والتعلم يحاولون أن يثبتوا قدمهم على هذه الطريق بكثرة ما يطبعون وينشرون
لأنفسهم من العناوين، وينسون أو يتناسون مدى حاجة المجتمع لما يسودون من
صفحات، ويكون الهدف الأخير هو الربح المادي، وهذه - والله - أهم آفات العلم
التي تفقده الأثر والتأثير.
وكثرة هذه المؤلفات التي لا تنبع من حاجة اجتماعية صحيحة يحدث بلبلة
فكرية وفوضى ثقافية إذا أضفنا إليها سهولة استغلال القارئ عن طريق فتنة أخرى
هي الأشرطة المسجلة، فإننا لا نستطيع أن نتنبأ بحدود هذه الفوضى التي لا يعلمها
إلا الله.
وسبب هذه الفوضى المستشرية هو غياب الحدود المقاييس التي تقاس بها
البحوث، وضعف النقد الذي تلجمه اعتبارات كثيرة، وتعيقه معوقات المجاملة
والخوف وعدم الثقة بالنفس.
لابد من أن يكون للمسلمين مدرسة نقدية لا تخاف ولا تحابي، تصدع بالحق،
وتستلهم منه العدة الكافية لمواجهة ما تحفل به ساحة العلم الشرعي في العصر
الحديث من غياب المنهج.(28/96)
ذو القعدة - 1410هـ
مايو - 1990م
(السنة: 4)(29/)
الافتتاحية
العلماء: الواقع والمنتظر
إذا تسنى لك أن تستمع إلى حوار دار بين مجموعة من العلماء وحاكم من
الحكام فإن ذلك يعتبر فرصة نادرة لأخذ العبرة والدرس؛ لأن هذين الصنفين من
الناس عليهما مدار الأمر في كل مجتمع، إذا صلحا صلح المجتمع، وإذا كانا غير
ذلك فعندئذ تكون الفوضى هي الصفة الغالبة. بل إذا كانت العلاقة بين هاتين
الجهتين علاقة الحب والتراحم والتناصح والتشاور فسوف يقطف المجتمع بأسره
ثمرة ذلك.
لقد كان العلماء على امتداد التاريخ الإسلامي هم ضمير الأمة الذين لا تستغني
عنهم في ساعات العسرة والأوقات العصبية، وما المعالم البارزة في هذا التاريخ إلا
نتيجة تلاقح بين أفكار العلماء وحكمتهم وبين حزم الحكام وشعورهم بثقل الأمانة
التي أُسندت إليهم.
إن العلماء يقومون دائماً بدور الطلائع الذين يكتشفون الخطر قبل وقوعه،
وينبهون قومهم على المزالق قبل التورط فيها، ولذلك فإذا أردت أن تقيس وعي أمة
وقيمتها فانظر إلى علمائها وأثرهم ونظرة المجتمع إليهم.
ومن جهة أخرى؛ فحيثما انتشر الطغيان - سواء منه طغيان الفرد وطغيان
الجماعة - وسادت العقليات التى تضيق بالمساءلة والنصح، وتحكمت العصبيات
والأهواء؛ فإنك واجد انحساراً لأثر العلماء، لأنهم أول من يتأثرون بهذه الموجات
التي هي وبال على الأمة كلها.
وسبب أنهم أول من يتأثر هو أن الشيطان - العدو الأول للإنسان والعدو
الأول لعنصر الخير فيه - أول ما يتوجه بكل قوته إلى هذا العنصر من الأمة ليفسده
لأنه بفساده يسهل إفساد الأمة، وتعطى الحجة لكل ضعيف النفس خائر العزيمة كي
ينطلق - مسوقاً بالشبهات والشهوات - نحو الفساد والإفساد.
وسبب آخر هو أن أدوات الطغيان والتسلط والعصبيات لا تشعر بالأمن
والطمأنينة، ولا تطول مدتها إلا في غياب أو (تحييد) هذه العناصر المهمة من
المجتمع.
إن مهمة العلماء مهمة صعبة، لأنهم يتصدون لجبهات صعبة، ولا يفوزون
بالتفاف الجماهير حولهم وبثقتهم بهم إلا بعد انتصارهم على هذه الجبهات التى
يتصدون لها، ومن هذه الجبهات: جبهة النفس وما فيها من أهواء وشهوات،
وجبهة الإغراءات الخارجية التى تخاطب حظوظ النفس هذه، وجبهة التهديد
والتخويف من أجل كتم كلمة الحق أو إضفاء الشرعية على الباطل.
كان لابد لهذه القرون المتطاولة على المسلمين والتى أصابهم فيها ما أصابهم،
وحاق بهم ما حاق من الغفلة عن أمور دينهم، والإهمال لأسس التقدم والرقي - من
أن تترك أثراً في النفوس. ومن أشد ما ابتلي به المسلمون في عصور انحطاطهم
وما يزالون فيه (فقدان الحرية) ، وجهلهم بما يجب لهم من حقوق، وما يجب
عليهم من واجبات، حتى كادوا يتحولون إلى جموع كثيفة فاقدة الإحساس بالحياة،
لقد تركت هذه البلوى - فقدان الحرية - في النفوس تردداً وخوفاً، ونكتت في
القلوب نكت الضعف والانكفاء على الذات والهروب من مواطن الكفاح من أجل
خير الجماعة، حتى العلماء الذين من المفترض أن لا يخافوا في الله لومة لائم
أصبحتَ في كثير من البلاد لا ترى فيهم إلا قلوباً منخوبة من الفزع، ونفوساً
مسكونة بحب السلامة.
من السلبيات التى تلاحظ -إذا ما اجتمع جمع من العلماء لأمر ما - الإسهاب
في القضايا الفرعية، والخروج عن الموضوع الذي اجتُمع من أجله، فلو افترضنا
أن المجال أُعطي لعدد منهم كى يبدي رأيه في مسألة فإنه لا يدخل في الموضوع
مباشرة، بل يجول جولة خطابية أو علمية، وقد يذهب بعيداً فيتعب نفسه، ويتعب
من يستمع إليه ولا يصل إلى النقطة التي طُلب منه إبداء الرأي فيها إلا وقد غزا
الملل النفوس وأغلق عليها منافذ قبول وجهة نظره حتى لو كانت صحيحة أو قيّمة،
وهكذا لا يعطي المجال لغيره إلا بعد أن لا يكون قد ترك في نفوس السامعين إلا
الضجر، فيأتي الآخر متأثراً بهذا الجو الذي أحس به عندما كان يستمع -فيعلن أنه
لا يريد أن يكون خطيباً ولا واعظاً؛ فالمقام لا يسمح! وما إن يتلفظ بعبارة أو
عبارتين حتى ينسى نفسه، وينزلق إلى مثل ما انزلق به الأول، وقد يغرق في
قضية أخرى قد تكون من وحي تجاربه الشخصية ويسترسل في الحديث عن نفسه،
ثم يمسه طائف من الرحمن فيتذكر فيبدأ بالاعتذار من مدير الجلسة ثم من مساعديه
ثم من المستمعين ... ! وقد يقاطَع بأن الوقت لا يكفي، فيستمهل حتى يكمل هذه
الفكرة الأخيرة، فإما أن تضيع الفكرة الأساسية في هذا الخضم المتلاطم من الكلام
المتزاحم، وإما أن لا يبقى وقت أصلاً لعرضها.
وقد ينبري آخر للكلام ليسد الخلل ويصلح ما أفسد من سبقه، فيلوي من عِنان
الإفاضة والاستطراد عن الموضوعات الفرعية، والبطولات الشخصية إلى المدح
العريض الذي تعافه النفوس لمسؤول كبير أو صغير.
لقد فكرت في هذه السلبيات وغيرها التي تعتري كثيراً من العلماء عند طرقهم
لمسألة من المسائل، أو انتدابهم للإدلاء برأيهم في قضية من القضايا أمام جهة
رسمية أو مسؤول حكومي، وتساءلت بيني وبين نفسي عن أسبابها، ولماذا لا
يكون هناك التأثير المطلوب لهذه الآراء والانتفاع المنتظر منها. ولا أدَّعي أنني
اهتديت إلى وجه الحق الكامل في ذلك.
1 - يغلب على العلماء التفكير الفردي المزاجي، ولا يفكرون تفكيراً جماعياً
قبل مناقشة الفكرة الأساسية؛ ولذلك يحرص كل واحد على عدم كشف أوراقه، فلا
يناقش مع غيره كيف سيطرح فكرته ولا كيف سيناقش أفكار غيره، ويعتد كلٌّ
بأسلوبه، ويستهين بوجهات نظر الآخرين في طريقته، ويقوّم نفسه وقدراته تقديراً
مبالغاً فيه، وقد يكون عدم مناقشته ماذا سيقول ويطرح أمام أصحابه خوفاً من نقدهم
وتهرباً من مواجهتهم.
2 - هناك مشكلة أخرى ومرض يصيب بعض العلماء وهو (مرض الكلام)
(إذا صح أن نطلق هذا المصطلح) وهو أن بعضهم لاعتياده مخاطبة الناس يصاب
بنوع من الإدمان على ذلك، ومعنى الإدمان هنا أنه يفقد التمييز بين المواقف التي
يصلح فيها الاختصار، والمواقف التى يصلح فيها الإطناب والتفصيل، ويظن أنه
إذا أسهب مرة أو أثنى الناس عليه فهذه دعوة له ليطنب ويسهب مرات أخرى، مع
أنه (لكل مقام مقال) .
3 - أما مشكلة المبالغة في المدح فهذه قد يكون مبعثها الرهبة والخوف من
الممدوح، أو رجاء شيء عنده، والمبالغة في المدح تشمل مدح الشخص بما ليس
فيه، وهذا أمر خطير، وصدوره من العلماء أخطر؛ لأنه كذب وبهتان، فمن
الكذب والبهتان أن يقال لمن لا يهتم بكتاب ولا بسنة: أنت ملتزم بالكتاب والسنة،
ومن الكذب وشهادة الزور أن يوصف من يسخر من الدين والمتدينين بأنه متدين!
ومن الكذب كذلك أن يوصف حديث شخص يتسم بالمداورة والمناورة بأنه كلام وافٍ
شافٍ ليس عليه غبار!
وإن الإنسان ليعجب كثيراً من علماء أمة من عقيدتها أن الخوف والرجاء لا
يكون إلا لله. ومن هدي رسوله -صلى الله عليه وسلم- قوله: «إذا رأيتم
المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» [1] ومع ذلك يضطرون إلى هذا الأسلوب،
وبعضهم يلجأ إلى تسويغ ذلك بطرق غير مسلَّمة فيظنون أن هذا من (الحكمة) حتى
يكسبوا الناس ويستميلوهم إلى حظيرة الإسلام، ولكنهم ينسون أن مدح الشخص بما
ليس فيه والمبالغة في الثناء عليه لا تستميله، بل قد تبعده؛ لأنه أعرف بنفسه من
غيره فماذا سيكون ظنه بمن يجعله من بقية السلف الصالح وهو عند نفسه من المردة
والشياطين؟ ! ، أما إذا صدَّق واعتقد أنه كما يقول المادح - وهو ليس كذلك - فهذا
فتنة له، وتغرير به، ومساعدة على هلاكه، لا إنقاذه.
إننا نربأ بالعلماء أن يُختبروا فتنكشف منهم نقاط الضعف التي تُطمع بهم مَن
لا يريد بهم الخير، ولا يريد لرسالتهم في المجتمع أن تُبلَّغ.
ونختم هذه الكلمة بالتذكير بعنصر مهم جداً في بناء الشخصية بعامة،
وشخصية العالم بخاصة، وهو الثقة بالنفس التى تنبع من العقيدة التي يؤمن بها
ويعمل لأجلها، ومن الحق الذي يمثله في نظر من يلتف حوله، وهذه الثقة هي
غير الادعاء الذي يدفع بعض الناس للتطاول واحتقار آراء الآخرين، والاعتقاد
بصواب ما يأتون به هم فقط وتسفيه ما عداه. ثقة إيجابية تبعث الطمأنينة في
النفوس، ولا تبالي بكثير من الرسوم والظواهر التى ينخدع بها السذج والبسطاء.
إن الثقافة العلمانية - التي سادت في القرن الأخير - عملت على زرع
أمراض كثيرة (كالتردد، والخوف، واستصغار النفس واحتقارها) في نفوس كثير
من علماء المسلمين، وما لم تقدم ثقافة قائمة أساساً على نفوس محصنة ضد هذه
الأمراض فسوف تظل للعلمانية اليد العليا، وهذا ما لا ينبغي في مجتمعات تعتقد أن
كلمة الله هي العليا.
__________
(1) صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، ح69.(29/4)
آية من كتاب الله
[ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً]
[الإسراء: 36]
(الشيخ محمد الأمين الشنقيطي،
أضواء البيان، 3/524)
(نهى - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به
علم، ويشمل ذلك قوله: رأيت؛ ولم ير، وسمعت؛ ولم يسمع، وعلمت؛ ولم
يعلم، ويدخل فيه كل قول بلا علم، وقد أشار -جل وعلا- إلى هذا المعنى في
آيات أُخَر كقوله [إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً] [النجم: 28] .
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد، قالوا: لأنه اتباع غير
العلم. ولا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات على منعه، أما
استدلال بعض الظاهرية - كابن حزم ومن تبعه - بهذه الآية على منع الاجتهاد في
الشرع مطلقاً، ومنع التقليد من أصله، فهو مَن وضع القرآن في غير موضعه،
لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة،
ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيفتيه،
فيعمل بفُتياه، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين، وسنذكر هنا طرفاً قليلاً من ذلك به
صحة القول بالاجتهاد - تعالى -[فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ] [الإسراء: 23] فإنه لا
يشك عاقل في أن النهي عن التأفف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب
المسكوت عنه.
ونهيه -صلى الله عليه وسلم- عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن
التضحية بالعمياء مع أن ذلك مسكوت عنه، وقوله - تعالى -[إنَّ الَذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ اليَتَامَى] [النساء: 10] لا شك في أنه يدل على منع إحراق مال اليتيم
وإغراقه؛ لأن الجميع إتلاف له بغير حق.
ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز، ما أخرجه
الشيخان عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى
الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم
عنها؟ قال: «أفرأيت لو كان على أمك دَين فقضيته أكان ذلك يؤدَّى عنها؟»
قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك» .(29/9)
من نور النبوة
من صفات المؤمن
1- عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
«المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خَبٌّ لئيم» [1] . [صحيح سنن الترمذي،
2/187] .
2- عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«يحرم على النار كل هين لين قريب سهل» . [صحيح ابن حبان،
1096-الترمذي، 4288]
3- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال:
«المؤمن لا يُلسع من جُحر واحد مرتين» وفي رواية: «لا يُلدغ المؤمن
من جحر مرتين» [2]
[أخرجه البخاري ومسلم] .
__________
(1) قال صاحب جامع الأصول: الغِرّ: الذى لم يجرب الأمور لسلامة صدره، وحسن الباطن والظن في الناس، فكأنه لم يجرب بواطن الأمور، ولم يطلع على دخائل الصدور، فترى الناس منه في راحة، لا يتعدى إليهم منه شر، والخب: الخداع المكَّار الخبيث.
(2) قال الخطابي: يلدغ: بالضم على وجه الخبر ومعناه أن المؤمن هو الكيّس الحازم الذي لا يُؤتَى من جهة الغفلة، والمراد به الخداع في أمر الدين ولا في أمر الدنيا.(29/11)
مراجعات في عالم الكتب
أزمة الحوار الديني [*]
مراجعة: محمد سليمان
من الكتب التي أحدثت في الآونة الأخيرة ضجة وردوداً بين صفوف
الإسلاميين كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)
والجديد في كتاب الغزالي هو أنه خلاصة آراء له كان ينشرها هنا وهناك في كتبه
القديمة والحديثة، مع زيادة في حدة اللهجة وعصبية وتشنج ربما كان يكتمه سابقاً.
ولخطورة الآراء التى طُرحت، أو بالأصح لخطورة المنهج التى طرحت فيه، فقد رُد عليه ردوداً علمية من أبرزها ما كتبه الشيخ سلمان العودة في (حوار هادئ
مع الشيخ الغزالي) ونعرض في هذا المقال نقداً آخر يركز على ما وراء هذا الكتاب
والجو الذي أُحيط به.
قدم الكاتب للموضوع بمدخل مهم جداً، وهو أن (الهم الداخلي) أصبح في
السنوات الأخيرة أوْلى من (الوافد الخارجي) ؛ فالتيارات العلمانية والقومية شهدت
الهزائم التاريخية ولم يبقَ منهم إلا الفلول، وتحول بعضهم لمحاولة التلفيق بين
العلمانية والإسلام.
من هنا تبدأ الخطورة، ومن هنا نبدأ بتلمُّس طرف الخيط كما يقال: (فقد
أصبح الداخل الإسلامى خليطاً بفعل توافد جماعات من المفكرين والباحثين ممن
يحملون تراثاً شخصياً علمانياً أو قومياً أو شيوعياً توافدهم إلى الساحة الإسلامية،
واتجاههم إلى البحث ومخاطبة الجماهير تحت شعارات الإسلام) [1] .
(وهذه النماذج الفكرية التى دلفت إلى (الداخل) الإسلامي، قد نجحت في ... إحداث بعض التأثير في توجهات وهموم بعض المفكرين والدعاة الإسلاميين) [2] .
(وهذه النماذج لم تدخل عن إيمان راسخ أو إسلام صادق وإنما دخلوا على أساس أن الأرضية التي يمكن أن يكون لهم وجود على أساسها تحولت كلية نحو الإسلام) [3] .
هذه الفلول التى عاشت سابقاً في مناخ التكتيك السياسي رأت أن التحدي
الأكبر لهم هو (كيفية إزاحة علماء الأمة ودعاتها ورموزها لكى يتبوؤا هم ... ريادة العمل الإسلامى، ولأنهم هم الممثلون (للعقلانية) و (للاستنارة) الدينية، وهذا التيار يلقى ترحيباً ودعماً من أجهزة ذات سلطان نافذ ومن تأمل المساحات الإعلامية المتاحة لهم يعلم ذلك) [4] .
وأظن أن القارئ بدأ يدرك مَن هم المقصودون بهذا الكلام والذين تتاح لهم
المساحات الواسعة من الإعلام، ولكن لا يزال عند المؤلف أشياء مهمة عن هذه
الفلول، ففي سبيل تحقيق أهداف هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الإسلامى لابد من
(كاسحات ألغام) تنظف لهم الطريق، فستعترضهم حصون علمية لا قِبَل لهم بها
لضعف مقدرتهم العملية أو لافتقارهم إلى الرصيد الدعوي الجهادي. إذن ماذا
يعملون، لابد من إحداث (خرق) في جدران القلعة، ولابد لمن يُحدث هذا الخرق
أن يكون من الشخصيات ذات الاستقامة الدينية والتراث الدعوي الشخصي.
هذه الشخصيات هي التي يراد توريطها لتقوم بهذه المهمة، وهذا الصنيع يتم
عبْر صياغة القضايا الفقهية والفكرية الإسلامية وحصرها ضمن إطار معين، ومن
الأمثلة على ذلك (ما حدث في أوائل الثمانينات إذ قامت إحدى المجلات الثقافية الكويتية - ذات الطابع العلماني - بتنظيم ملف شهري عن (التطرف الديني) كان جل المشاركين فيه ممن يحملون عداوة للفكر الإسلامى، ثم فوجئ القراء المسلمون باسم أحد الدعاة الإسلاميين يتوسط المشاركين في الملف، لم يكن حديث الدكتور يوسف القرضاوي في هذا الملف هُجراً، ولكن المنبر الذي عرض من خلاله والتوقيت الذي صدر به الملف كل ذلك جعل من المقال (ورطة) استدعت من فضيلة الدكتور أن يعتذر عنها فيما بعد) [5] .
إن صاحب فكرة كتاب (السنة النبوية) هو (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) في
واشنطن، الذي يصفه المؤلف بأنه أحد المؤسسات الإسلامية التي دلف إليها مؤخراً
نفر من هذه الفلول الفكرية، فلماذا يوجهون الشيخ الغزالي إلى هذا البحث وهم
يعلمون أن الشيخ لا يدخل - علمياً - تحت وصف (الفقيه) كما لا يدخل تحت
وصف (المحدث) .
إن مَن وجه الدعوة إلى الشيخ في هذه المواضيع إنما كان يبحث عن (كاسحة
ألغام) تمهد له الطريق أمام أطروحات أكثر خطورة، وقد صرح الغزالي بأن هذا
المنهج ليس منهجه الشخصى، بل شيء متفق عليه (وقد تدارست مع أُولي الألباب
هذا الجو الفكري السائد واتفقت كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق واقتياده إلى
الطريق المستقيم بأناة) .
بعد هذا المدخل المهم، الذي نوافق فيه المؤلف على مجمل الصورة التي
عرضها وخطورتها، ونعتقد أن الشيخ الغزالي كان عنده الاستعداد لمثل هذه
الكتابات ولا يخلو الأمر من توريط.
بعد هذا ناقش المؤلف مضمون الكتاب وركز على منهج الغزالي في طرحه
للمواضيع التي أثارها:
1- الفقه: لم يعالج الغزالي القضايا الفقهية بمنطق العلم والدليل وعرض
أقوال العلماء واختيار أصحها وأقواها، بل ربما حسب ذوقه الشخصي، فعندما
بحث موضوع الفن من موسيقى وغناء ونحت ومسرح ... قال: (ما المنهج الذي
أقدمه لهذه الأوساط الأوربية، هل أطلب إليهم إلغاء الفنون الجميلة جملة وتفصيلاً)
ومعلوم أن الفتوى لا تتعلق بأهواء البشر وإنما بمستندها الشرعي، فهل نهدر قيمنا
لإرضاء الذوق الغربي! وعندما تكلم على تحريم كل ذي ناب من السباع - كما
ورد في الحديث - رد هذا الحديث بحجة أن الحديث لا ينسخ القرآن، وهذا تجاهل
منه لمقررات أصول الفقه، والحديث لم ينسخ آية وإنما نسخ دلالة الآية، وهكذا
عالج مسألة (الحجاب والنقاب) فعندما رجح بتقديره أن تغطية الوجه ليست واجبة،
لم يحترم الرأي الآخر بل أراد مصادرته وأن من يقول به يسىء للإسلام. هذا
الاستخفاف بالقضايا الفقهية و (الزي الإسلامي) شجع أمثال أحمد بهاء الدين على
توبيخ المسلمين؛ لأنهم يبحثون: هل الربا حرام أم حلال بينما الأمريكيون يتابعون
رحلات الفضاء! !
2 - ولعل أخطر ما في كتاب الغزالي هو تناوله للحديث النبوي بصورة تفتح
الباب لا على مصراعيه للتجرؤ على السنة، فقد استبعد أحاديث لمجرد أنه لا
يستسيغها، ودون أي قاعدة علمية، ولو كان الأمر إليه لحذف كثيراً من الأحاديث،
وهكذا رد حديث موسى - عليه السلام - مع ملك الموت، وحديث: أن الميت
يعذب ببكاء أهله عليه، وحديث: تحريم كل ذي ناب من السباع ... الخ، بل
وصل الأمر إلى الاستهزاء عندما قال: (كان أئمة الفقه الإسلامى يقررون الأحكام
وفق اجتهاد رحب يعتمد على القرآن أولاً فإذا وجدوا في ركام (!) المرويات ما
يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع) فانظر إلى تعبير (ركام المرويات)
وهل هذا مما يليق بالحديث عن أشرف المرسلين؟ ! .
3 - يلاحظ أن الغزالي حريص على إبراز الإسلام أمام الغرب والشرق،
وهذا الحرص سبّب له مزالق تهدر به القواعد العلمية.
ففي معرض تعليق الغزالي على منع شهادة المرأة في القصاص والحدود قال:
(ولست أحب أن أوهن ديني أمام القوانين العالمية بموقف لا يستند استناداً قوياً إلى
النصوص القاطعة) ، إن من الخطورة بمكان أن يُدخل عالم مسلم ما يسميه (القوانين العالمية) في موازناته الشرعية، وإلا فسيجرّ البحث عن ميراث المرأة، وشهادة المرأة.
4 - عَامَلَ الشيخ أبناء الصحوة الإسلامية الذين قال إنه سيقتادهم برفق!
عاملهم بقسوة واستخفاف، وهذا ليس من المنهج القرآني في شيء [أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
وأخيراً فإن كتاب (أزمة الحوار الديني) على صغر حجمه إلا أنه عالج بصدق
منهج الغزالي في التفكير وطريقة تناوله للموضوعات التي أثارها، والأهم من هذا
هو اكتشافه التيار الذي يكمن وراء هذه الأطروحات، وأما معالجة القضايا التي
طرحها الغزالي، فلا شك أنها تحتاج إلى كتابات مستقلة يوضح فيها منهج أهل
السنة في ذلك، وهو نفسه منهج الفقهاء والمحدثين، ولا نفرق بينهما كما فعل
الغزالي.
__________
(*) - أزمة الحوار الدينى نقد كتاب (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) المؤلف: جمال سلطان الصادر عن مكتبة السنة، توزيع دار الصفا - القاهرة، الطبعة الأولى عام 1410هـ - 1990م.
(1) أزمة الحوار الديني، 8.
(2) المصدر السابق، 9.
(3) المصدر السابق، 9.
(4) المصدر السابق، 11-12.
(5) المصدر السابق، 18.(29/12)
في الدعوة والعمل
توجيهات تربوية
صالح بن عبد الله الدرويش
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونعوذ به من سيئات أعمالنا وبعد:
فإن الخير في هذه الأمة باقٍ إلى قيام الساعة مهما ادلهمت الفتن وانفض
الأعوان عن الطائفة المنصورة، ومن بشارات الخير عودة الناس ورجوعهم إلى
ربهم - سبحانه وتعالى- والمناداة بالرجوع إلى هدْي الرسول -صلى الله عليه
وسلم- والعمل على ذلك.
ومع بروز الصحوة الإسلامية واستبشار المسلمين بها إلا أنه لا يغني عن
دراسة الواقع لتقييم الخلل والسعي لإكمال النقص، من غير نقد للأشخاص أو
تشهير بالجماعات والأفراد، بل التمسك بالحق وحده.
صور من الميدان العملي:
الدارس لميدان الدعوة العملي يجد قضايا كثيرة تحتاج إلى بيان، ونقف اليوم
مع إحدى تلك القضايا ألا وهي تأثير صغار الشباب على زملائهم، وذلك لانشغال
غيرهم بالمؤتمرات وبحوثها، والتأليف في مواضيع مكررة غالباً مع حرصهم على
نشرها، ناهيك عن مشاغل الحياة وفتور الهمم، وحصل من هذا أن تولى تربية
الشباب أمثالهم، فهم الذين يقومون بالتوجيه والإرشاد، بل وتقويم الكتب والرجال
والمدارس الدعوية؛ لذا لابد من تدارك الأمر بمشاركة طلبة العلم الشباب
ومصاحبتهم والكتابة لهم بما ينير الطريق أمامهم.
الوقفة الأولى: الجانب التعبُّدي:
تسمع ما يعجبك من أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال
والأعمال الظاهرة والباطنة، وأنه لا عون للمسلمين إلا بصدق الالتجاء إلى الله..
وإذا نظرت في مصداق ذلك من خلال الواقع العملي تجد التفريط بالواجبات
المكتوبة، وفعل المحرمات، ومن الأمثلة:
أ- التهاون بأداء الصلاة مع الجماعة، لا سيما الفجر، وقد يؤديها المصلي
بعد شروق الشمس.
ب- عقوق الوالدين وإهمال حقوقهما وكذا سائر من تجب صلته.
ج- موالاة الكفار وعدم التفريق بين المسلم وغيره في التعامل، ومحبة أهل
البدع وتأييدهم.
د-التهاون بالذنوب عامة والإصرار عليها كأكل الربا، والمال الحرام،
والخلوة بالأجنبية.. وغير ذلك مما حرمه الله.
وهذه المظاهر ينبغي دراستها والنظر في أسبابها وكيفية التخلص منها وعلاج
الواقع، ولاسيما أن الدارس يجد الأمثلة الحية التى لا تُحصى والتى تؤكد وجود
النقص بل الخلل لدى قطاعات كبيرة من المجتمعات الإسلامية التي لا حرج من
الجزم بأنها تعيش على عقيدة الإرجاء؛ لذا لابد من إعادة النظر في المناهج
التربوية التى يسير عليها الدعاة وينبغي بذل كل ما في الوسع لغرس عقيدة الخوف
من الله - سبحانه وتعالى - ومراقبته في النشء وتربية الشباب على الرغبة فيما
عند الله من الأجر والثواب. وغرس هذه العقيدة في النفوس يحتاج إلى زمن
وتضافر جهود، والمهم السير في الطريق.
وثمار تأصيل هذه العقيدة لا تحصى، ويكفي أن عامة المشاكل المستعصية في
الساحة الإسلامية بسبب ضعف الخوف من الله - سبحانه - ومراقبته.
الوقفة الثانية: الجانب العلمي:
يمكن رصد ما يلي بوضوح وبلا مشقة على مستوى العالم الإسلامى، وإن
كان الوضع في بعض المناطق الإسلامية يبشر بخير والحديث هنا عن الشباب عامة
والمنتسبين لطلب العلم منهم خاصة ويلاحظ:
1 - قلة الاهتمام بالدراسات الشرعية الجادة؛ الإنتاج التجاري كثير ولكن
الدراسات العميقة الأصيلة قليلة، والأهم من ذلك أنك لا تجد مناهج للبحث.
2- التساهل في تلقي المعلومات وعدم البحث والتدقيق والنظر للعمل بالراجح
وتغليب الخمول والتقليد، والاعتماد على السماع في عامة المسائل الفقهية ونحوها،
ويبرر الشباب وضعهم بأنه لا حرج من الاستفتاء وأن حَمَلَة الفقه كثيرون، وهذا
العذر مقبول من غير المتخصصين في الشريعة، ولكن المصيبة حاصلة في قضايا
الفكر المعاصر، وبالتحديد في فقه الدعوة وفقه الواقع واتخاذ المواقف والقرارات
في الأحداث المستجدة على الساحة الإسلامية؛ فتجد الانغلاق الفكري وعدم السماع
إلا من أفراد معدودين ولو كانوا - باعتراف أتباعهم - جهلة في العلم الشرعى،
فيتساهل الشباب في قبول الفتاوى من أي جهة، وفي أي نازلة!
3 - يحرص بعض الدعاة على التقليل من أهمية العلم والعلماء وفيهم مَن لا
يتورع من نقد العلماء وإبعاد الشباب عنهم، فهذه مصيبة والحديث عنها يطول
وأختصره بإيراد قصة وسؤال.
أما الحادثة فقد وقعت في إحدى المناسبات، ففي تجمع شبابي، قُدمت قصص
فيها لمز بالعلماء وبعدها جرى نقاش في الموضوع وخلاصته: هل يوجد في هذه
الدولة علماء؟ ، وأجمع مَن حضر أنه لا يوجد ومع هذا تجد النقد المؤلم يوجه
للعلماء، والسؤال: أيهما أهم تعلم العلم الشرعى أو سائر العلوم الأخرى في حالة
قلة الدارسين للعلم الشرعى من الدعاة؟ ، ولكى يتضح المراد نضعه بالصيغة التالية:
تنبيهات لابد منها:
1 - إشعار الشباب بحاجة المجتمع عامة والدعوة خاصة إلى العلماء الربانيين، وأن الأمة عامة، والصحوة الإسلامية خاصة تعاني أشد المعاناة من قلة هؤلاء.
2- حث الشباب على طلب العلم وترغيبهم بذلك وتشجيعهم بالقول والعمل،
لعل الله - سبحانه وتعالى - يُخرج من بينهم علماء عاملين، ومعلوم أنه في كل فن
يقوم بدراسته والتخصص فيه آلاف الأشخاص، ولا ينبغ منهم إلا النادر، وكذلك
في الشريعة الإسلامية؛ فالشباب بأمس الحاجة إلى من يفقه الواقع ويتمكن من العلم
الشرعي وأصوله ويتحلى بالورع والحكمة.
3 - الحذر من تقليل شأن العلم الشرعي، والابتعاد عن نقد العلماء لكى
يستفيد الشباب من علمهم والدراسة عليهم، وهذا لا يمنع من بيان نقاط الضعف
عندهم أو التحذير من أخطائهم.
4 - لابد من بيان المنهج السليم لطالب العلم الشرعي للشباب وتشجيعهم على
سلوكه؛ لأنه منهج السلف الصالح، فعلى المربين الاهتمام والنظر في ميول الشباب
ورغباتهم وتوجيههم لطلب العلم.
الوقفة الثالثة: الوعي السياسي:
هذا الباب يدخل في فقه الواقع، ورحم الله ابن القيم حيث جعل فقه الواقع
يقابل الفقه الشرعي وشطره، بل ذهب الإمام القرافي - رحمه الله - إلى أبعد من
ذلك حين بيّن الفرق بين أدلة الأحكام وأدلة وقوع الأحكام وخرج بأن وقوع الأحكام
أوسع ويحتاجها القاضي والمفتي وغيرهم، فلا يمكن إيقاع الحكم على حادثة معينة
إلا بعد معرفة أدلة وقوعها وما يتعلق بها.
إن الدارس لواقع الشباب يجد اهتماماتهم جيدة في متابعة أخطاء وزلات
غيرهم، ويعتقد البعض أن تتبع العثرات هو قمة الوعي السياسي والحقيقة أن هذه
نظرة سطحية وتظهر فيها الضحالة لفقه الواقع والشرع، ومن سلبياتها التربوية ما
يلي:
أ- تعويد الشباب على الغيبة وذكر الشائعات وعدم التثبت من صحة الأخبار
وبالتالي يصبح الشباب نَقَلَة أخبار.
ب - فيه استهلاك للجهد والوقت وخاصة أن بعضهم يعتقد أن متابعة هذه
الأخبار ونشرها عين الدعوة، وأنهم بهذا العمل يخدمون الإسلام بينما العمل
الإسلامى بحاجة إلى العمل ومواصلة التربية الإيمانية دون القيل والقال.
ج -زعم كثير منهم أنه بتلك المتابعة أصبح من علماء السياسة مع جهله
بصحة الأخبار وعدم قدرته على تحليلها وإدراك أبعادها، لذا يرى - مَن هذا وصفه
- أنه ليس بحاجة إلى غيره لفهم الواقع وأن قراراته وأحكامه هي الصحيحة!
ضرورة شرعية لابد منها:
لابد من ربط الشباب بعقيدة الولاء والبراء والتأكيد على التعامل مع الناس من
خلال تلك العقيدة فإن الدارس لعقيدة الولاء والبراء يتعامل مع أقاربه وجيرانه
وسائر المجتمع من خلالها، فلا تنحصر المحبة لمن يوافقه في أفكاره وآرائه بل
المحبة لسائر المؤمنين من أقاربه وجيرانه وسائر الأمة.
وينبغي تنبيه الشباب على حفظ ألسنتهم وأسماعهم من الغيبة والقيل والقال ولا
رادع عن ذلك إلا بالخوف من الله - سبحانه وتعالى - ومراقبته - عز وجل - وإذا
جاء النقد من خلال الدراسات (وثائق وحقائق وأرقام) فهذا مطلب شرعي ولا حرج
فيه.
الوقفة الرابعة:
يزداد يوماً بعد يوم عدد الشباب الذين منّ الله عليهم بالتمسك بتعاليم الإسلام،
ولكن آثارهم في الواقع الاجتماعي أقل من حجمهم، وكسْب الواقع اجتماعياً وجعله
واقعاً إسلامياً من مهام الداعية الأساسية، وخاصة في المدن الصغيرة والقرى
والأرياف وذلك بالقيام بتطبيق تعاليم الإسلام وبذل مزيد من الجهد والعمل الإيجابى
الجاد ليكون لهم دور قيادي وفعال في مجتمعاتهم والمصالح المترتبة على ذلك كثيرة، وهنا لابد من ذكر بعض الملاحظات:
أ- لا يمكن أن يكون للداعية ولاسيما الشباب قيمة في المجتمع وله قبول
ومحبة لدى العامة من غير عمل إيجابي للعامة، يُحمد عليه، والأعمال - ولله
الحمد - متنوعة ومنها اليسير السهل ومن قام به نال الأجر والثواب، ومن الأمثلة
التي يغفل عنها مع أهميتها: صلة الرحم وزيارة الجيران والمناصحة، وتولي إمامة
المسجد، وكذا الأذان والخطابة.
ب - ينبغي أن يكون للشباب تواجد في المشاريع الخيرية التي تخدم البلد
والمساهمة في ذلك قدر الطاقة فإذا لم يكن ثمة مشاريع قائمة فعلى الشباب السعي
والبدء بها، لأن المشاركة في المشاريع الخيرية العامة تساهم في توثيق الصلة بين
الشباب وغيرهم من أعيان ووجهاء البلد وبالتالي إزالة الفجوة فيما بينهم.
ج - ضرورة مخالفة الشباب للعادات المحرمة شرعاً وبيان سبب مخالفتهم لها، والسعي لأن يفعل غيرهم فعلهم، وكذلك امتثال الأوامر الشرعية وإحياء السنن،
وحث غيرهم على ذلك ومتى كسب الشباب ثقة المجتمع سهل عليهم القيام بالمهمة
الشاقة وهي مخالفة العادات ومحاربة البدع والمنكرات وإحياء السنن والعمل بها
والله الموفق.(29/17)
شذرات وقطوف
إعداد: نجوى محمد الدمياطي
أركان التوحيد
الرضى بالله رباً: أن لا يتخذ رباً غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، وينزل به حوائجه، قال الله تعالى: [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباً وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ] [الأنعام: 164] قال ابن عباس رضي الله عنهما -: (سيداً وإلهاً) يعني فكيف أطلب رباً غيره. وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة: [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [الأنعام: 14] يعني معبوداً وناصراً ومعيناً وملجأ. وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة. وقال في وسطها: [أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً] [الأنعام: 114] أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه، وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه؛ وقد أنزله مفصلاً، مبيناً كافياً شافياً.
وكثير من الناس يرضى بالله رباً، ولا يبغي رباً سواه، لكنه لا يرضى به
- وحده - ولياً وناصراً، بل يوالي من دونه أولياء، ظناً منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك ...
وكثير من الناس يبتغي غيره حكماً، يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضى
بحكمه ... وهذه المقدمات الثلاث هي أركان التوحيد: أن لا يتخذ سواه رباً، ولا
إلهاً، ولا غيره حكماً.
(ابن قيِّم الجوزية: مدارج السالكين، 2/189)
قاعدة الدعوة:
إن نظام الله خير في ذاته، لأنه من شرع الله.. ولن يكون شرع العبيد يوماً
كشرع الله.. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة، إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله
وحده أياً كان - ورفض كل شرع غيره أياً كان - هو ذاته الإسلام، وليس للإسلام
مدلول سواه.
(سيد قطب: معالم في الطريق)
توجيه طاقة المسلم:
نحن بحاجة إلى إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيوية، وتوجيهها، وأول ما
يصادفنا في هذا السبيل هو أنه يجب تنظيم تعليم (القرآن) بحيث (يوحي) من
جديد إلى الضمير المسلم (الحقيقة) القرآنية، كما لو كانت جديدة، نازلة من فورها
من السماء على هذا الضمير ...
وثاني ما يصادفنا هو أنه يجب تحديد رسالة المسلم في العالم. فبهذا يستطيع
المسلم منذ البداية أن يحتفظ باستقلاله الأخلاقي، حتى لو عاش في مجتمع لا يتفق
مع مَثَله الأعلى ومبادئه، كما أنه يستطيع أن يواجه -رغم فقره أو ثرائه -
مسئولياته مهما يكن قدر الظروف الخارجية الأخلاقية والمادية.
(مالك بن نبي: ميلاد مجتمع)
سبيل المجرمين:
حتى يظهر الحق فلابد أن يستبين الباطل.. وطالما أن الباطل متخفٍّ وراء
شعارات وأسماء فلن يكون الحق ناصعاً -إلا لمن عصم الله -.
فإظهار عوار المبطلين وجهل الجاهلين وألاعيب المزيفين هو ظفر في حد
ذاته لدين الله - تعالى -، وقد قال - عز وجل -: [ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]
[الأنعام: 55] ؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف بذاته مطلوب بنص كتاب الله -
تعالى - وهو هدف أسمى.
(محمد العبدة: مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم)(29/23)
خواطر في الدعوة
من سنن الأنبياء
الأخذ بالأسباب المادية
محمد العبدة
في غمرة الاندفاع العاطفي، وزحمة الأحداث والقراءات السطحية، يتناسى
المسلمون أو قد يجهلون سنن التغيير التي أودعها الله - سبحانه وتعالى - في كتابه
أو أجراها على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- بل إن بعض هذه السنن قد
يعرفها الناس بالتجربة الطويلة والخبرات المتراكمة المتأملة، ومن هذه السنن أن
الدعوات الصادقة إذا أريد لها النجاح لابد لها من قوى تؤيدها وتنصرها، قوى من
التكتل الجماهيري الذي يلتف حول هدف واضح محدد أو - بمصطلح ابن خلدون -
لابد من (العصبية) التي تعني الالتحام والتعاضد والتناصر لتحقيق هدف معين،
وليس المعنى المذموم لكلمة (عصبية) ، وإذا كان التكتل سابقاً يعتمد على القبائل
والعشائر، فإنه في العصر الحديث يعتمد على جميع شرائح المجتمع، الذين يلتفون
حول علماء - فقهاء، يعلمون بفقههم وتفكيرهم سنن التغيير وتحويل المجتمعات
والتأثير فيها، وخاصة ما نحن فيه من تعقيدات هذا العصر.
هذه القوة والمنعة هي التي افتقدها نبي الله لوط - عليه السلام - حين قال:
[قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] [هود: 80] ، فقال رسول الله-
صلى الله عليه
وسلم-: «رحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد، وما بعث إليه بعده نبياً
إلا وهو في ثروة من قومه» [1] .
ويقول الإمام الجويني: (وما ابتعث الله نبياً في الأمم السالفة ... حتى أيده وعضَّده بسلطان ذي عدة ونجدة، ومن الرسل - عليهم السلام - مَن اجتمعت له النبوة والأيد والقوة كداود وموسى وسليمان - صلوات الله عليهم
أجمعين -) [2] ، فإذا كان الأنبياء يؤيَّدون (بثروة من قومهم) وهي القوة والمنعة في العدد والعدة، وهم مع ذلك مؤيَّدون بالمعجزات وخوارق العادات، فكيف بغيرهم الذين يرومون التغيير بالعشرات أو المئات، ويقولون نحن نتوكل على الله، لا شك أن المسلم يطلب العون من الله ويتوكل عليه، والله - سبحانه - وعد بنصر المسلمين، ولكن لابد من الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن أهمها تجميع القوى التي تناصر وتعاضد.
هل درسنا هذا الموضوع بعمق وأناة أم أن مقولة (نعمل والنتائج على الله) لا
تزال هي الشائعة والأكثر قبولاً ورواجاً، مع أنها ظاهرياً صحيحة فهي كلمة حق
تُستخدم في غير محلها، فالقول بأننا نعمل يجب أن يمحص؛ إذ ما أدراك أن عملك
صواب، قد أخذت فيه بالأسباب؟ ، نعم، إذا بذل الجهد الصحيح فالنتائج على الله، أما أن يُعمل أي عمل ثم يقال (النتائج على الله) ؛ فهذا ضرب من حب السهولة،
وحتى نستريح نفسياً من اللوم والتقريع، وحتى لا ننقد أنفسنا، حتى لو فرضنا أنه
توفر عنصر الإخلاص في هذا العمل، فهذا لا يكفي إذ لابد من معرفة سنن الله في
التغيير.
__________
(1) صحيح الجامع الصغير، 3/176 وقال عنه حديث حسن.
(2) غِياث الأمم، 182.(29/26)
تاريخ
الطبقة الخامسة من الصحابة في كتاب
الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد
(عرض وتحليل)
(2)
د. محمد بن صامل السلمي
دراسة تحليلية للطبقة الخامسة من الصحابة:
خصص المؤلف هذه الطبقة للذين كانوا أحداث الأسنان يوم قبض النبي -
صلى الله عليه وسلم-، ولم يغزُ أحد منهم معه، وقد حفظ عامتهم ما حدثوا به عنه، ومنهم مَن لم يحفظ ما حدث به عنه، ولكن أدركه ورآه. فهذا شرطه فيمن يذكره
في هذه الطبقة ويعتبره منهم، فلننظر هل وفَّى بهذا الشرط؟ وهل استقصى كل من
ينفق عليهم هذا الشرط فذكرهم؟
لقد ترجم لستة وأربعين رجلاً في هذه الطبقة، منهم عشرة من بني هاشم،
ورجلان من بني أسد، وثلاثة من بني زهرة، وستة من بني مخزوم، وتسعة من
بقية قريش وحلفائهم، وسبعة من الأنصار، وخمسة من سائر القبائل، وأربعة من
أبناء اليهود الذين أسلموا، وكلهم ينطبق عليهم شرطه إلا ثلاثة:
1- عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب: ذكر أن عمره يوم مات النبي -
صلى الله عليه وسلم- نحواً من ثلاثين سنة، وقتل مجاهداً في أجنادين سنة ثلاث
عشرة، فإذا كان هذا عمره يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يكون
من أحداث الأسنان؟ ولعل قائلاً يقول: إنه نص على أنه لم يغزُ مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- وهذا من شرطه. ولكن ليس كل من لم يغزُ مع النبي -صلى الله
عليه وسلم- يدخله في هذه الطبقة وإن كان كبيراً في السن.
2 - ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب الأشهلي: فإنه
قد وهم في اعتباره من هذه الطبقة بسبب التشابه بين اسمه واسم صحابى آخر هو
ثابت بن الضحاك بن أمية بن ثعلبة الخزرجي، والأول أوسي، ولعل الخزرجي
هو مراد ابن سعد فإنه هو الذي ينطبق عليه شرطه في هذه الطبقة أما الأوسي فإنه
ممن شهد الحديبية.
3- عبد الله بن صياد، وأمره مشكل، واختلف فيه هل هو الدجال الأكبر أم
غيره؟ وجزم كثير من أهل العلم بأنه دجال من الدجاجلة.
وقد عرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام فلم يقبل، وكونه أسلم
وصلح حاله بعد ذلك، لا يكون مسوغاً لإدخاله في الصحابة؛ لأنه لم يؤمن بالنبي
-صلى الله عليه وسلم- حال لقياه له، ولكن ابن سعد لم ينفرد باعتباره من الصحابة، بل ذكره غيره ممن ألَّف في الصحابة.
وبالنسبة للسؤال الثاني الذي طرحناه، هل استقصى كل مَن انطبق عليه
شرطه في هذه الطبقة، والجواب: أنه لم يشترط الإحاطة والاستيعاب، فإذا وجد
مَن هذا حاله ولم يذكره فلا يؤاخَذ عليه. وإن ممن يمكن اعتباره في هذه الطبقة،
النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، فإنه في سن عبد الله بن
الزبير أو قريباً منه، ولم يغزُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ممن روى
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وحفظ عنه، وأحاديثه كثيرة مشهورة، قال
الذهبي: هو من الصحابة الصبيان باتفاق [1] .
وكذا يزيد بن الأسود بن سلمة بن حجر الكندي، فقد نص ابن حجر - في (الإصابة) - على أنه من الصحابة الصغار [2] ، ولم يترجمه ابن سعد في هذه الطبقة ولا غيرها إلا أنه ذكره عندما ترجم لوالده في الطبقة الرابعة وقال: إنه وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع والده وهو صغير فدعا له [3] . ...
وفي ترتيبه للأسماء داخل الطبقة التزم بالترتيب على النسب كما فعل في
الطبقات السابقة إلا في أشياء يسيرة، فقد ذكر عبد الرحمن بن أبزى مولى خزاعة، بعد السائب بن يزيد الكندي، وكان حقه أن يذكر بعد نافع بن عبد الحارث الخزاعي - حسب المنهج الذي سار عليه في الطبقات السابقة بذكر مولى القوم وحليفهم معهم. ومن ذلك ذكره عبد الله بن ثعلبة بن صغير، حليف بني زُهرة وعبد الله بن عامر بن ربيعة، مولى الخطاب بن نفيل، بعد مولى خزاعة وكان حقهما أن يذكرا ضمن حلفاء قريش ومواليهم وأيضاً بالنسبة للأنصار فإنه لم يفصل الأوس عن الخزرج بل ذكر الأسماء مختلطة.
وقد ذكرنا من الظواهر العامة في منهجه، أنه يطيل في بعض التراجم
ويختصر في أخرى، وهذا بيّن في هذه الطبقة، فإن أربعة منهم [4] قد شغلوا
أربعاً وعشرين ومائة لوحة من المخطوطة، وبقية التراجم - وعددها اثنتان
وأربعون ترجمة - كانت في إحدى وأربعين لوحة فقط. وبالنسبة للروايات
والأسانيد، فقد بلغت في هذه الطبقة خمس عشرة وسبعمائة رواية. منها اثنتان
وسبعون وخمسمائة رواية في تراجم الأربعة المذكورين، وثلاث وأربعون ومائة
رواية في بقية التراجم.
ولو بحثنا عن سبب ذلك لوجدنا أن أهمية المترجم، وتوفر المعلومات لدى
المصنف لها نصيب في هذا، فهؤلاء الأربعة كان لهم إسهامات علمية، ومشاركات
سياسية، ولهم منزلة قيادية في توجيه المجتمع والتأثير عليه.
ولذا اعتنى بتتبع أخبارهم وفضائلهم، وحياتهم الاجتماعية، والسلوكية،
ومواقفهم السياسية، وقد وجد مادة علمية تساعده على بناء الترجمة وصياغة
تاريخها.
فمثلاً في ترجمة عبد الله بن عباس - بعد أن ساق نسبه وذكر أولاده - ساق
سبع روايات تتعلق بتحديد زمن ولادته، ثم سبع عشرة آية عن دعاء النبي -صلى
الله عليه وسلم- له، ورؤيته لجبريل، ثم ركز على فضائله العلمية، وتقدمه في
ذلك حتى صار إماماً يُستفتى في كثير من العلوم الشرعية والعربية، وذكر ملازمته
لعمر بن الخطاب، وعلاقته مع عثمان بن عفان وأنه استخلفه على الحج عندما
حُصر، ثم وقوفه مع علي بن أبي طالب بالمشورة والعمل له، ومحاجته للخوارج،
ثم موقفه من خلافة يزيد، ومن عبد الله بن الزبير، ثم ذكر ثلاثين رواية تتعلق
بهيئته الشخصية مثل خاتمه، ولباسه، وعمامته، وإزاره، وشعره، وخضاب
لحيته ... الخ. ثم ذكر أكثر من عشر روايات تتعلق بوفاته وثناء المعاصرين له
عليه.
والمعلومات التى قدمها عن ابن عباس معلومات أولية قيمة موثقة بالإسناد
حفظها ابن سعد في هذا الكتاب الذي يعتبر من أقدم المصادر التي وصلت إلينا عن
تاريخ الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وبعملية إحصائية نجد أنه قدم هذه
المعلومات من خلال إحدى وأربعين ومائة رواية بلغت الأسانيد الصحيحة أو الحسنة
ستة وخمسين سنداً، والأسانيد الضعيفة اثنين وسبعين سنداً، والأسانيد الضعيفة جداً
ثمانية أسانيد، والأسانيد المتوقف في الحكم عليها خمسة أسانيد، وبلغ عدد المتون
التي وردت من طرق أخرى صحيحة أو حسنة ثلاثة وخمسين سنداً، وبذلك يرتفع
عدد المتون الصحيحة إلى تسعة ومائة متن، أي بنسبة 77% بالنظر إلى عدد
المرويات، وهذه نسبة عالية إذا قورنت مع كتب التراجم والأخبار المماثلة.
وفي ترجمة الحسن والحسين، قدم معلومات وافية عن تسميتهما وحلق
شعورهما والعقيقة عنهما، وفضائلهما، وحياتهما الاجتماعية، ومواقفهما السياسية
وأطال في قصة خروج الحسين إلى العراق ومقتله، ووصف ذلك وصفاً دقيقاً
متتابعاً، وأورد من التفاصيل الدقيقة عن لحظة مقتله ما يثير الشك في صدق تلك
التفاصيل، ومقدرة الرواية في ذلك الزمن على حفظ هذه المعلومات الدقيقة ونقلها،
وقد أورد خبر المقتل بأسانيد مجموعة كلها ضعيفة من طريق الواقدي عن شيوخه،
والمدائني عن شيوخه ثم كمل ذلك بروايات مفردة من طريق المدائني ومن طريق
الواقدي ومن طريق شيوخ آخرين، وبلغ عدد الروايات المفردة خمساً وأربعين
رواية والذي صح إسناده منها ثمانِ روايات فقط، مما يدل على مبلغ التزيد
والوضع في هذه القضية، التى كانت فرصة جيدة للمذهب الشيعي في الدعاية له
والاجتماع حول مبادئه، واستغلال عواطف الناس ومشاعرهم بهذه القضية المؤثرة، والمتابع لنشأة التشيع وتطوره يجد أنه قد دخل في طور وتحول فكري جديد بعد
حادثة مقتل الحسين، وأنه اتخذ هذه الحادثة معلماً من المعالم المتجددة في كل عام،
ومأتماً يُظهرون به الجزع والحزن لإثارة العامة وكسب مشاعرها.
وهذا القسم يشكل جزءاً مستقلاً، عنونه بقوله: مقتل الحسين - صلوات الله
عليه - وفي آخره قال: آخر مقتل الحسين بن علي - رحمه الله -.
أما ترجمة ابن الزبير فقد شغلت إحدى وثلاثين لوحة ذات وجهين من
المخطوطة، استوعب فيها نواحي متعددة من حياة عبد الله بن الزبير، عن ولادته
ونشأته، وأولاده، وفضائله، ومشاركته في الحياة العامة، وزهده وعبادته وموقفه
من الأحداث في عصره، وموقفه من بيعة يزيد بن معاوية، ثم مبايعته بالخلافة بعد
موت يزيد، والأحداث التى تمت في خلافته، مثل بناء الكعبة، وثورة التوابين
ومقتل المختار، ومعركة برج راهط، وانتزاع عبد الملك بن مروان العراق،
ومقتل مصعب بن الزبير، ويختم الترجمة بوصف مقتله والأحداث التي صاحبت
ذلك، ويصف الساعات الأخيرة وصفاً تسجيلياً دقيقاً، وقد يكون فيها مبالغة ولكن
رواته هنا أمثل قليلاً من رواته في مقتل الحسين - رضي الله عنه - ولبعض ما
ذكره بإسناده الجمعي في مقتل ابن الزبير شواهد صحيحة، وقد اشتملت الترجمة
على مائة رواية، عن تسعة وعشرين شيخاً، والراوية الأساسي فيها هو الواقدي،
حيث تشكل نسبة الرواية عنه 39% من عدد المرويات، ومنها خمس روايات
طويلة وبأسانيد مجموعة تمثل الجانب التاريخي من حياة ابن الزبير، وتمثل 50%
من النصوص الواردة في ترجمته مما يمكن معه القول بأن حوالي 75% من ترجمة
ابن الزبير هي من طريق الواقدي، ولذلك فإن نسبة النصوص الصحيحة فيها أقل
مما في ترجمة ابن عباس، إذ تبلغ نسبتها قريباً من 52% من عدد المرويات.
وفي ترجمة المسور وهو ممن عاش مع ابن الزبير وناصره، نجده يقدم
ترجمته من خلال سبع وثلاثين رواية منها ست وعشرون رواية من طريق الواقدي
وهي تشكل 70% من عدد المرويات، وعدد المتون الصحيحة في الترجمة يمثل
38% وهي نسبة قليلة، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار النصوص التاريخية التي
يرويها الواقدي من طرق عبد الله بن جعفر عن عمته أم بكر بنت المسور فإن
النسبة ترتفع إلى 75%.
بينما نجد ترجمة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهي تأتي بعد ترجمة
المسور في الطول - وهو حجازي عاش بالمدينة - لا تمثل روايات الواقدي فيها
سوى 34.5% بالنسبة لعدد المرويات البالغ ثلاثاً وعشرين رواية، ونسبة المتون
الصحيحة فيها56.5 %.
وفي ترجمة الضحاك بن قيس الفهري يورد المؤلف سبع روايات، واحدة عن
عفان بن مسلم، واثنتان عن الواقدي، وأربع روايات عن المدائني، منها رواية
بأسانيد مجموعة، وفيها تفصيل لموقعة مرج راهط ومقتل الضحاك، وهي طويلة
إذ تشكل حوالي 70% من كامل الترجمة.
أما بقية التراجم فهي قصيرة ورواياتها قليلة.
ولو تتبعنا المعلومات والنصوص المتعلقة بالأحداث التاريخية - والتي أوردها
المصنف من خلال تراجم هذه الطبقة - وحاولنا تحليلها ونقدها لوجدناها تعطي
صوراً متباينة، وتعكس وجهات نظر متعددة، لا يمكن تصنيفها في اتجاه واحد،
مما يعطي صورة واضحة عن مدى أمانة المصنف واستقامته، وحرصه على
عرض النصوص كما بلغته دون أن يتدخل في توجيه النصوص وفرض رأي محدد
على القارئ، لقد تعمد أن يترك له الحكم على الروايات من خلال المصادر،
ومعرفة عدالة الرواة وجرحهم واتجاهاتهم الفكرية، وقد أسهم في بيان شيء من هذا
في تراجم غير الصحابة - رضي الله عنهم -.
وذكر نصوصاً مضيئة في ترجمة الحسن بن علي ورغبته في جمع الأمة،
وإيقاف القتال، وأن ذلك لم يكن عن عجز منه، وإنما تحققت فيه نبوءة النبي -
صلى الله عليه
وسلم-: «إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يصلح به - وفي رواية على يده
- بين فئتين من المسلمين عظيمتين» ، فكان أول ما بايع أهل العراق بعد مقتل
علي - أنه اشترط عليهم أن يدخلوا فيما دخل فيه، ويرضوا بما رضي به [5] ، ثم
خطبهم وقال في خطبته: وإني والله ما أحببت أن أَلِيَ من أمر أمة محمد ما يزن
مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما يضرني مما ينفعني،
وقال في موطن آخر: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون مَن سالمت ويحاربون
مَن حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله، وقال في الخطبة التى تنازل فيها لمعاوية:
إني كنت أكره الناس لأول هذا الحديث، وأنا أصلحت آخره، لذي حق أديت إليه
حقه أحق به مني، أو حق جُدت به لصلاح أمة محمد. وقال في موضع آخر:
ولكنى خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً، وثمانون ألفاً أو أكثر من ذلك أو أقل
كلهم تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم أهريق دمه.
فهذه النصوص الصحيحة تبين بجلاء موقف الحسن من النزاع في أمر
الخلافة، وحرصه على حقن الدماء، وجمع كلمة الأمة، واطّراح المصلحة
الخاصة في سبيل المصلحة العامة.
وقد تعرض لذكر الأحداث الكبيرة المثيرة التى مرت بها الأمة، مثل مقتل
الحسين - رضي الله عنه -، والحرة، وحريق الكعبة، ومرج راهط، وثورة
المختار بن أبى عبيد ثم مقتله، ومقتل مصعب بن الزبير، وحصار مكة الثاني
والقتال في الحرم، ومقتل ابن الزبير.
وأورد الأخبار عن هذه الأحداث بأسانيد مجموعة، ويكملها بأسانيد مفردة،
والأسانيد المجموعة من ناحية درجتها حسب أصول الصناعة الحديثية، إما ضعيفة، أو ضعيفة جداً، أو موضوعة.
أما الأسانيد المفردة ففيها الصحيح والحسن وفيها الضعيف والضعيف جداً،
أما متون هذه الأخبار، ففيها الصحيح، والمشهور الذي له شواهد تعضده وتقويه،
وفيها ما يقارب الواقع ولا يستنكر، وفيها ما في ألفاظه نكارة، وفيها ما تظهر عليه
لوائح الوضع والكذب.
وكل واحدة من هذه القضايا [6] تحتاج إلى دراسة مستقلة، تجمع فيها
الروايات على سبيل الحصر والاستقصاء للمصادر كافة وبحسب تنوعها، ثم تحقق
وفق الأصول العلمية، ليعرف الصواب من الزائف، والحق من الباطل، وذلك
يحتاج إلى جهد كبير ودراية علمية، وخبرة واسعة بمصادر التراث الإسلامي،
وهذا ينطبق على القضايا كافة في التاريخ الإسلامى، إذ كثير من الباحثين
المعاصرين يكتبون في هذه القضايا وهم لا يملكون الدراية العلمية بمناهج علمائنا
السابقين، فتأتي أبحاثهم ناقصة، وأحكامهم ضعيفة ومستعجلة، وغير محيطة
بالقضية من جوانبها كافة، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن الاستقامة
الفكرية على الاعتقاد الصحيح ومنهاج أهل السنة والجماعة من أكبر العوامل
لإصابة الحق، وتوفر الاتزان العلمي في البحث، وذلك أن التلوث بشيء من
الانحرافات الفكرية المعاصرة، أو الاتجاهات البدعية - التى ظهرت على امتداد
التاريخ الإسلامي - لا يوفر لصاحبه الاتزان العلمى المطلوب في بحث القضايا،
وإنما يسوقه هواه، وانحرافه وبدعته -إلى تبني أحكام مسبقة، ثم يلتقط من الأدلة
ما يؤيدها ويقررها ويترك ماعداها.
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 3/411.
(2) الإصابة: 6/348.
(3) الطبقات: 7/ق203.
(4) هم ابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد الله بن الزبير.
(5) قد بينا - والحمد لله - درجة الأسانيد التى رُويت بها هذه القضايا، وخرَّجنا النصوص من المصادر الحديثية والتاريخية وعلقنا على كل قضية في تحقيقنا لهذا الجزء من طبقات ابن سعد.
(6) قد بينا - والحمد لله - درجة الأسانيد التى رُويت بها هذه القضايا، وخرَّجنا النصوص من المصادر الحديثية والتاريخية وعلقنا على كل قضية في تحقيقنا لهذا الجزء من طبقات ابن سعد.(29/28)
اختيارات فقهية
صرف الزكاة لشراء كتب العلم
قال ابن تيمية: (ومن ليس معه ما يشتري كتباً يشتغل فيها، يجوز له الأخذ
من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم الذي لابد لمصلحة دينه ودنياه
منه) .
(مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 2/16)
الذهاب إلى الأسواق والمنتزهات
(ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التى يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار
إلا لموجب شرعي: مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لابد
فيه من حضوره أو مكرهاً، فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه والله أعلم) .
(ابن تيمية: الفتاوى 28/239)
شرح حديث: «أنت ومالك لأبيك»
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رجلاً أتى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يخاصم أباه في دَيْن عليه، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: «أنت
ومالك لأبيك» [صحيح ابن حبان، 1/316] .
قال ابن حبان: معناه أنه -صلى الله عليه وسلم- زجر عن معاملته أباه بما
يعامل به الأجنبيين، وأمر ببره والرفق به في القول والفعل إلى أن يصل إلى ماله، فقال له: «أنت ومالك لأبيك» ، لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته عن غير
طيب نفس من الابن به.
القيام والتقبيل
سئل الإمام مالك - رحمه الله -: (قيل: فالرجل يقوم للرجل له الفقه والفضل فيجلسه في مجلسه؟ ، قال: يكره ذلك ولا بأس أن يوسع له.
وسئل عن الرجل يقبّل يد الوالي أو رأسه، قال: ليس ذلك من عمل الناس
(عمل أهل المدينة) وهو من عمل الأعاجم) .
(أبو زيد القيروانى: الجامع، 197)
القيام وإصلاح ذات البين
(ولم تكن عادة السلف على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام لمَّا يرونه - عليه السلام - كما يفعله كثير من الناس، فكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، كما يعلمون من كراهته لذلك ... وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن) .
(وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو تُرك لاعتقد أن ذلك لترك
حقه أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك
أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء) .
(ابن تيمية: الفتاوى، 374)(29/36)
من تاريخ الإسلام
معن بن عدي الأنصاري
معالي عبد الحميد حمودة
عندما نستعرض تاريخ الصحابة الأماجد - عليهم من الله سحائب الرحمة
والرضوان - نجد تاريخاً عظيماً لأبطال عمالقة، ومن هؤلاء معن بن عدي بن
عجلان الأنصاري، وهو صحابي مجاهد، كان رجلاً مثقفاً في جاهليته، يجيد
الكتابة بالعربية، وكان من يكتب حينئذ في العرب تتجه إليه الأنظار بكل الاهتمام
والتقدير.
انطلق معن بن عدي وكان مثقفاً متعلماً، فأسرع للإسلام والإيمان برسالة
المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك كان أحد السبعين البواسل الذين سبقوا
إلى الاستجابة في بيعة العقبة الأخيرة.
وتمت الهجرة النبوية، وآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين معن بن
عدي وزيد بن الخطاب شقيق عمر - رضي الله عنهما -، والغريب أن هذين
المتآخيَيْن في الله تآخيا كذلك في ميدان الجهاد في سبيل الله - تعالى -، وتآخيا
كذلك لنيل الشهادة معاً في معركة واحدة، هي موقعة اليمامة فمضيا أخوين إلى عالم
البقاء.
معن يشارك في هدم مسجد الفتنة:
حرص معن بن عدي - رضي الله عنه - على مواقف الفداء والوفاء لكلمة لا
إله إلا الله محمد رسول الله، فشهد غزوات بدر، وأحد، والخندق، والمشاهد كلها
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن في غزوة تبوك قام المنافقون بالإقدام
على عمل غاية في الخطر، من شأنه تفريق كلمة المسلمين وتشتيت وحدتهم فبنوا (مسجد الضرار) ؛ ليكون مكاناً تحاك فيه المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين.
هذا التصرف الذي صوَّره القرآن الكريم في سورة التوبة: [والَّذِينَ اتَّخَذُوا
مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وإرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن
قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] [التوبة: 107] ،
اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة رجال، وأمرهم بالتوجه إلى ذلك
المسجد وهدمه وإحراقه، انطلق الرجال وكانوا: مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وشقيقه: عاصم بن عدي، وأنجزوا المهمة على خير وجه، حرصاً على كلمة
الإسلام ووحدة المسلمين، ومنعاً من انتشار الفتنة.
معن بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) :
تتجلى معادن الرجال في المواقف التى تتطلب الرجولة والسيطرة، ولا يعرف
تاريخ الإسلام كله موقفاً في منتهى الخطورة مثلما حدث عند وفاة النبي -صلى الله
عليه
وسلم-، هذا الموقف الذي - لولا عناية الله (تعالى) بدينه - ما كان للإسلام
بقية.
انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جوار ربه الكريم، وأخذ المسلمون
يبكون وهم يقولون: (والله لوددنا أنا مُتنا قبله، نخشى أن نُفتنن بعده) ، وبكل الثبات والرجولة والإيمان العميق الكامل، يقف معن بن عدي - رضي الله عنه - كما جاء في (الطبقات الكبرى) لابن سعد ويقول: (وإنى والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتاً كما صدقته حياً) . هذه العبارة رغم أنها توضح عدم استخفاف معن بن عدي بالمصيبة الكبرى في فقد النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنها تشير إلى وجوب الثبات على الإسلام وعلى متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- سواء أكان حاضراً أم كان غائباً.
ولذلك نرى معن بن عدي يحرص على ألا تكون هناك فتنة بسبب اختيار
خليفة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعندما رأى بعض التعدد في الآراء في
اختيار الخليفة، سارع مع الصحابي (عويم بن ساعدة) إلى أبي بكر الصديق -
رضي الله عنه - وجعل يقول له مع صاحبه: (إنه باب فتنة ... نرجو أن يغلقه
الله بك) .
معن شهيداً في سبيل الله:
لكل إنسان أجل لا يتقدم ولا يتأخر لحظة أو ثانية واحدة ... وظل الصحابي
المجاهد النبيل يجاهد في كل موقع، ويحافظ على وحدة المسلمين، ويحارب تفرقهم
إلى أن حانت اللحظة الأخيرة المجيدة.
كانت هذه اللحظة يوم موقعة اليمامة، إذ خرج الأخوان المجاهدان - معن بن
عدي، وزيد بن الخطاب (رضي الله عنهما) -، وكانت الفتنة يومها ضارية؛ إذ
انتشرت الردة هناك بقيادة (مسيلمة بن حبيب) -مسيلمة الكذاب - انتشاراً خطيراً.
تقدم معن بن عدي وزيد بن الخطاب ومعهما أبطال الإسلام، كان هدف
الجميع وضع حد نهائي لهذه الفتنة مهما كان الثمن، وحمل زيد الراية، وهتف معن
بالمسلمين ليثبتوا ويتقدموا، وظل البطلان يتقدمان ويجاهدان حتى حققا - مع
إخوانهما - النصر المبين.
وكان للنصر ثمن كبير هو الشهادة في سبيل الله.
وسقط معن بن عدي مع زيد بن الخطاب ... فرضوان الله تعالى عليهم
أجمعين.(29/38)
ركائز الدعوة إلى الله
موزة بنت محمد
الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - واجب على كل مسلم ومسلمة كلٌّ حسب
طاقته وقدرته، وظروفه، قال - تعالى -: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل ووعظ
الغافل ومجادلة الفاسق والكافر - هي سبب خيرية هذه الأمة، وقد هيأ الله (سبحانه)
- برحمة منه وفضل- لهذه الأمة علماء فضلاء، كان لهم دور كبير في هذه
الصحوة المباركة، فأثمرت دعوتهم هذه الجموع من الشباب المستقيم على دين الله
في حماسة وقوة واندفاع والذين أصبح الكثير منهم اليوم دعاة إلى الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم- وصراطه المستقيم كأنهم النجوم الزاهرة تهدي بإذن الله من
يشاء ... فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ولكن هناك بعض الأخطاء لابد من ذكرها، فقد تجد الشاب يستمع لبعض
الدروس أو يقرأ في كتاب أو يجالس مجموعة فيتأثر بها ثم يصبح بين عشية
وضحاها داعية متأثراً بشكر هذا الشخص أو ذاك أو هذه المجموعة أو تلك وباندفاع
الشباب وحماسته يصبح داعية لهذه الجماعة مهاجماً لغيرها مبتعداً عن منهج الله في
الدعوة إليه، ولا يخفى ما لهذه الفرقة بين جماعة المسلمين من أضرار جسام على
الدعوة وعلى الأمة بوجه عام، وما فيها من مخالفة للصراط المستقيم وأوامر الله -
سبحانه - حيث يقول: [وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] [الأنفال: 46] .
ومن باب حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه وأمته، ...
والنصيحة لهم كان لابد من التواصي بالحق بين المؤمنين. وأحببت التواصي مع
أمل كل مؤمن وكل غيور على هذه الأمة.. مع الدعاة.
المنهج في الدعوة إلى الله:
يقول الله - سبحانه -: [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً
وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] ، فهذه الآية العظيمة من كتاب الله العظيم
تبين أن ركائز وأساسيات الدعوة إلى الله ثلاث وهي:
أ - الدعوة إلى الله وحده.
ب - العمل الصالح.
ج - الولاء للإسلام.
أ - الدعوة إلى الله وحده: لا شريك له، فيكون هدف الداعية هو مرضاة الله - سبحانه - ونيل الأجر والمثوبة منه وحده وليس للأغراض الدنيوية مكان في نفسه فهو لا يدعو من أجل ربح مادي ولا سمعة ولا رياء، ولا من أجل جماعة أو دولة أو غير ذلك، وعليه فلابد من اتباع ما أمر الله به، وعلى من يريد ارتياد
طريق الدعوة أن يتزود بأمور:
أولها: الإيمان بالله وحده لا شريك له، الإيمان الصادق الحي وما يتضمن من
رقة القلب وتقوى الله ورجاءً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، يقول الله - سبحانه -:
[وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] [البقرة: 197] . ورقة القلب والتقوى نعمة من
الله وهي لا تأتي بسهولة بل بمجاهدة للنفس، ومن أحسن ما يعين عليها - بعد عون
الله (تعالى) - قراءة القرآن بتمعن وتدبر والتفكير في سنن الله وملكوته والإكثار من
النوافل، والتقرب إلى الله بالطاعات وبالبعد عن المعاصي، والدعاء في كل وقت،
وخاصة في جوف الليل بأن ييسرها الله - سبحانه - ويعين عليها.
وطريق الدعوة شاق وصعب ويحتاج الداعية فيه لقوة كبيرة على التحمل
والمتابعة، وهذه القوة مستمدة من الإيمان والارتباط بالله - سبحانه - واتخاذه وكيلاً
وعدم الغفلة عن ذكره، وقد أوصى الله - سبحانه - نبيه محمداً -صلى الله عليه
وسلم- إمام الدعاة وقدوتهم الحسنة بذلك في خواتيم سورة الأعراف، فبعد أن بيَّن
جوانب من طريق الدعوة قال: [وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ * واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ
والآصَالِ ولا تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ] [الأعراف: 204-205] .
ومن نتائج الإيمان الصادق تطهير النفس من كل رذيلة - كما يقول الإمام ابن
قدامة المقدسي (رحمه الله) في كتابه (مختصر منهاج القاصدين) : (وإياك أن
تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، واشتغل بإصلاح باطنك، وتطهيره من
الصفات الذميمة كالحرص والحسد والرياء والعجب قبل إصلاح ظاهرك ... فإن
مُهلك نفسه في طلب صلاح غيره سفيه، ومثله مثل من دخلت العقارب تحت ثيابه
وهو يذب الذباب عن غيره) .
ثانيها: العلم النافع المستمد من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -: يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين - في رسالة (زاد الداعية إلى الله (عز
وجل)) -: (وأول ما يتزود به الداعية إلى الله - عز وجل - أن يكون على علم
مستمد من كتاب الله ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة المقبولة،
وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل والدعوة على جهل ضررها أكبر من
نفعها؛ لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجهاً ومرشداً فإذا كان جاهلاً فإنه بذلك
يكون ضالاً مضلاً والعياذ بالله) .
ويظهر أثر هذا الإيمان وهذا العلم على المؤمن بالسكينة والوقار والخشوع
والتواضع وحب الناس وتمنى الخير لهم والعطف عليهم، والنصح لهم في غير
فظاظة ولا تجريح ولا تشهير، ويظهر البشاشة في وجهه ويحفظ لسانه، ويراعي
الله - سبحانه - ويتقيه في كل قول وفعل، فهو يتمثل صفات عباد الرحمن كما
وصفهم ربهم.
ب - العمل الصالح: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - في كتاب (الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر) -:
(العمل الصالح الذي أمر الله به ورسوله هو الطاعة، فكل طاعة عمل صالح، وهو العمل المشروع المسنون، لأنه هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب، فهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر وهو الخير وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة، والفجور، والظلم والبغي) .
كما يجب أن يكون عمل الداعية مطابقاً لقوله ويكون هو بتصرفاته وأخلاقه،
وأعماله - قدوة لمن يدعوهم لما يدعوهم إليه من اتباع للصراط المستقيم فهو بكل ما
يقوم به من قول أو فعل مثال للمؤمن الصالح المتبع لدينه وهدْي نبيه - عليه
الصلاة والسلام - فلا يدعو لصلاة الجماعة ويتخلف عنها، ولا يدعو لإصلاح
السريرة وقلبه ملىء بالحقد والحسد، ولا يدعو الناس لترك الغيبة والنميمة ثم يأتيها
هو وكذا باقي الأعمال.
والعمل الصالح والإيمان مترابطان تمام الارتباط؛ فكلاهما مؤثر ومتأثر
بالآخر. ومن العمل الصالح المطلوب من الداعية هو الدعوة على بصيرة يقول الله
- سبحانه -: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ
اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
ويذكر فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: أن البصيرة في ثلاثة أمور:
هي بصيرة فيما يدعو إليه وهي العلم بالكتاب والسنة، وبصيرة في حال
المدعو، وبصيرة في كيفية الدعوة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه
.. فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولابد من العلم بحال المأمور
وحال المنهي) .
ولابد في ذلك من الرفق، يقول الله - سبحانه وتعالى -[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] [آل عمران: 159] ، ويقول الرسول -صلى الله عليه
وسلم-: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه»
رواه مسلم.
ومما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله من أشرف المهام التى يقوم بها الناس
وأصعبها ولابد أن يواجه الداعية من الأذى والآلام الشيء الكثير؛ لذا وجب عليه
التحلي بالحِلم والصبر، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (ولابد أيضاً أن يكون
حليماً، صبوراً على الأذى؛ فإنه لابد أن يحصل له أذى، فإن لم يحلم ويصبر
يفسد أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: [وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ
واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] [لقمان: 17] ) .
ويقول - سبحانه -: [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً
وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا
الَذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ * ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ
ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ]
[فصلت: 33-36] .
ومما جاء في تفسير هذه الآيات [1] : أن الله - سبحانه - يثني على الداعية
ويخبر عنه أنه هو في نفسه مهتدٍ بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعدٍ وليس
من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه بل يأتمر
بالخير، ويترك الشر، يدعو الخلق إلى الخالق - تبارك وتعالى - كما تبين في
أسلوب الدعوة والحث على الحلم والصبر، فيقول إن هناك فرقاً كبيراً بين الحسنة
والسيئة؛ ولذا ادفع من أساء إليك بالإحسان إليه؛ فإنك إن أحسنت إلى من أساء
إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك حتى يصير كأنه ولي حميم، وبالطبع ليس هذا
بالأمر الهين الميسَّر لكثير من الناس ولكن ما يلقاها إلا ذو نصيب وافر من السعادة؛ لأنه صبر على الأذى في سبيل الله فهو سعيد في الدنيا والآخرة.
ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولأنه توعد بأن يضل كل من
يستطيع إضلاله من بني آدم وخاصة من يسير منهم على الصراط المستقيم - فقد
يحس الإنسان بنزغ ووسوسة من الشيطان وعندها يبين الله - سبحانه - العلاج ألا
وهو الاستعانة بالله إنه هو السميع العليم. وجدير بالذكر أن هذا النزغ والوسوسة
تأخذ صوراً شتى منها الكبر وغَمْط الناس ومنها العُجب ومنها الحسد ومنها حب
الظهور والسمعة ومنها الغلو والبدع وغيرها كثير لمن تفكر ...
ج - الولاء للإسلام: [وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] ؛ فانتماؤه للإسلام ودعوته للإسلام واعتزازه بالإسلام، فقال إننى من المسلمين ولم يقل إنني من هذه الجماعة أو تلك، وليس في قلبه ولاء لغير الله ورسوله ودينه الذين ارتضى بل يؤكد قولاً وفعلاً أنه من المسلمين.
وبعد..
فإذا اجتمع في الداعية إيمان صادق وإخلاص لله وعلم نافع وعمل صالح
وولاء لله وحده فلابد أن يكون قوله هو أحسن الأقوال وحاله أحسن الأحوال، وذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، محمد نسيب الرفاعي.(29/41)
إليكِ زميلتي ...
أروى إبراهيم عباس
أختي المسلمة: أيتها الطالبة الفاضلة ... أيتها الأخت المربية ... أيتها الأم
الحاضنة؛ أنت معهد الرجال، ومنبت الأبطال، وأم العظماء، ومدرسة القادة
الأفذاذ.. أنت مفخرة الزمان وأساس البناء ونواة المجتمع.
أنت - زميلتي - أمل الأمة؛ بصلاحك يصلح المجتمع بأسره وتسعد الأجيال
قاطبة، وبانحرافك - لاسمح الله - ينهار كيان الأمة ويتحطم بنيانها، فأنت صلب
البناء الذي تقوم عليه أعمدة الخير، وأنت في الوقت ذاته العقبة التي تتحطم عليها
الآمال العظام متى حادت عن الطريق. فلتعلمي أيتها الطفلة وأنت ترفلين في ثوب
البراءة.. وأنت أيتها البنت وأنت تحلمين بعش العفاف والطهر والنقاء، وأنت أيتها
الزوجة كلما شغلت فكرك تفكرين في سعادة فلذات كبدك ومستقبلهم ... لتعلمي
زميلتى الطالبة وأنت تسهرين الليالي في طلب العلم ابتغاء وجه الله والدار الآخرة..
لتعلمي أختي المسلمة وأنت تسعدين بأي مرحلة من مراحل العمر وتعبرين أي
طريق من طرق السعادة والعيش في هذه الحياة، أنك تعيشين في غربة عَزّ فيها
الحق، وندر فيها سالِكوه وفشا فيها الجهل والفجور وكثرت فيها طرق الغواية،
وتنوعت سبل الضلال وقل الخير والصلاح.
نعم - يا عزيزتي - إنك تعيشين في عالم لا يأبه بك، ولا يحترم لك قدراً،
ولا يقيم لك وزناً، ولا يعرف لك فضيلة، وليته يتركك وشأنك فيكفيك حينئذ رصيد
الفطرة ليقودك إلى الحق وإلى طريق مستقيم، بل لَيعاديك أشد العداء ويضللك من
خلال جميع المنافذ والمسالك والثغرات وعبر كل قناة من قنوات الشر والفساد.
إنه ينصب شراكه ويرسل أعوانه وشياطينه لملاحقتك في كل مكان ليدعوك
باسم الحرية التى أصبحت المرأة الغربية تئن من جمرها وقد رأت بعينيها بريقها
الزائف وقناعها المزور.
إنهم ينادونك اليوم - كما نادوها بالأمس - ينادونك بأسماء زائفة وألقاب طنانة
وتساعدهم على ذلك وسائل الإعلام المختلفة التي يمسكون بخطامها ويوجهونها حيث
شاءوا.. إنهم يهتفون لك ويلوحون: بالموضة.. بالأزياء.. بالفَرْنَجَة.. بالتحرر
.. بالحب.. بالجمال.. بالفن.. بالزينة.. بكل ما يغري الأنوثة من أسماء وكلمات
وكلها شراك خبيثة ومصائد تفتك بعفتك وتخدش حياءك وتنال من كرامتك وتدنس
عرضك وشرفك وتقتل مروءتك وتزعزع عقيدتك ثم ترمي بك في أوحال الرذيلة
ومستنقعات الجريمة وهوة الدمار.
فاستيقظي - أختي المسلمة - وكوني على حذر، فلا تخدعنَّك سموم هذه
الألقاب الجوفاء والأسماء اللامعة والشهرة المصطنعة، فقد تندمين ولاتَ ساعة مندم، وتصرخين فلا تجدين من يمد لك يد المساعدة.
مجلات الفن والتمثيل والمسرح.. المجلات الهابطة الخليعة التى تستعرض
فيها زينات النساء وتزين أغلفتها بصور العاهرات المائلات المميلات.. ماذا تريد
منك؟ وماذا يريد منك أصحابها ومحرروها؟ هل يريدون مصلحتك؟ هل يريدون
تعليمك الأخلاق القويمة والآداب الحسنة؟ هل يريدون إرشادك إلى الحق؟ هل
يريدون صيانتك والمحافظة على دينك واستقامتك عليه؟ هل يريدون أن يذكّروك
بقول الحق - جل ذكره -[ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] [الأحزاب: 33] ؟! كلا وربي.
منظر ذلك العملاق الضخم ذي العضلات المشدودة والسروال الذي قد يغطي
سوءته أو شيئاً منها وبقية عورته مكشوفة لناظريك، تمتلئ به عينك العفيفة
الطاهرة الشريفة، وهو يصارع مثيله في حلبة الشر وميدان الفجور على إقرار
وإعجاب شديدين من آلاف المشاهدين. ماذا تريدين أن يترك في نفسك من أثر -
وإن كان حياؤك أمام الناس لَيمنعك من مشاهدة الشيخ العفيف الوقور المستتر السائر
إلى بيت من بيوت الله؟ ! .
صوت الأغنية الفاجرة في شريط الكاسيت، وما يصاحب ذلك من سم زعاف
وآهات كاذبة تريد أن تغزو قلبك العامر بذكر الله لتملأه قيحاً وصديداً، هلاّ استبدلت
بها ذكر الله وتلاوة القرآن الذي فيه شفاء ورحمة للمؤمنين؟ ! .
كلمات القصة الغرامية التي يكتبها القلم الفاسد الخبيث أو المستأجَر الماكر
وتنشرها وتوزعها دور النشر الماسونية الكافرة أو أعوانها من الدور التجارية
الجشعة المغفلة والتي تسوقك حبكتها الفنية الفاجرة وأدوارها الماكرة إلى سوق الفتنة
والبغاء؛ فتأسر فكرك وتشوه عقيدتك.. هذه القصة وأمثالها ماذا تجنين من ورائها
من خير؟ ! .
ألا تسألين نفسك هذه الأسئلة وتحاسبينها اليوم قبل أن يأتي يوم [لا يَنفَعُ نَفْساً
إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْراً] [الأنعام: 158] ؟ ، هلا
تعودين إلى رشدك وتعزمين على الحياة في ظلال القرآن والسنة، تنهلين من
معينهما العذب، وترشفين من رحيقهما الصافي وتكونين قرة عين لأهلك وقدوة خير
لزميلاتك؟ .. هلا تسارعين إلى حديقة الإيمان وتتوجهين إلى محرابك لتؤدي
فريضة الصلاة كلما نادى المنادي قائلاً: الله أكبر؛ لتكون لك نوراً وبرهاناً يوم
القيامة وليثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ ! .
هلا تعزمين العزم الأكيد على مقاطعة الأفلام الفاجرة والشرائط المحرمة
والمجلات المضللة وأماكن السوء والفجور وخليلات العشق والسفور؛ لتكوني عوناً
على قيادة أخواتك إلى بر الأمان؟ ! .
هذا ما أرجو، والله يوفقكن وإياي إلى ما فيه الخير والصلاح.(29/47)
التدخين
وآثاره على الفم والأسنان والعين
د.خالد الموسى
ينتج عن تدخين السجائر أو الغليون أو مضغ أوراق التبغ:
1- في الأسنان واللثة:
- اصطباغ وتلوث الأسنان واللثَة.
- ضعف وتشقق وتآكل الطبقات الحامية للأسنان (المينا) .
- التهاب اللثة وتقيحها، ونزفها.
2 - في الجوف الفمي والبلعومي:
- البَخَر ورائحة الفم النتنة الكريهة التي تفوح من المدخنين. ...
- بقع ملونة تظهر على الشفة واللثة واللسان والأسنان وباطن الفم.
- التهابات الأغشية المخاطية للفم والبلعوم نتيجة ضعف مقاومتها تجاه ...
الجراثيم.
- والعوامل المرضية؛ حيث إن التدخين يشل وظيفتها الدفاعية بما تفرزه من
مواد مخاطية حاوية على مواد مطهرة وقاتلة للعضويات الممرضة بواسطة المواد
الحالة الخمائرية كالليزونيمات وغيرها.
- سرطان الفم والبلعوم.. وغالباً ما يسبق بظهور الطلاوة البيضاء والتي
تعتبر مرحلة سابقة للسرطان.
3 - في الشَّفَة:
- التهاب الصوار وتشقق الشفة؛ وذلك نتيجة التأثير المخرس الموضعي
ونتيجة العوز الفيتاميني المرافق أحياناً وخاصة عوز فيتامين ب2.
- الطلاوة البيضاء على الشفة وباطن الخد واللسان وهي مقدمة ومهيئة
لحدوث السرطان في مكان ظهورها.
4 - في اللسان:
- التشققات والتقرحات على اللسان.
- التهاب الحلميات الذوقية المزمن.. وبالتالي فقد الذوق ونقص الشهية.
- اتساخ اللسان وثخانته وترسب طبقات كثيفة مع نمو العضويات الممرضة
بسهولة كالمبيضات البيض وبعض الجراثيم.
- الطلاوة البيضاء.
5 - في أمراض الغدد اللعابية:
يؤثر التدخين على الغدد اللعابية بنقص إفرازها من اللعاب بتأثير النيكوتين،
وبتأثير موضعي؛ مما يؤدي لالتهابها وربما انسدادها وبالتالي قد تتشكل حصيات
فيها. وإن نقص إفراز اللعاب يزيد جفاف الفم وتشققه وتأثره. وانتشار الرائحة
النتنة (البخر) من الفم..
6 - التدخين والعين:
إن تأثير نفث السجاير يخرش العين والأجفان مما يؤدي إلى:
- التهاب أطراف الأجفان وبالتالي تساقط الأهداب وتعرض العين للغبار
والعوامل الممرضة، إضافة لزوال جمالها الطبيعي وتشوه الأجفان المرافق.
- التهابات وخراجات الغدد الدمعية، والشعرة الجفنية العينية.
- التهاب ملتحمة العين التحسسي الأرجي وما يسببه من ألم واحتقان وإضرار
بالعين.
- التأثيرات غير المباشرة على العين وذلك نتيجة ما يُحدثه التدخين من
تصلب الشرايين والخثرات مما يمهد لحدوث نثرات الوريد الشبكي العيني وتصلب
شرايين العين.(29/50)
منبر الشباب
الرجولة
محمد فرحان محمد
أعتقد أن لفظ (رجل) في القرآن لم يأتِ هكذا، ولكنه أتى وصحبه موقف.
والرجل - كل الرجل - لابد أن يكون صاحب موقف.. ويأتي على رأس الرجال
أصحاب المواقف.. الأنبياء والمرسلون والأمثلون من الصالحين والمصلحين..
وإليكم بعض الأمثلة:
1 - مؤمن آل فرعون:
[وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ
اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وإن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم
بَعْضُ الَذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ] [غافر: 28] .
انظر إلى هذا الرجل.. الذي وقف كالجبل وأظهر إيمانه في وقت كان لابد
وأن يظهر ويقف أمام طاغية ومدّعٍ للربوبية وتسانده حاشية سوء، ثم يقوم الرجل
بتذكير قومه ويخوفهم من بأس الله ويدعوهم إلى الله وإلى الإيمان به - سبحانه
وتعالى - ولكنهم يدعونه إلى الكفر والإشراك بالله.. ويدعوهم إلى الجنة والمغفرة
ويدعونه إلى النار وبئس المصير.. ويتكرر هذا الموقف في كل عصر وأمام كل
طاغية.
2 - قال -صلى الله عليه وسلم-:
«لتفتحن القسطنطينية، فلنِعْم الأمير ذلك الأمير ونعم الجيش ذلك الجيش» .
سمع الطفل محمد الفاتح هذا الحديث وكبر في ذهنه حتى إذا بلغ السبعة عشر
ربيعاً حان الوقت الذي يحقق فيه حلم المسلمين وتحقيق حديث رسول الله، وكان..
لقد حاول المسلمون - منذ القرن الأول- فتح القسطنطينية مرات عديدة، وقد قتل
الصحابي أبو أيوب الأنصاري تحت أسوارها.
وادُّخِر فتحها لهذا السلطان العثماني الذي كان نعم الأمير وجيشه نعم الجيش.
3- طفل الحجارة في فِلَسطين المحتلة:
ذلك العملاق هو رجل بحق؛ لأنه الوحيد الذي عرف الطريق لتحرير
المسرى والأرض من النهر إلى البحر، ذلك الطفل الذي تربى على مائدة القرآن
الكريم داخل المساجد الذي يريد أن يحقق ما جاء في سورة الإسراء من وعد بالنصر
.. «حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال
فاقتله» .
ذلكم الطفل هو أفضل من الذين يجاهدون بالخطب في هيئة الأمم والمحافل
التي تضيع الوقت وتدعي أنها سوف تقاتل (إسرائيل) بالسلام! ! ويجاهدون من
خلف المكاتب المكيفة، إن جميع المنظمات لم تصل إلى مرتبة ذلكم العملاق الرجل
الطفل طفل الحجارة.
4 -[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ
ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] .
الشهيد سيد قطب (رحمه الله) :
عندما طلب من الشهيد سيد قطب أن يؤيد الطاغية العبد الخاسر قال: (إن
السبابة التي أشهد بها في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يمكن
أن تكتب سطراً فيه ذل أو عبارة فيها استجداء) ، وعندما سِيق - رحمه الله - إلى
حبل المشنقة يوم 29 من أغسطس عام 1966م كان من المعتاد أن يحضر شيخ
ليلقّن الذي ينفَّذ فيه حكم الإعدام الشهادتين، فقال له سيد قطب - رحمه الله -: (إنني لم أقف هذا الموقف إلا من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله) ! .. فهناك
أناس يأكلون الخبز بلا إله إلا الله وآخرون يقدمون رؤوسهم إلى المشانق من أجل لا
إله إلا الله! !
5 - الشعب الأفغاني:
هذا الشعب البطل الذي لم يرضَ بالاحتلال الروسي لأرضه، ووقف وحيداً
في حلْبة الصراع مع أول أو ثاني دولة على مستوى العالم! ! وكان له يد طولى في
إذلال الشيوعية وإرغامها، بينما نجد أن بعض المشايخ الرسميين المعممين يذهب
إلى كابل ويصافح وزيرة الشباب ويهديها مصحفاً، ولا يستحيي وهو (شيخ معمم)
من هذا الموقف المتخاذل، بينما الأمر الطبيعى أن يذهب إلى الخنادق ليشد من أزر
الرجال المقاتلين.(29/52)
البيان الأدبي
الأدب والثقافة علاقة مصيرية
د. مصطفى بكري السيد
تتجاوز هذه الدراسة الجدل القديم الحديث حول مصدر الفن، لتتناول جانباً
آخر من الموضوع وهو محاولة الكشف عن دور المقروء والجهد الثقافي في النسيج
الأدبي، فنحن عندما نستعرض الأدب والأدباء الذين نقشت أسماؤهم في ذاكرة
البشرية، وأنعشت أعمالهم مشاعر الجمال في النفوس، حتى غدت إبداعاتهم معالم
بارزة في تاريخ الفكر الإنساني، عندما نغفل ذلك يلفت نظرنا أمران:
الأول: المُكْث والتُّؤَدَة في إنضاج العمل، وهناك أمثلة أدبية: الإلياذة كُتبت
في ثلاثين سنة، والقاص الفرنسي فلوبير ربما استغرق أكثر من أسبوع في كتابة
فقرة من قصته (مدام بوفاري) 1857 م [1] ، ويعلن جارثيا ماركيز - قاص أمريكا
الجنوبية الأول - أنه كتب قصته (مائة عام من العزلة) في ستة عشر عاماً،
ومدرسة التصويريين الشعرية تقول صراحة إن: (التركيز هو جوهر الشعر) [2]
.. ويرى الشاعر الإنجليزي المعاصر تيفن سبندر (أن كل شيء في الشعر جهد،
وقد يستمر الجهد في النظْم يوماً أو أسابيع أو سنين) [3] وأكد بعضهم على (أن
الإنشاء الأدبي يتطلب من الدقة والتحري ما تتطلبه الرياضيات نفسها من تفكير
منطقي ودقة وهندسة) [4] .
الثاني: الارتواء من مَعين الثقافة ومختلف ميادين المعرفة لتوظيف ذلك كله
في خدمة الصورة الشعرية، والمعمار الفني ورسم معالم الشخصية، وذلك حتى لا
تكون النصوص (وكل الأعمال الفنية نصوص) ثماراً موسمية؛ (لأن النص قائم
على التجددية بحكم مقروئيته، وقائم على التعددية بحكم خصوصية عطائيته تبعا
لكل حال يتعرض لها في مجهر القراءة، فالنص - من حيث هو ذو قابلية للعطاء
المتجدد المتعدد - يتحقق له ذلك بتعدد تعرضه للقراءة) [5] لأن هذا النص كما
يقول (بارت) : (لا يحظى بالخلود لأنه يفرض على القراء العديدين معنى واحداً فيه، وإنما هو يخلد ويستمر لأنه يقترح على القارئ الواحد معاني عدة في متجدد اللحظات) [6] ولم يكن (مارك توين) بعيداً عن هذا الفهم عندما قال إنه يقرأ (دون كيشوت) في كل سنة مرة.. رائعة سرفانتس. وهكذا يكون النص مرآة تجلوها القراءات المتعددة، (فهاملت شكسبير) أفرز مكتبة أدبية كاملة [7] . (في (هاملت) مواضيع كثيرة التقابل بين القوة والأخلاق، بحث التفاوت بين النظرية والممارسة، وغاية الحياة، فيها مأساة الحب، والدراما العائلية فيها كل ما تشاء بما في ذلك التحليل النفسي العميق، والقصة الدامية والمبارزة والمذبحة الشاملة، للمرء أن يختار وفق إرادته ولكن عليه أن يعرف كيف يختار ولماذا) [8] ، وهكذا فإن روايات (شكسبير) ترفض أن تصبح أبداً قديمة، يمكن تلخيص هاملت في عدد من الأشكال: كسجل تاريخي، كرواية بوليسية، أو كدراما فلسفية.
إن هذا المعرض الشكسبيري حدا بطالبة أمريكية أن تتشكك بهذه القدرة على
رسم كل هذه الصور وإبداع هذه المسرحيات، قرأت شكسبير بعناية فساورها الشك
بأن هذا الإنتاج الضخم الساحر لا يتأتى لشخص وأن النقاد ربما كانوا ضحية وهم
كبير في قبول هذا الإبداع من شخص واحد فشدت رحلها إلى بريطانيا وضحَّت
بشبابها لتُثبت عبثاً وهمية شخصية شكسبير! .
وفي العدوة العربية نجد (أبا الطيب المتنبي) غب الموهبة الشعرية ثمرة
ناضجة لقراءة الأدب الجاهلي والأموي والعباسي وما انتهى إلى يديه من الفلسفة
اليونانية، ثم أليس كتاب (الوساطة) للجرجاني بحثاً في عروق وعمق هذه
المقروءات (المتنبية) .
(إن كتاب الوساطة خير نموذج عملي لدراسة التناص الذي هو حدوث علاقة
تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر لإنتاج نص لاحق) [9] والحقيقة أن كل شعر
لابد أن يذكر بشعر آخر فهذه خصوصية اللغة الشعرية وامتيازها.
كيف تأتَّى لشعر أبي الطيب أن يفجر في الأرض الأدبية ينابيع النقد لولا
الأسئلة التى تستدعيها قراءته والقراءة التي تغذي أسئلته؟
إن المتنبي (حين يعبر عن رؤياه فإنما يفصح عن إحساس شامل بالفجيعة أو
الفرح، أو البطولة ولا يعود وتراً منفرداً، بل يندرج في نبرته أنين عام هو أنين
البشر كلهم ونشوة شاملة هي نشوتهم جميعاً، ولا تنمو رؤيا الشاعر بمعنى آخر،
إلا عبر ارتباط حميم بالآخرين ولا تتجسد بشكل مؤثر إلا حين يصبح صوته، رغم
فرديته وسريته صوتاً إنسانياً ونشيداً شاملاً لمجد شعب ومكابدته) [10] .
لقد وجد المتنبي في (أصوات الآخرين تأكيداً لصوته من جهة، وتأكيداً لوحدة
التجربة الإنسانية من جهة أخرى، وأنه يدل بذلك على التفاعل الأكيد بين أجزاء
التاريخ الروحي والفكري للإنسان) [11] .
وهكذا نجد (أن قدامى الشعراء أو المترسمين خطاهم كانوا مثقفين ولعل أجمل
ما ننفعل به من الشعر القديم هو شعر أمثال هؤلاء) [12] ؛ (لأن القصيدة - في
النهاية - ليست إلا محصلة لجهد الشاعر، وتجسيداً جمالياً حسياً لمسلكه الثقافي
والذوقي والنفسي في لحظة حياتية ما) [13] .
(وإذا كان ابن خلدون يحكم باستحالة وجود شاعر لا يكون قد حفظ شعراً ثم
نسيه، فإننا نحكم باستحالة وجود مبدع يعتب أيضاً نصاً أدبياً دون سابق تعامل
معمق مكثف مع النصوص الأدبية في مجال معين أو في عدة مجالات؛ لأن
المخزون من النصوص المقروءة من قبل هو الذي كثيراً ما يتحكم في صفة النص
المرقوم) [14] .
ويقول الدكتور محمد جابر عصفور:
(الأصل الذي يتوصل الشاعر به إلى استثارة المعاني الشعرية واستنباط تركيباتها هو: التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من ... أوصاف غيرها، وذلك يجعل من الشعر ممتعاً ومعلماً) [15] ، وهكذا يصبح للفكر الأدبي دوره المميز في حياة الأمة؛ حتى يغدو عنصراً من عناصر البناء الثقافي العام في هذا المجتمع.
وكلما كثر المحفوظ الشعري كثرت المواد بين يدي الشاعر ورحب المجال
أمامه في إعادة السبك فيكون كمن اغترف من وادٍ قد مدته سيول جارفة من شعاب
مختلفة كما يقول ابن طباطبا [16] .
وليست القراءة غذاء الشعر فحسب بل هي البنية المعنوية للنثر، قال خالد بن
عبد الله القسري:
(حفظني أبي ألف خطبة ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إلا سهل عليَّ) .
ولقد توقف العقاد في حديثه عن المتنبى ليلفت النظر إلى أهمية الفكر والثقافة
للشعراء فيقول:
(وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب، متيقظ الخاطر مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ ، إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية؛ فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والآراء لا يعفِّيه ولا يغض منه مكانهم في تواريخ الأدب والفنون) [17] .
والترسانة الثقافية التي يستند إليها الأديب باتت أمراً ملحوظاً؛ يقول إليوت:
(إن ما يجب على الشعراء أن يعرفوه هو أن يكتبوا أقل ما يمكن) .
ولقد ذكر أن جوستاف فلوبير (1821-1880) هو الذي قرأ ألفي كتاب من
المكتبة الوطنية بباريس؛ لكى يدرس البيئة الاجتماعية والجغرافية لأحد أعماله
الروائية! [18] .
أرأيتم كيف يخدم الأديب نصوصه ويستشعر المسؤولية تجاه أدبه وقرائه،
لعل في ذلك بعثاً لهمم الناشئة من شعرائنا وكُتابنا حتى تأتي أعمالهم ناضجة تحمل
للقراء ما يؤملون فيها من أدب نضيج، وألا تكون علاقتهم بالتراث العربى العظيم
ما درسوه في كتب المحفوظات كما يقول أحد النقاد.
وأخاطب - بشكل أخص - الأديب المسلم كي يجعل من إبداعه إضافة حقيقية
لتجد قراءها، وألا تعتمد على النيات الطيبة والمشاعر الجميلة فقط لأنه إذا كان
الشعر ترجماناً مباشراً عن الذات فإن الفكر هو الإطار الموضوعي الذي يضم هذا
الشعور، والشاعر كلما ازداد نضجاً ازدادت قدرته على الخروج من إطار مشاعره
الذاتية إلى الإطار الموضوعي.
عبقرية الشاعر تكمن كلها في إبداعه اللغوي، أما الحساسية المفرطة فلا تكفي
لتكوين أي شاعر (وليس هناك ما هو أكثر سوءاً من أن يظن الإنسان أنه يمارس
صناعة التفكير في الواقع، وهو إنما يشغل نفسه، بطائفة من الأماني والمشاعر لا
أكثر) [19] .
(صحيح أن العمل الأدبي صناعة لغوية، لكنه ليس صناعة بسيطة بل هو
صناعة مركبة من عناصر كثيرة توجد أصولها في اللغة والفكر وفي التراث القديم
وفي التراث الحديث) [20] .
إن العالم يتلهف إلى الرؤية الإسلامية من قلم صناع وشغر يتسلل إلى مسارب
النفس ليطلق العقل المحتجن في إسار المادية ليتنسم أنسام العقيدة المتكاملة المتوازنة.
والكلمة التى نقلت حبر اليهود عبد الله بن سلاَّم - رضي الله عنه - إلى بحر
الإيمان هي عينها التي انتزعت بعض كبار الملحدين من براثن الملل والنحل إلى
شاطئ الأمان.
إن هذه الكلمة مدعوة اليوم لكى تؤدي دورها أن تتزين بالقراءة، وتتأثث
بالثقافة وتتدجج بالمعرفة لتفجر ينابيع الأمل في سهوب الإملاق الروحي والمحل
الفكري والقحط الوجداني.
إن هذه الكلمة (لابد لها كي تكون فاعلة، وفي سياقها السليم من أن ترتبط بنظرة إلى العصر ومستجداته من جهة، وإلى التراث وكوامنه التعبيرية القادرة على الاستمرار من جهة أخرى) [21] .
وإذا كان الأدباء كذلك (كانت أقوالهم كالرياح التى تفتح المصاريع المغلقة على الرؤى والتجارب والبطولات) [22] . والأديب المسلم ما لم يمتلك ناصية القول في المكان والزمان الذي يعيش فيه، وما لم ينتج أدبه وإبداعه المؤصل جمالياً وثقافياً؛ محكوم عليه في النهاية بالخروج من ساحة الفكر وميدان الحياة، لأن العقم الثقافي هو جسر الاعتزال الحياتي، ومنذ فقد المسلمون خطابهم العميق بدأت عمليات تدميرهم.
هل لي أن أذكر أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يكاد يمر عليه موقف
دون أن يستشهد بنص شعري، وأن الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما -
كانت تحفظ للَبيد بن ربيعة ألف بيت من الشعر.
إن القراءة بعد الموهبة تحدد للأديب المسلم النوع الأدبي الذي يجد نفسه من
خلاله أكثر عطاءً وفرادة، وتعصمه من الاتكاء على المعنى فقط (وبذلك يكون
المعوَّل ليس على المحتوى الخلقي فحسب، بل على الكيفية التى يقدَّم بها هذا
المحتوى للمتلقي) [23] وبذلك تتحقق العلاقة التفاعلية بين الباثّ والمتلقي لا بالاستناد إلى القيم الأخلاقية وحدها ولا بالاعتماد على الشكلانية بذاتها.
وختاماً: نريد لأدبنا أن يغترف من حافظة يقظة مثقفة، وأن تتفجر تجربته
الغنية من غنى حسي ووجداني وفكري، وألا تكون إبداعاته سطواً مكشوفاً على
متحف الذاكرة المترهل الكسول. أرجو أن يكون هذا الإسهام قد وفق لأن يضيف
دليلاً آخر يتأكد من خلاله أن الأدب ليس ترفاً فكرياً ولا صوتاً معزولاً عن مسيرة
الأمة، (ونحن أحوج الناس أن ندرس ما يمكن أن يسمى جماليات اللغة المثقفة) [24] نفعل ذلك كي لا يسقط أدبنا في مقبرة اليومية، وكي لا يستمد أصالته من المناسبة التي استدعته بل من الثقافة التى أبدعته؛ (لأن كل عمل فني عظيم يضيف إلى الوجه الإنساني روعة وغنى) [25] .
__________
(1) الفن والحلم والفعل، جبرا إبراهيم جبرا دار الشؤون الثقافية العامة بغداد.
(2) في النقد الحديث، د نصرت عبد الرحمن، 198، مكتبة الأقصى، عمان.
(3) النقد الأدبي الحديث، د محمد غنيمي هلال، 349.
(4) في مناهج الدراسات الأدبية، حسين الواد، 67.
(5) في نظرية النص الأدبي، د عبد الملك مرتاض، 5.
(6) المصدر السابق.
(7) شكسبير معاصرنا: إيان كوت ترجمة جبرا إبراهيم جبرا.
(8) المصدر السابق.
(9) في نظرية النص الأدبي، 6.
(10) مجلة الآداب، عدد 10-12، 39، 48.
(11) الشعر العربي المعاصر، د عز الدين إسماعيل.
(12) المصدر السابق.
(13) مجلة الآداب، 34.
(14) في نظرية النص الأدبي، 17.
(15) محمد جابر عصفور: مفهوم الشعر في التراث، 186.
(16) عيار الشعر، 35.
(17) مجلة المجلة المصرية، ص41، عدد 31، ذو الحجة عام 1378هـ / 1959م.
(18) في الرومانسية والواقعية، سيد حامد النساج، 79.
(19) نظرية البنائية في النقد الأدبي، د صلاح فضل.
(20) أحمد عبد المعطي حجازي من مقال في (الأهرام) 30/8/1989م.
(21) مجلة الآداب، 48.
(22) الفن والحلم والفعل، 258.
(23) محمد جابر عصفور: مفهوم الشعر في التراث، 190.
(24) اللغة بين البلاغة والأسلوب: د مصطفى ناصف.
(25) هذه العبارة لألبير كامي.(29/56)
الفصاحة العلمية
العقاد
- اللغة الشاعرة-
للأمم في تنافسها بالمناقب والمزايا ألوان من المفاخرة بلغاتها يضيق بها نطاق
البحث في بضعة سطور. فمنها التي تفخر بوضوح عباراتها وعذوبة جرْسها [1] .
ومنها التى تفخر بوفرة كلماتها واتساع ثروتها من ألفاظ الأسماء والأوصاف
والأفعال، ومنها التى تفخر بثرائها الأدبي وذخيرتها الفنية، ومنها التي يزعم
أبناؤها أنهم هم الناطقون المبينون ومن عداهم متبربرون، لا يبينون عن أنفسهم ولا
يحسنون فهم البيان من الآخرين.
ومعظم هذه المفاخر دعوى لا دليل عليها، أو دعوى لها أدلتها التي تتشابه
وتتقابل، ولا ترجح فيها الكفة مرة حتى تقابلها الكفة الأخرى برجحان مثله،
وحجتها الكبرى (أنانية) قومية تشبه (أنانية) الفرد في حبه لنفسه وإيثاره لصفاته
بغير حاجة إلى دليل، أو مع القناعة بأيسر دليل.
لكن الفصاحة العربية في دعوى أهلها مفخرة لا تشبه هذه المفاخر في جملتها؛ لأن دليلها العلمي حاضر لا يتعسر العلم به والتثبت منه على ناطق بلسان من
الألسنة، ولا حاجة له في هذا الدليل إلى غير النطق وحسن الاستماع.
إن اللفظ الفصيح هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته،
وهذا هو (اللفظ العربي) بدليله العلمي الذي لا تعتمد دعواه على (أنانية) قومية
ولا على نزعة عاطفية، تقابلها نزعات مثلها عند غير العرب من الناطقين بلغات
الحضارة. فلا لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التى تتميز
بغير التثقيل أو التخفيف. وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة
متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.
والفصاحة هي امتناع اللبس كما تقدم، وهذه هي الخاصة النطقية التي تحققت
في اللغة العربية لمخارج الأصوات كما تحققت للحروف. فليس في اللغة العربية
حرف يلتبس بين مخرجيْن، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان،
ليس في اللغة العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف (بسي) في اللغة اليونانية وهو
مختلط من الباء الثقيلة والسين، وليس فيها حرف يستخدم مخرجين كحرف (تشي)
في تلك اللغة وهو خليط من التاء والشين، وليس فيها حرف يعبر عنه بحرفين
كالذال أو الثاء اللذين يكتبان مما يقابل عندنا التاء والهاء (th) ويتغير النطق بهما
في مختلف الكلمات.
ولا تزدحم أصوات الحروف في اللغة العربية على مخرج واحد كما تزدحم
الفاء الثقيلة والباء والباء الثقيلة (p. b. v. f.) مع ترك مخارج الحلق مهملة،
وهي تتسع من أقصى الحلق إلى أدناه لسبعة حروف هي الهمزة والهاء والألف
والعين والحاء والغين والخاء، وهي مميزة في النطق والسمع بغير التباس ولا
ازدواج في الأداء.
واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصلية كما يتجنب اللبس
في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت
الإمالة بين حركتين لم تكن وجوباً قاطعاً تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط
من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد أو بعض الجماعات في
أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب،
وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع.
فإذا قال قائل إن فصاحة النطق مزية نادرة تمتاز بها اللغة العربية فليست هي
دعوى من دعاوى الفخر والأنانية، ولكنها حقيقة يقررها (علم وظائف الأعضاء) ؛
لأن جهاز النطق في الإنسان وظيفة معروفة، ولا خفاء بالفرق بين تقسيماته التي
تستوفي الأداء وتميز الحروف والمخارج وبين تقسيماته التي تعطل بعض الأداء
ويعرض فيها اللبس والتلفيق لما تؤديه. فإن الحكم في ذلك كالحكم على كل أداة
ناطقة أو عازفة من أدوات الأنغام والأصوات.
وبقي أن نعرف كيف انفردت اللغة العربية بهذه المزية النادرة؟ هل هي
مزية من مزايا المصادفة لا نعرف لها علة طبيعية؟ أو هي نتيجة من نتائج التطور
الطبيعي. أو نتائج الاختيار بين الأفصح من اللهجات وبين اللهجات التي دونها في
الفصاحة على ألسنة المتكلمين بلغة واحدة؟ .
اللغة الشاعرة
__________
(1) الصوت أو خَفيّه.(29/63)
الصيف ضيعت اللبن
شعر: مروان كُجُك
(يروى عن العرب أن امرأة كانت متزوجة من رجل موسر فكرهته فطلقها،
وكان الوقت صيفاً، فتزوجت من آخر كان فقيراً مملقاً، فلما أصابتها الفاقة،
ولذعتها الحاجة ذهبت إلى مطلقها تطلب منه لبناً: عطاءً ومعونة، فأبى أن
يستجيب لرجائها، وقال لها: (الصيف ضيعت اللبن) فذهب قوله هذا مثلاً) .
لا تبكِ سلما عشت فيه بلا محن ... أنت الذي اخترت الخديعة والغَبَن [1]
أنت الذي مزقته حتى غدا ... جرحاً عسير البرء نزافاً زمِن [2]
وبعثت من خَلَل الرماد شوائظاً ... هوجاء حاقدة تموج بها الفتن [3]
وعلوت، عدواناً، مقام فحولة ... ونسيت أنك للصغائر مرتهَن
ولكَمْ زعمت صلاح أمرك كاذباً ... حتى استويت على الأباطح والقُننَ [4]
وأذعت للدنيا بأنك مصلح ... أسلمت روحك للطهارة، والبَدَن
وغدوت مفتاح الشرور وذلها ... وملاذ كل رذيلة ترجو الأَمَن [5]
الأرض أرضك فاستضف فيها الذي ... يُمناه قاتلة، ويسراه الكفن
واحمل لنا من كل حدب خسةً ... واكتب على جنباتها: عاش الوطن
حتى أتى ليل يموج سفاهة ... فطرحت مئزرك الدنيَّ المُدَّهَن [6]
ونسيت ما قد كنت تزعم من سجا ... يا السر والإيمان والقول الحسن
ورجعت للجحر الخبيث تعبّ من ... سم الأفاعي ما تهيج به الإِحَن [7]
حتى غدوت لكل طاغية مضى ... رمزَ الكياسة والسياسة والفِطَن
إن شئت تخريب البلاد فذاك إص ... لاح لها، ورعاية فوق المنن
أو شئت قتل قبيلة برجالها ... ونسائها فافعل فإنك مؤتمَن
أو شئت أن نغدو يهوداً أو عبي ... داً أو بقايا عالقات في الدمن [8]
فافعل فأنت مخير وكفاك أن ... ترقى على أجسادنا فناً بفن
واقتل ذوي الأحساب واتبع ظلهم ... لا يفلتنْ أحدٌ ولو عظُم الثمن
فلعل مولوداً يحنّ لقومه ... يوماً فيلحنَ مثل ما موسى لَحَن [9]
فتثور أودية، وتلتهب الذرى ... وتهيج أرواح فتكفأ كل دَن [10]
يا أيها الحقد الذي أضحى له ... جسد يخور بأرنا، وبها عَدَن [11]
مهلاً فلست بخالد أبداً ولا ... أنت المسوَّد بالمحبة والعلن
وغداً إذا انجلت الحقيقة وانتهى ... عهد الخيانة والسفالة والعفن
لا ترجُوَنْ منا شفاعة شافع ... أبداً: فإن الصيف ضيَّعتِ اللبن
4/7/1989
__________
(1) الغبن هنا: الخديعة في الرأى.
(2) البرء: الشفاء نزافاً: دائم النزف، زمِن: مستمر (مزمن) .
(3) الخلل: الفراغ بين الشيئين.
(4) الأباطح: جمع أبطح وهو مسيل الماء فيه حصى صغيرة ويقال له أيضاً: البطحاء القنن: جمع قنة وهي أعلى الجبل.
(5) الأمن بفتح الميم: الأمن.
(6) المدهن: المدهون قصداً للتعمية.
(7) عب: شرب، مرة وراء مرة الإحن: جمع إحنة وهي الحقد.
(8) الدمن: جمع دمنة وهي المزبلة.
(9) لحن له: قال له قولاً يفهمه المخاطَب به ويخفى على غيره.
(10) أرواح: جمع ريح، تكفأ: تقلب، تكب الدن: جمع دنان وهو الجرة أو الخابية وهنا المقصود بها الخوابي التى تُعتَّق فيها الخمرة.
(11) عدن بالمكان: أقام فيه.(29/66)
شؤون العالم الإسلامي
لا تغيير في تونس
عبد الحميد إبراهيم
أمل الشعب التونسي عند سقوط بو رقيبة أن تتغير أحواله، وينتقل من حالة
الشلل التى أصيب بها أواخر أيام الدكتاتور السابق - إلى حالة يثق فيها بنفسه
وقدراته، ويتمتع بحريته حيث يصبح قادراً على التفكير والإنتاج، وأن الوعود
كانت خصبة في شتى الاتجاهات. ما الذي كان يشكو منه الشعب التونسى، وكان
يكبله عن تحقيق ما يطمح إليه؟ إنه الوضع النفسي والاقتصادي.
أما الوضع النفسي فيتمثل في عبادة الذات التى كانت سمة بارزة في سلوك بورقيبة، وإضفائه على نفسه من الصفات والقدرات والمواهب ما لا يطلق إلا على
الآلهة. وقد حاول الحاكم السابق خلال ثلاثين سنة أن يفرض على الشعب التونسي
هذا الأسلوب من عبادة الشخصية، ويعمل على أن يجعل كل شيء يدور حوله،
وكان يعتقد أنه يعرف مصلحة التونسيين أكثر منهم أنفسهم. وشيئاً فشيئاً أنبتت
حوله حاشية تجسد فيها نفاق وفساد لا يوازيه إلا نقص في الكفاية، وعدم اكتراث
بحاجات الشعب الحقيقية.
وأما الوضع الاقتصادي فكشأن الدول التي تسود فيها نظريات حكم الفرد، أو
نظريات الحزب الواحد، فلابد أن تواجه ضعفاً وركوداً اقتصادياً سببه قتل الطموح
والمبادرة في النفوس، وعدم الأمان والاستقرار الذي هو شرط أساسي للازدهار
الاقتصادي، وحكم بورقيبة كان مزيجاً من تسلط الفرد وتسلط الحزب الواحد بل
إنه جمع أسوأ ما في هذين الأسلوبين، وهكذا عندما بدت بوادر التململ من هذا
الجو الذي وجد الشعب التونسي نفسه فيه لم يكن من علاج لهذه البوادر غير القبضة
الحديدية. ولكن هذه السياسة ليست علاجاً بل هي مسكن. وهكذا كان التغيير الذي
حدث في تونس في لحظة حاسمة، عندما وصل الطاغية إلى أقصى درجة من
الطغيان، فتقدم بن علي وقطف ثمرة الحالة التى أوصل بو رقيبة تونس إليها، ولو
لم يفعل هو لقطفها غيره.
إن الشعب التونسي شعب مسلم عريق في إسلامه، يشكل الإسلام في كيانه
نسيجاً ليس من السهل تجاهله وتجاوزه، وعلى الرغم من التخريب الفكري والثقافي
الذي أحدثه بورقيبة خلال فترة حكمه الطويلة إلا أنه لم يزد على أن جعل الشعب
التونسي يطوي جوانحه على كراهية مستكنة لجرأة هذا الدعي ووقاحته على الإسلام
الذي هو عقيدة الشعب التونسي، لم يفهم بورقيبة كأمثاله من المتسلطين بغير حق
- أنه عندما كان يقف الساعات الطوال أمام مكبرات الصوت والمنابر الإذاعية
المحروسة يحقّر أحكام الإسلام وينتقي ما شاء من تعاليمه وشعائره كالصلاة والصوم، ونظرته إلى المرأة، ويجعل من ذلك مجالاً لسخريته وتهجمه وهرائه الذي يجبر
الشعب على سماعه وحفظه، لم يفهم أنه كان يهين عقيدة الشعب الذي يحكمه،
والذي يهين عقيدة الشعب لن يحوز على ثقته ولا محبته، لقد كان حفنة من
المتملقين المنافقين المنتفعين يحيطون به ويزينون له فعله القبيح هذا ويرضون فيه
حب العظمة والنفوذ الذي اشتهر به، بالإضافة إلى الأقلام التي لا يهمها الإسلام من
قريب أو من بعيد داخل تونس وخارجها التى كانت تكيل له المدح على وقاحته التي
يسمونها شجاعة، وجرأته على الباطل التى يسمونها ألمعية، ولكن البلاد لا تجني
من أهواء الطغاة والمنافقين والمنتفعين الانتهازيين سوى ما جنت تونس من سياسة
ذلك المسمى بو رقيبة.
إن الرئيس التونسي الجديد أعلم الناس بالذي أوصل الحالة في تونس لما
وصلت إليه من تأزم، وهو عليم أيضاً أن الباحثين عن الشرعية في الشعوب التي
عقيدتها الإسلام - لابد لهم من احترام هذه العقيدة، لذلك فقد قدر الشعب التونسي
كل التقدير الخطوات التي بدت مخالفة للمنهج السابق، فبينما كانت دعاية النظام في
العهد البائد لا تألو جهداً أن تحقر كل مظاهر التمسك الجماعي بالإسلام، وارتباط
تونس بعمقها العربي الإسلامي، وتربطها ربطاً متعسفاً بأوربا وبالفكر الغربي،
باسم التطور والمدنية، وتنعت أصحاب الاتجاه الإسلامي بأقبح النعوت أثراً عند
الجمهور من مثل: الظلاميين، المتطرفين، الذين يريدون إعادة تونس إلى ظلامية
القرون الوسطى ... بينما كان ذلك وأكثر منه هو أسلوب الدعاية.. فرح الشعب
التونسي من عودة كلمات تقدير الإسلام والهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي،
والنية للنظر في تحسين المناهج التربوية بما يعيد الاعتبار للعروبة والإسلام في
المجتمع التونسي.
ورافق هذا التقدير الكلامي خطوات فعلية، فقد توقفت ملاحقة الإسلاميين
واعتقالهم، وأفرج على مراحل عن الأعداد الكبيرة ممن اعتقل منهم على عهد
الحاكم السابق، وقد نظر الشعب التونسي بأجمعه إلى هذه الخطوات نظرة التقدير،
واعتبرها تغييراً ذا بال في مجال الحقوق الطبيعية التى كانت مهانة، حتى الناس
الذين ظلمهم النظام السابق وألصق بهم شتى الافتراءات لم يبخلوا بإعطاء هذه
الخطوات ما تستحقه من اعتبار، وأحاطوها بالآمال العريضة التى بدت في بعض
الأحيان ومنذ وقت مبكر مغرِقة في التفاؤل. إلى هنا أصبح في تونس نظام جديد
وشعب ذو أمل جديد، نظام يتخذ من التغيير الذي حمل قمة الإنجاز، ويثمّن هذه
الخطوات تثميناً مسرفاً ويطالب بالثناء والاعتراف بالجميل، ولكن الشعب اعترف
بهذا الجميل وقام بواجب الشكر، وهو ينتظر ممن قاموا بتلك المبادرة فتحركت
الرمم في أجداثها، وانتعشت الآمال التى كادت تموت - أن يزيلوا القيود الفعلية
التي تبعث الخوف والرهبة، وتجعل الشعب دائماً خائفاً يترقب! ولكن إلى الآن لم
يحدث شيء.
بل إن الشعب التونسي أصبح يحس أن ما حصل عندهم يشبه ما حصل في
ألمانيا الشرقية على إثر سقوط (إريك هونيكر) حيث تسلل جهاز المخابرات السيئ
الذكر (ستازي) ليخلفه، ولكن مع فرق بسيط وهو أن النظام الجديد في تونس نجح
في التسلل حيث فشل (ستازي) وبدأ التونسيون يكتشفون أن الخدمات الشفوية
للإسلام لها هدف آخر، وأن ما حصل من إفراجات هو أقصى ما يمكن تقديمه من
أمور فعلية.
ويبدو غريباً جداً لمن هم في داخل تونس ومن هم خارجها تصرف الحكومة
تجاه بعض الحالات، فبينما تعترف هذه الحكومة للشيوعيين وباقى اليساريين
والعلمانيين بشرعية العمل السياسي، وتعطي هؤلاء من الاهتمام أكبر من حجمهم
في صحافتها وإعلامها ذي البعد الواحد، تراها تضن بأي اعتراف قانوني لكل ذي
توجه يشم منه اسم الإسلام ولو مجرد شم!
هذا مع أن قادة الاتجاه الإسلامي لم يتهاونوا في اتخاذ كل ما يمكن أن تطلبه
حكومة منصفة من مواقف، فلم يقصروا في المدح والثناء على مواقفها، ولا أعلنوا
برنامجاً يسيء إلى أحد، حتى الشيوعيين والعلمانيين الذين لا يوفرون من ألفاظ
الهجوم على الإسلام شيئاً، وهم خارج السلطة، ولا يوفرون من مواقف الإثارة
والكبت والعسف والأذى للمسلمين موقفاً وهم داخل السلطة.. حتى هؤلاء اعترف
لهم قادة الاتجاه الإسلامي في تونس بحرية العمل وأعطوهم أكثر ما يؤملون.
وأعطوا من المواثيق على الإيمان بالتعددية، والديمقراطية، والخصوصية
التونسية، ما لم يعط غيرهم.
والخلاصة أن قادة الاتجاه الإسلامي يتمتعون بكل الشروط التى يستحقون
عليها التكرم بالاعتراف بهم، فهم تونسيون، وهم ذوو وزن معتبر، وهم يفضلون
العلنية، وهم متطورون، وهم غير ناكرين للجميل، وهم راضون بالاستقسام
(بأزلام) التعددية، ويسبحون بحمد الديمقراطية!
ما علتهم إذن؟ !
يتحدثون بالإسلام؟ ! هل الحديث عن الإسلام أصبح عاراً؟ ! كيف تعطَى
الشرعية لمن يجعل أسس برنامجه تقوم على هدم الإسلام بل هدم الأديان كلها
(كالشيوعيين) وتعطى لمن يقول: لا مكان لظلامية العصور الوسطى في حياتنا
المعاصرة (يقصدون أحكام الإسلام والفكر الإسلامى) يحاربون الفكر الإسلامى
(كالعلمانيين واللادينيين وعبيد فرنسا) ؟ وتحجب هذه الشرعية عمن ليس له ذنب
إلا أن يقول: أنا مسلم؟ ! إذا كانت الدولة لا تريد أن يزج باسم الإسلام في مجال
العمل السياسي، ولذلك لا تحب أن يشار إلى الإسلام في التسميات، لا مانع، ها
نحن نتقدم بحزب يفي اسمه بهذا الشرط اسمه (النهضة) وهذا برنامجه، ونطلب من
الدولة التى نعترف بها سلفاً (حيث نطلب منها لامن غيرها) الترخيص.
بعد خمسة أشهر من تقديم طلب الترخيص مع برنامج الحزب المفصل يعاد
الطلب مرفوضاً دون ذكر الأسباب، سوى أن الوقت غير مناسب! وطلب منهم أن
يتقدموا ثانية فيما بعد. وحينما استأنفوا الطلب مرة أخرى في 13/12/1989
رفضت وزارة الداخلية تسلم الطلب من حيث المبدأ: ألا يتناقض هذا مع الميثاق
الوطني الذي وضعه النظام، وأقرته جميع الاتجاهات السياسية في البلاد وأهم بنود
هذا الميثاق:
- احترام حرية التعبير.
-احترام حرية الاختلاف في وجهات النظر.
- إدانة الإرهاب والعنف.
-العمل على رفع المستوى (الروحي) واللغوي للشعب.
-الحفاظ على الهوية التاريخية للشعب التونسى.
هل جماعة النهضة لا يقرون بهذه المبادئ واكثر منها مما تريده الدولة؟ ما
المشكلة إذن؟ يصعب على المرء أن يفصل في هذه القضية، ولكن يبدو أن الشعب
التونسي بدأ يكتشف أن مشكلة النظام مع جماعة الاتجاه الإسلامي هي أنه لا يريد
أن يخضع نفسه للولاء للإسلام عقيدة الأمة، ولكنه يصعب عليه أن يعترف بهذه
الحقيقة، ويدور حولها بأسلوب المداورة، وخلط الموضوع الحقيقي بموضوعات
أخرى جانبية، وهو أسلوب الجدل العلماني المستورد من الفكر الأوربي والذي لم
يعد يقنع أحداً، وكنموذج على هذه المداورة الممجوجة نقدم ما أوردته جريدة (القبس الدولي) 5/6/1990 - نقلاً عن وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية:
(أكد المنجي بو سنينة وزير الدولة للتربية في تونس أنه: لن يتأسس حزب
ديني في مجتمع يَدين بالإسلام وانتقد الوزير التونسي بشدة (! !) في اجتماع
حزبي لأعضاء التجمع الدستوري (!) الديمقراطي (!) الحاكم في مدينة الوردية
بالضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية - مَن وصفهم (بقوى الظلام ودعاة الفتنة)
وقال: إن ظاهرة التطرف الديني تقوم على المغالطة والتضليل وابتزاز المشاعر
الدينية والتحريض على الفتنة لتحقيق مآرب سياسية معروفة (!) تحت غطاء
الدين.
وتقوم قيادات التجمع الديمقراطي الحاكم بنشاط مكثف وعقد ندوات ومؤتمرات
شعبية في مختلف أنحاء تونس لمواجهة التيار الإسلامي) [1] .
هناك أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح تعليقاً على مثل هذا النموذج المتكرر من
النشاطات المكثفة والندوات والمؤتمرات الشعبية في مختلف أنحاء البلاد:
* لماذا يسمح بتأسيس أحزاب ذات نظريات كفرية في مجتمع يدين بالإسلام
ولا يسمح بتأسيس حزب ديني؟ ! .
* ثم هل أصحاب الاتجاه الإسلامي يدعون إلى إقامة كنيسة وتنصيب بابا، أم
يتقدمون ببرامج اجتماعية أساسها الإسلام الذي ليس هو مسجد يفتح للصلاة فقط
ويغلق بعد انتهائها؟ !
* ماذا تعني هذا العبارة: (قوى الظلام ودعاة الفتنة) غير وصم الناس
وتشويههم دون دليل صحيح؟
* مادمت تقول بحرية الرأي في مجتمع متحضر؛ لماذا تتهم من يخالفك
الرأي بهذه التهم وتسب هذا السب المر؟ هل هذا سلوك قوم متحضرين؟ !
* لماذا استيراد الحجة الواهية من البلاد التي قد يكون فيها أقليات غير مسلمة، والتي تقول: لا نسمح بإقامة حزب ديني (أي إسلامي) حرصاً على مشاعر
مواطنينا الآخرين؟ في حين أن هذه الحجة - إن صدقت في تلك البلاد - لا تصدق
في بلد كتونس أغلبيته الساحقة مسلمون؟ .
* ألا تقدم للناس الذين تخاطبهم معنى محدداً للتطرف الديني، حتى يلمسوا
(المغالطة والتضليل وابتزاز المشاعر الدينية والتحريض ... ) وسائر هذه التهم التى تكال جزافاً! والتي لو نوقشت بإنصاف من قبل قوم يحترمون العقل والمنطق والتحضر، وأخيراً: الإسلام؛ لانهارت واحدة بعد أخرى؟ ، صحيح:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدَّق ما يعتاده من تَوَهمِ
وعادى محبيه بقول عداتِه ... وأصبح في ليل من الشكِّ مظلمِ
إن السلطة التونسية تتهم قطاعاً عريضاً من الشعب التونسي لهم حقهم
المشروع أن يعبروا عن عقيدة لم يستوردوها استيراداً من أوربا، ولا أمريكا؛ بل
هي نابتة نباتاً طبيعياً في ترابهم، وسُقيت من دمائهم ودماء آبائهم وأجدادهم، ولا
تفتأ تتهمهم باحتكار الإسلام، مع أنهم لم يدَّعوا ذلك، ولا يمكنهم لو ادعوه، في
الوقت الذي تتلبس هذه السلطة - كالكثير من السلطات - باحتكار كل شىء:
السلطة والنطق باسم الأحياء والأموات، وادعاء الشرعية والقانونية، والوصاية
على الأرض والسماء! .
ومن أغرب الأمور أن يظل النظام التونسي مشدود الأعصاب مهيأً لتحميل
أصحاب الاتجاه الإسلامي كل ما يحصل في المجتمع التونسي من سلبيات وكوارث، حتى ما لا يقع تحت يد البشر، وكشاهد على ذلك فقد اجتاحت الجنوب التونسي
سيول مدمرة هدمت حوالى 40 ألف بيت، وخربت أكثر من ألف كيلو متر من
الطرق، بالإضافة إلى مزارع ومحاصيل كثيرة، ولم يصل أحد من قبل الحكومة
إلى هذه المنطقة المنكوبة إلا بعد ثلاثة أيام وكأنها تقع في قارة أخرى، بل ولم
يتحرك النظام إلا بعد المظاهرات التي اندلعت تصف الحكومة بالإهمال.. هنا فقط
استيقظت الحكومة من سباتها، ولكن لتصب جام غضبها على المتطرفين: (الذين
يحاولون استغلال الظروف العصيبة!) ، لكن هل فعلت الحكومة شيئاً عملياً للتخفيف عن المنكوبين؟ ! بعد عشرة أسابيع كانت لا تزال أعداد كبيرة تنتظر المساعدة والمأوى!
إن الإنسان في كثير من بقاع العالم الإسلامي يربَّى على أن يستسلم لجميع
أنواع الكوارث؛ ما كان منها من صنع البشر وما ليس كذلك، ويقابلها بخضوع
وتسليم حتى يكون مؤمناً مسلماً، وإلا فهو متطرف متعصب مضلل محرض على
الفتنة، بل قد يتهم بالكفر! ألم يحاول التنكر للإيمان بالقضاء والقدر؟ !
ومع أن النظام في خلاف مع شرائح متعددة من الشعب: مع العمال، والطلبة، والمعلمين، والمهندسين.. لكنه يحاول التنصل من نتائج هذه الخلافات والمشاكل
بإلقاء المسؤولية على أصحاب الاتجاه الإسلامي، معتقداً أنه إذا حصر النار في هذه
الزاوية فإن المشاكل تحل، مع أن تجارب كثيرة مماثلة حدثت في أماكن أخرى من
العالم لكنها لم تحل المشاكل بل زادتها وعقَّدتها.
إن تونس تنزلق مرة ثانية لتجد نفسها على عتبة مرحلة شبيهة بالمرحلة التي
غادرها فيها بو رقيبة، وتبدو هذه السياسة التحريضية التي يشير بها المخططون
للسلطة السياسية الحالية كأنها محاولة لإيجاد المسوغات التي تبطش بسببها بمن
تعتقد أن البطش بهم يخلي لها جو العمل كما تشاء، بعيداً عن الاحتجاج والمساءلة،
وهؤلاء المخططون تغرهم أمثلة حصلت وتحصل هنا وهناك، وتوحي لهم أنه لا
حل إلا بذلك، مع أنه لا أحوال هذه الأمثلة، ولا الحال في تونس يمكن أن تتحسن
بهذه الطريقة غير المتحضرة، التي أثبت التاريخ الحديث عقمها وتخلفها، بل
وخطورتها، أعني طريقة وضع (معارضة معينة) تحت ظروف الكبت والمطاردة، وجعلها مشدودة دائماً، ليقوم شخص غير مسؤول بعمل ما يعطي الأنظمة
مسوغات البطش والتنكيل.
لقد اختار قادة النهضة مختلف الطرق المسماة حضارية في التعامل، على
الرغم من الأجواء المحيطة بهم، وهم يتحملون بصبر وإباء كل ظروف الإثارة
والحرمان من الحقوق الأساسية، وعلى الرغم من عدم السماح لهم بقنوات (قانونية) تسهل لهم ضبط أنفسهم وعناصرهم؛ فإنهم يبدون متمسكين بأعلى درجات
الانضباط في ظروف يصعب فيها ذلك، ولكن تلوح في الأجواء علائم (لفبركة)
حادثة عنف تكون بمثابة الذريعة ليتكرر في تونس ما فعله عبد الناصر من قبل.
ولكن هل سيظل التاريخ يعيد نفسه؟ !
__________
(1) الأقواس وعلامات التعجب ليست في نص الجريدة، بل هي منا (التحرير) .(29/70)
الإسماعيلية في أفغانستان خطر يتنامى
أحمد موفق زيدان
انتعش نفوذ فرقة الإسماعيلية الباطنية في أفغانستان خلال الحرب الأفغانية
الروسية الأخيرة، الأمر الذي مكنهم من اللعب على عدة حبال في سبيل تحقيق
مصالحهم حتى ولو تضاربت مع المصلحة الأفغانية فضلاً عن المصلحة الإسلامية.
وقد ساعدهم على هذا التنامي الموقع الذي يحتلونه قرب العاصمة كابل والذي
يعد منفذاً لعدد من الولايات الأفغانية الشمالية وقربه من روسيا، كما يتحكم في
بعض الطرق المؤدية للعاصمة. ويؤكد القادمون من جبهاتهم بأن وجودهم يزداد
وبشكل مطَّرد.
الوجود السكاني:
ينتشر الوجود الإسماعيلي في أفغانستان في ثلاثة مواقع وهي: ولاية (بغلان) التي تعتبر معقلهم الذي فرضوا وجودهم ونفوذهم من خلاله و (لسان واخان) الذي يصفه الاستراتيجيون بأنه لسان القوة الواقع في ولاية بدخشان المحاذية لثلاث دول وهي روسيا والصين وباكستان، والمنطقة الثالثة لهم هي مديرية (شمالي) في ولاية بروان القريبة من العاصمة كابل. وقد قام العديد من ساكني لسان واخان الإسماعيلية بالهجرة أثناء الغزو الروسى ولم يدافعوا عن بلادهم حيث لجؤوا إلى باكستان ولكن لعدم ملاءمة جو باكستان الحار لطبيعتهم التي اعتادت على الجو البارد جداً تكفلت الحكومة التركية بنقلهم إلى بلادها بحجة أصولهم التركية.
دولة (بغلان) المزعومة:
أثناء الغزو الروسي لأفغانستان حاول السوفييت كسب تأييد ومساندة عدد من
القوميات أو الطوائف لصفهم أو تحييدها على الأقل ومن الطوائف التي اكتسبوها
لصفهم طائفة الإسماعيلية، خاصة وأنها توجد في ولاية بغلان القريبة من كابل،
ويقود هذه الفرقة في بغلان سيد منصور الذي يعتبر نفسه مندوباً لمرشدهم
الآغاخاني ابن عم صدر الدين منسق عام الأمم المتحدة للدعم الإغاثي للمهاجرين
الأفغان والذي عُين في أعقاب الانسحاب الروسي، وتعتبر مدينة (كيان) عاصمة
دولتهم هذه.
وكان سيد منصور - أمير دولتهم المزعومة - قد سُجن مع ثلاثة من إخوانه
في عام 1976، وأرسل ابنه سيد جعفر - الذي كان يبلغ من العمر (11) عاماً -
إلى إنجلترا للدراسة ويعيش مع أقربائه هناك، وبعد سنة ونصف ترك سيد جعفر
بريطانيا وتوجه لأمريكا للدراسة في مدرسة (نادري) ويصفه أحد أساتذته بأنه كان
سريعاً في كسب الأصدقاء وانضم حينذاك إلى عصابة الدراجات النارية! ، وفي
أوائل عام 1981 تم إطلاق سراح سيد منصور من السجن ويتوقع البعض أن يكون
إطلاقه ضمن صفقة سياسية مبرمة بينه وبين السوفييت وذلك بأن يقف إلى جانبهم
إذا ما أطلق سراحه وقد أثبتت الأيام هذا عندما دعمهم وساندهم ضد قوات
المجاهدين، ولدى عودة سيد جعفر من دراسته في أمريكا في تلك الفترة عينه والده
قائداً عسكرياً لميليشيا الإسماعيلية في الولاية والتي يصل عددها إلى (12) ألف
مسلح.
شخصية سيد جعفر:
في فيلم فيديو قام بتصويره صحفي بريطاني يقول سيد جعفر عن نفسه بأنه
قضى أياماً ممتعة في أمريكا حيث كان في عصابة الدراجات النارية كما كان يحب
الضرب على الطبول ويضيف فيقول: إذا عملت هذا وسط منطقتي الآن فيعدونى
مجنوناً وأحمقاً، ويقول في هذه المقابلة التي سجلت في الفيديو: إن الحرب هذه
كانت لمصلحتنا 100%؛ لأن أي حكومة مستقبلية لابد لها من التعامل معنا كقوة
مستقلة.
ويتمتع سيد جعفر بشعبية قوية بين جماعته؛ حيث يستقبله الرجال والنساء
اللواتي يلبسن لباساً أحمر معيناً وتنحر الأغنام والأبقار احتفاءً بمقدمه.
القوة والنفوذ:
يبلغ عدد ميليشياته - كما ذكرنا - (12) ألف عسكري مسلح وذكر بنفسه هذا
الرقم في مقابلته السابقة ويؤكد المجاهدون القادمون من منطقته أن عدد مليشياته
قريب من هذه النسبة ويشبهه بعض المجاهدين بتنامي قوته ونفوذه بالقائد أحمد شاه
مسعود إلا أنهم يفرقون بين الاثنين في أن الأخير يتمدد أفقياً ورأسياً ويتجذَّر في
الأرض إلا أن سيد جعفر يتمدد أفقياً. ويتحكم في جزء من طريق سالانج
الاستراتيجي الذي يعتبر شريان الحياة لنظام كابل الذي يتلقى من خلاله الإمدادات
العسكرية الروسية وفي منتصف شهر يوليو الفائت اتهم القائد الميداني عبد الحق -
التابع للشيخ يونس خالص - الإسماعيلية بتولي حماية طريق سالانج من هجمات
المجاهدين ويقومون بجباية الضرائب من أهالي منطقتهم ليقوموا بتوزيعها على
فقرائهم وتقوية جيشهم الذي يملك دبابات وأسلحة ثقيلة وذخائر كبيرة.
وظروف منطقتهم الآمنة من الحرب والقتال أهَّلتهم للزراعة والعمل بخلاف
المناطق الأفغانية الأخرى التي تعيش حالة الحرب ولديهم مستشفى يديره الغربيون.
العلاقة مع السوفييت والحكومة العميلة:
علاقتهم مع السوفييت والحكومة العميلة أوضح من أن تُذكر؛ حيث اعترف
سيد منصور بنفسه في مقابلة صحفية بشريط الفيديو المذكور: (لدينا صداقة مع
روسيا وحكومة كابل وكذلك لنا صداقة مع المجاهدين ولا يقدر أحد على إزعاجنا) ! .
كما أظهر شريط الفيديو صور لقاءات سيد جعفر حاكم الولاية والقائد
العسكري لمليشيا الإسماعيلية مع المستشارين الروس وهم يتصافحون ويتفكهون
وتحدثوا جميعاً حول تأمين طريق سالانج من هجمات المجاهدين أثناء انسحاب
السوفييت من أفغانستان، حيث كان الاجتماع قبل الانسحاب، وتعهد سيد جعفر
بحماية طريق سالانج وقامت مجلة (الحياة) الإنجليزية - الصادرة في أمريكا -
بنشر صور اللقاءات وتوزيع الابتسامات.
كما تلقوا مساعدات وإمدادات عسكرية من الروس وقد اعترف سيد منصور
بجزء من هذا في مقابلته السابقة. ويقول سيد منصور: (نحن لا نقاتل المجاهدين
ولا حكومة كابل، والأفغان كلهم يثقون بنا) .
وبعد انسحاب القوات الروسية تمتَّنت علاقاته مع حكومة كابل.
العلاقة مع المجاهدين:
على الرغم من ادعاء سيد منصور بعلاقاته الجيدة مع المجاهدين إلا أن
الحوادث التي جرت بين الطرفين تكذب هذا الادعاء فقد أظهر شريط الفيديو
الوثائقي احتجاز الإسماعيلية لأفراد عديدين من الحزب الإسلامي، والجمعية
الإسلامية وأصبح لهم عدة سنوات في السجن الأرضي الذي يديره سيد جعفر.
ويقول الأخير: (إن هذه الجبال لنا - مشيراً إلى جبال حول المنطقة التي كان يتحدث منها - وكذلك جبال الهندكوش لنا وأي رجل يأتي لمقاومتنا سنقاومه وبعنف وقوة) .
وأثناء انسحاب الروس قام عدد من الإسماعيلية في بدخشان بمهاجمة
المهاجرين التابعين للجمعية الإسلامية وقتلوا منهم أكثر من ستين شخصاً، كما قام
المجاهدون بعد هذه الحادثة بقتل 80 شخصاً وجرح 60 آخرين من مليشيا النظام
في شمال قندوز عندما كان سيد جعفر يجمع أعداداً كبيرة من مساعديه ومؤيديه في
نادي سبينزار ليشكل ميليشيا لحماية نظام كابل ولكن لم يتأذَّ جعفر..
ويتحاشى قادة المجاهدين الاصطدام معهم؛ لأن مشاكلهم التى يواجهونها
كثيرة. فيريدون حصر العدو في الخارج فقط ولكن عدد الخارجين يستعد ويعد
لمرحلة ما بعد سقوط النظام.
العلاقة مع الآغاخاني:
يعتبر سيد جعفر أن علاقتهم مع الآغاخاني علاقة دينية فهو مندوب له،
ويقول في لقائه الصحفي السابق: (إذا طالب الآغاخاني بموتنا جميعاً فنحن مستعدون لقتل أنفسنا!) .
وتقول أخبار غير مؤكدة بأن بعض قادة المجاهدين طالبوا الآغاخاني - معبود
الإسماعيلية التاسع والأربعين - بشجب التدخل الروسي ولكنه رفض ذلك وهذا
يفسر موافقة روسيا على عمه صدر الدين الآغاخاني عندما عين منسق الأمم المتحدة
لدعم المجاهدين الأفغان. وتتهم مصادر المجاهدين صدر الدين بمحاباته لطائفة دون
أخرى خاصة بعد أن ركز في مؤتمره الصحفي الذي عقده في بيشاور - على دعم
المناطق المركزية الأفغانية والمعروف أن الشيعة والإسماعيلية يتواجدون فيها.
دعم دولي:
لاحظ المراقبون أنه عقب انسحاب القوات الروسية من بدخشان نشطت
الدبلوماسية البريطانية والأمريكية في دعم ومساندة هذه المنطقة؛ حيث طار السفير
البريطاني والأسترالي إلى جترال الباكستانية المحاذية لإقليم بدخشان والتى تضم
عدداً كبيراً من إسماعيلية باكستان واقترح السفيران إصلاح طريق جترال -
بدخشان ويتوقع أن يتم الفراغ منه قريباً وبذلك تستطيع السيارة قطع الطريق من
جترال إلى بدخشان في محاولة لدعم الإسماعيلية في بدخشان وربط إسماعيلية
أفغانستان مع إسماعيلية باكستان، كما لاحظوا أن القنصل الأمريكي في بيشاور
يتردد إلى منطقة جترال والإشراف على تعمير وإصلاح الطريق وسيوصل الطريق
شاهي ساديم في جترال مع توب خانة في بدخشان؛ حيث سيخترق أودية صغيرة
جداً، وقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم دعم لتحسين هذا الطريق
وإصلاحه والذي سيبلغ طوله 20 كم لتسهيل حركة السيارات الكبيرة أيضاً في نقل
الأسلحة.
إسماعيلية بدخشان تستسلم لمسعود:
ليس هناك وجود مستقل للإسماعيلية الموجودين في بدخشان ولكنهم إما
منضوون تحت لواء ميليشيا نظام كابل خاصة في منطقتي كران منجان أو تحت
لواء الأحزاب الشيوعية الموالية للصين والضعيفة مثل (سنم ملّي) أي الاضطهاد
الوطني، و (شعلة حاويد) أي الشعلة الأبدية.
ويعتبر شاه عبد الجبار مرشدهم الروحي في المنطقة وهو يوالي الحكومة وقد
وقعت معارك ضارية بين جماعة أحمد شاه مسعود وميليشيا الإسماعيلية المدعومة
من حكومة كابل في منطقة كران منجان عام 1988 وفي زيباك عام 1989
لمساندتهم نظام كابل وقد أسفر الهجوم عن استسلامهم للقائد أحمد شاه مسعود.
دولة الحزام الأمني:
يشير بعض المراقبين إلى وجود نية لدى عدة أطراف عالمية ومحلية في تهيئة
الأجواء لتشكيل أو تأسيس دولة إسماعيلية تجمع إسماعيلية باكستان في مناطق
جترال وهنزة وجليميشا وبلتستان مع الإسماعيلية الموجودين في ولاية بدخشان
خاصة بعد الطريق الذي أعيد ترميمه في محاولة لربط الطرفين ببعضهما. حيث
إمدادات إغاثية وغذائية لإسماعيلية باكستان من إيران ودولة باطنية أخرى، كما
أسفرت لقاءات المسئولين الإيرانيين مع المسئولين الصينيين إلى سماح الأخيرين
لنشاط شيعي في منطقة تركستان الشرقية (سينك يانج) المحاذية لهذه الدولة
المزعومة، وبدأ عدد من الشباب الصيني السني القاطن في هذه المنطقة بالتوجه
للدراسة في طهران تمهيداً لتشيُّعه.
ويقوم الآغاخاني بزيارات ميدانية لمنطقة هنزة وجليجييت الباكستانية
وغيرها، ويوزع أتباعه المساعدات والإعانات على الشعب هناك حتى على أهل السنة - ويا لَلأسف! - فقد انجر بعضهم وراء دعاياتهم الإنسانية وأحسنوا الظن به.
ولكن أصدر عدد من علماء السنة في باكستان - مثل (ولي حسن تونكي) فقيه
باكستان - فتوى بعدم جواز أخذ المساعدة من الآغاخاني. وأغلب سكان هذه
المنطقة شيعة وليس إسماعيلية ولكن علاقاتهم قوية مع بعضهم وهناك منظمة باسم
(مؤسسة الآغاخاني) ويرأس المؤسسة في بلشتان شخص باسم (مطهر علي شاه) من
أصول سُنية وراتبه كبير، حتى أنهم يعطون السائق العادي التابع لمؤسستهم (5)
آلاف روبية باكستانية وهو راتب ضخم في باكستان، أما المشرف العام على
المؤسسة فهو (سلطان شعيب) من السنة أيضاً ويبلغ راتبه (60) ألف روبية
باكستانية ولديه ثلاث طائرات هليوكوبتر تحت تصرفه.
ونشاط الإسماعيلية في هذه المناطق يتمحور على الاقتصاد ولا يعتنون
بالدعوة إلى مذهبهم حتى لا يفاجِئوا أهل السنة. وكانت وزارة الزراعة الباكستانية
في عام 1988 وقبله - تقوم بنفسها بتوزيع الأسمدة على المزارعين أما في 1989
وما بعدها فقد قام الآغاخاني بشراء الأسمدة ومنعها عن المزارعين حتى يجعلهم
يعتمدون عليه وليس على الحكومة.
ويرى المراقبون في هذا خطراً ماحقاً؛ إذ إنه تمهيد لتأسيس دولة إسماعيلية
وقد تنبه لهذا رئيس كشمير الحرة (السر دار عبد القيوم) عندما صرح - قبل أكثر
من سنة - بأن مناطق جليجييت بلتستان وغيرها في حالة تحوُّل إلى دولة
للإسماعيلية.
ورئيس كشمير الحرة هو مَن يعنيه هذا المخطط؛ إذ إن هذه الدولة ستكون
عازلة بين باكستان والهند وستكون مثل دولة الحزام الأمني في جنوب لبنان لمنع
المقاتلين من التوجه لفِلَسطين.
وبعد:
فإن أهل السنة هم الذين ضحوا بكل ما يملكون في الجهاد الأفغاني، وهم
الذين جادوا بالنفس والنفيس، وكان خصومهم من الطوائف الأخرى يتربصون
ويعدون العدة لما بعد النصر ليقطفوا الثمرة، فهل يتحد أهل السنة ويفوتون الفرصة
على هذه الطوائف التي تتقن التسلق على أكتاف الآخرين، وحتى لا يكونوا هم
الخاسر الوحيد؟ !(29/78)
الجزائر في الصحافة العربية
الجزائر في هذه الأيام هي محط الأنظار، وحديث الصحافة - الصحافة
الغربية والصحافة العربية - وكلٌّ ينظر من زاويته التي يريدها، وقد نقلنا في العدد
الماضي ما تقوله الصحافة الغربية، وأما الصحافة العربية التي تحمل أخلاطاً من
القومية والعلمانية فهي تتكلم عن الجزائر بعين الإشفاق ظاهرياً، بينما هي تحرض
وتلمز من التيار الإسلامي وتخاف على هذا البلد من (الأصوليين) .
(فالوطن العربي) في عددها (163) بتاريخ 27/4/1990 تعنون لمقالها: (الجزائر في الطريق نحو المجهول) ، (الجيش سيتدخل لإحباط الدكتاتورية باسم
الدين) ! ! إلى آخر هذا التهويل والتحريض، والعجيب أن هؤلاء القوميين يقولون: نحن نؤمن بالديمقراطية والحرية، ويعتذرون عن الأخطاء السابقة (أخطاء مصر عبد الناصر لضرب الإسلام) فإذا أتيحت الحرية للشعب واختار الإسلام يقولون: هذه دكتاتورية، وفي أسلوب لا يليق تحاول المجلة الغمز من التيار الإسلامي بأنه استغل الجفاف في الجزائر وعلم من الأرصاد الجوية موعد سقوط الأمطار فذهب ليصلي صلاة الاستسقاء! ! [الوطن العربي 7/4/1990] وقد بلغ الغضب منتهاه عند رئيس التحرير عندما كتب في العدد (165) بتاريخ11/5 / 1990: (من الأردن إلى مصر إلى الجزائر، والسلف الصالح برئ من هذه السلفية) .
ولا ندري ماذا فعل له مسلمو الجزائر عندما يصورهم بأنهم (يخربون
أساسات التنمية العربية) ؟ ، هل الشباب المسلم - الذي يحمل شتى الاختصاصات
العلمية ومستعد لبذل علمه في سبيل بناء بلاده - هو الذي يخرب؟ أم الدكتاتورية
التى يتباكى عليها رئيس التحرير (دكتاتورية عبد الناصر وبو مدين) ، وهذا الأخير
هو الذي خرب الزراعة في الجزائر بحجة التصنيع، فأصبحت الجزائر الواسعة
الكبيرة لا يستطيع الإنسان أن يزرع فيها وينتج لقمة عيشه.
وبالأسلوب نفسه تتكلم مجلة (اليوم السابع) فتكتب بتاريخ 30/4/1990: (السلطة تتراجع أمام الأصوليين) وتنقل رأي جبهة التحرير بأن الأصوليين استغلوا
المساجد لأغراض حزبية وأن ممارساتهم (المنافية للقانون) قد كثرت! ! وطبعاً
بمنطقهم العلماني يريدون من المساجد أن تكون كالكنائس لا يُبحث فيها أمر
المسلمين، ونلاحظ أنه في كلتا المجلتين يشم رائحة استعداء السلطة على
الإسلاميين وتحذيرها من ازدياد حجمهم.
وإذا كان هذا رأي الصحف التى تحقد على التيار الإسلامي فإن المسلمين
ينظرون بعين الحب والإشفاق على الجزائر من مكر أعداء الإسلام، ولمنع المد
الإسلامى أو إحباطه بشكل من الأشكال، ويرون أن تفويت الفرصة على أمثال
هؤلاء هو باتحاد الكلمة ووضوح الهدف ودراسة كل خطوة دراسة جادة شرعية،
تعلم الواقع وتعلم تحرك مَن لا يحبون الإسلام، وإنها فرصة كى يثبت الإسلاميون
أنهم على وعي بواقعهم، وأنهم على مستوى الأحداث.(29/85)
أخبار حول العالم
159 طفلاً فلسطينياً يسقطون بنيران الجيش الإسرائيلي
حمّل تقرير نشرته منظمة سويدية اسمها (أنقذوا الأطفال) السلطات العسكرية
الإسرائيلية مسؤولية الاعتداء على الأطفال بشكل متكرر ومنتظم في الأراضي
المحتلة، وذكر التقرير الذي يعد الأكثر تفصيلاً لأحوال الأطفال الفلسطينيين في
الضفة الغربية وقطاع غزة أن (159) طفلاً فلسطينياً كانوا قد قُتلوا في العامين
الأولين من عمر الانتفاضة، إما عن طريق الإصابة بطلقات نارية أو الضرب، أو
الغازات المسيلة للدموع. وتشكل نسبة الذين سقطوا بنيران الأسلحة 67% من
مجموع القتلى.
(ديلي تلغراف 17/5/1990م)
موسكو: تفشّي مرض الإيدز
من المقرر أن تعقد الحكومة السوفياتية مؤتمراً في نهاية شهر أيار (مايو)
الجاري، يشترك فيه كل من جهاز الشرطة ومسؤولين في وزارة الصحة، وذلك
لمناقشة الطرق الكفيلة بكبح تفشي مرض الإيدز. ومن بين الحلول المطروحة في
جدول الأعمال هو احتمال إضفاء الصفة القانونية على البغاء الذي بات ظاهرة
منظورة في المناطق التى يكثر تردد الأجانب عليها.
وكان وزير الصحة السوفياتي قد بيَّن في نهاية شهر نيسان (أبريل) أن هناك
ارتفاعاً حاداً في عدد الحاملين لجرثومة مرض الإيدز في الاتحاد السوفياتي،
وأوضح الوزير أن عدد هؤلاء قد يرتفع مع نهاية هذا القرن ليصل إلى (1. 5)
مليون.
(تايمز 12/5/1990م)
التعذيب مازال قاعدة في السجون التركية
ذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية - نُشر في 9/5/1990م - أن المعتقلين في
السجون التركية مازالوا يتعرضون للتعذيب وافتقاد الحقوق الشرعية الأساسية،
ويقول التقرير: إن من المعتقد أن حوالي (5000) معتقل سياسي بما في ذلك مئات
المعتقلين بسبب الأفكار التي يحملونها، ويشتمل هؤلاء على أصحاب اتجاهات
إسلامية، وصحفيين، وأكراد بالإضافة إلى نقابيين.
وذكر التقرير أن التعذيب أمر روتيني حتى بالنسبة للذين يمضون أياماً قليلة
في الاعتقال، وتقول منظمة العفو إن لديها معلومات تشير إلى امتداد أعمال التعذيب
لتشمل الأطفال، وأن أعداداً غير معلومة من هؤلاء قد لاقوا حتفهم نتيجة لهذه
الإجراءات. كما جاء في التقرير أن تهديدات بالتصفية الجسدية تصدر بحق الذين
يرفضون العمل كمخبرين في جهاز المخابرات.
(جارديان 9/5/1990م)
تركيا تبيع المياه لإسرائيل
ذكرت مصادر في تل أبيب أن (إسرائيل) قد تشرع قريباً - وبشكل تجريبي
- باستيراد المياه من تركيا، وكانت (إسرائيل) قد فرضت قيوداً على استهلاك
المياه لاسيما للأغراض الزراعية والصناعية، وذلك لمواجهة العجز المتنامي في
كميات المياه الذي قد يهدد فرص التوصل إلى تسوية في الشرق الأوسط.
ومن جهتها لم تبدِ حكومة تركيا - وهي دولة مسلمة (!) - ممانعة في
تصدير المياه إلى (إسرائيل) أو جيرانها العرب الذين كانوا قد تلقوا عروضاً
مشابهة، ومما يذكر أن (إسرائيل) تعاني عجزاً في كميات المياه يصل إلى حد
(400) مليون متر مكعب، وقد يكون لهذا الوضع أثر على استعداد (إسرائيل)
للتنازل عن الضفة الغربية التي تحتوي على نسبة 95% من مصادر المياه المتبقية.
(ديلي تلغراف: 17/5/1990م)(29/87)
خبر وتعليق
الصومال تسمح بدخول (القات)
(رفع الحظر المفروض منذ سبع سنين على (القات) الذي تأتي وارداته من
كينيا وأثيوبيا، وكانت الصومال قد فرضت حظراً على القات في عام 1983؛ لأنه
يتسبب في إصابة الرجال بالكسل ويكلف الدولة (80) مليون دولار في العام
لاستيراده) .
(الشرق الأوسط 28/4/1990)
وبتاريخ 5/2/1990 نشرت (الشرق الأوسط) أيضاً الخبر التالي: (كرر
الرئيس الصومالى أمس دعوته للمعارضة لإجراء مفاوضات بمناسبة يوم العمال
وأعرب عن أسفه للظروف المعيشية السيئة للعمال الصوماليين، وقال رئيس
الصومال: إن الحرب الأهلية والعجز في ميزان التجارة الخارجية والتهرب من
الضرائب كلها أدت إلى تردي الوضع الاقتصادي) .
تعليق: إن تصرفات أمثال هذه الدول من الأشياء المضحكة المبكية، فرغم
العجز والفقر، والاعتراف بفساد الوضع الاقتصادي، وطبعاً (المخفي أعظم) والكل
يعرف أحوال الناس في الصومال. ورغم هذا يسمح باستيراد (القات) مما يكلف
الشعب الصومالي (80) مليون دولار، لماذا؟ والشعب بحاجة إلى (القوت) وليس
إلى (القات) وهل مثل هذه الشعوب بحاجة إلى زيادة كسل أم تحتاج إلى تشجيع
الزراعة وإنتاج المواد الغذائية مثل القمح، والذرة، أو إنتاج المواد الزراعية
الصناعية.. هل هذا تخبط أم شيء مدروس؟ !
ولماذا لا يعترف رئيس الصومال بأن نظام حكمه هو سبب المشكلة كلها؛
فيترك الصومال لأهلها المسلمين؛ فيريح ويستريح، بدلاً من اتهام الشعب بالتهرب
من الضرائب.
إن أحوال الشعوب الإسلامية وحكوماتها شيء عجيب. إنهم يجمعون بين
السيئات والمتناقضات كما جاء في الحديث من ذم «العائل المستكبر» .
***
(يعقد في الثالث والعشرين من الشهر الحالي (مايو) في واشنطن مؤتمر
لبحث مبادرة شاملة تهدف إلى مساعدة الديمقراطيات الناشئة في دول أوربا الشرقية
اقتصادياً من قبل الدول الصناعية الغربية على أن يشارك في المبادرة القطاع
الخاص في هذه الدول، وقد وصفت هذه المبادرة بأنها تشبه مشروع مارشال الذي
أعقب الحرب العالمية الثانية وقد أكد على الدور الكبير للقطاع الخاص في هذه
المبادرة) .
(الشرق الأوسط 11/5/1990)
تعليق:
هكذا يبادرون لسد الخلل في دول أوربية لرفع مستوى الدخل الفردي فيها،
وتؤهل لتكوين أوربا الموحدة ولتصبح كتلة كبيرة في مواجهة أي تكتل آخر، فمتى
يبادر الأغنياء عندنا على مستوى الدول أو على مستوى الشركات والأفراد لإقامة
المشاريع الاقتصادية عند الشعوب الإسلامية الفقيرة، لمساعدتهم على العيش الكريم
ومن خلال العمل والكسب لا من خلال المساعدة والصدقة؟ ! .(29/92)
واجبنا تجاه المنهج الإسلامي
عثمان ناصر السعيد
1 - الانكباب على دراسته ومعرفته حق المعرفة، لا أن نأخذه مجرد وراثة
دون وعي.
2 - التسليم بما جاء في مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه
وسلم-، دون أدنى شك في النفس أو تردد أو مشاورة للنفس التي ينازعها ضعفها
وشهوتها والشياطين من جميع أطرافها؛ قال - تعالى -[ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب:
36] .
3 - بذل الجهد في نشره بين الناس؛ إذ إنه ليس خاصاً بنا وحدنا؛ قال -
تعالى -: [إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] [ص: 87] وكما أنك سعدت به وتلذذت
بالعيش تحت كنفه فمن الواجب عليك تأدية زكاته بتبليغه لتلك البشرية المتعطشة له
والتي تتخبط في جاهليتها.
4 - الذود عنه أكثر من الذود عن حظ نفسك وأهلك وشرفك ومالك، قال -
صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» .
إن سفينة هذا المنهج سائرة، قائدها محمد -صلى الله عليه وسلم- متحدية
الأمواج بحفظ من الله -تبارك وتعالى - شعارها قول الله - تعالى -: [ومَن يَبْتَغِ
غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] [آل عمران: 85] .(29/94)
المظلوم لا يبني ولا ينتج
عبد القادر حامد
قد يعجب بعض الذين لا تسرهم الحال التي تعيشها الأمة الإسلامية وغيرها
من الشعوب الفقيرة.. يعجبون من الكسل والشلل الذي يبدو أنه يلف هذه الشعوب،
كيف أنها لا تفكر في معالي الأمور، وتغرق في المعيشة يوماً يوماً، ولا يظهر
عليها قلق مما يجري حولها من تكتلات اقتصادية، ولا يستثيرها هذا التباري
المسعور الذي يحس ويلمس عند الشعوب المتقدمة.
وينسى هؤلاء الذين تؤلمهم هذه الحال الخاملة؛ وهذه الحياة التى تبدو مجردة
من الأهداف- ماخلا الحاجات الدنيا التي تحفظ النوع والنفوس - ينسون حقيقة
وبدهية بسيطة واضحة للعيان أن الذي يجرد الإنسان فرداً أو جماعة - من الأهداف
العليا هو الظلم.
فالظلم هو الذي يسحق بشرية البشر، ويقصر تفكيرهم على الحد الأدنى من
العيش، ويجعلهم يرضون بالدون من الحياة، ويلفتهم لفتاً عن مجرد التفكير في
التعمير والتثمير، وهو الذي يقنعهم بالقول:
لِدُوا للموت وابنوا للخرابِ!
وهذا الداء الوبيل داء الظلم هو الوباء الذي ضرب المسلمين وأقام بينهم لا
يريم [1] ، ومع أن شعوباً كثيرة استطاعت أن تضع حداً له، وتعيش في منجاة من
نكايته، وتحد من انتشاره؛ لكننا - مع الأسف - نتقلب في ناره، ونعاني ما نعاني
من شدة ثباته في أرضنا واستقراره.
هذه الجموع العريضة تتذوق شتى أنواع الظلم، فهم بين مظلوم في ماله،
ومظلوم في دينه، ومظلوم في حريته، ومظلوم في حقوقه الأدبية والشخصية، كل
منهم جثم عليه من الظلم - نوع أو أكثر - ما يجعله دائم التفكير في ظالمه، زاهداً
في إنجاز أي شيء سوى الانتصاف لنفسه إن استطاع، مشلول التفكير والإرادة إلا
عن التقلب على جمر الغيظ وحب الانتقام.
ولأمر ما عنون ابن خلدون فصلاً مهماً من مقدمته بالقول: (الظلم مؤذِن
بخراب العمران) ولأمر ما اختار كلمة (مؤذن) حتى يجعلك لا تغتر إذا رأيت قصراً
منيفاً يتربع فيه ظالم بين الأضواء والرياش، أو سلطة يتحكم بها متجبر عاتٍ يأمر
فيُطاع، فها هو ذا الظلم ينعق في جنباتها، مؤذناً بدك بنيانها من القواعد.
__________
(1) لا يتحرك ولا ينتقل.(29/96)
ذو الحجة - 1410هـ
يوليو - 1990م
(السنة: 4)(30/)
الافتتاحية
لبيك لا شريك لك ...
إذا أردنا وصف هذا الدين بكلمة واحدة لقلنا: إنه دين (التوحيد) ، فقاعدته
الأساسية: هى إفراد العبودية والتلقي والتوجه لله سبحانه وتعالى ومحاربة الشرك
بشتى ألوانه وأصنافه، حتى يخلص الدين لله، وتتطهر الأرض من أنواع
الطواغيت، وكل الأعمال إذا خالطها الشرك تتحول هباءً منثوراً.
وفي هذه الأيام حيث تغرق البشرية بأنواع الشرك والخضوع لغير الله والجهل
بدين الله في كل ناحية من نواحى حياتهم، يبرز الإسلام كهادٍ وحادٍ للإنقاذ من وهدة
الضلال وطريق الانحدار.
وإن منسك الحج من أعظم شعائر الإسلام تمثيلاً للتوحيد، ففيه تعود بنا
الذكريات إلى سيدنا إبراهيم -عليه السلام- الذي حطم الأصنام ليكون الدين كله لله،
وترك بلاد الأصنام مهاجراً إلى ربه، وهو الذي سمانا المسلمين من قبل، وهو
الذي بنى مع ولده إسماعيل -عليه السلام- أول بيت للناس يعبد فيه الله وحده،
وفي الطواف والسعي والوقوف والرمي يتجلى التوحيد ناصعاً، والدعاء كله لله
(لبيك لا شريك لك ... ) بينما كان دعاء العرب في الجاهلية (لبيك لا شريك لك إلا
شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ، ولذلك وصف الصحابي حَجة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عندما أحرم من ذي الحليفة، قال: فأهلَّ بالتوحيد، وهو يعنى:
التلبية.
إن أغلى ما يملكه المسلم عقيدته الصافية التي يجب التمسك بها ولو انحرف
عنها أهل الأرض، ولو أن هناك محاولات (لعصرنة) الإسلام والتنازل عن شىء
منه مقابل اعتراف الغرب بنا أو رضاه عنا.
إن رسول الله إبراهيم -عليه السلام- هو الذي حدد لنا هويتنا، إنها الملة
الحنيفية، وليس لنا هوية غيرها، وبمجرد التنازل عن شيء منها يبدأ العد
التنازلي لحضارتنا وقوتنا، إن الشريعة تكفل لنا العيش في هذا العصر إذا كنا على
مستوى الاجتهاد والفقه في الإسلام، ولكن أن نتنازل عن هويتنا بسبب جهلنا بما
تبيحه الشريعة وبما تمنعه فهذه هى الطامة. ولانزال نسمع في هذه الأيام من يدندن
حول التجديد في (أصول الإسلام) أي: التطوير في أصول الإسلام [1] حتى
يتناسب مع هذا العصر، ولم يعلموا أن الثبات على المبدأ والتمسك به هو الذي
يعطينا القوة أمام الأعداء. وأن الأخطار التي تواجه المسلمين وخاصة (المنطقة
العربية) لا ينجي منها إلا الوقوف تحت راية (التوحيد) .
ومن يفقه هذا الدين ويعلم تفاصيله يدرك أنه وسط بين الملل المتشددة
والمترخصة، وأنه حنيفية سمحاء، كما أن أهل السنة وسطٌ بين المذاهب الإسلامية، فالذي لا يعرف قدرهم يظن أنهم حرفيون، نصِّيِون لا يفقهون مرامي الكتاب
والسنة، وهذا كله بسبب الجهل بحقيقة فهم أهل السنة وطرائقهم في الاستدلال
والتفكير، والحقيقة: أن التطرف لا يصلح عليه أمر الخلق، فكيف يبقى الإسلام
ويبقى مذهب أهل السنة؟ ، لولا أنه يحمل بذور بقائه، وهذا من حفظ الله له.
وفى مناسك الحج يبرز أمرٌ آخر لابد من التنبيه عليه والتنويه به، وهو:
(توحد) المسلمين فالحج من أعظم شعائر الإسلام إبرازاً لهذه الخاصية، ففيه يجتمع
المسلمون من شتى أقطار الأرض، ألا يوحي لنا هذا بمحاولة التوحد التي نرى
ونحس بعض إرهاصاتها، ولكن لم تتحقق بعد على أرض الواقع حتى بين أصحاب
المنهج الواحد، مع أن هذا التوحد فيه مصلحة الدين والدنيا، ومع كثرة الأوامر به
والزواجر عن ضده: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم» (صحيح الجامع الصغير 156/3) .
ومع هذا فلا تزال فكرة التوحد ضعيفة لم تأخذ مجرى التطبيق العملي بعد،
ولم يتم الإسراع بها، وسبب ذلك هو ضعف البصيرة عن العواقب، والنظر إلى
العاجل من مغانم سطحية مؤقتة لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن أهل السنة مدعوون الآن أكثر من أي وقت مضى لإظهار خاصية من
خصائص الإسلام، وهي جمع الناس على دينٍ واحد، وإذا كان الغرب الأوربي
والغرب الأمريكي قد انفرد بالساحة وحده ولم يعد له منافس من الشرق الشيوعي،
فإنه يعلم ويصرح علناً أن المنافس الآن هو الإسلام. وإذا لم نتمكن من التوحد
تحت راية (التوحيد) فسنبقى رقماً كما أطلق علينا (العالم الثالث) .
__________
(1) انظر مقابلة (الشرق الأوسط 12 / 6 / 1990) مع الدكتور: محمد فتحي عثمان.(30/4)
في إشراقة آية
[أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]
د. عبد الكريم بكار
سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم
وواقعهم، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة. وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في
حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في
التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي
لديهم.
فهذا نوح -عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة، حتى ضج قومه من ذلك
حين قالوا: [قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا] [هود: 32] ، وهذا إبراهيم -
عليه السلام- يكرمه الله تعالى، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه: [وتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ]
[الأنعام: 83] . وهذا موسى -عليه السلام- يقول: [واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *
يَفْقَهُوا قَوْلِي] [طه: 27، 28] ، ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك
هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول: [وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ] [القصص: 34] . والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه: [وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: 63] . وكل هذا قبس مما نسبه الباري -جل وعلا- لنفسه حين قال: [قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] [الأنعام: 149] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول - واحدة أو تكاد، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ، هو: التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة.
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة، ومع أهمية العمل إلا أن
لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً
غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة، بل قارة، فمما يذكرون في هذا الصدد
أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب
المذهب؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في
عدله وصلاحه. فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي، فأمر بتدريس كتب مالك في
بلده، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية! . وما أظن أن ما
حدث كان يخطر للإمام على بال.
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش، كما حدث في غزوة الأحزاب
حين أسلم نعيم بن مسعود، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين
قريش واليهود على ما هو مشهور. وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية
قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له، قال أحدهم:
لو كان لى عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية.
وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما، فيكفى أن تقنعه: أن عمله غير ذي
فائدة.
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في
أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً. ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها، قال
الله -جل وعلا-: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] [إبراهيم: 24-25] ، لقد شبه الباري -عز اسمه - الكلمة
الطيبة بشجرة طيبة، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية: ثبات
أصلها وعمق جذورها، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء، ثم نفعها الدائم للخلق
باستمرار أكلها وثمارها. ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة.
1 - ثبات الأصول:
حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة، تركزت في
الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة
الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي
بناه الأنبياء تستند إليه، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ
المبين.
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة،
والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» . قال ابن حجر: ومعنى
الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[فتح
الباري 489/6]
فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. ولكن
المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط
بينهما وارداً، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت.
واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية، نجد أن
كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من
مواقعهم، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع، أو السواد الأعظم من
علماء المسلمين، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع.
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين
يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي، حيث أثنوا على كتاباته، وسألوه عن
الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين؟ وقد أجابهم بقوله:
أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته…! ! وهذا
المطلب عجيب غريب، وهو غني عن كل تعليق. فهل يصح لهذا وأضرابه أن
يدعي أنه يكمل مهمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة وهداية
الخلق؟ ! . ...
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض، من
أمثال: إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم، ومن مثل: القول بعدم وجود حد
للردة في الشريعة…. الخ. وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد
أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما
يشتهي أهل الأهواء والشهوات، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا
رائحة… ولكن ذلك لن يكون -بإذن الله- ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود
عن حياضه.
2 - مرونة الأساليب وتنوعها:
على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها
مرنة نامية منوعة، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول؛ فأحوال البشر
وأفهامهم مختلفة، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم،
وصدق الله العظيم إذ يقول: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]
[إبراهيم: 14] ، فالرسول يكلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها على أوسع ما تحمله
هذه الكلمة من دلالات، والهدف هو: أن يبين لهم ما يدعو إليه، وقد أخذ الأسلوب
القرآني من العرب كل مأخذٍ، وتحداهم وطاولهم في التحدي، وأقام عليهم الحجج
الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك. واللغة في أبسط تعاريفها هي:
مجموعة الإمكانات التعبيرية في بيئة من البيئات، وهذه الإمكانات التعبيرية تتسع
باتساع حضارة اللاغين بها، واتساع غنى الخلفيات الثقافية لديهم، وهذه الإمكانات
دائمة التغيير والتشكل تمر بعين الأطوار التي يمر بها الكائن الحى من الولادة إلى
الموت وما بينهما من مراحل. ولغتنا الفصحى تنمو ضمن أطر صارمة، فالفاعل
لن ينمو ليصبح مجروراً، والمضاف إليه لن ينمو ليكون مرفوعاً، ولكن بين تلك
الأطر مساحات واسعة شاسعة تتحرك فيها اللغة على مستوى التراكيب والدلالات
والأصوات، وتلك الحركة تساير وتناغم شلالات الثقافة في الأمة في تنوعها ودرجة
عنفها.
لغة العصر:
من سمات حركة التاريخ أن دور العبادة تظل كهوفاً لنوعٍ أو لأنواعٍ من العلم
مهما ساءت أحوال الأمة الثقافية، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الشرع
يشكلون السواد الأعظم من الكتاب والباحثين والمفكرين، مما جعل اللغة التي يتكلم
بها الصفوة من الناس هي عين اللغة التي يتحدث بها الدعاة، لأنهم هم الذين
شكلوها، وعلى ألسنتهم تطورت ونمت ... ولكن الزمان قد اختلف، حيث إن اللغة
التي يتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقافي متنوع، فأجهزة الإعلام والجرائد
والمجلات والقصص والروايات والكتب التي صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم
مضامين وأساليب، وبفعل وسائل الاتصالات الحديثة صار العالم بمثابة قرية
صغيرة تكثفت فيها الآراء والاتجاهات والثقافات ...
وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم، إذ أن
الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها،
مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة، على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في
الذهن أو العاطفة، كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون
أن يساء فهمها، كما صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها
للمخاطب أمراً ضرورياً جداً.
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة
على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف
الدارسين، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير والتأويل، بشرط أن يكون
ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه. أما الحقيقة العلمية الكونية أو
العقدية أو الفقهية: فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى
واحد، كما أن في تلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة.
فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً، وأوقعته في
الريبة مع سلامة قصده، وفتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قبل له به.
من خصائص لغة العصر:
يتمخض عن تلاطم الأفكار والثقافات المختلفة قناعات ومفاهيم عند السواد
الأعظم من الناس، وهذه المفاهيم قد تكون صحيحة، وقد لا تكون لأنها لا ترتكز
في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات
الثقافية والفكرية، وهذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس، مما
يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك
التركيب. وحينئذ فإن الداعية مطالب بمعرفة تلك القناعات والمفاهيم، كما أنه
مطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم،
ومن هذه الخصائص:
أ- اعتماد الإحصاء بدلاً عن الفلسفة:
كانت الفلسفة تسمى ملكة العلوم، وذلك بسبب تأثير منهج أرسطو في
منحنيات الفكر البشري ومساراته، وقد كان الناس إلى عهد قريب يسمون من أوتي
فيهم مقدرة خاصة على التعبير بـ (الفيلسوف) ، بل إن بلداً مثل بريطانيا مازال
يستخدم كلمة (فلسفة) في شهادات التخصصات العليا لديه. وقد تأثر الفكر الإسلامي
قديماً بالمنطق الأرسطاليسي، وتسربت مقولاته وأقيسته إلى كثير من كتب الأصول
والفقه والعربية، بل والعقيدة. ذلك الفكر الذي لا يقيم للتجربة أدنى وزن، ومن
الطرائف المتناقلة في هذا: أن أرسطو كان يزعم أن أسنان الرجل أكثر من أسنان
المرأة! ولو أن زوجته فتحت فمها وعدَّ أسنانها لعرف أن زعمه حديث خرافة..
وقد أدركت أوربة في أوائل عصر نهضتها ألا نهضة ولا تقدم قبل نبذ الفكر
الأرسطي القياسي، ثم الاتجاه إلى التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم المادية، ومن
ذلك اليوم بدأت قناعات الناس تنحو منحى لغة الرقم لاستفتائها والبناء عليها، وهذه
نقطة إيجابية إذا أحسنا التعامل معها، ولكن كثيرين منَّا مازالوا غير واعين لهذه
الحقيقة، مما يجعلهم يستمرون في سوق الحجج العقلية مع توفر أرقام واقعية تدعم
قوله، وتؤيده، فعلى سبيل المثال: فإن تقديم نماذج واقعية ذات أرقام محددة على
ما يكن أن ينتج من الأمن والرخاء نتيجة تطبيق الحدود والنظام الاقتصادي
الإسلامي - أجدى وأنجع بكثير من سرد مجلدات من العلل والحجج العقلية التي
تشرح فوائد الالتزام بالإسلام، أو تلك التي توضح سلبيات الربا وتطبيق القوانين
الوضعية.
ومن المفيد هنا أن نقول: إن أرسطو أنشأ فن الجدل ليسد الثغرات التي
يتركها الاستقراء الناقص للأحداث والأفكار؛ كما أنشئت فلسفة التاريخ فيما بعد
لتسد النقص في التفاصيل التاريخية، أما اليوم فقد أضحى الإحصاء إحدى أهم
سمات عصرنا البارزة، مما يسهل استخدامه حتى نخفف من الجدل والمماحكات
اللفظية العقيمة.
- للبحث صلة -(30/7)