الإيدز يهدد أمريكا
ضحية كل خمس دقائق مع حلول عام 1993م!
أبلغ مؤتمر دولي لوباء الإيدز يوم 13/6/1988م أنه يتم في أمريكا حالياً
تشخيص حالة إصابة بمرض الإيدز كل عشر دقائق. وإذا ما صحت تنبؤات
الخبراء فإن هذه المأساة الفردية ستسجل كل خمس دقائق في عام 1993م. أما في
أوربا فإن الفارق الزمني بين تشخيص حالة وأخرى يزيد قليلاً على ما هو عليه في
أمريكا، كما أن عدد الضحايا أقل، إلا أن كارثة مشابهة ستنزل في لندن وباريس
وروما ومدريد خلال سنتين ونيف، كما أعلن في المؤتمر أن عدد حالات الإصابة
الحديثة بالمرض التي يتم تشخيصها في كل أسبوع قد بلغ (15) في بريطانيا
و (25) في أسبانيا و (26) في إيطاليا و (33) في فرنسا، وقد بلغ عدد حالات
الإصابة في أمريكا وحدها 65 ألف بمن فيهم (15) ألف توفوا في العام الماضي
و (28) ألف معان شخصت حالات في عام 1987م، وهو ما يساوي معدل إصابة
واحدة كل أربع عشرة دقيقة! .
ويقول الدكتور جيمس كوران العامل في مراكز السيطرة على الوباء في مدينة
أتلانتا في ولاية جورجيا أن ما بين مليون إلى مليون ونصف آخرين قد أصيبوا بهذا
الوباء، وحسب تخمينات الدكتور كوران المستقبلية فإن (41) ألف حالة جديدة
ستظهر هذا العام في حين سيبلغ عدد الذين سيعانون المرض في أمريكا لوحدها مع
حلول عام 1992 (365) ألف، هذا وقد توفي إلى الآن نصف المجموع الكلي
لمرضى الإيدز في أمريكا، وقد بلغت دقة هذه التقارير في الأعوام الماضية نسبة
98%.
هذا، ويعتبر تناول المخدرات عن طريق زرق الإبر والشذوذ الجنسي على
رأس قائمة أسباب تفشي هذا الوباء، كما أن ظاهرة الاتصال الجنسى بين الرجال
والنساء والتي لا يضبطها ضابط تعد سبباً رئيسياً وراء ولادة الأطفال المصابين
بالإيدز، أما في أوربا فقد سجلت حالات الإصابة بالمرض ارتفاعاً بنسبة 115%
منذ شهر آذار من العام المنصرم، كما أن عدد المرضى أخذ بالتضاعف كل (11)
شهراً.(13/97)
بأقلام القراء
لقطات من العشر الأواخر
محمد حماد
يسر الله لي الذهاب إلى مكة المكرمة في العشر الأواخر من شهر رمضان
المبارك لهذا العام، وسجلت ذاكرتي هذه اللقطات:
الجهد المبارك:
رغم كبر سنه، وضعف بنيته إلا أن الله قد منح هذا الشيخ الفاضل طاقة
وجلداً قلما تجده عند أكثر الشباب، وهذا ليس ثناءاً بل هو ما رأيته على مدى
عشرة أيام كان خلالها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين كتلة نشاط مستمرة ما شاء
الله لا قوة إلا بالله؛ فله درس بين صلاتي التراويح والتهجد، ودرس بعد صلاة
الفجر إلى ما بعد الشروق، وفي العصر يستقبل الأسئلة والفتاوى. ولقد رأيته ما
يكاد ينتهي من التسليم في صلاة التهجد بعد كل ركعتين حتى يأتيه المستفتون ولا
ينقذه منهم إلا الصلاة!
وحبذا لو أن الشيخ - حفظه الله - بالإضافة إلى جهده العلمي المشكور - كان
النصيب الذي يعيره للشباب ومشاكله أكثر، فهم بحاجة إلى توجيهه ورعايته،
ودمتم لنا يا شيخ محمد.
الكيف قبل الكم:
لا شك أن القلب يمتلىء بهجة وهو يرى أفواج المصلين الذين يترددون على
المسجد في كل صلاة، ولكن إذا تمعنا قليلاً رأينا أموراً تقول لنا ألا نتسرع في
الحكم، فالطريق لا زالت طويلة وأن التربية الإيمانية لم تكتمل بعد. مشهدان ندلل
بهما على ما نقول:
المشهد الأول: قبل أذان المغرب: أحد العمال يوزع الأكواب الورقية،
تتجمع عليه جماعة من الناس، ينزعون الأكواب منه بالقوة، كلهم يريد أن يأخذ
أكثر من حاجته، أحد المزاحمين - وكان قد فاز بكيس كامل من الأكواب يسأله
أحدهم أن يعطيه بعضها فيرفض قائلاً: (يا عمي إحنا ما أخذناها إلا بالقوة! !) .
المشهد الثاني: تعطلت السلالم الكهربائية بسبب زيادة الحمل، والمصلون
يتزاحمون ورفضوا الانصياع لتوسلات المسئولين بالتريث والانتظام، وعندما
ارتجت الدرجات بهم فزع المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وتدافعوا وتصايحوا،
فهذا يقفز لينجو بنفسه، وهذا يصرخ. والناس قد أصابهم الذهول. تُرى كيف
يفعل هؤلاء عند مواجهة العدو؟ ! .
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام أحمد
وأبو داود عندما سئل عن سبب تداعي الأمم على المسلمين: هل هو من قلة؟ ،
قال: لا، ولكنكم كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب
عدوكم بحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت. صحيح الجامع/8035.
من شوارع مانهاتن إلى المسجد الحرام:
إنها نقلة ضخمة وعجيبة، ولكن ليس ذلك على الله بعزيز ويبقى هؤلاء النفر
من المسلمين الجدد مثالاً على قدرة الله ورحمته في هداية الناس، فمن شوارع
وأزقة مانهاتن وحاناتها، حيث المخدرات والجريمة والضياع (أحدهم تعرَّف على
المخدرات وعمره 9 سنوات) إلى الاعتكاف في بيت الله الحرام، الله أكبر!
أمضيت بعض الوقت مع أحد الإخوة وهو يدرس في الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة وكان معظم حديثنا عن حال المسلمين في أمريكا الشمالية فأعطاني
معلومات كثيرة عن " البلاليين " تختلف عن الفكرة التي كانت لديَّ بناءاً على ما
قرأته من قبل عن حال هذه الجماعة الآن؛ لذلك أتجه إلى مجلتنا الحبيبة (البيان)
لتعطينا تقريراً عن أوضاع هذه الجماعة وغيرها من الجماعات الإسلامية في أمريكا.
(البيان: نعد الأخ بذلك ونرجو أن نوفق إلى ذلك) .
ليلة 27 من رمضان:
يكاد المرء يلمس الروحانية لمساً في تلك الليلة المباركة، لا مكان في الحرم
إلا وفيه عابد لله من طائف بالبيت إلى قائم يصلي إلى قارىء للقرآن.
صحن الكعبة كخلية النحل ممتلىء إلى آخره. مرت لحظات من صلاة التهجد
تكاد ترى فيها النور يمتد من المحرم إلى عَنان السماء. إنها لحظات عجيبة تجمع
فيها أكثر من مليون ونصف مسلم. ليس على سطح الأرض كل مظاهرة إيمانية
كهذه في هذا الوقت.
وتسمع البكاء والنحيب والدعاء المتضرع ولاشك أن كثيراً من المسلمين كان
مخلصاً في دعائه الله بالمغفرة ونصرة الإسلام والمسلمين.
ولكن الدعاء وحده لا يكفي، إن الله كريم جواد قادر على أن ينصر دينه
وعباده ولكن سبق قوله - تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، لابد من التغيير ولابد من العودة الصادقة إلى الله والإنابة إليه،
لا يكفي الدعاء أو عبادة ليلة واحدة أو شهر كامل، إذا أردنا أن تقام دولة الإسلام
في أرضنا فعلينا أن نقيمها في أنفسنا وبيوتنا وأعمالنا في كل لحظة، بل في كل يوم؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ما دعا في بدر عندما دخل العريش وأطال وألح
في الدعاء إلا بعد أن أعد العدة وجهز الجيش وربى الصحابة.(13/99)
فلسفة
خالد الخميس
غريبة هذه الحياة كل يوم ينقضي يقربك من القبر. الإنسان فيها يسعى للكمال، يكافح ويكدح، له آمال وخطط مستقبلية يظن أنه سيخلد، بل لا يفكر في شيء اسمه الموت أبداً؛ لأنه موضوع يأتي له بالوهن والهم، بل وأيضاً لعدم وجود موقف ثابت منه، لذلك يحاول الإنسان أن يستبعد هذا المفترس من قاموس حياته اليومية.
ولو أن للإنسان عقلاً رزيناً لفكر في مستقبله الأخير ونهايته الأبدية كيف
ستكون. ولنفرض جدلاً أنه لا يوجد حياة برزخية وأخرى أخروية، والموت نهابة
الحياة على الإطلاق. هنا نتساءل ما معنى الحياة إذاً سوى أن تكون لذة انقضت أو
شقاء انتهى؟ ! ومادام أن هذه اللذة وهذا الشقاء انته فمن العسير أن نسمي هذه لذة
وهذا شقاءً، بل كلها تسمى بالفناء. ومن هذا المنظور لا يصبح للحياة معنى عند
عقلاء الملحدين، أما إذا أدرك المرء أن هناك حياة أخروية فهنا يتغير المنظور
وتتضح عبارة اللذة وعبارة الشقاء؛ فاللذة ما كانت نعيماً أخروياً، والشقاء ما كان
عذاباً أخروياً أيضاً.
[أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا
أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) ] [الشعراء: 205-207] .(13/102)
خيبة لأنصار التماثيل!
منصور الأحمد
سوف يكتب مستقبلاً في صفحات التاريخ أنه كان هناك في النصف الثاني من
القرن العشرين زعماء يمتطون صهوات الجياد، وقد ناءت أكتافهم وصدورهم
بالأوسمة والنياشين مع أنهم لم يخوضوا معركة ولم ينتصروا في ميدان!
وإنه من أجل أن تبقى هذه الصورة المجافية للواقع مطبوعة في عقول
الشعوب، فقد استخدموا كل مقدراتها من أجل ذلك، ومن ذلك تماثيل باذخة تذكّرنا
(برعمسيس الثاني) و (تحتمس الثالث) و (الإسكندر الأكبر) و (يوليوس قيصر)
و (جنكيز خان) وغيرهم وغيرهم من هذا الرعيل الملعون.
حرص هؤلاء المأفونون على تخليد ذكرهم على أكتاف شعوبهم، واتخذوا من
أفراد محكوميهم مراقي بنوا عليها أمجادهم الكاذبة، فكم من هواة (الفن) من يسأل
نفسه حين يقف مبهوراً مشدوهاً أمام نُصب من هذه الأنصاب: كم كلف هذا الأثر
الفني من قوت الشعب، وكم جاعت من أجله بطون، وعريت في سبيله أجسام،
ولاذت في دائرة النسيان ملايين، وانتُهكت من أجل تحصيل الضروري كرامات
وحرمات؟ ! .
لكن الله يأبى أن يمتد حبل الكذب إلى غير نهاية، وأمامنا شواهد كثيرة على
هذا، حيث نرى أن تماثيل نصبها أصحابها في كل ميدان مهم أو ساحة في مدينة
لتقع عليها العيون أينما اتجهت وحيثما نظرت، وأرادوا من ورائها غرس المبادىء
الغربية في تربة بلادهم على الرغم من مشاعر الأمة التي يحكمون وعقائدها،
وابتغوا من وراء هذه الأصنام المنصوبة خلود الذكر في هذه الدنيا، ولكن ماذا ... نرى؟ ! .
نرى أن هذه الشعوب التي تحدوها أهوت على تماثيلهم هذه بالفؤوس والمعاول
وداست شظاياها بأقدامها وأمام مرأى من أصحابها في بعض الأحيان [1] .
إن دول أوربا التي يقلدها أنصار إقامة الأصنام والتماثيل - ينبع حبها لذلك
من جذور ثقافتها وديانتها التي أُخضعت لتأثير الوثنية اليونانية والرومانية من يوم
أن دانت بها هذه الشعوب، وتكرم شعوبها عظماءها بعد أن يرحلوا مخلفين ورائهم
شيئاً يستحقون عليه التكريم.
أما نحن، فلا ثقافتنا وديننا يبيح لنا ذلك، ولا شعوبنا هي التي تنبري عن
طواعية بعد وفاة " العظيم " لتكريمه بهذا الأسلوب، بل " العظيم " نفسه هو الذي
يكرم نفسه، ويمنحها الشهادات غافلاً أو متغافلاً عن شهادات التاريخ، والمفارقة
الطريفة أن التاريخ - على الرغم من تدخل أصحاب الرغائب في صياغته -
يفرض منطقه على مرأى من هؤلاء " العظماء " الأدعياء.
ألا ما أسخف عقول الذين يبررون إباحة التماثيل بأن الإسلام حرمها حين كان
هناك خوف من عبادة الناس لها، وأَمَا وقد انتفى هذا المحذور ببلوغ البشرية سن
الرشد فلا بأس بها!
وما أعظم الإسلام حينما جعلها رجساً من عمل الشيطان، وجعل من ينفق
على إقامتها ليس غير جدير بأن يحكم غيره فحسب، بل حريّ أن يُحجر عليه
لسفهه فلا يقوم حتى على أمر نفسه!
__________
(1) كما حصل للشاه بالأمس، ولأبي رقيبة هذه الأيام.(13/103)
صفر - 1409هـ
أكتوبر - 1988م
(السنة: 3)(14/)
الافتتاحية
لابد من ملء الفراغ
كلما فكرت في حقيقة أن سبعين سنة من محاربة العقائد الدينية بكل الأساليب
لم يُقْضَ عليها، ولم تغيبها في التراب - كما قدر أعداء العقائد الدينية - ازدادت
ثقتي بالحق الذي أحمله، وكان ذلك برهاناً على قصر النظرة البشرية التي تحدثها
أوهامها أحياناً بأنها تعلم كل شيء، وتريد أن تزيل من أمامها كل ما يعوقها عن
تحقيق ما قصرت نظرتها وعلمها عليه.
أما هذه المعركة المشار إليها فهي التي وقعت - ولا تزال - بين الشيوعية
والأديان.
إن الشيوعية استخدمت كل الوسائل: المادية والمعنوية من أجل القضاء على
أفيون الشعوب ولكن هل نجحت؟ !
هل نجحت في القضاء على المسيحية - مع أن المسيحية لا تهتم إلا بالجانب
الروحي من الحياة، تاركة الجانب المادي لقيصر - ولئن عجزت الشيوعية عن
القضاء على المسيحية، فهي عن أن تقضي على الإسلام - الذي هو في حقيقته
دين شمولي لشأن الدنيا والآخرة معاً - أعجز.
ليس من شأننا الحديث عن معاداة الشيوعية للأديان في روسيا! ، ولكن نريد
أن نتخذ من ذلك دليلاً على عبثية المحاولات التي تبذل من أجل المحو أو التحريف
والتشويه للحقائق التي تؤمن بها الشعوب.
***
لا شك أن هناك حملة قوية من أغلب الفئات النافذة بدأت منذ نهاية القرن
التاسع عشر وبداية هذا القرن هدفها تقليل التأثير الإسلامي في بنية الشعوب
الإسلامية، وإبعاده شيئاً فشيئاً عن جميع النواحي المهمة في الحياة وخاصة الثقافية
منها والتشريعية والاقتصادية.
ومع أن هذه الفئات قد حققت كثيراً مما كانت تتطلع إليه، لكن الهدف النهائي -
وهو تخفيف قبضة العقيدة الإسلامية، وترويض حدة الشعور الديني - لم يتحقق
منه شيء، ولا تبدو في الأفق بوادر تشير إلى ذلك، بل إن المشاهَد أن الشعور
الإسلامي في تصاعد، والاعتقاد بأن الكوارث المحيطة والمتربصة ليست إلا بسبب
انفصام عرى العقيدة الإسلامية من بعض النفوس، وأنه لا مخرج من هذا الواقع
المتأزم إلا بعقد سلام بين الشعوب وتاريخها المغتصَب، والاعتراف بأن المجتمع
لن يكون محصناً ولا قوياً وهو منشق على نفسه، يتبرأ جانب من جانب، ويطارد
قاهر مقهوراً؛ لأن دوامة الزمن مستمرة في الدوران، وغداً سيكون المَوْتور واتراً، وهكذا ...
***
إننا إذا تناولنا جانباً من جوانب التجاهل والإهمال الذي يلقاه الإسلام في دياره -
وهو الجانب الثقافي - سيبدو لنا التأزم والعبث بأوضح صورة.
هذه خطط، وتلك مناهج وضعت لتنشئة أجيال لتكون قادرة على الوقوف على
قدميها في عالم عاصف بالأفكار، والذين وضعوا ذلك وصلوا - برجاحة عقولهم،
وغزارة علمهم، وقبل ذلك كله بحرارة إخلاصهم لأوطانهم وغِنى عواطفهم نحو
أبناء قومهم! - إلى أن الإسلام شأنه شأن الأديان كلها، لا يمثل إلا زاوية روحية
يكفي أن يقدم الحديث عنه للأجيال ضمن هذه الزاوية: تعليم لبعض العبادات،
وحديث عن التوبة والمغفرة، والذكر ومراسم الدفن، وبعض مكارم الأخلاق مثل
الرحمة والرفق بالحيوان، وأشياء أخرى لا تخرج عن هذا الإطار الفقير.
ويستطيع أن يقوم بتقديم هذا الجانب أي فرد - عالم أو جاهل - مؤمن بما يقول أو
جاحد. والقصد من هذا الاختصار واضح لكل ذي نظر، وهو ليس القناعة حتى
بهذه الأشياء المقدمة، بل الإجابة على تساؤل الذين يتساءلون بإلحاح: أين مكان
الدين من تربية الأجيال؟
تريدون ديناً؟ ! لا مانع، خذوا هذا الدين! هذا هو الإسلام!
أما إذا لم يشفِ هذا الجواب العملي النفوس التي تحترق وتململت تطلب إجابة
أشفى " كان الصراخ لها قرع الظنابيب " [1] .
نريد أن ننظر إلى واقعنا على ضوء هذا الذي يجري فيه، فعندما لا يقتنع
المسلم أن ما يقدَّم لأبنائه هو الإسلام، فإنه يفتش عن بديل آخر لهذا، كأن يلقن
أبناءه الإسلام الذي يؤمن به والذي يراه مخالفاً - في اتساعه وشموله، بل في
أحكامه العملية - لهذا الإسلام المسكين المستكين الراكد العاجز الذي تحدثه عنه
أجهزة الثقافة وأقنية الفكر.
وإذا افترضنا أن من الآباء من لا يبالون: أدرس أبناؤهم إسلاماً وقرآناً أم
درسوا غير ذلك؟ ! فإن من الآباء كذلك من يشعر بالمسؤولية الثقيلة الملقاة على
عاتقه، ومن يعتقد اعتقاداً لا يتزعزع أن الله سائله كيف ربى ولده، وهو لذلك يرى
أن الأمر جد لا هزل فيه. وحتى أولئك الآباء غير المبالين، عندما يشب أبناؤهم
عن الطوق، ويقارنون ما لقنوا بما هو موجود في الكتب الإسلامية المبذولة بأعداد
هائلة، وبنسب تفوق كل أنواع الكتب الأخرى؛ فإن كثيراً من هؤلاء الأبناء
يراجعون ما لقنوا، ويكتشفون الزيف الكثير في ذلك، فإما أن يرفضوه جملة، وإما
أن يشكوا فيه، وهما أمران ينتج عنهما انفصام في الشخصيات، وتمزق داخلي
ينعكس على تصرفاتهم وأعمالهم، وبدلاً من أن يكونوا خلايا منتجة في جسم
المجتمع يؤول أمرهم إلى أن يكونوا خلايا مشلولة لا أثر لها، أو مريضة تنفث
التوتر والضعف في بنية الأمة.
وتبقى هناك فئة تمضي في البحث عن الحقيقة المغيبة بنفسها، فإما أن تنجح
في العثور عليها وإما أن تفشل، وهي في حالتي نجاحها وفشلها لا تحقق لمجتمعها
شيئاً على المستوى العام؛ لأن نجاحها فيما نجحت فيه لا يحسب لها، بل عليها،
لأنه غير معترف به من قبل الذين رسموا وخططوا، وفشلها يتخذ ذريعة لتثبيت
الباطل الذي حاولت خارج إطاره، ولاستمرار الزيف الذي لم يطفئ فيها التحرق
للبحث عن الحق.
إن كبرى الأزمات التي نعاني منها مردها إلى هذه الحال التلفيقية التي نعيش
فيها: تتجاور فينا المتناقضات، ونعيش في أجواء يسودها التنافر والتمزق؛ فالكفر
الصُّرَاح بجانب نصف الكفر بجانب الإسلام وأجزاء الإسلام! والعبودية ونصف
العبودية بجانب الحرية وما هو فوق الحرية من الطغيان والجبروت، والعروبة
بجانب دعوى العروبة والشعوبية السافرة، والفساد المرخص له بجانب المساجد
ودور العبادة، والقوانين الحديثة المكتوبة، بجانب القوانين السرية النافذة: قوانين
العشائر والفئات والطوائف. وهيكل الدولة الحديثة الذي تسري فيه روح الغرائز
وتسود فيه شريعة الغاب ...
خلط وتلفيق وحلول وسط تعكس نفوساً خربها النفاق وفتك بها الهوان فلم تعد
تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً.
الحرج من هذا الواقع المرير مرهون بأن نقف أمام أنفسنا وقفة صادقة، وأن
نعترف بسبب المشكلة أولاً، وهو هنا عدم وجود دليل واضح ومنهج أصيل تسير
على هدْيه الأجيال الإسلامية، ثم الانفصال بين مفهومين للإسلام في أذهان هذه
الأجيال: مفهوم تقدمه فئة غير مقتنعة بالإسلام ولا تبالي بأي واد هلك، إسلام
مقطع الأوصال، مشوه القسمات؛ ومفهوم آخر تبحث عنه هذه الجموع المتعطشة
التي فقدت ثقتها بكل شيء، وانهارت أمام عيونها كل المناهج المستوردة
والمفروضة، وهي في خلال بحثها عنه تلاقي الجفاء والمقت، وتعاني من الإنكار
والجحود.
وما لم يكن هناك اعتراف بهذه الحقيقة فإن جهودنا أفراداً وجماعات ستذهب
سدى، وسنبقى حيث نحن، هدر للطاقات، وتضحية بالكفاءات، ومطاردة دائمة
حتى يأتي يوم نفقد فيه الطِّراد حيث نفقد الطرائد.
__________
(1) شطر بيت لسلامة بن جندل وصدره: إنا إذا ما أتانا صارخ فزع والصارخ: المستغيث،
والصراخ: الإغاثة والظنابيب: جمع ظُنبوب، وهو ظاهر الساق ويمكن أن يستعار هذا المعنى للدلالة على الرد بعنف على الاحتجاج.(14/4)
قضايا فقهية
الرد على من أباح الفوائد الربوية
سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز
جاءنا من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المقال التالي الذي يرد
فيه على شبهات من يجيز الفوائد الربوية والمعاملات البنكية المتعلقة بها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن
اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على البحث الذي أعده الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر تحت
عنوان: (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) ، فألفيته قد حاول فيه تحليل ما
حرم الله من الربا بأساليب ملتوية، وحجج واهية، وشبه داحضة، ورأيت أن من
الواجب على مثلي بيان بطلان ما تضمنه هذا البحث، ومخالفته لما دل عليه الكتاب
والسنة وإجماع علماء الأمة من تحريم المعاملات الربوية، وكشف الشبه التي تعلق
بها، وبيان بطلان ما استند إليه في تحليل ربا الفضل وربا النسيئة، ما عدا مسألة
واحدة وهي ما اشتهر من ربا الجاهلية من قول الدائن للمدين المعسر عند حلول
الدين: إما أن ترْبي وإما أن تقضي، فهذه المسألة عند إبراهيم المذكور هي
المحرمة من مسائل الربا، وما سواها فهو حلال، ومن تأمل كتابته اتضح له منها
ذلك، وسأبين ذلك إن شاء الله بياناً شافياً، يتضح به الحق، ويزهق به الباطل،
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإلى القارئ بيان ذلك:
أولاً: قال إبراهيم في أول بحثه ما نصه: يمكن القول إنه لن تكون هناك قوة
إسلامية بدون قوة اقتصادية، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون
هناك بنوك بلا فوائد!
والجواب أن يقال: يمكن تسليم المقدمة الأولى؛ لأن المسلمين في كل مكان
يجب عليهم أن يعنوا باقتصادهم الإسلامي بالطرق التي شرعها الله - سبحانه -
حتى يتمكنوا من أداء ما أوجب الله عليهم، وترك ما حرم الله عليهم، وحتى
يتمكنوا بذلك من الإعداد لعدوهم، وأخذ الحذر من مكائده، قال الله - عز وجل -:
[وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] ،
وقال - سبحانه -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1] ، وقال -
تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُب
بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ولا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَذِي عَلَيْهِ
الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً] إلى قوله - سبحانه -: [إلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَا وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ ولا
يُضَارَّ كَاتِبٌ ولا شَهِيدٌ] الآية [البقرة: 282] ، وقال - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ] الآية
[النساء: 29] ، وقال - سبحانه -: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] الآية
[الأنفال: 60] . والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي مشتملة على توجيه الله -
سبحانه - لعباده إلى التعاون على كل ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، وأمرهم
بالتعاون على البر والتقوى، وتحذيرهم من التعاون على الإثم والعدوان، كما أمر
- سبحانه - بالوفاء بالعقود وإثبات حقوقهم بالطرق الشرعية، وحذرهم من أكل
أموالهم بالباطل، وأمرهم - سبحانه - بالإعداد لعدوهم ما استطاعوا من قوة،
وبذلك يستقيم اقتصادهم الإسلامي، ويحصل بذلك تنمية الثروات وتبادل المنافع
والوصول إلى حاجاتهم ومصالحهم بالوسائل التي شرع الله لهم، كما حذرهم -
سبحانه - في آيات كثيرة من الكذب والخيانة وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق
ومن أكل أموالهم بينهم بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام ليميلوا عن الحق إلى الحكم
بالجور، وعظّم - سبحانه - شأن الأمانة، وأمر بأدائها في قوله - عز وجل -:
[إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا] [النساء: 58] ، وقوله - سبحانه
-: [إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ
مِنْهَا] الآية [الأحزاب: 72] ، وحذرهم - عز وجل - من خيانة الأمانة في قوله
- سبحانه -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ] [الأنفال: 27] ، ووصف عباده المؤمنين في سورة " المؤمنون " وفي
سورة (المعارج) بأنهم يرعون الأمانات والعهود وذلك في قوله - سبحانه -:
[والَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] [المعارج: 32، والمؤمنون: 8] .
فمتى استقام المسلمون على هذا التعليم والتوجيه وتواصوا به وصدقوا في ذلك
فإن الله - عز وجل -يصلح لهم أحوالهم، ويبارك لهم في أعمالهم وثرواتهم،
ويعينهم على بلوغ الآمال والسلامة من مكائد الأعداء، وقد أكد هذه المعاني -
سبحانه - في قوله - عز وجل -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ] [التوبة: 119] وفي قوله سبحانه: [أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ
أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيراً] [النساء: 135] ، وقال - سبحانه -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة: 8] ، وقال - سبحانه -
[وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] الآية [الأنفال: 60] ، وقال -عز وجل-: [يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ] [النساء: 71] ، والآيات في هذا أكثر من أن
تُحصر.
وأما المقدمتان الثانية والثالثة - وهما قوله: ولن تكون هناك قوة اقتصادية
بدون بنوك ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد - فهما مقدمتان باطلتان، والأدلة
الشرعية التي قدمنا بعضها وما درج عليه المسلمون من عهد نبيهم -صلى الله عليه
وسلم- إلى أن أنشئت البنوك، كل ذلك يدل على بطلان هاتين المقدمتين، فقد
استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية، وهي أكثر من ثلاثة عشر قرناً
بدون وجود بنوك، وبدون فوائد، وبدون فوائد ربوية، وقد نمت ثروتهم،
واستقامت معاملاتهم، وحصلوا على الأرباح الكثيرة، والأموال الجزيلة، بواسطة
المعاملات الشرعية، وقد نصر الله المسلمين في عصرهم الأول على أعدائهم،
وسادوا غالب المعمورة، وحكموا شرع الله في عباده وليس هناك بنوك ولا فوائد
ربوية، بل الصواب عكس ما ذكره الكاتب إبراهيم وهو أن وجود البنوك والفوائد
الربوية صار سبباً لتفرق المسلمين، وانهيار اقتصادهم، وظهور الشحناء بينهم،
وتفرق كلمتهم، إلا من رحمه الله، وما ذاك إلا لأن المعاملات الربوية تسبب
الشحناء والعداوة، وتسبب المحق ونزع البركة وحلول العقوبات؛ كما قال عز
وجل: [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ] [البقرة: 276] والآن ما يقع بين
الناس بسبب الربا من كثرة الديون ومضاعفتها بسبب الزيادة المتلاحقة كل ذلك
يسبب الشحناء والعداوة، مع ما ينتج عن ذلك من البطالة وقلة الأعمال والمشاريع
النافعة؛ لأن أصحاب الأموال يعتمدون في تنميتها على الربا، ويعطلون الكثير من
المشاريع المفيدة النافعة من أنواع الصناعات وعمارة الأرض وغير ذلك من أنواع
الأعمال المفيدة.
وقد شرع الله لعباده أنواعاً من المعاملات يحصل بها تبادل المنافع، ونمو
الثروات، والتعاون على كل ما ينفع المجتمع، ويشغل الأيدي العاطلة، ويعين
الفقراء على كسب الرزق الحلال، والاستغناء عن الربا والتسول وأنواع المكاسب
الخبيثة، ومن ذلك المضاربات وأنواع الشركات التي تنفع المجتمع، وأنواع
المصانع لما يحتاج إليه الناس من السلاح والملابس والأواني والمفارش وغير ذلك، وهكذا أنواع الزراعة التي تشغل بها الأرض، ويحصل بها النفع العام للفقراء
وغيرهم، وبذلك يعلم كل من له أدنى بصيرة أن البنوك الربوية ضد الاقتصاد
السليم وضد المصالح العامة، ومن أعظم أسباب الانهيار والبطالة ومحق البركات
وتسليط الأعداء وحلول العقوبات المتنوعة والعواقب الوخيمة، فنسأل الله أن يعافي
المسلمين من ذلك وأن يمنحهم البصيرة والاستقامة على الحق.
ثانياً: قال إبراهيم: إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصادٍ ما تشبه إلى حد
قريب وظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تماماً ... الخ.
والجواب: ليس الأمر كما قال، بل يمكن أن يقوم الجهاز المصرفي بما ذكره
الكاتب، من غير حاجة إلى الربا، ولا ضرورة إليه كما قام اقتصاد المسلمين في
عصورهم الماضية وفي عصرهم الأول الذهبى بأكمل اقتصاد وأطهره من دون
وجود بنوك ربوية كما تقدم، وقد نصر الله بهم دينه، وأعلى بهم كلمته وأدرّ عليهم
من الأرزاق والغَناء، وأخرج لهم من الأرض ما كفاهم وأغناهم وأعانهم على جهاد
عدوهم، وحماهم به من الحاجة إلى ما حرم الله عليهم، ومن درس تاريخ العالم
الإسلامي من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ما قبل إنشاء المصارف
الربوية علم ذلك يقيناً.
وإنما يؤتى المسلمون وغيرهم في اقتصادهم ونزع البركات مما في أيديهم
بأسباب انحرافهم عن شريعة الله، وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم، وعدم سيرهم
على المنهج الذي شرعه الله لهم فيما بينهم من المعاملات، وبذلك تنزل بهم
العقوبات، وتحل بهم الكوارث بأسباب أعمالهم المخالفة لشرع الله؛ كما قال - عز
وجل -: [ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ] [الشورى: 30] ، وقال - عز وجل -: [ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف:
196] ، وقال - سبحانه -: [ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا واتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ ولأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ولَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِم
مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم] الآية [المائدة: 65، 66] ، وقال -
تعالى -: [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] [الطلاق: 2، 3] ، وقال - سبحانه -: [ومَن يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] [الطلاق: 4] .
ثالثاً: ذكر إبراهيم في بحثه ما نصه: والسؤال الذي لم نعثر على جواب
حتى الآن هو: كيف ينظر فقهاء المسلمين إلى الظاهرة الاقتصادية للفائدة، ولماذا
يعتبر القرض بالفائدة محرماً في نظرهم؟ ... الخ.
والجواب عما ذكره هنا إلى نهاية بحثه المشار إليه أن يقال:
إنما نظر الفقهاء من سائر علماء المسلمين في أمر الفائدة وعلقوا بها التحريم؛
لأن الأحاديث الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أناطت بها التحريم، وهى أحاديث مستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا مغمز فيها، وهي
تدل دلالة صريحة قطعية على أن بيع المال الربوي بجنسه مع أي زيادة - ولوقلّت ... ربا صريح محرم، ولكن الكاتب إبراهيم المذكور - هداه الله وألهمه رشده -
أعرض عنها كلها، ولم يلتفت إليها، وإنما تكلم على الربا المجمل الوارد في القرآن
الكريم، وحاول بكل ما استطاع أن يحصر الربا في مسألة واحدة هي: ما إذا أعسر
المدين واتفق مع الدائن على إمهاله بفائدة معينة، هذا ملخص بحثه، وما سوى ذلك
فقد حاول في هذا البحث إلحاقه بقسم الحلال لحاجة الناس - بزعمه - إلى ذلك وأن
هذا هو الذي تقوم به المصارف، وزعم أن الحاجة داعية إلى ذلك، وأن مصالح
العباد لا تتم إلا بهذه المعاملات الربوية التي تستعملها البنوك وقد تعلق بأشياء مجملة
من كلام الموفق بن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم - رحمهم الله
جميعاً - فيما ذكروه عن المصلحة وأن الشرع لا يمنع تحقيق المصالح التي تنفع
المسلمين بدون ضرر على أحد، ولا مخالفة لنص من الشرع المطهر.. وهذا كله
لا حجة له فيه؛ لأن المصالح التي أراد هؤلاء الأئمة وأمثالهم تحقيقها إنما أرادوا
ذلك حيث لا مانع شرعي يمنع من ذلك، وذلك في المسائل الاجتهادية التي لا شيء
فيها يوضح الحكم الشرعي، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- على تحريم ربا الفضل، وعلى تحريم ربا النسيئة، وذكر بعض أهل
العلم أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل؛ لأن عاقلاً لا يبيع شيئاً بأكثر
منه من جنسه يداً بيد، وإنما يكون ذلك إذا كان أحد العوضين مؤجلاً أو كان أحدهما
أنفس من الآخر، ولهذا لما باع بعض الصحابة - رضي الله عنهم - صاعين من
التمر الرديء بصاع واحد من التمر الطيب، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-
بذلك قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أوه عين الربا عين الربا لا تفعل!)
الحديث، متفق عليه، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل
ولا تُشِفُّوا [1] بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا
بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) . وفي صحيح مسلم عن عبادة بن
الصامت - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الذهب
بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح
بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف
شئتم إذا كان يداً بيد) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة في الصحيحين وغيرهما. وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أسامة بن زيد - رضي الله
عنه -: (إنما الربا في النسيئة) ، فالمراد به عند أهل العلم معظم الربا، وليس
مراده -صلى الله عليه وسلم- كل أفراد الربا، للحديثين السابقين وما جاء في
معناهما من الأحاديث الصحيحة. وقد علم أن المعاملات الربوية تجمع بين ربا
الفضل وربا النسيئة، فإن المودع بالفائدة قد جمع هو وصاحب البنك بين الأمرين،
وهما النسيئة والفائدة فباء بإثم المعاملتين. وأما كون المرابي الباذل للفائدة قد يكون
محتاجاً فهذا ليس هو الموجب للتحريم وحده بل قد جمع هذا العقد بين الربا وبين
ظلم المعسر بتحميله الفائدة وقد عجز عن الأصل، وبذلك تكون المعاملة معه على
هذا الوجه أعظم تحريماً وأشد إثماً؛ لأن الواجب إنظاره وعدم تحميله ما حرم الله
من الربا، وأما اشتراك الدائن والمدين في الانتفاع بالمعاملة الربوية، وأن كل واحد
منهما يحصل منها على فائدة فهذا الاشتراك لا ينقل المعاملة من التحريم إلى الحل
ولا يجعلها معاملة شرعية يباح فيها الربا، لأن الشارع الحكيم لم يلتفت إلى ذلك،
بل حرم الفائدة تحريماً مطلقاً، ونص على ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
أحاديث منها ما تقدم، ولو كان انتفاع المدين بالفائدة يحلها لنص عليه المولى -
سبحانه - وبينه في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين - عليه من ربه أفضل
الصلاة والتسليم - وقد قال الله - عز وجل - في سورة النحل: [ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89] ، وفي
صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أنه قال: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه
لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم) ، ومعلوم أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو
أفضل الرسل وأكملهم بلاغاً وأتمهم بياناً، فلو كانت المعاملة بالفائدة المعينة جائزة
إذا كان المدين ينتفع بها لبينها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وأوضح لهم
حكمها، فكيف وقد بين -صلى الله عليه وسلم- في صريح أحاديثه تحريمها
والتحذير منها والوعيد على ذلك، وقد علم أن السنة الصحيحة تفسر القرآن، وتدل
على ما قد يخفى منه كما قال - تعالى - في سورة النحل: [وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 44] ، وقال - عز وجل -:
[ومَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وهُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [النحل: 64] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما نقله عن الشيخ رشيد رضا في إجازته الربا في صندوق التوفير فهو غلط
منه، ولا يجوز أن يعوَّل عليه والحجة قائمة عليه وعلى غيره من كل من يحاول
مخالفة النصوص برأيه واجتهاده، وقد تقرر في الأصول أنه: لا رأي لأحد ولا
اجتهاد لأحد مع وجود النص، وإنما محل الرأي والاجتهاد في المسائل التي لا نص
فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر إذا كان أهلاً للاجتهاد، واستفرغ
وسعه في طلب الحق، لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عمرو
بن العاص - رضي الله عنه - وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي
الله عنه - مثله، أما المسائل التي نص على حكمها القرآن الكريم أو الرسول -
صلى الله عليه وسلم- في سنته فليس لأحد أن يجتهد في مخالفة ما دل عليه النص،
بل الواجب التمسك بالنص وتنفيذ مقتضاه بإجماع أهل العلم. والله المستعان ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
رابعاً: ثم قال الكاتب الدكتور إبراهيم في نهاية البحث ما نصه: (وخلاصة
البحث بعد هذه المقارنة الواضحة بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم،
وبين المعاملات المصرفية يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماماً عن
الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في
حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا، ولهذا
يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداءً برسول
الله في إباحته بيع (السلم) رغم ما فيه من بيع غير موجود، وبيع ما ليس عند
البائع مما قد نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأصل، وقد أجمع
العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على ... (السلم) وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح
الناس في معاشهم إلا بها.
والجواب أن يقال:
إن المعاملات المصرفية لا تختلف عن المعاملات الربوية التي جاء النص
بتحريمها، والله - سبحانه - بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الثقلين،
وشرع لهم من الأحكام ما يعم أهل زمانه ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، فيجب
أن تعطى المعاملات الجديدة حكم المعاملات القديمة إذا استوت معها في المعنى، أما
اختلاف الصور والألفاظ فلا قيمة له؛ إنما الاعتبار بالمعاني والمقاصد، ومعلوم أن
مقاصد المتأخرين في المعاملات الربوية من جنس مقاصد الأولين وإن تنوعت
الصور، واختلفت الألفاظ، فالتفريق بين المعاملات الربوية القديمة والجديدة بسبب
اختلاف الألفاظ والصور مع اتحاد المعنى والمقاصد تفريق باطل، وقد جعل النبي -
صلى الله عليه وسلم- قول من قال يوم حنين: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات
أنواط مثل قول بني إسرائيل لموسى: [اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة] [الأعراف:
138] ، ولم ينظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اختلاف الألفاظ لما اتحد
المعنى، وهكذا عاقب الله بني إسرائيل لما نصبوا الشباك يوم الجمعة ليصيدوا بها
الصيد المحرم عليهم يوم السبت ولم يعذرهم بهذه الحيلة مع أنهم لم يأخذوا الصيد
من الشباك إلا يوم الأحد وذلك لاتحاد المعنى وإن اختلفت الوسيلة. والأمثلة على
هذا كثيرة في النصوص الشرعية، وقد صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أنه قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل!) .
وأما التشبيه بالسلم فهو من باب المغالطة والتعلق بما لا ينفع، فإن إباحة السلم
من محاسن الشريعة الكاملة، وقد أباحه الله - سبحانه - لحاجة العباد إليه، وشرط
فيه شروطاً تخرجه عن المعاملات المحرمة، فهو عقد على موصوف في الذمة
بصفات تميزه وتبعده عن الجهالة والغرر - إلى أجل معلوم بثمن معجل في
المجالس يشترك فيه البائع والمشتري في المصلحة المرتبطة على ذلك، فالبائع
ينتفع بالثمن في تأمين حاجاته الحاضرة، والمشتري ينتفع بالمسْلَم فيه عند حلوله
لأنه اشتراه بأقل من ثمنه عند الحلول، وذلك في الغالب، فحصل للمتعاملين في
عقد السلم الفائدة من دون ضرر ولا غرر ولا جهالة ولا ربا. أما المعاملات الربوية
فهي مشتملة على زيادة معينة نص الشارع على تحريمها في بيع جنس بجنسه نقداً
أو نسيئة، وجعله من أكبر الكبائر لما له - سبحانه - في ذلك من الحكمة البالغة
ولما للعباد في ذلك من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي منها سلامتهم من
تراكم الديون عليهم، ومن تعطيلهم المشاريع النافعة والصناعات المفيدة اعتماداً على
فوائد الربا.
وأما زعم الكاتب إبراهيم أن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات
العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها ... الخ فهو زعم لا أساس له من الصحة، وقد
تمت مصالح العباد في القرون الماضية قبل القرن الرابع عشر وقبل وجود
المصارف، ولم تتعطل حاجاتهم ولا مشاريعهم النافعة، وإنما يأتي الخلل وتتعطل
المصالح من المعاملات المحرمة وعدم قيام المجتمع بما يجب عليه في معاملة
إخوانه من النصح والأمانة والصدق والبعد عن جميع المعاملات المشتملة على الربا
أو الغرر أو الخيانة أو الغش، والواقع بين الناس في سائر الدنيا يشهد بما ذكرنا،
ولا سبيل إلى انتعاش المصالح وتحقيق التعاون المفيد إلا بسلوك المسلك الشرعي
المبني على الصدق والأمانة والابتعاد عن الكذب والخيانة وسائر ما حرم الله على
العباد في معاملاتهم؛ كما قال الله سبحانه في كتابه المبين: [وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] ، وقال سبحانه: [إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] الآية
[النساء: 58] ، وقال-سبحانه-: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ
وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الأنفال: 27] ، وقال - عز وجل -: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ولا
يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً] [البقرة: 286] ، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] [الأحزاب: 70،
71] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا
وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركت بيعهما " متفق على
صحته، وعن أبي سعيد - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير،
والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى،
الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه أحمد والبخاري.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: (لعن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (الذهب بالورِق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير
بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء) متفق عليه. وقال
عليه الصلاة والسلام: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم، وقال - عليه الصلاة
والسلام -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، فقالوا: بلى يا رسول الله! فقال:
الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان -صلى الله عليه وسلم- فجلس فقال: ألا
وقول الزور، أو وشهادة الزور) متفق عليه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
لا يجوز لأحد من الناس أن يحلل ما حرم الله بالنص قياساً على ما حلل الله
بالنص، ومن حاول أن يحلل ما حرم الله من الربا قياساً على ما أحل الله من السلم
فقد أتى منكراً عظيماً، وقال على الله بغير علم، وفتح للناس باب شر عظيم وإفساد
كبير، وإنما يجوز القياس عند أهل العلم القائلين به في المسائل الفرعية التي لا
نص فيها إذا استوفى الشروط التي تلحق الفرع بالأصل، كما هو معلوم في محله
وقد حرم الله القول عليه بغير علم، وجعله في مرتبة فوق مرتبة الشرك وبين -
عز وجل - أن الشيطان يدعو إلى ذلك ويأمر به كما يدعو إلى الفحشاء والمنكر،
قال الله - سبحانه -: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ
والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 33] وقال - سبحانه -: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. إنَّمَا يَأْمُرُكُم
بِالسُّوءِ والْفَحْشَاءِ وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 168، 169] .
فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن
يوفق علماءهم لبيان ما أوجب الله عليهم من أحكام شرعه والدعوة إلى دينه،
والتحذير مما يخالفه، وأن يكفيهم شر أنفسهم، وشر دعاة الباطل، وأن يوفق
الكاتب إبراهيم للرجوع إلى الحق والتوبة مما صدر منه وإعلان ذلك على الملأ؛
لعل الله يتوب عليه كما قال - عز وجل -: [وتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [النور: 31] ، وقال - سبحانه -: [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا
مِنَ البَيِّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ
اللاَّعِنُونَ. إلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم] [البقرة: 159، 160] .
ولا شك أن مقاله يحتاج إلى أكثر مما كتبت، ولكن أرجو أن يكون فيما بينته
مقنعاً وكفاية لطالب الحق. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله
على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(14/9)
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
محمد العبدة
إذا عُدَّ المفكرون من المسلمين في هذا العصر فإن مالك بن نبي هو من هذه
القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فالمفكر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن
ويحلل المشكلة إلى أجزائها، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد الحلول.
وقد ترددت كثيراً قبل الكتابة عن مالك بن نبي؛ لا لأنه عميق الغور،
غوَّاص في البحث والتنقيب، أو لأن تتبع آرائه وأفكاره يحتاج إلى جهد، بل لأنه
يطرح أفكاراً وآراءً لا تتناسب مع عمق تفكيره، يقف الإنسان أمامها حائراً: من
أين جاءته؛ وما هي الخلفية الثقافية التي جعلته يتبنى هذا الرأي أو ذاك؛ وهل هو
مؤيد أم معارض؟ وقد كان ذلك التردد وإعادة القراءة مرات ومرات حتى لا نظلمه، وليستبين الحق وتتضح الصورة، وتحل الإشكالات.
إن الكتابة عن مالك بن نبي ضرورية للأجيال التي يجب عليها أن تتعرف
على ما كتبه أصحاب الخبرة والتجربة في مجال الصراع الفكري المحتدم بين أوربا
المستعمرة والعالم الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر، فلم يعد من المجدي طرح
الحلول العامة والعائمة ولابد من الدخول في التفاصيل، ومعرفة أسباب الفشل
وأسباب النهضة، ولكن العجب لا ينقضي عندما ندرك أننا في كثير من الأحيان لا
نستفيد مما كتبه السابقون لنا الذين تصدوا للإصلاح في أوائل هذا القرن.
يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر - في تقديمه لكتاب (في مهب المعركة) مصوراً هذه الظاهرة: (فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كَتب قديماً، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة ... ) [1] .
ولمالك مشكلة خاصة في انصراف بعض الشباب المسلم عن قراءة إنتاجه
الفكري، وهي إحدى الأسباب وليست السبب الوحيد على كل حال؛ فقد كتب سيد
قطب رحمه الله:
(لقد كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان نحو مجتمع
إسلامي متحضر) ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة (متحضر) ، ولفت
هذا التعديل نظر كاتب جزائري (يكتب بالفرنسية) ففسره على أنه ناشئ عن (عملية
دفاع نفسيه داخلية عن الإسلام) وأسف لأن هذه العملية - غير الواعية - تحرمني
مواجهة المشكلة على حقيقتها.
أنا أعذر هذا الكاتب ... لقد كنت مثله من قبل ... كانت المشكلة عندي -كما
عنده اليوم- هي مشكلة (تعريف الحضارة) .. ثم انجلت الصورة (المجتمع المسلم)
هو (المجتمع المتحضر) " [2] .
وفهم الشباب المسلم أن هذا الكاتب الجزائري واقع تحت ضغط آتٍ من
مصادر أجنبية، فكان ذلك سبباً لابتعادهم عن قراءة فكر مالك، ولكن القضية هي
قضية مصطلحات؛ فمالك يتكلم عن المجتمع الإسلامي الموجود وأنه يحتاج إلى
رفعه إلى مستوى الحضارة حتى يستأنف دوره - وطبعا لا يعني هنا الحضارة
الغربية وإنما الحضارة بتعريفه هو - وسيد يتكلم عن المجتمع الإسلامي المنشود
وأنه إذا وُجد فثَم الحضارة، والإسلام هو الوحيد الذي ينتج حضارة متكاملة، ولا
شك أن سيداً - رحمه الله - أنقى وأوضح تصوراً وفكراً، وهو ينظر إلى الحضارة
الغربية من علٍ؛ لأنه المسلم المتميز بعقيدته وتصوراته، ولكن مالكاً هنا يبحث في
التفاصيل والجزئيات، وكيف يركبها لينتقل بالمسلم من حالة التخلف والركود إلى
حالة (الإقلاع) للدخول في دورة الحضارة مرة ثانية، وسيد يرى استيراد النظريات
العلمية (مجردة) ومالك يقول: هذه الأشياء المستوردة هي نتاج حضارة وثقافة،
هذه الأشياء صنعها علم النفس وعلم الاجتماع أيضاً، ولذلك سواء استوردناها أو
صنعناها لابد أن تكون هناك ثقافة تحيط بها حتى تضعها في مكانها المناسب،
وحتى لا تتحول إلى (تكديس) وهذه الثقافة هي الثقافة الإسلامية..
إن ظاهرة انصراف بعض الناس عن فكر معين - بسبب كلمة تقال من عالم
مشهور - ليست جديدة ولا غريبة، فعندما ترجم أحد العلماء للمؤرخ ابن خلدون؛
تكلم فيه وانتقد عليه بعض التصرفات الشخصية عنده، فكان ذلك من أسباب
إعراض الناس عن (المقدمة) التي تعتبر أعظم ما أنتجه المسلمون في علم الاجتماع
وفن النقد التاريخي، ولمالك إيجابيات كثيرة سنتكلم عنها إن شاء الله، وله أخطاء،
ولابد من عرض كليهما حتى يتبين وجه الصواب لمن أراده، وهو واضح جلي
والحمد لله.
نبذة عن حياته:
وُلد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام 1905، ونشأ في أسرة
فقيرة؛ لأن جده لأبيه هاجر إلى طرابُلس الغرب احتجاجاً على الاستعمار الفرنسي
وحمل معه كل أملاك العائلة، هذا الميلاد جعله يتصل بالماضي عن طريق من بقي
حياً من شهوده [3] .
انتقل والده إلى (تبسة) فعاش فيها طفولته وكانت هذه المدينة الصغيرة بعيدة
نوعاً ما عن (الحضور الفرنسي) وذلك لاحتكاكها بالقبائل المجاورة؛ فحفظها الطابع
البدوي عن الاختلاط مع الفرنسيين، وفي (تبسة) كان يدرس في الصباح العربية
والقرآن ثم يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الحكومية الفرنسية، وفي المرحلة
التكميلية كان يتابع دروس العربية والدين، وكانت المدرسة الفرنسية تشجعه على
المطالعة عن طريق إعارة الكتب.
تعرَّف على تلاميذ ابن باديس من الشباب، وشعر أنه - وإياهم - على خط
فكري واحد، وكان يقرأ (الشهاب) و (المنتقد) قبلها ولكنه لم يتصل بالشيخ ابن
باديس ولا تتلمذ عليه، وفي (تبسة) حيث تعيش أسرته لم يتتلمذ أو يؤيد تأييداً قوياً
الشيخ العربي التبسي، وكأن هناك حاجزاً نفسياً بينه وبين المشايخ، ويعترف بعد
ربع قرن: (حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع تبين لي أن السبب يكمن
في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة، وفي تنشئة غير كافية في الروح
الإسلامي) [4] ، ويتابع الحديث عن الأسباب الاجتماعية: (فأحكامي المسبقة ربما
أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً
من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة
منها) [5] ، وكنت أعتقد أنني أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من
البلدي الرجل الذي يحيط به وسط متحضر، وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري
بدوياً، بينما يبدو الشيخ ابن باديس بلدياً [6] ، فقد تبين لنا أسباب جفائه لزعماء
جمعية العلماء وهو شاب، أما عندما نضج فكرياً فسيكون له موقف مبني على أسس
عنده سنتكلم عنها إن شاء الله.
بعد الانتهاء من الثانوية عمل متطوعاً في محكمة (تبسة) وهناك تعرف - من
خلال تجوال أعضاء المحكمة في الريف - على رجل الفطرة الذي يستضيف
أعضاء المحكمة رغم أنهم حكموا عليه بالضرائب والغرامات، ثم عمل موظفاً في
محكمة (أفلو) التي تقع جنوب وهران في غرب الجزائر، وهناك أيضاً تعرف على
الكرم العربي والفطرة الصادقة: (فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو
ذاك النبل في عروق البدوي) [7] ، وتعرف على فضائل الشعب الجزائري قبل أن
يفسده الاستعمار، ثم انتقل للعمل في محكمة (شاتودان) ولم يطق معاملة موظفيها؛
فاستقال وتوجه إلى فرنسا وذلك عام 1930م في محاولة للانتساب إلى معهد
الدراسات الشرقية، ولكن طلبه رُفض؛ لأن الدخول لهذا المعهد - كما يقول هو -
لا يخضع لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي.
انتسب إلى مدرسة اللاسلكي ودرس الكهرباء والميكانيكا، وهذه الدراسة
أعطته بُعداً آخر يقول عنها: (فتح لي عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى المقياس
الدقيق للكم والكيف، ويتسم فيه الفرد-أول ما يتسم-بمَيزات الضبط والملاحظة) [8] ... ولكن دخوله مع العمل الطلابي المغربى وتعرفه على صديقه (حمودة بن ...
الساعي) بدأ يغير من اتجاهه العلمي إلى التعمق في الدراسات الاجتماعية. ...
تخرج مهندساً كهربائياً عام 1935 وبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل في ...
البلاد العربية وغيرها، وكانت الأبواب توصد في وجهه دائماً وسبب ذلك في
رأيه هو أنه أراد تمزيق شبكة الاستعمار ولم يدرِ أن سمك القرلق (الاستعمار) كان
له بالمرصاد.
زار الجزائر في هذه الفترة، ولاحظ وقوع الناس في حُمى الانتخابات والدجل
السياسي بعد المؤتمر الجزائري.
عاد إلى فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية مودعاً الجزائر بهذه العبارة:
(يا أرضاً عقوقاً! تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن
أعود إليك إن لم تصبحي حرة!) ، وبقي في فرنسا حتى عام 1956 أصدر فيها
باللغة الفرنسية: (الظاهرة القرآنية) ، (شروط النهضة) ، (وجهة العالم الإسلامي) ، (الفكرة الإفريقية الآسيوية) .
زار مصر عام 1956 وبقي فيها حتى عام 1963، وكان له في مصر تلاميذ
وأصدقاء، وزار خلالها سورية ولبنان ألقى فيها المحاضرات حول موضوع
(مشكلات الحضارة) ، وفي القاهرة أصدر: (حديث في البناء الجديد) ، (مشكلة
الثقافة) ، في مهب المعركة، (تأملات في المجتمع العربي) .
عاد إلى الجزائر عام 1963 حيث عُين مديراً عاماً للتعليم العالي وأصدر في
الجزائر: (آفاق جزائرية) ، (يوميات شاهد للقرن) ، (مشكلة الأفكار في العالم
الإسلامي) ، (المسلم في عالم الاقتصاد) .
استقال من منصبه عام 1967 وتفرغ للعمل الفكري.
توفي في 31/10/1973 في الجزائر - رحمه الله وغفر له -.
شخصيته:
يجتمع في مالك بن نبي خطان رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية،
خيالية أحياناً، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد. يقول عن نفسه: (أنا شديد
التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع
الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ) [9] وقد بكى عندما اندحر الجيش
الفرنسى أمام ألمانيا عام 1940 مع أنه يكره الاستعمار الفرنسى، ويعلق هو على
هذا التصرف: (رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم) [10] ولم يوضح ما هو هذا العنصر الآخر ولكن يبدو لي أنه عدم التوازن بين القيم
الأخلاقية وأيها يصلح لتطبيقه على الحدث، وعندما سمع حديث والدته وذكرياتها
عن الحج لم يستطع حبس دموعه فكان يتظاهر بالعطش ليخرج إلى الشرفة فيطلق
العنان للدمع [11] .
هذه العاطفة أنتجت له شخصية حالمة أحياناً، فعندما يسمع ويقرأ عن شاعر
مثل (طاغور) تتفتح أمامه الأحلام عن الشرق وأن الإنقاذ ربما يأتي من روحانية
الهند كما يسميها، وعندما يسمع بأنباء الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود
وإمام اليمن يكتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن
الآسيوي لمساعدة ابن سعود حتى لا تتمزق الجزيرة العربية، وطبعاً لم يستجب
(الميكادو) لطلبه!
وفي الجانب الآخر نجد شخصية مالك الناقد المحلل الذي يمتلك القدرة الفائقة
على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها، من خلال النظرة العلمية الصارمة، ومن
خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية وكيف تنشأ الحضارات مع معرفة بواقع
المجتمعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجزائري، وهو في
مقارناته وتحليلاته يشبه سلفه المغربي المؤرخ ابن خلدون، حيث تلتقط الذاكرة كل
جزئية وكل حادثة ثم يبدأ التحليل والمقارنة ثم يخرج بالنتائج التي يرتضيها، يقول
عن سكان (أفلو) عندما عمل عندهم كمساعد في المحكمة:
(فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها
الراعي، ففي دعوى أمام القضاء في (تبسة) يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود
زور بالمجان، وشهود كل واحد من الطرفين سيحلفان أنهما يقولان الحقيقة، أما في
(أفلو) فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف ولو كان ذلك لدعم حقه ... الواضح) [12] .
وعندما أراد القيام بعمل علمي مشترك مع صديقه (ابن الساعي) فشلت
المحاولة؛ فعلق قائلاً: (ولم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات إنما
هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصاً بين
مثقفيه) [13] .
هذان الخطان استمرا في حياة ابن نبي، فالعاطفة التي تجمح إلى الخيال
أحياناً جعلته يعقد في الخمسينات آمالاً كباراً على مؤتمر باندونغ وظن أنه سيحل
مشكلة العالم الثالث، ومن رفات (غاندي) سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد
السلم العالمى [14] . كما استمر النقد التحليلى المجتمع الإسلامي ومواطن الضعف
فيه فتكلم عن الذين يظنون أن الإصلاح يبدأ من (علم الكلام) كالشيخ محمد عبده،
يقول: (إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن
نشعره بوجوده ونملأ به نفسه) [15] .
ويكتشف مالك جرثومة المرض، فالذين تركوا الطواف حول القبور وأخذ
البركات من الدرويش لم يستطيعوا الاستمرار فتحولوا إلى الطواف حول وثن جديد
وهو وثن الأحزاب السياسية والانتخابات [16] ، ولأن العمائم أسلمت القيادة إلى
(المطربشين) ؛ لأن العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في
مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف (الغوغائية السياسية) .
العوامل المؤثرة في ثقافته:
1 - وُلد مالك بن نبي في عصر سمع فيه من جدته لأمه قصص الاحتلال
الفرنسي للجزائر، وعاش مأساة بلد يخطط الاستعمار لشل فاعليته، ومن ثم
لتحويله إلى فريسة سهلة الالتهام، عاشها مالك يوماً بيوم في المدرسة الفرنسية حيث
لا يسمح (لابن البلد) إكمال الدراسة الثانوية التي تؤهله للدراسات الجامعية،
وعاشها في تحول المجتمع عن فطرته وكيف ساد الصعاليك بمعونة الإدارة الفرنسية، وكيف أصبحت العائلات العريقة فقيرة، ذليلة بسبب الاستيلاء على أراضيها،
وكان اليهود هم الواسطة لانتقال الملكية من أبناء البلاد إلى أبناء المستعمر؛
فاليهودي دائماً كان يقرض بفائدة 60%، وعندما درس في فرنسا وعاش مع الجالية
الجزائرية رأى الاستعمار من زواياه المختلفة، وشعر بخبث الأساليب التي يقوم بها
لتمزيق العالم الإسلامي.
2 - القراءات الغزيرة المتنوعة، فقد بدأ بالقراءة منذ أن كان صغيراً في
الابتدائية، وقرأ كتب علم النفس والاجتماع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية،
وكان يقرأ كل الصحف التي تصل إلى قسنطينة أو تبسة، ولا شك أن هذا الاطلاع
الواسع على الثقافة الغربية هو في جانب منه على حساب الثقافة الإسلامية وكان له
أثر عليه أيضاً، فكثرة قراءاته لأعمال الفلاسفة جعلته يعتبر عصر الفارابي عند
المسلمين هو عصر خلق الأفكار مع أن الفارابى وأمثاله لم يقدموا شيئاً يذكر
للحضارة الإسلامية، وكانت نغمة (الإنسانية) و (العالمية) سائدة عند الفلاسفة
الغربيين، ونجد مالك يكررها فيتكلم عن حضارة اليوم التي تسير نحو الشمول
والعالمية [17] ويستعمل أحياناً عباراتهم التي هي نتيجة انفصام عندهم بين الدين
والعلم مثل قوله: (إن الطبيعة توجد النوع ... ) [18] أو وهبته الطبيعة.
3 - ثقافته الإسلامية: يعترف مالك بأن الذي كان يرده عن الغلو في هذا
الاتجاه (القراءات الكثيرة للفكر الغربي) هو ما كان يتلقاه من دروس في التوحيد
والفقه، وقراءاته للكتب التي تأتي من المشرق العربي مثل: (الإفلاس المعنوي
للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، و (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده،
و (طبائع الاستبداد) للكواكبي، والمجلات الإسلامية الجزائرية مثل (الشهاب) التي
يصدرها الشيخ ابن باديس، ولا شك أن ثقافته الشرعية ضعيفة ولكن عنده اطلاع
على التاريخ الإسلامي وقدرة على فهم الآيات والأحاديث التي تتعلق بسنة التغيير
الاجتماعى وبسبب عمق تفكيره وتحرُّقه على العالم الإسلامي كان يرى أن بذرة
عودة الوعي للأمة الإسلامية هي في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي
يعتبرها امتداداً لما قام به ابن تيمية في التجديد، ولنفس السبب أيد جمعية العلماء
في الجزائر وكان يعقد الأمل عليهم في الاصلاح وإن اختلف معهم بعدئذ، ولبُعده
عن المشرق ولضعف ثقافته الشرعية كان يمجّد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد
عبده ويرى أن الأول هو مصلح الشرق؛ فثقافته الإسلامية خليط من آراء مدرسة
الأفغاني ومحمد عبده ومن فهمه لآيات القرآن وسنن التغيير، وأنه لابد من الرجوع
إلى طريقة القرآن والسنة في رفع الناس إلى مستوى الروح كما يعبر هو، والحقيقة
أنه يجمع أشياء متناقضة وإن بدت منسجمة بالنسبة له.
4 - ومن المؤثرات الواضحة في شخصيته ما عاناه من الفقر الشديد في
طفولته، وحياة النَّصَب والتعب التي عاشها في شبابه بحثاً عن العمل، سواء في
الجزائر أو فرنسا، فقد عمل بعد تخرجه من الثانوية في مصنع للأسمنت في مدينة
(ليون) بفرنسا، فكان يحمل الأكياس على ظهره، ومرة باع بعض ملابسه حتى
يوفر وجبة غداء، وبعد تخرجه من الهندسة طرق أبواب العمل في الدول العربية
والإسلامية ولكن دون جدوى.
هذه الأوضاع النفسية جعلته يكره - وهو صغير - الدور المترفة التي كانت
تفضح أمام ناظريه بؤس أقاربه، وأحكامه المسبقة كانت بسبب العيش في عائلة
فقيرة زرعت لاشعورياً في نفسه من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة [19] ،
وكان يعجبه مطالعة صحيفة (الإقدام) التي يصدرها الأمير خالد الجزائري والتي
كانت تركز على موضوع الفلاح الجزائري وبؤسه.
هذا ما يفسر لنا ميله للدول التي بدأت بتطبيق الاشتراكية كالجمهورية العربية المتحدة [20] والجزائر بعد استقلالها [21] ، وبتأثير من هذه الدول كان يظن أن الاتحاد السوفييتي ليس عنده مُناخ استعماري وهو صديق للشعوب! ...
-يتبع-
__________
(1) مالك بن نبي: في مهب المعركة، تقديم محمود محمد شاكر، 3.
(2) سيد قطب: معالم في الطريق، 117.
(3) مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، 15.
(4) مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، 131.
(5) المصدر السابق، 131.
(6) المصدر السابق، 132.
(7) المصدر السابق، 174.
(8) مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، 219.
(9) مذكرات شاهد للقرن، 137.
(10) المصدر السابق، صدق مالك في تحليله هذا؛ فقد سمعت من أحد الإخوة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية أنه بكى عندما سمع بنبأ هلاك عبد الناصر مع أنه يكرهه كرهاً شديداً! .
(11) المصدر السابق، 291.
(12) مذكرات شاهد للقرن، 176.
(13) المصدر السابق، 235.
(14) في مهب المعركة، 87.
(15) وجهة العالم الإسلامي، 55.
(16) شروط النهضة، 34.
(17) في مهب المعركة، 33.
(18) ميلاد مجتمع، 16.
(19) مذكرات شاهد للقرن، 131.
(20) ميلاد مجتمع، 48.
(21) بين الرشاد والتيه، 24.(14/21)
شذرات وقطوف
اختيار: مازن محمد راغب
مكانة القرآن
إن للقرآن أعلى حظوة لدى المسلمين، وهو عندهم ليس مجرد كتاب صلوات
، أو أداة نبوية أو غذاء للروح، أو تسابيح روحانية فحسب؛ بل إنه أيضاً القانون
السياسي وكنز العلوم ومرآة الأجيال، إنه سلوى الحاضر وأمل المستقبل.
د. محمد عبد الله دراز - دراسات إسلامية
أمطر المعروف مطراً
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لايزهدنّك في الصروف كفر من كفره،
فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه.
وأنشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فقال: هذا رجل يريد أن يبخل الناس (يدعوهم إلى البخل) أمطر المعروف
مطراً، فإن أصابت موضعاً فهو الذي قصدت، وإلا كنت أحق به.
وقال الحسن والحسين - رضي الله عنهما - لعبد الله بن جعفر: إنك قد
أسرفت في بذل المال! ، قال: بأبي أنتما وأمي، إن الله عودني أن يفضِل عليَّ،
وعوَّدته أن أفضل على عباده، فأخاف أن أقطع عنه العادة فيقطع عني المادة!
طريقتان
هناك طريقتان للحياة:
طريقة سلبية مبدؤها رؤية مساوئ الرجال والأعمال، ليس لإصلاحها، بل
لاستغلالها بشكل هدام، والعودة إليها بمناسبة وبدون مناسبة.
وطريقة إيجابية تنظر إلى الأمور بعين الرضا، وتبحث عن محاسن الرجال
لتنميتها وتحسينها، وتعطف على ضعفهم وأخطائهم، وتعمل على إصلاحها بكل
دماثة.
لمحات في فن القيادة - ج. كورتوا(14/31)
كتب
السِّيَر الكبير
للإمام محمد بن الحسن الشيباني
عثمان جمعة ضميرية
-1-
ألمعنا في العدد (الثاني عشر) إلماعات سريعة، ترجمنا فيها للإمام محمد بن الحسن الشيباني، ليكون ذلك مدخلاً للتعريف بكتاب من أهم كتبه، بل من أهم
الكتب في فقه العلاقات الدولية في الإسلام، وهو كتاب (السير الكبير) .
-2-
كان الاسم الذي أطلقه المسلمون في بداية حركة التدوين في الفقه الإسلامي
على دراستهم التي تناولت موقف الإسلام من السلم والحرب والحياد، وكل ما يتعلق
بأحكام الجهاد ومعاملة غير المسلمين هو (السير) .
و (السير) جمع (سيرة) وتعني السَّيْر والسلوك، ومما يؤيد ذلك عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، مثل قوله - بعد أن دفع اللواء لأحد القواد -: ... (فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلّوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ... فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم) رواه مسلم وغيره. وذكر محمد بن حبيب في ...
كتابه (المحبَّر) وهو يتحدث عن أسواق العرب المشهورة في الجاهلية - أنهم ... (كانوا يصنعون فيها الصنيعة (الضيافة) ، ويسيرون فيها بسيرة الملوك بدومة الجندل
(ص265) .
وذكر ابن سعد في (الطبقات الكبرى) كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى عبد القيس، وفيه: (.. ولهم على جند المسلمين الشركة في الفيء، والعدل
في الحكم، والقصد في السيرة، حكم لا تبديل له في الفريقين ((الطبقات:1/
283) ، وفي هذه النصوص القليلة نجد أن سيرة الحاكم ليست فقط وقت الحرب،
بل وقت السلم أيضاً، يشار إليها باصطلاح (سير) وذلك منذ عهد النبي -صلى الله
عليه وسلم-، ولعل اتخاذ هذا المصطلح للدلالة على نظرية الحرب والسلم، أو ما
يسمى اليوم (بالقانون الدولي) كان منذ عهد أبي حنيفة الذي عرف أنه أول من
استعمل مصطلح (سيرة) لتمييز مجموعة دروسه التي كان يلقيها عن الإسلام في
الحرب والسلم، ووصلت هذه الدروس منقحة على يد تلاميذه في كتابَيْ (السير
الصغير) و (السير الكبير) لمحمد بن الحسن الشيبانى، و (الرد على سير
الأوزاعي) لأبي يوسف، كما أن الإمام الشافعي - رحمه الله - يشير إلى (سير
الواقدي) في كتابه (الأم) .
ومن ثم فإنه يبدو أن كلمة (السير) قد صارت مصطلحاً فنياً يشيع استعماله
بين الفقهاء في مختلف العصور، وقد نص السَّرَخْسِي على هذا الفهم، فقال في
(المبسوط) - وهو يشرح كتاب (السير الصغير) للإمام محمد: (اعلم أن السير
جمع سيرة، وبه سمي هذا الكتاب، لأنه بين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع
المشركين من أهل الحرب، ومع أهل العهد منهم من المستأمنين، وأهل الذمة،
ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار، ومع أهل البغي الذين
حالهم دون حال المشركين، وإن كانوا جاهلين، وفي التأويل مبطلين " (المبسوط:
10/2) .
-3-
كان الإمام محمد بن الحسن أول من أفرد للعلاقات الدولية في الإسلام مؤلفات
خاصة يتناول فيها أحكام الجهاد والحرب، وأحكام الصلح والمعاهدات، وأحكام
الأمان، وإرسال السفراء والمبعوثين، وآثار قيام الحرب، وسياسة المسلمين في
تنظيم الحرب، وما يجوز وما لا يجوز في ذلك كله ... الخ. وله في هذا كتابان:
أحدهما (السير الصغير) الذي كتبه أولاً، وقد رواه عن أبي يوسف وقرأه عليه
توثقاً من النص وصحة نسبة الرأي، والثاني (السير الكبير) وهو أوسع من الأول، كما أنه من آخر كتب الإمام محمد تأليفاً، وفيه إفاضة وشرح أكثر وأوسع كما
يظهر من عنوان الكتابين ومن مادتهما من خلال الشروح التي وصلتنا وفي هذه
الكلمة التعريفية بالكتاب، نخص فيها كتاب (السير الكبير) ومعه الشرح الممتع
القيم الذي وضعه عليه شمس الأئمة السرخسي المتوفى في القرن الخامس الهجري
ما بين (483-490هـ) .
-4-
وعن سبب تأليف هذا الكتاب يقول السرخسي: (إن السير الصغير وقع في
يد عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - عالم أهل الشام - فقال: لمَن هذا الكتاب؟
فقيل: لمحمد العراقى. فقال: وما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب؛ فإنه لا
علم لهم بالسير. ومغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانت من
جانب الشام والحجاز دون العراق، فإنها محدثة فتحاً. فبلغ ذلك محمداً، فغاظه ذلك، وفرغ نفسه حتى صنف هذا الكتاب.
فحكي أنه لما نظر فيه الأوزاعي قال: لولا ما ضمنه من الأحاديث لقلت إنه
يضع العلم من عند نفسه، وإن الله عين جهة إصابة الجواب في رأيه. صدق الله
العظيم: [وفوق كل ذي علم عليم] (شرح السير الكبير: 1/3) . ويناقش الشيخ
محمد أبو زهرة وغيره من الباحثين هذا السبب لتأليف الكتاب ويرده؛ إذ لا مجال
لتصديقه، لأن الإمام الأوزاعي توفي سنة (157هـ) والإمام محمد ولد سنة (132هـ)
فيكون الأوزاعي قد توفي ومحمد عمره خمس وعشرون سنة، ومكث محمد نحو
اثنتين وثلاثين سنة لا يؤلف، إذ إنه توفي سنة (189) أي بعد الأوزاعي باثنتين
وثلاثين سنة، وهذا غير معقول ولا مقبول، ولا يتفق مع تاريخ الكتاب ولا مع
حياة محمد - رضى الله عنه -.
وعلى ذلك فإن كلام السرخسي عن سبب تأليف الكتاب غير مقبول، وقد
يوجه توجيهاً صحيحاً بأن المقصود (السير الصغير) ، أو أن نقول إن المراد بكلام
الأوزاعي هو (الرد على سير الأوزاعي) لأبي يوسف وليس (السير الكبير) .
وقد نكون في غنى عن هذا كله، إذا علمنا شغف محمد - رحمه الله - بالعلم
والتأليف، وأن ذلك كان تلبية لحاجة العصر الذي عاش فيه، فكان من الواجب
الملح بيان أحكام الإسلام في التعامل مع الآخرين، والمسلمون يقومون بواجب
الجهاد، فكتب " السير الصغير " أولاً، ثم أوسع هذا الموضوع بحثاً في " السير
الكبير ".
-5-
ولبيان قيمة هذا الكتاب وأهميته نذكر أن محمداً - رحمه الله - لما فرغ من
الكتاب أمر أن يكتب هذا الكتاب في ستين دفتراً، وأن يحمل على عجلة إلى باب
الخليفة، فقيل للخليفة: قد صنف محمد كتاباً يحمل على العجلة إلى الباب. فأعجبه
ذلك وعدَّه من مفاخر أيامه. فلما نظر فيه ازداد إعجابه به. ثم بعث أولاده إلى
مجلس محمد - رحمه الله - ليسمعوا منه هذا الكتاب.
ومن الطريف في نقل الكتاب وروايته: أن إسماعيل بن توبة القزويني -
مؤدب أولاد الخليفة - كان يحضر معهم ليحفظهم كالرقيب، فسمع الكتاب، ثم اتفق
أن لم يبقَ من الرواة إلا إسماعيل بن توبة وأبو سليمان الجوزجاني، فهما رويا ... عنه هذا الكتاب. شرح السير الكبير: (شرح السير الكبير: 1/3-4) .
* وقد أثنى على هذا الكتاب كل الباحثين المهتمين بالعلاقات الدولية في
الإسلام، ووجدوا فيه علماً غزيراً، وأسلوباً ممتعاً، وفقهاً أصيلاً، فقال الدكتور
نجيب أرمنازي في كتاب (الشرع الدولي في الإسلام) (ص45) : (هو كتاب
غزير المادة، جم الفوائد، قد استوعب أصول هذا العلم، واستقصى غرائب مسائله، ولم يقتصر فيه على ما ذهب إليه أعلام المذهب الحنفي، بل أورد كثيراً من
مذاهب الآخرين وناقش أصحابها في حججهم. وطريق محمد في الترجيح في هذا
الكتاب هو أنه نظر فيما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام وأهل الحجاز،
فرجح ما اتفق عليه فريقان، فأخذ به دون ما تفرد به فريق واحد، وهذا خلاف ما
هو ظاهر المذهب في الترجيح عند الحنفية) .
* وتحدث الدكتور محمد الدسوقي في أطروحته (الإمام محمد بن الحسن
الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي) فقال: " وأما كتاب " السير الكبير " فهو عمل
فريد في بابه، لم يؤلف فقيه غير الإمام محمد مثله في موضوعه، سواء الذين
تقدموا عليه أو تأخروا عنه. وليس معنى هذا أن الإمام محمداً اخترع كتابه اختراعاً، فالمعروف أن بعض الفقهاء الذين تتلمذ لهم محمد تحدثوا عن السير، كالإمام أبى
حنيفة والأوزاعي وأبي يوسف، ولكن كل ما جاء عن هؤلاء الأئمة في هذا
الموضوع كان يدور في نطاق محدود من القضايا، وكان أشبه بالمحاولات الأولى
بالنسبة للبحث الشامل المفصل الذي كتبه الإمام محمد، فاستحق أن يكون - عن
جدارة - رائد التفكير في القانون الدولي في العالم كله.
لقد استقى الإمام محمد مادة كتابه من الآثار والأخبار من علماء عصره فقهاء
ومحدثين، وكانت هذه المادة الأساس الذي أقام عليه محمد عمله المبتكر الرائع الذي
يشهد له بغزارة العلم وعمق التفكير، وشمول النظرة، ودقة التفصيل والتبويب
والتفريع ".
* وهذا كله يعلي من شأن هذا الكتاب وقيمته، فهو بحق أول كتاب في
القانون الدولي العام والخاص في العالم كله، وهذا يضع تاج فخار على هامة الإمام
محمد، ويجعله رائد القانون الدولي، قبل أن يتفطن علماء القانون الوضعي إلى
أهمية هذا الفرع من القانون والكتابة فيه، مما جعلهم يلتقون على إنشاء جمعية
دولية باسم (جمعية الشيباني للقانون الدولي) في (غوتنجن) بألمانيا، وقد انتُخب
لرئاستها آنذاك (1955م) الفقيه المصري الدكتور عبد الحميد بدوي، وتهدف هذه
الجمعية إلى التعريف بالشيباني وإظهار آرائه ونشر مؤلفاته المتعلقة بأحكام القانون
الدولي الإسلامي.
ثم أعاد تنظيم هذه الجمعية المستشرق العراقي الصليبي مجيد خدوري، الذي
أخرج كتاب (السير الكبير) في طبعة جديدة، وهو مأخوذ من كتاب (الأصل) ...
للإمام محمد، وهو يختلف عن كتاب (السير الكبير) الذي وضعه مستقلاً بهذا الاسم
وشرحه السرخسي، وهذا يسلمنا إلى بيان شروح وطبعات الكتاب واللغات التي نقل إليها.
-6-
ذكر بعض مَن كتب عن الإمام محمد بن الحسن أن (السير الكبير) توجد منه
نسخ خطية في مكتبات إستانبول في تركيا. ولكن المعروف أنه لا يوجد مستقلا،
وإنما توجد نسخ له ممزوجة مع شروحه، ومن ذلك:
شرح الإمام محمد بن أحمد السرخسي (المتوفى سنة 495هـ) ، وهذا الشرح له
نسخ كثيرة في برلين وفيينا وليدن وباريس وفي مكتبات تركيا: عاشر أفندي،
وعاطف أفندي، ونور عثمانية ... وقد ذكر أماكن وجوده فيها المستشرق بروكلمان
في كتابه (تاريخ الأدب العربي) (3/255) من الترجمة العربية. ...
وقد طبع هذا الشرح في حيدر آباد في الهند عام (1936م) ويقع في أربع
مجلدات. كما نشرته جامعة الدول العربية (معهد المخطوطات) بالقاهرة ما بين
عامي (1971-1972م) بتحقيق صلاح الدين المنجد للأجزاء الثلاثة الأولى، ثم
أكمل بتحقيق الجزئين الرابع والخامس، فاكتمل في خمسة أجزاء ضخمة، ثم
صُورت عنها طبعة جديدة.
وقامت جامعة القاهرة بإخراج طبعة أخرى محققة له، عام (1958م) ، فصدر
عن مطبعتها الجزء الأول فقط وقد كتب التمهيد والتعليقات الشيخ محمد أبو ... زهرة وحقق النصوص ووضع فهارسه مصطفى زيد، ولم يكتمل هذا المشروع للجامعة.
وللسير الكبير شرح آخر بعنوان (التيسير على السير الكبير) بقلم محمد
المنيب العينتابي، ومنه نسخة خطية بمكتبة عارف حكمة بالمدينة النبوية. وقد
ترجم شرح السرخسي وأصله إلى لغات أخرى، فقام الشيخ محمد المنيب العينتابي
بترجمته إلى اللغة التركية في عهد السلطان محمود خان العثماني؛ ليكون مصدراً
من مصادر معرفة أحكام الجهاد في الإسلام، وليسهل على قواد الجيش والمجاهدين
في الدولة معرفة هذه الأحكام في الدولة العثمانية. وصدرت هذه الترجمة عام
(1241هـ) في إستانبول، وتقع في مجلدين اثنين.
وترجمته منظمة اليونسكو إلى اللغة الفرنسية، ونقل إليها جزءاً منه
المستشرق (دي كررواي) ونشره في جريدة آسية، في الأعوام (1851،
1852، 1853م) .
-7-
وقد لا يساعدنا المقام على أن نعرض بالتفصيل لكل أبواب الكتاب بأجزائه
الخمسة، ولا تقديم دراسة وافية عنها، فحسبنا أن نشير إلى عدد أبواب كل جزء
وأهم محتوياته، لعل ذلك يكون عاملاً يدفع إلى الاهتمام بهذا الكتاب النفيس، الذي
لا يغني في التعريف به كتابة مقال في مجلة، مهما يكن الجهد والاستيعاب.
يضم الجزء الأول من الكتاب خمسين باباً تنتظم (562) مسألة، تقع بعد
المقدمة في (370) صفحة، يليها فهارس للأحاديث والأعلام والأماكن
والاستدراكات والتصويبات.
ومن الأبواب التي يشتمل عليها هذا الجزء: فضيلة الرباط في سبيل الله،
الإمارة ووصايا الأمراء، مبعث السرايا، الرايات والألوية، القتال في الأشهر
الحرم، السلاح والفروسية، الحرب وكيف يعبأ لها، من أسلم في دار الحرب،
أموال المعاهدين، الجهاد مع الأمراء، الخُمس والصدقة، ما يجب من طاعة ولي
الأمر وما لا يجب، قتال النساء مع الرجال وشهودهن الحرب، سجدة الشكر
وصلاة الخوف، الأمان وفيه بحوث كثيرة.
ويقع الجزء الثاني في (818) صفحة يليها فهارس متنوعة كالتي سبقت
الإشارة إليها، وهو يضم الأبواب من (51-90) وتشتمل على المسائل من (563-
1466) ، وفيه تتمة أبواب الأمان المتنوعة الشاملة لشروط الأمان وأركانه ومن
يعقده، والحديث عن الرسل (لسفراء) والمستأمنين والحكم في أهل الحرب، ثم
أبواب الأنفال، مما كان خالصاً للرسول -صلى الله عليه وسلم-، والنفل في دار
الحرب، وما يبطل فيه النفل وما لا يبطل، والسلب والنفل لأهل الذمة والعبيد،
والاستثناء فيه، وغير ذلك مما يتصل بهذه المباحث المهمة في سياسة المسلمين
الحربية.
وأما الجزء الثالث فيقع في (315) صفحة ويتضمن الأبواب (91-113) ،
وفيه تتمة أبواب الأنفال والسهمان للخيل وغيرها في دار الإسلام ودار الحرب،
ودخول المسلمين دار الحرب، والغنيمة، وكيفية قسمة الغنيمة وبيان من يستحقها،
وقسمة الخمس والغنائم.. الخ.
ويبحث الجزء الرابع في الأبواب (114-159) بمسائل كثيرة متنوعة،
داخل الأبواب عن: الأسارى والحكم فيهم، والتجار الذين يدخلون دار الحرب،
وما جاء في الخيانة في الغنيمة، والسبايا والنفقة عليهم والعدة، وهدية أهل الحرب
، وما يكون إحرازاً للغنيمة وما لا يكون، ثم ما يصيبه الأسراء والذين أسلموا من
دار الحرب، والمستأمنين يأخذون أموال أهل الحرب، وما يحرزه المشركون
ويظهرون عليه من أموال المسلمين، والفداء، والاستعانة بأهل الشرك، وما يكره
إدخاله دار الحرب وما لا يكره، وما قتله من أهل الحرب وما لا يكره وكيفية
سياسة الحرب بما فيها من قواعد إسلامية رائعة ... الخ.
وينتهي هذا السفر النفيس بالجزء الخامس الذي يقع في حوالي (650) صفحة
تضم الأبواب (160-218) وفيها المسائل من (3361-4572) وهو يتضمن أبواباً
مهمة مثل: أبواب الموادعة، نكاح أهل الحرب، إثبات النسب من أهل الحرب
ومن السبايا، الحدود في دار الحرب، ما يجب من النصرة للمستأمنين وأهل الذمة، معاملة المسلم المستأمن مع أهل الحرب في دار الحرب، مواريث القتلى، باب
الأسير والمفقود، باب المرتد في دار الحرب وما يتعلق بالمرتدين من أحكام مختلفة، العين (الجاسوس) ، ما يختلف أهل الحرب وأهل الذمة في الشهادتين والوصايا،
من أسلم على شيء فهو له، الحبيس في سبيل الله، الوصية بالمال في سبيل الله،
باب العشور في أهل الحرب، باب الجزية، الخمس من المعدن والركاز يصاب في
دار الحرب، ما يصدق فيه المسلم على إسلام الكافر، الدعاء إلى الإسلام، باب
الاستبراء، خروج العبد بأمان من دار الحرب، العبد يعتق بالإسلام أو لا يعتق؟
-8-
وإذا أردنا أن نوجز ما في الكتاب باختصار شديد، نقول: إنه يضع أسس
العلاقات الدولية في حال السلم والحرب، فيبين معنى السير والجهاد، وأهمية
الجهاد وغايته، ويحدد علاقة أهل الذمة بالمسلمين، وما يخصهم من أحكام، وينظم
حالة السلم، ويضع أسس التنظيم والعلاقات في حال الحرب مبيناً مشروعية الجهاد، وإقليم الدولة ومدى سريان النصوص القانونية فيها من حيث الزمان والمكان،
وسياسة الحرب في الإسلام وتحديد المقاتلين، وبدء الدعوة للحربيين قبل الحرب،
وما يتبع ذلك من آثار في الأموال والأشخاص، كما يحدد العلاقة مع المحايدين،
وينظم حال الحياد، ويفصل أحكام المعاهدات والصلح والمستأمنين ... وغير ذلك
مما يبحثه اليوم علماء القانون الدولي.
ويضيق بنا المقام لو أردنا أن نذكر نماذج مما كتبه الإمام محمد بن الحسن في
هذا الموضوع، وما علق عليه وشرحه شمس الأئمة السرخسي، كما أن ذلك لا
يغنينا عن الرجوع إلى هذا الكتاب القيم الممتع لدراسته دراسة متأنية جادة،
للاطلاع على أثر نفيس من أقدم ما كُتب في الفقه الإسلامي بعامة وفي فقه
المعاملات أو العلاقات الدولية بخاصة، لبيان مدى ما بذل أسلافنا - رحمهم الله -
من جهد بالغ في بيان أحكام هذه الشريعة التي جعلها الله - تعالى - منهجاً لحياتنا،
وسبباً لعزتنا ومكانتنا.
-9-
ومع أن بعض المهتمين بنشر الثقافة الإسلامية وكتب السلف بذلوا جهودا طيبة
في نشر كثير من الكنوز الفقهية، إلا أن المجال لا يزال متسعاً لبذل جهود أكثر،
وخاصة في مجال إخراج تراث الإمام محمد بعامة، وكتابه " السير الكبير " بخاصة،
وما أجدر هذا الكتاب أن ينشر نشرة ثانية تضيف إلى ما فيه من تحقيق ومقابلة
للنصوص تخريجاً للأحاديث والآثار الكثيرة التي استشهد بها المصنف والشارح -
رحمهما الله - وعمل فهارس موضوعية تساعد على الإفادة من الكتاب.
-10-
وفي ختام هذه الكلمة التعريفية بالكاتب وبالكتاب، أشير إلى بعض المراجع
التي ترجمت للإمام محمد ودرست كتابه، وقد أفدت منها في هذه المقالة السريعة،
وهذه أهمها:
- الآثار، لمحمد بن الحسن الشيباني، ومعه الإيثار برجال الآثار للحافظ ابن
حجر العسقلاني، (طبع كراتشي) .
- أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري (مصورة عن طبعة الهند) .
- الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، لابن عبد البر (بيروت) .
- بلوغ الأماني في سير الإمام محمد بن الحسن الشيباني (طبع مصر) .
- تاريخ الأدب العربي، لبروكلمان. (دار المعارف) .
- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي. (بيروت) .
-الجامع الصغير للإمام محمد مع النافع الكبير، للكنوي (طبع الباكستان) .
- الجواهر المضيّسة في طبقات الحنفية، للقرشي (طبع الحلبي بمصر) .
- شرح السير الكبير للسرخسي (طبعة جامعة القاهرة، وطبعة معهد
المخطوطات) .
- الشرع الدولي في الإسلام، للدكتور نجيب أرمنازي. (طبعة دمشق) .
- طبقات ابن سعد (دار صادر) .
- المبسوط للسرخسي (مصورة عن الطبعة الأولى المصرية) .
- المحبَّر، لابن حبيب (بيروت، مصورة عن طبعة الهند) .
- محمد بن الحسن الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي للدكتور محمد الدسوقي (طبع قطر) .
- مناقب أبي حنيفة وصاحبيه، للإمام الذهبي، نشر لجنة إحياء المعارف
النعمانية (طبع القاهرة) .
- منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان جمعة ضميرية (دار الأرقم،
الكويت) .
- الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، للدكتور محمد حميد الله.
***
لم أعطِ زمام قلبي لأحد
حللت العقدة في وجه العمل بنفسي
اعتمدت على غير الله مرة
فسقطتّ من مقامي مئتي مرة
محمد إقبال(14/33)
خواطر في الدعوة
الحد الأدنى
محمد العبدة
إذا كان واقع المسلمين في هذه الأيام يضطرهم للمطالبة بالحد الأدنى من
التعاون والتنسيق، خوفاً من البديل وهو التشهير والتمزيق، وإذا تحقق هذا التعاون
اعتبر من المكاسب التي يجب المحافظة عليها والتمسك بها، ويقولون. هذا هو
الواقع، ويجب أن نعترف به، ولا نكون مكابرين خياليين نسرح بالأحلام.
إذا كان هذا هو الواقع فنحن نوافقهم ولكن بشرط أن يكون هذا الشعار مؤقتاً؛
لأن أوضاع المسلمين فعلاً تحتاج إلى بداية مثل هذه، ولكن الذي نخشاه ونتخوفه
هو أن يرضوا بهذا الواقع، ويستمر هذا الشعار فترة طويلة فتموت الهمم،
وتسترخي العزائم، ويستمرئ المسلمون هذه الحالة فلا يقومون بالأعمال العظيمة
المطلوبة منهم في هذا العصر بالذات، فنحن نمر بفترات حرجة لا نحتاج إلى
التعاون والتنسيق بل إلى الانصهار في عمل كبير يعيد للمسلم عزته وكرامته،
ويشعره بالثقة المفقودة، يعيد إليه الأمل والرجاء، إننا نحتاج إلى إنكار للذات
بالدرجة الأولى، فهو العقبة الكؤود كما يظهر لي، وتأتي الخطوة التالية بالعمل
الدؤوب الذي لا يعرف الراحة، وإعمال الفكر في مستقبل المسلمين والإسلام،
والطرق الصحيحة التي توحد ولا تفرق.
إن الساعات الحاسمة في التاريخ هي الساعات التي تتحول فيها الأمة كلها إلى
(ورشة عمل) ، كلٌّ له مكانه وكل له مكانته، يشعر كل فرد أنه يشارك في البناء بل
إنه ضروري لهذا البناء، هكذا قام المجتمع الإسلامي الأول عندما شارك المسلمون
كلهم في بناء المسجد بمن فيهم قائد هذا المجتمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعندما استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين وتنازلوا عن شطر أموالهم، ونفذوا
هذا عملياً ولم يكتفوا بالأدبيات والكلام عن الأخوة الإسلامية أو (يجب علينا أن نبني
مسجداً!) .
وإذا كنا نتكلم عن الحد الأدنى فإن الغربيين قد انتهوا من بحث أمورهم الكبيرة، أمورهم الاستراتيجية وفي اجتماعاتهم الآن يناقشون المشاكل الصغيرة التي لا تزال عالقة مثل مشكلة (الزبدة) كيف تصدر وتستورد، وكيف يصرفون الفائض منها.
وإحياء الأمة ودعوتها إلى استئناف دورها الخيري لا يتأتى إلا بأعمال كبيرة، وإن الحد الأدنى إذا استمر لا ينتج إلا الضعف، الذي يستطيع العيش طويلاً،
ولكنه يبقى ضعفاً، وأخشى أن يسري هذا الداء حتى إلى عباداتنا وأعمالنا فلا نقوم
إلا بالحد الأدنى من المطلوب، وتمر السنون دون أن نحقق عملاً كبيراً يرضي الله
ويغيظ أعداء الإسلام ويشفي صدور قوم مؤمنين.
لا شك أن الخطوة الأولى هي التعاون الصادق، ولكن كم نتمنى أن يتلو هذه
الخطوة خطوات.(14/44)
نموذج اتخاذ القرار
ف. فروم [1]
عرض وتحليل: طارق عبد الحليم
مقدمة:
يعتمد نجاح قيادة ما في أداء مهامها الموكولة إليها على عدة عناصر متداخلة،
تتفاعل لتحقق الهدف الذي ينشده القائمون على هذا العمل، من تلك العناصر:
1- كفاءة [2] القيادة وفعاليتها [3] في الأداء والمتابعة.
2 - كفاءة الأتباع وفعاليتهم في التلقي والأداء.
3 - درجة الثقة المتبادلة بين الطرفين.
4 - المناسبة (الزمانية والمكانية) للمهام المطلوبة في المواقف المختلفة.
5- الإمكانيات المتاحة اللازمة لأداء الحد الأدنى على أقل تقدير.
ويندرج تحت كل عنصر من تلك العناصر المذكورة عدد من العوامل الفرعية
التي تؤثر على الأداء الناجح الفعال لكل من القيادة من جهة، والمجموعة العاملة من
جهة أخرى، فعلى سبيل المثال، تتحدد كفاءة الأتباع حسب (المستوى العلمي -
درجة التخصص- الصفات الشخصية كدرجة الانضباط.. - درجة التآلف بيد
المجموعة - الخلفية النفسية والاجتماعية ... الخ) .
وحديثنا في هذا البحث يخص أحد مركبات العنصر الأول، أعني (كفاءة
القيادة) وبالتحديد عملية (اتخاذ القرار) ومدى الحاجة إلى المشاركة فيه بين القيادة
والأتباع في المواقف المختلفة من خلال نموذج (اتخاذ القرار) الذي قدمه للمرة
الأولى العالم الأمريكي فيكتور فروم في مجال علم المنظمات والإدارة في ربيع عام
1973، ثم طورها بعد ذلك بمعاونة آرثر ييتون.
والنموذج يصلح للتطبيق في مستويات الإدارة كافة بواسطة المسؤول سواء
كان القائد مع بقية أفراد مجلس الإدارة مثلاً، أو كان قائداً تنفيذياً مع أفراد مجموعته
العاملة.
النظرية:
تقوم تلك النظرية على فرضية أن مدى الحاجة إلى المشاركة بين القيادة ...
والأتباع في اتخاذ قرار ما تتحدد حسب الموقف ومتغيراته المختلفة، والتي تملى
بالتالي نمطاً قيادياً محدداً يؤدي إلى أفضل النتائج ويعتمد النموذج المقدم على ثلاث
قواعد يتم خلالها اختيار ذلك النمط به وهي:
أولاً: الأسس التي يتم عليها تحديد متغيرات الموقف.
ثانياً: الأنماط القيادية المختلفة.
ثالثاً: متغيرات الموقف.
وعلى أساس التفاعل بين تلك العوامل الثلاثة يمكن للقيادة تحديد النمط
المطلوب في هذا الموقف المحدد، وسنتناول باختصار ذكر تلك القواعد.
أولاً: أسس اختيار وتعيين متغيرات الموقف:
- نوعية المشكلة المراد البت فيها (كمية أم كيفية؟) .
- درجة اطلاع القائد وفهمه للمشكلة القائمة نظرياً وعملياً.
- درجة اطلاع الأتباع وفهمهم للمشكلة القائمة.
- درجة إمكانية الحصول على معلومات من خارج المجموعة (بشأن المشكلة) .
- تقبل الأفراد لقرارات القيادة وطاعتهم لها.
- درجة الإحساس بالولاء والانتماء للشركة أو المجموعة.
- درجة التعايش والتآلف بين الأتباع.
وتهدف هذه الأسس بجملتها إلى المحافظة على عدة مبادئ منها: (مبدأ
التآلف) ، (مبدأ التخصص) ، (مبدأ الحرص على الكيف) ، وعلى أساسها يتم اختيار
عدد من الأسئلة التي تمثل متغيرات الموقف الراهن.
ثانياً: أنماط القيادة:
تتحدد الأنماط القيادية بثلاثة أنماط (1، 2، 3) ، يندرج تحتها خمسة أشكال
من التصرفات القيادية المختلفة (أ، ب، ج، د، هـ) .
1 - قيادة موجهة متحكمة (Autocratic) :
أ- تتخذ القرار بنفسك وحسب معلوماتك الخاصة..
ب - تتخذ القرار بنفسك بعد جمع المعلومات اللازمة من أتباعك.
2 - قيادة مشاورة (Consultative) :
ج - تشاور أتباعك بطريقة فردية لمعرفة رأيهم ومعلوماتهم ثم تصدر قرارك
بنفسك.
د - تشاور أتباعك بشكل جماعي لاتخاذ القرار بنفسك بعد المشاورة.
3 - قيادة مشاركة (Participation) :
- تصدر القرار بشكل جماعي بعد المشاورة وأخذ الأصوات.
ثالثاً - متغيرات الموقف:
وفي عشرة أسئلة بنيت على الأسس التي قدمناها في القاعدة الأولى:
1 - في حالة تقبُّل الأفراد للقرار الفردي، هل تتأثر النتائج ذاتها بطريقة اتخاذ القرار؟
2 - هل لدى القائد العلم الكافي لاتخاذ قرار كفء؟
3 - هل تتوفر لدى الأتباع معلومات (زائدة على معلومات القيادة) تؤدي إلى تحسين الأداء؟
4 - هل يعرف القائد نوعية المعلومات المطلوبة، وممن يحصل عليها،
وكيفية جمعها؟
5 - هل من الضروري أن تتوفر معلومات إضافية لصالح القرار داخل حيز
المجموعة ككل؟
6 - هل من الممكن جمع معلومات إضافية من مصادر خارجية قبل اتخاذ
القرار؟
7 - هل تقبُّل القرار من الأتباع مهم وحاسم لضمان حسن التطبيق؟
8 - إذا كان من المحتم اتخاذ القرار بطريقة فردية (بنفسك) هل أنت متأكد
من تقبل الأتباع له؟
9 - هل يمكن الوثوق بقدرة الأتباع على اتخاذ قرارات مهمة تتلاءم وأهداف
العمل بشكل عام؟
10 - هل من المحتمل حدوث خلافات بين الأتباع على نوعية الحل؟
الطريقة:
يمكن اختيار النمط الأمثل للتصرف القيادي (وبالتالي تحديد الأنماط الممكنة
في حالة القرارات طويلة المدى) في موقف ما بأن يقوم القائد المسؤول بالإجابة عن
الأسئلة السابقة بادئاً بالسؤال الأول ... وحسب الإجابة بنعم أو لا ينتقل إلى السؤال
التالي حتى يصل - عن طريق الشكل المرفق على هيئة شجرة - ليحدد في النهاية
النمط المناسب لاتخاذ القرار.
فمثلاً: في حالة تقبل الأفراد للقرار.
- ولكن النتائج ذاتها تتأثر بطريقة اتخاذ القرار (الفردية أو الجماعية) السؤال
رقم (1) - " نعم " ينتقل المسؤول إلى السؤال رقم (2) .
- أما إذا كانت النتائج لا تتأثر بطريقة اتخاذ القرار السؤال - " لا " ينتقل
المسؤول إلى السؤال رقم (7) مباشرة.
وعند الانتقال إلى السؤال رقم (7) :
- هل تقبل الأفراد للقرار ورضاهم به مهم وحاسم لضمان حسن التطبيق؟
- فإن كانت الإجابة بنعم ... ينتقل المسؤول إلى السؤال رقم (8) .
- وإذا كانت الإجابة لا؛ يكون النمط المناسب هو (اتخذ القرار بنفسك
وبمعلوماتك) في حالة القرار ذي التأثير قصير المدى ... أو الأنماط ب، ج، د،هـ
على التوالي إذا كان القرار ذا تأثير طويل المدى وهكذا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن القرارات ذات التأثير المحدد (قصير المدى) تتحدد
بالنمط المذكور أولاً في النموذج ... ولكن حسب درجة نضوج الأتباع ومع مرور
الزمن فإنه من المناسب العدول إلى الأنماط المجاورة على التوالي (بين القوسين)
خاصة فيما يخص القرارات ذات التأثير المستمر (طويل المدى) .
مثال:
وحتى يسهل الأمر على القارئ، نعتبر مثالاً يعرض طريقة استخدام النموذج
للوصول إلى السلوك القيادي الأمثل.
1- لنفترض أن مديراً لإحدى الإدارات بشركة ما، يعمل تحت إمرته عشرة
من العاملين من ذوي الخبرة المناسبة.
2 - يتمتع العاملون العشرة بثقة المدير بكفاءتهم وحسمن أدائهم للعمل بشكل
متكافئ.
3 - أرسلت الإدارة العامة للشركة تطلب ترشيح ثلاثة أفراد من تلك الإدارة
لأداء مهمة بالخارج لفترة من الزمان.
4 - يعتبر العاملون ذلك السفر أمراً غير مرغوب فيه، كما يعلم المدير ذلك
حيث يحتاج السفر لتغييرات جذرية في أوضاع الحياة الخاصة للمرشح.
أ - أيتخذ القرار بمفرده ويحدد من يقوم بالمهمة؟ .
ب - أم يشاور العاملين معه فيمن يود الذهاب؟ .
ج - أم يجمع العاملين ويتركهم يقلبون الأمر على وجوهه فيما بينهم لتحديد
الأسماء المرشحة؟ .
وللوصول إلى القرار المناسب، نرجع إلى الشكل المرفق لشجرة القرار،
والأسئلة العشرة.
- السؤال الأول: هل تتوقف النتائج (أداء العمل بالخارج) على طريقة اتخاذ
القرار؟ .
والجواب: لا، حيث إن العاملين العشرة متساوون في الكفاءة، والخبرة،
ويتمتعون بثقة الإدارة بقدرتهم على حسن الأداء.
- انتقل إلى السؤال رقم (7) .
- السؤال السابع: هل تقبل العاملين المرشحين للقرار مهم وحاسم في حسن
التطبيق للعمل والقرار؟ .
والجواب: نعم، حيث إن العامل حين يؤدي أمراً لا يرغب فيه - حتى مع
كفاءته وقدرته وخبرته - لا يكون على المستوى المطلوب من العمل.
- انتقل إلى السؤال رقم (8) .
- السؤال الثامن: في حالة اتخاذ القرار بشكل فردي، هل الإدارة متأكدة من
تقبل العاملين لذلك القرار دون معارضة؟ .
والجواب: لا، حيث إن القرار بالسفر سيكون له أثر في الحياة الشخصية
للمرشح، والاحتمال الأكبر أن يلقى الترشيح معارضة، ما لم تكن الموافقة مسبقة
عليه.
وبناءً على ذلك التحليل نصل إلى النمط (هـ) والذي يعني: (أن يعقد المدير
اجتماعاً حيث يعرض المسألة على العاملين معه، ويطرح الترشيح للمناقشة حتى
يصل إلى اتفاق على الأسماء الثلاثة.
التعليق:
تعتبر هذه المحاولة التي قدمها (فروم) لبناء القرار على طريقة أكثر عقلية
وتحديداً ودقة من باب النماذج (Model) التي يمكن احتذاؤها.
ولا يزعم المؤلف - كما لا نزعم نحن - أنها أنضج ما يمكن تقديمه في هذا
المجال، بل ولا أنها تغطي المواقف والاحتمالات كافة التي يمكن أن تواجهها قيادة
ما.
ولكن الجديد الذي تقدمه النظرية هو تلك الوسيلة العملية التي يمكن بواسطتها
أن يضع المسؤول المتغيرات كافة التي يواجهها على الورق ليكون اختياره أكثر
تحديداً ودقة، دون أن يهمل عاملاً ما، أو أن يبني قراره على مجرد النتائج التي
يهتدي إليها بعقله بعد تقليب الأمر بينه وبين نفسه مما قد لا يستغرق منه سوى
لحظات قليلة، فتارة يشاور من معه، في حين أن المشاورة قد لا تكون في صالح
القرار أو الجماعة ككل، وتارات يتخطى الجميع ليتخذ قراره بنفسه، في حين هو
أقل علماً بالمشكلة من بعض أتباعه الذين تتوفر لديهم المعلومات الكافية والتخصص
الدقيق.
ومما لا يخفى أنه ليس من المعقول المشاورة في كل أمر صغير أو كبير، كما
أنه ليس من المشروع الاستقلال بالرأي والاستبداد بالقرار على طول الطريق، ولنا
في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في ذلك الأمر وحدوده حين أخذ
بمشورة سعد بن معاذ في بناء العريش في غزوة بدر من حيث هو أهل أعلم وثقة
بهذه الأمور، كما استشار -صلى الله عليه وسلم- الصحابة والأنصار على وجه
التحديد قبل الإقدام على الحرب في بدر، حيث إن موافقتهم كان لها وزن خاص في
النتائج المرتقبة، بينما قرر -صلى الله عليه وسلم- بنفسه في حادثة نعيم بن مسعود
وإرساله ليخذل عن المسلمين إبان غزوة الخندق.
وما يعنينا في هذا الموضع أن نشير إلى أن الأسس التي يقوم عليها تحديد
متغيرات الموقف - والتي قدمناها في القاعدة الأولى - ومتغيرات الموقف نفسها
(والتي قدمناها في الأسئلة العشرة السابقة) تخضع للتغيير والتبديل حسب نوعية
العمل وحسب البيئة التي يراد تطبيق النموذج عليها، بحيث تشمل في كل حالة ما
يناسبها، وما يغطي احتياجات القيادة، وقدرات الأتباع والمواقف المختلفة المحتملة.
ولا يفوتنا أن نوجه نقداً حاسماً لذلك النموذج من حيث إهماله - بشكل يكاد
يكون تاماً - الحالة النفسية والدوافع الداخلية التي قد يصدر عنها القائد والأتباع على
حد سواء في اتخاذ القرارات. وهو - وإن وضع بين الأسس التي يحدد عن
طريقها متغيرات الموقف مبدأ " التآلف والتجانس " بين القيادة والأتباع من جهة،
وبين الأتباع بعضهم البعض من جهة أخرى، إلا أن ذلك لا يعفي من ضرورة
اعتبار الدوافع الذاتية الشخصية التي توجه الأفراد حين اتخاذ قرار ما، والذي قد
يتخلى في أثره الجانب العقلي الميكانيكي الذي عالجه المؤلف في نظريته، بل ويكاد
يتحكم لحد كبير في عملية اتخاذ القرارات داخل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية.
فمثلاً: قد تقرر قيادة ما الاستغناء عن خدمات أحد أفرادها، نظراً لعداء
شخصي أو حالة نفسية محددة دون الدخول في تفاصيل الأسباب والدوافع ولكن قد
يقرر فرد ما الاستقالة من عمله والانفصال عنه لدوافع خاصة قد لا يصرح بها في
غالب الأحوال. وهو الوضع الذي لم يعالجه " فروم " في نموذجه ولم يحسب له
حساباً في أسسه وقواعده وأسئلته على الرغم من أهميته القصوى والحاسمة.
__________
(1) VROOM,H V (A NEW LooK AT MANAGERIAL DEClSlON MAKING) Organizational Dynamics, 1973,VOL 2,P 66-80 وكذلك VROOM,V&JAGO,A (On the Validity of the Vroom and Yetton Model) Journal of Applied Psychology, 1978, voL 63, P 151-162.
(2) Competence.
(3) Effectiveness.(14/46)
يحسب أن ماله أخلده
د. مصطفى السيد
ما أشقى القيم عندما يصبح المال وحده لحمتها وسداها، وأتعس بالأمم إذا بات
المال عندها معيار التفاضل ومنهاج التعامل! به ترفع وتضع، وفيه تقدم وتؤخر، وله تسعى وتحفد.
وكم تؤذي السمع، وتستدعي الازدراء قالة أقوام: (فلان رجل) ، وإذا رحت
تسائل هؤلاء الناس: فِيمَ استرجل فيم فلان وجدّ؟ ؛ أجابوا - وبئس الجواب - بثروته المالية ومكانته الاقتصادية!
وحرصاً على إثراء رصيد المسلمين بالمعرفة التاريخية، وعمارة أرواحهم
بأصل القيم، تعاقب القصص القرآني عن الأمم السالفة ليكون من الروافد الفكرية
لمكونات الشخصية الإسلامية.
ولقد ثبت عن الإمام أحمد -رحمه الله- حبه لقصص موسى في القرآن الكريم،والتي توزعت فصولها هذه في كثير من آيات القرآن تحكي جهاد هذا الرسول
الكريم - صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء - وكيف اصطدم بالطغيان السياسي
الذي تمثله دولة فرعون ومواجهة لبذور وجذور الرأسمالية القارونية - التي كان
قارون صنمها البارز ووثنها الشامخ.
وما ذكر في القرآن من قصة قارون مع قومه تتمثل في هذه الآيات من رقم
76 إلى رقم 82 من سورة القصص.
قصة متكاملة العناصر؛ فزمن القصص - فترة رسالة موسى -صلى الله عليه
وسلم-. والأماكن التي شهدت الدعوة مكانها.
ووقائع القصة - وإن انتهت زمناً - فهي مستمرة حياة وإيحاءً، مادام النموذج
الذي عرضت له القصة قائماً في عالم الناس.
وقارون يقوم بدور البطولة بين شخصياتها المتمثلة بقومه عموماً، ثم يتحدد
هذا العموم بفئتين:
الأولى: الدنيويون.
الثانية: أولو العلم.
وموضوع الصراع هو المال - مصدراً وهدفاً ومصرفاً - وتبدأ القصة معرّفة
بقارون هذه الشخصية البائسة التي تعايش ربيع الزمن - وجود النبوة - ولكنها في
شغل عنها بالمال جمعاً وكنزاً، ثم تفتح الآيات أعيننا على الأخطار التي تنتج عن
رأسمالية فرد، فما تكون عليه هذه المخاطر إذا كانت هذه الرأسمالية نظام حياة
وأسلوب حكم؟ ! :
وأولى هذه المخاطر الظلم: [فَبَغَى عَلَيْهِمْ] فالمُتيّم بالمال، والصبّ بجمعه
لا يهتم إلا بما يزيد هذا المال رقماً دون مبالاة بظلم مؤلم أو بغي مؤذٍ.
في ظل هذا الوضع تهان إنسانية الإنسان، ويكون التعامل معه كالتعامل مع
الأشياء.
والخطر الثاني: الفرح: [إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ] ، ويبدو أنه قد لازمه حتى صار خُلقاً له أو كما يقول أهل النحو (صفة مشبِّهة أو صيغة مبالغة) فبلغ به حد الأثرة والبطر، كما يقول القرطبي أو بلغ الحد الذي يُنسي المنعم بالمال كما يقول صاحب " الظلال ".
والخطر الثالث: التوجه الكلي إلى الدنيا وحدها، وهذا ما يستنبط بمفهوم
المخالفة من قوله - تعالى -: [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] وكما لا يظن
أن ذلك دعوة إلى مقاطعة الدنيا أتبع (والله أعلم) لقوله: [ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا] وابتغاء وجه الله بالعمل محض الإيمان، فلا يذل المرء للمخلوقين أو يصبح
تحت رحمة أهوائهم إذا اتخذ وجوههم قبلة تحقيقاً لتوحد حب الدنيا في قلبه.
وبعد إشباع شهوة التسلط القاروني بالبغي، وإتراعها بالفرح وما في ذلك من
مكسب إعلامي يجعل من صاحبه حديث الصالونات ومحتكراً للصفحة الاجتماعية
في الجرائد والمجلات - بعد ذلك تمضي بنا الآيات إلى الخطر الرابع وهو الفساد
في الأرض: [وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ] ، وكلمة الفساد ينطوي في أحشائها -
وينضوي تحت راياتها - شرور شتى، وخبائث عدة؛ لأن القارونية لا مكان في
معجمها المادي للأخلاق، بل لا ترى بأساً أن يكون في مقتل الأخلاق دخل مدار
الربح كما في عوائد الربا والفوائد كما في دخول الميسر والخمر والدخان ... إلخ.
والأخطار الأربعة السابقة نتيجة منطقية لرأسمالية قارون التي تدين بالحتمية المادية - وهذه نقطة تلاقٍ مع الشيوعية - التي تجحد قدرة الله في الإعطاء والمنع، والفقر والغنى، وترد ذلك إلى سلطان العقل وثمرة العمل، وتبجح ... قارون: [إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي]- يمثل الأبوة الروحية لكل منزع مادي، فهو كما قال أحد المفسرين: " تَنَفَّجَ بالعلم وتعظم به ".
ومادام قارون يعتقد ألا فضل لله في إيجاد هذا المال فليس له - بالتالي - حكم
في مصاريفه وإنفاقه.
ولكن الآيات ردت على المادية القارونية بأن المادية التاريخية لم تعصم أهلها
- بالرغم مما في يدها من علم ومال -: [أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعاً] وما على القوارين إلا التأمل في مصائر الثراء وفعائل المال بأصحابه؛ (إذ لو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم) كما يقول القرطبي.
وكأن هذه القارونية قد أخذت على نفسها الميثاق ألا تُبقي عيباً من عيوب
الثراء الذي لم يؤسس على تقوى إلا وكشفته، ها هي الآيات تعرض لنا المنظر
الأخير للإفلاس القيمي عند قارون الذي لم يجد ما يدلل به على حضوره ثرياً إلا
خروجه في زينته (كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد) التي لم يكن الحاضر فيها منه
إلا مظاهرها المادية بعد أن فارقنا إنسانيته أو فارقتنا في سعير المظالم وسعار
الشهوات وسكرة الفرح.
ولقد نقلت الآيات قارون من الجريمة الفردية إلى الجريمة الاجتماعية أو بلغة
الأدب - من الشخص إلى المصطلح ومن الحدث إلى الرمز [1] لتصبح القارونية
عباءة لكل قارون معاصر أو ثري جَحود.
لم يكد قارون يفرغ من عرض ثروته، واستعراض زينته إلا وقد أشعل في
قلوب الدنيويين مشاعر التلهف وشعائر التأسف ألا يكون لهم مثل هذه الثروة: [يَا
لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ] ؛ فجاءت إغاثة اللهفان - شأنها في كل زمان ومكان -
من أهل العلم الذين حذروا من خطورة النظرة السطحية للأمور، والتي تريد
الدنيا للدنيا، ثم لفت أهل العلم الأنظار إلى [ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ] ، فذلكما
الأمران هما المطلوبان والمحبوبان ثواب الله والإيمان به. وفي ذلك تنبيه للدنيويين
على مدار التاريخ - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - أن الثروة قد تدلف
فجأة، ولكن ترويض النفس على الإيمان والعمل الصالح منزلة [وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ
الصَّابِرُونَ] .
وما أن يُنهي أهل العلم كلامهم؛ حتى تغيّب الأرض قارون في ظلماتها -
والعطف بالفاء -[فَخَسَفْنَا] يدل على سرعة الأخذ، والعقوبة بالخسف مناسبة
لسخف المعتقد. وهكذا أصبح هذا الثراء بالرشاء أجدر.
وفاجعة النهاية لا تقل في غناها المعنوي عن مأساة البداية، فهذه الثروة الهائلة
تغور في أعماق البسيطة بثوانٍ كأن لم تكن: [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا
كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 29] .
وإذا جاء أمر فإنه يترك كل القوى اللائذة بأهل المال رغبة أو رهبة - عاجزة
عن أي دور: [فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ومَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ] وبقدر ما كان الانتقام فاجعاً لقارون كان مفاجئاً للدنيويين فقد انتزعتهم النهاية
من زيف أحلامهم، وسكرة مشاعرهم لتوقفهم على الأخذ الأليم؛ فيصرخون [وَيْ] لتبصر البصائر ما عجزت عنه النواظر، ويدركون ألا علاقة بين الهداية والثراء؛ فالله: [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ويَقْدِرُ] .
كما يعترفون بفضل الله عليهم لتدارك رحمته - إياهم - بنصح أولي العلم:
[لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا] ، كما يخرجون بتجربة ناجحة عن مستقبل
الثراء الكافر: [وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ] ، والتعبير بالمضارع [يُفْلِحُ] يفيد
ديمومة الحكم ما وُجدت أطراف القضية.
وإذا كان الفوز في الآخرة هو الفوز، فالطريق إليه يبدأ في الدنيا بتجنُّب
التجبُّر: [لا يُرِيدُونَ عُلُواً] ، ومجانبة الفساد بكل مضامينه: [وَلا فَسَاداً] ،
ولئن قُدر للمبطلين أن يهيمنوا بعض الوقت فلن يتأتى لهم ذلك دائماً أو انتهاءً؛ ... لأن: [الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] .
(لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته؛ فهذا فعل الأرذال،
ولا تكتمه ما يستضر بجهله؛ فهذا فعل أهل الشر) .
ابن حزم
__________
(1) قال محمد بن حازم الباهلي - من شعراء العصر العباسى الأول (160- 215) :
(قارون) عندي في الغنى مُعدموهمتي ما فوقها مذهب
- وقال الأستاذ عصام العطار - من المعاصرين -:
يا لَلطغاة وما أشقى الأنام بهم عاشوا قوارين أو عاشوا فراعينا! .(14/55)
الإبداع والتقليد عند مقلدي الغرب
محمد حامد الأحمري
صلة المسلمين بالعالم المعاصر في شتى أنواعها لم تعد مجهولة الآثار،
ونتائج هذه الصلة والتأثر بها، ما يتجاوز القدرة على التجاهل، فيعترف به
المتجاهلون والغافلون رغماً عنهم فلم يعودوا قادرين على نكران من يصنع ملابسهم
وسياراتهم وبعض غذائهم، ولكنهم في الجانب الآخر ينكرون أن يكون لعالم
الاستعمار أثر في شيء من حياتهم الفكرية والسلوكية وهذا الجانب هو ما نقصد
الحديث عنه هنا.
لقد اكتسبت الحياة الفكرية في الغرب خبرة طويلة في صراعها مع الدين،
ومرت قرون من الزمن الحاد المتوتر بين الدين ورجاله وبين غيرهم هدمت على
أثر ذلك عروش، ودحرجت آلاف الرؤوس، حتى كان للعلمانية النصر وأقامت
النظم التي تريدها.
وقد تركز عداء الدين في التعليم والثقافة الشعبية ثم الحكم فيما بعد ذلك.
إن الصراع كان في بدايته علمياً (العلم المادي التطبيقي) وفلسفياً، ثم كان
فيما بعد سياسياً، وترابطت هذه العوامل (السياسة) و (العلم) و (الفلسفة) في
إنتاج هذا العالم المشهود الذي طارد الدين جهده ولكن الدين لم يغب أبداً عن ... المعركة حتى في أيامنا هذه والتي يروج أنصار " الليبرالية " أو الاتجاه التحرري من الدين انتصارهم وانهزام عالم الغيب والدين والخرافة أو ما يسمونه " اللامعقول ".
وإنه ليجدر بنا لمعرفة مكانة النصرانية الغربية أن نلاحظ الأحزاب
الديموقراطية المسيحية في أوربا، في ألمانيا، في إيطاليا، اليمينيون في فرنسا وما
أشارت إليه الانتخابات الفرنسية الأخيرة، فضائح القساوسة الأخيرة في أمريكا
(بيكر) و (سواجارت) التي كانت معلومة من قبل ولكنها استُخدمت في الوقت المناسب لأسباب عديدة البعض يعد منها إبعاد القساوسة عن الانتخابات والحكم في أمريكا.
وقد جاء نشر أكثر فضائحهم بعد أن رشح أحد القساوسة نفسه للانتخابات. ثم الكل يعلم دور البابا الحالي في بولندا - وهو من أصل بولندي - دوره في
مظاهرات واحتجاجات العمال في بولندا، وفاليسا الزعيم العمالي البولندي المعارض
للحكم الشيوعى إن هو إلا يد الكنيسة في المعسكر الشيوعي الشرقي، البابا ينفق
وقته في رعاية النصرانية ضد الشيوعية في أمريكا الجنوبية، وإفريقية وغيرها،
يقود التيار الكاثوليكي المتحجر في لعبة الدين والسياسة الواسعة في عالمهم.
يتضح مما سبق أن الحرب الضروس ضد الدين في أوربا وأمريكا وغيرها لم تنتهِ بعدُ لصالح العلمانية وهى بالطبع ليست في صالح الكنيسة، لكن كل منهما
مضطر للآخر، مضطر للحوار والاستفادة والاستغلال، والغرب - بلا شك - مقْدم
على عودة للدين لأسباب عديدة ليس هذا موضع تفصيلها لكن من هذه الأسباب
الفطرة الدينية التي فطر الله الناس عليها والتي غشى عليها لفترة من الزمن الوهج
العلمي والتعلق بالإنتاج الصناعي، ثم عاد العلم ليأخذ موقعه الصحيح يوماً بعد يوم
وما سببه من مادية جافة سئم الناس خشونتها وانفصامها.
وكذلك ازداد اهتمامهم بدراسة ظاهرة الإسلام، وكثرة البحوث والدراسات
حول ذلك؛ لاستكشاف أفضل الطرق لاحتوائه، إضافة إلى موجة الشباب
النصراني المتدين والتي تخرج في شكل دعاة متنقلين من مدينة إلى أخرى،
وينزلون مساكن الجامعات، ويقيمون الخيام للدعوة إلى الدين النصراني، ووجدت
مجموعات متدينة يرفضون المدنية الحديثة ويرفضون وجود أجهزة التلفزيون في
بيوتهم، ويمنعون أبناءهم من التعليم العام لما يرون في كل هذا من الانحراف عن
الدين. وهذه مجموعات جديدة في أمريكا عموماً لا علاقة لها بالأيمش الموجودين
في ولاية أوهايو ولا بالمورمون في ولاية يوتا. وهذه قضايا تؤرق الدول الملحدة
أو العلمانية، يؤرقها أن يسيطر الدين ويحكم، ويؤرقها الفراغ والإلحاد والشيوعية
أن تسود، فهي تحرص على وجود توازن مستمر بين هذه القوى المؤثرة في
المجتمع، وهى ليست قصيرة التجربة في هذا المضمار، لقد نضج التعامل العلماني
مع الديني منذ ما يزيد عن قرنين من الزمن، وعرف كيف يسخر الدين للسياسة،
ويركبه فيكون مطية ذلولاً يعرف كيف يتحكم في شموسها ونفورها لتكون طيعة
مسالمة أليفة.
هذه التجربة الخطيرة في التاريخ يمكن أن نصنفها على أنها اختراع عظيم
جداً يصدّر للعالم المتخلف كما تصدّر له الملابس الجميلة والسيارات الفخمة وهذا
اختراع فخم يقدم للعالم خدمات جليلة في نظرهم أَنَّى لأي جهاز آخر أن يؤديها؟ !
لعل العديد من ضحايا الاستكشاف السابق لا يعلمون بأنهم ضحاياه، إنهم
يسلمون بأن القلص (الإبل) قد هجرت وجاءت السيارة بديلاً قوياً وذهب البعير من
الواجهة، وقد ارتاح فعلاً فما عاد يرحل بليل، ولا يتأوه آهة الرجل الحزين. قسم
كبير من هذه الجمال ذهب إلى المتاحف الحيوانية ينعم ويرفه للفرجة والرؤية فقط،
ويمكن أن يتنزه عليه حول الأهرام وغيرها وليكون في عيون الغريب تحفة قد
تستحق النظر والإعجاب. ولكنه لا أهمية له ولا دور في حياة الناس.
إن سحب البساط من تحت الدين وتجريده من السلاح أحد الصادرات المهمة
من هناك إلى بلاد المسلمين، عكفوا على إنتاجها سنين وليالي وأياماً حتى جاءت
جاهزة. والذي نستيقنه أنه لا يمكن لهذه البضاعة أن تعمل عندنا لزمن طويل،
فبلادنا حارة لا تقوى بضاعتهم على مقاومتها سيأكلها الصدأ وتهوي بها الريح في
مكان سحيق.
طلائع الوهن والتبعية في بلدان العالم الإسلامي فرخت وتوسعت دائرتها من
أفراد ينادى بهم ويشنع عليهم، إلى ظاهرة اجتماعية تملأ هذه البقاع ويمكن أن
نستعير كلمة " طبقة " من مردديها لنقول إن طبقة في عالم المسلمين اليوم تستقر في
المدن عاشت في الغرب أو لم تعش، واعتادت الحياة الغربية وقيمها وآدابها فالحق
في بلادهم ما كان حقاً في الغرب، والباطل في الغرب باطل عندهم. أناس
مسلمون غالباً ما يقومون بأداء شعائر الإسلام واحترامه، ليسوا عملاء للغرب ولا
لحكوماته، قد يكرهون سيطرته وإذلاله للمسلمين، لكنهم مقهورون في أعماقهم
مغلوبون في نفوسهم، في أرواحهم وهممهم، راعهم بهرج الغرب ونظمه ورتابة
حياته وإشباع رغباته الواسعة، أعجبوا بحكوماته وديموقراطيته، انتشوا بهذه
الشهوات فعبدوها، فكل غريب عندهم جليل مقدم وكل شيء من عندهم بدائي
وحقير. يتمنون لبلادهم الخير ولكن ليس الذي أراد الله أو رسوله أن يكون خيراً،
إنما الذي علموه أو رأوه خيراً هناك فهو الخير هنا. هذا قطاع من خيرة شباب
الأمة تعلماً ومكانة يغري أوساط الناس وعامتهم إلى تقليده لمكانته الاجتماعية، لشهاداته، لأسلوب حياته الذي سموه تحضراً أو تمدناً، ولكنه في الحقيقة أجنبي
على كل حال.
هذا القطاع المقطوع من قيمه يقود الأمة للهاوية. إنه يؤخرها، ويعطل
مسارها، ويكبح انطلاقها، لما أصبح في حياته الفردية من عقد لا حصر لها.
والمجتمع الواهن يخادع هذا القطاع بضعفه، فيظن هؤلاء أنهم أقوياء وقدوات في
ديارهم، فيزيدون ترفعاً وتعالياً والتعالي عندهم هو الإغراق في التبعية والتقليد
للمجتمع الغالب، وهذه الفئة تقف سداً مانعاً دون نضوج الأمة ووعيها وتقدمها،
فهي ليست عدواً ولا تقف صراحة معه، وهى فيما تقول بل وتعمل أحياناً - تعادي
الغزاة وتحطم وهي تزعم البناء وتبذل كل جهدها لتكون بلادها وحياتها كأولئك وهي
لن تكون، إنها الفئة التي تحدث عنها سارتر في مقدمته لكتاب فرانتز فانون (معذبو
الأرض) [1] وهي الفئة التي تحدث عنها أرنولد توينبي، أما الأول فقال في
معرض حديثه عن أسلوب صناعة الفكر الشرقي في الغرب (سارتر يتحدث عن
مرحلة الفرد، ونحن نتحدث عن ظاهرة الجماعة، وهناك خلاف فيما نكتب عنه
وفيما يتحدث عنه سارتر، غير أن القضية في النهاية واحدة) يقول: (كنا نحضر
رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من إفريقية وآسيا، ونطوف بهم
بعض أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس؛ فتتغير ملابسهم،
ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو والاستقبال والاستدبار، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحياناً زيجة أوربية، نلقنهم أسلوب الحياة بأثاث جديد، وطرز جديدة من الزينة، واستهلاك أوربي جديد وغذاء أوربي، كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أَوْرَبَة بلادهم، ثم نرسلهم إلى بلادهم. وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليها رجساً ونجساً وجناً. كنا أعداءً يخافون منا وكأنهم همج ... لم يعرفوا بشراً. لكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا نصيح من أمستردام أو برلين أو باريس (الإخاء البشري) ؛ فيرتد رجْع أصواتنا من أقاصي إفريقية أو الشرق الأوسط أو الأدنى أو الأقصى أو شمال إفريقية! كنا نقول:
(ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة) وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم وحينما نصمت كانوا يصمتون. ثم كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، ليس هذا فحسب بل إنهم سلبوا حق الكلام من مواطنيهم.
هذا هو دور المفكر الذي يتشكل بالشكل الأوربي ويلعب في الدول الإسلامية
دور دليل الطريق في البلاد التي لم يكن المستعمر يعرفها أو يعرف لغاتها. وهو
السوس الذي عمل في الشرق من أجل تثبيت هذه المادة الثقافية والاقتصادية
والأخلاقية والفلسفية والفكرية للاستعمار الغربي داخل هذه الأشجار المورقة الأصيلة
(هذا هو السوس الذي كنا قد صنعناه وسميناه (المفكرين) كانوا عالمين بلغاتنا، وكان قصارى همهم ومنتهى أملهم أن يصبحوا مثلنا، في حين أنهم أشباهنا
وليسوا مثلنا، إنما نخروا من الداخل ثقافة أهلهم، وأديانهم القومية التي تصنع
الحضارات ومُثلهم وأحاسيسهم وأفكارهم الجميلة، وأصالتهم الأخلاقية والإنسانية،
وتحت أي شعار وباسم من؟ ، باسم مقاومة الخرافات أو مكافحة الرجعية أو
الوقوف ضد السلفية، وباسم أولئك المفكرين الأوربيين الذين قاوموا الرجعية
والكنيسة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أمثال غاليليو وكانت وديكارت
وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم من الكُتاب الموسوعيين الذين ناضلوا في سبيل
الحرية، كانوا مفكرين بالفعل وأناساً بذلوا أرواحهم في سبيل الحرية - يعني
الحرية من طغيان الكنيسة وأصحاب الملك الإلهي - كانوا نوابغنا الفكريين وعلماءنا
العظام) [2] انتهى كلام سارتر. وكم كان كلامه معبراً عن هذه المرحلة العصيبة
في حياة المسلمين، وواخجلاً لأتباع سارتر في بلاد المسلمين! ؛ عبدوه في حياته،
وكادوا يهلكون لوفاته وسخروا أقلامهم ومجلاتهم وجرائدهم وكتبهم للثناء عليه وعلى
أفكاره التي سخر منهم فيها كما سبق [3] ، لكنه خلق الهزيمة والوهن والاستخذاء.
أما توينبى فيقول: (لم يكتفِ الأتراك بتغيير دستورهم - وهو شيء سهل
نسبياً في مجال الإصلاح الدستوري - بل قامت الجمهورية التركية الوليدة بخلع
المُدافع عن الدين الإسلامي - الخليفة - وألغت منصب الخلافة، وجردت رجال
الدين المسلمين وحلت منظماتهم، وأزالت الحجاب عن رأس المرأة، واستنكرت
كل ما يرمز إليه الحجاب، وأجبرت الرجال على ارتداء القبعات التي تمنع لابسيها
من أداء شعائر الصلاة الإسلامية بأكملها، وتبنت القانون المدني السويسري بعد أن
ترجمته إلى التركية، وطبقت قانون الجرائم الإيطالي، وذلك بفرض هذين
القانونين بعد التصويت عليهما في المجلس الوطني، وغيرت الأحرف العربية
بأحرف لاتينية، وهذا أمر لم يتم إلا بطرح القسم الأكبر من التراث الأدبي العثماني
القديم. ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة فلا يغالط ولا يسخر،
لأن ما يحاول المقلدون الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم مما هم فيه إلى حالة كنا
نحن - منذ التقاء الغرب بالإسلام - ننتقدهم لعدم وجودها فيهم، وها هم حاولوا ولو
متأخرين إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربي. وعندما ندرك تماماً هدفهم الذي رموا إليه، لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة: هل يبرر هذا الهدف حقاً
الجهد الذي بذلوه في صراعهم لبلوغه؟ !
والآن بعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا، وبعد أن أصبح يفتش عن كل
وسيلة لجعل نفسه مماثلاً لنا وللشعوب الغربية من حوله، الآن نحس نحن بالضيق
والحرج ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق، وأن التركي مهما فعل مخطئ في
نظرنا! ثم يقول: (إن حركة المقلدين متبِعة وليست مخترعة مبتدعة، لذا ففي
حالة نجاحها - جدلاً - لن تزيد إلا في كمية المصنوعات التي تنتجها الآلة في
المجتمعات الصناعية، بدل أن تطلق شيئاً من الطاقة المبدعة في النفس البشرية،
وهذه الحركة تزيد كذلك في أعداد المقلدين وتضخم المستعبدين) [4] .
__________
(1) لم نترجم مقدمة سارتر للكتاب في الطبعة العربية كاملة، ولكن ترجمت مقاطع فتط، منها النص المشار إليه.
(2) فاضل رسول " هكذا تكلم علي شريعتي "، دار القلم، الطبعة الثانية عام 1983م، ص121- 122.
(3) زار سارتر مصر في العهد الدابر مع جارودي - حين كان شيوعياً - فكان حدثاً لدى الإعلام الموتور هز القطر وصعد محمد حسنين هيكل ليستقبله على باب الطائرة، ونودي خلال الزيارة بعبد الرحمن بدوي رأساً للوجوديين المصريين إثر إخراج كتابه عن الوجودية، ثم توجه مع " صديقته " " سيمون دي بوفوار " إلى " إسرائيل "، وفي باريس يخرج في مظاهرات مؤيدة لليهود والإسرائيليين، ويجمع لهم التبرعات، وحوادثه الفردية فقط تكفي لإدراك مدى استحقاقهم السخرية منهم وهو يجمع الرصاص لقتلهم، في حين يركعون له ولكذبه ومجونه وسخريته ويجعلون من عجوزه الإباحية مثالاً للتقدم والحرية والتطور.
(4) محمد قطب: مفاهيم ينبغي أن تصحح، دار الشروق، 1407هـ، ص357 -360 بتصرف، وهذا نقلاً عن كتاب " الإسلام والغرب والمستقبل " محاضرات لتوينبي في عامي 1947-1952 ترجمها د نبيل صبحى، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، عام 1389هـ/1969م، ص50-53.(14/60)
الثبات على دين الله
-1-
محمد صالح المنجد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فإن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط
المستقيم بعزيمة ورشد.
أهمية الموضوع تكمن في أمور منها:
- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن
والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى
الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً (القابض على دينه كالقابض على
الجمر) .
ولا شك عند كل ذي لُب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه
أيام السلف والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر.
- كثرة حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات بين المسلمين؛
مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات
للوصول إلى بر آمن.
- ارتباط الموضوع بالقلب؛ الذي يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في
شأنه: (لَقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً) [1] .
ويضرب - عليه الصلاة والسلام - للقلب مثلاً آخر فيقول: (إنما سمي
القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها
الريح ظهراً لبطن) [2] ، فسبق قول الشاعر:
ما سمي الإنسان إلا لنسيانه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل
جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.
ومن رحمة الله - عز وجل - بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي
سيرته وسائل كثيرة للثبات، أستعرض معك - أيها القارئ الكريم - بعضاً منها:
أولاً: الإقبال على القرآن:
القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين،
من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط
مستقيم.
نص الله على أن وظيفة هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجّماً مفصلاً
هي التثبيت، فقال -تعالى - في معرض الرد على شُبه الكفار: [وقَالَ الَذِينَ
كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32)
ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً] [الفرقان: 32، 33] .
كيف يكون القرآن مصدراً للتثبيت؟ !
* لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
* لأن تلك الآيات تنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح
الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله.
* لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن
يقوّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا
يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
* إنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين
كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
ما هو أثر قول الله -عز وجل-: [مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى] [الضحى:3] على نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال المشركون: ودع ... ... محمد [3] ؟!
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: [لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ] [النحل: 103] لما ادعى كفار قريش أن محمداً -صلى ... الله عليه وسلم- إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومى بمكة؟!
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: [أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا] [التوبة: 49]
في نفوس المؤمنين لما قال المنافق [ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي] [التوبة: 49] ؟ !
أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات
وإسكاتاً لأهل الباطل..؟
بلى وربى.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا
عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً؛ منه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا
كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل.
ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال الله - تعالى -: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] [إبراهيم: 27] .
قال قتادة: أما [في الحياة الدنيا] فيثبتهم بالخير والعمل الصالح [وفي
الآخرة] في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف [4] . وقال سبحانه:
[ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً] [النساء: 166] ، أي
على الحق.
وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة
إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهمّ الخطب؟ ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم
الله إليه صراطاً مستقيماً ويثبتهم بما ثبتوا به أنفسهم في الدنيا.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل:
والدليل على ذلك قوله - تعالى -: [وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] [هود: 120] .
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للتسلية
والتفكه، وانما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وأفئدة المؤمنين معه.
فلو تأملت - يا أخي! - قول الله - عز رجل -: [قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا
آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ (69)
وأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ] [الانبياء: 68-70] ، قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل) [5] .
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت
تتأمل هذه القصة؟ .
لو تدبرت قول الله - عز وجل - في قصة موسى: [فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] [الشعراء:
61، 62] ، ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الظالمين، والثبات
في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟ .
لو استعرضت قصة سحرة فرعون ذلك المثل العجيب للثلة التي تثبت على
الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معانى الثبات يستقر في النفس أمام
تهديدات الظالم وهو يقول: [قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا
أَشَدُّ عَذَاباً وأَبْقَى] [طه: 71]- ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع
وهم يقولون: [قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا
أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] [طه: 72] .
وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود
وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.
رابعاً: الدعاء:
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم:
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا] [آل عمران: 8] ، [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً
وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] [البقرة: 250] .
ولما كانت (قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد
يصرفه حيث يشاء) [6] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول:
(يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك) [7] .
خامساً: ذكر الله:
وهو من أعظم أسباب التثبيت وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - عز
وجل -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً] [الأنفال:
45] فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد. (وتأمل أبدان فارس
والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها) [8] بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين
الله كثيراً.
وبماذا استعان يوسف - عليه السلام - في الثبات أمام فتنة المرأة ذات
المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها، ألم يدخل في حصن [معاذ الله] ؛
فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟
سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً:
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل
السنة والجماعة طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية
والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك لماذا ضل كثير
من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا
عليه، أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم؟
فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى عالم الكلام
والاعتزال إلى التحريف إلى التصوف والتفويض والإرجاء ...
وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون وانظر كيف حرم أهل الكلام الثبات
عند الممات فقال السلف: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام.
لكن فكر وتدبر هل رجع أحد من أهل السنة والجماعة عن طريق سخطة بعد
إذ وفقهه وسلكه؟ فقد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهة عرضت لعقله الضعيف،
لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه. ومصداق هذا مساءلة
هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- قال هرقل لأبي سفيان:
فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال
هرقل: (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب) [9] .
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع أو هداهم الله فتركوا الباطل
وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل
سمعنا العكس؟ !
فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين.
- يتبع -
__________
(1) رواه الإمام أحمد والحاكم عن المقداد مرفوعاً، صحيح الجامع (5023) .
(2) رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً، صحيح الجامع (2361) .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/446) .
(4) المصدر السابق (2/535) .
(5) الفتح (8/229) .
(6) رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً.
(7) رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً، صحيح الجامع (7864) .
(8) ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم - رحمه الله - في " الداء والدواء ".
(9) رواه البخاري، الفتح (1/31) .(14/67)
التنصير في العالم العربي
خطط مستمرة
إن بعثات التنصير لا تزال تعمل بإصرار من أجل تحقيق أهدافها، وبخاصة
في أنحاء العالم الإسلامي، والعالم العربي بشكل أخص، وهي تعتبر أن مجال
العمل في صفوف المسلمين في العالم العربي من أشق المهام، وهي قلقة - كعادتها
دائماً - من مزاحمة الإسلام لها، فإذا أحرزت بعض النجاح في البلاد التي تعتبر
مهداً للإسلام فإنها تكسب كسباً مادياً ومعنوياً.
أما الكسب المادي فإنها تكون قد أوجدت القاعدة التي تتكئ عليها من أهل
البلاد الأصليين.
وأما الكسب المعنوي فهو ظهورها أمام من يرعون نشاطات التنصير في العالم، وخاصة في العالم الغربي بأنها حققت شيئاً فتكسب تعاطفهم وحماستهم لتأييدها بما يستطيعون ولذلك فإن التنصير يلح على أن يعمق جذوره في العالم العربي، ويعد من أجل ذلك الدورات والمؤتمرات، ويشرف على النشاطات السرية والعلنية
المرتبطة بمنظمات نشطة في أوربا وأمريكا. وقد أرسل إلى هذه المجلة أحد الدعاة
من أمريكا عدداً من نشرة تبشيرية تصدر هناك تسمى ديت لاين (Date Line) ،
تخطط لأتباعها طرق التنصير، وتحضهم على الانضمام إلى دوراتها التدريبية التي
تعقدها لتأهيلهم للقيام بهذه المهمة.
حول النشرة:
النشرة موجهة أصلاً إلى المسيحيين الذين يهتمون بتنصير المسلمين وبأوضاع
العالم العربي، فهي من جهة تحضهم على التطوع للعمل في هذه البلاد، وتبث في
نفوسهم العزيمة من أجل القيام بهذا العمل الشاق، ثم تلقنهم كيفية نشر أصول
الدعوة المسيحية بين المسلمين عن طريق تقريب وجهات النظر فيما يخص مفهوم
التوحيد والتثليث، ثم تركيز بشكل خاص على القسم الشمالي الغربي من إفريقية
ودعوة (للصلاة) من أجل فتح (المغرب) ، بالإضافة إلى إعلانات تتعلق بهذه
الأنشطة.
تحت عنوان (لابد أن يفتح الباب إذا واصلت قرعه) :
ورد في النشرة ما يلي:
(يا من لهم تمرس أكبر في العمل في ديار الإسلام - أنتم ولا شك تعلمون
أنه لا يسمح للمسلم شرعاً أن يرتد عن دينه ويعتنق ديناً آخر، وقد تستنتجون من
ذلك استحالة العمل بينهم، وكذلك لا مجال للبعثات التنصيرية للعمل هناك، إذ ليس
مصترحاً لها بالنشاط، فقد أسدل الستار وبني الحصن بقوة قد تبدو غير قابلة
للاختراق خاصة في نظر الذين يغفلون عما يصنعه الرب في العالم العربى.
هناك إحساس لدى العاملين في البلاد الإسلامية أننا أمام فتح مبين، صحيح
أن بعض الجهات في العالم الإسلامي أصبحت أكثر تعصباً، ولكنها تبقى أقلية
شديدة البروز فقط، والذي يدفعنا إلى مضاعفة جهودنا الآن هو ما نراه من تغير في
المواقف والمزاج لدى الأغلبية.
إن ما يربو على 65% من سكان العالم العربي الآن هم دون الثلاثين، وفي
دائرة هذه السن تقوى نزعة البحث عن الحقيقة والاستقرار، والعثور على منارة
هادية في خضم الاضطرابات التي تعترضهم وهم يواجهون مشكلات العصر، وفي
الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة المتعلمين فإن نسبة البطالة ارتفعت كذلك. صحيح أن
دعوات التزمت الديني قائمة، ولكن الذين يناصرون الغرب، ويحبذون اتباع سبله
كُثر. ومما يزيد في تعقيد هذه المشكلة الأزمات الإسكانية وعدم الاستقرار
الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية في وقت يسعى فيه الجميع إلى تحسين
مستوى معيشتهم.
هناك بعثات تنصيرية فعالة تعمل حالياً بنجاح في هذه البلاد المنيعة ظاهرياً،
ولكن هذه البعثات تتعرض يومياً لتوترات وضغوط لا يمكن تجاوزها إلا بوسائل
روحانية (! !) فنحن شهود عيان لما تصنع يد الرب في أوضاع قد تبدو مستحيلة،
نحن نشهد نتائج لا يمكن تفسيرها إلا بقبول صلواتنا، إن الصلاة هي جانب من
أعظم جوانب الشعائر التي يجب على الكنيسة في الغرب الاهتمام بها، بإمكاننا
الادعاء بالنجاح في فتح الأبواب على مصاريعها، بإمكاننا دخول أمصار جديدة،
بإمكاننا بعون الله، وبفضل كل صلوات المبشرين وتضحياتهم - تسريب فرق همها
الشاغل هو كسر قبضة الإسلام الحديدية، فقد عُرف العالم العربي بأنه أشد المناطق
صعوبة على وجه الأرض لدخول الإنجيل، ولا يزال غير ملتفت إليه بشكل كافٍ
من قبل رجال الكنيسة نتيجة لجهلهم، إن العالم العربي لم يحصل على هذه السمعة
إلا لقلة المتطوعين للتضحية في سبيل إعلاء كلمة الإنجيل.
نحن نعيش في مجتمع يقيس النجاح بالكم، وكلمتنا هذه نظرة للكيف عن
طريق الطاعة، وعلينا أن ننظر إلى العالم العربي من منظار الرب، فلو أننا
استصعبنا هذه المهمة لكنا قد ظننا نقصاً في قوة الرب، فكأننا نزعم أن هذا المجال
يعجز الرب عن العمل فيه. وقد وصلنا مؤخراً في اجتماعات مؤتمر الكنائس
العالمي في فرنسا إلى اتخاذ قرارات حددنا فيها أهدافنا إلى عام 2000م، وبعد
صلواتنا المكثفة (الحارة) شعرنا أن الرب يحثنا على الانفتاح وعدم التواني في فتح
أبواب جديدة على العالم العربي، وسيركز العدد القادم من ديت لاين Date Line
على الطرق الجريئة التي تدخل في باب المستحيل، صارخاً: افتحوا الأبواب!
دعاء من أجل فتح المغرب!
تحت هذا العنوان تقدم هذه الفقرة لمحة تاريخية عن المغرب من وجهة نظر
مسيحية، ولكنها تعترف - مرغمة - بأن الغالبية الساحقة من سكان المغرب
مسلمون - ما عدا أقلية من اليهود، وأخرى من المسيحيين - من أصل أوربي.
ويدعو كاتب هذه الفقرة أتباعه إلى الصلاة من أجل تحقق حرية أكثر للأديان
في المغرب (يقصد حرية البعثات التنصيرية) ، ويشير إلى جهود الإذاعات
التنصيرية الموجهة إلى الشعب المسلم في المغرب، وكذلك إلى جهود التنصير عن
طريق المراسلة، ويذكر أن حوالى (150) ألف مغربي تُرسل إليهم الدروس
التنصيرية عبر البريد من أوربا ومن مركز التنصير الخاص بالعالم العربي (A.
W. M.) مع اعترافه بالصعوبات التي تلقاها هذه الجهود إلا أنه مستبشر
بالنتائج إذا سبقها الإصرار والمتابعة.
إرشادات للمتطوعين:
الفقرة التالية فيها تحذير أن تقع نشرات خطط التنصير بأيدي المسلمين لأن
في ذلك خطراً وتعطيلاً لبرامج نشر المسيحية بين المسلمين: مديرنا العام كثيراً ما
ذكرنا بأننا لسنا في نزهة ترفيهية، وإنما نحن في حالة حرب (! !) لهذا فنحن
نؤكد على أهمية الصلاة والدعاء وطلب العون من محبي ومؤيدي الصلاة، ولكي
يكون لصلاتنا معنى، فنحن بحاجة إلى الوقت والجهد وتحمل أعباء العالم الإسلامي، وإلى المعلومات الصحيحة الوافية.
إن كنت تريد الصلاة دورياً والحصول على نشرتنا الشهرية (آخر الأنباء)
فالرجاء إعلامنا بذلك، إن هذه النشرة تحتوي على معلومات سرية حول الصلاة،
ولأننا نعمل في بلاد معادية للمسيحية فهذه النشرة ترتدي طابعاً سرياً لا يجوز أن
يطلع عليه العوام، فلو وقعت هذه المعلومات في أيدٍ غير موثوقة لربما أدى ذلك إلى
عواقب وخيمة؛ لهذا السبب نطلب تزويدنا باسم كنيستك والقس الذي يديرها
لأسباب أمنية فقط! .
طبيعة عمل بعثات التنصير:
تسعى بعثات تنصير العالم العربي أولاً إلى تأسيس كنيسة (يسوع المسيح)
في العالمين البربري والعربي (! !) ولدينا فرق تعمل في صفوف المليوني مسلم
من المغرب العربي في فرنسا، ونبث برامج مراسلة وإذاعية لنشر الإنجيل على
أوسع نطاق ممكن انطلاقاً من مركزنا الإعلامي الموجه إلى العالم العربي.
التحدي:
نهدف - في هذه المرحلة تحديداً - إلى دخول 100 مدينة جديدة موزعة على
20 دولة حتى في عام 2000م، ونحن ننتظر بشوق وحماسة إمكانية نجاحنا في إيصال هذه البشارة إلى أمكنة لم يسبق أن وصلتها من قبل.
فرصة سانحة:
إن العالم الإسلامي هو أحد الأماكن التي تحظى بالقليل من الرعاية والكثير من
الإهمال من قبل المنصرين حالياً، فخمس سكان العالم اليوم (كذا) مسلمون، وهو
آخر الخطوط الدفاعية الأخيرة التي لابد للإنجيل من اختراقها، فإن كنت ترغب في
مواجهة التحدي وتوسيع الأفق، والتعرف على حاجات العالم الإسلامي الحالية فهلُمّ
للمشاركة في إحدى دوراتنا التدريبية الصيفية، اكتشف حقيقة الإسلام، تعرّف على
ما يؤمن المسلم، وعش معنا تلك اللحظات التي يشترك فيها النصراني مع المسلم
في الرسالة! .
دورات ومهام:
نحن نؤمن بأننا دخلنا في عهد ملىء بالانتصارات داخل العالم، لماذا لا
تشارك في إحدى الدورات التالية، ولا تشهد بنفسك صنع الرب (!) داخل العالم
الإسلامي؟
في مونتريال - تورنتو - فيلادلفيا:
دورات مكثفة حول المسائل الإسلامية والرد المسيحي عليها - تدريب على
الانفتاح المركّز على التنصير عن طريق الصداقة (4 أسابيع) .
في فرنسا: الخروج إلى مدينة فرنسية نسبة المغاربة فيها كبيرة (4 أسابيع) .
لندن: دراسات إسلامية والرد المسيحي (أسبوعان) .
في تونس: برنامج توجيهي وخروج، تدريبات في لندن، طِر إلى تونس
وتجول في أرجاء البلاد وزر مدناً كبيرة (4-6 أسابيع) .
الشرق الأوسط: برنامج توجيهي ومخيم في عمَّان، جولة في سورية ومصر، برنامج الخروج في لندن (6-8 أسابيع) .
المغرب: برنامج توجيهي وخروج في لندن، زيارة برية للمغرب عبر أوربا
(4-6 أسابيع) .
هذه دورات مكثفة تحتاج إلى صبر ومتابعة وينبغي أن يتصف راغبو
الالتحاق بها بالوعي وبتزكية موثوقة.
يشتمل البرنامج على خروج واتصال بالمسلمين وباقي نشاطات بعثات
التنصير في العالم العربي، السن المطلوبة: 18 فما فوق.
شبهات:
الفقرة التالية فقرة إرشادية لمن يقومون بالتنصير بين المسلمين وما يواجهونه
من صعوبة في الرد على فكرة الشرك والتثليث عند النصارى:
(لا إله إلا الله) يرددها المسلم العادي مراراً كل يوم في صلواته، وإعلاناً
عن عقيدته الإسلامية. والقرآن يعتبر أن أعظم الذنوب وأكبر الكبائر هو الإشراك
بالله. ومع أن القرآن يعترف في مواضع عدة منه بعبادة اليهود والنصارى لإله
واحد؛ فإنه يشير أيضاً إلى أن النصارى يعبدون أكثر من إله، أو أنهم يعبدون
عيسى المسيح من دون الله: [لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ] [المائدة:
73] ، [وإذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن
دُونِ اللَّهِ] [المائدة: 116] ، [لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] [المائدة: 17] .
يعتقد كثير من المسلمين أن النصارى مثلّثون يؤمنون بثلاثة آلهة، بدلاً من
حقيقة كوْنهم موحدين (!) يؤمنون بوجوه ثلاثة للإله الواحد. والثالوث هو: الرب،
مريم، عيسى أو: الرب، وعيسى، والروح القدس. وهكذا يعتقد المسلمون أن
النصارى يناقضون في عقيدتهم الركن الأساسي في الإسلام وهو توحيد الله الذي
ليس كمثله شيء، وهكذا يكونون قد سقطوا في وهدة الشرك وعبادة الأصنام.
فعلى المسيحي أن يسارع بطمأنة صديقه المسلم منذ بداية النقاش أن الكتاب
المقدس يشهد بأن الله واحد، وأنه الوحيد الجدير بالعبادة (سفر الخروج 20 /2-3)
و (مرقس 12/29) .
لابد لنا فعلاً من الاعتراف بأن الله واحد وأنه لا إله إلا هو حتى نكون عباداً
صالحين له، ولكن علينا أن نفهم كنهه وطبيعته وما صنعه من أجلنا تكرماً منه،
وما يطلب منا أن نكون، وأن نعمل على طاعته.
تعليق أخير:
بعد قراءة محتوى هذه النشرة هناك نقاط كثيرة يحسن الوقوف عندها،
ونكتفي ببعضها، موجهين الكلام إلى الذين قد يقعون تحت تأثير هؤلاء المنصرين
فيقفون أمامهم إما حيارى أو متعاطفين:
1 - يتهم هؤلاء المنصرون بعض المسلمين بالتعصب الديني وينسون أنفسهم، ونحن لا ندري بماذا نسمي عملهم هذا الذي يهدف إلى حث المسلمين على ترك
دينهم واتباع الإنجيل، ولئن دل هذا على شيء فإنه يدل على قلة الحياء والتلاعب
بالألفاظ، وهما من أهم صفات المنصرين في كل عصر.
2- أن دراسة هؤلاء لظروف المسلمين في العالم - وفي العالم العربي بشكل
خاص - تدفعنا إلى أن نكون نحن أولى بذلك ليكون فهمنا للواقع وتحليلنا للظروف
التي يمر بها المسلمون دافعاً للسيطرة على العقبات، وأساساً لمعالجة هذه الأزمات.
3 - أن أشد ما يثير حنق المنصرين وأتباعهم هو قبضة الإسلام الحديدية؛ لذلك هم يعملون جاهدين لانحلال هذه القبضة عن طريق تشكيك أجيال المسلمين
بدينهم، وزرع المفاهيم الغريبة بينهم.
4- يصلي هؤلاء من أجل تحقيق حرية الأديان في المغرب، وهم يقصدون
حرية النشاطات التنصيرية في المغرب أكثر مما هي عليه الآن، وهم لو كانوا
منصفين لأقروا بأن المغرب من أكثر الدول تسامحاً مع اليهود والنصارى.
ولأمرٍ ما تركز مراكز التنصير على المغرب العربي، فهو الجزء الأقرب إلى
أوربا وهو جسر العبور إلى باقي العالم العربي وإفريقية، وهو المكان المحتمل منه
الخطر على الحضارة الأوربية أكثر من غيره.
5 - ليس هناك أصدق ولا أبلغ من وصف حالة المنصرين مع المسلمين بأنها
" حالة حرب " كما ورد في (إرشادات للمتطوعين) وهذا الوصف كلمة حق ينطق
بها العدو من أجل أن يعرف كيده ويحتاط له الاحتياط كله.
أن من فضل الله على المسلمين أن جعل عقيدتهم سهلة واضحة، تتقبلها
الفطرة، وتأبى على! لأساليب الملتوية، والمداورات التشكيكية ولا غرابة في ذلك
فهي عقيدة الرسل جميعاً من لدن آدم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وأن
عقيدة التوحيد هي الأساس الذي يتحطم عليه كل ادعاء، وأي مسلم يقرأ محاولة
هؤلاء المنصرين إثبات أنهم يؤمنون بإله واحد - كإيمان المسلمين - يكتشف أنهم
يتلاعبون بالحقائق، ويسخرون من العقول. وهم إذا أرادوا من المسلم أن يتجاوز
عن وصف القرآن لهم بالكفر في أكثر من موضع فهم أمام أمرين:
أ- أن يشك المسلم بأن هذا القرآن - أو بعضه - كلام الله وهذا كفر صريح
لا يقدم عليه مسلم وهم يطمحون إلى ذلك طبعاً.
ب - أو أن يقولوا له: إن القرآن حين وصف من وصف من النصارى
بالكفر إنما وصف طائفة منهم انقضى أمرها ونحن لسنا منها في شيء، أما نحن
فنرفض التثليث ونؤمن بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد،
وعند ذلك ينتفي عنهم الشرك، وهم لا يثبتون ذلك طبعاً بل يصرون على التثليث
من حيث يوهمون أنهم يقولون بالتوحيد. والمسلم لا يرى فرقاً بين من يؤمن بثلاثة
آلهة وبين من يؤمن بثلاثة وجوه للإله الواحد! ! فكل ذلك كفر.
نعوذ بالله من همزات الشياطين ونفثات المبشرين.(14/73)
آلام وآمال
شعر: محمد أمين أبو بكر
الأرض ناحت والخطوب جسام ... لكننا بين الأنام نيام
في محنة بسطت سحائب بؤسها ... بكت العراق لهولها والشام
أننام والآفاق ترعد حولنا ... والريح تعصف والضياع طعام
والعقل يصرخ والضمائر تشتكي ... والموت في جل العيون ينام
في حقبة من عمرنا أضحى بها ... يخشى الضياء ويعشق الإظلام
أَوَ ما كفى نوماً يغال حياتنا ... وتموت في ظلماته الأحلام
البعد عن شمس الهداية مأتم ... دفنت مفاخرنا به الأقزام
لِمَ لا تعود إلى الضياء عقولنا ... ويضئ كل دروبنا الإسلام
لم لا يعود إلى الصدارة ركبنا ... يمضي وتخفق فوقه الأعلام
لنقيم أبراج الإباء بهمة ... في ركبها تتهلل الأعوام
فالمجد في ساح البطولة صنعة ... لا الغيد تصنعه ولا الأوهام
والظلم يلتهم الأنام بنابه ... ويضج فيها من لظاه ضرام
هاقد علت بين الديار نوازل ... يهتز منها الترب والآكام
النيل يزأر والفرات مضرَّج ... وضفاف كابل لفها الإجرام
والليل يعوي والزوابع لا تعي ... والقدس في وضح النهار تسام
من قاتل عشق الجريمة بعدما ... سخرت به وبجنده الأقوام
هبوا إلى العلياء إن تراثنا ... في كل أرض سيد وإمام
فإذا استقام على الهداية ركبنا ... يخضر فوق هضابنا الإقدام
وترف أغصان السعادة فوقنا ... وتزول من أصقاعنا الأسقام(14/81)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
باكستان ... بعد ضياء الحق
صرح مصدر أمريكى مسؤول أن يولي فورونتسوف نائب وزير الخارجية
السوفياتي حذر السفير الأمريكي في موسكو من أن السوفيات سيلقنون الرئيس
الباكستاني درساً إذا لم يوقف دعمه للمجاهدين الأفغان.
وأضاف المسؤول الأمريكى أننا اعتقدنا أنهم -أي السوفيات- سيقومون
ببعض التفجيرات في أهداف في باكستان، وقد ذهبنا إلى السوفيات وحذرناهم من
تفجير أي أهداف باكستانية وأكدنا لهم اهتمامنا العميق بباكستان، وردوا بقولهم:
إنهم لن يفجروا شيئاً ولكنهم سيلقنون ضياء الحق درساً [1] . كان ذلك حوالي 7/8/
1988.
وفي 15/8/1988 أعلن المسؤولون في الكرملين أن دور باكستان لم يعد من
الممكن احتماله أو التسامح به، وأن الاتحاد السوفياتي يحتفظ لنفسه بحق اتخاذ ما
يرى من الإجراءات ضد هذا الدور [2] .
وفي 17/8/1988 - أي بعد تهديد موسكو بيومين - مات الرئيس الباكستاني
ضياء الحق عندما انفجرت في الجو الطائرة التي كانت تقله من مطار باوالبور إلى
مطار روالبندي، وعثرت فرق البحث التابعة للقوات الجوية الباكستانية على جثث
الرئيس الباكستاني ورئيس أركانه، والسفير الأمريكى وآخرين من كبار الضباط
والمستشارين متناثرة فوق سهل رملي قريب من حدود باكستان مع الهند - أي في
إقليم البنجاب - ونقل ما تبقى من هذه الجثث بعد أن بذلوا جهوداً مضنية للوصول
إلى جثة الرئيس وتمييزها عن غيرها من الجثث، هكذا قالوا، ولربما وضعوا يد
هذا مع صدر أو رأس ذاك!
هكذا ينتهي مصير الإنسان في لحظات بينما هو يخطط لعشرات السنين،
وربما كان الرئيس مشغولاً قبل الموت بثوانٍ بالانتخابات والمعارضة وما يفعل بهذا
وما يدبر لذاك.
قال - تعالى -: [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا فِي
الأَرْحَامِ ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 34] .
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله - جل وعلا - بعلمها، ضياء الحق ما كان
يدري أنه سيموت في إقليم البنجاب، الأرض التي ولد ونشأ وترعرع فيها، ورحل
منها مع والديه وأهله عام 1947 أي بعد إنشاء باكستان.
ما كان يدري السفير الأمريكي الداهية المتمرس بشؤون العالم الإسلامي أن
طموحه سيقوده إلى هذه النهاية التعيسة، فلربما كان يخطط ليكون رئيساً للولايات
المتحدة الأمريكية ومؤهلاته تسمح له بمثل هذه الطموحات.
لقد ذهل الناس في باكستان لأن الرحلة كانت سرية ولم يعلن عنها، ومبلغ
علمهم أن رئيسهم في إسلام آباد، وها هو يموت في إقليم البنجاب، رئيسهم الذي
لمع نجمه، وعظم شأنه، وأثبت جدارة في الحكم ودهاءً وحنكة في السياسة.
كم نتمنى أن تنقل إلينا بصدق أحاسيس الطغاة [3] البغاة ومشاعرهم عندما
سمعوا هذا النبأ، لكأننا بهم يخشون من جدران منازلهم ومكاتبهم، وترتعد فرائصهم
من حرسهم وخدمهم، وتتضاعف دقات قلوبهم عندما يركبون حافلة أو طائرة، ألا
ما أتعس حياة الذين يعيشون في قلق واضطراب! ، وما أذل الذين يستبدون
وينكلون بالأبرياء الأحرار ليتلذذوا بالحكم وينعموا بالجاه والمال، ويتناسوا يوماً
يرجعون فيه إلى الله [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [آل عمران:
161] .
أما المؤمنون القانتون المتصدقون فقد أعدوا للموت عدته، وتزودوا بالتقوى
والعمل الصالح، ويعلمون حق العلم أنهم قد يموتون في كل يوم، وفي كل سفر،
ويتشوقون إلى تلك الحياة الأبدية السرمدية التي ليس فيها ظلم ولا قهر ولا طغيان،
ويرجون أن ينعم الله عليهم بجنان الخلد وملك لا يفنى.
ننتقل خطوة أخرى في هذا الموضوع الحساس، وقبل تحليلنا لأبعاد ضياء
الحق، وتحديد هوية القاتلين نريد تسجيل هذه الملحوظات المهمة:
أولاً: مسكين من يقرأ الصحف العربية وحدها ومنها يريد معرفة أوضاع
المسلمين في باكستان بعد مقتل ضياء الحق.
- سيجد فيها صحفيين ينعتون الرئيس الباكستاني الراحل بأقبح النعوت؛ لأنه
حاكم عسكري مستبد، مع أنهم يسبحون بحمد حكام عسكريين يحصون أنفاس
مواطنيهم، ولا يتورعون عن قتل كل من يقول لهم (لا) ، وضياء الحق سمح
بوجود معارضة، وكانت تشتمه وتتآمر ضده، كما سمح لهم بإصدار نشرات
وصحف ومراكز، وأكثر أحزاب المعارضة كانت تتحالف وتتكتل ضده، وما أباد
منطقة ولا مدينة ولا قرية، وإنما كان يواجههم بحنكته السياسية، فما بال هؤلاء
يرون القذى في عيون الناس ولا يرون الجذوع والأغصان في عيونهم؟ !
- سيجد فيها - أي في هذه الصحف - تجاهلاً مؤسفاً لأوضاع المسلمين في
باكستان بعد مقتل ضياء الحق، مع أن باكستان - وكما ذكرنا في مقالات سابقة -
من أكثر دول العالم اهتماماً وحماسة للقضايا العربية، بل ولا تستطيع أية حكومة
من الحكومات المتعاقبة فيها أن تتخذ موقفاً معادياً لمصالح العرب في فلسطين
المحتلة أو في غيرها، وهذه الصحف نفسها استنفرت أشد الاستنفار عند مقتل ... (أنديرا غاندي) رئيسة وزراء الهند السابقة، ووصفتها بأحسن الصفات وأرفعها، مع
أن العلاقات بين الهند وإسرائيل لم تعد سراً من الأسرار، لا نجد سبباً لمعظم
هذه الصحف إلا كرهها للشعوب الإسلامية، وحبها للشعوب العلمانية، ففي صحيفة
عربية يومية دولية تقرأ في عدد من أعدادها الحلقة رقم 20 عن تطورات معركة
الرئاسة اللبنانية، وموضوعات أخرى عن لبنان وطوائف لبنان، وقُطاع طرقها في
حين نشرت هذه الصحيفة خبراً لا يتجاوز بضعة أسطر عن مقتل الرئيس
الباكستاني، وأعقبته في اليوم الثاني بتحليل قصير نقلت فيه سموم وكالات الأنباء
وانتهى الأمر عند هذا الحد، وكأنها تتحدث عن الأرجنتين أو عن السويد [4] ، أفلا
تكون باكستان عندهم مثل لبنان التي لا نقلل من أهمية المؤامرات التي تدبر ضده؟
ثانياً: من المصادر التي اعتمدنا عليها الصحف الغربية وذلك لسببين:
السبب الأول: لأن ساسة الغرب في واشنطن ولندن وغيرهما على صلة وثيقة برئيس باكستان الراحل ومن سبقه ومن يأتي بعده. يعرفون أسرارهم ومخططاتهم بل ولهم دور مهم في رسم المخططات، والبلدان الغربية ديمقراطية، وبدهي أن تسرب هذه الأسرار - أو ما يسمى بأسرار - إلى كبريات الصحف الغربية لأنها تعمل مع أجهزة مخابرات هذه الدول. والحقيقة أن كبار السياسيين الغربيين يتعمدون نشرهذه الأخبار لإحراج من يسمونهم أصدقاء في دول العالم الثالث وللضغط عليهم.
نعم، إن زعماء الدول الغربية بل رجال المخابرات فيها يعلمون خفايا
ومخططات زعماء إسلام آباد وغير إسلام آباد، في حين لا يعلم كبار العلماء
والدعاة شيئاً ذا بال عن أمور هؤلاء الزعماء، وإذا سئلوا كانت الردود متناقضة،
يكذب آخرها أولها، ومن هؤلاء العلماء من تغلب عليه السطحية، ويصدق كل ما
يقال له.
والسبب الثانى: أن أهم ما تنشره الصحف العربية تقوم بترجمته عن
الصحف الغربية، وهذه - والله - هي البلية بعينها أن يحدثنا الغربيون من
النصارى واليهود عن خفايا أمورنا وأسرارنا، وبعد كل حدث يحدث في بلادنا تتجه
أنظارنا إلى صحفهم وأجهزة إعلامهم لنجد فيها الوثائق والأسرار. وإذا كان الأمر
كذلك فنرجو أن نوفق في غربلة ما ينشرون فنرد أكاذيبهم وما أكثرها، وننقل عنهم
ما يثبت عندنا بعد التمحيص والتثبت.
ثالثاً: تتحكم العواطف في عقول كثير من الإسلاميين في مثل هذه الظروف،
ولا يقبلون شيئاً يصدم عواطفهم وينكأ جراحهم، ولو كان حقاً ومدعوماً بالشواهد
والأدلة. ونحن لا ننكر أن لنا عواطف كما أن لهم عواطف، ونشعر بعظم المصيبة
التي وقعت في بلد نحبه ونحب أهله، ونعرف حجم الضرر الذي لحق بإخواننا
المجاهدين الأبطال من رجال الأفغان، ونعلم أن ضياء الحق أعطاهم عهداً بعد
التوقيع على معاهدة جنيف بأنه لن يتخلى عنهم.. نعرف هذا وغيره لكننا سنقول
في هذا التحليل ما نعتقد أنه حق، ولو كان يصدم عواطف كثير من الناس، والذي
نرجوه من الذين يخالفوننا أن ينظروا في الأدلة التي اعتمدنا عليها، وإن أصروا
بعد هذا على موقفهم فعليهم أن يتذكروا أن هذه المسألة من المسائل التي يجوز فيها
الاجتهاد واختلاف وجهات النظر.
وبعد ذكر هذه الملحوظات ننتقل إلى خطوة أخرى ينتظرها القارئ بفارغ
الصبر، وطبيعة الموضوع تفرض علينا تقسيمه إلى الفقرات التالية:
أولاً - نبذة عن حياة ضياء الحق.
ثانياً - المتهمون بقتل ضياء الحق.
ثالثاً - الدور الأمريكي في باكستان.
رابعاً - باكستان بعد ضياء الحق.
أولاً - نبذة عن حياة ضياء الحق:
ولد ضياء الحق في 12/8/ 1924 في مدينة (جولاندار) في مقاطعة
البنجاب، وتلقى تعليمه في كلية (سانت ستيفنز) في دلهي والتحق بعدئذ بالجيش
البريطاني في الهند، وأصبح ضابطاً فيه سنة 1945 - سلاح الفرسان - وفي عام
1948 رحل مع أسرته إلى كراتشي في دولة باكستان الجديدة وأصبح ضابطاً في
جيشها، وكان يعرف عنه أنه ضابط هادئ منضبط، وليس له طموحات سياسية،
وكان يحب العسكرية كما كان محبوباً بين زملائه ومرؤوسيه.
وفي باكستان واصل علومه العسكرية، وتخرج من كلية الأركان عام 1955
ثم عاد ليعمل مدرساً في الكلية المذكورة.
وفي 1965 عام شارك في الحرب التي نشبت بين باكستان والهند، وفي عام
1969 سافر للأردن وعمل مستشاراً عسكرياً، ومن الجدير بالذكر أن علاقات
الأردن مع باكستان متميزة، وشهد في الأردن معارك أيلول، وفي عام 1971
شارك في الحرب الهندية الباكستانية التي انتهت بانفصال الجزء الشرقي من
باكستان عن الجزء الغربي، وسميت هذه الدولة (بنغلاديش) .
وفي عام 1977م اتخذ الرئيس الباكستاني السابق قراراً بترقية ضياء الحق
إلى رتبة جنرال، وعينه قائداً للجيش، وتجاوز - بوتو - جنرالات آخرين كانوا
هم أقدم من ضياء الحق، وذلك بسبب ثقة بوتو به واطمئنانه إليه.
وفي عام 1977م راح بوتو ينكل بخصومه وقاوم تطبيق أحكام الشريعة
الإسلامية، وعمل على نشر الأفكار العلمانية، وثقافة الغرب وأخلاقياته ومفاسده،
فعارضته الجماعات الإسلامية، وأدت هذه المعارضة إلى وقوع قلاقل ... واضطرابات، انتهت باستيلاء الجيش على زمام الأمور في البلاد، وكان ضياء الحق قائد الانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام بوتو وقدمه إلى محاكمة، وحكمت عليه المحكمة بالإعدام، وتم إعدامه فعلاً؛ لأنه دبر جريمة قتل أحد معارضيه.
وشكل ضياء الحق حكومة شاركت فيها الجماعات الإسلامية مهمتها تطبيق
أحكام الشريعة الإسلامية غير أنه تراجع فيما بعد أمام معارضة أمريكا والدول
الغربية، وشركائه العسكريين.
وفي عام 1979م وقف ضياء الحق إلى جانب المجاهدين الأفغان في حربهم
ضد الغزاة البلاشفة السوفيات، ومهما كان هدفه من تأييد المسلمين الأفغان -
والنيات لا يعلمها إلا علاَّم الغيوب - فقد اكتسب شهرة عالمية، وتعززت علاقاته
مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتدفق المال والسلاح على باكستان بعد فتور في
العلاقات بسبب المفاعل النووي وغيره.
وفي عام 1981 لعب دوراً مهماً في اللجنة التي شكلها مؤتمر القمة الإسلامي
لتسوية النزاع بين العراق وإيران، وفشلت اللجنة في مهمتها أمام تعنت إيران
وإصرارها على استمرار الحرب، واعتبرت العراق ضياء الحق طرفاً في النزاع
وليس وسيطاً، واتهمته بالانحياز إلى جانب إيران.
توفي في 17/8/1988 بعد سقوط طائرته وترك وراءه أرملة وولدين وثلاث
بنات.
ثانياً - المتهمون بقتل ضياء الحق:
من حق القراء علينا أن نطلعهم على أهم ما نشرته الصحف ووكالات الأنباء
عن مقتل الرئيس الباكستاني، وبعد هذا العرض سنقول رأينا ونبين موقفنا والقرائن
التي اعتمدنا عليها.
وخلاصة ما نُشر - فيما اطلعنا عليه - ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- السوفيات والهنود.
2 - أتباع إيران.
3 - الجيش الباكستاني.
أولاً: السوفيات والهنود:
قالت صحيفة (أوبزرفر) - في عددها الصادر بتاريخ 28/8/1988 -:
أصبحت السلطات الباكستانية الآن مقتنعة بمسؤولية جهاز المخابرات الهندية عن
تحطم طائرة ضياء الحق. وفشل فريق الخبراء الأمريكي الذي تولى مهام فحص
حطام الطائرة في الوصول إلى معرفة سبب الحادث. غير أن راجيف غاندي
رئيس وزراء الهند أعلن - في أعقاب مقتل الرئيس ضياء الحق - أن حكومته غير
مسؤولة عن الحادث، كما أعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام في جميع أنحاء الهند، إلا أن
مسؤولين باكستانيين على مستوى رفيع لاحظوا باهتمام وصول 300 من رجال
جناح الأبحاث والتحليل الهندي - أي جهاز المخابرات المسؤول عن القضايا
الخارجية - إلى كابول قبل حادث الطائرة. وتعتقد باكستان بأن هناك تحالفاً بين
المخابرات الهندية وجهاز المخابرات الأفغاني (خاد) ، وجهاز المخابرات السوفياتي
(كيه. جي. بي.) ، ويقال إن جنرالاً سوفياتياً مسؤولاً عن التنسيق بين هذه
الأجهزة الثلاثة.
ومن المؤكد أن معظم جهود وعمليات جهاز المخابرات الهندي موجهة مباشرة
ضد باكستان، ويعترف المسؤولون في إسلام آباد باختراق جهاز المخابرات الهندي
لقواتها المسلحة على مستويات منخفضة، ويستفيد جهاز المخابرات السوفياتي
ونظيره الأفغاني من هذا الاختراق في عملياتهم المشتركة ضد باكستان.
وجدير بالذكر أنه في صبيحة اليوم الذي تحطمت فيه طائرة الرئيس ضياء
الحق - أطلق (14) صاروخاً على المجمع النفطي الكبير في ميناء كراتشي
المعروف باسم كماري ولكن هذه الصواريخ التي يتهم الباكستانيون الهند بإطلاقها -
لم تصب أهدافها، ولو أصابت أهدافها لاشتعل نصف مدينة كراتشي. وتؤكد
تقارير الصحف الباكستانية أن طائرتين عموديتين تابعتين للجيش الأفغاني هبطتا
عن طريق الخطأ في قضاء خرّم الواقع في شمال غرب باكستان كانتا تقلان ضباطاً
سوفيات وهنوداً، ويعتبر وجود الضابط الهندي تأكيداً آخر على التعاون بين دلهي
وكابل وموسكو.
وفي إقليم السند الجنوبي من باكستان - الذي يشهد حالة من الاضطرابات -
تشير أصابع الاتهام إلى عملاء جهاز المخابرات الهندي بتمويل المجموعة المحلية
المنشقة. ويقال إن المساعدات الهندية لهذه المجموعات الانشقاقية هي رد على
الدعم الباكستاني المزعوم للمتطرفين السيخ الذين يطالبون بالاستقلال في إقليم
البنجاب في الهند، ورغم أن دلهى هي كما هو متوقع الطرف الذي تلقي عليه إسلام
آباد مسؤولية معظم المشاكل التي تواجهها إلا أنه مما لا شك فيه أن الهند ونظام
كابول - المدعوم من جانب السوفيات - يعملان معاً ضد المجاهدين الأفغان.
فثمة مصلحة مشتركة تجمع الهند وأفغانستان في الحيلولة دون وصول
المجاهدين الأفغان الذين كانوا يحظون بدعم ومساندة الرئيس ضياء الحق إلى
السلطة في أفغانستان بعد إكمال الانسحاب السوفياتي. وكانت نية الرئيس ضياء
الحق المعلنة أن يحتفل بالانتصار الأخير للمجاهدين، وذلك بأداء الصلاة في
المسجد المركزي في العاصمة كابول. وكانت الهند قلقة من أن انتصار المجاهدين
سوف يرجح ميزان القوى ضد مصلحتها في المنطقة.
- ونقلنا في طليعة هذا التحليل ما نشرته (صنداي تايمز) - في عددها
الصادر بتاريخ 28/8/1988 - عن تهديدات المسؤولين السوفيات في موسكو
العلنية لضياء الحق ونظامه، وأضافت الصحيفة:
(وكانت موسكو قد تعرضت لنكسة كبيرة في 13/8/1988 عندما دمر
صاروخان أطلقهما المجاهدون أكداساً هائلة من العتاد خارج مدينة كابول، وقالت
مصادر رسمية أمريكية أن 500 من الروس سقطوا قتلى فيما جرح أكثر من 1000
آخرين، كما دمرت كميات من الأسلحة التابعة للحكومة كانت كافية لمدة سنة.
وصدرت عدة تصريحات لمسؤولين حكوميين - منهم رئيس الوزراء وغيره
- تشير إلى أن أجهزة الأمن الباكستانية كانت لديها معلومات تفيد أن أعداء ضياء
الحق من. السوفيات وعملائهم في كابول وحلفائهم في دلهي يخططون لقتل ضياء
الحق وأن الأخير أجاب عندما أخبروه: (الموت والحياة بيد الله) .
ثانياً - دور أتباع إيران:
هناك من يقول: إن أتباع إيران وراء تنفيذ هذه الجريمة، ويذكرون شواهد
على ذلك نوجزها فيما يلي:
1- صباح 5/8/1988 تم قتل المدعو عارف حسين الحسيني رئيس حركة
تطبيق الفقه الجعفري في باكستان، ونفذ القاتل عمله بواسطة مسدس كاتم للصوت،
وألقى المسدس فوق الجثة وفر بعيداً ولم يعثر له على أي أثر، واتهم أنصاره
الحكومة بالقتل في بيان نشرته صحيفة نواي وقت بالأردو بتاريخ 7/8/1988
وتعهدوا بالثأر له، رغم اهتمام ضياء الحق الشديد بمقتل زعيم الشيعة، وكان أحد
الذين صلوا على الجنازة. كان ذلك قبل مقتل ضياء الحق بعشرة أيام.
2 - ضياء الحق كان متهماً من قِبَل العراق بانحيازه لإيران، وثبت أنه قدم
لهم مساعدات كثيرة، وغض الطرف عن نشاطهم في باكستان، ومع ذلك
فمؤامرات إيران ضده لم تنقطع، وكانوا يقاومون مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية
بمختلف وسائلهم وطرقهم المعروفة، ولا يتورعون عن التعاون مع أعداء الإسلام
داخل باكستان وخارجها، ولهذا فمن يراقب تحركاتهم خلال السنتين الماضيتين يعلم
أن صِلاتهم مع الهند من جهة ومع الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى كانت قوية جداً، وكانوا يتعاونون مع هاتين الدولتين ضد المسلمين السنة في باكستان. وأفغانستان.
3 - قالت صحيفة (صنداي تايمز) - في عددها الصادر بتاريخ 21/8/
1988:
( ... والشيعة في طليعة الذين يتشوقون لسماع نبأ موت ضياء الحق،
ويكنُّون له كل كراهية لعلاقاته مع أمريكا [5] ، ولتطبيقه أحكام الشريعة الإسلامية
السنية، ويعتقدون أن ضياء الحق كان وراء اغتيال عارف الحسيني - زعيم
طائفتهم - في منطقة قرب بيشاور، وأقسم أتباعه على الأخذ بالثأر، كما أنهم
احتفلوا حين سماعهم نبأ مقتل ضياء الحق) .
وقالت صحيفه " جارديان " - في عددها الصادر بتاريخ 19/8/1988 -:
(وأقام الشيعة احتفالات احتفاءً بمقتل ضياء الحق في مختلف المناطق التي
يكثرون فيها، ومنها براشنار على الحدود الباكستانية الأفغانية وقد اعتقلت الشرطة
الباكستانية مائة منهم لإطلاقهم الأعيرة النارية في الهواء تعبيراً عن فرحتهم، وفي
مدينة مجاورة خرجت جموع السنة في موكب ثأري) .
وذكرت " فايننشيال تايمز " - في عددها الصادر بتاريخ 19/8/1988 -:
أن المتشددين الشيعة هم المتهمون بمقتل ضياء الحق.
4 - ذكرنا في المقال السابق - (باكستان وتحكيم الشريعة الإسلامية) - أن
لأتباع إيران ثقلاً في الجيش - رغم أن نسبتهم من عدد السكان لا تتجاوز 5% وهم
يزعمون أنها أضعاف هذه النسبة - وأشارت " جارديان " - الصادرة بتاريخ 24/8
/1988م إلى نفوذ الشيعة في سلاح الجو فقالت:
(يجري التحقيق مع أفراد من الأقلية الشيعية يعملون في سلاح الجو
الباكستاني، متهمين بحادث إسقاط الطائرة، ويقول دبلوماسى رفيع المستوى: إن
فريق الخبراء الأمريكي الباكستاني المشترك قد أخبر أن عضواً في طاقم القيادة في
الطائرة الرئاسية كان شيعياً متحمساً وناقماً بسبب اغتيال زعيم الطائفة الشيعية الذي
تم في 7/8/1988 ويبحث الفريق الآن في احتمال قيام ذلك الضابط - عضو طاقم
القيادة - بوضع قنبلة على متن الطائرة، أو قيام أحد غيره بإحداث أمر ما أدى إلى
خروج الطائرة عن نطاق السيطرة، وحسبما يقوله مصدر دبلوماسى آخر فإن فريق
التحقيق مازال يحقق في النظرية القائلة: إن عمال الشيعة على أرض مطار
باوالبور قاموا بتهريب مواد متفجرة إلى الطائرة، ويصر السياسيون الباكستانيون
أن سقوط الطائرة جاء نتيجة لعمل تخريبي، وأنهم لا يستطيعون الإفصاح عن
هوية الفاعل) .
وإذن فقائد الطائرة - أو عضو في طاقم قيادة الطائرة الرئاسية من الشيعة
المتحمسين لإيران - ووزير دفاع آخر حكومة باكستانية أمر بتشكيلها ضياء الحق -
محمود هارون - من شيعة إيران، فماذا بقي من أسرار أجهزة أمن ضياء الحق؟ ... ومن قبل مر ذكر كثافة وجودهم في سلاح الجو هذا الذي عرفنا - على الرغم من
اطّلاعنا المتواضع - وما لم نعرفه أكثر، والأمر لله من قبل ومن بعد.
ثالثاً - الجيش الباكستاني:
قالت صحيفة (جارديان) - في عددها الصادر بتاريخ 19/8/1988 م - ما يلي:
(عندما كان المحققون يفحصون حطام الطائرة سي: 135 التي تحطمت يوم 7 /8/1988 والتي كانت تقل ضياء الحق، كانت أصابع الاتهام تتجه إلى الجيش
الباكستاني، وفي خضم عدد من النظريات التي تحاول تفسير لغز الحادث برده إلى
قوى خارجية غير مسماة، وإلى سياسيين متعصبين، يرى المحللون أن البحث عن
القتلة يجب أن يبدأ بين أوساط الجيش ما لم تتم الإجابة عن الأسئلة الحاسمة التي
تبين الظروف التي قتل بها ضياء الحق. وضياء الحق كان لا يسافر في العادة إلا
في وسط احتياطات أمن صارمة، وكان يعتمد في ذلك بشدة على الجيش، كما أنه
كان يصطحب معه على طائرته - طبعاً ليس حباً في الصحبة - فريق من التقنيين
الذين يقومون بخدمة وصيانة الطائرات التي يسافر بها، ويشرف على هذه
الترتيبات المخابرات العسكرية المعروفة باليقظة والحذر لاسيما بعد محاولة الاغتيال
التي جرت في عام، وهناك أجهزة أمنية أخرى تشارك المخابرات العسكرية دورها. وكان ضياء الحق ينتقل - يوم 17/8/1988- من قاعدة شديدة الحراسة قرب
بهاوالبور إلى أخرى في روالبندي، والأهم من ذلك أن رحلته غير معلن عنها
وغاية في السرية، وكان من بين ما شملته مشاهدة عرض سري لدبابة (M1)
الأمريكية، ويقول المحللون طالما أنه من الصعب الاعتقاد أنه بمقدور المخابرات
الأفغانية (خاد) أو غيرها جمع معلومات كافية عن تنقلات ضياء الحق بحيث تمكنهم
من وضع قنبلة أو منصة إطلاق صواريخ في طريق الطائرة، فإنه من المرجح أن
يكون ضباط غير موالين للنظام من المخابرات العسكرية قد حصلوا على معلومات
عن رحلات ضياء الحق وتحركاته. والجيش الباكستاني حافل سجله بمثل هذه
المؤامرات. ونظراً لقسوة ضياء الحق مع خصومه، فقد يكون الضباط الكبار الذين
يمكن الاعتماد عليهم أصبحوا أقل من قليل. وفي المرتبة التي تلي ضياء الحق
ورجاله الكبار نجد ضباطاً منقسمين على أنفسهم، وبعضهم يتعاطف مع (بي نظير
بوتو) ، كما أن كثيراً منهم ذوو ثقافة غربية ولهذا يعارضون توجهات ضياء
الحق الإسلامية، وعلى مختلف اتجاهات الضباط فمعظمهم يعارضون تورط
باكستان في أفغانستان) .
وقالت مصادر رسمية باكستانية: (إن إمكانية الوصول إلى الطائرة كانت
مقصورة على شخصيات عسكرية رفيعة المستوى. ويستبعد الخبراء العسكريون أن
يكون سقوط الطائرة بسبب عطل تقني؛ لأن الطائرة سي 130 من أكثر طائرات
النقل استقراراً في العالم ويمكن أن تحلق بمحرك واحد وأن تهبط في أي مكان يتسع
لها، وهناك متسع في مكان الحادث، ولو كان الأمر ناتجاً عن عطل تقني لكان
الطيار قد اتصل بالراديو ثم حاول الهبوط ولكنه لم يفعل) .
وكالات الأنباء 18/8
وذكرت وكالات الأنباء م عن مصادر رسمية أن السلطات الباكستانية حققت
مع 500 شخص بعد أن ألقت القبض عليهم، وذلك في مدينتي باوالبور ومولتان
الشرقيتين، وفي قاعدة (تشاكالا) الجوية القريبة من إسلام آباد، وفي مدينة لاهور
الوسطى، كما ألقت القبض على مسؤولي الأمن وعدد من عمال الأمتعة في مطار
روالبندي الذي أقلعت منه الطائرة. وذكرت وكالة رويتر - في عددها الصادر
بتاريخ 24/8 نقلاً عن ضابط متقاعد من الجيش -قال: إن المحققين يستجوبون
55 جندياً من سرية المدفعية الثانية والعشرين كانوا يتولون حراسة الطائرة،
وعاملين في سلاح الجو لم يحدد عددهم بخدمة الطائرة وصيانتها خلال وجودها في
باوالبور وطلب الضابط المتقاعد وهو برتبة ميجور كان يخدم سابقاً في السرية
المذكور عدم الكشف عن اسمه.
ونقلت وكالات الأنباء الصادرة بتاريخ 21/8/1988 عن الرئيس الباكستاني
بالوكالة قوله:
(إن العدو اخترق الدفاع للبلاد مضيفاً أن لبلاده أعداءً في الداخل والخارج
يمكنهم تنسيق عملهم) .
ومن يتصفح أسماء الذين قتلوا مع ضياء الحق يتعجب من قوة اطلاع الذين
نفذوها. لقد قتل في هذه المجزرة رئيس أركان الجيش الجنرال أخطر عبد الرحمن الذي كان الساعد الأيمن لضياء الحق، وكان يتولى مسؤولية الاتصال مع المجاهدين
الأفغان، ويدربهم على الأسلحة التي تقدمها لهم الولايات المتحدة الأمريكية، وقتل
معه تسعة من كبار الضباط المعروفين بولائهم لضياء الحق، وكانوا أصحاب القرار
في الجيش، وكأن الذين اخترقوا الجيش الباكستاني هم الذين خططوا لهذه الرحلة
ليتخلصوا من جميع الذين يزعجونهم ويقلقونهم، ولينفردوا بعدهم بشؤون الحكم.
وقالت صحيفة (هانغ) - الناطقة بالأردو - إن بعض الأشخاص في المطار
دسوا مادة قابلة للاحتراق في الطائرة، وإذا ما صح هذا الافتراض فأجهزة ... الأمن تريد معرفة أسباب إخفاق معدات الكشف في المطار في معرفة هذه ... المادة.
والذي نراه: أن جيش ضياء الحق هو الذي قتل ضياء الحق، فلو قبلنا
الرواية التي تقول: إن السوفيات وعملاءهم في كابول هم الذين دبروا هذا الحادث
- لكان من مستلزمات قبولنا لها القول: إنهم - أي السوفيات - استخدموا عملاء
لهم في المخابرات أو في سلاح الجو الباكستاني في تنفيذ هذه المهمة، وقُلْ مثل ذلك
عن الهنود والإيرانيين، وهذا الذي حذرنا منه في مقالنا السابق، وهذه هي سيرة
قادة جيوشنا المعاصرة.
وكنا نعلم أن الجهات المسؤولة في إسلام آباد وواشنطن لن تعلن عن هوية
المسؤولين عن هذه الجريمة؛ فالولايات المتحدة الأمريكية لا تريد مواجهة عسكرية
مع السوفيات أو مع الهند أو حتى مع إيران، ولو خسرت رجلاً من أبرز سفرائها
في الخارج، وهذا القول يفسر لنا الخبر التالي:
- (صرح مسؤولون باكستانيون في الأسبوع الأول - الذي أعقب تحطم
الطائرة أي من 22 إلى 27/8 - أن الولايات المتحدة حريصة على عدم كشف
حقيقة تورط الروس في الحادث) . ونضيف: (وكذلك فإنها حريصة على عدم
كشف تورط الهند وإيران) .
- وذكرت وكالات الأنباء في 20/8 أن السلطات الباكستانية منعت
الصحافيين - وحتى بعض المسؤولين الحكوميين - من الوصول إلى المنطقة التي
تحطمت فيها الطائرة. وهذا المنع يدل على أنهم لا يريدون الإعلان عن نتائج
التحقيق منذ البداية.
- ونشرت صحيفة (صنداي تايمز) - في عددها الصادر بتاريخ 11/9/
1988 - الخبر التالي: بات المحققون الباكستانيون مقتنعين أن طائرة ضياء
الحق تحطمت بسبب انفجار قنبلة فيها، وتقول المصادر الرسمية في إسلام آباد أن
ست فرق تحقيق باكستانية وأمريكية توصلت إلى شبه إجماع على أن انفجار قنبلة
كان السبب في سقوط الطائرة وتحطمها.
ويخشى المسؤولون أن يكون الإفصاح عن تورط تخريبي داخلي سبباً في
تقويض الاستقرار السياسي الهش في باكستان؛ ونتيجة لذلك يتوقع المسؤولون
احتمال بقاء نتائج التحقيق سراً دائماً من أسرار الدولة.
وقال مسؤولون باكستانيون: إن مما توصل إليه فريق التحقيق التابع لشركة
لوكهيد - المصنِّعة للطائرة - هو أن الطائرة لم تسقط بسبب عطل ميكانيكى، أما
المحققون العسكريون فهم مقتنعون بأن الأدلة القوية تشير إلى أن الطيار كان قد فقد
السيطرة بعد وقوع انفجار منخفض القوة بالقرب من غرفة قيادة الطائرة. وبشكل
استثنائي فقد اقتصرت التحقيقات على شخصيات عسكرية، وتقول هذه المصادر إن
نتائج التحقيقات تقدم مباشرة إلى الجنرال ميرزا إسلام بيك المسؤول عن عمليات
التحقيق.
وجملة القول فإنهم يخشون من إعلان نتائج التحقيق، ولو كان المتورطون
حزباً أو جماعة من جماعات المعارضة، وكان أصحاب القرار من العسكريين
والمدنيين المسؤولين من أصحاب ضياء الحق ومحبيه لأعلنوا النتائج وكانت هذه
هي فرصتهم للبطش بالمعارضة أو بركن من أركان المعارضة وتعريتها أمام الشعب.
ولو كان المتورطون هم السوفيات والهنود، وكان أصحاب القرار في باكستان
صادقين في قولهم بأنهم لن يغيروا أو يبدلوا من سياسة باكستان الداخلية أو الخارجية
لوجب عليهم الإعلان عن نتائج التحقيق ليحرجوا هاتين الدولتين، ويكسبوا عطف
وتأييد المناهضين للإجرام وسفك الدماء.
فلم يبقَ أمامنا إلا احتمال واحد: أن يكون أتباع إيران هم المدبرين لهذه
الجريمة، وفي هذه الحالة يصعب أن يعلن المسؤولون نتائج التحقيق؛ لأنهم في
هذه الحالة يخشون حربا طائفية في البلاد، وهم لا يمتلكون الجرأة، ولا يريدون أن
يكون مصيرهم كمصير ضياء الحق، والأدلة التي ذكرناها - فيما مضى - على
ترجيح هذا الاحتمال ليست ضعيفة، أما أن الجيش هو الذي قتل ضياء الحق فهذا
مما نجزم به.
عودة إلى تصريحات رئيس الدولة بالوكالة:
نقلت صحيفة (أوبزرفر) في عددها الصادر 28/8 - عن مسؤولين
باكستانيين في إسلام آباد - اعترافهم باختراق العدو لقواتهم المسلحة.
ونقلت وكالات الأنباء 21/8 - عن الرئيس بالوكالة - قوله: (إن العدو
اخترق الدفاع الداخلي للبلاد أن لبلاده أعداءً في الداخل والخارج يمكنهم تنسيق
عملهم) .
وهذا التصريح لابد أن يُفهم ضمن الأُطُر التالية:
1- جاء في ظروف بالغة الحساسية، لا يستطيع المرء فيها أن يكبت
عواطفه أو يكبح مشاعره، جاء بعد مقتل ضياء الحق بأربعة أيام.
2 - طبيعة الرئيس الجديد متحفظ، يحب أن يسمع ولا يحب أن يتكلم -
سنذكر في موضع آخر أهم صفاته - ويعزف عن إصدار التصريحات والبيانات.
3 - صدر هذا التصريح عن رئيس باكستان بالوكالة وهذا يعني أنه يعكس
أكداساً من التقارير الأمنية، ويعبر عن وجهة نظر لجنة التحقيق الباكستانية، ويعبر
أيضاً عن موقف كبار القادة من العسكريين والمدنيين، وبسبب أهمية هذا التصريح
وخطورته نريد أن يعرف كل مسلم في أي مكان من المعمورة ما يلي:
- أن اختراق الأعداء في الداخل والخارج لم يبدأ في 17/8 يوم سقطت
الطائرة وقتل من كان على متنها، ولا قبل هذا التاريخ بعام أو عامين، ولم يكن
قاصراً هذا الاختراق على حرب عام التي انتهت بانفصال باكستان الشرقية عن
الغربية.
- لقد بدأ هذا الاختراق عندما تولى الإنكليز أمر تأسيس هذا الجيش عام
1947، وتولوا تدريب ضباطه وتعليمهم وتثقيفهم، ولم يكن هذا التدريب - في
العواصم الغربية - على السلاح بقدر ما كان على الأفكار والمجون والخلاعة
والفجور.
واستمر هذا الاختراق عندما أُسند إلى الأمريكان أمر الإشراف على هذا
الجيش، فكانوا أقل ذكاءً ودهاءً وشجاعة من الإنكليز، ولم يرضِهم ما كان يرضى
به الإنكليز، وأصبح خبراؤهم ومستشاروهم القادة الفعليين لهذا الجيش.
- وبدأ هذا الاختراق عندما خالف القائمون عليه من الباكستانيين تعاليم دينهم
الحنيف ألا نستعين على مشرك بمشرك، وفتحوا الباب على مصراعيه أمام
الباطنيين والقاديانيين والشيوعيين وغيرهم وغيرهم من الملاحدة الفاسقين، وأصبح
هؤلاء قادة في البر والبحر والجو.
ومن يتصفح تاريخنا الإسلامي يعلم أن هؤلاء لم ولن يكونوا مخلصين
لباكستان وغير باكستان من بلدان العالم الإسلامي، ولن يكفوا عن الكيد والاختراق
والتآمر، ولن يتورعوا عن التعاون مع الشيطان وحزب الشيطان ضد المسلمين
الذين يلتزمون منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - وقاعدتهم المعروفة مَن ليس
معنا فهو ضدنا. وسوف يستمر هذا الاختراق والتآمر مادام لهؤلاء وجود في
جيوشنا.
- ومهما كانت الظروف التي دعت الرئيس الجديد بالوكالة إلى الإدلاء بهذا
التصريح فقد كان صريحاً وجريئاً، وغيره لا يعترف بهذه الحقيقة، ولا يسمح لأحد
أن ينطق بها، أو يحذر من عواقبها على الرغم من وجود هذه الاختراقات وتكرار
الهزائم بسببها، ففي أعقاب هزيمة 1967 لم يقل قائد من قادة دول المواجهة مع
إسرائيل: لقد استطاع العدو اختراق جيشنا، مع أن عجائز هذا البلد تتحدث عن
هذه الاختراقات، ونشرت وثائق عجيبة في العالم عن هذه الاختراقات، وبعض
هذه الوثائق نشرها الرفاق الذين كانوا يشاركون في صنع القرار أيام الهزيمة.
نشروها بعد أن انقلب الود إلى ضده. ووثائق أخرى نشرها كوهين وباروخ نادل
وغيرهما من جواسيس " إسرائيل " الذين زرعتهم في بلادنا.
أما الذين كانوا أسرع من الغزلان في الهزيمة، ولم يطلقوا رصاصة واحدة
ضد العدو، فلقد امتلأت صدورهم وظهورهم وسواعدهم أوسمة وحازوا - فيما بعد
- أعلى المناصب.
ليسأل كل مسلم نفسه:
هل يقبل الاتحاد السوفياتي مسلمين ملتزمين بالإسلام كضباط، بل كجنود في
جيشه ومخابراته؟ !
وهل يقبل اليهود في فلسطين المحتلة مسلماً في جيشه. هذه فلسطين المحتلة
فاسألوا أهلها؟ ! . وقل مثل ذلك عن الهندوس وغيرهم وغيرهم. بل أخبرونا بالله
عليكم عن مسلم سني - ولو كان فاسداً منافقاً - تولى قيادة لواء من ألوية جيش
الخميني أو تولى وزارة من الوزارات في حكوماته المتعاقبة؟ !
فإلى متى يقبل المسلمون أن يكون النصارى والباطنيون والشيوعيون
والملاحدة ضباطاً وقادة في جيوشنا؟ !
وإلى متى نعيش غرباء في أوطاننا؟ !
تنويه
تتمة هذا الموضوع - " باكستان بعد ضياء الحق " - لن تُنشر في أعداد قادمة من " البيان "، وستنشر - مع غيرها من الموضوعات المهمة التي سبق نشرها في
" البيان " - في كتاب مستقل وسيكون بين أيدي القراء في وقت قريب جداً إن شاء
الله.
__________
(1) صنداي تلغراف 28/8/1988.
(2) تايمز 19/8/1988.
(3) ليس في قولنا هذا تعريض لضياء الحق (رحمه الله) .
(4) نستثني مجلات عربية إسلامية - على ندرتها - اهتمت بشؤون باكستان ونسأل الله أن تزداد كماً وكيفاً.
(5) كلهم ذاك الرجل.(14/84)
من ينقذ السودان؟
بالإضافة إلى ما عاناه السودان من الصعوبات المتواصلة، وما يلاقيه من
مختلف المعوقات التي تعوق نموه وتقدمه - فإن كارثة الفيضانات الأخيرة جاءت
لتضيف عبئاً جديداً على كاهل هذا البلد العربي المسلم.
وهكذا أضيفت إلى ما سبقها من الحكم الديكتاتوري، والجفاف الطويل،
والحرب الأهلية ائتي تغذيها القوى الخارجية التي لا يسرها هدوء العرب، ولا
استقرار المسلمين.
فقد داهمت السيول والأمطار السودان فشردت عشرات الآلاف من السكان
وجعلت نهر النيل يفيض ليغرق المساكن والمدخرات، ويدمر المحاصيل الزراعية
ويشل حركة معظم البلد تقريباً.
إن ما يزيد المأساة هو أن هذا الطوفان أضاف إلى معاناة الأعداد الكبيرة من
السكان الذين يسكنون في ضواحي المدن في بيوت متواضعة، وفي أحوال يصعب
وصفها، وأكثرهم من اللاجئين الهاربين من مسرح الحرب الأهلية الدائرة والتي
يشب نارها الصليبيون والذين يدعمونهم من أعداء السودان الخارجيين.
والدروس المستفادة من هذه الكارثة كثيرة منها:
1- إن مساعدات العالم الغني لم تكن كما هو منتظر، وهذا واضح من
اعترافات المسؤولين السودانيين، ومن مقارنة المعونات التي قدمتها هذه الدول بما
قدمته بعض الدول العربية والإسلامية. مع أن هذه الدول الغنية عليها التزام أدبي
بمساعدة الدول الفقيرة أو التي تتعرض للكوارث التي لا يد لها فيها، وهذا يوضح
انحياز هذه الدول وضعف أخلاقياتها.
2- لقد انتهزت هذه الدول الغنية (الأوربية والأمريكية) هذه المناسبة لتكيل
(عبر مراسليها الصحفيين وإرسالياتها التنصيرية) التهم جزافاً للحكومة السودانية،
وتصفها بالقصور والتمييز في توزيع مواد الإغاثة وقبل وصول هذه المواد أحياناً،
ولم توجه كلمة لوم واحدة للمتمردين وقطاع الطرق الذين يقودهم (جون قرنق)
ونحن نتساءل: تُرى لو كانت الأدوار متبادلة، وقرنق هو الحاكم الشرعي للسودان
ومن اتهمتهم هم المتمردون أين ستميل عواطفها الإنسانية؟ !
3- يجب على الدول العربية والإسلامية أن تعتمد على نفسها، وتتكافل من
أجل مساعدة بعضها بعضاً، فليس هناك بلد معصوم من الكوارث، وغير معرض
للجوائح والمصائب الجماعية، لعل في ذلك ما يساعد على جمع الشمل، والتنبه
إلى العمل بروح جماعية بين الدول العربية، وتكون للكوارث والمصائب حكمة
وفائدة كما قال الشاعر:
" إن المصائب يجمعن المصابينا "
4- أن بلداً كالسودان كان ينبغي أن يحسب حساباً لهذه الفيضانات التي وإن
كانت مدمرة في قوتها وغزارتها - لكنها لها سابقة في تاريخ هذا البلد، وعلى هذا
فإن من أشد الضروريات أخذ الاحتياطات اللازمة، وتقديم المعلومات للسكان
القريبين من المناطق المعرضة لذلك أكثر من غيرها، هذا على الأقل، إذا لم يكن
بالإمكان وضع حل يخفف من الآثار المدمرة لهذه الفيضانات.(14/103)
الانتخابات الرئاسية في لبنان
كان يوم الخميس الموافق للثامن عشر من شهر " آب " المنصرم هو الموعد
المقرر لإجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان لتعيين الرئيس الجديد الذي سيخلف
الرئيس الحالى في الأعوام الستة القادمة.
إن الراصد لمجريات الأحداث عن كثب في بلد كلبنان ليدرك تماماً وبدون
عناء أن قرارات رئيسية كالانتخابات الرئاسية وما شاكلها لا يكون لها أن تمضي
دون مباركة من قِبَل واضعي سياسات ذلك البلد ممن تكمن مصالحهم الخاصة في
إبقائه في هذه الدوامة من النكبات والفواجع في انتظار اللحظة المناسبة للإجهاز
عليه تماماً واقتسام أشلائه، وفي طليعتهم الأنظمة الباطنية و " إسرائيل " وأمريكا
وآخرون.
وبغض النظر عمن وضع أو سيوضع على كرسي الرئاسة هذه المرة، فإنه
من المعروف جيداً أن النفوذ الذي يتمتع به شاغل هذا المنصب في لبنان بات لا
يمكّنه من البت في اتخاذ أبسط القرارات السياسية مهما كانت تافهة بل إن سلطاته لا
تكاد تتعدى أسوار قصره، وعلى الرغم من ذلك فإن القوى الخارجية ذات المصالح
الخاصة في لبنان - ما فتئت تسعى جادة لضمان فوز مرشحها الذي ينفذ رغباتها
ليكون فيما بعد ريشتها التي ترسم بها - وبشيء من الشرعية - سياساتها الإجرامية
المستقبلية ضد شعب هذا البلد المنكوب؛ لذا فإنه من غير الحكمة الوقوف طويلاً
عند هذه الانتخابات التي لا تنطوي على أية منفعة مرجوة بالنسبة للمسلمين، ولا
التلهف لمعرفة إفرازاتها، لاسيما أن جميع مرشحي الرئاسة - وكما هو معروف -
من الموارنة المتعصبين لطائفتهم، ولا يبقى لأهل السنة إلا فتات الموائد.
إن ما يجب أن يحرص أبناء السنة في لبنان - على مختلف فئاتهم - على
تحقيقه وإعطاء الأولوية له وفي ظروف حرجة كالتي يمرون بها - هو مبدأ التعاون
والتناصح ونبذ الخلافات الجانبية والوقوف سداً منيعاً في وجه المتآمرين ضدهم،
كما أن عليهم أن يشمروا عن ساعد الجد لإبراز شخصيتهم المستقلة ودورهم المتميز
الواضح تجاه مجريات الأحداث وأن يسعوا ليكونوا هم الوجه الحقيقي للمسلمين
هناك، وأن يفوتوا الفرصة على المتاجرين باسم هذا الدين، كما يجب أن يكون لهم
منبرهم المستقل وأن لا تكون أصواتهم منطلقة من خلال منابر غيرهم من الطوائف
والنِّحَل التي تزخر بها أرض لبنان ممن يُظهرون لهم المودة ويبيتون لهم الحقد
والكراهية الدائمين.(14/105)
آخر الكوارث في بنغلاديش
رغم اعتياد أهل بنغلاديش الكوارث فإن كارثة هذا العام فريدة من نوعها، فقد تواصل هطول الأمطار، وعمت الفيضانات أغلب أنحاء البلاد، وكان هناك دمار
شامل لكثير من البيوت والمحاصيل الزراعية، حيث إن 47 من 64 محافظة
غطتها المياه ولحقتها أضرار بالغة، أكثر من 33 ألف ميل مربع من البلاد،
وأصبح أكثر من 25 مليون نسمة مشردين بدون مأوى، والأخطر من ذلك كله أن
عمليات الإنقاذ والإغاثة أصبحت غير ممكنة وقد غمرت السيول مطار دكا المركزي
؛ فتعذر نزول الطائرات التي تحمل مواد الإغاثة من أنحاء العالم، وقد تعطلت
حركة النقل والمرور البرية وكذلك خطوط السكك الحديدية توقفت نتيجة للسيول
التي جرفت أكثر من 250 جسراً، وأصبحت وسيلة النقل هي السفن والزوارق
عبر السيول التي غمرت الشوارع والساحات والطرق. واضطر الناس إلى شرب
المياه الموحلة والمختلطة بمياه المجاري التي سببت الأمراض السارية. ورغم أنه
ليس هناك إعلان رسمي عن عدد قتلى الفيضانات فقد قُدروا بأكثر من ألفي قتيل،
وهذا غير الأعداد الهائلة من المصابين بحالات الإسهال والتلوث.
وقد انتهت المشكلة الرئيسية إلى نقص في الدواء، والماء الصالح للشرب،
والطعام المطبوخ. وكل ذلك يعتمد على إمكانية هبوط الطائرات في مطار دكا،
تعتبر بنغلاديش من أفقر وأكثر الدول ازدحاماً بالسكان (110) مليون ومعدل الدخل
السنوي (120) دولار للفرد.
وهناك أضرار بالغة لحقت المحاصيل الزراعية: قصب السكر، والقنب،
والخضار، وقد أتت السيول على كثير من مدخرات الدولة من الحبوب، وعلى
مدخرات السكان من البذور.
والفيضانات تسبب مشكلة دائمة لبنغلاديش لاجتماع عدة أنهار غزيرة على
رقعة أرضها الضيقة، وهذه الأنهار هي: الغانج، براهما بوترا، جاموتا، وماغنا، وما يتفرع عنها من فروع لا تحصى، تفيض كلها على السهل الساحلي وتصب
في بحيرة البنغال.
وقد أصبحت هذه المشكلة صعبة وملحة منذ انحسار بنغلاديش داخل حدودها
الحالية بعد تقسيم شبه القارة الهندية ثم بعد انفصال بنغلاديش عن باكستان، وكل
ذلك طبعاً ببركات الاستعمار البريطاني الذي ظل جاثماً على الهند قروناً طويلة ثم
تركها نهباً للفقر والفرقة.(14/106)
أخبار حول العالم
انتشار الإسلام
لا يكاد يمضي شهر واحد دون أن تحتل أخبار الإسلام الصفحات الأولى في
الصحف؛ فالإسلام أسرع دين في الانتشار في العالم، ويشكل المسلمون الغالبية
العظمى في إحدى وأربعين دولة، وفي خمسين دولة أخرى يمثل المسلمون أقليات
ضخمة، ويعزى ذلك إلى ارتفاع نسبة المواليد بين المسلمين، ولا يزال الإسلام
يكتسب أرضية واسعة..
ففي مصر - وفي بداية السبعينات - لم يكد يكون هناك طالبة واحدة ترتدي
الحجاب الإسلامي في أروقة الجامعة، أما اليوم فإن الطالبات اللاتي لا يرتدين
الحجاب بِتن يقاطعن من قبل الأخريات المحجبات، وفي ماليزيا ترتدي الفتيات ما
يغطي شعورهن ابتداءً من سن السادسة حتى إذا ما بلغن سن الرشد لبِسن الحجاب
الكامل، وفي تركيا قد بات أداء الصلوات في الأماكن العامة والطرقات ظاهرة ملفتة
للنظر لا سيما في المدن الصغيرة الواقعة في شرق الأناضول التي يتزايد فيها نشاط
الجماعات الدينية، وكانت تركيا قد أعلنت دولة علمانية في العشرينات من قِبَل
زعيمها أتاتورك ذي الاتجاهات الغربية، وفي دولة فقيرة (مالي) يحرص الفتيان
والفتيات على تعلم تلاوة القرآن على الرغم من صعوبة قراءة الأحرف العربية،
وفي السنغال تقوم الدراسات الدينية الإسلامية بنشر آيات القرآن الكريم على ألواح
من الخشب لغرض دراستها، وفي الاتحاد السوفياتي - حيث يبلغ عدد المسلمين من
55 إلى 60 مليوناً وهم الأغلبية في خمس جمهوريات من أصل (15) - تخشى
السلطات الحكومية من انتشار الأصولية بين صفوف المسلمين هناك.
" تلغراف " الأسبوعية 7/9/1988م
*******
ارتفع عدد المسلمين في الولايات المتحدة من حوالي عشرة آلاف مسلم سنة
1900 إلى 3 ملايين مسلم في الوقت الحالي، وينتمي غالبية هؤلاء إلى مهاجرين
قادمين من دول إسلامية، ولكن نرى أن ثلث هذا المجموع أمريكيون ممن اعتنقوا
الإسلام وخاصة من السود.
وفي هولندا قبل وزير الثقافة مؤخراً - نتيجة لضغوط المسلمين مدة عشر
سنوات - باستيراد 13 ساعة من البرامج التلفزيونية، وتخصيص 52 ساعة
إذاعية في السنة للدعوة إلى الإسلام باللغة الهولندية.
عن مجلة " إسلامك وورلد ريفيو "
*******
الأطفال يدفعون الثمن
تمخض مؤتمر دولي عقد في مدينة ريمي (إيطاليا) في الأسبوع الثاني من
شهر أيلول عن صورة مروعة عن الاستغلال والإساءة اللذين يلقاهما الأطفال في
دول مختلفة في العالم.
فقد أكد مندوب لبنان الخاص لدى المؤتمر أنه في خلال مدة ثلاثة أشهر من
هذه السنة - نيسان، أيار، حزيران - تم العثور على جثث (17) طفلاً في دهاليز
وسلالم أبنية مدينة بيروت.
وتوضح الإحصائيات (التي لم تخضع للتمحيص) القادمة من لبنان كيف
أصبح الأطفال الضحية الأولى للحرب الأهلية، فمنذ عام 1975 م وحتى اليوم بلغ
عدد الضحايا من الأطفال اللبنانيين (700) ألف مصاب، (17) آلاف مفقود،
(100) ألف يتيم (14) ألف مخطوف (عثر على جثث (10) آلاف منهم) بالإضافة
إلى (100) ألف آخرين من المقاتلين المسلحين المنتشرين في الشوارع.
وتكلم متحدث آخر في المؤتمر عن اعتقال الأحداث الذين بلغ عددهم (11)
ألف في جنوب إفريقية وحدها على سبيل المثال، وعن المتسولين من الأطفال -
(50) ألفاً في أثيوبيا - وكذلك الأطفال المهجورين من قِبَل آبائهم (في الشوارع
(40) مليوناً في أمريكا اللاتينية.
وقدر أحد المسؤولين القياديين في المنطقة عدد الأطفال المجهولين النسب في
إيطاليا بمليون طفل وهو ما يشكل نسبة 7% من مجموع الأحداث البالغ عددهم
(13,5) مليون.
تايمز 13/9/1988(14/108)
بأقلام القراء
حاجتنا إلى إعلام إسلامي هادف
من غير المعقول أن يتجاهل المسلمون وسائل الإعلام المختلفة الموجودة في
العصر الحديث، وهنا كان على الدعاة المسلمين أن يفكروا في خير الطرق لجعل
وسائل الإعلام الحديثة عوامل إصلاح، لا وسائل فساد، ولا سبيل إلى ذلك إلا
بإيجاد إعلام إسلامي هادف يمنع شباب المسلمين من التأثر بما تحمله وسائل الإعلام
الفاسدة من ألوان الإلحاد والانحلال.
إن الإعلام الإسلامي هو إعلام عقيدة ذو مهمات متشعبة، ومسؤوليات كبرى، وأعباء كثيرة وثقيلة تتوزع على دوائر وتمتد إلى آفاق بعيدة مترامية الأطراف ...
إنه إعلام غير محدود ولا تنتهي رسالته في معركة يخوضها، أو عند فكرة يذود
عنها، أو رأي يضمن له الذيوع والانتشار.
ومجابهة التطورات التي تطرأ على ساحة الصراع العقائدي، وفي ظل التقدم
الحضاري الذين ترافقه أو تنبثق عنه تحولات فكرية وانحرافات حادة تعاني منها
البشرية وتفرض على الإعلام الإسلامي أن يبصّر بها مجتمع المسلمين ويحميه من
شرورها وأخطارها باستمرار وهذا كله يتطلب من الإعلام الإسلامي أن يكون في
مستوى ما هو مدعو للقيام به في وجه تحديات وقوى وخصومات قديمة ومتجددة.
إن المسلم مطالَب بالإعلام والدعوة لدين الله مادام فيه نفس يتردد، ولقد تجلت
جهود المسلمين الأوائل في الإعلام بدين الله وتحمل المكائد والصعاب في سبيل ذلك
وعدم التواني عن المجاهدة والمكابدة على الرغم من مؤامرات الأعداء ومناصبتهم
العداء للإسلام والمسلمين وحسبنا أن نشير إلى سير الصحابة - رضوان الله عليهم
- وما عانوه وما تكبدوه من مشاق في سبيل التبليغ بكل مراتب التبليغ والتبشير
حتى تقدم موكب الإسلام الزاحف عبر الأراضي الشاسعة والبلدان الواسعة بما يشهد
لهؤلاء الدعاة الأبطال.
إنهم كانوا إعلاميين ناجحين بل ودعاة مجاهدين لنشر الإسلام في ربوع العالم
كله، وأما اليوم فإن أولياء أمور المسلمين في مختلف الأقطار الإسلامية والعالمية
مطالبون بأن يضعوا حداً للعبث ومظاهر الفساد في وسائل الاعلام بصورتها الحالية
بأن يراقبوها ويمنعوها من إغراق المسلمين وأبنائهم بالتيارات الضالة المضللة
وإشاعة الفساد والانحلال بينهم وخاصة الشباب.
عوض عبد الله بارحمة(14/111)
الفكر المطلوب
ناصر بن عبد العزيز آل عبد الكريم
من يظن أن على كل مسلم إدراك المفاهيم الإسلامية والنظرات الواقعية
الإسلامية والنظرات الواقعية للمجتمع الإسلامي وأن يكون لديه تصور شامل لما
يجب أن يكون عليه حال الأمة وأن يدرك المؤامرات التي تحاك ضدها والغزو
الفكري الموجه نحوها.
يخطئ من يظن ذلك لأن المفاهيم ليست متناً أو مقرراً دراسياً يكفي حفظه أو
تكفي مذاكرته فحسب.
إن الفكر الإسلامي - وأي فكر - يختلف مدى إدراك أتباعه كما يختلف هذا
الإدراك من فرد لآخر وذلك حسب مرونة عقل هذا الفرد، وحسب قدرته على
معرفة أسباب الداء واكتشاف الدواء له.
ومن ميزات هذا الدين استيعابه لجميع الطبقات الاجتماعية مهما كان مستواهم
الفكري أو المادي أو قدراتهم ومواهبهم.
ندرك مما ذكر أن المطلوب من كل مسلم أن يدرك ما هو معلوم من الدين
بالضرورة وأن يدرك المفاهيم الأساسية لهذا الدين وأن يكون على حذر من المفاهيم
الخاطئة أو الآراء المغلوطة، وما سوى ذلك فحسب قدرته وموهبته وتخصص، أما
كيف يتسنى له هذا فذلك مبحث آخر.
نسأل الله التوفيق والسداد وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(14/112)
خطوة في المسار الصحيح
هناك قصور ملحوظ في مجال العلم الشرعي يتفق عليه جل العاملين في حقل
الدعوة الإسلامية، وهو راجع إلى أسباب كثيرة لا مجال للخوض في تفاصيلها،
وأهمها عدم الاهتمام المتعمد، والإهمال المقصود لهذا الجانب من قبل الذين
يمسكون بجانب التخطيط التربوي للأجيال الإسلامية.
وهذا القصور لا يستدرك - ولا يزال - عن طريق المحاضرات التي تعقد
هنا وهناك، وتخضع لاعتبارات أغلبها لا يقوم على أساس تزويد المسلم
بالمعلومات المحددة والواضحة والأساسية التي يبنون عليها فهمهم للواقع الذي
يعيشون فيه. وإدراكاً من " المنتدى الإسلامي " لذلك، وحرصاً منه على تقديم
النافع من العلم الشرعي في حدود الطاقة، ودون إنفاق الجهود في الشكوى والتذمر
واقتراح الحلول الكثيرة التي يبقى أكثرها حبراً على ورق! فقد عقد دورة مكثفة
(ولمدة أسبوعين من 5/8/1988 إلى 19/8) للعلوم الشرعية، ودعا إليها الراغبين
من الإخوة الذين يديرون بعض الأنشطة الإسلامية في أوربا، وقدم المادة المدروسة
بعض الأساتذة المختصين في علوم العقيدة، وأصول الفقه، وأصول الحديث،
والتفسير، واللغة العربية.
وقد أعطيت فكرة مكثفة عن بعض العلوم الإسلامية ومصطلحاتها، وهي وإن
لم تكن كافية إلا أنها تساعد على تأصيل الأفكار، وإزالة الغموض عن بعض ما
يشكل عند مطالعة كتب العلم الشرعي، وقد أكد على الجانب العملى التطبيقي من
هذه العلوم دون الخوض في دقائقها والتي لا تهم إلا المختصين والمتفرغين.
بالإضافة إلى دروس تقويمية ألقت أضواءً على مسيرة الفكر الإسلامي الحديث،
والإضافات التي أضافها إلى الثقافة الإسلامية بشكل عام، والتحديات التي لازالت
تعترض مسيرة هذا الفكر ليأخذ دوره الصحيح في بناء شخصية المسلم الفكرية
المتماسكة، وقد تركت الدورة صدًى طيباً ومشجعاً في نفوس المشاركين يدعو إلى
مواصلة السير إعداداً وتحسيناً.(14/114)
ربيع الآخر - 1409هـ
ديسمبر - 1988م
(السنة: 3)(15/)
الافتتاحية
تزوير التاريخ
بعض من يطلقون على أنفسهم صفة دارسي التاريخ روجوا - ويروجون -
مقولات لا يسأمون من ترديدها وتكرارها، وهذه المقولات لا تساق في معرض
وضع وتحديد الأسس الصحيحة لدراسة التاريخ، بل تقحم في ثنايا حديثهم الموجه
دائماً للهجوم على كل ما له صلة بالإسلام، فيتخذونها تكأة للتنفير من الرموز
الإسلامية: حضارة وشخصيات، ودعوة لنبذ كل ما له علاقة بهذا التاريخ تحت
دعاوى أصبحت مملولة وممجوجة مثل: التطور، التقدم، النهضة، التحرر..
وهؤلاء الذين اتخذوا التاريخ مجالاً لنفث سمومهم غالبًا ما يخرجون بنتيجة،
هي: أننا حتى نبرأ من تلك العيوب - التي توصلوا إليها بدراستهم القاصرة،
ونياتهم الفاسدة -، لا بد لنا من اتخاذ العلمانية مبدءًا للحياة، فنفرق بين ما هو دين
وما هو دنيا، ونعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ونقيم حياتنا على العلم البعيد
عن العواطف، ونبنيها على التخطيط الذي يعطي نتائج محايدة، ونتيح تكافؤ
الفرص للجميع، فيُعطى كل ما يستحقه، ونخرج من دوامة الاختلاف والتفرق،
وهكذا لا يكون التاريخ حِكراً على شخص أو أشخاص، وإنما يقوم على جهد
جماعي يؤدي كل فرد فيه واجبه، ويعرف له حقه.
هذا هو مجمل الفكرة التي تدور في فكر الذين أرادوا للأجيال الإسلامية - في
ظل الاستعمار الغربي - أن ترسخ في نفوسهم، واستدلوا عليها بصنوف من
التزوير والتهويش، فرموا التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ أشخاص، وأبرزوا من هذا
التاريخ كل الجوانب السلبية، وكتموا كل الجوانب المضيئة، وحملوا الإسلام
والحضارة الإسلامية وزر كل مخالف عاش في ظلالها، ومرغوا - بكل خِسَّة
ووقاحة وظلم واضح - كل الصفحات المشرقة بالتراب، وسودوا الكتب الكثيرة
بأهواء نفوسهم وخزاياهم، وأسقطوا على كل مكرمة عيوبهم فاستحالت مثلبة،
وسلبوا حق الدفاع من المتهم، فكانوا خصوماً وقضاة في ثوب واحد.
هكذا كان، وهكذا انكشف عن المسلمين عصر، وحل عصر.
ماذا نجد إذا نظرنا خلفنا خلال قرن، وهي الفترة التي نُحِّيَ الإسلام بالقوة
عن أن يقول كلمته في حياة الناس؟
يكفينا في هذا المجال أن ننظر إلى هدفين من أهداف العلمانيين هما:
العلمانية نفسها، ثم الحرية.
أما إذا نظرنا إلى الهدف الأول، وهو العلمانية:
فلا أحد يستطيع القول: إن المسلمين يعيشون في ظل شرعية إسلامية،
(وهذا لحسن حظ من يشمئزون عند ذكر الإسلام) ، حتى الزاوية الضيقة جدًا التي
سمح للإسلام - عن غير طيب خاطر طبعاً - أن يبقى فيها، وهي زاوية الأحوال
الشخصية، تُتَحَيَّف مرة من هنا، ومرة من هناك، وياما أكثر المناسبات التي رأينا
وسمعنا وقرأنا عنها، حيث يقف ساقط أو ساقطة يتنقص أخص ما يخص المسلمين
من أحكام كالطلاق، وتعدد الزوجات، ومسائل الإِرث، والولاية في الزواج وغير
ذلك، ويصب جام غضبه على هذا الدين وأهله، بين تصفيق السفهاء وتشجيع
المشجعين، دون أن يؤذن لمسلم بالرد على هذه التهجمات المسعورة والترهات
الباطلة.
لقد خلت الساحة للعلمانية أن تسود، وبعد أن كانت مطمحاً لدعاة التغريب في
أواخر عهد الدولة العثمانية، أصبحت حقيقة واقعة بعد القضاء عليها، وتولت
فرضها بالحديد والنار الدول الصليبية المستعمرة، ثم النخبُ الحاكمة المستظهرة بها
بعد ذلك.
ولكن آية علمانية تلك التي طبقت على العالم الإسلامي؛ هل هي العلمانية
الغربية بنصها، والتي كانت المثل الأعلى والنموذج المحتذى؟
لا!
ففي حين نادت علمانية الغرب بالفصل بين الكنيسة والدولة، وجعلت كل
جبهة مستقلة كل الاستقلال عن الأخرى؛ فلا الكنيسة تتدخل بشؤون الدولة، ولا
الدولة تتدخل بشؤون الكنيسة ونشاطها الخاص، وليس لها كلمة لا في إرسالياتها،
ولا في برامجها داخل الكنيسة، ولا في أوقافها، وأموالها.
نقول: بينما كانت علمانية الغرب المقتدى به هي هذه، إذا بنا نرى علمانية
أخرى كأنما صنعت لنا خصيصاً،
فلم تكُ تصلح إلا (لنا) ... ولم (نك نصلح) إلا لها! !
علمانية تفترس كل شيء، وتتدخل في كل شيء، وتجتاح كل شيء، حتى
البيوت والمساجد، لا تتدخل في أخص خصائص الإسلام فحسب؛ بل هي التي
تفتي وتشرع وتحدد للمسلم: ماذا يجب أن يقرأ، وماذا يجب أن يسمع، وماذا يجب
أن يأخذ، وماذا يجب أن يدع، علمانية تعطي الحرية لكل الأديان إلا الإسلام،
وتتأدب عند دخول كل معابد الملل والنحل إلا الإسلام.
فهل آل أمر العلمانية إلى أن تصير إلى هذه الصورة؟ ، وهل على المسلم من
سبيل إذا ما طوى جوانحه على مقت هذه العلمانية، ومقت دعاتها، وأسرّ وجهر
بالبراءة منها، وتربص بها حتى يحين موعد رميها في وجوه أصحابها؟ !
إن الباحث في تاريخ تطبيق العلمانية على الشعوب الإسلامية ليهوله أن يرى
أن كل الكوارث التي حلت بهم مرجعها إلى هذه الوصفة الحمقاء، ولا أحد يستطيع
أن يدعي أن ما نعاني منه، وما عانينا خلال الفترة السابقة، قد حصل في ظل
هيمنة إسلامية، أو توجه له أدنى علاقة بالإسلام كنظام مستقل متفرد شامل، بل إن
الانهيار الاقتصادي المتمثل بالديون التي ترهق كاهل الشعوب الإسلامية؛
والأزمات التي تشغل بالها، والانهيار الحضاري المتمثل في فقدان الثقة بالنفس؛
وشيوع الاتكالية، والفساد، والتسلط، والبطالة المقنعة، وضعف الكفايات،
وهجرة الأدمغة.. كل ذلك هو بعض أعراض فصل المجتمعات الإسلامية عن قيمها
التي تستمد منها مبرر وجودها، هذه القيم التي لا يمكن أن نجد لها مصدراً صحيحاً
خارج الإسلام.
الهدف الثاني هو: الحرية.
والحرية شعار ومصطلح قد يثير الالتباس، ويعطي معاني مختلفة باختلاف
الأمكنة والأزمنة التي يرفع فيها، وباختلاف الأشخاص الذين يرفعونه.
فبينما كانت الحرية تعني في عصر الاستعمار إخراجه من البلاد، والاستقلال
عن وصايته وتدخله في شؤون الشعوب المستعمرة! أصبحت بعد الاستقلال شعاراً
يحمل مضامين أخرى:
- فهي عند عبيد الغرب: التحرر من سيطرة الأفكار الإسلامية.
- وهي عند فريق من الفقراء: التحرر من تسلط الأغنياء والرأسماليين.
- وهي عند الأقليات: التحرر من سلطان الأغلبية، وهكذا..
وفي ظل الغموض الذي يحيط بهذا الاصطلاح الفضفاض الذي فتن - ومازال
يفتن - الناس تسربت إلى حياتنا مؤثرات نعاني أشد المعاناة من أجل التخلص منها، وانقلب معنى الحرية في كثير من الأحيان إلى ضده، وتقلص وانحسر في أحيان
أخرى لينعم بخيره فرد أو عائلة أو طبقة صغيرة أو نخبة هي التي تملك حق فهم
معناه وشرحه وتفسيره، ووضع الحواشي والتعليقات على متنه؛ أما غيرها ممن
هو خارج نطاق هذا الأكليروس [1] الزائف فليس له إلا حق السمع والطاعة.
من قال: إن حكم الكنائس في العصور الوسطى قد ولى بعد الثورة الفرنسية
إلى غير رجعة؟ ! لقد انتقل عبر ما يسمى بعملية " تناسخ الأرواح " لتحل روحه
في عصر ما بعد الاستعمار! !
إن من بركات الحرية التي نعيش فيها أن يضرب بحجاب صفيق على كل
الحوادث والشخصيات التي كان لها أثر لا يمكن إنكاره في تحرر الشعوب من
شرور المستعمرين الغاصبين، وإبقائها في الظل، وبتر كل ما يتعلق بها من الكتب
والدوريات، في حين توجه الأنظار والأفكار إلى شخص واحد من أجل غرس
حقيقة: أن الأمة قد خلقت من أظافر قدميه، وخيراتها نبعت من تحت أخمصيه!
إن أمة يقودها فرد يقنع نفسه بذلك، ويصدق تملق المتملقين الذين يخدعونه
بتملقهم الرخيص هذا، فيسلطهم على رقاب العباد والبلاد، لهي أمة مقضي عليها
بالفشل في أي مجال تخوض.
آخر ما حملته الأخبار: أن الحكومة التونسية قد أعادت الاعتبار إلى الشيخ
عبد العزيز الثعالبي بعد أن أسدل عليه ستار كثيف من التجاهل المتعمد والإهمال
المفروض طيلة حكم بورقيبة.
والشيخ عبد العزيز الثعالبي (1874-1944) زعيم تونسي، وخطيب،
وكاتب، أبرز مناهضي الاستعمار الفرنسي، نفته فرنسا من تونس، فعاش متنقلاً
بين مصر وسورية والعراق والحجاز والهند، مشاركاً في الحركات الوطنية،
مقاوماً الاستعمار الفرنسي، عاملاً على التعاون بين حركات التحرير في بلاد
المغرب العربي.
ناوأه بورقيبة وأنصاره العداء لأنه أراد الحفاظ على هوية تونس العربية
الإسلامية، بينما أراد هؤلاء ربطها بالغرب، وبفرنسا خاصة، وعمل بورقيبة
خلال حكمه على محو آثار الشيخ الثعالبي وتصفية دوره من كتب التاريخ، بل
أصبح يتهكم عليه كثيراً في خطبه.
ما الجريمة التي اقترفها الشيخ الثعالبي فدعت الحاكم السابق أن يصب عليه
جام سفهه وغضبه؟ ليست إلا اعتباره تونس بلداً عربياً إسلامياً، وليس ولاية من
ولايات فرنسا، ولا تربطها بأوربا أية صلة.
ليس الغرض من الحديث عن الشيخ الثعالبي باعتباره فرداً؛ ولكن الهدف
الإشارة إلى ما يمثله من قيم وفكر وتوجه، وكذلك ليس القصد هنا شن هجوم على
حاكم تونس السابق بعد أن جرد من سلطانه، واستراح الناس من هَيْله وهيلمانه -
فهذا متروك للتاريخ الذي احتكره لنفسه قرابة أربعين عاماً -، وإنما القصد:
الوصول إلى ما كان يمثله من أفكار (العلمانية المصنَّعة) ، والحرية (حرية بطانته)
التي ربطت بلداً عربياً إسلامياً ربطاً متعسفاً بالغرب، وحولته إلى منتجع يعيث به
هؤلاء فساداً، بينما عاش التونسي أزمات خانقة، ليس له من الأمر شيء، إلا أن
ينام ويصحو على أخبار دمى يتلاعب بها ذاك الأفاك العابث الأثيم.
كذلك لم نشر إلى هذه الحادثة إلا إشارة؛ لأنها تمثل ظاهرة في تاريخنا
الحديث في كثير من البلاد الإسلامية: يُعلل الناس بأكاذيب، وتتلى على أسماعهم
أباطيل فترة تطول أو تقصر، ثم يأتي الله بأمره، [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] .
__________
(1) الأكليروس: طبقة رجال الدين عند النصارى الذين لهم الحق في تفسير الأناجيل.(15/4)
وقفه مع آية
[إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً]
[الإسراء: 9]
" أضواء البيان " - للشيخ الشنقيطي (3 / 396 - 397) .
... ومن هدي القرآن الذي هو أقوم؛ هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك
بالدين، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام من أن التقدم
لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام باطلٌ لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى
التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين، ولكن ذلك التقدم في
حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية، قال تعالى: [وأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] ، وقال: [وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ] يدل على الاستعداد
لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف، وداود من أنبياء (سورة الأنعام) المذكورين
فيها في قوله تعالى [ومِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ] ، وقد قال تعالى مخاطباً لنبينا -صلى الله
عليه وسلم- وعليهم بعد أن ذكرهم: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] .
وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن مجاهد أنه سأل ابن عباس- رضي الله
عنهما-: من أين أخذت السجدة في " ص "؟ ، فقال: أو ما تقرأ: [ومِن ذُرِّيَّتِهِ
دَاوُودَ ... أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ، فسجدها داود، فسجدها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-.
فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود. فعلينا أن
نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا، وانظر قوله تعالى: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ] ، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من
التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود
على الحالات الأُول إذا طرأ تطور جديد، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين.(15/10)
هجر المبتدع
الشيخ بكر أبو زيد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنه في حال من انفتاح ما كان يخشاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته
في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر
أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم،
فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [1] .
وانفتاح العالم بعضه على بعض، حتى كثرت في ديار الإسلام الأخلاط،
وداهمت الأعاجم العرب، وكثر فيهم أهل الفرق، يحملون معهم جراثيم المرض
العقدي والسلوكي.
وفي وسط من تداعي الأمم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (يوشك أن
تداعى عليكم الأمم من كل أفق ... ) [2] ، وأمام هذا: غياب رؤوس أهل العلم
حيناً، وقعودهم عن تبصير الأمة في الاعتقاد أحياناً، وفي حال غفلة سرت إلى
مناهج التعليم بضعف التأهيل العقدي، وتثبيت مسلمات الاعتقاد في أفئدة الشباب،
وقيام عوامل الصد والصدود عن غرس العقيدة السلفية وتعاهدها في عقول الأمة.
فى أسباب تمور بالمسلمين موراً، يجمعها غايتان:
الأولى: كسر حاجز (الولاء والبراء) بين المسلم والكافر، وبين السني
والبدعي، وهو ما يسمى في التركيب المولَّد باسم: (الحاجز النفسي) ، فيكسر
تحت شعارات مضللة: (التسامح) (تأليف القلوب) (نبذ: الشذوذ والت طرف
والتعصب) ، (الإنسانية) [3] ، ونحوها من الألفاظ ذات البريق، والتي حقيقتها
(مؤامرات تخريبية) تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتميز وعلى الإسلام.
الثانية: فُشو (الأمية الدينية) حتى ينفرط العقد وتتمزق الأمة، ويسقط المسلم
بلا ثمن في أيديهم وتحت لواء حزبياتهم، إلى غير ذلك مما يعايشه المسلمون في
قالب: (أزمة فكرية غثائية حادة) أفقدتهم التوازن في حياتهم، وزلزلت السند
الاجتماعي للمسلم (وحدة العقيدة) ، كلٌّ بقدر ما علَّ من هذه الأسباب ونهل، فصار
الدخل، وثار الدخن وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً
لنثر بدعهم ونشرها، حتى أصبحت في كف كل لافظ، وذلك من كل أمر تعبدي
محدث لا دليل عليه (خارج عن دائرة وقف العبادات على النص ومورده) .
فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد،
وتاجرت الأهواء بأقوام بعد أقوام، فكم سمعنا بالآلاف من المسلمين وبالبلد من ديار
الإسلام يعتقدون طرقاً ونحلاً محاها الإسلام.
إلى آخر ما هنالك من الويلات، التي يتقلب المسلمون في حرارتها،
ويتجرعون مرارتها، وإن كان أهل الأهواء في بعض الولايات الإسلامية هم:
مغمورون، مقموعون، وبدعهم مغمورة مقهورة، بل منهم كثير يؤوبون لرشدهم،
فحمداً لله على توفيقه، لكن من ورائهم سرب يحاولون اقتحام العقبة، لكسر الحاجز
النفسي وتكثيف الأمية الدينية في ظواهر لا يخفى ظهور بصماتها في ساحة
المعاصرة وأمام العين الباصرة.
والشأن هنا في تذكير المسلم بالأسباب الشرعية الواقعية من " المد البدعي،
واستشرائه بين المسلمين، والوعاء الشامل لهذه الذكرى ":
القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، والتبصير في الدين،
وتخليص المنطقة الإسلامية من شوائب البدع والخرافات والأهواء والضلالات،
وتثبيت قواعد الاعتقاد السلفي المتميز على ضوء الكتاب والسنة في نفوس الأمة.
ومن أبرز معالم التميز العقدي فيها، وبالغ الحفاوة بالسنة والاعتصام بها،
وحفظ بيضة الإسلام عما يدنسها:
نصب عامل " الولاء والبراء " فيها، ومنه: إنزال العقوبات الشرعية على
المبتدعة، إذا ذكروا فلم يتذكروا، ونهوا فلم ينتهوا، إعمالاً لاستصلاحهم وهدايتهم
وأوبتهم بعد غربتهم في مهاوي البدع والضياع، وتشييداً للحاجز بين السنة والبدعة، وحاجز النفرة بين السني والبدعي، وقمعاً للمبتدعة وبدعهم، وتحجيماً لهم ولها
عن الفساد في الأرض، وتسرب الزيغ في الاعتقاد، ليبقى الظهور للسنن صافية
من الكدر، نقية من علائق الأهواء وشوائب البدع، جارية على منهاج النبوة وقفو
الأثر، وفي ظهور السنة أعظم دعوة إليها ودلالة عليها، وهذا كله عين النصح
للأمة.
فالبصيرة إذاً في العقوبات الشرعية للمبتدع: باب من الفقه الأكبر كبير،
وشأنه عظيم، وهو رأس في واجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصل
من أصول الاعتقاد بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ولهذا تراه بارز المعالم في
كتب الاعتقاد السلفي " اعتقاد أهل السنة والجماعة ".
كل هذا تحت سلطان القاعدة العقدية الكبرى (الولاء والبراء) [4] التي
مدارها على الحب والبغض في الله تعالى، الذي هو (أصل الدين) وعليه تدور
رحى العبودية.
وهذه العقوبات الشرعية التي كان يتعامل بها السلف مع أهل البدع والأهواء،
متنوعة ومتعددة في مجالات:
الرواية، والشهادة، والصلاة خلفهم وعليهم، وعدم توليتهم مناصب العدالة
كالإمامة والقضاء، والتحذير منهم ومن بدعهم وتعزيرهم بالهجر، إلى آخر ما تراه
مروياً في كتب السنة والاعتقاد، مما حررت مجموعه في " أصول الإسلام لدرء
البدع عن الأحكام ".
وما في هذه الرسالة هو في خصوص (الزجر بالهجر للمبتدع ديانة) [5]
لأهميته في: التميز، والردع، وعموم المطالبة به، ولأنه أصبح في الغالب من
(السنن المهجورة) ، تحت العوامل المذكورة في صدر هذه المقدمة، لهذا رأيت إفراده بهذه الرسالة إحياءً لهذه السنة، ونشراً لها بضوابطها الشرعية التي تحفظ للمبتدع كرامته مسلماً، وتكشف بدعته بوصفه مبتدعاً، ما لم تكن مكفرة كبدعة: القدر [6] ، والباب، والبهاء ... وتحفظ على أهل السنة والجماعة كف بدعته ومداخلتها في صفوفهم، وهذا واجب باتفاق المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في بيان وجوب النصح
لصالح الإسلام والمسلمين:
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في
أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل
البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من
جنس الجهاد في سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم
على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر
هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن
هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم
يفسدون القلوب ابتداءً ا. هـ. [7] .
هذا وما سيمر نظرك عليه في هذه الرسالة، فإنه ينتظم في جملته: أحكام
الهجر الشرعي للكافر والمبتدع الضال ببدعته والعاصي المجاهر بمعصيته، لكن
صار نسج الكلام وجلب الروايات والنقول في " هجر المبتدع "، لأن ضرره أعظم
وخطره أشد، كما مر بك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-،
ويأتي له نظائر إن شاء الله تعالى.
وتجد رؤوس المعتبرات في هذه الرسالة على ما يلي:
1 - مقاصد الإسلام في الهجر.
2 - أنواعه.
3 - شروطه.
4 - صفته.
5 - منزلة هجر المبتدع من الاعتقاد.
6 - الأدلة العلمية من الكتاب والسنة والإجماع.
7 - إعمال الصحابة فمن بعدهم له في مواجهة المبتدع.
8 - ضوابط الهجر في الشرع.
9 - عقوبة من والى المبتدعة.
10 - التحذير من إشاعة البدعة.
فاللهم (ارزقنا هدياً قاصداً) [8] و (جنِّبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء) .
المبحث الأول
مقاصد الإسلام في الهجر:
فوائد الهجر للمبتدع التي قصدها الشرع كثيرة، منها ما يعود إلى الهاجرين
القائمين بهذه الوظيفة الشرعية العقدية، ومنها ما يعود إلى المهجور وإلى عامة
المسلمين، وإلى حماية السنن من البدع والأهواء، فالهجر الشرعي ومنه (هجر
المبتدعة) : عقوبة زجرية متعددة الغايات والمقاصد الشرعية المحمودة، وهي على ما يلي:
1 - أن (الزجر بالهجر) عقوبة شرعية للمهجور، فهي من جنس الجهاد في
سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، تقرباً إلى الله تعالى بواجب الحب والبغض فيه سبحانه وتعالى.
2 - بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم.
3 - تحجيم انتشار البدعة.
4 - قمع المبتدع وزجره، ليضعف عن نشر بدعته، فإنه إذا حصلت
مقاطعته والنفرة منه بات كالثعلب في جحره.
أما معاشرته ومخالطته، وترك تحسيسه ببدعته: فهذا تزكية له، وتنشيط
وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً، فلابد إذاً من
الحجر على المبتدع استصلاحاً للديانة وأحوال الجماعة، وهو ألزم من الحجر
الصحي لاستصلاح الأبدان.
وبعد أن نقل الشاطبي -رحمه الله تعالى- بعض الآثار في النهي عن توقير
المبتدع، قال:
(فإن الإيواء يجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر، لأن المشي إليه والتوقير له تعظيمٌ له لأجل بدعته، وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا، كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام.
وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما
ينافيه.
وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام:
أحدهما: التفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه
أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على
بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم.
والثانية: أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على
انتشار الابتداع في كل شيء.
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه اهـ[9] .
5- إعطاء ضمانة للسنن من شائبة البدع ومداخلتها لصفاء السنن. والله أعلم.
المبحث الثاني
أنواع الهجر: وهى ثلاثة:
الأول: الهجر ديانة، أي: (الهجر لحق الله تعالى) وهو من عمل أهل
التقوى، في: هجر السيئة، وهجر فاعلها، مبتدعاً أو عاصياً.
وهذا النوع من الهجر للفجار على قسمين:
1 - هجر ترك: بمعنى هجر السيئات، وهجر قرناء السوء الذين تضره
صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة.
قال الله تعالى: [والرُّجْزَ فَاهْجُرْ] ، وقال سبحانه: [واهْجُرْهُمْ هَجْراً
جَمِيلاً] . وقال تعالى: [وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ] [10] .
وقال تعالى: [وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذاً مِّثْلُهُمْ] ، وفي
الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) .
2 - هجر تعزير: وهذا من العقوبات الشرعية التبصيرية التي يوقعها المسلم
على الفجار كالمبتدع، على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر،
حتى يتوب المبتدع ويفيء.
وهذا القسم هو الذي تدور عليه الأبحاث في هذه الرسالة المباركة.
وهذا النوع بقسميه من أصول الاعتقاد، والأمر فيه أمر إيجاب في أصل
الشرع، ومباحثه في كتب السنن والتوحيد والاعتقاد وغيرها.
تنبيه: في هجر الكافر:
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
(قال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي، وقد
استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعاً ولا يشرع هجران الكافر، وهو
أشد جرماً منهما لكونهم من أهل التوحيد في الجملة.
وأجاب ابن بطال: بأن لله أحكاماً فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم
التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه.
وأجاب غيره: بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران
باللسان، فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر لا سيما إذا كان
حربياً، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف
العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالباً، ويشترك كل من الكافر والعاصي في
مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما
المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها " اهـ[11] .
والظاهر ما قاله النووي -رحمه الله تعالى- من أن للمسلم هجر الكافر من
غير تقييد [12] ، لما هو معلوم من الأصل الشرعي العام من تحريم موالاة الكفار،
والتحذير من موادتهم وتعظيم ما يؤدي إلى ذلك، ونصب الأسباب الموصلة إلى
ظهور المسلم عليهم كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم
في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " رواه أحمد ومسلم وغيرهما. والنصوص في
تحريم موالاة الكافرين من الكتاب والسنة وآثار السلف كثيرة مشهورة، والله أعلم
[13] .
- يتبع -
__________
(1) انظر: فتح الباري 6 / 58 2، 263.
(2) السلسلة الصحيحة برقم / 956، وصحيح الجامع الصغير برقم / 8035.
(3) عن " مذهب الإنسانية " انظر: مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب: 589 - 604، وفي: معجم المناهي اللفظية، حرف الألف، ومقدمة طه العلواني لكتاب: النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار، لمصطفى الوارداني.
(4) هذه القاعدة مبحوثة في كتب الاعتقاد، وقد أفردت بمؤلفات منها: تحفة الإخوان للشيخ حمود التويجري، سبيل النجاة، للشيخ حمد بن عتيق، الولاء والبراء، للشيخ محمد سعيد القحطاني، الموالاة والمعاداة للشيخ محمد الجلعود، الولاء والبراء للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وخمستها مطبوعة.
(5) للسيوطي رسالة باسم (الزجر بالهجر) ولم أقف عليها، وللشيخ محمد الزمزمي بن محمد الصديق الغماري رسالة باسم: " إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين " طبعت بتطوان بلا تاريخ، رد بها على أخيه عبد الله في رسالته: (القول المسموع في بيان الهجر المشروع) ، وكان الزمزمي قد قاطع آخاه عبد الله لما لديه من الدعوة إلى القبوريات وإلى بناء المساجد على القبور، وخدمة زاوية أبيه، في سلسلة يطول ذكرها من البدع المضلة، فبلغت الصورة الغضبية مبلغها من عبد الله فألف رسالة: (النفحة الزكية) هجر فيها دلالة النصوص على الهجر، وخرق إجماع الأمة عليه، وهي من الباطل الذي لا يلتفت إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(6) ما أحسن ما قاله الحربي أبو اسحاق -رحمه الله تعالى-: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه انظر: ولاية الله للشوكاني /396.
(7) الفتاوى 28 /231 232.
(8) اقتباس من حديثين مرفوعين رواهما ابن أبي عاصم في " السنة " برقم / 13، 95، وانظر: ظلال الجنة 1/12، 46.
(9) الاعتصام 1 / 114.
(10) الفتح 28 / 211 - 213، 216 - 217، 203، فتح الباري 10 / 497 الترغيب والترهيب 3/ 454 - 462، الدرر السنية 4 / 216 -208.
(11) فتح الباري 10 / 497.
(12) فتح الباري 10 / 496.
(13) انظر: تحفة الإخوان، فهو مهم في هذا، والدرر السنية 4 / 135، 140 - 143، 20، 208 - 216، ومن النظر فيها يتبين أن ما استشكله الطبري غير مشكل والله أعلم.(15/11)
خواطر في الدعوة
رجل الفطرة
محمد العبدة
يرجع الداعية - في بحثه الدؤوب عن أصحاب الفطر السليمة الذين لا
يحملون بين جوانحهم عوامل الضعف والهزيمة النفسية - إلى سيرة مُعلِّم الخير
محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليستلهم منها معالم تنير له الطريق.
ومن الدروس المستفادة من السيرة النبوية أن الله سبحانه وتعالى بعث أكرم
خلقه من بيئة لا هي بالحضرية المدنية المغرقة في الترف وفنون النعيم والملذات،
ولا هي بالبدوية الجافية البعيدة عن التمدن والعمل المشترك، فالأسر القرشية لم
تصل بعد إلى تعقيدات المدنية، ولم تأسرها الشكليات والمظاهر، ولا يزال شباب
قريش يألفون الخشونة والفروسية، رغم عيشهم في بيئة تجارية مبتعدين عن خلق
المذلة والمراوغة التي يألفها من استحكمت فيه عوائد الترف، أو عاش تحت قهر
الاستبداد والبحث عن لقمة العيش في بيئة مادية لا رحمة فيها ولا شفقة.
ولا نعني من هذا أنه لا بد من العيش في قرى أو مدن صغيرة -كمكة عند
البعثة-، فهذه سطحية في التفكير وسذاجة، ولكن المقصود هو: العيش في أجواء
الفطرة السليمة، أجواء التخفف من القيود التي تكبل المسلم عن الانطلاق في دعوته، هذه القيود التي لم يأت بها شرع ولا حكم بها عقل، ولكن دواعي الانحطاط هي
التي تهتف بها.
فالدعوة لا يتم أمرها ولا يقوى عودها إلا برجال تعودوا الخشونة، تتجافى
جنوبهم عن الانغماس في النعيم، كلما سمعوا هيعة طاروا إليها.
والرجل الذي عاش حياته راضياً بالقليل، بل خائفاً من ذهاب هذا القليل،
عاش يسمع وصايا والدته تحذره وتخوفه من أي عمل عدا العمل الذي سيعيش منه،
هذا الرجل قد انغرس في نفسه الضعف، وأصبح بعيداً جداً عن المغامرة وركوب
المصاعب، فهو دائماً يخاف من المجهول، يخاف من المستقبل، يفكر دائماً في
الاحتياطات اللازمة لتدبير (العيش) .
هذا الرجل الذي يحمل أتعاب مدينة مرت عليها قرون وهي تعيش تحت قهر
كل متغلب، وتألف كل قادم، هو لا شك يشعر بضآلة نفسه وقصور همته، ولا
يسمح لتفكيره بأن يخطر له ذكر الأعمال الكبيرة والمشروعات العظيمة، بل إذا
حمل فكرة قوية يمسخها إلى (نصف) فكرةٍ يؤوِّلها حتى تتمشى مع ضعفه وانحطاطه، فهو دائماً في منتصف طريق ونصف نهضة، لا هو بالبادىء، ولا هو بالمنتهي، فإذا تعلم ودرس أصبح نصف دارس أو نصف طبيب، وإذا كان موظفاً يحس أنه
جزء صغير من آلة ضخمة، فمثل هذا لا يساعد على التحفز لعمل كبير، فهو
رجل (الحد الأدنى) .
ونحن نريد رجل الفطرة الذي يملك حيوية الاندفاع والتضحية، فيه بساطة
وسمو، فإذا عقل الإسلام وفقهه فقد جمع (نوراً على نور) ، وهو الرجل المؤهل
للتغيير.(15/20)
حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمته
د. سليمان العايد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد:
فإن الله خلق البشرية لغاية واضحة، وهي غاية شريفة بمقدار ما يحققها
الإنسان ترتفع منزلته عند الله، هذه الغاية هي: عبادته وحده كما قال تعالى: ... [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ، وقال تعالى: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] ، وقد
كانت بداية البشرية التوحيد؛ فكانت عليه حقبة من الزمن ثم ضلت عنه، كما جاء
ذلك في الحديث الذي رواه مسلم في (صحيحه) ، قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم
عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) . قال ابن عباس: (بين آدم ونوح ...
عشرة قرون، كلهم على التوحيد، ثم طرأً الشرك عليهم بعد إيمان، وأرسل الله
الرسل للبشرية ليردوهم إلى الحق ويذودوهم عن حياض الشرك، [قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْهَا جَمِيعاً فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] .
وكان مبدأ الشرك من الغلو في الصالحين وإنزالهم فوق منزلتهم، واعتقاد أن
الخير يأتي عن طريقهم، وأنه لا يُوصَل إلى الله إلا بهم. قال المفسرون في تفسير
قوله تعالى: [وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وداً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ
ونَسْراً] قالوا: " هذه أسماء رجال صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون
بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم لكانوا عوناً لنا على
العبادة، ولذكرتنا صورهم فعل الخير، فصوروهم، فلما انقرض ذلك الجيل،
وجاء مَن بعدهم: أوحى إليهم إبليس بأن آباءهم كانوا يعبدون تلك الصور، وبهم
يسقون المطر، فعبدوهم) .
وهذا يدلنا على أن مبدأ الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما كان بسبب
الغلو في بعض من يظن بهم الصلاح.
وقد حذر نبي هذه الأمة، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أمته أن
تقع فيما وقعت به الأمم السابقة من الغلو والإطراء الذي لا تسيغه الشريعة، ولا
يقبل به عقل سليم ولا يقره منطق قويم، حذرنا بقوله فيما رواه عنه عمر بن
الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تطروني كما أطرت
النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله) متفق عليه. وقد كان من شأن
النصارى أنهم قالوا في عيسى: هو الله، وبعضهم قال: هو ابن الله، وبعضهم قال: هو ثالث ثلاثة، كما حكى الله عنهم تلك الأقوال؛ ورد عليهم قولهم، فقال: [وإذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي
بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُم] .
وقد غلا إخوانهم اليهود من قبل مثل هذا الغلو حين قالوا: عزير ابن الله،
كما قال تعالى عنهم: [وقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] .
وقد جاء التحذير عاماً عن الغلو في كل شيء، قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) رواه أحمد والترمذي
وابن ماجه. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه ابن مسعود:
(هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً) رواه مسلم. وقد أخبر رسول الهدى أن هذه الأمة ستقلد الأمم السابقة فقال: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو
دخلوا جحر ضب لدخلتموه) متفق عليه.
وقد كان من متابعة الأمم السابقة: الغلو في الصالحين والأنبياء، ومن أمثلة
ذلك: غلو بعض الناس بالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، فيعتقد أنه يعلم الغيب
كما قال القائل:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وفات هؤلاء قوله تعالى: [ولَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ومَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ] . ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدري متى وقت الساعة
كما جاء في حديث جبريل- عليه السلام-.
وبعضهم يعبد الله ومحمداً، فيصرفون له شيئاً من العبادة، ويجعلونه نداً لله،
وبعضهم يقول:
إن الله خلق آدم وجميع المخلوقات من أجل الرسول محمد -صلى الله عليه
وسلم-.
وبعضهم يعتقد أن الأرزاق من كفه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا مناقض
لقوله تعالى: [قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي
مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ] .
والغلو لا يقف عند حدٍّ، وإنما يجمعه أنه تجاوز القدر الصحيح، فالرسول
محمد -صلى الله عليه وسلم- هو محمد بن عبد الله، رسول الله، ونبيه، وعبده،
لا يجوز هذه المنزلة، وهو سيد ولد آدم، والشافع لهم يوم الحشر بإذن الله كما قال
تعالى: [قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ
واسْتَغْفِرُوهُ ووَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ] .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل
القديد) ، وكل مسلمٍ يقول: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله- وذلك في تشهد الصلاة) . ...
فكون الرسول بشراً لا ينقص من قدره، ولا يجعلنا نرفض الاقتداء به كما
قال المشركون، [أبشراً مِّنَّا واحِدًاً نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذًاً لَّفِي ضَلالٍ وسُعُرٍ] ، بل إن
بشريته هي التي تجعل منه القدوة التي نقتدي بها، والأسوة التي نتأساها، وقد
اختار الله نبيه من خير الناس كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فأنا
خيار من خيار من خيار) . واختاره لأعظم عملٍ، وهو الرسالة وتبليغ دينه
للعالمين، [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] وقد استغرب المشركون اختياره دون
واحد من العظماء، [وقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ ... عَظِيمٍ] ، ورباه الله على أحسن الخلق، [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] .
وقد قام بالبلاغ أتم قيام، وبلّغ رسالته للعاملين أتم بلاغ، كما قالت عائشة:
من قال لكم إن محمداً كتم شيئاً مما أوحاه الله فقد أعْظم الفرية، ولو كان مُخفياً شيئاً
لأخفى قوله: [وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَن ... تَخْشَاهُ] . وقد تحمل في سبيل تبليغ دعوته صنوف الأذى، والاضطهاد، وكابد
المشقات حتى نصره الله وبلغ دينه.
وله -في ذلك -على كل مسلم أجر، وله على كل مسلم حق، فما هو حق
الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمته؟ ؛ أهو إطراؤه -وقد نهى عنه-؟ ؛ أم
هو المدائح وفيها من الغلو الشيء الكثير؟ ؛ أم هو صرف شيء من العبادة إليه
كالاستشفاع والاستغاثة ودعائه من دون الله؟
إن كل هذا يناقض أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد نهى عنه أشد
النهي كما تقدم، إذن ما هي حقوق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمته؟
يمكن أن نجمل تلك الحقوق في أربعة أمور:
1- تصديقه، والإيمان به، واتباع سنته وطاعته.
2- محبته -صلى الله عليه وسلم-، ومحبة سنته، ومحبة ما يحبه.
3 - توقيره وتعزيره.
4 - الصلاة والسلام عليه.
وسنتعرض لهذه الأمور بذكر الأدلة عليها من القرآن والسنة، فنقول:
1 - تصديقه، والإيمان به، واتباع سنته وطاعته، وهذا هو معنى شهادة:
أن محمداً رسول الله، قال تعالى: [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير] ، وقال: [ومَن لَّمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ فَإنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَعِيراً] .
وقد أمر الله عباده بطاعة نبيه فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
ورَسُولَهُ ولا تَوَلَّوْا عَنْهُ وأَنتُمْ تَسْمَعُونَ] .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال:
من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري والحاكم.
وقد أمر الله عباده المؤمنين باتباع نبيه، والاقتداء بسنته، فقال: [قُلْ إن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] ، و: ... [فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] .
ورغَّب في قبول حكمه، والتسليم لقضائه والرضى بأمره، [فَلا ورَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ
ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] ، وقد جعل الله عبده محمداً قدوة المؤمنين وأسوة المتأسين، [لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ ... كَثِيراً] [الأحزاب: 21] ، وحذر من مخالفته، والخروج عن أمره [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ، [ومَن يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: 115] .
2- محبته -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن
أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) رواه الشيخان،
وأخرجا عن أنس أيضاً: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن
يعود في الكفر بعد إذ أنجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) .
وقال عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا
نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لن يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من نفسه، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب
إليَّ من نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر) ، رواه البخاري. (وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: متى
الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة
ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت) رواه
مسلم والبخاري.
ولمحبته -صلى الله عليه وسلم- علامات، منها: الاقتداء به، وإيثار شرعه، وتقديمه على أهواء النفس، وذكره بالصلاة عليه كما شرع، ومحبة أصحابه وما
يحبه -صلى الله عليه وسلم- كحب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأزواجه مثل،
عائشة التي سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أحب الناس إليك فقال:
عائشة، قالوا: من الرجال، قال: أبوها) .
3 - تعزيره وتوقيره، وتعظيم أمره: قال تعالى: [إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً
ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلا]
[الفتح / 8 - 19] ، وروى مسلم عن عمرو بن العاص قال: (وما كان أحد أحب
إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق
أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ
عيني منه) .
وخير تعظيم لرسول الله تعظيم سنته.
4 -الصلاة والسلام عليه: لقوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً] ، والصلاة من الله: ثناؤه على
أنبيائه، والصلاة من الملائكة: الاستغفار، ومن الناس: الدعاء والتعظيم والتكريم.
والصلاة عليه من أعظم الذكر، روى الإمام أحمد عن عامر بن ربيعة قال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من صلى عليّ صلاة لم تزل
الملائكة تصلي عليه ما صلَّى عليَّ، فليقلَّ عبدٌ من ذلك أو ليكثر) . وروى عبد
الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: (إن جبريل أتاني فبشرني: أن الله -عز وجل- يقول لك: من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلم عليك سلمتُ عليه، فسجدتُ لله -عز
وجل- شكراً) .
وروى الترمذي عن ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة) . قال أبو عيسى: هذا حديث
حسن غريب.
وتتأكد الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواضع وأعمال، منها:
1- إذا ورد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، لقوله: (البخيل من ذكرت
عنده فلم يصلِّ عليَّ) رواه أحمد وإسماعيل القاضي، وعن أبي هريرة قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي،
ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف
رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
ومثل هذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة عليه كما ذكر، وقال بعضهم بوجوبها
كلما ذكر، وقال بعض آخر: تجب أول مرة، وتسن فيما بعد.
2 -الصلاة عليه في المجالس، لقوله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) .
3- الصلاة عليه عند سماع المؤذن، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا
سمعتم مؤذناً فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلى الله
عليه بها عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من
عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة) رواه
أحمد ومسلم وغيرهما.
4- الصلاة عليه عند دخول المسجد والخروج منه، وعند المرور بالمساجد،
لأنه -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: (اللهم
اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك) . وإذا خرج: (صلى على محمد
وسلَّم، ثم قال: (اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك) . رواه أحمد.
ولقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (إذا مررتم بالمساجد فصلوا
على النبي -صلى الله عليه وسلم-) ، رواه إسماعيل القاضي في كتاب (الصلاة) .
5- الصلاة عليه في التشهد الأخير، وهو ركن من أركان الصلاة أو واجب،
وأما الصلاة عليه في التشهد الأول: فهي مستحبة.
6- الصلاة عليه في صلاة الجنائز، فإن من السنة أن يقرأ في التكبيرة
الأولى بفاتحة الكتاب، وفي الثانية يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي
الثالثة يدعو للميت، وفي الرابعة يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده.
7 - الصلاة عليه بين تكبيرات صلاة العيد، لما رواه إسماعيل، عن علقمة، وعن ابن مسعود، وأبي موسى، وحذيفة.
8- تستحب الصلاة عليه عند ختم الدعاء، لقول عمر: (الدعاء موقوف بين
السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك) رواه الترمذي بسند
صحيح.
9- يوم الجمعة وليلته يستحب الإكثار فيه من الصلاة عليه، لقوله -صلى الله
عليه وسلم-: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة، ففيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه
النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت - يعنى: وقد بليت؟
قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد وأبو داود
والنسائي وابن ماجه، وقد ذهب الإمامان الشافعي وأحمد إلى وجوب الصلاة عليه
والسلام في خطبتي الجمعة. ولا تصح الخطبتان إلا بذلك.(15/22)
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
-2-
محمد العبدة
مشكلة الحضارة:
ينطلق فكر ابن نبي من سؤال لا يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا
بالحضارة الغربية وهى تطرق الأبواب وتدخل من كل المنافذ، وكان السؤال: ما
هي أسباب تقهقر المسلمين؟ وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم
وفاعليتهم المفقودة وليكونوا شهداء على الناس؟ . وكانت الإجابة عن هذا السؤال
هي محور كتابات وأقوال الذين تصدوا لحركة الإصلاح والنهوض بالأمة على
اختلافهم في القرب أو البعد عن الصواب. بل إن كثيراً منهم كانوا (لا يعالجون
المرض بقدر ما يعالجون أعراضه) [1] ، وأما الإجابة المتبادرة: (لابد من العودة
للدين) فهي وإن كانت صحيحة بلا شك ولكنها بحاجة إلى تفاصيل، فعندما ندخل
في عمق الموضوع ونبدأ بالعمل سنجد أن هذا المسلم المقتنع بهذا الجواب يحمل بين
جنتبيه أمراضاً اجتماعية وفكرية ونفسية تعيقه عن فهم الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، ليتحول هذا الفهم إلى فعالية للتغيير، وهذه الأمراض كانت نتيجة تراكم عصور
من الابتعاد عن العلم النافع والعمل المثمر، فالأمة الإسلامية (كالفارس الذي أفلت
الركاب من قدميه ولم يسترده بعد، فهو يحاول أن يستعيد توازنه) [2] .
كيف نصوغ عقل هذا المسلم مرة أخرى حتى يعود إلى فعاليته؟ من هنا
ينطلق ابن نبي ليقول: (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية،
ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها) [3] . فالمسلم الآن
لا يعيش حالة (حضارة) وإنما هو من بقايا حضارة وهي الحضارة الإسلامية طبعاً،
ولابد من إدخاله مرة ثانية في دورتها، فالإنسان السابق على الحضارة (العربي قبل
البعثة مثلاً) هو مثل جُزَيء الماء قبل وصوله إلى خزان ينتج الكهرباء، فهذا
الجزيء منطو على طاقة مذخورة، قابل لتأدية عمل نافع، ولكن هذا الجزيء يفقد
طاقته بعد أن استنفذها في إنتاج الكهرباء، وإذا أردنا أن نعيد له قوته علينا أن
نرفعه مرة ثانية إلى مكان عال، أو أن يتبخر ثم يتكثف ليعود جزءاً من طاقة مائية
تقع قبل خزان معين) [4] .
ورفع المسلم إلى هذا المكان السامق لا يتم إلا بشحنة إيمانية عالية وأخلاق
كأخلاق الصحابة، ولا يتم هذا إلا (بتوتر روحي) حسب تعبير مالك.
ماذا يقصد بالحضارة؟
(هي: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم
لكل فرد من أفراده - في كل طور من أطواره -وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة
المساعدة الضرورية) [5] ، أو: (هي: إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ) [6] ، (هي ليست كل شكل من أشكال التنظيم للحياة البشرية في أي مجتمع كان، ولكنها شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية واستعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة) [7] ، وهي جوهر الوجود للمجتمع، وعكسها هو: الهمجية والعودة إلى البدائية المترحلة [8] ، فالعرب انتقلوا بالإسلام إلى حضارة، والشعوب الأخرى انتقلت بعقيدة من العقائد إلى حضارة، فهي قدرٌ محتوم لمجتمع يتحرك لبناء نفسه ولأهداف معينة.
أما العوامل التي تشكل الحضارة؛ فقد صاغها على شكل المعادلة التالية:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت. ولكن هذه المعادلة لابد لها من
مُركّب أو مفاعل، وهذا المركب هو (الدين) سواء كان ديناً حقاً كالإسلام، أو بقايا
دين أو عقيدة تبلغ عند أصحابها مبلغ الدين في الحماسة لها والتضحية في سبيلها.
(لكي نقيم حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه
المشكلات الثلاث من أساسها) [9] ، فالحضارة لا تستورد ولا تفصل لكل أمة على
مقاسها، وهي التي تلد منتجاتها وليس العكس.
من هذه التعاريف يتبين لنا أن: ابن نبي له تعريفه الخاص للحضارة، فهي
شكل راق من الحياة الأخلاقية والمادية، وهناك حضارة إسلامية، حضارة غربية
... إلخ.
وحسب تعريفه هذا: فإن الصين الحديثة أقلعت باتجاه حضارة، فقد اجتمع
لها الحماس للفكر واستخدام التراب والوقت، وقبْلها اليابان وروسيا ... ورغم أهمية
هذه المعادلة بالنسبة للعالم الإسلامي الذي لم يقلع بعد. ورغم نقد أبن نبي للحضارة
الغربية المادية وجشعها، فإن رائحة المادية تفوح من هذه التعاريف، فروسيا أقامت
نهضتها الصناعية بعد أن قتلت وشردت الملايين، وقُل مثل ذلك في الصين، فهل
المهم هو استغلال الوقت والتراب ولو على حساب الإنسانية؟ ! وأما العنصر
الأخلاقي أو الروحي (Ethes) أو ما أسماه (الفكرة الدينية) التي يكون أصلها من
السماء، فقد استوحاها من (كسرلنج) الذي يقول: (وكان أعظم ارتكاز حضارة
أوربا على روحها الدينية) .
ويعرف الروح الدينية: (ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق
أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان،
والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على
إدراك الأشياء) [10] .
فهذا المفكر يعتبر أن (الروح المسيحية) و (مبدأها الخلقي) هما القاعدتان
اللتان شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية، وجاء مالك وأخذ عنه هذه الفكرة
ووضعها قاعدة عامة لكل الحضارات، وأخذ عنه أيضاً وعن (شبنجلر) تقسيمه
لدورة الحضارة إلى المراحل الثلاث: روحية، وعقلية، وغرائزية، وإن كان ابن
خلدون قبلهم قد قال بمثل هذا ولكنه تكلم على الدول ولم يتكلم عن الحضارات،
ومقولة: (أنه لا توجد حضارة إلا وللدين أثر فيها) صحيحة من حيث الجملة، وقد
قال بها ابن تيمية أيضاً [11] ، ولكن يبقى الإشكال هو: وضع الإسلام موضع
المساواة مع أي فكرة دينية واعتباره شعلة أخلاقية تصلح لتركيب المعادلة، هنا
موضع الخطورة والنقص، فالمفكر (كسرلنج) عندما يتكلم عن النصرانية يتكلم عنها
كجزء من الأجزاء المكونة للحضارة الغربية، ولكن الإسلام دين شامل وليس مبدأ
أخلاقياً فحسب، وقاعدته الأساسية هي التوحيد الذي ينبني عليه الأخلاق والآداب
والتشريعات ... وما يعتبر فناً رائعاً عند من يكتب عن الحضارات يعتبر حراماً في
الإسلام.
والواقع أن ابن نبي غير واضح في هذه المسألة، فنراه واعياً لمسألة الشمولية
عندما يعتبر العصر الراشدي هو النموذج دائماً وتعاطفه وتأييده للحركات الإسلامية، مثل: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة جمعية العلماء في الجزائر،
وربما يكون ضعفه في العلوم الشرعية هو الذي جعله يقع في أخطاء توحي بعدم
الشمولية، وخاصة في موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك فإن طرحه لمشكلة الحضارة بمعناها الواسع هو من الأهمية بمكان،
ولذلك سنمضي معه في وقفته الطويلة عند هذا الموضوع.
إن ارتفاع المسلم إلى مستوى (حضارة) (فيتعلم كيف يعيش في جماعة،
ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية) [12] ، ويتعلم
كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص) ، هذا الارتفاع لابد منه وهو المطلوب
الآن، بينما نرى في الواقع أن المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يستطيع مجابهة
مشاكله وكيف يحلها، لأنه تعلم وأخذ شهادات مدرسية ولكنه لم يتثقف، ولم يتشرب
من بيئته في المنزل والمدرسة كيف يكون فعّالاً، وكيف يقوم بأعمال مشتركة مع
الآخرين، والإسلام عندما رفع العرب إلى مستوى (حضارة) عدّل من طباعهم حتى
تكون وسطاً، ووضعهم بين حدّي الوعد والوعيد، وعدل من غرائز الإنسان ولم
يكبتها (حرّم الزنا وشجع الزواج) ؟ ، وهكذا دخل العربي وغير العربي في حضارة
الإسلام، وأصبحت شخصية المسلم شخصية سوية ليس فيها عُقد نفسية أو اجتماعية، وعندما عُزل خالد بن الوليد- رضي الله عنه- عن قيادة الجيوش في الشام لم
يُحدث عزله أي مشكلة، ولو حصلت هذه الحادثة بعد بضعة عقود من السنين
لزلزلت الأرض.
والمسلم الذي هو (خارج من حضارة) -كما يعبر مالك بن نبي- يتصرف
بأنانية مفرطة، قد تضخمت عنده (الأنا) ؛ فلا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بمصلحته
الخاصة، ولا يستطيع أن يقوم بعمل تعاوني مع غيره، وإذا ذهبت إلى منزل هذا
المسلم (الطيب) ستجد آثار تضييع المال ودون قصد منه في كثير من الأحيان،
فأولاده يحطمون كل شيء، وبقايا الطعام تتناثر فوق السجاد الفاخر، والأم الجاهلة
تنظر إليهم وكأن شيئاً لم يكن، ولأنه لم يرتب أموره الاقتصادية تذهب أمواله إلى
أصحاب المصانع في الغرب والشرق لتكون عوناً لهم على المسلمين، مع أنه يعلم
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن (إضاعة المال) . وعندما أراد بلد
كأندونيسيا النهوض باقتصاده استدعى الخبير المشهور (شاخت) ، ولكن خطط هذا
الخبير لم تنجح في أندونيسيا ونجحت في ألمانيا الغربية، والسبب هو: أن الشعب
الأندونيسي لم يرق بعد إلى مستوى (حضارة) .
وعندما يتم استيراد الأجهزة الحديثة من أفضل ما أنتجته التقنية الغربية لا
يستفاد منها كثيراً في بلادنا، لأنه لا يوجد جو اجتماعي ثقافي يحيط بها ويحفظها،
فالنظم الاستبدادية جعلت العقول العلمية تهاجر إلى الغرب.
هذا ما يقصده مالك بن نبي عندما يبدأ ويعيد في موضوع الحضارة، وأن
المسلم لا يعيش ولا يتنفس الثقافة الملائمة له، وإنما يحمل أمراض بيئته المتخلفة
وهو لا يشعر، ونحن نوافقه من هذا الجانب، ولذلك سنبدأ بعرض بعض المعوقات
التي يراها مانعة من دخول المسلم في (بادرة حضارة) وتعرقل مساعيه للانطلاق
والنهوض:
القابلية للاستعمار:
عندما يستعرض مالك بن نبي التاريخ الإسلامي يقسمه إلى فترات ثلاث:
1- الفترة الروحية التي دخل المسلمون فيها إلى حضارة إسلامية: وتبدأ
ببداية البعثة النبوية وتنتهي عند معركة صفين، وتتميز هذه الفترة (بأروع صور
الزهد والتقشف التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلها الأعلى، كما تتميز
بالتضحية من قبل الصحابة مثل: أبي بكر وعثمان وعمر ... ) [13] .
وفي هذه الفترة خضعت كل النوازع للإيمان، وغابت كل الأنانيات
والعصبيات، واندفع المسلم بكل طاقاته وإمكاناته، وكانت شبكة العلاقات
الاجتماعية على أقوى ما يتصوره إنسان، وبلغة علم النفس: فإن الفرد يكون في
أحسن ظروفه ويعيش التوازن الدقيق بين: الروح والعقل، أو بين: الروح والمادة.
2- الفترة العقلية: وتمثل أوج ازدهارها المدنية الإسلامية كالفترة الأموية
والعباسية الأولى، وفيها تدون العلوم وتتأسس المدينة ويستبحر العمران- كما يعبر
ابن خلدون. (بيد أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التمرد
بالتدريج) [14] ، وتضعف قليلاً شبكة العلاقات الاجتماعية ولكن المجتمع يستمر
قوياً بالاندفاع الأول؛ حتى يصل لمرحلة تنتهي فيها قوة الاندفاع كمحرك استنفذ
آخر قطرة من وقوده، وتنتهي هذه الفترة بانتهاء عصر دولة الموحدين في المغرب.
3 - مرحلة الغرائز التي تستمر حتى بداية هذا القرن: حيث يحاول العالم
الإسلامي النهوض، وفي هذه الفترة تتغلب الغرائز الفردية والتفكك الاجتماعي،
ويعيش المسلم على هامش التاريخ، والمجتمع مكوَّن من أفراد لا ينقصهم التدين في
كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم
يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة، فهم أفراد من
بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه مالك بن نبي (القابلية للاستعمار) ،
فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تُستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها، وقد
يتعرض بلد من البلدان للاحتلال والغزو ولكنه يقاوم، أما الاستعمار فهو صفات
نفسية في المستَعمِر والمستعمَر، فهناك فرق بين الاستعمار والاحتلال، وقد
استعمرت بريطانيا بلداً كبيراً كالهند ولكن إقليماً صغيراً كإيرلندا الشمالية استعصى
عليها، وإن بلداً كاليمن لم يدخله الاستعمار ولكنه مصاب بنفس أمراض العالم
الإسلامي.
وقبل أن نمضي مع مالك بن نبي في تحليله للفترة الثالثة، لابد من إبداء
تحفظ على هذا التقسيم الحاد للتاريخ الإسلامي الذي يبدو فيه أقرب إلى عقلية
المهندس [15] منه إلى عقلية المؤرخ، فتركيزه على صِفِّين جعل حكمه قاسياً على
الفترة التي أعقبتها، بل وقع في أخطاء تاريخية وشرعية، والضعف العلمي الذي
غلب على الأمة الإسلامية إنما هو بعد القرن التاسع وليس بعد الموحدين مباشرة.
وقد عبر ابن خلدون عن هذه الحالة بنبرة الأسى والحزن: (وكأني بالمشرق قد
نزل به ما قد نزل بالمغرب ولكن على مقدار ونسبة عمران، وكأنما لسان السكون
ينادي في العالم بالنوم والخمول فأجاب) [16] ، ومجيء دولة قوية كالدولة العثمانية لم يغير من الناحية الحضارية شيئاً، حتى إذا جاء القرن الثاني عشر الهجري كانت
الأمة الإسلامية في غاية الضعف والتمزق. (وأصبحت دوافع الحياة فاترة، يعبر
عنها قول أحدهم عندما يسأل عن مهمة حياته: (نأكل القوت وننتظر ... الموت) [17] .
إن الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يركز عليها مالك بن نبي ربما تظهر
لبادي الرأي أنها صغيرة وليست هي مشكلة المسلمين الرئيسية، والجواب على ذلك: أننا حتى لو اعتبرناها صغيرة ولكنها مهمة جداً لأنها كحبات الرمل التي تستطيع
إيقاف آلة ضخمة.
الشلل الأخلاقي:
إن أخطر مرض أصاب المسلمين هو الانفصام بين النموذج القرآني والتطبيق
العملي، فقد انعدمت الدوافع الآلية التي حركت الرعيل الأول من الصحابة [18] .
ويلخِّصها قول الفرزدق الشاعر للحسين بن علي -رضي الله عنه- واصفاً
أهل العراق: (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية) ، وبدأ ضمير المسلم يتهرب من الحقائق المنزلة (وحركة الخوارج والمعتزلة مثال على ذلك) [19] ، ولكن هذا
المرض ازداد فشواً في مجتمع (ما بعد الموحدين) ، فأصبح المسلم نتيجة لغروره لا
يحاسب نفسه، ولا يعترف بأخطائه، وأصبحت المعادلة: (بما أن الإسلام دين
كامل وبما أنه مسلم، فالنتيجة أنه كامل، وبذلك اختلت أي حركة عنده لزيادة الجهد
والتقدم) [20] .
ونتيجة لهذا الخلل ضعفت الروابط الاجتماعية: (فعالم الأشخاص لا يتألف
ضمن منهج تربوي، يهتم بالأخلاق) [21] ، وهذا التآلف مهم جداً، قال تعالى: ... [لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ] ؟ [الأنفال / 63] ، ومبدأ المؤاخاة الذي قام بين المهاجرين والأنصار أصبح من
الخطابات السعيدة، والأخوَّة الإسلامية أصبحت كلاماً للزينة وشعور تحجر في
نطاق الأدبيات [22] ، وهذا الضعف يقصد به المجتمع ككل ولا يقصد به كل فرد،
فلا يزال في الأمة (كأفراد) خير كثير، ولا يزال الناس في الريف أقرب للفطرة.
عدم الفعالية:
وكان من نتائج هذا الانفصام الأخلاقي: أن المسلم يحمل أفكاراً صحيحة
ولكنه لا يستطيع تطبيقها في دنيا الواقع، كفريسة تعرضت للشلل حتى يسهل
ابتلاعها، لأن البيئة التي تحيط به وتغذيه بثقافتها أصبح مثلها الأعلى هو الزهد
الأعجمي والصوفية أصحاب المرقعات، ولا يتمثلون بعمر بن الخطاب أو بعبد الله
بن المبارك أو الإمام مالك، (والمسلم في هذه الحالة إنما يغالط نفسه، فيهرب إلى
هذه التعلات الصوفية الكاذبة) [23] ، وفي المقابل: نجد عند الغربيين أفكاراً قد لا
تثبت أمام النقد الموجه لها ولكنهم استخدموها إلى أقصى ما يستطيعون، مثل: فكرة
(التقدم) ، والمسلم يحمل القرآن ولكنه لا يستفيد منه كثيراً في التخطيط لنهضة قادمة، فعقلية ما بعد الموحدين تشله عن الإبداع، هناك خلل في طريقة تفكيره، فعندما
اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية لم يستفد منها المجتمع الإسلامي لأنه لم يكن على
المستوى الثقافي الذي يحيط هذا الاختراع بالرعاية، والمشكلة: (أن مجتمع ما بعد
التحضر يسير إلى الخلف بعد أن انحرف عن طريق حضارته وانقطعت صلته ... بها) [24] .
أمثلة على هذا الخلل:
1- ذهان السهولة (مرض السهولة) : يميل المسلم في تقويمه للأشياء إما للغلو
فيها أو للحط من قيمتها، ويتمثل هذا في نوعين من الأمراض: فإما أن الأمور
سهلة جداً ولا تحتاج إلى تعب وكد فكر، والحل بسيط، وإما أن الأمور مستحيلة،
وأبرز مثال على مرض (السهولة) : قضية فلسطين، فقد قيل: إن إخراج اليهود
سيتحقق بعد أشهر، ولو نفخنا عليهم نفخة واحدة لطاروا، ولكنهم في الحقيقة لم
يطيروا، (وهناك من يظن أنه بخطبة رنانة تحل مشاكل المسلمين، وبعضهم يكره
أن تدعوه إلى تفكير عميق في موضوع ما من الموضوعات لأنه يؤثر السهولة
ويكتفي بتفسير سطحي، وعندما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة فإنها سوف
تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء
على سهولات الحاضر لا على صعوبات المستقبل) [25]
وأيسر طريق لأصحاب السياسات الانتهازية أن يستخدموا كلمات مثل:
الاستعمار والإمبريالية والوطنية؛ للتغرير بالشعوب، هذه الكلمات التي (تليق جداً
لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً) [26] .
2 - ذهان الاستحالة: وقد يحدث العكس، فيرى المسلم أن الأمور مستحيلة
ويقف أمامها عاجزاً، وهي في الحقيقة غير مستحيلة ولكن ربما يضخمها عمداً حتى
لا يتعب نفسه في الحل، أو أنه يشعر بضآلة نفسه وصغر همته فيحكم عليها
بالاستحالة، وقد مرت فترة كانت بعض الشعوب تنظر إلى صعوبة إخراج
المستعمر من بلادها [27] . وقد تجد اليوم بعض المسلمين الذين ينتظرون (معجزة
الرجل الوحيد) كأن يأتي صلاح الدين آخر ليوحد المسلمين من جديد، ويعتقدون
استحالة أية محاولة لاستئناف حياة إسلامية.
3- طغيان الأشياء: عندما يكون مجتمع ما في حالة نهوض يجب أن يتحقق
الانسجام والتوازن بين هذه العوالم (الأشياء والأشخاص والأفكار) ، ولكن الحقيقة أن
النزعة (الكمية) هي المسيطرة، (فلا يسأل المؤلف عن الموضوع الذي تناوله في
بحثه، وإنما يسأل عن عدد صفحات الكتاب، وقد يقع المؤلف نفسه في هذه النزعة
فيفتخر بأنه أخرج كتاباً من كذا صفحة) [28] .
وعندما تريد إحدى المصالح الحكومية تجهيز مقرها: تزوده بعدد خيالي من
المكاتب، بحيث يتعذر توفير المكان اللازم لها، والموظف الكبير يجب أن يكون
في غرفته أربعة تلفونات وخمس أجهزة تكييف، ومشكلة التنمية تعالج بزيادة
الضرائب التي تشل جميع أوجه النشاط الفردي، وفي هذه الأجواء يظن الفرد أن
(التكديس) هو الحضارة، فيشتري منتجات الغرب بكميات أكثر مما يحتاج له، ... (وإذا كان مجتمع ما قبل التحضر فقيراً في عالم الأشياء، فإن مجتمع ما بعد التحضر
مكتظ بالأشياء ولكنها خالية من الحياة) [29] .
-يتبع-
__________
(1) مالك بن نبي: شروط النهضة / 2 59.
(2) مالك بن نبي: مشكلة الأفكار / 217.
(3) شروط النهضة / 23.
(4) المصدر السابق / 106.
(5) آفاق جزائرية / 38.
(6) مشكلة الأفكار / 49.
(7) آفاق جزائرية / 77.
(8) فكرة الأفروآسيوية / 85.
(9) شروط النهضة / 66.
(10) شروط النهضة / 84.
(11) شروط النهضة / 84.
(12) انظر ما كُتب عن هذا الموضوع في العدد الأول من البيان / 116 12- ميلاد مجتمع / 88.
(13) مشكلة الأفكار / 53.
(14) فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام / 414.
(15) الذي هو اختصاصه، فقد تخرج عام1935 مهندساً كهربائياً.
(16) مشكلة الأفكار / 43.
(17) تأملات / 40.
(18) مشكلة الأفكار / 214.
(19) وجهة العالم الإسلامي / 114.
(20) المصدر السابق / 77.
(21) مشكلة الثقافة / 60.
(22) وجهة العالم الإسلامي / 46.
(23) آفاق جزائرية / 23.
(24) مشكلة الأفكار / 43.
(25) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة / 27.
(26) المصدر السابق / 27.
(27) وجهة العالم الإسلامي / 80.
(28) مشكلة الأفكار /102.
(29) مشكلة الأفكار / 44.(15/30)
الثبات على دين الله
-2-
محمد صالح المنجد
التربية: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات.
التربية الإيمانية: التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة،
المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل
الرجال.
التربية العلمية: القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمعية الذميمة.
التربية الواعية: التي تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً، وبالأحداث فهماً وتقويماً، المنافية للانغلاق والتقوقع على
البيئات الصغيرة المحدودة.
التربية المتدرجة: التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطِّمة. ...
ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ونسائل أنفسنا: ما هو مصدر ثبات صحابة النبي -
صلى الله عليه وسلم- في مكة إبَّان فترة الاضطهاد؟ كيف ثبت بلال وخباب
ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار
الشِّعب وغيره؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ثقَّلت
شخصياتهم؟ لنأخذ رجلاً صحابياً مثل: خباب ابن الأرت -رضي الله عنه- الذي
كانت مولاته تُحْمي أسياخ الحديد حتى تحمَر، ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا
يطفئها إلا ودك (شحم) ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟
و" بلال " تحت الصخرة في الرمضاء، و " سميَّة " في الأغلال والسلاسل ...
وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني، من الذين ثبتوا مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- في حنين لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم مسلمة الفتح الذين
خرج أكثرهم طلباً للغنائم، وحديثو العهد بالإسلام؟ كلا ... إن غالب من ثبت هم
أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، لو لم تكن هناك تربية تُرى هل سيثبت هؤلاء؟
ثامناً - الثقة بالطريق:
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم كان ثباته عليه أكبر ... ولهذا وسائل منها:
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداّ ولا وليد قرنك
وزمانك، وإنما هو طريق عتيق [1] ، قد سار فيه من قبل من الأنبياء والصديقين
والعلماء والشهداء والصالحين، فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أُنساً، وكآبتك
فرحاً وسروراً، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
- الشعور بالاصطفاء، قال الله -عز وجل-: [الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَذِينَ اصْطَفَى] [النمل: 59] ، [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا] ... [فاطر: 32] ، [وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ] [يوسف: 6]
وكما أن الله اصطفى الأنبياء؛ فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو: ما
ورثوه من علوم الأنبياء.
ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً، أو حيواناً، أو كافراً ملحداً، أو
داعية إلى بدعة، أو فاسقاً، أو مسلماً غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق
متعدد الأخطاء؟
ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك؛ وأن جعلك داعية من دعاة أهل السنة
والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟
تاسعاً - الالتفاف حول العناصر المثبتة:
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به -عليه الصلاة والسلام-: (إن
من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) [2] .
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معينٌ كبير على الثبات، حتى قال بعض السلف: ثبَّت الله المسلمين برجلين: (أبي بكر) يوم
الردة، و " الإمام أحمد " يوم المحنة.
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون هم
العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات
الله والحكمة ... الْزمْهم وِعِش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتخطفك الشياطين.
عاشراً - الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:
نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل الأقدام بعد ثبوتها.
قال تعالى: [وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ *
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] [ال عمران: 146-148] .
ولما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يثبت أصحابه المعذبين
أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن؛ فماذا قال؟
جاء في حديث خباب عند البخاري: (ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه) [3] .
فعرْض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهمٌّ في تربيتهم
على الثبات.
حادي عشر- معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:
في قول الله -عز وجل-: [لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ] ... [ال عمران: 196] تسريةٌ عن المؤمنين وتثبيت.
وفي قوله -عز وجل-: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً] [الرعد: 17] عبرةٌ
لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.
ومن طريقة القرآن فضحُ أهل الباطل وتعريةُ أهدافهم ووسائلهم [وكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: 55] ، حتى لا يؤخذ
المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، وكم سمعنا ورأينا
حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم؛ ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا
بسبب جهلهم بأعدائهم.
الثاني عشر - استجماع الأخلاق المعينة على الثبات:
وعلى رأسها: الصبر، ففي حديث الصحيحين: (ما أُعطي أحدٌ قط خيراً
وأوسع من الصبر) ، وأشد الصبر: عند الصدمة الأولى، وإذا أصيب المرء بما لم
يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عُدم الصبر. تأمل فيما قاله ابن الجوزي -
رحمه الله-: (رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة، فمات ولدٌ
لابنته، فقال: ما ينبغي لأحدٍ أن يدعو، فإنه ما يستجيب. ثم قال: إن الله تعالى
يعاند فما يترك لنا ولداً) [4] . تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.
لما أُصيب المسلمون في أُحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم
بالنصر، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] .
ماذا حصل من عند أنفسهم:
- فشلتم،
- وتنازعتم في الأمر،
- وعصيتم،
- منكم من يريد الدنيا.
مواطن الثبات:
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيلٍ، نكتفي بسرد بعضها في هذا المقام:
أولاً: الثبات في الفتن:
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السراء
والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم. ومن أنواع
الفتن:
- فتن المال: [ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ] [التوبة: 75-
76] .
- فتنة الجاه: [واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا
واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] [الكهف: 28]
- فتنة الزوجة: [إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] [التغابن:
14] .
- فتنة الأولاد: " الولد مجبنة مبخلة محزنة " [5] .
- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويمثلها أروع تمثيل قول الله -عز
وجل-: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ
* الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [البروج: 4-5] .
وروى البخاري عن خباب -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد برده في ظل الكعبة. فقال -عليه السلام-: (قد
كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيؤتى بالمنشار،
فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه،
ما يبعده عن دينه ... ) .
- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: " يا أيها الناس؛ إنها لم تكن فتنة
على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال ... يا عباد الله، أيها
الناس؛ فاثبتوا، فإني سأصفه صفة لم يصفها إياه قبل نبيٌّ ... ) [6] .
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن: يقول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها
نكتت في قلبه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير
القلب أبيض مثل الصفا؛ لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود
مُربَّداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرب من ... هواه) [7] .
ثانياً: الثبات في الجهاد:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا] [الأنفال: 45] .
ثالثاً: الثبات على المنهج:
[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ
ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] ، مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل ...
رابعاً: الثبات عند الممات:
[إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولا
تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] [فصلت: 30] .
اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) عتيق: صفة مدح، مثل: [وليطوفوا بالبيت العتيق] ، " عليكم بالأمر العتيق ".
(2) حسن رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعاُ صحيح الجامع (9 221) .
(3) البخاري.
(4) " الثبات عند الممات " لابن الجوزي.
(5) صحيح الجامع (7037) .
(6) رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي أمامة صحيح الجامع (7752) .
(7) رواه أحمد ومسلم عن حذيفة مرفوعاً.(15/41)
الزيارة بين النساء
على ضوء الكتاب والسنة
خولة درويش
أهمية الوقت لدى المرأة وأضرار إضاعته:
لقد جرت العادة في أكثر بلادنا الشرقية: أن تخصص المرأة فترةَ بعد العصر
لاستقبال صديقاتها، أو زيارتهن على اختلافٍ في طريقة الزيارة أهي دورية منظمة
أم عفوية؟ ، وأياً كانت الحال لا يخلو البيت يومها من إعلان حالة طوارئ فيها.
فاستعدادات فوق العادة، تستنزف الجهد، وتضيع الوقت، وتبعثر المال. وتحول
يوم الاستقبال إلى مباراة بين الأسر فيما يقدم للضيوف، وفي إبراز مظهر البيت
ولباس أهله.
ولو سئلت غالبية النساء عن الهدف من هذه الزيارة؟ لكان أحسن ما يفصحن
به: إنه التلاقي لقتل الوقت والتسلية ودفع السأم والملل عنهن.
ولا أدري هل الوقت إلا عمر الإنسان الذي يسأل عنه؟ ومتى السؤال؟ إنه
يوم الفزع الأكبر.. يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
عن أبي بردة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ ، وعن
علمه ما عمل به؟ ، وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ، وعن جسمه فيما
أبلاه؟) [1] .
ومن السائل؟ إنه رب العالمين الذي خلق الجن والإنس لعبادته لا للهو ولا
للتسلية؛ [لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ] [الأنبياء: 17] .
فماذا نقول لرب العالمين إذا سألنا عن الوقت المهدور الذي إن لم يخل من
المحرمات فلا يخلو من لغو الكلام والثرثرة التي ذمها الرسول -صلى الله عليه
وسلم-: (إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون المتشدقون والمتفيهقون) ؟ [2] .
ومن أضاع وقته فقد أضاع جزءاً لا يعوض من حياته، وجديرٌ أن تطول
عليه حسرته، وهل الوقت للمرأة وحدها؟ ! أين حق الزوج والأولاد؟ ومتى تؤدي
حقوق مجتمعها وأمتها الإسلامية؟
لمن تترك مهمتها إذا كان همها الخروج من البيت واللهو الفارغ؟ وقد تقول
إحداهن: إنها أدت واجباتها، ظناً منها أن مهمتها محصورة في التنظيف وإرضاء
الزوج والإنجاب، وإن التفتت إلى تربية من أنجبتهم فقد لا يتعدى اهتمامها إطعامهم
وكسوتهم المناسبة ودراستهم المتفوقة.
لا يا أختاه، فأنت مربية الأجيال، وممولة للمجتمع المسلم ببناته من نساء
ورجال، إن واجبي وواجبك التربية الرشيدة لأبنائنا، وإعدادهم إعداداً إسلامياً
يجعلهم قادرين على حمل الأمانة والنهوض بالأمة وبناء المجتمع الفاضل المنشود.
فإن تركتُ وإياكِ أبناءنا والتفتنا للتسلية فقد خلفنا أبناءً هم الأيتام حقاً رغم
وجود أبويهم، إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً، بل من فقد
والديه بالموت قد يجد من يشفق عليه ويرعاه ويحنو عليه، أما من فقدهما في اللهو
عنه: فأنى يجد من يرحمه ويفطن لمأساته، فالمرأة المشغولة بنفسها دائماً لن تجد
الوقت الكافي للإشراف على فلذات كبدها وتوجيههم ومتابعتهم والأنس بهم، مما
يساعدها على أداء رسالتها وإرضاء ربها.
صحيحٌ أن الدنيا - هي دار الامتحان - مليئة بالمتاعب والصعاب وفي اللقاء
تسلية ومؤانسة ... لكن هل التسلية غاية من تشعر أنها على ثغر من ثغور الإسلام،
فلا يؤتى من قبلها؟ أم هي غاية العابثات؟ أمَا وإن الترويح ضروري بين الفينة
والأخرى فليكن على غير حساب الأخريات وأوقاتهن ... ! !
كثيراً ما نشكو من غزو أعدائنا الفكري ... وأننا مستهدفون محاربون، فهل
أعددنا العدة لمجابهتهم، أو على الأقل هل حصَّنا أنفسنا ضدهم روحياً وثقافياً
لنطالب بالتسلية؟ ولا تنصر الدعوات وتنتشر بالتشكي والأسى.
إن ما نعانيه يوجب علينا أن نراعي واقعنا على أسس إسلامية لنستطيع
النهوض من كبوتنا، وإلا ستبقى آمالنا سراباً وأمانينا حلماً نرجو أن يتحقق،
وهيهات أن يتحقق بدون عمل وجهد وجهاد. [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]
[العنكبوت: 69] .
إن العقوبات التي يوقعها الله في أمتنا ما هي إلا لتخاذلنا عن نصرة ديننا وعدم
القيام بواجبنا، والانهزامات التي أصابتنا قد ساهمت بها المرأة من حيث لا تدري،
يوم بدأ دورها ينحسر وتخلت عن القيام بواجبها كما ينبغي في التربية والتنشئة
والتعليم.
وهذه الحقيقة المؤلمة التي تدمي القلب وتحز في النفس، تدفعنا في الوقت
نفسه إلى الاستفادة من أوقاتنا للقيام بمهمتنا التي سنسأل عنها: " المرأة راعية في
بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " [3] .
فلنقم بواجبنا في تربية رجال وأمهات المستقبل ثم لنلتفت إلى التسلية. هذا
وإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دلنا على طريقة لإبعاد الهم عن النفس؛ ألا
وهى: توثيق الصلة بالله، نقبل عليه بالطاعات، ونجعل همنا الدار الآخرة، فما
الهم إلا نتيجة الحرص على الفانية.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: " من كانت الآخرة همه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته
الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه
شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له " [4] .
ولقد قال تعالى مبيناً مدى الضيق والضنك، والعيش النكد الذي يكون به
الغافل المعرض عن ذكر الله، وذلك في الدنيا قبل الآخرة: [ومَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى] [طه: 126]
فلنجعل غايتنا رضا الله تعالى، وسبيلنا اتباع شريعته، عندها: نشعر أنه لا
فراغ يثقل على النفس ويجلب الهم والحزن، بل أوقاتنا معمورة بذكر الله وطاعته،
والحياة كلها تصبح عبادة وقُربة، واستفادة من كل لحظة في حياة الإنسان عملاً
بقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل
موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك
قبل فقرك " [5] .
وإن كان ابن الجوزي قد عجب من أهل زمانه وإضاعتهم للوقت فقال:
(رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، وإن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو
بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر، وإن طال النهار فبالنوم وهم في أطراف النهار على
دجلة أو في الأسواق نشبههم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد للرحيل، إلا أنهم
يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة) [6] .
فماذا نقول نحن عن الناس في زماننا؟ ! وقد أصبح العبث الفارغ أساس حياة
أكثرهم، والتبرم بالحياة سبباً في أمراض نفسية غريبة، وصار الضيق والهلع من
المجهول شبحاً يطارد ضعاف النفوس والإيمان؟ !
إن أساليبهم في اللهو وإضاعة الأوقات تفوق الخيال: فبعد السهر والسحر
على شتى البرامج في وسائل اللهو الحديثة المحرمة والمباحة، النوم حتى الضحى،
واللهاث بقية النهار للدنيا فقط، وفي أعمال الدنيا.. وكثرة النوم والتناوم هو شأن
الخاملين اللاهين. أما الجادون: فيحرصون على أوقاتهم حرص الشحيح على ماله
أو أشد حرصاً. حقاً: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة ... والفراغ) [7] .
أيهما أفضل المخالطة أم الانفراد؟
وكأني بك أختي المسلمة تتساءلين: وهل هذا يعني البعد عن الناس وعدم
الاختلاط بهم؟
(إن اختيار المخالطة مطلقاً خطأ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ) [8] ،
والإسلام دين تجمع وألفة، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه الأساسية،
وقد فضل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلم الذي يخالط الناس على ذلك الذي
هجرهم ونأى عنهم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من
الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) [9] ، وكيف يكون الإحسان للجيران
والأقارب إلا بمواصلتهم ومعرفة أحوالهم؟
فكم من زيارة دلت على خير في الدنيا والآخرة مسحت بها المسلمة آلام أختها
المصابة، تقوي عزيمتها، تشد أزرها وتدفعها إلى الصبر، تحس عندها حسن
الظن بالله وقرب الفرج، تشاركها أفراحها، تعلمها ما تجهله من أمور الدنيا والدين، تتناصح وإياها وتتشاور لما فيه خيرها وخير المسلمين. أما المخالطة العشوائية
التي لا يأبه لها كثير من النساء: فما هي إلا مظهر من مظاهر انهزام المرأة
وتخاذلها عن القيام بواجباتها الأسرية، وهروب من التبعات المنزلية لتمضي مع
صويحباتها فترة لهو ولغو. وهى حالة مرضية من حيث الهدف والمضمون.
فحري بنا أن نسعى حثيثاً للعلاج قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. [ويَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً]
[الفرقان: 27-29] .
ولما للمرأة من مكانة عظيمة في توجيه الناشئة وغرس العقيدة الصافية في
نفوس الأبناء -أجيال المستقبل، كان لابد من محاولة جادة للاستفادة من وقتها وعدم
إضاعته سدى في مجاملات تافهة، ومظاهر فارغة.
لقد كانت المرأة أما وزوجة خير عون على الخير لما تطلعت نحوه، وشر
دافع نحو الخراب والدمار لما سعت إليه. كانت مطية للأفكار الهدامة في القرن
العشرين، وستكون مشعل نور للأجيال إن تمسكت بعقيدتها ودينها.
والله أسأل: أن يجعل هذه المحاولة لبنة تعين الأسرة المسلمة على إكمال
رسالتها، وأن يلهم مسلمة عصرنا رشدها لتعود كسالفتها الصالحة مرشدة لكل خير
وفضيلة.
- يتبع-
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(2) أخرجه الترمذي في البر والصلة من حديث جابر وحسنه وهو في المسند 4/193، وانظر شرح السنة 12/367.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 213.
(4) رواه الترمذي / 2583.
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية مرسلاً، وأخرجه الحاكم 4 / 306 موصولاً ينظر شرح السنة
14/ 224.
(6) صيد الخاطر / 142.
(7) رواه البخاري في الرقاق، والترمذي في الزهد.
(8) فتاوي ابن تيمية 1/426.
(9) مصنف ابن أبي شيبة 8 / 564.(15/47)
كتاب في مقال
الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن
عرض وتقديم: محمد عبد الرحمن آل الشيخ
الاهتمام بالقرآن وتفسيره مظهر من أهم مظاهر الاهتمام بالإسلام، ومنذ
عصر الإسلام الأول ومكتبة التفسير تزداد غنى وتضخماً، حتى أصبح القارئ اليوم
يجد نفسه في حيرة أمام هذه الكتب ومناهجهاً، فلا يكاد يسلم له اختيار، ولا تستقيم
له قراءة، إذا لم يبذل جهداً كبيراً في اختيار الكتاب والكاتب، من هذا المنطلق
عنى جماعة من علماء المسلمين بأصول التفسير ومنهجه، فكتبوا -عن التفسير
وتاريخه ومراحل تطوره، وكتبوا عن المفسرين واتجاهاتهم وغاياتهم، ليخلصوا
بعد ذلك إلى منهج واضح في التعامل مع المفسرين في كتبهم، تعين القارئ المسلم
في تناوله لكتب التفسير، وتجعل أمامه معايير واضحة في القبول والرد لأي فكرة
أو عبارة.
ويعد الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي - رحمه الله - واحداً من علماء
المسلمين الذين تخصصوا في التفسير وعلمه، فعاش مع الأولين والآخرين من
خلال قراءته لكتبهم المطبوعة والمخطوطة، ويكفي شاهداً على مكانته في هذا
المجال كتابه القيم (التفسير والمفسرون) ، غير أن للشيخ كتيباً آخر - وإن كان
جزء كبير منه مأخوذاً من الكتاب الأول - يقع في حوالى مائة صفحة تحت عنوان: (الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن دوافعها ودفعها) ، ومع صغر حجم الكتاب
إلا أنه وفي الموضوع توفية جيدة، وأبان فيه كثيراً من أحوال الذين دخلوا عالم
التفسير ولكن لم تسلم مؤلفاتهم من انحرافات وأخطاء، ولا نعني بها الأخطاء
الفردية الجانبية، بل المنهجي منها، حيث يلتزم المؤلف في تفسيره منهجاً غير
سليم في تناول النصوص القرآنية يخالف أهل السنة.
والكتاب يقع في مقدمة وتسع مقالات، تكلم في المقدمة عن تدرج التفسير،
وعن مبدأ ظهور الانحراف، ثم في المقالات التسع: ذكر أحوال تسعة اتجاهات
تناولت القرآن تناولاً فيه انحراف في جانب من جوانب منهجها.
المقدمة:
تكلمت المقدمة أولاً عن: تدرج التفسير، فتكلم المؤلف في البداية عن تفسير
النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن للصحابة، وذكر خلاف العلماء حول: هل
فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن جميعه للصحابة أم بعضه؟ واختار: أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما فسر معظم القرآن، وأن هناك أشياء لم يفسرها
للصحابة مثل ما استأثر الله بعلمه، أو ما تعرفه العرب بلغتها، أو ما يعرفه المرء
من القرآن بداهة، أما الأمور التي هي من اختصاص العلماء فهي التي كانت مجال
التفسير كبيان المجمل، وتخصيص العام وتقييد المطلق ... وغير ذلك مما خفي
معناه والتبس المراد به.
ثم جاء بعد ذلك عصر التابعين الذين أخذوا التفسير مشافهة من الصحابة،
وزادوا على ذلك باجتهاداتهم بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعُد
الناس عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم. وهكذا استمر تنقل التفسير بين
الطبقات، يزداد الناس بعداً عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتزداد
اجتهادات العلماء لسد تلك الفجوة، حتى ظهر عصر التدوين.
ويقسم المؤلف مراحل التفسير منذ عصر التدوين إلى يومنا هذا إلى أربع
مراحل؛ فيجعل:
الأولى: يوم كان التفسير جزءاً من كتب الحديث، وكان التفسير بالمأثور
يروى بأسانيده، وأحياناً يفرد له باب داخل كتب الحديث.
والمرحلة الثانية: يوم انفصل التفسير في كتبه المستقلة، ومن أعلام هذه
المرحلة - عند المؤلف -: ابن ماجه (ت:237هـ) وابن جرير الطبري (ت:
310هـ) وغيرهما، وقد عدّ الكاتب هاتين المرحلتين من المراحل الخيِّرة في ... تاريخ تدوين التفسير بالمأثور.
ولكن المرحلة الثالثة: لم تكن كسابقتيها، حيث شهدت ظهور تفاسير لم تعتن
كثيراً بالأسانيد وإثباتها، بل عمدت إلى اختصارها وذكر أقوال السلف من غير سند، ومأخذ الكاتب على هذه المرحلة ننقله بعبارته؛ حيث يقول: (فدخل الوضع في
التفسير، والتبس الصحيح بالعليل، وكان هذا مبدأ ظهور الوضع في التفسير.
ثم تأتي المرحلة الرابعة: وهي أوسع المراحل حيث امتدت من العصر
العباسي إلى هذا اليوم، يقول- رحمه الله-: فبعد أن كان التفسير مقصوراً على
رواية ما نقل عن سلف هذه الأمة، وجدناه يتجاوز هذه الخطوة إلى تدوين تفاسير
اختلط فيها الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وكان ذلك على تدرج ملحوظ، فبدأ أولاً
على هيئة محاولات فهم شخصي وترجيح بعض الأقوال على بعض، وكان هذا
أمراً مقبولاً مادام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة كلمات القرآن.
ولكن جانب الفهم العقلي أخذ يخرج عن إطاره المقبول مع مرور الزمن، إلى أن
وصل إلى مرحلة قال عنها: حتى وُجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة لا
تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعد عظيم.
واشتملت المقدمة كذلك على مبحث في: مبدأ ظهور تلك الاتجاهات المنحرفة، مع دراسة تحليلية موجزة لأسباب ذلك.
ليس من الصعب على من يقرأ كلام المؤلف أن يخلص إلى أنه يرجع أسباب
تلك الانحرافات إلى عاملين: أولهما: حذف الأسانيد، والعامل الآخر: اتجاه أهل
الرأي في تفسير القرآن، حيث يقول: ولاشك في أن انتهاء التفسير بالرأي إلى
إخضاعه لميولٍ شخصية ومذاهب عقدية وغير عقدية فتح على المسلمين باب شر
عظيم. ولهذا العامل عنده سببان:
أولهما: أن يعتقد المفسر معنى من المعاني، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن
على ذلك المعنى قسراً، وإن كان ما قصد إليه معنى حساً، ولكن لا علاقة له بالآية، كمن فسر قوله تعالى: [ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن
دِيَارِكُم] [النساء / 66] ، بأن قتل النفس هنا: مخالفتها، والخروج من الديار هو: إخراج حب الدنيا من القلوب. وقد يكون المعنى الذي قصد إليه خطأ أصلاً، ومع
هذا يريد أن يحمل كلام الله عليه، ومثل على ذلك بمن فسر قوله تعالى: [واذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً] [المزمل /8] اذكر اسم ربك الذي هو أنت، أي:
اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله.
والسبب الثاني: أن يقف المفسر مع ظاهر اللفظ، دون نظر في حال القوم
الذين نزل فيهم القرآن، أو سبب نزول الآية.
وبعد هذه المقدمة، بدأ في تناول الاتجاهات المنحرفة وهي:
1 - اتجاه الإخباريين والقصاص.
2 - اتجاه أصحاب المذاهب النحوية.
3 - اتجاه من يجهل قواعد النحو.
4 - اتجاه المعتزلة.
5 - اتجاه الشيعة.
6 -- اتجاه الخوارج.
7 - اتجاه الصوفية.
8 - اتجاه أصحاب التفسير العلمي.
9 - اتجاه مدعي التجديد.
وقد استغرق الكلام على هذه الاتجاهات بقية الكتاب، وسنقتصر في هذا
المقال على ذكر اتجاهين اثنين، أحدهما قديم والآخر حديث، هما: الشيعة ومدعي
التجديد.
وقد نهج المؤلف في دراسته لهذه الاتجاهات نهجاً تحليلاً موفقاً، فبدأ وقدم لكل
اتجاه بمقدمة موجزة تكلم فيها عن مذهب القوم وبعض عقائدهم التي تخالف عقائد
أهل السنة، ثم أخذ أمثلة من تفاسيرهم، وذكر انحرافاتهم فيها، وكيف أوّلوا آيات
القرآن لتوافق آراءهم ومذاهبهم، ويتبع ذلك غالباً بالرد على ادعاءاتهم، وإبطال
تأويلاتهم.
الاتجاهات المنحرفة في تفسير الشيعة:
بدأ الحديث عن الشيعة بذكر أقسامهم من جهة غلوهم في أمير المؤمنين علي
بن أبى طالب- رضي الله عنه-، ولخص بعد ذلك عقائد الإمامية الإثني عشرية
القائلين بإمامة اثني عشر إماماً، فقال: وللإمامية الإثني عشرية تعاليم، أشهرها:
العصمة والمهدية والرجعة والتقية. وأتبع ذلك بشرح موجز لكل عقيدة من هذه
العقائد.
وتكلم بعد ذلك عن تفاسير القوم، وضرب أمثلة لكيفية اعتسافهم لآيات القرآن
الكريم لتوافق عقائدهم، وحسبنا أن نورد هنا مثالاً واحداً مما ورد في الكتاب، فقد
نقل عن البحراني في تفسير للآيتين 8، 9 من سورة الذاريات: [إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ] أنه قال: يروى عن أبي جعفر أنه قال في تفسيرها: اختلف في ولاية هذه الأمة، فمن استقام على ولاية عليِّ دخل الجنة، ومن خالف
ولاية عليِّ دخل النار، وأما قوله: [يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ] قال: يعني علياً، ومن
أفك عن ولايته أفك عن الجنة. ثم يرد المؤلف على هذا الانحراف رداً منهجياً جيداً
حيث يقول: ولسنا بحاجة إلى الإطالة في إبطال هذا الاتجاه، بعدما أثبت لنا علماء
الحديث ونقاده أن كل الروايات في ولاية علي ليس لها أساس من الصحة، وأنها
من وضع الشيعة أنفسهم ليروجوا بها مذهبهم في الإمامة والأئمة.
القارئ لهذا الفصل من الكتاب يصل في نهايته إلى حيث أراد الكاتب: من أن
تفاسير القوم لم توضع بتجرد وإخلاص، ولا يمكن اعتبارها تفاسير للقرآن بقدر ما
يمكن اعتبارها قنوات لصب أفكار الشيعة وعقائدهم من خلالها.
الاتجاهات المنحرفة في التفسير لبعض مدعي التجديد:
إذا كان الكاتب قد التزم الاتزان في العبارة، والهدوء في المناقشة والرد -
وهو خُلق جيد -، فإنه هنا وإن لم يخرج عن هذا الإطار إلا أنه استخدم عباراتٍ
أشد وأسلوباً أقوى مع أصحاب هذا الاتجاه، ولعل ذلك عائد إلى أنه عدّ بعضهم ممن
يريد الكيد للإسلام وأهله، وبعضهم ممن أقحم نفسه في هذا المجال وليس من
أصحابه، فنجد المؤلف في هذا الفصل بعد أن ذكر أن الإسلام بُلي بقوم كادوا له،
وعملوا على هدمه، نراه يقول بعد ذلك: مني الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومني
بمثل هذا في أحدث عصوره، فظهر في هذا القرن أشخاص يتأولون القرآن على
غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضي حاجات نفوسهم ... فمنهم
من حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله تعالى سبب لظهوره وشهرته في
المحيط العلمي، فذهب يفسر كتاب الله تفسيراً لا تقره لغة القرآن، ولا يتفق مع
قواعد الدين العامة، ومنهم من تلقى من العلم حظاً يسيراً لا يرقى به إلى مستوى
العلماء، ولكنه اغتر بما لديه فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين في العلم، ونسي أنه
قل في علم اللغة نصيبه، وخف في علم الشريعة وزنه، ... فأخذ يهذي بأفكار
فاسدة تتنافى مع ما قرره علماء اللغة وأئمة الدين.
بهذا الأسلوب وبهذه الروح تناول الكاتب أصحاب هذا الاتجاه.
ومن أصحاب هذا المنهج: صاحب كتاب (الهداية والعرفان في تفسير القرآن
بالقرآن) ، وقد ثار على هذا الكتاب علماء الأزهر حتى صودر ومنع، فقد تسلط
صاحب هذا التفسير على معجزات الأنبياء وجردها من معانيها الإعجازية، فلا
عيسى عنده ينفخ في الطين فيصير طيراً بإذن الله، ولا هو يبرئ الأكمه والأبرص
ولا يحيي الموتى بإذن الله. ومما نقله عنه المؤلف في تفسيره لقوله تعالى ... [وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنَّا فَاعِلِينَ] [الأنبياء: 79] ، يقول: ... [يُسَبِّحْنَ] يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داود في صناعته
الحربية، [والطَّيْرَ] يطلق على كل ذي جناح، وكل سريع السير من الخيل
والقطارات البخارية والطيارات الهوائية، وفسر قوله تعالى: [ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا] [الأنبياء: 81] يقول: ... [تَجْرِي بِأَمْرِهِ] الآن تجري بأمر الدول الأوربية وإشاراتها في التلغراف والتلفونات
الهوائية.
فليس بعد ذلك من عجب أن يقسو الذهبي -رحمه الله-على هذا المفسر ويقول
عنه: وهذا بلا شك خروج صريح عن مدلولات النصوص القرآنية وإلحاد في آيات
الله سبحانه وتعالى.
وبعد، فهذا هو الكتاب كما قرأته، لا يخلو كل قارئ له من أن يصل في
نهايته إلى معرفة الانحرافات التي قد ترد على كتب التفسير وأسبابها، ولا يخلو
القارئ كذلك أن يستنتج من إجمال الكتاب المنهج الصحيح في التفسير، الذي به
نستطيع قبول قول المفسر أو رده، ولم يتوسع - رحمه الله - في ذلك، ولم
يعرضه عرضاً مستقلاً، لأن عنوان الكتاب مقصور على الاتجاهات المنحرفة،
ولكن يمكن أن نستنتج جانباً من ذلك من خلال كلامه وردوده، فأهم مقومات المنهج
الصحيح فيما ذكر: الاهتمام بالأسانيد وتمحيصها ليعلم الصحيح من الدخيل،
ويضاف إلى ذلك التجرد في تناول الآيات القرآنية دون إخضاعها لمؤثرات
ومقررات سابقة.(15/53)
قل موتوا بغيظكم
حكمت الحريري
ذكر ياقوت الحموي في كتاب (معجم البلدان) قصة تتعلق بموقف عمر بن
عبد العزيز من جامع دمشق الذي بني في عهد الوليد بن عبد الملك، فقال: (لما
ولي عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- قال: إني أرى في أموال مسجد دمشق
كثرة، فقد أُنفقت في غير حقها، فأنا مستدرك ما استدركت منها فردت إلى بيت
المال، أنزع هذا الرخام والفسيفساء، وأنزع هذه السلاسل وأصير بدلها حبالاً،
فاشتد على أهل دمشق، حتى وردت عشرة رجال من ملك الروم إلى دمشق فسألوا
أن يؤذن لهم في دخول المسجد، فأذن لهم أن يدخلوا من باب البريد، فوكل بهم
رجلاً يعرف لغتهم ويسمع كلامهم وينهي قولهم إلى عمر من حيث لا يعلمون،
فمروا في الصحن حتى استقبلوا القبلة فرفعوا رؤوسهم إلى المسجد، فنكس رئيسهم
رأسه واصفر لونه، فقالوا له في ذلك، فقال: إنا كنا معاشر أهل رومية نتحدث أن
بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمتُ أن لهم مدة لابد أن يبلغوها، فلما أخبر
عمر بن عبد العزيز بذلك قال: إني أرى مسجدكم هذا غيظاً على الكفار، وترك ما
همّ به) .
تلك هي القلوب الخفاقة المتعلقة بربها -عز وجل- والتي عزفت عن الركون
إلى الدنيا وشهوات النفس، وارتفعت فوق الإحن، ولم تعرقلها السلبيات، فتجد أن
مواقف أولئك الرجال عزة لدين الله، متمثلة لقول بارئها وواعية له: [أَذِلَّةٍ عَلَى
المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ] وغيظاً لأعداء الله [لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] .
والذي جعلني أتذكر قصة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وموقفه ذاك: نظرة كبار المؤرخين والمفكرين من أعداء الإسلام وموقفهم من الحركات ...
الإسلامية المجددة منها خاصة، والتي تعمل على تجديد معالم الدين وإعادة الروح
الإسلامية الخالصة الحقيقية إلى أبناء الأمة الإسلامية، تلك الحركات التي لم تقبل
الانقياد للأفكار الغربية الملحدة، ولم تخضع وتنكسر للحاقدين على الإسلام.
وسأذكر فيما يلي موقف بعض الحاقدين على تلك الحركات المجددة لدين
الإسلام، فيصفها بصورة مشوهة، ويظهر التحامل وعدم الرضا منها.
وصدق الله -عز وجل-: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ] وقوله-عز وجل-: [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ
اسْتَطَاعُوا] .
وأول المواقف التي أريد التعرض لها والحديث عنها: لأحد مشاهير
المؤرخين الأوربيين " أرنولد توينبى " وذلك في محاضرتين ألقاهما ما بين عامي
1947-1952، وقد ترجمهما الدكتور نبيل صبحي الطويل إلى اللغة العربية في
كتيب بعنوان " الإسلام والغرب والمستقبل "، وطبع للمرة الأولى عام 1389 هـ
1969م.
تحدث توينبى في محاضرته الأولى عن بداية العلاقة بين الإسلام والغرب،
وذكر أنها بدأت في القرن السابع الميلادي، حينما حرر المسلمون سلسلة من الدول
الشرقية من سيطرة الرومان، من سورية شرقاً إلى أسبانيا غرباً، بعد أن كانت
تحت الحكم الروماني مدة ألف عام تقريباً. واستمر الفتح الإسلامي حتى شمل جميع
بلاد الهند، وانتشر أيضاً في أندونيسيا والصين شرقاً، وفي أفريقيا الاستوائية
جنوباً، وكل ما تبقى من العالم المسيحي الشرقي في آسيا الوسطى، وجنوب شرقي
أوروبا خضع في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لحكم المسلمين العثمانيين،
وبقي علم الهلال يرفرف فوق السواحل الشرقية لبحر الإدرياتيك حتى عام 1912،
وبعد أن فشل الأتراك للمرة الثانية في حصار فيينا عام 1683 بدأ الهجوم الغربي
المعاكس على العالم الإسلامي.
ولم يكن هذا الهجوم رداً مباشراً مماثلاً للغزو الصليبي، بل كان تطويقاً
للإسلام عن طريق السيطرة على المحيطات، ونجح الغرب في عقد الحبل حول
عنق الإسلام في أواخر القرن السادس عشر، ولم يتم الخناق إلا في القرن التاسع
عشر. [الإسلام والغرب والمستقبل: 16-18] .
وفي هذه الفترة الزمنية: أدرك العثمانيون أنهم بحاجة إلى التقنية الغربية،
أي: بعد فشلهم بمائة سنة من حصار فيينا خاصة في المجال العسكري، وكان
مصطفى كمال واحداً من الضباط الذين تشربوا الأفكار الغربية حينما كانوا يتعلمون
الفنون الحربية الغربية، وكان هدف هذا العسكري هو التغريب الكامل لتركيا
وفرض برنامجه على الناس بقوة القانون، فتحرير المرأة وإزالة الدين الإسلامي
وفرض الأحرف اللاتينية بدل الأبجدية العربية كل ذلك شرِّع بقوانين ما بين
(1922-1928) (ص 25) .
ثم يقول: (من المؤكد أن الشعب التركي بوحي من أتاتورك قد خدم العالم
الإسلامي كله! ! ! عندما حاول حل المسألة الغربية المشتركة باقتباسه الحياة
الغربية الحديثة كلها بدون أية تحفظات والقومية الغربية جزء منها) (ص 29) .
هذا هو ملخص المحاضرة الأولى لتوينبي:
ولكن ... إنه لمنطق عجيب أن يدعي توينبي بأن مصطفى كمال أتاتورك خدم
العالم الإسلامي! !
أية خدمة هي التي يقول عنها توينبي قبل قليل، إن أتاتورك أزال الدين
الإسلامي! ! وحرر المرأة! ! وذلك يعني بأنه أخرجها من سترها وحشمتها سافرة
عارية، وأصبحت سلعة رخيصة كما هي حال المرأة في الغرب.
وأية خدمة قام بها مصطفى كمال بتغيير الحروف العربية ووضع بدلها
الحروف اللاتينية! !
ولكن العجب ينقضي عندما يعلم المسلم: أن هذا هو منطق الحاقدين على
الإسلام وأهله، خدمته هي القضاء عليه! والكلام لا يحتاج إلى طول تعليق.
وأما المحاضرة الثانية والتي عنوانها: (الإسلام والغرب والمستقبل) فلا أريد
التعرض لكل ما ذكره توينبي فيها، بل أكتفي بالتركيز على موضع الشاهد من
القصة التي أوردتها في البداية.
بعد غزو الغرب للعالم الإسلامي، فإنه انقسم إلى قسمين شأنه في ذلك شأن
كل المجتمعات المغلوبة التي تواجه مجتمعاً آخر متحضراً، وفي هذا يقول توينبي
كما هو في النص المترجم: (كلما واجه مجتمع متحضر مثل هذا الموقف - أي:
الغزو - أمام مجتمع متفوق آخر نجد طريقين لا ثالث لهما للرد على هذا التحدي
فريق أصبح متمسكاً متحمساً متعصباً (ZEALOT) وفريق ثاني أصبح مقلداً
متكيفاً (HERODION) ، ويعرض توينبي الفريق الأول (المتحمس) بأنه الإنسان
الذي يتهرب من الشيء المجهول ويلجأ للشيء العادي المتعارف عليه. ويذكر أن
ممثلي هذا الطريق - المتحمس - في العالم الإسلامي المعاصر: (هم تلك الحركات السلفية أمثال السنوسية في شمال أفريقيا، والوهابية في أواسط شبه جزيرة العرب) .
ويعتبر أن من الخصائص الملحوظة عند هؤلاء المتحمسين هي أن معاقلهم
تقع في مناطق مجدبة قليلة السكان، بعيدة عن الطرق الرئيسية الموصلة إلى العالم
الحديث.
ثم يذكر أيضاً من الأمثلة على المتحمسين في العالم الإسلامي: الإمام (يحيى
حميد الدين) في صنعاء، ومن الأمثلة على المقلدين التي يذكرها توينبي: محمد
على باشا - في مصر، ومصطفى كمال أتاتورك.
وكما ذكرت فيما سبق من حرصي على نقل مقاطع مترجمة حرفياً من أقوال
توينبي ليكون القارئ على بينة من نظرة الحقد التي ينظرها الصليبيون إلى العالم
الإسلامي، وما تخفي صدورهم أكبر تجاه الحركات الإسلامية الأصيلة، حيث
يصفها بالتعصب والتحمس وعدم استعمال العقل والتفكير ...
وفي حالة حصول المواجهة بين الغرب وأولئك المتحمسين المتعصبين على
حد تعبيره يقول: (ولكن المتحمس المسلح ببندقية أوتوماتيكية لم يعد ذلك المتحمس
المتصوف التقي، لأنه باستعماله لأسلحة الغرب قد وطئ أرضاً دنسة، ولاشك أنه
إذا فكر في الأمر -وقليلاً ما يفعل ذلك لأن سلوكه في الأساس غريزي غير
عقلاني- يقول في نفسه: لن أتعدى الحدود التي وصلتها في تعاملي مع الغرب) .
وفي مقطع آخر يقارن توينبي بين المقلدين والمتحمسين، فيتحامل على
المتحمسين ويلمز بهم وينتقصهم، فيقول: (والواقع أن حركة المقلدين المسلمين
هي أكثر فعالية وتأثيراً من حركة المتحمسين ... لهذا يلجأ المتحمس إلى الماضي
كالنعامة التي تحاول وأد رأسها في الرمال لتختبئ من ملاحقيها، أما المقلد فيواجه
الحاضر بشجاعة، ويحاول اكتشاف المستقبل، فالمتحمس تسيره الغريزة، والمقلد
يسيره العقل) .
ثم تعرض مرة أخرى إلى الحديث عن الثورة التي حصلت في تركيا- أي:
في عهد مصطفى كمال-، وأن ثورته لم تقتصر على تغيير الدستور، فيقول: "
قامت الجمهورية التركية الوليدة بخلع المدافع عن الدين الإسلامي - الخليفة -،
وألغت منصبه، وجردت رجال الدين المسلمين، وحلت منظماتهم، وأزالت
الحجاب عن رأس المرأة واستنكرت كل ما يرمز إليه الحجاب، وأجبرت الرجال
على ارتداء القبعات التي تمنع لابسيها من أداء شعائر الصلاة الإسلامية التقليدية ...
وكنست الشريعة الإسلامية بأكملها ".
كل هذه الأعمال التي قام بها مصطفى كمال تعتبر إصلاحية، وخدمة للعالم
الإسلامي في نظر توينبي! ! ومهما حصل من أخطاء في طريقة التنفيذ فلهم
عذرهم المقبول حسب رأيه، وفي محاولة تبريره لتلك الجرائم يقول توينبي: (ولقد
قامت ثورة المقلدين الأتراك بهذه الروح فواجهت عقبات ضخمة ومعاكسات شديدة،
حتى أن أي مراقب متفائل يضع في حسابه احتمالات قيام أخطاء فاحشة بل حتى
جرائم، ويرجو للثورة النجاح في القيام بأعبائها الهائلة) .
ومن الشعوب التي يعتبرها أيضاً من المتحمسين المتعصبين: قبائل الباتان
التي قامت ضد الطاغوت الذي كان يحكم أفغانستان الملك (أمان الله) ، ثم يتحدث
عن نوعية الاصطدامات التي تقع بين المتحمسين من المسلمين والمقلدين الذين
ينتسبون للإسلام ظاهراً ويعادونه خفية وباطناً، بل ربما تنكروا للإسلام ظاهراً
وباطناً، يقول: (ويمكن أن نلاحظ في سياق بحثنا أن أي اصطدام وقع ويقع بين
المتحمسين وأبناء جلدتهم من المقلدين المسلمين، يلقى المتحمسون فيه عناء شديداً،
ويعاملهم المقلدون معاملة قاسية لا يتجاسر الغربيون على القيام بها، فالغربيون
يعذبون المتحمسين بالسياط، أما المقلدون المسلمون فيعذبونهم بالعقارب) .
والأمر الذي يخشاه توينبي ويحذر من عودته هو الوحدة الإسلامية وعودة
الإسلام إلى الساحة مرة أخرى كما كان عليه من قبل ليلعب دوره الرئيسي في
القضاء على الفساد الناتج عن امتداد الغزو الغربي الذي يرافقه التفرقة العنصرية،
والاختلال الطبقي وغيرها من مفاسد الحضارة الغربية، وفي ذلك يقول توينبي:
(أما في المستقبل البعيد: فيمكن التكهن باحتمال قيام الإسلام بالإسهام في أوجه جديدة للدين، وهذه الاحتمالات المتعددة تتوقف على الوجهة السعيدة التي سيتمخض عنها
وضع الإنسانية الحاضر) (ص 68) .
ثم يقول: (صحيح أن هذه الإمكانية المدمرة للإسلام لا تظهر الآن حتمية
الوقوع؛ لأن الكلمة المؤثرة (الوحدة الإسلامية) .. بدأت مؤخراً تفقد سيطرتها التي
كانت على عقول المسلمين) ، ثم يقول: (فحركة الوحدة الإسلامية نفسانياً هي
الدعوة المثلى التي تسري في عروق المسلمين المتحمسين أمثال الوهابيين
والسنوسيين، إلا أن هذا الاستعداد النفسي للوحدة يصطدم بعقوبات تكنيكية) (ص
68) .
ثم يعبر عن خشيته من عودة الوحدة الإسلامية بعبارات واضحة جلية، وهذا
ما يختم به محاضرته فيقول: (صحيح أن الوحدة الإسلامية نائمة، ولكن يجب أن
نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ، إذا ثارت البروليتاريا العالمية للعالم المتغرب
ضد السيطرة الغربية، ونادت بزعامة معادية للغرب، فقد يكون لهذا العداء نتائج
نفسانية لا حصر لها في إيقاظ الروح النضالية للإسلام، حتى ولو أنها نامت نومة
أهل الكهف، إذ يمكن لهذا النداء أن يوقظ أصداء التاريخ البطولي للإسلام.
هناك مناسبتان تاريخيتان كان الإسلام فيهما رمز سمو المجتمع الشرقي في
انتصاره على الدخيل الغربي، ففي عهد الخلفاء الراشدين بعد الرسول -صلى الله
عليه وسلم-: (حرر الإسلام سورية ومصر من السيطرة اليونانية التي أثقلت
كاهلهما مدة ألف عام تقريباً) ، وفي عهد (نورالدين) و (صلاح الدين) و ... (المماليك) : احتفظ الإسلام بقلعته أمام هجمات الصليبيين والمغول، فإذا سبب
الوضع الدولي الآن حرباً عنصرية، يمكن للإسلام أن يتحرك ليلعب دوره التاريخي
مرة أخرى، وأرجو ألا يتحقق ذلك (ص 73) .
أخي القارئ الكريم: هذا هو كلام المؤرخ الأوربي الشهير الذي يُعتبر أسوة
لأبناء جلدته ومن شاكلهم في الحقد على هذا الدين وعلى تلك الحركات الأصيلة،
وهذه الكلمات التي يختم بها محاضرته: (أرجو ألا يتحقق ذلك) ! ! يرجو ألا تعود
الوحدة الإسلامية؛ لتقف الأمة في مكانها الرائد، ولتقوم بدورها المطلوب في إنقاذ
الشعوب وتحريرها من سيطرة الطواغيت والأنظمة الجاهلية بكل مسمياتها،
وإعادتها إلى نظام توحيد الألوهية الذي دعت إليه جميع الرسل، وتنفيذ قول الله -
عز وجل-: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ] .
إن مما يغيظ الحاقدين على الإسلام ويثير حنقهم: تلك الحركات التي يتهمها
بالتعصب والحماس ... الوهابية والسنوسية وقبائل الباتان، تلك الحركات التي
يحكم توينبي بأن نهايتها الموت المحقق والفناء الكامل، لأنها تواجه الحضارة
الغربية.
ولقد خيب الله تعالى ظن توينبي وأمثاله؛ إذ ظنوا أنهم سيقضون على
الأصوات التي ارتفعت تنادي بالعودة إلى شرع الله والأيادي التي حملت السلام
لتذود عن دين الله.
ظن أن ما فعله محمد علي باشا بإشارة من الإنكليز والفرنسيين في ضرب
الحركة الوهابية في عقر دارها، ظن أنها ستنتهي إلى الأبد، وهيهات له ذلك، فلقد
تأثر بأفكار محمد بن عبد الوهاب معظم الحركات الإسلامية في شرق العالم وغربه.
وظن أن ما فعله الملك (أمان الله) مع قبائل الباتان في قيامه ضدهم وتعاونه
مع الانكليز للقضاء عليهم في أفغانستان ظن أنهم قد قضي عليهم وانتهوا، فكيف لو
اطلع توينبي ورأي ما يحدث بأفغانستان على أيدي من يصفهم بالمتعصبين
المتحمسين، من مواجهتهم لأظلم وأشرس وأشد طواغيت الأرض من الشيوعيين،
لقد أرغم هؤلاء المتحمسون أنف الروس والشيوعيين وأذاقوهم كؤوس المنون
وبالرغم من كل ما تعده من مكر الليل والنهار.
ونسأل الله أن يجعل كيد الخائنين في نحورهم، فما كان الروس يتوقعون أن
تحدث لهم مثل هذه المذلة باحتلالهم لأفغانستان، الذي كانوا يظنونه: أن احتلال
أفغانستان كسب مهم لروسيا وخطوة عملية بضمهم أفغانستان للإمبراطورية
الشيوعية، وذلك لكثرة خيرات أفغانستان وثرواتها، ولكن (رُب حتف امرئ فيما
تمناه) .
إنني أهيب بالمخلصين من دعاة الإسلام وحملة رايته بشتى أصنافهم، شيباً
وشباباً، علماء وطلاب علم، وأدعوهم إلى أن يتمثلوا موقف الخليفة الراشد مجدد
القرن الأول عمر بن العزيز -رضي الله عنه- في كل ما يغيظ أعداء الله وأعداء
هذا الدين [1] .
فلنقوِّ ونؤازر كل ما يغيظ أعداء الله وأعداء رسوله -صلى الله عليه وسلم-،
وبذلك ننال رضى الله تعالى، ونحقق معنى الموالاة لأولياء الله والبراءة من أعداء
الله، وبذلك يتحقق قول الله -عز وجل-: [لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن
دُونِ المُؤْمِنِينَ] ، وقوله تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أوثق عرى
الإيمان الحب في الله والبغض في الله) ، ثم لينطلق لسان المؤمن بربه وسنة نبيه -
عليه الصلاة والسلام- بعد قراءة هذا المقال بقول الله تعالى: [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] .
__________
(1) انظر مجلة البيان العدد الثالث، حيث ورد كلام مفصل عن التجديد في عهد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-.(15/60)
أدب وتاريخ - قصة قصيرة
الأشباح
علي محمد
كانت عقارب الساعة متعبة متثاقلة، تقترب من الحادية عشرة مساءً، عندما
كان السيد حمدي يقطع الطريق المتلوي الذي تشخص إليه عيون الأشجار الكهلة
الكثيفة، زائغة مضطربة تحت أشعة ضوء القمر التي تدس أنفها في كل زاوية،
فاضحة أسرار الظلام مشكلة أخيلةً، جميلة حيناً، محيرة حيناً، مخيفة حيناً آخر،
بينما تأخذ النسمات الشمالية اللطيفة الباردة دورها في تحريك الأخيلة يمنة ويسرة،
وتعبث بالأوراق والأغصان، محدثة أصواتاً ترمز أو لا ترمز إلى شيء.
وكان الحديث الذي دار في تلك الأمسية عن الجن والعفاريت يملأ وعيه،
ويعشش بين ضلوعه، وما أن بدأت بعض الحصيات تتطاير بفعل الحركة المرنة
لمؤخرة حذائه الإسفنجي الصيفي حتى بدأ بإسقاط كل ما دار في تلك الأمسية على
محاوره الذاتية النفسية، معللاً كل حركة، ومؤولاً كل خيال، مستخدماً كل
معلوماته في الجغرافيا وعلم الاجتماع.
هذه الحركة الخشنة البطيئة المرعبة عند تلك الشجرة الضخمة، أقرب ما
تكون إلى حركة شمهورش ملك الجن الأحمر ... وهذه رمانة وهيلانة ... تحاولان
النزول بهدوء من فوق ذلك الحائط بحركة رشيقة أشبه بحركة اللصوص الظرفاء نَ
نَعم، إنهما يقتربان لكن؟ ! من هذا الذي يرمي علي الحصى من الخلف؟
- هل أضمروا لي شراً يا ترى؟
- ماذا يريدون؟
- هل سيقتادونني مثل اللجان الشعبية إلى حيث لا أدري؟
- لكنّ موقفي المعلن لم يكن ضدهم في الحديث الذي دار منذ قليل! ! أم.. أم؟ !
- كما أنني لم أسخر من بقرة سيدنا الشيخ علي! !
- وكيف أسخر منها وهى الكرامة الحية التي تناقلها أفاضل الناس، يوم أن
قالت قولتها المشهورة: " إما حراثة وإما حليب " حين أتعبها الشيخ علي بالحراثة؟
- لكن يا ترى هل يستطيعون أن يعلموا ما دار في خلدي؟ لا أعتقد ذلك.
فالله -عز وجل- يقول على لسانهم: [وأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً] ؟ !
- لكن أرى أنهم يريدون بي شراً ... كل الدلائل تشير إلى ذلك؟ !
- ماذا عملت يا ترى؟
- أكان علي أن أرد على زملائي الذين سخروا من حراس مقام بقرة سيدنا؟
- إنهم يقتربون! !
- ياإلهي! !
الحركة تزداد من هنا، وهذا الشيخ قادم إلي من هناك، آه الحصى بدأ يتكاثر
علي ... لقد أصبحت على مقربة من المقام.. علي أن أسرع ... علي أن أسرع
قبل أن يصيبني مكروه ...
- لكن يا ترى هل هؤلاء من الجن المؤمنين أم من الكافرين؟
- وإن كانوا من المؤمنين، فلماذا يضمرون لي الشر؟
- وإن كانوا من الكافرين، فما شأنهم بحراسة المقام؟
- وكيف يستعين سيدنا الشيخ علي بالجن؟ !
- ألم يسمع قول الله -عز وجل-: [وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً] ؟
- (ومع ازدياد حركته يزداد تطاير الحصى، وتزداد حركة أخيلة الأشجار،
وتزداد نبضات قلبه خوفاً وهلعاً) .
- يا إلهي! !
-كيف يقول لنا الأستاذ فهمان: أن كل هذه الأشياء خرافات نسجتها العجائز؟
- إن وجود الجن حقيقة، كما قال -عز وجل-: [وخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ
مِّن نَّارٍ] ، وأنهم يروننا ولا نراهم حقيقة، كما قال -عز وجل- أيضاً: [إنَّهُ
يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ] .
- كما أن كلام الست درية خانم عن جارتها أم الهبرة عن الإسكافي أبي كارم
[أن رجلاً سافر إلى أحد الأودية هناك، فوجدوه مشلولاً، عاجزاً عن النطق من
كثرة ما ضربه الجن على رأسه] كلامٌ متصل السند، لا يعتريه شك، وبالتالي ...
وبالتالي..
- وبالتالي، فاسأل الله -عز وجل-: أن يحفظني من بطشهم هذه الليلة،
فإنه لا قوة لهم مع الله ولا حيلة، ألم يقل -عز وجل- على لسانهم: [وأَنَّا ظَنَنَّا أَن
لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً] ؟
ولما تجاوز المقام بسلام، توقَّف توقُّف الحذر، يتلفت يمنةً ويسرةً، بل تسلق
أحد الجدران متشجعاً من حيث الظاهر، يكاد ينخلع قلبه هلعاً من الداخل، راقب
المكان بدقة، فلما لم يعد يرى أو يسمع شيئاً، تابع مسيره إلى البيت مسرعاً مطمئناً
بعض الشيء.
وفجأة ينتصب على يمين الطريق ماردٌ عملاق عجيب مخيف، يرتفع رأسه
فوق الأشجار، انهارت أقدام حمدي، وانعقد لسانه، وأيقن بالهلاك، ووجد نفسه -
بشكل لا إرادي- يركض ويركض، لاهثاً، مسرعاً، خائفاً مرتعداً. وكان كلما
أسرع يزداد عدد الحصى المتطاير، وتزداد سرعة الأخيلة، التي تعني هجوم
مرجانة وشمهورش وكل حراس المقام.
سقط على الأرض مراراً، تحامل على نفسه، ولم يشعر بالجروح في ركبتيه
ويديه، أخذ يصيح بشكل عفوي: يا رب ... يا رب ... سلِّم.. سلِّم، وصل إلى
البيت، تلفت عشرات المرات المتتالية، وراء، أمام، يمين، يسار، فتح باب
البيت أسرع من البصر، دلف إلى غرفته، اندس في الفراش، غطى وجهه
باللحاف، أخذ اللحاف يرتفع وينخفض متجاوباً مع حركة الصدر الخائف
المضطرب.
وكان كلما هدأ روعه، وأغفى إغفاءة قصيرة، هبَّ من نومه فزعاً، مرتعداً، ينادي هناك.. هناك. ...
وأحست الحاجة زهدية بالموقف دون أن تدري ما السبب، وبدأت تتعوذ بالله
من الشيطان الرجيم، وتقراً الفاتحة، والمعوذات، وأشعلت مبخرتها لتطرد الأرواح
الشريرة.
سلامتك يا ابني.. سلامتك يا حبيبي.
وفي الصباح كان على حمدي أن يقطع نفس الطريق ذاهباً إلى مدرسته،
ومشى حمدي بخطى خائفة حذرة، خاصة عندما اقترب من مكان الشبح الذي رآه
بالأمس.
- وفجأة؟ ! ! تسمَّر في مكانه. إنه هو ... نعم ... نعم.. إنه هو، هذا هو
رأسه، فوق تلك الشجرة، يا إلهي! ! ! ؟
- أنا أعلم أن الأشباح لا تظهر في النهار؟
- أنا إذاً مطلوب، مطلوب من دولة الأشباح، ليلاً أو نهاراً.
- لكن ماذا عملت؟
- إنه يتحرك ... يتحرك.
وانتبه زميله فائز، فسأله مستغرباً: ما بك يا حمدي؟ !
- ألا ترى الشبح؟
- وأي شبح؟
- ذلك المارد على تلك الشجرة.
- ذاك؟
- نعم ذاك.
- ذاك خيال وضعه جدي لإخافة العصافير حتى لا تأكل المشمش، وليس
لإخافة الشبان أمثالك.
- تداخل حمدي في بعضه خجلاً، وابتسم ابتسامة شاحبة اللون، وقال
بانكسار: إن جدك على ما يبدو صانع ماهر للتماثيل.(15/69)
الانطلاقة الكبرى
شعر: محمد ظافر الشهري
كابد القيدَ لحمُها والعظامُ ... وبنو قوها شِباعٌ نِيام
هي في الأسر والهوان حَصَانٌ ... لم يدنس جنابَها الظلام
كلما أصبح الصباحُ عليها ... حملتها وقيدَها الأقدام
فتطيل الوقوف تنشدُ نوراً ... فلقد ساد ليلَها الإعتام
فإذا استيأست.. جثت، فقُواها ... أنهكتها القروحُ والآلام
وأشدُّ العُجابِ أن ذويها ... يشهدون العذابَ وهي تُسام
ذي فلسطينُ في القيود تنادي ... وتطيل النداءَ.. وا.. إسلام
بعد أن سلَّمت مقاليدها الفا ... روقَ أضحى يسوسها الحاخام
فأُذيقت من العذاب صنوفاً ... كتبتَها ... فكلت الأقدام
واستمات اليهود في ضيمها جُبـ ... ناً، ولكنما الجبان يضام
وإذا قصَّرت سهامُ يهودٍ ... ساندتها من الصليبِ سهام
أين منها الرجال يُعْنُون بالعر ... ض، وان كان دونه الإعدام
كم حلمنا بردها وبكينا ... ثم خابَ البكاءُ والأحلام
لن يُذِلَّ اليهود رقصُ سعادٍ ... أو تغني - فيُصرعون - هيام
كيف يرجى لنجدة القدس من ... قد أثقلته الذنوبُ والآثام
قد أضعناكِ يا فلسطينُ لمَّا ... فتنتنا الخمورُ والأنغام
وشعار القرومِ كلَّ زمان ... لا يَفُلُّ الحسامَ إلا الحسامُ
ما أضاع الأميُر من أرضها شبـ ... راً فما كان شأنه الإجرام
غير أن الجدود كانوا عمالي ... قاً.. وقد جاء بعدهم أقزام
ضيع الخَلْفُ قدسهم ونَسَوها ... وتتالت عليهم الأعوام
يذكر القدس في المحافل يومٌ ... كل عام.. وتُعرض الأيام
وكأن الجهاد صار مباحاً ... بعضَ يوم وما عداه حرام
غير أن الجهاد في ذلك اليو ... م أغانٍ مثيرةٌ وكلام
وخلال الظلام شب ضياءٌ ... فتلاشى بنوره الإظلام
فعتاد المجاهدين حصاةٌ ... ودروع المجاهدين لثام
فتذكرتُ وعد خيرِ رسولٍ ... صلواتٌ تحفُّهُ وسلام
فكلام النبي ليس وربي ... تعتريه الشكوك والأوهام
سَنَحُسُّ اليهود نحصدهم حص ... داً.. وتنهار عندها الأصنام
وتسود البلادَ رايةُ حقٍ ... رايةٌ تنحني لها الأعلام(15/73)
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين
محمد بن صامل السلمي
الخلفاء الراشدون هم الأئمة الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي
الله عنهم أجمعين-، وهم الذين خلفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيادة
الأمة، ومدة خلافتهم من انتقاله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى في 12
ربيع الأول سنة 11هـ إلى مقتل علي بن أي طالب في 17 رمضان سنة ... 40 هـ[1] : تسع وعشرون سنة وستة أشهر وخمسة أيام.
وإذا أضيفت لها خلافة الحسن بن علي (من مقتل أبيه عن تنازله لمعاوية بن
أبي سفيان 25 ربيع الأول سنة41هـ) [2] تكون ثلاثين سنة بالتمام، وقد اختصوا
بوصف الراشدين لصفات تميزوا بها في سلوكهم الذاتي وفي إدارتهم لشؤون الأمة
ورعايتهم لدينها وعقيدتها وحفاظهم على النهج الذي جاء به رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من الدعوة، والجهاد، وإقامة العدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر.
والرشد ضد الغي والهوى وهو الاستقامة الكاملة على المنهاج النبوي، وقد
جاء وصفهم بهذه الصفة في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: " ...
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ،
وإياكم ومحدثات الأمور " [3] .
كما جاء وصف خلافتهم في بعض الأحاديث النبوية: أخرج الإمام أحمد في
مسنده عن حذيفة- رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون
خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها
... ) الحديث [4] .
وفي حديث سفينة -رضي الله عنه- تحديد لزمن الخلافة الراشدة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من
يشاء) [5] ، قال سفينة: أَمست خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-سنتين، وخلافة
عمر -رضي الله عنه-عشر سنين، وخلافة عثمان -رضي الله عنه- اثني عشر
سنة، وخلافة علي -رضي الله عنه-ست سنين.
وقد تميز عصرهم من بين سائر عصور الدول الإسلامية بجملة من المميزات
التي تميزه عن غيره، وصار العصر الراشدي مع عصر النبوة معلماً بارزاً
ونموذجاً مكتملاً، تسعى الأمة الإسلامية وكل مصلح إلى محاولة الوصول إلى ذلك
المستوى السامق الرفيع، ويجعله كل داعية نصب عينيه فيحاول في دعوته رفع
الأمة إلى مستوى ذلك العصر أو قريباً منه، ويجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة
للأجيال الإسلامية، ومن ثم صار كل مصلح وكل حاكم عادل وكل إمام مجتهد يقاس
بهذا العصر ويوزن بميزانه، حتى لقب كثير من العلماء الخليفة الأموي عمر بن
عبد العزيز (خامس الخلفاء الراشدين) [6] ، ونسبوه إليهم، وذلك لأنه سار بسيرتهم، وسلك طريقهم، وأعاد في خلافته رغم قصرها (99-101هـ) معالم نهجهم، وأحيا
طريقتهم في الحكم والإدارة وسياسة الرعية.
وفي هذه المقالة نتعرف على بعض معالم عصر الخلفاء الراشدين -رضي الله
عنهم-؛ لتكون مثالاً يحتذى وصدىً يهتدى بها في طريق الدعوة إلى الله.
1- توحيد مصدر التلقي:
ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة المطهرة، وهذه قضية مهمة جداً، فما وقع
التفرق والاختلاف إلا عندما قصَّرَ المسلمون في فهم الكتاب والسنة وزاحموهما
بمصادر ومقررات خارجية من فلسفات الأمم وأهواء النفوس، والبشرية لا يمكن
لها أن تتقارب وتتوحد إلا إذا وحدت مصادر فهمها وتلقيها، فإن الناظر في
الفلسفات البشرية والمذاهب الفكرية والسياسات العملية يجد بينها بونا ً شاسعاً
واختلافاً كبيراً يصل إلى التضاد والتناقض، ولذلك فإنه لا سبيل لوحدتها وإزالة ما
بينها من اختلاف وتناقض، ويبرأ من النقص والهوى ويخضع له الجميع سوى
وحي الله المنزل في كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لأنه من تشريع
الله الخالق لكل شيء، الحكيم الخبير الذي أحاط علمه بكل شيء، قال تعالى: ... [ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً] [مريم: 64] ،وقال تعالى: [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ] [البقرة: 255] ، وقال: [وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً] [النساء: 26] ، وقال تعالى:
[الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ ولَداً ولَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] [الفرقان: 2] ، وقال تعالى: [ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ
فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [الأعراف: 52] ، وقال تعالى: ... [واللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] [الحجرات: 16]
فما كان الخلفاء الراشدون يتلقون أو يأخذون نظمهم ولا سياستهم ولا مناهج
علمهم وكافة أمورهم إلا من الكتاب المنزل من الله والسنة الموحى بها إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن الاقتصار منهم على الوحي الرباني عن فقر
في العلوم والثقافة في عصرهم ولكنه عن علم وقصد واتباع لأمر الله وأمر رسوله
-صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] .
فكل ما خالف الوحي فهو هوى وجهل وعمى، وقال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] .
ولقد غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى في يد عمر بن
الخطاب صحيفة من التوراة وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده
لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) [7] ، وأقوال الخلفاء الراشدين بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومواقفهم توضح ذلك وتبينه.
قال الخليفة الأول صديق هذه الأمة بعد أن بويع بالخلافة في خطبة عامة:
إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني [8] .
وقال عمر الخطاب -رضي الله عنه-: (قد كنت أرى أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم -سيدبر أمرنا- أي: يكون آخرنا -، وإن الله قد أبقى فيكم الذي به
هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإن الله قد جمع أمركم
على خيركم [9] (يعني: أبا بكر) .
وقال أيضاً: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما
أعزنا الله به أذلنا الله) [10] . فالاعتصام بالكتاب والسنة والتلقي منهما قضية
مسلمة لا تقبل النقاش، ولقد استمرت الأمة على هذا الفهم قروناً، ولكنها أصيبت
في الأعْصُر المتأخرة بالانحرافات حتى جهلت المسلمات ووجد من أبنائها من يجادل
في هذا، بل وربما وجد فيمن ينتسبون إلى الدعوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
2- حماية جانب العقيدة:
لقد جاءت الشريعة بسد باب الذرائع المؤدية إلى الشرك ومحاربة البدع والمحدثات في الدين، ولهذا لم يكن الخلفاء الراشدون وظيفتهم تقف عند حفظ الأمن
والحكم بين الناس، بل إنها تتعدى ذلك لتشمل كافة مصالح الأمة الدنيوية والأخروية، ومن ثم قاموا على نشر العقيدة الصحيحة وسدوا كافة المنافذ المؤدية إلى الابتداع
في الدين أو النقص منه أو الانحراف في فهمه، وقاوموا كل مبتدع أو مشكك في
الدين، وطبقوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس
منه فهو رد) [11] .
والوقائع التاريخية والمواقف المنقولة عنهم في هذا المعنى، كثيرة نذكر نماذج
منها:
- موقف الصديق -رضي الله عنه-في الردة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، فقد واجه المرتدين بكل قوة وصلابة وحزم وشجاعة، ورفض مهادنة
مانعي الزكاة رغم قلة الجند الإسلامي ومشورة كثير من الصحابة له بذلك منهم عمر
بن الخطاب، فقال -رضي الله عنه- قولته الشهيرة: (والله لأقاتلن من فرق بين
الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم
عليه) [12] .
وقال لعمر بن الخطاب: (أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟ إنه قد
انقطع الوحي وتم الدين، أوَ ينقص وأنا حي؟ [13] .. فهو يعلم -رضي الله عنه-
أن واجب الخليفة حراسة الدين من الزيادة والنقصان، لذلك قال مستفهماً هذا
الاستفهام: (أو ينقص وأنا حي؟) أي: إن ذلك غير ممكن ولا أقبل به أبداً مادمت
حياً، ولذلك قال أيضاً: (والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف في يدي، ولو لم يبق
في القرى غيري) [14] .
- مواقف عمر بن الخطاب كثيرة: فقد كان -رضي الله عنه-شديداً على أهل
الأهواء والبدع، فقد ضرب صبيغ بن عسل التميمي بجريد النخل وعراجينه عندما
أخذ يثير بعض الأسئلة المشككة، حتى قال له: والله لقد ذهب ما أجد يا أمير
المؤمنين، ثم بعث به إلى والي البصرة أبي موسى الأشعري وأمره بمنعه من
مخالطة الناس، فحجز حتى تاب واستقام أمره وأقلع عن بدعته [15] وقولته -رضي الله عنه- عند تقبيله الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا
تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما ... قبلتك) [16] ... دليل واضح على المتابعة الدقيقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وإبعاد لأي اعتقاد ينشأ عند بعض الناس بأن الحجر ينفع أو يضر بذاته.
وكذلك قطعه للشجرة التي بايع تحتها رسول -صلى الله عليه وسلم- أهل
الحديبية بيعة الرضوان، عندما بلغه أن بعض الناس يقصدها بعبادة كالصلاة عندها
أو الدعاء والتبرك بها [17] .
- موقف عثمان -رضي الله عنه- في سد باب الفتنة والاختلاف في القرآن
الكريم: حيث سارع -عندما قدم عليه حذيفة بن اليمان من أرمينية وأخبره بما رأى
من الاختلاف في قراءة القرآن- إلى الأمر بكتابة مصحف واحد من عدة نسخ،
وبعث إلى كل قطر وناحية نسخة، وأمر بإحراق بقية النسخ والصحف الموجودة
عند الناس، فجمع الناس على مصحف واحد، وقطع الله بعمله هذا دابر الفتنة،
وحقق الله على يديه صيانة كتابه وحفظه من الزيادة والنقصان [18] .
- قتال علي -رضي الله عنه- للخوارج وللشيعة الذين غلوا فيه حتى ألَّهوه -
رضي الله عنه- فنصحهم عن ذلك، ثم لمَّا لم ينتهوا أمر بإحراقهم بالنار، وقال:
(لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناراً ودعوت قنبراً) [19] .
-يتبع-
__________
(1) تاريخ الطبري 3/217، 5/143، ويذكر قولاً للمدائني في تاريخ قتل علي مقارب لهذا.
(2) تاريخ الطبري 5/163 ويذكر ذلك عن بن شبة عن المدائني قال: سلم الحسن بن علي الكوفة إلى معاوية، ودخلها معاوية لخمس بقين من ربيع الأول، ويقال: من جماد الأول.
(3) رواه أبو داود 4/201، والترمذي 5/44 وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند 4/ 126.
(4) المسند 4/273، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/189: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات وقد حسنه الشيخ الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 5.
(5) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة وهذا لفظه والترمذي في باب 16.
(6) انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (باب في أنه من الخلفاء الراشدين المهديين) ، والنووي تهذيب الأسماء واللغات 2/17، والذهبي سير أعلام النبلاء 5/120.
(7) رواه أحمد 3 / 387، من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله وقال الحافظ في الفتح 13 / 234: رواه ابن أبي شيبة والبزار، وسكت عنه وقد صرح في " مقدمة الفتح " أن ما يسكت عنه هو حسن عنده ويشهد لمعناه ما رواه البخاري في صحيحه 13 / 333 -الفتح- عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي انزل على رسول الله أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب؟ ! .
(8) تاريخ الطبري 3 / 224.
(9) البداية والنهاية 6 / 301 وقال: إسناده صحيح.
(10) رواه الحاكم في المستدرك 1/ 62 وقال: صحيح على شرطهما وسكت عنه الذهبي وقال الألباني: صحيح.
(11) رواه مسلم 3 / 1344 حديث رقم 1718، ط فؤاد عبد الباقي.
(12) رواه مسلم في صحيحه 1 / 206 بشرح النووي.
(13) قال في الرياض النضرة في مناقب العشرة،، 247: خرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين.
(14) البداية والنهاية 6 / 304.
(15) سنن الدرامي 1/ 54، 55، ومسند أحمد.
(16) رواه الجماعة انظر المنتقى من صحيح الأخبار، حديث رقم (2536) .
(17) طبقات ابن سعد 2 / 100، وأخبار مكة للفاكهي 5 / 78.
(18) انظر صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن.
(19) ابن حزم، الفصل 4 /186.(15/76)
عمر المختار في ذكرى استشهاده
حسن علي أحمد
في السادس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام1931 اعتلى البطل عمر
المختار - وقد جاوز السبعين من عمره - أعواد المشنقة بعد جهاد طويل دام قرابة
الثلاثين عاماً، حارب فيها الفرنسيين في مملكة كانم وواداي في نيجيريا والسودان، وعمل على نشر الإسلام في تلك البلاد ما شاء الله له، ثم عاد ليحارب الإنجليز
في مصر، وليقضي بقية عمره بعد ذلك في قتال الإيطاليين الذين جاءوا مستكبرين
محتلين لبلاده ومغتصبين لأرضه، فكانت له وقائع مشهودة ومواقف محمودة،
وأبلى في الجهاد بمن معه من المؤمنين الصادقين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
كله لله -جل وعلا-.
قالت عنه صحيفة التايمز البريطانية في مقال نشرته في اليوم التالي لإعدامه
تحت عنوان (نصر إيطالي) : (حقق الإيطاليون انتصاراً خطيراً ونجاحاً حاسماً
في حملتهم على المتمردين السنوسيين في برقة، فقد أسروا وأعدموا الرجل الرهيب
عمر المختار شيخ القبيلة العنيف الضاري ... ) ، ثم تستمر الصحيفة حتى تقول:
(ومن المحتمل جداً أن مصيره سيشل مقاومة بقية الثوار، والمختار الذي لم يقبل أي
منحة مالية من إيطاليا، وأنفق كل ما عنده في سبيل الجهاد وعاش على ما كان
يقدمه له أتباعه، واعتبر الاتفاقيات مع الكفار مجرد قصاصات ورق، كان محل
إعجاب لحماسته وإخلاصه الديني، كما كان مرموقاً لشجاعته وإقدامه) .
ونحن نقول:
ومليحة شهدت لها ضراتها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
لقد كانت حياة المختار مكرسة كلها للعلم والدعوة والجهاد؛ طلب العلم في
الزوايا التي أنشأتها الحركة السنوسية، ثم كان أحد روادها في الدعوة وتربية الناس، حتى نادى منادي الجهاد فقضى بقية عمره معتلياً صهوة جواده، ممسكاً بسلاحه،
لم يهادن أبداً، ولم يستسلم لعدوه، بل قارعه مقارعة الند للند، رغم قلة الإمكانات
ورغم عدم التكافؤ في العدد والعدة، ولكنه استعلاء الإيمان وقوة اليقين، الذي ازداد
صلابة وعمقاً في ميادين الجهاد وساحات المعارك، إن جهاد المختار سيظل معلماً
بارزاً في تاريخ ليبيا وتاريخ الأمة الإسلامية كلها وسيظل دليلاً على أن الإسلام
صنع - ولا يزال- نماذج عظيمة من البطولات على مر العصور، وعلى أن
العطاء الحقيقي إنما هو عطاء الإيمان.
وفاءً ببعض حق عمر المختار علينا: نقف معه هذه الوقفة القصيرة، نستذكر
فيها أحد الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا على الحق الذي آمنوا له،
نستعرض فيها شيئاً من حياته، والعوامل التي جعلت منه بطلاً شجاعاً غير هياب
ولا وَجِل، جاهد -رحمه الله -إعلاءً للحق وأهله وإزراءً للباطل وأتباعه، حياة هذا
المجاهد تستحق الدراسة والاعتبار، فدروس التاريخ هي أبلغ الدروس، والجيل
الذي لا يتعلم من تلك الدروس ولا يستفيد ممن سبقوه لا يمكن له أن يقود حركة
التاريخ قيادة صحيحة، ولا أن يحقق أهدافه المنشودة.
ولد البطل عمر المختار بن عمر المنفي في منطقة البطنان من برقة عام
(1277هـ) 1858م، ويرجع نسبه إلى بيت فرحان من قبيلة المنفة. وكانت نشأته في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة العرب وحرية البادية، طلب العلم في زاوية
جنزور، ثم انتقل إلى زاوية الجغبوب التي كانت مركز قيادة الحركة السنوسية
آنذاك، حيث أتيحت له الفرصة أن يتلقى العلم على يدي بعض المشايخ الذين كان
لهم دور رئيسي في نشر الدعوة الإسلامية، أمثال: السيد الزروالي المغربي
الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني، وقد ظهرت عليه
علامات النباهة ورجاحة العقل منذ الصغر، وظل محل إعجاب وثناء كل من عرفه، حتى لقي ربه -عز وجل- مقبلاً غير مدبر، فكان ذلك أكبر دليل على صدقه في
التعامل مع الناس وفي إقباله على الله.
وبعد فترة قصيرة عينه السيد المهدي السنوسي شيخاً على زاوية القصور في
الجبل الأخضر فقام بأعباء المهمة خير قيام، من تعليم الناس أمور دينهم إلى فض
المنازعات بين القبائل والسعي في مصالحهم وجمع كلمتهم، وسار في الناس سيرة
غبطه عليها العقلاء وزادت من مهابته عند غيرهم، ومما تجدر الإشارة إليه هنا:
أن اختياره للقيام على أمور هذه الزاوية كان مقصوداً من قبل المهدي السنوسي،
حيث إن هذه الزاوية كانت في أرض قبيلة العبيد التي عرفت بشدة الشكيمة
وصعوبة المراس، فوفقه الله في سياسة هذه القبيلة، ونجح في ترويضها بما أودع
فيه من صفات القيادة والحكمة.
ثم كلف بأمر الجهاد في واداي، فقارع الاستعمار الفرنسي الذي كان قد بدأ
زحفه إلى وسط أفريقيا، فبذل الوسع حتى لفت الأنظار عزمه وحزمه وفراسته،
قال عنه المهدي السنوسي: (لو كانت لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا) وبقي في
واداي يعمل على نشر الإسلام ودعوة الناس وتربيتهم إلى جانب قتال الفرنسيين
وحماية بلاد المسلمين، وكانت المناطق التي يتولى المختار قيادتها وحراستها أمنع
من جبهة الأسد، ولا يخفى ما في ذلك من إدراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه
ووطنه.
وفي عام 1906م: رجع إلى الجبل الأخضر ليستأنف عمله في زاوية
القصور، ولكن ذلك لم يكن يستمر طويلاً، فقد كانت المعارك قد بدأت بين الحركة
السنوسية والبريطانيين في منطقة البردي ومساعد والسلوم على الحدود الليبية
المصرية، ولقد شهد عام 1908 أشد المعارك ضراوة والتي انتهت بضم منطقة
السلوم إلى الأراضي المصرية تحت ضغوط بريطانيا على الدولة العثمانية، وعاد
الشيخ إلى زاوية القصور يدير شئونها مرة أخرى، حتى امتدت يد الفاشست الآثمة
إلى التراب الليبي، وهب المختار كعادته ليكون في طليعة من لبى نداء الجهاد،
وهب ليقود حركة وقفت في مواجهة الغزاة عشرين عاماً، سطّر فيها المختار ومن
معه من المجاهدين الأبطال ملاحم أسطورية تحدث عن عظمها وقوتها الأعداء قبل
الأصدقاء؛ ولقد ذكر الجنرال رودلفو جراستياني في كتابه الذي سماه (برقة الهادئة)
يقصد أنها هادئة بعد إعدام المختار والقضاء على حركة الجهاد فيها: إنه نشبت
بينه وبين المختار 263 معركة ومواجهة في مدة عشرين شهراً فقط، فأعْظم به من
بطل، وأَكرم به من شهيد.
وفي عام 1923: أُسندت إليه النيابة العامة للحركة السنوسية وقيادة الجهاد
في برقة، وعلى الرغم من الشدائد التي عاشتها البلاد قاطبة نتيجة لانتشار الطاعون
والأوبئة، وتمكن الإيطاليين من السيطرة على المناطق الغربية من ليبيا، وانقطاع
الإمدادات على قلتها والتي كانت تأتي من مصر عن طريق زاوية الجغبوب. وعلى
الرغم من أن مناطق المعارك لم تزد مساحتها على بضع عشرات من الأميال، ومن
أن المختار جاوز الستين من عمره، على الرغم من هذا كله: كان على إيطاليا
وجنرالاتها أن تخوض حرباً لا هوادة فيها لمدة ثمانية أعوام أخرى كانت أصب
وأطول سني الحرب كلها، ولقد جردت إيطاليا كل ما لديها.. آلاف الجنود والمدافع
والدبابات والطائرات والضباط والقادة الذين تخرجوا من الكليات العسكرية المتقدمة
والتي كانت مصدراً يفخر به الغرب على المسلمين، لكن الذي لم يدركه الإيطاليون
وأدركه المختار: أن المقاييس في مثل هذه الأحوال لا تخضع دائماً للتقديرات
المادية، فقوة الإيمان وعزائم الرجال وتجرُّدهم في سبيل الله يرجح الموازين
ويخزي الظالمين.
ونستمع إلى كلمات المختار من وراء السنين، تجلو الهمة والعزيمة
والإصرار التي يتميز بها عندما دعي إلى التفاوض مع إيطاليا: (إنا حاربناكم
ثمانية عشرة سنة، ولا نزال بعون الله نحاربكم، ولن تنالوا منا بالتهديد) إلى أن
يقول: (لن أبرح الجبل الأخضر مدة حياتي ولن يستريح الطليان فيه حتى توارى
لحيتي في التراب) .
إن أمة مثل هذه لا سبيل لقهرها إلا بالقضاء عليها، وما أحوج المسلمين اليوم
لأن يدركوا مثل هذه العبرة، وأن يتعلموا مثل هذا الدرس.
ولم يبق أمام إيطاليا إلا خيار واحد، وهو: أن تقطع عن المجاهدين كل
إمكانية للإمداد، فجمعوا كل الليبيين في برقة في معسكرات اعتقال جماعية مع
ماشيتهم وأغنامهم، وأحرقوا بعد ذلك الأخضر واليابس، ومدوا الأسلاك الشائكة
على طول الحدود الليبية المصرية، لكن ذلك لم يكن ليفت في عضد المجاهدين
الذين وطنوا أنفسهم على إحدى الحسنيين، فاستمروا في قتالهم شهوراً عديدة، حتى
كان يوم الجمعة 28 ربيع الثاني 1351هـ (11سبتمبر 1931م) ؛ إذ فاجأتهم كتيبة
من الجيش الإيطالي في جنوب قرية سلنطة، ودارت بين الطرفين معركة سقط فيها
أكثر المجاهدين وقتل جواد المختار فوقع به على الأرض جريحاً، وقاتل حتى
نفذت ذخيرته، فأسره بعض الجنود الذين تعرفوا عليه، وكان ذلك إيذاناً بانتهاء
الجهاد والمقاومة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وفي يوم الأربعاء الثاني من جمادى الأولى 1351هـ (16سبتمبر1931م)
وفي مدينة سلوق: جئ بالمعتقلين وبجمع غفير من الناس ليشهدوا الإعدام، ووضع
الجلاد الحبل حول عنقه وصعدت روحه الطيبة تشكو إلى ربها عنت الطواغيت
وظلم الظالمين - أسكنه الله فسيح جناته، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء-.
لقد كان جهاد المختار ورفاقه ضد الإيطاليين درساً من الدروس العظيمة
لرفض الظلم والاستعباد والمضي في ثبات على طريق الجهاد مهما كانت الظروف
والإمكانيات، ولعل من المفيد هنا أن نعرض بإيجاز بعضاً من السمات والخصال
التي كونت شخصية عمر المختار، فتوحدت خلفه صفوف الليبيين وأصبح علماً
على جهادهم، وانتشرت أخبار بطولاته فأيقظت الرأي العام الإسلامي والعالمي،
فصارت الصحافة تعنى عناية جادة بمصير ليبيا، وكانت قد تناقص اهتمامها بعد
انسحاب الأتراك من الحرب عام 1912م:
-إن أوضح سمات المختار -ولاشك- هي: قوة إيمانه بالله، وصدق توكله
عليه، كما كان ظاهراً في كل أقواله وأفعاله، كما أن ذلك أيضاً هو مصدر كل
صفاته الحميدة الأخرى من الشجاعة والثبات والمروءة، وكيف لا وهو الذي تربى
وقضى عمره في حركة إسلامية كان لها الدور الرئيسي في بعث الإيمان في تلك
البلاد، وإحياء ما اندرس من معالم الدين والدعوة إليه وتربية الناس على ذلك [1] ، لقد نشأ المختار في بيئة أكسبته الفقه في الدين، وعلمته الدعوة إليه، وأعْظمت
في عينه فضيلة الجهاد، ولا أدل على ذلك من أنه قضى عمره يجاهد أعداء الإسلام، ويصارع أعظمهم جبروتاً وكبراً على أرض ليبيا وخارجها، ولا شيء يصقل
إيمان المسلم ويزيد من توكله على ربه كساحات المعارك ومقارعة الباطل والظالمين. ومع هذا الإيمان الراسخ كان عمر المختار واسع الأفق عالماً بواقعه، مدركاً
لما يجري حوله متابعاً له، وقد كان ذلك أكبر عون له على صحة مواقفه وقوتها
التي فرضت الاحترام من أعدائه قبل أصدقائه، وما أعظم أن يجتمع الإيمان والفقه
بالواقع، وما أقبح أن يتفرقا. ولئن كان هذا واضحاً جلياً في كل مواقف المختار
وآرائه، إلا أنه يتجلى كأوضح ما يكون في إدراكه لعدم جدوى المفاوضات السياسية
والمهادنات مع الحكومة الإيطالية التي وقع فيها - للأسف - كثير من قادة الجهاد
الليبي، فكانت نتائجها سلبية سيئة، وكذلك في اعتماده على الإمكانيات المتوفرة
لديه، وعدم التجائه إلى الشرق أو الغرب طلباً للعون السياسي أو المادي:
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
- شخصيته القيادية وقدرته على تأليف قلوب من حوله وتوجيههم، كما أثبت
ذلك في إدارته لشؤون زاوية القصور وفي نجاحه في قيادة الجهاد بمراحله
ومتطلباته المختلفة: من التخطيط للمعارك وقيادتها، إلى متابعة أصداء الجهاد في
الداخل والخارج والتفاعل معها.
وننقل هنا ما جاء في رسالة بعثها للأمير شكيب أرسلان الذي بذل جهداً
إعلامياً كبيراً في الدفاع عن الجهاد الليبي وتوضيحه للعالم، يقول فيها: " إنه من
خادم المسلمين عمر المختار إلى الأمير أخينا في الله الأمير شكيب أرسلان -حفظه
الله-: قد قرأنا ما دبجه يراعكم السيال عن فضائح الطليان وما اقترفته الأيدي
الأثيمة من الظلم والعدوان بهذه الديار، فإنني وعموم إخواني المجاهدين نقدم لمقامكم
السامي خالص الشكر وعظيم الممنونية.
كل ما ذكرتموه مما اقترفته أيدي الإيطاليين هو قليل من كثير، وقد اقتصدتم
وأحفظتم كثيراً، ولو يُذكر للعالم كل ما يقع من الإيطاليين! لا توجد أذن تصغي لما
يروى من استحالة وقوعه، والحقيقة - والله وملائكته شهود - أنه صحيح، وإننا
في الدفاع عن ديننا ووطننا صامدون، وعلى الله في نصرنا متوكلون، وقد قال
تعالى: [وَكَانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
في 20 ذي الحجة سنة 1349هـ[2]
-العقلية العسكرية الفذة التي اكتسبها من خلال حياته في الزوايا التابعة
للحركة السنوسية، حيث كان التدريب على أعمال الجهاد جزءاً أساسياً من برنامج
الحياة فيها.
يقول الأمير شكيب أرسلان يصف ذلك، وكان قد زار ليبيا والتقى بمجاهديها حدثني السيد أحمد الشريف: أن عمه المهدي كان عنده خمسون بندقية خاصة به، وكان يتعهدها بالمسح والتنظيف بيده، لا يرضى أن يمسحها أحد من أتباعه قصداً وعمداً ليقتدي به الناس ويحتفلوا بأمر الجهاد وعدته وعتاده، وكان نهار الجمعة يوماً خاصاً بالتمرينات الحربية من طراد ورماية وما أشبه ذلك. فكان السيد يجلس في مرقبٍ عالٍ، والفرسان تنقسم صفين، ويبدأ الطراد فلا ينتهي إلا في آخر النهار [3] ، هذا بالإضافة إلى الخبرة الطويلة التي اكتسبها من ميادين القتال حتى أصبح ذا كفاءة عالية في استخدام المتوفر من القدرات وفي استغلال طبيعة ميدان المعركة، وذلك بشهادة القادة من أعدائه كما يذكر جراتسياني عنه: أنه ترك المواجهة في الصحراء واتخذ من الجبال مقراً له، فكان ذلك من أكبر العوائق أمام الإيطاليين في صراعهم مع المجاهدين.
- وفي هذا كله كانت أقواله تصدقها الفعال، بل إن الصدق كان من أبرز
سماته على الإطلاق، الصدق مع الله.. الصدق مع النفس، ومع الآخرين حتى إن
كانوا ألد الأعداء.. حتى أمام المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام ...
- هل أنت قائد الثوار ضد الحكومة الإيطالية؟ .
- هل حاربت الدولة وحرضت الناس على ذلك؟ .
- هل أشهرت السلاح في وجه القوات الإيطالية واشتركت في القتال فعلياً؟
- هل أمرت بتحصيل الأعشار من الأهالي؟ .
- هل أمرت بقتل الطيارين اللذين وقعا في الأسر؟ .
أجاب عن كل هذا ب: " نعم "، باستثناء حادثة الطيارين اللذين نفى علمه
بمقتلهما - رحمه الله رحمة واسعة- إن شعباً أنجب المختار وأمثاله من المجاهدين
لن يعقم أبداً.
إن من أكبر الدروس التي نتعلمها من حياة هذا المجاهد البطل هو: أن الجهاد
من أجل حماية العقيدة ونشرها وإقامتها في واقع الحياة، وبذل المهج والأرواح في
سبيل ذلك هو من أسمى غايات المسلم، وأن القيادة الشرعية إنما هي في حقيقتها
قيادة جهادية تعمل على ذلك وعلى تخليص المسلم من الظلم والإذلال، كما تعمل
على نشر العلم وبيانه، وأنه لتحقيق ذلك لابد من وجود الصلة القوية بين العالم أو
الداعية والمجتمع عن طريق العلاقة الوثيقة بالناس وبواقعهم وما يعانونه من
مشكلات.
__________
(1) لابد من الإشارة هنا وقد بينا محاسن الحركة السنوسية ودورها في قيادة الجهاد ضد الإيطاليين أننا لا نوافق على كل منهجها وخاصةً في الجانب التربوي الذي اعتمد أساليب الصوفية، وكان فيه بعض الغلو، ولكن كان ذلك قد ازداد واستفحل عند المتأخرين منهم وبعد وفاة أحمد الشريف، إلا أن جذوره كانت ولا شك في أصل منهجهم والحركة السنوسية لم تعط بعد حقها من الدراسة والبحث.
(2) كتاب قصة الأدب العربي في ليبيا، ص 141، محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الخراز 1965م.
(3) كتاب الأمير شكيب أرسلان، القضية الليبية/12، محمد رجب الزائدي، مكتبة الخراز 1964م.(15/82)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
رأي في أحداث الجزائر
هذا أول عدد من أعداد مجلتنا (البيان) يصدر بعد الأحداث الدامية التي
شهدتها الجزائر في 8/10/1988، وما كنا لندع هذا الحدث الأليم يمر دون أن
نقول رأينا فيه، لأن الشعب الجزائري المؤمن عزيزٌ علينا، ما يؤلمه يؤلمنا وما
يسره يسرنا، ولن ينسى المسلمون في كل مكان جزائر المليون شهيد الذين بذلوا
الغالي والنفيس من أجل أن يعود بلدهم إسلامياً عربياً لا أثر فيه للصليبية ولا للكفر
والإلحاد.
وقد حاول العلمانيون بعد الاستقلال نشر الشيوعية والإلحاد، ولكن الله أخذهم
أخذ عزيزٍ مقتدر، وجعلهم عبرة لمن يعتبر، وبقيت كتائب ابن باديس والإبراهيمي
والتبسي ترفع راية: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) خفاقة عالية، يرفعونها في
المساجد والجامعات والمدن والأرياف والثكنات وفي كل مكان.
إذن: ليس غريباً أن نعيش مع إخواننا في محنتهم ... بل كنا نراقب فساد
نظام الحزب الواحد، وما يجره على الجزائر من دمار وويلات، ولسنا وحدنا الذين
نقول هذا القول، لقد قاله المسؤول الأول في الجزائر -رئيس الجمهورية-، ففي
19 سبتمبر الماضي ألقى خطاباً أمام أعضاء لجان التنسيق في الولايات تحدث فيه
عن المشكلات الاقتصادية المستعصية، وقال بالحرف الواحد: " إن هناك بعض
العناصر في النظام تثار حولها الشبهات، ولن نقبل أبداً بأن يستمر هؤلاء الأفراد
في السلطة ... وقال بأن بعض هؤلاء المسؤولين في القمة ويعملون داخل مؤسسات
تابعة للحزب وللحكومة وفي أجهزة أخرى، وهاجم المؤسسات الاقتصادية الوطنية
لأنها لا تؤدي دورها المطلوب ".
ولم تكن هذه الفضائح سراً من الأسرار، لقد كان يتحدث عنها المواطن
العادي، وتنشرها الصحف داخل الجزائر وخارجها، ومن الأمثلة على ذلك: قضية
اختلاس البنك المركزي، ولم يكن المختلسون نكرات في السلطة ...
ومما ينبغي أن يعرفه كل عاقل منصف: أن المسؤول الذي لا يعمل في سبيل
الله، ولا يعرف الخوف من الله طريقاً إلى قلبه؛ سوف يسرق ويظلم ويفسد،
وينهب ويدمر البلاد والعباد.. وهو يزعم أنه مصلح وعادل وزاهد وفقير لا يملك
من حطام الدنيا شيئاً ... والجزائريون وغيرهم وغيرهم يعرفون أمثلة كثيرة تؤكد
صحة ما نقول.
ونتيجة لذلك: فقد سبقت الأحداث أزمة اقتصادية خانقة، فكثير من المواد
الضرورية: كالزيت، والدقيق، والخضروات، واللحوم اختفت من الأسواق،
وكثر العاطلون عن العمل الذين يقرعون أبواب الوزارات والمؤسسات بحثاً عن
وظيفة ولا يجدون من يجيبهم ويسد حاجتهم، ونسبة البطالة 17% من السكان
القادرين على العمل.
والأدهى من ذلك والأمر قضية السكن: فالجزائر ثاني دولة إفريقية من حيث
المساحة، ومع ذلك ففيها أزمة سكن، مع أن مساحتها تتسع لخمسة أمثال عدد
سكانها، والمشكلة كل المشكلة في الإجراءات الاشتراكية التي فرضها " بومدين "،
وسلفه " بن بلا " ولا يزال النظام غير قادر على التخلص منها ... فالذين وجدوا
سكناً يعيشون في غرف لا يحسدون عليها، فالأسرة التي يبلغ عدد أفرادها عشرة
يعيشون في حجرتين صغيرتين ... وبكل أسف هناك الكثير الكثير من يتمنى مثل
هذا السكن.
وهذه المآسي لا تبرر المذبحة التي وقعت بين المتظاهرين والجيش، فمن حق
المواطنين أن يطالبوا بحقوقهم، ويعبروا عن مشاعرهم، وينددوا بالظلم والظالمين ولكن ليس من حقهم أن يعتدوا على المؤسسات والمرافق العامة، ويلحقوا بها
أضراراً فادحة، وقد بلغت كمية الخسائر 170 مليون دولار ... والذين أتلفوا هذه
الأمور لا يدركون أبعاد القاعدة الإسلامية التي سنها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: " لا ضرر ولا ضرار ".
ومن حق رجال الأمن والجيش أن يحافظوا على الأمن، ولكن ليس من حقهم
حصد أرواح المتظاهرين، وقد بلغ عدد القتلى عدة مئات، ومن بين القتلى أطفال
ونساء كانوا في شرفات منازلهم ... فالجيش من الشعب، ووظيفته أن يقاتل أعداء
المسلمين، وليست وظيفته مقاتلة الشعب ... وكم نتمنى أن يتحقق الوعي عند
الجندي المسلم بحيث لو أصدر قائده الأمر إليه ليطلق النار على رواد المساجد أو
الأبرياء من المواطنين لرفض ذلك وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
لن أقتل أخي المسلم، فاقتلوني إن شئتم، لن أقتله ... لو تحقق هذا الوعي لما كنا
في مثل هذا الذل والهوان، ولما كانت الفجوة واسعة جداً بين الحاكم والمحكوم،
ولما نظر المواطن إلى العسكري نظرة يشوبها الحقد والكراهية أو الحذر والخوف.
والذين كانوا يتابعون الأحداث يعلمون أن وكالات الأنباء والصحف العالمية
والعربية أجمعت على شيء واحد ... وكان هذا الذي أجمعت عليه عارياً عن
الصحة ملفقاً ليس فيه عدل ولا حق ... أجمعوا على اتهام (الأصوليين) بالأحداث.
وهم يخترعون أسماء ويلصقونها بالإسلاميين كقولهم (أصولي.. متشدد) وما
إلى ذلك من أسماء كاذبة. والأنكى من ذلك: أن صحفاً ومجلات عربية تتبع نظاماً
عربياً " عفلقياً " شنت حملة ظالمة على الداعية الشيخ علي بلحاج، وزعمت أنه
يتردد على إيران، وأن له علاقات وثيقة مع السفير الإيراني في الجزائر ... وأن
إيران كانت وراء هذه الأحداث من خلال الشيخ (علي بلحاج) .
يا هؤلاء: أنتم تظنون بغيركم كما تظنون بأنفسكم، فأنتم تتقاضون أموالاً من
النظام العفلقي، وتنشرون المعلومات التي تأمر بها أجهزة مخابرات هذا النظام الذي
لم يتعظ ولم يرعو ... ونحن على صفحات مجلتنا نخاطب أسيادكم فنقول لهم:
الشيخ على بلحاج - ولا نزكي على الله أحداً والحي لا تؤمن فتنته - ليس
نكرة، ولستم أهلاً للحديث عنه ... إنه داعية من دعاة أهل السنة والجماعة عقيدة
وسلوكاً ونظام حياة، وهو يعرف إيران الخميني كغيره من علماء أهل السنة
المتأسين بسلف هذه الأمة من رجال خير القرون، ومن كان هذا مسلكه ومنهجه
يرفض إقامة علاقة مع سفير إيران، كما يرفض زيارة إيران.
يا هؤلاء: ليس خلافنا مع إيران على أمتار أو كيلومترات -من الأراضي أو
الماء، ولا نتبع نظاماً من الأنظمة فإذا سوَّى هذا النظام خلافاته مع إيران تبعناه في
السلم والحرب كما تفعل الصحف المأجورة ... إن خلافنا معهم عميق الجذور ...
ونحن الذين ندرسكم عن أخطار الشعوبيين وموقفهم الخبيث من رسول الله
وأصحابه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.. بل نتوقع أن يأتي يوم
تتفقون معهم، ويجمع بينكم وبينهم عداوة أهل السنة كما فعل ويفعل ابن حزبكم
الباطني! !
ولذلك نقول لكم بلغة جازمة: إن الشيخ علي بلحاج لم يزر إيران، وليس له أي علاقة بسفير إيران أو بأحد الزعماء الجزائريين المتعاونين مع إيران. ...
وليس له علاقة بالأحداث الدموية، كان يرى أن يقوم بمظاهرة سلمية، غير
أن حكيم علماء الجزائر الشيخ سحنون -حفظه الله- أقنعه أن لا يفعل؛ فاستجاب له، وما كان موجوداً في مسجد (بلكور) في يوم المظاهرة، والإسلاميون لا يملكون
سلطة ليمنعوا المظاهرة.
فهل تجدون في أنفسكم شجاعة لتصحيح الخطأ الذي أخطأتموه؟ !
نجزم بأنكم لن تفعلوا؛ لأن احتمال حسن النية غير وارد عندكم، ولأن إحدى
مجلاتكم المأجورة مختصة بالكذب على الإسلاميين، وقبل هجومها على دعاة
الإسلام في الجزائر كانت تهاجم الإسلاميين في بلاد الشام، الذين ظنوا أن في
التحالف معكم يحققون خيراً لبلدهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن خير حلٍ نراه: أن يتفق الإسلاميون على مقاطعة صحفكم وتحذير الأمة
من أكاذيبها.
أما محاولاتكم لتأليب النظام الجزائري ضد الإسلاميين، فيكفينا في الرد عليكم
قوله تعالى: [الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً
وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ] .
يا دعاة الإسلام في الجزائر: إن الإجماع الإعلامي العالمي الكاذب يعبر عن
خوف الدوائر الاستعمارية وعملائها من وعي الإسلاميين ونشاطهم في الجزائر،
فكونوا على يقظة وحذر ووحدوا صفوفكم وحذار من الخلاف والفرقة، أما منهج
هذه الوحدة فهو الذي أنزله الله وبلغنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه
منهج أهل السنة والجماعة، وليس قول هذا ولا شعار ذاك، واعلموا أن أية وحدة
أو تقارب محكوم عليه بالفشل إذا تجاهل دعاتها المنهج.
واستفيدوا يا إخواننا من أخطاء الماضي القريب، ولتكن معرفتكم بواقعكم
المعاصر دقيقة ... والدعاة الذين يجهلون السياسة أو الذين يفصلون بين السياسة
والمنهج يخسرون خسراناً عظيماً.
وحذار حذار من أهل الغلو؛ فلقد كانوا سبباً في كوارث عديدة أربكت العمل
الإسلامي وأعاقت تقدمه، وويل لجماعة يقودها شباب أغرار يجهلون أصول دينهم، ويجهلون مشكلات عصرهم، ولا يقبلون النصح، ولا يتعظون من أخطائهم أو
أخطاء غيرهم.
وأخيراً: اعلموا أننا وحدنا - أعني: دعاة الإسلام - الذين نعبر بصدق
وأمانة عن آلام هذا الشعب وبؤسه؛ فالأسرة الكبيرة التي تسكن في غرفة أو
غرفتين من أسرنا، والعاطل عن العمل أخونا أو ابننا، أما غيرنا فيتاجر بالفقراء
والعمال من أجل أن يصل ثانية! إلى كرسي الحكم، وإذا وصل فسوف ينهب
ويفسد ويسفر عن وجهه الأول الكالح، ويتنكر لكلماته الطيبة التي كان يقولها عن
الإسلام أحياناً.
فاقطعوا الطريق عليه وعلى غيره، ولا تقبلوا قيادة غير رجالكم الذين لا
يعصون لله أمراً.
نسأل الله أن يجمع بين قلوبنا، ويشتت صفوف عدونا، ويجعل لنا من بعد
عسر يسراً، إنه سميع مجيب.(15/91)
المجاهدون الأفغان
إرادة فولاذية استعداداً للمعركة النهائية
في قرى إقليم لوغار الواقع إلى الجنوب قليلاً من كابل، يبدو أن كل الأسباب
تدل على أن نتيجة الحرب أصبحت لمصلحة المجاهدين الأفغان وأنصارهم من
المدنيين؛ فقد طوق المجاهدون الأفغان العاصمة الإقليمية هناك، وبات شريط من
المباني الآيلة للسقوط طوله نصف ميل هو آخر معاقل الحكومة في هذا الإقليم.
كما سيطر المجاهدون على الطريق المؤدية إلى الشمال باتجاه العاصمة،
وقطعوا خطوط الإمداد الحكومية الحيوية إلى ثلاثة أقاليم.
وفي كل يوم، تصل الحافلات المحمّلة بالمدنيين من كابل، ويتحدث هؤلاء
عن تعمق الصراعات بين صفوف الحزب الشيوعي الحاكم، وكذلك عن احتمال
سقوط النظام المدعوم من قبل موسكو - وهو ما يراه معظمهم أمراً يتعذر الحيلولة
دونه - عند اكتمال انسحاب القوات السوفييتية.
وكانت القوات السوفييتية قد أوقفت انسحابها يوم 4/11/1988م في أعقاب
تزايد هجمات المجاهدين، وكان النائب الأول لوزير الخارجية السوفييتي قد صرح
بأن هجمات المجاهدين على الوحدات السوفييتية -منذ بدء الانسحاب السوفييتي- قد
بلغت (550) هجمة، وأن تلك الهجمات قد شملت (88) هجوماً بالصواريخ
و (440) هجوماً آخر على نقاط حراسة عسكرية سوفييتية، وتمخضت عن سقوط
(750) قتيلاً في العاصمة وحدها.
ومن ناحية أخرى فقد حذر النظام الحاكم في كابل من أنه سيقوم باستخدام
صواريخ سكود السوفييتية البعيدة المدى والتي زُود بها حديثاً من قبل موسكو، ضد
قواعد المجاهدين في محاولة منه للحد من تزايد قصفهم.
الأوبزرفر 30 / 10 /1988 م، التايمز 5 / 11 /1988م(15/96)
محنة التعليم الإسلامي في إندونيسيا
إذا كان من الصعب إلغاء التعليم الإسلامي بصراحة في بلد ذي أغلبية إسلامية، فإن من السهل جداً الاحتيال على هذا التعليم حتى لا يؤدى النتائج المنتظرة، وذلك عندما يأتي دور التنفيذ لتوصيات الدولة في هذا المجال، فإن الجهات التي يوكل إليها تنفيذ التوصيات تعرف عملها جيداً، فتقوم بالواجب خير قيام، حيث إن هذه الجهات غالباً ما تكون غير راضية لا عن الإسلام ولا عن ما يتعلق به من تربية وتعليم، فتؤتمن على أمر يسوءها أن يكون من ورائه نتيجة إيجابية تعود على المعنيين الذين شرع لهم (ومن استرعى الذئب ظلم) .
هذا ما حصل في بلد يشكل المسلمون فيه الأكثرية الساحقة من السكان، ولكن
لأجل خواطر الأقليات الأخرى فيه يحرم الأطفال المسلمون من معرفة حدود هويتهم
الإسلامية ويخضعون لتعاليم أخلاقية مائعة لا لون لها.
فقد أقر تشريع جديد في أندونيسيا يهمل التعليم الديني الإسلامي في المدارس
الحكومية، ويوضع بدلاً منه معلومات عامة مستوحاة من (البلانثسيلا) وهي مجموعة مبادئ مستحدثة تقوم على أسس وثنية وتاريخية وقومية واتخذتها ... حكومة أندونيسيا لتكون بدلاً عن العقيدة الدينية.
حتى المدارس الخاصة التي يمكن أن توفر تعليماً إسلامياً يسد بعض النقص
الذي تسببه المناهج الرسمية قد سحب البساط من تحت أقدامها وستصبح غير
معترف بها، وهكذا فما على المسلمين إلا أن يهملوا دينهم رسمياً وشعبياً ويذوبوا
في خضم الأقليات الصينية واليابانية والمسيحية التي تتحكم بها.
وقد يكون هذا التخلي منطقياً ولكن بشرط أن يقابله تخل آخر من هذه الإقليمية
عن خصوصياتها وشراهتها لابتلاع الأكثرية، فهل هذا هو حالها؟ ! لا، بل إن
هذه التشريعات ما وضعت إلا لتقويتها وزيادة سطوتها لافتراس الأغلبية الصامتة
التي تجرد من كل أسباب المقاومة يوماً بعد يوم.
إن النظام الحاكم في أندونيسيا نظام أقلية قام على أساس العنف والمكر،
تحتكر السلطة فيه حفنة من العسكريين الفاسدين وأصحاب رؤوس الأموال من
الصينيين والنصارى، وزيادة في سوئه فإنه يتلقى الدعم من الشركات المتعددة
الجنسيات في الخارج ومن مجلس الكنائس العالمي الذي يصر على تنصير هذا البلد
بأعداد مسلميه الهائلة.
وهناك ظاهرة تلفت النظر وهي الهجرة الصينية الكثيفة منذ بداية السبعينات إلى الآن، أفواج هائلة من الصينيين تأتي عبر سنغافورة وهونج كونج بشكل غير قانوني، ولكن بتآمر مع الأوساط الرسمية في البلاد، ومن المعتاد ملاحظة (أندونيسيين) في كثير من المدن يحملون كافة الأوراق الثبوتية والوثائق التي تثبت
أندونيسيتهم رغم ملامحهم الصينية ورغم أنهم لا يتكلمون كلمة واحدة من اللغة
الأندونيسية.
المشكلة نفسها التي حصلت للخليج حصلت في أندونيسيا هناك.
إن النظام التعليمي في أندونيسيا متجه إلى الانقسام إلى شعبين:
1- الشعبة العامة وهي تعليم كمي متجه إلى عامة الشعب همه محو الأمية
دون عمق.
2- الشعبة الخاصة وهي تعليم نوعي ونخبوي يسعى إلى تخريج طبقة هي
المؤهلة للإمساك بزمام البلاد، وقيادة نتاج الشعبة العامة، وهذا غالباً ما يكون تحت
سيطرة وتمويل وتوجيه البعثات النصرانية.
الداء واحد في كل البلاد الإسلامية وهو يقظة الأعداء وتصميمهم وتعاونهم فيما
بينهم، وغفلة المسلمين، وذهاب ريحهم في الخلافات.
هل ينتظرون إلا أن يصبحوا أقلية حتى ينتبهوا إلى المشاكل التي تعصف بهم
فيحافظوا على وجودهم من الانقراض؟ ! .(15/97)
حدث في زنجبار
إذا أردت بطاقة للعبور إلى الشهرة، أو لتسلم منصب مهم، فالأمر لا يحتاج
إلى مؤهلات كثيرة ومعقدة، كل ما هو مطلوب أن تقف على منصة في اجتماع عام
لحزب أو منظمة وتهاجم الإسلام، أو شيئاً من تعاليمه، وعندها ستصبح نجماً
شهيرا، وبطلاً مكافحاً، ومناضلاً وطنياً، ولكن ضد مَنْ؟ ليس ضد الإسلام طبعاً! ولكن ضد الرجعية والتخلف وعدم مسايرة التطور وروح العصر.... إلى آخر ما
في جعبة مهاجمي الإسلام والمسلمين بالهجوم على شرعه ومبادئه.
هذا ما حصل في تانزانيا المؤلفة من اتحاد ما كان يعرف بـ (تانجنيقا
وزنجبار) . فقد وقفت عضوة في الاتحاد النسائي الذي هو منظمة تابعة للحزب لحاكم في البلاد: حزب السفاح نيريري الذي لازال له تأثير كبير في مجرى الحياة هناك على الرغم من أنه ليس الرئيس الفعلي للدولة - وقفت لتكيل التهم والهجوم على الشريعة الإسلامية، وطالبت بإزالة كل ما يمت إلى هذه الشريعة بصلة من قوانين، وخاصة قضية تعدد الزوجات.
ولدى معرفة المسلمين بهذا الهجوم المشين على دينهم وعلى عقيدتهم أعلنوا
احتجاجهم على ذلك، والنتيجة المنتظرة معروفة، كما يحصل في كل أرض
إسلامية للمسلم عندما يعبر عن رفضه للتهجم على دينه بأي وسيلة، تتدخل قوات
الأمن لا بخراطيم الماء والقنابل الدخانية بل بالذخيرة الحية، فيسقط القتلى
والجرحى، وعندما لا تستطيع الأجهزة الرسمية نفى سقوط القتلى تقلل عددهم إلى
الحدود الدنيا: قتيل أو قتيلان وبضعة (!) جرحى.
ومن جهة أخرى: فقد أقالت وزارة التربية أربعة مدرسين زعمت أنهم
متورطون في مؤامرات سياسية للتحريض على العصيان وبث الفوضى في
المدارس، وقد ورد بمرسوم لوزارة التربية أنه سيعاد تعيين الموظفين المعنيين في
وقت لاحق في وظائف أخرى.
وقد كان من جملة الاتهامات لهؤلاء تشويههم لسياسة البلاد وتورطهم في
أعمال تخريبية. ووجهت إنذارات إلى مدرسين آخرين ومسؤولين في وزارة
التربية بجزيرة (بامبا) أقيلوا من أعمالهم بانتظار مزيد من التحقيقات.
والقضية في زنجبار ليست هي تهجم " آني " على دين أهل البلاد، بل هي
أبعد من ذلك، وجذورها تعود إلى (الاتحاد بالإكراه) الذي حصل للجزيرة مع البر
الإفريقي، نتيجة للقصف بالقنابل، والمذابح الجماعية التي قام بها الكاثوليكي
المتعصب جوليوس نيريري وأنصاره ضد أهل البلاد ذوي الأغلبية العربية
الإسلامية.
وفي ظل هذا الاتحاد بين جهتين غير متكافئتين تراجعت أهمية الجزيرة التي
كانت مركزاً اقتصادياً كبير الأهمية في شرق أفريقيا، وغدت مكاناً مهملاً حين
جردتها القوى الصليبية من تأثيرها، وهي ماضية لتجريدها حتى من وجهها
وهويتها.(15/99)
أخبار حول العالم
الإحصائيات تؤيد الفروق الطبيعية بين الجنسين
جميع المحاولات المحمومة لدى العاملين دعاة المساواة بين الجنسين، مدعي
البحث العلمي المجرد، المعادين للتفرقة الجنسية؛ والأمهات اللاتي يشتغلن في
أعمال ميكانيكية، والأقارب الذين يشترون لبنات أقاربهم آلات ميكانيكية، كل هذه
الجهود باءت بالفشل، فالبنات الصغيرات اخترن أن يكن ممرضات، وطبيبات،
لا مهندسات.
فقد أجرت شركة " كالاردو بوسر " لصناعة الحلوى دراسة ميدانية لطلبات
السوق، فسألت (579) طفلاً تتراوح أعمارهم بين 7 و11 سنة عن رغباتهم في
العمل عندما يكبرون، فكان معظم الأجوبة-إن لم تكن كلها - تقليدية (يقصد كل
جنس اختار ما يناسبه) ، فقد عبر 17% من البنات عن رغبتهن في أن يصبحن
ممرضات، واختار. 10% منهن الحلاقة، في حين حبذ 9% منهن التعليم. أما
البقية فقد كن يتطلعن إلى العمل كطبيبات للحيوانات، أو مضيفات في شركات
الطيران، أو سكرتيرات أو بائعات في الأسواق المركزية ولم تحبذ الهندسة إلا بنت
واحدة، ولم تختر أية واحدة العمل في إطفاء الحرائق أو أبحاث الفضاء أو القوات
المسلحة.
أما الذكور، ففضل أكثرهم الرياضة - 17% منهم، واختار 14% منهم
الالتحاق بالشرطة مقابل 5% لدى البنات، والباقون اختاروا قيادة الطائرات وأعمال
البناء والنجارة والأعمال الميكانيكية وقيادة الشاحنات، ولم يختر أحد منهم التمريض
أو الحلاقة واختار اثنان فقط التعليم.
وقد فضل 10% من الفتيات العمل مع الأطفال والرضع بينما رفض الذكور
ذلك، وفي حين اختار 5.12% من الذكور العمل في مجالات السيارات
والدراجات وغيرها من وسائل النقل فإن نسبة الفتيات التي اختارت ذلك لا تزيد
عن 1%.
الاندبندنت 1 / 9 /1988
* * *
غزل شيوعي يهودي
أعلنت اللجنة العالمية للهجرة يوم 2 /11 أن هجرة اليهود من الاتحاد
السوفييتي قد وصلت أعلى حد لها في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي منذ عام
1980 م حيث بلغ عدد اليهود الذين سمح لهم بالمغادرة في ذلك الشهر وحده
(2473) فرداً.
وأضافت اللجنة أن الاتحاد السوفييتي كان قد سمح لـ (14288) يهودي
بالمغادرة هذا العام وأن (1232) منهم فقط توجهوا إلى فلسطين.
ومن جهة أخرى فقد وافق مسؤولون سوفييت على السماح بتدريس اللغة
العبرية وهو ما كان يعتبر في الماضي جريمة تستحق العقوبة كما تمت الموافقة
على السماح لليهود بالمشاركة بالمؤتمر اليهودي العالمي، جاء ذلك على لسان
مسؤول في المؤتمر المذكور.
وفي برلين الشرقية حيّا رئيس المؤتمر اليهودي العالمي الزائر موقف
الحكومة الشيوعية تجاه اليهود الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية على أيدي
النازيين واستعدادها لدفع تعويضات مالية مرضية لليهود الذين يقيمون حالياً خارج
ألمانيا الشرقية. وذكر أن التعويضات ستبلغ (60) مليون دولار. وينظر إلى
موقف الحكومة الألمانية هذا على أنه محاولة لتمهيد الطريق لإقامة علاقات
دبلوماسية مع إسرائيل، وكان رئيس الوزراء الألماني الشرقي قد ألمح بشكل
واضح قبوله بحق إسرائيل بالوجود.
الجارديان 19/10/88، التايمز3/11/88(15/101)
عندما تكيل الصحف الغربية بصاعين!
أدى رئيس الوزراء التركي فريضة الحج العام المنصرم، وهو حدث كان
ينبغي أن يكون عادياً جداً وأن يمر دون الوقوف عنده، ولكن الصحف الغربية التي
عودتنا على الكيل بصاعين، فيما يخص الأمور الدينية، وعلى سلوك سبيل
التهويل وتحميل تصرفات بعض الناس دلالات بعيدة لم يعجبها هذا الأمر، كما لم
يعجب العلمانيين داخل تركيا، فمن جهة أشارت هذه الصحف إلى أن أوزال أول
رئيس وزراء تركي بعد زوال الدولة العثمانية يؤدي فريضة الحج، ومن جهة تبدي
أسفها لذلك العمل الذي " لابد أنه قد سبب آلاماً لروح كمال أتاتورك في قبره " كما
عبرت عن ذلك بعض الصحف البريطانية.
والغريب أن هذه الصحف لا تستغرب إذا قام أي زعيم غربي بأي عمل له
دلالة دينية، بل تنوه بذلك وتشيد به، فقد أفردت كافة الصحف الغربية صفحات
للصور والتعليقات التي رافقت زيارة تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا للاتحاد
السوفييتي وأكثر تلك الاهتمامات انصرف إلى زيارتها للكنائس التي رفع عنها
الحظر، وكذلك أحيط تعاطفها مع جماعة التضامن في بولندا بدعاية كبيرة، وكذلك
حجها إلى قبر القس الذي قتلته الشرطة هناك لتعاطفه مع حركة التضامن، بل إنها
استشارت بابا الفاتيكان قبل زيارتها لبولندا.
هل للوقاحة حد عند هؤلاء الذين يسرهم أن يكون المسؤول المسلم لا دين له
خشية أن يؤذي قيامه بشعائر دينيه روح طاغية في قبره، وما الذي يجعل لهؤلاء
حقاً في إظهار عواطفهم الدينية، بينما يعتبر ذلك مستهجناً من مسؤول في بلد يدين
أهله بالإسلام؟ أم أن للعلمانية في المجتمعات الإسلامية معاني أخرى؟ ! .(15/103)
جمادى الآخرة - 1409هـ
فبراير - 1989م
(السنة: 3)(16/)
الافتتاحية
إلى أين يتجه التعليم ... ؟
إن مشكلة التعليم من القضايا التي تحتاج إلى مراجعة مستمرة، وتنبع أهميتها
من الحاجة الملحة للعلم بمفهومه الواسع الشامل لبناء المجتمعات الحديثة، وإن
الرواد في كل مجتمع هم رجال التربية والتعليم، فهم القادة الحقيقيون، بعيداً عن
مظاهر البروز والادعاء، وهم الذين يقع عليهم العبء الأكبر في توجيه الأجيال
وتسليحها بالأهداف الصحيحة، والوسائل الفعالة، وأي نجاح للمجتمع ينبغي أن
يرجع في النهاية إليهم، كما أن أي إخفاق في مسيرة هذا المجتمع فمرده إلى قيادتهم، وإلى الخطأ في الأسس التي اختيروا بمقتضاها.
نظرة عجلى:
لو ألقينا نظرة سريعة على الأربعين عاماً الماضية من أجل تقويم الحركة
العلمية والتعليمية في أوطاننا؛ فسوف نعثر على جانبين، لكل منهما أنصاره
وحججه، أما سبب التحديد بهذه المدة فلأن هذه المدة هي التي أعقبت خروج
الأجانب الناصبين من بلادنا على وجه التقريب، وأصبحنا مالكين زمام أنفسنا،
ونقرر مصائرنا بعيداً عن الوصايا - وإن كانت هذه النقطة مجال جدل طويل ليس
مكانه -.
وأربعون عاماً فترة كافية ولا بأس فيها في حساب الأرباح والخسائر لأمة من
الأمم، أو لمجتمع من المجتمعات.
الجانب التفاؤلي:
لقد خرج المستعمر الأجنبي وجميع أفراد الأمة يحدوهم الأمل، وتملؤهم
الحماسة لبناء المستقبل، وكان عليهم أن يتلافوا التقصير الذي رزحت تحته أمتهم
قروناً طويلة، وأن ينتشلوها مما صارت إليه من التخلف والتبعية المفروضة التي
تضافرت على فرضها عوامل داخلية وخارجية، ولم يكن من حلٍ غير العلم، كماً
ونوعاً.
إن العدل يقتضينا أن نفرح ونبتهج عند مقارنتنا لحالنا الآن بحالنا عشية
خروج الاستعمار فإن نسبة المتعلمين إلى مجموع السكان قد ارتفعت ارتفاعاً مطرداً، ولا تزال في ارتفاع، وقد تضاعفت إلى جانب ذلك عدد المدارس عشرات
المرات، وإن مما يحسب لهذه الفترة هو إلزامية التعليم الابتدائي في أغلب البلاد
العربية، وبعد أن كان التعليم الجامعي وقفاً على الفئات الميسورة والغنية صار كذلك
حقا للفئات الفقيرة، واقتحم المتعلمون من هذه الفئات ما كان مقصوراً على غيرهم،
وتبوؤوا أمكنة كانت بعيدة المنال، فأصبحت ممكنة بفضل التعليم.
ويمكن تلخيص الجوانب الحسنة في مسيرة التعليم، والتي ينظر إليها
المتفائلون بما يلي:
أصبح التعليم ضرورة اجتماعية بعد أن كان ترفاً وميزة لفئة معينة.
تحول المجتمع كله إلى مهتم بالتعليم، ومشارك في إنجازاته ودفع نهضته.
بفضل التعليم ارتفع المستوى الاجتماعي لفئات وطبقات في المجتمع كانت
تعيش معيشة هامشية.
أزال التعليم كثيراً من الفوارق والأمراض الاجتماعية التي كانت ترجع
بالسوء على بنية المجتمع.
جعل جميع أفراد الأمة يشعرون بذواتهم، ويقدرون إمكاناتهم وحقيقتهم في
الوجود، وعزز الثقة الجماعية بالنفس.
هذه أمثلة للجوانب الإيجابية للنهضة التعليمية يمكن أن يضاف إليها كثير من
النقاط الأخرى.
الجانب التشاؤمي:
على الرغم من الاعتراف بكل مزايا الفترة الماضية فيما يتعلق بالإنجازات
التعليمية على المستوى الفردي والعام؛ إلا أنه يبقى الكثير الذي لابد من أن يطرح، ومن ذلك.
لقد كان الاعتقاد أن تنمحي الأمية من المجتمعات العربية ولكن هذا لم يحدث.
والأمر الطبيعي أن تكون البدايات بسيطة ومتواضعة، ثم تقوى وتشتد،
ولكن المشاهد أن نوعية التعليم قبل أربعين سنة كانت أفضل مما هي عليه الآن -
وهذه قضية لا يختلف عليها أحد - صحيح أن تقدماً حصل من الناحية العددية،
ولكنه تقدم سطحي، وتمدد أفقي على حساب العمق والجودة.
ومن السلبيات التي انحطت بالتعليم النظرة الخاطئة إليه، واعتباره وسيلة
لرفع المستوى المادي، دون اعتباره غاية قائمة بنفسها.
إذا أحب أحد أن يناقش التعليم على مستوى العالم العربي فإنه يلحظ شيئاً من
التفاوت الذي أدى إلى خلل وعيب في البناء التعليمي، فبينما نجد بلاداً كانت فيها.
النهضة التعليمية أسبق منها في غيرها؛ نجد أن هذه البلاد السابقة قد هبط مستوى
التعليم فيها لأنها أصبحت معنية بسد النقص والحاجة عند غيرها من جهة، وكذلك
فإن الحالة المادية أصبحت تتحكم بالمستوى التعليمي، فنظراً للضائقة المالية التي
تعيشها هذه الدول فقد أصبح تخريج الخريجين عندها استثماراً (وهذا من حيث المبدأ
لا غبار عليه ولا مانع منه بشرط مراعاة جودة الإنتاج) وترتب على ذلك أن
انصرف المعنيون إلى تكثير عدد المتخرجين لتغطية الطلب في السوق، وكان ذلك
على حساب النوعية المؤهلة تأهيلاً كافياً.
اهتزاز قيمة المعلم الاجتماعية، وتقويمه تقويماً مادياً فقط، فبينما ارتفع
المستوى المادي بتسارع شديد لكثير من أصحاب المهن والحرف اليدوية التي لا
تتطلب إعداداً علمياً أو تثقيفياً، وأصبح هؤلاء ذوي امتيازات مادية لا تنكر ولا
تحجب؛ ظل المستوى المادي للمعلم متخلفاً، والتحسينات التي تزاد عليه تحبو
حبواً بالمقارنة مع ارتفاع مستويات المعيشة والغلاء التي تضرب المجتمعات عامة،
ومجتمعاتنا العربية بصورة خاصة.
وأصبحت مهنة التعليم من المهن المحتقرة في المجتمع، وهذه حقيقة لا يمكن
أن تنكر، على الرغم من كل ما يقال من كلام إنشائي في مناسبات تكريم المعلم،
بل إن هذا المدح غير العملي، والإشادة الباردة بالمعلم ودوره في المجتمع ليست إلا
من قبيل معالجة خلل موجود في النظرة العامة السائدة تجاه مهنة التعليم، ولو سألت
معلم أو مدرس سؤالا بسيطاً: هل يحب لولده أن يمتهن مهنة التعليم في مستقبل
حياته؟ لكان الجواب بالقطع: لا.
إن لهذا دلالة يجب أن يقف المرء عندها، وأن يحللها تحليلاً يقفه على أسبابها
ودوافعها ونتائجها. وعندما يشعر المعلم أنه أصبح مهاناً لا من قبل الأغنياء
والميسورين الذي جُلِبَ كي يعلم أولادهم فحسب! بل من قبل فئات أخرى متخلفة
علماً وفكراً عنه، ولها نفس منبته، ومنحدرة من مستوى اجتماعي قريب من
مستواه؛ عندما يعيش المعلم هذا الشعور، فهل يلام على قلة إخلاصه وموت
طموحه نحو تقديم الأفضل؟ !
هذه لمحات حول قضية هبوط المستوى التعليمي في مدارسنا، وتظل هذه
القضية طويلة ومتشعبة وبحاجة إلى بحث وتحليل، وحسبنا أننا أشرنا إشارة إلى
ذلك، وأننا فتحنا الباب للقراء الكرام لتناول هذه المسألة المهمة بالتفصيل والتعليق.
وإننا نرحب بالمساهمة في ذلك على صفحات مجلة (البيان) على أن تكون
المعالجة عامة لا تخص بلداً دون بلد، ولا تتناول من الظواهر إلا ماله تعلق
بالضعف العام الذي انحدر إليه المستوى التعليمي، وأسباب ذلك، ونسبة ارتباط كل
منها بالمناهج، أو الخطط التعليمية، أو خطط إعداد المعلمين.
وعلى الله قصد السبيل..(16/4)
مجددون معاصرون
حسن البنا
رد على اعتراض
اتصل بنا عدد من الأخوة الأفاضل وقالوا ماذا تقولون عن بعض هؤلاء
العلماء المعاصرين الذين نعتموهم بالتجديد؟ … ألا ترون أنهم من مدارس مختلفة
لا يجمعها جامع، ولا يربط بينها رابط؟ ... هل تريدون إرضاء الناس كلهم مع أن
إرضائهم غاية لا تدرك؟ ! غفر الله لهؤلاء الأخوة الكرام! المشكلة أنهم من طلاب
العلم، وطالب العلم يحترم آراء الآخرين، ولا يتسرع في إصدار الأحكام أو التهم.
وكما وعدنا القراء، سوف نمضي في الحديث عن كوكبة من العلماء
المعاصرين الذين نفع الله بهم، وسنذكر الجوانب التجديدية لكل علم من الأعلام،
وفى الحلقة الأخيرة نجيب على أسئلة الذين اتصلوا بنا والذين لم يتصلوا بنا،
ونوضح انسجام ما نكتبه مع المنهج الذي التزمنا به في بداية هذا البحث. ومن حقنا
على إخواننا أن يقرأوا ما نكتبه بإمعان وتجرد! ! فإن وافقونا فخير وبركة، وإن
خالفونا فالمسألة من المسائل التي يجوز فيها الخلاف، نسأل الله أن يرزقنا وإخواننا
الصبر والتجرد، إنه سميع مجيب.
حسن البنا
لن نتحدث حديثاً تقليدياً عن ولادة حسن البنا -رحمه الله- وسيرة حياته،
فالرجل ليس مجهولاً، وهناك عشرات الكتب التي كتبت عنه، ناهيكم عن كتبه
التي لا تكاد تخلو منها مكتبة، وسوف نقسم الموضوع إلى دروس، محاولين
الاختصار قدر الاستطاعة:
الدرس الأول:
ولد حسن البنا -رحمه الله- عام 1906، وأسس جماعة الإخوان المسلمين
عام 1928، وقتله أعداء الله عام 1949، وهكذا تكون سني عمره عندما أسس
حركة الإخوان 22 عاماً وعندما توفاه الله 43 عاماً. وكان خلال هذه الفترة حديث
الناس في مصر كلها، وفى البلدان العربية، بل وفي العالم كله. ولم يكن -رحمه
الله- متفرغاً للعمل الإسلامي، فلقد كان مدرساً معظم النهار، وكان رب أسرة ينفق
عليها، ويرعى شؤونها، وكان مؤسس جماعة إسلامية كبيرة تنتشر شُعبها
ومراكزها في جميع أرجاء مصر.
إذا نظرنا إلى سيرة البنا وهو طالب صغير في أوائل المرحلة الإعدادية نجد
أنفسنا أمام طالب يختلف عن غيره من طلبة عصره، بل ومن طلبة هذا العصر …
ها هو يتحدث عن نفسه فيقول بأنه يقسم وقته (بين الدرس نهاراً، وتعلم صناعة
الساعات التي أغرم بها بعد الانصراف من المدرسة إلي صلاة العشاء، ويستذكر
الدروس بعد ذلك إلى النوم، ويحفظ حصته من القرآن الكريم بعد صلاة الصبح
حتى يذهب إلى المدرسة) . [مذكرات الدعوة والداعية /12] .
ننتقل من الحديث عن البنا وهو طالب في الإعدادية إلى الحديث عنه وهو
قائد جماعة: يخطط لها يربى جمهور شبابها ... يحاضر هنا وهناك.. يؤسس
الصحف والمجلات ويديرها.. وهو إلى جانب هذا وذاك مدرس في مدارس الدولة، وفى العطلة الصيفية هل كان يستجم مع عائلته في قرية هادئة ليس فيها صخب
ولا ضوضاء؟ ! هل كان يغادر مصر للسياحة والمتعة المشروعة؟ !
إن حياة المجدد لا تعرف إيثار العافية والراحة، لاسيما وهو يشعر بأن لأهل
الأرياف والمناطق النائية حقاً عليه وعلى إخوانه، فرحلة من رحلاته بدأت في 11
ربيع الثاني وانتهت في 9 جمادى الأولى من عام 1352 زار خلالها: أبو صوير
شرقية، الإسماعيلية، السويس، بور سعيد، الدقهلية بفروعها، طنطا، شبراخيت، المحمودية [بحيرة] ، دمنهور [بحيرة] ، شلنج [قليوبية] . [المذكرات/1154] .
ويقول أحد مرافقيه:
(كان يقطع الوجه القبلي كله بلداً بلداً، وقرية قرية في عشرين يوماً، في بعض الأحيان يصبح في بنى سويف، ويتغدى في ببا، ويمسي في الواسطي، ويبيت في الفيوم ... وهكذا كان ينام ساعة أو بعض ساعة، وفي الوقت الذي يضع فيه رأسه على الوسادة ينام ونحن نتحدث من حوله) .
[الإخوان المسلمون والمجتمع المصري/14] .
أليس في حياة هذا الرجل درس للكسالى الذين يقتلهم الفراغ ومع ذلك يتحدثون
عن ضيق الوقت؟ !
أو ليس في حياة هذا الداعية المجدد عبرة للذين يتباكون على واقع المسلمين
اليوم، ولا يقدمون للعمل الإسلامي إلا فضلات أوقاتهم؟ فالوظائف تستهلك معظم
أوقاتهم، والزوجة تستهلك بقية الوقت وهى لا تفتأ تردد (خيركم خيركم لأهله)
والمسكين يخلط بين فهم خاطئ للحديث وبين طاعة امرأة لا يرضيها في كثير من
الحالات إلا أن تستحوذ عليه وتحول بينه وبين الناس الطيبين، وبينه وبين الدعوة
والجهاد في سبيل الله.
أرأيتم كيف يبارك الله بأوقات العلماء المخلصين، فأولاد حسن البنا فيما كتبوه
قالوا: لقد بذل جهداً في تربيتنا، وكان يجلس معنا ويداعبنا، وشقيق البنا قال فيما
كتبه: لقد كان أستاذي وأخي. ولم ينس فضله عليه في تربيته وإعداده، ومما
يجدر ذكره أن حسن البنا كان النجل الأكبر لأبيه الشيخ عبد الرحمن البنا الشهير
بالساعاتي.
الدرس الثاني:
اتصل حسن البنا -رحمه الله- بعلماء عصره وسمع منهم وناقشهم، وكان
يعترف بفضلهم فيما كتبه من مذكرات.
وعندما أعلن الطاغية أتاتورك عن هدم الخلافة الإسلامية عام 1924، كان
عمر البنا 18 سنة وكان في أوج عطائه، يتحدثون عن هذه المصيبة التي رزئ بها
الإسلام والمسلمون، ويتنادون لعقد مؤتمرات وندوات - كعادتهم - يطالبون فيها
بعودة الخلافة ... وكان رشيد رضا في مجلته - المنار - ينادي بالجماعة والعمل
الجماعي، وأنه لا سبيل إلى مواجهة أعداء الإسلام إلا بوجود جماعة ... ومع ذلك
بقيت أفكار رشيد رضا نظرية، ولم ينجح أو بالأحرى لم يسع إلى تأسيس هذه
الجماعة.
ومن جهة أخرى فقد رافق هدم الخلافة انتشار الفساد والنشاط الصليبي الهدام
في مصر ... أشار البنا -رحمه الله- في مواضع مختلفة في مذكراته إلى هذه
الآفات) انظر إلى ما كتبه تحت عنوان: موجة الإلحاد والإباحية في مصر، ص
49، وما كتبه عن التبشير، ص147 من مذكراته) .
فكان الشيخ حسن البنا -رحمه الله- كالليث الجريح لا يهداً ولا يستقر ...
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتصل بالعلماء ويكتب إلى المسؤولين ...
أنظر إلى لقائه مع الشيخ يوسف الدجوي [علم من أعلام الصوفية وخصم من كبار
خصوم الدعوة السلفية] ، تحدث -رحمه الله- عن هذا اللقاء بأدب ولكنه أوضح
مقصده، فصور لنا أن الشيخ كان يائساً:
(وانتهى ذلك كله إلى أنه لا فائدة من كل الجهود ... وأوصاني أن أعمل
بقدر الاستطاعة، وأدع النتائج لله، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) .
ويصور لنا مشهداً آخر في هذه المقابلة يوم أن قدم الشيخ محمد سعد حلويات
رمضان، وتعمد البنا أن يجلس إلى جانب الشيخ الدجوي، وأخذ الدجوي حلوى
وقدمها إلى البنا ليأكلها فرفض الأخير تناولها وقال. (لو كانت رغبتي بهذه النقل
وأمثاله لاستطعت أن أشتري بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم)
وانطلق يتحدث عن الفساد والإلحاد وواجب العلماء.
وإذا كان الشيخ الكبير الدجوي يائساً فالمجدد لا ييأس ولا يتراجع.. أنظر إليه
يقول: (لم يعجبني طبعا هذا القول) .... وأمام إصرار البنا أمر الدجوي برفع
الحلوى دون أن يتناولوا منها شيئا، واتفقوا على عقد اجتماع يضم نخبة من العلماء، وتم ذلك، وأسفرت هذه اللقاءات عن ظهور مجلة الفتح التي كان يرأس تحريرها
محب الدين الخطيب. [المذكرات/151] .
كانت أجواء ومجالس أمثال هذا الشيخ لا تسمح لشاب صغير أن يخاطب
الشيخ بهذا الأسلوب. قال البنا: (وكنت أتكلم في حماسة وتأثر وشدة، من قلب
محترق مكلوم، فانبرى بعض العلماء الجالسين يرد علي في قسوة كذلك، ويتهمني
بأنني أسأت إلى الشيخ وخاطبته بما لا يليق، وأسأت إلى العلماء والأزهر، وأسأت
بذلك إلى الإسلام القوي العزيز، والإسلام لا يضعف أبداً والله تكفل بنصره)
[المذكرات/52] .
وكان- رحمه الله -يعلم أن هذه الجهود ستبقى ضعيفة جزئية لأسباب لا تغيب
عن ذهن ألمعي مثله، وليس هذا الذي يتطلع إليه المجددون، إذن لابد من عمل
جماعي شامل ... وعرف البنا العمل الجماعي مذ كان طالبا في الإعدادية، فلقد كان
رئيس إدارة (جمعية الأخلاق الأدبية) وكان لهذه الجمعية نظام داخلي ... ثم أسس
بعد حين (جمعية منع المحرمات) وكان مع زملائه يرسلون رسائل للعصاة
والمقصرين يأمرونهم فيها بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وكان عمره آنذاك ثلاثة
عشر عاماً.
وانتسب إلى الطريقة الحصافية، وكان عمره أربعة عشر عاما، وبايع شيخ
الطريقة وأسس مع أحمد السكري (جمعية الحصافية الخيرية) ، وكانت مهمتها نشر
الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات، ثم تخلى عن الطريقة والجمعية
عندما أدرك أن حاجة المسلمين أكبر من ذلك بكثير.
وفى القاهرة - وكان عمره ستة عشر عاما - انتسب إلى (جمعية مكارم
الأخلاق الإسلامية) ، وإلى (جمعية الشبان المسلمين) . قال -رحمه الله-: (وأذكر أنني كتبت تواً إلى عبد الحميد بك سعيد معلناً اشتراكي بالجمعية، وواظبت
على دفع الاشتراك ... ) .
وكان الدافع إلى انتسابه إلى هذه الجمعيات كلها رغبته في الإصلاح،
وشعوره بأهمية العمل في جماعة، ولعل هذه الجماعات كانت تتناسب مع وعيه في
تلك المرحلة غير أنه يكتشف بعد قليل أن دورها جزئي محدود، وإذن لابد من
جماعة تتسم بالشمولية، ولهذا أسس جماعة الإخوان المسلمين عام1928، وحدد
فقرات هذا المنهاج في النقاط التالية:
1-نريد أولاً الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي
عمله وفي تصرفه. فهذا هو تكويننا الفردي.
2- ونريد البيت المسلم ... ونحن لهذا نعنى بالمرأة، ونعنى بالطفولة.
3- ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله.
4- ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التي تقود هذا الشعب إلى المسجد ...
ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل
الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم
الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام.
5- ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي.
6-ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت
بالإسلام حيناً من الدهر.
7-ونريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم ... وأن نعمم بها آفاق
الأرض، وأن نخضع لها كل جبار.
ثم يقول: بأن ناساً سيقولون هذا خيال وأوهام. وذلك هو الوهن الذي قذف
في قلوب هذه الأمة، فمكن لأعدائها فيها ... ثم قال: وإنما نعلن في وضوح
وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له في
الإسلام [1] فليبحث له عن فكرة أخرى يدين بها ويعمل لها.
وليس في الطريقة الحصافية في جمعية الشباب المسلمين أو في جمعية مكارم
الأخلاق مثل هذه الأهداف التي رسمها البنا -رحمه الله- لجماعته.
الدرس الثالث:
عندما قطع البنا مراحل مهمة في بناء جماعته، وعندما توسعت هذه الجماعة
وعظم شأنها في مصر، وكثر أتباعها، كان لابد أن يضع لها منهجاً علمياً تتربى
عليه، ولهذا فقد طلب من الشيخ (سيد سابق) - وكان من كبار العاملين في هذه
الجماعة - أن يقوم بتأليف كتاب في الفقه، واتفق معه على سمات هذا الكتاب،
فقام سيد سابق بتأليف كتاب (فقه السنة) ، وكتب الشيخ حسن البنا تقدمته، وأصبح
مقرراً في منهج الجماعة.
وكان الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - كما عودنا - منصفا عندما عدَّ
تأليف وتدريس هذا الكتاب مكرمة من مكارم البنا رحمه الله، لاسيما وقد جاء هذا
الحدث في وقت كانت تهيمن الصوفية والمذهبية على أجواء العلماء والمعاهد
والجماعات الإسلامية في مصر، ووجد هذا الكتاب والحمد لله رواجا واسعا وطبع
طبعات كثيرة، وفى هذا دليل على أن المستقبل للسنة وليس للتقليد، وللتعصب
المذهبي المذموم.
وأراد رحمه الله تربية أتباعه على التمسك بالكتاب والسنة، وحذرهم من
البدع والجمود والخرافات، ومن تقديس أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، قال رحمه الله:
(وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل
ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله
وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص - فيما اختلف فيه - بطعن
أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا) . [رسالة التعاليم] .
ولاشك أن كلاً يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم،
والبنا رحمه الله بلباقته وحسن تعبيره، يصور لنا بشكل آخر تجربته مع الطرق
وشيوخ الصوفية، ومن غير شك كان يحزن من شدة تقديس الأتباع والمريدين
لشيوخهم، انظر إليه وهو يحدثنا عن أتباع الشيخ الدجوي كيف ردوا عليه بقسوة
لأنه خاطب الشيخ بما لا يليق ... وبإساءته للشيخ أساء للعلماء والأزهر والإسلام ... والبنا أراد من الشيخ أن ينهض لمحاربة الفساد والإلحاد في مصر فكيف أساء
للإسلام؟ ! .
وهؤلاء تربوا على أن شيخهم لا يقول إلا الحق، وهو ظل الله في الأرض،
وأوامره ونواهيه دين لا يجوز مخالفتها أو الخروج عليها! ! والبنا لا يريد هذه
التربية المنحرفة.
لا يريد أن يكون بين أتباعه كما كان الدجوي بين أتباعه، ولهذا علمهم وأكد
في رسالة التعاليم بأنه ليس معصوماً، ويجب أن لا يقبلوا من كلامه إلا ما كان
موافقاً للكتاب والسنة، ومن خالف ذلك فقد أساء للبنا ودعوته.
الدرس الرابع:
واجهته كما واجهت غيره من المجددين صعوبات كثيرة، وتحديات جمة، فما
تراجع، ولا ضعف، ولا قبل الدنية في دينه ودعوته.
- حاربه المستعمرون الإنجليز بوسائلهم المعروفة.
- وحاربه فاروق وزبانيته، وهم الذين دبروا محاولة اغتياله.
- وحاربه حزب الوفد بإمكاناتهم الضخمة، وشنوا عليه حملة إعلامية كاذبة
ظالمة، وكانت صحفهم تخرج كل يوم وفيها تشهير هابط بحسن البنا وأهدافه
ونواياه، والناس يتأثرون بالإعلام، وكان قادة حزب الوفد مزيجا من العلمانيين
والأقباط.
- وحاربته بقية الأحزاب الأخرى بوسائل لا تختلف عن الوسائل التي
استخدمها حزب الوفد.
- وحاربه شيوخ السلطة لأن أسيادهم - فاروق والوفد - حاربوا البنا، ولأن
الناس التفوا حول البنا، وانفضوا من حولهم وتناقص عدد الذين يقبلون أيديهم.
- وحاربه ضعاف النفوس من رفاق دربه الذين لم يجدوا عنده ما كانوا
ينتظرون من أطماع، فتخلوا عنه، وانضموا إلى حزب الوفد، واستخدمهم الحزب
في حملته الإعلامية الفاجرة ضد حسن البنا.
وكان الرجل يتوقع مثل هذه المعوقات، وتنبأ بها منذ بداية الطريق، وكان قد
وضع لها الحلول الناجعة ... ومن هنا نخرج بفائدتين:
الأولى:
هذه الأحزاب الجاهلية كالوفد والبعث وغيرهما ليس فيها خير ولا أمانة،
وقادتهم يعلمون أن أهواءهم تتعارض مع تعاليم الإسلام وأهدافه، فقد يصدقون في
تحالفهم مع الشيوعية والصليبية والاستعمار الغربي والباطنية أما مع الإسلام
فيستحيل، والله سبحانه وتعالى حذرنا منهم بقوله: [ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ] [هود: 113]
وقال: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ
ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…] [المجادلة: 22]
الثانية:
يظن بعض السذج أو المهزومين أنه من الممكن أن تقوم دعوة لها أهداف نبيلة، وأن تتسع هذه الدعوة وتحقق أهدافها دون أن تواجهها تحديات وافتراءات وأباطيل، أو قد يتحدثون عن الصعوبات، لكن حديثهم يبقى نظرياً، فإذا أصبحت التحديات
حقيقة، ضعفوا وارتبكوا واضطربوا، وفي حالة الاضطراب والضعف ينحون
باللائمة على أفراد منهم لأنهم سبب هذا البلاء ... ليت هؤلاء يدرسون في كتاب الله
وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- سنن الله في ابتلاء الدعاة والجماعات
الإسلامية… ليتهم يطيلون التأمل في قراءة وتدبر معاني قوله تعالى:
[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ
البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا
إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
وقوله:
[الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ * ولَقَدْ فَتَنَّا
الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 1-3] .
لقد اشترى الإنكليز وفاروق والأحزاب ذمم بعض كبار الأدباء والمفكرين،
وكتب أحدهم ذات مرة يقول بأن حسن البنا من أصول يهودية، ودليله على ذلك أنه
يعمل في تصليح الساعات وهذه الصناعة يحتكرها اليهود ... ولسنا في صدد الرد
على أقوال هذا المفتري، ولكن نشير إلى أن مثل هذا القول اتهم به الرافضة ومن
يدور في فلكهم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن قبل اتهم
المشركون والمنافقون واليهود رسول الله وأهل بيته وأصحابه صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه وسلم بمختلف الاتهامات الشنيعة الباطلة.
وقصارى القول مضى خصوم البنا ... مضى فاروق وإذا ذُكِرْ تذكر انحرافاته
وفساده، وسوء حاشيته ... ومضى الإنكليز وأعوان الإنكليز غير مأسوف عليهم ... ومضى قادة الأحزاب الجاهلية بأوزارهم، وبقى ذكر حسن البنا الطيب العطر
ليس في مصر وحدها بل في العالم كله [فَأَمَّا الزَّبَدُ فيذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فيمْكُثُ] [الرعد/17] .
__________
(1) من يقرأ كتب البنا ورسائله يعلم أنه لم يرد بهذه العبارة تكفير أحد من الناس، ولهذا رأينا التنبيه.(16/10)
خواطر في الدعوة
لا تقولوا الباطل
محمد العبدة
أخذ الله العهد على العلماء ومن يتصدى للدعوة أن لا يكتموا العلم، ويبينوه
للناس، ولا يخشوا أحدا إلا الله، وقد كان شرار أهل الكتاب علماؤهم ورهبانهم
بما يكتمون من البينات وبما يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وفضل الله هذه الأمة
فجعل علماءها خيارها، فأعطوا الكلمة حقها ورعوها حق رعايتها، والأمثلة في
تاريخنا كثيرة، جاء في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن أبا جعفر
الأنباري قال له عندما امتحن ليقول بأقوال المعتزلة الباطلة: (يا هذا أنت اليوم
رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت
لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولابد من الموت، فاتق الله ولا تجب فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله)
[سير أعلام النبلاء 11/2] .
وجاء أيضاً: قال المروذي: يا أستاذ إن الله قال [ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] ، قال: يا مروزي اخرج فانظر، فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقاً لا
يحصيهم إلا الله، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا
تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد ونكتبه، فدخل فأخبره، فقال: يا مروذي:
أضلُّ هؤلاء كلهم.
أراد هذا الإمام المبجل أن يضحي بنفسه ولا يفسد عقائد الناس لأنه متبع
ومقتدى به، وبعض من يقتدي بهم اليوم من الدعاة، وفى غمرة فقدان الوعي
الشامل والاجتهاد الدعوي الصائب يقعون في ما استطاع الإمام أحمد أن يبتعد عنه،
سواء بتزكية من لا يستحق التزكية، أو بتبرير لأوضاع غير سليمة، فيتبعهم
الناس ويؤملون الخير ويستبشرون، ولكن آمالهم تخيب بعدئذ.
وإذا كنا نحن المسلمين مأمورين بقول الحق في تقويم الناس، وأن نعدل حتى
في لحظات الغضب والشنآن؛ فهذا في معرض التقويم الشامل فنقول عن الشجاع
شجاع ولو كان كافرا أو فاسقا، ونقول عن فلان أنه خدم بلاده وأفادها من ناحية
دنيوية في معرض الاعتراف بالواقع، وهذا كله عندما تكون الصورة واضحة في
أذهان الناس ولا نلبس عليهم أمور دينهم.
ونحن نعلم أنه لا أحد يكره أمثال هؤلاء الدعاة على أقوال تحسب على الإسلام
والمسلمين وهى ليست بذاك، وقد يظنون أن هذا فيه مصلحة للدين ولكن الحقيقة أن
مفسدتها أكثر من مصلحتها. ولذلك نقول لهؤلاء مخلصين مشفقين: إذا كنتم لا
تستطيعون قول الحق فلا تقولوا الباطل، وذاك أضعف الإيمان.(16/20)
هجر المبتدع
الشيخ بكر أبو زيد
تكلم المؤلف في الحلقة السابقة عن مقاصد الإسلام في الهجر، وعن أهمية
ذلك الهجر لردع المبتدع وإشعاره بانحرافه وابتعاده عن الطريق السوي، ثم تكلم
عن أنواع الهجر فقسمها إلى ثلاثة أنواع، تكلم في الحلقة السابقة عن النوع الأول
وهو هجر الترك، وفي هذه الحلقة يكمل أنواع الهجر.
****
الثاني: الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي (الهجر لحق العبد) : وفيه جاءت
أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم،
بأسانيد في الصحيحين وغيرها [1] ، وجميعها تفيد أن الشرع لم يرخص بهذا النوع
من الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال، كما لم يرخص في إحداد غير
الزوجة أكثر من ثلاث.
ومن الهجر هنا: هجر الوالد لولده، والزوج لزوجته، وقد هجر النبي صلى
الله عليه وسلم نساءه شهرا.
عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا
تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل
لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) .
وبعد أن بين الخطابي رحمه الله تعالى: أن ما وراء الثلاث على المنع قال:
(فأما هجران الوالد ولده والزوج لزوجه، ومن كان في معناهما فلا يضيق أكثر من
ثلاث، وقد هجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه شهراً) . ا. هـ[2]
وهذا النوع من الهجر من مباحث الرقاق والآداب.
النوع الثالث: الهجر قضاء، وهو من العقوبات التعزيزية للمعتدين، وهذا
يبحثه الفقهاء في باب التعزيز [3] .
المبحث الثالث
شروط الهجر:
الهجر الشرعي للفجار من المبتدعين، والفساق (عبادة) ، والعبادة لابد من
توفر ركنيها:
الإخلاص، وهو ميزان الأعمال في باطنها.
والمتابعة، وهو ميزان الأعمال في ظاهرها.
فلابد من أن يكون الهجر: خالصاً صواباً، فالهجر لهوى النفس: ينقض
الإخلاص، والهجر على خلاف الأمر: ينقض المتابعة. والله أعلم.
المبحث الرابع
صفات الهجر: [4]
الأصل في الهجر هو الإعراض بالكلية عن المبتدع والبراءة منه.
ومن مفرداته:
عدم مجالسته.
الابتعاد عن مجاورته.
ترك توقيره.
ترك مكالمته.
ترك السلام عليه.
ترك التسمية له.
عدم بسط الوجه له مع عدم هجر السلام والكلام.
عدم سماع كلامه وقراءتهم.
عدم مشاورتهم.
وهكذا من الصفات التي يتأدى بها الزجر بالهجر، وتحصل مقاصد الشرع.
المبحث الخامس
منزلة الهجر من الاعتقاد:
يؤصل علماء الإسلام (هجر المبتدع ديانة) تحت القاعدة العقدية الكبرى (قاعدة
الولاء والبراء) [5] .
ومفهوم هذه القاعدة الشريفة لدى أهل السنة والجماعة هو: الحب والبغض في
الله، فهم يوالون أولياء الرحمن، ويعادون أولياء الشيطان، وكلٍ بحسب ما فيه من
الخير والشر.
وفي حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره المرء أن يعود في الكفر كما يكره أن
يقذف في النار) متفق عليه [6] .
وعن أبي إمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان» رواه أبو داود
والضياء [7] .
يحيى بن معاذ: (حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص
بالجفاء) [8] .
وهذه القاعدة من مسلمات الاعتقاد في الإسلام، لكثرة النصوص عليها من
الكتاب والسنة والأثر [9] .
ومن أولى مقتضياتها - التي يثاب فاعلها ويعاقب تاركها - البراءة من أهل
البدع والأهواء، ومعاداتهم، وزجرهم بالهجر ونحوه، على التأبيد حتى يفيئوا،
وهذا موفور في عامة كتب اعتقاد أهل السنة والجماعة [10] .
واكتفى بما أصله الإمام أبو إسماعيل الصابوني م سنة 449هـ رحمه الله
تعالى إذ قال:
(ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا
يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الديني، ولا
يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان قَرّت
بالآذان وقرت بالقلوب ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما
جَرَّت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله [وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ] .
ثم ذكر علامات أهل البدع، وعلامات أهل السنة، ثم قال: (واتفقوا مع ذلك
على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم
ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم…)
اهـ[11] .
والعقوبة بالهجر للمبتدع إحدى العقوبات الشرعية التي ينزلها أهل السنة
بالمبتدعة، حسب البدع والأهواء التي يتلبسون، بها، ومنها ما تقدمت الإشارة إليه
والله أعلم.
المبحث السادس
الأدلة من الكتاب والسنة على هجر المبتدع ديانة:
هذا التأصيل العقدي: الزجر بالهجر للمبتدع ديانة، مستمد من دلائل:
الكتاب، والسنة، والإجماع وإلى بيان بعض منها:
أولا - الكتاب العزيز:
ففيه آيات كثيرة في التأكيد على) الموالاة في الله، والمعاداة فيه، في سور:
البقرة، وآل عمران، والأنعام، والنساء، والمجادلة وغيرها [12] .
ونقتصر هنا على ذكر أربع آيات من سور: الأنعام، والنساء، وهود،
والمجادلة، والتي نص العلماء في تفسيرها على عقوبة المبتدع بالهجر ودلالتها
عليه، وذلك باعتبار عموم اللفظ في كل آية، وهذا هو المعتبر دون خصوص
السبب، ففي عموم كل آية منها دليل على الهجر والإعراض والاجتناب، ...
والمجالسة، لكل مبتدع محدث في الدين حتى يفيء، وعلى هذا تدل كلمة من تراه ...
من المفسرين وغيرهم.
وهذه من أجل الفوائد في تفسير النصوص من آية أو حديث، إذ يشمل
تفسيرها الأمرين:
الأول: ما هي نص فيه.
الثاني: ما يؤخذ منه حكم له وإن لم يكن نصا فيه باعتبار العموم والاستنباط
من كتاب الله تعالى وأسرار تنزيله، وكما في حديث الصحيفة المشهور. (أو فهماً
يؤتيه الله رجلا في كتابه) .
وهذه قاعدة شريفة فلا يفوتنك الوقوف عليها، وبخاصة لدى الإمام الشاطبي
رحمه الله تعالى، وعنه بل بأبسط في كتاب (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) [13] .
وإلى بيانها.
1-- ومنها قول الله تعالى في سورة الأنعام: 68 [14] :
[وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في
حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ]
وفي هذه الآية دلالة على تحريم مجالسة أهل البدع والأهواء وأهل الكبائر
والمعاصي.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: (في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على
من زعم أن الأئمة الذين هم حجج، وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين،. ويصوبوا
آرائهم تقية، وذكر الفري عن أبي جعفر محمد بن علي رض الله عنه أنه قال: لا
تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن
خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافرا،
قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، وكنائسهم، والبيع ومجالسة
الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم، ثم ذكر
بعض الآثار عن السلف في هجر المبتدعة) اهـ[15] [16] .
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (وفى هذه الآية موعظة لمن يتسمح بمجالسة
المبتدعة الذين يحرفون. كلام الله، ويتلاعبون بكتاب وسنة رسوله، ويردون ذلك
إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل
الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره
معهم مع تنزهه عما يتلبسون، به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في
حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالسة
الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا
عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها: علم أن
مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضاف أضعاف ما في مجالسة من
يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم
الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان
بأوضح، مكان فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة
عمره، ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر
المنكر) اهـ[17]
- يتبع -
__________
(1) الترغيب والترهيب 3/454-462.
(2) معالم السنن 4/112.
(3) وانظر: كتاب التعزيز، لعبد العزيز عامر، ص (237) ، وما بعدها.
(4) أنظر: فتح الباري 8/123-124، 10/497 ? وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 1/114-150، ومبحث الآثار من هذه الرسالة.
(5) تنبيه مهم: هذه القاعة مشتركة لفظا بين أهل السنة والجماعة وحقيقتها لديهم كما علمت، وبين الخوارج (لا ولاء إلا ببراء) أي لا موالاة لأبي بكر وعمر رض الله عنهما إلا بالبراءة من أميري المؤمنين عثمان وعلي رض الله عنهما وبين الشيعة (لا ولاء إلا ببراء) إي لا ولاء لعلي وآل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة رضي الله عنهم ومعتقد أهل السنة والجماعة موالاة جميع الصحابة رضى الله عنهم بتزكية الله لهم تنبيه آخر: ولدى أهل السنة والجماعة كذلك (بدعية الولاء والبراء) من وجه: بمعنى أن يتبرأ من قوم هم على دين الإسلام والسنة، ويتولى من ليسوا كذلك، كما ذكره ابن بطة رحمه الله تعالى في: الشرح والإبانة، ص (341) رقم /472.
(6) فنح الباري 1/60-62.
(7) السلسلة الصحيحة /380.
(8) فتح الباري 1/62.
(9) الدرر السنية 4/208 - 216، تحفة الإخوان/4-31.
(10) كما في: العقيدة للصابوني م سنة 449 هـ رحمه الله تعالى/100 - 2 0 1 , وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 1/114-150 ,وفي كتاب السنة للخلال: باب مجانبة من قال القرآن مخلوق كما في الفتاوى 28 /210 - 213، والاعتقاد للبيهقي: باب النهي عن مجالسة أهل البدع ومكالمتهم /145، والشرح والإبانة لابن بطة/54 1، 275-276، 282.
(11) رسالته في العقيدة /100، 112.
(12) انظر في جمع هذه الآيات مع وجوه الاستدلال بها في: الدرر السنية 4 /57 - 68 ذكر عشرين آية، وتحفة الإخوان/4 - 15 ذكر ست عشرة آية.
(13) الاعتصام ا/62 - 67، 102-103، 2/258 وكتاب حد الإسلام للشيخ عبد المجيد الشاذلي/388 - 389 وتفسير ابن كثير لقوله تعالى: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا] الآية/103-104 وفي الفوز الكبير للدهلوي/26 قال: (وبالجملة إذا قرأت القرآن فلا تحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا بل الواقع انه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجرد اليوم بطريق الأنموذج بحكم الحديث: لتتبعن سنن من قبلكم) .
(14) انظر: تفسير القرطبي 7 /12-13 فتح القدير للشوكاني 2 /122.
(15) تفسير القرطبي 7/12 - 13.
(16) ستأتي في توظيف الصحابة لهذه السنة.
(17) فتح القدير 2/122.(16/22)
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
-3-
محمد العبدة
يرى مالك بن نبي أن من عوائق النهضة الحديثة الأمراض الاجتماعية
والفكرية التي أصابت المسلمين نتيجة عهود الضعف والانحطاط، وقد ذكرنا في
نهاية المقال السابق أمثلة على ذلك، ونتابع في هذا العدد بإذن الله آراء هذا المفكر
في تشخيص الداء.
طغيان عالم الأشخاص:
عندما يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمبدأ أو الفكرة فإنهم يرون أن
إنقاذهم من الحالة التي هم عليها بـ (البطل القادم) الذي ينتظرونه دون أن يقوموا
بجهد يذكر. فالخلاص لا يتم بتجمع أناس على مبدأ يدافعون عنه، ويتفانون فيه،
ويتقنون فن التعاون؛ بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم، وقد يطول انتظارهم وهم
يمنون أنفسهم بالأماني، وهكذا نسمع الخطباء لا يفتأون يذكرون (أين صلاح الدين)
أو (قم يا صلاح الدين) ، فهم يريدون (صلاحاً) آخر ينقذهم، ولاشك إن (إجلال
رجل القدر) مثل إجلال (الشيء الوحيد) مرض منتشر في أرجاء العالم الإسلامي،
وهو أحياناً السبب في إفلاس فادح لسياسات عديدة [1] وقد لا يكون هناك رجل
القدر ولكن (رجل النحس) الذي نلقى عليه كل ضعفنا وفشلنا، وبدلاً من أن نتدبر
الأحداث، ونبحث بطريقة أعمق عن الأسباب الحقيقية لفشلنا يمكن بكل سهولة أن
نلصق التهمة بـ (رجل النحس) . فعندما وقع انفصال سورية عن مصر عام
1961 قالوا: إن السبب هو رجل النحس (حيدر الكزبري) ولكن من الواضح أن
الانقلاب كان لابد واقعا في وجود الكزبري أو في غيابه، فجيم عوامل التشجيع
على هذا الانفصال كانت متوفرة، سواء من الأخطاء التي وقعت أو من عدم توفر
فكرة مضادة للانفصال [2] . وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها
فتحسب كل أخطائهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي أو على الإسلام، وقد
تتجسد بأشخاص يحملونها ولكن إذا ماتوا انتهت هذه الأفكار بموتهم، أو فتر حماس
الأتباع، لقد مارس العالم الإسلامي، دور البطولة في كفاحه ضد الاستعمار عندما
بزغ في سمائه أبطال مثل عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وعز الدين القسام.. ولكن مشكلة المسلمين الأساسية لم تحل (لأن من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت
إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد) [3] ولا يعني هذا
إنكار دور هؤلاء الأبطال، أو التقليل من شأنهم، ولكنها العودة إلى الأصل وهو
إنشاء تيار إسلامي قوي يتعلق بالمبدأ ويقوم بالجهد الجماعي، ولذلك جاءت الآية
القرآنية حاسمة في هذا الموضوع، إن الواجب على المسلمين قيادة الدعوة وحمل
الرسالة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: [ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] [آل عمران: 1144] .
يركز مالك بن نبي في أكثر كتبه على هذا المرض، ويطالب المسلمين،
والشباب بشكل خاص، بأن يتحول للارتباط بالمنهج لا بشخص معين، لأن هذا
الشخص مثل الرأس الذي يقود عربات القطار، فإذا انحرف انحرف القطار كله،
وهذا الذي يثيره الأستاذ مالك صحيح بشكل عام ولكنه بالغ في تهميش دور
الأشخاص مع أنهم هم الذين يحملون الفكرة ويجسدونها عملياً حتى يقتنع الناس بها،
وكلامه فيه شيء من التجريد والمثالية، وهذا الإسلام، وهو حق صريح، إذا لم
يحمله أشخاص يتمثلونه ويثرونه بين الناس فلا ينتشر إلا قليلاً.
طغيان الأفكار:
إذا كان هناك طغيان في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، فقد يصل الأمر إلى
طغيان في عالم الأفكار، فعندما يكون المجتمع في حالة مضطربة، فلا هر بداية
دخول الحضارة، ولا هو خارج تماماً عن الحضارة، في هذه الحالة قد يفقد المتعلم
تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره،
عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق، وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن
الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد
أبطالها، وتدفع المطابع كل يوم عشرات الكتب التي لا تمس الواقع المعاش بل هي
هروب مفتعل من الواقع، وقد تطغى الأمور النظرية على مدرس في الجامعة
فيتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات
بدلاً من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة،
ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شئ بالنسبة له [4] .
وتد بملغ الخلل في عالم الأفكار، إلى درجة أن يعرقل المبادرات والجهود،
وهو ما يسميه مالك بن نبي (الأفكار الميتة) (فالبديهيات في التاريخ، كثيراً ما قامت
بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها حالت دون
اكتشاف أمريكا قروناً طويلة) [5] ، والبوصلة التي ساعدت كولومبس على اكتشاف
أمريكا هي من اختراع المسلمين! ، وقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً
دواؤها الرطوبة ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد الفكر فلو استسلم الطب
لحكمة كهذه مع صلاحيتها في بعض الظروف لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف
العلاج النافع لداء (الكلب) مثلاً [6] .
ولا شك أن هناك كثيراً من الأفكار خذلت أصحابها لأنها لا تحمل أصولاً
صحيحة، فكم أهدر من الوقت في جدل ومناقشات، وكم سودت من صفحات مبنية
على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وكم عاش المسلمون متأثرين بأفكار الصوفية
التي تدعو إلى البطالة والزهد غير المشروع حيث كان مثلهم الأعلى (المجاذيب) .
الحق والواجب:
يميل الفرد بطبيعته إلى نيل حقه، وقد ينفر من القيام بواجبه، والأمة التي
تصاب بمرض (السهولة) وعاشت قروناً من التخلف، فإن من أهون الأشياء عليها
التي لا تكلفها كثيراً هو المطالبة بالحقوق، ونسيان الواجبات، فهي تشبه الكائن
(الأميبى) المتبطل، حتى إذا رأى فريسة هينة ابرز إليها ما يشبه اليد ليقنصها، ثم
يهضمها في هدوء وبقى هذا االكائن يأكل من حاجاته المتواضعة حتى إذا جاء
الاستعمار لم يدع له شيئاً فتحرك ضميره (أي معدته) فمد يده إلى فريسة وهمية
أطلق عليها لفظة (الحق) [7] .
وكان هذا منشأ سياسة الدجل التي مارسها من يتقن هذه الأدوار، وللمطالبة
بالحقوق إغراء شديد فهي كالسم لا يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة
الواجب لا تجتذب غير (النافعين) [8] ، وعندما يستغلها الزعماء المهرجون لتجميع
الغوغاء من الشعب ويلعبون بمفتاح (الحقوق) فسيكون من الصعب أن يستخدموا
مفتاح الواجبات وتتحول الأمة إلى استجداء حقوقها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن
والرأي العام العالمي ولكن ما من مجيب، لأن هذه الأصنام ما نصبت إلا لتخدير
الشعوب وتعليمها لغة الاستجداء.
وعلى الصعيد السياسي فإن كلمة الواجب توحد وتؤلف بينما كلمة الحق تفرق
وتمزق، وهكذا ما خرجت دولة من دول العالم الثالث من ربقة الاستعمار إلا
وتناحرت أحزابها على المطالبة بحق اقتسام الغنيمة، بدلاً من أن يتكلموا عن
الواجبات، وهذا ما حصل في الجزائر، واليمن الجنوبي، ونيجريا،
والكونغو … [9] .
ومن الأمثلة التي ترويها ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي حول هذا الموضوع:
(شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين يقفون من
قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديراً
بالملاحظة، فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض
الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، وهم في هذا كله
يهاجمون الاستعمار في خطب ملتهبة بالحماس متقدة بالوطنية، وهكذا يستمرون في
خطبهم ومقالاتهم حتى تتقطع أنفاسهم عن الكلام، وتمر الأعوام تلو الأعوام
والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق
حلها، لقد أصدرت الحكومة الفرنسية عام 1940 قوانين استثنائية قاسية حول
تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية (مسايرة لألمانية الهتلرية)
وشعرت الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية غير أنها لم تكتب مقالة
واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر، وإنما
اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، وحددت موقفها بأن
يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، وهكذا أصبح كل بيت من بيوت
المتعلمين مدرسة في ساعات معينة، ولا نستطيع أن نبرر هذا بتفوق اليهود المادي
أو العلمي لأننا لا نستطيع أن نفترض أن الدكتور أو الصيدلي أو المحامى اليهودي
أغزر علماً من زميله الجزائري، فالاختلاف هو في الموقف الاجتماعي إزاء مشكلة
معينة) [10] .
مثال آخر يتذكره ابن نبي وهو يحلل هذه المشكلة: (وبدلا من أن تكون البلاد
(الجزائر) ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات فإنها أصبحت منذ سنة1936 ,
سوقاً للانتخابات، وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب
الانتخابية، وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب،
أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، وفى هذا اختلاس أي اختلاس للعقول
التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها) [11] .
وهذا المرض لا يزال مسيطراً على العقول، فكثيراً ما نسمع في قرية من
القرى أو حي من الأحياء المطالبة بحقهم في فتح طريق أو تنظيف شارع أو فتح
مدرسة، وكان بوسعهم أن يتعاونوا لإنجاز مثل هذا العمل. وكان الرسول صلى الله
عليه وسلم يعلم الناس القيام بالواجب عندما أعطى الذي جاء يطلب صدقة حبلا
وفأسا وأمره أن يحتطب ولا يتكفف أيدي الناس [12] .
العقلية الذرية:
يقصد بهذا المصطلح أن بعض الناس (ينظر إلى الأحداث والوقائع مجزأة
منفصلة فردية، كأنما في مجموعها لا تكون حلقة من التاريخ وإنما كوماً من
الأحداث) [13] .
وهذه العقلية موجودة في أوساط المسلمين بسبب بعدهم عن (الفعل الحضاري)
وبسبب التكوين الاجتماعي الذي ورثناه، ومن مظاهرها (أن جهودنا في كل مجال
لا تتسمم بالجهد المتواصل ولكن بالمحاولات المتتابعة، فما أن يبدأ نشاط ما حتى
يذهب فجأة كأنه وثبة برغوث أو كأنه مركب على صورة الخط المنقط الذي يمر من
نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً، ولنعتبر على سبيل المثال كم منذ نهاية
الحرب ظهرت مجلة في بلادنا ثم اختفت بنفس السرعة) [14] .
ومن مظاهر هذه العقلية (العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة) [15] (وإذا كان من الممكن تجزئة المشكلة لتجزئة حلولها (فكل الطرق تؤدي إلى روما) ولكن الطريق عبر المنهج هو أطول الطرق بلا شك، إن طريق الحضارة لا يمكن خطه بإقامة مدرسة هنا ومصنع هناك وسدٍّ هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات) [16] .
ولو أننا تعودنا الربط والتعميم وتتبع الجزئيات من الكليات لما استغربنا تشابه
المشكلات الخارجية التي يواجهها العالم الإسلامي، فالعالم الذي نواجهه (الاستعمار)
لا تأتى فيه الأشياء عفواً وإنما كنتائج لخطط محكمة، فعندما تفشل بعثة علمية في
بلاد الغرب أو أحد أفراد هذه البعثة نفاجأ: كيف حصل هذا؟ [17] .
ولو تتبعنا بعض الظواهر المحيرة في العالم الإسلامي لوجدنا أن المحرك لها
واحد، ولكن عقلية تجزئ الأشياء تجعلنا لا نشعر بالقاسم المشترك فيما بينها.
إن هذا النزوع نحو تجزئة مشكلة الحياة إلى ذرة ذرة، وهذا العجز عن
التعميم ليس من خواص الفكر المسلم كما يحاول أن يؤكده المستشرق الإنكليزي
(جب) (بل هو طراز للعقل الإنساني بعامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من
النضج، وإن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية يظل شاهدا
على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية بالإحساس (بالقانون)
وهو يستلزم القدرة على التركيب، وأصول الفقه الإسلامي أكبر دليل على
ذلك) [18] .
التعالم والحرفية في الثقافة:
عانت مجتمعاتنا في عصور الضعف مشكلة (الأمية) والجهل ولكنها عندما
حاولت النهوض أصيبت بمرض مستعص وهو (التعالم) أو الحرفية في التعلم وحمل
اللافتات العلمية (وإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا
للمريض الثاني لا سبيل إليها لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيّره ضميرا
فعّالاً، بل ليجعله آلة للعيش، وسلماً يصعد به إلى (الوظيفة) ، وهكذا يصبح العلم
عملة زائفة غير قابلة للصرف، وإن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل
المطلق، فالجاهل هنا لا يقوّم الأشياء بمعانيها، ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما
بحسب حروفها، وكلمة (لا) تساوي عنده (نعم) لو احتمل أن حروف الكلمتين
متساوية.
وكلام هذا المتعالم ليس (كتهتهة) الصبي فيها براءة وإنما (تهتهة) يتمثل فيها
شيخوخة وداء عضال، فهو الصبي المزمن) [19] .
لقد تحولت اللافتات العلمية زينة تتصدر المجالس، وألقاباً للتفاخر ذلك أن
نزعة المديح والألقاب قد أسرتنا منذ عهود الانحطاط، فألقاب مؤلف أي كتاب لابد
أن تملأ نصف الصفحة الأولى على الأقل، فهو العالم العلامة والحبر الفهامة ...
ونظرة إلى الصحف الآن التي تعيش على المدح تكفى لنعلم كم نعيش تحت
أسر الكلمات الطنانة التي ليس لها معنى، وإنما هو الغرام الأحمق بمجرد الكلام،
(وفى هذا ضرر كبير على كيان الأمة لأنها تفقد حاسة تقدير الأمور على وجهها
الصحيح) [20] ، ويصبح المثل الأعلى من هو أقدر على الكلام ولو لم يكن له أي
دور اجتماعي (وقضية الجهل لا تعالج بمجرد وضع البرامج التعليمية، بل يجب
أن يكون أولاً عملية تصفية نفسية، وبكلمة واحدة أن يكون التعليم بناء الشخصية
الجديدة) [21] .
هذه نماذج لبعض الأمراض التي تعيق النهضة كما يراها مالك بن نبي، ولم
نتعهد الاستقصاء، وقد يقال هنا: كيف لا يذكر أصل الداء وهو بعد الناس عن فهم
العقيدة الإسلامية الصافية، عن فهم التوحيد كما جاءت به الرسل عليهم السلام،
وللجواب على هذا نقول:
إن مالك بن نبي كمفكر يهتم بشؤون النهضة والإصلاح ويشخص الأمراض
الاجتماعية التي أصابت العالم الإسلامي والتي تعيقه عن النهوض، فقد يكون المسلم
صاحب فهم سليم ولكن فيه هذه الأمراض، فهو يعالج هنا كالطبيب المتخصص.
2 -كان مالك بفطرته يعلم أن الرجوع إلى منهج خير القرون هو الصواب،
ولذلك انتقد منهج المدرسة الإصلاحية في إحيائها (لعلم الكلام) يقول منتقداً الشيخ
محمد عبده الذي (ظن كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال أن من الضروري
إصلاح علم الكلام بوضع فلسفة جديدة حتى يمكن تغيير النفس، بيد أن كلمة (علم
الكلام) ستصبح قدراً مسلطاً على حركة الإصلاح الذي حاد بها جزئيا عن
الطريق) [22] .
(وعلم الكلام يمجد الجدال ويشوه المشكلة الإسلامية، ويفسد طبيعتها، حيث
يغير المبدأ السلفي في عقول المصلحين أنفسهم) [23] .
3- إن مالكًا كغيره من المفكرين وكثير من المسلمين يظنون أن العقيدة هي
الإيمان بالله ولا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد يؤمن الإنسان
بوجود الله، ولكنه يعرض عن عبادته والخضوع لشرعه، والرسل دعت الأمم
لعبادة الله وحده، يوضح تصوره هذا قوله: (والمسلم - حتى ما بعد الموحدين -
لم يتخل مطلقا عن عقيدته، فلقد كان مؤمنا، ولكن عقيدته تجردت عن فاعليتها،
وإن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي أن نشعره
بوجوده ونملأ به نفسه) [24] . إن ضعفه في العلوم الشرعية جعله لا يتبين أهمية
فهم التوحيد فهما صحيحاً، وأن الخلط في هذا الموضوع هو أس البلاء.
__________
(1) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار /104.
(2) المصدر السابق /104.
(3) شروط النهضة /23.
(4) مشكلة الأفكار /106.
(5) تأملات /189.
(6) المصدر السابق /191.
(7) وجهة العالم الإسلامي /131.
(8) بين الرشاد والتيه /129.
(9) بين الرشاد والتيه /29.
(10) تأملات /140.
(11) شروط النهضة /48.
(12) معنى لحديث متفق عليه.
(13) الصراع الفكري /53.
(14) في مهب المعركة /154، 194.
(15) فكرة الأفرو آسيوية /79.
(16) المصدر السابق /80.
(17) الصراع الفكري /34.
(18) وجهة العالم الإسلامي /15.
(19) شروط النهضة /127.
(20) وجهة العالم الإسلامي /52.
(21) تأملات /191.
(22) وجه العالم الإسلامي /47.
(23) المصدر السابق /49.
(24) المصدر السابق /48.(16/28)
تعقيب على مقال
مدى تدخل الدولة في فرض الضرائب وتوظيف الأموال
للشيخ عثمان جمعة ضميرية
عبد العزيز بن حمد المحمد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:
فقد كتب الشيخ الفاضل: عثمان جمعة ضميرية مقالا في مجلة (البيان) (العدد
الثالث عشر) بعنوان: (مدى تدخل الدولة في فرض الضرائب وتوظيف الأموال) ، وخلص إلى مشروعية فرض الضرائب بشروط ذكر بعضها. وقد كان لي بعض
الملاحظات على ذلك المقال فأحببت أن أذكر شيئا منها، ولست متعرضا لتحرير
القول في المسألة، فأدع ذلك لعلمائنا حفظهم الله.
أولاً: الكلام الذي نقله الكاتب حفظه الله عن الغزالي والجويني والشاطبي
مرتبط كله بالجهاد والاستعداد له وحفظ الأمن، وأين ذلك من الضرائب المتنوعة
التي تفرض اليوم، ولا تستخدم في الضروريات فقط، بل تتعدى ذلك إلى ...
الحاجيات والتحسينات، ومجالات الفساد المتنوعة. وإنما يصح الاستشهاد بكلام العلماء المذكورين - رحمهم الله - على الضرائب التي يحتاج إليها في القيام بالواجبات فقط.
ثانياً: قال الشيخ - حفظه الله - ص 47: (وممن (في الأصل: مم) عرض
لهذه المسألة، وأيدها بالنصوص الشرعية والحجج القوية، الإمام ابن حزم في كتابه
العظيم (المحلَّى) ..) .
والواقع أن كلام ابن حزم ليس عن الضرائب وحكمها، وإنما هو عن إلزام
الأغنياء بسد حاجات الفقراء، إذا لم تقم الزكوات بهم. وأما موقفه من الضرائب،
فقد ذكره في كتابه (مراتب الإجماع) ، فقال، ص121:
(واتفقوا أن المراصد الموضوعة للمغارم على الطرق وعند أبواب المدن وما
يؤخذ في الأسواق من المكوس على السلع المجلوبة من المارة والتجار ظلم عظيم
وحرام وفسق، حاشا ما أخذ على حكم الزكاة وباسمها من المسلمين من حول إلى
حول مما يتجرون به، وحاشا ما يؤخذ من أهل الحرب وأهل الذمة مما يتجرون به
من عشر أو نصف عشر، فإنهم اختلفوا في كل ذلك، فمن موجب أخذ كل ذلك
ومن مانع من أخذ شيء منه إلا ما كان في عهد صلح أهل الذمة مذكورا مشترطا
عليهم فقط) . وهذا الذي اعتمده شيخ الإسلام كما سيأتي.
ثالثاً: قال الشيخ - حفظه الله - ص 44: (عرض فقهاء الشريعة الإسلامية
توظيف الأموال على الأغنياء، عند الحاجة، وقرروا جواز ذلك ... ) .
وقد يفهم من الإطلاق أن هذا قول العلماء كافة، وليس الأمر كذلك! وأول من
عرف عنه القول بمشروعية توظيف الوظائف أبو المعالي الجويني، وهو يقول عن
نفسه في (غياث الأمم) بتحقيق الديب، ص266:
(لست (أحاذر) إثبات حكم لم يدونه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء؛ فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلغي مدونا في كتاب، ولا مضمنا
لباب ... فليكن الكلام في الأموال وقد صفر بيت المال واقعة لا يعهد فيها ... للماضين مذهباً، ولا يحصل لهم مطلباً، ولنجر فيه على ما جرى عليه الأولون إذ دفعوا إلى وقائع لم يكونوا يألفوها، ولم ينقل لهم مذاهب، ولم يعرفوها) . وتبع الجويني على كلامه تلميذه الغزالي، ونقل الشاطبي كلام الأخير موافقا له كما وافقهم على ذلك علماء آخرون. وقد خالف في ذلك غيرهم مثل ابن حزم كما مرّ معنا، وابن تيميه كما سيأتي.
ومما يوضح الخلاف في المسألة من قديم، ما ذكره التنبكتي في كتابه
المطبوع بهامش (الديباج المذهب) في ترجمة الشاطبي صاحب (الاعتصام) ، إذ
قال ص 49: (وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم، لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع للشيخ المالقي في كتاب الورع قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة ولاشك عندنا في جوازه وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا الآن لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما تحتاج إليه الناس، وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس. وإنما النظر في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام ... وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفاً على أهل الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفتيا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد بن لب فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه، مستنداً فيه إلى المصلحة المرسلة، معتمداً في ذلك إلى قيام المصلحة التي إن لم يقم بها الناس فيعطونها من عندهم ضاعت ... ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور ... ) .
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقد قال (مختصر الفتاوى
المصرية، ص 455) : ( ... في أوائل الدولة السلجوقية أفتى طائفة من الحنفية والشافعية - إذا لم يكن في أموال بيت المال كفاية لرزق الجند الذين يحتاج إليهم في الجهاد - أن يوضع على المعاملات، وأنكر ذلك غير هؤلاء، وحكى أبو محمد بن حزم في كتاب الإجماع: إجماع العلماء على تحريم ذلك، وقد كان نور الدين محمود الشهيد بن زنكي قد أبطل جميع الوظائف المحدثة في الشام والجزيرة ومصر والحجاز، وكان أعرف الناس بالجهاد، وهو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الإفرنج والقرامطة على أكثر بلاد هـ) .
وقال أيضاً في (الأموال المشتركة) (1) : (.. وأما من بعد الخلفاء الراشدين
فلهم في تفاصيل قبض الأموال وصرفها طرق متنوعة: منها ما هو حق منصوص
عليه موافق للكتاب والسنة، ومنها ما هو اجتهاد يسوغ بين العلماء إذا كان الإمام
من أهل الاجتهاد وله علم، وقد يسقط الوجوب بأعذار ويباح المحظور بأسباب،
وليس هذا موضع تفصيل ذلك، ومنها ما هو اجتهاد ولكن صدوره لعدوان من
المجتهد أو تقصير منه شاب الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة، وهذا
النوع كثير في الملوك وغيرهم جداً، ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بترك
واجب أو فعل محرم ... ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية
وظفوا على الناس وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل ... وكانت سير الملوك تختلف ... ومنهم من يقصد اتباع الشريعة وإسقاط ما
يخالفها، كما فعل نور الدين لما أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت
تؤخذ بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالا عظيمة جداً، وزاد الله البركات،
وفتح البلاد، وقمع الأعداء بسبب ذلك، لما عدل وأحسن.
ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في كتاب ولا سنة، ولا ذكرها
أحد من أهل العلم المصنفين في الشريعة، ولا لها أصل في كتب الفقه من الحديث
والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى عند من يأخذها، ويعرف حكم الله، وقد
ذكر ابن حزم إجماع المسلمين على ذلك. ومع هذا، فبعض من وضع بعضها
وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك أهل الفتوى والرأي من بعض
علماء ذلك الوقت ووزرائه ... في نصف المائة الخامسة حدثت أمور منها بناء
المدارس والخوانق ووقف الوقوف عليها، وصنف أبو المعالي الجويني كتاباً للنظام، ... سماه غياث الأمم ... وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف السلطانية عند الحاجة
إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصول الجهاد إلا بالأموال التي تقام بها الجيوش، إذ أكثر الناس لو
تركوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن ترك. جمع الأموال
وتحصيلها حتى يحدث فتق عظيم من عدو داخلي أو خارجي تفريط وتضييع،
فالرأي أن تجمع الأموال، وترصد للحاجة، وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة
لا يحصل بها ضرر، ويحصل بها المصلحة المطلوبة من إقامة الجهاد.
والوظائف الراتبة لابد أن تكون على الأمور العادية، فتارة وظفوها على
المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب
والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقداراً، إما على مقدار البيع وإما على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العقارات من جنس الخراج
الشرعي، فكان ما وضعوه تارة يشبه الزكاة المفروضة المشروعة، وتارة يشبه
الخراج الشرعي، وتارة يشبه ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحرب، وتارة يشبه
المكس.
ومنهم من يعتدي فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك، مما
أصله محرم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال
والنساء ...
حقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث والرابع، فإن هذا إذا صدر
باجتهاد فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أو عدوان، وإن التقصير أو
العدوان صادر أيضاً من أكثر الرعية، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم لو تركوا لما أدوا
الواجبات التي عليهم من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب
بالأنفس والأموال، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم، بما يقبضونه من
الأموال بغير حق، ويصرفونه في غير مصرفه، ويتركون أيضاً ما يجب من
الأمر والنهى، فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن ... ) .
وقد أطلت النقل من (الأموال المشتركة) لأهمية الكلام، ولعدم توفر المصدر
عند كثير من القراء فيما أظن.
رابعاً: نقل الشيخ عثمان -حفظه الله -عن بعض العلماء تضعيف حديث
فاطمة بنت قيس عن ابن ماجة، ولفظه: (ليس في المال حق سوى الزكاة) ،
وسكت عن حديثها عند الترمذي بلفظ. (إن في المال حقاً سوى الزكاة) ، مع أن
الإسناد واحد، وقد ضعفه العلماء للعلة ذاتها.
وإنما اختلف العلماء في لفظ ابن ماجة: هل هو خطأ من بعض النساخ، أم
هو هكذا؟ وانظر في ذلك: السنة للبيهقي (4/84) ، وتحفة الأشراف للمزي (12/
465) مع تعليق الحافظ في (النكت الظراف) (والأطراف بأوهام الأطراف) لولي
الدين العراقي (ص 230) ، وانظر كلامه أيضاً في (طرح التثريب) (4/11) ،
(والتلخيص الحبير) لابن حجر (2/60) ، وحاشية تفسير الطبري لأحمد شاكر (3/
344) ، وحاشية سنن ابن ماجة بتحقيق الأعظمي (1/ 328) .
خامساً: نقل الشيخ عثمان -حفظه الله - (ص 49) عن الشيخ حسن البنا-
رحمه الله - قوله: (ومن لطائف عمر رضى الله عنه أنه كان يفرض الضرائب
الثقيلة على العنب، لأنها فاكهة الأغنياء في ذلك الوقت، والضريبة التي لا تذكر ...
على التمر، لأنه طعام الفقراء، فكان أول من لاحظ هذا المعنى في الحكام والأمراء، رضي الله عنه) .
وكيف يقبل مثل هذا في بحث علمي؟ ! فكان ينبغي معرفة سند الخبر
وصحته قبل نقله.
هذا ما تيسر التعقيب عليه، والموضوع بحاجة إلى بحث وتحرير، والله
المستعان.
وختاماً أسأل الله لي وللشيخ عثمان التوفيق والغفران، وأن يهدينا لما اختلف
فيه من الحق بإذنه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله
وصحبه وسلم.
1- رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية، أخرجها الدكتور ضيف الله بن يحيى
الزهراني، عام 1406 هـ، اعتماداً على مخطوطة في مكتبة الأوقاف ببغداد،
تحت رقم 13754، لكثرة ما في طبعته من تصحيفات، فقد اعتمدت على صورة
المخطوطة الملحق (بملاحظات على تحقيق كتاب الأموال المشتركة) لعبد العزيز
ابن إبراهيم المرداس، نشر دار ابن القيم بالدمام (الأوراق: 4 - 6) .(16/37)
فكر
أضواء على مشاريع
دراسة التراث والعقل العربي
محمد بن حامد الأحمري
بدأ غير المسلمين دراسة التراث الإسلامي منذ ما يزيد عن قرن ونصف
وامتدت هذه الدراسات لتغطي مساحة واسعة في العلوم الإسلامية لا تدع شيئاً إلا
كان لها فيه رأي. تلد الدراسة انطلقت من المنهج النقدي للفكر اليوناني وللكنيسة
الأوربية. وتعاملت مع العلوم الإسلامية بالأسلوب نفسه.
ونحن لا نطالب هؤلاء الدارسين بما يفوق طاقتهم وانغلاق ثقافتهم،
والانغلاق المنهجي هو أبرز مقومات الفكر الغربي، إذ القاعدة عندهم أن فكر العالم
وتاريخه هو تاريخ أوربا موسعاً وذلك ما تشهد به كل المدارس النقدية والمذهبية
هناك، ولا يفسر هذا القول بأنهم جهلة بما عند غيرهم، هذا مالا نتحدث عنه هنا،
إنما المراد أن كل علم أو ثقافة خضعت للأسلوب النقدي الأوربي المعد مسبقاً
للأجواء الوثنية وعصور الظلام كما يسمونها سنضرب هنا مثالين سريعين لهذه
القضية حتى يمكننا أن نتجاوز إلى ما نريد:
1- المستشرق فون كريمر عندما درس التاريخ الإسلامي كان يعيش فترة
انتعاش القوميات الأوربية، ويشاهد القومية الألمانية في بنائها ومجابهتها للآخرين
فتناول التاريخ الإسلامي، وفسره تفسيراً قومياً يناسب المسار الذي يعانيه الكاتب،
وهكذا رأى أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة المسلمة إنما كان
حاجة قومية عربية.
2 -المثال الآخر الكاتب الفرنسى الماركسي مكسيم رودنسون وهو كاتب
معاصر لم يزل يخبط ويخلط وتتبعه الإمعات في العالم الإسلامي يصدر كل يوم
دراسة ماركسية للتاريخ الإسلامي، وهكذا تجد روح اليسار الفرنسي أو الأمريكي
في دراسته العلوم الإسلامية.
دراسة أحمد أمين:
وعندما ندرس هذه الموجات في بلادنا الإسلامية تواجهنا دراسات حديثة
للتراث الإسلامي كان أولها إنتاج أحمد أمين في مشروع واسع وجاد اهتم بالنواحي
العقلية والثقافية لدى المسلمين، وهذا المشروع نشاً في أحضان المنهج الاستشراقي
إذ اتفق ثلاثة من أساتذة كلية الآداب في القاهرة أحمد أمين وعبد الحميد العبادي
وطه حسين على أن يقوم الأول بدراسة الحياة العقلية، وأن يدرس العبادي الحياة
السياسية، وطه حسين الحياة الأدبية ومشروع أحمد أمين جزء من كتاب كبير يضم
هذه الأقسام الثلاثة وقد قراً الثلاثة مشروع هذا العمل وأقروه.
وأحمد أمين شيخ أزهري تمكن من علوم الشريعة واللغة العربية، ثم درس
ودرّس في مدرسة القضاء الشرعي، واتصل بمديرها عاطف بك بركات، وكان
صاحب تعليم أزهري وغربي في انجلترا، وأيضاً كان ملتزماً بتوجه عقلي صريح
يقول أحمد أمين: (فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، لم ولا أسمح
لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات فالدين فوق العقل، فإذا جاء فيه ما
فوق العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، والله أعلم بما يصلحنا ويغيرنا)
(وعاطف بك بركات يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم،
وكان له غرام بالبحث وصبر على الجدل وكان من أثر هذا الجدل الديني أنى
أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته) ويقول في موضع آخر: (وقد أثر في
أثراً كبيراً - يعني أستاذه عاطف - من ناحية تحكيم العقل في الدين) .
هذه النظرة العقلية الغربية التي لم تكن محدودة عنده أفسدت عليه جوانب
خطيرة في كتبه، إذ اضطر إلى مسايرة المعتزلة، وإلى الطعن في الحديث وكذا
أفسد عليه تقديسه لمناهج المستشرقين وقد صرح بحبها واحترامها واستفادته منهج
البحث منها، ولا يعيبه هنا أن استعار منهج البحث ولكن الذي حدث له هو نقل
الأفكار والنظريات والبحث لها عن شواهد فيما يدرسه.
ومن الغريب أنه وهو يدرس هذه القضايا يقول في فجر الإسلام: (مسلكنا في
سائر ما يروى من الحوادث التاريخية وما يروى من أحاديث أن نمتحنها من
ناحيتين: من ناحية السند، ومن ناحية المتن) وفى التطبيق يساوي بين ما يلي:
كتب الحديث، وكتاب التسلية والكذب الواسع (الأغاني) وكتب المستشرقين حتى
لا تكاد تخلص من (نولدكه) و (براون) و (دي ساسي) وغيرهم.
خلاصة ما وقع لأحمد أمين التورط ما بين العقلانية الحديثة والاعتزال
والمستشرقين وعدم التمييز في المصادر، وعلى الرغم من كل هذه العيوب فعمله لم
يكن مسبوقاً بشيء يفيد منه ويجنبه تلك العيوب وهو خير من كثير ممن جاءوا بعده
ودرسوا القضايا نفسها، ولا يفارقك الإحساس بوجود روحه الإسلامية وثقافته
الشرعية فيما كتب مما يدعو للتعاطف والتقدير ولعله أحسن النية ولكنه كان ضحية
لموجة التحديث والعقلنة وبداية المشاريع العلمانية التي لم يدرك أبعادها.
أما المشاريع الأخرى في دراسة التراث فمن أهمها الدراسة الشيوعية والتي
يعد أبرز أفرادها د. حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية
الإسلامية، والدكتور طيب تزيني، وقريباً من هذا مشروع محمد عابد الجابري في
كتبه (تكوين العقل العربي) و (بنية العقل العربي) و (نحن والتراث) والذي لا
يساير المنهج الماركسي تماماً في تقليديته ولكن يستفيد من اليسار الفرنسي ويراوغ
مع عدم وضوح في مدرسته الفكرية وهو في النهاية تلميذ وفّي ومقلد لـ (ميشيل
فوكوه) من رواد الفلسفة البنيوية الكبار.
المدرسة الماركسية:
المدرسة الماركسية في دراسة التراث هي أكثر إنتاجاً وأكثر تقليدية وجفافاً،
كما إنها لا تقدم شيئاً يستحق الاهتمام أو الجدة، لم؟ لأن الماركسيين في العالم
يعتقدون أن فلاسفتهم الأوائل قد قاموا بعملية التفكير والتقرير، وفرغوا منها فما
على هؤلاء سوى البحث عن الشواهد والتطبيق، وكان أول روادهم بندلي جوزي
في كتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) والذي يشيد فيه بالإسماعيلية
ومحافظتهم على مطلبهم الأكبر المثالي ومذهبهم الاشتراكي، ويتباكى جوزي على
فقدان التعاليم الاشتراكية للقرامطة وعلى نسيانهم لها.
ويدأب هؤلاء على الرفع من شأن المنحرفين والمنحلين والساقين بل والذين
خانوا بلادهم وقومهم، فبندلي جوزي يمجد بابك الخرمي ويشيد باشتراكيته في
الوقت الذي يذكر في معاهداته مع امبراطور الروم ضد المسلمين، ويتمنى لو قامت
الدولة الشيوعية لبابك على أنقاض دولة المعتصم العباسي، ويصف هذا المضبوع
أفكار بابك وطموحاته أنه لو نجح لأقام (دولة جديدة أساسها العدل والإخاء والمساواة) ، هكذا أي عدو للإسلام سيكون عندهم خيراً وأولى حتى لو دمر دمار الزنج وثورتهم.
وثورة الزنج في رأي هؤلاء من أعظم الثورات في العالم: ثورة العمال
والبروليتاريا، الثورة التي يشيب لهولها الولدان لما فعل الزنج من قتل لكل الناس
للعلماء والأطفال والنساء واستباحة البصرة واستعباد أهلها هي عند أصحاب هذه
الدراسات الماركسية قمة التقدمية والاشتراكية.
اليسار الإسلامي:
أما أعمال د. حسن حنفي وما يسمى باليسار الإسلامي فقد لخص في مقدمته
لكتاب الحكومة الإسلامية نزعته الثورية على ما فيها من سخرية ونقد لمذهب أهل
السنة، وهو في حماسته لقضايا المنهج الثوري ينسى مواقع الاتفاق والاختلاف مع
هذه الفرق.
وفى كتابه التراث والتجديد الذي يرى أنه أشبه بمقدمة ابن خلدون بالنسبة
لكتابه تاريخ العرب والبربر ولكنه هذه المرة عن النهضة وليس عن الانهيار.
نظرات الرجل النقدية وسخريته من الواقع والتراث تصل إلى حد غير مؤدب
في كثير مما يتناول بالبحث وهو يرى نفسه ثائرا إسلاميا ولكن من منطلقات يدرك
هو تماما أنها غير إسلامية، وإلا فما جدوى الاحتقار لما لدى المسلمين، وهل
الاحتقار هو الحل؟ ومن يراجع بعض ما كتب يجد المنطلقات الطبقية فيما يكتب،
وثوريته تجعله لا يتأدب أحياناً حتى مع لفظ الجلالة، كما أن الجوانب الإيمانية
والروحية لا تكاد توجد في هذه المعالجة غير الإسلامية وبخاصة أن حنفي فيما
يصرح ويكتب يرى أنه يحمل الحل الوحيد النادر! ولو تأمل بضاعته لعلم أنها
غريبة كل الغرابة عن روح هذه الأمة.(16/43)
الزيارة بين النساء
على ضوء الكتاب والسنة
-2-
خولة درويش
استئذان الزوج في الخروج:
إن الإسلام يأمر بالنظام في كل الحالات، في العادات والمعاملات، في
السفر والحضر، فإذا خرج ثلاثة في سفر دعا إلى تأمير أحدهم، لذلك وتنظيماً
للمجتمع فقد جعل قوامة الأسرة للرجل، فهو أقدر على القيام بهذا الاختصاص من
المرأة، إذ جعل مجالها الطبيعي يتناسب مع فطرتها النفسية وتكوينها الجسمي،
وهو إمداد المجتمع المسلم بالأجيال المؤمنة المهيأة لحمل رسالة هذا الدين.
ولا أحد ينكر فضل الاختصاص من حيث قلة الجهد، وجودة المردود، سواء
في النواحي المادية أو الإنسانية، هذه الرئاسة والقوامة تقتضي وجوب طاعة المرأة
لزوجها، وقد جاء في الفتاوى لابن تيمية: (والمرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك
بها من أبويها، وطاعة زوجها أوجب، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال:) الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسك ومالك (.
وفى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:) أيما امرأة ماتت وزوجها راضٍ عنها دخلت الجنة (وقال الترمذي حديث حسن.
وقد ورد أيضاً في المسند وسنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان عن ابن أبى
أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا
يا معاذ؛ قال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في
نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) لا
تفعلوا ذلك، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد
لزوجها. والذي نفسي محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها
ولو سألها نفسها وهى على قتب لم تمنعه (.
وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ
حدود الله فيها، ونهاها أبواها عن طاعته في ذلك فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها.
وإذا نهاها الزوج عما أمر الله أو أمرها بما نهى الله عنه لم يكن لها أن تطيعه
في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:) لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق ( [1] .
هذا، وطاعة الزوج ليست تسلطاً منه، ولا امتهاناً للمرأة، وانتقاصاً
لشخصيتها، إنما هي من طاعة الله والقربات إليه التي تثاب عليها ويجب أن تعتز
بها ... وهذا ما يميز المسلمة الواقفة عند حدود الله عن العابثة المتسيبة، التي لا
أب يردها ولا زوج يمنعها، تخرج من البيت متى تشاء وحيث تشاء، فتزرع هذا
الشر لتحصد الندامة فيما بعد بمشاكل لا تنتهي، واتهامات كثيرة، وواقع مرير،
ونتائج وخيمة، ولا ينجي من ذلك إلا العودة إلى تحكيم شرع الله: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بالْمَعْرُفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] [البقرة: 228] ، وهذه الدرجة هي
قوامة الأسرة.
(ولا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، سواء كان ذلك لكونها
مرضعاً أو لكونها قابلة أو غير ذلك من الصناعات، وإذا خرجت من بيت زوجها
بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة) [2] .
وهكذا فخروجها للعمل بغير إذن زوجها نشوز عن طاعة زوجها وعصيان لله
ولرسوله فكيف إذا خرجت للتزاور أياً كان السبب؟ ! ! ولو كان ذلك لزيارة والديها
المريضين.
(للزوج منعها من الخروج من منزلها إلى مالها منه بد، سواء أرادت زيارة
والديها، أو عيادتهما، أو حضور جنازة أحدهما. قال أحمد في امرأة لها زوج وأم
مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها، إلا أن يأذن لها) [3] .
وحتى الخروج للعبادة تحتاج معه إلى إذنه) عن ابن عمر رضي الله عنهما
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد للعبادة
فأذنوا لهن (.
وعن ابن حبان من حديث زيد بن خالد:) لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (قال
القسطلاني: أي إذا أمنت المفسدة منهن وعليهن، وذلك هو الأغلب في ذلك الزمان، بخلاف زماننا هذا الكثير الفساد والمفسدين وقد ورد في بعض طرق الحديث ما
يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد وذلك في رواية
حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر بلفظ:) لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير
لهن (، وحديث عائشة رضى الله عنها في منع النساء علقته على شرط لو رأى رسول الله ما أحدثته النساء.
وفى رواية عند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً:) إذا
استأذنت امرأة أحدكم - أي أن تخرج إلى المسجد أو ما في معناه كشهود العيد
وعيادة المريض - فلا يمنعها (.
قال القسطلاني. وليس في الحديث التقييد بالمسجد، إنما هو مطلق يشمل
مواضع العبادة وغيرها.
ومقتضى الحديث: أن جواز خروج المرأة يحتاج إلى إذن الزوج) [4] .
أما قول القائل: إنهن لا يخرجن من بيوتهن مطلقا لقوله تعالى: [وقَرْنَ في
بُيُوتِكُنَّ] فليس بحجة له بدليل قوله تعالى بعدها: [ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ
الأُولَى] والمقصود به عند خروجهن.
(ومعنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى
الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى هذا لو لم يرد دليل يخصص جميع
النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا
لضرورة) [5] .
(وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقاً، وإنما هي إيماءة
لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر وما عداه استثناء طارئاً
لا يثقلن فيه ولا يستقررن وإنما هي الحاجة وتقضى وبقدرها) [6] .
وقد عرف عن أمهات المؤمنين والصحابيات أنهن كن يخرجن في حوائجهن
وللمشاركة في الغزو.
(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه
إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى) [7] .
وفيه خروج للنساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة لمحارمهن
وأزواجهن وغيرهم مما لا يكون فيه مس بشرة إلا موضع الحاجة.
وهذه أم عمارة تحدثنا حديثها يوم أحد: (خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه
ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والريح والدولة
للمسلمين، فلما انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمى
بالقوس حتى خلصت إليّ الجراحة.
وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا ورأيتها تقاتل دوني) [8] .
وتستأذنه صلى الله عليه وسلم أم سنان الأسلمية في الخروج إلى خيبر للسقيا
ومداواة الجرحى فقال لها عليه الصلاة والسلام: «فإن لك صواحب قد أذنت لهن
من قومك ومن غيرهم فكوني مع أم سلمة» [9] .
وفي خيبر أيضاً عن امرأة من بني غفار قالت: (أتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى
وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال:) على بركة الله (فخرجنا معه) [10] .
(حتى المقعدة فلها الخروج في حوائجها نهاراً، سواء كانت مطلقة، أو
متوفى عنها، لما روى جابر قال: طُلقتْ خالتي ثلاثاً فخرجت تجذ نخلها فلقيها
رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:) اخرجي فجذي نخلك
لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرا (.
وروى مجاهد قال:) استشهد رجال يوم أحد فجاءت نساؤهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقلن. يا رسول الله نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا
بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحدثن عند إحداكن حتى
إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها ( [11] .
ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم على عائشة رضى الله عنها وعندها
امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال:) مه، عليكم بما
تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا، فكان أحب الدين إليه مادام عليه
صاحبه ( [12] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان.
كما طلب من الشفاء - وهى من المهاجرات الأول وبايعت النبي صلى الله
عليه وسلم وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن - قال لها صلى الله عليه وسلم:
«علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة» [13] .
وكيف يكون تعليمها إلا بلقائها معها وخروجها إليها.
فهذه كلها حالات تخرج فيها المرأة بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم
وإقراره بخروجها أو أمره وإذنه الصريح به، فلو كان المقصود بالقرار في البيت
عدم الخروج المطلق لنهى عن الخروج ولما أذن به.
ثم إن الحبس الدائم للمرأة في البيت ما هو إلا عقوبة شرعية - كان قبل أن
يشرع حد الزنا فنسخت هذه العقوبة بالحد الشرعي - أقول كان الحبس في البيوت
للمرأة التي تأتي الفاحشة وذلك لقوله تعالى: [واللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ
أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً] [النساء: 15] .
أما المرأة العفيفة الملتزمة بأحكام دينها، والتي تراقب الله تعالى في حركاتها
وسكناتها فهي تقدر شرف مهمتها وعظم مسئوليتها: إنها إن قرت في بيتها فهي في
عمل واعٍ يقظ، لا فراغ اللاهيات ولا تفاهة العابثات من ربات الفيديو والأزياء
والسينما ...
إنها تعد لأمتها الإسلامية أبطالها الذين يستعيدون مجدها فتربيهم على الاعتزاز
بقيم الإسلام ليفدوه بأنفسهم إن واجههم الخصوم، ويعملون وسعهم لإعلاء كلمة الله.
وإن أرادت الخروج من بيتها فلن يكون ذلك إلا إن كانت المصلحة الشرعية
في الخروج راجحة عنها في البقاء.
وإن خرجت: فبالحدود المشروعة وبالطريقة المشروعة، تستأذن الزوج
المسلم ولا تخرج بغير إذنه، وإلا اعتبرت عاصية لمله ولرسوله، وبالمقابل
فزوجها المسلم يرعى الله فيما ائتمنه، فيحرص على أن يبعدها عن الشبهات
ومواطن الزلل. ويأخذ بيدها إلى كل خير، ليشاركها أجرها سواء كان زيارة
أقاربها وصلتهم أو بر والديها، أو صلة أخواتها في الله، أو العلم المشروع.
ثم إن الأصل أن ينبني البيت المسلم على المودة والرحمة، لا الغلظة والتسلط. فالزوج والزوجة كلاهما يحكم الشرع ويزن الأمور بمقياسه، فلا يتعسف الرجل
في استعمال حقه الذي منحه الله إياه ويحفظ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم
بالمرأة:) استوصوا بالنساء خيراً (وبالمقابل لا يجمح الهوى بالمرأة ولا تستكبر
عن طاعة زوجها فتكون في عداد الناشزات.
أما عند عدم الزوج لوفاته، أو لعدم زواج المرأة. فتستأذن أبويها وهذا من
برهما وحسن صحبتهما فهما أحرص الناس على حسن سمعتها وجلب الخير لها.
__________
(1) الفتاوى لابن تيميه 32/من260-264 بإيجاز.
(2) الفتاوى لابن تيمية 32/281.
(3) المغني 7/20.
(4) عون الباري 2/285-287باختصار.
(5) أحكام القرآن للقرطبي 14/179.
(6) في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2859.
(7) شرح صحيح مسلم 12/88.
(8) الإصابة 4/457.
(9) الإصابة 4/443.
(10) البداية والنهاية لابن كثير، 4/204.
(11) المغني 7/226.
(12) فتح الباري 1/101.
(13) الإصابة 4/333.(16/48)
أدب وتاريخ
دفاع عن اللغة العربية
منصور الأحمد
(يعلم كل من له إلمام بأسرار العربية أن الأسلوب المصطلح عليه في ترتيب
معاجمها لا يناسب حتى ولا الكثيرين ممن نالوا قسطاً وافراً من الإحاطة بقواعد
الصرف وأحكامه، ليتمكن من رد الكلمة إلى أصلها المجرد، توصلاً إلى الاهتداء
إلى مكانها من القاموس، على أن الاشتقاق وما يلحق أبنية الكلم من عوارض
الإدغام والإدغام الإعلال، وغير ذلك لمن أشد الأمور تعقيداً في اللغة العربية) [1] .
هذه (الكلمة) التي قدمناها تصلح نموذجاً لدعاوى كثيرة، تصدر عن أناس
متعددي المشارب، مختلفي النوايا، لكن يجمعهم هدف واحد، هو تزهيد الناس
بالعربية، وتنفيرهم منها، ويتذرعون إلى ذلك بما يشبه الحجج، ويلبس ثوب
الدليل، ولكن إذا تفحصته لم تجده من الحجج ومن الأدلة في شيء. وسوف نناقش
الدعوى المتقدمة، ليتبين لنا ما تنطوي عليه: هل هو من المسلمات الثابتة، أم أنه
ذريعة إلى أمر آخر هو الصد عن تعلم هذه اللغة ببث الكراهية لها في النفوس،
والتنفير عنها بكل وسيلة؟ !
فيما يتصل بالقضية الأولى، هل صحيح الادعاء أن البحث في المعاجم
العربية صعب إلى هذه الدرجة - حتى على الكثير ممن نالوا قسطا وافرا من
الإحاطة بقواعد الصرف وأحكامه؟ - وهل هناك (معاناة حقيقية) يعاني منها
المدرسون والطلبة في هذا المجال؟
إن الأمر انتهى بطرق ترتيب المعاجم إلى طريقتين رئيسيتين:
أولاهما: طريقة الصحاح، والقاموس المحيط، ولسان العرب، وهى
الطريقة المعروفة بطريقة (الباب والفصل) والتي رتبت فيها الكلمات في باب
الحرف الأخير من جذورها، ثم رتبت ترتيبا هجائيا داخل الباب بعد ذلك، ف
(بدأ) و (نشأ) توجدان في باب الهمزة، الأولى في فصل الباء، والثانية في فصل
النون.
الثانية: الطريقة الهجائية المألوفة الآن في كافة معاجم اللغات الأخرى،
وهى أيضاً معروفة في بعض المعاجم العربية غير الحديثة: كأساس البلاغة،
والمصباح المنير، وهى: وضع الكلمة في باب الحرف الأول من جذورها، مع
مراعاة الترتيب الهجائي أيضاً في الحرف الثاني والثالث وهكذا. فالكلمتان السابقتان
(بدأ) و (نشأ) توجد الأولى في باب الباء، والثانية في باب النون.
ومع هذا فقد صدرت طبعات للقاموس وللسان، رتبت المواد فيها هذا الترتيب
الأخير، وهناك أخذ ورد في فائدة ذلك، ولعل ترتيبها بهذه الصورة جاء خروجاً من
كثير من التقولات التي تقال عن صعوبة الطريقة السابقة.
وهذه الصعوبة المزعومة في ترتيب المعاجم العربية لا تعدو ما يماثلها من
الصعوبات التي يواجهها الباحث في معاجم اللغات الأخرى.
ولدى التجربة ظهر أن طريقة البحث في هذه المعاجم المتهجم عليها بالحق
والباطل سهلة حتى على من لم (ينل قسطا وافرا من الإحاطة بقواعد الصرف
وأحكامه) ! ولو صرف أي طالب متوسط ساعة من وقته (بجد وحرص) لتعلم
أساس طريقة البحث والتدرب عليها لكان ذلك كافيا. (وهذا الأمر لا علاقة له بما
هو كائن الآن من وجود كثير من الخريجين، ممن لا يرهقون أنفسهم للتفرغ لهذا
الأمر ولو ساعة من زمن، ثم يستغربون - ويستغرب الناس منهم - حيرتهم أمام
النظر في معجم من معاجم العربية، وبدل إلقاء اللوم على كسلهم وتفريطهم يلقونه
على هذه المعاجم الصعبة المرتقى، المعقدة التركيب! فهذه النتيجة المؤسفة مركبة
من عدة مقدمات أفضت إليها، وتحتاج إلى معالجة على حدة) .
إن كان شأن المعاجم العربية ليس بالتعقيد الذي انتهت الكلمة السابقة إليه؛
وأن كثيرا مما يشاع حولها هو تضخم وتهويل؛ إذاً، فما الأثر الذي تبقيه هذه
الكلمة ومثيلاتها في نفوس أكثر قرائها؟ إنه أثر غير محمود النتيجة، فهو تزهيد
وتثبيط، تزهيد لأبناء العربية بلغتهم؛ وتثبيط للهمم حتى تقعد عن التعرض لتعلم ما
ينفع في بناء الشخصية، والارتفاع بها. والأفكار أوعية مفتوحة إذا أنفت أن تمتلئ
بشيء ينبذه المجتمع، وتُنْشَر سموم الدعاية ضده؛ فلا بد من أن تفتش عن بديل
تملأ به الفراغ، وتتطلع إلى محلٍ تُحِلُّه المنطقة المهيأة المفرّغة، وليس المحتل هنا
غير اللهجات العامية، أو اللغات الأجنبية وما يلحقها من تمكن وغلبة لما تمثله من
عقائد، وما تجلبه من أفكار.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادفَ قلباً خالياً، فَتمَكَّنا!
والآن فلننظر في بناء هذه الكلمة ذاته لنرى نصيبها من الصواب أو الحقيقة.
1- (ليعلم كل من له إلمام بأسرار العربية) عبارة يبدو ظاهرها لا غبار عليه، ولكن أعد قراءتها كلمة كلمة لتعلم أن منطوقها يخالف ما يريد صاحبها، فهو يريد
أن يثبت بدهية وهي أن كل دارس للعربية يعلم ما سيشير إليه، ولكن الأسرار لا
تلم بها إلماماً، بل تُسْتبْطَنُ استبطاناً، وتعالج علاجاً مضنياً حتى تكتشف، وعلى
هذا فإن العارفين بأسرار العربية ليسوا مجمعين على ما سينتهي إليه صاحب
الدعوى، وهذا نقض للتعميم الفضفاض: يعلم كل من له إلمام ...
2- ( ... أن الأسلوب المصطلح عليه في ترتيب معاجمها ... ) وهذا أيضاً
تعميم يضيف إلى برودته جهلاً غليظاً، فالمعاجم العربية ليس لها أسلوب واحد في
ترتيبها، بل لها طرق متعددة، وأساليب متنوعة. فأي أسلوب منها يعني؟ !
3- ( ... لا يناسب حتى ولا الكثيرين ممن نالوا قسطاً وافراً من قواعد
الصرف وأحكامه ... ) .
لو أنه قال مثلاً: لا يناسب من لم ينل قسطاً وافراً من قواعد الصرف
وأحكامه؛ لكان في الجملة الروح، ولكن جنوحه إلى تضخيم ما لا يحتاج إلى
تضخيم أبى عليه إلا أن يطلقها هكذا مرة واحدة أن هذه المعاجم ليس فيها خير ألبته، لا للمبتدئين فقط بل للعلماء أيضاً وهي ليس إلا ركاماً يكد الأذهان ويضيع الأعمار!
(وقِفْ عند هذه الكلمات قسطاً - وافرا - الإحاطة -فهي كافية أن تلقى في نفسك
الرعب، وتبعث الرهبة من مكامنها) !
4 - ثم اقرأ معي تتمة الكلمة على مهل، ألا توحي إليك - وقد فرغت منها -
بوصف مهمة اكتشاف القارة القطبية، كُلِفَ بها شخص غير مُدَرَّب، ولا فائدة من
تدريبه، وليس هذا فحسب، بل هو - أيضاً - مجرد من أسباب مقاومة الصقيع،
على علة مستكنة في جسمه؟ !
كأنه يقول لمن يهم بتعلم شيء من هذه اللغة: مالك ولهذا العناء المعنّى،
ولماذا تضيع الوقت فيما لا طائل تحته، ولا ثمرة له، مالك ولمعاجم العربية
ونحوها وصرفها، لماذا تفر من السهل الميسر، إلى الحرج والتعقيد؟ ! وهكذا
تبنى جدران سميكة من الوهم والتضليل بين هذه اللغة وبين أبنائها.
وسرّح النظر في واقعنا الثقافي مشرقاً ومغرباً، وردده فيه صعوداً ونزولاً
ترى أن مثل هذا التقبيح القولي لكل ما يتعلق بلغتنا العربية، والحط من شأنها قد
انضاف إليه - واأسفاه - تقبيح عملي مجسم ومصور، والحال ناطقة به ى وشاهدة
عليه، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال. ووالله، إن السكوت على هجران هذه
اللغة، وعدم الغضب لها حين تُرمى بالنقائص، وتُتَقَصَّدُ بالحيف ليعادل انتهاك
الحرمات، وضياع المقدسات، إن لم يكن أكبر.
__________
(1) من مقدمة قاموس إلياس العصري (عربي - إنكليزي) .(16/56)
أدب وتاريخ
رؤية إسلامية
في المجيز والمجاز [1]
د. مصطفى السيد
يتحتم علينا - بسبب من انتمائنا الإسلامي، وهويتنا الإيمانية - أن نستحضر
قيم الإسلام ومقوماته في قراءة أي عمل أدبي، بل في شؤون الحياة كلها وشجونها
جميعها (لأن الإسلام يتغلغل في حياة أفراده فإن مسألة التزامه في الأدب يجب أن
تكون محل تقدير) كما يقول أحد النقاد [2] .
وإبراز هذه الهوية ليس بدعاً، أو على الأقل ينبغي ألا يكون كذلك في دوائر
أنصار الأدب الحديث ومحاربيه، فهذا شيخ التحديث، وملهم الشعر العربي الحديث
رؤيته وشكله وتشكيله - ت. س. إليوت - يعلن صراحة أنه (أنكلو كاثوليكي في
الدين وكلاسيكي في الأدب، وملكي في السياسة) [3]
ولو تجرأ مثقف ورفع عقيدته بمثل هذه المقولة عن معتقداته الإسلامية
والأدبية والسياسية أمام دعاة الأدب التقدمي لانهالت عليه النقود المتهكمة من كل
وجه.
وهذا يوسف الخال النصراني ديانةً، السوري بلداً، اللبناني مهجراً، والذي
يعد قنطرة مهمة بين إليوت، وحوارييه في العالم العربي، كان يركز على بعث
المفرد التوراتي والإنجيلي، واستثمار نصوصهما في التعبير الرمزي. والدكتور
عبد الواحد لؤلؤة يخبرنا أن (الكتاب المقدس كان العمود الفقري للآداب الأوربية في
شتى عصورها) [4] .
وحضور الإسلام حَكَمَاً لا يعني استبعاد الفائدة من إبداعات الآخرين وتجاربهم
الوجدانية الناضجة في كل مجال، فالشيطان بما يتمتع به من مكانة سيئة، وحضور
بغيض قد يقول الصدق ويتلفظ بالحق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبى
هريرة عن الشيطان: (صدقك وهو كذوب) [5] .
وعمالقة الأدب الحديث الذين يتوجس أكثرهم خيفة من الإسلام، هل وجدوا
في الأنظمة (التقدمية) الأمان على أنفسهم والضمان لفكرهم؟ أم كانت النظرة
الغربية المحضة للإسلام، والتجربة الإسلامية المشوهة في كثير من الأمكنة؛ كانتا
وراء توجسهم وبالتالي وراء اختيارهم لنماذج لا تحسب على الإسلام إلا اعتسافاً
وقسراً كما فعل صلاح عبد الصبور، عندما اختار الحلاج ليعرض من خلاله مأساة
الثقافة والمثقفين وحرية الكلمة، وكيف دفع الحسين بن منصور الحلاج رأسه ثمنا
لفكره [6] وللكلمة التي آمن بها مُدينا (عبد الصبور) العلماء والقضاة الذين ساهموا
ويساهمون في اغتيال (نبتة الحرية وشجرة العبقرية المتمثلة بالحلاج وبالحلاليج
المعاصرين.
والمطّلع العادي غير المتخصص على العصر العباسي يجد أن هموم الثقافة
وشجون الواقع والمستقبل وهمومه والعلاقة الأبية مع السلطة كان يمثلها الإمام
أحمد- رحمه الله - الذي لم يحل سجنه وجلده بينه وبين كلمة الحق، بل إن الموت
نفسه كان احتمالا قائما وقريبا.
إن تلك الوقفة العالية في سماء التاريخ التي وقفها الإمام أحمد - لا قتل الحلاج
-هي التي كشفت للدولة العباسية عزلتها على الصعيد العلمي والشعبي.
فلقد روى الذهبي أن عالما ممن كان له في العطاء سهم، خيرته الدولة بين
أن يناقض الإمام أحمد ويحتفظ بعطائه أو يستمر في تأييده لموقف الإمام أحمد
فيخسر عطاءه، فاختار الثانية، فعلمت العامة التي لم تكد تفهم الموضوع الذي كان
محل خلاف، فعاد الرجل إلى بيته الذي يضم بين جدرانه ثلاثين نفسا يعولهم هذا
العالم فاستقبلوه بالتلوم فرد عليهم: إن الله لن يضيعنا، فلم تغب الشمس إلا
وصاحب حانوت يقرع باب هذا العالم ثم يبادره قائلاً: ثبّتك الله كما ثبتَّ الإسلام! ! كم كان يعطيك هؤلاء؟ يقصد عطاءه من الدولة، فقال: كذا، فقال صاحبة
الحانوت: خذ هذا المبلغ المساوي له ولك مثله كل شهر.
هل كان عبد الصبور مهتما بالحلاج لما يمثله من رمز ثقافي رافض؛ إذا كان
كذلك فالإمام أحمد أولى بذلك، ولكن رُفِضَ رَفْضُ الإمام أحمد لأنه كان ملتزما
بحدود النص الإسلامي في أدب العلاقة مع السلطة التي هي رمز الأمة، فقد كانت
سياط المعتصم تلهب ظهره وهو يقول له يا أمير المؤمنين! ! ! لماذا؟
لأن الخلاف مع السلطة لا يعني إسقاطها، ولأن الإمام أحمد كان على وعى
تام بالنتائج الخطيرة للحركات التي أرادت إسقاط السلطة ابتداء بحركات الخوارج
والشيعة وانتهاء بحركة الفقهاء-مع ابن الأشعث - كان مزيداً من الضحايا وتعميقاً
للخلافات وإجهاضاً للطاقات العامة ومنبعاً لأحزاب جديدة.
أم لعل سر اهتمام صلاح بالحلاج لصوفيته التي ينظر إليها كحركة احتجاج
داخلية تغطي أسئلتها وتساؤلاتها بالرمز، ولربما كان الترميز المعاصر والغموض
والإبهام في الشعر والقصة موصولاً بالرمز الصوفي شكلا ومضمونا، ولعل ذلك
يكشف سر الاهتمام بالشعر الصوفي من قبل المدرسة الحديثة في الأدب.
ولئن كان فوز نجيب محفوظ (ممثل الرمزية [7] في الجناح الآخر للأدب)
بجائزة نوبل موضوع هذا المقال فإني أقول ابتداءً. إن الرجل بكل المقاييس الفنية
قد بات شيخ الرواية العربية كماً وكيفاً، وهذه حقيقة أكبر من أن يماري فيها جَدِلٌ
أو متعنِّت.
فقد توصل إلى إبداع نماذجه الخاصة، وهذا إنجاز ضخم في عالم القصة
والمقصود بالنماذج بعض شخصيات رواياته (الذين هم في حقيقتهم مجرد أفراد حين
نرجع إلى سيرهم، ولكن البشرية حين تأملت ذاتها فيهم، رفعتهم من مستوى
الفردية إلى مستوى النموذج) [8] ومثل ذلك من القرآن - فرعون - وقارون
وأيوب عليه السلام. فالأول لأش اسم شخص بعينه ورمز ونموذج لكل طغيان
سياسي، والثاني رمز لكل طغيان مادي [9] ، والثالث نموذج للصبر والمصابرة.
ولكن نماذج محفوظ كانت محدودة مكاناً ومكانة وموقعاً سياسياً، أما المكان
فهو حي (الجمالية) الشعبي بالقاهرة الذي ظل محفوظ مسكوناً بأجوائه نفسياً وتاريخياً
معلناً أن (هذا الحي هو مصر) [10] وهو عندما ينتقل منه ينتقل جسداً وتبقى
(الجمالية) مضموناً أو ينتقل إلى معادل له (كزقاق المدق) الذي هو أيضاً رمز
لمصر كلها) [11] .
ولنا أن نتساءل كيف تختزل مدينة كالقاهرة، أو كيف تختصر أمة كمصر
وتتوحد خصائصها بحي (الجمالية) أو (زقاق المدق) ؟ .
مصر بتراثها وثرائها الفكري وعطائها المتدفق في كل العصور والدهور
تضؤل لتتمثل في حي شعبي يقول محفوظ عن خصائص الطبقات الشعبية فيه
(يلعب الجنس في حياتها أدوارا رهيبة في سقوط الكثيرين وفي سلوكهم، وحيث
أكثر الناس يتمسكون بالشعارات الدينية، وحيث كثير من الانتهازيين الذين
يستطيعون ببساطة اللعب بالعقول الغبية) [12] .
لِمَ هذا الجمع بين المتمسكين بالشعارات الدينية وبين الجنس ذي الأدوار
الرهيبة في السقوط؟
لم الزج باسم الدين في هذا التشكيل المتنافر؟
أما المكانة فهل هذه النماذج المنحرفة هي المثل الاجتماعي الوحيد الموجود في
هذا الحي؟ وهل تقلص الخير إلى الحد الذي يخيل فيه القارئ (نجيب) تفرد
النموذج الساقط وانفراده واستئثاره بالساحة؟
وهل مسؤولية الكاتب فقط تشريح النموذج وتقبيحه حتى تتحدد مواقف القراء
من هذه الحشرات البشرية؟
إن ذلك إنجاز مهم ولا شك، ولكنه ليس كافياً، فالقرآن ذكر خيانة امرأتي
نوح ولوط ثم أعقبهما مباشرة بنموذج مضيء - امرأة فرعون - ولعله سلك هذا
المسلك (والله أعلم) حتى لا تفتقد المرأة صورتها الطيبة بسبب هاتين المرأتين
المترديتين بما أغضب الله ورسوليه، وربما كان في استقدام نموذج امرأة فرعون
من بيئة تجاوزت في فسادها حي (الجمالية) -كانت امرأة فرعون تحت رجل يقول
(أنا ربكم الأعلى) - ربما كان في ذلك إشارة واضحة إلى أن الزهور قد تتفتح في
أسوأ الأمكنة مناخاً وبيئةً.
ولما كان فرعون يتهدد ويتوعد ويطلب ألا يحال بينه وبين موسى [ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَى] [غافر: 26] ، وكان الجمهور غارقاً في التصفيق رغبة أو رهبة لهذا البهلوان، كان القرآن يسمعنا صوت احتجاج متعقل يجبه هذا الطوفان بقوة هادئة أو بهدوء قوي! وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: [وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ] [غافر:28-34] ... ألم يكن في (حي الجمالية) رجل رشيد؛ أم أن الكاتب لم يشأ أن يوجد هذا الرجل؟
في رواية (السكرية) يقول محفوظ على لسان سوسن حمّاد:
(المقالة صريحة ومباشرة، ولذلك فهي خطيرة، أما القصة فذات حيل لا
حصر لها، إنها فن ماكر) [13] .
يقول الأستاذ إبراهيم عامر في عدد الهلال الخاص عن نجيب محفوظ 1970
معلقاً على ذلك:
(هذه العبارة تبدو لي وكأنها الدستور الذي التزم به نجيب محفوظ منذ بدأ
يكتب) .
هل تخفّى (نجيب) من خلال قصصه بأبطاله أو من وراء أبطاله ليعرض
شكوكه أو أزمته الإيمانية، لا أزمة هؤلاء الأبطال؟
إن أبطال القص ليسوا إلا وجوها مختلفة للكاتب، وبينهم وبينه مشاعر متبادلة، وتطورهم أو انحدارهم في عالم الفن القصصي ذو صلة قوية بوجودهم في عالم
الواقع أحيانا كثيرة؛ كان نجيب محفوظ يكتب في (المجلة الجديدة) 1934-1938
التي كان يصدرها سلامة موسى مقالة عن (الله) وصفت بأنها جريئة عدد يناير
1936 ثم يقول في عدد مارس 1936 بعد عرضه (لفكرة الله في الفلسفة) :
(والآن فلنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما الذي تتركه في النفس جميع هذه الآراء
من الأثر؟ إن البراهين العقلية تمهيد حسن، ولفت قيّم، ولكنها لا تبلغ بالإنسان
درجة الاعتقاد الحقيقي… وإني أجد نفسي بعد الاطلاع عليها حيث كانت من القلق
والاضطراب) [14] .
ويقول أحد كبار النقاد:
(تحضرني لنجيب محفوظ هنا مجموعته القصصية (دنيا الله) وفيها شجب
أسلوبه التقليدي في القص، وتخطى حدود المظهر من الوجود إلى مطلق الوجود،
ولقد اصطنع العبث أو اللامعقول أحيانا ولجاً إلى الرمز في أثناء مناقشته لقضيتي
الحياة والإيمان، ونلحظ بسهولة أنه وهو يطلب منا أن نتجاهل الموت
لعشوائيته [15] ينادي بعفوية العقيدة، ولكنه يلح على الإحساس بالغربة والضياع.
أتراه فقد الإيمان؟
لماذا يبدو وكأنه يرفض السعادة ويأبى أن يرسم طريق النجاة؟ .
(نستطيع أن نقول إن نجيب محفوظ الذي سلّم بمقدرات الدين في أكثر أعماله، وقف إزاءها هذه المجموعة - أي دنيا الله - وقفة المواجه المتحدي، أو وقفة
المتسائل المشدوه، ولنقل وقفة المحيَّر أمام أخطر المشكلات) [16] .
أما محدودية نماذج محفوظ في الموقع السياسي فأضرب لذلك مثلاً بقصته
(ميرامار) والتي جعل فيها (زهرة) البطلة رمزاً للثورة المصرية (23يوليو) كما
يرى كثير من دارسي هذه القصة. وبقية الأبطال رمز لمواقف القوى القائمة في
الساحة من الثورة، (عامر وجدي) صحفي قديم شارك في كفاح الشعب، (حسني
علام الماجن، منصور باهي) التقدمي فكراً الخ ... هل هؤلاء فعلاً وغيرهم الذين
في القصة هم وحدهم الذين كانت لهم آراء ورؤية وموقف من ثورة يوليو؟
ألم تكن قوى أخرى وقفت مستندة إلى عقيدتها الإسلامية تحاور ثم تناوئ هذه
الثورة [17] .
وقصة (السراب) التي ولد فيها البطل من رحم الدراسات النفسية الغربية -
لا من البيئة المصرية - وذلك ليكون للعرب نموذج كأوديب وهاملت والاخوة
كارامازوف، ولو كانت الحقائق الاجتماعية العربية لا تسعف الكاتب، فهل يعقل
أن يظل الطفل (كامل رؤية لاظ) طفلاً في تعلقه بأمه يكبر فيه كل شيء (إلا هو)
(يستحم معها فتضعه في الطست عاريا وتجلس أمامه متجردة، وكان لا يطيق
فراقها، وكانت هي كذلك لا تطيقه (أي الفراق) كانت قد حشدت كل أمومتها من
أجله بعد أن استرد زوجها الطفلين الآخرين وفضلاً عن هذا كان بين الطفل وأمه
تشابه كبير، فقد كان وجهه نسخة من وجهها، وقد اعتاد أن ينام في سرير أمه حتى
بلغ السادسة والعشرين من العمر، وحين أنبه جَدُّه على ذلك ابتاع سريراً آخر ولكنه
وضعه في حجرة أمه) [18] .
والكلمة الأخيرة في (المجيز) أي مانح الجائزة، فمن المعلوم أن قمة أعمال
محفوظ الأدبية كانت قد تحددت وظهرت قيمتها وتم نضجها قبل منح الجائزة
بسنوات وما أضيف أخيراً لم يعط الكاتب وقصصه مزايا تنتزع الجائزة.
ولكن المزايا جاءت من خارج النص الأدبي ومن خلف سور القص، من عالم
السياسة عندما أضفى محفوظ على أدبه (طابع الإنسانية) وذلك (بضرورة العلاقة مع
إسرائيل، والصلح مع اليهود والتفاهم مع الصهيونية لعيش مشترك في فلسطين
ومصر ولبنان) .
في كلمة مختصرة للناقد جهاد فاضل في مجلة الحوادث 1987/11/13
بعنوان سقوط جائزة أم سقوط حضارة؛ أنقل بعض ما جاء في هذه الكلمة الرائعة
وإن كانت جديرة كلها أن تنقل:
(إذا كان القانون يقول: الأصل براءة كل إنسان حتى يثبت العكس فالأصل
في جائزة نوبل أنها متهمة حتى يثبت العكس، ذلك أن الواقع يثبت أن وراء منح
هذه الجائزة الأدبية الهامة، مقاصد غير بريئة فهي لا تعطى كل سنة ومنذ سنوات
بعيدة إلا لكاتب يهودي، أو لكاتب منشق أو لمولى من موالي الغرب، ولو كان
كاتبا من الدرجة الثالثة ولو كان في العالم عشرات الكبار الأصلاء والمستحقين.
في أدق تعريف لجائزة نوبل، يمكن القول أنها جائزة النظام العام الغربي
الأدبي والفكري والسياسي، وليست شيئاً آخر، جائزة النظام العام للغرب لا جائزة
الأدب والقيم الأدبية
والإنسانية الرفيعة، وتاريخها ناطق أنها لا تمنح إلا من زاوية خدمة أهداف
الغرب العليا، أداة من أدواته تماماً كالبندقية والمدفع والرادار وما إلى ذلك.
ويفضل (في المنهج) المنشق على أيدلوجية الشرق والمبهور بالغرب وثقافته
وحضارته) .
(وعندما يدعى هذا المنشق في الأسباب الموجبة لمنحه الجائزة ثائراً عربيا أو
إسلامياً في حين أنه ثائر على العروبة والإسلام) .
(بدأت جائزة نوبل عندما أراد عالم سويدي اسمه نوبل -التكفير عن ذنب
ألحقه بالإنسانية هو اختراعه للديناميت ولكن اللجنة القائمة على الجائزة كثيرا ما
تعطيها للتفجير لا للتكفير، وبذلك تراعي الاختراع الأصلي أكثر مما تراعي رغبة
التوبة عند مؤسسها.
***
[اجعل بينك وبين صنم الإفرنج بونا شاسعاً..
فعهده وميثاقه لا يساويان حبة شعير..
خذ النظرة من عين الفاروق..
وضع القدم الجريء في العالم الجديد..]
محمد إقبال
__________
(1) بمناسبة حصول القاص نجيب محفوظ على جائزة نوبل.
(2) دراسات في النقد الأدبي، د أحمد كمال زكي، دار الأندلس ص: 191.
(3) قلعة أكسل، إدمون ولسون ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
ص 105.
(4) البحث عن المعنى دراسات نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د عبد الواحد لؤلؤة،
ص: 86.
(5) رواه البخاري، فتح الباري، 6/336 ? حديث رقم 3275.
(6) انظر عن الحلاج الفتاوى لابن تيميه (الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) 11/239.
(7) انظر الرمزية في أدب نجيب محفوظ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فاطمة الزهراء محمد سعيد.
(8) مجلة فصول، مجلد 2، العدد الأول أكتوبر 1981 العدد الخاص عن صلاح عبد الصبور،
ص 37، من مقال د عز الدين إسماعيل، عاشق الحكمة حكيم العشق.
(9) قصة قارون في مجلة البيان، عدد 14، ص 15.
(10) في الجهود الروائية ما بين سليم البستاني ونجيب محفوظ، ص 105، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د عبد الرحمن ياغي.
(11) الرمزية في أدب نجيب محفوظ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فاطمة الزهراء محمد سعيد ص 14.
(12) في الجهود الروائية ما بين سليم البستاني ونجيب محفوظ، ص 14، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د عبد الرحمن ياغي.
(13) المصدر السابق، ص 96 في 11 و9.
(14) المصدر السابق، ص 94 في 12 و9.
(15) (عشوائية) تعكس رؤية الشاعر الجاهلي في الموت، انظر معلقة زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ومعتقد المسلم أن الموت من- مقِّدر حكيم.
(16) دراسات في النقد الأدبي، د أحمد كمال زكي، دار الأندلس، ص 192.
(17) الرمزية في أدب نجيب محفوظ /2225وما بعدها.
(18) التفسير النفسي للأدب، د عز الدين إسماعيل، دار المعارف1963، ص260-261.(16/60)
أدب وتاريخ
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين
-2-
محمد بن صامل السلمي
3- سيادة العدل والمساواة بمفهومها الإسلامي الصحيح:
وذلك أن التفاضل بين البشر قوامه الميزان الذي قرره الله في كتابه. قال
تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات/13] ، وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» [1] .
والأدلة الواقعية والتاريخية على سيادة هذا المبدأ في عصر الخلفاء الراشدين
أكثر من أن تحصى، فهذا الخليفة الأول أبي بكر الصديق يطلب في أول خطبة له
من الرعية أن تقوّم ما ترى فيه من خطاً أو اعوجاج [2] .
وهذا عمر بن الخطاب يتقاضى وهو خليفة مع أبي بن كعب الأنصاري عند
قاض المدينة في عهده زيد بن ثابت، فيأتي عمر وأبي ابن كعب إلى مجلس القضاء، ويقول زيد لعمر: لو طلبتني يا أمير المؤمنين لأحضر عندك. فيرد عليه عمر:
مقرراً قاعدة مهمة من قواعد التقاضي وهي قاعدة المساواة: في بيته يؤتى الحكم.
ثم يحاول زيد-من باب الإكرام للخليفة-أن يدني مجلس عمر، فيأبى عمر إلا
أن يجلس مع خصمه على قدم المساواة ويقول لزيد: هذا أول الجور منك.
وبعد أن يدلى كل من الخصمين بحجته، يحكم زيد باليمين على عمر ثم
يطلب من أبى بن كعب أن يعفى أمير المؤمنين من اليمين لكن عمر أصر على تنفيذ
ذلك، فيحلف كما حكم القاضي، وبعد أن استحق الأرض المتنازع عليها قضاء
وهبها عمر لأبي بن كعب [3] .
ومرة جاء رجل من المسلمين فقال لعمر: اتق الله، فقال أحد الحاضرين:
أتقول ذلك لأمير المؤمنين، فرد عليه عمر بقوله: دعه يقلها فلا خير فيكم إن لم
تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم [4] .
ومن مظاهر المساواة والعدل توزيع الفيء وأخماس الغنائم على كافة المسلمين
فإن عمر رضي الله عنه لما دون ديوان العطاء جعل لكل مسلم حق في ذلك العطاء
حتى المواليد، فبمجرد ولادة طفل لأحد المسلمين يسجل أسمه في الديوان ويفرض
له عطاؤه وكان عمر يقول: لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من
هذا المال وهو يرعى مكانه دون أن يسعى لطلبه [5] . ويقول أيضاً: والله ما أحد
أحق بهذا المال من أحد، ووالله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال
نصيب، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله [6] .
وقد واسى رضي الله عنه الناس بنفسه في عام الرمادة فامتنع عن أكل اللحم
والسمن حتى توفر ذلك لعامة الناس ومضت أزمة المجاعة وجاءهم الفرج من الله.
يقول أنس رضي الله عنه: غلا الطعام بالمدينة فجعل عمر. رضى الله عنه
يأكل الشعير وجعل بطنه يصوّت فضرب بيده على بطنه وقال: والله مما هو إلا ما
ترى حتى يوسع الله على المسلمين [7] .
وعن طاووس قال: جدب على عهد عمر فما أكل سمناً ولاسمينا حتى أخصب
الناس [8] .
4 - سيادة مبدأ الشورى قاعدة للتعامل بين الحاكم والمحكوم:
مبدأ الشورى من المبادئ الإسلامية الهامة التي توفر الأمن والطمأنينة للأفراد
والاستقرار السياسي للدولة، ويؤدي إلى إشاعةء المحبة وبث روح التعاون
والتناصح بين الحاكم والرعية، وهو ضروري حتى لا ينفرد الحاكم بالأمر والرأي
الذي قد لا يكون صواباً فإن رأي الجماعة خير من رأي الواحد لأنه يأتي بعد نظر
ودراسة وتفكر في الأمر وعواقبه. ومن ثم تضمن الأمة أكبر قدر من إصابة الحق، قال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل
العلم والدين فعزله واجب [9] .
وقد قال تعالى مثنياً على المؤمنين ومعدداً بعض صفاتهم: [والَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] [الشورى/38] .
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: كان الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله
عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه فمدحهم الله به. ونقل
عن الحسن البصري أنه قال: انهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا
يختلفون فمدحوا باتفاق كلمتهم [10] .
وقال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ] [آل عمران: 159] .
أخرج ابن أبى حاتم بسند حسن -كما قال الحافظ في الفتح [11] عن الحسن
قال: قد علم أنه ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده.
فالشورى مشاركة في المسئولية وضمانة من الانحراف ولهذا بوب البخاري
رحمه الله في صحيحه بهاتين الآيتين باباً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة [12] .
وهذا فقه عميق ونظر دقيق من البخاري رحمه الله لأهمية الشورى وكون
العمل بها اعتصام بالكتاب والسنة وبعد عن الانحراف والبدعة، مما أحوج دعاة
الإسلام اليوم إلى تدبره وتفهمه لتسلم دعوتهم من القرارات العشوائية، والاتجاهات
الفردية. وقد وردت الآثار عن الأئمة في مدح الشورى وبيان فضائلها. قال الحسن
البصري: ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم، وفي لفظ:
إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع [13] .
وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط! ! إذا حزبني أمر شاورت قومي فعملت
الذي يرون فإن أصبت فهم المصيبون وان أخطأت فهم المخطئون [14] .
وقال البخاري: كان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم (يستشيرون
الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى
غيره) [15] .
وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، ومسار للعقول، وسبب إلى
الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا [16] .
ولقد كانت سيرة رسول صلى الله عليه وسلم وخلافة الخلفاء الراشدين من بعده
تطبيق واقعي لمبدأ الشورى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من
الله يسدده يصفه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله. ما رأيت أحدا أكثر مشورة
لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم [17] .
وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمور العامة كما في
القتال يوم بدر، وفي أسرى بدر وفى أحد والخندق والحديبية بل حتى في الأمور
الخاصة، كما في قصة حادثة الإفك.
أما الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم جميعاً فقد وقعت منهم في خلافتهم أمور
كثيرة توضح التزامهم بهذا المنهج الشوري منها: تشاورهم في اختيار الخليفة،
ومنها استشارة أبى بكر رض الله عنه في قتال أهل الردة، وقد أخرج البيهقي بسند
صحيح عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رض الله عنه إذا ورد عليه أمر
نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قض بينهم وإن علمه من سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة فإن
أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلمائهم واستشارهم. وإن عمر كان يفعل
ذلك [18] . وقد كان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً [19] .
وقد شاور عمر الصحابة في الصحابة في إملاص المرأة [20] ، وأيضاً في
قتال الفرس [21] ، وفى دخول الشام لما وقع الطاعون بها [22] .
وقد ترك عمر الخلافة من بعده شورى.
وشاور عثمان رضى الله عنه الصحابة أول خلافته فيما يفعل بعبيد الله بن
عمر لما قتل الهرمزان ظناً منه أن له في قتل أبيه مدخلاً [23] .. وشاور الصحابة
في جمع الناس على مصحف واحد، قال علي بن أي طالب: (ما فعل عثمان الذي
فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا) [24] ...
فهذه الوقائع من تاريخ الخلفاء الراشدين توضح بما لا مزيد عليه التزامهم
بمنهج الشورى في كافة الأعمال المحتاجة إلى ذلك مثل بعث الجيوش واختيار القادة
وحكام الأقاليم والولايات والاجتهاد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها
بخصوصها.
وقد كانت الشورى طريقاً ومنهجاً في اختيار الخلفاء الأربعة للإمامة العظمى،
وإن اختلفت صور المشاورة، وقد قال عمر رض الله عنه: من بايع رجلاً من غير
مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي يبايعه [25] . مما يدل على التزام
الشورى في البيعة والخلافة.
5- قيام الجهاد والعلاقات الدولية في عهدهم على مقتضى الشرعية:
من المعلوم أن الدولة الإسلامية دولة متميزة في منهجها وتصورها وسياستها
لأنها تأخذ أحكامها ونظمها من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولذا فإن
علاقتها مع غير المسلمين محكومة بتلك النصوص والأحكام.
ولقد أقام الخلفاء الراشدون علاقاتهم مع غير المسلمين على موجب تلك
الأحكام. فالأرض إما.
1- دار إسلام: وتطبق فيها أحكام الشريعة على كافة المقيمين فيها سواء
كانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأن غير المسلم لابد أن يدفع الجزية للأحكام
الإسلامية التي شرعها الله في حق أهل الذمة، وللشروط التي وضعها الخلفاء،
وهى مفصلة في كتب الفقه ومنها أن يلتزموا بآداب المسلمين الظاهرة ولا يرفعوا
صليبا ولا يشربوا خمرا ولا يؤذوا مسلما ولا يبنوا كنيسة ولا يدعوا أحدا إلى دينهم
ولا يرفعوا دورهم فوق دور المسلمين، ولا يحتفلوا بأعيادهم ظاهراً ولا ينشروا
شيئاً من كتبهم بين المسلمين [26] .
ب - أو دار كفر، وتنقسم هذه الدار إلى قسمين: دار صلح وعهد، ودار
حرب.
فأهل الصلح والعهد يوفى لهم بعهدهم إذا حصل منهم الوفاء، والعهد والصلح
لا يكون مستمراً إلى الأبد بل لابد من توقيته بأجل، ومن العلماء من جعل أطول
مدة للعهد والصلح عشر سنين أخذاً من أطول مدة صالح بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم المشركين في صلح الحديبية [27] .
أما أهل الحرب فلا علاقة بينهم وبين المسلمين إلا السيف والقتال والأخذ بكل
طريق ومرصد -إذا أقيمت عليهم الحجة وكان بالمسلمين قوة واستطاعة- لإرغامهم
على الخضوع لله ولدينه وليكون الدين كله لله، قال تعالى: [فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ
الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
[التوبة /5] .
وقد طبق الخلفاء الراشدون هذه الأحكام بأعلى وأتم ما يكون التطبيق وكسرت
في عهدهم أكبر دولتين في العالم في ذلك الزمن الدولة الفارسية والدولة الرومانية
وأورث الله المسلمين أرضهم وأموالهم وأنفقت كنوزهما في سبيل الله وخضعت
أراضيهم لحكم المسلمين وأصبحت دار إسلام، ومن لم يسلم من أهل تلك المناطق
طبقت عليه أحكام أهل الذمة وأخذت منه الجزية مقرونة بالذل والصغار كما أمر الله
تعالى: [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ
وهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] .
كما ضربوا العشور على تجار غير المسلمين إذا مروا بأرض الإسلام أما
المسلمون فلا يؤخذ منهم عشور ولا ضرائب وإنما تؤخذ منهم الزكاة المفروضة،
ووضع الخلفاء الراشدون الخراج على الأرض حسب التفصيلات المقررة في
مواطنها.
أما جزيرة العرب فقد أخرجوا منها اليهود والنصارى ولم يبق فيها إلا مسلماً
تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته في آخر حياته حيث قال:
«لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً» [28] ،
وقوله: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب [29] .
6- الحماس في نشر الإسلام:
وظيفة الدولة الإسلامية هي نشر الدين حتى يعبد الله وحده، ولهذا عرف ابن
خلدون الخلافة بقوله: هي نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة
الدنيا [30] .
والدولة تنفذ هذه الوظيفة بالجهاد وفتح البلدان وبالدعوة والتعليم لأوامر الدين
ونواهيه وكافة أحكامه الشرعية. فحركة الجهاد والفتح العسكري لا بد أن يصحبها
ويتبعها الدعاة والمعلمون ليفقهوا الناس في دينهم وهذا التلازم بين الفتح العسكري
والتعليم أمر ضروري لابد منه لاستقرار الدعوة والدولة ولابد من ملاحظة التوازن
المطلوب في هذا الجانب، فبقدر التوسع في الأرض يكون التوسع في الدعوة
والتعليم حتى لا يختل ميزان التربية وتحدث الخلخلة في الصف الإسلامي وتتوسع
الفجوة بين الفاتحين وسكان الأراضي المفتوحة مما يتسبب في حدوث ظواهر سلبية
تؤثر في تماسك الصف الإسلامي ووحدته السياسية والفكرية.
وقد بذل الخلفاء الراشدون ما استطاعوا في سبيل حدوث هذا التوازن بين
حركة التوسع الأفقي في فتح البلدان وبين التوسع الرأسي في تعليم الناس وتفقيههم
في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن رغم وجود البذل والحماس في ميدان التقليم والتربية على تعاليم هذا
الدين إلا أن الملاحظ أن التوسع في الأرض كان سريعا وواسعا فقد فتحت العراق
وما وراءها والشام ومصر في سنوات قليلة معدودة فلم يكن في مقدرة الطاقة البشرية
في ميدان التربية والتعليم استيعاب الأعداد الهائلة من سكان تلك المناطق وتعليمها
كما لم يكن الزمن كافيا لرسوخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم مما ساعد مع
غيره من العوامل فيما بعد على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج
الإسلامي مما سبب ظهور الفرق والأهواء المتشعبة.
وبعد فهذه جملة من أهم المعالم البارزة في تاريخ الخلافة الراشدة أردنا بالتنبيه
إليها توجيه أنظار دعاة الإسلام إلى الاستفادة من هذا التاريخ المشرق والسير على
منوالهم فإنهم القوم بهم يقتدى وبهديهم وسنتهم يسلك ويتبع، والله الموفق والهادي.
__________
(1) المسند للإمام أحمد بن حنبل 5/411.
(2) ابن هشام، السيرة النبوية 2/661، والطبري 3/210.
(3) أخرج القصة ابن شبه في أخبار المدينة 2/755-756 بإسناد صحيح من طريقتين عن الشعبي.
(4) ابن الجوزي: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ص155.
(5) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/299، ومسند أحمد حديث رقم 262، ط شاكر.
(6) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/299.
(7) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/1313، وابن شبه، أخبار المدينة 2/ 742، ومنتخب كنز العمال 5/397.
(8) وابن شبه، أخبار المدينة 2/742.
(9) المحرر الوجيز 2/280.
(10) تفسير القرطبي 16/36.
(11) فتح الباري 13/340.
(12) انظر صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28) .
(13) فتح الباري 13/340، وقال ابن حجر: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم بسند قوي.
(14) تفسير القرطبي 16/37.
(15) الصحيح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28) .
(16) أحكام القرآن 4/1868.
(17) أشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد من سنته بقول: ويروى عن أبي هريرة، وقال الحافظ في الفتح 13/340، رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
(18) ذكره الحافظ في الفتح 13/342.
(19) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28) .
(20) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (25) .
(21) فتح الباري 13/342.
(22) المصدر السابق.
(23) ذكره الحافظ في فتح الباري 13/342، وقال رواه ابن سعد وغيره بسند حسن.
(24) ذكره الحافظ في فتح الباري 13/342، وقال أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف،
وسنده حسن.
(25) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب (31) .
(26) انظر ذلك مفصلاً في كتاب أحكام أهل الذمة للحافظ ابن القيم.
(27) حكى الطبري في كتاب اختلاف الفقهاء (ص 14) الإجماع على أن الصلح بين المسلمين والكفار لا يكون إلى الأبد.
(28) رواه مسلم 3/1388، حديث رقم (1767) .
(29) طرف من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة.
(30) المقدمة /191.(16/69)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
السلام في أفغانستان
خطط ومكائد
حينما حصل الانقلاب الشيوعي في أفغانستان على محمد داود لم يدر بخلد
الشيوعيين السوفييت، ولا عملائهم الشيوعيين الأفغان أن حرباً - كالحرب التي
حدثت في أفغانستان - ستحدث، ولم يقدروا أن الشيوعية، بما لها من جبروت،
سوف يهزمها شعب فقير وشبه منعزل.
ولذلك، وبعد أن تأكد للسوفييت عقم محاولاتهم في إخضاع هذا الشعب! وفي
تسليط شرذمة من عملائهم لإذلاله وكسر شوكته! لم يبق من الحكمة إلا أن يفكروا
بطريق غير الطريق العسكري يحققون به ما عجزت الآلة العسكرية عنه، وضمن
هذا الإطار ينبغي أن تفهم التحركات الأخيرة للحكومة السوفييتية، وتأتي الخطوة
الأخيرة للسوفييت في سياق إطار عام من الانفراج الدولي بين القوى الكبرى، ومن
محاولات ترميم النظام الشيوعي في داخل الدول التي تتبناه، بعد أن وصلت حالات
جموده ونفور الناس منه إلى منتهاها. وكانت مبادرة غورباتشيف التي اقترحها في
خطابه في الأمم المتحدة في 7/12/1988 تتضمن النقاط التالية:
وقف إطلاق النار ابتداءً من 1/1/1989م.
بقاء الأطراف المتحاربة في الأماكن التي تسيطر عليها.
وقف إمداد السلاح لأي من الأطراف منذ 1/1/1989م.
تأليف حكومة ذات قاعدة عريضة، حسب قرار الأمم المتحدة.
إرسال قوة من الأمم المتحدة إلى كابل وبعض المراكز الاستراتيجية.
عقد مؤتمر بواسطة الأمم المتحدة في فترة قريبة حول حياد أفغانستان ونزع
السلاح فيها.
تساهم روسيا في تضميد جراح الحرب مع الأمم المتحدة والدول الأخرى.
إنشاء قوة سلام دولية تكونها الأمم المتحدة من أجل إعادة بناء أفغانستان.
ومن محاولة البحث عن الأسباب والأهداف وراء هذه المبادرة، فإن الدارس
يخرج بالنتائج التالية:
1- حفظ ماء الوجه، والتغطية على الهزيمة الفعلية، حيث إن السوفييت
فشلوا في تحقيق ما يريدون، والآن يعرضون خطة انسحاب تحت مظلة الأمم
المتحدة.
2 -إن التركيز على حياد أفغانستان ونزع السلاح منها، يعني أن السوفييت
لا يطمئنون إلى الشعب الأفغاني وبخاصة بعد معرفتهم بمدى جنايتهم عليه.
3- محاولة تمرير العناصر الشيوعية خلال حكومة ذات قاعدة عريضة
تضمهم وتضم غيرهم، بعد فشلهم في إقامة حكومة شيوعية خالصة، وفى هذا
اعتراف بالفشل من جهة، ومحاولة التزام بأضعف الإيمان بعملائهم وعدم التخلي
عنهم.
نقاط الالتقاء والافتراق في الموقف السوفييتي والأمريكي:
إن الموقف الأمريكي يتلخص بأن يجلو السوفييت عن أفغانستان وأن تسقط
الحكومة الموالية للسوفييت، وأن تقوم حكومة لا أثر للنفوذ الشيوعي فيها، ولا
بأس أن تكون موالية لهم.
والأمريكان والروس متفقون على عدم تشجيع قيام حكومة إسلامية، فليس من
مصلحتهم جميعاً أن يكون وجه هذه الدولة إسلامياً واضحاً: تشريعاً، وتوجهاً، وإذا
كان بإمكان روسيا - باعتبارها قوة كبرى مجاورة لأفغانستان - أن تضغط من أجل
ذلك؛ فإن أمريكا لها وسائلها أيضاً حيث يمكنها أن تضغط إما بشكل مباشر عن
طريق قطع إمدادات الأسلحة، وإما بطريق غير مباشر عن طريق الطلب من إحدى
وكيلاتها في المنطقة للضغط على المجاهدين.
موقف باكستان وإيران:
لابد من الحديث عن موقف كل من باكستان وإيران باعتبارهما جارتين
لأفغانستان، وموقفهما يفهم على ضوء الانفراج بين السوفييت والأمريكان، ثم على
ضوء التغيرات الأخيرة في كل من الدولتين.
فباكستان بوتو غير باكستان ضياء الحق، وبوتو - التي لم تصل إلى ما
وصلت إليه إلا بعد اتفاقات وتطمينات، وتطابق في بعض وجهات النظر بينها
وبين أمريكا - لا تستطيع إلا أن تنفذ ما تتطابق فيه النظرتان، وأهمه كبح المطالبة
بحكم إسلامي صحيح في أفغانستان، وتلتقي في ذلك مع إيران، حيث إن وحدة
الأصل الذي ينحدر منه حكام طهران وحاكمة باكستان الآن يساعد على ذلك.
فإيران التي تقدم نفسها للمسلمين - دون حق - كناطق رسمي باسمهم في
العالم تعلم جيداً أن قيام حكم إسلامي للمجاهدين في أفغانستان يخالف في أصوله
وفروعه أسلوبها؛ أمر لا يسرها، بل هو من قبيل المضاربة والمنافسة التي. لا
ترتضيها.
موقف المجاهدين:
إن موقف المجاهدين في هذه الفترة يتمتع ببعض النقاط القوية، ومن ذلك أن
السوفييت تجاوزوا الحكم الشيوعي في أفغانستان واتصلوا بهم مباشرة، وكذلك
اعتراف السوفييت بسيطرة المجاهدين على مواقعهم، وإظهارهم أنهم ماضون في
استكمال، انسحابهم.
كما أن إصرارهم - أي المجاهدين - على مخاطبة روسيا بصوت واحد له
دلالة طيبة، وقد لخص موقف المجاهدين قلب الدين حكمت يار في مؤتمر صحفي
عقده في بيشاور بتاريخ 10 /12/ 1988م نقتطف منه بعض الفقرات:
وقف إطلاق النار المقترح:
إن قضية وقف إطلاق النار في منظورنا قضية غير معقولة وغير عملية ما لم
يتم استئصال الأسباب التي كانت، وراء نشوب القتال في أفغانستان بادئ ذي بدء
والتي لا تزال قائمة، وفي مقدمتها عدم انسحاب القوات الروسية التام من أفغانستان، وعدم سقوط النظام الشيوعي الألعوبة، الملطخة يداه بدماء مئات الألوف من
الأبرياء من أبناء الشعب، وإن أي اتفاق على غير هذا الأساس سيكون خداعاً
للشعب.
نزع السلاح:
لن نرضى بتاتاً باقتراح نزع السلاح في أفغانستان تحت أي ظرف من
الظروف، حتى في المرحلة التي ستعقب النصر. إن دولة كأفغانستان مجاورة
لدولة توسعية كروسيا لا يمكن لها المحافظة على استقلالها السياسي عن طريق
الاحتفاظ بجيش محدود الحجم، أو بشعب منزوع السلاح.
قوات حفظ السلام:
إننا نعتبر إرسال أي قوات أجنبية إلى أفغانستان تحت أي اسم كان أو أية
ذريعة كانت اعتداء خارجياً، وإننا سنجابه هذا الأمر بكل ما أوتينا من قوة. كما أنه
سيكون بمقدور أمتنا في مرحلة ما بعد الانسحاب الروسي وضع حلول كفيلة لتسوية
مشاكلها وبدون الحاجة إلى عون من أي قوى خارجية.
وبالجملة فإننا نكرر مرة أترى أن الحل الوحيد للمشكلة الأفغانية هو الانسحاب
غير المشروط للقوات الروسية، وسقوط نظام نجيب الله، وضمان حق تقرير
المصير للشعب الأفغاني.
ومن جهة أخرى نقلت وكالة أنباء البنيان التابعة للمجاهدين في 7/12/1988م
رفض الشيخ سياف وعدم اعتقاده بجدوى التفاوض مع الروس قبل إتمام انسحاب
قواتهم بالكامل من أفغانستان.
المحاذير:
إن ما يجب أن يتنبه إليه المجاهدون هو أن روسيا التي فشلت في إملاء
رغباتها عن طريق القتال قد تنجح عن طريق التفاوض والمناورات، وروسيا
ماضية في خططها الخبيثة فهي تحرص على شق المجاهدين، وعلى مخاطبة كل
فريق على حدة، فقد اتصلت بالملك السابق وله أنصاره وعملاؤه، وكذلك حرصت
ش أن تتصل بإيران ومن يلوذ بها من أنصارها وعملائها، قبل أن تلتقي مع قيادة
المجاهدين في باكستان.
وروسيا تحرص كل الحرص على اللعب على التناقضات، وتكبير الصغير
من الخلافات الفرعية، كما أنها تحرص على أن ينضم إليها في عدائها وخصومتها
للمجاهدين وما يمثلون؛ لا أمريكا وممثلوها، وإيران وبطائنها؛ بل أناس وفرقاء
من المجاهدين أنفسهم، فهل يمكنها قادة المجاهدين من ذلك؛ نسأل الله أن يدفع
البلاء.
بعد فراغنا من كتابة التعليق السابق عن آخر أخبار القضية الأفغانية! وصلنا
هذا التقرير الذي نضعه بنصه ولا يختلف في فحواه عما أشرنا إليه.
يحول حكام إيران اهتمامهم من حرب الخليج، إلى مرحلة حاسمة من صراع
القوى في أفغانستان، ومن المرجح أن يشاركوا في مباحثات الصفقة الأخيرة التي
سيتمخض عنها نشوء حكومة ائتلافية يستبعد الشيوعيون منها، وقد يشكل ائتلاف
كهذا أفضل حل للسوفييت -الذين باتوا على استعداد للتخلص من نظام نجيب الله -
يحفظ لهم ماء الوجه، ويرضي باكستان، حسب معلومات نشرة (Foreign
Report) [1] بهذه التحركات السرية الأخيرة.
ولكل من إيران وباكستان -كما للاتحاد السوفييتي - مصلحة قوية في إقامة
حكومة مستقرة، وغير معادية في أفغانستان. وتشترك إيران مع أفغانستان في
حدود دولية مفتوحة، وزعماء إيران الدينيون تواقون لرؤية رفاقهم الشيعة - الذين
لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من الشعب الأفغاني السني - يظفرون بنصيب اكبر
من صفقة قادمة.
وتتخذ ثمانية أحزاب شيعية أفغانية من إيران قاعدة لها، وتعد (حركة إسلامي)
التي يقودها شيخ محسني - من قندهار - أكبر تلك الأحزاب، وتريد إيران أن
يلعب محسني دوراً رئيسياً في أي تسوية في أفغانستان.
وقد يكون لأربعة أحزاب صغيرة أخرى تحظى بدعم إيران وتنشط في الأماكن
النائية دوراً في تسوية مقبلة، وعلى أية حال فإن تلك الأحزاب تبدي منذ وقت
طويل رغبتها في إنشاء قاعدة سياسية بدلاً من مقاتلة الروس، كما أن إيران تتودد
منذ مدة إلى البروفسور برهان الدين رباني أهم زعماء الأفغان الذين يتخذون من
بيشاور في باكستان قاعدة لهم، وكان رباني قد مكث في زيارته الأخيرة لطهران
أطول من الفترة المقررة للزيارة، كما أنه استقبل من قبل الرئيس على خامنئي
استقبال رؤساء الدول، ويتزعم رباني حزب (الجمعية الإسلامية) وهى أكبر
الجماعات في إقليم هرات والإقليم الشمالي، كما أن لديها أكبر عدد من المقاتلين في
ساحات القتال، وسيكون رباني في أي ائتلاف يخلف نجيب الله.
وقالت مصادرنا إن رباني - خلال زيارته لطهران - وعد الشيعة الأفغان
باحترام مطالبهم الهادفة إلى الحصول على تمثيل عادل ومشاركة في السلطة في
ائتلاف مقبل [2] ، كما علمت مصادرنا أن (فورنتسوف) نائب وزير الخارجية
السوفييتي وسفير بلاده لدى أفغانستان يشدد على ائتلاف بين الأحزاب السنية
والشيعة، ويريد الروس ضم الحزب الشيوعي إلى هذا الائتلاف، ولكنهم يعلمون
جيدا برفض المجاهدين لذلك، ولذلك فإن فورنتسوف ينأى بنفسه عن نجيب الله.
وإن رئيسة وزراء باكستان الجديدة والضعيفة يهمها التوصل إلى حل يشجع
عودة ملايين اللاجئين الأفغان إلى بلادهم في أسرع وقت، الأمر الذي لن يكون إلا
بوجود حكومة ائتلافية مستقرة وغير شيوعية في كابل.
ولكن يا ترى من سيكون في ذلك الائتلاف؟ والجواب: يبدو أن أغلب
الجماعات السنية والشيعية ستدعى إلى ذلك باستثناء الحزب الإسلامي الذي يرأسه
قلب الدين حكمت يار - والذي يعد من قبل منتقديه متطرفاً وقاسياً ومتعطشاً إلى
السلطة (! !) [3]-.
والقادة العسكريون الذين يدعمون المجاهدين يرون في وجوده حجر عثرة
يمكن أن يخرب هذه الفرصة السانحة لالتقاء هذه الجماعات مع بعضها.
وقد التقى المبعوث الروسي فورنتسوف وآخرون بالملك المخلوع ظاهر شاه
الذي يعيش في روما منذ خلعه عام 1973م والذي يمكن أن يلعب دوراً من حيث
إمكانية اجتماع هذه الجماعات عليه باعتباره شخصية غير سياسية [4] ، ولكنه من
الضعف والجبن بحيث لا يمكنه اقتناص الفرصة.
إن ائتلافاً يستبعد الشيوعية وحكمت يار، ويضم غالبية الأطراف السنية
والشيعية، قد يكون أفضل فرصة لأفغانستان لتجنب ما هو أسوأ، المتمثل بتقسيم
البلاد - بمزيد من سفك الدماء - إلى إقطاعيات متناحرة.
__________
(1) نشرة خاصة تصدر عن مؤسسة (الإيكونومست) .
(2) هذا رأى أصحاب النشرة، وثقتنا بالأخ رباني أنه سيخيب ظن هؤلاء المتخرصين.
(3) هذا ديدن أعداء الإسلام، فكل من بدت منه صلابة في دينه، وعدم قبول الدنية يصفونه بأبشع الصفات.
(4) هكذا يقدمون الملك السابق على أنه شخصية غير سياسية! والحق أن له أنصاره، وله من يعمل له ويؤيد أفكاره، بالإضافة إلى دعم القوى الغربية له.(16/79)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
أخبار الجهاد الأفغاني
حصار المجاهدين يصيب كابل بالشلل
إبراهيم الدهيمان
ذكرت صحيفة التايمز اللندنية بتاريخ 8 2/12/1988 م إن إمكانية بقاء
النظام الشيوعي في كابل في مرحلة ما بعد إكمال الانسحاب السوفييتي مقرون
بمقدرته على مقاومة الحصار الاقتصادي الفعال الذي يفرضه المجاهدون على
العاصمة كابل.
وتتضح قبضة المجاهدين على العاصمة كابل ذات الطقس الشديد البرودة في
أوضح صورها حيث تقف قوافل من السيارات التي قد تزيد كل قافلة منها على
200 سيارة، أمام محطات الوقود.
كذلك يتحدث سكان كابل عن نقص شديد في المواد الغذائية الأساسية كالخبر،
وعن ارتفاع ملحوظ في أسعار السكر والشاي والخضروات.
ويرجع السبب الرئيسي وراء تلك الأزمات إلى الحصار الذي يضربه
المجاهدون على الطرق الحيوية.
* * *
وجاء في العدد التاسع والأربعين من مجلة الجهاد الصادرة عن المجاهدين أن
المجاهدين مازالوا يتقدمون في فتح المواقع، وقد تمكنوا أخيرا من فتح (طورخم)
الممر الشهير والشريان الحيوي الواصل بين أفغانستان وباكستان، واستولوا على
نقطة التفتيش المهمة في هذا الممر وقد هرب إليهم (185) جندي أفغاني بعد هذا
الفتح. ويحاول المجاهدون الآن مهاجمة منطقة (سمرخيل) المهمة، وأما في
المناطق الأخرى فالوضع جيد بشكل عام بسبب ضعف الحكومة وانسحاب القوات
الروسية.(16/87)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
تركستان المنسية
عن الاندبندنت 20/10/1988
قبل أسابيع معدودة من الآن خرج مئات من الطلاب التركستانيين المسلمين
(الأويغور) [1] في جامعة مدينة أورومجي في مظاهرة في شوارع المدينة وهم
يلوحون بلافتات ويطلقون شعارات ضد خصمهم التقليدي: المستوطنين الصينيين
وذلك احتجاجاً على إعلان ظهر في أحد أروقة الجامعة يدعو إلى اتخاذ رجال
الأويغور عبيداً ونسائهم جواري.
وقالت سيدة تركستانية: (إننا في منظور الصينيين دائما قوم غير متحضرين
ولا نعرف النظافة) وعلق مسؤول صيني على الأحداث فقال: (إن هناك نفراً قليلاً
ممن يتآمر بالخفاء ضد وحدة الوطن الأم، وأضاف. إن أولئك هم خونة ومن حثالة
الناس ولا يمكن التسامح معهم) ، وكانت آخر جولات المصادمات بين المسلمين
والصينيين قد حدثت قبل سبع سنوات عندما خرج المسلمون في انتفاضة عارمة في
مدينة كاشغر [2] مستخدمين أسلحة نارية استولوا عليها من إحدى ترسانات السلاح
الحكومية، وقد استدعى جيش التحرير الشعبي لسحق الانتفاضة مما أدى إلى سقوط
المئات من القتلى في صفوف المسلمين. وتخشى الحكومة الصينية من أن تكون
أحداث كهذه امتداداً طبيعياً لما يحدث في الجمهوريات المسلمة في الاتحاد السوفييتي
المجاور، هذا بالإضافة إلى المشاعر الأخوية التي يكنها مسلمو تركستان - الذين
يستقلون بلغتهم ودينهم وتاريخهم - لمسلمي الاتحاد السوفييتي مما يجعل أمر ولائهم
السياسي لبكين مدار شكوك لدى الحكومة الصينية.
وكان الشيوعيون الصينيون قد قضوا على آخر محاولة تحررية قام بها مسلمو
تركستان في عام 1932 م واستمرت خمسة أعوام اضطر الصينيون حينها
للاستعانة بالآلاف من القوات الروسية التي مكنتهم من سحق التمرد. ثم تعرضت
البلاد إلى محنة أخرى إبان ما يسمى بالثورة الثقافية التي قادها (ماوتسي تونغ)
هُدّمت وأغلقت خلالها المئات من المساجد، في حين قضت المزارع التعاونية على
أسباب عيش الرعاة القرويين والتجار والمزارعين.
هذا وقد عمدت الحكومة الصينية إلى توطين أعداد كبيرة من الصينيين في
إقليم تركستان وذلك لموازنة كفة السكان هناك. ففي الوقت الذي لم تكن فيه نسبة
الصينيين تتجاوز الـ 10 % من مجموع السكان البالغ أربعة ملايين في عام
1949م باتوا اليوم يشكلون ما يربو على 46% من مجموع سكان الإقليم البالغ
(14) مليون.
وبعد ما يزيد على نصف قرن من الحكم الشيوعي مازال التركستانيون
يعيشون في عزلة اجتماعية شبه تامة عن الصينيين، بل إنه من النادر تحدثهم
باللغة الصينية، أما الطلاب الجامعيون فيرفضون بشدة سياسة الدولة الهادفة إلى
مزج الطلاب المنحدرين من عرقيات مختلفة في الوحدات السكنية الجامعية. ويحبذ
مسلمو تركستان هذا النوع من الانفصال العرقي وذلك لأنه الأسلوب الوحيد الذي
يتمكنون من خلاله المحافظة على هويتهم الإسلامية، في حين أن أكثر ما يثير
حفيظتهم هو ما يلحظونه من عدم مساواة في توزيع قرص العمل لاسيما في المراكز
الرسمية المهمة، حيث يشغل الصينيون معظم الوظائف الإدارية العليا والحساسة.
__________
(1) الأويغور: القبيلة التي انحدر منها جنكيز خان.
(2) كبرى مدن تركستان , فتحها التابعي الجليل قتيبة بن مسلم الباهلي عام (56هـ -714م) إبان خلافة الوليد بن عبد الملك.(16/88)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
المسلمون في فطاني
إبراهيم الدهيمان
تقع فطاني في شبه جزيرة الملايو جنوب شرق آسيا، وهى إحدى ولايات
مملكة فطاني ... وتقع بين خطى عرض 5 - 8 شمال خط الاستواء، أما الأمطار
فإنها مستمرة طوال العام.. وتغطهي الخضرة معظم أراضيها ... وأنهارها تجري
طوال العام.
وتعتبر منطقة فطاني غنية من الناحية الزراعية والمعدنية ... ولكن مع
الأسف إن هذا الغنى يذهب إلى مملكة تايلاند ... وأهم منتجاتها الأرز حيث تحتل
تايلاند بما فيها فطاني المركز السادس في العالم في إنتاج الأرز [1] .
وصول الإسلام إلى فطاني:
لا يُعرف بالضبط متى وصل الإسلام فطاني ولكن بدايته كانت عن طريق
التجار العرب الذين وصلوها من الهند وسومطرة إضافة إلى التجار العرب الذين
حملوا معهم الإسلام إذ أسسوا أول محطة لهم في كانتون في الصين حين كان طريق
سفرهم إلى الصين عن طريق فطاني.
وتروي الأخبار الفطانية وكتب التاريخ أنه في حوالي عام 751 هـ أسلم ملك
فطاني وتبعه أفراد أسرته ووزرائه ثم الشعب.
أما عدد السكان فآخر إحصائية في منطقة فطاني تذكر أنهم ثلاثة ملايين نسمة
نسبة المسلمين فيها 80%، أما اللغة الرسمية فهي اللغة الملاوية وتكتب بالأحرف
العربية وفيها كثير من الكلمات العربية، بل وصل الأمر ببعض الفطانيين إلى
اعتقادهم أن الدعاء لا يصح إلا بالعربية بل يستجاب، أما تايلاند فتصر على أن
اللغة الرسمية هي اللغة التايلاندية، ويصر الفطانيون على التمسك بلغتهم وهى
جزء من كيانهم رغم محاربة تايلاند لها.
أقسام فطاني:
تنقسم فطاني إلى 4 مقاطعات هي.
فطاني: أصغر المقاطعات وعاصمتها فطاني وهى أكبر مرفأ بحري وجوي
في البلاد.
بنغازا (نارايتواس) : تقع على ساحل بحر الصين الجنوبي ومركزها بنغازا.
ساتول (ساتون) : تشمل ولاية ساتول وجزءاً من مقاطعة سونكلا، وتتبعها
عدة جزر، وهى أكبر المقاطعات وأوسعها.
جالا (يالا) : منطقة داخلية.
الاستعمار لفطاني:
استولى التايلانديون على فطاني عام 1201 هـ/1786 م حيث هاجموها عدة
مرات بعد فشل عدة محاولات وأخيراً استولوا عليها وقسموها إلى ولايات لإضعافها
(فرق تسد) وبدأت ثورات الفطانيين تترى.
أمثلة لمحاربة تايلاند للإسلام في فطاني:
سنلخص بعض ما تفعله مملكة تايلاند لمحاربة الإسلام في فطاني:
1 - وافق وزير التعليم التايلاندي على لبس الطالبات الحجاب في المدارس
إلا أن البوذيين حرضوا الطلاب والطالبات البوذيين على القيام بمظاهرات
واحتجاجات سحب الوزير على أثرها قراره وقامت مظاهرات فعلاً مما اضطرهم
إلى إغلاق الكلية في محافظة (جالا) وكان ذلك ومع الأسف بتحريض من المسئولين
البوذيين.
وتبلغ نسبة المسلمين في ولاية (جالا) 85% أكبر نسبة في ولايات فطاني
الأربع، أما النظام المتبع الآن فهو منع الزي الإسلامي في المدارس والكليات،
ومن تلبس اللباس الإسلامي مهددة بالطرد من الجامعة.
ومن وسائل طمس الإسلام في فطاني:
1 - تعقيم المسلمات.
2- تصوير ورسم الرسول -محمد صلى الله عليه وسلم- في المدارس.
3- وضع تماثيل بوذا في المدارس.
4- تغيير الأسماء الإسلامية إلى بوذية.
5- إقامة المعابد وسط قرى المسلمين.
6- اغتصاب أراضى المسلمين وتوزيعها على البوذيين.
ومع كل هذا الضغط مازال المسلمون متمسكين بدينهم ولله الحمد، ولن ينسى
التاريخ مأساة شهر ذي الحجة عام 1395هـ الموافق 1975 م عندما قامت
السلطات التايلاندية بذبح 5 مسلمين في سابيوري الأمر الذي تسبب في المظاهرات
في جامع فطاني، واستمرت قرابة شهرين استشهد فيها 16 مسلما من المدرسين
والطلبة.
2- وفي 26/12/1987م قام تايلانديون من رجال الأمن وعددهم 30 بهجوم
على إحدى قرى فطاني، وقاموا بجمع الفلاحين المسلمين وضربوهم وعذبوا أربعة
منهم ثم رموهم بالرصاص ودفنوهم في مقبرة واحدة بدون صلاة.
3 - يتعرض المسلمون الآن في فطاني لأنواع من المآسي والفتن من إبادة
وقتل جماعي، إضافة إلى إبادة الوجود الثقافي والاجتماعي لهم.
4- تقوم السلطات هناك بنشر الفساد وترويج المخدرات بين السكان وكذلك
سرقة المواشي والممتلكات وهتك الأعراض.
انطباعات عامة عن فطاني:
لقد وفقني الله سبحانه وتعالى لزيارة هذا البلد (فطاني) الذي يقع في وسط دولة
كافرة لا تأبه بالإسلام ولا تعترف به، وهى تايلاند، وقد شاهدت بنفسي ما يعانيه
أبناء فطاني المسلمون من مضايقات كثيرة من قبل الحكومة لا لسبب إلا أنهم قالوا
ربنا الله، ولكن ومما يثلج الصدر هذه الصحوة العارمة التي بدأت في صفوف
الشباب والشابات والإقبال الكبير على هذا الدين القويم من الجميع إلا أن تايلاند
تخوفت من ذلك، وأصبحت تصدر الإحصائيات بين كل فترة وأخرى وتبين بهذه
الإحصائيات زورا أن الغالبية من أبناء فطاني ليسوا مسلمين، بل وصل الأمر
بحكومة تايلاند أن بدأت تهجر أعداداً كبيرة من البوذيين من مناطقهم في تايلاند
وتسكنهم في مناطق المسلمين في فطاني بالقوة لتبقى النسبة في صالحهم.
وتقوم المدرسة الرحمانية في فطاني بجهود كبيرة لخدمة المسلمين في هذه
البلاد، ويشرف عليها أخوة نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدين، وهم ولله الحمد
مؤهلون من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وتشرف على تدريس الشباب
والفتيات وكذلك الكبار.
وكانت زيارتنا لهذا البلد في رمضان حيث وجدنا سنة الاعتكاف في معظم
مساجدهم بل منهم التجار الذين تركوا تجارتهم واعتكفوا بالمساجد، إلا أن الخطر
هناك يكمن في نشاط بعض الفرق المنحرفة عن الإسلام.
وإننا نهيب بالمسلمين ممن يهتمون بشؤون الأقليات الإسلامية أن يتداركوا
إخوانهم هناك بتقديم الكتب المبسطة والمترجمة والتي تساعدهم على الفهم الصحيح
للإسلام.
__________
(1) فطاني، محمود شاكر.(16/90)
الحضارة المعاصرة.. الوجه الآخر
[ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً]
[ ... والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح
والحياة والنور؟ ! والدنيا مظلمة ملعونة، إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة] .
ابن تيمية
قصة تتكرر في مدن الغرب وربما في لندن أكثر من غيرها ننقلها بقلم كاتبتها
(آن دي كوري) لتصور لنا بعض ما يعاني الغرب عندما ابتعد كثيراً عن الفطرة
التي فطر الله الناس عليها.
إن مثل قصة الشابة لورين بانس التي اغتيلت ببشاعة هذا الأسبوع أصبح -
ويا للعار - أمراً مألوفاً، فلم تكد تمضي بضع دقائق على مغادرتها للقطار حتى
سقطت ميتة بفعل فاعل هاجمها بعنف وخنقها.
بماذا عسانا نواجه بناتنا وأبنائنا يا ترى؟ ! إن أقل ما يشعر به الرجل عندما
يعتدي على امرأة تخصه، في هذه الأيام هو الشعور بالعجز التام والنقمة والذنب.
إننا في رأيي بحاجة ماسة إلى أمرين اثنين:
أولاً: لابد من تغيير جذري في مواقفنا فليس علينا فقط أن نعترف بوجود
أماكن وأوقات خطيرة - هذا فضلا عن البشر - بل علينا -أعني سكان لندن - أن
نقر بحقيقة (مرة) وهى أننا نعيش في غابة يسودها قانون الغاب، ويأكل القوي فيها
الضعيف.
ولهذا فعلينا مثل سائر مخلوقات الغابة أن نتأقلم مع هذا الواقع ... بالطريقة
التي تتكيف بها الحيوانات الضعيفة مع الأخطار المحدقة بها من قبل الحيوانات
الأكثر قوة - هذه الحيوانات التي تدفعها شراستها إلى مطاردة فريستها والتربص بها
والانقضاض دون نجاح مراراً عديدة، حتى تفوز في آخر المطاف بالضربة
القاضية.
ثانياً: لابد أن نسعى لإحياء الهمم بإيقاظ الشعور الفطري لدى الرجل
بضرورة حماية المرأة. في وقت مضى كانت التقاليد تجبر الرجل على أن
يصطحب المرأة - ذاهبة أو آيبة - بل كان المضيفون عند نهاية الحفل لا يتركون
امرأة منفردة تغادر بيتهم دون رفيق، إذ كانوا يحرصون على إيصالها إلى بيتها إما
بصحبتهم أو على الأقل في سيارة أجرة فإن تعذر ذلك فإنهم يصرون على بقائها
عندهم تبيت ليلتها بخفارتهم. كانت القاعدة هي أن حماية المرأة واجب ومسؤولية
كل رجل.
إنه اعتراف بالحقيقة البيولوجية البسيطة وهى أن النساء أضعف بنية من
الرجال، ثم إن الذكور من الأولاد إذا تربوا على تفهم ضعف أخواتهم وهشاشة
معدنهن فسوف يتكون لديهم شعور فطري بالمسؤولية تجاه تأمين كل النساء.
التعليق:
في هذه القصة وأمثالها حقيقة مرة بالنسبة لدعاة ما يسمى بتحرر المرأة،
ولكنها حقيقة معروفة ومحسوبة في نظر الإسلام الذي أكرم المرأة، واعتبرها
مخلوقاً مكرماً يحتاج ابتداءً إلى رعاية وصيانة، فشرع من أجل ذلك التشريعات
التي تحمى المرأة وتصون كرامتها.
وها هي كاتبة غير مسلمة تعترف وبملء فيها بـ (ضعف المرأة الجسمي
وهشاشة معدنها) وليس في هذا تنقص منها، كما أن الإسلام في نظرته للمرأة لا
ينتقص من قدرها، ولا يتنكر لدورها، وإن المفهوم المعوج للحرية الذي تفهمه
النساء العربيات ومن يقلدهن سينزع الحصانة التي كانت تتمتع فيها المرأة في
المجتمع، وإذا نزعت الحصانة فمن الصعب أن تعود في ظل الظروف الاجتماعية
الدينية والأخلاقية التي نزعت فيها.
وليس غير الشرع الإسلامي ضمانة للمرأة تجد في ظلها كرامتها، وتحقق من
خلالها ذاتها [إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى]
رقم قياسي جديد في جرائم القتل
وصل عدد الذين سقطوا ضحية عمليات الإجرام في نيويورك مع نهاية عام
1988 م إلى (1849) قتيلاً، بما في ذلك ثمانية قتلى عشية أعياد الميلاد، وستة
آخرون في اليوم التالي بينما سجل أعلى رقم قياسي في عام 1981 وكان (1841)
قتيلاً.
وبهذا يكون عام 1988 م هو الأعنف الذي تمر به مدينة نيويورك من حيث
الجرائم، ويعزو المسؤولون في المدينة هذا الارتفاع في عمليات القتل إلى تفشي
تعاطى المخدرات بأنواعها. أي بمعدل خمسة قتلى في اليوم الواحد(16/94)
الحضارة المعاصرة..الوجه الآخر
عبادة الشيطان في ألمانيا
مجلة نيوزويك - عدد 51
19/12/1988
لا يعلم رجال الشرطة حتى الآن ما الذي حدث في مصنع المنسوجات
المهجور في بلدة (كتويغ) في ألمانيا الغربية قبل ليال من عيد (هلوين) وأسفر عن
موت المغني (غوردون بروير) ذي الستة عشر ربيعاً، ويقول المحامون إن زميل
(غوردون) في المدرسة (أوي) وتِرْبُهُ قد اعترف بقتله وأدخل مستشفى الأمراض
النفسية للعلاج، حيث أفاد (أوي) أن (غوردون) أخذه للمصنع المهجور ليريه
(شيئاً ما) ! رافضاً الإفصاح عنه للشرطة، أما زملاؤه في المدرسة فقد قالوا
للمحققين إن المصنع المهجور كان المكان الذي اتخذوه ليعبدوا فيه الشيطان! !
وتعتبر ألمانيا الغربية منذ فترة مركزاً رئيسياً لانتشار المفاهيم الدينية
المتنوعة، قد أظهر إحصاء رسمي لطلبة الثانوية في (ميونيج) في بداية هذه السنة أن عشرين في المائة من الطلبة قد اشتركوا في جلسات روحية أو جلسات لتحضير الأرواح، إلا أن الديانة الجديدة التي تكتسح البلاد كلها مخيفة فعلاً.. إنها عبادة الشيطان! !
حيث اعترف أربعة في المائة من طلبة الثانوية في الإحصاء المذكور
بالاشتراك ولو لمرة واحدة على الأقل في شعائر القداس الشرير، ويقول الراهب
البروتستنتي (فريدريك ويلهالم هاك) مؤلف عدة كتب عن هذه الديانات السرية.
إن عدد الذين يدينون بشكل نشط بهذه الديانة الشيطانية في ألمانية الغربية وحدها
يبلغ عشرة آلاف شخص، إلا أنه يصر على أن الشباب يتخذ طقوس هذه الديانة
كوسيلة رخيصة للتسلية وتمضية الوقت، حيث إنها لا تكلف الشباب شيئا بالمقارنة
بوسائل التسلية الأخرى، مثل الذهاب للسينما (سعر التذكرة ستة دولارات) أو
حضور حفلة رقص ديسكو (سعر التذكرة عشرون دولارا) . ولكن مسؤولين آخرين
لا يشاركون القس نظرته حيث يؤكد أحد المسؤولين عن مؤسسة اجتماعية هدفها
متابعة مثل هذه النشاطات: إن هذه النشاطات منتشرة وقوية بشكل أكبر بكثير من
مجرد كونها وسيلة لتمضية الوقت لدى الشباب، بل إن نشاطها يصل إلى الأطفال
في المدارس، حيث طلب المساعدة منهم مدرسون في مدارس ابتدائية بخصوص
أطفال (دون سن العاشرة ... ) كما استشيرت المؤسسة في حالات تتعلق بأعضاء
نشطين ومتحمسين لهذه الديانة (الشيطانية) بقوة ولا تتجاوز أعمارهم ثلاث
عشرة سنة.
ويتحدث أخصائيو المصحات النفسية عن قصص مخيفة عن تأثير هذه
النشاطات والجلسات السرية على نفسيات الشباب الذي يخضع للإيحاءات. ويقول
أحدهم أنه عالج ثلاثة مراهقين من هوس يتعلق بالأرواح، كان أخرهم فتاة عمرها
خمس عشرة سنة كانت مقتنعة أنها حامل من الشيطان وأنه سيكون لهذا الحمل أو
الجنين دور خاص في المستقبل ... كانت مقتنعة بذلك رغم أنها في الحقيقة لم تكن
حاملا على الإطلاق، ويضيف بأنه قد تمكن من علاجها إلا أنه غير متفائل لأنها
عادت إلى نفس زملائها السابقين، ويخشى أن يؤدي اشتراكها مرة أخرى في مثل
تلك الجلسات السرية إلى عودة المرض النفسي إليها.
وقد أصبحت هذه النشاطات تثير الإزعاج لدرجة أن أولياء الأمور في إحدى
القرى حاولوا منذ أسبوعين منع أحد عروض الألعاب السحرية في إحدى المدارس
الابتدائية، وعندما لم يستطيعوا منع العرض منعوا أطفالهم وعددهم أربعين من
حضوره في المدرسة خوفا أن يكون حضور أطفالهم لعرض مثل هذا هو الخطوة
الأولى على الطريق لينضموا إلى الديانة (الشيطانية) في المستقبل.(16/98)
قديم جديد
أرحام تتعاطف
للشيخ محمد البشير الإبراهيمي
رحمه الله
طالما نعينا على المسلمين خصوصاً، وعلى الشرقيين عموماً، هذا التقاطع
الذي شتت شملهم، وفرق جامعتهم، وصيرهم لقمة سائغة للمستعمرين؛ وطالما
شرحنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم
الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسقنا المثُلات، وجلونا العبر، وكانت نذر الشر
تتوالى، فيمارون بها، وصيحات الضحايا منهم تتعالى، فيصمون عنها والزمن
سائر، والفلك دائر، وهم في غفلة ساهون.
دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهى جامعة الإسلام،
إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق، وحذرناهم
من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم، ومبعث
بلائهم، وبينا لهم أنها دسيسة استعمارية، زينها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه
وأدلاؤه؛ وغايتهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأن
الاستعمار -بهذه الدسيسة وأشباهها- يفسد فطرة الله فيهم، وينقض دين الله عندهم؛
ففطرة الله تلهم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره؛ ودين الله يوجب حقوق
الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه؛ وهو بهذا يعمم التناصر ويقيم في
الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار، والناس كلهم متجاورون، جوار
الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن؛
فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودها عم التناصر والتعاون، وسدت المنافذ على
المغيرين، وعلى المفسدين في الأرض ولكن الاستعمار - بهذه الدسيسة - بدل
شرعة الله بشرعة الشيطان، فهو يقول لك: أقصر اهتمامك على دارك، ولا تلتفت
إلى دار جارك، ويوسوس للجار بمثل ذلك حتى إذا أطاعاه خرب الدارين، واستعبد
الجارين.
ومازال الاستعمار يروض المسلمين والشرقيين على قبول هذه الدسيسة، ثم
على استحسانها، ثم على الأخذ بها، حتى تقطعوا في الأرض أمماً ليس منهم
الصالحون ... ثم تقطعت الأمم جماعات، وكلما آنس منهم مخيلة انتباه غرهم بما
يغر به الشيطان: بشجرة الخلد وملك لا يبلى، وجرهم بما ينجر به الصبيان:
ألفاظ فارغة وأسماء وألقاب، وعروش من أعواد، في سيل واد؛ حتى ابتلع
ممالكهم، واحتجن أموالهم، وتركهم مثلاً في الآخرين؛ واعتبر ذلك بهذا الاستعمار
الجاثم في شمال أفريقيا [1] ، وعد بذاكرتك إلى مبدأ أمره، وكيف أكل العنقود حبة
حبة، متمهلاً مطاولاً، يرقب الخلس، ويدرع الغلس؛ وكيف أطعمته غفلتنا الكراع، أطمعته في الذراع، حتى استوعب الجسد كله أكلاً؛ وكيف كان يعتدي على
الجزء، فيقابله الكل بالهزء؛ اعتبر ذلك ترَأننا ما أخذنا بغتة، ولا سلبنا هذا الملك
الضخم فلتة؛ وإنما هي آثار تلك الدسيسة فينا، استبدلنا التناحر بالتناصر،
والتعاوي بالتعاون؛ ثم نزلنا دركة.، فأصبحنا وإن الأخ ليقتل أخاه في سبيل
قاتلهما معاً، ولو اتعظ الأخير منا بالأول لما مد الاستعمار هذا المد، ولما بلغ فينا
إلى هذا الحد.
__________
(1) نشرت هذه الكلمة عام 1951 م.(16/100)
الصفحة الأخيرة
مزيداً من هذه الخطوات
بدأ بعض المسلمين في بريطانيا يشعرون بالخطر الناجم عن ترك فلذات
أكبادهم يتعلمون في المدارس الإنكليزية، ويتربون على أيدي معلمين ومعلمات
أتقنوا فن استهواء الطفل الصغير والتغرير به بأساليب هادئة ماكرة، فالدروس
أكثرها قصص وألعاب ورياضة وبرامج تلفاز، والطفل المسكين يردد ما تقوله له
المعلمة، فيتعلم أغاني أعياد الميلاد و (بابا نويل) . وفى هذه الأجواء فإن الآباء
والأمهات المسلمين - وأكثرهم غير متعلمين - يشعرون بالفرح والبهجة لأن ولدهم
أصبح يتكلم الإنكليزية كأهلها، وفى العادة فإن الخيرين منهم لا يتنبهون للخطر إلا
بعد فوات الأوان، وبعضهم يحاول ترميم ما أفسده بإرسال ولده إلى المسجد في
عطلة نهاية الأسبوع، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وبقيت المشكلة: كيف ننشئ مدارس خاصة لأولاد المسلمين، تزودهم بقدرٍ
كافٍ من المعلومات والمعارف الإسلامية التي تحفظهم وتعصمهم من الذوبان، وهو
تحدٍ يجابه المسلمين، خاصة وأن من ينفق الأموال في وجوه الخير يحب إنفاقها في
المساجد، وهو في غفلة عن المدارس وخطورتها وأهميتها لإنقاذ الأجيال الشابة،
وبدأت تظهر بدايات تدعو إلى التفاؤل، وإن كانت صغيرة الحجم ككل بداية،
فظهرت مدرسة الهجرة في برمنجهام، ومدرسة زكريا الثانوية للبنات في مدينة
(باتلي) وقد سبق الأخ يوسف إسلام بإنشاء المدرسة الابتدائية الإسلامية في لندن.
ولعل هذا يكون أول الغيث في تشييد المدارس، وتشمير المسلمين عن ساعد
الجد من أجل فهم واقع العصر، والنظر إلى -المستقبل، لا إلى الساعة الراهنة
فقط.(16/104)
شعبان - 1409هـ
مارس - 1989م
(السنة: 3)(17/)
الإفتتاحية
معركة وهمية
كنا نود أن لا نتعرض لهذا الموضوع، لاعتقادنا بأنه لا يستحق أن يتخذ منه
المسلمون جبهة جديدة يفتحونها على أنفسهم، ولكن لأن هذه القضية بما -وصلت
إليه- تصلح للاعتبار؛ فقد أصبح لابد أن نقول فيها كلمة.
وقبل كل شيء نقدم مختصراً لهذه المشكلة التي تتلخص بأن كتاباً ألفه مرتد
عن الإسلام من أصل هندي، باحتٌ عن الشهرة، درس في مدرسة تبشيرية قبل
مجيئه إلى بريطانيا، التي أكمل تعليمه فيها، واستوطنها. والكتاب هجوم مقذع
على الإسلام، وشريعته، ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته الكرام، وقذف
مر لأمهات المؤمنين بأسلوب سوقي وضيع، بل هو في مجمله سخرية شديدة بكل
ما تعارف عليه البشر من معان سامية، وشخصيات قدوة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتهجم فيها هذا الكاتب المأفون على الإسلام، بل سبقت له مناسبات قبلها، ولعل الغربيين فطنوا إلى أهمية أن يهاجم الإسلام
ويشهِّر به شخص كان في الأصل مسلماً؛ فاحتضنوه، وشجعوه عن طريق أجهزة
الإعلام من صحافة وإذاعة ودور نشر، وعن طريق منحه جوائز لترويج كتبه،
وتسابقت كثير من الصحف تفسح له صفحاتها، وتنقل فقرات من كتابه، وتقدم
عرضاً له، وهذا عمل مألوف في كل عمل له رأي سلبي حول الإسلام، أو ما
يتعلق به.
وقد تنبه بعض المسلمين في بريطانيا لما في هذا الكتاب من أكاذيب حول نبي
الإسلام، ومن قصد سيء لهذا الكاتب ولناشر كتابه من أجل النيل من الإسلام،
وتجديد تصويره بأبشع الصور عن طريق أرخص السباب والشتائم المقذعة التي لا
يقدم عليها إلا شخص يستهين بكل مبادئ البحث العلمي والموضوعية، فاعتبروا أن
هذا العمل يستحق الشجب، واستعملوا أغلب الطرق القانونية المعروفة في الدول (الديموقراطية) للاحتجاج على نشر هذا التشويه المتعمد لكل ما يعتز به المسلمون.
وقد كان الأمر يسير سيراً طبيعياً، ولا يثير أية ردود فعل، إلى أن قام
المسلمون بمظاهرة في مدينة (برادفورد) في شمال إنكلترا، عبروا فيها عن شجبهم
للكتاب بالقيام بعمل رمزي فأحرقوا نسخة من الكتاب، وعلى أثر ذلك ثار بركان
الغضب المكتوم عند غير المسلمين، فشجبوا تصرف المسلمين هذا، وليس هذا
فحسب؛ بل بدأت الصحافة بطرفيها: (الرصين والوضيع) حملة لا مثيل لها في
الهجوم على الإسلام، والسخرية من المسلمين، ولم يبق في جعبتها نعت من نعوت
التخلف والتعصب إلا وألصقته بالمسلمين وفكرهم، ودولهم، وتاريخهم، وعاداتهم، وكل شيء يتعلق بهم.
واعتبرت الصحافة ما قام به المسلمون للفت النظر إلى مشاعرهم ومدى
إحساسهم بالألم اعتداءً على حرية الفكر، وعداءً للديموقراطية وحقوق الإنسان،
وتهديداً للمجتمعات التي يعيشون فيها، بل وسخَّرت أقلاماً كثيرة، لتحصر
الاعتراض على ما جاء في الكتاب في مجموعة من المسلمين محبة للفوضى
متعطشة للتخريب، منغلقة الفكر، ولكي تكسو دعواها هذه برداء يشبه الحقيقة؛
كانت تلجأ إلى بعض الشخصيات (المارقة) ذات الأصول الإسلامية، ممن لا
يختلف عن (رشدي) إلا بارتدائهم ثوب البحث العلمي والأكاديمية، فتستكتبهم، أو
تجرى معهم المقابلات التي يسفهون فيها آراء المسلمين، ويسخرون من طريقة
تناولهم للأمور ... وهكذا. وفي الوقت الذي كانت فيه الصحافة تصول وتجول
منفردة بعرض وجهة نظرها؛ كانت وجهات نظر المسلمين تُتَجاهل، ويُسخر منها
بتحامل شديد، وبعد عن الموضوعية والحياد.
وبعد أخذ ورد ومحاولات كثيرة قام بها المسلمون للتعبير عن غضبهم،
وتجاهل الصحافة؛ وتجاهل المسؤولين؛ بل وتحدٍ من الكاتب والناشر؛ دخل على
الخط عنصر آخر في المواجهة، فبينما كانت الدول بعيدة تقريباً عن مجرى
الصراع؛ إذا بنا فجأة نجد أن هناك من تقدم ليخطف الراية، ويقود المواجهة! .
ونحن نرى أن هذا الاختطاف للراية ليس من البطولة في شيء ذلك لأنه لا
تكافؤ بين الخاطف والمخطوف منه، فالخاطف دولة، والمخطوف منه منظمات
وأصوات لا تتبناها دول، هذا من حيث الشكل الخارجي، أما إذا لجأنا الى التفسير
الباطني للأحداث (وأظن أنه لا تثريب علينا في ذلك، إذا أخذنا بمبدأ المعاملة
بالمثل) فإننا يمكن أن نلمح أشياء كثيرة لا يجهلها إلا المصاب بعمى الألوان،
فتحويل الحملة لتأخذ هذا النطاق العالمي يخفي وراءه مقاصد كثيرة، ويهدف إلى
تحقيق مكاسب سياسية، فيبعد أنظاراً عن مشاكل، ويصبوا إلى استعادة ثقة
أصبحت مهزوزة، وليس هدفنا هنا الاسترسال في رسم الصورة لما وراء الأكمة.
المهم أن الغرب حول المعركة في الاتجاه الذي يريده، وقادها بمقدرة فائقة
بأجهزة إعلامه المتنوعة، ولم يبقها محصورة في نطاق الموضوع المتنازع عليه؛
بل اتخذ من هذا الموضوع وسيلة يخرج بها كل الكراهية والأحكام المسبقة التي
يكنها للإسلام والمسلمين جميعاً دون تفريق، وهو إن أشار إليهم أحياناً بإشارة يُشَمُّ
منها تعاطف ما، فهو لا يعدو تعاطفه مع جنس من المخلوقات يخشى عليها من
الانقراض، فيؤدي انقراضها إلى نقص في امتيازات الرجل الغربي (المتحضر) ،
ماذا نقول؟ ! ... بل إن تجاوب هذا الرجل الغربي (المتحضر) ، القاسي القلب،
المملوء جلده بالغرور والأثرة والغطرسة مع آلام الحيوانات أضعافَ أضعافِ تجاوبه
مع آلام البشر إذا كانوا مسلمين لو بالوراثة، دع عنك ما إذا كانوا مسلمين
بالممارسة.
هل هناك دروس يمكن استخلاصها من هذا (المهرجان) التشهيري بالإسلام
وحضارته، وبالمسلمين ودينهم؟ ما أجدر المسلمين أن يوظفوا مثل هذه التجارب
من أجل أن تكون لهم مواقف مبدئية لا تتأثر بالعواطف، ولا تقوم على ردود
الأفعال.
أول فائدة يمكن استخلاصها هي أن هذه الديموقراطية التي يتغنى بها الكثير
هنا وهناك لا تقوم على أساس صحيح، حتى لو حاول أنصارها أن يقنعونا بعكس
ذلك، بل حتى الأساس المفترض للمساواة بين البشر غير موجود فيها، والصحيح
أنها فلسفة مفصلة لنوع معين من البشر وهو النوع الذي يعتقد أنه أرقى من غيره
عرقاً وأصلاً وفكراً وحضارةً، ديموقراطية متناقضة مبنية على الكذب والادعاء
والبعد عن الإنصاف، فهي في الوقت الذي تتهم المسلمين بأنهم يريدون أن يفرضوا
أعرافهم وأفكارهم على غيرهم؛ تقوم هي بالفعل والقول في فرض أعراف الإنسان
الغربي وتقاليده وإفرازات حضارته في جميع أنحاء الأرض، حتى إذا أحد تململ
أو قال: لا؛ سلطت عليه آلتها الإعلامية وضغوطها السياسية، و (رمته بدائها
وانسلت) .
والفائدة الثانية أن الأفعال المنبعثة عن الهيجان وغليان الدم في مواجهة مثل
هذه الأحداث قد تؤدي إلى عكس المقصود، فدماء المسلمين أغلى من أن تراق من
أجل أهداف وهمية، والقتلى والجرحى الذين سقطوا في (معركة الأشباح) هذه؛
أولى لهم أن كانوا سقطوا في مواجهة أعداء محددين أمامهم أو على أرضهم؛ لا أن
يسقطوا بعيداً بآلاف الأميال عن مخبأ مارق خسيس تحتضنه الديموقراطية الغربية
الوثنية.
رب قائل يقول: أين الغضب لحرمات الله التي انتهكت؟ ألم يكن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يغضب لحرمات الله حتى لا يقوم لغضبه شيء؟ والجواب: نعم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغضب غضباً منتجاً، لا غضباً عقيماً. وحق لنا أن نغضب، وحق لنا أن نمتلئ غيظاً، ولكنه الغضب الذي يتجه إلى
الهدف؛ لا الغضب الذي يكون صرخة في واد، الغضب الذي يبتعد عن
الاستعراض والتهويش، فيكون نفعه أكثر من ضرره.
الفائدة الثالثة: أن يوفر المسلمون جهودهم لما ينفع ويؤدي إلى صلاح حالهم،
وأن لا ينخدعوا بأساليب الديموقراطية الغربية وضمانها لحرية القول والتعبير
والاحتجاج، فهذه الحرية سلاح ذو حدين، أضعفهما الحد الذي يستعمله المسلمون
الذين يعيشون في ظل هذه الديموقراطية، وأشرسهما وأشدهما نكاية الذي تستعمله
هذه الديموقراطية وعُبَّادُها ضد من يقف في وجه اعتدائهم ووقاحتهم.
الفائدة الرابعة: أن حقوق المواطنة سراب خادع مادام الإنسان حريصاً على
أن يبدو مسلماً قولاً وسلوكاً، والجمع بين هذه الحقوق؛ وبين أن يكون المسلم مسلماً؛ كالجمع بين الماء والنار، وتستوي في هذه النتيجة كل الديموقراطيات: شرقية
وغربية، كما تستوي في النظر إلى المسلم نظرة الاشتباه والترقب والحذر كل
العلمانيات: المسيحية والممسوخة.
وأخيراً فإن من أساليب أعداء الإسلام استغلال بعض الظواهر التي تثير
المسلمين، فينفخون فيها، ويصطنعون منها معارك، فيجهزون الساحة، ويحشدون
النظارة، ويغرق الفريقان غير المتكافئين في حمى التشجيع، ولا يعودان يميزان
أماماً من وراء؛ ولا يميناً من يسار؛ ولا فوقاً من تحت، وهي معارك حتى لو
انتصر فيها المسلمون، فانتصارهم ليس إلا (فقْعة في قاع!) [1] ، وقد يكتشفون
أو لا يكتشفون أن المستفيد الحقيقي من هذه المعارك ليس المنتصر، بل الذي أقامها
وحشد لها، وهم في الحالة الراهنة الغربيون ومن يشاركهم العداء للإسلام وأهله في
كل مكان، وما استفادوا هو أنهم أظهروا المسلمين بالصورة التي يريدون، وروجوا
ما شاؤوا من الأفكار، وسوّقوا انتاجهم الرخيص بثمن غالٍ، واستفرغوا طاقات
كثيرة للمسلمين في محاربة طواحين الهواء.
ألا من وقفة أمام تعريف الحكمة وتحديدها؟ ! .
الحكمة التي قال الله تعالى فيها:
[يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ، ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، ومَا
يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: 269] .
__________
(1) هذا مثل، تقول العرب: فلان أذل من فقعة في قاع , والفقع: الردئ من الكمأة.(17/4)
مجددون معاصرون
حسن البنا
-2-
الدرس الخامس:
كان من لا يعرف حسن البنا تشده إليه طريقته المهذبة الرقيقة في التعامل مع
الناس ... كتب عنه عدد كبير من المفكرين العلمانيين أو العصاة، فشهدوا بحسن
أخلاقه وأدبه وتواضعه رغم اختلافهم معه في الأفكار والتصورات، ولكنهم أنصفوا
الرجل. يقول إحسان عبد القدوس في روز اليوسف 12 سبتمبر / 1945 ولا
يخفى على أحد طبيعة هذه المجلة واتجاه أصحابها:
(لو زرت حسن البنا لاستقبلك بابتسامة واسعة، وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر، يختمها بضحكة كلها بشر وحياة. والرجل ليس
فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إلا بنحافة
جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيراً مع زيه الإفرنجي وطربوشه الأحمر
الغامق..) ، ثم تحدث عن لباقته وقدرته على الإقناع، ورزانة أسلوبه.
ويقول الأديب الكبير أحمد حسن الزيات:
(وجدت فيه ما لم أجد في قبيله، أو أهل جيله: من إيمان بالله راسخ رسوخ ...
الحق، لا يزعزعه غرور العلم، ولا شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء
المزن، لا يكدره ضلال العقل، ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق
الوحي لا تحبسها عقدة اللسان، ولا ظلمة الحس، إلى حديث يتصل بالقلوب،
ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحبه، وشخصية تحملك على
أن تذعن! !) ..
ثم قال الزيات: «والفطرة التي فطر عليها حسن البنا والحقبة التي ظهر فيها
حسن البنا تشهدان بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي صنعه الناس»
عن كتاب [حسن البنا، الداعية الإمام والمجدد الشهيد، أنور الجندي، ص 268] .
يقول الشيخ محمد الغزالي في قمة خلافه مع الإخوان وبعد أن تخلى عنهم:
«شهدت رجلاً كان يهاجم الأستاذ البنا -رحمه الله- في الهيئة التأسيسية
مهاجمة عنيفة، ويخاطبه بما لا يليق من الألفاظ. فلما ثار عليه الإخوان غضب
الإمام الشهيد وثار في وجه الغاضبين، حتى لقد أخرج بعضهم، ثم أقبل مبتسماً
على هذا المهاجم المتجني، وقال له:
قل ما شئت وانقدني كما ترى، فلن تُقاطع بعد ذلك، ولعلي أجد في قولك ما
أصلح به خطأ أو أقوم به معوجاً، [من معالم الحق 257، دار الكتب الحديثة] .
أشار الأستاذ البنا في مذكراته إلى سبب من الأسباب التي دعت جماعة شباب
محمد إلى التخلي عن الإخوان فقال:
» وكان هذا الشعور نواة لتفسيرات لاحقة [يقصد تملق أحد الإخوان للنواب
وقادة الأحزاب في حفل عام] لتصرفات كثيرة مشابهة، وما زال يتضخم حتى
صار أساس فتنة ذهبت بمجموعة من خيار الإخوان، وحالت بينهم وبين العمل في
هذا الميدان « [المذكرات 252] .
والشاهد هنا أنه رغم وقوع خلاف بينه وبينهم، ورغم انفصالهم عن الإخوان
وقيامهم بتأسيس جماعة جديدة أسموها (شباب محمد) ، فلقد وصفهم البنا بأنهم من
خيار الإخوان، وحاشاه أن ينشر عنهم الأراجيف، ويتهمهم بما هم منه برءاء،
ويؤلب الأجواء ضدهم، ويسخر عشرات الآلاف من إخوانه ليقوموا بتشويه سمعتهم
أمام الناس ... ليس هذا من خلق البنا، وهو الذي يقرأ في كتاب الله قوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة: 8] .
فهم عنده من خيار الإخوان وإن وقعت الخصومة بينه وبينهم ... ما أشد حاجة
الدعاة والجماعات اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الرائعة، وما أشد حاجتهم إلى التأسي
برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي وصفته عائشة -رضي الله عنها- بقولها:
» كان خلقه القرآن «.
الدرس السادس:
نجح البنا في تحويل الأفكار والأماني إلى واقع ملموس.
فإذا تحدث عن الزكاة مثلاً لم يقف عند حد الوعظ، والتذكير، وترغيب
الناس وترهيبهم بل تراه يأمر بتنظيم لجنة مهمتها جمع الزكاة من الملتزمين في
الجماعة وغيرهم من عامة المسلمين، ثم يقومون بتوزيعها حسب الطرق الشرعية
المعروفة.
وكذلك يفعل في مختلف جوانب البر والخدمات الاجتماعية، فيقدم المساعدات
للعاطلين عن العمل، والمرضى، وغيرهم من المنكوبين والمحتاجين، وكان لقسم
البر والخدمات شعب في مختلف أنحاء مصر، وعندما كان يدرب إخوانه على عمل
خيري، كان يقول لهم: هذا أفضل من عشرات الدروس في الوعظ.
وخطط -رحمه الله- لتكون الجماعة غير محتاجة إلى عون أية جهة حكومية، أو غير حكومية، فأسس الشركات الاقتصادية وكان من أشهرها:
شركة المعاملات الإسلامية، والشركة العربية للمناجم والمحاجر، وشركة
المطبعة الإسلامية والجريدة اليومية، وشركة التجارة والأشغال الهندسية
بالإسكندرية، وشركة الإعلانات العربية، فضلاً عن تأسيس المستشفيات المجانية
[انظر الإخوان المسلمون والمجتمع المصري ص: 131] .
ومما لاشك فيه أن هذه الشركات أرهبت فاروق، والأحزاب، والإنكليز،
وأشعرتهم أن هذه الجماعة ليست مجموعة من [الدراويش] ،، وإنما هي واقع
ضخم لم تعرفه منذ عدة قرون.
الدرس السابع:
كان الرجل جاداً عندما نادى بتحرير مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي
من نير الاستعمار الدخيل، والمجدد لا يعرف الهزل في قضايا دينه وأمته ... لقد
أخذ البنا يخطط من أجل طرد الإنجليز من مصر، ومن أجل طرد اليهود من
فلسطين، وشكل -رحمه الله- تنظيماً عسكرياً، وأخذ يبتاع الأسلحة، ومصر كانت
مخزن أسلحة، لاسيما أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. قال -رحمه الله- في
خطاب جامع ألقاه في المؤتمر الدوري الخامس:
(في الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني أن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء
الله ... ) .
انظر إلى قوله: [فإني فاعل إن شاء الله] ، وبدأ التنفيذ العملي عندما أمر
إخوانه في مصر وسورية والأردن دخول حرب فلسطين، وأبلت هذه القوات بلاء
حسناً، وكان اليهود يهابون المعارك التي يواجهون بها كتائب الإخوان كما شهد
رئيس أركان الجيش المصري في المحكمة وهو ليس منهم وليس من مؤيديهم، إنه
رجل دولة وقد صحا ضميره فأدلى بهذه الشهادة ...
وسقط على أرض فلسطين المباركة عدد غير قليل من هؤلاء الشهداء الأبرار، واستماتوا في الدفاع عن الأقصى في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الشيوعية
العربية تعلن تأييدها لما أسمته حق إقامة دولة لليهود في فلسطين وكان دعاة العلمانية
من الأحزاب التي لبست لبوس القومية العربية لا تختلف مواقفهم عن مواقف
الشيوعيين كثيراً، ومن يستقرئ التاريخ يجد وثائق لا تحصى تدمغ أصدقاء (اللنبي) و (لورنس) و (غلوب) .. فهل تصحو ضمائر زعماء قادة منظمة التحرير فيعترفون بحقائق التاريخ الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؟!
- ألا يعرف هؤلاء أن جيش عمر بن الخطاب هو الذي فتح فلسطين وطهر
الأقصى من دنس الرومان الصليبيين؟ ! .
- ألا يعرفون أن جيش صلاح الدين الأيوبي هو الذي فتح فلسطين وجعل
منها مقبرة للغزاة الصليبيين؟ ! .
- هل نسي أو تناسى هؤلاء أن جند عز الدين القسام، والحاج أمين وعبد
القادر الحسيني، وجند الإخوان المسلمين من مصر وسورية والأردن وغيرها من
البلدان العربية، وجند الإسلام من تركيا ويوغسلافيا والهند وغيرها من البلدان التي
يكثر فيها المسلمون ... هؤلاء جميعاً هم الذين استماتوا في الدفاع عن فلسطين عام
1936 وعام 1948م.
- أخبرونا من الذين يواجهون اليهود في فلسطين المحتلة منذ أكثر من عام؟!.. إن الذين يريدون فرض جورج وكابوتشي والشيوعيين علينا لا يريدون خيراً
لفلسطين، والتاريخ لا يرحم! ! .
كانت سجون مصر تنتظر الإخوان المسلمين، بعد عودتهم من حرب فلسطين، ولكن الذين لم يدخلوا السجن وهم قلة أخذوا يستعدون لمعركة أخرى ... وانتظروا
أول فرصة سانحة، أي بعد خروج مجموعات من الإخوان من السجن، فبدأوا
معركة قنال السويس ضد الإنكليز، وشارك في هذه المعارك بعض الضباط من
الطيبين وغيرهم، فشعر المستعمر بأنه من الصعب جداً استمرار احتلاله لمصر
لأنهم أصبحوا هدفاً لضربات الإخوان القوية في كل مكان من مصر، وكان من
أبرز أبطالهم الشيخ محمد الفرغلي، والأستاذ يوسف طلعت، اللذين أعدمهما نظام
جمال عبد الناصر لأنه يعلم أنهما سيقاومان كل انحراف وكل فساد ...
وجملة القول: هذا جانب تجديدى من تجديد حسن البنا، وهذه صفحات
مشرقة من تاريخ هذا الرجل في الجهاد.
الدرس الثامن:
كان البنا دائم التجديد، فلقد بدأ بداية متواضعة، ثم أخذ يطور جماعته،
ويطور مخططاته ... وكما قلنا فيما مضى كان من هذا التجديد المستمر في عمله:
إنشاء الصحف، والشركات، ومراكز البر والخدمات، ونظام الأسر، والنظام
الخاص ... وكان -رحمه الله- يعلم أنه قد انضم إلى الجماعة في مختلف فتراتها
عناصر غير متجردة، وكانت تريد من وراء ذلك مكاسب ومغانم، وأن من هؤلاء
من توصل إلى مراكز قيادية في الجماعة ... انظر إليه وهو يقول:
» في هذا اليوم تحدث إلي ... و ... بخصوص نظام مجلس الإدارة، إن
هؤلاء الناس لم يفهموا بعد دعوة الإخوان المسلمين، وقليلون هم أولئك الذين
يستطيعون النهوض بأعباء إدارتها، وتنفيذ منهجها الواسع، إنني أتمنى أن يكون
إلى جانبي رجال يفهمون ويديرون فأسلم إليهم هذا العمل وأرتاح بهم قليلاً وأطمئن
إلى مقدرتهم، ولكن أين هم؟
إن الكثيرين لا يفهمون من مجلس الإدارة إلا كلمة العضوية، فهم يتنافسون
على حيازتها، وتقع بها بينهم العداوة والبغضاء.
سيتبع التغيير المنتظر ضجات هي كالسراب يلوح ثم يزول بمجرد الوصول
إليه. فاللهم إن كنت تعلم حسن القصد وخلوص النية فوفق، وإن كان غير ذلك
فاسلك بنا سبيل عبادك المخلصين، آمين، [المذكرات 133] .
وكتب قبل صفحتين يقول:
«على أن ملخص خطراتي أن فرعي جمعية الإخوان بالمحمودية
وشبراخيت سوف لا تنفع كثيراً، لأنها أنشئت بغير أسلوبي، ولا ينفع في بناء
الدعوة إلا ما بنيت بنفسي، وبجهود الإخوان الحقيقيين الذين يرون لي معهم شركة
في التهذيب والتعليم، وهم قليل. ونفس فرع الإسماعيلية ستحدث فيه تعديلات
كثيرة، ولكنه سيسير سيراً نافعاً إن شاء الله ... إنه لله ... قائد موهوب ولكنه
منصرف بهذه القيادة وهذه المواهب إلى السفاسف مسرف في وقته لا يقدر له قيمة،
قلبه مملوء بأوهام لا حقيقة لها، ومنصرف إلى ناحية لا تثمر إلا العناء، فالاعتماد
عليه ضرب من المخاطرة العقيمة.
والأخ الشيخ.. له أساليبه الخاصة به. وهو ينظر إلي كأخ زميل فلا يصغي
لآرائي إلا قليلاً، ومن هذه الناحية يكون توحيد الفكرة ضرباً من التعسر؛ فالاعتماد
عليه مخاطرة كذلك» [المذكرات 131] .
وفي هذه الأسطر القليلة نقرأ عبارات تحتاج إلى دراسة واسعة لأهميتها،
والبحث لا يتسع لذلك ولكن نشير إليها:
- يتمنى أن يكون الى جانبه من عشرات الآلاف رجال قلائل يفهمون دعوته. انظر إليه وهو يتساءل: ولكن أين هم؟ ! .
- يعرب عن حزنه وألمه من هؤلاء الذين يتنافسون على عضوية مجلس
الإدارة، ومن أجلها يتخاصمون.
- يؤكد أنه سوف يجري تغييراً وسوف ينشأ عن هذا التغيير ضجة.
- الاعتماد على غير المخلصين ضرب من المخاطرة العقيمة.
فمن هؤلاء الذين يقصدهم؟ ! ... هل هم الذين تخلوا عنه وانضموا إلى
حزب الوفد؟ ! .
أم هم الذين تآمروا فيما بعد مع عبد الناصر وأمثاله ضد إخوانهم؟ ! .
أم هم صنف ثالث استمروا في الجماعة وفقدوا رجلاً كالبنا يفهمهم على
حقيقتهم؟ ! .
وفيما كتبه البنا -رحمه الله- موقف مهم من الصوفية وطرقهم وانحرافاتهم.
قال -رحمه الله-:
«حضر إلى الإسماعيلية ... من القصاصين وهو يدعو إلى الطريقة وله
أفكار خاصة تنافي آمالي الإسلامية. وأنا إنما وقفت نفسي لدعوة أرى أنها خير
السبل للإصلاح الإسلامي، وأمثال هؤلاء يريدون تحويلها وتشكيلها بشكل دعواتهم
وذلك ما لا أريد..
لقد آن الأوان الذي أعتزل به عن كل هذه الدعاوى المشتبهة. وأكشف فيه
عن الغاية للإصلاح الإسلامي الذي يتلخص في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وتطهير العقول من هذه الخرافات والأوهام، وإرجاع الناس إلى هدي الإسلام
الحنيف» [المذكرات 132] .
فعلى الذين يتحدثون عن صوفية حسن البنا في صغره أن يتدبروا قوله هذا،
ويضعوا خطوطاً تحت قوله عن الصوفية: [تنافي آمالي الإسلامية] . وقوله: [لقد
آن الأوان الذي أعتزل به عن كل هذه الدعاوى المشتبهة] .
وتأكيده بأن دعوته تقوم على الكتاب والسنة وتطهير العقول من هذه الخرافات
والأوهام ... وهكذا كان البنا -رحمه الله- دائم التجديد يكره الجمود والتقليد، كما
كان يسير بدعوته من مرحلة إلى مرحلة أخرى، ويخطط لهذه المراحل، ويعرف
الموضع الذي يضع فيه قدمه ... وكان يسمع النقد ويصغي لكل ناصح، ويسارع
إلى الاعتراف بخطئه، ويمد يده لكل داعية للإسلام داخل مصر وخارجها.
ولقد أقلقت هذه الظاهرة أعداء الإسلام من المستعمرين وأعوان فاروق،
وعلموا أن مركز القوة في الجماعة هو مؤسسها ومرشدها، فدبروا محاولة اغتياله،
ومن الغرائب والغرائب كثيرة أن يكون حماة الأمن هم أنفسهم قطاع طرق، وجناة
وقتلة ... وفرح أعداء الإسلام داخل مصر وخارجها عندما علموا بنبأ قتله.
رحم الله البنا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا
تفتنا بعده، واغفر لنا وله.(17/10)
من مشكاة النبوة
حديث الفطرة
محمد سليمان
نص الحديث: في الصحيحين، واللفظ للبخارى عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها
من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [الروم: 30] ، قالوا يا رسول الله: أفرأيت
من يموت صغيراً؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
ما هي الفطرة:
الفطرة هنا هي الإسلام، فكل مولود يولد مسلماً كما جاء في الصحيح من
رواية الأعمش (على الملة) [1] ، وكما ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حمار
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه أنه قال: «خلقت عبادي
حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي
ما لم أنزل سلطاناً ... ، وفي رواية حنفاء مسلمين، والحنيف في لغة العرب
المستقيم المخلص.
وكذلك حديث (خمس على الفطرة..) (أي فطرة الإسلام، وقوله سبحانه:
[الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] فهذا يعم جميع الناس كما أن إضافة الفطرة إليه سبحانه
هي إضافة تشريف ومدح كقوله: ناقة الله، أو قول الرسول -صلى الله عليه
وسلم- عن خالد ابن الوليد (سيف الله) والذي يمدح هو الإسلام.
ومن معاني الفطرة ذلك الإقرار بالرب نتيجة الميثاق الذي أخذه من ذرية آدم.
قال تعالى: [وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ
ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] [الأعراف: 172] .
فهذا يعني أن الخلق مجبولون على المعرفة بالله، فهو شيء يجدونه في
أنفسهم لا يستطيعون له دفعاً، وإذا أصابتهم ضراء، دعوا الله ورفعوا إليه أكفهم.
فمن أين جاءهم هذا التوجه إلى الخالق وأنه هو الذي يستطيع رفع الضر، إنها
الفطرة المركوزة فيهم،
ولولا أن في النفس قابلية لمعرفة الله ومحبته والذل له لما استطاع التعليم
والتذكير أن يؤثر فيها، فقوة المحبة لا تأتي من الخارج، وإنما هي شيء في
الداخل.
ولما دعا الرسل أقوامهم إلى عبادة الله دعوهم إلى من يعرفونه ولم ينكر
دعوتهم أحد ويقول: وما رب العالمين؟ وأما إنكار فرعون فهو إنكار العارف كما
قال تعالى: [وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُواً] [النمل: 14] وكما قال
له موسى عليه السلام: [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ
بَصَائِرَ] [الإسراء: 102] .
ويرشدنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن تغيير هذه الفطرة يقع بتأثير
الوالدين أو تأثير البيئة. ولذلك شبه المولود بالبهيمة الجمعاء التي تولد سليمة
مجتمعة الخلق لا تغيير فيها ولا تشويه، ولكن الناس يغيرون خلقها بعدئذ فيشقون
آذانها أو غير ذلك، فالفطرة لو تركت دون تأثير خارجي، سواء من الوالدين أو
غيرهم، وأزيحت عنها العوائق من الشبهات والشهوات فهي مقتضية بذاتها لدين
الإسلام.
قال ابن عبد البر: وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزئ
الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم لأنه ولد على الفطرة. وقول الإمام
أحمد في سبي أهل الحرب أنهم مسلمون إذا كانوا صغاراً وسبوا ولم يكن معهم
الأبوين.
وليس معنى أنه يولد مسلماً أنه يعلم الصلاة والصيام وأمور الإسلام، بل هذه
يتعلمها بعدئذ، قال تعالى: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً]
[النحل: 78] ، ولكن معناه أنه لو ترك عن التأثير لكان مسلماً واتجه إلى الله، ثم
يأت دور التعليم والإرشاد وإقامة الحجة، وإقامة العذر ببعثة الرسل التي تكمل
الفطرة، فلابد من نور النبوة مع الفطرة السليمة. كما أن الفطر تختلف فبعضها
يحتاج إلى تعليم أكثر وتحضيض وتذكير، ولكن القابلية موجودة.
الكفر طارئ:
إذا كانت الفطرة تقتضي الإسلام، فهذا يعني طروء الكفر وأنه ليس هو
الأصل في النفس البشرية، وقوله تعالى: [لا تَبْدِيلَ لِخَلْق ِاللهِ] أي لا تبديل لدين
الله. وهو معنى [كان كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ
وأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ... ] الآية.
أخرج ابن كثير في تفسير هذه الآية قوله قتادة: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً] ،
قال: كانوا على الهدى جميعاً ثم اختلفوا [2] .
وأما ما جاء في سورة الكهف في قصة موسى -عليه السلام- والرجل الصالح
الذي قتل الغلام، فلا يعني هذا أن كفر هذا الغلام كان موجوداً حين الولادة، لذلك
جاء في الحديث الصحيح:» أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً،
ولو بلغ لأرهق أبويه طغياناً وكفراً «فقوله: طبع أي طبع في الكتاب، أى قُدّر
وقضي فهو مولود على الفطرة السليمة ولكن يتغير بعدئذ فيكفر، كما أن البهيمة
التي ولدت جمعاء وقد سبق في علمه سبحانه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة، بجدع
يحدث لها بعد الولادة.
وقد قتل الصحابة في سرية من السرايا أولاد المشركين فأنكر عليهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقالوا: أليسوا أولاد المشركين، فقال: أليس خياركم
أولاد المشركين؟ ثم قام فيهم خطيباً فقال:» ألا إن كل مولود يولد على الفطرة
حتى يعرب عنه لسانه «، فهذا يبين أن الكفر طرأ بعد ذلك.
كما أن قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: فأبواه يهودانه ... فلا
يعني أن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره، بل هو تهود وتنصر باختياره ولكن
الأبوين كانا سبباً في ذلك بالتعلم والتلقين والتربية، وهو بقدر الله أيضاً.
شبهات وردها:
1- قد يقال أن الفطرة هنا معناها السلامة وذلك بأن يكون قلبه صفحة بيضاء
قابلاً للإيمان أو قابلاً للكفر، أو كاللوح الذي يقبل أي كتابة. وهذا القول قول فاسد
لأن الذي يكون قابلاً للمدح والذم لا يستحق مدحاً كقوله تعالى: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] وكان ينبغي أن يقال: فأبواه يهودانه أو ينصرانه ... أو
يسلّمانه، وعلى هذا الفرض فلا يكون في القلب سلامة ولا عطب، ولا استقامة ولا
زيع، كالورق قبل أن يكتب فيه القرآن، أو يكتب فيه كفر بالله، أو كالتراب قبل
أن يبني مسجداً أو كنيسة فهذا لا يستحق مدحاً ولا ذماً.
وأهل البدع يقولون: لم يولد أحد على الإسلام، ولا جعل الله أحداً مسلماً ولا
كافراً، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاهما قدرة تصلح للإيمان والكفر. فهذا أحدث
لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام، وأن الله لم يختص المؤمن بتوفيق الهداية،
وهذا مخالف للحديث ومخالف لعقيدة أهل السنة.
2- وقد يقال: إن الفطرة السليمة لو تركت لاختارت المعرفة بدل الإنكار،
والإيمان على الكفر، كما أن في الجسم السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة، فهذا
إن كان يعني أنه لابد من تعلم بواسطة الأدلة، وأنه إن لم توجد هذه الأدلة فإن
الفطرة لا تستطيع الإيمان. فالرد عليه أن الفطرة مُدحت لذاتها وأنها إذا سلمت من
الشبهات والشهوات فهي تقر بالخلق، وإن كان مقصوده أن في الفطرة قوة تغلب
الدين الحق على غيره ولكنها بحاجة إلى التنبيه والتذكير فهذا صحيح مع العلم أن
المعرفة وحدها لا تكفي، بل لابد من عبادة الله بالمحبة له والذل له.
3- عندما نقول أن أولاد الكفار على الفطرة فهذا لا ينافي أن يكونوا تبعاً
لآبائهم في أحكام الدنيا، مثل حضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم،
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها ولم
يرد به الإخبار بأحكام الدنيا، فقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن
ويكتم إيمانه والمسلمون لا يعلمون حاله، فهو عندهم كافر في ظاهر الأمر فلو فتحوا
هذه البلاد جهاداً في سبيل الله فربما قتلوه على أساس أنه مشرك، والطفل يولد على
الفطرة، ولكنه لو أسر مع والديه الكافرين فسيبقى معهم.
نزعة التدين وأصالتها:
ما إن أطل القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديان حتى امتلأت أوربا
غروراً بالعلم المادي الذي اخترعته وانتفش الكفر وعبد هذا الصنم الجديد من دون
الله، وقالوا ان العلم ينافي التدين، واستثمر الماكرون هذه المقولة لإبعاد الدين عن
الحياة، ثم ظهرت بعدئذ الدراسات الاجتماعية وتوسعت وتعمقت في موضوع طبائع
الشعوب وعاداتها، وظهر علم مقارنة الأديان وتبين أن نزعة التدين لا يخلو منها
شعب في القديم والحديث، وعند أشد القبائل وحشية وتأخراً، وعند أشد الأمم تمدناً، ورقياً مادياً.
يقول معجم (لاروس للقرن العشرين) : (إن الاهتمام بالمعنى الإلهي هو إحدى
النزعات العالمية الخالدة للإنسانية، والغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا
تذبل إلا في فترات الإسراف في الحضارة، وعند عدد قليل جداً من الأفراد) [3] .
ويقول شاشاوان: (مهما يكن تقدمنا العجيب في العصر الحاضر، فإن عقلنا
في أوقات السكون والهدوء (عظاماً كنا أو متواضعين، خياراً كنا أو أشراراً) يعود
عقلنا الى التأمل في هذه المسائل الأزلية: لم، وكيف كان وجودنا ووجود هذا
العالم؟) [4] .
ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز -رحمه الله-:» ما هذه إذاً تلك القوة التي
لا تزيدها المقاومة إلا عنفاً واشتعالاً أليست هي قوة الفطرة التي تورق وتثمر كلما
عاودها الربيع فبلّل ثراها وسقى أصولها؟ بلى! وإن هذا قد تكفي منه قطرة،
وربما يتبلور في نظرة، فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر أو لحظة من يقظة
الوجدان، أو أزمة من صدمات العزم فإذا أنت مع عالم الغيب الذي منه خرجت أو
في عالم الغيب الذي إليه تصير « [5] .
وقد عبّر ديكارت في تأملاته عن هذه الفطرة: (إن مفتاح هذه العقيدة (وجود
الله) موجود في نفسه، (في نفس الإنسان) كلما شعر بالفرق بين الشك واليقين أو
بين الجهل والعلم، وكلما قرأ في لوحة نقصه عنوان (الكمال) الذي ليس له،
فالكمال هو أسبق في العقل من فكرة (النقص) فإن من لا يعرف الشيء لا يتفقده ولا
يحس بحرمانه حين يفقده، إذ كيف أعرف أنني ناقص لو لم تكن عندى فكرة كائن
أكمل مني أجعله مقياساً، أعرف به مواضع نقصي، فالرغبة في الكمال وحدها
دليل أسبقية وجود هدفها في التصور العقلي وليست هذه الفكرة اختراعاً وفرضاً
خيالياً بل هي ضرورة تفرض نفسها على عقلي، فلا بد أن تكون ذات خارجية هي
مادة الكمال المطلق ومصدره وهي المثل الأعلى) [6] .
دروس في الدعوة:
هذا الحديث النبوي أصل من أصول الدعوة الى الله، فعندما نخاطب الناس
بأن معبودهم هو الله -سبحانه وتعالى- وليس أحداً غيره فإنما نخاطب شيئاً مركوزاً
في النفس الإنسانية وإذا أزيح ما علق بها من شوائب الشبهات والشهوات رجعت
إلى فطرة سليمة.
والذين يتعبون أنفسهم كثيراً في إثبات وجود الله وأنه هو الخالق لهذا الكون،
ويثبتون ذلك بالأدلة العلمية أو المنطقية، إلى هؤلاء نقول: هونوا على أنفسكم
فليست المشكلة بيننا وبين الناس أنهم ملحدون لا يؤمنون بوجود الله بل المشكلة
الحقيقية هي أنهم لا يريدون الخضوع بالعبادة لهذا الإله فهم متبعون لشهوتهم
وعاداتهم أو لكبريائهم وتجبرهم في الأرض أو أن الشبهات التي سمعوها عن
الإسلام تبعدهم عن الاستجابة، والذين يظهرون الشك أصلاً والإلحاد بوجود الله هم
فئة قليلة على مدار التاريخ والشيوعية المعاصرة والتي هي أزمة من أزمات
الحضارة الغربية لم تستطع الاستمرار في معقلها لأنها تصادم الفطرة، وهاهي
تتنازل عن مبادئها سنة بعد سنة ولم يستطع إرهاب السنوات السابقة أن يقتلع جذور
التدين عند الشعوب التي أخضعها الروس لحكمهم.
وحتى إذا أردنا إقناع هذا الشيوعي الملحد بوجود الله بأدلة علمية ومنطقية،
فهل نضحي بالمنهج في سبيل هذه القضية وتتحول الكتابة والدروس والمحاضرات
لإثبات وجود الله بينما كان الأصل هو إزالة ماران على قلوب الناس من زيغ
وتذكيرهم بالله الذي يعرفونه وأنه هو الذي يستحق الطاعة والمحبة والعبادة، وكل
خضوع لغيره فإنما هو الدمار ولا نريد أن نعلمه شيئاً هو يملكه، ولكن يجب أن
نعلمه الإيمان الذي يتحول إلى طاقة إيجابية.
والرسل دعت الأمم إلى عبادة الله الذي يعرفونه ولذلك قالوا لهم: [أَفِي اللَّهِ
شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] فهذه بديهية لا أحد يشك فيها.
إن الحديث عن آيات الله في الآفاق والأنفس حديث مهم، والقرآن دعا إلى
التفكر في خلق الله وأمره، مما يدعو إلى زيادة الإيمان واكتشاف سنن الله في خلقه
وسنن الله في التغيير وقد يأتي بعض الناس إلى الإسلام عن هذا الطريق، ولكن
هذا كله وسيلة إلى الغاية الأساسية، وهي خضوع الناس لشرع الله وأن تكون
عبادتهم خالصة له.
والأولى أن تتجه الدعوة إلى المسلمين الذين هم في بعد عن الدين الذي أنزله
الله وفي جهل بحدود وشرائع الإسلام، وذلك قبل أن تتجه إلى فئة قليلة من
الملحدين المستهزئين الذين يشغلون المسلمين بجدل عقيم وغالبهم لا يقصدون
الوصول إلى الحق، والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو سيد الدعاة وهو الذي
يجب أن نقتبس من نور نبوته.
__________
(1) ابن تيميه: درء تعارض العقل والنقل، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهذا الجزء هو المصدر الأساسي لشرح هذا الحديث وكذلك كتاب الدين للشيخ محمد عبد الله دراز -رحمه الله-.
(2) تفسير ابن كثير 1/250.
(3) محمد عبد الله دراز: الدين /84.
(4) المصدر السابق: /84.
(5) محمد عبد الله دراز: الدين /97.
(6) المصدر السابق /151.(17/19)
التعليم: الواقع والطموح [*]
جاسر عبد الله الجاسر
تمهيد:
عندما نقول بأن فلاناً متعلم فهذا يعني أنه يملك استعداداً أولياً لأن يكون مثقفاً
وهو بالضرورة على درجة من الوعي مرتبط بمستواه التعليمي، وبالتالي فهو إنسان
إيجابي ومثمر لأنه قادر على توظيف المعطيات الأولية بشكل بنّاء ولخير الصالح
العام.
كل هذه أشياء يفترض توافرها في الشخص المتعلم لأن التعليم يهدف للتغيير
الإيجابي وبصورة أشمل فهو يهدف لتهيئة الإنسان فكرياً أي أن يتعلم الإنسان كيف
يفكر بشكل منهجي.
من ذلك نجد أن التعليم يتعامل مع عقل الإنسان باعتباره عدة عوامل مترابطة، بحيث تكون الذاكرة مدخلاً أولياً لحفظ وتخزين لأساسيات الضرورية للتفكير ثم
يهدأ بعد ذلك إكمال البناء الفكري عن طريق الملاحظة والربط والاستنتاج والمقارنة.
ولكن التعليم العربي ينطلق من اتجاه معاكس تماماً فهو يتعامل مع الذاكرة فقط
باعتبارها إمكانية إيجابية وحيدة في ذهن الإنسان، ولذلك كان الحفظ الكامل لأرتال
من المعلومات المعلبة هو هدف التعليم العربي، وكلما كان الطالب أكثر استعداداً
للحفظ كان في نظر المشرفين أكثر ذكاءً وألمعية، من هنا ابتدأ الخطأ.
خطوة أولى:
يقول العرب (العلم في الصغير كالنقش في الحجر) وهذا المثل يوضح بأبرز
صورة نمطية التفكير التعليمي لدينا، فالعلم يقصد به الحفظ، ومنذ ذلك الحين،
والمتعلمون سامحهم الله يحشون رؤوس صغارنا بكم هائل من المعلومات المتناثرة
فيصبحون كالببغاوات، وما إن يسأل أحدهم عن معلومة ما حتى ينطلق سارداً إياها
لا يغادر صغيرة أو كبيرة، ويفرح الأهل بذلك أشد الفرح، بينما الطفل المسكين لا
يفهم شيئاً مما قال.
يجمع علماء النفس التربوي على أن ذكاء الطفل حتى الثامنة تقريباً هو ذكاء
حركي وليس تجريدي، بمعنى أن الطفل يعرف الأشياء من خلال احتكاكه المباشر
بها، ولذلك ركز التربويون على استخدام اللعب كمدخل تعليمي للأطفال في هذه
السن، بينها يصر التربويون العرب على أن يحبسوا الطفل في قاعة خاصة لمدة
تزيد عن خمس ساعات، وهو يجتر المعلومة تلو المعلومة، ورأسه الصغير يكاد
ينفجر ضيقاً وقرفاً وخوفاً، فما أن يطلقوا سراحه حتى ينطلق لممارسة أنواع
سطحية ساذجة من اللعب العابث الذي لا ينمي موهبة ولا يرسخ سلوكاً ولا يثمر إلا
ضياعاً وجهلاً لا يفوقه إلا جهل المدرسة.
خطوة ثانية:
يجمع التربويون على ضرورة أن يكون معلم الطفل متخصصاً في هذا المجال، دارساً لنفسية الطفل، مدركاً للفروقات الفردية، والأهم من ذلك كله أن يكون
مخلصاً في عمله متحمساً له، مؤمناً بأنه يؤدى عملاً جليلاً، وواجباً خطيراً.
ولكن وزارات التربية العربية لا تؤمن بشيء من هذا، وهي ترى بأن الطفل
يستطيع تعليمه من يعرف مبادئ القراءة والكتابة، ولذلك توكل عملية تعليمه لأقل
مدرسيها كفاءة ومستوى وربما أقل مدرسيها اهتماماً بالطفل، فيكون الطفل ضحية
من ناحيتين.
والخطورة تكمن في أن مرحلة التعليم الأولية تشكل التكوين الفكرى الأساسي
للطفل، بحيث تصبح المراحل اللاحقة مجرد إبراز الجوانب الخفية في هذا التكوين.
فإذا لم يكن المعلم مدركاً لهذا الجانب، ولم تكن المناهج قادرة على ربط الطفل
بعقيدته بشكل صحيح ومدروس فإن النتيجة النهائية ستكون الفشل لأننا أخطأنا في
تحديد نقطة البداية وبالتالي فإننا كلما تقدمنا خطوة، سنوغل في الخطأ أكثر وهكذا
فإننا لن نصل أبداً.
خطوة ثالثة:
يعاني معظم الطلبة العرب من عدم التوافق الدراسي، وهذا يعني بأنهم
يشعرون بأن الدراسة عبء مرهق يفرحون سريعاً بالتخلص منه، وهم يقضون
نصف دراستهم في التحسر على إجازات انتهت ونصفها الآخر في انتظار إجازات
قادمة، وهذا يعني منطقياً أن استيعابهم محدود وتركيزهم شبه معدوم، ولذلك تتبخر
معلوماتهم بعد الامتحانات مباشرة، فينسون كل ماله علاقة بالدراسة وهكذا ينتهي
كل شيء، وهذا يعني وجود خلل خطير في المناهج وفي طريقة التدريس إذ أنه من
المفروض أن يحب الطالب المدرسة، وأن يستمتع بالدراسة كما يستمتع بأية هواية
أخرى يحبها ويقضي ساعات طويلة في ممارستها.
ومن نتائج عدم التوافق الدراسي ضعف المستوى العلمي حتى على مستوى
خريجي الجامعات، ومما يؤكد انعدام فاعلية التعليم لدينا هو اقتران هذا الضعف
العلمي بضعف سلوكي وأخلاقي، وهذا يعني أن ما يقارب ستة عشر عاماً من
التعليم لم تجد فتيلاً، وهر أمر يستحيل قبوله من الناحية المنطقية، فالله سبحانه
وتعالى ميز الإنسان بالعقل وجعله حجة عليه وحثه على التفكير والتأمل والتدبر،
فإذا كان الأمر كذلك فإن التعليم العربي يخدر العقل باستمرار، ولو ترك الإنسان
على فطرته دون تعليم لوجدنا فيه خيراً كثيراً، لأن العقل البشري بطبيعته تركيبي
فهو يبحث ويسأل ويقارن ويحلل ولا يمكن أن يتخلى عن هذا الدور ما لم يكن يعاني
من عجز خَلْقي أو تثبيط موجه.
خاتمة:
يبدو لي أن علينا أن نعيد حساباتنا بخصوص التعليم وأن نستفيد من الناحية
الهيكلية من تجارب الآخرين بدلاً من أن نظل نتخبط في محاولات الصح والخطأ.
وللخروج من هذا المأزق الحرج يجب على العالم العربي أن يكون على قدر
من الشجاعة والمسئولية وأن يعترف بأخطائه في هذا المجال، ومن ثم تبدأ إعادة
البناء بشكل كامل وصحيح:
1- الاهتمام بالطفل تربوياً وسلوكياً ونفسياً واجتماعياً، فهم نواة المستقبل
ومسئولية الأمة حتى ينضجوا.
2- الاهتمام الجدي والمدروس بتعليم الطفل وتعديل المناهج لتكون ملائمة
لعقلية الطفل.
3- إعادة وضع المناهج التعليمية، بحيث تكون حافزاً على التفكير وليست
مجرد معلومات جاهزة تؤخذ كما هي.
4- تقليل عدد الطلاب في الفصول.
5- التركيز على جلسات الحوار والمناقشة الودية بين الأستاذ وتلاميذه.
6- تشجيع الابتكارات.
7- قيام علاقة ودية بين الأستاذ وطلابه.
8- الابتعاد عن التلقين في كافة مراحل التعليم.
9- التركيز على بناء الشخصية وتدعيم استقلالية الطالب.
10- الاهتمام بالبحوث التربوية والإكثار منها.
11- وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
12- مراعاة أن تكون المناهج تساعد في صقل شخصية الفرد المسلم وأن
تعمق ارتباطه بعقيلته بشكل واعٍ وصحيح.
13- عدم التسرع في النواحي التربوية فالخطأ فيها قد يقضي على أجيال
كاملة.
14- تأهيل المشرفين والترحيب بالمخلصين والمتحمسين لأنهم هم الذين
يدفعون بصدق حركة التعليم للأمم.
15- العمل على تحسين المكانة الاجتماعية للمعلمين وليس هذا الأمر بعسير.
__________
(*) مساهمة وصلتنا استجابة لدعوة المجلة لفتح ملف التعليم في البلاد العربية، ولازالت الدعوة لأهل الاختصاص والمهتمين بذلك قائمة.(17/26)
خواطر في الدعوة
أين دور العمل؟
مرت بالمسلمين فترات ضعف فيها العلم، وخاض الناس في أمور العقيدة أو
الحدث أو الفقه أو الدعوة دون دليل صحيح معتبر، وتكلموا في أخطر قضايا
المسلمين بكلام إنشائي مرصوف، واستشهدوا بالأحاديث الضعيفة والموضوعة
أحياناً، وُيتنبه لهذا النقص والخلل، ويبدأ التركيز على المصادر الإسلامية
الأساسية والنهل من ينبوعها واعتبار الصحة والدليل، وتوثيق النصوص، حتى
يقوم البناء على أساس متين، وهذا شيء لا غبار عليه بل هو مطلوب وضروري،
ولكن كثيراً من الناس لا يستطيعون الاستمرار على طريق الاعتدال والوسطية
فيغالون أو يقصرون في أي أمر يعرض عليهم، فإذا رزقوا العالم الفطن ردهم إلى
الطريق السوي.
فالعلم لابد منه ولا يقوم بنيان على الجهل، ولكن أن يتحول كل الشباب
المسلم المخلص إلى مفتين، ونرى الطبيب والمهندس ومدرس العلوم أو الرياضيات
أو مدرس الأدب واللغة لا يتعمقون في دراساتهم ولا ينفعون المسلمين باختصاصهم، إلا في العموميات، وتجد في مكتبة الطبيب كل كتب التراث، ولا تجد المصادر
الأساسية في مهنته، فهذا وضع غير طبيعي وخلل في فهم الأمور.
فهناك علماء متخصصون يستطيع هذا الأخ سؤالهم إذا استغلق عليه أمر أو
أعيته مسألة. هكذا كان عمر -رضي الله- عنه يفعل إذا طرأت عليه مسألة جديدة، يجمع الصحابة ويشاورهم ولا يتهيأ مسبقاً بحفظ المتون وافتراض المشكلات
والحلول. وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس يقول: أدركت هذا البلد (المدينة)
وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من
العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذوه، وأنتم تكثرون من المسائل وقد كرهها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-.
وكبار الصحابة لم يكونوا من مكثري الروايات فقد روى أبو عبيدة ابن
الجراح أربعة عشر حديثاً، وسلمان الفارسي ستين حديثاً، ومعاذ ابن جبل مئة
وسبعة وخمسين حديثاً، وغالبهم لا يروي إلا مئتين حديث أو ثلاث مئة حديث،
وفي الصحيحين والسنن الثلاث والموطأ ثمانية وستين حديثاً في الحث على الجهاد.
(العواصم والقواصم 2/ 488) .
والصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون كانت عنايتهم بالجهاد والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام الليل، وتفقد مصالح المسلمين، ولا شك أن ذلك
بعد تحصيل العلم الذي لابد منه، ولم يطلب القرآن العلم الزائد على الكفاية كما
طلب وحث على العمل ومدح الخاشعين في الصلاة المعرضين عن اللغو والصابرين
في البأساء والضراء وحين البأس.
وإذا كان هذا منهج السلف وهم متفرغون للعلم بما فتح الله عليهم من الدنيا،
فكيف بنا الآن ونحن نساس بغيرنا، ويقرر أمرنا غيرنا، ونحتاج لأعداء الإسلام
في كل صغيرة وكبيرة من أمور دنيانا، والمهام الملقاة على عاتقنا كثيرة وحال
المسلمين العلمية الآن أفضل مما كانت عليه قبل قرن؛ فلم يبق إلا المزيد من العمل
والتطبيق.
ولا يخطرن ببال أحد أننا نقلل من أهمية العلم الشرعي أو نضعف من شأنه،
ولكننا ندعو إلى العمل بعد العلم، كما لا يعني هذا أن نحجر على أحد في طلب
العلم الشرعي والتزود منه، بل لابد منه وخاصة لمن يتصدى للدعوة إلى الله والذي
يجمع بين تخصصه والعلم فهذا خير على خير، ولكن الغالب أنه لا يستطيع التمكن
من الاثنين، فهذا ننصحه بالتزود من العلم المطلوب لمثل حاله وأن يفيد المسلمين
في اختصاصه ونحن نعلم أن هناك علوماً شرعية لابد منها لكل مسلم خاصة
المتعلمين منهم حتى يدعو إلى الله على بصيرة، ولا بد من اتقانها، بعضها مجملاً، وبعضها تفصيلاً، وما خفي عنه فشفاء العّي السؤال.(17/30)
دراسات منهجية في النظر والاستدلال
أهمية أصول المعرفة في الإسلام
- 1 -
د. عابد السفياني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإن لكل قوم نظرية معرفية يتخذونها طريقاً للوصول إلى ما يجب عليهم
اعتقاده والعمل به، سواء أدركوها إدراكاً كاملاً وكتبوها ونشروها للناس، أم
احتسبُت في أذهانهم وتصرفوا بموجبها، ولنضرب بعض الأمثلة التي تبين
المقصود:
إن من أصول (العلمانية) [1] أن الحياة العامة في الدولة والمجتمع لاتحكم
بأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما تحكم بأي نظام آخر من الشرائع التي يضعها
الإنسان بنفسه، وترتب عندهم على تقديم (القوانين الوضعية) على (الشريعة
الإسلامية) أن اعتقدوا أن الحكم بما أنزل الله فيما يخص هذه الأمور ليس واجباً،
وزينوا عقيدتهم المنحرفة بثلاث شبه:
الأولى: أن الدين الواجب التزامه إنما هو النطق بالشهادتين وأداء الشعائر،
وهذا مخصوص بقيد آخر معروف في القوانين الوضعية ألا وهو: جعل هذا الإلزام
على الاختيار إن صح التعبير ومعنى ذلك أن من أراد أن يلتزم بذلك فله ما أراد،
ومن لم يرد فلا حرج عليه، فإن (القانون) لا يعاقب على جريمة الردة، فآل الأمر
في النهاية إلى أن الدين الواجب التزامه هو ما اختاره الإنسان من الملل المتعددة،
حتى وإن كان كفراً بعد إسلام، وليس عليه من شرط إلا الالتزام بالقانون الوضعي
الذي تعمل به الدولة التي يعيش فيها.
فإن كان من أهل الإسلام فحكمه في القانون الوضعي أن يتصرف في أموره
الخاصة حسب أحكام دينه أي الشريعة الإسلامية، أما في الأمور العامة فلا يحق له
الخروج عن أحكام القانون الوضعي المعمول به في الدولة التي يعيش فيها. ...
الثانية: يسلم بعض (العلمانيين) محافظة على شعور المسلمين بأن ما ورد
في الشريعة الإسلامية ملزم جملةً وتفصيلاً للدولة والمجتمع إلا أنهم ينكصون على
أعقابهم فيقولون: إن ما ورد فيها حق وصدق وملزم، ويجب التحاكم إليه، ولكن
ليس ملزماً لنا وإنما هو ملزم لمن نزل عليهم القرآن أول مرة، أما أوضاعنا
المعاصرة فتحكم بمطلق المصلحة، وليس منها بالطبع شيء من أحكام الشريعة،
اللهم إلا ما سبقت الإشارة إليه وهي الأحكام الخاصة، أو ما تسمى في مصطلح
القانون الوضعي (الأحوال الشخصية) .
الثالثة: يعتقد بعض العلمانيين إمكان تغيير الشريعة الإسلامية وتطويرها
لتصبح في نهاية الأمر هي (القوانين الوضعية) ويزعمون أن ذلك ممكن جداً، لأن
أحكام القانون تسعون في المئة منها موافقة للشريعة الإسلامية، ويمكن تطويع ما
بقي بعد ذلك.
وهذه الشبه أثارها الاستشراق أولاً، ثم وزعها في العالم الإسلامي، وتلقفها (العلمانيون) فيه، وخدعوا بها كثيراً من المسلمين، وتبناها كتاب كثيرون في الدراسات الإسلامية [2] ، وهذه الشبه كما ترى انتجت ذلك الأصل الفاسد، وأصبح طريقاً غير موثوق به، لأنه استبعد الشريعة الإسلامية، ورفض حاكميتها في المرحلة الحالية التي تعيشها البشرية، وهذا قدر مشترك بين العلمانيين في أوربا والعلمانيين في العالم الإسلامي، ويتفاوتون بعد ذلك في أمور أخرى، ونستطيع أن نكشف عن هذا القدر المشترك، ونتبينه إذا تابعنا سوياً بعض جوانب الشريعة الإسلامية وموقف العلمانيين منها:
أولاً النظام الجنائي:
ويشمل الحدود والقصاص والتعازير ... فإن موقف العلمانيين -التزاماً
بأصلهم في المعرفة- أن لا يُسمع في هذا من الشريعة الإسلامية شيء، فضلاً عن
أن يعمل به، فالأمور العامة -كما يقول أصلهم في المعرفة- يحكمها كل نظام
بشرط أن لا يكون إسلامياً، ولا بأس على الدول العلمانية أن تحتكم إلى القانون
الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو البريطاني أو الأمريكي ... ولا بأس في
الاختلاف في عملية الاختيار في مثل هذا مادام أن العلمانيين متفقون على إبعاد
الشريعة الإسلامية عن هذا الجانب، ولكل دولة بعد ذلك أن تختار أيضاً من دركات
الانحراف عن الفطرة السوية ما تريد [3] .
ثانياً النظام الاقتصادي:
ومعلوم موقف (القوانين الوضعية) من الربا فإنها اجتمعت على تحليله ونشره
بكل طريق، ويحسن بنا أن نربط بين العلمانيين في أوربا والعلمانيين في العالم
الإسلامي، فنقول: إن الربا كان محرماً في الدين النصراني، وقد تحايل اليهود
على تحليله ونشره بين النصارى رغبة منهم في إبعاد النصارى عن بعض ما كانوا
مستمسكين به من شرائع سماوية.
ولقد ثبت في الشريعة الإسلامية أن (الربا) كان محرماً على أتباع الأنبياء -
عليهم السلام- ومنهم أتباع عيسى -عليه السلام-، فالحرمة إذاً ثابتة للربا في جميع
الشرائع التي أرسل بها رسله جميعاً، ولكن (العلمانيين) في كل مكان رفضوا
الاحتكام إلى هذه الشرائع [4] ، وإن مما ساعد على تحليل الربا ونشره في أوربا
موقف الكنيسة المنحرف عن الدين، وعدم وجود (البديل) الذي يمكن أن تسير
الحياة العلمية على أساسه.
أما في العالم الإسلامي فإن البديل هو منهج الاقتصاد الإسلامي، وهو موجود
فعلاً، بل هو الأصل التي كانت تحتكم إليه المجتمعات الإسلامية طيلة أربعة عشر
قرناً، ولكن اجتماع العلمانيين في كل مكان على نصرة (القوانين الوضعية) ،
وعلى تصدير أصلهم في المعرفة وتعاونهم على ذلك جعل هذه الشعارات تستقر في
العالم الإسلامي ومنها: (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ، ولا دين في السياسة
ولا سياسة في الدين [5] .
ومقتضى هذا الأصل المعرفي المنحرف أن الأحكام في الأمور العامة هي
شريعة قيصر أي القوانين الوضعية، وليست هي الشريعة الإسلامية، هذا هو
أصل العلمانيين الذي يسعون إلى التمكين له قولاً وعملاً.
ثالثاً النظام الأخلاقي:
إن ثورة العلمانيين في أوربا وفي العالم الإسلامي على النظام الأخلاقي
متشابهة جداً.
فلقد قال العلمانيون في أوربا ما للأخلاق والدين، ونادوا بإخراج المرأة عارية
الساقين، حاسرة الرأس، وأن تتخذ الأصدقاء، وترقص في المسارح، وإذا قلت
لهم إن الدين لا يقبل ذلك، قالوا: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أصل معرفي
يتحجون به عند الخصومة والنزاع.
وكذلك العلمانيون في العالم الإسلامي ما زالوا ينادون بذلك، ولا عليهم من
النتائج الخطيرة التي تترتب على ذلك، من فساد فطرة المرأة، وضياع بيتها،
وأطفالها، وتدمير مجتمعها بإفساد النوع الإنساني، كل ذلك لا يهمهم، المهم أن
تخرج المرأة بدعوى الاستفادة من طاقات المجتمع، وهم أول من يعلم أن المجتمع
قد ازدحم بكثير من الشباب الذين لا يجدون عملاً، ونرى كثيراً من المصلحين
يسعون لاستثمار طاقات الشباب المعطلة والاستفادة من أوقاتهم المهدرة، وتارة
يُوفقون في ذلك، وتارة لا تسعفهم الفرصة لتحقيق هذه الأهداف النبيلة التي يستفد
منها الشباب والمجتمع في آن واحد، أما الذين شُغلوا بقضية المرأة، فهم لا
يتعاطفون مع هؤلاء المصلحين، وحرصهم على الاستفادة من طاقات المرأة أكثر
من حرصهم على الاستفادة من طاقات الشباب، وهم أول من يعلم أن الشباب هم
الذين يتضررون من البطالة، ويتضرر معهم المجتمع، أما المرأة فإن المجتمع إذا
كان سوياً ومحافظاً على فطرته الإنسانية من وجود زواج، وأسر، وأبناء، فإن
المرأة هي قاعدة البناء فيه، ولا نتصور أن تقع في البطالة، ولا يمكن أن نقحمها
في تلك الأعمال التي أقحمها فيها (العلمانيون) في أوربا فأفسدوا البيت والشارع معًا، ... وهكذا يريد إخوانهم في العالم الإسلامي، أن يسلكوا طريقهم، ويبنوا على أصلهم
الفاسد ويدلِّسوا على الناس بأنهم لا يعارضون الدين، ومن المعلوم أن هؤلاء الذين
أصروا على إخراج المرأة قد فشلت تجربتهم، ومازال حكماء أوربا يشكون من
فساد هذه التجربة [6] ، ولكن العلمانيين في العالم الإسلامي مازالوا حريصين على
بقاء هذه التجربة الفاشلة وانتشارها، ويصرون على إبعاد (حكم الشريعة الإسلامية) عنها.
وينبغي للبصير أن يتأمل في مواقف المخالفين من قضية المرأة ومن النظام
الاقتصادي والنظام الجنائي، لتنكشف له حقيقة مهمة طالما أراد كثير من المخالفين
إخفائها والتستر عليها.
إن (العلمانيين) في العالم الإسلامي، كما هو معلوم لا يقولون إن محمداً -
صلى الله عليه وسلم- ليس بنبي ولا رسول، ولا يقولون إن القرآن ليس هو كتاب
الله، ولا ينكرون اليوم الآخر، ولا يرفضون النطق بالشهادتين، ومنهم من يصلي
ويصوم ويحج ...
وإذا أردت أن تتحقق من الخلاف بيننا وبينهم فارجع إلى ذلك الأصل المعرفي
الذي سبقت الإشارة إليه ينكشف الأمر لك بجلاء، فتجده أنه خلاف على قبول
حاكمية الشريعة الإسلامية في الأمور العامة في الدولة والمجتمع، واتفاق نسبي في
قبول ما جاءت به في الأمور الخاصة (الأحوال الشخصية) ، والصلاة والصيام
والحج.
وإذا قيل لهم: كيف جعلتموها مصدراً في هذه الأمور دون تلك، ولماذا لا
يكون أصلكم في المعرفة هو قبول ما جاءت به جملة وتفصيلاً، أليس الذي جاء بها
محمد -عليه الصلاة والسلام-، والذي أرسله بها هو الله خالق السموات والأرض،
قالوا: بلى! !
وإذا قلت لهم من هو الحكم العدل، ومن هو العليم الخبير، ومن هو الذي في
السماء إله وفي الأرض إله؟ فسيقولون: الله، فقل أفلا تقبلون حكمه في (النظام
الجنائي) ، وفي النظام الاقتصادي، وفي النظام الأخلاقي....، فأنى تؤفكون.
[أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ] [7] .
__________
(1) العلمانية: نشأ هذا المذهب الذي أطلق عليه هذا الاسم في أوربا وهو (حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية) وأقرب ترجمة لها عند الأوربيين (اللادينية) مذاهب فكرية معاصرة / 445-446 للأستاذ محمد قطب، دار الشروق 1403 هـ، وكتاب (العلمانية) رسالة ماجستير للدكتور سفر الحوالي.
(2) الاتجاهات الحديثة في الإسلام، للمستشرق جب / 26-79-122- 123، الإسلام في التاريخ الحديث للمستشرق ولفرد سميت / 7-7-8، القانون المدني الأعمال التحضيرية، الدكتور أحمد السنهوري 1/20، وأسبوع الفقه الإسلامي / 114 الدكتور عبد المنعم الصده، وقد أورد الدكتور الأشقر قولهما وناقشهما فراجعه فإنه مفيد، انظر كتاب (الشريعة الإسلامية لا القوانين الجاهلية) .
(3) انظر الاتجاهات الحديثة في الإسلام، للمستشرق جب / 175، فقد قال: إن العالم الإسلامي له حق الاختيار في تحديد طبيعته في الحياة ولكن بعد أن يتابع الفكر الغربي ويخضع للقوانين الوضعية، وقصده كما هو ظاهر أنه ليس لزاماً على المسلمين أن يتركوا كل ما جاء به الدين الإسلامي ولا بأس بالمحافظة على بعض عاداتهم الإسلامية وطبائعهم الخاصة، ولكن الذي يطلبه منهم الاستشراق وما يتبعه من المذاهب الحديثة أن يسايروا العالم الغربي من حيث الخضوع للقوانين الوضعية وترك التحاكم للشريعة الإسلامية.
(4) الربا وأثره على المجتمع الإنساني، الدكتور الأشقر / 29- 48 - 67.
(5) العلمانية، للدكتور سفر الحوالي / 648 - 706.
(6) انظر شهادة الكسس كاريل / 198.
(7) الأنعام / 114، وجامع البيان 7 / 70.(17/33)
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
-4-
محمد العبدة
كان تشخيص أمراض العالم الإسلامي عند مالك بن نبي مقدمة للبحث عن
العلاج، أو للبحث عن أسس النهضة، وكيف تبدأ؟ ومن أين تبدأ؟ إن بلداً مثل
اليابان بدأ نهضته في منتصف القرن التاسع عشر [1] وهي نفس الفترة التي بدأ
الحديث فيها عن النهضة في العالم الإسلامي، فلماذا كان هذا البطء في (الإقلاع) ؟ .
السبب برأى مالك بن نبي هو عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نظرية
محددة للأهداف والوسائل وتخطيط للمراحل. (فإذا حللت جهود المصلح الإسلامي
وجدنا فيها حسن النية، ولكنا لانجد فيها رائحة منهج) [2] (وليس هناك تحليل
منهجي للمرض وليس إلا أن عرف المريض مرضه فاشتد في الجري نحو الصيدلي
-أي صيدلي- يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام) [3] (وواقعنا الآن
إما فكرة لا تتحقق أو عمل لا يتصل بجهد فكري) [4] .
لا شك أن هذا الكلام حول (المنهج) صحيح ودقيق، فليس هناك دراسات
عميقة وتحليلية لأمراض المسلمين، وما هي الحلول والمقترحات وما هو المهم
والأهم، وكل الدراسات تأخذ جانباً من الجوانب تركز عليه والحل الأحادي هو
الغالب، وأعمال كثير من المؤلفين كانت تبريراً ودفاعاً أمام الهجوم الغربي
الاستشراقي على الإسلام [5] ، وليست أعمالاً فيها تخطيط للحاضر والمستقبل،
غابت المؤتمرات التي تخرج بنتائج فعلية واقعية وكثرت تلك التي توصي بوصايا
لا تخرج عن دائرة الورق التي كتبت عليه.
والذين كتبوا في أوائل النهضة كتابات جيدة مثل الشيخ رشيد رضا لم يستفد
منها كثيراً ولم تنقح ويؤخذ الايجابي منها، ويبنى عليه، وكذلك الذين جاءوا من
بعده لم يكن هناك خطة علمية لدراسة أقوالهم وآرائهم، وكأنما كل من يأتي يريد
البدء من الصفر، بل نستطيع القول: إن كثيراً من الأخطاء التي وقعت سواء في
مجال الدعوة أو غيرها انما كانت بسبب غياب المنهج أو عدم الالتزام بمنهج.
وإذا كنا لا نملك الوضوح من الناحية النظرية فضلاً عن وجود منهج تطبيقي
عملي فهذا لا يعني عدم وجود المنهج، فالقرآن الكريم والسنة أوجدا المناخ المناسب
لأن يستنبط العلماء منهج أهل السنة في النظر والاستدلال وطرق الحياة التي يريدها
القرآن [6] ، فعندما يقول سبحانه: [ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] نجد الصحابة
يفهمون هذا التوجيه ويلتزمون به، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى
كلمة [وَاباً] من آية [وفَاكِهَةً وأَباً] فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم، بل
يرى أنه من التكلف معرفة كل شيء، وأبو بكر -رضي الله عنه- يقوم بعمل علمي
طبقاً لمنهج، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت، الذي كلفه بجمع القرآن،
وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد [7] .
وفهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمثالهما يكرهون
الجدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل، وقد وضح هذا المنهج بشكل
نظري في كتابات ابن تيمية وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وكان
بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج، ولكنهم مع الأسف
غرقوا في الجدل وعلم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.
والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بنتائج في شتى مجالات العلوم. وإذا كان للمنهج هذه الأهمية (فإن نجاحه مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً
(الاستعمار والقابلية للاستعمار) ، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية
مشكلة مزيفة) [8] .
لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة
لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاستعمار الذي هو الجانب الخارجي
من المشكلة، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة
الإسلامية.
الاستعمار والصراع الفكري:
إن عرض مشكلة الاستعمار يبدو أكثر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على
العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى، وحاول
إجهاض أي عمل إسلامي مثمر، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.
ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتقصير المسلمين على شجب
(الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية، ويرى أنها الأساس في البحث
والتحليل، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين، لذلك
جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة، فقد قرأ الكثير
وعانى الكثير من استعمار فرنسا للجزائر، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى
الحركة الاستعمارية من أصولها فلا بد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال
سياسة [9] ، فظاهرة الاستعمار من طبيعة الرجل الأوربي، فكلما وقع اتصال بين
الأوربي وغير الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (موقف استعماري) [10] بينما نجد
في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء
والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار. ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي، إن
تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار، يقول: «إن الأوربي يحب
عالم دون بشر» ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته
لكان هوالصواب [11] .
وحتى بعض الأفراد الغربيين الذين يشاركون في المعركة ضد الاستعمار إنما
يشاركون مادامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع
الصراع الفكري، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري « [12] .
وفي ميدان الصراع الفكرى وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب
نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته: (بما أننا نحن المسيطرون
ونحن الأقوى إذن فأفكارنا صحيحة) .
(ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكرى ومناوراته) [12] . وقد يرفع الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه لأن الذي رفعه عدو، وبهذا يكون قد صرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في المستقبل.
يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول:» انعقد في باريس مؤتمر
العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر
توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، ولكن
أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يفتهم أن يسدوا الطريق على الأفكار
المعروضة، ولذا وجهت الدعوة إلى السيدة الألمانية التي كتبت (شمس الله تشرق
على الغرب) وفيه مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية، وتقدمت السيدة وقدمت كتابها
للمؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات إلى أبهة وأمجاد الماضي
الخلاب « [13] .
ومن وسائله الماكرة، التي لا يزال يتقن استعمالها رميه للمسلم بشتى
الاتهامات، بل يحاول الإيحاء بأن المسلم منبوذ القرن العشرين، وفي هذه الحالة
يصبح سلوك المسلم ردود أفعال، وترفع عنده توتر طاقات الدفاع حتى يكون في
حالة توتر شاذة، ويعيش إما مُتهِماً أو مُتَهماً، وفي هذه الظروف فإن مختبرات
الاستعمار تصرف كل إمكانيات المسلم إلى معارك وهمية، يُسمع فيها قعقعة السلاح
ودوي الحرب ولكنها معارك مع أشباح، والمسلم يظن أنه انتصر ويرتاح نفسياً،
والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية كتلك التي خاضها
الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو، والمشكلة ليست في
الدفاع عن الإسلام ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم [14] .
لقد تدخل الاستعمار في كل شيء حتى لا يترك فرصة لأي بعث إسلامي،
فكانت الإدارة الفرنسية في الجزائر هي التي تعين المفتي والإمام لا طبقاً لمشيئة
جماعة المسلمين بل تبعاً لهوى المستعمرين، وبذلك تجمع في يدها أنفذ وسائل
الإفساد، فاختيار رجل يؤم الناس في المسجد لا يكون بناء على تميزه بضمير حي
أو علم بأصول العقيدة، بل يراعى في ذلك ما يقدمه للإدارة من خدمات، حتى كأنه
(جاويش) صلاة، ولا شك أن هذا التحكم في شعائر الدين مما يقض مضاجع
أصحاب العقائد من المؤمنين لما يرون من أحداث غاية في الفساد: إمام جاسوس،
ومفت فاسد، وقاض مرتش، وغاية الاستعمار أن يجعل من الإسلام صورة عجيبة، وبذلك يكدس العقبات والعوائق على طريق النهضة الإسلامية) [15] .
دور الاستشراق:
كان للمستشرقين دور بارز في محاولة تشويه وتزييف التاريخ الإسلامي
والطعن في الإسلام نفسه، ولكن مالك بن نبي يركز على ناحية معينة في إنتاجهم
كان لها أثر نفسي سيء في أذهان المسلمين. فبعض المستشرقين خلطوا في كلامهم
بين المدح للإسلام وبين وضع السم في الدسم، هذا المدح جعل بعض المسلمين
يستسلمون لنزعة الفخر والعيش مخدرين على أمجاد الماضي، وكل من أراد الدفاع
عن الإسلام استشهد بكلام لأحد المستشرقين، (وهكذا يتبين لنا أن الإنتاج ... الاستشراقي بكلا نوعيه (المادحون والمفندون) كان شراً على المجتمع ... الإسلامي) [16] (وعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح العلوم، ربما يؤدى بنا هذا الموقف المتطرف إلى تلافيه بسطحية نشاهد أثرها في إنتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري) [17] وهو التفسير الذي حول القرآن إلى مادة للعلوم، والقرآن يوجد المناخ العقلي والنفسي للروح العلمية وليس هو كتاب جغرافيا أو فلك أو أحياء..
وأخيراً لابد أن نعلم أن المكر السيء يحيط بأهله (فالاستعمار الذي يهلك
المستعمَرين مادياً يهلك أصحابه أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ أسبانيا منذ
اكتشاف أمريكا) [18] (إن الأمم الاستعمارية على الرغم من إدراكها لأخطار
الاستعمار، تعمى عن هذه الأخطار كأن هنالك قدراً محتوماً يقضي على يقظتها
ووعيها) [19] .
ويجب أن نعلم أيضاً أنه رغم كل هذه العوائق، استطاع المسلم التفلت من
الأنشوطة التي أراد الاستعمار عقدها حول عنقه، فما زالت فطرته وإسلامه يعطيانه
القوة والدافع لتلمس الطريق الصحيح.
ما هي نقطة البدء؟ ...
الإقلاع:
الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه المسلم هو نقطة البدء، هذا الإيمان الذي
يعطيه قوة فوق قوته، واحتمالاً فوق احتماله، فيتغلب على المصاعب التي
تعترضه، ويتحول هذا الإيمان إلى عاطفة قوية جارفة (فالروح وحدها هي التي
تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت
لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير الجاذبية الأرضية) [20] (فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، ويفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية [21] والمسلم الذي يصل إلى درجة (التوتر الروحي) يشعر بالسعادة الغامرة عندما يبني أول مسجد في المدينة ويحمل (لَبنِتَيْن) بدلاً عن واحدة) وفي هذه الحالة الروحية صبر بلال - رضي الله عنه - ولم تستطع قوة في الأرض أن تخفض إصبعه وهو يقول: (أحد، أحد) [22] .
هذا الإيمان يصنع المعجزات، عندما تختفي الأنانيات ويشترك الجميع عن
طواعية في بناء حضارة، وفي المجتمع الإسلامي الأول كان المنافقون وحدهم
يتخلفون عن أي عمل فيه تعب أو نصب، وكل الكتب والمحاضرات والخطب لا
تكفي لإنشاء أمة لا ترتفع إيمانياً وأخلاقياً إلى درجة عالية، كما جاء في الحديث
عن جندب بن عبد الله قال:» تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن
فازددنا به إيماناً « [23] .
والقرآن الكريم وضع ضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى
ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف وهذان الحدان ينطبقان على مفهوم الآيتين
الكريمتين:
أ-[فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] .
ب-[إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] .
وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال الذي يبذله
مجتمع طبقاً لأوامر رسالة [24] .
يقول الدكتور (الكسس كاريل) معبراً عن هذه الحقيقة: (فالأمل والإيمان
والحمية تؤثر في الجسم تأثير البخار في العجلة المحركة) [25] (وإذا نجحت
إحدى الأفكار في تغيير سلوك البشر فذلك لأنها تنطوي على عناصر عاطفية إلى
جانب العناصر المنطقية، إن الإيمان هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وليس العقل، والذكاء يكتفي بإنارة الطريق ولكنه لا يدفعنا إلى الأمام) [26] .
هذه الطاقة الإيمانية جعلت الفرد المسلم في عصر النبوة يقسم ثروته مع أخيه
الذي هاجر إليه، فالمؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار هي أول عمل
تاريخي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ولولا قوة شبكة العلاقات الاجتماعية لما
استطاع المجتمع الإسلامي الإقلاع باتجاه حضارة، وفي حالة تمزق هذه العلاقات قد
توجد العوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء) ولكنها لا تغني شيئاً، وقد
يكون هناك مسلمون متحمسون وهناك أفكار ولكن الشبكة ليست قوية.
إن قصة المؤاخاة ليست خيالية، ولا هي أقرب للخيال، فالإسلام دين واقعي، وليس صعباً أن يحقق المسلمون شيئاً من هذه (المؤاخاة) ، والآن توجد (إخوة
إسلامية) خطابية وعظية ولكن لا يوجد (مؤاخاة) عملية فعلية، من هنا المنطلق، ...
ومن هنا البداية.
(يتبع)
__________
(1) لاشك أن هذه نهضة صناعية، وليست نهضة حضارية بالمعنى الشامل، ولكن لو أن اليابانيين طالبوا بنقل مفاسد حضارة الغرب وسلبياتهم كما يطالب المستغربون عندنا لما نجحوا في بناء هذا المجد الاقتصادي، لقد حافظوا على نوع من التقاليد وأخلاق صارمة في التعامل حتى استطاعوا
إقامة هذه النهضة.
(2) الأفرو آسيوية / 78.
(3) شروط النهضة /59.
(4) وجهة العالم الإسلامي /75.
(5) آفاق حد الرية / 46.
(6) إنتاج المستشرقين / 28.
(7) إنتاج المستشرقين / 33.
(8) وجهة العالم الإسلامي /86.
(9) وجهة العالم الإسلامي /85.
(10) في مهب المعركة / 16.
(11) في مهب المعركة / 28.
(12) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة / 9.
(13) مشكلة الأفكار / 140.
(14) إنتاج المستشرقين / 16.
(15) الصراع الفكري / 6768.
(16) إنتاج المستشرقين / 25.
(17) إنتاج المستشرقين / 25.
(18) وجهة العالم الإسلامي / 113.
(19) وجهة العالم الإسلامي / 113.
(20) المصدر نفسه / 26.
(21) المصدر السابق/27، وقد يستغرب القارئ ويقول: كيف نجمع بين كلامك في نهاية المقال السابق عن أن توحيد الإلهية لم يكن واضحاً تماماً عند مالك وبين كلامه عن الإيمان وأثره ومهاجمته لعلم الكلام، وقد نبهني أحد الأصدقاء إلى أن ظاهر كلامه لا يدل على هذا، مع قناعته بوجهة نظري، فذكرت له أنني استنتجت هذا الكلام من مجموع قراءاتي لكتبه، كما أنه في النية كتابة مقال مستقل عن بعض أخطائه ومنها هذا الموضوع، وسأوضح الدليل على ذلك إن شاء الله، وقد يزول الإشكال إذا عرفنا أنه يتكلم هنا عن بناء الحضارات بشكل عام، فالمسلم عنده طاقة روحية وغير المسلم عنده هذه الطاقة في بدء دورة الحضارة كما يذكر في أكثر كتبه.
(22) ميلاد مجتمع / 21.
(23) صحيح سنن ابن ماجه، بتحقيق الألباني 1 / 16.
(24) ميلاد مجتمع / 21.
(25) تأملات في سلوك الإنسان / 84.
(26) المصدر نفسه / 139.(17/39)
الزيارة بين النساء
على ضوء الكتاب والسنة
- 3 -
خولة درويش
إن المؤمنة حيثما جالست غيرها تحرص على أن لا تقذف بكلامها دون
تمحيص، فهي تسعى لتكون أقوالها فضلاً عن أفعالها في ميزان حسناتها.
لذا تتواصى مع أخواتها المؤمنات بكل ما فيه خير وصلاح، تأمر بالمعروف
وتنهى عن المنكر، وإن لمست نفوراً وشقاقاً بين البعض منهن فهي تعمل على
إصلاح ذات البين، وإطفاء نار العداوة، تتمثل قوله تعالى: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن
نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ] [النساء 114] .
المتأمل في هذه الآية يجد أن غالبية النجوى لا خير فيها إلا هذه الثلاث:
1- الأمر بالصدقة.
2- الأمر بالمعروف، ونجمعهما تحت عنوان الدلالة على الخير.
3- الإصلاح بين الناس.
ومن تكلم بها أو بأحدها فهو في قربة إلى الله تعالى، بل وكلامه من أفضل
الذكر فقد قال ابن تيمية رحمه الله:
«إن كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب، مما يقرب إلى الله، من تعلم
علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، فهو من ذكر الله ولهذا من
اشتغل بطلب العلم النافع، بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه
الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله» [1] .
1- الدلالة على الخير:
فإذا رزقك الله فهماً وعلماً، أو قوة وعافية؛ فاستخدميها لمعاونة المسلمين
وتسهيل حاجاتهم، سواء بعملها بيدك؛ أو بتعليمها غيرك، فما ذلك إلا زكاة الصحة
التي حباك الله إياها.
(كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين
الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن
الطريق صدقة) [2] .
إن كثيراً من بلادنا المسلمة مليئة بالأزمات الاقتصادية بسبب القحط أو
الحروب. وتنشط المؤسسات التبشيرية والشيوعية للاستفادة من تقصيرنا جميعاً،
فتستغل آلام المكلومين لتقدم لهم الغذاء واللباس والدواء طعماً لجذبهم به لمصيدتها،
وتعمل جاهدة بكل الوسائل لجلبهم لساحتها، بتربية أبنائهم أو تعليمهم أو تطبيبهم..
فهلا استفدنا من زياراتنا ووقتنا الضائع؟ ! فتدارسنا أحوال أمتنا، وعلمنا
بعضنا أن نخيط الثياب التي تستر عورات أخواتنا المسلمات المحتاجات.
ولنصنع من الطعام ما يمكن أن يرسل لهن. ولنثبت أننا المسلمات اللاتي
يهمهن أمر الأمة المسلمة. لا الدمى المتحركة التي تُزين لتلهي من حولها وتبعد عن
جادة الصواب.. فهل النصرانيات أقدر منا؟ ؟ أم أنهن أكثر تضحية وإيماناً؟ نحن
حفيدات عائشة وخديجة وأسماء، أو لسنا أجدر أن نضحي من أجل حقنا الأكيد أكثر
من تضحيتهن من أجل باطلهن؟ .
ويتامى المسلمين؟ ! من ينجينا من الإثم إذ يُحملون إلى البلاد الشيوعية أو
النصرانية ليربوهم على دينهم؟ .
ماذا نقول غداً لرب العالمين إن سألنا عنهم وعن تفريطنا وتقصيرنا في حقهم؟
أفلا يجدر بنا أن نتكفلهم؟ وماذا لو ضمت الأسرة إليها فرداً أو اثنين لتنشئتهم
(لا تبنيهم فهو محرم) وتربيتهم؟ .
أو إن عملت الجمعيات الخيرية المسلمة لرعايتهم، وساهمت المرأة المسلمة
بما تستطيع، سواء بالمادة أو بالجهد الذي تقدر عليه، من عمل يدوي أو تعليمي أو
توجيهي؟ !
قد يقال: إن هذه أعمال ضخمة لا تقدر عليها جهود فردية قليلة المورد.
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد 11] فهذه الفكرة
إن اقتنعت وإياي بها وأقنعت في زيارتك صديقتك المؤمنة وجارتك المسلمة لابد وأن
نحقق خيراً كثيراً للمسلمين، ونكون قد ساهمنا معاً في النهضة الإسلامية.
ولاشك أن ذلك مطلب شرعي بدلاً من أن تظل المسلمة مجال تنافس الدول
لتلهيها عن رسالتها بمستحضرات التجميل، وأدوات الترهل والترفيه.
وبذلك نكون قد ارتقينا بزياراتنا عن اللغو إلى التناصح لما فيه خيرنا وخير
المسلمين، وفي عملك ذلك أجر الصدقة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله. قال: قلت: ثم أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها ثمناً عند أهلها وأكثرها نفعاً. قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين
صانعاً أو تصنع لأخرق» [3] .
فلك في معاونتك لأختك المسلمة أياً كانت تلك المعاونة الثواب الجزيل فعملك
من أفضل القربات.
فإن كانت مريضة أعجزها المرض عن أداء مهمتها تساعدينها في تعليم
أولادها الصغار، أو عمل طعام لهم، أو ترتيب بيتها وتنسيقه بدل أن تكون زيارتها
للكلام والتسلية فحسب.
وإن كانت نفساء أمضها ألم الولادة: تقومين على رعايتها ورعاية وليدها.
فهذا أجر قد ساقه الله إليك، ولا يقدر عليه غيرك، وإن كانت جاهلة بفنون المنزل، أو حتى في التعامل الاجتماعى تعلمينها وتنصحينها فالدين النصيحة، ولك في كل
ذلك أجر الصدقة، ولنذكر معاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان في
حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله
عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» [4] .
فلنكن في حاجة أخواتنا المسلمات، والله معنا في قضاء حاجاتنا وتفريج
كرباتنا. وأينا تستغني عن غيرها؟ ! وإن استغنت الواحدة عن غيرها بأعمالها،
فلابد أن تحتاج إلى التناصح والمشاورة معهن.
فما أجدرنا نحن المسلمات الحريصات على حسن تنشئة أبنائنا ونراقب الله في
تربيتهم ما أجدرنا أن نستفيد من فترة زياراتنا للتناصح في تربيتهم، وحل مشكلاتهم
ليحل العمل والتوجيه محل الشكوى والأسى الذي لا يصحح خطأ ولا يغير واقعاً.
فإن أقلقنا أن نجد بعضاً من أبناء المسلمين يفوتهم الفكر الديني الواعي، أو لا
يلتزم آخرون بالتعاليم الشرعية، أو لا يجيد الكثير منهم التعامل مع الآخرين ...
فعلينا نحن المسلمات أن نسعى إلى تصحيح هذا الواقع المرير بكل ما نستطيع
وبصبر وجلد.
ذلك أن التربية ليست أن تلقي الكلمة والتوجيه على أبنائنا ثم ننتظر الاستجابة، فالمغريات كثيرة لا تنتهي ... والتربية طويلة وشاقة تبدأ من نعومة أظفارهم.
فلابد من الرعاية الدؤوب لهم دون ملل. نتابعهم باستمرار في جدهم وهزلهم، لعبهم ومذاكرتهم.
وبعد أن نعمل جهدنا لنكون القدوة الحسنة لهم في كل خلق فاضل كريم،
نتناصح مع أخواتنا المؤمنات في حسن اختيار القصص المفيدة التي تثقف الطفل
وتعده لحياته المستقبلة، وتربي وجدانه فيعرف كيف يعطي كل ذي حق حقه.
ونبعده عن القصص الخرافية والبوليسية وكذلك عن البرامج الإعلامية التي لا تليق، ونسعى بالتشاور مع بعضنا لنحيط أبناءنا بالصحبة الطيبة التي تعينهم على الخير.
فالشر كالداء المعدي، سرعان ما ينتشر بالمخالطة. فنبعدهم عنه لنحفظ
عليهم دينهم وخلقهم.
وهكذا نشحذ هممنا لتكون زياراتنا هادفة لما يرضي الله وينفع المسلمين.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً جاء إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله. أي الناس أحب إلى الله؟ قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور
تدخله على قلب مسلم) .
فلنحرص على نفع المسلمات وإدخال المسرة على قلوبهن، ولا نبخل بنعمة
حبانا الله إياها أن نخدم بها مسلمة فنفرج بها كربتها ونعمل ما فيه مصلحتها،
وندعوها إلى اتباع الخير الذي نريده لأنفسنا، قال تعالى: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة
71] .
ولا تقول المسلمة: ما لي وللناس، فإني أدعهم وشأنهم ولا أتدخل في
خصوصياتهم، نعم ذلك في أمور الدنيا المباحة التي يستوي فيها عملها وتركها «فمن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» أما ما فيه خطر محقق وحتى لو كان ذلك
في أمور الدنيا، فالواجب النصح فالدين النصيحة.
إن المؤمنة عليها مهمة النصح والدعوة إلى دينها على قدر ما تستطيع، ومن
روائع ما روته لنا السيرة، قصة الصحابية الجليلة أم سليم.
(كانت أم سليم أم أنس بن مالك من السابقات للإسلام من الأنصار خطبها أبو
طلحة قبل أن يسلم وبعد وفاة زوجها فقالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي
تعبده نبت من الأرض، قال: بلى. قالت: فلا تستحي أن تعبد شجرة؟ ! إن
أسلمت فإني لا أريد صداقاً غيره. قال: حتى أنظر في أمري. فذهب ثم جاء.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالت: يا أنس زوج أبا طلحة. فزوجها) [5] .
إنه مهر كريم لامرأة داعية كريمة، دعته إلى عبادة الله وحده، والبعد عن
الشرك به، فشرح الله صدره وآمن فأكرِم به من مهر.
وما هلك بنو إسرائيل إلا لتركهم فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
[كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] أما اعتزال الناس
اعتقاداً بعدم صلاحهم، فهو كما يقال: آخر الدواء الكي ذلك أننا (حين نعتزل الناس
لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو
أذكى منهم عقلاً لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً. لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل
وأقلها مؤونة.
إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف
على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم
إلى مستوانا بقدر ما نستطيع.
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العالية، ومثلنا السامية، أو أن نتملق
هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً. إن التوفيق
بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة
الحقيقية) [6] .
وهكذا ... فبعد أن تتعهد المسلمة نفسها بالإصلاح فتلتزم السنة وتعض عليها
بالنواجذ، تساهم بالدعوة إلى الخير بين النساء. وهذا واجب ديني تأثم إن قصرت
به، مهما كان مستواها الثقافي، فتعمل بقدر طاقاتها وإمكانياتها، تأمر بالمعروف
بلفظ لين وقول لطيف، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم [ولَوْ كُنتَ
فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] [آل عمران 159] ، ترفق بمن حولها، توقر
الكبيرة وترحم الصغيرة، ولا تنسى أنها صاحبة هدف جليل تسعى لتحقيقه بأسلوب
يرضي الله تعالى ويؤدي للنتيجة التي ترجوها.
فكما يسعى أصحاب الأهداف الدنيوية لتحقيق أهدافهم، فيتحسسون مداخل
نفوس من يتعاملون معهم، ليعرفوا كيف الوصول لغايتهم، يجب أن نكون نحن
المسلمات أكثر اهتماماً بمعرفة من ندعوهن لتكون دعوتنا كما أراد الله تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل125] .
2- الإصلاح بين المؤمنات:
كما نجعل من زياراتنا مجالاً خصباً للإصلاح بين الناس، فإن عمل الشيطان
على إثارة العداوة بين المسلمات نزيلها بالإصلاح بينهن، فإن إزالة الخصام دليل
سمو النفس التي تعمل على إشاعة المودة بين الآخرين، ليحل الوفاق محل الشقاق،
والصلة مكان القطيعة، لذا كانت درجة من يصلح بين الناس أفضل من درجة
الصيام والصلاة والصدقة التطوع لا الواجبة.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «إلا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى.
قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» . ويروى عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال: هي الحالقة: لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق
الدين «.
ذلك أن الإفساد بين الآخرين يؤدي إلى القطيعة التي حرمها الشرع كما جاء
في الحديث الشريف:» لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض
هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام « [7] .
وقال صلى الله عليه وسلم منفراً من الشحناء والقطيعة ومبيناً سخط الله تعالى
على المتقاطعين حتى يصطلحا:» تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس،
فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال:
انظروا هذين حتى يصطلحا ثلاثاً « [8] .
فإن حصلت جفوة بين المسلمات نسارع إلى الإصلاح بينهن للتغاضي عن
هفوة المخطئة، فإذا بالعيش صافياً بعد كدر، والوداد عاد بعد الجفاء.
والواجب أن تقبل عذر من تعتذر، لا أن تشيح بوجهها بعيداً عن أختها،
إصراراً على مواصلة القطيعة، وعدم قبول العذر: إذ من شرار الناس من لا يقبل
عثرة، ولا يقبل معذرة كما بين الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال: إن شراركم الذي
ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده. أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى إن
شئت يا رسول الله. قال: من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبئكم بشر من
ذلك؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله. قال: الذين لا يقبلون عثرة ولا يقبلون
معذرة ولا يغتفرون ذنباً، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله: قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره « [9] .
__________
(1) الفتاوى 10 / 661.
(2) رواه البخاري، ومسلم.
(3) شرح صحيح مسلم 2 / 73.
(4) متفق عليه.
(5) الإصابة 4/442.
(6) أفراح الروح، لسيد قطب.
(7) شرح صحيح مسلم 16/ 117122.
(8) شرح صحيح مسلم 16/ 177 - 122.
(9) رواه الطبراني وغيره، ينظر الترغيب والترهيب 3/394.(17/48)
منبر الشباب
الشريعة الإسلامية
لا الأعراف الجاهلية
بقلم: عبد الله سعيد بالحداد
كان للعرب في الجاهلية الأولى عادات وتقاليد منها ما هو حسن كالشجاعة
والإقدام ومساعدة المحتاج وإغاثة اللهفان، ومهنها ما هو سيء كوأد البنات وشرب
الخمر.
وحينما جاء الإسلام أبقى حسنها وألغى سيئها، فما كان من العرب، أمام
أحكام الإسلام إلا أن قالوا سمعنا وأطعنها.
ومما يلفت النظر أن المسلمين وكأنهم بدأوا يعودون لوضع العرب قبل الإسلام
من حيث إعطاء عادات وتقاليد الآباء والأجداد تقديساً واحتراماً أكثر من أحكام
الشريعة.
وفي هذه العجالة سنتطرق إلى بعض العادات والتقاليد المخالفة للشريعة ولكن
أغلب المسلمين يمارسونها لا لشيء إلا أن آباءهم وأجدادهم كانوا يمارسونها.
ففي الخِطْبَة مثلاً، نجد أن الخاطب حينما يود أن يرى خطيبته في بيت أهلها
يقوم الأهل بمنعه بحجة أن هذا مخالف للعادات ويعرضهم لألسنة الناس الحداد، مع
أنه بإمكان الخاطب مشاهدة خطيبته خارج البيت ولكن في البيت ممنوع.
وحينما نعود إلى الشرع ونستنطق حكمه في هذا، نجد أنه يجوز أن يرى
الخاطب خطيبته كاشفة الوجه واليدين وأن يتحدث معها بوجود محرم معهما.
وأيضاً كذلك في المهور، نجد عند ضعاف العقول من الناس أن شرف
وكرامة الفتاة يكون في مهرها وعلاقته مع المهر علاقة طردية، فنجد بعض الآباء
يغالون في مهور بناتهم لتوهمهم بأن هذا يزيد من رفعة ومكانة البنت، في حين أن
الشرع أوجب مهر الفتاة واعتبره ركناً من أركان الزواج لكنه حفز وشجع على أن
يكون المهر بسيطاً لكي لا يكون عقبة في طريق الزواج.
وهناك أيضاً في حفلات الزفاف نجد عادة دخول العريس في ليلة زفافه مع
عروسه في أبهى زينة لها أمام جمهور مختلط من الرجال والنساء، وهي عادة
دخيلة على المجتمع الإسلامي، فقد قدمت إلينا عن طريق الغرب حينما أخذنا شرور
الحضارة الغربية دون خيرها، ناهيك أيضاً عن الإسراف والتبذير الذي يحدث في
تلك الحفلات.
وحينما نعود بالأمر الى الشرع نجد أنه يحرم اختلاط الرجال بالنساء دفعاً لفتن
كثيرة.
وأيضاً عادة دخول الزوجة على إخوان وأقارب وأصدقاء الزوج (هذا إن لم
تكن الزوجة مكرهة على ذلك) بحجة أنهم مأمونوا الجانب.
وحين تحاول أن تنصح الزوج وتبين له الخطأ الذي هو فيه يجيبك: ماذا
يحدث لو أنها جلست مع أولاد عمومتي نصف ساعة، لن تنشق الأرض ولن تخر
الجبال هداً، أتريد أن يقولوا عني أنني لا أستأمنهم على عرض؟ ! ماذا سيكون
موقفي حينها، يا أخي لقد وجدت آبائي هكذا وأنا أظن أنني سليم معافى.
وكأن لسان حال هذا الرجل يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون.
وهل أهلك عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا طالب إلا خوفه من
مقولة الناس بأن ابن عبد المطلب صبأ وترك دين آبائه وأجداده.
ولكننا حينما نعود إلى الشرع لنأخذ منه القول الفصل نجد أنه يحرم جلوس
المرأة مع الأجنبي حتى لو كان معها محرم، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه
وسلم - أسوة حسنة فقد روى عنه أنه قال: (إياكم والدخول على النساء فقال رجل
يا رسول الله: أفرأيت الحمو (أي أقارب الزوج) قال: الحمو الموت) رواه الشيخان.
وهكذا نجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قرن الحمو بالموت لما
يجب أن يحتاط منه أكثر من الأجنبي.
فعلى المسلم أن يرجع في كل صغيرة وكبيرة إلى شرع الله وأن يزن عادات
وتقاليد الآباء والأجداد بميزان الإسلام لا العكس، فالإسلام لم يترك شيئاً إلا وقد بينه
ووضحه فقال عز من قائل: [ولَقَدْ أَنزَلْنَا إلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ومَا يَكْفُرُ بِهَا إلاَّ
الفَاسِقُونَ] [البقرة: 99] . وقال تعالى: [قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ *
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ] [المائدة: 16] .
وإذا ما حكم الشرع بحكم غير ما تهوى الأنفس ومخالف للعادات فعليه أن
يرضخ للحكم وأن يقول: سمعنا وأطعنا، لا أن يقول: بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا، واقرأ معي قول الله تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمرهم] [الأحزاب: 36] .
واعلم يا أخي أن أتباع الشرع المخالف لهوى الناس قد يغضبهم في بادئ
الأمر، ولكن يجب أن لا يغيب عن ذهنك حديث رسول الهدى: «من التمس رضا
الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس
بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» رواه ابن حبان في صحيحه، فيا
أخي هل بعد هذا الحديث اختيار؟ .(17/56)
العالم الإسلامي بانتظار الأولي بقية
بقلم: أحمد زيدان
تعيش الأمة الإسلامية في حالة ضعف لا تحسد عليها، وكي تنهض من
الوهدة التي سقطت فيها لابد لها من جماعة تأخذ بأيديها إلى برّ الأمان وشطآن
الاستقرار، وتأخذ على عاتقها مهمة التغيير الحضاري، والقفزات النوعية
بخصوص ذلك، ونقل هذا إلى حيز التنفيذ، وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الطريق
بقوله: [فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ
إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ] [هود: 113] .
يصفهم الإمام القرطبي بقوله: «أصحاب طاعة ودين وعقل وتمييز» ،
[تفسير القرطبي 9/113] .
ويقول ابن قتيبة: «المعنى: فهلا كان من القرون ممن كان قبلكم أولو بقية،
والبعض قال أولو تمييز» ، [زاد المسير في علم التفسير 4/170] .
ويقول الإمام الطبرى: «ذو بقية من الفهم والعقل يعتبرون مواعظ الله
ويتدبرون حججه فيعرفون مالهم في الإيمان وعليهم في الكفر به» [تفسير الطبري
12/ 138] .
ونخلص من هذه الأقوال إلى ضرورة توفر ميزات معينة في هذه الجماعة
وذلك من فهم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مع إدراك كامل للواقع
البشري الذي تحياه الأمة، والتمييز بين ما يصلح وما يضر، لابد لهذه الجماعة من
التعرف على سنن الله وتوظيفها لعمارة الأرض على مقتضى القرآن والسنة
بالإضافة لمهمة تبصير الأمة بمكامن القوة وأماكن الخطر حتى تعرف الأمة من أين
تؤتى.
وكما يقولون الرائد لا يكذب أهله. فكل جماعة إنسانية ترنو إلى تسجيل
قفزات نوعية في الإقلاع الحضاري لابد لها من صفوة رائدة تتصف بصفات معينة
تخولها لهذه المكانة.
يقول المؤرخ أرنولد توينبي: «إنه لابد لكل جماعة إنسانية من صفوة قائدة
لكي تتقدم وتتحسن أحوالها ولايتم تقدم إذا عدمتها الجماعة، فكأنها خميرة التقدم
والنهوض» . ويقول: «إن مصير الجماعة كلها مرتبط دائماً بهذه الصفوة،
وأحوالها فإذا ظلت على هذه الحال من القلق والسعي والإحساس بمسؤولياتها عند
الجماعة تكّون حولهم جماعة من الناس يسيرون في الطريق بعدهم وأطردت مسيرة
الجماعة وطال عمر صلاحها» .
كما أكد الأستاذ سيد قطب في كتابه القيم «معالم في الطريق» ، على
ضرورة نهوض طليعة مؤمنة تنقذ الأمة.
وتأتي ضرورة وجود هذه العصبة من كون الله يحفظ بهم الأمه من غوائل
الدهر وعاديات الزمن، فهم وحدهم القادرون على إدراك الخطر الحضاري أو
السوس الذي ينخر ببطء في المجتمع، كما أنهم هم القادرون على تلمس القفز
الحضاري وطرقه ووسائل تنميته وتشجيعه.
يقول الأستاذ رشيد رضا: «جاءت هذه الآية بعد بيان إهلاك الأمم بظلمهم
وإفسادهم في الأرض للإعلام بأنه لو كان فيهم جماعات وأحزاب أولو بقية من
الأحلام والفضائل والقوة في الحق ينهونهم عن ذلك لما فشا فيهم، وأفسدهم، وإذن
لما هلكوا، فإن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من
الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله، كما أن الأطباء هم الذين يحفظ الله
بهم الأمم من فشو الأمراض والأوبئة فيها مادامت الجماهير تطيعهم فيما يأمرون به
من أسباب الوقاية قبل حدوث المرض» [المنار: 12/244] .
ولم ينفع العالم الإسلامي هذا الغثاء كله الذي يملكونه ليدفعهم إلى مصاف الأمم
الحضارية والمدنية. فالصوفيون الخرافيون المنتشرون في أكثر بلاد المسلمين إن
لم أقل في كلها لم يكن لهم أي تغيير حضاري يذكر أو يسجل بل يقفون عقبة كأداء
في كثير من البلدان في وجه الحركة الإسلامية الحقيقية التي تنشد التغيير الحضاري، وأسجل مثال الصوفية هنا نتيجة كثرتهم الكاثرة التي لم تؤثر في مجرى إعمار
أرض المسلمين على مقتضى الشريعة الغّراء. بينما قام أفراد معدودون أمثال ابن
باديس والبنا والدهلوي والمودودي بأعمال إسلامية مازالت بصماتها وتأثيراتها حتى
الآن.
ولقد كتب الله تعالى في (الزبور) ، أنه لن يسلم حكمه لشخصيات مهزوزة لا
تأخذ الكتاب بقوة ولا تثبت وجودها في عالم تصارع الأفكار والمبادئ عندما قال:
[ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105] .
إن أفراداً قدموا خدمات لأممهم أكثر من ملايين الأفراد، لأنهم أدركوا عظم
الخطر الذي يتهدد بلادهم وحجم المسؤولية الملقاة عليهم، وهذا لا ينافي ما ذكرناه
من ضرورة العمل الجماعي الذي يحقق نتائج أفضل، فالعالم الذري اليهودى
(اينشتاين) قدم لبني جلدته خدمات كبيرة في فرض وجودهم السياسي وإقامة دولتهم
على تراب أرض فلسطين المغتصبة، وكذلك (الأغاخان) الذي جعل من طائفته
الإسماعيلية الباطنية جماعة قوية يحسب لها حسابها وإن تشييد جامعة الإسماعيلية
في مدينة (كراتشي) الباكستانية، لخير شاهد على ذلك، كما أن نفوذه الاقتصادي
في باكستان أمر خطير جداً.
ويزخر التاريخ الإسلامي بشخصيات تركت آثارها على الواقع الفكري
الإسلامي والواقع العلمي حتى هذا اليوم، وأكبر مثال على ذلك هو شيخ الإسلام
ابن تيمية الذي مازالت الحركات الإسلامية تستشهد وتقتبس من أقواله أثناء
تنظيراتها الفكرية والحركية، وهذا مصداق قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يبعث
الله على كل رأس مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» [رواه أبو داود
وصححه الشيخ الألباني] .
والخطوة الأولى في هذا المضمار هو أن تأخذ جماعة رائدة مسلمة على نفسها
هذا العهد وتعمل من أجله ليل نهار، ولا تتعجل في عملية التجميع والتكديس، ولنا
في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة عندما قدم عليه وهو في طريق
هجرته بعض الأعراب يريدون إشهار إسلامهم والهجرة إليه، نظر إليهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وكأنه تفرّس فيهم وعرف عدم صلاحيتهم لأن يكونوا معه
في دار الهجرة في هذه المرحلة الحساسة من إقامة دولة الإسلام فقبل إسلامهم
وأمرهم بالعودة إلى بلادهم، وعدم الهجرة، ذلك أن بعض الأفراد قد يكونون عقبة
في تقدم العصبة المؤمنة (الأولو بقية) الذين يريدون التقدم النوعي المتميز وبمقدار
ما تكون الدفعة الحضارية والزخم الروحي للانطلاقة الأولى لهذه العصبة قوية
بمقدار ما تطول فترتها أكثر وأكثر.
ولابد لهذه الفئة من شحذ فعاليتها، ودراسة الواقع المحيط بها والحضارات
التي تعاقبت على الأمم حتى تنتفع بهذه الدروس ولا تضيف درساً مكرراً إلى
الإنسانية، فهل تنهض هذه الفئة المخلصة التي يتحرق العالم الإسلامي لرؤيتها،
هذا ما نرجو وما ذلك على الله بعزيز.(17/59)
أدب وتاريخ
علة اهتمام الأمم بلغاتها
حبيب أبو قيس
إن وجود أمة قائمة ذات شخصية متميزة وكيان مستغل، وذات تقاليد وأعراف
وطبائع نفسية وسلوكية مرتبط تمام الارتباط ببقاء لغة هذه الأمة، بل مرتهن بحياة
هذه اللغة أو موتها ومحاذٍ لمستويات ازدهارها وضعفها.
إن الأمة عندما تفقد لغتها الأصلية وتهيمن عليها لغة أخرى غير لغتها فإن ما
يحدث هو أن نجد بعد فترة من الفترات أمة أخرى لها كيانها وخصائصها التي
تختلف عن تلك الأمة الأولى، فكلاهما أمتان مختلفتان وإن كانوا في الأصل نفس
الأمة السابقة في الموطن الجغرافي والسلالة البشرية، وينطبق هذا إلى حد كبير
على أفراد الجيل الذين يطرأ عليهم هذا التغير اللغوي ويعيشون في عصرين
مختلفي اللغة، فهؤلاء وإن كانوا جيلاً واحداً، إلا أنهم يصح القول عنهم: إنهم
كانوا في اللغة الأولى أناساً مختلفين عما هم عليه الآن من غير نسيان لما للبيئة
الأولى ولغتها على وضعهم الجديد من تأثير على أيّ مستوى يكون.
إن اللغة ذات دلالة وسمة للأمة الناطقة بها، بل: (إن لغة الأمة دليل نفسيتها
وصور عقليتها، بل هي أسارير الوجه في كيانها الاجتماعي الحاضر، وفي
تطورها التاريخي الغابر، لأن وراء كل لفظة في المعجم معنى شعرت به الأمة
شعوراً عاماً، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظ خاص، فوقع ذلك اللفظ في نفوس
جمهورها موقع الرضى، وكان بذلك من أهل الحياة، وما معجم اللغة إلا مجموعة
من المعاني التي احتاجت الأمة إلى التعبير عنها، فاختارت لكل معنى لفظاً يدل
على الجهة التي نظرت الأمة منها إلى ذلك المعنى عندما سمته باللفظ الذي
اصطلحت عليه، فلغة الأمة تتضمن تاريخ أساليب التفكير عندها من أبسط حالاته
إلى أرقاها، يعلم ذلك البصير في أبنية اللغة وتلازمها ومن له ذوق دقيق في ترتيب
تسلسلها الاشتقاقي) [1] .
وتزداد أهمية اللغة وضوحاً عندما نتكلم عن ما يعرف بصراع اللغات.
الصراع اللغوي:
لا يعني هذا المقال بالحديث المباشر عن صراع اللغات أو أسبابه أو نتائجه،
وحسبنا هنا أن هذا الصراع قائم، وله وجود في لغات الأمم ذات الاحتكاك الكثير
والمباشر بأمة أو ذات لغات أخرى. وتزداد فاعلية هذا الصراع وحدّته عندما تكون
أمة من الأمم لها أطماع في أمة أخرى.
ولا ريب أن الصراع اللغوي ينشأ من تجاور أو معايشة لغتين واحتكاكهما
ببعضهما، وسواء أكانت اللغتان لأمتين مختلفتين أو أمة واحدة، ومعنى هذا أن
الشعوب ذات اللغة الواحدة ولكنها تتخذ لغة أخرى في بعض شئونها الحيوية
كتدريس بعض العلوم وبخاصة العلمية التطبيقية كالطب والهندسة وما إليهما في
المعاهد أو الجامعات كشأن بعض البلاد العربية مثلاً، فهذه الشعوب قد فرضت على
نفسها صراعاً لغوياً كان بإمكانها دفعه لو استخدمت لغتها الأصلية في هذه المعاهد أو
تلك المصالح الحيوية.
ولقد عرف الناس مغبة من أخذ العلم بغير لغة أمته من قديم، وشاعت في
الناس حكمة يرددونها: إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم،
ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة.
وتقع في شراك الصراع اللغوي أيضاً بعض الشعوب التي تفتح الباب لاستقدام
أناس لا يتكلمون لغة من يستقدمونهم ليباشروا كثيراً من الأعمال الحيوية التي تقف
على إحيائها شركات أو مؤسسات تستخدم أعداداً غفيرة من البشر، فهذه الأفواج
البشرية ستفرض صراعاً لغوياً مع لغة من وفدوا إليهم.
ولا ريب أن نزوح العناصر الأجنبية إلى بلد ما -مع هيمنتهم لإدارة مصلحا
هذا البلد مثلاً- مما يحدث هذا الصراع اللغوي كما هو مقرر عند علماء اللغة [2] ،
ولعل الأمة التي استخدمت هذه العناصر التي لا تتكلم لغتها تنجو من الصراع
اللغوي لو استقدمت أناساً يتكلمون بلسانها ولا غرو أن الأمم التي توقع نفسها في
مثل هذا الصراع اللغوى تعرض نفسها لداء خفي وتقع في خطأ يدل على قصر
النظر.
الصراع اللغوي ليس بالأمر اليسر، بل له أبعاده وخطورته العميقة، ولا
يشعر بحقيقة هذه الخطورة عامة الناس، بل ولا كثير من المثقفين، وإنما يفهم ذلك
اللغويون الذين يعون ذلك جيداً، ولذلك فلا غرابة لما نسمعه من أن أبا الأسود
الدؤلي هاله ما رأى من ظهور اللحن في زمانه، لقد شعر جيداً بالأمر فعدّه من
الأهوال، وهو كما رأى -رحمه الله-، حتى أخذ يناشد الولاة ويستحثهم إلى وضع
ما يدفع به ذلك الداء النازل بهم [3] .
إن الصراع اللغوي يحتاج إلى عشرات بل مئات من السنين حتى يتضح أثره
وتتجلى خطورته، إن هذا الصراع هو صراع بقاء ومحاولة هيمنة لإحدى هاتين
اللغتين على الأخرى، وهذه أمثلة يتجلى بها للقارئ آثار الصراع اللغوي ونتائجه
الخطيرة الأثر في حياة الشعوب [4] .
لقد نتج عن غزو الرومان لوسط أوربا وشرقها وجنوبها أن تغلبت لغتهم
اللاتينية على اللغات الأصلية لفرنسا وأسبانيا وايطاليا وغيرها، ذلك مع قلة
الرومان المغيرين على هذه البلاد بالنسبة لسكانها، وفي العصر الحديث عندما
انتشر الغزو الأوربي لأطراف الأرض كوّنت دول أوربا كتلاً بشرية في مناطق
هجرتها، وكثُر أفرادها مع قوة سيطرتها كان من ذلك أن نجم عن استعمار الانجليز
لأمريكا الشمالية واستراليا وبعض نواح في جنوب أفريقيا انتشار اللغة الإنجليزية
في هذه الأرجاء الواسعة. ونجم عن استعمار الأسبان في أمريكا الجنوبية أن كانت
الأسبانية لغة معظم دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وغيرها.
وإذا كان هذا الصراع السابق مرتبطاً بالصراع السياسي، وكانت ظروفه
تختلف عن صراع آخر أقل جرأة ووسائل كتغلب اللغة العربية بفضل انتشار
الإسلام على كثير من لغات الشعوب الآسيوية وعلى لغة الأقباط ولغة البربر في
أفريقيا؛ فإن هذا لا ينكر خطورة الصراع اللغوي الذي قد تحدثه عوامل أخرى غير
سياسية أو حربية.
وإنما قلت عن تغلب العربية: إنه أقل جرأة ووسائل، لأن المسلمين لم
يفرضوا لغتهم ويتشددوا في ذلك في البلاد التي فتحوها، ولم يكن لهم من الوسائل
العسكرية أو العلمية الحديثة ليستخدموا كل ذلك في نشر لغتهم كما حدث في
الاستعمار في العصر الحديث، ولا ننسى أن العربية لما كانت لغة الدين كان ذلك
دافعاً روحياً للشعوب الداخلة في الإسلام أن ترغب في هذه اللغة وتقبل عليها
وتنشرها في بلادها.
والذي ينتج من غلبة لغة على لغة وحلولها محلها أن تذوب شخصية الأمة
صاحبة اللغة المغلوبة تدريجياً في الأمة الغالبة، وتصبح بعد أن كانت لها مقوماتها
وخصائصها وهي على لغتها الأصلية، تصبح مندمجة في أمة أخرى، وقد فقدت ما
كانت تحمله في ذاكرتها من الأفكار والمعتقدات وسائر المعاني المختلفة عما كانت
تراها وتفهمها، وتراها بعد ذلك بمنظار فكر اللغة الأخرى الذي لابد أن يغاير فكر
اللغة الأولى في كثير من المعاني والتصورات.
ويأتي بعد هذه النتيجة أيضاً أن تُقطع الأمة التي استبدلت لغتها عن تراثها
وأصلها، فتنشأ أجيال هذه الأمة المقطوعة فاقدة الهوية، لا تراث ولا انتماء، وهذا
مما ييسر احتواء هذه الأجيال وإذلالها والتحكم في توجيهها.
إن الجيوش العسكرية التي تتخذها الأمم لنشر سيطرتها وبسط سلطانها تسبقها
جيوش لغوية، تحمل هذه الجيوش لغة الأمة الغازية وتبشر بأفكارها وتذيع مبادئها
وترسم شخصيتها، ولقد كانت هذه الجيوش اللغوية عظيمة الأثر في بث فكرها
والدعوة إليه بين القوم الذين وفدت إليهم، فقبل أن تجيء الجيوش العسكرية
استطاعت جيوش اللغة الأجنبية أن تهيء لها أتباعاً وأنصاراً يحملون فكرها
ويدافعون عنه ويدعون إليه فوق فخرهم بهذه اللغة وميلهم إلى أهلها.
إن الحديث بلغة قوم يفضي إلى الميل إليهم والتعايش معهم -إن لم يكن هناك
حصانة فكرية لمن يتحدث بها- ويقوى هذا الميل عندما تكون هذه اللغة لأمة أرقى
وأقوى من لغة من يعيش معهم من أهل لغته. إن أصدق ما أدلل به على هذا الأمر
ما كان من أمر الاستعمار الأوربي الحديث لكثير من أجزاء العالم وبخاصة العالم
العربي، والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر
الميلاديين [5] .
لقد تركزت هذه الجيوش في المناطق الخصبة لنموها من حيث سعة الانتشار
والأبعاد السياسية، أتت جيوش اللغة إلى مصر والشام على وجه الخصوص في
شكل إرساليات علمية، اتخذت صوراً كثيرة منها المدارس والمعاهد، ومنها
الكنائس والأديرة والمصحات وغيرها.
لم تأت جحافل فرنسا وبريطانيا العسكرية إلا وللغة الفرنسية والإنجليزية في
مصر والشام شأن لا يمكن تجاهله، يتحدث بها كثير من الناس، ولها مناطق
ومصالح لا يمكن العيش فيها إلا بلسانها، ولقد طغى الأمر في بعض الفترات حتى
كان من أفراد الأمة ومثقفيها من يستنكف عن الحديث بلغة بلاده أو التعامل بلهجة
أهله، وينظر إلى لغته وثقافة أمته بازدراء كبير، وسمع من مثقفي الأمة العربية
وعقلائها من صاح ورفع عقيرته في وجه هذه الظاهرة المزرية [6] .
وأصبح من أفراد الأمة من يباهي بالثقافة الفرنسية لأنه يجيد لغتها، وآخرون
ينافحون عن الإنجليزية لأنهم يلوكونها وقد تعلّموا شيئاً من ثقافتها، غدا كل منهم
كأنما هو فرنسي أو إنجليزى وطبعوا حياتهم -في جوانبها المختلفة- بطابع الحياة
الإنجليزية أو الفرنسية، ولا شك أن ذلك يفصح للناس عن أثر اللغة البعيد الذي قد
لا يظن بعضنا أنه يصل إلى نحو من هذا السلوك في حياة الإنسان.
ضرورة زيادة الاهتمام باللغة:
تأتي هذه الزيادة في أهمية اللغة العربية لارتباط هذا اللسان العربي بملة
الحنيفية دين الإسلام، ولا غرو فقد كانت خاتمة رسالات السماء إلى الأرض تفصح
بلسان عربي مبين، وقد كانت هذه الرسالة هي الدين الذي أراد الله سبحانه ظهوره
وهيمنته في الأرض على سائر الملل والأديان الأخرى، بل حذّر الله البشرية من
العبودية بسواه [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] فكان -كما هو معلوم- أن نزل القرآن بلغة العرب وبعث الله خاتم
رسله وهو عربي الجنس واللسان، وأوحى إليه من وحيه ما هو مماثل للقرآن من
السنّة، وكان من ذلك الأصلان العظيمان لهذا الدين، أعني القرآن الكريم والسنة
النبوية، وكلاهما بلسان العرب ولغتهم، فكان من ذلك الأصل والمرجع والقاعدة
التي يُعَوَّل عليها في فهم هذا الدين في أصوله وأحكامه، وعلم أسراره وجزئياته،
وبخاصة عندما تضطرب المفاهيم وتقع الخلافات في شيء مما يتعلق بعلوم هذا
الدين وأحكامه، فالأصل موجود ولا مجال لبقاء النزاع، [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ... ] ولا مراء أن بقاء هذا الدين متوقف على بقاء حياة
هذين المصدرين الأساسيين، وذهابه حاصل بفقدهما، ومن هنا يمكن القول:
أ- إنّ أي محاولة للقضاء على اللغة العربية أو النيل منها، على أيّ وجه من
أوجه النيل المتعددة، سواء ما استتر تحت وجه الإصلاح، أو تظاهر بادعاء
التطوير، أو التفجير اللغوي، أو الدعوة إلى العامية كما حدث في عصرنا الحاضر
أو غير ذلك، كل ذلك سيصل في آخر الأمر إلى مس هذين المصدرين، ومن ثمّ
القضاء عليهما أو مسخهما وتحريفهما عن الحقيقة التي جاءا عليها، وهذا هو
القضاء المبرم والهدم الحقيقي لإزالة هذا الدين من الوجود والتخطيط لاقتلاع جذوره
أو قلب حقائقه.
ب- إنّ معرفة حقيقة هذا الدين والإلمام بأصوله وفروعه والوقوف على
أحكامه لاتكون دقيقة وصائبة إلا بالوقوف على أصول هذا الدين في لغتها الأصلية،
والتي جاء بها النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- فكما هو معلوم لأهل اللغة أن
الترجمة لأي عمل إبداعي وحتى غير الإبداعي تنقص وتعجز كثيراً عن الوفاء
الكامل بما يحمله الأصل من دقة في أفكاره وأساليبه وإيماءاته، فكذلك الحالة هنا،
مع العلم أن القرآن لم يترجم إلا معانيه كما يرى ذلك علماء الإسلام، ولا يغيب عن
البال أن هذين المصدرين في الذروة العليا من الفصاحة والبيان، وقمة الإبداع
اللغوي.
ومن هنا، من هذا الإبداع اللغوي العظيم لهذين المصدرين يتضح لنا القصور
العظيم في أي ترجمة لمعانيهما أو لهما إلى لغات أخرى عن الوفاء بدلالات لغتهما
العربية، وذلك، بلا ريب مدعاة إلى تحريف هذين الأصلين أو الوقوع في ذلك
على أقل تقدير، وتحريف الترجمة والفهم هنا هو تحريف لحكم شرعي أو استنباط
فقهي، مما قد لا يكون هو الحكم الشرعي الصائب، أو ما جاءت به الشريعة
المطهرة، وهذا كله من نتائج الترجمة المباشرة لأي من هذين المصدرين.
أما اعتماد هذه الترجمة لهذين الأصلين عند وجودها لتقوم مقام أصلهما ومن ثم
الركون إليها في استنباط أحكام الشرع والاجتهاد في استخراج الأحكام، فهنا تكون
النتائج أشد خطراً وأبعد كثيراً عن مراد الشارع وما جاء به الدين، وبذا يظهر لنا
جلياً ما ذهب إليه علماء الأمة الإسلامية -رحمهم الله- من سداد الرأي وصائب
الحكمة عندما وضعوا شرط الإلمام الواسع والفهم الدقيق للغة العربية من ضمن
الشروط التي لابد من توفرها في المجتهد، والذي قد بلغ درجة عالية في علوم
الشريعة وفهم دقائقها وجزئياتها، حتى يستخرج للمسائل التي لم يقف على جواب
لها ما يهديه اجتهاده إليه [7] .
ولا يذهب الفهم بالقارئ هنا إلى أن المقصود رفض الترجمة أو جهل قدرها
وفائدتها، وما تدعو إليه الضرورة منها، أو أن الإسلام لا يُقبل ممن لا ينطق
اللسان العربي، فهذا لا يعتقده مسلم، ولكن ما أريده هو التذكير ببعض مزالق
الترجمة، وعمق الطعنة التي تصيب الأمة ودينها من جراء ذلك.
وثمة أمر آخر لا يمكن تجاهله حول أهمية اللغة العربية وهو أن تكون العربية
لغة الثقافة الدينية للأمة الإسلامية، فهي بذلك اللسان الذي يصح اجتماعهم عليه،
بعدما اجتمعوا على دين واحد، ولا غرو أن ذيوع اللغة العربية في الأمة الإسلامية
كبير ويبشر بالمزيد، بل إنه كان لسان كثير من الأمم الإسلامية قبل أن تحيق بها
مؤامرات أعداء الإسلام، والتي فرقت بين هذه الأمم في اللغة والثقافة حتى تصل
إلى تفريق دين هذه الأمم، ومتى تحقق انتشار اللسان العربي بدرجة أكبر في الأمة
الإسلامية كان من أعظم العناصر وآكد الدعائم التي تحيا بها الوحدة الإسلامية
وتزدهر، وتتذلل في سبيلها كثير من العقبات والعراقيل التي منيت بها الأمة
الإسلامية.
__________
(1) مجلة الزهراء المجلد الأول سنة 1343، ص 66.
(2) انظر: علم اللغة، د علي عبد الواحد وافي / 229، ط دار نهضة مصر.
(3) انظر: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي / 23.
(4) راجع لمزيد من ذلك: علم اللغة، د علي عبد الواحد وافي / 70 232.
(5) انظر على سبيل المثال: الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن، علي المحافظة / 37.
(6) انظر مجلة الرسالة للزيات، السنة الرابعة، ص 243 - 244.
(7) راجع: أصول الفقه، محمد أبو زهرة، ص 302، ط دار الفكر العربي القاهرة.(17/64)
الجهاد الأفغاني
أسطورة الإباء والفداء
شعر: محمد أمين أبو بكر
زَحَفَ الأُباةُ إلى الوغى فاستأصلوا ... ظُلَمَ العدوِّ وأحرقوا الطغيانا
ومواكبُ الأبطالِ في تلك الذُّرا ... فاضت فِداءً يلهبَ الميدانا
خاضوا غمار الموت في وهج الجحي ... م فمزقوا في الساحة الأوثانا
هذي الهدايةُ في شِعاب جبالِهم ... إخضوضَرت وأضاءت الأزمانا
حملوا لواء الله وانطلقوا به ... نحو الجهاد فزلزلوا الكفرانا
جازوا براكينا تزمجر في الوغى ... كانت لهم يوم اللقا ألحانا
حتى ثوى (لينين) في ظُلَمِ الخنا ... يتجرع الآلام والخذلانا
ومضى (لكارل) الكفر يشكو عنده ... بعد اللقاء مخازياً وهوانا
من بعدما نفروا يكل ذئابهم ... عَلَّ الذئاب تمزق القرآنا
وجحافل الطغيان في تلك الربا ... بلظى القنابل تلهم الأفنانا
والسادرون على وسائد نومهم ... عشقوا حكايات الهوان زمانا
حتى غدت دور النيام مقابراً ... منكوبةً وثيابهم أكفانا
ضاعوا وطير الذلِّ في حلق فوقهم ... أكل النؤوم وأغضب اليقظانا
لكن آساد الهداية فجروا ... لهب الجهاد فجددوا الإيمانا
أبطالها بين الصلابة والتقى ... شبوا اللهيب وأضحكوا البركانا
قرعوا طبول الحق في درب الهدى ... فوق الجبال فروّعوا القرصانا
أحيوا ببذلهم مسيرة فاتح [*] ... دفن المجوس وكفَّن الطغيانا
قحمت أسود الله تحت لوائه ... سود المخاطر تنصر الفرقانا
لم تنحن الهاماتُ فوق هضابهم ... رغم اشتداد الحادثات زمانا
فالزهرة البيضاء أضحت خنجراً ... يُصلي الغزاة مذلة وهوانا
والقمة الشماءُ عادت قلعهً ... تردي الحقودَ وتقذف النيرانا
والوردة الحمراءُ في وديانهم ... قذفت جحيماً يصهر الذؤبانا
أما البراعم في رباها إنها ... أضحت قنابلَ تملأ الميدانا
لن يستمر الكفُر رغم عناده ... في دار قومٍ بايعوا الرحمانا
وهم - وقد رفعوا لواء محمدٍ - ... كتبوا سطوراً تذهل الأكوانا
__________
(*) إشارة إلى السلطان محمود الغزنوي فاتح الهند من أفغانستان.(17/72)
من أصنام الحداثة
يوسف الخال
د. وليد الطويرقي
ولد يوسف الخال في طرابلس عام 1917، وتخرج كل من الجامعة
الأمريكية في بيروت عام 1944، وسافر إلى الولايات المتحدة، حيث عمل في
الأمم المتحدة، وعاد إلى لبنان ليعمل في الجامعة الأميركية، وأسس مجلة (شعر)
عام 1957 هو وشرذمة من أصحابه، وفي عام 1967 انشئت دار النهار للنشر
فانضم إليها مديراً للتحرير.
من مؤلفاته:
- ديوان الحرية 1945.
- مسرحية هيروديا.
- ديوان البئر المهجور 1958.
- قصائد في الأربعين 1960.
- الحداثة في الشعر 1978.
- علامات الأزمنة.
موقف يوسف الخال من اللغة العربية:
يدعو يوسف الخال إلى اعتماد لغة الكلام (العامية) لغة أدبية لأنها لغة عربية
متطورة من اللهجات (الجاهلية) التي رافقت الفتح العربي، وفي طليعتها لهجة
قريش، التي جعلها القرآن لغة الفتح، ونموذجاً للغة العربية. [أسئلة الشعر / 49] .
ويدافع عن رأيه هذا بأسلوب لا يخلو من مزايدة وذر للرماد في العيون،
فيقول إن عدم الأخذ بلغة الكلام هو (من وحي المستعمرين وإسرائيل في الطليعة فهم
يشجعون على التعلق بالفصحى لتعميق الازدواجية في الفكر العربي من جهة،
ولإبقاء العربي مشروطاً إلى حقائق ضبابية لا صلة لها بواقعه، من جهة أخرى) [1] [أسئلة الشعر / 150] .
ولسنا بصدد الرد على هذه الحجج الباطلة، بل القصد هو عرض أفكار هذا (المبشر) وإلا فأبلغ رد عملي عليه هو اعترافه نفسه بفشل مشروعه في مجلة (شعر) حيث علل توقفها باصطدامها بجدار اللغة [جريدة الرياض، مقال لجهاد فاضل، بتاريخ 30/11/1407] .
ومما يدل على سوء دخيلته، وبعده عن حقيقة ما يتباكى عليه من حرص على
نهضة العرب وتقدمهم أنه كان يدعو لتأجيل كل نضال ضد إسرائيل حتى يغير
العرب لغتهم من فصحى إلى محلية، فقد كتب في أواخر أيامه:
(اللغة أكبر مشكلة بيواجهوها العرب، هي أكبر من مشكلة إسرائيل، لأن
مشكلة إسرائيل مربوطة بمشكلة اللغة، ومن دون حل مشكلة اللغة باعتماد المحلية
ما بيتحرر العقل العربي، وما بيتقدم الإنسان العربي، حتى يتغلب على مشكلة
إسرائيل) (كذا) [النهار العربي والدولي 25 / 1 / 1981] .
وعبارة (التغلب على مشكلة إسرائيل) حمّالة أوجه وهي مشكلة وملبسة،
شأن أسلوب المبشرين الثقيل الخبيث، فمعناها غير معنى (التغلب على إسرائيل)
فالتغلب على المشكلة يكون إما بتجاهلها، وإما بالتعايش معها، وإما بالمصالحة مع
الطرف الآخر، فأي المعاني يريده يوسف الخال.
موقف يوسف الخال من التراث العربي:
إن موقف يوسف الخال من التراث العربي يوضحه صديقه أدونيس في كتابه
(قصائد مختارة ص 240) فيقول:
(التراث العربي عنده هو التراث الإنساني كله ... إنه التراث الذي تكوّن على الأرض منذ القدم وتفاعل عبر المتوسط مع التراثات التي تشكل بجملتها الحضارة الحديثة ... وإن كان يوسف الخال يصدر في شعره عن المسيحية العربية أو الوثنية العربية أكثر مما يصدر عن الإسلامية العربية فلا يعني ذلك أن شعره غير عربي) .
وهذا يوضح أن موقفه من التراث العربي موقف انتقائي ليس بمعنى انتقاء
النافع الذي أجمع الناس على نفعه، ورفض الباطل الذي ثبت بطلانه، بل انتقاء ما
يوافق أفكاره ولو خالف أفكار الأغلبية، وهو يوضح ذلك فيقول:
(فأنا معني جداً بتراثي العربي، الذي لا تراث لي سواه، وإنما أريد أن أغنيه وأعززه وأنقده وأفرزه، وأرفض ما أرفض منه، وأقبل ما أقبل، وذلك لجعله أساساً حديثاً صالحاً لبناء حياة أفضل لنا ولأولادنا) [أسئلة الشعر / 150] .
وعلى هذا فهو مع -اعتقاده بنفسه أنه فوق التراث برمته، يحكم عليه كما
يشاء، ويشرف عليه بنظرته المملوءة بالغرور والعجرفة والادعاء، ويعطي نفسه
الحق في رفض أي شيء وإثبات أي شيء؛ فيبرز فكر الشذاذ من الذين يسميهم
فلاسفة ومفكرين، ويتجاهل فكر غيرهم الذي لا يتفق مع عقيدته النصرانية- يخلط
خلطاً شنيعاً ومقصوداً في تحديده لمعنى التراث، كي يستبعد أي أثر ذي قيمة
للإسلام في هذا التراث عن طريق إبراز بقايا الوثنية العربية والمسيحية العربية
والمؤثرات الآتية عبر المتوسط! ! .
اعتزازه بنصرانيته:
يصرح يوسف الخال بأنه سعيد أن يلقى وجه خالقه وفي يده اليمنى شعرية
غيرت إلى الأفضل مسيرة الشعر العربي؛ وفي اليد اليسرى ترجمة عربية حديثة
للكتاب المقدس أتاحت للألوف المؤلفة من قرائه أن يخترقوا قدر الإمكان في المرحلة
الراهنة جسد اللغة العربية القديمة الميت (كذا) إلى روح مضمونه الحي.
ويقول أيضاً:
(إنني كشاعر مسيحي، والمسيحية جزء من تراثي، إن لم تكن في جوهره
وصميمه، والمسيحية مرتبطة ارتباطاً كيانياً عميقاً مع التراث الذي سبق التاريخ
العربي في هذه البقعة من الأرض) [أسئلة الشعر / 150] .
إن عبارته السابقة حول (اختراق جسد اللغة العربية الميت) ، تشرح نظرته
إلى التراث العربي، وتوضح بجلاء أن ما يعده تراثاً هو كل شيء مخالف لعقيدة
الإسلام سواء أكان أفكاراً منحرفة كانت تبرز بين الفينة والفينة عند بعض الفلاسفة
أو المتصوفة، أو ما كان إشارة بعيدة أو قريبة إلى الفكر النصراني، فاللغة العربية
كائن ميت، فإذا كتب بها شيء من أفكار ابن سينا والسهروردي أو الكتاب المقدس
تحولت إلى جسد حي! .
على أننا لا نلوم يوسف الخال هنا على مسيحيته وحبه لها، ولكننا ننعى عليه
هو وأنصاره حقدهم على ثقافة غيرهم وعيبهم لها، وضيق صدورهم إذا رأوا أثراً
إسلامياً -ولو باهتاً- في آثار غيرهم، فينقضُّون عليه بالشتم والقذف بالرجعية
والتخلف والتعصب، ما الذي يجعل الإسلام والتمسك به تخلفاً ورجعية، بينما
الاعتزاز بالتوراة والإنجيل والأساطير اليونانية تقدماً وتحضراً وحداثة! ! .
وكذلك ننبه إلى اعتزاز أهل الباطل بباطلهم دون حياء ولا خجل، بينما نرى
كثيراً من مدعي الحداثة يخجلون من ذكر دينهم وكتابهم [وإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ] .
(يتبع)
__________
(1) لقد أصبح هذا دأب كل من يتخذ موقفاً مناوئاً من الأسس الثقافية للمسلمين، فبالإضافة إلى الأسلوب الملتوي في الاستدلال والاحتجاج (الذي هو أسلوب المبشرين وتلاميذهم) يختم أدلته بأن ما يخالف ذلك يعد خدمة للاستعمار والصهيونية وإسرائيل، وهو كما ترى أسلوب دعائي رخيص إن جاز في الإذاعات والجرائد فلا يجوز على أهل العلم وأصحاب الفكر.(17/74)
حقيقة دعوة ابن تومرت
د. حمد بن صالح السحيباني
تمهيد:
مني العالم الإسلامي منذ عصر صدر الإسلام حتى عصرنا الحاضر بظهور
العديد من الدعوات والدول التي لبست ثوب الإسلام، واتخذته شعاراً ظاهراً لتحقيق
مطامح ومطامع خفية تهدف إلى النيل من الإسلام وحرب المسلمين بشعار الاسلام
واسمه، وما دعوات الرافضة، والقرامطة، والعبيديين، والموحدين إلا ضرباً لتلك
الدعوات والدول على مدار التاريخ الإسلامي.
وإذا كانت الدعوات والدول الثلاث الأولى قد كتب عنها كثير من المؤرخين
والكتاب المحدثين، فأبانوا حقائقها، وكشفوا للناس زيفها وبطلانها؛ فإن دعوة
الموحدين -التي أسسها ابن تومرت- كان نصيبها من الدراسات قليل [1] ، ولهذا
خفي على كثير من المسلمين حقيقتها، لاسيما وقد سماها مؤسسها بدعوة الموحدين،
فظنوا بها خيراً، ونسبوها إلى الصلاح والاستقامة [2] ، علماً بأنها كانت خلاف
ذلك كما يوحي بهذا تراثها الفكري وتاريخ مؤسسها وداعيها الأول محمد بن تومرت
، وهذا ما دفعني إلى دراسة هذه الدعوة والتعرف على أسسها العقدية لبيان حقيقتها
وكشف زيفها، معتمداً في ذلك بعد الله -سبحانه وتعالى- على أقوال ابن تومرت
وأفعاله، وما دونه لنا المؤرخون المعاصرون لتلك الدعوة، حيث إن مؤلفات ابن
تومرت وتلاميذه من أمثال البيدق، وابن القطان، وابن صاحب الصلاة موجودة
بين أيدينا، إضافة إلى أن الفترة التي ظهرت فيها دعوة الموحدين حظيت بوجود
العديد من المؤرخين الذين عاصروا تلك الدعوة أو عاشوا قريباً منها، فكتبوا عنها،
وهم شهود عيان لما كتبوا من أمثال المراكشي وابن خلدون، وابن أبي زرع،
وغيرهم.
وسأنهج في دراستي لدعوة الموحدين أن أقوم أولاً بتتبع نشأة تلك الدعوة
وبيان المراحل والأطوار التي مرت بها، وموقف الناس منها، ثم أخلص بعد ذلك
إلى بيان أهم الأسس العقدية التي قامت عليها، ومدى قربها أو بعدها من الأسس
الإسلامية الصحيحة.
الاتجاه الفكري للدول الإسلامية التي قامت في شمال بلاد المغرب:
لعل من المناسب بادئ ذي بدء أن نبين الاتجاه الفكري للدول الإسلامية التي
ظهرت في بلاد المغرب الإسلامي -الشمال الأفريقي- منذ القرن الثاني وحتى القرن
الخامس لنعرف مكان دولة الموحدين بينها، والأرضية التي ظهرت فيها تلك الدعوة
وأصبح لها كيان سياسي يحميها، ذلك أنه بعد أن ضعفت قبضة الخلافة الإسلامية
بالمشرق على الشمال الأفريقي ظهر هناك العديد من الدول الإسلامية التي أعلن
بعضها استقلالها عنها، بينما بقي البعض منها موالياً لها ولاًء صورياً، وقد تباينت
اتجاهات ومشارب تلك الدول حيث انقسمت إلى أربعة اتجاهات رئيسة هي:
1- الاتجاه السني ويمثله دولتا الأغالبة والمرابطين، والدولة الزيرية
الصنهاجية في آخر عمرها.
2- الاتجاه الخارجي ويمثله دولتا الرستميين والمدراريين [3] .
3- الاتجاه الرافضي، ويمثله دولة العبيديين.
4- الاتجاه الاعتزالي ويمثله دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى.
وبالإضافة إلى هذه الاتجاهات الرئيسة فقد كان هناك اتجاه خامس هو اتجاه
دولة الموحدين والذي كان يجمع بين هذه الاتجاهات وغيرها من الاتجاهات الفكرية
الأخرى، إذ أن محمد بن تومرت مؤسس هذه الدولة استقى من جميع هذه المشارب
بل زاد عليها ما يرى أنه يخدم ميوله وأهدافه، ولهذا جاءت الأسس الفكرية لهذه
الدولة خليطاً مضطرباً كما سنرى.
الأسس الفكرية لدعوة ابن تومرت:
لما كانت الأسس الفكرية -العقدية- لكل دولة أو جماعة أو فرد هي الموجه
الحقيقي لحركاتها وسكناتها فإن دراسة تلك الأسس مطلب ملح قبل دراسة تاريخ
الدولة أو الجماعة أو الأفراد.
ودولة الموحدين أول من وضع أسسها الفكرية هو محمد بن عبد الله ابن
تومرت الصنهاجي، ولد في الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري ببلاد المغرب
الأقصى، وقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة مولده [4] .
ادعى ابن تومرت النسب القرشي، وأنه من سلالة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وقد أقر بعض المؤرخين هذا الادعاء [5] ، لكن طائفة أخرى من المؤرخين
أنكرت هذا الادعاء وقالت إن ابن تومرت دعيّ فيه فهو من هرغة إحدى قبائل
المصامدة البربرية حيث عرف بمحمد بن تومرت الهرغي [6] كما قال بهذا الرأي
من الكتاب المحدثين محمد عبد الله عنان -رحمه الله-، إذ يرى أن هذا الادعاء ما
هو إلا نحلة باطلة وثوب مستعار قصد من ورائها ابن تومرت أن يدعم بها صفة
المهدي التي انتحلها أيضاً شعاراً لإمامته ورياسته [7] .
ولا يشك المتتبع لتاريخ ابن تومرت في كذبه بهذا الادعاء وأنه إنما قال به
ليتخذه جسراً يصل عن طريقه لأغراضه وطموحاته، ويتأكد هذا إذا علمنا أن معظم
المؤرخين الذين أثبتوا له هذا النسب إنما هم من تلاميذه، أو من مؤرخي الدولة
الموحدية الذين سجلوا تاريخها بوحي من سلاطينها وأمرائها، وبتأثير من نزعتهم
العقدية الباطلة.
حفظ ابن تومرت القرآن الكريم ودرس بعض العلوم الإسلامية في بلاد
المغرب في صباه، ثم ارتحل سنة 501 هـ إلى الأندلس، ثم إلى بلاد المشرق
حيث تنقل بين عواصمه الثلاث (بغداد) و (مكة) و (القاهرة) [8] ، وقد أفاد من هذه
الرحلة علماً غزيراً لاسيما في العلوم العقلية واللسانية [9] ، حيث أعانه على ذلك
ذكاؤه المفرط ومثابرته وهمته العالية [10] .
بداية ظهور ابن تومرت:
كان وضع معظم بلدان العالم الإسلامي في مطلع القرن السادس الهجرى
مضطرباً فالخلافة العباسية بالمشرق قد دب فيها الضعف، كما أن دولة العبيديين
بمصر قد كرهها الناس بسبب غلو حكامها وأعمالهم العدائية ضد الإسلام والمسلمين
، أما بلاد المغرب والأندلس فتخضع لحكم دولة المرابطين، وكانت قبضتها قوية
واتجاهها اتجاه سني حيث كان يتولى أمرها آنذاك السلطان علي بن يوسف بن
تاشفين (500 - 537 هـ) وكان سلفياً ورعاً مجاهداً وهذا ما جعل الطريق صعباً أمام
ابن تومرت الذي بدأ ظهوره في بلاد المرابطين، ولهذا جاءت سهامه مسلطة ضد
هذه الدولة وسلطانها، فبعد أن وصل إلى المغرب سنة 505هـ بدأ يدعو الناس
إليه [11] ، ولما كانت دعوته تقوم على أسس عقدية يشوبها كثير من الغبش
والانحراف فإنه لم يجرؤ في بادئ الأمر على إظهارها للناس صراحة، ولهذا انتحل
صفه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يذكر البيذق [12]-أحد تلاميذ ابن
تومرت- أنه نهج هذا الأسلوب في بادئ الأمر، وأنه كان إذا خشي بطشاً خلط في
كلامه حتى ينسب إلى الجنون [13] ، وهذا منهج كثير من الفرق الباطنية حيث
يلجأون إلى العبارات الموهية حتى لا تنكشف عقائدهم.
ظل ابن تومرت مدة عشر سنوات (505 - 515 هـ) ينتقل بين أقاليم ومدن
المغرب الأقصى لعرض دعوته على الناس ونشر أفكاره بينهم فكثر أنصاره
ومؤيدوه وذاع صيته بينهم وتعارف الناس به [14] ، فأضحى خطره يهدد كيان
دولة المرابطين، حينئذ استدعاه السلطان علي بن يوسف وسأله: ما هذا الذي بلغنا
عنك؟ فأجابه ابن تومرت في قوة بأنه يطلب الآخرة ويأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر، وأن هذه مسؤولية الحاكم قبل غيره، ويذكر بعض المؤرخين أن السلطان
علي بن يوسف حين سمع ذلك أطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم أمر الفقهاء
بمناظرته واختباره [15] ، فلما ناظروه تبين لهم حقيقة ما يحمله ابن تومرت من
آراء ومعتقدات تخالف طريقة أهل السنة والجماعة، فأوصوا السلطان بسجنه سداً
للذريعة ودرءاً للفتنة، لكن أحد المرابطين شفع فيه فأمر السلطان بإخراجه من
مراكش ولم يسجنه [16] .
أدرك ابن تومرت بعد ذلك المخاطر التي تهدده من قبل المرابطين، لاسيما أن
دعوته قد وصلت إلى مرحلة الظهور والجهر بالأهداف، فقرر الانتقال الى بلاد
السوس مسقط رأسه حيث نزل على قومه وقبيلته مصمودة سنة515 هـ وذلك
لضمان الحماية اللازمة لدعوته [17] .
وفي بلاد السوس أسس ابن تومرت مسجداً يجتمع به مع تلاميذه وزعماء
قبيلته حيث التف حوله الكثير من المؤيدين والأنصار فاختار منهم نخبة لتكون قاعدة
لدعوته حيث شرع بتدريسهم على شكل حلقات ودروس منظمة ومن خلال تلك
الدروس بث أفكاره بين تلاميذه، وأخذ يعدهم إعداداً خاصاً، فألف لهم كتاباً سماه
كتاب التوحيد بلسانهم البربري قسمه إلى سبعة أحزاب عدد أيام الأسبوع، وأمرهم
بقراءة حزب واحد منه في كل يوم بعد صلاة الصبح [18] ، ويحتوي هذا الكتاب
على معظم أفكار ابن تومرت والأسس العقدية لدعوته، ولهذا يذكر ابن أبي زرع أن
ابن تومرت قال لتلاميذه: من لا يحفظ هذا (التوحيد) فليس بمؤمن وإنما هو كافر لا
تجوز إمامته ولا تؤكل ذبيحته فصار هذا التوحيد عند المصامدة كالقرآن العزيز "
[19] .
وهكذا كفّر ابن تومرت من لا يتعلم مبادئ دعوته ويعمل بها ولاشك أن هذا
الشطط والمغالاة جعلت الكثير من اتباعه ينصرفون عن الأسس الإسلامية الصحيحة
إلى ما يقول به ويدعو إليه فغالوا في تعظيمه لدرجة العبودية -والعياذ بالله-.
لما شعر ابن تومرت بقبول دعوته في أوساط الهرغيين رأي توسيع إطارها
المكاني فاختار جماعة من أصحابه أرسلهم إلى القبائل القريبة من بلاد السوس
لاستمالة تلك القبائل للدعوة الموحدية [20] ، وبعد أن اطمأن إلى قوة دعوته وإلى
تمكنه من قلوب أصحابه أخذ يشوقهم إلى (المهدي المنتظر) " ... فلما قرر في
نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه وقال أنا محمد بن عبد الله
... ورفع نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصرح بدعوى العصمة لنفسه
وأنه المهدي وبسط يده فبايعوه.. ثم صنف لهم تصانيف في العلم منها كتاب سماه
(أعز ما يطلب) .. " [21] .
كانت هذه هي خطوات ابن تومرت في تمهيد الطريق وجهوده في تأسيس
قواعد البناء قبل أن يدعو إلى مبايعته بالإمامة ويعلن قيام الدولة الموحدية، وقد
أعان ابن تومرت على اجتذاب المؤيدين في بلاد السوس ما كان يتمتع به أهلها من
سذاجة وجهالة وادعاءه النسب القرشي فضلاً عما يتمتع به ابن تومرت من ذكاء
وعلم وقدرة على التأثير والتنظيم [22] .
مبايعة ابن تومرت بالإمامة:
لما اطمئن ابن تومرت إلى قاعدته وحسن ولائهم له دعا الناس إلى مبايعته
حيث يذكر ابن القطان أنه قام خطيباً فيهم ومما جاء في خطبته:
" ... الحمد لله الفعال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا مرد لأمره ولا معقب
لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً
كما ملئت جوراً، يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل، وأزيل العدل بالجور، مكانه
بالمغرب الأقصى واسمه اسم النبي، ونسبه نسب النبي.. " [23] .
وبعد هذه الخطبة قام الناس فبايعوه بالإمامة وكان ذلك في الخامس عشر من
شهر رمضان سنة 515هـ[24] .
وهكذا نرى كيف أن ابن تومرت لم يجرؤ على إعلان ذلك الشطط في دعوته
إلا بعد أن وثق من ولاء عامة الناس له، وفي هذا يقول ابن خلدون: «ولما كملت
بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام» [25] .
وقد جاءت مبايعة ابن تومرت إماماً للموحدين قرب مراكش دون تصد
ومقاومة من قبل المرابطين أصحاب السلطة الشرعية هناك، بل ودون إحساسهم
بالخطر الداهم قرب عاصمتهم شاهداً على ضعف دولة المرابطين وقتذاك، وعلى
النجاح الكبير الذي حققه ابن تومرت لدعوته الناشئة.
أمضى ابن تومرت السنوات الثلاث التالية لسنة مبايعته في جهد متواصل
وعمل دؤوب لدعوته حيث خاطب القبائل القريبة منه يدعوهم إلى الدخول في
طاعته، ونبذ طاعة المرابطين، فاستجاب له بعض القبائل [26] ، ولكي يوفر
مزيداً من الأمن لدولته ودعوته غادر جبل ايجليز في بلاد السوس سنة 518 هـ
إلى قرية تينملل ببلاد هرغة [27] ، وقد جاء اختياره لها بسبب حصانتها لوقوعها
على ربوة عالية في سفح جبل درن، ولا يمكن الوصول إليها الا من طريق واحد
لا يتسع لغير فارس واحد، ويصف ابن القطان منعة تينملل بقوله: " يسد خللها أقل
عصبة من الناس " [28] .
ويبدو أيضاً أن ابن تومرت أراد من ذهابه إلى تينملل الابتعاد عن زعماء
قبيلته ليتوقى مغبة تدخلهم في شئون دولته الناشئة لا سيما وهو في مرحلة وضع
الأسس الأولى لها.
أصبحت تينملل عاصمة لدولة الموحدين الناشئة حيث قسّم ابن تومرت
أراضيها وديارها على أصحابه الموحدين ليسكنوا فيها، كما بنى مسجداً وداراً له
بينهم [29] ، وفي تينملل وضعت أسس دولة الموحدين ومنها انطلقت جيوشهم،
كما وزع ابن تومرت مسئوليات الدولة ووظائفها على أصحابه الموحدين حسب
ولائهم لطاعته [30] ، ويذكر المراكشي أن ابن تومرت بعد أن كثر لديه المؤيدون
والأنصار سماهم بالمؤمنين وقال لهم: " ما على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم،
وأنتم العصابة المعنيون بقوله -عليه الصلاة والسلام-: " لا تزال [*] طائفة
بالمغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " وأنتم الذين
يفتح الله بكم فارس والروم، ويقتل الدجال، ومنكم الأمير الذي يصلي بعيسى بن
مريم، ولا يزال الأمر فيكم إلى قيامة الساعة ... فزادت فتنة القوم به وأظهروا له
شدة الطاعة " [31] ! ! .
هكذا تجرأ ابن تومرت على الله ورسوله فحرف الأحاديث الصحيحة وأقحم
دلالتها ليضل الناس فيلتفوا حوله، وقد خفيت هذه الأباطيل على قومه في بادئ
الأمر فأقبلوا على دعوته وتفانوا في خدمتها لاعتقادهم بأنه هو المهدي، حتى قال
قائلهم حينا وقف على قبر ابن تومرت بعد مماته:
سلام على قبر الإمام المجدد ... ومحيي علوم الدين بعد مماتها
أتتنا به البشرى بأن يملأ الدنا ... سلالة خير العالمين محمد
ومظهر أسرار الكتاب المسدد ... بقسط وعدل في الأنام مخلد [32]
هكذا أصبحت بلاد السوس بالمغرب الأقصى تغلي حماساً وولاءً لدعوة ابن
تومرت لكنه توفي قبل أن يُحكم البناء ويُوسع إطار دعوته، فقد وافاه الأجل في
شهر رمضان 524 هـ وكانت مدة حكمه حوالي تسع سنوات [33] ، وقد ترك
حرباً مشتعلة بين أتباعه والمرابطين وكل من خالف دعوة الموحدين في أرض
المغرب الأقصى، كما خلف أتباعاً مؤمنين بدعوته محاربين لأجلها.
__________
(1) لعل من أهم الكتب التي عنيت برصد حركة الرافضة والباطنية والعبيديين وغيرها كتاب وجاء دور المجوس لمؤلفة عبد الله محمد الغريب، إلا أن هذا الكتاب على الرغم من ذكره لكثير من الدعوات الضالة فقد أغفل الموحدين.
(2) على الرغم من الهفوات الواضحة التي وقع فيها محمد بن تومرت مؤسس دعوة الموحدين فإن كثيراً من الكتاب القدامى والمحدثين قد انطلت عليهم حقيقة دعوة الموحدين فظنوا بها خيراً، فمن المؤرخين القدامى ابن خلدون، حيث حصر هفوات ابن تومرت بزلة واحدة هي موافقته للرافضة في القول بعصمة الإمام حيث قال: " ولم يحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم " (ابن خلدون: العبر 11 / 471-472) أما من الكتاب المحدثين فمحمد سعيد العريان، ومحمد العربي العلمي محققا كتاب المعجب للمراكشي حيث ذكرا أن كثيراً من المؤرخين المشارقة قد أنكروا ما جاء به ابن تومرت ونسبوه إلى الدجل والشعوذة، كما تعقبوا دعاويه بالتفنيد والإبطال وقد عزا الكاتبان هذا الموقف من قبل هؤلاء المؤرخين المشارقة إلى سبب رئيسي هو " لأن المغرب الإسلامي لم يكن يعترف بشيء من الولاء للخليفة العباسي في بغداد، ولم يدع له يوماً على منبر من منابر المغرب لا في الأندلس ولا في الشاطئ الأفريقي فما ملك يخلعون في سبيله طاعة الخليفة ويخرجون عن الولاء له؛ ومن ثم كان رأي مؤرخيهم في شيخ الموحدين على أن الرأي مهما يختلف في شأن محمد بن تومرت فمما لاشك فيه أنه رجل من أهل الإيمان والفطنة، كان له رأي في سياسة الدولة الإسلامية يستند إلى أساس من الدين " (المراكشي: المعجب ص 276، حاشية رقم 2) هكذا كانت نظرة هذين الكاتبين لدعوة ابن تومرت وهي بلا شك نظرة سطحية حيث فسراها تفسيراً سياسياً مع أنها كانت تستند إلى أسس عقدية بحتة.
(3) لما تولي في دولة بني مدرار محمد بن الفتح بن مدرار أعلن في سنة 342 هـ اعتناقه للمذهب المالكي وقد انتهت هذه الدولة في عهده سنة 349 هـ حينما قضى عليها العبيديون.
(4) انظر في تفصيلات هذا الخلاف كلاً من: المراكشي: المعجب / 245، ابن الأثير: الكامل 10 / 578، ابن خلكان: وفيات الأعيان 5 / 53، ابن السراج: الحلل السندسية 1 / 985.
(5) من هؤلاء المؤرخين أبو بكر الصنهاجي المعروف بالبيذق في كتابة المقتبس من كتاب الأنساب، ص 12، ابن القطان: نظم الجمال، ص 34، الزركشي: تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، ص 12، ابن خلدون: العبر 6 / 226.
(6) ممن قال بهذا الرأي ابن أبي زرع الفاسي في كتابه الأنيس المطرب، ص 172، ابن عذارى: البيان المغرب 4 / 68، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4 / 70.
(7) عصر المرابطين والموحدين / 160.
(8) المراكشي: المعجب / 179، الزركشي: تاريخ الدولتين / 4.
(9) ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/ 46، ابن الأثير: الكامل 10 / 570.
(10) عبد الله علام: الدولة الموحدية في عهد عبد المؤمن / 51، سعد زغلول عبد الحميد: محمد ابن تومرت / 13.
(11) الزركشي: تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية / 4.
(12) البيذق: هو أبو بكر بن علي الصنهاجي الشهير بالبيذق (ت ق 6) أحد تلاميذ ابن تومرت وأنصار دعوته، ألف كتاب (أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين) وهذا الكتاب مهم في تاريخ الدولة الموحدية لأن مؤلفه شاهد عيان لكل ما كتب كما أن مؤلفه كشف جوانب غامضة في شخصية ابن تومرت ودعوته.
(13) أخبار المهدي بن تومرت / 22.
(14) ابن أبي زرع: الأنيس المطرب / 174.
(15) الزركشي: تاريخ الدولتين / 5، ابن خلدون: العبر 6 / 228، ابن قنفذ: الذهبي: العبر 4 / 59.
(16) المراكشي: العجب / 187، محمد السلماني: اللسان المعرب / 183 (مخطوط) .
(17) ابن خلدون: العبر 6 / 228، ابن قنفذ: مبادئ الدولة الحفصية / 100، سعد زغلول عبد الحميد: محمد بن تومرت / 21.
(18) ابن القطان: نظم الجمان / 46.
(19) الأنيس المطرب / 177.
(20) ابن أبي زرع: الأنيس المطرب / 176، المراكشي: المعجب / 254.
(21) المراكشي: المعجب / 254.
(22) ابن خلدون: العبر 6 / 228، سعد زغلول عبد الحميد: محمد بن تومرت / 27.
(23) نظم الجمان / 75.
(24) ابن أبي زرع: الأنيس المطرب / 176، ابن قنفذ: الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية /100. (25) العبر 6/ 228.
(26) المراكشي: المعجب / 254، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب / 176.
(27) ابن خلدون: العبر 6 / 228، الزركشي: تاريخ الدولتين / 6.
(28) نظم الجمان / 75.
(29) ابن القطان: نظم الجمان / 75، ابن خلدون: العبر 6 / 228.
(30) المصدرين السابقين.
(*) يلاحظ هنا أن ابن تومرت قد حرف الأحاديث الواردة في الغربة فأضاف إلى نصوصها ما يرى أنه يخدم فكرته وسنعالج هذا الخطأ في آخر هذا البحث إن شاء الله.
(31) المعجب / 276-277.
(32) المصدر السابق / 277-278.
(33) البيذق: أخبار المهدي ابن تومرت / 41، ابن قنفذ: الوافي بالوفيات / 273.(17/78)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
انتصار الجهاد الأفغاني
الآمال والعقبات
ما من حدث هام على مدى الأعوام العشر الماضية هيمن على مشاعر
المسلمين في أنحاء العالم وأذكى هممهم وردّ لهم الثقة في أنفسهم وأحسهم بعزة
الإسلام كما فعل جهاد المسلمين الأفغان، وما من نبأ في عصرنا الحديث أدخل
الغبطة إلى قلوب المسلمين، وشفى صدورهم كما فعل نبأ سحب الروس لقواتهم من
أراضي أفغانستان المسلمة وهي تجر وراءها ذيول الخيبة والذل مقرّة بإخفاقها التام
حتى في تحقيق جزء من الأهداف التي من أجلها دنست أراضي افغانستان،
وتبددت في ذلك أحلام الامبراطورية الروسية في جعل ذلك البلد المسلم جرماً جديداً
يدور في فلكها - على أقل تقدير - إن لم نقل ابتلاعه كلياً وضمه تحت رايتها
الحمراء إلى جانب الجمهوريات المسلمة الآسيوية الكثيرة المنسية والقابعة تحت نير
الشيوعية.
وبدخوله عامه العاشر، يكون الجهاد الأفغاني قد قطع شوطاً بعيداً في طريق
الوصول إلى أهدافه النهائية -بإذن الله-، بل لعل الفترة المتبقية لفتح باقي المدن
المحاصرة، ومنها العاصمة كابول واقتلاع النظام الشيوعي العميل لم تعد تمثل
سوى جزء يسير من مدة عقْدٍ من الزمان من القتال الضاري المتواصل.
فالمجاهدون متفائلون في تخليص البلاد من دنس الشيوعية وإقامة دولة
إسلامية -إن شاء الله-.
إلا أنه ليظهر لمن أمعن النظر جيداً في مجريات الأمور على الساحة هناك
أعداء الجهاد الكثر على اختلاف مللهم وعقائدهم ممن لا تكمن مصالحهم في وجود
حكومة إسلامية سنية قوية في كابل سوف لن يدعوا الطريق مفروشاً بالزهور
والرياحين للمجاهدين وقادتهم وهم يخوضون غمار المراحل الحاسمة من قتالهم
المرير، بل ولا حتى في المرحلة التي ستشهد قيام دولتهم -بإذن الله-، لاسيما إذا
ما أعدنا إلى الأذهان تآزر وتكاتف تلك القوى على مر السنوات العشر المنصرمة.
وتبادلها الخبرات والتجارب المختلفة في كل ما من شأنه إضعاف المجاهدين والحد
من انتصاراتهم.
ومكامن الخطر التي هددت وتهدد الجهاد لم تكن خافية يوماً ما على من دقق
النظر في أحوال ذلك البلد وما جاوره من شعوب مختلفة، فأفغانستان دولة محاطة
بدول يجمعها قاسم مشترك ألا وهو محاربة الإسلام والإبقاء على المسلمين في حالة
ضعف وتفرق، كما أنه ليس في مصلحة أية دولة من هذه الدول قيام دولة إسلامية
حقة من شأنها إيجاد موطئ قدم للمسلمين في ذلك البقعة من العالم. ولقد سبق لنا
الحديث عن خطورة الدور الذي بالإمكان أن تلعبه تلك الدول في تحديد الصورة
النهائية للجهاد، وذلك في أعداد سابقة من البيان (1) ، وكنا قد شددنا القول على
الدور الخطير الذي تضطلع به إيران الخميني للحيلولة دون انفراد المسلمين السنة
في دولة مستقلة لهم.
ولقد وجدنا من الأهمية بمكان إيراد بعض مما كنا قد حذرنا إخواننا المجاهدين
منه في الماضي لكي يتسنى للقارئ المقارنة بين ما جاء في تلك المحاذير وبين ما
آلت وتؤول إليه مجريات الأمور وتطورات الأحداث هناك، لعل ذلك يكون درساً
لأصحاب الهمم العالية والنوايا الطيبة من أبناء هذه الأمة، لاسيما الشباب منهم على
وجه الخصوص، لطرح الانقياد وراء العواطف والانفعالات جانباً ونهج طريق
الدراسة والتحليل العميقين وعدم التهوين من شأن العثرات والهفوات، ومحاولة
الاستفادة من أخطاء الآخرين، ومما جاء في " رسالة مفتوحة للمجاهدين الأفغان "،
في العدد الأول:
" ومن هؤلاء المكذبين الذين نحذر إخواننا المجاهدين من شرورهم ومكائدهم
:
1- المنافقون.
2- الباطنيون.
لا تنتظروا خيراً أو تعلقوا آمالاً على جند عبد الله بن سبأ اليهودي، إنهم
عون للطغاة المتجبرين، وعيون للغزاة المستعمرين، قلبوا صفحات من تاريخهم
الأسود ترون فيه العجب العجاب من موالاة أعداء الله من التتار واليهود والصليبيين
وعداوتهم لأولياء الله بدءاً بأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، ومروراً
بالشيخين أبي بكر وعمر، وانتهاءاً بسائر الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-،
اسألوا إخوانكم الذين اكتووا بنيرانهم وشرورهم في بعض بلدان العالم الإسلامي،
ولا تصدقوا أقوالهم ووعودهم فمن صفاتهم الغدر والكذب، ولن يتورع هؤلاء
الباطنيون عن التعاون مع الشيوعيين، كما أنهم لن يقصروا في استغلال إخوانكم
وبذل المحاولات من أجل زعزعة إيمانهم وتشكيكهم بأصول دينهم ".
وفي موضوع " جهاد المسلمين الأفغان يمر بأخطر مراحله "، الذي نشر على
صفحات العدد السادس، جاء تحت فقرة " أين مواطن الخلل " ما يلي:
1- الباطنيون الرافضة:
" لا تظنوا أن اشتراكهم (الرافضة) معكم في مجلس الشورى ومجلس الوزراء
سوف يساعد على وجود هدنة بينكم وبينهم، إنهم إن قبلوا بهذا الاشتراك فسيكون -
أي الاشتراك بحد ذاته - ميداناً جديداً من ميادين صراعهم معكم، فأنتم في نظرهم
كفار ناصبة، وليس بينهم من يعتقد بأننا مسلمون عصاة على الأقل، وسوف
يتعاونون مع السوفييت والأميركان واليهود ضدكم.. وسوف يجعلون من أفغانستان
" لبناناً " آخر بل أشد من لبنان ... فخذوا حذركم يا إخوة، وصراعكم مع هؤلاء
الغلاة لن يكون أقل من صراعكم المرير مع الشيوعيين.. واعلموا حق العلم أنهم لم
ولن يقبلوا أن يقوم للمسلمين السنة دولة في أفغانستان، ولا نشك أنكم سوف
تخوضون معركة معهم، وسوف يفرضون عليكم هذه المعركة فرضاً، والله أعلم،
وسوف يجدون من يتعاون معهم من ضعاف النفوس وطلاب الزعامات وبعض
أصحاب الاتجاهات الباطنية فانظروا ما تفعلون ".
وهاهو عام ونصف العام يمضي على كتابة تلك السطور وإيران وعملاؤها
والآخرون مشمرون عن ساعد الجد لضمان إقحام أنفسهم في المعادلة النهائية في
أفغانستان، فإيران التي تتكلم اليوم باسم المسلمين في أنحاء العالم، حتى ليظن
الأوربي في بلاد الغرب أن الخميني لدى المسلمين هو بمثابة البابا لدى النصارى،
إيران هذه لا يروق لها زوال منصبها هذا، كما أن مجاورتها لدولة إسلامية سنية
يعني بالضرورة فضحها على الملأ وكشف أساليبها في تضليل أبناء الشعوب
الإسلامية لا سيما الشباب منهم، هذا إلى جانب كون أي حكومة سنية في كابل
ستكون عمقاً لأهل السنة المقهورين في إيران، وقل مثل ذلك بالنسبة لروسيا
الجاثمة على صدور الجمهوريات الآسيوية المسلمة حيث بخارى وسمرقند وطاشقند
موطن كبار أئمة هذه الأمة.
إن فرائص قياصرة الكرملن في موسكو لترتعد لسماع كلمة جهاد أو حكومة
إسلامية في أفغانستان لا لشيء سوى ليقينهم بأن تحقق ذلك سيعني انفلات قبضتهم
الحديدية عن تلك الشعوب المسلمة، أما في الهند فيراقب الوثنيون هناك بقلق بالغ
تطورات الأحداث في أفغانستان لصالح المجاهدين وما سيجره ذلك عليهم من متاعب
من قبل المسلمين الهنود البالغ عددهم (150) مليون والذين يتوقون إلى ذلك اليوم
الذي تقوم فيه دولة الإسلام في تلك البقاع لتخفف عليهم - إن لم نقل تنقذهم مستقبلاً
- من هيمنة السيخ والهندوس.
أما باكستان فشأنها لم يعد ذاك الذي كان عليه إبّان حكم ضياء الحق، فعلى
الرغم من أن الحكومة الجديدة هناك لم يبدر منها بعد وبشكل واضح ما يعوق مسيرة
الجهاد في أفغانستان - وذلك راجع إلى حد كبير إلى النفوذ القوي الذي مازال
يحتفظ به كبار ضباط الجيش الذين كان قد عينهم ضياء الحق -إلا أن معرفة الخلفية
الفكرية والثقافية التي تنحدر منها رموز القيادة والشعارات والمبادئ التي أطلقتها
وتطلقها قبل وبعد استلامها السلطة، كافية لتحديد الصورة التي سيرتسم بها موقفها
المستقبلي إزاء مسألة قيام دولة إسلامية في أفغانستان، فإننا إذا قلنا أنها سوف لن
تلتزم موقفاً عدائياً صريحاً من النظام الجديد فإننا في الوقت ذاته نقول وبلغة الجزم
إنها لن تكون من المتحمسين لقيامه، ولا حتى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، أياً
كان ثوبها، أما علاقات باكستان الإقليمية الجديدة مع الهند وإيران وتوافق وجهات
نظرها معهما فهي مما لا يُبشر بخير، وهي دليل آخر على ما نقوله، فما إن
استلمت بي نظير دفة الحكم حتى انقلبت كل العقبات التي كانت تعوق قيام علاقات
أفضل مع الهند إلى مصالح مشتركة، وتحوّل الجمود الذي كان يسود علاقات
البلدين إلى دفء.
إن محور موسكو كابل طهران نيودلهي يحيط بأفغانستان إحاطة السوار
بالمعصم، فهؤلاء جميعاً على يقين مما قد يفجره هذا الجهاد من طاقات كامنة لدى
شعوب المنطقة المسلمة وهم على دراية مطلقة من أن انتصار المجاهدين الأفغان
إنما هو انتصار لكل المسلمين، وأنه انتصار عالمي وليس محلياً، وأنه صراع
عقائدي يبن حق وباطل.
وهذا الذي قلناه في الماضي ونكرره اليوم ليس ضرباً من الخيال أو رجماً
بالغيب، فالتنسيق بين أجهزة مخابرات تلك الدول لتحقيق كل ما من شأنه عرقلة
الجهاد على مدى أعوامه العشر لم يعد مسألة تحتاج إلى برهان، فكم من مؤامرة
انكشفت كانت تستهدف طعن الجهاد وقادته من الوراء حاكتها أيادي المجرمين في
تلك الدول، وما حادث تحطم طائرة ضياء الحق عنا ببعيد.
أما في الفترة الراهنة، فإن الدور الذي تمارسه إيران وتهدف من خلاله إلى
كسب موطئ قدم لها في حكومة المجاهدين عن طريق أتباعها بات أوضح من أن
يحتاج إلى دليل، فقد أسفرت طهران هذه المرة عن وجهها الحقيقي ولم تعد تجديها
كما يبدو أساليبها الخفية، ووصل تدخلها المباشر في شؤون المجاهدين إلى درجة
محاولة فرضها لعدد مقاعد مجلس الشورى، التي يجب أن يحصل عليها الشيعة -
والذين لم يكن لهم دور يذكر في الجهاد - وزعمها أنهم يمثلون ثلث مجموع السكان
، والأكثر من ذلك وقوف سفيرها لدى إسلام آباد يتهدد ويتوعد قادة المجاهدين إن
هم لم يمنحوا الشيعة (120) مقعداً.
وفيما يلي نورد جانباً من تهديدات السفير الإيراني الموجهة للشيخ سياف كما
ذكرتها نشرة (لهيب المعركة) الصادرة في بيشاور نقلاً عن وكالة البنيان الصادرة
بتاريخ 13 / 2 / 1988: " «هدد سفير ايران لدى إسلام آباد بأن الحكومة
الإيرانية سوف لن تعترف بحكومة المجاهدين إذا لم يحصل الشيعة على (120)
مقعداً في مجلس الشورى فرد عليه الشيخ سياف - المتحدث الرسمي لائتلاف
المجاهدين -: إن أردتم مالاً حتى تعترفوا بحكومتنا فسنحاول أن نوفر لكم ذلك
لتعترفوا بنا أما إذا أردتم قطعة من أرض أفغانستان لتعترفوا بنا فلن نعطيكم هذه
الفرصة، وأنتم تعرفوننا جيداً.
ثم قال السفير: إذا لم تنصفوا الشيعة مع السنة في الشورى فسنقوم بأعمال
تخريبية داخل أفغانستان، فرد الشيخ سياف: إننا لن نعطي الشيعة في إيران أكثر
مما قررناه وذلك ليس بضغط من أحد علينا، وهذا القرار حقنا وبرضانا، فقد قررنا
ما رأيناه حق ولا دخل لكم بذلك، وتابع رده قائلاً: ثم إنكم لماذا تتدخلون هكذا
وليس ذلك من حقكم، ولماذا تتكلم بهذه الحدة معنا وأنتم تعرفون من نحن، وكرر
الشيخ سياف تحذيره للسفير الإيراني بأن لا يعاود التدخل في شؤون المجاهدين
الداخلية» .
وهكذا تثبت الأيام ما كنا قد ذكرناه من أنّ إيران وأتباعها -سيراً على خطى
ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي - لن يتورعوا في رفع السلاح ومقاتلة
المجاهدين وها هو سفيرهم ينطق بذلك وما ذاك على سجلهم تجاه المسلمين بغريب.
أما موقف الحكومة الإيرانية الرسمي تجاه الوضع في أفغانستان فيتلخص في:
- وجوب الاعتراف رسمياً بأن الشيعة يشكلون نسبة 30% من مجموع
السكان.
- جود احتلال الشيعة لما لا يقل عن 25% من المناصب الوزارية.
- إعطاء الشيعة حكم ذاتي كامل في الأقاليم التي يشكلون أغلبية فيها.
- منح علماء الشيعة حق النقض بشأن القرارات التي تتعلق بهم.
إن إيران تجاهر بأعلى صوتها لوقوفها وراء شيعة أفغانستان الذين لا
يتجاوزن نسبة 10% من مجموع السكان، أما السنة في إيران - الذي يجاوزون
ضعف نسبة الشيعة الأفغان - فما من صوت لا في داخل إيران ولا خارجها ينبئنا
بأحوالهم ولا بأخبار تمثيلهم بالبرلمان الإيراني.
إنه كلما خطى المجاهدون خطوة جديدة باتجاه قطف ثمار تضحياتهم، ازدادت
مكائد الأعداء واشتد غيظهم ومكرهم، فما أحوج المجاهدين إلى الحذر واليقظة أكثر
من أي وقت مضى لما يحيط بهم من مؤامرات وأشراك، ليست هذه الأيام القلائل
المتبقية -بإذن الله- أهون على سلامة الجهاد وقطف ثماره مما مضى فكل متربص
بهم الدوائر وكلهم يغيظه ظهورهم.
إننا لعلى ثقة أن المجاهدين الذين استطاعوا الاستقلال بقرارهم على مدى
الأعوام العشر الماضية أن يفوتوا الفرصة على أعدائهم وعلى كل من تسوّل له نفسه
التدخل في شؤونهم وإملاء رغباته عليهم، وما ذاك إلا من خلال نبذ الخلاف
والاتحاد والتآزر ضد عدوهم، وما النصر إلا من عند الله.
اللهم انصر المجاهدين على أعدائك أعداء الدين.
1- العددان الأول والسادس.(17/89)
الانتفاضة
من وجهة نظر العدو
عندما انطلق الشعب الفلسطيني الأعزل في انتفاضته في مواجهة عساكر
اليهود المدججين بالسلاح، طلع قادة اليهود بتهديدهم ووعيدهم من أنهم سيضربون
هذه المرة يبد من حديد، وسيسحقون الانتفاضة ويستأصلونها من جذورها وأنهم
على يقين من أن " أعمال الشغب " غير المجدية هذه سوف لن تلبث أن تنطفئ في
غضون أيام معدودة، كما توجه الزعماء اليهود بالنصيحة إلى الفلسطينيين من أجل
وقف أعمالهم تلك التي لن تحقق لهم أي هدف مهما صغر، وأن هذه الانتفاضة من
المستحيل أن تؤثر في إسرائيل وقوتها.
وبعد انقضاء ما يزيد على ستة عشر شهراً على تلك التصريحات والتهديدات
، فإن الانتفاضة مازالت مستمرة وبنفس الاندفاعة الأولى إن لم تكن أشد، على
الرغم من كثرة الضحايا الذين سقطوا بالرصاص اليهودي، وبالرغم من كل المآسي
التي لحقت بالشعب الفلسطيني طوال تلك الفترة فما زال ذلك الشعب بكل فئاته،
شبابه وشيوخه ونسائه وأطفاله، واقفاً راسخ القدمين، يداً واحدة يرجم اليهود غير
آبه بعددهم ولا عدتهم.
ولنا - في هذا المقام - أن نلقي نظرة مماثلة على الطرف الآخر من معادلة
الانتفاضة هذه حتى نرى الصورة الواضحة لما يجري على أرض فلسطين.
وإلى القارئ الكريم طرفاً من تصريحات أولئك القادة والضباط والمفكرين
والعساكر، ولكن بعد مرور ستة عشر شهراً من عمر الانتفاضة، اقتطفناها من
بعض الصحف والمجلات العالمية، ونتبعها بتعليقات موجزة لمراسلي هذه الصحف
ممن وقفوا على جانب من الأحداث هناك:
" إننا في مقاومتنا للانتفاضة نعمل على تآكل طاقات الجيش البدنية والفكرية ".
يوش ساريد، عضو في الكنيست - مجلة التايم 30/1/1989
" إنه من غير الممكن القضاء على الانتفاضة، ذلك أنها تعبر في جوهرها
عن كفاح أمة ".
دان شومرون، رئيس الأركان الإسرائيلي - الإيكونومست 28/1/1989
" إن بمقدرة دولة إسرائيل التغلب على خمسة جيوش عربية، إلا أنه ليس
بمقدورها التغلب على الانتفاضة ".
موشي قعوز، بروفيسور في الجامعة العبرية -التايمز 1/2/1989
" إن العنف الذي نستخدمه ضد الأهالي يُذكي لدى الفلسطينيين روح
الإحساس بالقومية، ويقوي من شأن العرب، في حين أن إسرائيل آخذة بالضعف ".
جنود إسرائيليون - الإيكونومست 28/1/1989
" إنها (الانتفاضة) تمزقنا إرباً وتقوي العرب، الحل السياسي هو المخرج
الوحيد الذي ينقذنا من هذه المهانة ".
جنود إسرائيليون - مجلة التايم 30/1/1989
" إنني كإنسان أشعر بالإنهاك بسبب الانتفاضة، إنها تحطمني ".
جندي إسرائيلي - مجلة التايم 30/1/1989
" ما من شيء قد التهم قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية - منذ غزو لبنان
- مثلما فعلت الأشهر الأربعة عشر الماضية من القتال المر ضد الأطفال وحجارتهم
".
" في العام الماضي صدرت توجيهات إلى الجنود:
بضرب المتظاهرين.
إسقاط الحجارة عليهم من طائرات مروحية.
ضربهم بالقنابل المسيلة للدموع.
ضربهم بالأعيرة المطاطية والبلاستيكية.
إلا أنه ما من واحد من تلك الأساليب أدى مفعوله في إيقاف الانتفاضة، حتى
إن بعضاً من أعضاء حزب (ليكود) أخذوا يشككون في جدية أية إجراءات جديدة ".
" إن الجيش لا يواجه هزيمة عسكرية، بل هزيمة معنوية ".
ماك جيري-مجلة التايم
" لاخلاف في مدى الإحساس بالقلق والاحباط المتزايدين اللذين تواجههما
إسرائيل في مواجهتها للانتفاضة ".
" يبدو أن الآمال في وضع نهاية للانتفاضة في أوساط الجيش قد انهارت ".
مراسل الايكونومست(17/96)
الجزائر.. سقوط الاشتراكية
صوّت الشعب الجزائرى يوم 23/2/1989 على دستور جديد للبلاد، وكان
أهم ما في هذا الدستور إسقاط لفظة " الاشتراكية " التي كانت مفروضة فرضاً، كما
كفل الدستور الجديد -في ما كفل - حرية الرأي وحرية المراسلات والاتصالات
الخاصة بكل أشكالها، وكذلك كفل حرمة المساكن وعدم انتهاكها أو تفتيشها إلا بأمر
قضائي مكتوب.
ولاشك أن ذلك مما يفرح به المسلمون في كل مكان، ولكن العبرة ليست في
النصوص المكتوبة؛ وإنما العبرة في التطبيق العملي لهذه النصوص، فكم من
الدساتير من يشيد بالحرية ويعتبرها أساس حق المواطن، ولكن ذلك لا يعدو أن
يكون حبراً على ورق.
ومن أجل انتهاك الحريات، والتسلط على رقاب الناس لا يعدم المتسلطون
وسيلة ينفذون بها ذلك تحت أنواع كثرة من التسويفات والذرائع، ويضربون
بالدساتير وموادها عرض الحائط.
والمشكلة مشكلة أخلاقية في الأساس، بل مشكلة خراب عقائدي وفراغ مبدئي
. وما لم يصلح هذا الخراب، ويسد هذا الفراغ بعقيدة صالحة فإنه لا الدساتير
المكتوبة ولا الإجماع عليها يحل المشكلة.
فمن الذي يضمن أن لا يتحول الفساد الذي كان يقترف في ظل النظام
الاشتراكي إلى فساد يمارس في ظل نظام يتجه إلى الرأسمالية؟ فالفساد هو الفساد
مهما تستر، وبأي لون ظهر، ومشكلة المفسدين أنهم أينما تميلهم الريح يميلوا،
وبما أن هذه الفترة فترة إفلاس للاشتراكية: الحقيقة والمستوردة المزورة؛ فإنه من
المرجح أن ينقلب هؤلاء الذين كانوا بالأمس يسبحون بها بكرة وعشياً إلى لعانين لها
كاشفين لسوءاتها. وإذا أردنا دليلاً على ذلك فما حدث في مصر في عهديها
الاشتراكي والانفتاحي يشكل النموذج.
إن المخرج الحقيقي من هذا العناء المتعدد الجوانب الذي تعانيه هذه الشعوب
هو أن تستمد حكوماتها شرعيتها من عقيدتها ودينها، وتقتبس ضمانات العدالة فيها
من مبادئها وتراثها، فإن المنطق الصحيح، والتجربة العملية أثبتت أن هذه
الشعوب لن تحترم شيئاً يأتيها من شرق أو غرب، ولن تدين بالولاء لأساليب
مستوردة يفرضها عليها أذناب الاستعمار وخدم أعداء الإسلام. والولاء الذي نقصد
ليس الخضوع الذليل لجبروت التسلط، فهذا ولاء كاذب غير مضمون العواقب،
ولكن الولاء النابع من القلب الذي ينتج عنه التوافق المنتج، والتطور المبدع بين
الشعب والسلطة.(17/99)
القراء
من غرائب الصحافة العربية
عبد الحميد سعيد
بينما كنت أتصفح بعض المجلات العربية إذ شد انتباهي ظاهرة غريبة
أحسبها جديرة بالوقوف قليلاً، ذلك هو الأسلوب ونمط الحوار الذي يسلكه مندوبو
تلك المجلات في لقاءاتهم ومقابلاتهم الصحفية مع الشخصيات المختلفة.
إن القارئ ليلمس ذلك البون الشاسع بين مقابلة وأخرى - على صفحات
المجلة الواحدة - من جهة طبيعة الأسئلة التي تغيرها المجلة وكيفية طرحها بل
وحتى المستوى الخلقي الذي يظهر به مدير المقابلة. ففي الوقت الذي تحاور فيه
المجلة شخصية إسلامية - على وجه الخصوص - تجد الصحفي يتفنن في صياغة
حواره وبالشكل الذي يسيء إلى تلك الشخصية كما أنه لا يألو جهداً لإثارة كل ما من
شأنه الانتقاص من ضيف المقابلة، وليس ذلك نابعاً في ظني من موقف تقفه هذه
المجلات تجاه رجال الدين بشكل عام، بسبب النهج العلماني الذي تسير عليه مثلاً،
فإنك تجد وجه المجلة الآخر مشرقاً وهو يحاور شخصية دينية مثل البابا شنودة الذي
ينال أسمى الألقاب خلال المقابلة وينُعت بأحسن النعوت التي تبرز على أنه رجل
الدين المثالي، وهو كذلك بالنسبة لهم. إننا ندعو الصحافة العربية ألا تكيل بمكيالين
ولا تزن بميزانين.(17/103)
وراء كل عمل دافع
عبد الله حماد حامد الجهني
إن الإنسان يتعلم إن كانت لديه رغبة في التعلم، وكانت لديه القدرة، وأتيحت
له الفرصة لذلك وقدم إليه الإرشاد فيما يتعلم، غير أن الرغبة والقدرة والفرصة
والإرشاد لا تجدي إن لم يكن لدى المتعلم ما يدفعه إلى التعلم إذ لاتعلم بدون دافع.
إذا عرفنا هذا فمن السهل أن نعرف سبب تفوق تلميذ متوسط الذكاء على تلميذ
آخر أذكى منه، إنه الدافع.
فالدافع من أهم العوامل التي تساهم في التربية بوجه عام والتعلم بوجه خاص
. فالتعليم الناجح هو التعليم القائم على إشباع دوافع التلاميذ وحاجاتهم، وكلما كان
الدافع قوياً زادت فاعلية التعليم أي مثابرة المتعلم عليه واهتمامه به، ويتسم السلوك
الصادر عن الدافع بالنشاط والاستمرار.
وتقسم الدوافع الى قسمين:
فطرية: كالجوع دافع للأكل، والعطش دافع للشرب، والتنفس دافع للحياة.
ومكتسبة: كالسيطرة وتوكيد الذات دافع إلى الظهور والغلبة، ودافع التملك
والادخار ملحوظ في المجتمعات الرأسمالية.
وللدوافع ثلاث وظائف في عملية التعلم هي:
أ- أنها تضع أمام المتعلم أهدافاً معينة يسعى لتحقيقها.
ب- تمد السلوك بالطاقة وتثير النشاط.
ج- تساعد على تحديد أوجه النشاط المطلوبة لكي يتم التعلم وتستغل هذه
الدوافع من قبل المربين بعد معرفة شخصية كل متعلم.
فالمتعلم المادي مكافئة مالية تكون دافعاً له بأن يضاعف جهده، والوعد برحلة
من أكبر الدوافع الاجتهادية لدى الأشخاص، وتخفيف مدة السجن عن السجين من
الدوافع للانضباط، ومن هذا المنطلق يجب على الدعاة والمربين معرفة أهم دافع
في الوجود وهو الدافع الذي جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتحمل أذى
الكفار الذي لا يمكن تصوره، وهو الذي دعا ذلك الصحابي أن يلقي بتلك التمرات
من يده، ويقدم نفسه في سبيل الله، وهو الذي دفع جميع السلف إلى تعلم العلم
والعمل به ذلك الدافع هو الإيمان وحب الله ورسوله.
فحري بكل داعية أن يجتهد بزرع هذا الدافع في نفوس الناس بشتى الطرق
وبكل الوسائل حتى يعود للأمة مجدها.
* ومن الأخ محمد عبد الرحمن العريفي جاءتنا هذه المساهمة:
يا غافلاً تتمادى ... غداً عليك يُنادى
هذا الذي وعظوه ... وخوّفوه المعادا
هذا الذي لم يقدم ... قبل الترحل زادا(17/104)
مكتبة البيان
إعداد: محمد الحسيني
1- (حول التفسير الإسلامي للتاريخ) للأستاذ محمد قطب الناشر: المجموعة
الإعلامية، الطبعة الأولى 1408 هـ، 279 صفحة.
وهو كما يقول المؤلف: " وهذا الكتيب لا يمكن بطبيعة الحال أن
يتسع لدراسة مستوعبة للموضوع، إنما هو بالأحرى دعوة للمختصين ليقوموا
بهذه الدراسة، وأن يكون في الوقت ذاته دعوة للمؤرخين المسلمين أن يعيدوا
كتابة التاريخ البشري من زاوية الرصد الإسلامي المتميزة ".
وقضية التفسير الإسلامي للتاريخ ما زالت في إطارها النظري الذي لم تتميز
معالمه، وهذا الكتاب لبنة في محاولة هذا التفسير، والذي ما زال ميداناً بحاجة إلى
الدراسة والمناقشة.
***
2- (موقف الدين من العلم) د. علي فؤاد باشكيل: كتب في التركية وترجمه
إلى العربية أورخان محمد علي، دار الوثائق - الكويت 1405هـ، فيه ردود على
من ينكر أهمية الإيمان للناس في حياتهم ونقد لبعض الأفكار الغربية.
... ... ... ... ... ***
3- (الحداثة في منظور إيماني) د. عدنان رضا النحوي، الطبعة الأولى
1409 1988، دار النحوي للنشر والتوزيع الرياض، (168) صفحة.
يناقش الكتاب قصة الحداثة وأنها مذهب فكري أدبي قادم من الغرب أو
صرعة من صرعاته، وما أكثر مذاهبه وصراعاته الأدبية والفكرية نتيجة الضلال
الذي يعيشه، ثم يورد نماذج من المقلدين لهم مثل أدونيس، وكمال أبو ديب، وعبد
الله الغزامي، وينقل نصوصا من أقوالهم وترتبط الحداثة بالماركسية أو بالتصرف
الغنوصي، ويدعو الكاتب في النهاية إلى تفهم المنهج غلإسلامي وفهم الواقع فهملا
صحيحا.
***
4- (القضية الإسلامية في سياسة الشرق الأوسط) تأليف: آلن تايلور
الولايات المتحدة 1988 1988، (150) صفحة.
من القضايا التي اهتم بمناقشتها قضية فشل الأنظمة القومية اللادينية في
المنطقة والمشكلات التي تقابل البحث عن البديل الإسلامي.(17/106)
الصفحة الأخيرة
أين القدرات الفكرية؟ !
هناك أمر ملحوظ بوضوح شديد، وهو عزوف أهل العلم والفكر عن مهمتهم
التي لا يستطيع أن يقوم بها غيرهم، وهي التوعية والقيام بأمر التبيين، وبكلمة
مختصرة: النزول من الأبراج العاجية، والانخراط يبن الناس، وقيادتهم وتبني
مشكلاتهم، والإحساس بشعورهم، ومعالجة قضاياهم.
إن الذي يجعل أهل العلم يحجمون عن ذلك أمور هي في ظاهرها حجج قد
تكون مقبولة، ولكنها في حقيقتها ليست إلا حججاً مصطنعة تأخذ أكثر من نصيبها
من الاعتبار، وتتخذ تكأة للضعف والنكوص والانسحاب من الواقع.
إن كثيراً من أهل الفكر يتعللون بفقدان الحرية، أو ضيق الوقت، أو
بالاستغراق في مهام أخرى ...
صحيح أن هناك موانع وعوائق في مجال النشر والكتابة، ولكن المؤمن
المصمم الكيس الفطن لا يعدم وسيلة يوصل بها أفكاره، إذا صح العزم وخلصت
النية، وكثير من الناس يفهمون الحرية فهماً مجتزأ كأن يتصوروا السماح لهم بسب
هذا وتجريح ذاك؛ دون أن يكلفوا أنفسهم ضرب المثل للعمل الإيجابي والجهد
المثمر وكيفية أن ننجز أمراً مهما كان صغيراً، ودون أن ننجرف في الإثارة
والغليان ولا نحقق شيئاً.
وكذلك مسألة ضيق الوقت، فلو نظر الشاكون من ضيق الوقت إلى كثير من
الأعمال التي تضيق بها أوقاتهم لوجدوها لا تستحق أن يشغل الإنسان بها وقته،
ولأزالوا من طريق العمل المثمر المبني على خطط مرسومة يُحاسَبُ عيها، فيثاب
ويكافأ من نفذها في وقتها، ويعاقب ويقصي من قصر في تنفيذها.
نزولاً إلى الساحة؛ فالساحة فارغة، واهتماماً بالأجيال الإسلامية؛ فالأجيال
متعطشة وتركاً للكسل والترهل والاستنامة إلى الفتن والشهوات، فهي مرتع وبيل لم
تجن منه الأمة الإسلامية إلا السير إلى الوراء، وسعياً في ركاب العلم النافع الذي
يبني ولا يهدم، وبعداً عن أساليب الإثارة فهي مضيعة للوقت، ومجال تتسلل منه
الفتن بشتى أنواعها،
ولمْ أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام(17/108)
في إشراقة آية
[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]
د. عبد الكريم بكار
طالما وقفت خاشعاً في محراب هذه الآية وطالما غمرني ضياؤها بأشعته
الهادية حيث أودع الرحمن عز وجل في كلمات قليلة من المعاني الكريمة الفياضة ما
يمدنا بالمفاهيم النيرة كلما اتسعت مساحات الوعي لدينا وكلما تعاظم رصيدنا من
التجارب.
وسأقف مع القارئ الكريم وقفات عدة في إشراقة هذه الآية نغرف من معينها
النمير.
الوقفة الأولى:
تمثل هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى حين رضي منهم أن
يطيعوه على قدر طوقهم وقدرتهم؛ وهذا الأمر أحد أهم الأسس التي يرتكز عليها
التشريع الإسلامي، وهو في الوقت ذاته أحد دعائم خلود الشريعة الغراء إذ أن
تصرف الأيام والليالي يأتي بما لا يحصى من الظروف والأحوال، وحينئذ فإن
قدرات الناس على القيام بأمر الله تتفاوت تفاوتاً كبيراً، خاصة لا يجد المفتي لها
حكماً تفصيلياً يغطيها، وتأتي هذه الآية لتمثل المنطلق الرحب والناموس الأعلى
الذي يحكم فقه الضرورات، وفقه ارتكاب أخف الضررين ودفع شر الشرين،
وتشعر هذه الآية الكريمة المسلم الذي وقع في ظروف حرجة ضاغطة بالطمأنينة
بالسلامة من الإثم ما دام اتقى الله ما استطاع، كما أنها تستنهضه لمقاومة الظرف
الطارئ وبذل الوسع في الاقتراب من المركز أكثر فأكثر، وهتو إذ يفعل كل ذلك
يشعر برقيب ذاتي منبعه خشية الله سبحانه وتعالى.
الوقفة الثانية:
إن دوائر الاستطاعة تتسع على صعيدي القيام والعمل كلما استطاعت الأمة أن
ترقى صعداً في سلم الحضارة. أما على صعيد القيم فإن التقدم المادي والتقني يهيئ
الظروف المناسبة لنشر القيم وحملها، وإذا أخذنا قيمة (الحرية) باعتبارها واحدة من
أخطر القيم المتفق عليها بشكل عام لوجدنا أن هذه القيمة ليست حالة يتصف بها
الفرد أو دعوى يطلقها، وإنما هي عملية مواكبة للإمكانات التي يحصل عليها؛ فإذا
ما امتلك الواحد منا ثروة كبيرة من المفردات اللغوية وجد نفسه حراً في اختيار
الألفاظ والأساليب المتعددة التي تمكنه من نقل المعلومة التي يريد إيصالها لمخاطبيه
مهما تفاوتت مستوياتهم الثقافية. ومن توفرت في بلاده فرص كبير للعمل بشروط
ميسرة وجد نفسه قادراً على رفض ما يمكن أن يتعرض له من ظلم أو حيف من
أرباب العمل وعلى رفض ما يعده مهنة شاقة أو غير مناسبة، وهو بذلك يجد أمامه
مجالات واسعة للحركة وقدراً أكبر من الخيارات المريحة، وقد عبر العرب قديماً
عن هذه الحالة بمثل شائع حين قالوا: (من أخفض تخيّر) .
وفي المقابل فكيف يمكن لمن بحث عن فرصة للعمل سنوات عدة حتى عثر
عليها أن يتصرف كما تصرف الأول، وأن يشعر بأنه قادر على أن يكون حراً يأبى
الظلم ويعيش بعيداً عن القسر والقهر؟ ! !
وأما على الصعيد العملي فإن أكثر المخترعات أعطت جوارح الإنسان نوعاً
من الامتداد في سلطانها وقدراتها؛ فالآلة مدت في سلطان اليد والطائرة في سلطان
الرجل والهاتف في سلطان السمع و (الرائي) في سلطان العين وهكذا..
ويترتب على اتساع دوائر الاستطاعة تعاظم المسئولية ووجود إمكانات جديدة
للمزيد من التقوى وبهذا الاعتبار فإن العمل لتحسين المناخ العام الذي يعيش فيه
المسلم عبادة لله تعالى تهيئ الناس لمزيد من الطاعات والعبادات، وإذا ما حدث
خلل في الارتباط بين الاستطاعة والتقوى فإن ذلك يعني نوعاً من البغي الممقوت
الذي يخل بالتوازنات العميقة بالفرد كما يستنزل المحن والعقوبات له.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عقوبة شيء من ذلك الخلل حين
ذكر الملك الكذاب في جملة من لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا ينظر
إليهم إذ أن السلطان ذو قدرات كبيرة فإذا لم يواكبها الصدق أحدث من الضرر ما لا
تنفع معه رقابة الرقباء! ولذلك استحق العقوبة التي تتناسب مع فعله.
الوقفة الثالثة:
لكل منا طاقات محدودة، ولكل منا طموحاته وأهدافه التي يرمي إلى تحقيقها
في هذه الحياة قبل أن يرحل وتنهي الإمكانات والطموحات؛ ومهما كانت قدرات
الإنسان كبيرة فهي محدودة، ونشاهد في كثير من الأحيان أن طموحاتنا أكبر من
طاقاتنا، وكثير منا يصاب حينذاك بالعجز والإحباط ويؤدي بنا هذا إلى البقاء في
إجازة مفتوحة! !
وهذا مع علمنا أن التكليف على قدر الوسع، ولو أننا باشرنا ما هو ممكن
اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً، ولنوضح هذا بمثال صغير، فلو أننا
عمدنا إلى طفل في الخامسة من عمره لم يدخل المدرسة، وطلبنا منه كتابة اسمه
لوجد أن ذلك بالنسبة له مستحيل، فإذا علمناه كتابة حروف اسمه حرفاً حرفاً، ثم
علمناه الوصل بينهما لوجد أن ما كان مستحيلاً قبل ساعة صار الآن ممكناً وهكذا ...
ونحن في كثير من الأحيان نطوف في المجلس الواحد في أنحاء العالم
الإسلامي متألمين لما يحدث للمسلمين، وشاكين من التآمر عليه، ثم ينفض المجلس
على نحو ما انعقد عليه دون أن يستفيد مسلم من شيء مما قلناه، وذلك لأننا لم
نباشر الممكن، وإنما أذهبنا أوقاتنا في الحديث عن أمور لا حول لنا ولا طول في
التأثير فيها! !
ولو أننا تحدثنا بما يصلح أمراً من أمور الحي أو في كيفية جعل فلان من
الناس يرتاد المسجد لكان ذلك أنفع للمسلمين وأبرأ للذمة من شيء مشغولة به.
الوقفة الرابعة:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- تركنا على المحجة البيضاء، ووقع التكليف
من الله تعالي باتباع ذلك المنهج والتزامه على قدر الوسع والطاقة، وهذا التكليف
سنة الله تعالى في الأنبياء -عليهم السلام- وسنة أممهم؛ فقد مكث نوح -عليه
السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين، وكانت حصيلته في ذلك وصف الله تعالى: [وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ] [هود 40] نعم إنهم قليل حملتهم سفينة واحدة ومع ذلك
فإن نوحاً ظل رسولاً من أولي العزم الأبرار، ذلك لأن المنزلة على مقدار الجهد
الموافق للمنهج المنزل، وليس على مقدار ما يحقق من نجاح وفلاح.
ولكن الذي يحدث في بعض الأحيان أننا نضع أهدافاً معينة نريد الوصول إليها
عاجلاً، ولو كانت هذه الأهداف تستدعي الضغط على المنهج أو القفز عليه أو
الانحراف عنه، وحين يحدث ذلك تفقد الدعوة انسجامها الذاتي كما تهتز الفلسفة
النظرية التي تستند إليها؛ وربما أدى ذلك إلى استعمال وسائل غير مشروعة.
ولا يعني هذا أن نعفي أنفسنا من عمليات المراجعة، بل يعني أن المراجعة
المطلوبة هي التأكد من موافقة أساليبنا ووسائلنا للمنهج الرباني الذي تعبدنا الله تعالى
باتباعه والحركة على هديه.(17/53)
شوال - 1409هـ
مايو - 1989م
(السنة: 3)(18/)
الافتتاحية
ثلاث سنوات من عمر البيان
بصدور هذا العدد: الثامن عشر؛ تكون مجلة البيان قد أكملت ثلاث سنوات
من عمرها. ومع ما وجدناه من التشجيع والشد على الأيدي، وما لمسناه من مظاهر
الاستحسان والاحتفال؛ فإننا نتطلع إلى التشجيع والاستحسان العملي، لاعتقادنا أن
مجلة (البيان) ليست منبراً تعليمياً، ولا صوتاً توجيهياً، بل انعكاس لصورة فكر
موجود في الواقع، وصدى لحقيقة لا يمكن تجاهلها أو طمسها رغم القيود
والتشويهات.
إن إصدار مطبوعة إسلامية، والمحافظة على استمرار صدورها، من أشد
التحديات التي تواجه المسلم في هذا العصر صعوبة؛ فما بالك إذا أريد لهذه
المطبوعة من المواصفات ما يضيق عليها دائرة الاختيار؟ ! .
ولكن كل الصعوبات الموجودة والمرتقبة لا ينبغى أن تثنى العزائم عن
التصميم والتفكير في الطرق التي تساعد على إيصال الفكر السليم إلى الناشئة
الإسلامية المتعطشة إلى المعرفة.
وإذا كنا قد التزمنا - خلال السنوات الثلاث الماضية - بما رسمناه لأنفسنا من
منهج فإننا نتطلع - فوق ذلك الالتزام - إلى أن نرفع من مستوى (البيان) كمًّا
ونوعًا، فمن حيث الكم سوف تتحول المجلة إلى شهرية، ومن حيث النوع؛ سوف
نحاول أن نتلافي ما يشكو منه القراء من طول المقالات وسنحرص على التنوع ما
أمكننا ذلك.
وهناك مسألة نحب توضيحها فيما يتعلق بشكل المجلة، فقد يعمد بعض
القراء -عن حسن نية- إلى مقارنة شكلها بمطبوعات أخرى تعتمد الألوان والصور
والأشكال والرسوم، وهذه المقارنة قد لا تتناسب مع واقع كل مجلة، فلكل وجهة
هو موليها، ومنذ البداية أردنا للبيان أن تنصرف انصرافاً كليًّا إلى الفكر، وتبتعد
عن التسلية والترويح لاعتقادنا أن أبواب التسلية والترويح ومجالات الترفيه عن
القارئ مخدومة بشتى أنواع الخدمة، والقارئ الذي لا تستثار شهية القراءة عنده إلا
بالحيل والبهارج والمشهيات التي لا تجدي، بل تضر أحياناً؛ ليس عندنا القدرة
على إرضاء تطلعاته، ولم ننشئ البيان - يوم أنشأناها - إلا لتخاطب العقول الجادة، والنفوس المتطلعة إلى الفكر الإسلامي الأصيل، هذا فضلاً عن موقفنا المبدئي من
الصور وتزيين الصفحات بها.
إن أي مجلة لا يمكن أن ترضى جميع الأذواق، وإن المجلات التي تحرص
على إرضاء أكبر مساحة من الناس غالباً ما تكون أهدافها تجارية خالصة تهدف
بالدرجة الأولى إلى زيادة التوزيع.
ومع أن مجلة البيان تحب وتحرص على زيادة التوزيع، ليعم نفعها، ويتعمق
طريقها؛ لكنها لا تجعل من زيادة التوزيع هدفاً يتحكم بمادتها فتنصرف من العمق
إلى السطحية، ومن المحافظة على الشخصية إلى اللهاث وراء التقليد.
وإن ما وعدنا به وطبقناه أننا سوف لن نضيق ذرعاً عن قبول أي مشاركة
جادة، دون اعتبار للأشخاص، بشرط أن يكون المحتوى متفقاً مع المنهج العام
للمجلة، والمبين في افتتاحية العدد الأول، وننبه أيضاً إلى أن ما لم ننشره مما
أرسل إلينا لا ينبغي أن يصرف عن متابعة المشاركة، فقد يكون ما أرسل صحيحاً
في ذاته، ولكن عناصر الصلاحية التي لابد من توفرها فيما ينشر ليست مكتملة،
فقد يكون الموضوع عولج بطريقة تصلح أن تكون موعظة لا مقالة في مجلة، وقد
يحتوي موضوع على عبارات يكون فيها نظر، ولا نستطيع حذفها أو الإبقاء عليها
لاعتبارات متنوعة، وقد يكون الموضوع مكرراً ومطروقاً بكثرة ...
لقد سعينا منذ البداية أن لا نضمن البيان إلا السليم من الأدلة:
قرآنا يتلى، أو سنة صحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تروى، فلئن
حدث مرة أن اختل هذا الشرط فهو من الخطأ غير المقصود، وخاصة بالنسبة إلى
توثيق الأحاديث، فالأصل أن لا نستشهد بحديث إلا إذا توفرت فيه شروط
الاستشهاد سواء ذكرنا تخريجه في الهامش أم لا، فمن وجد حديثاً غير مخرج
فالأصل أن يكون صحيحاً، فمن وجد من خلال البحث أن هذه القاعدة قد اختلت فله
أن ينبهنا إلى ذلك مشكوراً، ورحم الله امرئ أهدى إلينا عيوبنا.
وأخيراً فإننا نرجو أن نكون عند ظن الإخوة القراء بنا، ولا يسعنا إلا أن
نزجي الشكر إلى كل من شاركنا ويشاركنا سواء بالمقالات أو بالاقتراحات، قياماً
بواجب الدعوة الإسلامية وإيصال الكلمة الطيبة إلى طالبيها - والله الموفق، وهو
الهادي إلى سواء السبيل.(18/4)
في الولاء والبراء
هجر المبتدع
-3-
الشيخ/ بكر أبو زيد
ملخص ما سبق:
الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على هجر المبتدع ديانة، وقد ذكر آية
سورة الأنعام، والآن يشرع في الدليل الثاني.
2 - ومنها قوله تعالى: النساء 140:
[وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا
فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذاً مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ
والْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً]
قال القرطبي رحمه الله تعالى ما محصله:
(فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن
من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: [إنَّكُمْ
إذاً مِّثْلُهُمْ] فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر
سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على
النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية..
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى [1] ... وروى جويبر عن الضحاك قال: (دخل في هذه الآية كل محدث في الدين
مبتدع إلى يوم القيامة) [2] . وقال القرطبي أيضاً رحمه الله تعالى عند قول الله
تعالى: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ، ومضى في النساء، وهذه السورة النهي عن
مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال: [وإذَا رَأَيْتَ
الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا] الآية، ثم بين في سورة النساء، وهي مدنية. عقوبة
من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال: [وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ] الآية،
فألحق من جالسهم بهم.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات في
مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم: أحمد بن حنبل والأوزاعي،
وابن المبارك، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا: ينهى عن
مجالستهم فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم) [3] .
وقال الشوكانى رحمه الله تعالى:
(وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب:
دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة
الشرعية كما يقع كثيراً من أسراء التقليد…) [4] .
3- ومنها قوله تعالى في سورة هود/ 113:
[ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ
ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(الصحيح في معنى هذه الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصى
من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن
مودة، وقد قال حكيم - أي طرفة بن العبد -: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول
فيها في: آل عمران، والمائدة، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال
الاضطرار، والله أعلم) [5] .
4-ومنها قول الله تعالى:
[لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ
كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم] [المجادلة: 22] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(استدل مالك رحمه الله تعالى من هذه الآية على معاداة القدرية، وترك
مجالستهم، قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقوله تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ] قلت: وفي
معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان) [6] .
ثانياً - ومن السنة النبوية:
وهي كثيرة يترجم لها المحدثون في عدة أبواب:
أ - ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى: باب الهجرة وقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث. وباب ما يجوز
من الهجران لمن عصى. وباب من لم يسلم على من اقترف ذنباً، ومن لم يرد
سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ وقال عبد الله بن عمرو: لا
تسلموا على شربة الخمر [7] .
ب - وفي سنن أبي داود رحمه الله تعالى: باب مجانبة أهل الأهواء أو
بغضهم، وباب ترك السلام على أهل الأهواء [8] .
ج -وفي رياض الصالحين للنووي رحمه الله تعالى: باب تحريم الهجر بين
المسلمين إلا لبدعة في المهجور أو تظاهر بالفسق [9] .
د- وفي شرح السنة للبغوي رحمه الله تعالى: باب مجانبة أهل الأهواء [10]
هـ- وفي الترغيب والترهيب للمنذري رحمة الله تعالى: الترهيب من سب
الأشرار وأهل البدع لأن المرء مع من أحب [11] .
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه [12] .
قال البغوي رحمه التعالى بعده: (قد أخبر النبي لهم عن افتراق هذه الأمة،
وظهور الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته، وسنة أصحابه رضي
الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء والبدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حياً وميتا، فلا يسلم
عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق) [13] .
والنهي عن الهجران فوق ثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق
الصحبة والعشرة دون ما كان كذلك في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع
دائمة إلى أن يتوبوا) اهـ.
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا
تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» .
رواه أحمد، والطبراني والحاكم [14] .
والأحاديث بمعناه كثيرة عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو،
وعمر، وابن عباس، وغيرهم رواها جميعاً الإمام أحمد في مسنده، وشاركه في
رواية بعضها: أبو داود، والترمذي، والحاكم، والطبراني، وغيرهم. والله أعلم..
3-عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
هذه الآية [هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ
ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ومَا
يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)
متفق عليه [15] .
وابتغاء المتشابه من مآخذ أهل البدع في الاستدلال، وقد حذر النبي -صلى
الله عليه وسلم- منهم بقوله: «فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» .
4 - حديث الصحيفة المشهور عن علي رضي الله عنه عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- وفيه: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو
آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ... » الحديث متفق عليه [16] .
5 - حديث: «سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم
على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض» [17] رواه
الترمذي.
6-وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: «ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون
وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف:
يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن
جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من
الإيمان حبة خردل» رواه مسلم [18] .
7 - الأحاديث المتكاثرة في: هجر النبي لأهل المعاصي حتى يتوبوا، ثبت
ذلك في وقائع متعددة، رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم، منهم: كعب بن مالك، وابن عمرو روى حديثين،
وعائشة وأنس، وعمار، وعلي، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم رضي الله
عنهم [19] .
فهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم
لما تخلفوا عن غزاة تبوك، واستمر هجرهم خمسين ليلة، حتى آذن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله عليهم (رواه الشيخان وغيرهما) .
وهجر -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش رضي الله عنها قريباً من
شهرين لما قالت أنا أعطبى تلك اليهودية - تعنى صفية رضي الله عنها. رواه أبو
داود من حديث عائشة رضي الله عنها.
وهجر -صلى الله عليه وسلم- صاحب القبة المشرفة بالإعراض عنه حتى
هدمها. رواه أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه.
وهجر -صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر رضي الله عنه بتركه -صلى
الله عليه وسلم- رد السلام عليه لملابسته الخلوق حتى غسله. رواه أبو داود في
سننه والطيالسي كلاهما من حديث عمار رضي الله عنه.
وهجر -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بالإعراض عنه؛ لأنه كان متخلقاً
بخلوق.. رواه البخاري في: الأدب المفرد من حديث علي بن أبي طالب رضي
الله عنه.
وهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً رأى في يده خاتماً من ذهب حتى
طرحه، وكان هجره له بالإعراض عنه. رواه أحمد والبخاري في: الأدب المفرد
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ونحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي إلى عنه (رواه النسائي والبخاري
في: الأدب المفرد) .
وهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بترك رد السلام عليه وذلك لأن
عليه ثوبين أحمرين (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي) .
فهذه الأحاديث وما في معناها نص في مشروعية هجر العاصي المجاهر بمعصيته
حتى يتوب ويفيء، وعليه: فإن الاستدلال بها على هجر المبتدع هو من باب
الأولى في الدلالة على: مشروعية هجره ديانة لاسيما وهو المخصوص بأوصاف:
البدعة في الدين، والإحداث والضلال، دون العاصي، وإلى هذا أشارت تراجم
جماعة من المحدثين على هذه الأحاديث وما في معناها كما تقدم في صدر هذه الأدلة
من السنة، والله أعلم.
8 - توظيف الصحابة رضي الله عنهم فَمَن بعدهم لهذه السنة النبوية.
والصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم تقفوا أثر النبي -صلى الله عليه وسلم-
في هجر المتلبس بالمعصية المجاهر بها حتى يفيء. ورد ذلك عن جمع غفير
منهم [20] :
عمر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد
الله بن مسعود، وعبد الله بن المغفل المزني، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء،
وسمرة بن جندب، وشيخ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم
رضي الله عنهم.
وعن سعيد بن جبير، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، والحسن
البصري، وأحمد بن حنبل، وزياد بن حدير، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم
رحمهم الله تعالى..
فإلى ذكر بعضها مختصراً: فهجر عمر رضي الله عنه: زياد بن حدير لما
رأى عليه طيلساناً وشاربه عافيةً، إذ سلم زياد فلم يرد عليه عمر السلام حتى خلع
الطيلسان وقص شاربه. رواه أبو نعيم في الحلية.
تنبيه:
كيف بنا اليوم، ونحن نتهلل بالحفاوة لمن يحلق لحيته ويعفي شاربه، ويتشبه
بلباسه.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. كان يعتقل أصحاب النرد غدوة ونحوها، وينهى عن السلام عليهم. رواه البخاري في الأدب المفرد، وترجم له بقوله:
باب من لم يسلم على أصحاب النرد.
وهجر عبد الله عمر رضي الله عنهما. رجلاً رآه يخذف بعدما أعلمه أن النبي
-صلى الله عليه وسلم-كان ينهي عن الخذف. وقال: والله لا أكلمك أبداً. رواه
الحاكم.
وهجر عبد الله بن المفضل رضي الله عنه: رجلاً يخذف في نحو قصته.
وهجر شيخ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فتى كان يخذف. رواه الدارمي.
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه هجر معاوية رضي الله عنه في مخالفته
له في مسألة ربوية وقال عبادة: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وتحدثني عن رأيك لئن أخرجنى الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، ولما
خرج شكاه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: لا إمرة لك عليه واحمل
الناس على ما قاله فإنه هو الأمر. رواه ابن ماجه.
ونحو هذه الرواية وقعت لأبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنهما. رواها:
مالك، والشافعي.
وهجر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً رآه يضحك في جنازة، فقال. والله لا أكلمك أبداً. رواه أحمد في: الزهد.
*يتبع *
__________
(1) ذكر قول الكلبي في نسخها وأن قول عامة المفسرين أن هذه الآية محكمة.
(2) تفسير القرطبي 5 /418.
(3) تفسير القرطبي 7 /142 وبحثه مطولاً من 7 / 137، 142.
(4) فتح القدير1/448.
(5) تفسير القرطبي 9 / 108.
(6) تفسير القرطبي 17 / 308.
(7) فتح الباري 10/491، 498، وانظر ص 481، 11/40، وانظر الأدب المفرد: باب من لم يسلم على أصحاب النرد، وتراجم أخرى مهمة.
(8) 5 / 6، 8 رقم / 4599-4602.
(9) رياض الصالحين /609-611.
(10) شرح السنة للبغوي 1/219-230.
(11) الترغيب والترهيب للمنذري ??.
(12) مقدمة صحيح مسلم 1 / 6، وعن: شرح السنة للبغوى 1/223.
(13) شرح السنة 1/224.
(14) الفتح الرباني 1/140-144 شرح أصول الاعتقاد لللالكائي 1/118، مسند أحمد 1/30، سنن أبي داود برقم 4692، كتاب شرح السنة منه ابن أبي عاصم في السنة برقم 330 ورقم 338، 339، 340، 342.
(15) صحيح البخاري 8 / 157، صحيح مسلم برقم 2665وشرح السنة 1/ 219-222.
(16) انظر في تخريجه: إرواء الغليل 4 / 250 - 251 رقم / 1058.
(17) جامع الترمذي.
(18) صحيح مسلم برقم / 80 كتاب الإبمان، مع شرح النووي 2 /21-22 وصحيح الجامع الصغير برقم /5666 وانظر: تاريخ نجد لابن غنام /ص461، والأدلة القاطعة /ص10.
(19) مذكورة بتمامها في: تحفة الإخوان / 52-56 وص 39 وانظر: مصادرها مفصلة في صدر هذا البحث: الأدلة من السنة النبوية.
(20) مذكورة بتمامها في: تحفة الإخوان ص / 57 -64، 41-45 وانظر: مصادرها مفصلة في صدر: الأدلة من السنة النبوية.(18/7)
مصطلحات قرآنية
الضلال
يطلق لفظ الضلال في اللغة العربية على ثلاثة إطلاقات:
1- يطلق الضلال مراداً به الذهاب عن حقيقة الشيء فتقول العرب في كل
من ذهب عن علم حقيقة شيء: ضل عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما
وليس من الضلال في الدين.
ومن هذا المعنى قوله: [قَالَ فَعَلْتُهَا إذاً وأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ] [الشعراء: 20]
أي من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحى، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي، ومنه على التحقيق [ووَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى] أي
ذاهبًا عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحى.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: [قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي
ولا يَنسَى] فقوله [لاَّ يَضِلُّ رَبِّي] أي لا يذهب عنه علم شيء كائناً ما كان،
وقوله تعالى: [فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن
تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى] فقوله: [أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا] : أي تذهب
عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده [فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى] . وقوله
تعالى عن أولاد يعقوب: [إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] وقوله: [قَالُوا تَاللَّهِ إنَّكَ
لَفِي ضَلالِكَ القَدِيمِ] على التحقيق في ذلك كله. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلاً، أراها في الضلال تهيم
2 - الإطلاق الثاني: وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن هو إطلاق
الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحق إلى الباطل، وعن طريق الجنة إلى النار، ومنه قوله تعالى: [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ] .
3 - هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب ضل
الشيء إذا غاب واضمحل، ومنه قولهم: ضل السمن في الطعام إذا غاب واضمحل، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالاً لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب
فيها ويضمحل.
ومن هذا المعنى قوله تعالى [وقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ] يعنون إذا دفنوا
وأكلتهم الأرض فضلوا فيها أي غابوا فيها واضمحلوا.
قال المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم:
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها ... وفارسها في الدهر قيس بن عاصم
فقوله. أضلت: أي دفنت.
أضواء البيان 6/371(18/15)
بيان السنة للقرآن
-1-
الشيخ مسفر الدميني
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله، وبعد.
فهده آيات من كتاب الله أسوقها، ذاكرًا ما جاء في السنة النبوية من بيان لها،
وكذا ما جاء عن أصحاب رسول الله -_-صلى الله عليه وسلم- وسلفنا الصالح من
تفسير لها، معلقاً على ذلك بما تيسر، معترفًا بين يدي ذلك بقلة بضاعتي، وضعف
صناعتى، لكنه جهد المقل.
قال تعالى [قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) ولَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95) ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ
يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ]
[البقرة: 94-96] .
هذه الآيات نزلت في اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ذلك أنهم دُعُوا إلى دين الإسلام ومتابعة نبيه محمد -صلى الله
عليه وسلم- فأبوا، وادعوا أن الآخرة لهم خاصة دون بقية الناس، وأنهم أبناء الله
وأحباؤه، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم حسمًا للخلاف،
وإظهاراً للحق وهي المباهلة (من البَهْل وهو اللعن، وأصله أن يجتمع القوم إذا
اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا) بأن يدعوا بالموت على أي
الفريقين هو الكاذب، لكنهم نكلوا عن المباهلة وأحجموا عن الإقدام عليها، لما
يعلمون من كذبهم أنفسهم في دعواهم أن الجنة لهم خالصة من دون المؤمنين.
روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من
النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا
يجدون أهلاً ولا مالاً» [1] .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطاً
على عنقه، قال: فقال يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - «لو فعل لأخذته
الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار، ولو
خرج الذين يباهلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجعوا لا يجدون مالاً ولا
أهلاً» [2] .
وعن ابن عباس قال: قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: [قُلْ إن كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ]
أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما
بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات.
وقال ابن عباس أيضاً: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بِرِيقِه، ولو تمنى
اليهود الموت لماتوا [3] .
لقد فضحهم الله بهذه الآيات، خاصة أحبارهم وعلماءهم الذين يعرفون رسول
الله كما يعرفون أبناءهم، وكأنه يقول لهم: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك
غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل إن
أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا
ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من
أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المحقون ونحن
المبطلون في دعوانا، فامتنعت اليهود من إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى
ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد
في آخرتها.
وهذه المباهلة بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين يهود لم تكن
باللعنة بل بالموت؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولأن الحياة
عند اليهود عزيزة عظيمة فهم يخافون الموت لما يعلمون من سواء مآلهم بعده، ولو
كانوا واثقين من الآخرة أنهم من أهل الجنة لما فَرَقوا من الموت وخافوه، وأيضاً لو
كانوا واثقين من صواب وصدق ما هم عليه من دين لما نكلوا عن المباهلة، لكنهم
يعلمون صدق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وزيف ما يدعونه من تمسك
بالتوراة ولذا كان أملهم في الآخرة معدوماً وتمسكهم بالحياة مضرب المثل، وهذا ما
يؤكد قوله تعالى: [ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ] نعم يحرصون على (حياة) أي حياة، سواء كانت ذليلة ومهينة أو كانت
كريمة، لا يهمهم نوع الحياة ولا صفتها بقدر ما يهمهم بقاء الحياة والسلامة من
الموت، فالموت يخيفهم ويرهبهم، فبه تنقض ملذات الحياة الدنيا ويبدءون مرحلة
جديدة في عذاب الآخرة.
لقد كانت دعوتهم تلك - بأن الآخرة لهم خالصة من دون المؤمنين -التي
أطلقوها لخلخلة الصف المسلم وإضعاف ثقة المؤمنين في نبيهم وفي دينهم وفيما
يعدهم به من الجنة والنعيم المقيم في الآخرة، فإذا كان اليهود صادقين فيما ادعوه،
ونشروه في المجتمع المسلم من أن الآخرة لهم فقط وليس للمسلمين فيها نصيب
فلماذا يخافونها؟ ولماذا نكلوا عن المباهلة بطلب موت الكاذب من الفريقين؛ لقد
كانت مباهلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لليهود بأن يدعوا بالموت على
المبطل حجة دامغة بهتهم بها، وألجم ألسنتهم وأظهر خزيهم وضلالهم وعنادهم،
ولو كانوا محقين في دعواهم لتمنوا الموت لكنهم يعلمون بل يتيقنون أنه لا نصيب
لهم في الآخرة، ولذا يزداد حرصهم على الحياة الدنيا مهما كان فيها من ذلة لهم
وصغار.
وحب الدنيا وكراهية الموت أمر فُطر عليه الخلق، لكن المؤمن بالله وباليوم
الآخر إذا احتيج إليه في ساحة القتال ذهب عنه ماكان يجده في نفسه من حب الحياة، وحل محله حب الجنة وما أعد الله فيها للشهداء الصادقين، فتراه يحرص على
الشهادة في سبيل الله حرص عدوه على الحياة الدنيا، ومن هنا جاءت المعادلة التي
يترجح بها الصف المسلم على ضِعْفِه من العدو الكافر، فالمؤمن بما يحمله من إيمان
بالله وحب في الفوز بما أعده الله لمن يقتل في سبيله، ويقين بأن الجنة مثوى
المؤمنين الصادقين بما عاهدوا عليه الله، يمكنه بكل ذلك أن يواجه أضعافه عدداً
وعدة.
وإذا كان حب الحياة ينزوي - عند المؤمن - في ساحات القتال ويذهب عنه
الخوف من الموت وكراهيته له، فإن هذا الخوف وهذه الكراهية للموت تذهب عن
المؤمن قبيل موته، ولو لم يكن مجاهداً وذلك عندما يبشر برحمة الله ورضوانه،
وإن ما نجده الآن في أنفسنا من خوف ورهبة وكراهية للموت سيزول عنا إن كنا
ممن آمن وعمل صالحًا وآثر الآخرة على الله الدنيا.
ونجد مصداق هذا في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره
الله لقاءه» فقالت عائشة رضي الله عنها. يا رسول الله كراهية لقاء الله أن يكره
الموت، فوالله إنا لنكرهه. فقال: «لا ليس بذاك. ولكن المؤمن إذا قضى الله عز
وجل قبضه فرج له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل وكرامته فيموت حين
يموت وهو يحب لقاء الله عز وجل، والله يحب لقاءه. وإن الكافر والمنافق إذا
قضى الله عز وجل قبضه فرج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه
فيموت حين يموت وهو يكره لقاء الله، والله يكره لقاءه» رواه الإمام أحمد في
مسنده 6/218. ونحوه عند النسائى وفيه قال:
«لا إنما ذاك عند موته، إذا بشر برحمة الله ومغفرته أحب لقاء الله فأحب
الله لقاءه، وإذا بشر بعذاب الله كره لقاء الله وكره الله لقاءه» [4] .
وإذن فكراهية الموت أمر طُبع عليه الناس، لكن المؤمن الصادق العامل
الداعي إلى الخير يبشر عند موته برحمة الله ومغفرته فيذهب عنه الخوف من
الموت وتتبدل كراهيته له حباً له إذ فيه لقاء الله الذي آمن به وأحبه واتبع دينه
ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. لكن هذا الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من ذل
ومهانة وتحكم لليهود في بلادها ومصالحها وعلاقاتها، أتراه يذهب؛ وكيف؟ ومتى؟ وماذا ينقص المسلمين من العَدَد والعُدد حتى يستردوا هيبتهم وكلمتهم، ويستلموا
قيادة العالم ليدلوه على الطريق السوي؟ .
أما ذهاب هذا الذل وهذه المهانة فهو الأمل الذي تعيش له الأجيال المسلمة،
والأمة التي لا أمل لها لا مستقبل لها، وكيف نعيش حياة لا أمل لنا في زوال الذل
عنها؛ إن الأمل في الشباب المسلم المؤمن بربه المتمسك بدينه على بصيرة؛ هو
أمل فيما عند الله من نصر وتأييد لمن صدق وصبر وسار على الدرب الصحيح.
أما كيف؟ ومتى؟ فهذا ما ستقرأه في العدد القادم إن شاء الله تعالى. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر 2/361-362.
(2) مسند الإمام أحمد1/248.
(3) تفسيبر الطبرى 2 / 364.
(4) سنن النسائي 4 / 9.(18/17)
خواطر في الدعوة
ظاهرة التعلق بالأشخاص
محمد العبدة
هل صحيح أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن نزعة التعلق بالأشخاص؟ وهل
تخلوا عن شغفهم بأن يكونوا مريدين لشيخ؟ .
نعم، تخلوا عن ذلك ظاهرياً وذهبت هذه النزعة نظريًّا على الأوراق في
الكتب والمقالات، ولكن الحقيقة التي في داخلهم تقول. لا، فهم أبداً يمارسون هذا
الدور ويحبون ممارسته، فهو مرض عضال، لقد تخلوا عن الشيخ بالمعنى
الصوفي، ولكن تعلقوا بالزعيم والقائد والحزب ولافتات وأسماء حلت محل الشيخ
في القداسة والعصمة، فهم يحنون إلى هذا الشيخ الجديد كما يحن الفصيل إلى أمه،
فتجدهم ينتظرون الكلمة والإشارة من فمه، فكل ما ينطق به صواب، ويتناقلون
كلامه وخطبه وأحاديثه أينما ذهبوا وحيثما حلوا، لاشك أنك ترى عجباً من الأمر،
وتحاول أن تردهم عن هذا ولكنهم يرجعون إليه بأساليب وأشكال أخرى، كأنهم
أطفال يلوذون بأمهم، لا يستطيعون التصرف وحدهم، نعم إنهم أطفال كبار! .
- وتسألني عن الدواء؟ الدواء هي التفكر فيما جنته هذه التربية العقيمة على
المسلمين قديمًا وحديثًا، الدواء هو استعادة الماضى القريب، ولا أقول البعيد لنرى
ما جرّ هذا المرض على الشباب، من كوارث وأخطاء، الشباب الذي يفغرون
أفواههم دهشة وغباء وإعجاباً عندما يسمعون خطبة رنانة من دعي على العلم
والدعوة، لا يفرقون بين العالم، ومن يدعي أنه عالم، ولا بين المخلص والمنافق،
ويستغلهم هؤلاء للوصول إلى مآربهم الدنيوية، ويقولون للآخرين: انظروا هذه
الجموع التي تسير خلفنا، ويفهم الآخرون هذه الإشارة فيعطونهم بعض المكاسب
الرخيصة، وإلى أجل أيضاً.
ونحن نتكلم هنا عن التعلق المرَضي بالأشخاص، الذي لا يستقيم معه حال،
ولا يرجى له مآل، لأن هذا التعلق إنما هو مؤشر على مستوى للتفكير، وعلى
مرحلة من مراحل التدرج بالإنسان، فقد يكون الإنسان ذكياً أو كبيرًا في السن ولكن
عمره الاجتماعى لا يزال في مرحلة الطفولة. ولا يعني هذا عدم المتابعة والمحبة
للعلماء العاملين والدعاة المخلصين والاستفادة من تجربتهم واحترامهم وتوقيرهم،
فهذا لا بد منه، فالحق وإن كان قوياً بذاته لكن لابد من أشخاص يحملونه.
وإذا سألتني: كيف نعرف هؤلاء من أولئك، حتى نستفيد من الدعاة العاملين؟ فأقول: من ثمراتهم تعرفهم.(18/22)
قضايا فقهية
قواطع الأدلة
في الرد على من عول على الحساب في الأهلة
الشيخ حمود بن عبد الله التويجري
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فقد رأيت مقالاً لأحمد بن عبد العزيز اللهيب.، نشرته جريدة الرياض في
عددها 7264، الصادر في يوم الجمعة، الموافق للسابع والعشرين من شهر
رمضان سنة 1408هـ، وعنوان هذا المقال (الشهر الشرعي والتقاويم الهجرية
المتداولة) .
وقد اشتمل هذا المقال على عدة أمور عظيمة الضرر على الكاتب وعلى كل
من اتبعه على قوله الباطل.
أولها: الابتداع في الدين والشرع فيه بما لم يأذن به الله.
الثاني: مخالفة النصوص الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في اعتبار دخول الشهر وخروجه برؤية الهلال أو إتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم ... ير الهلال.
الثالث: لأخذ بما نفاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمته من العمل بالحساب في دخول الشهر وخروجه.
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن الأخذ
بالحساب أو الكتاب قد صرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفيه عن أمته
والنهي عنه. قال: وما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في الإسلام
ما ليس منه فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يقابل به أهل البدع. انتهى.
وهو مذكور في صفحة 179 من المجلد الخامس والعشرين من مجموع
الفتاوى. وقال أيضاً في صفحة 182 من المجلد المذكور. إن الأخذ بالحساب من
زلات العلماء.
وقال أيضاً في صفحة 207 من المجلد المذكور: لا ريب أنه ثبت بالسنة
الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه
في الصحيح أنه قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته» ، والمعتمد على الحساب في الهلال؛ كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في
الدين فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا
تنضبط بأمر حسابي. انتهى.
وقال أيضاً في صفحة 132، 133 من المجلد المذكور: إنا نعلم بالاضطرار
من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير
ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه لا يرى لا يجوز، والنصوص
المستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من
المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في
حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول
وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه.
فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم. انتهى.
الرابع: مخالفة السنة الثابتة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- في قبول شهادة العدول من المسلمين على رؤية الهلال في دخول شهر رمضان وخروجه والعمل بها وقد قال الله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
الخامس: تقديم العمل بالحساب على العمل بالسنة، وهذا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله.
السادس: بلبلة أفكار العوام وبعض المنتسبين إلى العلم وتشكيكهم في شهادة العدول على رؤية الهلال في دخول شهر رمضان وخروجه.
السابع: الطعن في الشهود العدول ورميهم بالتسرع في تأدية الشهادة، وقد صرح بذلك في قوله: إن الشاهد حينما يرى الشهر في التقويم ناقصاً فإنه يقوى عزمه بالتسرع بتأدية الشهادة، كذا قال. وهذا من سوء الظن بالشهود الذين يشهدون على رؤية الهلال، والطعن فيهم بمجرد ظنه أنهم يعتمدون في شهادتهم على التقويم.
الثامن: الطعن في القضاة ورميهم بالتساهل في قبول الشهادة على رؤية الهلال، وقد صرح بذلك في قوله. وكذلك القاضي تزيد ثقته بالشهادة لأنه يحسب أن ذلك من توافق الرؤية مع الحساب الصحيح والواقع بخلاف ذلك. كذا قال. وهذا من سوء الظن بالقضاة، وقد قال الله تعالى: [إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] .
التاسع: الطعن في ولاة الأمر الذين - يعملون بحكم القضاة بقبول شهادة العدول على رؤية الهلال ويأمرون الرعية بالعمل بشهادتهم.
العاشر: زعمه أن العمل بالحساب أضبط وأيسر مما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح ومن بعدهم.
والجواب أنه يقال هذا الزعم خطأ مردود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في
الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين» رواه الإمام أحمد والبخاري
ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الرد على الذين يحسبون مسير
القمر أنه ليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلاً، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ
واقع فيها فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حساباً مستقيماً، بل لا يمكن أن
يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية.. إلى أن قال: اعلم أن المحققين من أهل
الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى
لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك أو لا يمكن بعض
الأوقات. انتهى، وهو في صفحة 182، 183من المجلد الخامس والعشرين من
مجموع الفتاوى.
وقال أيضاً في صفحة 174 من المجلد المذكور: إن أرباب الكتاب والحساب
لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر، وإنما يقربون ذلك فيصيبون
تارة ويخطون أخرى. وقال أيضاً في صفحة 208 من المجلد المذكور: إن طريقة
الحساب ليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة، بل خطؤها كثير وقد جرب. وهم
يختلفون كثيراً هل يرى أم لا يرى، وسبب ذلك أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم
بالحساب فأخطئوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا
الموضع وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح.
انتهى.
الحادي عشر: إنكار ما هو ثابت بالتواتر من رؤية الهلال في أول النهار في المشرق ثم رؤيته بعد الغروب في ذلك اليوم من المغرب، وهذا يقع كثيرًا في أيام الصيف الطوال. وقد أخبرنا بعض الثقات برؤيتهم له في أول النهار وبعد الغروب في ذلك اليوم. والأخبار بهذا كثيرة ومستفيضة فلا وجه لإنكارها لأن إنكارها صريح في المكابرة.
الثاني عشر: حكايته الاتفاق على القول الشاذ الذي نقله عن ابن قتيبة والمراكشي ومفتي قطر، وهو زعمهم أنه لا يمكن أن يرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس وبالعشي خلف الشمس في يوم واحد، وهذا القول الشاذ مردود بما هو ثابت بأخبار كثيرة من الثقات برؤيتهم الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس ثم رؤيتهم له بالعشي خلف الشمس، ومن أنكر أخبار الثقات فقوله هو المنكر في الحقيقة، وأما حكاية الاتفاق على القول الشاذ الذي ذكره صاحب المقال الباطل فلا شك أنه من المجازفة والقول بغير علم.
الثالث عشر: اعتماده على ظنه وحسابه في دخول شهر شوال في سنة 1408 هـ فقد زعم أن القمر سيغرب قبل غروب الشمس يوم الأحد الموافق للتاسع والعشرين من رمضان، وقد ظهر خطؤه في ظنه وحسابه الذي ليس بمنضبط وذلك بثبوت رؤية الهلال في ليلة الاثنين في عدد من المدن والقرى في المملكة العربية السعودية، ورؤي أيضاً في غير المملكة العربية من البلاد المجاورة لها كما قد ذكر ذلك في بعض الإذاعات.
الرابع عشر: خطؤه في تحديد وقت صلاة الظهر ووقت صلاة العصر حيث جعل آخر وقت الظهر هو أول وقتها وجعل آخر وقت الاختيار لصلاة العصر هو أول وقتها، ومن كان بهذه المثابة من الجهل بوقت صلاة الظهر، وصلاة العصر فينبغي
له أن يعرف قدر نفسه ولا يتطاول على القضاة والشهود العدول، ولا يتكلف مالا علم ... له به من معرفة دخول الشهور وخروجها بمجرد حسابه المبني على الظن ... والتخرص، فقد قال الله تعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] وهذا نص عبارته في دخول وقت الظهر ودخول ... وقت العصر، قال: وإذا كان ظل الشيء مثله فقد دخل وقت الظهر وإذا كان مثليه فقد دخل وقت العصر. والجواب: أن يقال هذا خطأ مخالف للنص والإجماع على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس. قال الموفق في المغني: أجمع أهل العلم على أن وقت الظهر إذا زالت الشمس. قاله ابن المنذر وابن عبد البر، وقد تضافرت الأخبار بذلك. انتهى. وقال الخرقي في مختصره: وإذا زالت الشمس وجبت الظهر وإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها. وإذا زادت شيئاً وجبت العصر وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت الاختيار انتهى.
ويدل لقول الخرقى ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والشافعي وأحمد وأبو
داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «أمَّني جبريل عند البيت فصلى بي الظهر حين زالت
الشمس وكانت بقدر الشراك. ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله،
ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثم
صلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، قال: ثم صلى بي الغد
الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء
مثليه، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء في ثلث الليل
الأول، ثم صلى بى الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء
قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين» هذا لفظه عند عبد الرزاق نحوه عند أحمد
من طريق عبد الرزاق، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن
خزيمة والحاكم وأبو بكر بن العربي المالكي، قال الترمذي. وفي الباب عن أبي
هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وأبي سعيد وجابر وعمرو ابن
حزم والبراء وأنس، ثم روى بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أمني جبريل» فذكر نحو حديث ابن
عباس بمعناه، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال: وقال محمد-يعني
البخاري - أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبى -صلى الله عليه وسلم-
انتهى المقصود من كلام الترمذي رحمه الله. وقد روى حديث جابر النسائي وابن
حبان في صحيحه والدارقطني والبيهقي وقد تركت تخريج الأحاديث التي أشار إليها
الترمذي إيثاراً للاختصار وبعضها في الصحيح، وفيها مع حديثي ابن عباس وجابر
رضي الله عنهم أبلغ رد على صاحب المقال الباطل.
فصل في ذكر النصوص الدالة على اعتبار رؤية الهلال
في دخول الشهر وخروجه ونفي الكتاب والحساب في ذلك
وما جاء في قبول الشهادة على رؤية الهلال والعمل بها
الحديث الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا
حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له» رواه مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم
وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وفي رواية لمسلم أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ثم عقد
إبهامه في الثالثة «فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له
ثلالين» وفي رواية لأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا
وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة «والشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني تمام ثلاثين.
ولفظه عند البخاري قال: «إنا أمة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا»
يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاتين. وقد رواه الشافعي عن مالك عن عبد الله بن
دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: «الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه
فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» ورواه البخاري من طريق مالك بنحوه أخصر
منه. ورواه البيهقي من طرق كثيرة وفي بعضها أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا وإذا
رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له أتموه ثلاثين» وقد رواه ابن خزيمة في
صحيحه بنحوه، وعنده في آخره «فإن غم عليكم فأقدروا له واعلموا أن الشهر لا
يزيد على ثلاثين» رواه الحاكم بنحوه وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي
على تصحيحه.
الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم
فصوموا ثلاثين يوماً» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه، وفي رواية
لمسلم والنسائي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين» وقد رواه الترمذي بنحوه،
وقال في آخره: «فعدوا ثلاثين ثم أفطروا» ثم قال: حديث أبي هريرة حديث
حسن صحيح. ورواه الدارقطني وقال في رجاله كلهم ثقات. ورواه أيضاً من عدة
طرق وقال: هذه أسانيد صحاح. وفي رواية لمسلم: «فإن غمي عليكم فأكملوا
العدد» .
وقد رواه البخاري ولفظه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قال أبو
القاسم -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» .
الحديث الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى
تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» رواه مالك وأبو داود والنسائي واللفظ
لمالك. وفي رواية أبي داود: «فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا» وفي رواية للنسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ...
«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وقد رواه الإمام أحمد ولفظه: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين» . ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن خزيمة والحاكم والذهبي.
الحديث الرابع: عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال
أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة» رواه أبو داود
والنسائي وابن حبان في صحيحه. ورواه ابن خزيمة في صحيحه مختصراً. وفي
رواية للنسائي عن ربعي عن بعض أصحاب النببي -صلى الله عليه وسلم- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقدموا الشهر حتى تكملوا العدة أو
تروا الهلال ثم صوموا، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين» وقد
رواه الإمام أحمد بنحوه وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الدارقطني من
طرق وقال في رجال أحدها كلهم ثقات.
الحديث الخامس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم
لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام» رواه الإمام أحمد وأبو داود
وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والدارقطني وقال هذا إسناد حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث السادس: عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في
اليوم الذي يشك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد
شاهد فصوموا وأفطروا» رواه الإمام أحمد والنسائى والدارقطني. وفي رواية أحمد: «وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا» وفي رواية الدارقطني: «فإن
شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وأنسكوا» .
الحديث السابع: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن
غمي عليكم فعدوا ثلاثين يوماً» رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط
والبيهقي. قال الهيثمي ورجال أحمد رجال الصحيح.
الحديث الثامن: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة
ثلاثين يوماً» رواه البزار والطبراني في الكبير والبيهقي قال الهيثمي وفيه عمران
بن دوار القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام. قلت: وما تقدم من الأحاديث
الصحيحة يشهد له ويقويه.
الحديث التاسع: عن مسروق والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم
عليكم فأتموا ثلاثين» رواه الطبراني في الكبير.
الحديث العاشر: عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجل جعل هذه الأهلة مواقيت للناس، فإذا
رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين» رواه
الإمام أحمد والطبراني في الكبير والدارقطني، ورواه البيهقي مختصراً ولفظه قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى
تروا الهلال فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» ورواه الإمام أحمد والطبراني أيضاً
مختصراً بنحو رواية البيهقي.
قال الهيثمي: وفيه محمد بن جابر اليمامي وهو صدوق ولكنه ضاعت كتبه
وقَبِل التلقين، قلت: وما تقدم من الأحاديث الصحيحة يشهد لحديثه ويقويه.
الحديث الحادي عشر: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقدموا هذا الشهر صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته
فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي، قال الهيثمي:
وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ولكنه ثقة. قلت: وما تقدم من الأحاديث يشهد له
ويقويه.
الحديث الثاني عشر: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: «أحصوا عدة شعبان لرمضان ولا تقدموا الشهر
بصوم فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة
ثلاثين يوماً ثم أفطروا» رواه الدارقطني.
الحديث الثالث عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس
الهلال فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته فصامه وأمر الناس
بصيامه. رواه أبو داود والدارمي وابن حبان في صحيحه، والدارقطني والحاكم
والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
الحديث الرابع عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي
إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبصرت الهلال الليلة قال: «أتشهد أن لا
إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» قال: نعم، قال: «يا بلال أذن في الناس
فليصوموا غداً» رواه أهل السنن وابن أبي شيبة والدارمي وابن خزيمة وابن حبان
في صحيحيهما، والدارقطني والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد
متداول بين الفقهاء ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
الحديث الخامس عشر: عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان
فشهدا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- الناس أن يفطروا. رواه أبو داود عن مسدد وخلف بن
هشام المقرئ. قال: وزاد خلف في حديثه وأن يفدوا إلى مصلاهم. إسناده عن
مسدد صحيح على شرط الشيخين، وإسناده عن خلف صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه الدارقطني من طريق أبي داود، وقال: هذا إسناد حسن ثابت. ورواه
أيضاً من طريق آخر وقال: هذا صحيح. ورواه الإمام أحمد بإسنادين صحيحين
على شرط الشيخين ولفظه عن ربعي بن حراش عن بعض أصحاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: أصبح الناس صيامًا لتمام ثلاثين قال: فجاء أعرابيان فشهدا
أنهما أهلا الهلال بالأمس فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فأفطروا.
ورواه الطبراني في الكبير والحاكم في مستدركه من طريق إسحاق بن إسماعيل
الطالقاني حدثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن ربعي ابن حراش عن أبي مسعود
رضي الله عنه قال: أصبح الناس صياماً لتمام ثلاثين فجاء رجلان فشهدا أنهما رأيا
الهلال بالأمس فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فأفطروا، قال
الطبراني: لم يقل أحد في هذا الحديث عن أبي مسعود إلا إسحاق بن إسماعيل
الطالقاني، قال الهيثمي: وهو ثقة.
قلت: وقد وثقه ابن معين ويعقوب ابن شيبة وأبو داود والدارقطني وعثمان
بن خرزاذ وابن حبان وابن قانع، وقال الحاكم بعد إيراد الحديث: صحيح على
شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد رواه الدارقطني بنحوه.
الحديث السادس عشر: عن أبي عمير بن أنس بن مالك قال: حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
وقد رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، والدارقطني والبيهقي وقال: هذا
إسناده صحيح، وقال الخطابي: حديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب.
الحديث السابع عشر: عن أبي مالك الأشجعي عن الحسين بن الحارث
الجدلي - جديلة قيس - أن أمير مكة خطب ثم قال: عهد إلينا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما
فسألت الحسين بن الحارث: مَن أمير مكة؟ قال: ??لا أدري، ثم لقيني بعد فقال:
هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب. ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم
بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأومأ بيده إلى
رجل. قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي، مَن هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال:
هذا عبد الله بن عمر وصدق، كان أعلم بالله منا، فقال: بذلك أمرنا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، رواه أبو داود وإسناده حسن. ورواه الدارقطني مطولاً
بنحو رواية أبي داود ومختصراً لم يذكر قوله في عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما
وقال في إسناد المختصر إسناده متصل صحيح.
قال ابن الأثير في جامع الأصول: النسك العبادة والمراد به ههنا الصوم.
فصل
وقد اشتملت الأحاديث التي تقدم ذكرها على فوائد كثيرة من الأحكام التي
تتعلق بصيام رمضان والفطر منه.
الأولى: تواتر الأحاديث بالأمر بصيام رمضان لرؤية الهلال، والفطر منه لرؤية هلال شوال وإتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم ير الهلال. وفيها، بل في كل حديث منها أبلغ رد على صاحب المقال الباطل الذي قد حاول تشكيك الناس في شهادة العدول على رؤية الهلال إذا كانت مخالفة للحساب الذي قد اعتمد عليه وخالف السنة من أجله.
الثانية: النهي عن صيام رمضان والفطر منه حتى يرى الهلال أو تتم العدة ثلاثين يوماً.
الثالثة: نفي الكتاب والحساب عن الأمة المحمدية فيما يتعلق بالأهلة. لاستغنائها عن ذلك بالرؤية أو إتمام العدة ثلاثين يوماً، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النذر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضحه قوله: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض. ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل. وقال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. انتهى.
وقال النووي في شرح المهذب: من قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله
-صلى الله عليه وسلم-في الصحيحين. «إنا أمة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا
وهكذا..» الحديث. قالوا: ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم لأنه لا يعرف
الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فالصواب ما قاله الجمهور وما سواه
فاسد مردود بصرائح الأحاديث.. انتهى
*يتبع*(18/24)
دراسات منهجية في النظر والاستدلال
أهمية أصول المعرفة في الإسلام
-2-
د. عابد السفياني
إن دراستنا في المقال السابق لأصل المعرفة عند العلمانيين يدلنا على أهمية
إدراك أصول المعرفة في الإسلام، (ولا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية) بل
ويعيننا على إدراك منطلقات خصومنا، فإن الخصومة بين الفكر الإسلامي والفكر
العلماني عميقة جداً، وقد أصلها الفكر الاستشراقي وكان من خطورته أن دعم
القومية بالفكر العلماني، ولك أن تقول عنه إنه دعم الفكر العلماني بالقومية، ولا
تجد فرقاً كبيراً بينهما في هذا المجال [1] .. ?
فالحركات القومية في العالم الإسلامي حركات علمانية، والدليل على ذلك أن
القومية ألغت (الدين) [2] من حسابها، وجعلت الاجتماع على التراب واللغة هو
الأصل، ورفضت كل ما يعارض ذلك من دين وخلق وفضيلة، فإذا قلت لهم إن الله
كرم بني آدم وجعلهم قبائل وشعوباً ليتعارفوا، وجعل أكرمهم عنده أتقاهم وأتبعهم
لشريعته، وجعل (الد ين) هو جنسية المسلم، فهو صاحب منهج وعقيدة قبل أن
يكون عبداً للتراب والقومية، إذا قلت لهم ذلك لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم
مستكبرون، وقال قائلهم كفرنا بما تدعونا إليه، وإذا حذرتهم من عذاب الله، من
جهنم التي وقودها الناس والحجارة قال قائلهم: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً
وسهلاً بعدها بجهنم [3] .
وإذا جاوزنا هذه المسميات: (العلمانية) و (القومية) وأردنا أن نتعرف
على طائفة ثالثة من الطوائف التي انتجتها لنا (المذاهب الحديثة) ، فإن طائفة
الحداثيين تطل برأسها علينا، وتقذف بفكرها إلى بقية بلاد العالم الإسلامي، لعلها
تصل إلى مكاسب جديدة تقوي بها شوكتها وتكثر بها سواد أتباعها. ولنضرب
صفحاً عن صراع كتَّابها ومخالفيهم على الألفاظ والأشكال، ولنهتم بقضيتنا الأساسية
التي نحن بصددها، ولنسأل زعماء الحداثة عن أصلهم المعرفي الذي يتلقون
بواسطته ويحكمون به على الأشياء والأحداث.
يقول زعيم من زعمائهم: إن أصل نظريتهم في المعرفة أن: الحجة
والشرعية إنما هي للحادث المتغير، وإن الثابت لا حجة فيه ولا شرعية له، بل
هو أسطوري، يحمل الخرافة في بنيته وأهدافه كما تحمل الأسطورة الخرافة في
بنيتها وأهدافها [4] .
ولننظر الآن ما يترتب على هذا الأصل المعرفي عند الحداثيين:
1- إن كل ما ثبت في ذهن البشرية وفطرتها وواقعها محكوم عليه بذلك
الأصل الفاسد، دون أن يفرق أتباع هذا الأصل الفاسد بين الحق والباطل في تراث
البشرية [5] .
2- إن (الوحي) وهو نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه علماء
المسلمين.. كل ذلك يدخل في إطار (الثابت) الذي لا حجة فيه ولا شرعية له،
وتنتقل الشرعية عنه، ليتسلمها كل مذهب جديد وفكر محدث يدخل في إطار (الحادث) و (المتغير) وإن تعجب فعجب قولهم: إن الشرعية مواكبة للحادث والمتغير كيف ما كان، وعلى المبادئ والمفاهيم والأحكام الإسلامية، وكل ما بقي من خير في فطرة البشرية أن يكون حداثياً، أي دائم التغير والتشكل والتبدل لكي يكتسب (الشرعية) وتكون له حجة عند (الحداثيين) ولذلك اكتسبت المبادئ المنحرفة الشرعية عندهم لأنها دائماً متغيرة متبدلة، فالكفر والشرك يتطوران، ويتغيران، والزندقة والهرطقة، ما وصفت بذلك إلا لأنها متبدلة، لا تستقر على حال، ففازت هذه كلها بالحجية عند أئمة الحداثة في أوربا وفي العالم الإسلامي. وقد أسس لفكر الحداثة أئمة الغزو الفكري فوضعوا أهم قواعده، ونشروها، وقد احتفل الفكر الاستشراقي بذلك.
يقول أحد أئمة الفكر الاستشراقي وهو (ولفرد كانتول سميث) في كتابه ...
(الإسلام في التاريخ الحديث) : (إن كل دين عند تحليله إنما تتعدد أشكاله ... بعدد معتنقيه، إنها حقيقة تاريخية أساسية لا غنى عنها لإدراك الدين وتاريخه) [6] .
ويريد الفكر الاستشراقي من هذه المقولة أن يفهم المسلمون الإسلام ويشكلوه
على حال يلائم المدنية الغربية ذات الأصول اليونانية والإغريقية، ويتنازل الإسلام
عن مفهوم الثبات في عقيدته وشريعته، وحينئذ يفرح المستشرقون والحداثيون، فقد
زالت العوائق من طريقهم، وأصبح سهلاً عليهم أن يدعوا للجاهلية الإغريقية
واليونانية، ويخالفوا دين الرسل جميعاً عليهم السلام، بدعوى الحداثة، وتعدد (الفهم) ، للنصوص (الدينية) و (التاريخية) ويتعدد حينئذ فهم (الدين) و (التاريخ) وتتعدد أشكاله بعدد معتنقيه.
هذا هو مراد الفكر الاستشراقي والحداثي، وهو لا يحتاج إلى جهد في كشف
انحرافه وفساده، فإن العقلاء يعلمون أن أتبا ع (الرأسمالية) و (الشيوعية) . يزيد
عددهم على الملايين، فهل يقول عاقل بأن (الشيوعية) تساوي مليون فكرة،
ويتعدد (شكلها) بعدد معتنقيها، وهل يمكن للعقل أن يتصور أن (الرأسمالية)
تساوي مليون فكرة، وتفهم بأفهام عديدة تساوي عدد معتنقيها، ويكون لها في الواقع
التطبيقي من حيث التشريع والحكم ما يساوي مليون (تطبيق) ومليون (شكل) هذه
لا يقول بها (عاقل) عند بني الإنسان، ولكنه جنون (الاستشراق) وجنون (الحداثة) .
وهكذا يريد سفهاء البشرية أن يتحكموا في فهم تراثها ونصوصها الدينية
والتاريخية، كما يحلو لهم بدون رقابة من ضوابط المنهج العلمي، وعلى أصول
المعرفة، سواء ما كان منها عند (المسلمين) أو عند (أهل الكتابين) أن تخضع لما
زعمه الفكر الاستشراقي والحداثي من أن (كل دين عند تحليله إنما تتعدد أشكاله
بعدد معتنقيه، إنها حقيقة تاريخية أساسية لا غنى عنها لإدراك الدين وتاريخه) ،
وإن في المناقشة السابقة الذكر ما يثبت لك أن هذا هراء لا حقيقة له، ولن تجد (أصلاً) معرفيًّا عند المخالفين للإسلام يقوم على أساس علمي، وعند تأمل أصولهم
السابقة يظهر لك هذا بجلاء.
- فالعلمانيون يدافعون عن أصلهم المعرفي الذي كشفنا عنه في مقال سابق
بقولهم: أنترك ما جاءت به القوانين الوضعية ونفعل في أنفسنا وأموالنا ومجتمعاتنا
ما تريده الشريعة الإسلامية؟ ! .
-والقوميون قال قائلهم:
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلاً وسهلاً بعدها بجهنم
والحداثيون يدافعون عن (الخرافة) التي يحملونها، بمثل ما يقوله ولفرد سميث
وأضرابه.
وإذا قال لنا قائل: كيف تسقطون (العلمية والشرعية) عن كل أصل معرفي
يعارض أصلكم المعرفي؟ قلت: الجواب: إن أصلنا المعرفي لم نضعه نحن، ولم
يضعه بشر على الإطلاق، ولم نؤمن به بهذا الاعتبار، وإنما آمنا به ودعونا إليه
لأنه في الحقيقة (وحي رباني) جاءت به الرسل من عند الله، فنحن نؤمن به بهذا
الاعتبار، ولذلك لما انتفت عنه البشرية انتفت عنه طبائع البشر من الاختلاف
والاضطراب وتعدد الأسماء والشارات، فهو ليس خاصاً بقوم دون قوم، ولا بزمان
دون زمان، بل جعله الله أصلاً في المعرفة لبني الإنسان، وأمر الرسل بأن يدعوا
إليه وجعل رسوله محمداً مبعوثاً به إلى كافة الناس، وأمر بإبلاغه والتربية على
مقتضاه، وتسفيه ما يخالفه من الأصول والأفكار، فنحن إذاً ندعو إليه باعتباره دين
الله إلى البشرية كافة في جميع أحوالها وعصورها، وعلى اختلاف أجناسها وأممها.
وتسقط الشرعية عن ما يخالفه - من علمانية وقومية وحداثية -.. باعتبارها
مخالفة لدين الله، ولدعوة الأنبياء، ولفطرة البشرية التي فطهرها الله عليها.
وإذا استبان هذا الأمر واتضح فإنه مما يجب على كل إنسان أن يعلم أن
الخلاف الحقيقي بين أهل الحق وأهل الباطل إنما هو على حاكمية الشريعة على ما
سبق بيانه عند عرض أصول المعرفة، وليس الخلاف على ربوبية الله، ولا على
مشروعية صرف بعض أنواع العبادة له سبحانه، لأن أكثر أهل الملل والنحل قديمًا
وحديثًا يرتضونه إلهًا في بعض أنواع العبادة على الدوام، ومنهم من يجعلونه إلهاً
في بعضها في بعض الأحيان، ثم يفترق أهل الحق وأهل الباطل، فيقول أهل
الحق: الله هو المعبود وهو صاحب الحكم الكوني والشرعي، وشريعته هي
الحاكمة على كل حال. وخالف أهل الباطل فمنهم من يقول:
- ليس له من الحكم الكوني والشرعي شيء.
- ومنهم من يقول له الحكم الكوني لا الشرعي.
- ومنهم من يقول له الحكم الكوني، وأما الشرعي ففي حال دون حال.
ثم يقول هؤلاء المخالفون بلسان واحد: كيف نجعل الشريعة الإسلامية حكماً
على جميع تلك المتغيرات من المذاهب والمبادئ والأحكام؟ . كيف يكون الحكم
الوحيد على جميع الأحداث وفي جميع الأوضاع والأحوال هو (الشريعة
الإسلامية) ؟.
أيكون الحكم الكوني القدري لله، وكذلك الحكم الديني الشرعي له أيضاً؟ فماذا
بقي لنا؟ .
ولم لا يكون لله الحكم الكوني القدري - أي الخلق والرزق والتدبير- ويكون
لنا الحكم الشرعي الديني، فنحدد منهاج حياتنا بأنفسنا كما نشاء؟ .
أيعقل أن يكون الحكم كله لله؛ ويكون الدين هو الحكم الوحيد في أمورنا
الخاصة والعامة؟ .
ولم لا نختار فنقرر بالحكم الشرعي الديني ثم نأخذ منه ما نريد ونعرض عما
لا نريد؟ أنلتزم بكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية؟ أهذا هو (الدين القيم) الذي
لا ننجو إلا باتباعه؟ ! وماذا نصنع بهذه الأسماء (العلمانية) (القومية) (الحداثة)
(الشيوعية) (القوانين الوضعية) ... إنها أسماء ومذاهب عرفها مفكرونا وآباؤنا
الروحيون. أيعقل أن تعزل عن السلطان فلا يكون لها أمر ولا نهي ومفاهيم ومبادئ
معمول بها ومجتباة؟ ! ! .
[إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] ، [مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ
اخْتِلاقٌ] وإذا كان موقف أهل الباطل واحداً، وتعجبهم متشابهاً، فإن جواب أهل الحق واحد وموقفهم تالد، فهذا يوسف عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل قال لقومه: [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ
إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 39، 40] .
وإن هذا الموقف القرآني هو موقف الرسل جميعاً وهو يوجب إسقاط الشرعية
عن جميع المذاهب والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، وهو أشد ما يزعج أعداء
الإسلام، ويأتي على أصولهم في المعرفة بالإبطال.
__________
(1) وشهد شاهد من أهلها، انظر حديث (جب) عنها في كتابه: الاتجاهات الحديثة / 4.
(2) هذا هو أصل الفكرة القومية المستوردة، أما الآن فإن كثيراً من القوميين بعد أن أدركوا صعوبة بل استحالة تجاهل الدين، تكرموا بالاعتراف بأهميته، على دخل في النوايا، وزغل كثير في الطوايا (التحرير) .
(3) انظر كتاب القومية العربية على ضوء الإسلام، للدكتور صالح العبود.
(4) الفكر العربي، لمحمد أركون، ترجمة عادل العوا، بيروت، منشورات عويدات 189-132-134-155.
(5) المصدر السابق.
(6) الإسلام في التاريخ الحديث، للمستشرق ولفرد كانتول سميث 7-8-11- 41.(18/37)
علم النفس
دوافع الفرد
بين المنهج الإسلامي والفكر الغربي
طارق عبد الحليم
لا شك أن المسلمين اليوم هم أحوج ما يكونون للنظر في تلك القواعد والأسس
التي تبنى عليها مناهجهم، والتي تمثل القالب الفكري الذي تعالج من خلاله
مشكلاتهم، وتواجه به التحديات الحضارية المحيطة بهم.
وهذه الحاجة ليست نابعة من التشكك في تلك الأسس والقواعد، فهي أمور قد
بنيت على قطعيات الشريعة من الكتاب والسنة، وما استخلص منهما، وهي من ثمَّ
غير قابله للنقض ولا متعرضة للنقص.
كما أن تلك الحاجة ليست ناشئة من مركب نقص؛ يواجه تلك الهجمة الغربية
التي تتهم كل ما لدى المسلمين من معطيات، فنحاول بالدعاوى أن نؤكد أن ما لدى
المسلمين هو الصواب وهو الحق، كما يفعل بعض الناس؛ بل إن الحاجة لمراجعة
تلك القواعد والأسس نابعة من ضرورة أن يتعرف المسلمون أنفسهم على قوة
وعظمة تلك الشريعة الغراء ثم أن يتعرفوا على مواضع تلك العظمة بالدليل والحجة، لا بمجرد الحديث والدعوى.
وحتى تؤتي تلك المراجعة ثمارها، فلا بأس من أن نقابل تلك الأسس
والقواعد بما يقابلها مما أفرزته قرائح البشر، وهدت إليه عقولهم، وأنتجته
سلوكياتهم وأخلاقهم بمعزل عن الهدي الإلهي، فيميز الصواب من الخطأ ويمحص
الحق من الباطل، وكما قيل (بضدها تعرف الأشياء) .
من هذا المنطلق، رأينا أن نقدم في مقالنا هذا مقابلة-ولا أقول مقارنة - بين
نظرلتين في مسألة من أهم المسائل التي تنبني عليها التصرفات الإنسانية، ومن ثم
توجه النشاط البشري خلال حضارة من الحضارات ... وهي مسألة (دوافع الفرد)
التي يسعى لتحقيقها خلال سني عمره، بالنظر في تلك المقاصد التي قررتها
الشريعة، ودونها علماء أصول الفقه، ومقابلة ذلك بما قرره أحد كبار العلماء في
علم النفس الفردي، هو (إبراهام ماسلو) ، والذي قدمه في صورة نظرية في
الدوافع البشرية عام 1954 في كتاب (الشخصية والدوافع الإنسانية) ، وهي
النظرية التي تحكمت إلى حد بعيد في فكر كل من تناول موضوعها من بعده من
العلماء أمثال: هيرتز بورج (1959) ، والدرفير (1972) .
متسلسلة (ماسلو) في الدوافع الإنسانية ومقاصد الفرد:
قدم (إبراهام ماسلو) نظريته في دوافع الإنسان للمرة الأولى عام1943 في
مجلة (المراجعات السيكلوجية) ثم فصلها بعد ذلك في كتابه (الشخصية والدوافع
الإنسانية) في عام 1954، الذي طبع في أمريكا.
وفي هذه النظرية يفترض ماسلو أن الإنسان إنما يتحرك في حياته من خلال ... (احتياجات) مادية ونفسية معينة، تمثل الحافز القاهر الذي يجعله يطلب تلك ...
الاحتياجات ويسعى لتحقيقها واحدة تلو الأخرى.
وقد وضع ماسلو تلك الاحتياجات الإنسانية التي تدفع الفرد أمامها، على هيئة
متسلسلة تتكون من خمس حلقات أو طبقات تمثل كل منها نوعين من الاحتياجات
المادية أو المعنوية، فالفرد - كما يرى ماسلو-يبدأ بالبحث لتلبية الحاجات المادية
الأولية التي تحفظ عليه الحياة، وهي الحاجات الطبيعية (Physiological
Needs) من المأكل والمشرب وهي (الاحتياجات الدنيا) فإن تحققت ... تلك الاحتياجات انتقل الفرد إلى المستوى التالي لتحقيق ما أسماه ماسلو بالحاجات الأمنية (Security Needs) وهي المسكن والدخل المقبول الذي يكفل الاستمرارية، وفي المستوى الثالث يسعى الفرد لتحقيق حاجاته الاجتماعية (Social Needs) لتكوين العائلة واتخاذ الأصدقاء وممارسة الحياة الاجتماعية بأشكالها المتعددة، فإذا تحققت الحياة الاجتماعية بقدر مرضٍ، انتقل الفرد إلى طلب ما هو أعلى، فيسعى لتحقيق حاجات معنوية واقعية كاحترام النفس، وتحقيق الذات، والإحساس بالتقدير والنجاح، وسمو المكانة، والاستقلالية ... فإن بلغ ذلك ارتقى إلى المرحلة النهائية والتي يهدف فيها إلى إبراز طاقاته الكامنة كفرد مبدع، والحرص على الترقي ومداومة التقدم، وتظهر هرمية ماسلو في الشكل المرفق:
...
وقد ذكر ماسلو أن عملية الانتقال من مستوى إلى آخر في هذه الهرمية لا يتم
إلا إذا أشبعت الحاجات المتعلقة بهذا المستوى، بمعنى أن الفرد لا يسعى لكسب
احترام، المجتمع أو لتحقيق روابط اجتماعية مالم يحقق حاجة الطعام والشراب
والسكن. وتجدر الإشارة إلى أن تلك النظرية التي تعالج الدوافع النفسية لدى الفرد، إنما هي - كما يظهر من مضمونها - وليدة الفكر الغربي الذي يجعل (الفرد)
ومصلحته العليا أولى بالتقدمة؛ إذ هو الوحدة الاجتماعية الأولية (لا الأسرة كما في
المجتمع الإسلامي) ، ونجاح الجماعة إنما يهدف أولاً إلى تحقيق صالح الفرد، وإلا
فلا عبرة ولا دافع له كي يساهم في التقدم الجماعي، فالفرد في (الغرب) إنما
يحترم الجماعة ويعمل طائعاً في إطارها لأنه يعلم بفطرته وبخبرته خلال القرون أن
تلك هي الوسيلة الناجعة لتحقيق صالحه هو ... من خلال الجماعة، كذلك فإنها
نظرية يمكن أن يقال إنها (وصفية) ؛ أعني هي تصف واقع الفرد كما هو كائن،
ولا تعالج الطموح إلى الترقي أو السمو بالحاجات، وتقديم ما هو أنفع على غيره
كما إنها-بطبيعة الحال - تعالج مقاصد الفرد ودوافعه في حيز الحياة الدنيا، إذ ليس
لدى القوم كبير اهتمام بما عساه يكون في عالم الغيب، وما يتطلبه ذلك الأمر من
ضرورة دافعة تجعله يسعى قاصداً لتحقيق احتياجات محدودة تعين على بلوخ غايته.
مقاصد الفرد في المنهح الإسلامي:
في مقابل تلك النظرية الغربية في (الدوافع Motivation) يمكن للناظر في
أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها الكلية أن يستنبط نظرية في (الدوافع) التي
تحرك الفرد المسلم وتوجه حركاته وسكناته، ذلك أن بواعث المسلم ودوافعه تنبع
من تلك الفطرة المخلوقة السوية، التي لم يفسدها الانحراف أو الضلال، تلك -
الفطرة التي تتلقى المنهج الإلهي المقرر، الذي فصلت جزئياته في الشريعة،
فيصوغ لها قالبها النفسي الذي تتحرك من خلاله في حياتها الدنيا. فالمسلم إذن حين
يتحرك من خلال تلك الشريعة، وفي قالبها ذاته، إنما تتناغم بواعثه ومقاصده مع
ما تهدف إليه الشريعة وتقصده ... فمقاصد الشرع - في الإسلام - هي بشكل عام،
(مقاصد الفرد المسلم) ، وهي دالة بطريقة اللزوم على بواعثه ودوافعه، إذ العلاقة
بين دوافع الفرد ومقاصده هي علاقة الفرع بأصله، وهي علاقة موجبة طردية،
وإن لم يكن محل الحديث عن هذه العلاقة بشكل أوسع في هذا المقام، فإننا أردنا أن
نبين أننا اتخذنا من، مقاصد الشرع [1] قواعد تهدي إلى (بواعث الفرد) في
النظرية الإسلامية.
ينبعث الفرد المسلم في حركاته وسكناته ساعياً نحو تأمين حاجته من متطلبات
خمس رئيسية، تدور حولها سائر حاجاته الإنسانية وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وهذه الحاجات الخمس هي التي تبعث الفرد على إتيان أعمال
محددة لحفظها ومنع زوالها، إذ بها تتحقق أقصى مصالحه على وجه الكمال، سواء
في الدنيا أو في الآخرة،. كما أنه بعدمها يتعرض للتلف الآجل أو العاجل.
فلا عجب أن يكون الحرص على تحقيقها ومنع فواتها، هو الدافع الأصيل ...
للفرد منذ أن يبدأ وعيه وحتى النهاية، فالحرص على (الدين) هو الباعث الأول
للفرد، إذ به تتحقق هويته البشرية من حيث هو عبد لله الخالق، كما ينال ما يتمنى
من السعادة الأبدية في الآخرة.
والحرص على النفس هو كذلك أمر فطري يندفع إليه الناس دون حاجة للتعلم
أو التوجيه، والحرص على العقل دافع أصيل لدى الإنسان من حيث يحقق له
القدرة على السيطرة على مقدراته، والسعي نحو حماية الأهم من النفس أو الدين،
وحفظ النسل، الذي يؤمن للفرد شعور الاستمرارية والدوام. ورعاية النبتة التي
تحفظ له اسمه ووجوده، يمثل ولا شك دافعاً قاهراً للمرء ليحقق ما به قوام تلك
الحاجة الأساسية الأصيلة، والمال الذي هو زينة الحياة الدنيا، دافع حقيقي للمرء،
يعينه على إبقاء النفس ورعاية النسل، وإعلاء كلمة الدين.
وتختلف تلك الحاجات، في شدة أثرها على بواعث الفرد ودوافعه، قوة أو
ضعفاً، حسب رتبة العمل المقصود، في تلك الحاجة المحددة، فإما أن يكون الأمر
ضروري، فيقوى الباعث عليه حتى لا يفتأ المرء يسعى لتحقيقه ليل نهار، سراً
وعلانية، لا يجد راحة حتى يدركه، إذ كيف يتركه وهو أصل لا تستقيم الحياة -
الدنيا أو الآخرة - بدونه! أو أن يكون أمر حاجي، يرتفع به ضيق الحياة، وهي
من ثم دوافع تستحق السعي والطلب، مالم تعارض في هذا السعي بضرورة أولى
بالتقدمة، تبعث النفس على تحصيلها بعثاً. ثم أخيرًا تلك الأمور التي تسبغ على
الحياة سعتها، وتستدعي استكمال رفاهيتها ورغدها، وتحسن وجه الحياة في كافة
مناحيها، وهي لا شك دوافع للمرء تحفزه على طلبها إذ تحقق باستكمالها ما به
ضرورات بقائه، وحاجيات حياته.
وأخيراً، فإن قوة الباعث على تحصيل تلك الحاجات، تتوقف على أمور
ثلاثة أخرى، تتعلق بأثرها؛ أهي على الفرد أم الجماعة؛ أهي شاملة أم محدودة
في جزئية معينة، ثم أهي متحققة الوقوع أم موهومة، فما هو للجماعة، تميل نفس
الفرد إلى تفضيله عما فيه فائدة شخصية، وما هو شامل مقدم على ما يعالج جزئية
محددة، ثم ما هو متحقق الوقوع، لا شك فيه، تميل النفس إلى السعي نحوه أكثر
مما هو متوهم، لا يعلم: حقيقة هو أم خيال! .
من خلال ذلك العرض الموجز، لما عساه يكون قالباً للنفسية الفردية السوية،
في بواعثها ودوافعها نحو تحقيق أعمال تحقق صالحها ورضاها وتشعرها بالكفاية
والسمو الداخلي، تتم المقابلة التي أردنا إليها أولاً. ونلحظ من مقابلة تلك الحاجات
التي تمثل القالب النفسي للفرد في النظرة الإسلامية، بما قدمناه آنفاً من نظرية
الدوافع لماسلو، ذلك الفارق الشاسع سواء في هيكلها أو فرضياتها الأولية أو دقتها
وسعتها.
فالنظرة الإسلامية لدوافع الفرد تتميز بإحكام بنائها، وإحاطتها بكافة ما يعتمل
في النفس الإنسانية من عوامل، كذلك دقة تقديم الأوليات، حسب ما أدت إليه
التجربة البشرية على مدى الزمان والمكان.
وقد اعترض الكثير من الغربيين أنفسهم على متسلسلة ماسلو من حيث هي أغفلت أن الفرد في كثير- بل جل - عمله وحياته يقدم نفسه وحياته أمام حفظ كرامته أو معتقده، وأن الدراسات التطبيقية لم تدعم ذلك التسلسل المذكور.
كذلك فإن هذه النظرة تضع الفرد في محله الصحيح من الجماعة، من حيث
إن أفعاله تنبعث من الحاجة إلى تحقيق صالح الجماعة أولاً ... ثم صالحه من حيث
هو فرد فيها ثانياً، لا العكس كما ذكرنا عن النظرة الغربية الرأسمالية، ولا الترف
الشيوعي الذي يسخر الفرد لصالح الجماعة - في زعمهم - لا غير.
__________
(1) راجع الموافقات للشاطبي 2/8 وما بعدها.(18/43)
الفتاوى
وصلت المجلة هذه الأسئلة من الأخوة القراء وقد توجه بها مندوبنا إلى فضيلة
الشيخ عبد الله بن جبرين فأجاب عليها مشكوراً، وجزاه الله خيراً ونفع به.
ما حكم الإيداع في البنوك الربوية؟
يجوز للضرورة إذا لم يوجد غيره من البنوك الإسلامية وخيف عليها من
اللصوص ...
ما حكم المساهمة في شركات تتعامل في الربا وأصل نشاطها ليس ربويًّا؟
لا يجوز المساهمة في مثل هذه الشركات إذا كانوا يودعون عند البنوك
ويأخذون فوائد ربوية يضيفونها إلى رأس المال.
ما حكم المضاربة في المصارف الإسلامية؟
يجوز إذا تحقق أنها إسلامية ليس فيها شبهة ولا تدخل مع البنوك الربوية.
ما حكم التجارة بشراء العملات سواء عن طريق البنوك أو عن طريق شركات خاصة؟
يجوز الصرف الذي هو بيع نقد بنقد بشرط الحلول والتقابض قبل التفرقة
ويقوم قبض الشيك الذي له رصيد مقام قبض النقد.
ما الذي يفطرمن الأشياء التالية:
- القطرة: العينية، الأنفية، الأذنية؟
- الحقنة: العضلية، الوريدية، الجلدية؟
- حقن المخدر في اللثة لقلع الأسنان؟
- استعمال فرشاة ومعجون الأسنان أثناء الصيام؟
- المبخرات عن طريق الفم كاستنشاق الدواء عن طريق الفم في مرض الربو؟
- التحاميل الشرجية، الحقن الشرجية؟
- تفطر الأنفية إذا وصلت إلى الحلق، ولا تفطر العينية والأذنية وإن كانت
مكروهة..
- يفطر من الأبر ما يصل إلى الجوف كحقن الوريد وما كان مغذيًّا أو مقويًّا
من غيرها.
لا تفطر حقن المخدر حيث إن أثرها موضعي لا يتجاوز موضع الأسنان.
- استعمال الفرشاة والمعجون مكروه مخافة أن يختلط بالريق ويدخل الجوف،
وإذا تحفظ فإنه لا يفطر.
- المبخرات يكره إلا لضرورة وحينئذ فلا يفطر.
- التحاميل تفطر حيث إنها تدخل إلى الجوف.
والله أعلم.(18/49)
منبر الشباب
عندما ينطق الرويبضة
حكمت الحريري
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
«سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق،
ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما
الرويبضة؛ قال: الرجل التافه، يتكلم في أمر العامة» .
هذا ما أخبرنا عن وقوعه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام من البلايا
والمصائب التي تحصل في آخر الزمان.
أما الحديث فقد أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، وأخرجه أيضاً
الإمام أحمد في مسنده، واستقصى طرقه الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة
الأحاديث الصحيحة، حديث رقم1887 وترجم له بعنوان: أليس هذا زمانه؟ .
بلى: إن هذا لزمانه، وإنها السنين الخداعة التي ينطق فيها الرويبضة.
ويتكلم في أمر العامة، فيفوض في حل المشكلات ويوكل إليه عقد الصفقات.
إذا تكلم الرويبضة الفويسق في أمر العامة، وإذا صار الأمين خائناً، والخائن
أميناً، فلا شك أن موازين القيم تغيرت، وموازين الحياة كلها تخلخلت. فلم يعد
الإنسان إنساناً لأنسه.
إنما أقول هذا ليتدارك المسلمون الأمور قبل فوات الأوان، أقول هذا لكي
تقدر الأمور بقدرها، وتستعمل الموازين الصحيحة الثابتة التي لا تقبل الاختلال ولا
تسوقنا الحوادث التي يختلقها أعداء الإسلام فنسير في مهب الريح حيث يشاء لنا
أعداء الإسلام، فنفني الأرواح ونبذل الأموال لأحداث ومشكلات يختلقونها، وتكون
الشعوب المسلمة ضحيتها، وشخصيات معتبرة قادتها، وهم لا يعلمون إلى أي نهاية
ينتهون، ولا في أي مسلك يسلكون..
أليس في هذه الأمة التي اختارها الله من رجل ألمعي؟ .
أليس في هذه الأمة من رجال ملهمون يعرفون مكامن الداء؟ .
لا شك بأنه يوجد في هذه الأمة من هؤلاء، فإن الخير لا ينقطع من أمة محمد
-صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة، وهذه الأمة مثلها كمثل الغيث كما شبهها
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن لماذا لا تفتح العقول وتعود إلى رشدها
لتحدد الرويبضة فتنحيه وتعرف الرجل المؤهل للتجديد ولفعل الخير فتقدمه وتسانده؟
ولماذا أيضاً لا توحد الصفوف وتجتمع الكلمة لتبرز الشخصية الفذة التي يجعل
الله سبحانه وتعالى على يده عزة الأمة جميعاً؟
ولا شك بأنه من قوانين الله الثابتة المتلوة في حياة الأمة قوله عز وجل: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] وهناك بعض الأمور التي يجب التنبه لها
ومعرفتها، منها:
- الاهتمام بعلم الجرح والتعديل، فقد صنف علماء السلف رحمهم الله تعالى
في هذا العلم مجلدات ضخام، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها،
إنهم كانوا يتعرفون على من ينقلون عنه.
فقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين أنه قال: (لم يكونوا
يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى حديث
أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) . [مقدمة صحيح
مسلم /11] .
وأخرج أيضاً عن محمد بن سيرين قال: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن
تأخذون دينكم) .
وقد يقول قائل: إن هذا يخص نقل الحديث وروايته، فأقول. علم الجرح
والتعديل لا نقصره على رواة الحديث ونقلته؛ بل يجب علينا أن نعمل به في كل
المجالات التي تهم الأمة الإسلامية، فيعرف ما للرجل من حق وما عليه من مثالب
وأخطاء، وحينئذ لا نتخبط في أحكامنا على الرجال، وكذلك لا تكثر أمامنا
المفاجآت والنكسات وما أكثر هذه النكسات والمفاجآت التي أصابت الحركات
الإسلامية في هذا العصر.
فلا بد من استعمال هذا العلم بحكمة ودراية فيجرح الرجل أو يعدل بنزاهة
وأمانة، ولا نطلق للعاطفة العنان فنشرق ونغرب، فتجد هذا الرجل اليوم قائداً بطلاً
وعالماً فذاً، ونجده بعد أيام أو شهور عميلاً، وخائناً، ولذلك لم يكن في أيام ازدهار
الدولة الإسلامية ورقيها لم يكن هناك مجال للرويبضات، ولم تصعقهم المفاجآت كما
هي حالنا اليوم نتيجة لوعيهم وحرصهم وعملهم بهذا العلم من بعد توفيق الله لهم.
وهذا العلم أقول بكل أسف يعمل به اليوم عند أعداء الإسلام في دول الشرق
أو الغرب دون أن يكون لهم نصيب فيه من قبل، فمن غير الممكن أن يصل إلى
قيادة دولة من دول أوربا شخصية متآمرة على شعبها أو دولتها، هذا ما نراه رأي
العين في أمريكا وغيرها.
ولكنك لا تفاجأ بل لا تستغرب أن يقال لك اليوم حصلت ضربة قاصمة
للحركة الإسلامية في بلدة ما، فتسأل ما السبب؛ فيقال لك: لقد تبين كذا وكذا،
وفلان الذي كان ...
فلماذا لا نأخذ العبرة ونعمل بسنة الخلفاء الراشدين المهديين حيث منع أبو بكر
الصديق رضي الله تعالى عنه المرتدين من ركوب الخيل، ولم يمكنهم من حمل
السلاح.
الاهتمام بأنساب الشخصيات وقبائلهم ومواطنهم وأصولهم، وهذا علم أيضاً
أفردت فيه المصنفات للتعرف على طبائع الناس وأخلاقهم وعاداتهم، وليس في ذلك
أية مخالفة للشريعة على الإطلاق، بل هذا من الأمور التي اهتم بها الشرع وذكرها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (كادت المرأة أن تلد أخاها) ، وقال الله تعالى:
[وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ، وغير ذلك من الآيات
الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي نبهت إلى التعرف على الأصول والاهتمام
بها.
ألا فلتعرفوا - أيها المسلمون - الرويبضة الفويسق وتكبتوه وتنحوه، وإن
رحمة الله قريب من المحسنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(18/51)
أدب وتاريخ
من أصنام الحداثة.. يوسف الخال
-2-
د. وليد الطويرقي
يتابع الكاتب في هذه الحلقة كشف الدور المشبوه الذي يقوم به من يسمون أنفسهم بـ (الحداثيين) ، إنه دور الخونة الذين يريدون اقتحام قلعة (الإسلام) ويصبغون وجوههم مرة بصوفية ملحدة (الحلاج) ومرة بتقليد شعراء من الغرب كي يحوزوا إعجاب المتفرجين.
- التحرير -
مجلة (شعر) ودورها المشبوه:
بعد عودة يوسف الخال إلى لبنان من الولايات المتحدة الأمريكية أنشأ مجلة
(شعر) وتم التعارف بين منشئها وبين من تعاونوا معه مثل: نذير العظمة،
وأدونيس في منزل خليل الحاوي، وصدر العدد الأول عام 1957 وانتظم في
الكتابة فيها محمد الماغوط وأنسي الحاج، وخالدة سعيد، وعصام محفوظ، وحول
ولاء المجلة وانتمائها يقول نذير العظمة: إن بعض مؤسسيها كانوا منتمين (للحركة
القومية الاجتماعية [1] وقد تبينت حقائق أخرى من خلال دراسة مستقلة موضوعها
(مجلة شعر ودورها في حاضر الشعر العربي) أعدها الشاعر العراقي سامي مهدي،
ونشرت في مجلة (الأقلام) العراقية، وفي جريدة الرياض عدد 7115 ونشر جهاد
فاضل مقتطفات من الموضوع في مجلة (آفاق عربية) في العدد السادس 1987،
يقول عنها:
(حملت مجلة (شعر) منذ تأسيسها اتجاهين فكريين:
أولهما: اتجاه قومي حزبي.
وثانيهما: اتجاه إقليمي أو انعزالي لبناني. وهو الاتجاه الذي غلب عليها في
المرحلة الأخيرة من حياتها.
وينتمي إلى الاتجاه الأول: يوسف الخال، أدونيس، نذير العظمة، منير
بشور، محمد الماغوط، وآخرون، في حين ينتمي إلى الاتجاه الثاني كل من أنسي
الحاج وشوقي أبو شقرا، وعصام محفوظ، وأسعد رزق، وآخرون، وعلى الرغم
مما بين الاتجاهين (خارج المجلة) من خلافات فكرية عميقة، وخصومات سياسية
فقد تعاونا على إصدار المجلة، وكان هناك ما يجمع الاتجاهين على المستويين
السياسي والفكري، فعلى المستوى السياسي كان الاتجاهين يتفقان اتفاقاً تاماً على
معاداة فكرة (العروبة) وكل ما يمت إليها من أهداف وشعارات وقوى سياسية، ولا
يعترفان بوجود (أمة عربية) ، وينظران إلى تاريخها وتراثها نظرة مغرقة في
السلبية، أما على المستوى الفكري فقد جمع الطرفين اتجاههما ونزوعهما الشديد إلى
التغريب [2] ، ويذكر سامي مهدي أن جميع الأسماء التي شاركت في مجلة (شعر)
كانوا ينفرون من أية دعوة للعروبة ويتبنون الفكر الغربي بحجة وحدة الحضارة
الإنسانية.
ويذكر سامي مهدي مجمل الأنشطة التي مارستها مجلة (شعر) والتي تتمثل
فيما يلي:
1- طبع مجاميع قصيدة النشر والترويج لها.
2- القيام بحركة ترجمة مكثفة للنصوص الفرنسية المعبرة عن آرائهم.
3 - الاتصال ببعض الشعراء الفرنسيين وتقديم أنفسهم بطريقة توحي بأنهم ...
سفراء الشعر العربي لدى الأوساط الشعرية في العالم.
وهذه الأنشطة تدل بوضوح على هوية المجلة، وانتمائها وعدائها للتراث
العربي.
ويتحدث الباحث سامي مهدي عن الأزمة المميتة لمجلة (شعر) ومن ذلك ما
قيل عن علاقات يوسف الخال بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة وهي منظمة مشبوهة
تمول مجلات تروج لفكر معين، وكان لمجلة (شعر) دور في عقد مؤتمر الأدب
العربي المعاصر في روما عام 1961 الذي مولته وأشرفت عليه (سيمون جارجي) ...
كما كان لمجلة (شعر) دور في ترويج ما تنشره مؤسسة (فرانكلين) الأمريكية، ...
وبعد هلاك يوسف الخال كتب عابد خزندار مقالاً في جريدة الرياض قال فيه: ... (يلوب في نفسي ريبة وشكوك حول اتجاهات المجلة واتجاهات صاحبها وهي
اتجاهات أقل ما يقال عنها إنها غير عربية) [3] .
موقفه من زملاء دربه:
في الوقت الذي يجتمع فيه زملاء يوسف الخال وشركائه في تحرير (شعر)
على عداء العربية والتنكر للتراث فإنهم يختلفون في كيفية تنفيذ ما يوكل إليهم، كما
أن المصالح الشخصية فرقتهم بعدئذ.
ويتضح هذا الخلاف في كتاب (دفتر الأيام) ليوسف الخال، الصادر في لندن، وهو مختار لمقالات كتبها يوسف الخال على مدى الثلاثين سنة الماضية، وفي
هذا الكتاب يوجه لوماً شديدًا إلى بدر شاكر السياب، وينعت سعيد عقل بأنه شاعر
فاشل، ورجاء النقاش بأنه (هِر) .
أدونيس:
شارك في البداية في تأسيس مجلة (شعر) ثم خرج منها لينشئ مجلة (مواقف)
يقول عنه يوسف الخال: (أدونيس لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف من دون خجل
أو حياء بأنه إنما خرج من مجلة (شعر) وعليها لأنها لم تعد تفي بطموحاته وحبه
للبروز الاجتماعي، وميله إلى التفرد في العمل والرأي) [4] .
ثم ينعت أعمال أدونيس بعد تركه لمجلة (شعر) بأنها أعمال هابطة، وأنه
أراد (تشعير) الأفكار الصوفية في إطار عربي مفتعل [5] .
مع البياتي:
يمدح يوسف الخال عبد الوهاب البياتي مدحاً لا مثيل له، ويقول عنه:
(رائد أصيل من رواد الحركة الشعرية الحديثة، وذو عقلية مرنة ومنفتحة على الرياح الأربع) [6] ، ثم تراجع بعد ذلك عن هذا المدح وتحول البياتي عنده
إلى شخص يعض اليد التي تطعمه، والسبب هو أن البياتي وصف الخال في حوار
مع بعض الصحف بأنه (قومسنجي) الثقافة الأمريكية، فرد عليه الخال بعنف وذكره
بفضل الثقافة الأجنبية على الثقافة العربية، ثم يقرر حقيقة عن الشاعر البياتي
الماركسي ويقول له: (إنك بالذات لم تكن رائداً من رواد الشعر الحديث لولا الثقافة
الأجنبية) .
رجاء النقاش:
نعت يوسف الخال رجاء النقاش بقوله: (أحد هررة الانتلجنسيا العربية الذين
هجموا على غالي شكري ليأكلوه) [7] وسبب هذا الهجوم أن غالي شكري كتب
دراسة وصف فيها يوسف الخال بأنه شاعر معاصر له قضية مما دفع رجاء النقاش
وهو ناقد مصري إلى كتابة مقال طالب فيه بإقالة غالي شكري من سكرتارية مجلة
(الشعر) المصرية لأنه مدح عميلاً.
نزار قباني:
يمدح يوسف الخال نزار قباني لا لشيء إلا لأن نزارًا أدلى بحديث لمجلة
(مواقف) شتم فيها العرب والقضايا العربية، وقال: نحن نتيجة عصور الانحطاط،
والشاعر هو مصدر الشرعية وهو الحاكم المطلق الصلاحية.
نازك الملائكة:
شن يوسف الخال في كتابه (الحداثة في الشعر) حملة على نازك الملائكة،
يرد عليها على إثر صدور كتابها (قضايا الشعر المعاصر) ويقول:
(كانت خيبتنا مريرة حين أخذنا الكتاب وكدنا لا نعثر على قضية جوهرية من قضايا الشعر العربي المعاصر) [8] .
وهذا الهجوم سببه أن نازك الملائكة نقدت الشعر الذي ليس له قواعد منضبطة.
الحداثة عند يوسف الخال:
أصدر كتابه (الحداثة في الشعر) عام 1978 ومن خلال فصول الكتاب يمكن
التعرف على شخصية المؤلف وأهدافه، فهو يريد تبني جميع معطيات العصر
ومفاهيمه، الصالح منها والطالح حتى لا يكون عندنا قضية (إقامة مجتمع حديث
في عالم حديث) [9] ، ويهاجم اللغة العربية لأنها رمز الصعوبة بنظره، كما يهاجم
أي شيء يمت بصلة للحضارة الإسلامية وكل قديم موروث بحجة النظرة الإنسانية،
وفي هذا الخطر كله على الأمة وآدابها وفكرها.
__________
(1) -ذكر يوسف الخال في كتاب (أسئلة الشعر) أن بعض القائمين على المجلة كانوا -ولا يزالون - يدينون بالولاء للحزب القومي الاجتماعى، ص 157.
(2) الرياض، العدد 7115.
(3) الرياض، عدد 6885.
(4) دفتر الأيام /224.
(5) المصدر السابق / 226.
(6) المصدر السابق / 159.
(7) المصدر السابق 136.
(8) الحداثة في الشعر / 33.
(9) المصدر نفسه /5.(18/55)
تساؤلات
محمد نموس
يا بابا: أين أحبائي ... جدي عمي وأعزائي
زمن قد طال ولم أرهم ... والشوق يفتت أعضائي
شوق للجدة يا لهفي ... شوق للحب المعطاء
كم كانت تحنو في رفق ... تعطي في جود الدأماء
كم رحت إليها ملتجئاً ... كانت أمني في الضراء
ولكم منعتني بعزتها ... وسقتني حنان الآباء
ولعماتي شوق يفري ... كبدي ويضاعف من دائي
أنا مشتاق لأحبتنا ... لصغار الحي أخلائي
أخبرني عنهم يا أبتي ... أعلمني بكل الأنباء
أنا عشت النكبة كاملة ... مأساة عمت أرجائي
أنا لست صغيراً يا أبتي ... أنا أعرف من هم أعدائي
الكفر بكل مذاهبه ... وبألوان وبأسماء
وبرايات مختلفات ... قد زخرفها للدهماء
وشعارات وأكاذيب ... وبأثواب كالحرباء
وبماذا أجيبك يا ولدي ... والقهر يمزق أحشائي
فالجد حبيس ياولدي ... فى سجن الظلم بصحراء
فى زنزانات همجية ... حرست بكلاب الأعداء
آه من تدمر يا ولدي ... فلكم ضمت من آباء
من أم ثكلى من أخت ... من شبان من أبناء
فى الخندق ألقوا يا ولدي ... بزهور الجيل المعطاء
بشباب قد كانوا أملاً ... لإعادة مجد وضاء
ودعاة الحق هم كانوا ... فى نهضتنا كالطغراء
بل عمك طود يا ولدي ... رمق الدنيا باستهزاء
وانضم لقافلة الشهداء ... ليعلو فوق الأنواء
هم قدوة قوم ما هانوا ... إذ كانوا جند الخرساء
والأهل بأرضي يا ولدي ... شم صمدوا رغم الداء
رغم الزلزال ورغم الخ ... سف وموجة حقد هوجاء
ما هانوا يوماً بل كانوا ... أبداً كجبال شماء
كجبال بلادي بعلاها ... كتراب بلادي المعطاء
أعطوا صبراً أعطوا أملاً ... بقدوم الصبح الوضاء
والليل وإن دام طويلاً ... أو صار يفوح ببلواء
فسيذهب يوما يا ولدي ... ما في هذا من شحناء
والصبح سيشرق يا ولدي ... ويضيء بهيم الظلماء
ويعود الإسلام عزيزاً ... ويزيل عروش اللعناء(18/60)
حقيقة دعوة ابن تومرت
-2-
د. حمد بن صالح السحيباني
(تحدث الكاتب في المقال السابق عن الأسس العقدية لدعوة ابن تومرت، وكيف قامت دولة الموحدين، ويتابع في الجزء الثاني من هذا المقال: كيف تطورت الدعوة والدولة، والمزالق التي وقعت فيها) .
- التحرير -
خلف ابن تومرت تلميذه عبد المؤمن بن علي. الكومي [1] (524-558 هـ)
ويعتبر عبد المؤمن المؤسس الفعلي لدولة الموحدين الكبرى - بالمغرب
والأندلس - (؟ ?) وقد حاول عبد \المؤمن العمل على نشر الدعوة الموحدية لكن انشغاله بالأمور السياسية والعسكرية جعل حماسه للدعوة الموحدية أقل من سلفه.
ومع مضي الزمن أخذ حماس زعماء دولة الموحدين يقل إزاء الدعوة، بل إن
بعض زعماء الموحدين تجرءوا فأعلنوا براءتهم مما تحمله من غلو وانحراف حيث
يذكر المراكشي أن أبا يوسف يعقوب المنصور (580--595هـ) ثالث أمراء
الموحدين بعد ابن تومرت قال لأبي العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري -
أحد المقربين إليه - يا أبا العباس اشهد لي بين يدي الله عز وجل أني لا أقول
بالعصمة-يعني عصمة ابن تومرت -كما يذكر أبو العباس أيضاً أنه قال له يوماً وقد
استأذنه في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس أين الإمام؟ أين
الإمام؟ [3] .
ولم يكتف المنصور بهذا، بل إنه حاول إرجاع الناس إلى الكتاب والسنة ونبذ
تعاليم ابن تومرت التي توغلت في قلوب بعض الناس بالمغرب والأندلس - آنذاك
- حيث يذكر المراكشي أن السلطان يعقوب المنصور بعد انتصاره في معركة
الأراك [4] سنة 591هـ ذهب لمدينة جيان الأندلسية فخرج أهلها لتلقيه وتهنئته
بالنصر، فلما اقتربوا منه قدموا أحدهم ويدعى أبا بكر بن هانئ لتكليمه، يقول أبو
بكر: ( ... فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته - فلما فرغت من جوابه سألني كيف حالي في نفسي فشكرت له ودعوت بطول بقائه ثم قال لي: ما قرأت من العلم؛ قلت: قرأت تواليف الإمام - أعني ابن تومرت - فنظر إلي نظ'رة المُغضَب، وقال: ما هكذا يقول الطالب إنما حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت شيئاً من السنة، ثم بعد هذا قل ما
شئت …) [5] .
ويضيف المراكشي أيضاً حين حديثه عن عقيدة العامة في ابن تومرت أن
يعقوب المنصور استخف بعقول من بالغوا في تعظيم ابن تومرت وتقديسه والعمل
بما قال به أو دعا إليه. (لأنه لا يرى شيئاً من هذا كله، وكان لا يرى رأيهم في
ابن تومرت ... ) [6] .
وهكذا نرى أن دعوة ابن تومرت، وإن كانت قد تغلغلت في قلوب العامة
والسذج من الناس، في بعض بلاد المغرب الأقصى والأندلس، فإن ما تحمله من
باطل وزيف قد بدا لمن كان عنده شيء من العلم، مما دفع العقلاء من الموحدين
وهم حماتها إلى العمل على إزالتها، والسعى لبيان وجه الخطأ فيها، فالمنصور
ثالث أمراء الموحدين بعد ابن تومرت عمل على بيان باطلها وسعى لتقويضها ولم
يمضِ على انتشارها بين الناس سوى نصف قرن، وهي مدة قصيرة في عمر
الدعوات، لكن ما تحمله هذه الدعوة من غلو وشطط جعلت أقرب الناس منها
يسعون لتقويضها - كما بينا في السطور السابقة -.
وهنا قد يرد تساؤل وهو: لماذا لم يعلن المنصور الموحدي للناس صراحة
بطلان ما دعا إليه ابن تومرت ويعمل جاداً للقضاء على دعوته؟ .
وللإجابة على هذا التساؤل يقال: إن الكثير من الناس ببلاد المغرب الأقصى
لاسيما العامة وشيوخ الموحدين وزعماء القبائل قد تعلقوا بدعوة ابن تومرت واقتنعوا
بصحة ما قال به ودعا إليه، فلو واجههم المنصور بالنقد الصريح أو العمل الجاد
للقضاء على دعوة ابن تومرت لنشأ عن ذلك رد فعل خطير من قبل أولئك القوم،
وهذا بلا شك جعله يكتفي ببيان موقفه منها دون اتخاذ أي خطوات عملية ضدها.
وبالرغم من قلة ما قام به المنصور من عمل ضد دعوة ابن تومرت، إلا أن
عمله هذا كانت له نتائج طيبة حيث إنه بهذا العمل كسر ذلك السياج الذي أحيطت
به دعوة ابن تومرت مما دعا كثيرًا من الموحدين لا سيما المنصفين منهم إلى التمعن
في حقيقة دعوة ابن تومرت ودراستها بموضوعية وإنصاف، فبانت لهم حقيقتها وما
تحمله من زيف وباطل، فأخذوا يتحللون منها شيئاً فشيئاً حتى إذا تولى أبو العلاء
إدريس الملقب بالمأمون [7] (624-629 هـ) أعلن صراحة خروجه على تعاليم ابن
تومرت، وبين ما تحمله دعوته من زيف وضلال، وقال وهو على المنبر في
مدينة مراكش يخطب الناس: (… أيها الناس لا تدعوه بالمهدي المعصوم -يعني
ابن تومرت - وادعوه بالغوي المذموم فإنه لا معصوم إلا الأنبياء ولا مهدي إلا
عيسى [8] ، وأنا قد نبذنا أمره النحيس ... ) [9] ، كما يذكر ابن أبي زرع أنه بعد
أن نزل من على المنبر (كتب إلى جميع بلاده بتغيير سير المهدي وما كان ابتدعه
للموحدين وجرى عليه عملهم وسير ملوكهم، وأمر بإسقاط المهدي من الخطبة
وإزالته من الدنانير والدراهم ... وقال: كل ما فعله المهدي وتابعه عليه أسلافنا فهو
بدعة ولا سبيل لإبقاء البدع ... ) [10] ، كما أرسل المأمون كتاباً إلى المدن المغربية والأندلسية بين لهم فيه الخطوات التي اتخذها ضد دعوة ابن تومرت، وقد جاء في ذلك: ( ... ولتعلموا أنا نبذنا الباطل وأظهرنا الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ... وقد أزلنا لفظ العصمة عمن لا تثبت له
عصمة ... ) [11] .
هكذا تجرأ المأمون تاسع أمراء الموحدين فبين للناس صراحة بطلان ما دعا
إليه ابن تومرت، وأمرهم بنبذه والعودة إلى المنهج الإسلامي الأصيل، ولم يذكر
المؤرخون أن هذا العمل لقي أي معارضة من الموحدين مما يدلنا على أنهم كانوا في
ذلك الوقت قد بدءوا يتحللون منها لما بدا لهم بطلانها.
بعض المزالق التي وقعت بها دعوة ابن تومرت:
كان هذا عرضاً تاريخياً لدعوة ابن تومرت منذ أن كانت فكرة وحتى ظهرت
إلى حيز الوجود، وأصبح لها كيان سياسي يحميها، ويدعو الناس إليها، وقد بدا لنا
من خلال هذا العرض أن دعوة ابن تومرت بالرغم من انتشارها في بادئ الأمر،
وتمكن أصحابها من القضاء على خصومهم المرابطين، فإن أسسها العقدية التي
قامت عليها لم تكن أسساً سليمة؛ بل كانت منحرفة عن الأسس الإسلامية الصحيحة، وباستقراء تاريخ هذه الدعوة وما خلفه لنا ابن تومرت من تراث فكري ندرك
المزالق التي وقع فيها الموحدون، ومن أهمها:
1-ادعى محمد بن تومرت داعية الموحدين الأول العصمة لنفسه إذ قال عن
نفسه بأنه هو المهدي المعصوم [12] ، كما سماه تلاميذه بهذا الاسم فأطلقوا عليه
لقب المعصوم حتى أصبح هذا اللقب من أشهر ألقاب ابن تومرت لدرجة أنهم كانوا
يطلقونه عليه دون ذكر لاسمه بسبب اشتهاره به!
والعصمة عند أهل السنة والجماعة لم تثبت إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة
والسلام فيما يبلغون عن الله ولم يقولوا بها لسواهم حتى لكبار الصحابة الذين خصهم
الله بالفضل: أبي بكر وعمر وغير هما [13] .
هكذا غالى ابن تومرت في القول بالعصمة لنفسه فنهج بذلك نهج الرافضة
الاثنى عشرية [14] الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم، مما أوقعهم في انحراف عقدي
خطير لأن: ( ... من جعل بعد الرسول معصوماً يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها ... ) [15] ولم يكتف ابن تومرت بهذا الادعاء بل إنه كان يأمر بقتل كل من يشك [16] في عصمته [17] ، ولكي يؤصل هذا الادعاء في نفوس أتباعه ألف لهم كتابه أعز ما يطلب [18] .
2- ادعى ابن تومرت أنه هو المهدي الذي وعد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- بخروجه في آخر الزمان حيث قال في خطبته حيث مبايعته إماماً للموحدين
سنة515هـ: (الحمد لله الفعال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالهدى الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً، يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل، وأزيل العدل بالجور، مكانه بالمغرب الأقصى، واسمه اسم النبي، ونسبه نسب النبي..) [19] . ويلاحظ هنا كيف تجرأ ابن تومرت فكذب على الله ورسوله حيث عين مكان ظهور المهدي بالمغرب الأقصى، مع أن الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لم تشر إلى ذلك، وقد تلقى الموحدون هذ الادعاء بالقبول حيث يذكر ابن خلدون [20] أنه بعد هذه البيعة أصبحوا يلقبونه بالمهدي، وكان لقبه قبلها الإمام! ! .
وهكذا يبدو لنا أن الكذب على الله ورسوله، ووضع الأحاديث ونسبتها إلى
الرسول من الأسس العقدية التي قامت عليها دعوة ابن تومرت، وهم بهذا يحذون
حذو الرافضة الذين ملئوا كتبهم بالأحاديث والأخبار المكذوبة على الرسول -صلى
الله عليه وسلم -.
3- أنه ألف لتلاميذه كتاباً سماه كتاب التوحيد بلسانهم البربري قسمه إلى سبعة
أحزاب عدد أيام الأسبوع، وأمرهم بقراءة حزب واحد في كل يوم بعد صلاة
الصبح [21] ، وقد حوى هذا الكتاب الكثير من الأغاليط والشطحات في الأمور العقدية، وحتى يضمن تأصيل ما في هذا الكتاب في نفوس أتباعه فإنه ألزمهم بحفظه حيث يذكر ابن أبي زرع الفاسي أن ابن تومرت قال لأصحابه الموحدين: ( ... من لا يحفظ هذا التوحيد فليس بمؤمن وإنما هو كافر لا تجوز إمامته ولا تؤكل ذبيحته فصار هذا التوحيد عند المصامدة كالقرآن العزيز ... ) [22] .
بهذا جعل ابن تومرت نفسه شرعًا لأتباعه حيث ألزمهم بحفظ ما جاء به
وضمنه كتبه، وإذا كان الإسلام لم يلزم المسلم أن يحفظ من القرآن الكريم وهو
المنزل من عند الله سبحانه إلا قدر ما يقرأه في صلاته فإن ابن تومرت داعية
الموحدين الأول قد جعل مؤلفه أهم من القرآن حينما طالب الموحدين بحفظه! ! .
4- إن ابن تومرت أخذ من كل مذهب وفرقة إسلامية ما يلائم اتجاهاته ويخدم
أهدافه، ولهذا جاء تراث الموحدين الفكري خليطاً مضطرباً متأثراً بكثير من
النزعات الفكرية الضالة، فهو في مسألة الإمامة يقول برأي الرافضة حيث ضمن
كتابه (أعز ما يطلب) هذا الرأي، فقال حين حديثه عنها: (لا يصح قيام الحق في
الدنيا إلا بوجوب الإمامة في كل زمان إلى أن تقوم الساعة، ما من زمان إلا وفيه
إمام لله قائم بالحق ... ) [23] ، كما وافق الرافضة في القول بعصمة الإمام - كما
أسلفنا-.
كذلك تأثر ابن تومرت بمذهب المعتزلة [24] في نفي الصفات عن الله تعالى، ولهذا سمى أصحابه بالموحدين، لأنهم في رأيه هم الذين يوحدون [25] الله حقًّا
لنفيهم الصفات عن الله سبحانه وتعالى [26] .
كما نهج ابن تومرت نهج الأشاعرة [27] في تأويل بعض صفات الله سبحانه
وتعالى [28] .
5-كفر ابن تومرت من لم يؤمن بما يقول ويعتنق ما يدعو إليه، واستباح دمه
حتى ولو كان من أتباعه [29] ، كما قال بكفر دولة المرابطين ووجوب جهادها،
ولتأصيل هذا المبدأ في نفوس أصحابه فقد صرح في كل مناسبة، كما ضمنه كتبه
التي ألفها لهم ورسائله التي كان يبعثها إلى الموحدين حيثما كانوا.
ومما جاء في إحدى رسائله إلى أصحابه. (واعلموا وفقكم الله أن جهادكم -
يعني المرابطين - فرض على الأعيان على كل من فيه طاقة للقتال، واجتهدوا في
جهاد الكفرة الملثمين ... ) [30] .
كان هذا هو رأي ابن تومرت في دولة المرابطين، تلك الدولة السنية التي
أقامت كيانها على مذهب أهل السنة والجماعة والدعوة إلى الله على هدى من سنة
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد طعن في عقيدتهم، ووصفهم بأنهم مجسمون
وكفار، لا تجوز طاعتهم، ولا الولاء لهم، بل يجب جهادهم، ولهذا قاتل
الموحدون المرابطين قتال المسلمين للكفار حسب اعتقادهم، وما ذلك إلا بسبب غلو
ابن تومرت وتجرئه على الطعن في أعدائه دون ورع أو تقوى! ! .
وبعد هذا العرض السريع لنشأة دعوة ابن تومرت، والتعرف على بعض
الأسس العقدية التي قامت عليها- ندرك بجلاء مدى ما فيها من غلو وشطط، وما
شابها من ضلال وانحراف، وأنها كانت بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي
الصحيح، ولا شك أن هذا الغلو والانحراف الواضح فيها هو الذي جعل أتباع ابن
تومرت غير متحمسين لها بعد موته، بل بعضهم حاربها وتبرأ منها - كما رأينا -
فكان هذا الموقف سبباً لأن تدفن معظم أفكار وأقوال ابن تومرت معه، ولا يقدر لها
الذيوع والانتشار كغيرها من الدعوات الضالة التي ظهرت بالعالم الإسلامي على مر
العصور.
__________
(1) حاول عبد المؤمن أن يحذو حذو سلفه ابن تومرت في ادعاء النسب العربي فأشاع ذلك بين الناس، وقد قال بهذا بعض المؤرخين كالبيذق في كتابه المقتبس ص 17 وابن أبي زرع في الأنيس ص 183وابن الخطيب في رقم الحلل ص 58، لكن طائفة أخرى من المؤرخين أنكرت هذا الادعاء وبينت بطلانه وبينوا أنه بربري الأصل ينسب إلى قببلة كومية ومن هؤلاء ابن عذاري البيان المغرب 3 / 56، ابن خلدون: العبر 6 / 126، 127 ويرى ليفي بروفينسال: (أن سلسلة الأنساب الشريفة التي وضعت لعبد المؤمن لم تكن إلا موضوعة اقتضتها حاجة الدعوة) انظر كتاب الإسلام في المغرب والأندلس: ترجمة عبد العزيز سالم وزملائه، ص 275.
(2) ابن خلدون: العبر 6 / 235.
(3) المعجب 369.
(4) الأرك: من المعارك الأندلسية الحاسمة التي وقعت بين الموحدين بقيادة يعقوب المنصور وبين النصارى بقيادة (ألفونسو الثامن) ملك قشتالة وذلك في شهر شعبان سنة 591هـ، وقد تمكن الموحدون من إحراز نصر كبير على أعدائهم النصارى فقتلوا منهم ما يربو على ثلاثين ألفاً، كما أسروا وغنموا الكثير، وقد وقعت تلك المعركة قرب حصن الأرك غرب قلعة رباح فنسبت إليه (راجع في تفصيلات هذه المعركة كلاً من: المراكشي: المعجب، ص 382، ابن عذاري: البيان المغرب 3 / 191 - 195، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب، ص 222- 223، يوسف أشباخ تاريخ الأندلس، ص 87) .
(5) المعجب /417.
(6) المصدر السابق / 417-418.
(7) هو أبو العلاء إدريس بن يعقوب المنصور تاسع أمراء الموحدين، استغل الوضع المضطرب في الدولة الموحدية في آخر عمرها فنبذ طاعة أخيه العادل (621-624 هـ) ودعا لنفسه فبويع في أشبيلية ثم أجابه أكثر ولاة الأندلس في آخر عام 624 هـ، فكتب إلى الموحدين الذين ببلاد المغرب فبعثوا للمأمون ببيعتهم لكنهم لم يلبثوا سوى مدة قصيرة حتى نكث شيوخ الموحدين البيعة وبايعوا يحيى بن محمد الناصر الذي تلقب بالمنتصر، فغضب المأمون على شيوخ الموحدين الذين أصبح ولاؤهم حسب مصالحهم، وليس للمصلحة العامة وهذا مما ساعد على أن يتخذ عدة إجراءات ضد دعوة ابن تومرت (انظر تفصيلاً ذلك كلاً من ابن عذاري: البيان المغرب 3 / 253، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب، ص250-251.
(8) يقول أهل السنة والجماعة بنزول عيسى في آخر الزمان كما تواترت بذلك الأحاديث.
(9) ابن أبي زرع: الأنيس المطرب / 251.
(10) المصدر السابق / 251.
(11) المصدر السابق / 252.
(12) انظر في تفصيلات ذلك: البيذق: أخبار المهدي ابن تومرت، ابن القطان، نظم الجمان حيث وردت كلمة المعصوم في هذين الكتابين عشرات المرات.
(13) محمد علي الصابوني: النبوة والأنبياء / 55 - 56.
(14) عصمة الأئمة من اعتقادات الرافضة الأساسية فهم يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والخطأ والنسيان (الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 195، ابن تيمية: منهاج السنة 3 /174-175) .
(15) ابن تيمية: منهاج السنة 3/174 -175.
(16) أباح ابن تومرت دم كل من يشك في عصمته أو يخالفه فيما يدعو إليه، ولهذا كان يقوم بما سماه بعملية التمييز لأصحابه وهي التعرف على ولاء أصحابه وإيمانهم بما قال به، فمن شك في ولائه أو أظهر له شيئاً من المخالفة له أمر بقتله (انظر البيذق: أخبار المهدي ابن تومرت، ص 39) .
(17) البيذق أخبار المهدي ابن تومرت، ص39، ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 175.
(18) سمي هذا الكتاب بأعز ما يطلب لأنه بدأه بقوله أعز ما يطلب وأسنى ما يبتغى، وقد ضمنه أهم آرائه في القول بالعصمة وغيرها، ويعتبر هذا الكتاب من الكتب العقدية الهامة عند الموحدين، وقد نشر بالجزائر سنة 1903.
(19) ابن القطان: نظم الجمان، ص 75.
(20) العبر: ط بيروت 11 / 470.
(21) ابن أبي زرع: الأنيس المطرب 177.
(22) المصدر السابق 177.
(23) ابن تومرت: أعز ما يطلب / 245.
(24) المعتزلة: فرقة ظهرت في القرن الأول الهجري وسميت بهذا الاسم لاعتزال إمامها واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري، ويرى أصحاب الاعتزال إثبات الأسماء وتأويل الصفات خشية التشبيه، وأشهر ما عند المعتزلة أصولهم الخمسة العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنفاذ الوعيد (انظر الأشعري: مقالات الإسلاميين (1/216-219) .
(25) يرى الدكتور حسين مؤنس أن قول ابن تومرت بالتوحيد وتسمية أصحابه بهذا الاسم إنما كان له أكثر من مغزى سياسي بينها بقوله: (إن قوله بالتوحيد - يعني ابن تومرت - على النحو الذي بينه إنما كان سياسة ماهرة ضد المرابطين، فقد رماهم بالتجسيم والكفر واعتبر نفسه وأصحابه أنصار التوحيد، وقد جاوزت هذه الدعاوى على معظم أهل المغرب في زمانه فانضموا إليه والمهم عندنا أن ابن تومرت استطاع بدعوى التوحيد التي ابتدعها أن يجمع الناس حوله ?) حسين مؤنس عقد بيعة بولاية العهد: مقال منشور في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، مجلد 12 سنة 1950 م، ص 149) .
(26) ابن خلدون: العبر 6 / 249.
(27) الأشاعرة هم إحدى الفرق الإسلامية الكلامية، تنسب إلى مؤسسها أبي الحسن الأشعري، ويقولون بتاويل جميع الصفات ما عدا سبعاً منها (انظر محمد أبو زهرة الفرق الإسلامية، ص 274-276) ويرى الطاهر الطرابلسي أن ابن تومرت كان إماماً في طريقة الأشعرية وأنه هو الذي أدخلها إلى المغرب (انظر الطاهر أحمد الطرابلسي: تاريخ الفتح العربي، ص 209) .
(28) الطاهر الطرابلسي: تاريخ الفتح العربي، ص 209.
(29) البيذق أخبار المهدي ابن تومرت، ص 39.
(30) الوثائق المغربية، العدد 1 سنة 1396 هـ، ص 241.(18/62)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
من ينقذ السودان؟
لو لم يكن للسودان من الكوارث والنوائب سوى ما ألفه من موجات المجاعة
المتكررة والفيضانات المدمرة التي تعقب مواسم الجفاف الطويلة المهلكة، نقول لو
لم يكن للسودان من الهموم الجسام سوى الذي ذكرناه لكفى أن يكون ذلك مدعاة
لاستنفار كل طاقات المسلمين لنجدة ذلك البلد المسلم وإنقاذه من محنته التي هو فيها.
بيد أن الحالة هناك هي أسوأ من ذلك بكثير، وأن الناظر عن كثب إلى
مجريات الأحداث في ذلك البلد ليدرك جيداً أن هذا الذي ذكرناه - على الرغم من
هوله -لم يعد في حياة المواطن السوداني سوى ظواهر أخذت تعتادها الأنفس
وتتلقاها بشيء من القبول نظراً لتكرار حدوثها من جهة، ولكثرة المشاكل والمآزق
التي تلم بذلك البلد والتي ينفرد هو في مواجهتها من جهة أخرى.
لقد أصبح السودان ضحية للمتآمرين عليه في الخارج وألعوبة بأيدي النفعيين
وطلاب الزعامات من أبنائه في الداخل، ولا يظهر في الأفق أي مخرج من هذه
الأزمات طالما بقيت الأحوال السياسية على ما هي عليه واستمرت الحكومة في
انقسامها على نفسها ومضيها في علاقاتها مع بعض الأطراف الخارجية التي تقطع
الطريق عليها في الحصول على مساعدات محتملة تخفف من وطأة الأزمات التي
تعانيها والتي أثبتت الأيام أنها - أي هذه الأزمات - أكبر من السودان وإمكاناته.
فالحرب الانفصالية التي يقودها قرنق - التي تكلف الحكومة مليون دولار
يومياً - ومطالبه المتجددة كل يوم ليست وليدة الأعوام الخمس أو الست الماضية،
بل يرجع اشتعال فتيلها إلى أكثر من ثلاثين سنة، وإخفاق السودان في إخمادها دليل
على أنها مؤامرة تفوقه حجماً، وأن أصابع الأعداء الخفية تلعب، لعبتها لتركيع
ذلك البلد، والنيل منه متخذة من الهيئات الدولية أداة فعالة للضغط عليه وتمرير
مخططاته، فتارة بنك النقد الدولي، وتارة أخرى هيئات الإغاثة وثالثة مجلس
الكنائس العالمي، وهلم جرا.
وما زاد ارتماء السودان في أحضان هذه المؤسسات إلا سوءاً على سوء،
فبنك النقد الدولي أصبح ثقلاً إضافياً يضاف إلى كاهل الحكومة، فهو الذي يرسم
سياسة البلاد الاقتصادية، وهو الذي يقرر ماذا يجب أن يزرع ويحصد، وإليه
ترجع مسئولية تحديد أسعار المواد الغذائية لا سيما الأساسية منها، كالسكر والشاي
والدقيق.
ولقد جر هذا التدخل السافر في الشئون الاقتصادية إلى كوارث تمثلت
باضطرابات واحتجاجات واسعة النطاق، ومظاهرات جابت شوارع المدن الكبيرة
سقط فيها عدد من القتلى والجرحى، وأصابت الحياة اليومية بالشلل التام.
وجملة القول إن الأحوال في السودان في تدنٍّ مستمر، والحكومة منقسمة على
نفسها وعاجزة تماماً عن تقديم أي حل من شأنه أن يخفف من وطأة الأزمات التي
تعصف بالبلاد الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تزايد نقمة الشعب حتى وصل الأمر إلى
القيام بمحاولات للإطاحة بالحكومة.
وفي خضم هذه الظروف الصعبة التي يمر بها السودان تلعب المنظمات
الدولية ومن ورائها الدول الغربية دورًا خبيثاً لضمان إنجاز المخطط التآمري لهذا
البلد.
- فقرنق لم يكن بمفرده يوماً قادراً على إرغام الحكومة على قبول مطالبه
بإلغاء قوانين الشريعة على الرغم من أن منطقة الجنوب التي تتمركز فيها الأقليات
النصرانية والوثنية كانت مستثناة أصلاً من تلك القوانين، كما لم يكن بمقدوره
إرغام الحكومة على الجلوس على مائدة المفاوضات للنظر في مطالبه الأخرى،
قرنق هذا لم يكن بإمكانه قطع هذا الشوط البعيد في صراعه مع الحكومة لولا
الضغوط الخارجية التي واجهتها الأخيرة للسير بهذا الطريق.
فقد تحدثت الصحف والمجلات العالمية الصادرة في أواخر العام الماضي
ومطلع العام الحالي عن تلك الضغوط، وكشفت أن الدول الكبرى شرقيها وغربيها
وعلى رأسها روسيا وأمريكا مجمعة على ضرورة الجلوس مع قرنق والتوصل إلى
حل وسط، ومن هذه الضغوط قيام هولندا بقطع مبلغ (2.5) مليون دولار من
مساعدتها للسودان لتحقيق نفس الغرض.
إن قضية جنوب السودان مؤامرة عالمية تستهدف السودان كله، تغذيها دول
مجاورة كأثيوبيا وغيرها، وليست مسألة حرب أهلية كما تحاول أن تظهرها أجهزة
الإعلام العالمية.
إن من حق السودان على الدول العربية مد يد المساعدة له وهو يمر بهذه
الأزمات، ولقد أبرزت التطورات الأخيرة هناك مدى إهمال هذه الدول له. والأنكى
من ذلك أن تلتقي مصالح بعض الدول العربية في المنطقة مع مصالح القوى
الخارجبة في ضرورة قبول الحكومة السودانية لمبدأ الجلوس مع قرنق على مائدة
المفاوضات والنظر في مطالبه.
أين مواثيق جامعة الدول العربية، وأين - على وجه الخصوص - اتقاقية
الدفاع المشترك المصادق عليها من قِبل جميع الدول الأعضاء؟
وكما قلنا في الماضي: لو كانت الحرب ضد قرنق تدار تحت راية إسلامية
حقة يقودها العلماء والدعاة المتجردون، وتحرك المسلمون في البلدان المجاورة
للسودان فقط كمصر، وليبيا، والصومال، وأريتريا، والمسلمون في الحبشة
نفسها… لو كان الأمر كذلك لشعر الصليبيون بحقيقة حجمهم، وشعر أعداء الله كلهم
بصغارهم وهوانهم [1] .
__________
(1) انظر العدد الثامن من البيان.(18/72)
ثورة الحجارة ... هل انتصرت؟
د. غازي الخطيب
[إن الشعب الفلسطيني كشف للجيل الذي يشاهد تحليل الذرة على أن الذرة الإنسانية لا تحطم فعلاً وأن الأجهزة الضخمة التي تريد تحطيمه قد يصيبها العطب] . ...
مالك بن نبي
نعم ... هل انتصرت - وليس هل ستنتصر - ... نعم، فلو توقفت الحجارة
عن الحركة وعادت إلى أماكنها المعتادة، فلقد انتصرت الحجارة، ولو لم تحقق إلا
ما حققته إلى أن توقفت.
إذا كان لابد لإعلان انتصار الحجارة من أن تؤدي إلى استرجاع فلسطين
وطرد اليهود منها فهي لم تنتصر ولن تنتصر، ولكن هذا قصور في فهم حقيقة
وأبعاد الصراع بين المسلمين واليهود. فالصراع طويل الأجل، وإن عدتم عدنا.
وانتفاضة الحجارة هي مرحلة من مراحل هذا الصراع، وظاهرة من ظواهره،
وليس بالنتيجة نهايته.
إذن ... فالإجابة بالإيجاب، مناقضة لمنطق الأحداث وتسلسلها.
ولقد انتصرت انتفاضة الحجارة للأسباب التالية:
1- أنجزت الحجارة مالم تنجزه البنادق، ولعل حامل الحجارة ليس كحامل
البندقية، وليس من العدل مقارنة ما حققته الحجارة مع ما كان يجب أن أو يمكن أن
تحققه البنادق.
2- أزالت الحجارة حجاب الخوف من اليهود الذي هيمن على قلوب أهل
الأرض المحتلة خلال السنين الماضية. فالعمل من خارج الأرض المحتلة لم يكن
ليجدي في غياب الدعم الفعلي من داخلها، فكان لابد لفعالية إعلان رفض الاحتلال
اليهودي، أن تقوم انتفاضة من الداخل، بالرغم من التضحيات الكبيرة التي تتطلبها، من قتل وسجن وتعذيب وترحيل وهدم للبيوت.
3- حطمت الحجارة أسطورة الجندي الإسرائيلي القادر على فعل ما يشاء ولا
يزال قابعاً خلف الثكنات والمعدات، [لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ
مِن ورَاءِ جُدُرٍ] فها هي الحجارة قد جردت الجندي الإسرائيلي من سلاحه التقليدي
ووضعته أمام جوهر قوة الإنسان النابع من عقيدته الأخروية، والتي بانعدامها تفقد
أسلحة الدنيا قوتها وفعاليتها.
4- نقت الحجارة القلوب من حجاب الوهن، فالإقبال على الدنيا والهروب من
الموت لم يكن لينجي أهل الأرض المحتلة من الذل والهوان، ولا من طغيان
الاحتلال، [وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ] وقد أردنا غير ذات الشوكة سنين طويلة، حتى طغى حب الدنيا ولذاتها
ورغباتها على حب الآخرة والرغبة في الجنة والشوق للقاء الله.
5 -ردمت الحجارة الهوة بين عالمين: عالم المشقة في مجابهة العدو وعالم
الهناءة ورغد العيش بعيداً عن العدو. فالحرب النظامية كان لها ساحات هي غيرها
التي يعيشها عموم الناس أثناءها. وساحة المجابهة هي الآن ساحة واحدة متحدة تقع
في بقعة جغرافية واحدة، تلتقي فيها آلام وأحزان رامي الحجارة في الشوارع
والمنتظر الداعي في البيوت أو القابع فيها، وتتعانق فيها أحلام الصغار وآمال
الكبار، ويتفاعل فيها شوق للقاء الله وانسلاخ من حب الدنيا، وتتحد فيها رغبتان:
رغبة في المشي سوياً على صراط مستقيم، ورغبة في التخلص من اتباع السبل
المتفرقة.
وليس لأحد أن ينتقص من دور وآثار انتفاضة الحجارة. وأرجو للحجارة
استمرار الحركة، ليس فقط لرجم اليهود، ولكن أيضاً لإحياء القلوب بالإيمان عن
طريق تمزيق حجاب الخوف والوهن.(18/75)
ليبيا ... اعتقالات بالآلاف
ذكر القادمون من ليبيا أن اعتقالات واسعة جداً جرت في أوساط الإسلاميين،
وقد تمكن عدد قليل من الشباب من الإفلات من قبضة النظام وعبور الحدود الليبية
والانتشار في أرض الله الواسعة.
وذكر القادمون أن الآلاف من الدعاة إلى الله قد زُج بهم في المعتقلات، وقد
علمنا أن عدداً غير قليل من الشباب تم تصفيتهم أثناء اعتقالهم وفي السجون الكثيرة
التي استبدلها القذافي بالسجن الذي هدمه.
والغريب في الأمر هو ذلك الصمت الرهيب الذي التزمته أجهزة الإعلام
والصحف العالمية إزاء هذه الأحداث الخطيرة.
- لو كان هؤلاء نصارى لما سكت عنهم الفاتيكان ولتمكن من تحريك أعوانه
من الدول الكبرى والصغرى.
- لو كانوا يهوداً، لتمكن اليهود من تحريك مشاعر الرأي العام العالمي،
ولأقدمت إسرائيل على عمل حربي.
- لو كانوا شيوعيين لاتخذ السوفيات موقفاً يحرج القذافي، ولقطعوا عنه
الأسلحة وأمروا خبراءهم بالعودة.
- لو كانوا باطنيين لتحركت إيران وعملاؤها في كل مكان ولاختطفوا
الطائرات واحتجزوا الرهائن حتى يتم إطلاق سراحهم.
أما هؤلاء أبناء السنة فلا بواكي لهم، وليس هناك من يحزن لحزنهم، وأن
يتفضل بالكتابة عنهم.
إن أحداثاً كهذه تبرز حقيقة الألاعيب التي يلجأ إليها نظام كنظام القذافي
لتحسين صورته القبيحة أمام الشعب الليبي. فكيف الجمع بين عمل كهذا وبين هدم
السجن الذي شارك هو فيه بنفسه؟ وكيف التوفيق بين هذه الجريمة الجديدة وبين
دعوته - في الأمس القريب - لمنظمة العفو الدولية لنقل مكاتبها إلى طرابلس؟ .
أين الصحف والمجلات العربية القومية التي ما فتئت تهاجم القذافي صباح
مساء ولا تكاد تدع صغيرة ولا كبيرة إلا وكان لها فيها كلمة؟ ما بالها هذه المرة قد
غفلت عن هذه الأحداث الخطيرة؟ أم أنها نقاط الالتقاء مع نظام القذافي؟ !
بل أين منظمة العفو الدولية وباقي منظمات الأمم المتحدة التي تعنى بحقوق
الإنسان؟ ! .
كم قلنا غير مرة إن القذافي وغيره من العسكريين لا يقرءون التاريخ، ولا
يتعظون بالأحداث فهؤلاء الآلاف سيتأثر لسجنهم عشرات الآلاف وتزداد عزلة
النظام يوماً بعد آخر، وسيتحدث الدعاة من أبناء ليبيا الذين لا يعرفون الخنوع ولا
الذل أن حاكماً عسكرياً حاول تغيير دين الله فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما أخذ
غيره من أعداء الإسلام.(18/77)
بداية النهاية
فورين ريبورت20 / 4 /1989 م
تمكن المجاهدون الأفغان بقيادة أحمد شاه مسعود من قطع طريق (سالانغ)
الذي يصل بين كابل والحدود السوفياتية. كما أصبح مستقبل رئيس النظام الشيوعي
الذي تكتنفه الشكوك موضع نقاش في الصحافة السوفييتية التي أخذت مؤخراً
بالحديث عن خطورة عمليات الشحن الجوي للمواد الغذائية إلى كابل، وعن
القصف الصاروخي المكثف لمدينة جلال آباد من قبل المجاهدين، وإذا ما استمر
المجاهدون بقطعهم للطريق فمن غير المتوقع أن تتمكن حكومة كابل من الصمود
أكثر من أشهر قلائل.
وتواجه العاصمة نقصاً في مخزونها من المواد الغذائية على الرغم من عمليات
الشحن الضخمة المرسلة من الاتحاد السوفييتي، وأصبح تخزين المواد الغذائية
ظاهرة منتشرة، وبات اصطفاف العامة في طوابير طويلة على المخابز أمراً مألوفاً.
وسيأتي الوقت الذي ينفد فيه صبر المدافعين عن مدينة كابل. كما أدى قطع
المجاهدين لأنبوب النفط الممتد من الاتحاد السوفييتي إلى مطار العاصمة إلى أزمة
شديدة في الوقود حالت دون استخدام الأهالي لسياراتهم، أما سيارات الأجرة - فعلى
ندرتها - فقد أصبحت أجرتها خيالية.
ومن المرتقب أن يحتفظ المجاهدون هذه المرة بسيطرتهم على الطريق
الاستراتيجي نظراً لعدم وجود تغطية جوية سوفييتية، ولقلة مهارة الطيارين الأفغان.(18/79)
أخبار حول العالم
منع الحجاب في تركيا
شهدت شوارع مدينة استانبول ومدن تركية أخرى في الأسبوع الأول من شهر
مارس الماضي مظاهرات كبيرة نظمها الطلبة المسلمون احتجاجاً على قرار الحكومة
الدستورية بمنع الطالبات المسلمات من ارتداء الزي الإسلامي، لا سيما غطاء
الرأس في أروقة الجامعة، وقد قام رجال الشرطة باعتقال عشرات من المتظاهرين.
مجلة ميدل إيست انترناشونال 17/3/1989 م
مجاعة في بنغلاديش
تتعرض المناطق الوسطى والشمالية من بنغلاديش إلى موجة جفاف حاد، وقد
ألحقت هذه الظروف المناخية السيئة أضراراً بالغة بالدواجن والمزروعات مما
عرض حياة الآلاف من السكان إلى الخطر، وقد ناشدت المنظمات والتجمعات
الشعبية الجهات الإدارية إلى الإسراع بإيصال المواد الغذائية إلى المناطق المتضررة.
التايمز 12/4/1989 م
حملة إسرائيلية جديدة في أفريقيا
قررت كينيا استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، ويأتي قرار كينيا هذا
ثمرة أولى للجهود المستمرة التي تبذلها إسرائيل من أجل فك عزلتها في القارة
الإفريقية.
وكانت دول أفريقية أخرى: (زائير 1982، ليبريا 1983، ساحل العاج
1986، الكامرون 1986، توغو 1987) قد وافقت على إعادة علاقاتها مع الدولة
اليهودية. ومن المعروف أن معظم دول منظمة الوحدة الإفريقية كانت قد قطعت
علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في أعقاب حرب عام 1973 [*] .
... فورين ريبورت 12/ 1 /1989 م
معونات هندية لنظام كابول
شرعت الحكومة الهندية في برنامج شحن مساعدات إنسانية! للنظام الشيوعي
في كابول، في حين أعلن المجاهدون الأفغان عن اعتقادهم أن ما يقرب من (600)
مستشار عسكري هندي قد تم إرسالهم إلى أفغانستان لدعم نظام نجيب الله، ومن
جهة أخرى فقد أعرب مسئولون رسميون هنود لوزير الخارجية البريطانية - خلال
جولته الأخيرة لجنوب آسيا - عن تفاؤلهم ببقاء مدينة جلال آباد بيد القوات
الشيوعية إلى الأبد.
الأوبزرفر 2/4/1989م
الأندبندت 3/4/1989 م
أوزبكستان ... عودة إلى العربية
ذكرت وكالة أنباء أوزبكستان أن عدة آلاف من أهالي مدينة طشقند عاصمة
جمهورية أوزبكستان - التي تحتلها روسيا - خرجوا في مظاهرات طافت شوارع
المدينة يوم 4/3/1989 وطالب المتظاهرون السلطات بجعل لغة البلاد المحلية هي
اللغة الرسمية بدلاً عن اللغة الروسية.
ومما يجدر ذكره أن ظاهرة جديدة تعم مختلف الجمهوريات المسلمة تتمثل في
حرص المسلمين فيها على تحقيق مطالب عدة، من بينها جعل اللغة المحلية لغة
رسمية، العودة إلى استخدام الحروف العربية بدلاً عن الروسية التي يعمل بها حالياً، بالإضافة إلى إعادة كتابة تاريخها والذي اعترته حملات التشويه والطمس من قِبل
الروس.
الجارديان ويكلي 19/3/1989 م
خسائر إسرائيل في الانتفاضة
قدرت مصادر الجيش الإسرائيلي أن ما أنفقته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
في مواجهتها للانتفاضة قد بلغ (150) مليون دولار، وفي الوقت ذاته فقد أدت
سياسة الجيش في زج أعداد كبيرة من الجنود في محاولة منها لإرهاب الفلسطينيين
إلى الحاجة إلى استدعاء قوات الاحتياط خلال فترات متقاربة جداً مما تسبب في
إحداث فوضى وعدم انتظام في إدارة الجيش.
وفي الوقت ذاته فقد ساقت الاضرابات وقوانين حظر التجول التي تفرض
على مدن الضفة الغربية إلى ظاهرة تغيب أعداد كبيرة من اليد العاملة الفلسطينية
عن أعمالها في المصانع والشركات اليهودية، ويشكل ما يربو على (100) ألف
عامل فلسطيني عصب الحياة في كثير من الميادين لا سيما الزراعة والإنشاء.
ومن جهة أخرى فقد كانت خسارة إسرائيل لأسواقها في الأراض المحتلة
ضربة أخرى لاقتصادها، فقد أدت استجابة الفلسطينيين لدعوات مقاطعة البضاعة
الإسرائيلية إلى انخفاض حاد في مبيعات إسرائيل إلى الأراضي المحتلة والتي كانت
قد بلغت عام 1987بليون دولار، أي المرتبة الثانية بعد أمريكا، كما خسر كثير
من أصحاب المصانع المتخصصة في صناعة سلع معينة للسوق الفلسطيني تجارتهم
بسبب قلة الإقبال عليها، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان لأحداث الانتفاضة بشكل عام
الأثر الرئيسي في تداعي العوائد التي تجنيها إسرائيل من السياحة، فبدلاً من أن
ترتفع تلك العوائد بنسبة 20% كما كان مخططاً لها فقد كشفت الإحصاءات أن
خسارة إسرائيل في هذا الجانب قد بلغت (200) مليون دولار.
مجلة ساوث، آذار/ مارس1989 م.
أهلكناهم لما ظلموا
تواجه تايلاند كابوس انتشار مخيف لجرثومة مرض الإيدز، ففي حين كان
عدد حاملي جرثومة هذا المرض 198 شخصاً عام 1988 إلا أن هذا العدد قفز إلى
(4000) في نهاية شباط (فبراير) 1989، ومن المتوقع أن يتضاعف عدة مرات
مع نهاية هذا العام.
ومع هذا فلا يبدو أن هذه الإحصائيات ستردع مالكي أمكنة البغاء وتجار
الفاحشة.
وقد وصلت أنباء الإيدز إلى أسماع الشعب هناك في وقت متأخر، فقد عملت
الحكومات المتعاقبة على إخفاء هذه الحقائق حتى لا يتضرر مرفق (السياحة) الذي
يدر العملة الأجنبية على البلاد.
ومن المعلوم أن مصطلح السياحة يطوي تحته هذه التجارة الخبيثة وما يتعلق
بها من رقيق أبيض، وتشجيع للفواحش، وجعلها مصدراً للربح محمياً بسلطة
القانون، هذا وبلغ عدد النساء اللاتي يتعاطين مهنة البغاء في تايلاند أكثرمن
(800) ألف امرأة.
ومن جهة أخرى فقد ارتفع عدد متعاطي المخدرات من 1% إلى 40% خلال
18 شهراً.
الغارديان ويكلي 9/4/1989
__________
(*) انظر البيان العدد 2، 8.(18/80)
بأقلام القراء
نصيحة إلى المجاهدين الأفغان
عبد العزيز الشرقي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
إخواني المجاهدين:
أما وقد أصبح النصر قاب قوسين أو أدنى فإني أحببت أن أنصح لكم مصداقاً
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الدين النصيحة) .
إن الجهاد ليس هدفاً تنتهي عنده مقاصد الإسلام، ولا حتى إقامة الدولة
الإسلامية هدف تتوقف الجهود عنده، كل ذلك وسائل لغاية أعظم وهي إقامة شرع
الله في النفوس وعبادته حق عبادته، قال تعالى: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ
لِيَعْبُدُونِ] فجعل الغاية والمقصد هو عبادته عز وجل، وجعل الجهاد لتكون كلمة
الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقام الدولة الإسلامية في المدينة لا للدعة
والأمن والاطمئنان، وإنما أقامها لتكون منطلقاً لجيوش تجاهد وتكسر القيود الجاهلية
المفروضة على جنس الإنسان..
وإني أريد أن تحذروا من المنافقين الذين يريدون أن يقطفوا ثمار الجهاد تحت
مسمى الديمقراطية أو تحت مسمى الوحدة التي تضمهم، ولو استعرضتم السور
المدنية في القرآن الكريم لوجدتموها مليئة بالتحذير من المنافقين الذين يوالون أعداء
الله وأتباعهم، فلقد قام الحلف الطبيعي بين المنافقين واليهود في المدينة وها هو
اليوم يقوم مرة أخرى باختلاف في الأدوار، فلا تحالف ولا توحد مع من يعادون الله
ورسوله حتى يتوبوا وينيبوا، وهم إن تابوا فهي تنفعهم عند الله، ولكن لا يولون
شيئاً من أمر المسلمين.
وأخيراً أذكركم بموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة سنة الفتح
ورأسه يكاد يلامس ظهر بعيره تواضعاً لله، وما ذلك إلا لعلمه بأن النصر من الله لا
بعدته ولا عتاده، وكما نصركم الله لما نصرتموه في جهادكم سينصركم على من
تحالف ضدكم [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] .
أسأل الله أن ينصركم ويثبت أقدامكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(18/85)
رسالة إلى إخواني الوعاظ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
إخواني. إني أحبكم في الله ... يا من اختاركم الله لتبليغ دينه إلى أمة محمد ... وكفى بهذا ثناء ورفعة ومجداً وشرفاً.
إن أفضالكم لا تعد وحسناتكم مضاعفة إن شاء الله، فكل يوم نرى النتائج
باهرة ونسمع الأخبار سارة.
وحرصاً منا على ازدياد الثمار والحصول على أفضل النتائج.. إليكم النقاط
التالية مختصرة:
1- التعارف وازدياد التآلف ... لتأنس القلوب بين الجيران أنفسهم.
2- الطرق على الحديد ساخناً، بعد الموعظة سيجد الأخ قلوباً مفتوحة وآذاناً
مستعدة، فليستفد من هذا.
3- التقرب إلى أبناء جماعة المسجد والانبساط معهم ... وقد يكون هذا هو
السبيل الوحيد للالتقاء بهم.
4- الاستفادة من أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية في العرض والمناقشة،
والرد بدحض الحجة، ومقارعة الخصوم، وفي الإيجاز والانتقال وفي القصة
والوصف، وغير ذلك من المواضيع في البيان والأداء والإلقاء.
5- يجب التركيز على موضوع واحد، والاختصار قدر الإمكان ذلك أن
الإسهاب وتعدد المواضيع تتعب المستمع فيمل فيضيع الجهد ويفتقد المراد والقصد.
ومن التركيز: الوقوف عند الحادثة بعد سياقها وعند الدليل بعد إيراده بالشرح
والتوضيح وأخذ الفوائد منه ليتم الاستيعاب.
أما رأيتم إلى القرآن وأساليبه إذا أتى على النعيم ووصفه ورغب فيه، أو أتى
على العذاب ووصفه وزجر عنه.
6- ينبغي الإكثار من ضرب الأمثلة في الوعظ فإنه يزيد من التشويق
والالتفات إلى الموضوع.. كما يجب أن يكون المثال واقعياً معروفاً قريباً من
المخاطبين.
7- ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب ... وهنا يجب ألا يتقدم الواعظ إلا
وهو يستحضر النية الصادقة والقصد النبيل ... فعندئذ يمضي بعزيمة متوكلاً على
ربه ... ولا يحتقر من المعروف شيئاً فرب كلمة صغيرة في مبناها عظيمة في
معناها سيجدها إن شاء الله قوية تخترق أغلفة القلوب ... رقيقة تهز المشاعر ...
صادقة تزيل ما ران على القلوب.
8- مواضيع البشارات ... لا أدري لماذا لا يتطرق إليها الوعاظ؟ إن
الإنسان ليعجب أن يرى معظم - بل جميع - مواضيع الوعظ سياطاً تلهب آذان
المخاطبين ... وإن كانوا في شك مما أقول فليرجعوا إلى القرآن وكتب السنة فهي
بين أيديهم.
9- المجادلة الجادة للبحث عن أساليب جديدة فلكل وقت أسلوبه ... ولكل
مكان عرضه المميز ... وعند الاقتناع بتغيير الأسلوب وأهميته لن نعدم البدائل
المفيدة فكل جديد في هذه الحياة يبلى ... وكل مكرر يمل.
10- الاستفادة من طاقاتنا الداخلية ... أعني الجلوس المنفرد مع النفس
مباشرة وجهاً لوجه للتفكير العميق باستخراج الآراء لئلا تضيع الأعمار ونحن نتلقى
أفكار الآخرين فقط، وتمضي الدهور بتعاقب الليل والنهار ونحن واقفون مكاننا ...
والحمد لله أولاً وآخراً.
أخوكم: أبو محمد(18/86)
ما رأيك؟
ما رأيك أخي المسلم أن تخصص ساعة من يومك لقراءة جزء من كتاب الله،
ذلك الكتاب الذي يصلح لك دينك ودنياك ويسعدك في الدنيا قبل الآخرة. فالله
سبحانه وتعالى قد وضع عشر حسنات لكل من يقرأ حرفاً من كتابه، قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر
أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه
الترمذي.
لماذا لا نعكف على هذا الكتاب؟ ولماذا لا نحفظ منه ولو بعض آيات
والله سبحانه يقول: [ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] ، وهذه
الآيات سوف ترفعنا درجات في الجنة لقوله -صلى الله عليه وسلم-:
«يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن
منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أبو داود والترمذي.
فالحياة فرصة لن تعوض، يجب علينا استغلالها بما يعود علينا بالنفع في
الدنيا والآخرة، ولنضع نصب أعيننا قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل
المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن
الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو» من حديث متفق عليه.
وإذا كان أحدنا لا يحسن قراءة القرآن أو يتعتع فيه ولذلك لا يقبل عليه
فنذكره بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الذي يقرأ القرآن وهو
ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق
له أجران» متفق عليه.
فهذا بعض ما أعده الله سبحانه وتعالى لقارئ القرآن. فلماذا نضيع كل هذا
الثواب العظيم؟ .
ولماذا نترك الكتاب الذي لا مثيل له في هذه الدنيا وهو الذي يشفع لقارئه يوم
القيامة؟ .
فاللهم اجعلنا ممن يقرءون كتابك آناء الليل وأطراف النهار، وممن يستمعون
القول فيتبعون أحسنه.
إيهاب عبده نفادي(18/89)
ومن الأخ إبراهيم الغامدي، جدة، مسجد الصبر جاءت هذه المساهمة:
أماه
كرهت عيش النفاق ... كرهت عيش الدجل
كرهت عيش السهول ... أريد عيش الجبل
إيمان قلبي ضعيف ... دنياي صارت ملل
أماه أرجو جهاداً ... لا تحرميني الأمل
أماه لا تعذليني ... ماذا يفيد العذل
أماه لا تمنعيني ... بالدمع أو بالقبل
أماه هيا اتركيني ... قد حان وقت العمل
أماه كفى ملاماً ... فالخطب حقاً جلل
إخواننا بانتظار ... أمى كفانا كسل
أماه لست عصيًّا ... كلا، ولا بي خبل
لن أستحيل جباناً ... أبكي وأرثى الطلل
بالدمع نهوي جميعاً ... بالسيف نبني الدول
لا تفرقي من وفاتي ... لكل نفس أجل
أماه أحيي خناساً ... والمنجبات الأول(18/90)
قديم جديد
التجارة من أسباب امتلاك أوربا للشرق
للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله
لقد علم الأوربيون أن حرب الدراهم والدنانير، أنجح من حرب المدافع
والبواريد، وقد امتلكوا بهذه الحروب الذهبية والفضية أكثر بلاد الشرق، فالإنكليز
ما استولوا على الهند بتكتيب الكتائب، وسوق الأساطيل بالفيالق والجحافل، وإنما
هي جمعية تجارية وطأت المسالك ومهدت السبل تظلها السلطة ويؤيدها النفوذ اللذان
يقيمان حيث تقيم، وكذلك شأن شركة النيجر في أحشاء أفريقية، واليوم ينعم
الإنكليز على الحكومة المصرية بثمانمائة ألف جنيه ونيف لافتتاح السودان وتصرح
وزارتهم بأن الإنصاف يقضي عليهم بمساعدة مصر بالإنفاق على فتح السودان لأنها
شريكتها بفوائده التجارية ومعناه أن تستأثر بالتجارة وتختص دون أوربا بهذا الفتوح
المعنوي الذي يتبعه التملك اسماً ومعنى كما هو المعهود في الهند والنيجر وغيرهما، ومعلوم أن الحكومة المصرية لا تجارة لها وبهذا يحتج عليها المحتلون في إجبارها
على بيع سكك حديد السودان بعد الفتح.
يقولون إن فائدتها العسكرية تنتهي بالفتح والحكومة المصرية لا تجارة لها ولا
يليق بها التجارة فمن المصلحة أن تباع هذه السكك لشركة تجارية ويرجح الإنكليز
على سائر الأجانب بما أنفقوا من أموالهم وما أرهقوا من -رجالهم والحمد لله لا
شركات وطنية لنا فنقول إنها ترجح وتقدم حتى على الإنكليز.
ابتاع أخوان من الفلاحين عدة من الدجاج (الفراخ) لأجل تربيتها والانتفاع
ببيضها، وكان أحدهما ذكياً والآخر بليداً مغفلاً، فقال الذكي للبليد تعال نقتسم واتفقا
في القسمة على أن تكون الدجاجات للبليد وبيوضها لأخيه فكان هو يتعاهدها بالأكل
والشرب والمبيت وينفق عليها ويخلي بين أخيه وبين بيوضها ويأكل منها ما شاء،
وصار الأخوان مثلاً في بلدهما في تلك القسمة الضيزى.
كذلك شأن الإنكليز مع الحكومة المصرية في السودان وشأن سائر الأوربيين
في فتوحاتهم المعنوية يقنعون بامتلاك المنافع وثمرات البلاد ويدعون الاسم لأهلها،
ولكن إلى أجل مسمّى حتى إذا ما جاء الأجل يصرحون بالامتلاك الاسمي أيضاً.
كل هذا والشرقيون وادعون ساكنون وإذا تحركوا فإنما تكون حركتهم ميلاً مع
ريح الأجانب انخداعاً لها أو رهبة منها لاندهاشهم بعظمتها التي ما جاءتها إلا من
الشركات المالية وهي أيسر شيء عليهم لا سيما قبل تمكن الأجانب من بلادهم، لو
أن للشرقيين عقولاً ذكية وتربية وطنية لما رضوا أن تكون بلادهم بينهم وبين
الأجانب كالدجاجات بين ذينك الأخوين فكيف والأمر أعظم من ذلك) ولقاوموا جنود
التجارة الفاتحة أشد المقاومة.
اندفع الغرب على الشرق بخميس من الأزياء وكتائب من الحلي وجحافل من
الماعون النفيس وفيالق من اللذائذ فلم تجد هذه الجنود المجندة من الشرق أقل مقاومة
ولا أدنى مدافعة فطفقت تفتك في النفوس بعوامل الترف وفي الأموال بعوامل
السرف وما زال القوم يعدون هذه العوامل من علائم الشرف حتى وقفت بهم على
شفا جرف وأكبتهم على مناخرهم في مهاوي التلف.
لا ننكر أن من هذه الجنود ما لا قبل لنا بدفعه الآن كالضروري من الأدوات
والماعون والنسيج، وكلامنا إنما هو في الزخارف الكمالية كالحلي وماعون الزينة
ومادة الترف من الأشربة وغيرها فهذه هي التي تنسف ثروة البلاد وترميها بالفقر
والعجز، فرب حاكم أو مسئول ينفق على الترف والبذخ ما يكفي لإنشاء مدارس أو
معامل يحيي بها صقع من الأصقاع أو إقليم من الأقاليم.
فالترف مدعاة الدمار والفناء الاجتماعى إذا لم يقرن بتربية صحيحة تقي من
أدوائه وتعصم من بلائه، فعسى أن يتنبه الشرقيون لما ذكرنا فيحترزون من مضار
الترف وتقليد الإفرنج بما يعود عليهم وعلى بلادهم بالدمار ويجتهدون بتربية أولادهم
تربية دينية وطنية لعلهم يستردون ما فقدوا، ويسترجعون ما سلبوا، وما ذلك على
الله بعزيز.
المنار 1/17(18/92)
إلى أختي المسلمة
حارسة القلعة
د. محمد محمد بدري
إلى أختي المسلمة ... إلى من رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -
صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، إلى من رضيت بعائشة بنت الصديق، وأسماء
وفاطمة أسوة حسنة ... إلى من أعزها الله بالإسلام ووقفت وسط جاهلية القرن
العشرين تمسك بحبل الله المتين وتحرص على مرضاته، وترغب في الفرار إليه
لتفوز في الدنيا والآخرة وتكون لها الحياة الطيبة [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى
وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] إلى
شريكة العبد المسلم وحارسة قلعة العقيدة ... إليها في بيتها (بيت الدعوة) .. أهدي
هذه الكلمات، لتعلم أنها في بيتها تقف على خط الدفاع الأول ضد أعداء الإسلام،
وأن وقفتها هذه تمثل نقطة الارتكاز في دائرة امتداد هذا الدين، وأن نسيج ثوبها
الشرعي هو نسيج الراية الإسلامية في الصراع بين الإسلام والجاهلية.
أختاه ... تعلمين أنه في مكة، وحين كان الإسلام يعيش غربته الأولى، كانت
المرأة بجانب الرجل في مسيرة الدعوة أختاً وزوجاً وأمًا تعيش همه؛ بل كان ربع
المجتمع الوليد في مكة من النساء، وعاشت المرأة هذه المرحلة تحاول مع زوجها
إزالة غربة الإسلام وتحفظ السر وتكتمه ...
وتعلمين - يا أختاه - أن هذه الغربة الأولى للإسلام ... غربة النبي -صلى
الله عليه وسلم- وأسرة ياسر وبلال وغيرهم.. قد عادت للذين يقولون ربنا الله لا
قيصر، والحاكمية لله لا للبشر،.. وأن هؤلاء الغرباء مكلفون أن يصلحوا ما أفسد
الناس، فمهمتهم كمهمة الغرباء الأوائل أن يزيلوا غربة الإسلام ويمكنوا له في
الأرض!
وتعلمين - يا أختاه - أن من أهم حقائق صراعنا مع الجاهلية من حولنا أنه
صراع اجتماعى قائم بين واقع إسلامي وواقع جاهلي، وأننا في حاجة إلى سنوات
طويلة من صمود الظاهرة الاجتماعية الإسلامية في وجه الظاهرة الاجتماعية
الجاهلية الغالبة الآن، والتي تحمل بين طياتها عوامل فنائها من العفن الخلقي
والشقاء المعيشي! ! .
وتعلمين - يا أختاه - أن بيتك خلية من خلايا كثيرة يتألف منها الجسم الحي
للواقع الإسلامي، فبيتك قلعة من قلاع هذا الدين، وفي هذه القلعة يقف كل فرد
على ثغرة حتى لا ينفذ إليها الأعداء؟ ! .
وأنت - يا أختاه - حارسة هذه القلعة، ولقد أفردك الرسول -صلى الله عليه
وسلم- بالمسئولية فقال: «والأم راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها» فأنت
حارسة النشء الذي هو بذور المستقبل، … وطفلك اليوم هو رجل الغد وامرأة الغد، ولكل دوره في الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وينبغي أن يؤهل لهذا الجهاد
منذ مولده بإعطائه القدر المضبوط من الحب والحنان والرعاية بغير نقص مفسد أو
زيادة مفسدة! ! ثم حماية مبادئ الإسلام ومفاهيمه في ذهنه.
أعلمُ - يا أختاه - أنك تشعرين بثقل الوطأة الساحقة لهذا المجتمع بكل ما فيه
من مكائد ومثيرات، وبما فيه من تقاليد موروثة تأخذ في بعض الأحيان طابع
العقيدة وتضغط على حسك - يا أختاه - أضعاف ضغطها على حس الرجل، وهذا
يتطلب منك مضاعفة الجهد وأنت قادرة على ذلك - بإذن الله - فأنت صاحبة عقيدة
قوية واهتمامات عالية، ... فهدفك عبادة الله وحده لا شريك له، ورسالتك العمل
على بناء المجتمع المسلم، ومسئوليتك تربية جيل مسلم، ووجهتك رضا الله وجنته
في الآخرة! !
ولا شك - يا أختاه - أنك لكي تقومي بدورك الحضاري على أتمه لا بد أن
تعرفي واقعك، وعندها ستجدين أن دورك يتطلب قسطاً من الصفات الأخلاقية
والفكرية والعقائدية.. بل كل الصفات التي تلزم مجاهدة في معركة بين الحق
والباطل، معركة يقف فيها أمامك أكابر مجرمي قرانا ينفذون أوامر أسيادهم من
اليهود فينشرون فكراً قذراً وأدباً مريضاً يحاولون به تدمير الأسرة، بل وتدمير
جميع المعوقات الأخلاقية حتى يخرجوا أجيالاً مدمرة مهدمة لا تعرف حقوق الله،
وصدق الله العظيم [وكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ومَا
يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ ومَا يَشْعُرُونَ] وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس،
ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا
يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» .
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يربط في هذا الحديث بين الاستبداد السياسي
وبين الانحلال الخلقي! ! فاحذري - أختاه - المجرمين الذين يريدون- أن يسيروا
بك بخطى سريعة وحاسمة إلى الجاهلية الأولى أو إلى جاهلية القرن العشرين! .
إنهم يقولون لك إن الرجل قد ظلمك حين فرض عليك ارتداء الحجاب، ولا
بد من التخلص من هذا الظلم وخلع الحجاب! ! .. فقولي لهم - يا أختاه - لم يكن
الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضده لتتخلص من ظلمه،
إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك -إن كانت
مؤمنة -أن تجادل فيما أمر به، أو يكون لها الخيرة في الأمر [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ
ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً] ... وقولي لهم: لقد أسلمت نفسي لله وخرجت من
إسار الشيطان ورضيت بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وارتقيت في فكري وسلوكي.. ولله
الحمد والمنة.
وهم يقولون لك - يا أختاه - أن أختك الأوربية قد حملت قضيتها وأخذت
حقوقها، وقضايا المرأة واحدة في كل بلاد العالم! ! . فقولي لهم بادئ ذي بدء لا
أخوة بيني وبين الأوربية؛ لأن المسلمة لا تؤاخي المشركة.
وأما عن الحقوق التي تزعمونها للمرأة الأوربية، ففي الحقيقة لقد كانت هذه
المرأة ضحية من ضحايا المجتمع الذي - حررها - فقذف بها إلى المصنع والمكتب، وقال لها: عليك أن تأكلي من عرق جبينك، في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها، فتركها في حرية مشئومة ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع، ففقدت الشعور بالعاطفة
نحو الأسرة، وأصبحت بما ألقي عليها من متاعب العمل صورة مشوهة للرجل
دون أن تبقى امرأة، وهكذا حرم المجتمع من هذا العنصر الأساسي في بناء الأسرة، وجنت أوربا ثمار هذه الأسرة المنحلة مشكلات كثيرة … تلك هي الحقيقة يا من
تحاولون إعطاء كلمة (تحرير المرأة) معنى السفور والاختلاط، بينما الإسلام يرى
أن التحرر إنما هو في الحجاب، فقد كانت المحجبة هي الحرة والسافرة هي الأمة… فالسفور هو العبودية. وهم يقولون.. ويقولون.. ويقولون ... ولسان حالهم
يشير إلى اليهود والملاحدة والفاسقين إشارة الحب والرضى [هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً] ولما كان هذا هو ادعاؤهم واعتقادهم، فأجيبيهم - يا أختاه -
بقول الحق تبارك وتعالى: [ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً]
وقولي لهم - يا أختاه - لقد ودعت مواكب الفارغات وأسأل الله لكم الهداية
ولي الثبات..
أختاه: كانت هذه بعض التحديات التي تحيط بك من خارج بيتك متمثلة في
مكر وكيد أكابر المجرمين وذيولهم فماذا عن التحديات التي تواجهك داخل البيت؟
لا شك يا أختاه أن بيتك (بيت الدعوة) لا يعرف الخراب لأنه يتكون ومعه
أسباب حمايته من الحب والرضا. وليس معنى هذا أنه بيت لا يقع فيه شقاق أو
عتاب أو خلاف فهذا أمر لا يمكن أن يتحقق في عالم البشر ولم يتحقق في بيوت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة البشرية كلها، وإنما معناه أن الخلاف بين
المرأة المسلمة وزوجها لا يستمر بل يثوب كلاهما إلى الله سريعاً فيذهب الشقاق
ويبقى الوئام والحب والرضا.
فالزوج المسلم هو أحب الناس لزوجته، وهي أحب الناس إليه يربطهما الحب
في الله - أوثق عرى الإيمان - وتزداد مشاعر الحب بينهما باستمرار العلاقة
الزوجية، ومع ذلك فإن هذه المشاعر لا تدفع الزوج إلى الركون للبيت والزوجة،
ولا تدفع الزوجة إلى محاولة الاستئثار بزوجها، لأن كلا منهما يعلم أن من حلاوة
إيمان المرء «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» .. فكل منهما يقدم
حب الله ورسوله على أي حب، وهذا يجعل حياة الدعوة والجهاد من أجل الإسلام
منبعاً للحب لا يجف بين الزوجين، فالحياة في (بيت الدعوة) إما لحظة وداع وأمل، أو لحظة حنين وشوق، أو لحظة لقاء وفرحة ... فهي حياة طيبة وعيشة راضية
وعمر مبارك ...
وهكذا بيتك - يا أختاه - بيت يملؤه الحب وينعم بظلال الرضا بعيداً عن
ظلمات المادية الطاغية وموبقات الفساد والإباحية، فماذا عن ذريتك؟ ذرية (بيت
الدعوة) ؟ .
لا شك - يا أختاه - أن الذرية في بيتك ليست مجرد الرغبة في التناسل، بل
الرغبة في استمرار الدعوة بما في هذا الاستمرار من طاقة وإمكانية..
وبعد إتمام الرضاع وإعطاء القدر المضبوط من الحب والحنان للطفل تأتي
أولى محاولات تحقيق عبودية الطفل لخالقه عند سن سبع «علموا أولادكم الصلاة
لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، والصلاة تؤسس
في نفس الطفل إحساس التناقض مع أي مجتمع لا يقيم الصلاة، ويبقى هذا
الإحساس في نفس الطفل حتى يأخذ صورة العمل لتمكين دعوة الإسلام حتى يسلم
المجتمع ويقيم الصلاة [الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ] .
وكما ينبغي تعليم الأطفال الصلاة ينبغي أيضاً الاهتمام بتكوين شخصيتهم قوية
قادرة على مواجهة الحياة من خلال طاعة الله والإيمان بالقدر، ولذلك يقول رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: «يا غلام ... احفظ الله يحفظك، احفظ
الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة
لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو
اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت
الأقلام وجفت الصحف» .
ومن الأمور الهامة في التربية الحث على ممارسة الدعوة إلى الله، وهذه
كانت نصيحة لقمان لابنه [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ
واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]
وفي الحقيقة - يا أختاه - أن قضية تربية الأولاد ليس هذا موضع استيفائها،
ولذا أنصحك - أختاه - بمراجعة كتاب (منهج التربية الإسلامية) للشيخ محمد
قطب، وكتاب (تربية الأولاد في الإسلام) للشيخ عبد الله ناصح علوان ...
وأخيراً.. يا أختاه.. فإن الدور الذي تقومين به هو لون من ألوان الجهاد، وأنا أعلم أن لديك من إيمانك زاداً يستعلي بك على الجاهلية، ويصمد بك في وجه مكائدها، غير أن النفس تحتاج دائماً إلى سلوى تعضدها، ولا أجد سلوى للنفس أعظم من القدوة، ولذا أدعوك - أختاه - إلى زيارة بيت قدوة من بيوت الدعوة، وهو بيت (الرميصاء) امرأة أبي طلحة وكنيتها (أم سليم) . فأما كيف تكون هذا البيت؟ فقد طلب أبو طلحة زواج الرميصاء فاشترطت عليه أن يكون صداقها إسلامه (وقد كان مشركاً) فأسلم وتزوجته.. وتكون بيت مسلم، ويجىء ضيف إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن في بيته طعام، فيسأل من يستضيف ضيف رسول الله فيقول أبو طلحة: أنا يا رسول الله، ويذهب بالضيف إلى بيته ويسأل زوجته (أم سليم) عن الطعام، فتقول: لا يوجد غير طعام الأولاد، وتنيم ... أم سليم أطفالها وتضع طعامهم أمام الضيف، وتتصنع أنها تصلح السراج فتطفئه، ... وتتصنع هي وزوجها أنهم يأكلون حتى أكل الضيف وشبع! ! ويذهب أبو طلحة إلى صلاة الفجر فيستقبله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: «يا أبا طلحة لقد ضحك الله من صنيعكما الليلة» ، وهكذا أطعمت الرميصاء ضيف رسول الله طعام الأولاد وعلمتنا نحن معنى إكرام الضيف، ففي المعنى طعم الإيمان ورائحة الجنة، ويبارك الله تعالى كرم (الرميصاء) فيطعم بطعامها جميع الصحابة إذ صنعت الرميصاء طعاماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-وبعثت ابنها (أنس بن مالك) يدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى الطعام فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة: «لقد صنع لكم أبو طلحة طعاماً» ، وذهب جميع الصحابة إلى بيت الرميصاء، فقال أبو طلحة: ماذا نصنع؟! فقالت (الرميصاء) : رسول الله أعلم بما يفعل، فأمر الرسول الصحابة أن تدخل عشرة عشرة حتى أكلوا جميعاً ولم ينقص من طعام الرميصاء شيء! ! .
ويروي لنا أنس حادثة وفاة غلام في بيت الرميصاء:
عن أنس قال: مات ابن أبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا
طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم
تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب
منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا
عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب بما كان ابنك، فغضب أبو
طلحة وانطلق حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فأخبره، فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما» ، قال: فحملت
وأنجبت بعد ذلك عشرة أولاد كلهم يقرءون القرآن..
بل وتقاتل (أم سليم) بنفسها يوم أحد وتنقل القِرب وتفرغها في أفواه
الجرحى!!.
وكانت تلك معالم بيت من بيوت الدعوة في خير القرون، امرأة جعلت
صداقها إسلام زوجها، وأطعمت الصحابة من طعامها، وأضحكت الله بكرمها،
وقاتلت في سبيل الله بنفسها..، ربما قلت - يا أختاه - وأين نحن من هؤلاء الذين
عاش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم؟ .. وأنا أقول لك - يا أختاه
- إن هذه الدعوة ما زالت تؤتي تلك الثمار الطيبة في عصرنا اليوم، فبين أظهرنا
قام بيت من بيوت الدعوة، وقلعة من قلاع العقيدة تحرسها أخت لك هي (أمينة
قطب) ، فكيف تكون هذا البيت؟ …
لقد تقدم لخطبتها علية القوم فآثرت أن تخطب لأحد المحكوم عليهم بالأشغال
الشاقة المؤبدة في عام 1963 م، وهوالأخ (كمال السنانيري) وكان هذا الارتباط
في وقته قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرر أو تقرر له من قبل صانعيه
القضاء على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون ! ! .
وانتظرت (أمينة قطب) زوجها عشر سنوات.. وفي عام1973 خرج
زوجها من السجن وتكون البيت..
لعلك تدركين الآن- يا أختاه - أن تاريخ هذا الدين وقد رسم فيه ? وجوهاً
كريمة تمثله، فوجه المرأة ليس أقلها بروزاً وضوحاً ... وليس من العبث أن تاريخ
هذا الدين يحفظ في ذاكرته أسماء نساء عشن في لحظات ما قضية هذا الدين..
فلتأخذي دورك يا أختاه.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.(18/95)
الصفحة الأخيرة
التغالي في بناء المساجد
إن بناء المساجد، وتوسيعها، والعمل على إبرازها وخدمتها ورفع شأنها كل
هذا مما حض الإسلام عليه ورغب فيه، ولكن هذا شيء، والإنفاق إلى درجة
السرف على أشياء تتعلق بالمساجد، وليست مقصودة ولا مطلوبة شرعاً من بنائها؛
شيء آخر.
إن الله يقول على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: «وما أنا من المتكلفين
» والبذخ في تزيين المساجد وجعلها معارض فنية من التكلف الذي تأباه روح
الإسلام، فضلاً عن أنه إسراف وتبذير فيما لا فائدة دنيوية أو أخروية منه.
أما دنيوية: فإن هذه الأموال التي تصرف على الفن المعماري وما إليه يمكن
أن تنفق على جهات ومشاريع تغني البلاد عن الحاجة إلى الديون الخارجية ذات
الفوائد التي تتضاعف سنة بعد سنة، وتقضي على البطالة التي يعاني منها الكثير،
ولا شك أن الإنفاق على بناء الإنسان أهم بكثير من الإنفاق على بناء المعالم والآثار، لأن الإنسان هو الهدف وإلا عاش في عبودية.
وأما أخروية: فإن المساجد أمكنة يذكر فيها اسم الله في الأرض وترتفع بها
كلمته، هذا هو الهدف من إنشائها، وليس تقليد أهل الأديان الأخرى بقطع
الضروريات عن البشر من أجل التفاخر والتطاول بالحجارة؛ وإلا فما الفرق بين
الإسلام وغيره من الأديان إذا أصبحنا نسير في بناء مساجدنا على خطى من بنوا
الأهرام والمعابد البوذية الضخمة، والكاتدرائيات الباذخة وغير ذلك من المعالم
الوثنية.
وماذا أفادنا المماليك الذين حكمونا حقبة من الزمن فخلفوا لنا مساجد باذخة
تأخذ بالألباب بينما كانت المظالم من المعالم البارزة لحكمهم الأمر الذي ضرب علينا
الذلة، وقتل الحيوية في شعوبنا؟ !
وماذا تجدي عنا المساجد التي بنيت للتفاخر والتقليد واستقبال السائحين في
حين يكفي المسلمين مساجد متواضعة ولكن نظيفة، وفسيحة لكن مملوءة برجال لا
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ! .(18/104)
ذو الحجة - 1409هـ
يوليو - 1989م
(السنة: 4)(19/)
الافتتاحية
1 - الجهاد هو الجهاد
ليس شيئاً من شعائر الإسلام يثير رعب أعدائه مثل الجهاد، وليس أمراً
حرص المستعمرون وأذنابهم على تشويهه؛ وتفريغ قلوب وعقول المسلمين منه
كهذه الفريضة.
وما من مناسبة استعمل فيها المسلمون كلمة (الجهاد) إلا وكانت ناقوس خطر
يثير فيهم خليطاً من مشاعر الرهبة والغضب، يوازيه عمل دائب بشتى السبل للحد
من أثر هذه الكلمة النفسي والعملي.
وفي فترة سبات طويل اجتمعت فيها أسباب كثيرة جعلت المسلمين ينظرون
إلى كثير من مفردات دينهم نظرة خاطئة.، ويجردونها من معانيها الأصلية،
ويلبسونها معاني ليست لها، وهي في الحقيقة معانٍ تعكس ضعفهم ورضاهم بالواقع، ويتمثل فيها خداعهم لأنفسهم وتسويل الشياطين لهم. وكأن الجهاد من تلك الكلمات
التي تُلُوعِب في معناها، فالتبست على الكثيرين مع أنها من أشد الكلمات وضوحاً
وتوضيحاً، سواء في القرآن أو في السنة، فمثلاً لم يكن يتصور أحد من الصحابة
أن يحقق معنى الإسلام في نفسه دون أن يشارك في الجهاد، وهكذا اندفعوا في كل
اتجاه حاملين دين الله يبلغونه للعالمين، فكم منهم من مات في مسقط رأسه يا ترى؟ ! وهل يدرى مسلمو اليوم كم قضى من أولئك الحشد الكريم في البلاد البعيدة، وإلى
أي مدى وصلت بهم هممهم العالية، لا نقول: أقدامهم أو سنابك خيلهم؟ ! وكذلك
الأجيال الأولى في التاريخ الإسلامي.
ومع أن فقه الجهاد وما يتعلق به بقى في كتب الفقه محدداً مفصلاً، محفوظاً
ومدروساً؛ إلا أن الجهاد (العملي) لازال يتقلص وينحسر حتى أتت على المسلمين
فترة انقلب فيها فهمه رأساً على عقب، وأصبح يوصف (بالأصغر) بينما أصبح
حال المتبطلين الخانعين من الصوفية، المنعزلين عن المشاركة في الحياة الإيجابية
بعرضها وطولها، المتطلعين إلى وسم أساليب حياتهم بسمات شرعية تسوغها..
أصبحت هذه الأساليب الغريبة عن روح الإسلام (جهاداً أكبر) ! فرووا في ذلك
حديثاً ضعيفاً، بل موضوعاً لا تصح روايته إلا مقرونة بما يفيد تركها وسقوطها،
والحديث هذا عن جابر قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزاةٍ فقال لهم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر= مجاهدة العبد هواه» (1) . وهو حديث ساقط روايةً ودرايةً أي سنداً ومتناً. أما
روايةً، فلأن في سنده يحيى بن العلاء، قال عنه ابن حجر: رمي بالوضع،
وضعفه أبو حاتم الرازي، ويحيى بن معين، وقال عنه الدارقطني: متروك، وقال
عنه أحمد بن حنبل: كذاب يضع الحديث.
وأما دراية فلأنة معارض لصريح قوله تعالى: [لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ
المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ
المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وفَضَّلَ اللَّهُ
المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً] [النساء/95] .
وكذلك فإنه لم يرد في ثواب عمل من الأعمال ما ورد في فضل الجهاد في
سبيل الله، ففضلاً عن الآيات القرآنية الكثيرة؛ إلى القارئ بعضاً من أحاديثً النبي
-صلى الله عليه وسلم- في فضله:
- رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد.
- إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين
الدرجتين كما بين السماء والأرض (رواه البخاري) .
- ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار (رواه البخاري) .
- رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل (رواه
الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
- رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه أجرى عليه عمله
الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه وأمن الفتّان (رواه مسلم) .
- وعند البخاري أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟
قال: «لا أجده» ثم قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك
فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟» . فقال: ومن يستطيع ذلك؟ .
-لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (متفق عليه) .
(والجهاد - باتفاق العلماء - أفضل من الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع،
وصوم التطوع.... ونفع الجهاد لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على
جميع العبادات الظاهرة والباطنة: محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه،
وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله) [مجموع الفتاوى 28/ 353] .
ولقد وصل المسلمون في الأعصر الحاضرة إلى مرحلة فاصلة، وعطلت
كثير من أحكام الإسلام ومفاهيمه، وأجبر الناس جبراً، وعلى غير رضا منهم،
على العيش في ظل مفاهيم غريبة عن عقيدتهم ودينهم، وأصبح الجهاد بمعناه
الشرعي بعيداً عن أفكارهم وتوجهاتهم، وكل ذلك يهون وتمكن معالجته عند إدراكهم
لحقيقة دينهم وحقيقة واقعهم وما هم عليه من حال بعيدة عما يرضاه الله تعالى لهم،
ولكن الرضا عن هذا الواقع المؤلم؛ والاحتجاج له بالحجج الواهية المقدمة في ثياب
شرعية زائفة أصبح غير مقبول، ولا يقل خطراً وأثراً تخريبياً عن المذاهب
الهدامة، والبدع المدمرة التي يستعين مروجوها - بالإضافة إلى الحديد والنار وحيل
الاستعمار - بشراء الفتاوى الباطلة لتتقبلها الجماهير بأقل ما يمكن من التكاليف
والجهود.
إن الجهاد هو الجهاد: بذل لكل ما يمكن من الجهود في سبيل الله، ومدافعة
أعداء الله وأعداء رسوله بكل ما يستطاع من القوة، قوة البدن، وقوة السلاح، وقوة
المال، وقوة العلم والمعرفة، على هذا استقر الإسلام يوم استقر، وبعيداً عن هذا
الفهم الجامع لمعنى الجهاد نزلت بنا الكوارث، وفعلت بنا الأفاعيل.(19/4)
2 - الحج ذلك الموسم العظيم
إن فوائد الحج الفردية لا يمكن إنكارها أو المجادلة فيها، فهو تزكية للنفوس،
وتجريد لها من عوامل الضعف، وتزكية لها بالتصميم على الانخلاع من الذنوب
والآثام ولذة القرب من الله ومناجاته في المشاعر التي عظمها بنفسه: [وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ]
لكننا في هذه المناسبة نحب الإشارة إلى الجانب الاجتماعي والمظهر العالمي
للحج كمؤتمر للمسلمين يقفون فيه وقفة للمراجعة، شاكرين نعمة لله عليهم سائلينه
العون على تجاوز العقبات والصعاب.
وإذا ما أشرنا إلى بعض السلبيات في موسم الحج فلا يعني هذا الغفلة عن ما
لهذه الشعيرة من أثر في إصلاح أحوال المسلمين أفراداً وجماعات، بل هو مزيد
إلحاح على هذه السلبيات حتى تنمحي أو تقل ولا يكون ذلك إلا ببث الوعي عند
المسلمين المتوجهين إلى تأدية هذه الفريضة.
إن كل من أكرمه الله بأداء فريضة الحج رجع وقد رأى وشاهد أنواعاً من
التصرفات والسلوك بين صفوف الحجاج أقل ما يقال فيها أنها ليست من الإسلام في
شيء، بل إن روح الإسلام تخالفها أشد المخالفة، بل وتحاربها أشد الحرب، فهناك
جهل كبير بأحكام الحج وآدابه يؤدي إلى أضرار كبيرة بالحجاج، وإعطاء صورة
غير طيبة عن المسلمين وشعائرهم.
ولذلك وجب على العلماء وطلبة العلم كل بحسب قدرته تعليم المسلمين
ونصحهم سواء قبل سفر هؤلاء الحجاج من بلادهم أو بعد وصولهم إلى المشاعر
المقدسة، وحتى يثمر التعليم والنصح والإرشاد ثمرته المباركة ينبغي أن يصدر عن
مدارسة وتخطيط يقوم به العلماء الذين يعتبر موسم الحج مناسبة هامة لتجمعهم
لتدارس مشاكل المسلمين الحجاج سواء في أثناء تأديتهم المناسك، أو المشاكل العامة
المتعلقة بأوضاع المسلمين عامة.
إن أهم المقاصد من الحج أن يتعانق الهدفان الديني والدنيوي وينعكسان على
المسلمين خيراً وبركةً. وتتحقق السعادتان: سعادة الدنيا بتصحيح الأخطاء والقضاء
على السلبيات؛ وسعادة الآخرة بمغفرة الذنب ومرضاة الرب، أما التطلع لتحقيق
واحد من الهدفين منفصلاً عن الآخر فهذا مخالف لروح الآية الكريمة [لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ]
__________
(1) انظر كلاما حول هذا الحدث للشيخ محمد أمين المصري في كتابه سبيل الدعوة الإسلامية،
ص 71.(19/7)
في إشراقة آية
[ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ]
د. عبد الكريم بكار
هذه آية عظيمة القدر في كتاب الله - عز وجل -حيث إنها تسهم إسهاماً كبيراً
في تشكيل رؤية المسلم إلى أشياء كثيرة في عالم الأحياء وترتب على عدم الاهتداء
بهدي هذه الآية كثير من الخلل في حياتنا المعاصرة.
وما اخترناه ليكون عنوانا لهذه المقالة جزء من آية هي قول شعيب عليه
السلام لقومه [يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ
فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ
إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [الأعراف: 85] .
وسياق الآية وإن كان يدل في ظاهره على أن المقصود المباشر بـ (أشياءهم)
هنا ما يتبادله الناس في معاملات هم من المتاع، إلا أن ما يملكه الناس ويتمتعون
به من أخلاق وأفكار وتاريخ ... أولى بإقامة العدل وإنزاله في منازله من غير وكس
ولا بخس ولا شطط لما يترتب على الإخلال بذلك من الحقد والقطيعة والفرقة
وذهاب الريح ...
ولما كانت أصول دعوات الأنبياء - عليهم السلام - واحدة فإن الأمر بإقامة
الموازين والحكم بالعدل والإنصاف ظل الوصية الخالدة التي يوجهها كل نبي إلى
قومه؛ لأنه بالعدل قامت السماوات والأرض ...
وقد أوصى الله تعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يعلن لأمته
أمر الله له بإقامة العدل فيها، فقال: [وقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وأُمِرْتُ
لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ] [الشورى: 15] .
وأوصى المؤمنين بإقامة العدل مع الناس كافة حتى الأعداء الذين يبغضونهم
ويحاربونهم، فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة: 8] .
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقوم لله بالشهادة فيعطي كل ذي حق حقه،
وفي سيرته العطرة مئات الشواهد التي تفيد التزامه المطلق بإنزال الناس منازلهم،
وذكر محاسنهم وميزاتهم، مهما كان انتماؤهم وحيث كان موقعهم فهذا هو يقول: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» .
مع أن لبيد وقتها كان كافراً [1] ، وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يثني
على شعر بعض أصحابه المملوء حكمة وهدى بدافع حصر الخير فيهم، ولكن
الالتزام بالحق والإنصاف وعدم بخس أحد حقه يأبى ذلك فأثنى على كلام رجل كافر.
ومن الجدير بالذكر هنا أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه سمع لبيداً ينشد
البيت فلما قال:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل
قال له عثمان: صدقت، فلما قال:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال له عثمان: كذبت نعيم الجنة ليس بزائل.
وإن المرء ليعجب لهذا الإنصاف أيضاً من عثمان المقتبس من مدرسة النبوة
حيث أثنى في النصف الأول على لبيد، ويكذبه في النصف الثاني! ! .
وجاء المسلمون بسفانة بنت حاتم الطائي في السبي، فذكرت لرسول -صلى
الله عليه وسلم- من أخلاق أبيها ونبله فقال لها:
«يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه، خلوا
عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله تعالى يحب مكارم الأخلاق» [2]
لقد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حاتم الموقف الذي تمليه
شريعته الغراء التي جاء بها فأثنى عليه وأطلق سراح ابنته وأكرمها ولكنه لم يترحم
عليه لعدم إيمانه لتهتدي الأمة بهذا الهدي النبوي العظيم! ! .
ونبه -صلى الله عليه وسلم- النساء على ما يجري على ألسنتهن من انتقاص
أزواجهن وجحد معروفهم عند أدنى خلاف فقال: «أريتُ النار فإذا أكثر أهلها
النساء يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو
أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط» [3] .
وإن هذا الحديث يبرز قضية العدل إبرازاً يقل نظيره حيث جعل عليه الصلاة
والسلام جحوده سبباً كبيراً لكثرة وجود النساء في النار، وكأن كفران العشير يحدث
في الحياة الزوجية من الشروخ والندوب ما يوازي الجرائم الاجتماعية الكبرى.
وعلى هذا المنوال نسج الصحب الكرام رضوان الله عليهم حين إصدار
الأحكام على الخصوم فضلاً عن الإخوة والرفاق، فقد قاتل علي رضي الله عنه
الخوارج وقاتلوه ثم قتلوه، ولما سئل من قبل بعض الناس عنهم أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، فقالوا: أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً
- أي هؤلاء يذكرون الله كثيراً - قيل: فما هم يا أمير ألمؤمنين؟ قال: إخواننا
بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا! ! [4] .
فهل بعض إنصاف أبي الحسن من إنصاف؟ وهل هنالك كلام يقوله شاهر
سيف أرق من هذا الكلام؟ ! .
وظل روح العدل والإنصاف سارياً في الأمة قروناً عديدة، وتجلى ذلك بشكل
واضح جداً في القواعد التي صاغها المحدثون في الجرح والتعديل حيث وضحوا
الجوانب المختلفة لشخصية الراوي، وحكموا على كل زاوية على حدة، ثم انتهوا
إلى حكم عام حوله، وصار عندهم من الظواهر المألوفة أن يطلب أحدهم الدعاء من
رجل فإذا جاءه حديث عن طريقه حكم على الحديث بالضعف لأن طلب الدعاء مبني
على اعتقاد الصلاح، أما قبوله روايته فيعتمد على شيء آخر كضبط الراوي وعلمه
ونباهته، وغير ذلك ...
ولكن تراجعت هذه الرؤية الموضوعية الفذة فيما تراجع من الجوانب المختلفة
من حياة المسلمين وصار المنصفون الذين يجردون الشهادة لله، ويضعون الأمور
في مواضعها دون بخس أو تزيد من القلة الذين يشار إليهم بالبنان، ولنذكر بعض
النماذج التي ضربت بجذورها في حياة المسلمين اليوم، وصارت تشكّل ظاهرة
مرضية مزمنة، وذلك نتيجة التطفيف في المكاييل وبخس الناس أشياءهم:
1- يقوم شاعر ماجن أو ملحد بنظم قصيدة عصماء تتوفر فيها كل العناصر
الفنية المجمع عليها، فيتصدى لنقده بعض أهل الخير، فيسقطه ويشنع عليه غاضاً
الطرف عن كل إبداعه الفني، وما ذاك إلا لأن اتجاه ذلك الشاعر لا يروقه فاتخذ
منه موقفاً ثابتاً، حتى لو كان مضمون تلك القصيدة لا يمس أصولنا الاعتقادية، ولا
مسلماتنا المذهبية.
والواجب في مثل هذا أن يثنى على جوانب الإبداع في القصيدة، وينتقد
المضمون إن كان فاسداً نقداً أصولياً هادئاً عفيفاً.
ومن الواجب كذلك أن يفرق بين إنتاج الرجل الواحد فيثنى على الصالح منه
وينتقد ما فيه دخن، يقدم أحد الكتاب أو الشعراء خدمة جلى للمسلمين في كتاب أو
قصيدة ويتعثر في كتاب أو كتب أخرى فيعطى حقه في كل منها دون بخس أو
شطط، وحين يكون النقد أو الخلاف في وجهات النظر على هذا المنهاج يكون
إمكان الإصلاح أقوى، ونكون أقرب من الصواب، وأقرب للتقوى.
والرؤية التي يشكلها الإسلام لدى المسلم السوي في مثل هذا أن يشجع الأعمال
الإيجابية، ويثني عليها، ويكون عوناً فيها، فإذا رأى خللا نبه عليه، وحذر منه
وقام بالبلاغ المبين، ولو جرى مثل هذا في المجتمع لساد الانطباع بالإنصاف لدى
الفريقين ومَن بينهما من الناس ولأدى ذلك إلى تفتيت كتل المتشنجين والمتحاربين
الذين لا يرون لغيرهم فضلا، ولا يظنون فيمن خالفهم إلا سوءا.
2 - يتآخى بعض أهل الخير في الله ويسعون جهدهم لخدمة هذا الدين وأهله
صفاً واحداً، ثم تحدث اجتهادات أو أخطاء تؤدي إلى تباين وجهات النظر، فتنشأ
في الصف الواحد تيارات ومدارس، وقد يتطور الأمر فيجد بعضهم الاستمرار
مستحيلا مما يجعله يقعد أو ينحو منحى آخر يجده أجدى وأنفع.
وسرعان ما يختلف اتجاه الرياح، فيصبح الأخ الناصح أو القائد المحنك أو
الصادق المخلص جباناً، أو بخيلاً أو صاحب مصالح بل قد يصبح عميلاً أو منافقاً
... إلى آخر ما يجود به قاموس (عمى الألوان) من الأوصاف الشنيعة والاتهامات
المقذعة، ويصبح اللقاء بين الحميمين العدوين ضربا من المستحيل مع أن نظرة
متأنية منصفة في ساعة إنابة لله جل وعز كفيلة بتبديد الغيوم وإذابة الثلوج. وإنما
يحدث مثل هذا لخلل في التربية الاجتماعية وأسلوب التلقي وغياب المناهج
والمعايير الدقيقة التي يتحاكم إليها المتنازعون، وما غابت المناهج النيرة إلا كان
البديل هو الاتهام وسوء الظن وطمس الحقوق.
3-قد يحدث أن يسوق الله طالب علم إلى أحد المدرسين فيأخذ عنه بعض ما
عنده من العلم في بعض الفنون، ويشعر الطالب في بعض الأحيان أن ما عند هذا
الشيخ في تخصص ما لا ينقع الغلة، ولا يروي الصادي فيتجه إلى شيخ آخر
يلتمس ما عنده، وهنا يشعر الأستاذ الأول أن ما فعله هذا الطالب فيه نوع من إساءة
الأدب وعدم الوفاء بل قد يشعر أن هذا الطالب يوحي بأن ما عند الشيخ في هذا الفن
ضئيل الفائدة وحينئذ يبدأ تقطيب الوجه، والتصريح والتلميح والإشادة بأقران ذلك
الطالب الذين يمثلون الأدب والوفاء والعبقرية، ثم تكون الجفوة والقطيعة....
ونحن الآن في زمان ترك فيه الحلاق الحجامة، وقلع الأضراس، وترك فيه
الطبيب الفلك والحساب بل إن إحاطة المرء بكل فن من الفنون صار متعذراً نظراً
للتراكم الثقافي العظيم، والانفجار الهائل في المعلومات.
وهذا الداء قديم عندنا، وما لم تحرر النيات لله تعالى فستقطع رحم العلم،
ويحل الجفاء موضع الدعاء، والإزورار موضع التزاور. وكم تختلف الصورة لو
أن هذا الأستاذ أرشد تلاميذه إلى أولى الاختصاص ليفيدوا منهم إذا لقارضه الثناء
الأستاذ الآخر ولاتصلت الأنساب العلمية وأثريت الحياة الثقافية، وقبل هذا وذاك
حصول الالتزام بمنهج لله تعالى الذي لا يرضى لعباده التباغض والتحاسد وبخس
الحقوق ...
والخلاصة أن هذه الآية الكريمة مما عطل به العمل عند كثير من المسلمين،
ونشأ عن هذا التعطيل مرض اسمه: (عمى الألوان) ولكنه في البصيرة دون البصر، فأطفئت ألوان كثيرة لا تكاد تحصى كانت تتوهج بين الأبيض والأسود، وكثر
النمط الذي يقرظ ب: (وحيد دهره وفريد عصره) والنمط الذي يقول فيه (الرجال)
ما رأينا منه خيرا قط ...
__________
(1) فتح الباري 7/1530.
(2) البداية والنهاية 2/198.
(3) صحيح البخاري 1/24.
(4) البداية والنهاية 7/300.(19/9)
مصطلحات إسلامية
(الإحسان)
إعداد: عادل التل
تتميز اللغة العربية بسعتها وكثرة مدلولات ألفاظها وشمولها لمعان متقاربة،
وقد جاء الشرع (القرآن الكريم والسنة النبوية) بألفاظ معينة لأحكام محددة، وبين
بشكل واضح المعنى المراد من كل لفظ وحدد المقصود منها مما أغنى - في هذا
الموضع - عن الرجوع دائما إلى أصل اللغة، وأصبح هذا التخصيص هو المرجع
في فهم نصوص الكتاب والسنة، ونشأ علم المصطلح عند العلماء المسلمين ليساهم
في توضيح هذه القضية، وسنقدم خلال هذه الصفحات مصطلحات إسلامية نحتاج
إليها دائما.
المعنى اللغوي:
الإحسان: مصدر أحسن، يحسن، إحسانا. يقال على معنيين:
1 - أحدهما متعد بنفسه كقولك: أحسنت كذا أي حسنته وكملته وهو منقول
بالهمزة من حسن الشيء.
2 - متعد بحرف الجر كقولك أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينتفع به.
والحسن أصل واحد في اللغة وهو ضد القبح، وهو عبارة عن كل مرغوب فيه،
ومنه الحسنة يعبر بها عن كل ما يسر النفس من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه
وأحواله، والسيئة تضادها ومنه الإحسان ضد الإساءة.
المعنى الاصطلاحي:
يجتمع الإحسان والإنعام بمعنى العطاء ولكن الإحسان أهم من الإنعام، بحيث
يكون الإحسان للنفس، بينما لا يكون الإنعام إلا للغير، وكذلك الإحسان والعدل
ولكن الإحسان فوق العدل لقوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ] فالعدل
هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقل
مما له، لذلك قيل تحري العدل واجب بالشرع، وتحري الإحسان ندب وتطوع.
ولقد عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإحسان حين أجاب جبريل
عليه السلام: «الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
أخرجه البخاري.
قال ابن الأثير في معنى الإحسان هنا: الإخلاص، وقال القرطبي: هو
راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة المكملة، ومراقبة الحق،
واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار، وأرباب القلوب في هذه
المراقبة على حالين:
أحدهما: غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه، ولعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- أشار إلى هذه الحالة بقوله: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
وثانيهما: لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه،
ومشاهد له، وإليه الإشارة بقول الله تعالى: [الَذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ] ، بينما يعتبر ابن تيمية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الدين
ثلاث درجات، أعلاها الإحسان وأوسطها الإيمان؛ ويليه الإسلام، لقول الله تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ومِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ] فالإحسان يدخل في الإيمان والإيمان يدخل في
الإسلام.
من أحكام المصطلح:
1 - إن الإحسان درجة عالية في مراتب الدين يجب على الإنسان أن يسعى
إليها بنية صادقة ومجاهدة مستمرة، قال تعالى: [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ] .
2 - الإخلاص في العمل، قال سفيان بن عيينة: (كان العلماء فيما مضى
يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته،
ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه
الله أمر دنياه) .
3 - إن الدعاة إلى الله بحاجة أن يتمثلوا بهذه الحقيقة ويكونوا في مستوى هذه
المنزلة الرفيعة، فالدعوة إلى الله تحتاج دائما إلى جيل متميز يصبر على مشاق
الدعوة، ويجتاز الصعاب، يقول تعالى: [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ
وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ (33) ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ (34) ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ
الَذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] .
4 - أمر الإسلام بالإحسان في كل شيء، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبحة ... ) أخرجه مسلم.
5 - عندما يصل المسلم إلى هذه الدرجة العظيمة من الإحسان والتقوى،
وكلما أوغل قلبه في هذا الطريق، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع، ولا يبالي بعد ذلك
بما يصيبه من بلاء أو يواجهه من أهوال، ينطلق بدعوته للخير دون خوف أو
خجل ...(19/15)
خواطر في الدعوة
الفرصة المتاحة
محمد العبدة
إن ما يحدث على الساحة العالمية هذه الأيام شيء يحتاج إلى وقفة تأمل وتدبر، فموجة المطالبة بالحريات الديمقراطية في الحكم تجتاح أعتى الدول دكتاتورية
وقبضة حديدية، أمريكا الجنوبية ترجع شيئاً فشيئاً إلى طريق الانتخابات، الدول
الشيوعية وعلى رأسها روسيا تقوم فيها المظاهرات مطالبة بإعادة الاعتبار للشعوب
المقهورة، هل كان أحد يتوقع أن تقوم مظاهرة في موسكو؟ ! والروس هم الذين
سحقوا الشعوب التي طالبت بشيء من الحرية، وما يحدث في الصين أعجب، لقد
تظاهر المسلمون أيضاً يطالبون بحقوقهم، رغم أن العسكر رجعوا إلى عادتهم
القديمة في قمع هذا الاتجاه.
لقد أفلست الشيوعية ومن قبلها الرأسمالية رغم أن الغرب يحاول الآن استغلال
هذا الانهيار في الجانب الشيوعي ليقول للناس: إن البديل هو الليبرالية الرأسمالية، ولكن فعلهم هذا كمن يحاول تجميل وجه قبيح، أو إرجاع الشباب إلى عجوز
شمطاء، فالغرب وإن كان فيه بقية من قوة وحيوية سيتشبث بها وينفخ في نفوس
أهله النزعة الاستعمارية المتأصلة، إلا أن الخلل والانحطاط في الحضارة الغربية
باد واضح للعيان، إذن ما هو البديل العقائدي أو الفكري الذي يطرح نفسه في هذه
الأيام؟ .
إن الإنسان لا يستطيع العيش في فراغ، لابد من شيء يملأ جوانحه، لابد أن
يعبد شيئاً ما، وأصدق الأسماء على الإنسان كما قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «حارث وهمام» فلا بد له من هم يشغله، وليس هناك سوى الإسلام.
وإذا كانت اليابان سترث الغرب اقتصادياً ومالياً، كما يتوقع بعض كتاب
الغرب المعاصرين، فإنها لا تستطيع أن تملأ الفراغ، اليابان لا تملك فكراً متميزاً
تقدمه للناس.
فهل يعي المسلمون خطورة مكانهم ومكانتهم ودورهم المهيأ لهم؟ وهل
يستطيع المسلمون إعطاء صورة صادقة عن هذا الدين مما يجعل بعض النفوس
التي أراد الله لها الهداية أن تقبل على الإسلام؟ إن الأخلاق الإسلامية العالية،
واتحاد الكلمة ووضوح الفكر، من أكبر الأسباب التي تؤثر في هؤلاء الناس، إنها
فرصة متاحة لنشر الدعوة، وتوعية المسلمين الذين كانوا مقهورين تحت الحكم
الروسي أو الصيني، وتوعية الجاليات الإسلامية في كل مكان.
وإذا كان الجهاد من أساسيات الدعوة، فإذا انعقدت سوقه وفتح بابه فهو من
أسباب إظهار قوة الإسلام وعظمته والتبشير به فكذلك إذا أتاح السلام في بعض
المناطق فرصة للدعوة فيجب أن تستثمر وتستغل كما حدث في صلح الحديبية حيث
أعطيت فرصة كبيرة للمسلمين في التنقل وجلب أنصار جدد، إن الفرص كثيرة،
والمهم هو أن يهتبلها المسلمون في الوقت المناسب.(19/18)
من أعلام أهل السنة والجماعة
عبد الله بن المبارك العالم المجاهد
د. محمد بن مطر الزهراني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فان الله اصطفى من خلقه أنبياء ورسلاً، وجعل خاتمهم أفضلهم، وإمامهم
محمداً -صلى الله عليه وسلم-، وجعل رسالته خاتمة الرسالات، ودينه ناسخاً لما
قبله.
ثم اختار لصحبته صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام،
وقد كانوا - بفضل الله - جديرين بذلك الاختيار، فحملوا الرسالة من بعده -صلى
الله عليه وسلم- وكانوا أمناء على أدائها على الوجه الأكمل، وكانوا المجتمع
الأنموذج والتطبيق الفعلي لمبادئ تلك الرسالة، ووسيلتهم في ذلك:
1- السلوك العملي الذي هو تطبيق لمبادئ الرسالة.
2- وتعليم الناس دين الله.
3- والجهاد لإعلاء كلمة الله.
4- والصبر على الأذى والمشاق في سبيل الله..
فتخرج على أيدي هؤلاء الأئمة الأعلام تلاميذ نجباء كانوا على حمل الرسالة
من بعد أشياخهم أمناء، وهكذا خرّج كل جيل جيلاً بعده يحمل الرسالة ويؤدي
الأمانة، وهذا من حفظ الله لهذا الدين الذي ختم به الأديان.
وكان من يهتدي بهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده
ويسلك منهجهم في كل صغيرة وكبيرة يعرفون بأهل السنة والجماعة، ومن هؤلاء
أهل الحديث المشتغلون بالسنة النبوية وخدمتها قولاً وعملاً، ومن خالف منهج
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام عرفوا بأصحاب الأهواء أو (المبتدعة) ، وكان على رأس هؤلاء الخوارج والروافض والجهمية والقدرية
والمرجئة والمعتزلة وغيرهم من تلك الطوائف المنحرفة عن ذلك المنهج القويم.
وكلمة أهل الحديث أصبحت علماً - في القرون الثلاثة المفضلة - على من
اتصف بهذه الصفات:
1- الاشتغال بخدمة السنة النبوية سنداً ومتناً، حيث ظهر على أيديهم علم
الرجال، وعلم مصطلح الحديث الذي امتازت به الأمة الإسلامية عن غيرها من
الأمم.
2- الالتزام بالكتاب والسنة قولا وعملاً، عقيدة وعبادة معاملات وسلوكاً،
سياسة واجتماعاً مع فهمها الفهم الصحيح على نهج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وصحابته الكرام.
3- عدم تأويل آيات وأحاديث الصفات، أو صرفها عن ظاهرها بغير دليل.
4- عدم تحكيم العقل والهوى في النصوص بدون دليل صحيح، كما فعل
المبتدعة من جهمية ومعتزلة وغيرهم ممن انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة.
5- فضح أهل البدع والأهواء وبيان ضلالهم وانحرافهم وتحذير الأمة منهم
ومن ضلالاتهم، كل ذلك نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
6- الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله، وذلك بالسنان
والبيان، كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رض عنهم.
وقد وصف الحافظ ابن حبان في مقدمة صحيحه أهل الحديث، فقال:
( ... ثم اختار طائفة لصفوته، وهداهم للزوم طاعته، من اتباع سبل ...
الأبرار، في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان،
من كشف أعلام دينه وأتباع سنن نبيه بالدُّؤوب في الرحل والأسفار، وفراق الأهل
والأوطان في جمع السنن ورفض الأهواء، والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم
للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وأحكموه، وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه وأصلوه، وفرعوا عليه وبذلوه ... ) [1] .
وسأعرض تحت هذا العنوان (من أعلام السنة والجماعة) نماذج من أولئك
الأئمة الأعلام مبينا حسب الإمكان جهودهم العلمية والعملية في خدمة هذا الدين
وتعلمه وتعليمه للناس، لعل شباب الإسلام اليوم يجدون في الاقتداء بهؤلاء الأئمة
ويحذون حذوهم فيحيون منهج أهل السنة والجماعة بين الناس ويكونون الأنموذج
العملي لمبادئ تلك الرسالة كما كان أسلافهم من أهل القرون المفضلة.
وأول ما أبداً به من هؤلاء الأعلام إمام أهال السنة في خراسان في زمانه،
وقدوة المتقين في وقته، العالم الرباني المجاهد: عبد الله بن المبارك أبو عبد
الرحمن التركي الأب، الخوارزمي الأم، ولد سنة ثماني عشرة بعد المائة وتوفي
سنة إحدى وثمانين ومائة [2] .
قال الإمام الذهبي: ( ... الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في
وقته، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، سمع من هشام بن عروة، وإسماعيل بن
أبي خالد، وسليمان الأعمش، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، ويحيى بن سعيد
الأنصاري، وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، وابن جريج، ومالك بن أنس،
والثوري، وشعبة، وخلق كثير.
وروى عنه داود العطار وابن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، ومعتمر بن
سليمان، ويحيى بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله وهب، وعبد
الرزاق الصنعاني وخلق غيرهم) [3] .
مكانته العلمية:
قال الخطيب البغدادي: كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين
بالحفظ ومن المذكورين بالزهد.
وقال عبد الرحمن بن المهدي: ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري،
ولا أحسن عقلاً من مالك، ولا أقشف من شعبة، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله
بن المبارك.
وقال الأسود بن سالم: كان ابن المبارك إماماً يقتدي به، وكان من أثبت
الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام.
وقال سفيان بن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت
لهم عليه فضل إلا بصحبتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وغزوهم معه.
وقال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام
الناس والشجاعة. والسخاء والتجارة.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه [4] .
هذه شهادات أئمة عدول تبين لنا تلك المكانة العالية التي كان يحتلها هذا الإمام
المجاهد، والعالم الرباني بين علماء الأمة، هذه المكانة لم يكن ينالها ابن المبارك لو
أنه آثر أن يعيش كما يعيش غيره من الناس على هامش الحياة آثر الدعة والراحة
على الجد والجهاد والتضحية والبذل..
بل كان همه رحمه الله وشغله الشاغل نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله،
فكان يبذل في سبيل ذلك نفسه وماله وعلمه وصحته ووقته رحمه الله ورضي عنه.
جهوده في خدمة منهج أهل السنة والجماعة:
تلقى الإمام ابن المبارك هذا المنهج الصافي عن شيوخه من التابعين وهم تلقوه
عن الصحابة رضوان الله عليهم، فبذل رحمه الله في سبيل تأصيل ونشر منهج أهل
السنة والجماعة كل غال ونفيس لديه ولقد كانت حياته كلها خدمة لهذا المنهج،
وتطبيقا عمليا لمبادئ منهج أهل السنة والجماعة، وقد عبر عن ذلك الأسود بن سالم
فيما رواه الخطيب بإسناده إليه قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من
أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على
الإسلام [5] .
هكذا كان ابن المبارك، وهكذا كان السلف الصالح كل حياتهم وحركاتهم
وسكناتهم لدينهم الذي يدينون به لله لا مجال لغير ذلك في حياتهم كلها وليس في
حياتهم مجال لازدواج الشخصية.
وهذه نماذج من تلك الجهود التي قام بها ابن المبارك في سبيل تأصيل هذا
المنهج والدعوة إليه:
أولا: في مجال العقيدة:
كان لابن المبارك رحمه الله موقف من أهل البدع والأهواء، وهو موقف
المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة هذه
الأمة عقيدة أهل السنة والجماعة، لذلك نجده يوصى أحد تلاميذه فيقول: ليكن
مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة [6] .
وهذه بعض مواقفه:
- روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية بإسناده إلى
ابن المبارك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله تعالى من كثرة ما
أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس
بشيء [7] .
- وأخرج الذهبي بإسناده إلى على بن الحسن بن شقيق قال: سمعت ابن
المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام
الجهمية [7] .
-وعنه أيضاً قال: قلت لعبد الله بن المبارك: كيف يعرف ربنا عز وجل قال: في السماء على العرش، قلت له: إن الجهمية تقول هذا قال: لا نقول كما تقول
الجهمية: هو معنا هاهنا.. [8] .
قال الذهبي - معقبا - قلت: الجهمية يقولون: إن الباري في كل مكان،
والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله تعالى: [وهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ] [الحد يد: 4] ، يعني بالعلم، ويقولون: إنه على عرشه استوى، كما نطق به القرآن والسنة.
وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله
تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفات وأحاديثها كما جاءت من
غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على
الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة، لا
مثل لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة، لا مثل لها [8] .
وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى عمار بن عبد الجبار قال: سمعت ابن
المبارك يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار، فقلت
لابن المبارك: فما رأيك؟ قال: رأيي رأي سفيان [9] .
- وفي كتاب السنة للإمام أحمد عن إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن
المبارك يقول: الإيمان قول وعمل، الإيمان يتفاضل [10] ..
- وفي كتاب الصلاة لابن القيم عن يحيى بن معين قال: قيل لعبد الله بن
المبارك: إن هؤلاء يقولون: من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن
مستكمل الإيمان، فقال ابن المبارك لا نقول نحن ما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة
متعمداً من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر [11] .
- وقوله هذا والذي قبله وما سيأتي هو رد على المرجئة القائلين: لا يضر
مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
روى أبو عثمان الصابوني عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - ابن راهويه -
قال: قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العباد - الظن أنه يذهب مذهب
الخوارج - فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر، قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرت
مرجئيا، قال: لا تقبلنا المرجئة، المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قبلت منى حسنة لشهدت أنى في الجنة [12] .
هذا هو موقف عبد الله بن المبارك من أصحاب البدع والأهواء المنحرفة إنه
موقف العالم المجاهد العارف لدينه، والناقد البصير لتلك المبادئ الهدامة التي يدعو
إليها أصحاب الأهواء، والمتيقظ لخطر تلك العقائد الدخيلة على الإسلام والمسلمين، والتي أدخلها عليهم أعداء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من اليهود
والنصارى والمجوس والصابئة، وما تؤدي إليه من فساد في الاعتقاد، وفساد في
الدين، وفساد في الأخلاق.
إنه يتبرأ من عقائد الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية
والفلاسفة، ويبين فساد مقالاتهم ومذاهبهم، وفيما نقلناه من النصوص عنه يصرح ببطلان هذه العقائد المنحرفة.
ثم هو في أثناء ذلك لا يغفل عن بيان منهج أهل السنة والجماعة في الإيمان
بالله بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله -صلى الله عليه
وسلم-، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة والتسليم لهما، وعدم تقديم العقل
عليهما أو تحكيمه فيهما، وفي احترام الصحابة والترضي عنهم وعدم الخوض فيما
جرى بينهم، وكان يحذر من الرواية عمن يسبهم رضى الله عنهم، روى ذلك الإمام
مسلم في مقدمة صحيحه عن على بن شقيق قال. سمعت ابن المبارك يقول على
رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف [13] .
__________
(1) 1/84-85 من مقدمة صحيح ابن حبان، ط مؤسسة الرسالة.
(2) سير أعلام النبلاء 8/336، الطبعة الأولى.
(3) تاريخ بغداد 10 /152- 153 طبعة المكتبة السلفية بالمدينة.
(4) انظر تاريخ بغداد 10 /156 -163 سير أعلام النبلاء 8 /336 - 346، هذا وهناك أقوال كثيرة في الثناء وبيان مكانته آثرت الاقتصار هنا على أهمها وأجمعها.
(5) تاريخ بغداد 10/167 -168 المكتبة السلفية بالمدينة.
(6) سير أعلام النبلاء 8 / 353، ط الأولى.
(7) سير أعلام النبلاء 8 / 353 -356، ط مكة المكرمة.
(8) سير أعلام النبلاء 8 / 355 -356، ط مكة المكرمة.
(9) حلية الأولياء 7 /28.
(10) كتاب السنة 1 /5 7، ط السلفية بمكة سنة 1349 هـ.
(11) كتاب الصلاة 63 ط المكتب الإسلامي.
(12) عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني / 70.
(13) مقدمة صحيح مسلم 1/ 16، وعمرو بن ثابت هو ابن أبي المقدام ضعيف رمي بالرفض مات سنة 172 هـ (التقريب / 257) ط الباكستانية.(19/20)
من قضايا العلم والتعلم
حديث عن المقاصد
-1-
د. عبد العزيز القارئ
أول ما نفتتح به الكلام عن العلم والبحث، وقضايا التعلم والتعليم ومشكلات
العالم والمتعلم: هو الحديث عن المقاصد، وهو حديث ذو شجون، وأي شئون
المسلمين اليوم يخلو من الشجون؟ لِمَ نتعلم؟ تحديد الهدف والمقصد في مجال العلم
والتعليم هو المسألة الأولى، وعليها تبنى سائر المسائل، لأن كل شيء يصاغ على
ضوء الهدف والمقصد.
العلم في الإسلام يجب أن يكون لهدف واحد فقط: وجه الله والدار الآخرة،
وعلى ضوء هذا الهدف يقال: إن المؤمن إنما يتعلم ليعرف الله ويعبده ليعمر
الأرض بعبادته، حتى عمارة الأرض هي وسيلة لعبادة الله، فإذا أصبحت وسيلة
لغير ذلك أو أصبحت غاية فقد فسد المقصد. بعضهم يجلها غاية لأنه لم يفهم قوله
تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [يونس: 14] ، أو قوله تعالى: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: 61] ، ومعنى الآيتين: أن الإنسان جعل خليفة في الأرض ليعمرها بعبادة الله، أما
عمرانها المادي فهو وسيلة، أي هو مطلوب بمقدار ما يخدم تلك الغاية ليس أكثر،
إذ لا يتصور أن يكون هدفاً شرعياً أن يضع حجر على حجر، أو مدراً على مدر
إذا كان هذا لا يحقق غاية أخرى.
نقول هذا لنؤكد على أن الهدف المذكور هو لمجمل عملية العلم والتعلم مهما
اختلفت مجالاتها، لا نفرق في هذا بين علوم الدين وعلوم المدنية، فإن ظاهرة (التمدن) أو (العمران المادي) تتطلب علوما يلهث وراءها أكثر المتعلمين، كما أن
ظاهرة (التدين) تتطلب علوماً أخرى يسعى لنيلها آخرون.
مجمل التعلم والتعليم في هذا المجال أو ذاك يجب أن يدور حول ذلك الهدف
ظاهرة التمدن أو (العمران المادي) لما انقلبت غاية بذاتها أصبحت مشكلة في حياة
المسلمين، لأنها أصبحت انحرافاً على ضوء ما قررناه آنفاً، وهي المشكلة التي
يعبر عنها أحيان بـ (الترف) .
المؤمن يعمر من الأرض بمقدار ما يعينه ذلك على عبادة الله وأداء فرائضه
أي بمقدار ما يكنه ومعنى يكنه: أي يقيه مختلف الغوائل التي يمكن أن تعوقه عن
عبادة الله أو تعرض حياته للهلاك وبمقدار ما يستر عوراته وحرماته عن الأعين،
هذا على مستوى الفرد والمجتمع، وعلى مستوى المجتمع يضاف إلى معنى الإكنان
شيء آخر: هو الحاجة إلى ما يعينه على أداء رسالته العالمية التي تلخص في
كلمتين: الدعوة، والجهاد.
أنا أعلم أن قلمي وهو يسطر هذه الحقيقة يبتعد كثيراً عن الواقع لأن واقع
المسلمين في هذه المسألة ابتعد كثيرا عن المبدأ الإسلامي واقترب كثيرا من النظرة
الإفرنجية للحياة، و (الإفرنج) يتخذون (التمدن) غاية، لأنهم اتخذوا الحياة الدنيا
نفسها غاية، فهم لا يعرفون الله، ولذلك لا يبنون شيئاً للآخرة، [وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ
هُمْ غَافِلُونَ] [الروم: 7] ، إنما يبنون لحياتهم الدنيا فقط.
لهذا فإن عملية التعلم والتعليم في ظلال هذه النظرة (الإفرنجية) يكون هدفها
منقطع الصلة بالآخرة.
لو سألت هذه الآلاف المألفة المحتشدة في الجامعات: لماذا تتعلمون؟ فكم منهم
من يتذكر عبادة الله وكم منهم يذكرك بالآخرة؟ تأمين المستقبل الوظيفي هو هدف
السواد الأعظم، ولا يلزم أن يصرح بذلك بلسان المقال، فلسان الحال يهتف به.
أما على مستوى التخطيط العام في المجتمع فالهدف أكثر بريقا، لكنه يحمل
نفس المعنى. الإسهام في عملية بناء الوطن، والمقصود الأول البناء المادي، فهو
الذي يستغرق معظم برامج خطط التنمية، وهذه الخطط تخضع لها كل الجوانب بما
فيها العلم والتعلم.
لم أسمع في أي بلد من بلاد المسلمين أن خطة التنمية فيها وضعت لتحقيق
عبادة الله عز وجل، قد يسخر منك المخططون! ! تضع خطة خمسية أو عشرية
لتحقيق عبادة الله؟ هل هذا يحتاج إلى خطة؟ [إن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ
كَمَا تَسْخَرُونَ] [هود: 38] ، نسخر من هؤلاء الذين تدور حياتهم وخططهم
وبرامجهم وعلمهم وتعليمهم حول نفسها، تخططون من أجل الحياة؟ والحياة من
أجل ماذا؟ فلماذا لا تختصرون الطريق وتتخلصون من عقدة هذا الانحراف إلى
النظرة (الإفرنجية) فتخططون الحياة من أجل الذي وهبكم الحياة، وهو قد صرح في كتابه أنه إنما وهبكم الحياة لتعبدوه: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] [الذاريات 56 - 58] ، لو جعل المخططون والمبرمجون الأساس والمنطلق هو هذا؛ كم تتغير خططهم وبرامجهم.
من المؤسف جداً أن نقول: إن فساد العلم والتعليم في حياتنا بدأ بفساد المقاصد، فإذا عدنا إلى مجال علوم الشريعة نجدها ألصق من غيرها بذلك الهدف. ابتغاء
وجه الله والدار الآخرة.
أليست علوم الشريعة إنما يتطلبها مبدأ (التدين) ؟ وهذا المبدأ في النفوس كلها
فطرة فطر الله الناس عليها، فهذا هو روح التدين: ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
فانظر كيف يكون قبح الانحراف عندما تتخذ علوم الشريعة وسيلة لغير هذا
الهدف، أي عندما تفسد النية ويفسد المقصد.
إن هؤلاء الذين اتخذوا علوم الشريعة مطية لتحقيق الرغبات الدنيوية
والشهوات الأرضية أقبح انحرافاً وأسوأ ذنباً من أولئك الذين اتخذوا علوم التمدن
مطية لذلك، لأن علوم الشريعة ألصق بذلك الهدف الشرعي من علوم المدنية.
تصور واحداً يتعلم كيف يخبز ويعجن لإشباع شهواته أليس ذلك أخف قبحاً
ممن يستعمل الحديث والفقه من أجل الشهوات نفسها؟ ! كلاهما منحرف، لكن
الوعيد لهذا أشد من الوعيد لذاك.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه
الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» [1] .
أما كيف يقع طلاب علوم الشريعة في فساد المقاصد، فإذا بهم يتعلمون مما
يبتغى به وجه الله لا يتعلمونه إلا ليصيبوا به عرض الدنيا فإن لذلك عوامل كثيرة
من أهمها:
1- ضغوط المجتمع الفاسد من حولهم:
طلاب علوم الشريعة جزء من المجتمع، فهل تكتب لهم النجاة والسلامة مما
أصاب الكل من تلف وفساد؟ .
المجتمع بمجموعه يلهث خلف الحياة الدنيا، إنه متشبث بها، والقلوب متعلقة
بزينتها، لا يكاد يسلم قلب منها-إلا من رحم الله-، ومن شدة تعلق القلوب بشهوات
الدنيا وزينتها أصبح هذا التعلق عبادة، وأصبحت هذه الشهوات آلهة تعبد من دون
الله. إليكم الدليل:
قد يجترئ زنديق على المساس بجناب الشرع والدين، وفي -بعض بلاد
المسلمين تصل الجرأة بالزنادقة إلى حد المساس بجناب الألوهية -ألوهية الله عز
وجل -، ومع ذلك لا يتحركون! ! المسلمون لا يتحركون حتى لو شتم الله تعالى،
قد يتململون، يستنكرون بقلوبهم، أحيانا بألسنتهم - على استحياء-، لكن لا تصل
قوة الدافع إلى الدرجة التي تحركهم، وتدفعهم إلى التعبير المؤثر عن غضبهم.
سبحان الله! ما هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية؟ ! هذا الشلل في العواطف، في الإيمان، في العقول، مرض خطير كيف أصيبت به هذه الأمة؟ ! .
أما إذا أحسوا أن شهوة من شهواتهم ستعاني من الحرمان -خاصة شهوة
البطون - لو اعتدى على جنابها فالويل ثم الويل لمن يمس جنابها يتحركون (غريزياً) وينفجرون.. الأمثلة على ذلك كثيرة في جميع بلاد المسلمين.
في بلد أفريقي مسلم، الإسلام فيه عريق، كم خرج للأمة من علماء، ثم لما
أصيب بالمرض تحكم في مصيره طاغية خبيث، من جرأته واستخفافه بعواطف
الأمة التي يحكمها، واستخفافه بإيمانها ودينها أغلق الجامعة الوحيدة الإسلامية فيها، وبقيت مغلقة ثلاثين عاماً، ثم أسقط الصيام عن العمال، وبدأ يدخله الزهو
والكبرياء بل بدأ يتوهم أنه أصبح إلهاً، يفعل ما يفعل والشعب يرضخ ولا يقول
شيئاً، لا يعترض ولا يتململ -لماذا لا يتململ؟ - لأنه مشلول، توهم ذلك الطاغية
أنه إله فتحدى الإله الحقيقي.
سأله مرة صحفي إيطالي: أتؤمن بوجود الله يا فخامة الرئيس؟ أجاب: إذا
كان الله موجوداً فسيغفر لي شاء أم أبى.
وقرأ ذلك الشعب هذا الكفر الشنيع، بل قل هذا الاستخفاف الشنيع بعواطف
الشعب ومقدساته، قرأوا هذا الكلام ولم يتحركوا، ولو حركة عفوية، فإنها كانت
على الأقل تدل على أن ذلك الشعب موجود لم يمت، لكنه لم يتحرك، لأنه وإن
كان موجوداً فقد كان مشلولاً، واستطاع ذلك الطاغية أن يجثم على صدر هذا
الشعب المسلم ثلاثين عاماً، أي والله ثلاثين عاماً، وبعد هذا العمر الطويل تحت
ذل طاغية زنديق تحرك ذلك الشعب، ولكن احتجاجاً على رفع أسعار الرغيف! ! .
وفي بلد أخر اعتدي على جناب الدين في صفحات المجلات، وفي
المسرحيات، وفي ما أمكنهم من وسائل الإعلام، حتى سخروا من مقام النبوة ثم
صوروا سيدنا ونبينا محمداً بصورة ديك، ثم انقض فرعون ذلك الشعب المسلم على
نخبة من العلماء والشباب المسلم فصلبهم ونكل بهم، بينما الشعب يتفرج، ولا
يتحرك، كأنما هو مكبل موثق بالحبال، ولكني رأيته بنفسي عندما ثار فجأة كيف
فعل، لقد أصبحت العاصمة خلال بضع ساعات كأنها أطلال محترقة من التدمير،
لقد انطلقت الجموع تدمر كل شيء، ما هذا الذي أشعلها وأطلقها من عقالها؟ الحاكم
بأمره العصري أمر برفع أسعار الخبز والشاي والفول! ! .. لا أريد التشنيع على
هذه الشعوب، فإنها شعوب مسلمة لها تاريخ - وأي تاريخ -، ولا أريد بعث اليأس
والقنوط في نفس أحد، فإن كل متبصر يعلم ماذا يمكن أن تفعل هذه الشعوب
المسلمة، لو انطلق دافع الإيمان في القلوب، أو لو برئت تلك الشعوب من ذلك
الداء العضال، داء الشلل..
ولكن متى تشفى من هذا الداء العضال المزمن؟ الطواغيت الذين سلطوا على
رقاب هذه الشعوب المسلمة يتواصى كل منهم برعاية هذا الشلل، وبتدمير أي
محاولة لعلاجه، وبذلك أصبحت مهمة الإصلاح تتطلب جهوداً قوية ثابتة دائبة
طويلة قد تستمر أجيالا، المهم أن تكون منظمة على منهج سليم، وسائرة على
طريق مستقيم. وهل هناك إلا المنهج النبوي. والطريق القرآني؟ .
إذا كان هذا هو حال الشعوب المسلمة والمجتمعات المسلمة فكيف يكون حال
طلاب علوم الشريعة؟ الموقف الطبيعي أنهم ما داموا يعيشون في كنف المجتمع
وهم جزء منه أن يتأثروا به، أو يؤثروا فيه، ولكي يقدروا على التأثير فيه عليهم
أن يتحرروا من تأثيراته السيئة المرضية، وكيف يمكنهم ذلك؟ من هنا جاءت
الحاجة الضرورية إلى البديل، على هؤلاء أن يبحثوا عن البديل الذي يلجئون إليه
فراراً من الواقع الفاسد.
لابد أن يؤمن لهم مناخ تتوافر فيه الصحة والسلامة من عوامل التلف والشلل
الذي أصاب المجتمع الكبير، فإن لم ينشأ لهم هذا البديل، فالموقف الطبيعي الذي
تمليه سنن الله في خلقه أن ينشئوا هم البديل بأنفسهم.
وإنه لمن المستغرب أن يكون هناك عاقل يفضل إغماض عينيه ودس رأسه
في الرمال، فتراه يعيش في وهم الانتظار: انتظار أن يرق قلب الطاغوت فيتفضل
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما بالغ بعضهم في أوهامه فتوقع أن يرفع
الطاغوت راية الجهاد ضد الزنادقة والكفرة والملحدين.
إن كان هؤلاء لا يدرون فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم،
هي سنن الله في خلقه لن تجد لها تبديلاً، أن الكافرين وعلى رأسهم الطواغيت لا
يعبدون ما نعبد، أفيبدل الله سننه من أجل جيل من الكسالى يدسون رؤسهم في
الرمال، مع أنه سبحانه لم يبدل سننه من أجل نبيه وخليله ومصطفاه محمد -صلى
الله عليه وسلم-؟ لا مطمع في ذلك.
من عليه إذن أن يتولى تهيئة هذا المناخ، حتى يأوي إليه طلاب علوم
الشريعة؟
__________
(1) رواه احمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، كلهم في حديث أبي هريرة.(19/27)
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
- 5 -
محمد العبدة
الإقلاع باتجاه حضارة:
التوتر الروحي، أو الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان، والاندفاع فيه
والحماس له حتى يأخذ عليه مجامع نفسه ويملك عليه قلبه، هو بداية الإقلاع عند
مالك بن نبي كما ذكرنا في نهاية المقال السابق، فلكي نبني حضارة، أو نعيد دورة
الحضارة لابد أن نصل إلى هذا المستوى من الاندفاع في تطبيق الإسلام..
يجب أن تعود شبكة العلاقات الاجتماعية لتربط العوالم الثلاثة (الأشخاص،
والأفكار، والأشياء) والمقصود بشبكة العلاقات هو القدرة على التعاون والتنسيق
بين هذه العوالم الثلاثة واستخدام الأفكار والأشياء في محلها -المطلوب منها،
والأخلاق العالية التي في ظلها يستطيع المجتمع إنتاج حضارته، والمؤاخاة الحقيقية
هي إحدى الدعائم الرئيسية للإقلاع، فالطاقة الروحية التي دفعت سعد بن عبادة لأن
يقول: (يا رسول الله خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت) هي التي جعلت الصحابة يحفرون الخندق حول المدينة بأدوات بسيطة، وبأيام
قليلة، وهي التي كانت وراء اعتراف المرأة الغامدية، وهي تعلم أن عقوبة
اعترافها هو الرجم بالحجارة، وعندما تاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة
تبوك فرح المجتمع الإسلامي بأسره، فهو مجتمع متماسك وشبكة العلاقات فيه قوية.
هذه الطاقة ضرورية للبدء، لأن المسلم الآن قد لا يؤثر بالوسط المحيط به
بقدر ما يتأثر هو بهذا الوسط [1] .
في المجتمع الإسلامي الأول كانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أعلى
المستويات، وعندما أفل نجم هذا المجتمع في القرون المتأخرة كان مجتمعاً مليئاً
بالأفكار (الكتب والمكتبات) ومليئاً بالأشياء، ولكنها لم تغن شيئاً لأن شبكة العلاقات
كانت قد تمزقت وأصبح عالم الأشخاص عاجزاً عن أي نشاط مشترك، وهذا هو
الذي أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: (يوشك الأمم أن
تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) [2] .
كيف نعيد الفاعلية للمسلم؟ كيف نؤلف بين العوالم الثلاثة (الأشخاص
والأفكار والأشياء) بانسجام وتوازن؟ كيف نعالج أكبر مرض يصيب العلاقات
الاجتماعية ألا وهو مرض حب الذات أو تضخم (الأنا) عند الفرد؟ .
- لا تعود الفاعلية للمسلم إلا بعودة ذلك الاندفاع في سبيل إقامة المجتمع
الإسلامي والدولة الإسلامية، ووضع طاقات الفرد في أحسن حالاتها، وفي أقصى
توترها، وهذا معنى قوله تعالى [يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ] ، وأحسن حالاتها أن
توضع الطاقات بين حَدَّي الوعد والوعيد، بين الخوف والرجاء، فلا يأس من روح
الله، ولا أمن من مكر الله، وأن تتناسب مع التحدي المفروض عليها فلا هو أكبر
منها فتشعر باليأس، ولا هو أصغر منها فتتساهل وتسترخي ولا تقوم بالجهد
المطلوب.
جاء الإسلام فوضع طاقات العرب في موضعها المناسب، فالكرم والشجاعة
في الجاهلية كانا للفخر والاعتزاز، فوضعهما الإسلام في سبيل مبدأ، في سبيل الله، فالبطولة أصبحت مبرراتها في عالم الآخرة ولم تعد تدور حول (الأنا) [3] .
إن المجتمع لا يتكون من (كومة) أفراد، بل بعلاقات معينة بين هؤلاء الأفراد، وإذا أخذنا نموذجا من عالم الحيوان فسنجد أنه كلما تعقدت المصلحة كلما كانت
الفاعلية أكثر، هناك حيوان يعيش بمفرده، بعيدا عن نظام الأسرة، ونشاطه يسد
فقط حاجات بيولوجية بسيطة، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان يعيش في مستوى
أعلى من هذا، فإننا نرى العش الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي
في مستوى أرقى، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسع نطاقاً من
الأسرة كالنحل، فإنتاجه هنا يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية، فمن
الناحية الأولى نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر من حاجات سربه، ومن الناحية
المعنوية نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة، نجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد تزيد مهامها على عشرة
أنواع من العمل [4] .
إن الفرد في المجتمع الإسلامي، وبسبب ضعف العلاقات الاجتماعية لا تقدم
له الضمانات والمبررات التي تجعله يقدم أقص طاقاته، وكيف يقدمها وهو يرى
الأنانية والتنافس البغيض، وقلة التشجيع، والأهم من ذلك هو عدم وجود الخبرة
الكافية في العلاقات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية في مستوى الفرد
وفي مستوى المجتمع [5] إن الذي يخطط للنهوض بالمجتمع الإسلامي يجب أن
يكون لديه أفكار. جد واضحة عن هذه الأمور، كما أن عليه أن يكون خالياً من
العقد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن أخلاق المغرمين بتملق الرأي العام [6] فعملية بناء كيان اجتماعي ليس بالأمر السهل، لأن العقد النفسية كما يؤكد العالم
الأمريكي (مورينو) هي في العلاقة بين الأفراد فيما بينهم وليس داخل الفرد كما
يقول (فرويد) [7] وكل علاقة فاسدة بين الأفراد. تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن
تحبط أعمالهم الجماعية [8] فالذين يستطيعون ربط العوالم الثلاثة في توافق واتزان
هم الذين يستطيعون تحريك القوى جميعاً في حركة دائمة الصعود، وهذا بطبيعة
الحال لا يأتي إلا عن صف وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه [كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ
مَّرْصُوصٌ] [9] .
توجيه الثقافة:
في هذه المرحلة المهمة من البناء يرى مالك بن نبي أنه لابد من توجيه أمور
ثلاثة:
1 - الثقافة.
2 - العمل.
3 - رأس المال.
فالانتقال من حالة الجمود إلى الحركة باتجاه حضارة لا يحتمل التجارب
الفاشلة، والمسلم بسبب عقدة تخلفه يظن أن تخلفه يتمثل في نقص ما لديه من
(أشياء) ولا يرده إلى الأفكار [10] بينما الحقيقة أن النشاط يصاب بالشلل عندما
يدير ظهره للفكرة، كما أن الفكرة تصاب بالشلل إذا ما انحرفت عن النشاط،
ونحن لا نستطيع بصفة عامة أن نعتبر عدد الكتب التي تخرجها المطبعة في عام
دليلا على الصحة العقلية في بلد معين، فلا بد من برنامج لتوجيه الثقافة [11] .
يعرف مالك بن نبي فكرة (التوجيه) فيقول: (قوة في الأساس وتوافق في
السير، ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف
نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة
والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو
أن ندبر هذا الجهاز الهائل في أحسن الظروف الزمنية [12]
توجيه الثقافة:
الثقافة مصطلح حديث النشأة وهي مرادفة لكلمة (Culture) الإنكليزية،
ويستخدمها كثير من الناس بمعنى (العلم) ولكن مدلولها أوسع من العلم، وقد عرفها
مالك بن نبي بأنها (مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في
الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في
الوسط الذي ولد فيه) [13] فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته،
وهي المحيط الذي يعكس حضارة معينه، والتعلم جزء من الثقافة، وعندما يصبح
الهدف هو الحصول على شهادات فنحن بإزاء مرض اسمه (التعالم) ونحن قد نجد
رجلا يحمل شهادات عالية ولكن ليس عنده فعالية وقدرة على حل المشكلات، بينما
نجد رجلا آخر مثله في بلد آخر عنده هذه القدرة بسبب الثقافة التي تلقاها منذ صغره، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، هذه الثقافة كيف
نوجهها؟ كيف نركبها من أجزائها حتى تؤتي ثمارها؟ الشرط الأول لتحقيق
مشروع ثقافي هو الصلة بين الأشخاص، وهاهو القرآن يعطينا! فكرة عن أهمية
هذه الصلة [لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ] فأساس كل ثقافة هو بالضرورة (تركيب) و (تأليف) لعالم الأشخاص طبقا
لمنهج تربوي، أي أننا نريد للثقافة أن تكون وظيفة، لبناء جيل مسلم تقوم على
أكتافه الحضارة الإسلامية (فالتعليم الفرنسي في الجزائر لم يمنح الجيل الجزائري
الفعالية لأن الثقافة لا تشكل على مقاعد الدراسة، واكن ضمن مجموع الإطار
الاجتماعي الثقافي الذي يحيط بالفرد، والمدرسة عامل مساعد من عوامل الثقافة،
ولكننا نخطئ في تقدير وظيفتها عندما نعتقد أن في إمكانها أن تحل مشكلة الثقافة
وحدها) [14] .
العناصر اللازمة للثقافة:
في مجال توجيه الثقافة لابد من التحديد السلبي أو تصفية أسباب التدهور
والانحطاط، ثم يأتي بعد ذلك التحديد الإيجابي، وإذا كانت عملية التصفية قد قام
بها البعض أو أنه من السهل القيام بها، فإن التحديد الإيجابي لعوامل الثقافة هو
المهم، والعناصر التي يؤكد عليها مالك بن نبي هي:
1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية.
2 - عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
3 - منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
4 - التقنية أو (الصناعة) حسب تعبير ابن خلدون.
أولاً - توجيه الأخلاق:
ونعنى بالأخلاق: قوة التماسك اللازمة للأفراد، هذه القوة التي استطاعت
بناء المجتمع الإسلامي الأول، حتى كان الرجل يعرض على أخيه المناصفة في كل
شيء، وبعض هذه الأخلاق كانت من أسباب بناء المدنية الغربية، والشباب اليوم
ينظرون إلى هذه المدنية في يومها الحالي ويضربون صفحاً عن أمسها الغابر ينسون
أنه لولا صلات اجتماعية خاصة ما قامت هذه الصناعات ولما قام هذا العلم، ونظرة
إلى جامعة من جامعاتهم ترينا أن أساسها كان دينياً قامت به جمعية خيرية دينية،
بل إن كلمة دين عندهم (Religion) تعني في أصلها اللاتيني الربط والجمع [15] .
ثانيا -المنطق العملي:
إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة أو العقل المجرد، فهذا متوفر فهي
بلادنا، ولكن ينقصه منطق، العمل والحركة، كيف يصرف المسلم وقته؟ كيف
ينفق أمواله؟ كيف يستغل علمه؟ مع الأسف إن جزءاً كبيراً من حياتنا يذهب عبثا، فالمسلم أحيانا لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً، بل اكثر من ذلك، فهو
أحيانا يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ولننظر إلى الأم التي تربى ولدها فهي
إما أن تبلده بمعاملة وحشية، وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه، إن الوهن
والسخف يطبعان منطق قولها [16] .
ثالثا: الذوق الجمالي:
إذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات،
فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته، وهو شيء مطلوب فوق الضروريات
والحاجيات، وعندما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق النجوم وغاياتها ذكر منها (الزينة)
[ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ] وكذلك عندما ذكر
خلق الحيوانات [ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ] وقد ورد في
الحديث «إن الله جميل يحب الجمال» وذلك في معرض رد الرسول -صلى الله
عليه وسلم- على الصحابي الذي سأله عن اللباس الحسن والنعل الحسن هل هذا من
الكبر فالذوق الرفيع من العناصر الإيجابية في الثقافة، فالتناسب والتناسق في
الأشكال والأشياء يعطي للإنسان راحة نفسية، والمنظر القبيح المتنافر لا يوحي
بأي خيال جميل، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أزهد الناس ولكنه
كان ينفر من ألوان معينة، ويشجع الناس على النظافة والاهتمام بالمظهر الحسن
وخاصة في المساجد وأيام الجمع والأعياد.
إن تربية الذوق الحسن في الأمة هو جزء من ثقافتها ومؤشر على درجة
ثقافتها.
رابعاً - الصناعة أو (التقنية) :
عرَّف ابن خلدون الصناعة بأنها: ملكة في أمر عملي فكري [17] وهذا
تعريف دقيق لما يسمى الآن (التقنية) فهي تحتاج إلى العلم والممارسة اليدوية حتى
ترسخ مع الزمن وتصبح (ملكة) كما عبر عنها ابن خلدون، وهذه الصناعة لا تكون
إلا في مجتمع متحضر، لأن المجتمع البدائي يحتاج إلى أمور بسيطة لا تحتاج
لتقنية، فوجودها يدل على درجة التحضر والعلم، فلابد أن يكون في المسلمين فئة
تتقن هذه (الصناعة) وتبدع فيها مما يناسب الإسلام والحضارة الإسلامية، وتبتعد
عن شرور سيطرة (الآلة) على الإنسان، وهذا يحتاج لمجلس للتوجيه الفني ليحل
نظرياً وعملياً المشكلة الخطيرة للتربية المهنية تبعاً لحاجات البلاد [18] .
وإن الإمكانيات في البلاد الإسلامية لتسمح بتكوين القيادات التي تشرف على
طريقة تنفيذ هذه (التقنية) وأن تخضع لثقافة المسلم وذوقه المتميز. هذه العناصر
التي يرى الأستاذ مالك بن نبي أنها من مكونات الثقافة وأنها تحتاج لتوجيه معين
لاشك أنها تصلح لكل مجموعة بشرية أو لكل أمة تبحث عن ثقافتها الخاصة، وكأن
مالك استلهم هذا التحديد من علماء الاجتماع والحضارات في أوربا، وكان الأولى
أن يذكر زيادة على هذا العناصر الخاصة بالثقافة الإسلامية، إن عنصر الأخلاق
مثلاً أو الذوق الجمالي يتبعان عقيدة المسلم وتصوراته الخاصة، فهل يقال للمسلم
يجب أن يكون عندك ذوق في الموسيقى أو النظر إلى فن التصوير؟ ! لاشك أن
للمسلم خصوصياته في هذا المجال ...
** يتبع **
__________
(1) مالك بن نبي: ميلاد مجتمع/105.
(2) سنن أبي داود 4/111.
(3) تأملات/38.
(4) المصدر السابق/32.
(5) ميلاد مجتمع /72.
(6) المصدر السابق /107.
(7) المصدر السابق /41.
(8) ميلاد مجتمع/42.
(9) المصدر السابق/70.
(10) مشكلة الثقافة/71.
(11) المصدر السابق/67.
(12) شروط النهضة/117.
(13) مشكلة الثقافة/71.
(14) آفاق جزائرية/99.
(15) شروط النهضة/134.
(16) السابق/147.
(17) مقدمة ابن خلدون 2/935.
(18) شروط النهضة/149.(19/34)
من واقع العمل الإسلامي
رؤية نقدية
صالح علي بن الكناني
إن الناظر في مسيرة العمل الإسلامي خلال السنوات الأخيرة، يدرك الحال
التي بلغها بعض الدعاة والأتباع، حتى أراحوا أعداء الإسلام، ووفروا عليهم كثيراً
من الجهود، في تفريق الكلمة، وإلقاء بذور العداوة والشقاق بين المسلمين، وهذا
هو التفسير الظاهر لتأخر النصر عن المسلمين، بل وتتابع الهزائم عليهم كل في
كل حين.
ولقد يتهمني البعض بالتشاؤم والغض من الصحوة المباركة التي تبدو في كل
أرجاء بلاد المسلمين، فأقول: مهلا رعاك الله! ولا تعجل على وتأمل كلامي بعين
متجردة، وبصيرة نافذة، فما كان فيه من حق وصواب فما أحراك بقبوله، وأنت
المسلم الذي تعبدك الله باتباع الحق وقبوله، وما جانب الصواب من قول فاردده
عليَّ، وأرشدني إلى الحق فمثلك من نصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، واعلم أنني ما أردت إلا خير هذه الأمة، فإن وفقت فمن الله وحده
التوفيق، وإن غير ذلك فالنفس الأمارة، والشيطان المضل، [واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ
وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] [الأحزاب: 4] ، وقد لمست في هذه المقالة بعض مواجع
العمل الدعوي الإسلامي، ولم أُحِط بجميعها علماً ولا بياناً، فأول هذه المواجع:
1 - التحزب والحزبية:
إن كل من دعا إلى الله على بصيرة، مخلصاً القصد لله تعالى، مسلماً لله
بالغلبة والتمكين والفلاح [ومَن يَتَوَلَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الغَالِبُونَ] [المائدة: 56] [أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] [المجادلة: 22] فلا نكران إذن لمبدأ التجمع على الحق، بل هو ركن أساسي في
العمل الدعوي الإسلامي، لا يحتاج في تأصيله إلى كبير بحث واجتهاد، ولا يفقد
من الأمة في كل عصورها وأطوارها، إلا حين لا يوجد للمسلمين جماعة ولا إمام،
حين تعم البدع والأهواء والنحل المضلة، في فترات الضياع والفتن الكبرى، حين
يغيب الحق، ويندرس الشرع، عندها يكون المسلم المتمسك بالهدى الرباني هو
وحده (حزب الله) .
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى العلم، أصبحوا يفتون الناس بعدم
شرعية الانتماء جماعة إسلامية، بعدم شرعية وجود الجماعة الإسلامية أصلا، ولو
أنهم أفتوا بحرمة التعصب لجماعة بعينها، لها يوالي المسلم وعليها يعادي، لكان
لفتواهم قبولاً ووجاهة، وماذا يصنع هؤلاء بمناهج. الدعوة في القران الكريم،
وطرائق الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأحاديث الطائفة الناجية المنصورة،
ألم يجدوا في كل ذلك ما يبرر قيام جماعة إسلامية تدعو إلى الله على بصيرة، وهل
كل هذا جهل بهذه الأصول؟ .
أيحل لكل الدعوات الأرضية، ولكل أعداء الأمة المحمدية، تكوين
التنظيمات الدقيقة، ويمنع هذا عن الأمة الربانية؟ .
أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس؟
إن تناصر المسلمين، وتآزرهم وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بأمر
الله جماعة وفرادى، أمر لازم - لانتصار دعوتهم، وإقرار منهجهم في الأرض،
وإنما المرفوض كل. الرفض هو هذه الفرقة الحادثة بين المسلمين، المرفوض أن
تقوم جماعة فتدعي أنها وحدها على الحق، أو أن الحق لا يخرج عنها، ثم تغرس
هذا في أذهان أتباعها، وتضع لهم شارة خاصة، اسماً أو معنى، ثم توالي محليه
وتعادي، وتكرس لدى أفرادها أن (من لم يكن معنا فهو علينا) وهذه والله حزبية
بغيضة، ليست من حزب الله الكامل، بل هي إلى النوع الآخر أقرب، النوع الذي
قال الله فيه: [فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [المؤمنون: 53] ، وحين تصبح الحزبية تسير على هذا المنحى تكون علة ومرضاً سرطانيا،
تجب مقاومته واستئصاله، [حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] [البقرة: 193] ، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين نبه إلى هذا المزلق الخطير، الذي يفضي
إلى تمزيق الأمة الواحدة، ويعصف بكيانها، ويقود إلى فنائها واضمحلالها، فها هو
يقول:
(وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة،
والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل،
والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ... ) [الفتاوى 28
/ 227] .
فكيف لو أدرك ابن تيمية زماناً لا يقبل فيه الحق والنصح إلا إذا جاء من فرد
منتسب إلى الجماعة المنصوحة، أما إذا جاء الحق والنصح من خارجها رُدَّ على
قائله ولو كان من أبر الناصحين؟ وكيف لو أدرك زمانا أصبح اسم الجماعة فيه
مقدسا أعظم تقديس؟ ! .
2-- التأطر السياسي:
لقد كتب على أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة أن تعيش قطعانا متفرقة، لكل
قطيع حظيرة تخصه دون سواه، وأطلق على هذه الحظيرة اسما (وطنيا) يفصلها
عن غيرها، وحددت هذه الحظيرة بحدود سياسية، وأرضع الأطفال حبها مع لبن
أمهاتهم، ولقنوا قبل محبة الله ورسوله محبة الحظيرة، وألفت الأناشيد التي تشيد
بالحظائر وبنعيم العيش فيها، وهذا الوضع المؤلم ألقى بظلاله على كثير من
الدعوات في الجملة وفي الفروع، فصارت دعوات قُطرية، إذا حاضر علماؤها
الناس حاضروهم عن الدعوة ضمن حدود الحظيرة، أهدافها وسماتها ومشكلاتها
وملامحها…، وقليل هم الذين ينطلقون. من عالمية هذا الدين، وشمول الرسالة
الإلهية لكل الناس والأزمان والأوطان، -حتى أفتى بعض هؤلاء المتأطرين بأنه لا
يجوز أن تكون الدعوة إلا من المسجد: منه تبدأ وإليه تعود، ونحن لا ننكر دور
المسجد وأهميته، ولكننا لا ننكر أيضاً أنه قد عطل دور المسجد في بعض البلاد،
حتى أصبح من يقصده للصلاة فقط، عرضة للقتل والسجن والتشريد والتعذيب،
أفنجحد دور (دار الأرقم بن أبي الأرقم) في مثل هذه الظروف؟ وننسى ما يعيشه
إخوان لنا من حولنا، هذا عن بعض الدعاة والمشايخ، فماذا عن الصحف الإسلامية
والكتب الدعوية؟ لم يسلم شيء منها من هذه القطرية-إلا من رحم ربك، وقليل ما
هم - وهذا في نظري من أعظم مكاسب النظم التي يسوؤها أن يسود الدين، وأن
تعود الأمة إلى وحدتها وقوتها.
وإذا كان البعض ينتمي إلى لافتات كبيرة لا تختص بوطن معين، ولكن
مدلولها بقي ضعيفاً لأن نفس المرض يعتريها وهو التعصب للأشخاص والأسماء،
ومبدؤها الذي رفعته: (سلمني رايتك) يخرب عليها التعاون والالتقاء على كلمة
سواء، وكان الأمثل هو قبول مبدأ الحوار والتأصيل، وإذن لتكونت جبهة عريضة
من أهل الإسلام يحسب العدو لها ألف حساب.
3- تشتت المناهج العلمية والتربوية:
مما يزيد في فرقة المسلمين، وتباين الجماعات التي تربي كل جماعة أفرادها
عليها، حتى أصبح بإمكان الناظر في هؤلاء الأفراد أن يميز بين أتباع جماعة
وأتباع جماعة أخرى، أحيانا بالنظر الأولي، أو بمحادثة يسيرة، مما يوحي
بتفاوت المناهج التي تلتزمها كل جماعة في دعوة أفرادها وتربيتهم، أفلا يمكن حتى
في هذه الناحية أن يتفق أئمة هذه الجماعات على مناهج موحدة في العلم والتربية،
تضمن لنا السير في طريق الوحدة المنشودة، فضلا عن كونها تحفظ كيان الجماعة
الواحدة من التمزق ونشوء المدارس المتباينة.
4- قصور التخطيط وقصر النظر:
إن العمل الإسلامي المعاصر والقائمين عليه ينقصهم التخطيط المحكم الدقيق،
وتقوم عامة أمورهم على الارتجال، وعلى الاستجابة، الفورية العاجلة للمؤثرات
والأحداث العارضة، حيث يصبح الحدث العارض بمثابة مرور قضيب المغناطيس
بقرب كومة من برادة الحديد، فلا تلبث أن تنجذب كلها إليه لعدم تماسكها وقوتها
وثباتها، وإني ليأخذني العجب مما أرى لدى أعداء الإسلام من حسن التخطيط،
وبعد النظر، ووضع جميع الممكنات والاحتمالات في الحسبان، وأتساءل: ألا
يمكن للعاملين للإسلام أن يستفيدوا مما لدى أعدائهم من خطط وطرائق تنسجم مع
أهدافنا وديننا؟ وأين هي العقليات المفكرة لدى المسلمين التي تجعل الصعب سهلا،
والعسير يسيراً بإذن ربها؟ .
وبعد: فليست هذه كل عللنا وأمراضنا، فهناك الكثير الكثير، الذي قد يرى
النور يوما ما، ولكل أجل كتاب:
- فيا دعاة الإسلام وجماعاته: اتحدوا تنصروا.
- ويا حاملي راية السنة والجماعة: اعتصموا بالكتاب والسنة تفلحوا.
- ويا قادة الجماعات الإسلامية: لينوا في أيدي إخوانكم تصلوا.
- ويا أتباع الدعوات الإسلامية: انبذوا التعصب والفرقة تسعدوا.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله
رب العالمين(19/42)
الحج وأثره في تربية الضمير
عثمان جمعة ضميرية
تربية مثالية واقعية:
لقد كانت تربية القرآن الكريم للمؤمنين تربية رائعة عالية، تمد أنظار الإنسان
إلى علم المثال الطيب النظيف وتوقفه على أرض الواقع الصلبة، فكانت بذلك
تربية مثالية واقعية، يتربى عليها المسلم في صلته بربه تبارك وتعالى، وفي صلته
بنفسه، وفي صلته بالناس من حوله، وفي أدائه للعبادات وقيامه بالمعاملات، -
وخضوعه للعادات، وفي كل مظهر من مظاهر حياته.
ولنأخذ مثالاً ذلك: إن الإسلام يدعو إلى العدالة الشاملة الكاملة فيرغب الناس
بذلك في المثالية التي يسعى إليها: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ] [النحل:
90] ، ويدعو إلى العفو والتسامح: [وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [البقرة: 237]
[ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً]
[الإسراء: 33] .
ولكنه في الوقت نفسه لا يهمل الجانب الواقعي الذي فطر عليه الإنسان، وهو
حب الانتصار للنفس إذا ما وقع عليها الاعتداء، وإلا فإنه يدعو إلى مثالية خيالية لا
طاقة للنفس البشرية بها، ولذلك كانت مشروعية القصاص: [ولَكُمْ فِي القِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] [البقرة: 179] ، إنها ليست دعوة إلى القصاص فحسب
دون عفو، ولا دعوة إلى العفو دون إقرار حق القصاص، وإنما شرع الله تعالى
الأمرين معاً، ها أنت على عدل وحق لو طالبت بالقصاص من المعتدي، وها أنت
على فضل عندما تعفو وتصفح.
تربية الضمير:
ولقد ارتفع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مستوى رائع عندما أرشدهم إلى
هذا وترك الإنسان لضميره المؤمن ووجدانه الحي، يستفتيه في كل ما يعمل وما
يترك، فقد قال عليه الصلاة والسلام. «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن
يكون ألحن (أقوى) بحجته من فإنما أقطع له قطعة من قطعة من نار فليأخذها أو
فليدعها» [1] .
أرأيت إلى هذه التربية الوجدانية والتهذيب الخلقي للفرد؛ إنها لا تكتفي
بوسائل الإثبات المادية، ولكنها تعود بالمرء إلى ضميره، فلعل أحد الخصمين
يكون أقوى حجة من أخيه الذي يخاصمه فيحاجه بالكلام يخصمه بما قدم، ولكنه
ليس على حق ... فليحذر، فإنما هي قطعة من نار ... وحكم الحاكم لا يحل الحرام
ولا يحرم الحلال.
ثلاث محاكم أدبية ... وسبيل النجاة:
وقد وضعنا القرآن الكريم أمام ثلاث محاكم أدبية [2] هي: محكمة الضمير
في قلوبنا، ومحكمة المجتمع من حولنا، ومحكمة السماء من فوقنا، فقال الله تعالى: [وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ
والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] [التوبة: 105] .
وسبيلنا للنجاة أمام محكمة السماء الكبرى هو تربية الشعور الديني (الحسان
وسبيل النجاة أمام المحكمة الثانية هو تربية الشعور الاجتماعي، وسبيل النجاة أمام
المحكمة الأولى (محكمة الضمير في قلوبنا) هو تربية الوجدان أو الضمير الخلقي
ليجعل من نفس الإنسان وازعاً قبل محاسبة الآخرين، ولذلك حذرنا من كل عمل
يترتب عليه تأنيب الضمير، وأمرنا أن نرجع إلى هذا الضمير نستفتيه: «استفت
قلبك ... وإن أفتاك الناس وأفتوك» [3] .
الحج تربية للضمير:
وهذه المعاني عن التربية الوجدانية أو الضمير الحي الحساس نجدها متمثلة
في كثير من مشاعر الحج ومناسكه، منذ أن يفرض المسلم الحج على نفسه في
أشهره إلى أن يقضي مناسكه، فأنت واجد في كل شعيرة من الشعائر ما يحملك على
مراقبة الله تعالى لك، ويجل من النفس اللوامة أو الضمير حكماً أو قاضياً في كثير
مما يقوم به المسلم في الحج..
فإن الله به عليم:
ففي أعقاب الدخول في النُّسك يلتفت السياق القرآني إلى هذه الناحية التفاتة
رائعة، فيقول الله تعالى: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ
ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ] [البقرة: 197] ،
فكل خير وكل قربة وكل عبادة ... فإن الله به عليم، وعليه يجازي، وبه يرفع
المؤمن عنده درجات، وهو طريق تحلية النفس وتزكيتها وتطهيرها بعد تخليتها من
الرفث والفسوق والجدال..
والإقبال على الله تعالى بهذه الهيئة النظيفة، وهذه الصورة المشرقة الوضيئة، والتقلب في هذه المناسك والرياض ... يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها،
ويدخلها في حياة جديدة لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
ويكفي المسلم أن يشعر أن الله تعالى يعلم ما يفعله العبد من خير، ويطلع عليه
ويجازي ويثيب، ليكون ذلك حافزاً له على الإكثار من الخير والاجتهاد فيه ... فمن
ذا الذي لا يريد أن يراه ربه تبارك وتعالى على أحسن صورة في العمل.؟ ومن ذا
الذي لا تتطلع نفسه وتتشوق إلى أن يعلم الله منه الخير كل الخير…؟ فيصل بذلك
إلى درجة الإحسان التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن
تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [4]
أثر الذكر والدعاء والتضرع:
ولن يكون الإنسان صاحب ضمير حي، ونفس لوامة حتى يكون على صلة
طيبة بالله تعالى الذي خلقه وسيحاسبه يوم القيامة على ما اقترف، وفي الذكر
والدعاء والتضرع إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، وفي التلبية التي يجأر بها العبد
في مناسكه ...
كل هذا وسيلة من وسائل تربية الوجدان وإعلاء قيمته، وهو يصقل النفس
ويزكيها، بما فيه من إظهار العبودية لله تعالى وصدق اللجوء إليه..
رقابة ذاتية صارمة على المخالفات:
وعندما يدخل المسلم في مناسك الحج ويشعر أنه في عبادة لله ... يفرض على
نفسه رقابة سلوكية صارمة، تحاسبه أشد الحساب على كل مخالفة تصدر منه،
كبيرة كانت هذه المخالفة أو صغيرة يسيرة. فإذا ما ارتكب محظورا من محظورات
الإحرام وجب أن يعود إلى ضميره فيكفر عن هذا المحظور الذي وقع فيه بإراقة دم
أو صدقة أو صيام، ولكن السلطة التي تضبط ذلك وتسجله هي سلطة الضمير
ومحكمته،. فليس هناك سلطة خارجية وراء ذلك ... وفي هذا تربية لهذا الضمير
وارتقاء به وإعلاء من منزلته وقيمته، فاستحق هذا الحاج المغفرة بابتعاده عن
الرفث والفسوق والجدال.
وفي الطواف وسيلة لتربية الضمير:
وإذا نظرت إلى سائر المناسك وجدتها أيضاً وسيلة لتربية هذه الرقابة الذاتية
للضمير، فالحاج يطوف حول الكعبة، ويرف حولها نسوة، وقد يكون في الطواف
شيء من الزحام مما قد يقع فيه البصر على مالا يجوز النظر إليه من النساء
الأجنبيات، وقد لا يكون هناك رقابة خارجية صارمة تضبط كل مخالفة من كل
واحد من هذه الألوف من الطائفين حول البيت ... ومع هذا كله لم يحرم الإسلام
طواف الرجال والنساء في وقمت واحد، أو لم يجعل لهن مطافاً خاصاً ... ولعل في
هذا أكبر الأثر في تربية الضمير، فالمسلم يُترك هنا لضميره ولوجدانه المؤمن الذي
يحجزه عن فعل أي محظور عندما تكون الوسيلة بهذه المثابة، ولكنه يعلم أن الله
تعالى يراقبه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن مخالفة ومعصية في
الحرم ليست كغيرها من المخالفات، فهي عظيمة جسيمة، بل هي مضاعفة، حتى
إن إرادة المعصية والهمَّ بها فيه تعتبر معصية يستحق صاحبها العذاب الأليم [وَمَن
يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] [الحج: 25] ..
وفي قضاء المناسك تربية ...
فإذا ما قضى الحاج مناسكه وذكر الله تعالى في أيام معلومات وفي أيام
معدودات ثم جدد العهد مع الله تعالى على الاستقامة على منهاجه وشرعه
بتوبة صادقة من نفس مؤمنة نادمة ضارعة إلى الله، وإذا ما وضعته هذه
المناسك على طريق المسئولية فإنه يربأ بنفسه بعد ذلك أن تنحرف وتخالف منهج
الله، وإن حياءه من الله تعالى وشعوره بأهمية هذه العبادة العظيمة يربى في نفسه
هذا الضمير الحي وهذه التربية الوجدانية.
وبعد:
تلكم بعض اللمحات عن أثر الحج في تربية الضمير والوجدان، تضاف إلى
كثير من الآثار والمنافع التي يشهدها المسلمون في الحج، فهنيئاً لهؤلاء المسلمين
الطائعين، هنيئاً لهم حجهم وعبادتهم التي ترفعهم إلى هذا المستوى المشرق
الوضيء الكريم،. والتي تهذب نفوسهم وتزكيها، وتربى وجدانهم وتطهره،
وتذهب، بذنوبهم وآثامهم، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، والحمد لله رب
العالمين.
__________
(1) متفق عليه من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2) الفكرة مأخوذة عن الأستاذ الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه عن المسئولية.
(3) قطعة من حديث رواه الإمام أحمد والدرامي.
(4) قطعة من حديث جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، أخرجه الشيخان.(19/47)
إرشادات طبية للحاج
د.خالد موسى
- فرض الله على عباده الحج مرة في العمر لقوله تعالى. [ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] [آل عمران: 97] . والحج طاعة لله وتزكية للنفس وتطهير للعبد من الذنوب والخطايا، وهو
مؤتمر إسلامي جامع تتوافد إليه الجموع من كل بقاع الأرض.
المناسب أن نستعرض في هذه العجالة بعض الجوانب الطبية الهامة، إذ أن
هذه الجموع الهائلة من الناس، قد تكون فريسة سهلة لشتى أنواع الأمراض والأوبئة، لذا وجب على الحاج معرفة كل ما يتعلق بحمايته من الناحية الصحية.
وسنبدأ بأكثر الأمراض انتشاراً في موسم الحج يجمعها عامل مشترك هو شدة
الازدحام.
1- الرشح والزكام:
سببهما حمات راشحة (فيروسات) متنوعة، والوقاية ممكنة عن طريق تجنب
التبول الحراري المفاجئ، والابتعاد عن مواجهة التكييف والتبريد المباشر، وتجنب
العطاس والسعال في مواجهه الآخرين، وإلقاء المناديل، وإتلافها في أماكن خاصة، والابتعاد ما أمكن عن لمس المصابين بالمرض واستشارة الطبيب للعلاج.
2-التهاب الطرق التنفسية العليا:
سواء كان صحي أو جرثومي فإن أسبابه مشابهة لما سبق ذكره غير أن
الوقاية يجب أن تطبق بصرامة أكبر، وفي حالات دقيقة قد تحصل بعض
الإصابات (بذات الرئة) وتكون هنا الإصابة أكثر شدة، وتتطلب علاجاً صارماً.
3 - التهاب المعدة والأمعاء:
وأسبابها غذائية، طفيلية، حمية، فيروسية، جرثومية، وأعراضه غثيان
وقيء، آلام بطنية، إسهالات ومتكررة، وربما صداع وارتفاع حرارة، والوقاية
منها تكون بالاهتمام بالنظافة العامة والخاصة: غسل الأيدي، غسل الفواكه
والخضار، تجنب تناول الأطعمة غير المطبوخة جيداً والتي يشتبه بتلوثها، عدم
تناول الألبان ومشتقاتها دون التأكد من صحة تعقيمها وتواريخ انتهاء صلاحيتها،
عدم تناول الأغذية والسوائل بأوعية وأوان غير نظيفة، أو أنها استخدمت من قبل
آخرين، تناول المياه الصحية من مصادرها الرئيسية الخاضعة لرقابة صحية.
4 -داء السماط:
ويحصل نتيجة التعرق الشديد والاحتكاك المستمر لثنيات الجلد مما يحدث
انسلاخ واحمرار الجلد خاصة عند البدينين ولا سيما بين الفخذين، وتحت الإبطين، وتحت الثديين عند النساء، وتكون الوقاية بتخفيف حالة التعرق والاحتكاك بتجنب
المشي طويلا وقت الحر ما أمكن، لبس السراويل الداخلية الطويلة لمنع الاحتكاك
(خارج أوقات الإحرام) ، استعمال المياه الباردة لغسيل المنطقة المعرضة للاحتكاك،
استعمال بعض الوصفات والمراهم الطبية.
5 -تشقق القدمين:
يظهر نتيجة المشي المستمر بالأحذية الكاشفة للأعقاب (الصنادل) والتعرض
للأتربة والأغبرة مما يؤدي إلى جفاف الطبقة المتقرنة من الجلد ثم إلى التشقق،
والوقاية منه بغسل القدمين وتجفيفهما جيدا، لبس الجوارب (خارج أوقات الإحرام)
مما يخفف تعرضها للأتربة والأغبرة، الضغط بكل القدم على الأرض واستعمال
مراهم مطرَّية. 6
6-الآلام والقولنجات الكلوية:
نتيجة فقدان السوائل والحر الشديد يتعرض البعض لحدوث القولنجات الكلوية
وآلام الخاصرتين والحصى الكلوية أو ذلك لزيادة ترسب الأملاح والتبلورات
بالطرق البولية نتيجة زيادة كثافة البول لا سيما عند من لديهم استعداد لذلك،
ولتجنب هذه الآلام ينصح الحاج بشرب سوائل بكمية كبيرة لا تقل عن 3 - 4
لترات يومياً، تجنب التعرض للتعرق الغزير والحر الشديد قدر الإمكان، مراجعة
الطبيب بظهور الأعراض، اتباع الإرشادات الطبية لمن لديه سبب مهيأ لحدوث
الحصيات الكلوية.
7 -متلازمات فرط ارتفاع الحرارة والإعياء والإنهاك الحراري وضربات
الشمس:
سببه المباشر الرئيسي هو التعرض للحرارة الشديدة وأشعة الشمس، وتبدأ
الأعراض عادة بالحالات الخفيفة ثم مرحلة الإعياء الحراري وهو أكثر حالات فرط
الحرارة حدوثا، وقد يرافقه صداع وضعف ودوار وغثيان وقلة شهية وربما ميل
للإغماء، أما الحالة الأشد خطورة فهي حمى الحر أو ضربة الشمس، وتبدأ
أعراضه بتوقف وتعطيل آلية التعرق نتيجة تعطل، الجهاز المنظم للحرارة، فيشكو
المريض من صداع ودوار وإغماء وآلام بطيئة، ومن ثم فقد الوعي الذي قد يحدث
من البداية وتكون الوقاية بتجنب الخروج ما أمكن أوقات الحر الشديد، استعمال
المظلات والخيم والحواجز للوقاية كل حر الشمس، شرب المياه والسوائل وخاصة
المياه الصحية الغنية بالأملاح والشوارد لتعويض ما فقد منها بالتعرق، الانتباه
لظهور أول بوادر وأمراض متلازمات الحر بالبدء بعلاجها فورا.
ومن النصائح الطبية العامة التي يجب على الحاج أخذها بعين الاعتبار:
1 - اتباع الإرشادات الصحية لاسيما من جهة النظافة العامة والخاصة.
2 - تناول الأطعمة والسوائل والمشروبات والألبان النظيفة والمعقمة.
3- تجنب التعرض للحر وأشعة الشمس المباشر واستعمال المظلات والاتقاء
بأماكن الظل مع محاولة التلازم بين التكييف والتبريد بشكل مناسب وبدون تعرض
لتيار المكيف المباشر.
4- تبليل الجسم والرأس الوجه والأطراف بالماء البارد بين الفينة والأخرى.
5 - استشارة الطبيب ومراجعة المراكز الطبية القريبة بمجرد الشعور بأي
إنهاك أو إعياء أو أعراض مرضية لأخذ التدابير العلاجية والوقائية في مرحلة
المرض المبكرة.
6 - الانتباه والإسراع بنقل المريض لأقرب مركز صحي أو مستشفى
خاصة بحالة ضربة الشمس مع وضعه في جو بارد واستعمال كمادات باردة.
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن ييسر على الحجاج أداء الفريضة، وأن
يقيهم ويحفظهم بحفظه ورعايته، وأن يتقبل منهم عملهم ويكتب لهم به حجا مبروراً
وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً، وأن يعيدهم إلى أهليهم وذويهم سالمين غانمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(19/52)
منبر الشباب
الفراغ وأثره في النفس والمجتمع
د. عبد الله سلطان السبيعي
اتجه العلم الحديث لأسباب تاريخية إلى فصل العلم عن الدين، والابتعاد عن
قبضة الكنيسة ورجال الدين، ولسوء حظ بلاد العرب والمسلمين فقد استورد هذا
الاتجاه بما فيه من خطر عظيم لعدم وجود البديل وهو الفكر الإسلامي.
أنا لا أدعي وأنا أكتب هذا المقال أنني أعرف في الدين أكثر مما يعرفه
الشخص العادي، وهذا نقص أعترف به، ولكنني هنا أحاول أن أعكس ما تعلمته
وأربط ما أعلمه من طب وعلم النفس مع عقيدتي الإسلامية. هذا ليس هو الطريق
لأسلمة العلم، الشيء الذي يقصد به أكثر من ذلك لعل الله أن يوفقنا لما يحبه
ويرضاه من القول والعمل.
قرأت مؤخراً آية من كتاب الله هي قوله تعالى في آخر سورة الشرح [فَإذَا
فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ] . قرأت تفسير هذه الآية في أكثر من مرجع
فإذا هي مخاطبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يتوجه إلى الله بالعبادة بعد أن
يفرغ من شغله مع الناس، وأن ينصب في ذلك ويتوجه إلى الله بكل ما يفعله.
المعنى الذي استشعرته من الآية والذي ينطق على كل إنسان مهما كان هو
معنى الفراغ بمعناه الشامل، أي إذا انتهى الإنسان من أي عمل كان، ووجد نفسه
فارغاً، لا يجد شيئاً يفعله، توجهه الآية الكريمة أن يبحث عن شيء يشتغل به،
ولكن الآية لا تترك التوجيه هكذا عائماً يفسره كل حسب هواه، إنها توجهنا، ألا
يكون ما نشتغل به لمجرد شغل الفراغ ولكن يجب أن يخضع لضابطين أساسيين
هما: النصب، والنية الصالحة.
وإذا انتقلنا إلى الكلام عن الفراغ وما يجر إليه من مفاسد وذلك في ظلال هذه
الآية وهذا المفهوم؛ نجد:
أولاً: أن الفراغ سبب أساسي في الكثير من أمراض العصر النفسية
والجسمية، لا يختلف الأطباء أبداً في أثر الفراغ في الجسم البشري أو حتى
الحيواني وأنه يؤدي إلى تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب
والروماتيزم والجلطات القلبية والدماغية، وهم أيضاً لا يختلفون كذلك أن الفراغ
وراء الاكتئاب والقلق النفسي والهم.
ثانياً: الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في
المجتمع لا ينتج ولا يفيد. فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئاً تهفو إليه نفسه كنتيجة
لعمله، فهو بلا هدف في الحياة وأي حياة هذه التي لا هدف لها.
ثالثا: الفراغ وسيلة من وسائل إبليس يوسوس فيها للإنسان فيثير فيه كوامن
الغرائز ويلهبها فتحرقه وتفلت من لجامها لتحرق ما حوله. وهذه حقيقة لا مراء لها.
رابعًا: الفراغ سبب للمشاكل الأخلاقية والجريمة، ويشهد بهذا علماء
الاجتماع، إذ وجد أن نسبة الجرائم والمشاكل الأخلاقية تتناسب طرداً مع نسبة
البطالة في أي زمان ومكان.
خامساً: الفراغ سبب في كسب الذنوب مثل التفكير في المعاصي والحديث في
الناس، وما إلى ذلك.
سادساً: الفراغ تعيل للطاقة وقد قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: أنه لا
تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ... ومنها: وعن عمره فيم أبلاه.
فلا حول ولا قرة إلا بالله ولنعد مرة أخرى إلى الشرطين الذين وضعتهما الآية
الكريمة لعلاج هذا الداء (الفراغ) ، ألا وهما:
1- النصب: (بفتح الباء) أي إن مشاهدة التلفزيون وقضاء الساعات أمامه
وقراءة الجرائد الهزيلة وما إلى ذلك ليس مما يداوي هذا المرض ويمنع الخلل الذي
يجره على الإنسان ومن خلفه المجتمع الذي هو عضو فيه. الشرط هنا هو التعب
أي أن يجهد الإنسان نفسه فالتعب وحده هو الذي يصرفه عن ما ذكرناه من عواقب
الفراغ الوخيمة.
2- الرغبة إلى الله: أي التوجه إليه وقصده وحده بما تجهد فيه نفسك وهذا
ليس فقط لربط الدنيا بالدين كما هو هدف القرآن في كل توجيه ولكنه أيضاً الوسيلة
الوحيدة لسلسلة أخرى من المشاكل، ألا وهي التسيب وانخفاض مستوى الكفاءة
الإنتاجية في العمل، وهذا من اكبر المعضلات في علم الإدارة. لا يمكن أن يردع
الإنسان ترغيب ولا ترهيب أن لا يقصر في عمله أو يخون صاحب العمل سواء
كان فرداً أو حكومة، لكنه الخوف من الله سبحانه والعلم بأنه مطلع على كل ما
نعمله وحتى ما تخفيه الأنفس. هذا الخوف من الله هو المقصود بالآية، فالعامل
يخلص العمل ليس رغبة في تقدير صاحب العمل وحفنة من المال، ولا خوفاً من
العقاب إن هو قصر ولكن رغبة في ما عند الله، ومن ثم الجزاء نقداً (حاضراً)
بالشعور بالراحة النفسية والسمعة الحسنة والكسب المادي، ومؤجلاً بما عند الله
جزاء النية الصادقة والضمير اليقظ.
لا أجد داعياً لأعود فأتحدث عن ما يفعله التوجيه الإلهي في هذه الآية، إذ
ينقضّ على معول من معاول الهدم فيحطمه ويرى الإنسان المسلم كيف يبنى بنيانه
على أساس من الإيمان يرتبط فيه علم النفس بعلم الاجتماع بعلم الإدارة بالطب
البشري.(19/56)
أدب وتاريخ
أدباء الحداثة
وبعض أساليبهم في حرب الأدب الإسلامي ورواده
يحيى رسام
تعليمات:
أيها الأدباء الحداثيون … والنقاد التقدميون:
احرصوا وأنتم تخوضون معركة غرس المفاهيم الجديدة! لتغدو بديلاً عن
المفاهيم (الرجعية) و (السلفية) أن يكون همكم الأكبر، أن تحجبوا عن جماهير
القراء ما يسمونه بـ (الأدب الإسلامي) وذلك بأن تضربوا حوله أسواراً من
الحصار الإعلامي تخنقه،.. فلا تسمحوا بنشره.. ولا تتحدثوا عنه ... أو تشيروا
إليه، وحينئذ لن تجد الجماهير ما تقرؤه، إلا ما ترشحوه لها في صحفكم،
ومجلاتكم ... وتشيدوا به في منتدياتكم ومؤلفاتكم ... فإن لم تفعلوا - ولابد -
فاعملوا على نشره و (شرحه) لتحرفوه! .. فإن لم تتمكنوا فلا تتوانوا لحظة في
تشكيك الناس فيه، وتشويه صورة من يتبناه، أو يدعو إليه! وإني رأيتم في أنفسكم
الاستطاعة على السطو عليه ثم إعادة إخراجه باسمكم- طبعا- بعد صبغه بطابعكم
فلا تترددوا.. ولكن انتبهوا فهذا الطريق لا يخلو من المخاطر والمجازفة.. ولكنكم
إن نجحتم، فإن قوانا الخفية ستوفر لكم الحماية اللازمة! وستجعل منكم الأدباء
الكبار، والفلاسفة الذين لا يشق لهم غبار، والمفكرين العظام، والنقاد. المبدعين،
بل وستكونون، أنتم أصحاب النفوذ، وستتبوؤن المراكز العلمية العالية والتي من
خلالها تواصلون القيام بمهمتكم.. وسلاحكم لتحقيق ذلك وسائل الإعلام المختلفة!..
ومما يساعد على أداء دوركم. المرسوم، أن تتستروا بغطاء المنهجية!
والأمانة العلمية، والتي يجب أن لا تسأموا من تكرارها في جامعاتكم، وأنديتكم،
ومنشوراتكم، ومؤلفاتكم حتى تغدو شارة لكم، وعلامة عليكم…
لعل العبارات السابقة تمثل تلخيصاً دقيقاً لكثير من التعليمات التي يتلقاها عبيد
الغرب.. من الأدباء الحداثيين، وكل العلمانيين القدامى والمحدثين من أساتذتهم،
وسادتهم وأولياء نعمتهم..! في كيفية حربهم للأدب الإسلامي ورواده.. والأساليب
التي يجب اتباعها، وترسم خطاها ... ونحن لا نقول ذلك افتئاتاً، أو اعتباطاً،
ورمياً للأبرياء بالاتهام جزافاً.. بل إن المتتبع للأساليب والوسائل التي ينتهجها
حاملو الفكر المستورد الدخيل ... خلال القرن الحالي، والذي شارف على النهاية،
في حرب الأدب والفكر الإسلامي ورواده ومبدعيه، وحاملي لوائه، يجد مصداق ما
نقول واضحاً. لا لبس فيه ولا غموض [1] ..
جبهات ثلاث:
وسنكتفي هنا بإلقاء بعض الأضواء على أهم الجبهات التي ينضب فيها أولئك
كمائنهم لحرب الإسلاميين والتي لخصتها العبارات السابقة.
أولاً:
فحيث لم يكتفوا باتباع أسلوب حجب الإسلاميين وأدبهم عن الجماهير، عن
طريق ضرب أنواع من الحصار الإعلامي الرهيب، والذي كان بمثابة (الحكم على
الإسلاميين بالموت، وهم أحياء يراهم الناس) كما عبر عن ذلك الأديب الإسلامي
الكبير علي أحمد باكثير يوماً [2] .
ثانياً:
فقد عمدوا إلى أسلوب أكثر خبثاً، وأعمق مكراً، وأشد خطراً، تمثل في
السطو على أعمال بعض الأدباء الإسلاميين، ومن ثم ينسبونها إلى أنفسهم، ولعل
ما شجعهم على ذلك هو غيبة أصحاب الحق الأصليين عن الساحة بالسجن تارة،
وبالإبعاد والهجرة أخرى ... وفي ظل أوضاع سياسية ترمي من يتحدث عنهم
بالعمالة لقوى الاستعمار والإمبريالية..
وقد دلت هذه الظاهرة على خبيئة نفسيات أولئك الأدباء الكبار، حيث لم يعد
فيها مكان لشيء اسمه حياد، أو خجل، أو شرف، أو احترام حقوق الآخرين
فصدق فيهم قول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «إن
مما أثر من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ، مع أنهم لا يفتأون
يرددون كلمات (العلمية) و (المنهجية) ! ! وينفرون الناشئة من طلبة الجامعات
من (السرقات الأدبية) في الوقت الذي يمارسونها في أبشع صورها! . ...
لقد مارس العلمانيون عمليات السطو والسرقة جهاراً نهاراً، وأمام الجميع دون
أن يمسهم سوء، أو يطالبهم عقاب، أو يضرهم ضار! ما دام أصحاب الحق
غائبين حساً ومعنًى! فحتى لو علموا ذلك فهم غير قادرين على الدفاع عن حقهم،
والمطالبة بفضح ومعاقبة الذين يسطون على أعمالهم ممن يسمون أنفسهم، ويعتبرهم
الناس، نقاداً مبدعين أو أدباء كباراً! وهم وحدهم الذين يصولون ويجولون في
الساحة الأدبية ...
ونحن لو ذهبنا، ندلل على صحة ما ادعيناه آنفا، لطال بنا الحديث، إذ أن
الوقائع التي مورس فيها السطو أكثر من أن تحصى ... ولكننا سنكتفي بضرب
بعض الأمثلة من بلدين عربيين مكاناً فقط وفي فترتين مختلفتين زماناً! .
المثال الأول:
ناقد عربي، وأستاذ في جامعة يحسب نفسه كبيراً، ويعتبره كثير من النقاد
والأدباء كذلك، يقال له الدكتور أحمد كمال زكي، هذا الأديب الحداثي الكبير!
والناقد (التقدمي) استغل وجود سيد قطب رحمه الله على عهد نظام عبد الناصر
فانقض على كتاب سيد قطب المشهور (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) ، وأعاد
قراءته، ثم أجرى عليه بعض الحذف والتغيير، والإضافة، والتقديم والتأخير، مع
إعادة صياغة بعض أفكاره ومعانيه، وفي أماكن مختلفة من الكتاب، حتى غلب
على ظنه صعوبة اكتشاف عملية السطو، ثم عمل على إعادة نشر الكتاب تحت
عنوان مشابه (النقد الأدبي أصوله وأهدافه) [3] .. وبالتالي فقد وجد الكتاب
والأدباء والنقاد، الكتاب الجديد منسوباً للناقد الكبير!
فاعتبروه من إبداعه! ! وعدوه إضافة جديدة في عالم النقد الأدبي! !
حدث ذلك يوم كان سيد قطب - وإخوانه - يؤدون ضريبة إيمانهم، وجهادهم، ورفضهم لحكم الطاغوت كما أسلفنا، ويوم كانت كتبهم مصادرة، و (كان يسيطر
على قافلة النقاد حشد من الشيوعيين المعروفين، الذين يكيدون ويدبرون، فيرفعون
المؤيدين، ويهيلون، تراب التجاهل والنسيان على أصحاب المواقف الشريفة)
على حد تعبير الأستاذ الأديب نجيب الكيلانى.
ولا أظن إلا أن بعضاً من النقاد والأدباء - من غير الماركسيين - قد أدركوا (هذه اللعبة) ولكنهم آثروا الصمت على الكلام، لأسباب معظمها معروف.
تلميذ جريء وأستاذ أكثر جرأة:
ولئن كان هذا الناقد الناشئ حينها قد سطا [4] على ما ليس له ودعاه لنفسه!
فإنه إنما كان يسير على خطى أستاذه العميد د. طه الذي مارس هذه اللعبة من قبل
... ولكن بصورة أكثر جرأة، وأشد بشاعة، إذ أنه كان قد سرق مرتين، فعلها مرة
مع أستاذه المستشرق مرجليوث، وفعلها أخرى مع تلميذه محمود شاكر! ومع أن
حكاية سرقته بحث مرجليوث عن (الشعر الجاهلي) غدت معروفة لدى من عاصر
أحداثها، ثم الجيل الذي تلاه، إلا أننا نرى أنها فرصة مناسبة لسرد الحكاية
باختصار لأن كثرة الأحداث، وتواليها ينسي بعضها بعضاً، وحتى يرى القارئ
المعاصر الخبرة التي توفرت لأولئك، وورثها عنهم تلامذتهم ومريدوهم! .
وملخص الحكاية:
أن الدكتور طه كان قد سطا على بحث كتبه المستشرق المعروف مرجليوث
حول (الشعر الجاهلي) أنكر أو على الأقل شكك فيه بوجود شيء اسمه (شعر
جاهلي) مدعياً بأن ما يسمى (بالشعر الجاهلي) إنما هو في الحقيقة (شعر إسلامي) ابتدعه المسلمون من أتباع محمد حتى يفسروا به قرآن نبيهم! ! ويؤيدوا به دينهم! ثم قام العميد، وبجرأة نادرة يحسد عليها! ! بإلقاء البحث على طلابه! في مدرج
كلية الآداب على أنه صاحبه ومبدعه، ولسوء حظ طه حسين، فقد تنبه لهذا السطو
العلني تلميذ ذكي كان الدكتور طه قد بذل غاية جهده من قبل ليقنع هذا الطالب النبيه
للالتحاق بكلية الآداب حيث رأى فيه موهبة أدبية [5] وميلاً ظاهراً لدراسة الآداب.. وقد كان ذلك الطالب هو محمود شاكر، الأخ الأصغر للإمام المحدث أحمد شاكر
رحمه الله ... ولو كان طه حسين يعلم ما يخبئ له الغيب لما عمل على إقناع التلميذ
محمود شاكر للتخصص في الآداب، لأن هذا التلميذ قد تخصص فيما بعد في كشف
سرقات أستاذه، وإن كان د. طه، لم يعدم الاستفادة من تلميذه النابغة، بطريقة أو
بأخرى كما سنرى! .
وعود على بدء نقول: بأن التلميذ محمود شاكر كان قد تنبه لفعلة أستاذه إذ أنه
نفسه كان قد اطلع على بحث مرجليوث قبل إلقاء الأستاذ لمحاضرته عن الشعر
الجاهلي فوجدها هي هي ... دون أدنى تغيير أو تبديل، أو حتى مجرد تعديل
فدهش لهذه الجرأة التي يتمتع بها أستاذه، ثم وقف مستغرباً ومتعجباً لهذا الذي يراه
أمامه، وممن؟ ! من أستاذه الذي كان يحترمه من قبل، ولعله حاول تنبيه الأستاذ،
ولفت نظره،.. إلا أنه لما رأى الإصرار! هب صائحاً، وكاشفاً لما رآه من سطو
في وضح النهار، بعد أن هاله ما حدث، وانتهت إلى الأبد تلك الهالة التي كان
أستاذه يحاط بها! فناقش أساتذته، وتحدث مع زملائه، وحاور أستاذه - بجرأة -
في قاعة الدرس، بعد أن ذهبت هيبته، وإن كلفه ذاك تعنيف الدكتور طه بعد كل
درس.. ثم لما لم يجد أدنى تجاوب لجأ لزملاء أستاذه من المستشرقين العاملين في
الجامعة، وفي كلية الآداب بالذات، ولكنه مع الأسف، ووجه بصمت مطبق،
يبعث على الريب، وبدا له وكأن الأمر قد دبر بليل، حيث وجد الجميع لا يحركون
ساكناً، ولا يفتحون فماً، اللهم إلا من كلمة تأييد، وأحياناً، لا تتجاوز الابتسامة
وهز الرأس في السر، لهذا الطالب، وكأنهم يقولون له: أن نعم! ! ، الرجل
سارق، والحق معك، والأدلة في جانبك! ولكن ماذا نفعل؟ ! لا حيلة لنا! فالرجل
يسطو لأنه صاحب صولة سطوة! ! وأمام هذا الوضع الذي أظلم في وجه هذا
الناشئ.. فضاقت عليه الأرض بما رحبت.. وهو ذو القلب الصغير، لم يستطع
تحمل وقع الصدمة … فما كان منه إلا أن قرر لا ترك الجامعة فحسب، بل ترك
البلد أيضاً! ! فهاجر إلى حيث وجد نفسه أكثر استقراراً.. فمكث هناك فترة من
الزمان.. هدأت فيها نفسه! وأعطاها فترة استراحة، وتعبئة في نفس الوقت..
لأننا سنلاحظ أنه بعد بضع سنوات قد قرر العودة ليواصل القيام بدوره في دفع
الأذى عن أمته، وفضح أعدائها، وتعريتهم بعد أن تبين له عظم المؤامرة،
وخطورة السكوت عليها! فقام بواجبه على خير وجه، فكشف عن أبعاد المؤامرة،
وخططها، ومنفذيها ولا زال.. تلك كانت خلاصة الحكاية التي رواها الأستاذ
الكبير محمود شاكر حفظه الله في أحد كتبه [6] .، وهي كما رأيت لا تحتاج إلى
أي تعليق.!
طه حسين ومحمود شاكر:
وأما ما فعله د. طه حسين مع محمود شاكر، فيتلخص في أن محمود شاكر
التلميذ قديماً، والأديب الكبير والمرموق فيما بعد كان قد كتب بحثاً ضخماً عن (المتنبي) الشاعر في الذكرى الألفية له، نشرته مجلة (المقتطف) في عدد خاص [7] .. فما كان من الأستاذ الخبير في الاستفادة من جهود غيره! ! الذي أعجب بالبحث فكرة، ومادة، وجدة، إلا أن قرر إخراج البحث في طبعة جديدة.. ولكن باسمه لا باسم صاحبه، وطبعاً كالعادة كان قد أجرى بعض التغييرات كصياغة كثير من فقراته، ومواده، بأسلوبه، وأعاد ترتيب مواضيعه وزاد من الشروح والحواشي، وأضاف إلى ذلك نتفاً من كتاب عن المتنبي لمؤلف آخر، حتى ظهر له أنه صاحب الكتاب، بعد أن غدا أكبر من حجمه الأصلي، فأصدره باسمه، بعنوان (مع المتنبي) ، ولعله قصد تكريم تلميذه، ومكافئته على جرأته، وصراحته! ولكن الأديب محمود شاكر كان له بالمرصاد هذه المرة، ففضحه على الملأ، حيث كتب عدداً من المقالات في (البلاغ) بعنوان (بيني وبين طه) جعل الدكتور أضحوكة تلوكها الألسن، ويتهكم به الناس! .
وفي اليمن أيضاً:
تكررت نفس الأحداث، وإن كانت أقل خبرة، وخطراً، ومختلفة طريقة
وأسلوباً، فقد تجرأ بعضهم -وهم تلاميذ للدكتور طه حسين - وغيره ممن هم على
شاكلته، فأنكر إنتاج بعض الأدباء الإسلاميين، فهذا أحد شعراء اليمن المشهورين،
الأستاذ: عبد الله البردوني، عمل على إنكار قصيدة مشهورة للشاعر الشهيد:
محمد محمود الزبيري، وهي القصيدة السينية والتي قالها بعد أن تأزم الموقف بين
الحكومة والأحرار، في أوائل الستينات، فقدم استقالته من الوزارة [8] وخرج إلى
القبائل، ورأى أن إصلاح اليمن لن يتحقق إلا بالتبني الواضح والصادق للإسلام،
وتحكيم شرعه، في مقابل قوانين العبيد الملفقة والمجلوبة، فأعلن الزبيري عن
تأسيس (حزب الله) ودعا كل المخلصين من أبناء اليمن إلى الانضمام إليه (انظر
ص 237، اليمن المعاصر) للأستاذ محمد الحداد.
وكان الزبيري قد هاجم في قصيدته تلك الحكام العسكريين الذين كانوا يسيرون
ضمن الخط الناصري، والذين أرادوا صرف اليمن عن هويته، وجعله ذنباً يدور
في فلك الاشتراكية حيث دارت، فأساءوا إلى اليمن، كما أساء إليها من قبلهم،
وقال الزبيري فيها أنه سيحارب كل من يعمل ضد مصلحة اليمن ودينها، وإن
لبسوا ما لبسوا.!
بل إن الأستاذ البردوني لم ينكر قصيدة الزبيري، المذكورة فحسب، لكنه
حكم على الزبيري بالشيخوخة الشعرية، حيث قال في كتابه (رحلة في الشعر
اليمنى) ص28: (فرجوعه - أي الأستاذ الزبيري - إلى اليمن من القاهرة كان
نهاية عمر شعره، فلم يرو له في عهد الثورة بيت شعر حتى استشهاده في إبريل
1965م) .
وهذا افتراء، وجرأة على الحقيقة والتاريخ ... لا تقل عن مثيلاتها مما سبق
الإشارة إليه ... وعلى الرغم من مرور فترة من الزمن على هذه العملية.. كان
اليمنيون مشغولين بما هو أهم في نظرهم بناء اليمن، والعمل على نشر العلم
والمعرفة في أرجائه [9] ، إلا أن أحد الأدباء اليمنيين الكبار [10] ممن عايشوا
الزبيري، وشاركوه في الجهاد ضد الاستبداد والظلم في بعض مراحل حياته، قد
تعرض في بعض كتبه لهذه القضية، فقال وهو يفضح البردوني، ويكشف حقيقة
دعواه. (كيف يجرؤ الأستاذ البردوني على التاريخ والأدب! ! ويقول بأنه لم
يسمع ولم يقرأ للزبيري في عهد الثورة بيتا، وهو يعلم والجميع يعلمون أنه - أي
الزبيري - قال أشعاراً كثيرة، وحسبك منها قصيدته الشهيرة التي أنشدني بعض
أبياتها عندما التقينا في أول مؤتمر للسلام في (إركويت) بالسودان عام 1964م) .
قصيدة (الكارثة) :
ولا بأس بأن نورد بعض أبيات تلك القصيدة التي أختار لها الشهيد الزبيري
رحمه الله عنوان (الكارثة) ولعله يقصد بذلك أن الأوضاع في بلاده إذا استمرت
على ذلك الحال، فإنها ستؤدي حتماً إلى الهاوية، فتحل باليمن وشعبها الكارثة.
يقول في بعض أبياتها مخاطبا الحكام حينذاك [11] :
كفى خداعا فعين الشعب صاحية ... لقد سئموا الرؤيا وقد يئسوا
يلفقون قوانين العبيد لنا ... ونحن شعب أبي مارد شرس
لم القوانين رؤياها تعاودهم ... قد ألبسوها نفاق العصر والتبسوا
قانونكم لاغتصاب الحكم مهزلة ... كترهات إمام مسه الهوس
والحكم بالغصب رجعي نقاومه ... حتى ولو لبس الحكام ما لبسوا! !
والظلم يعلنه القانون نفهمه ظلماً ... وإن زينوا الألفاظ واحترسوا
والموت من مدفع حر نقول له ... موتاً وإن أوهمونا أنه عرس
عار على صانع القانون يكتبه ... وحكمه في بحار الدم منغمس
ثم يقول مقارناً لهم من جهة ثانية بحكم الإمام السابق:
روح الإمامة تسري في مشاعرهم ... وإن تغيرت الأشكال والأسس
وأنتم عودة للأمس قد قبر ... الطغاة فيكم وعادوا بعدما اندرسوا
وأنتم طبعة للظلم ثانية ... تداركت كل ما قد أهملوا ونسوا
ثانياً: وفي اليمن كذلك:
لجاء البعض الآخر إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وتسمية الأشياء بغير.
مسمياتها، وساروا في الخط الذي رسمه الأسياد، فسعوا إلى تفسير إنتاج الأدباء
الإسلاميين تفسيراً اشتراكياً، بعد أن رأوا فشل الأسلوب السابق، فجعلوا من أدب
الإسلاميين خادما لأهدافهم العلمانية ... فعل ذلك أحد الأدباء الكبار وهو يقرأ بعض
روايات الأديب الإسلامي الكبير: علي أحمد باكثير [12] رحمه الله، وكذلك كان
شأن بعض أدباء اليمن الذين ينتمون لأفكار ومدارس فكرية شتى مع شاعر اليمن
القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري [13] فقد ذهب كل أصحاب مذهب إلى،
تفسير شعر الزبيري وأدبه تفسيراً يؤيد مذهبهم وفكرهم، بل وينسبونه إليهم ونفي
صفة الإسلامية عنه.
ولا شك أن مثل هذا العمل إلى جانب كونه طمساً للحقيقة، حقيقة أدب
الزبيري الإسلامي فقد كان، دعاية لهذه الفئة أو تلك ... ولا شك أيضاً أن ذلك يعد
زيادة في التعمية، وإمعانا في الكيد، وحجبا للحقيقة عن الجماهير، والمهم أن
يطمس وجهه الإسلامي، ثم ليكن ما يكون ولكن الجميع متفقون على أنه لا صلة له
بالإسلام ... لقد أصبحوا خبراء في لي أعناق الكلام، وتشويه الحقائق [14] ..
إن أساليب عبيد الفكر الغربي، وتلاميذ المستشرقين أصبحت مفضوحة، وقد
آن لهم أن يعيدوا النظر في مواقفهم، ويكفروا عن أخطائهم قبل فوات الأوان.
__________
(1) ولقد تيسر لي - بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال - أن اطلع على بعض تلك الخطوط والتعليمات، والتي تكون في العادة على شكل نشرات يحرصون على سريتها فقد اطلعت على نشرة قديمة كانت قد نشرت في جريدة (الاستقلال الجديد) التركية، والصادرة في استنبول بتاريخ 24/3/1965م في عددها 189 بعنوان (التعليمات السرية الموجهة من مؤتمر المحررين الروس إلى الكتاب الشيوعيين في العالم) ومما جاء في بندها السادس، السابع، مما له علاقة بموضوع حديثنا ما يلي (نقلاً عن القبس السودانية الصادرة الأربعاء 2 رجب 1409 هـ، 8 فبراير 1989 م: البند السادس:، اعملوا على هدم شهرة وتشويه سمعة كل من لا يتبنى أفكار الشيوعية ويحبذها في الحقول السياسية، والأدبية، وفروع الثقافة العامة البند السابع: (اتخذوا كل بطل وطني حبه الشعب، ولا يستطيع التخلي عنه لواء بيدكم تتسترون وراءه، وفسروا أفكاره ومفاهيمه من زاويتكم وانشروها بين الناس) انتهى، ولعل القارئ سيلاحظ أنها جاءت مطابقة تماماً لكلامنا السابق، ثم إنه ليس خافياً أن أكثر النقاد والأدباء الذين يصولون في الساحة الأدبية العربية الواقعيين والحداثيين هم من الماركسيين حقيقة، واليساريين والحداثيين والعلمانيين مسمى واحد.
(2) يقول الأديب الإسلامي د نجيب الكيلاني، وهو يتحدث عن استقبال المحافل الأدبية، وبأنه شابه الكثير من الحذر لأنهم كانوا يعرفون هويتهم العقائدية، وأنه لم يكن كافياً أن ينظر إليه كمجرد أديب كعشرات الأدباء الذين تحفل بهم الساحة الأدبية ثم قال إن الناقد المعروف والمشهور آنذاك: أحمد عباس صالح، وهو معروف بميوله الماركسية عندما سأله الصديق - هارفي - لماذا لا تتناول كتابات نجيب الكيلاني بالنقد؟ رد ببساطة: (لأنه إسلامستان) ؟ ! ثم علق د الكيلاني قائلا: نفس الموقف الذي وقوه مع المرحوم الأستاذ على أحمد باكثير! ! (ج 4 صلتي مع الأدب الإسلامي، للكيلاني) .
(3) مع الأسف لا أتذكر سنة الطبع، أو دار النشر التي أصدرته، لعدم توفر الكتاب لدي حال كتابة هذا المقال، ولكني ما زلت أتذكر أنني وبعض الزملاء في أواخر السبعينات كنا قد أجرينا مقارنة بين كتاب الأستاذ سيد قطب وكتاب الدكتور، فهالنا الجرأة التي يتمتع بها، والتطابق الكبير بين الكتابين ولكننا عندما سمعنا من الدكتور بعد ذلك ما يقوله عن الصحابة الكرام عامة والخليفة الراشد الثالث عثمان خاصة زال استغرابنا حيث زعم - وهو يدرسنا - مادة الأدب في العصر الإسلامي: (أن الصحابة رضي الله عنهم المهاجرين والأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة للمسلمين بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتصارعون على السلطة كما يتصارع عليها أي حزبين في الوقت الحاضر (ولا شك أن هذا تكرار لعبارات المستشرقين، ومخالف لمنطق الأحداث.
(4) كتب الدكتور أخيراً مقالاً طويلاً بعنوان: (جدلية الفكر والفن في الشعر العربي الحديث) خلاصته أن شعرنا العربي الحديث، ما هو إلا شعر، أمل دنقل، ونزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، الذي قال عنه: (بأنه يحسن الظن بعلمه وفنه) وغيرهم من شعراء الحداثة، والخلاعة والمجون، واليسار، على اعتبار أنهم في نظره، (هم الشعراء الذين يعيشون هموم بيئتهم، ويعالجون قضايا وطنهم ومجتمعهم، وأنهم الشعراء المسئولون والمشغولون بالفكر الإنساني - يقصد الأممي - وأنهم الذين يرون في الشعر أداة نضال! ! في (معارك) (البناء، والحرية، والتقدم) ، انظر مجلة الفيصل عدد سبتمبر 1988 ونحن لم نشر إلى ما في بحثه من مغالطات وأخطاء واستعراض يعوزه التحقيق العلمي والمنهجي التي طالما سئمنا سماعها منهم فذلك ما قد نتعرض له، يوماً ما ولكنا نشير إلى أن الدكتور قد مارس عملية التعتيم ضد الشعراء الإسلاميين المعاصرين بشكل مفضوح لا حياء فيه! ومع ذلك فلو أن الأمر وقف عند هذا الحد لقلنا: ناقد يساري حاقد لا يسعه الخروج على التعليمات! ! لكنه زعم أن غير الحداثيين ما هم (إلا متسكعون يرفضون وظيفة الشعر الإنسانية، متخاذلون يخشون مواجهة الواقع) ، فهل يصدق كلام الدكتور على الشعراء الإسلاميين أمثال: يوسف العظم، والأميري، والأعظمي وغيرهم.
(5) ذكر الأستاذ محمود شاكر في مقدمة كتابه (المتنبي) أنه تخرج من القسم العلمي الثانوي، وأن الدكتور طه هو الذي أقنعه على دراسة الأدب.
(6) انظر القصة بكاملها، في مقدسة كتاب الأستاذ شاكر (المتنبي) تحت عنوان: قصة هذا الكتاب وفي الشعر الجاهلي، لمحة من فساد حياتنا الأدبية، طبعة مطبعة المدني، عام1973 م.
(7) وكذلك انظر قصته في كتاب (المتنبي) وأصله البحث الذي نشرته (المقتطف) سنة 1936م.
(8) كان ذلك في أواخر عام1964 م وقد استقال غير الزبيري من الوزارة احتجاجاً على النهج الذي كان يسبر عليه القادة العسكريون حينها، انظر كتاب (التاريخ العام لليمن) ، 5 /234-235، للأستاذ محمد يحيى الحداد، الطبعة الأولى عام1986 م، منشورات دار المدينة.
(9) وهو الأمر الذي كان يشغل الزبيري رحمه الله، لأنه كان يرى أن الشباب الواعي والمتعلم هم مفتاح التغيير في اليمن، لذلك كان لا يتولى إلا وزارة التربية والتعليم في كل الحكومات التي شارك فيها.
(10) هو الأستاذ الشاعر والأديب أحمد محمد الشامي، انظر كتابه (من الأدب اليمني) ص 106.
(11) انظر القصيدة كاملة في كتاب: الزبيرى شاعر اليمن الثائر، ص104.
(12) فعلوا ذلك معه بعد أن عانى طوال حياته من الإهمال والنسيان المتعمد، فلما رأوا إقبال جيل الصحوة الإسلامية على كتبه ومؤلفاته عمدوا إلى الأسلوب الآخر وهو تفسير أدبه من وجهة نظرهم!!.
(13) -انظر ترجمته كاملة في الجزء الأول من كتاب، سلسلة شعراء الدعوة الإسلامية) للجدع، وجرار، طبعة ونشر مؤسسة الرسالة، عام1978م حيث جعله على راس قائمة شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث.
(14) وأظن أنه وضح أن عملهم هذا ما هو إلا تنفيذ وترجمة لتلك التعليمات التي يتلقونها من دوائر الاستعمار والتي أشرنا إليها فيما سبق! .(19/60)
حديث طاغية في القبر
مروان كجك
مضى العهد الذي يعد ... وجاء الهم والنكد
ولم أعلم بأن يدي ... غداة الروع ترتعد
وبتّ اليوم منفرداً ... فلا خلٌّ ولا ولد
أجيل الطرف ملتمساً ... فألقى الكل قد بعدوا
ويذهب بي حصاد الأمس ... مثل البرق يتَّقد
إلى ما كنت أنكره ... وأزعم أنه الفند
فأين الآن من زعموا ... بأني الخالد الفرد
وأني الفارس المقدا ... م والعمدان والوتد
وأني صانع الأمجاد ... وي أم أنهم جحدوا
أراني كنت منخدعاً ... على الأوهام أعتمد
فكم أمسيت منتفشاً ... كأني في الوغى الأسد
وكم أصبحت منتشياً ... لأن القوم قد سجدوا
فقلت لعلهم صدقوا ... بأني الموئل الصمد
ولولا ذاك ما هتفوا ... لِتَحي الدهر يا أحد
وكانت صيحة أخذت ... بلُبِّي والحجا شرد
فلم أعبأ بنصح أخٍ ... ولم أنصت لمن نقدوا
ودارت بي كؤوس الطي ... ش والآثام والمضد
فلم ألمس ولم أبصر ... ولم أسمع لمن وفدوا
فيا ليت الذي بيني ... وبين الأمس مفتقد
وأمثالي وإن عظموا ... بهذي الأرض ما ولدوا
فهذي الحفرة التعسا ... ءِ في الإيذاء تجتهد
لظاها سابغ اللمسا ... ت في أنحائها الزرد
لها فَيحٌ شديد الوط ... ء في الحلقوم ينعقد
نسيت لهوله أمسي ... وضقت لفرط ما أجد
ودالت دولة الطغيا ... ن والأذناب قد رقدوا
هنا وحدي أسير القب ... ر ضاع الزهو والغَيَد
سيوفي كنت أحسبها ... تعيش الدهر تحتَصِدُ
فخانتني وما صدقت ... وكانت دائماً تعد
فأين الآن حاشيتي ... وذاك الجمع والعدد
أراهم كلهم دخلوا ... جحور الذل واختُضِدُوا
أو ارتدُّوا على الأعقا ... ب فليجدوا الذي أجد(19/71)
تراجم
السلطان سليمان بن محمد
محمد آمحزون
هو سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل، من سلاطين الدولة الحسنية
بالمغرب الأقصى، بويع بفاس عام 1206 هـ (1791م) بعد وفاة أخيه اليزيد،
كان سلفياً محباً للسنة، قامعاً للبدعة، محباً للعلم والعلماء، له حواش وتعاليق على
بعض الكتب، وقد عني بإخضاع القبائل، وقمع أهل البدع والخرافات وإحياء السنة، كما عرف بالسعي إلى العودة بالناس إلى منهج السلف في صفاء العقيدة وسلامتها
واستقامة السلوك لإيجاد مغرب قوي موحد يتحدى الأطماع والمؤامرات الخارجية
التي تسعى إلى زعزعة استقراره وفقدان سيادته والإطاحة به في شراك التبعية
الفكرية والسياسية والاقتصادية.
ولقد ظل سليمان رحمه الله اثنين وثلاثين سنة مثالاً للفضيلة والحكمة والرفق، وعمد إلى تركيز نظام الدولة على دعائم شرعية، فأسقط المكوس واكتفى بالزكاة
وأعشار المراسي المشتغلة من طرف اليهود المغاربة والتجار الأجانب، وكان له
اهتمام كبير بالعلم والعلماء، حتى تنافس الناس في طلب العلم في عهده، لما كان
يحظى به أهله من طرف السلطان من عناية زائدة، وعرفت البلاد في عهده حركة
معمارية مهمة من بناء المساجد والمدارس والقناطر والأسوار ومد الطرق وتجديد
القلاع والحصون رغم الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهته..
ومن الملاحظ أن أرباب الفكر الصوفي المعادي للسلفية - وهي العودة إلى
الكتاب والسنة - والذين كانوا يؤثرون إلى حد بعيد على عقليات البربر حرضوا
هؤلاء على الانتفاضة ضد السلطان عندما رأوا مصالحهم مهددة بالزوال، هذا
بالإضافة إلى أن جهود سليمان كانت فردية مما كان له الأثر في صعوبة تنفيذ
مخططه الإصلاحي.
ومما يجب أن ينبه له أن الكتَّاب الغربيين ومن سار على دربهم من الملحدين
اليوم المتسمين بأسماء إسلامية، المقلدين للإفرنج، المتخلين عن كل خُلُقٍ وفضيلة
زاعمين بجهلهم وتقليدهم الأعمى أن هذا هو سبيل الرقي والمدنية حاولوا جميعاً
تشويه سيرة هذا الرجل والانتقاص من مكانته نظراً للافتراءات والادعاءات الباطلة
التي نشروها حول سياسة المغرب في تلك الفترة (1206-1238هـ/1791-1822
م) بوصف السلطان سليمان بأنه مارس سياسة العزلة وأغلق منافذ الاتصال مع
البلدان الأوربية، وبذلك أصبح المغرب متخلفاً ولم يعد يواكب التقدم العلمي
والعصر المتطور.
وجدير بالإشارة أن هذه الحملة على السلطان سليمان وربط ما يتهمه الخصوم
به من عزلة وتقوقع باعتناقه مذهب الوهابي إنما يراد منها الطعن في الإسلام ورميه
بالتزمت والانغلاق لاسيما وأن الوهابية ليست مذهباً فقهياً بل دعوة إلى الالتزام
بالكتاب والسنة وإحياء سيرة السلف الصالح.
إن أعداء الإسلام يحاولون على الدوام وبكل ما يملكون من وسائل هدم هذا
الدين وطمس معالمه لأنه يقف جداراً منيعاً في وجه أي غزو فكري وسياسي
واقتصادي.
لست أدري كيف تجاهل هؤلاء الموتورون الحاقدون أن الإسلام دين العلم
والحضارة والتقدم ولولا انفتاح المسلمين لما استطاعت أوربا أن تصل إلى ما
وصلت إليه الآن من مدنية وتقدم علمي؛ فعلى ضوء المنجزات الإسلامية في
العصور الوسطى وعلى هديها أخذت أوربا المنهج التجريبي وبنت لنفسها الشخصية
العلمية الرائدة، وأقامت مدنيتها الحديثة، إنهم يريدون بالانفتاح أن يفتح المسلمون
أبوابهم أمام التيار الثقافي الغربي لتكريس التبعية لهم في مجالات الحياة المختلفة،
أما رفض ذل التبعية والالتزام بمقتضيات الإسلام من التميز والعزة والوقوف في
وجه الأطماع فذلك كله في نظر الأعداء عزلة وتخلف.
إن السلطان سليمان كانت له علاقات مع الدول الأوربية عن طريق القناصل
الممثلين لدولهم والمقيمين في طنجة، ولكن كان حازماً في سياسته حيث كانت
الدول الأوربية الممثلة بالمغرب تؤدي إتاوة سنوية أو هدايا. فالسويد كانت على
سبيل المثال تؤدي إتاوة قدرها (25 ألف) ريال مغربي، وقد تجلت سياسة سليمان
في استغلال التنافس بين الدول الأوربية لحماية المغرب من أطماعها، كما تجلت
في التحكم في التجارة المغربية وعدم إطلاق الحرية للأوربيين في اقتناء ما يريدون
، وفي فرض الرسوم الجمركية بكل ميناء لجباية الأعشار من التجار الأوربيين،
وفي تجهيز أسطول بحري يمارس أعمال الجهاد ضد سفن الدول الأوربية التي لم
تعقد هدنة معها، علاوة على تبنى سياسة الإصلاح الداخلي عن طريق إشاعة
الوعي الإسلامي الصحيح لولا عناد وتآمر المناوئين وأهل البدع.
وهكذا إزاء هذه المواقف الدالة على اليقظة والحزم من قبل السلطان للمحافظة
على سيادة المغرب وإصلاح أوضاعه الداخلية لم يسع الصليبيين الذين أثيرت
مخاوفهم إلا تزييف الحقائق التاريخية ورميه بالعزلة والتخلف نظراً لأنه ضيق
الخناق عليهم ولم يسمح للدول الصليبية باحتواء المغرب في عهده.
__________
(*) انظر ترجمة السلطان سليمان عند أبي القاسم الزياني: (الترجمانة الكبرى) ، تحقيق عبد الكريم الفيلالي، المحمدية، مطبعة فضالة، 1387هـ/1967 م، الخبر عن أول دولة من دول الأشراف، بباريس، المطبعة الجمهورية، 1303هـ/1976م - ومحمد بن عثمان المكناسي: الإكسير في فكاك الأسير، تحقيق محمد الفاسي، الرباط، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي بجامعة محمد الخامس - ومحمد الضعيف الرباطي: تاريخ الدولة السعيدة، تحقيق أحمد العماري، الرباط: دار المأمون 1406هـ/1986 م - واكنسوس: الجيش العرمرم، فاس، المطبعة الحجرية 1336هـ /1917 م - ومحمد مخلوف: شجره النور الذكية في طبقات المالكية، طبعة مصر 1349هـ/1930م - وعبد الحي الكتاني: فهرس الفهارس، طبعة فاس 1346هـ/1927 م - والناصري: الاستقصا في أخبار دول المغرب الأقصى، الدار البيضاء، مطبعة دار الكتاب، 1376هـ/1956م.(19/73)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
الشيخ حسن خالد وأهل السنة في لبنان
خسارة كبيره تعرض لها أهل السنة في لبنان بمقتل الشيخ حسن خالد الذي
كان الرمز المتبقي لهم في بلد تسوده شريعة الغاب، بل أسوأ من ذلك، خمسة عشر
عاماً والبلد يغرق في الدماء، ولا أحد يريد أن تتوقف هذه الوحشية في التعامل،
ولا أحد ينبض له عرق من الإنسانية لوقف هذا النزيف.
كانت دار الفتوى هي ملجأ الجميع في بيروت، وكان الشيخ يداور ويتلطف
ليبقى لأهل السنة بعض الخيوط التي يستطيعون التمسك بها في أجواء (المليشيات)
وزعماء الأحياء و (الحارات) .
إن الطوائف الأخرى في لبنان ومن يساعدهم يستعملون مع أهل السنة المثل
القائل: (استضعفوك فأكلوك) فأهل السنة هم الوحيدون الذين ليس لهم مليشيات،
وهم الوحيدون الذين لا يفرضون (الخوة) و (البلطجة) على رقبة الشعب المسكين،
ولذلك أصبحوا طعمة لكل طامع، ووسيلة لتفجير الأوضاع وعدم استقرارها، فإذا
ما هدأت الأمور أو في طريقها إلى الهدوء وظهر في الأفق بعض المبشرات فإن
الضحية والتجربة هم (أهل السنة) ..
وقد يقال: ولماذا لا يكون لهم قوة تردع من يعتدي عليهم؟ هذا سؤال يوجه
إليهم ونحن لا نريد تبرير تصرفاتهم، ولكن حتى في الوقت الذي كان عندهم بعض
القوة - على خلل وضعف - ضربت هذه القوة من الطوائف الأخرى.
كان الشيخ حسن خالد رحمه الله ذا شخصية هادئة، يريد الخير للبنان، وليس
عنده ما يخيف، فلماذا قتلوه؟ طبعاً لأنه ليس وراءه أحد، وبقتله تتفجر الأوضاع
وتستمر في طريقها المسدود، وأيضاً يستريحون، من شخصية كبيرة تقبل الحوار
لإنقاذ لبنان، كما استراحوا من الشيخ صبحي الصالح رحمه الله، الذي لم يكن عنده
مليشيات ولا عصابات، ولم يتحزب يوما مع أحد.
إن الأعداء يعلمون وإسرائيل تعلم أن أهل السنة هم في النهاية الذين يتصدون
لكيد اليهود في فلسطين، أو كيد الشيوعية في أفغانستان، ولهذا هم المستهدفون
دائماً، والكيد والحقد موجه لهم دائماً، وإنها شنشنة نعرفها من أخزم ...(19/77)
أزمة ديون العالم الثالث
التاريخ يعيد نفسه
إن أسباب أزمة ديون العالم الثالث لم تتغير منذ مائة عام، تبدأ المشكلة بتهالك
دائنين شرهين على الإقراض، وحرص منهم على مد السكك الحديدية في
الصحاري المترامية الأطراف، وإقامة مصانع في الأدغال، هذا من جهة؛ ومن
جهة أخرى حكام دكتاتوريون يجمعون بين الفساد والجهل، تنفتح شهيتهم وشراهتهم
إلى القروض، فيحولون قسماً كبيراً منها إلى جيوبهم، أو يعيدون قسماً آخر منها
إلى حساباتهم في البنوك الغربية، وبعد وقت قصير يحين موعد تسديد هذه الديون،
وهنا تبدأ الأزمة.
وهكذا كانت بداية مثل هذه الأزمة في الثمانينيات من القرن الماضي عندما
حدث ما اصطلح على تسميته بأول أزمة ديون عالمية، وذلك بعجز الدولة العثمانية
عن تسديد ديونها المستحقة، وإعادة المفاوضات بشأنها.
وهاهي الأزمة تعيد نفسها في الثمانينيات من هذا القرن، حيث أقرض الغرب
المكسيك والبرازيل وفنزويلا وغيرها من دول العالم الثالث المفلسة التي اعتادت
الاقتراض، واستحلت طعمه.
إن ما يمكن تعلمه من دروس التاريخ العثماني؛ هو أن علاج بعض المشاكل
قد يزيدها تفاقماً وسوءاً. فالدولة العثمانية نقلتها مشكلة الديون من كونها (رجل
أوربا المريض) إلى أن تصبح (رجل أوربا الميت) ، ولم تفلح جهود الأوربيين
في إحياء الجثة إلا في خلق مشاكل جديدة.
وفي هذه الواقعة التاريخية فائدة وعبرة لوزير الخزانة الأمريكي (نيقولاس
بريدي) الذي يحاول أن يصوغ خطه لتخفيف ديون العالم الثالث، بينما كان سلفه (جيمس بيكر) مصراً على تسديد المقترضين (المفلسين) ديونهم بكاملها دون نقصان. أما الآن فإن بريدي يقترح أسلوباً أكثر ليونة وذلك بالتنازل عن جزء من هذه الديون.
إلا أن التجربة العثمانية لا توحي بأن أي من الحلين يمكن تطبيقه بسهولة!
فإذا لجأنا إلى خيار (بيكر) فإن ذلك يتطلب من المقرضين التدخل بشكل سافر
في إدارة اقتصاد الدول المقترضة.
وإذا لجأنا إلى خيار (بريدي) فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار سمعة الدول
المقترضة أمام العالم، وفقدان الثقة بها، كما حصل لسمعة الدولة العثمانية بعد عام
1875م.
وقد لاحظ (برنارد لويس) [1] أن الشيء الذي لم يتغير خلال قرن من
الزمن - رغم كل التغيرات التي حصلت - هو جهل المستدينين وجشع الدائنين.
وقع العثمانيون أول الأمر تحت وطأة الديون لأسباب تشبه كثيراً أسباب
استدانة دول العالم الثالث، وهي في شراء أسلحة (عصرية) ، فعندما وقعت حرب
القرم عام 1854 لم يكن على العثمانيين ديون تذكر، ولكن السلطان عبد المجيد
الذي كان حريصاً على مساعدة بريطانيا وفرنسا ضد روسيا أصدر مرسوماً يسمح
فيه للخزينة باقتراض 3 ملايين جنيه، وكانت تلك بداية نهم لا يشبع من قبل
الأتراك إلى الأموال الأجنبية، وذلك ببيعهم سندات ديون إلى مستثمرين أوربيين
خصوصيين، وغدا الاقتراض من الخارج لديهم عادة روتينية سهلة.
كتب المؤرخ البريطاني اللورد كنروز عن تلك الفترة من التاريخ العثماني
يقول: (أصبح الاقتراض من البنوك الغربية غاية في السهولة، فقد كان ... المستثمرون الأوربيون يتفاءلون خيراً بما يردهم من تقارير مشجعة حول المصادر الطبيعية الضخمة في تركيا، ولكنهم تناسوا حقيقة عجزها عن استثمار تلك الموارد، وقصورها الفادح في تسيير المسائل المالية) .
وكان لدى العثمانيين مرض آخر معروف لدى العالم الثالث، وهو نزعة القادة
إلى إنفاق الأموال الطائلة من مال الشعب على أنفسهم ومصالحهم الخاصة، وقد
تفاقم هذا الأمر باعتلاء السلطان عبد العزيز العرش عام 1861م، فقد كتب السير
إدوين بيرز في الكتاب السنوي لعام 1917:
(كانت الإدارة المالية فاسدة تماماً، حيث لم يكن يصل إلى خزينة الدولة من
أموال الضرائب إلا 40 بالمائة) .
وطوال فترة حكم عبد العزيز كانت الديون العثمانية تتراكم، فقد ارتفعت من
(3) ملايين جنيه عام 1845م إلى حوالي (200) مليون جنيه عام 1875 وقد انهار
هذا الهرم غير الطبيعي من الديون فجأة في 6 أكتوبر من تلك لسنة عندما عجز
العثمانيون عن الوفاء بالتزامهم للدائنين! فأعلن الباب العالي أنه سيدفع نصف
الفوائد، وتعهد بالتزامات جديدة تغطي الباقي.
وكما لاحظ كنروز فقد كان هذا عجزاً حطم سمعة الحكومة العثمانية في
الخارج، وهكذا بعد دمار رصيدها وتخبط اقتصادها في براثن الفساد عجزت الدولة
العثمانية ثانية عن الوفاء بالتزاماتها المعدلة، وانتهى الأمر بالسلطان عبد الحميد أن
ألقى السلاح، ووافق على قيام مجلس مشترك: عثماني - أوربي للإشراف على
تسديد الديون.
وكان أن فقد العثمانيون التحكم المستقل باقتصادهم، وسمحوا للتدخلات
الأجنبية فيه، فأصبحت مواردهم الطبيعية رهينة بيد القوى الأجنبية، يساعدها
عملاء محليون وطابور خامس من اليونان والأرمن، وقد كانت الاضطرابات
السياسية والاجتماعية الناجمة عن ذلك من أهم الأسباب التي ساعدت على ظهور
حركة (تركيا الفتاة) وزوال الإمبراطورية إلى درجة يمكن معها التأكيد بأن الديون
أدت إلى خنق العثمانيين.
دافيد أغناطيوس / الغارديان ويكلي 15 / 5 / 1989 م
__________
(1) مستشرق أمريكي مشهور متخصص بشؤون العثمانيين.(19/79)
الشيخ سياف يرد على الحملة الإعلامية
التي تشن على المجاهدين العرب
دأبت بعض الصحف الغربية في الآونة الأخيرة على إثارة الفتنة والضرب
على وتر العصبية المنتنة، فراحت تكتب وتحاور الأفراد من داخل أفغانستان حول
ما أسمته (العرب والوهابية) وربما يكون قد تجاوب معها بعض الجهلة المتعصبين
فراحوا يرددون هذه العبارة لإبعاد الأخوة العرب الذين يشاركون في الجهاد الأفغاني.
والأخوة العرب ومن شتى الأقطار العربية يفخرون إذا كانوا يتبعون منهج
أهل السنة، منهج السلف، وهي ظاهرة طيبة بين صفوف الشباب الإسلامي في
هذا العصر، وليس هناك شيء اسمه (الوهابية) وإنما هناك مصلح مجدد اسمه
محمد بن عبد الوهاب، كأي مصلح إسلامي أراد العودة إلى منابع الدين الصافية،
والذين يرددون هذه الكلمة ويعتبرونها تهمة معروفون في العالم الإسلامي. إن
هؤلاء الأخوة العرب ليعتبرون الإمام أبا حنيفة من أئمة أهل السنة، وهذا الإمام له
مواقف رائعة في الدفاع عن السنة ومحاربة المبتدعة الذين انشقوا عن أهل السنة
وكتب الأحناف مملوءة بالتحذير من الباطنيين.
وندعو إخواننا العرب أن ينتبهوا لهذه المكيدة، ويذكروا الناس الذين لا
يعلمون بكتاب (الفقه الأكبر) للإمام أبي حنيفة وكتب أبي يوسف ومحمد ابن الحسن، والطحاوي في الدفاع عن السنة.
وقد تنبهت -والحمد لله -وكالة البنيان الصحفية لهذا الأمر فسألت الشيخ
السياف رئيس وزراء أفغانستان عن هذا الموضوع، وذكرت مقتطفات من أقواله،
ونحن ننقل هذه المقتطفات كما جاءت رداً على مثيري الفتنة والتفرقة.
(في تصريح خاص لمجلة البنيان الناطقة بالعربية رد رئيس حكومة
المجاهدين المؤقتة الشيخ عبد رب الرسول سياف على الحملة الشرسة التي تشنها
في هذه الأيام وسائل الإعلام الغربية وخاصة إذاعة ال بى بى سي ضد المتطوعين
المسلمين الذين يعملون في الساحة الأفغانية. فقال: إن الدنيا بأسرها قد تكالبت
على أمتنا الإسلامية وأن أعداء الإسلام يتضايقون من أي مظهر يدل على وحدة
الإسلام والمسلمين) . وأضاف سياف: (لقد جعل الله الجهاد الأفغاني سبباً من
أسباب تجمع بعض أبناء أمتنا الإسلامية المخلصين الذين توافدوا إلى خنادق القتال
من شتى أقطار العالم الإسلامي والتحموا كتفاً لكتف ودماً لدم، وأصبحوا صفاً واحدا
في مقابلة من يريد اجتياح أمتنا الإسلامية واستئصال شأفتها وعقيدتها من جذورها) .
ثم تحدث الأستاذ سياف عن دور المتطوعين من المسلمين في الجهاد الأفغاني
فقال: لقد كان لهؤلاء الغرباء القادمين لمساعدة إخوانهم الأفغان والوقوف بجانبهم
أطيب الأثر في رفع الروح المعنوية لدى المجاهدين حيث شكلوا بتواجدهم نموذجاً
مصغراً للوحدة الإسلامية وجنسيتها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) .
ثم عرّج الشيخ سياف على ما ينشره الإعلام الغربي من تهم وأكاذيب باطلة
حول هؤلاء المتطوعين قائلاً: لقد أغاظت الوحدة الإسلامية هذه قلوب أعداء
الإسلام وضاقت بها صدورهم فلم يستطيعوا تحملها وبدءوا بإعلان حربهم الشعواء
بشتى الوسائل والأساليب، وها نحن نسمع أبواق الكفر والمنافقين تتحدث عن
هؤلاء الأخوة الذين سارعوا لخدمة هذا الجهاد ودعم إخوانهم المجاهدين وتتهمهم
وتطعن فيهم وتختلق عليهم الكذب والأقاويل.
وأردف سياف يقول: إن هدفهم الرئيسي من وراء كل هذا هو إحداث فجوة
بين أبناء الشعب الأفغاني المجاهد المسلم وبين إخوانهم في الله والعقيدة، ويهدفون
كذلك إلى النيل من طريق إعادة وحدة الأمة الإسلامية وتفريغ الساحة للمؤسسات
الكفرية والإلحادية حتى تنفرد بالإفساد داخل ساحات أفغانستان في المستقبل القريب
باسم بناء وتعمير أفغانستان.
وتحدث الشيخ سياف عن الأنصار العرب فقال: إن هؤلاء لم يدخروا من
الدنيا شيئاً بل باعوا دنياهم من أجل الدفاع عن دينهم وعن عقيدتهم وإيمانهم والذود
عن أعراض هذه الأمة وحرماتها، وبدأت أبواق الخبث والعفن تتهم إخواننا
المتطوعين العرب بأنهم، يحاربون مذهب أهل البلاد وأنهم كذا.. وكذا وكل هذه
الأمور لا أساس لها من الصحة ولا رصيد لها من الواقع. وأن استشهاد العديد منهم
لأصدق دليل على أنهم جاءوا ابتغاء مرضاة الله. وأن هذه الحملة الإعلامية الشرسة
التي تشن ضد إخواننا الأنصار الذين نعتبرهم أفلاذ أكبادنا وهم أغلى من في
الأرض من بني البشر الأحياء، كما نعتبرهم أصدق نماذج في ساحة الأخوة
الإسلامية.
ثم خاطب سياف الأنصار بقوله: (أطمئنكم بأن الأفغان متنبهون إلى هذا الأمر، ويعرفون حقائق هذه الحملة البشعة، فواصلوا عملكم بكل ثقة واطمئنان،
وواصلوا مسيرتكم في درب الجهاد درب العزة، ولن نسمح لهم بأن يفرقوا بيننا) .(19/85)
لمحات عن إندونيسيا
تشكل جاوة وسومطرة جزيرتين اثنتين من الجزر ذات الجمال الطبيعي التي
تكون جمهورية إندونيسيا البالغ عددها (13660) جزيرة (خمس جزر رئيسية،
وثلاثون أرخبيلا) ، ومساحتها (2) مليون كيلو متر مربع، وفيها مائة بركان نشط
تخرج منها الأبخرة والغازات، ويبلغ عدد السكان (180) مليون، وبهذا التعداد
تمثل إندونيسيا خامس أكبر دولة في تعداد السكان في العالم بعد الصين والهند
والاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة.
وتمتد جزر إندونيسيا عبر (3200) ميلاً من المياه فاصلة المحيط الهندي عن
المحيط الهادي، وقد استغل المستعمرون الهولنديون إندونيسيا لمدة تقرب من
(350) سنة، ولكنهم لم يوحدوا الجزر تحت إدارة مركزية مطلقاً، لذا فعندما نالت
إندونيسيا استقلالها سنة 1949م لم ترث حكومة موحدة ولا هوية وطنية واحدة.
الشعار الوطني (الوحدة في الاختلاف) هو شعار صنع في القرن الخامس
عشر، يصف حالة البلد اليوم بشكل ملائم، وتحوي التشكيلة الإندونيسية:
الجاويبين شديدي التهذيب، والسندانيين عديمي الاهتمام، الباليين البوجيين
الملاحين، والمندانيين الصناعيين، وبقايا من البرتغاليين الذين احتلوا البلاد عام
1510 م.
بحلول سنة 1965 كانت إندونيسيا الفتية تغرق بسبب التبذير الوطني
والإفراط السياسي من قبل الرئيس الأول (سوكارنو) وكانت البلاد تنجرف نحو
سيطرة الحزب الشيوعي الإندونيسي، أكبر حزب شيوعي في العالم خارج الصين
والاتحاد السوفييتي، فتحرك (سوهارتو) بسرعة فنحى (سوكارنو) وسيطر على
مقاليد البلاد، وكان أول عمل قام به حل الحزب الشيوعي مما أدى إلى ملاحقة
الشيوعيين وقتلهم، وكان عدد كبير من القتلى من الصينيين، وبعد مضي أربع
وعشرين سنة مازالت المدارس الصينية والأحزاب الصينية محظورة، وقد جمع
حكم (سوهارتو) بين التهذيب والمكر والقبضة الحديدية. فقد حل الأحزاب العنيدة،
وفتح أبواب إندونيسيا للمعونة الخارجية والاستثمار، وفي السبعينات بدأ الانتعاش
بسبب البترول (يقدر احتياطي إندونيسيا المعروف من البترول تسعة ملايين برميل)
واليوم تلتف الطرق الحديثة حول الجبال وعبر الأدغال في سومطرة وسليبي، وفي
إيريان وتنتشر الآن حوالي 136 ألف مدرسة ابتدائية جديدة عبر القرى البعيدة،
وقد تضاعف إنتاج الأرز، وتوجد مشاريع صناعية ضخمة في البلاد، مثل منشآت
الغاز الطبيعي.
إن أربعاً وعشرين سنة تعتبر طويلة بالنسبة للتاريخ السياسي الساخن لآسيا
الاستوائية، ويتساءل الكثير: ماذا سيحدث بعد سوهارتو؟ في الانتخابات
الإندونيسية سنة 1987 فاز حزب سوهارتو السياسي المدعوم من الجيش بـ 73% من مقاعد مجلس الشيوخ ثم عين سوهارتو مائة ضابط في الجيش في ذلك المجلس، كما عين كل أعضاء مجلس الشورى الوطني الخمسمائة، ثم انتخبه المجلسان
للمرة الخامسة كرئيس لفترة خمس سنوات، ويعتبر الرئيس الحالي كبيراً جداً في
السن إلا أنه يواجه تحديات لم يواجهها من قبل فمعدل دخل الفرد بقي (350)
دولارا في السنة، وهذا دون مستوى معدل دخل الفرد في الفلبين،. ويبلغ عدد
العمال في وظائف دون مستواهم 40% وينضم إلى العمال سنويا مليونا عامل جديد، ومع زيادة عمليات الاقتراض زادت الديون وزاد الفساد من المشاكل الاقتصادية
حيث تنتشر الرشاوى والعمولات العالمية المعقدة، ومن خلال شبكة من الاحتكارات
يتحكم الإندونيسيون الصينيون باستيراد العديد من السلع الرئيسية، محققين مكاسب
كبيرة لأنفسهم وأنصارهم، وتعتبر عائلة سوهارتو وأقاربه المختلفين ومساعديه من
المستفيدين.
وفي نقاش لي مع الرئيس (سوهارتو) نفسه تحدثت فيه عن الفساد الموجود
وعن استفادة عائلته وأصدقائه من وجوده في الحكم رفض الاعتراف بشيء من هذا، وقال: إن من يقول هذا ينظر للأشياء بعين واحدة مغلقاً الأخرى. فأجبته:
بالطبع يا سيادة الرئيس لكنك كجندي سابق تعلم انك يجب أن تغلق عيناً عندما
تصوب على الهدف. فأجابني ببرود شديد: حتى لو أغلقت عيني الاثنتين فإني
مازلت أستطيع إصابة الهدف.
ويقطن العاصمة جاكرتا ثمانية ملايين شخص، وفيها المباني الحديثة والفنادق
والسفارات بالإضافة إلى الأعشاش والبيوت والأحياء القديمة الفقيرة.
وتعتبر جاوة من أكثر المناطق القروية كثافة سكانية في العالم، ويعمل حوالي
نصف سكان جاوة بالزراعة، حيث يمتلك ثمانون بالمائة منهم أرضاً لا تكاد تكفي
لسد رمقهم،. وقد أعادت الحكومة إسكان أكثر من 700 ألف عائلة ضمن المشروع
الحكومي للهجرة - الداخلية من المناطق المكتظة بالسكان- إلى حوالي 600
مستوطنة في الجزر البعيدة.
إن تسعين بالمائة من السكان مسلمين، وأشدهم تمسكاً بالإسلام (الأسهيون)
الذين يقطنون السهل الساحلي شمال سومطرة، فقد أعلنوا الجهاد ضد حكومة جاكرتا
عام 1953 ولم تهداً الحرب إلا بعد أن اعترفت الحكومة بنوع من الاستقلال
الداخلي وتطبيق الشريعة الإسلامية، وأشد الأقوام بدائية يتواجدون في إقليم (دامينا)
وينتمون إلى قبيلة ماسكونا، وأرضهم عبارة عن أدغال لا يمكن عبورها تتخللها
محاجر كلسية، ووهاد ضيقة، وقد خاضت قبيلة (الماسكونا) لعشر سنوات خلت
حروباً قبلية عنيفة وقتلوا كل أجنبي تجرأ على تحدى حرمة أراضيهم، إن الطريق
الوحيد للوصول إلى هذه القبيلة هو عن طريق الجو، وهكذا جاء المبشرون
بالنصرانية، وقد وجدت هناك أمريكيين من الكنيسة الإنجيلية يدرسون اللغة القبلية، وعندما سألت شاباً من القبيلة: كيف تعرفت الدولة عليكم، أجابني بقوله: جاءوا
منذ ثلاث سنوات وأخبرونا ألا نستقبل المنصرين، وعندما سألته إن كان يعرف من
هو رئيس إندونيسيا، قال بسرعة (باك سوهارتو) و (باك) تعني الأب، ثم قال:
إنه الكبالا الكبير، والكبالا تعنى رئيس القبيلة.
عن مجلة ناشيونال جيوغرافيك يناير 1989(19/88)
أخبار حول العالم
السيطرة الروسية في الاتحاد السوفييتي
في طريقها إلى الزوال
إن السيطرة الروسية في الاتحاد السوفييتي في طريقها إلى الضعف بسبب
ارتفاع معدل الولادة عند المسلمين في وسط آسيا.
فحسب تعداد يناير من هذا العام (1989) فإن الروس يشكلون 51% من
مجموع السكان مقارنة بـ 56% عام 1959، و 52% في إحصاء عام 1969 في
حين بلغ مجموع السكان في آخر إحصاء 286. 7 مليون نسمة وكان قبل عشر
سنوات 265 مليون نسمة.
إن نتائج هذا التعداد تعتبر تحولاً ديموغرافياً لازال يثير مخاوف الكرملين
خلال ثلاثة عقود، وإذا ظل اتجاه النمو السكاني على ما هو عليه فإن الأغلبية
الروسية ستصبح أقلية في نهاية هذا القرن ومع هذا فإن الأرقام تعطي بعض الراحة
لصانعي السياسة السوفيتية الذين يواجهون حالياً باضطرابات قومية على أطراف
آخر إمبراطورية مؤلفة من قوميات متعددة، وعلى الرغم من أن المسلمين لا زالوا
يتميزون بنسبة مواليد مرتفعة مقارنة بالسلف؛ فإن نسبة زيادتهم تراخت قليلاً منذ
آخر إحصاء، وأخطر توقعات علماء السكان الغربيين هي أن الشعب الروسي قد
يهبط إلى ما تحت 50% في هذا التعداد.
في كتاب مشهور نشر منذ عشر سنوات بعنوان (سقوط إمبراطورية) تنبأ
كاتبه بأن الشعب الروسي [1] سيهبط إلى 8 ر46% في عام 1990 والأرقام تشير
إلى أن نسبة الولادات في جمهورية روسيا خلال عشر سنوات قد ارتفعت قليلاً منذ
عام 1979 أي إلى 7% ولكنها لا زالت منخفضة جداً عند نسبة 34% في
جمهوريات آسيا الوسطى.
وعلى المدى الطويل، فإن تناقص سكان روسيا سوف يجعل من الصعب على
السياسيين أن يستمروا في ادعاء تفوق التمثيل في اقتسام السلطة، فالآن يوجد اثنان
فقط غير روسيين ضمن الترويكا الحاكمة المؤلفة من 12 شخصاً، هما وزير
الخارجية (إداورد شيفارنادزة) من جورجيا، و (فلاديمير شيربتسكي) من أوكرانيا، والمسلم الوحيد [2] الذي وصل مرة إلى الترويكا (حيدر علييف) من أذربيجان قد طرد عند تسلم (غورباتشوف) السلطة عام 1985، واتهم بفضائح رشاوى وفساد، وأجبر على الخروج من دائرة صانعي القرار السياسي
ضمن حملة تطهير في صفوف الحرس القديم، وكذلك فإن الإحصاء يظهر استمرار الهجرة من الريف إلى المدينة، حيث بلغ تعداد أهل الريف 34% مقارنة مع 52% عام 1959.
الغارديان ويكلي 14/5/1989م
بوتو.. خطوة تتبعها خطوات
جاء في مجلة الإكونومست بتاريخ 3 / 6 /1989 ما يلي:
قامت بنازير بوتو بعزل الجنرال حميد غول من منصبه المهم كرئيس
للمخابرات العسكرية الباكستانية واستبدلته بالجنرال شمس الرحمن كالو الذي يعتقد
أنه أكثر تقبلاً لنصائح رئيسة الوزراء، وبعزل الجنرال غول تكون بنازير قد
نقضت عهداً بعدم التدخل في أمور المؤسسة العسكرية، ويمنح قرار عزل الجنرال
غول بنازير بوتو فرصة للتنصل من سياسة الدعم التي تبناها الرئيس الراحل ضياء
الحق تجاه المجاهدين الأفغان.. وكان ضياء الحق يؤمن أن بإمكان باكستان
والمجاهدين سوياً تحقيق نصر للإسلام، وذلك بإقامة حكم إسلامي في كابل وإنشاء
كتلة إسلامية على تخوم الحدود الروسية، وكانت فئات المجاهدين الأصوليين [3]
تتلقى في عهده حصة الأسد من المساعدات العسكرية والمالية وقد سببت هذه
السياسة انتقادات متكررة للجنرال غول الذي كان يشرف على تنفيذها.
أما بنازير، فإن إيجاد نهاية مبكرة للحرب الدائرة في أفغانستان أهم لديها من
تحقيق نصر إسلامي، كما أنها تواقة إلى حل مسألة تواجد ما يقرب من ثلاثة
ملايين أفغاني على أرض باكستان.
ومن جهتها علقت حكومة كابل على قرار عزل الجنرال غول بقولها إن
باكستان مستعدة لمفاوضات السلام وأن تفكير الحكومة الباكستانية يدل على رغبتها
في السير في هذا الطريق.
ومن المرجح أن تقوم بنازير بدفع فئات المجاهدين وحكومتهم الانتقالية-التي
تتخذ من بيشاور قاعدة لها - على بذل جهود أكبر لكسب ثقة كل من المنظمات
الشيعية التي تتخذ من إيران قاعدة لها والعناصر غير الشيوعية في حكومة كابل
الحالية.
__________
(1) أي سكان روسيا البيضاء وهي أكبر جمهوريات الاتحاد السوفييتي (التحرير) .
(2) أي ينحدر من أصول إسلامية (التحرير) .
(3) يعنون بهم الأحزاب الأربعة.(19/92)
بريد القراء
قراءة ثانية في (البيان)
الأخ الفاضل رئيس تحرير مجلة البيان، حفظه الله ورعاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فعن قناعة أكيدة بسلامة المنهج الذي تسير عليه مجلة (البيان) ومن منطلق
الشعور بالمسئولية تجاهها، اكتب إليكم عن قراءتي الثانية بعد أن فرغت من
مراجعة الأعداد الأخيرة، وزادني ذلك ثقة بالمجلة وقدرتها على التميز، ومحافظتها
على شخصيتها المستقلة بين شقيقاتها من المجلات الإسلامية التي تصدر في عالمنا، بل وعلى قدرتها الفائقة على الانتشار ودخولها إلى مكتبات الشباب المسلم -
ضمن مناطق توزيعها - رغم أننا نعرف أنه لم يكن لها سابق دعاية قبل صدورها
أو بعده.
ونحن القراء نسأل الله تعالى لكم ولأسرة البيان والمنتدى الإسلامي مزيداً من
النجاح والثبات لأداء رسالتكم التي نذرتم أنفسكم لها، ونسأله القبول وحسن القصد
والصواب.
قرأت الأعداد الأخيرة، وأعدت مراجعتها قبل الكتابة إليكم، لأعبر لكم عن
مدى ما نجده من تأثير لها في النفوس من خلال الحديث والمساءلة عن هذا (البيان) .
فقد حفلت الأعداد الأخيرة بمجموعة طيبة من البحوث المتنوعة والدراسات
الجادة في مجالات العقيدة والعبادة والثقافة الإسلامية والفكر التاريخي، إضافة
للأبواب الثابتة عن الخواطر الرائعة في الدعوة، ومشكلات المسلمين وشؤونهم في
شتى ديار الإسلام وفي ديار الغربة ... وبرزت أسماء جديدة في المجلة تؤثر على
مدى ثقة القارئ والكاتب المسلم بالمجلة التي لم تتجاوز عامها الثاني من عمرها
المبارك الميمون بإذن الله تعالى.
وحسبنا أن نشير هنا إلى الدراسة القيمة (وإذا قلتم فاعدلوا) التي نشرت
على صفحات العددين الخامس والسادس، وفيها أقام الكاتب - جزاه الله خيراً -
موازين العدالة لتكون (مفتاح الحق وجامع الكلمة) فلعله يتحفنا بدراسات أخرى.
وفي العددين السادس والسابع وجدنا بحثين في النبوة والرسالة ودور العقل
البشري، يبدو أنهما جزء من سلسلة مقالات لم تنشر بعد، فلعلها تكتمل لتعطي
صورة كاملة عن البحث، ولعل الباحث -حفظه الله - يتابع جهده في ذلك.
وكانت لفتة طيبة في العدد الثامن، بقلم الأخ مدير التحرير، إلى منهج
البحث والتحقيق، وضع فيها النسبة الصحيحة بين المتن والهامش في تحقيق
النصوص ونشرها؛ وفي الكتابة المتخصصة.
وكان إخوانكم القراء ينتظرون في المجددين المعاصرين أن يجدوا بينهم اسم
شخصية إسلامية لها مكانتها في النفوس وفي الدعوة الإسلامية، وهي شخصية
المودودي رحمه الله، فلا يزال التساؤل قائماً عن سبب غياب اسمه، ومكانته في
هذا المجال مرموقة.
وجميل أن تتابع المجلة نشر تعريف ببعض أعلام الفكر الإسلامي ومؤلفاتهم
الرائدة، كما-فعلتم في العدد (12) عن الإمام محمد بن الحسن وكتابه، وحبذا لو
تابعتم نشر مقالات أخرى في هذا الجانب لتكون منارات مضيئة أمام القراء.
ونأمل أن نرى مرة أخرى عودة بعض الأبواب التي خلت منها أعداد المجلة، من ذلك: مشاهداتي في بريطانيا، وحبذا لو تتسع الدائرة لمشاهدات من بلاد
غربية أخرى، لتتضح الصورة والوجه الآخر للحضارة الغربية الخادعة، وكذلك (من مشكاة النبوة) ، فهي زاوية تصل القارئ بمصادر دينه وتبين مكانة السنة في الهداية ... فحبذا لو كان ذلك باباً ثابتاً في المجلة ويسبقه باب آخر عن آية كريمة من نور كتاب الله تعالى.
وسبق أن نشرتم قصيدتين في موقفين رائعين لبعض شعراء الدعوة الإسلامية
فيها شيء من الطرافة والعناية بالأدب الإسلامي، فمزيداً أيها الأخوة الكرام ...
ولتكن هذه الكلمات إشارة لبعض ما لفت الأنظار في المجلة مع ما فيها من أبواب
ثابتة نافعة إن شاء الله.
وأخيراً حبذا لو أعطيتم مزيدا من الاهتمام بالإخراج الفني للمجلة، فمثلاً في
بعض (الشذرات) تبدأ القطوف بسطر واحد في أسفل الصفحة وتتمته في الصفحة
التالية، ولعل المخرج يتمكن من جعلها في صفحة واحدة، فهو أكثر جمالاً للصفحة، كما أنه لا يكون جميلاً بدء سطر ناقص في آخر الصفحة.
وقد فاتني أن أشير إلى أنني لست مع الأخ الذي يقترح عدم نشر رسائل
القراء التي فيها شيء من المدح للمجلة، بل مزيداً من ذلك، ونحن على ثقة بأنكم
لا تسعون لذلك، فليكن هذا من باب عاجل بشرى المؤمنين ...
ومعذرة إن كنت أطلت وأثقلت.. ولكم خالص دعواتنا، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
أخوكم: محمد عبد الله آل شاكر(19/95)
استراحة البيان
إعداد: صالح الغفيلي
أولاً: قبس من النور:
قال عز وجل: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا
فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى واتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] [البقرة: 197] .
من مفاهيم الآية:
يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله في تفسيره (صفوة الآثار ...
والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم) : ( ... فمشروعية الله للحج وغيره من عبادات
الإسلام المتنوعة هي تحرير لعقل الإنسان من الأوهام والأضاليل التي علقت به من
مكر الدجاجلة والطواغيت، وتطهير لقلب الإنسان وتصفية له من محبة غير الله
والتعلق بغير الله، وتخليص له من وشائج الأرض والطين وعصبية الجنس المفرقة
بين البشرية.. ولهذا تجد آيات الأحكام مختومة بالوصية بتقوى الله أو بما يقتضي
التخويف من الله) .
ثانياً: نافذة على الشعر:
هذه الأبيات من شعر الإمام الشافعي رحمه الله:
المرء بعلمه وتقواه
اصبر على مُرَّ الجفا من مُعلِّم ... فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه ... فكبر عليه أربعاً لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى ... إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
ثالثا: من رجال الدعوة:
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله وغفر له:
نسبه: هو الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر آل
سعدي، من قبيلة تميم.
مولده: ولد بالمملكة العربية السعودية، القصيم بتاريخ 12 محرم عام ألف
وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية.
نشأته: توفي والده وله سبع سنين فتربى يتيماً، ولكنه نشأ نشأة حسنة، وكان
قد استرعى الأنظار منذ حداثة سنه بذكائه ورغبته الشديدة في العلوم، وقد قرأ
القرآن الكريم بعد وفاة والده، ثم حفظه عن ظهر قلب، ولما بلغ من العمر ثلاثاً
وعشرين سنة جلس للتدريس وكان يتعلم ويعلم رحمه الله.
ومن مصنفاته:
1- تفسير القرآن الكريم، المسمى (تيسير الكريم المنان) .
2- الدرة المختصرة في محاسن الإسلام.
3- القول السديد في مقاصد التوحيد.
4- وجوب التعاون بين المسلمين.(19/98)
الصفحة الأخيرة
مغالطة وتحريض حاقد
منصور الأحمد
هما حالتان، على اختيارك إحداهما يتوقف الحكم عليك، إما أن تكون حليقاً؛
أو ملتحياً. هكذا أفادنا الدكتور فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة والعصرنة، وحكيم هذا
الزمان، فإذا كنت حليقاً، محفوف الوجه، غليظ التقاسيم، وأضفت إلى ذلك جرأة
تتقحم بك موارد التهجم على كل من اختار الإسلام له طريقاً كنت خليقاً بوصف
المتطور التقدمي، المستنير، عاشق الحرية، والهارب من الظلام.
وإذا أعجبتك طريق الأنبياء، وبدا لك أن تنضم إلى ركب أتباعهم؛ فاخترت
سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وآثرت الإقتداء بهم، والسير على
هديهم والتخلق بأخلاقهم - ومن هديهم إرخاء اللحية - هنا تكون قد جردت نفسك
من نعمة العقل، وحكمت على مواهبك بالتعطيل، واستوجبت الحكم القاطع غير
القابل للاستئناف من هذا الدكتور ومريديه بأنك جاهل غير قابل للتعليم.
وإذا سألتني: وهل من الإنصاف والعلمية والموضوعية التي يكثر هذا
الدكتور الحديث عنها أن يَطَّرِد حكمه هذا على كل من أطلق لحيته ولو كان في شبه
القارة الهندية، ويحكم (بقلة العقل ورثاثة الفكر) ، على رجال مثل المودودي
والندوي، مع أن هؤلاء لم يدخلوا في معركة معه، ولم يشعروا بوجوده أصلاً؟ ! ..
قلت لك: لا أدري، ولا أفهم الموضوعية التي يدعيها أمثال هذا (الدكتور) إلا
أنها ترك الحبل له على الغارب كي يقول ما يشاء، ويسب من يريد، ولك أن تعد
هذا التطرف في إطلاق الأحكام سَوْرَةَ غضب على صاحب لحية قد يكون تصدى
للرد عليه، أو حسداً للمكانة الفكرية التي يتمتع بها الندوي والمودودي بين المسلمين
عامة، لا بين مسلمي الهند فقط، بينما الدائرة التي تعرف، فؤاد زكريا في مسقط
رأسه يقلقه حجمها، لأنها دائرة ضيقة ومنبوذة في بحر متلاطم، دع عنك دائرة
أتباعه الصغيرة في دار هجرته الصغيرة.
وطمأنت محدثي: لا تغضب، ولا يؤلمك إتاحة جريدة القبس صفحتها
الأخيرة ويوم الجمعة لهذا الموتور كي ينضحها بفكره، فلعل قراءً لم يقرءوا فكر
المودودي والندوي بعد، يهرعون إليهما فيكتشفون فكراً أصيلاً، وتحليلاً عميقاً،
وعفة في الجدل، وسمواً في القصد والغاية أين منها التحريض الحاقد، والمغالطة
الثقيلة، والادعاء الممجوج التي تطبع فكر فؤاد زكريا وأمثاله، الذين اتخذوا
الهجوم على الإسلام والمسلمين مهنتهم المفضلة:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود(19/100)
المحرم - 1410هـ
أغسطس - 1989م
(السنة: 4)(20/)
الافتتاحية
حوار الأقرباء أم البعداء؟
دعا مركز دراسات الوحدة العربية إلى ندوة في القاهرة ما بين 25 - 27
أيلول/1989 وتحت عنوان (الحوار القومي - الديني) وقد حضر هذه الندوة عدد
غير قليل من الكتاب القوميين الذين يرون الصلة ما بين العروبة والإسلام، أو
بدءوا بالتكلم عن الإسلام ودوره الحضاري، كما حضرها القوميون العلمانيون
وبعض الإسلاميين والمشايخ، وكانت الموضوعات تدور حول تطبيق الشريعة
الإسلامية، ومحاور الالتقاء والتفاهم بين العروبيين والإسلاميين، والأزمة التي تمر
بها الأمة ودور الفكرين في هذه الظروف، وقد نشرت مجلة المستقبل العربي بعضاً
من الأوراق التي قدمت للندوة، كما نشرت جريدة الشرق الأوسط اليومية ملخصاً
ليوميات الندوة.
ولنا على هذه الندوة الملاحظات التالية:
1 - إن فكرة الحوار والتواصل، وسماع الأطراف من بعضها، والتعرف
على الفكر الآخر، شيء جيد ولا غبار عليه بشرط أن يكون الرائد إلى ذلك هو
التوصل إلى الحق وليس الترف الفكري. وجميل أن يتراجع الناصريون والقوميون
ويعترفوا بقصورهم السابق في دراستهم للإسلام، وأن التيار القومي عندما حكم أبعد
الإسلام وبطش بدعاته، ونرجو أن تتوضح الصورة أكثر في المستقبل ويعترفوا
بأن عبد الناصر أساء للعروبة والإسلام.
2 - من الواضح أن كثيراً ممن شاركوا في هذه الندوة كانوا يطرحون حلولاً
توفيقية وسطية ما بين الإسلام والقومية العلمانية، وكأن لسان حالهم يقول: قربوا
خطوة ونقرب أخرى، حتى نلتقي في منتصف الطريق، فالأستاذ محمد فائق (وزير
إعلام مصري سابق) ينتقد النظرة السلفية التي تريد إعادة عجلة التاريخ إلى
الوراء!!. والأستاذ فريد عبد الكريم يدعو إلى عدم إقحام الدين كل دائرة من دوائر نشاطنا. والدكتور عصام نعمان ركز على أنه لا عصمة للفقهاء (لم يقل بعصمتهم أحد من المسلمين) ولكنه يريد أن يقول: إن باب الاجتهاد مفتوح للجميع، وبمثل هذا قال مسعود الشابي واتهم الإسلاميين بأنهم يحتكرون المرجعية الدينية. والدكتور محمد عمارة يجوز أن يتولى القضاء الإسلامي رجل غير مسلم لأنه منفذ للقانون فقط.
وقد طالب الدكتور رضوان السيد كل طرف بالتنازل: (فعلى القوميين
التقدميين أن يسقطوا من أجل الحوار شرطهم العلماني الذي يفصل أمتنا عن تاريخها، وعلى الإسلاميين أن يسقطوا من أجل الأمة شعار تطبيق الشريعة الذي يشرذ مهم
في الراهن ولا يجمع) [1] ودعا فهمي هويدي للالتقاء حول موضوع الحرية
وحقوق الإنسان والقضية الفلسطينية كقضايا متفق عليها الآن بين الطرفين.
هذا الطلب حول التنازلات يأتي من طرف القوميين رغم أن موقفهم ليس هو ...
الأقوى، وهم الذين طلبوا الحوار ودعوا إليه ومع ذلك فإنهم يشترطون على الطرف
الآخر (الإسلاميين) أن يكون متنوراً ويؤمن بالديمقراطية والتعددية، أي أنهم
يريدونه إسلامياً عصرانياً يتنازل لهم ويلتقي معهم في منتصف الطريق، وإذا كانوا
جادين في الحوار فلماذا لا يسمعون من الطرف الأقوى على الساحة؟ وقد أحسن
الدكتور رضوان السيد في الرد عليهم عندما قال: (إذا كنتم تقصدون لجوء بعض
الحركات الإسلامية إلى العنف، فإن الماركسيين الجدد هم أول من دعا إلى الحرب
الشعبية الداخلية، ولم تتهموهم بالظلامية وعدم الاستنارة) [2] .
3 - إن شعارهم الذي رفعوه هو (الحوار القومي - الديني) ولم يقولوا
(القومي - الإسلامي) وهذا مقصود طبعاً لأن الديني تعني أي دين، وفيه أيضاً
تحجيم للإسلام على أنه (نحلة) أو مذهب يستفاد منه روحياً واجتماعياً، والكل يعلم
أن الإسلام دين شامل مهيمن، مكون للأمة من جميع جوانبها.
4 - إن ملاحظاتنا هذه لا تعني السلبية أو النقد، فبعض المشاركين تكلموا
كلاماً جيداً - وإن من وجهة نظرهم - ولكنه يتصف بالرزانة والتعقل، وإذا كانوا
سيساعدون فعلاً في إزالة القهر المفروض على المسلمين فهذا شيء طيب، ونريد
منهم التدليل على هذا لأن الإسلاميين ذاقوا من الاتجاه القومي الويلات، وكلام
فهمي هويدي أن الإسلاميين وقعوا في أسر الماضي، وإن كان فيه شيء من الصحة
ولكن هل يريد منهم نسيان هذا والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين؟ .
5 - بعد فترة من انتهاء هذه الندوة سئل أحد الدعاة الإسلاميين عن رأيه في
الحوار مع العلمانيين، فرحب بهذا كثيراً، بل دعا إلى الحوار مع الكل، مع
المستشرقين والفاتيكان… وليس هذا مجال التعليق على جدوى أو أهمية مثل هذه
الحوارات، ولكن أليس من الأجدى والأولى الدعوة إلى الحوار مع الفصائل
الإسلامية ودعوتهم إلى التعاون والتقارب والتنسيق، وإذا كنا غير متحفظين على
أي حوار نافع فأصحاب المنهج الواحد أولى بالمعروف.
__________
(1) مجلة المستقبل العربي، العدد 130، الصادر في شهر 12/1989.
(2) المستقبل العربي /130.(20/4)
من قضايا العلم والتعلم
حديث عن البديل
(2)
د. عبد العزيز القارئ
من الذي يجب عليه أن يتولى تهيئة مجتمع مصغر داخل المجتمع الأكبر،
حتى يأوي إليه طلاب علوم الشريعة؟ إنهم العلماء الربانيون. إذا التف حولهم
أولئك الفارُّون بدينهم الباحثون عن النجاة وجدوا الكنف الطيب الحنون النابض
بالحياة الحقيقية، فينشئون فيه حتى يقوى عودهم، وينبت ريشهم، ويتهيئون
للطيران.
لقد جرت العادة أن كنف هؤلاء العلماء الربانيين يُخرج طيوراً (أبابيل) حتى
إذا تكاثرت فوجاً إثر فوج، انقضت على (أبرهة) وجيشه وخيله ورَجِله قبل أن
يبلغ الكعبة، إن (أبرهة) يعرف جيداً هذه العادة.
نعم، هذا هو شأن العلماء الربانيين، وتلك هي عادتهم، ولكن أين هم؟ !
أحياناً تكون العقوبة الشاملة ليست خسفاً ولا مسخاً ولا طوفاناً ولا صيحة -
والعياذ بالله - بل تكون حرماناً من أسباب النجاة، فتنظر إلى المجتمع المتمرد الذي
عم فيه الفساد والتلف فلا تجد فيه عالماً ربانياً واحداً، وربما ترى حشوداً من
العلماء، لكنهم ليسوا من ذلك الصنف الرباني الذي يربي الأمة بعلمه ودعوته.
ترى أصنافًا من العلماء شتى، بعضهم - بل أسوؤهم - أولئك الذين يضمهم
الحاكم إلى موكبه، فيمشون خلفه، يطبلون ويزمرون مع المطبلين والمزمرين
ويلهجون بحمد الطاغوت مع اللاهجين، ويا لَشناعة جريمة هؤلاء المعممين! ،
الذين يفعلون ذلك وهم يلبسون جبة العلماء، أي ضرر فادح يلحقونه بثلاثة مقامات: مقام الدين، ومقام العلم، ومقام الأمة؟ !
قال واحد من هؤلاء لسيده: (لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في مقام
الذي لا يُسأل عما يفعل!) . (علماء الحاشية) هؤلاء ينتهون أسوأ نهاية، ينتهون
إلى سخط الله وسخط الناس، وإذا سلِمت الأمة من شرهم فهو أمر عجيب، أما هم
فما أبعدهم عن النجاة والسلامة! ، أما سمعت كيف تبرأً النبي - صلى الله عليه
وسلم - من هذا الصنف من العلماء:
عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض) [1] .
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ارتياد أبواب السلاطين فتنة فقال: (من
سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن) [2] .
ولذلك كان السلف يحذر بعضهم بعضاً من ذلك، قال عبد الله بن مسعود -
رضي الله عنه -: (إن على أبواب السلاطين فتنًا كمبارك الإبل، والذي نفسي بيده لا تصيبون من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينكم مثله - أو قال: مثليه) ؛ هذا لأن الغالب أن السلطان يغلب من يرتاده على دينه فيهلكان معاً، لكن قلة من العلماء يغلبون السلطان بقوة الحق الذي يصدعون به عنده، فيكون ارتيادهم لهؤلاء بركة عليهم، وبركة على الأمة، ولذلك كان بعض أئمة السلف يخالطون الخلفاء ويجالسونهم ويؤثرون فيهم بعلمهم وقوتهم بالحق، فمثلاً:
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري من فقهاء الأمة الكبار - جالس
خلفاء بني العباس وعمل في سلكهم، بينما شيخه الإمام الرباني أبو حنيفة النعمان
ابتعد عن أبوابهم، بل ورفض بشدة مخالطتهم، والعمل في سلكهم، وكل من هذين
الإمامين كان بركة على الأمة بما فعل؛ فأبو يوسف - رحمه الله - أبرز من
صحب من خلفاء بني العباس (هارون الرشيد) ومَن مثل الرشيد من ملوك المسلمين؟!
قال الحافظ الذهبي - في ترجمته في (السير) : كان من أنبل الخلفاء وأحشم
الملوك، ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي.
وقال: وكان يحب العلماء ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام
ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وُعظ [3] .
اقرأ كتاب (الخراج) لأبي يوسف حتى تعلم ماذا صنع هؤلاء العلماء في
مجالستهم للخلفاء ومصاحبتهم للملوك، أما إذا تعمقت في دراسة آثارهم وبركاتهم
فاطلعت على شبكة القضاء القوية الرائعة في صدر الدولة العباسية والتي كان أبو
يوسف من مؤسسيها ورعاتها - فإنك حينئذ مطلع أكثر وأكثر على البركة التي
أصابت الأمة من مصاحبة أبي يوسف وأمثاله من العلماء للملوك والخلفاء.
ومن المحدثين نجد أنموذجين: (سفيان الثوري) ، ظل مقاطعاً لمجالس الخلفاء
هارباً منهم ومن العمل في سلكهم، بينما الحافظ (محمد بن مسلم بن شهاب الزهري) دخل على خلفاء بني أمية وجالسهم، جالس عبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد
الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويا ليت كل الملوك مثل هؤلاء!
كان الزهري يأخذ من هؤلاء الخلفاء الأعطيات ويوزعها على الناس، ولا
ينتظر حتى يعطونه، يظل يسد حاجات الناس ويستدين، حتى إذا ركبته الديون
أخذ منهم فسد به أفواه الدائنين، ولذلك فإن أخذه لأعطيات الملوك لم يؤثر على
صلابته في الدين، ولا منعه من الصدع بالحق، والعادة أن من يأخذ لا يتكلم، لكن
الزهري لم يكن يأخذ لنفسه.
ذكر الذهبي في (السير) أن الخليفة هشام بن عبد الملك قال للزهري: مَن
الذي تولى كبره منهم؟ فقال: هو عبد الله بن أُبي.. قال: كذبت هو علي بن أبي
طالب، فقال الزهري: أنا أكذب لا أبا لك! فوالله لو نادى منادٍ من السماء إن الله
أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص عن عائشة:
أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي [4] .
علماء السلف الربانيون إذن كانوا على مسلكين في هذا الصدد، وكلهم كان
نفعه للأمة عظيماً، لكن الذين اختاروا البعد عن أبواب السلاطين والخلفاء كانوا
أعظم أثراً؛ لأنهم تفرغوا لتربية الأمة، أمثال: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي،
وأحمد، وسفيان الثوري، ومن بعدهم: ابن تيمية، والعز بن عبد السلام،
وغيرهم.
إن وظيفة (العالم الرباني) وظيفة (استراتيجية) أساسية، مصيرية،
ضرورية، لا حياة للأمة بدونها، وهي تتطلب قدراً كبيراً من استقلال (العالم) ، ولذلك أبى هؤلاء الذين سميناهم من (الأئمة الربانيين) أن يتولوا شيئاً من الأعمال الحكومية، لأنهم انتدبوا أنفسهم لتلك الوظيفة (الاستراتيجية) التي هي أجل أثراً وأعظم بركة.
إن أي ثمن يقبضه العالم الصادق لمصلحة الأمة مقابل التخلي عن هذه
الوظيفة (الاستراتيجية) - لا يمكن أن يبرر هذا التنازل الخطير، أو يقلل من أثر
هذه الخسارة الفادحة، وربما ظن هذا العالم الصادق أن (المصلحة) التي حققها
للمسلمين تبرر تخليه عن مهمة (العالم الرباني) لو كان أمثال هؤلاء العلماء
الصادقين ذوي (كفاية) لفتحوا أعينهم على حقائق الأمور ومجريات الحوادث في هذا
العصر - عصر الفتنة المبرمجة - ولعلموا أن الثمن الذي دفعوه وهم لا يشعرون
ثمن فادح لا تساويه تلك المصالح الجزئية القليلة التي حققوها، مصالح في الغالب
هزيلة لا يمكن أن توصف بأكثر من فُتات يلقي به أولئك المعربدون في أنحاء العالم
الإسلامي، لقد دفع أولئك العلماء من مصلحة الإسلام والمسلمين أضعاف ما أخذوا،
وذلك بتخليهم عن (الوظيفة الاستراتيجية) تماماً كما قال عبد الله بن مسعود (رضي
الله عنه) .
وهذا المآل مؤكد في ظروف مثل هذه التي يعيش فيها المسلمون اليوم، في
معظم البلاد الإسلامية هناك (استراتيجيات) وضعها المخططون والمبرمجون لا
مكان فيها لهذا الدين الذي يحمله هؤلاء العلماء، ولذلك فإن هذه الحكومات لن تسمح
لهم بأكثر مما تسمح به تلك (الاستراتيجيات) الموضوعة سلفا وكل الجهود العقيمة
التي سيبذلها هؤلاء العلماء المساكين ستذهب أدراج الرياح؛ لأنها ستظل مكبلة
موثقة بالأغلال.
مع أن كثيراً من هؤلاء العلماء لا يتوفر فيهم شرط الكفاية الذي نص عليه
الفقهاء وجعلوه شرطاً في كل من يتولى شئون المسلمين، ومعناه الحنكة والخبرة
السياسية، والدهاء والذكاء السياسي، فإدارة شئون الأمة ليست كالمداولة في مسألة
فقهية.
إذا أردنا أن نفهم تماماً معنى (الكفاية) فلنستحضر أنموذجين:
أحدهما لواحد من ملوك المسلمين العظام: إنه الخليفة العباسي أبو جعفر
المنصور، والآخر لواحد من أئمة الفقه الكبار من الربانيين: إنه أبو حنيفة النعمان
بن ثابت، كلاهما كان يتمتع بحنكة سياسية رفيعة، ودهاء سياسي عجيب، وتمت
المواجهة: المنصور مع أنه ملك فقد كان عالماً وفقيهاً ويعرف ما معنى أن يظل
مثل أبي حنيفة - رحمه الله - خارج أغلال الدولة، معناه أنه سيربي الأمة،
وصمم أن يولي أبا حنيفة القضاء، لكن أبا حنيفة رفض، هو فقيه وإمام من أئمة
العلم، لكنه مع ذلك كان سياسياً بارعاً، إذن فهو يعلم ما معنى أن يقبل بوضع غل
المنصور في عنقه، معناه أن يتخلى عن مهمته الأساسية (التربية) ، صمم المنصور، وصمم الإمام، وتحطم عناد الخليفة أمام صلابة الإمام؛ فأظهر انهزامه بسجن
الإمام.
الحاكم دائماً كلما أحس بالهزيمة أمام العالم الرباني فإنه يسجنه، وربما يقتله،
إنها سُنة قديمة، تواصوا بها!
قد يقرأ كلامي هذا بعض المتعجلين من المتفقهين فيفهم منه أنه دعوة عامة
للشباب المتدين لمقاطعة (الوظائف الحكومية) والانعزال عن الحياة، كما يدعوهم
إلى ذلك بعض أهل البدع من (خوارج) هذا العصر أو (دراويشه) .
هذا تفكير خيالي غير فقهي ولا شرعي. أنا لا أتكلم عن الشباب ولا غير
الشباب من طلبة العلم، أنا أتكلم عن الأئمة، عن العلماء الذين يمكن أن يؤدوا مهمة
العالم الرباني، علماء يفترض أن يقودوا الأمة ويوجهوها، ويفترض أن يمسكوا
بزمام الأمور، ويحتضنوا المسلمين.
فالمقصود أن طلاب علوم الشريعة وشبابها إن لم يجدوا عالماً ربانياً يلجئون
إلى كنفه، فكيف يفرون من ضغوط المجتمع الفاسد من حولهم؟ .
الهياكل الرسمية للتعليم الشرعي:
هناك في الساحة تعليم ديني، له هياكله الرسمية ومؤسساته الحكومية، هذا
التعليم الرسمي لو رُزق إشرافاً صادقاً وتولاه أناس ذوو عدالة وكفاية - يمكن أن
يكون له أثر عظيم في مجال التعلم والتعليم، وفي مجال توجيه الشباب واستقطاب
طاقاتهم وطموحاتهم، وذلك بسبب الإمكانات الضخمة التي يمكن أن تتوافر له، لكن
المشاهَد أن هذا التعليم (الرسمي) فاشل، إنه لا يخرّج - في الغالب - إلا موظفين،
وإن خرّج أحداً من العلماء فإنه يخرج أفواجاً غير مؤثرين، كما أنه فاشل في إشباع
طموحات الشباب المسلم، أو استقطاب طاقاته المتفجرة حيوية وعنفواناً، إنه تعليم
لا مفعول له، منزوع الريش، غير قادر على الطيران، ومن ينشأ في حِضنه
أعجز عن الطيران.
وفي ظل تعليم بهذا الحال ليس غريباً أن تفسد مقاصد المتعلمين، بل ليس
مستبعداً أن توضع مناهج التعليم في ظل تلك المقاصد الفاسدة، فالمشاهَد اليوم أنه
حتى (المؤسسات الدينية الرسمية) فصّلت مناهجها لتخرج موظفين ليس أكثر،
الوظيفة أولاً وآخراً، ولذلك فشلت هذه المؤسسات الرسمية في تخريج علماء
عاملين مؤثرين، بل وفشلت حتى في إشباع تطلعات الشباب، وامتلاك الزمام
لتوجيههم وقيادتهم، ولهذا فإن أكثر الحركات البدعية في صفوف هؤلاء الشباب
والتوجهات التي يسمونها (متطرفة) إنما خرجت من تحت عباءة تلك الهياكل
الرسمية.
لو كانوا يفقهون لأدركوا أن التعليم الرسمي هو (جثة ميتة) أشد خطراً منه
وهو كيان حي وقوي!
وراح المتفقهون يبحثون عن (البديل) ، فتخبطوا في ليلٍ بهيم، والطريق
وعرة كثيرة المزالق، طريق حفت بالمكاره؛ فوقع بعض أولئك المتفقهين المساكين
فريسة (البدع) والأفكار البعيدة عن مناهج السلف، وفريسة المسالك الشوهاء
الناقصة التي لا توصل سالكيها إلا إلى مزيد من الضياع، وهذه نتيجة لازمة، لأن
الطريق التي وصفتها لا يمكن سلوكها بأمان إلا مع رائد خرِّيت [5] .
*يتبع *
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الفتن من جامعه، وأحمد في مسنده 4/243.
(2) رواه أحمد 2/371، 440.
(3) سير أعلام النبلاء 9/187.
(4) سير أعلام النبلاء 5/339.
(5) الخرِّيت: بخاء مكسورة وراء مشددة مكسورة: الخبير بالطرق والمنحنيات.(20/9)
خواطر في الدعوة
حديث في البناء
محمد العبدة
تغص الساحة الإعلامية أحياناً بالمناقشات، والأخذ والرد، وليست الغاية من
وراء ذلك الوصول لنتائج، ثم وضعها موضع التنفيذ، فهذا ينحاز لمذهب معين في
الأدب، وهذا يخالفه، وذاك ينحاز لمدرسة فكرية معينة، وآخر يرد عليه، وتسود
الصفحات في المجلات والكتب، وتبدأ المعارك، ويرتاح البعض ظناً منهم أن هناك
حركة، وأن الدنيا بخير والحمد لله، وينام قرير العين ملء جفونه، وبعضهم يحب
هذه المعارك، كأنه يشاهد لعبة مصارعة يقضي معها وقتاً ممتعاً!
هذه المعارك وهذا السجال يذكرني بما كان يطلب منا ونحن في المرحلة
الابتدائية أن نكتب مواضيع في الإنشاء: (أيهما تفضل الصيف أم الشتاء؟) أو
(قارن بين الليل والنهار) أو (بين السيف والقلم) ... وعندما كبرنا كانت المناقشات:
هل الوحدة العربية أم الوحدة الإسلامية؟ - مع الأسف لم تتحقق واحدة منهما -
وأمثال هذه المقارنات التي تستسهل الأمور، وكأنها لا تحتاج إلى دراسة واعية
متأنية كما تحتاج إلى تفصيل وتحقيق، ومن ثم إلى تطبيق وتنفيذ.
وإنني أخشى أن يكون كل هذا من قبيل تفريغ الطاقة وإرضاء النفس، أو
الهروب من الواقع؛ لأننا بهذا نشعر أننا نتحرك، ولكنها حركة في المكان، بل
أخشى أن يتحول هذا إلى مرض (الكلامولوجيا) .
هل تُقضى الأعمار ونحن نتساجل في مواضيع تحتاج لدراسات من متخصصين أذكياء، متى - إذن - نؤسس مدرسة تربي الأجيال على
الخلق القويم والعلم المفيد، وتنقذهم من طرق التعليم التي تستهلك طاقاتهم بحفظ
معلومات ثم صبها في نهاية العام على أوراق الامتحان، ثم تنسى، والشباب ثروة
لا تقدر؟ فأين استغلال طاقاتهم؟ .
ومتى نبني مصنعاً نستغني فيه عن إنتاج الشرق والغرب، ومتى نؤسس
شركة تستثمر أموال المسلمين المكدسة التي لا يعرفون كيف يستثمرونها، وتتيح
فرص العمل لمئات من الشباب الجامعي، بل متى يكون عندنا مؤسسات علمية
تشجع الإنتاج العلمي في كل شيء، وتستفيد من طاقات العلماء والخبراء في شتى
فروع المعرفة، ويجد المبدعون بواسطتها طريقاً لتحقيق إبداعهم.
نعم، لابد من الردود والمناقشات - ولكن بقدر - كرد على مبتدع أو طالب
علم أخطأ في أمور علمية ونشرها بين الناس، أو رجل مستهتر بأخلاق الأمة
وآدابها، كما أن المناقشة العلمية الهادفة التي نصل فيها لنتائج محققة - هي شيء
طيب ومقبول، وقل مثل ذلك في الحوار الهادف، إذا حسنت النيات واستُخدمت
الأساليب المعقولة، ولم يتحول إلى جدل عقيم، القصد منه المغالبة وتسجيل
الأهداف.
هذا هو المنهج الذي جاء به القرآن الكريم، فلم يدخل في جدل عقيم مع
النصارى، بل قال: [تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ] [ال عمران: 64] ،، وهذا ما
فهمه الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - حين رفض مناظرة أبي يوسف بحضور
الخليفة هارون الرشيد؛ لأنه ليس من منهج الإسلام أن يتحول الدين لمناظرات،
والمتفرجون يشاهدون: مَن يغلب؟ .
فالأصل هو البناء، وبناء المؤسسات.(20/16)
دراسات منهجية في النظر والاستدلال
بيان أصول المعرفة في الإسلام
-3-
د. عابد السفياني
لقد جاء عرض أصول المعرفة الإسلامية بما يناسب الفطرة البشرية، وفيه
احترام عظيم للعقل الإنساني يتناسب مع منزلة هذه الملكة التي هي أساس في
الاقتناع.
فلنأتِ على عرضها بما يناسب المقام، ولنتأمل كيف تكون الحجة، وكيف
يكون البيان، ولنجدد العهد بتلك المسلمات التي هي عقيدة تابعي الأنبياء من جميع
الأمم وفى جميع الأعصار.
وإليك الأسس التي جعلها الإسلام لأصوله في المعرفة:
الأساس الأول:
الكون مخلوق والإنسان كذلك، وجميع العوالم محتاجة إلى مَن أنشأها، كما
هي محتاجة إلى من يحفظها ويدبرها، ومنشئها وحافظها ومدبرها يستحيل أن يكون
محتاجاً لشيء، ولابد أن يكون له من صفات الكمال ما يكون به مستحقاً لخضوع
هذه العوالم له - عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم السماوات،
وعالم الأرضين، وسائر العوالم - ولابد أن يكون قادراً على تنظيم أمرها وإبداعها
لتكون صالحة للحياة في غير اضطراب ولا تناقض، بل في ثبات وشمول وتكامل.
ولذلك كان التذكير بآيات الله في مخلوقاته قد أخذ حيزاً كبيراً في القرآن،
وكان متكرراً ومفصلاً في مواضع كثيرة جداً، ويرجع سبب ذلك إلى أن العقيدة
التي سنشير إليها - وهي ما تضمنته أصول المعرفة في الإسلام، وهو جزء من
الألوهية - لا يمكن أن تثبت بحال إلا على قاعدة كل راسخة معرفتها تتمثل في
معرفة صفات الله على وجه اليقين والجزم لينتقل أثرها المباشر فيكون هو تحقيق
توحيد العبادة [1] .
وأي عقل سويّ تعرض عليه هذه المشاهد، ثم لا يستسلم لحكم الله وينقاد؟ ،
ومن هذه المشاهد:
- مشهد السماء المرفوعة بغير عمد.
- مشهد الأرض الممهودة.
- مشهد الجبال المنصوبة.
- مشهد الزروع والثمار، والشجر والدواب والرياح والبحار، والشمس
والقمر، والليل والنهار، والأحياء والأموات، والقبض والبسط، والتصريف
والتدبير.
وكل ذلك في نظام محكم دقيق لا تديره ولا تمسكه إلا قدرة عظيمة لا يمكن
للعقل أن يتصور حدودها، وليس له إلا أن يتدبر ويتفكر في صفاتها التي دلت
عليها الآيات المخلوقة المشاهَدة، وهي كثيرة جداً، وتطارد الإنسان في كل لحظة،
وله أمام كل آية مخلوقة عبرة لو أنه تفكر وتدبر.
وإن كل من تدبر وتفكر سيعلم أنه لابد من تحقق الكمال في الصفات لمن كان
له مثل هذه المخلوقات، ومن ذلك كمال القدرة، وكمال العلم، وكمال التدبير
والحفظ، فهو القادر العليم المدبر الحفيظ، كما أنه السميع البصير ليس كمثله شي،
ولا يعجزه شيء في السماوات والأرض، وقل مثل ذلك في بقية الصفات، فإذا
اتجه القلب الإنساني إلى مَن له هذه الصفات، انتقل معه منهج التربية الإسلامية
الذي يسعى لتقرير أصول المعرفة الإسلامية ويجددها ويؤكد عليها، انتقل معه
خطوة أخرى ليعالج شبهات العقل الإنساني وقصوره، ويحمي الفطرة من احتيال
الشياطين لكي تقف أمام مسؤولياتها كاملة في الحياة الدنيا والآخرة.
الأساس الثاني:
والخطوة الثانية في هذا المنهج هي تعريف الناس بحقيقة الرسالة والرسول،
الذي يدل على الطريق الموصّل إلى خالق السماوات والأرض الموصوف بتلك
الصفات العظيمة التي يتملاها القلب فيحب المتصف بها ويخافه ويرجوه، ويتطلع
إلى رضاه، وهنا يكون ذلك التوجه للقلب البشري قد حددت له الضوابط وعرف
كيف يمضي في ذلك الطريق، طريق العبادة لله.
وهذا أساس عظيم في تلك القاعدة التي سيشيد منهج التربية والدعوة الإسلامية
عليها أصوله في المعرفة.
ولكن إذا علمنا كيف اطمأن العقل والوجدان إلى الأساس الأول، وشعرنا
بحقيقة الإيمان، فإن من حق العقل والوجدان أن يتلمس الحجة والدليل الذي يثبت
صدق الرسول الذي سيدل على الطريق، وستكون الرحلة على هذه الأرض حسب
ما يبلغه لنا، ويكون الجزاء، فيتقدم منهج التربية الإسلامية المعجز بدليل تندك
حوله الشبهات، ويزيد الذين آمنوا إيماناً فيقول:
إن مما يفرق بين الرسول الصادق والدعي الكاذب أن الأول معه معجزة من
ربه وأعظمها (القرآن) وهو كلام الله الموصوف بتلك الصفات الذي توجه إليه القلب
ليعبده ويفوز برضاه.
وللعقل الإنساني أن يتساءل فيقول: فكيف نفرق بين كلام الله وكلام غيره ولِمَ
لا يمكن أن يتقوله بشر؟ كيف نستيقن أنه كلام الله؟ فيقدم منهج التربية الجواب:
فيقول:
إن الكون - كما مر في الأساس الأول - ليس فيه إلا خالق ومخلوق، وهذا
الكلام إما أن يكون كلام الخالق وإما أن يكون كلام المخلوق، فإن كان كلام البشر
فلا يعجز المخلوقون أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله، فهل أتى أحد بمثله أو بشيء
من مثله؟ ، لنستعرض التاريخ:
المعارضون من الجاهلية الأولى وهم عرب أقحاح لا مثيل لهم في الفصاحة
والبلاغة والشعر والنثر - ولم يستطع أحد منهم أن يأتي بآية من مثله، وهم أمام
التحدي ووسط الصراع.
الزنادقة في المجتمع الإسلامي الذين حاولوا التشكيك في القرآن ومنهم مَن
اشتغل بالأدب والعربية - ولم يستطع واحد أن يأتي بآية من مثله، مع حرصهم
البالغ على معارضته وتشكيك الناس فيه.
العصر الحاضر، والتحدي مازال مستمراً لم ولن ينقطع وكثرة خصوم
الإسلام في هذا العصر لا تُحصر ولا تُعد وقد انقطعت حجتهم أمام هذا التحدي
المستمر الظاهر المعلوم.
فإذا كان كلام البشر فأين البشر؟ !
وإذا كان من الأساطير، فأين كَتَبَة الأساطير؟ !
وإذا كان شعراً فأين الشعراء؟ !
وإذا كان سحراً فأين السحرة؟ !
أين هؤلاء وهؤلاء فإنه لم يأتِ أحد بآية من مثله، ولن يأتي، ومازال التحدي
قائماً، والخصومة محتدة، والقرآن مستمر في البيان. [وَإن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ
* فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] [البقرة:
23، 24] .
ولم يبقَ أمام العقل الإنساني إذا انكسر المخلوقون وسقطوا أمام التحدي ولم
يستطيعوا، لم يبق أمامهم إلا خالقهم فهو إذاً كلامه، ووحيه إلى نبيه ورسوله،
فالرسول الذي تحدى الناس بهذا القرآن، ومازال يتحداهم، وربى أمة عليه،
ومازال أتباعه قائمين بما قام به من البيان وإظهار الحجة والتحدي - ولم يستطع
أحد أن يعارضه بشيء من مثله أو يعارض أتباعه بمثل ذلك، لا شك أنه رسول
صادق ونبي كريم، أرسله الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وهنا يصل العقل والوجدان إلى تأسيس قاعدة إيمانية بدأت من توجه القلب لله
ثم تلمسه الطريق الموصل إليه فإذا هو أمام كتاب مُعجِز، ورسول صادق، وكل
ذلك وسط آيات محسوسة مشاهدة، وأخبار معلومة ومشاهَدة أيضاً، ومازالت تلك
الآيات والمشاهد والأخبار تسير مع الحياة والأحياء، تحفظ البناء الذي شيده منهج
التربية الإسلامية، وتمده دائماً وأبداً باليقين والحجة والثبات.
وإليك الآن محاورة بين العقل المؤمن والوجدان اليقظ، تستبين بها أصول
المعرفة في الإسلام.
محاورة بين العقل والوجدان:
العقل: الآيات المخلوقة، والمشاهد العظيمة لا يمكن أن يتصور وجودها،
ويستمر حفظها إلا بعلم شامل محيط، وحكمه وإبداع وتدبير، ورحمة وعدل وقدرة
لا يعتريها نقص ولا معقب لحكمها، وليس فيه تناقض ولا اختلاف.
الوجدان: إني لأجد ذلك وأحسه، إني متوجه من قبل إلى الذي فطر
السماوات والأرض ... ولكن الشياطين تضلني وتغويني، تقول كيف تعبد ما لا
تبصر؟ ! ، فأعود وأقول: من الذي يقضي لي الحاجات، وهو ملجئي وملاذي
عند الكربات؟ ، إنه الله، فكيف لا يكون علمه محيطاً، ورحمته شاملة، وعدله
عظيماً، وقدرته لا تُحَدّ، إنه الله المعبود بحق دون سواه، لا معقب لحكمه ولا
تناقض فيه ولا اختلاف.
العقل: نعم، هذا هو الحق الصراح، ولكن لقد سمعت عجباً، مشارب كثيرة
في الفكر والنظر، واختلاف عجيب بين أهل الملل والنحل، وقيل وقالوا، وظن
وخرص يقتتل عليه الناس، مع أنه يضرب بعضه ببعض، ويكذب بعضه بعضاً،
ينتقض ويغير، ويزاد فيه وينقص، أمره جد مضطرب، وأهله في قول مختلف.
أفلا يسمعون؟ ! ، أفلا يبصرون؟ ! ، أفلا يعقلون؟ ! ، أفلا يتدبرون؟ ! ،
أين هم عن الرسول الصادق والكتاب المعجز الذي لا اضطراب فيه ولا اختلاف؟ !
فإن أرادوا خبر صدق عند الأمم السابقة وجدوه، وإن أرادوا خبر صدق عن
المستقبل ينفعهم لم يعدموه، وإن أرادوا علماً عن صفات خالقهم جاء من البيان ما
يكفيهم، وإن أرادوا بياناً عن الحلال والحرام والمباح كشف لهم عنه مفصلاً فعرفوه.
الوجدان: الحمد لله الذي ردني إلى ما شهدت به في أصل فطرتي وأقررت
[وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ برَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] [الأعراف: 172] .
وهنا يتعانق العقل المستسلم للوحي والوجدان الحي فيقولان:
أصل المعرفة في الإسلام: (الله) الموصوف بصفات الكمال المطلق المنزه عن كل ما يضاده، هو ربنا ورب كل شيء، أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالوحي - الكتاب والسنة - ليبين لنا كيف نعبده، ونتربى عليه،
ونحكم به حكماً صادقاً عدلاً على جميع الأحداث والأشياء، ويكون لنا موقف أهل
الحق في إقامة الحياة الصالحة على الأرض؛ فآمنا وصدقنا وخضعنا وعملنا بكل ما
تضمنته شريعته من العقائد والأحكام، والقواعد والأخلاق؛ ليكون ذلك منهاجاً
ربانياً ثابتاً نحيا به ونموت عليه، ونورثه مصدراً للمعرفة لمَن يقبله منا ويتبعنا
عليه، وليكون ذلك حجة لنا عند ربنا حين نلقاه جزاء أن جعلناه حجة علينا في
الدنيا في جميع الأمور والأحوال.
فأصلنا المعرفي ثابت، ثبات النوع البشري على الأرض، وثابت ثبوت
التكليف، ودائم ديمومة الحياة، لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، ولا يتصور له
نسخ ولا تخصيص ولا تقييد ولا معارضة من فطرة سوية ولا عقل راشد، وهو
أصل لا نقبل ما يعارضه من الملل والأهواء والنحل.
هذه أصولنا في المعرفة، ندعو جميع المخالفين إليها، ونعلمهم أنه لا يثبت
قدم الإسلام إلا عليها، بها جاء رسول الإسلام محمد - عليه الصلاة والسلام - من
ربه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
__________
(1) انظر: منهج التربية على العقيدة في كتاب دراسات قرآنية للأستاذ محمد قطب.(20/18)
من أعلام أهل السنة والجماعة
عبد الله بن المبارك العالم المجاهد
-2-
د.محمد بن مطر الزهراني
ثانياً: جهاده:
كانت حياة ابن المبارك كلها جهاداً في سبيل الله بنفسه وماله وعلمه. فكان -
رحمه الله - يرابط في الثغور كثيراً، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وما نزل بلداً
في رحلته لطلب العلم ثم سمع منادي الجهاد إلا تجهز وخرج للغزو.
وكان - رحمه الله - يدعو إلى الجهاد ويحث الناس عليه لنصرة دين الله
وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
كما كان ينعي على النساك القاعدين عن الجهاد كسلهم وخمولهم وسوء فهمهم
لمعنى العبادة، فهو يقول:
أيها الناسك الذي لبس الصو ... ف وأضحى يُعد في العباد
الزم الثغر والتعبد فيه ... ليس بغداد مسكن الزهاد
إن بغداد للملوك مَحَل ... مناخ للقارئ الصياد [1]
وهاهو يراسل الفضيل بن عياض من ثغر من الثغور:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
لقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأه الفضيل ذرفت عيناه ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح [2] .
وكان ابن المبارك فارساً شجاعاً ذا خبرة في فنون القتال والمبارزة مع حرصه
أن لا يُرى موقعه من القتال، كل ذلك ورعاً وحسبة لله (سبحانه وتعالى) .
روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في
سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان
خرج رجل من العدو فدعا إلى البِرَاز، فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا
إلى البراز فخرج إليه ابن المبارك، فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس
فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثّم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا
هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت - يا أبا عمرو! - ممن يشنع علينا! [3] .
وأخرج الذهبي بإسناده إلى محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن سنان قال: كنت مع ابن المبارك ومعمر بن سليمان - بطرسوس - فصاح الناس: النفير،
النفير؛ فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج علج رومي
فطلب البراز فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله ... حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلى ابن
المبارك، فقال: يا فلان إن قُتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج
معه ساعة، فقتل العلج، وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة
علوج وطلب المبارزة، فكأنهم كاعوا - أي جبنوا - عنه، فضرب دابته وطرد
بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال
لي: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي ... فذكر كلمة ... ! ! [4] .
قال صاحب مفتاح السعادة: كان ابن المبارك يقضي جل وقته في الجهاد في
سبيل الله، وكان يقاتل ويبلي بلاءً حسناً، فإذا جاء وقت القسمة غاب، فقيل له في
ذلك، فقال: يعرفني الذي أقاتل له [5] .
هكذا تكون النية في الجهاد، إنه لأجل إعلاء كلمة الله وابتغاء مرضاته -
سبحانه وتعالى - لا لمنصب ولا لجاه ولا لمال، إنما يكون الجهاد لنشر دين الله
بين الناس، وإقامة العدل في الأرض بتحكيم الكتاب والسنة، حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله، لا لمجرد تسلُّم السلطة لذاتها، ولا من أجل تغلب حزب على
حزب أو فئة على فئة.
ثالثاً: في مجال العلم:
تلقى ابن المبارك العلم على مشايخ بلده ثم رحل في طلب العلم على غيرهم
كعادة الأئمة من السلف الصالح في طلب العلم [6] .
وكانت سنه آنذاك عشرين سنة عند رحلته، وأخذ العلم عمن أدرك من
التابعين ومن بعدهم، وأكثر من الترحال والتطواف إلى أن مات في طلب العلم
والغزو، قال الذهبي: روى العباس بن مصعب في تاريخه عن إبراهيم بن إسحاق
عن ابن المبارك قال:
حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف منهم.. [7]
قال الذهبى: وحدث عنه خلق لا يحصون من أهل الأقاليم، فإنه من صباه ما
فتر عن السفر.. [7] .
وقال الحافظ ابن معين: كانت كتب ابن المبارك التي حدث بها نحواً من
عشرين - أو واحد وعشرين ألف حديث [7] .
وقد كان لابن المبارك جهود ومشاركات في خدمة منهج أهل السنة والجماعة
من خلال مجال العلم والتعلم، ويمكن إيجاز تلك الجهود والمشاركات فيما يلي:
1- منهج التعلم والتعليم.
2 - علوم الحديث.
3- مؤلفاته.
أولاً: منهج التعلم والتعليم:
لسلفنا الصالح منهج في تعلم العلم، إذ لم يكن عندهم فوضى علمية كما
نشاهدها في عالمنا اليوم ضاربة أطنابها.
وهذا المنهج يقوم على أسس ومبادئ ثابتة، ومن لم يسلكها يكون تعلمه ناقصاً
قاصراً وربما كان علمه عليه لا له، وهذه بلية كثير من طلبة العلم اليوم، نسأل الله
العافية.
وهذا الإمام العالم الرباني عبد الله بن المبارك - رحمه الله - أحد مؤسسي
ذلك المنهج وواضعي مبادئه الثابتة يوضح لنا ذلك المنهج قولاً وعملاً [8] .
- قال ابن المبارك: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة،
وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم [9] .
-قيل له بالشام: إلى كم تطلب العلم؟ فقال: أرجو أن تروني فيه إلى أن
أموت، أليس يقال له - طالب العلم - يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء،
أفلهذا مترك؟ [10] .
وقال أيضاً: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا [11] .
- قال أبو صالح الفرّاء: سألت ابن المبارك عن كتابة العلم فقال: لولا
الكتابة ما حفظنا [12] .
- وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: عجبت لمن لم يطلب
العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة [13] .
- قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لِمَ لا تجلس معنا؟
قال: أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر إلى كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ ؛
أنتم تغتابون الناس [14] .
وقال ابن المبارك: إن أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ
ثم النشر [15] .
هذه أوجز وأدق عبارة تضمنت الأسس، والمبادئ الأساسية الثابتة لمنهج
التعلم والتعليم عند السلف، وهى نفسها عبارة الإمام سفيان الثوري - أمير المؤمنين
في الحديث - حيث قال - وهو يوجه تلاميذه -: تعلموا هذا العلم، فإذا تعلمتموه
فتحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه [16] .
ولا غرو فابن المبارك والثوري، كلاهما تلقيا هذا المنهج عن السلف الصالح، والسلف تلقوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بُعث معلماً للخير ومتمماً
لمكارم الأخلاق، وكل منهج للتعلم يخالف ذلك المنهج فهو منهج خاطئ.
- قال ابن المبارك: كاد الأدب يكون ثلثي العلم [17] .
ومر من قبل قوله: (طلبت الأدب ثلاثين سنة، والعلم عشرين سنة، وكانوا
يطلبون الأدب، ثم العلم) .
وهذه ركيزة من ركائز التعلم الأساسية عند السلف وهى البدء بالأدب أولاً ثم
العلم ثانياً، وهذا معنى قول الحسن البصري وابن سيرين والشافعي: (كانوا
يتعلمون الهَدي أولاً ثم العلم) [18] .
أما نحن اليوم فأحسننا حالاً الذين يعكسون هذا المبدأ، أي أنهم بعد أن يفرغوا
من طلب العلم يبدأون بطلب الأدب، والغالبية العظمى لا يعرفون أدب الطلب ولا
أدب العلم والتعلم، فضلاً عن أدب الخلاف، وأدب الفتوى وطرق الاستنباط
والاستدلال، فقد دُفن أصحاب ذلك الأدب وذلك المنهج منذ قرون خلت (رحمهم الله
وأجزل لهم الثواب) .
- وعن محبوب بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك يقول: من بخل بالعلم
ابتلُي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما يُنسى، وإما يلزم السلطان فيذهب
علمه [19] .
__________
(1) تاريخ بغداد، 1/21، ط السلفية بالمدينة النبوية.
(2) تاريخ بغداد، 1/21، ط السلفية بالمدينة النبوية.
(3) المصدر السابق، 1/167، ط السلفية بالمدينة المنورة.
(4) سير أعلام النبلاء 8/361، ط السلفية بالمدينة المنورة.
(5) مفتاح السعادة لطَاش كُبْرِي زاده، 2/248، ط الأولى بالقاهرة.
(6) - قال يحيى بن معين: أربعة لا تؤنس منهم رشداً حارس الدرب ومنادي القاضي وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث، معرفة علوم الحديث للحاكم، ص9.
(7) تذكرة الحفاظ، 1/275-276.
(8) كتب في بيان منهج التعلم عند السلف كتب كثيرة من أجودها وأجمعها كتاب (تذكرة السامع والمتكلم) ، لابن جماعة وهو مهم في هذا الباب.
(9) غاية النهاية في طبقات القُراء لابن الأثير، 1/446.
(10) صفة الصفوة، 4/120، وفيات الأعيان، 3/34.
(11) سير أعلام النبلاء، 8/352.
(12) المصدر السابق، 8/353.
(13) المصدر السابق، 8/353.
(14) المصدر السابق، 8/353.
(15) مفتاح السعادة لطاش كُبري زاده، 2/248، الديباج المذهب 1/408.
(16) التبصرة والتذكرة للعراقي، 2/200.
(17) صفة الصفوة لابن الجوزي، 4/120.
(18) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، 2، ط بيروت.
(19) سير أعلام النبلاء، 8/352-353، ط أولى.(20/26)
هجر المبتدع
-4-
الشيخ بكر أبو زيد
ذكر الكاتب - فيما سبق - أدلة الهجر من الكتاب والسنة، ويكمل الآن الأدلة
بذكر دليل الإجماع.
-التحرير -
ثالثاً: الإجماع:
حكاه جماعة منهم: القاضي أبو يعلى، والبغوي، والغزالي.
قال القاضي أبو يعلى - رحمه الله - تعالى: (أجمع الصحابة والتابعون على
مقاطعة المبتدعين) .
وقال البغوي - رحمه الله تعالى - بعد حديث كعب بن مالك - رضي الله
عنه [1]-: (وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا من الخروج
معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون، وأتباعهم، وعلماء السنة على
هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم) .
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: (طرق السلف اختلفت في إظهار البغض مع
أهل المعاصي، وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظَّلَمة والمبتدعة، وكل من
عصى معصية متعدية إلى غيره) .
وقال ابن عبد البر [2]- رحمه الله تعالى -: (أجمعوا على أنه لا يجوز
الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على
نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورُب هجر جميل خير من مخالطة
مؤذية) .
وقال أيضاً - في الاستدلال من حديث كعب بن مالك وهجر النبي -صلى الله
عليه وسلم- له هو والمسلمون [3]-: (وهذا أصل عند العلماء في مجانبة مَن
ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود - رضي الله عنه - رجلاً
يضحك في جنازة فقال: والله لا أكلمك أبداً) .
المبحث السابع
إعمال الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم لهذه القاعدة في حياتهم
العملية في مواجهة المبتدعة:
لما ذَرَّ قرن الفتنة بكسر قفلها، وقتل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه
- وبدأ المندسون يبدون ما كانوا يضمرون من كيد للإسلام والمسلمين، أخذوا
ينفخون في كير الفتنة، وينشرون الهوى وينفثون البدعة، بدع: القدر، والخوارج
والرفض، والإرجاء، وهكذا تتوالى، كلما بعد الناس من عهد النبوة وأنوارها،
حتى داخلت البدع والمحدثات شعائر التعبد وصارت مفرداتها كحَب منثور في كف
كل لاقط.
لما كان الأمر كذلك واجه العلماء - رضي الله عنهم - فمن بعدهم هذه
المحدثات العقدية والعملية، بإيمان مستكمل، وعلم جم، وبصيرة نافذة فأظهروا من
أنوار الشريعة الماحية لظلمة الضلال - ما اكتسح هذه الأهواء، وقضى على نابتها، وأعملوا فيهم العقوبات الشرعية، حتى قلموهم، وأجهزوا على محدثاتهم في الدين، وكان الزجر بالهجر مما وظفوه - رضي الله عنهم - في حياتهم العملية ضد
البدعة ومبتدعيها تأسيساً على قاعدة (الولاء والبراء) والحب لله والبغض لله.
ومازال هذا النهج السوي شارعاً في حياة الأمة يعتمدونه في مواجهة المبتدعة، مدوناً بأسانيده في كتب السنة، وهذه جملة من المرويات في هذه الوظيفة الشرعية
بخصوصها عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم:
فهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما أخبره يحيى بن يعمر عن
القدرية قال: (إذا رجعت إليهم فقل لهم: ابن عمر يقول لكم: إنه منكم بريء، وأنتم منه براء) رواه مسلم وغيره [4] .
وعن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول كذا وكذا؛ فجعل لا يسمع
منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء [5] .
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: (إياكم وما يحدث الناس
من البدع؛ فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً
حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فريضة في
الصلاة، والصيام، والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم - عز وجل - فمَن
أدرك ذلك الزمان فليهرب.
قيل يا أبا عبد الرحمن: فإلى أين؟ ! ، قال: إلى لا أين، قال: يهرب بقلبه
ودينه، لا يجالس أحداً من أهل البدع) [6] .
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: (ما كان شرك قط إلا كان
بُدُوّه تكذيب بالقدر ولا أشركت أمة قط إلا كان بدوه تكذيب بالقدر، وإنكم ستبلون
بهم - أيتها الأمة! - فإن لقيتموهم فلا تمكّنوهم؛ فيدخلوا عليكم الشبهات) [7] .
وعن الفضيل بن عياض قال: (من جلس مع صاحب بدعة فاحذره، ومن
جلس مع صاحب البدعة لم يُعطَ الحكمة، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة
حصن من حديد، آكل مع اليهودي والنصراني أحب إليَّ من أن آكل مع صاحب
البدعة) [8] .
وعن الفضيل بن عياض: من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش
الإسلام، واحذروا الدخول على صاحب البدع فإنهم يصدون عن الحق [9] .
وعنه أيضاً: في النهي عن مجالستهم [10] .
وعنه أيضاً: في النهي عن مجالسته ومشاورته [11] .
وعنه أيضاً: في النهي عن مجالسته وأنها من علامات النفاق [12] .
وعنه أيضاً قال: أدركت خيار الناس، كلهم أصحاب سنة ينهون عن
أصحاب البدع [13] .
وعنه آثار أُخر كما في ترجمته من (الحلية لأبي نعيم) [14] .
وعن ابن المبارك: وإياك أن تجالس صاحب بدعة [15] .
وعن سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - أنه قال: (من أصغى بإذنه إلى
صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إليها - يعني إلى البدع -) . ذكره البربهاري في شرح السنة [16] .
وروى اللالكائي بسنده عن ابن زرعة عن أبيه قال:
(لقد رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلَق، فكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين) [17] .
وعن ابن أي الجوزاء قال: لأن يجاورني قردة وخنازير، أحب إليَّ من أن
يجاورني أحد منهم - يعني أصحاب الأهواء [18] .
وعن طاوس: جعل إصبعيه في أذنيه لما سمع معتزلياً يتكلم [19] .
وعبد الرزاق: امتنع من سماع إبراهيم بن أبي يحيى المعتزلي، وقال: لأن
الغلب ضعيف وإن الدين ليس لمن غلب [20] .
وعن محمد بن النضر الحارثي: النهي عن الإصغاء إلى كلام المبتدعة [21] .
وعن يونس بن عبيد: لا نجالس سلطاناً ولا صاحب بدعة [22] .
وعن يحيى بن أبى كثير: إذا كنت صاحب بدعة في طريق فخذ في
غيره [23] .
وعن إبراهيم بن ميسرة: ومن وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم
الإسلام [24] .
وعبد الله بن عمر السرخسي: هجر ابن المبارك مدة لما أكل عند صاحب
بدعة [25] .
وقال سلاَّم: وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب: أسألك عن كلمة، فولى
أيوب وهو يقول: ولا نصف كلمة، مرتين يشير بإصبعيه [26] .
ومثله عن أبي عمران النخعي [27] .
وعن الحسن البصري قوله: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا
تسمعوا منهم [28] .
وعن محمد بن سيرين: في عدم سماع قراءتهم [29] .
وعن أبي قلابة: تجالسوهم ولا تخالطوهم فإنه لا آمن أن يغمسوكم في
ضلالتهم ويلبّسوا عليكم كثيراً مما تعرفون [30] .
وعنه أيضاً: ولا تمكّن أهل الأهواء من سمعك [31] .
وأما الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - فالروايات عنه في ذلك - من فعله،
وقوله، وفتواه - بلغت مبلغاً عظيماً.
وقال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء، قال ابن دقيق العيد: يكون ذلك على
سبيل التأديب لهم والتبري منهم [32] .
وقال النووى: وأما المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه فلا يسلم
عليهم ولا يرد عليهم السلام، كما قال جماعة من أهل العلم [33] .
وقال أيضاً: السنة إذا مر بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلم بلفظ التعميم
ويقصد به المسلم، قال ابن العربي: ومثله إذا مر بمجلس يجمع أهل السنة والبدعة، وبمجلس فيه عدول وظَلمة، وبمجلس فيه محب ومبغض [34] .
وقال الخطابي - رحمه الله تعالى -: (إن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة
على مر الأوقات والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق [35] .
- يتبع -
__________
(1) شرح السنة، 1/226-227.
(2) فتح الباري، 10/496.
(3) بواسطة تحفة الإخوان، 45.
(4) صحيح مسلم 1/27، مصنف عبد الرزَّاق 11/114 برقم: 20072.
(5) اللالكائي برقم 199.
(6) المصدر السابق برقم 196.
(7) المصدر السابق برقم 200، والطبراني في الأوسط، كما في مجمع الزوائد 7/204.
(8) اللالكائي 3/638 برقم 1149، والبربهاري برقم 130 والحلية لأبي نعيم 8/103.
(9) اللالكائي برقم 261.
(10) المصدر السابق برقم 262، 263، وابن بطة في الإبانة 1/32 ب.
(11) المصدر السابق برقم 264، وابن بطة في الإبانة 1/42 أ.
(12) المصدر السابق برقم 265، وابن بطة في الإبانة 1/42 ب.
(13) المصدر السابق برقم 267.
(14) الحلية 8/84 وما بعدها.
(15) المصدر السابق برقم 260، والآجري في الشريعة 1/64.
(16) ص/60.
(17) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/636، رقم 1140.
(18) اللالكائي برقم 231، وابن بطة 1/43 ب.
(19) المصدر السابق برقم 248، وعبد الرزاق في المصنف برقم 20099 وابن بطة في الإبانة 1/40 ب.
(20) اللالكائي برقم 249، وابن بطة في الإبانة 1/40 أ.
(21) المصدر السابق برقم 252، وابن بطة في الإبانة1/42 أ.
(22) المصدر السابق برقم 253.
(23) المصدر السابق برقم 259، والآجري في الشريعة 1/64.
(24) المصدر السابق برقم 273.
(25) المصدر السابق برقم 274.
(26) المصدر السابق برقم 291.
(27) المصدر السابق برقم / تفسير القرطبي 7/13.
(28) - اللالكائي برقم 240، والدارمي برقم 470، وابن بطة في الإبانة 1 /40 أ.
(29) اللالكائي برقم 242، وابن وضاح، 53، والآجري 1/57، وابن بطة في الإبانة 1/40 ب.
(30) اللالكائي برقم 242، وابن وضاح ص53، والآجري 1/57، وابن بطة في الإبانة 1/40 ب.
(31) اللالكائي برقم 246، وابن بطة في الإبانة 1/40 أ، ب.
(32) فتح الباري 1/40.
(33) فتح الباري 1/41.
(34) فتح الباري 1/41 وترجمة البخاري: (باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين) .
(35) معالم السنن 4.(20/31)
ردود ومناقشات
متى نكون أعلم بأمور ديننا؟ !
سامي السويلم
ظلت السنة على مر العصور عَلماً يستهدي به سلف هذه الأمة وأئمتها في
عقائدهم وأخلاقهم، ونوراً يستضيئون به في عصور الظلام والفتن، ولم تزدها
شبهات المشككين ودعايات المضللين سوى ثباتاً ورسوخاً في قلوب أهلها، وأتباعها
مصداقاً لقول الله - تعالى -: [ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
وتواجه السنة اليوم شُبهاً عديدة، منها ما هو ترديد لشبهات السابقين [1] ،
ومنها ما هو حديث العهد، قريب النشأة. وقد تكفل في السلف الصالح برد تلك
الشبه التي ثارت في عصورهم، وأما ما استجد اليوم فإنه يستوجب على المسلمين
عموماً - وعلمائهم خصوصاً - التصدي لها وبيان بطلانها، خصوصاً تلك الشبه
التي اختلط فيها الحق بالباطل؛ مما قد يروج على بعض المسلمين.
وكان من هذه الشبه الحديثة: دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أعطى لنا الحق المطلق في تنظيم أمور دنيانا، حتى ولو كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - قد قال فيها حكمه، اعتماداً على ما رواه مسلم في صحيحه من حديث
عائشة وأنس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم
يلقحون. فقال: (لو لم تفعلوا لصلُح) ، قال: فخرج شيصاً. فمر بهم فقال: (ما
لنخلكم؟) قالوا: قلت كذا وكذا. قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) [2] .
فجعلوا هذا الحديث سنداً لهم في رد كثير من النصوص المتعلقة بأمور
السياسة والاقتصاد والاجتماع، وشئون الحرب والسلم، بل وحتى نصوص الطب؛
بحجة: أنَّا أعلم بأمور دنيانا!
فيا ليت شعري! ما الذي يبقى بعد من شريعة الإسلام؟ ، أترى النبي -
صلى الله عليه وسلم- قد جاء ليعلِّمنا الوضوء والعبادات فحسب: [سُبْحَانَكَ هَذَا
بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] [النور: 16] .
وليس غريباً أن تنشأ مثل هذه الشبهة في هذا الزمان الذي قُدس فيه العقل
البشري، وأُعطي من الصلاحيات ما لم يُعطَه في أي زمان مضى، حتى أوج
زمان المعتزلة وأشياعهم.
وقد فتن كثير من المسلمين بمدنية الغرب وتنظيمهم لأمور معاشهم، وتحت
ضغط الانهزام النفسي والشعور بالتبعية، راحوا يبحثون عن كل ما من شأنه أن
يبرر لهم التملص من أحكام الإسلام، ومحاولة تقريبه من أحكام الغرب ونظمه،
وصدق فيهم قول الشاعر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فأول خطأ قاد هؤلاء إلى هذه الدعوى هو هذا الموقف النفسي الذليل، وكأنهم
نسوا قول الله-عز وجل-: [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [ال عمران: 139]
أما استدلالهم بهذا الحديث، فقد أخطأوا فيه لسببين:
الأول: اقتصارهم على إحدى روايات الحديث، وإهمالهم سائر طرقه
وألفاظه. ...
الثاني: غفلتهم عن النصوص الأخرى المتعلقة بنفس الموضوع، ووجه
العلاقة بين هذه النصوص جميعاً.
ونحن نحاول في هذه العجالة أن نذكر ما تبين لنا في ذلك، وإلا فالموضوع
بحاجة لمزيد من البحث والدراسة. فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: أما روايات الحديث فقد ساق له الإمام مسلم في صحيحه [3] عدداً من
الطرق، كما يلي:
- ساق بإسناده إلى موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بقوم على رؤوس النخل، فقال: (ما يصنع هؤلاء؟) فقالوا: ... يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح. فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (ما أظن يغني ذلك شيئاً) قال: فأُخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت
ظناً فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به؛ فإني لن أكذب
على الله (عز وجل)) .
- ثم ساق بإسناده إلى رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: قدم النبي -
صلى الله عليه وسلم- وهم يؤبِّرون النخل - يقولون يلقحون النخل - فقال: (ما
تصنعون؟) ؛ قالوا: كنا نصنعه. قال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فنَفَضت
أو نقصت) ، قال: فذكروا ذلك له. فقال: (إنما أنا بشر. وإذا أمرتكم بشيء من
أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) ، قال عكرمة -
أحد الرواة -: أو نحو هذا.
- ثم ساق الحديث من طريق عروة عن عائشة، وثابت عن أنس، الحديث
بلفظه المذكور أول المقال.
ويلاحظ من خلال هذه الروايات ما يلي:
1 - أن الروايات وإن تعددت ألفاظها فهي تحكي قصة واحدة. إذ حاشا النبي
-صلى الله عليه وسلم- أن يتكرر منه الخطأ نفسه أكثر من مرة. وعليه فإن
الروايات المذكورة يفسر بعضها بعضاً. والتعدد في الألفاظ مرجعه إما إلى الرواية
بالمعنى. كما قال عكرمة: أو نحو هذا، وإما إلى الاختصار من جهة الراوي.
2- أن رواية طلحة - رضي الله عنه - أكثر الروايات وضوحاً وتفصيلاً،
ولا غرو، فإنه قد شهد هذه الواقعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف
سائر الصحابة الرواة للقصة - رافع وعائشة وأنس - رضي الله عنهم - فليس في
رواياتهم ما يدل على شهودهم لها.
3 - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى القوم يلقحون سألهم - كما في
حديث رافع -: (ما تصنعون؟) وفي حديث طلحة: (ما يصنع هؤلاء؟) وكان
- والله أعلم - سؤال استفهام واستعلام مما يدل على أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- لم يكن يعرف التلقيح من قبل؛ خصوصاً أن سؤاله وقع أول مَقدِمه المدينة
كما أشار لذلك رافع - رضي الله عنه - وهذا كسؤاله - عليه السلام - عن الرطب: (أينقص الرطب إذا يبس؟) [4] ، فمجموع هذا يدل على أنه -صلى الله عليه ...
وسلم- لم يكن له خبرة تامة بالزراعة، وهو أمر لا يستغرب ممن نشأ في مكة،
فإن أهل مكة كان الغالب عليهم التجارة، بخلاف أهل المدينة فإنهم أهل زرع.
وهذا يفسر قوله - عليه السلام - في حديث عائشة وأنس: (أنتم أعلم بأمور
دنياكم) ؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذه العبارة فيما لم يكن له به علم تام
وخبرة تامة. وكان المخاطَبون أعلم به منه؛ ولهذا أضاف: (الدنيا) إليهم في قوله
(دنياكم) لا أنهم أعلم منه بالدنيا مطلقاً، فإنه - عليه السلام - كان أعلم منهم
بشئون الحرب والسياسة، وتدبير الأمة، وتصريف مصالحها، وغير ذلك من
أمور الدنيا. فعلم بذلك أن المراد بالدنيا في قوله: (دنياكم) ما لم يكن عند النبي -
صلى الله عليه وسلم- منه علم تام. وليس المراد عامة أمور الدنيا. وسيأتي كيف
يمكننا التفريق بين الأمرين.
4- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للذين يلقحون النخل - كما في
حديث طلحة -: (ما أظن يغني ذلك شيئاً) فلم يكن رأيه - عليه السلام-آنذاك
سوى ظناً، وهو كقوله في حديث رافع: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) فهو لم
يجزم في رأيه ولم يخبر به خبر المتيقن من صوابه. بل قاله على سبيل الظن
والترجي. وقد نص هو - عليه السلام - على ذلك في قوله: (.. فإني إنما ظننت
ظناً..) وهذا يبين أن قوله في حديث عائشة وأنس - (لو لم تفعلوا لصلح) - هو
بالمعنى، وأنه على سبيل الظن لا الجزم كما هو ظاهر العبارة. قال الإمام النووي:
(قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينته الروايات) [5] .
5- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ما الذي يلزمنا الأخذ به مما لا
يلزمنا من كلامه -صلى الله عليه وسلم-، فقال في حديث طلحة: (.. فلا
تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله
- عز وجل -) فمقتضى القسمة في هذا الحديث أن كل ما جزم به النبي -صلى
الله عليه وسلم- فهو من عند الله [6] ، ويجب علينا الأخذ به، بخلاف ما ظنه ولم
يجزم به، فمقتضى الحديث أن ما كان كذلك فهو ليس من عند الله، ولا يجب علينا
الأخذ به. يوضح ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يجزم إلا بما يعلمه
ويتيقنه، ومن الممتنع أن يكون علمه بالشيء مخالفا لحقيقته.
أما الأول: فإن الله أدّب نبيه بقوله: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ]
[الإسراء: 36] .
وأما الثاني: فقد عصم الله - تعالى - نبيه عن الكذب وعن إضلال الأمة.
وهو - عليه السلام - أنصح الخلق لأمته، فإذا علم شيئاً فإنه مبلّغه لها بمقتضى
نصحه، وقياماً بواجب البيان والبلاغ. وإذا بلغ أمته شيئاً وأخبرها به جزماً،
وكان المخبر مخالفاً للخبر؛ كان ذلك كذباً وضلالاً للأمة بلا شك. وقد عصمه الله
- تعالى - من الأمرين جميعاً، إما ابتداءً وإما تسديداً بالوحي.
ويشهد لصحة القسمة المذكورة آنفاً قوله - عليه السلام - حديث رافع: (إذا
أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) فالتنكير في قوله: (بشيء من رأي) مشعر
بأن المراد ما كان على غير وجه الجزم والإلزام، بل على وجه المشورة والاقتراح
فحسب [7] .
يوضح ذلك أن كلمة (رأي) تستعمل فيما كان ناتجاً عن الخبرة البشرية مما
هو قابل للخطأ والصواب، كما في السيرة أن الحباب بن المنذر قال للنبي -صلى
الله عليه وسلم- يوم بدر: (يا رسول الله! ، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله
ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟) [8] وما كان
كذلك فحاشا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجزم به، وهو يعلم أنه يرد عليه
الخطأ، والجزم بالشيء إنما هو لتيقن صاحبه منه - طلباً أو خبراً -والعرب لا
تسمي مثل هذا اليقين: رأياً.
فقوله - عليه السلام -: (بشيء من رأي) واضح في أن المراد ما كان
أقرب إلى المشورة والاقتراح، لا إلى الجزم واليقين.
فتحصل مما تقدم أن مقتضى القسمة في كلا الحديثين: أن كل ما جزم به
النبي -صلى الله عليه وسلم- - طلباً أو خبراً - فهو من عند الله - تعالى -[9] ،
ومن ديننا؛ فيلزمنا الأخذ به، وأما ما كان من كلامه -صلى الله عليه وسلم- ظناً
أو رأياً، فقد رخَّص لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأخذ به أو تركه.
وليست القسمة كما فهمها أصحاب الشبهة: أن ما كان من أمور الدنيا مطلقاً فهو إلينا، وما كان من أمور الدين فهو إليه - عليه السلام - والله أعلم.
فإن قلت: قد أكثرت من الشرح والتقسيم، فهلاّ أتيت بمثال يوضح عبارتك
ويؤيد مقالتك! .
فالجواب: أن أقرب مثال - والأمثلة متوافرة - هو ما رواه البخاري في
صحيحه [10] من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في قصة بريرة لما
خالعت زوجها مغيثاً - وكان شديد التعلق بها - وفيه أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال لبريرة: لو راجعته، قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ ؛ قال: إنما أن
أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه. قال الحافظ [11] : وعند ابن مسعود من مرسل
ابن سيرين بسند صحيح: (فقالت: يا رسول الله! أشيء واجب عليَّ؟ قال: لا) .
فقوله -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: (لو راجعته) لا يعدو كونه مشورة واقتراحاً كما بيَّن ذلك -صلى الله عليه وسلم-، وليس جزماً فيجب عليها الأخذ به، وقارن بين قوله - عليه السلام -: (لو راجعته) وقوله: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) كيف تجدهما يصدران نفس المصدر والله أعلم.
فإن قلت: إن تقييدك لحديث التلقيح - بما كان على سبيل الظن والرأي - هو
تخصيص للحديث بسببه، وتد تقرر في الأصول أن (العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب) ؟ .
فالجواب: أن هذه القاعدة محل نزاع عند كثير من أهل العلم، أولاً.
وثانياً: أن الفرق كبير بين مجرد ورود العام على سبب، وبين أثر السبب
والسياق والقرائن في تخصيص العام - وهو ما نحن بصدده - كما نبه على ذلك
العلامة ابن دقيق العيد.
وثالثاً: مع التسليم بالقاعدة فإن الأخذ بها مقيد بعدم قيام المعارض، فأما مع
وجوده فإن من طرق الجمع حمل العام على سببه دفعاً للتعارض وإعمالاً لكل نص
في مجاله [12] . ولو أخذنا بعموم لفظ حديث التلقيح، خصوصاً حديث عائشة
وأنس - رضي الله عنهما - دون النظر في سببه وسياقه لوجدنا نصوصاً كثيرة
متظاهرة تعارضه وتصادمه، ونحن نذكر هذه النصوص لأهميتها ولبيان وجه
العلاقة بين هذه النصوص جميعاً.
ثانياً: وأما سائر النصوص في هذا الباب فهي على نوعين: عام وخاص.
أما العام: فكقوله - تعالى -: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ
ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] الآية [الأحزاب: 36] ، فبيَّن -
تعالى - أنه لا خيار لنا أمام قضائه - تعالى - في القرآن، وقضاء رسوله -صلى
الله عليه وسلم- في السنة.
وقوله - تعالى -: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [النور: 63] .
وقوله (أمره) مفرد مضاف، فيعم كل أنواع أمره - عليه السلام -.
وكقوله - عليه الصلاة والسلام -: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به
فأتوا منه ما استطعتم) [13] .
فعلق الأمر على الاستطاعة لا على نوعية المأمور به.
وأما الخاص: فمنه ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح من حديث
عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه. فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتاب. فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق) ، وأشار بيده إلى فمه [14] .
وصح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الصحابة قالوا للنبي -صلى الله
عليه وسلم-: (إنك تداعبنا؟) فقال - عليه السلام - (إني لا أقول إلا حقاً) ،
أخرجه أحمد والترمذي [15] .
وإذا كان كل ما يقوله -صلى الله عليه وسلم- حقاً في الغضب والرضا، في
الجد والمزاح، فلا رخصة لنا حينئذ في الإعراض عنه.
فهذه النصوص أظهر وأبين في الدلالة من حديث التلقيح. ولو سلكنا سبيل
أصحاب الشبهة لأخذنا بهذه النصوص وأعرضنا عن حديث التلقيح. ولكن كلا
الطريقين خطأ.
والذي عليه سلف هذه الأمة هو الأخذ بنصوص الوحي جميعاً، والعمل بكل
منها على وجهه الذي جاء عليه. ولا يضربون كلام الله وكلام رسوله -صلى الله
عليه وسلم- بعضه ببعض.
ويقولون: [آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] [ال عمران: 7] .
فإن قلت: فما وجه الجمع بين حديث التلقيح وبين النصوص التي ذكرت؟ .
قلت: وجه الجمع - والله أعلم - يتلخص فيما يلي:
أولاً: أن الأصل، والقاعدة العامة هي الأخذ بأمره وقوله - عليه السلام -
مطلقاً دون استفصال، ودون الحاجة إلى البحث عن قرينة خاصة تُلزمنا بذلك
النص.
وهذا الأصل هو مقتضى العموم في النصوص الملزمة باتباع أمره - صلوات
الله وسلامه عليه - فإنها لم تفرق بين أمر وأمر، أو بين نص ونص، بل عممت
الإلزام بها جميعاً. ويقابل هذا الأصل العام:
ثانياً: ما يمكن أن يُستثنى من هذه القاعدة العامة بمقتضى حديث التلقيح وهو
ما كان منه - عليه الصلاة والسلام - على سبيل الظن والرأي، لا الجزم والحكم.
ولا تعارض بين حديث التلقيح وبين حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله
عنهما - فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخبرنا بأنه يظن كذا، فما قال إلا
الحق، وإذا أشار علينا بشيء على سبيل الرأي، فلم يعد الحق. إذ المشورة نفسها
من لحق، ولا يمكن أن يتأتى مثل هذا الجمع على مقتضى قول أصحاب الشبهة،
وبالله التوفيق.
فإن قلت: ومتى نعرف أن حديثاً ما هو على سبيل الظن والرأي أو على
سبيل الجزم؟ .
قلت: لا يحق لنا القول بأن حديثا ما هو على سبيل الظن أو الرأي إلا بعد
قيام قرينة خاصة وأمارة ظاهرة تفيد هذا المعنى. والنبي عليه السلام أنصح الخلق
وأصحهم لأمته، فلو أراد أن يشير علينا برأي دون إلزام لبين ذلك. ولو أراد
إخبارنا بما يظنه لا ما يعلمه، لبين ذلك، صلوات الله وسلامه عليه. وما لم تقم
تلك الأمارة الظاهرة، وتلك القرينة البينة، فهذا كافٍ في وصف الحديث بكونه
على سبيل الجزم والإلزام، وهذا مقتضى الأصل الذي قررناه آنفاً.
هذا ما تيسر لنا في هذه المسألة، فمن كان عنده فضل علم أو تصحيح خطأ
فلا يبخل به. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله
وصحبه أجمعين.
__________
(1) كشبهة رد أحاديث الآحاد في العقائد، والاكتفاء بالقرآن عن السنة، وتحكيم العقل في السنة وغيرها.
(2) صحيح مسلم، ط عبد الباقي 4/1836.
(3) 4/1836، ولم نعثر على من خرّج الحديث سوى الإمام مسلم وقد اقتصر الحافظ السيوطي في عزو الحديث عليه ووافقه على ذلك الشيخ الألباني فالله أعلم، انظر صحيح الجامع رقم (1500) .
(4) رواه الخمسة وصححه الترمذي، انظر نيل الأوطار، 5/308.
(5) في شرحه على صحيح مسلم 15/116.
(6) المراد: عن الله تعالى إما نصاً - أي وحياً من الله كالقرآن والأحاديث القدسية ونحوها - وإما إقراراً؛ بأن يجتهد النبي - عليه السلام - في أمر فيقره الله - تعالى - على ذلك فبإقرار الله - عز وجل - لاجتهاد النبي - عليه السلام - صار اجتهاده حكماً لله - تعالى - قال - تعالى -: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] [النساء: 80] .
(7) هذا وما بعده بناءاً على ثبوت لفظة (الرأي) ، وإلا فقد قال النووي 15/ 116: مع أن لفظة الراوي إنما أتى بها عكرمة على المعنى؛ لقوله آخر الحديث: أو نحو هذا، فلم يخبر بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- محققاً اهـ ومهما يكن فحديث طلحة صريح في المعنى لا يحتمل التبديل المخل.
(8) تهذيب سيرة ابن هشام، 143.
(9) انظر: هامش رقم 6 من الصفحة السابقة.
(10) من فتح الباري، 9/408.
(11) المصدر السابق، 9/409.
(12) مثال ذلك: حديث ليس من البر الصيام في السفر مع سائر النصوص المتظاهرة بإجازة الصيام في السفر مطلقاً، جمع بينهما العلماء بحمل الأول على سببه، انظر في هذا المثال ومقالة العلامة ابن دقيق العيد نيل الأوطار 4/306.
(13) أخرجاه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - راجع الأربعين النووية.
(14) انظر في هذا الحديث: صحيح الجامع، 1207، وحجية السنة للأستاذ عبد الغني عبد الخالق، فقد استوفى الكلام على طرقه ورجاله، ص316، 431، 437.
(15) صحيح الجامع، 2490، 2505.(20/37)
فن المقالة
منصور الأحمد
المقالة فن من فنون الأدب، له أصوله، ومميزاته، وأهميته، وهذا الفن -
كما أنه يكون سبباً في شهرة بعض الكُتاب - إلا أن كثيراً منهم يسئ استخدامه،
ويفشل أن يبني بينه وبين القراء جسراً بواسطته.
أما أهمية المقالة فهي سبيل مطواع يستطيع الكاتب أن يسخره لما يريد من
الأفكار الخاصة أو العامة، العلمية أو الأدبية، ويمكن أن توصل هذه الأفكار
بسرعة ودون التواء في أكثر الأحيان.
وقد حظيت المقالة في أدبنا العربي - قديماً وحديثاً - بمكانة لا يستهان بها،
ونستطيع أن نرصد خطواتها وتطورها.
وهى كغيرها من الفنون الأدبية، أدركها ويدركها التطور حسب ما يقتضيه
تطور الأفكار والأساليب، وحسب الظروف الثقافية والفكرية السائدة، وقد ساعدت
الصحافة وحركة النشر على ازدهار المقالة.
على أننا لا نريد في هذه العجالة أن نكتب بحثاً أدبياً وافياً عن ذلك، بل نحب
أن نلفت النظر إلى أن المجلات، ومنها مجلتنا (البيان) - إنما تعتمد في جل ما
تنشر على هذا الجانب من أساليب الكتابة، ونجاحها مرهون بإدراك كُتابها لما يجب
أن تتميز به المقالة عن غيرها من فنون الكتابة.
والهدف من المقالة هو تقديم فكرة معينة إلى القارئ بأسلوب يختاره الكاتب،
وحتى تحقق المقالة الغرض منها لابد أن يتوفر فيها:
وضوح الفكرة، وضوح الأسلوب وجماله، وهذان الشرطان يلتقيان على
قاعدة سابقة في ذهن الكاتب، وهي: معرفته بمَن يخاطب.
1 - الموضوع أو الفكرة:
يعتبر موضوع المقالة المحور الأساسي لها، وهو الهدف منها، وبقدر احتفال
الكاتب به تحديداً وتوضيحاً يصل إلى هدفه في الإقناع. وأكبر الأخطاء التي
تُرتكب في المقالات الفاشلة أن لا يكون موضوعها واضحاً في ذهن كاتبها، وأن
تكون الفكرة التي تدور عليها غامضة مبهمة، أو ليست ناضجة، أو ضائعة في
خضم كلام لا يعرف كاتبه العلاقة الصحيحة بينه وبين الفكرة.
2- الأسلوب:
الأسلوب هو القالب اللفظي الذي تصب فيه الفكرة، مضافاً إليه الروح، أو
قل: النكهة التي تُحس أو تدرك من هذا الأسلوب، والتي تميز كاتباً عن آخر،
وهي التي عناها من قال: الأسلوب هو الأديب نفسه، هي بصمته وتوقيعه الذي لا
يمكن تزويره.
فالأسلوب ليس كلمات مرصوفة رصفاً، أو منتزعة من هنا وهناك لأدنى
علاقة، أو بدون علاقة في بعض الأحيان، بل هي حصيلة دراسات الكاتب
ومطالعاته، ومجمل ثقافته، إضافة إلى سمات مزاجه وطبعه.
والأسلوب الناجح يتميز: بالوضوح والجمال.
أما الوضوح فيكون باختيار الألفاظ المطابقة للمعنى، والبعد عن تتبع
الغرائب، والحرص على طرائق التعبير العربية، والبعد قدر الاستطاعة عن العجمة التي أصبح التخلص في هذه الأيام منها هماً ناصباً.
وأما جمال الأسلوب فهو شيء يصعب تحديده؛ لأن مبناه على الذوق، وهذا
الذوق يربَّى ويصقل بالقراءة وتتبع الآثار الأدبية الراقية.
إذا عرفنا هذا اتضح لنا أن المقالة ليست خطبة ملتهبة هدفها إثارة العواطف
وشحن الخواطر بالكلمات والجمل المهيجة بعيداً عن الإقناع.
وليست بحثاً هدفه إظهار قدرة الكاتب على البحث والتنقيب والتوثيق، وإثقال
الهوامش بالمراجع والإحالات.
وليست فرضاً لمنهج علم معين في التأليف، وإرباك القارئ بمصطلحات لا
يدري عنها شيئاً، أو يدري عنها القليل!
إنها باختصار فن أدبي جميل، يشتمل على موضوع رئيسي يراد إيصاله إلى
القارئ بطريق رشيق مقنع، بعيد عن الإملال والإرهاق، ويتلطف إليه بمدخل أو
استهلال يكون بمثابة الاستئذان للدخول إلى عقله وقلبه، وأن لا يُغادَر إلا وقد
اطمأن الكاتب أن ما يريده قد وصل، فيلملم أطراف موضوعه بخاتمة تكون بمثابة
التوديع الذي لا يكون إلا عن تعارف وتصاف ووثاقة صلة.
في مكان آخر من هذا العدد وضعنا مثالاً تطبيقياً لمقالة أدت الغرض منها [1] ، فهي ليست بالطويلة، وليست بالقصيرة، واستوفت شروط سهولة الألفاظ
والتراكيب مع جمالها وقوة تأثيرها، ووضوح الفكرة الرئيسية التي صاغ الكاتب من
أجلها مقالته، وحسن استدلاله على ذلك من الواقع العملي والتاريخي للإسلام، ثم
إدراكه للأصول دون الغرق في التفاصيل التي لا تغني شيئاً وقد ذهبت الأصول،
فقد درج الكاتبون في شأن الهجرة أن يشغلوا أنفسهم ويشغلوا الناس في سرد وقائع
الهجرة، دون الخوض في دلالتها العملية العميقة التي يحتاجها المسلمون اليوم،
فأراد أن يتخذ من حادثة الهجرة دافعاً مستمراً متجدداً للإصلاح وعلاج المشاكل
المصيرية التي تكاد تعصف بالكيان الإسلامي.
__________
(1) مقال: من إلهامات الهجرة.(20/46)
من إلهامات الهجرة [*]
محب الدين الخطيب
(رحمه الله)
[مدخل: فرق بين الإسلام وغيره من الأديان]
في الإسلام ظاهرة يمتاز بها على غيره من الأديان التي تموج أقطار الأرض
بأتباعها، فأهل الديانات الأخرى ينحصر معنى (الدين) عندهم في العقيدة والعبادة،
فإذا ضُمنتا لهم في أي نظام من أنظمة الحكم اكتفوا بهما، وأذعنوا لذلك النظام مهما
كان، ولا يعرفون دينهم إلا ساعة الاجتماع في المعابد. أما الإسلام فكما أنه دين
عقيدة وعبادة - فإنه يشمل أيضاً الآداب في المنازل والمجتمعات، والتعاون بين
الأفراد والجماعات، ويتناول العقود والمصالح والالتزامات، وتتسع دائرته فتحيط
بنظام الحكم كله.
***
حكمة الهجرة الأساسية:
والمسلمون لا يعتبرون أنفسهم عائشين في بلد إسلامي، إلا إذا ساد نظام
الإسلام بلدهم، وقامت فيه أحكامه وىدابه، كما تقوم فيه شعائره وتسود عقائده،
وإذا تعذر على المسلمين إقامة أحكام دينهم، وتأييد أنظمته الاجتماعية، وآدابه
الخلقية والبيتية - وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام
وآدابه، تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده في
العالمين. وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط، وجب عليهم أن
يتجمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام تاماً كاملاً، ويتعاونون على
حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها
صاحبها - صلوات الله عليه - وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان.
هذه هي حكمة (الهجرة) ، وهذا هو الباعث عليها والداعي لها، فالإسلام يجب
أن يكون له وطن تُقام فيه معاني الإسلام كلها، ويعمل فيه بأحكامه وأنظمته في
دواوين الدولة، ومرافق الأمة، ومعاملات الأفراد، وآداب البيوت، بقدر ما يعمل
فيه بشعائر العبادات، وبقدر ما تحمي فيه حقائق العقيدة التي لا يكون الإسلام
إسلاماً إلا بها.
***
دليل قرآني تاريخي
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلبثوا في وطنهم (مكة) مستضعفين فيها لا
يستطيعون إعلاء كلمة الله، لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى
المدينة فيقوى بهم الإسلام. فنزل فيهم قول الله - عز وجل -: [إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ
المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] (أي بعد إقامة دينهم في بلدهم، وتخلُّفهم عن نصره وتأييده
في دار هجرته) [قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وسَاءَتْ مَصِيراً] هذه الآية
نزلت في قوم أسلموا، وكانوا يؤدون صلواتهم على النهج الشرعي في منازلهم أو
في الحرم إن استطاعوا، وكانوا صحيحي العقيدة، وغير مقصرين في العبادة، إلا
أنهم كانوا سبب ضعف الإسلام؛ بإذعانهم لنظام غير نظامه، وإحجامهم عن تقوية
الإسلام في وطنه ودار هجرته. ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه أن تقدر
الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها، كان تمام الآيات السالفة قول الله - عز وجل
-[إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدُونَ
سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللَّهُ عَفُواً غَفُوراً. ومَن يُهَاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً] (أي مذهباً وتحولاً) [كَثِيراً وسَعَةً ومَن يَخْرُجْ
مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وكَانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَّحِيماً] [النساء: 97-100] .
***
قلب الموضوع (الهدف الذي من أجله كتب الكاتب)
إن النفس الإسلامية يريدها الإسلام أن تعيش في جو من النظام والحكم يسهل
لها فهم هداية الإسلام، ويحبب إليها العمل بهذه الهداية في كل ضرب من ضروب
الحياة، وتتوفر فيه حرية الدعوة إلى كل ما ينشده الإسلام من حقيقة وخير، فيتيسر
القيام بهما جهاراً في جميع أحوال الفرد المسلم والجماعة الإسلامية، ويكون فيه
للحق قوة تقمع كل من يصد عن ذلك، أو يحُول بين المسلمين وبين الدعوة إلى
هدايتهم والعمل بها في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم ومجتمعاتهم. فإذا نشأت النفس
الإسلامية ونمت تحت جناح نظام يقيم أحكام الإسلام ويحمي دعوته ويحمل الأمة
على آدابه، كانت هذه النفس قوة للإسلام، تعمل على رفعته وتوسيع دائرته،
وكانت غصناً في دوحة الإسلام تزهر وتورق وتثمر في جناته. أما إذا نشأت
ونمت تحت جناح نظام يخالف الإسلام، ويخذل دعوته، ولا يربي الأمة على آدابه، فإن قوتها تكون معطلة عن تأييد الإسلام وتعميم هدايته.
إن (الهجرة المحمدية) من ديار الشرك إلى دار النصرة قد مضت بأهلها،
ولكن (الهداية المحمدية) لا تزال في أمانة المسلمين، وهي في عصرنا والعصور
الآتية أحوج ما كانت إلى تفكير المسلمين في صيانتها، والتماسهم الأسباب
لازدهارها وتعميم العمل بها.
لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه من ديار الشرك إلى دار
النصرة، وكان للإسلام - على قلة أهله يومئذ - قوة بتلك القلة من أهله لا نكون
صادقين لو زعمنا أن عندنا للإسلام مثلها اليوم مع كثرتنا واتساع آفاق أوطاننا، فإن
كانت الهجرة قد مضت بأهلها فإن القوة التي توخاها النبي -صلى الله عليه وسلم-
للإسلام بالهجرة، لا تزال أنظمة الإسلام وآدابه وأهدافه مفتقرة اليوم وبعد اليوم إلى
مثلها، بل هي اليوم وبعد اليوم أشد افتقاراً إلى مثل تلك القوة مما كانت في زمن
الهجرة.
***
نحن محتاجون اليوم - من معاني الهجرة وأهدافها وحكمتها - إلى أن ننخلع
في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نعيد إلى هذه البيوت الصدق
والصراحة والنبل والاستقامة والاعتدال والمحبة والتعاون على الخير؛ فالبيت
الإسلامي وطن إسلامي، بل هو دولة إسلامية. وقبل أن أتبجح فأنتقد ما خرج عن
دائرتي من بيئات - لا يفيدها انتقادي شيئاً - يجب عليَّ أن أبدأ بمملكتي التي هي
بيتي فأهاجر أنا ومن فيه من زوجة وبنات وبنين إلى ما يحبه الله من الصدق،
هاربين من الكذب الذي يكرهه الله ويلعن أهله في صريح كتابه.
ويجب أن أنخلع أنا وأهل بيتي عن رذيلتَيْ الإفراط والتفريط؛ فنكون معتدلين
في كل شيء، لأن الاعتدال ميزان الإسلام، ويجب أن نحب أنظمة الإسلام محبة
تُمازج دماءنا، فنتحرى هذه الأنظمة في أخلاقنا وأحوالنا وتصرفاتنا ومعاملة بعضنا
لبعض، (هاجرين) كل ما خالفها مما اقتبسناه عن الأغيار وخذلنا به مقاصد الإسلام
فضيعنا أغراضه الجوهرية.
إذا تربينا في بيوتنا على محبة الأنظمة الإسلامية، وتأصل ذلك في أذواقنا
وميولنا، وتعودنا العمل به في مختلف ضروب الحياة؛ فشا العمل به حينئذ من
البيوت إلى الأسواق والأندية والمجتمعات ودواوين الحكم، ولا يلبث الوطن كله بعد
عشرات قليلة من السنين أن يتحول من وطن عاصٍ لله، إلى وطن مطيع لله، ومن
وطن تسود فيه الأنظمة التي يسخطها الله إلى وطن تسود فيه الأنظمة التي أمر بها
الله.
***
نقد لواقع وتصحيح لما هو شائع
نحتفل بذكرى الهجرة في كل سنة ونتكلم فيها عن الماضي فلا ننتفع بها في
الحاضر. ولو أنَّا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب
الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كانوا في مكة يصلون ويصومون، ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة
تخالف الإسلام - فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا
من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة - لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله
بالصلاة والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته وآدابه في بيوتهم
وأسواقهم وأنديتهم ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع
الوسائل لتحقيق هذا الغرض الإسلامي، بادئين به من البيت، وملاحظين ذلك في
تربية من تحت أمانتهم من بنات وبنين، ومتعاونين عليه مع كل من ينشد للإسلام
الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عم هذا الإسلام أرجاء واسعة تلاشت تحت
أشعته ظلمات الباطل، فكانت لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل الآثار التي
كانت لهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأولين.
عود إلى الأدلة: الأدلة من السنة:
روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع
بن مسعود السُّلمي قال: جئت بأخي (أبي سعد) إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بعد الفتح فقلت: يا رسول الله! بايعه على الهجرة، فقال -صلى الله عليه
وسلم-: قد مضت الهجرة بأهلها. قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: (على
الإسلام، والجهاد، والخير) . قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع، فقال: صدق.
وفى كتب السنن - وبعضه في الصحيحين - عن عبد الله بن عمرو بن
العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال: (المهاجر من هجر السيئات) .
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عبسة، وفى حديث عبد الله بن
عبيد بن عمير عن أبيه عن جده، أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (..ما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله) .
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (6/21) من حديث فضالة بن عبيد بن ناقد
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من
أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده.
والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله. والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب) .
***
خاتمة تحض على صرف الأنظار إلى الغرض الأساسي:
فإلى الهجرة أيها المسلمون ...
إلى هجر الخطايا والذنوب في أعمالنا، وأخلاقنا وتصرفاتنا.
إلى هجر ما يخالف أنظمة الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا.
إلى هجر الضعف والعطالة والإهمال والسرف والكذب والرياء ووضع
الأشياء في غير مواضعها.
إلى هجر الأنانية والصغائر والسفاسف مما أراد نبي الرحمة أن يطهر منه
نفوس أمته حتى تكون خير أمة أخرجت للناس كما أراد الله لها.
بهذا، وبهذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة، ونحقق مقاصدها، ونستمطر
رحمة الله على بيوتنا، وأوطاننا وممالكنا، وهذا هو (الفلاح) الذي يدعونا إليه
المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله الكريم.
وبهذا تكون صلاتنا صلاة إسلامية تصقل نفوس المسلمين والمسلمات،
وتصفيها، وترتفع بها عن السفاسف، وتجعل هذه الشعيرة من شعائر الله - سبحانه -.
[إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ] [العنكبوت: 45] .
__________
(*) نموذج تطبيقي اخترناه لمقالة جيدة.(20/49)
قصة قصيرة
الأسرة المسلمة
أم أسامة خولة درويش
لا عجب أن تستأثر (نبيلة) بقلبي، فهي صديقة الطفولة والصِّبا، شاركتني
لهو الطفولة البريء يوم كنا نلعب ونمرح، وزاملتني في الصبا بدماثتها وحبها
للخير الذي ملأ فؤادها ومشاعرها فحظيت لديَّ بمكانة اختصت بها عمن سواها.
لقد حباها الله فضائل كثيرة فصانتها، لم تبطرها النعمة التي تقلبت بها، ولم
يطغها الغنى الذي ترعرت فيه، ولم يفسدها الجمال الباهر الذي يزري بالجميلات
من بنات جنسها، هذا فضلاً عما تمتاز به من أدب جم، وعقل راجح، ونظر سديد
رغم صغر سنها، فما إن نضج جسمها ونما عودها حتى تحلت بالحجاب الذي
فرضه الله على المؤمنات، فغدت بحق جوهرة مصونة ندر مثيلها.
ويحرص (عصام) أن يتزوج من (نبيلة) وهو جدير بذلك، إنه من خيرة
أقاربها ديناً وخلقاً، علماً وأدباً، مالاً وجاهاً.
وتمضي السنة الأولى من الزواج هانئة مطمئنة والحب الوارف يخيم على
الزوجين السعيدين، ولِمَ لا؟ ! والشرع رائدهما، يلتزمان به فيؤدي كلٌّ حق رفيقه
بصدر رحب، وحب ودود، لتظلل أسرتها سعادة نادرة، وسكن حانٍ هانئ بعيد
عن المشاكل والمنغصات.
تجد نبيلة في قيامها بواجباتها لزوجها وأهله عبادة تؤجر عليها، فلا تسأم ولا
تضجر، ولا تمن عليه ولا تبخل بجهودها المخلصة وعواطفها الفياضة، ويجد
عصام أن إعطاء كل ذي حق حقه إنما هو واجبه كمسلم يسعى للقربى من الله -
تعالى - فيحفظ في (نبيلة) وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (استوصوا
بالنساء خيراً) ، فإن أخطأت أو ظهرت منها هفوة قال لها في مزاح ومداعبة ما
أشبهها بالجد: (سنرفق بالقوارير ولن أدع قارورتي تُكسر أو تُخدش) ، فتضحك
ويضحك، ويعالجان الأمور بالحكمة، فتنقشع الغيمة، وما كادت تمر السنة الأولى
من الزواج حتى بدأت التساؤلات، وهمسات نساء الحي: لِمَ لمْ تحمل نبيلة؟ !
وتقترب أم عصام من نبيلة لتحدثها بحنانها المعهود حديثها الهامس يمازجه
حرصها وشغفها لمعرفة سبب عدم الحمل: (يا بُنيتي! إنك في عمر الزهور، ...
وهذه هي السن المثلى للحمل، فلِم تؤجلين الحمل، وأنت تعلمين ثواب تربية الولد
الصالح، ولست بحاجة إلى مَن يذكّرك؟ !) .
وكانت لحظة عصيبة ومؤلمة وصدمة غير يسيرة لأم عصام عندما قالت لها
نبيلة: (إنني لا أستعمل أي عقار لتأجيل الحمل) ... بُهتت أم عصام ولم تتمالك
نفسها أن ترقرقت في عينيها دمعة حائرة حزينة على سعادة لم تكتمل. وتمر الأيام
ويزداد حديث الناس، ويزداد تحرق أم عصام وتعلقها بولد يكون وارثاً لابنها،
وذكراً له وللعائلة جميعاً، إنها وإن كانت تحب نبيلة - ولكنها تعود وتردد المثل
العامي: (ضلع أدنى من ضلع) .
وتتشجع هذه المرة للحديث مع ابنها في هذا الموضوع، بدلاً من جرح مشاعر
نبيلة، وخشية إيذاء أحاسيسها في أمر لا يد لها فيه، وبنفس مفعمة بالمشاعر
الكثيرة وفى مقدمتها الأحلام والأماني بولد يدرج في بيت ابنها قررت عرض
الموضوع على عصام، ويأتي الرد مماثلاً لما ذكرته نبيلة منذ سنتين: (إنه لا يوجد
أي عائق جسمي عندنا، وإننا ننتظر الفرج) .
وودت لو أشارت عليه بالزواج، وحارت كيف السبيل إلى إقناعه، فهي
تعلم مكانة نبيلة في قلبه، بل وفي قلوب العائلة جميعاً، قالت له وهي تغالب نفسها، وبصوت ممزوج بالأسى والمرارة -: إن الله - تعالى - يقول: [المَالُ والْبَنُونَ
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا] ثم صمتت، ثم نظرت إليه وكأنها تريد أن تقرأ ما في ذهنه من
خواطر وما في قلبه من مشاعر، ولم يطل الصمت، فسرعان ما قطعه عصام وهو
يتمم الآية: [وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وخَيْرٌ أَمَلاً] .
اكتفت الأم بهذا الرد، ولم تحتمل الجلوس فخرجت بعزيمة مزعزعة، وقد
أظلتها سحابة من الحزن، وكأنما أُوصدت في وجهها أبواب السعادة كلها.
أما عصام فلم يستغرب طلب والدته، لقد سمعه مراراً من زوجته، نعم،
زوجته نبيلة المؤمنة ذات الرأي الصائب، كانت تعرض عليه الزواج ويُسكتها قائلاً: (إنه يرضى بقدر الله وينتظر الفرج) وها هي ست سنوات مرت على زوجين،
ترفرف عليهما السعادة والهناء.
وجاء قدر الله؛ فاليوم موعد زفاف (سامية) لعصام، إنه يوم عصيب في
حياة نبيلة لا لأن زوجها سيتزوج من امرأة غيرها، فكل امرأة تود لو أن زوجها لها
وحدها، هاهم أهلها جميعاً - والدها ووالدتها وإخوانها ... - قد جاءوا مبكرين، إذ
ما علموا بموعد الزواج إلا الليلة الماضية فقط، وما كاد ظلامها ينقشع ويلوح ضياء
الصباح حتى كانوا جميعاً عند بيت عصام، إنهم يريدون ابنتهم، نعم يريدون نبيلة ... فلا مكان لها في البيت بعد اليوم ... هذا رأيهم جميعاً. ولكن عصاماً قابلهم
بصدر رحب وابتسامة رقيقة، ودعاهم بلباقته المعهودة للدخول إلى المنزل قائلاً: (لن تروا في إلا ما يرضيكم أنتم ونبيلة فأنتم أهلي) .
وقبل أن يتمها انبرى أخوها أحمد للكلام: إننا لسنا أ.. فأسكته والده.
ولكن من يسكت الوالدة؟ إنها تتحدث وتقول لابنتها: تعالي معنا معززة
مكرمة، أن بنت الفقر التي تخاف على نفسها من الجوع هي التي ترضى بالمذلة،
ولو كان يحبك لما أراد أن يتزوج عليك، ولم يتم لنبيلة أن تسمع كل ما قالتها
والدتها، الكل يتحدى ويهدد بالخلاص والطلاق ... وأصمتهم جميعاً قول نبيلة: (وهل التعدد حرام؟ ! ، أليس ديننا يبيح التعدد؟ ، أنا مسلمة وراضية) .
وجم الجميع، لقد عقدت المفاجأة ألسنتهم، ولم يملكوا إلا أن يحملق بعضهم
في وجه الآخر ... ثم انتهت الأزمة، ومرت العاصفة، وعاد الأهل وقد أُسقط في
أيديهم؛ إذ رفضت ابنتهم ترك بيت الزوجية، ولسان حالهم يقول: (أنت
الخسرانة) ! .
وتم الزواج الثاني، ومرت ثلاث سنوات لم أَرَ نبيلة خلالها، وبقدر ما كنت
تواقة لمشاهدتها وقد عدت من سفري - بقدر ما كنت أتهيب من زيارتها خشية أن
تثير آلاماً وأحزاناً كامنة.
وكانت الغلبة للشوق نحو صديقة الطفولة والصبا؛ لأرى بعيني أغرب حياة
يمكن تصوُّرها في عصرنا، إنها تعيد لأذهاننا صورة حياة سلفنا الصالح يوم كانت
الهيمنة لشرع الله، وهدْي رسوله، فيشيع في بيوتنا الرضى والوداد، فهذه نبيلة
هي هي، لم تفارق البسمة العذبة شفتيها، ولا الكلمة الطيبة لسانها، ويلوح
في عينيها رضى من نوع عجيب يحكي سعادتها الغامرة.
و (سامية) - التي عرفتها لأول مرة - لا تقل عنها رقة ودماثة ولطفاً،
وحتى في الجمال فهي أيضاً جميلة جذابة، قد جللها نور المحبة والتسامح فزادها
قرباً من القلب، وبعد جلسة قصيرة تُعرّف نبيلة بجارتها (ضرتها) ثم تقول بزهو
واعتزاز - وهى تربت على كتف سامية -: (ما رأيك، ألست ممن يحسن
الاختيار؟ ، باختياري لسامية! لقد بحثت لعصام كثيراً فما وجدت خيراً منها ديناً
وخلقاً، والحمد لله لم يخب أملنا) .
وإني إذ سمعت هذا الكلام لم أملك إلا الابتسام وغرقت في صمت مفعم
بالإعجاب والإكبار.
وأثناء حديثها تناهى إلى سمعنا صوت بكاء طفل من غرفة مجاورة، وبلهفة
ذهبت إليه سامية لتعود حاملة طفلاً لا يتجاوز عمره بضعة أشهر، وتقول: إنه (نبيل) أخو (سامي) !
ومما قلل من حيرتي أن نبيلة ألقمت ثديها لنبيل؛ فعلمت أنه ابنها، لكن مَن
سامي هذا؟ !
إنه الطفل المرح ذو النفس المشرقة، يجر وراءه سيارة لعب صغيرة ليصل
إلى حضن نبيلة فتجلسه مع طفلها، فلم أتمالك أن قلت: الحمد لله، ما عنده من
خير لا ينفد، بارك الله لك في أولادك وأسرتك يا أخت نبيلة.
وخرجت سامية لتعد الضيافة، وهذا ما علمته من نبيلة؛ إذ قالت: نحن هكذا، كل واحدة منا تقوم بالواجب لضيوف جارتها، حتى تتيح لها فرصة الاستمتاع مع
صديقاتها. ثم اعتدلت في جلستها وكأنها تذكرت شيئاً مهماً فاتها وقالت: حقاً هذه
أول مرة ترين فيها بيتناً بعد زواج سامية، تعالى لأريك ترتيبنا الجديد للبيت.
ومشيت معها، وكنت أود لو تعفيني من هذه المهمة، لكني لم أشأ أن أرد
طلبها، سرت معها وأنا أغبطها على صبرها وأسائل نفسي: أهي راضية حقاً، أم
تمثل دور الرضا؟ !
ولم ألحظ شيئاً غير عادي في ترتيب البيت، إلى أن قالت: (هذه غرفتي،
وهذه غرفة سامية) .
وشعرت بفضول غريب يدفعني دفعاً لأعرف رأيها بصراحة ووضوح، ولم
أكتفِ بما تبديه من الرضا والابتسام، وتمنيت أن أسألها لولا أن بادرتني سائلة: ما
رأيك في ترتيب بيتنا؟ .
قلت لها: ممتاز، ذوق سليم، وإبداع مريح لكم جميعاً، فلا بكاء طفل يؤرق
الأب المتعب، ولا ضجيج يزعج الزوجين، وهنا تشجعت وسألتها مداعبة: وأنت
ما رأيك في السكن في هذا البيت؟ !
ففهمتها على التو، وقالت ضاحكة: حتى أنتِ؟ ، إنه جنتنا وبهجتنا في دنيانا
هذه، ومنه إلى جنة الخلد - إن شاء الله - وتابعت كلامها: إن سامي ونبيل إخوة
فيجب أن ينشأوا في جو المحبة الحقيقية، وإلا كانوا - والعياذ بالله - أعداءً ألداء،
يملأون البيت غماً ومشاكل.
وتأتي سامية بالضيافة وهى تردد كلمات الترحاب ووجهها يتألق سروراً
وسعادة وهى تقول: كم يستغرب الناس زواجي من عصام، حتى أهلي لم يحتملوا
أبداً سماع الموضوع، لا لعدم كفاءته، بل إنهم ينكرون أن أبدأ حياتي بأن أكون
زوجة ثانية، فقلت لهم: وهل أنا أفضل من أمهات المؤمنين؟ ! ، أليست الزوجة
الثانية زوجة معززة مكرمة؟ ! .
وتشارك نبيلة في الحديث: غريب أمر الناس، كيف يستقبلون التعدد
كاستقبال المحرمات، بل أسوأ؟ ! ، فقد يتساهل البعض في العلاقات المحرمة،
ويطلقون ألسنتهم في الحديث عن تعدد الزوجات، إنها غيبة العمل الحق بتعاليم
الشرع.
ولم أتمالك نفسي أن قلت:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وزادكما الله من فضله رضى وسعادة.(20/55)
الفرقان.. يسكب الطُّمأنينة
د. مصطفى السيد
يحلو الإبحار ضد التيار
ضد الذين يرون الوقت عبثاً
والفكر اجترار
وانتظار ليوم بِكر لا يجئ
ينفقون الأعمار
وليوم ثامن لا يؤوب
حتى يملهم الانتظار
(2)
تجتاحني سيرة سفيان الثوري
كإعصار فيه نار
تقتلع الزبد جفاء
وتمسك ما ينفع الناس
فيمكث
عطاء مدرارْ
ويدهشني الإمام أحمد
بزهده وهدوئه
فيحرك بغداد
من دهليزه وتتلاشى
هيمنة السلطة
أمام
طرقات الفكر الجبار
لقد ملأوا المكان
ونحن كحلقة ملقاة
بأرض فلاة
وهكذا فالمسألة
ليست
مسألة نص غائب
بل معضلة شخصية
متداعية
تختزن في أعماقها الماء
والناس
يتساقطون حولها
ظماء
(3)
غاب الإنسان فصارت
الأرض يباباً عند (اليوت)
وغار الإيمان فصار الزمان
مفقوداً عند (بروست)
هذا ما تقوله:
قوافل المهاجرين
إلى فكر الغرب
والمهجرين إلى كفر
الشرق
إنهم يعودون
ولكن
يلِجون
من باب التصوف
(ويسربون) ولكن
من رتاج [1] القلب
بعد أن طحنتهم
هيمنة العقل
***
تصنم العقل وتوثّن
وصدأ الروح وتعفن
(الفرقان) وحده هو الذي
(يسكب) الطمأنينة في
الآبار المعطلة
والأرواح المهجرة
(4)
آه لهذا الإنسان
فلطالما
لمعت بروق المعرفة
بأني [قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ]
ولكن طول العهد
بالعبودية
أبى عليه مفارقة
الواسطة البشرية
__________
(1) رتاج: باب.(20/61)
وسائل الغزو الفكري في دراسة التاريخ
محمد بن صامل السلمي
مقدمة:
قال في لسان العرب: (مادة غزا) : غزا الشيء غزواً، أراده وطلبه،
والغِزوة - بالكسر - ما غُزي وطلب، ومغزى الكلام مقصده، وعرفت ما يُغزى
من هذا الكلام: أي ما يراد منه، والغزو: القصد.
وبهذا تنحصر معاني هذه المادة: في الطلب والقصد والإرادة ومعرفة ما يراد، والغزو الفكري - بهذا التركيب الإضافي -: مصطلح معاصر يعني البحث عن
كيفية تأثر المسلمين بأفكار وخطط أعدائهم التي تضاد الشريعة الإسلامية، وتسعى
للقضاء عليها، ولتحلل المسلمين منها ذاتياً دون استخدام القوة المباشرة.
يقول الدكتور عبد الستار السعيد: (الغزو الفكري تعبير دقيق بارع يصور
خطورة الآثار الفكرية التي يستهين بها كثير من الناس لأنها تمضي بينهم في صمت
ونعومة مع أنها حرب ضروس.. لا تضع أوزارها حتى تترك ضحاياها بين أسير
أو قتيل أو مسيخ كحرب السلاح أو هي أشد فتكاً) [1] . وذلك أن الغزو العسكري
واحتلال الأرض يثير في الطرف المقابل الحمية والنخوة وروح المقاومة ورد
العدوان، في حين أن الغزو عن طريق الفكر لا يثير شيئاً من هذا عند كثير من
الناس؛ لأنه يتودد إلى النفس، ويدخل إليها من عدة مداخل تناسبها: مداخل
الشبهات من دعاوى التقدم والتطور ومسايرة ركب الحضارة والمدنية ... الخ. أو
مداخل الشهوات من حب الأموال والسلطة والجاه وحب الظهور، وتحقيق الرغبات
الهابطة من الجنس والشراب وغيرها من ألوان الفساد والانحراف الخلقي والسلوكي
وبذلك يسهل قياده، ويضمن تحوله واستمراره ذاتياً، من داخل نفسه، بل قد يصبح
داعية لمبادئ العدو وأفكاره، وهذه فتنة من أعظم الفتن، وقد قال - سبحانه وتعالى-: ... [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] .
إن الصراع بين المسلمين والكفار دائم ومستمر، وقد جرب عدونا سلاح القوة
مراراً، فما أجدى له نفعاً، مما جعل قادتهم يفكرون في وسيلة أخرى وميدان آخر
للصراع، ولقد أدركوا أن السر في صلابة المسلمين وتفوقهم هو في إسلامهم؛ ولذا
حولوا ميدان الصراع من حرب المسلمين ذاتهم إلى حرب العقيدة الإسلامية، وبهذا
تغيرت ملامح المعركة، فلم يعد ميدانها الرئيسي الأرض ولكنه الأدمغة والعقول،
ولم تعد وسيلتها السيف بل الفكر، ولم تعد جيوشها الأساطيل والفرق العسكرية
ولكنها المؤسسات والمناهج بالدرجة الأولى [2] .
والذي يعنينا في هذا المقال هو البحث عن كيفية وقوع الغزو الفكري في علم
التاريخ الإسلامي، وكيف تأثرت دراسة تاريخنا بمناهج وخطط وأفكار أعدائنا؟ .
وسائل الغزو الفكري في تشويه التاريخ:
لقد تعرض التاريخ الإسلامي لأكبر قدر من الغزو الفكري، وركز الأعداء
على تشويه تاريخ الأمة الإسلامية، ذلك أن التاريخ - بالنسبة لأية أمة - هو مجال
اعتزازها وموطن القدوة فيها. فإذا كان تاريخ الأمة حافلاً بالأمجاد - كما هو واقع
تاريخ المسلمين - فإنه بلا شك سيكون باعثاً لهم على النهوض والتمسك بالمبادئ
والآداب والقيم التي جعلت الأجداد يحرزون هذا المجد والفخار، ويصلون إلى هذا
المستوى الراقي في بناء الأمة والحضارة، ويبحثون عن السر الذي رفعهم إلى هذا
المستوى، وأنه إيمانهم بالله وتمسكهم بدينهم وجهادهم في سبيل الله ومن ثم يسعون
جاهدين لانتشال أنفسهم من الوضع المتردي الذي وصلوا إليه، وأمامهم الصورة
الجلية. والقدوة الممتازة في شخص رسولنا -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرج الله
به الأمة من الظلمات إلى النور، ومن الشرك والأهواء وتحكم الطواغيت إلى
التوحيد والعدل والأمن والطمأنينة، ومن الفقر وضيق الحال والشتات إلى الغنى
وسعة الدنيا والآخرة والاعتصام بحبل الله. وكذا أصحابه - رضي الله عنهم -
الذين حملوا الراية وآزروه ونصروه، وأيضاً بقية الأجيال من السلف الصالح من
العلماء والزعماء والقادة والمصلحين والدعاة إلى الحق.
والنماذج الممتازة في التاريخ الصالحة للقدوة ليسوا أفراداً يمكن حصرهم،
ولكنهم أجيال وأجيال، في مجالات الحياة كافة، العسكرية والسياسية والتربوية
والعلمية والاقتصادية والاجتماعية وهذا لا يوجد في تاريخ أية أمة أخرى لما لهذه
الأمة من خاصية الاستمساك بالمنهج الرباني.
والتاريخ الإسلامي هو الذي يسجل هذه الصور السامقة ويوضح دور الأمة
وأثرها وفضلها على البشرية، ولذلك لا نستغرب إذا ركز الأعداء في غزوهم
الفكري على التاريخ الإسلامي حتى ناله كثير من التشويه والتحريف والتجهيل
والتزييف والتفسير الخاطئ لأحداثه ومزاحمته بتواريخ الأمم الجاهلية حتى يبدو
حلقة صغيرة أو كماً مهملاً في تاريخ البشرية.
ولقد قام على تشويه التاريخ الإسلامي في العصر الحديث جيش بل جيوش
من الاستشراق والتنصير ودوائر البحث ومكاتب المخابرات في الدول الغربية،
واستطاعوا أن يجندوا مجموعة من ضعاف النفوس والمغرورين والجهلة وضحايا
الغزو الفكري في العالم الإسلامي لمساعدتهم ونشر أفكارهم بين المسلمين.
ونذكر فيما يلي بعض الوسائل التي استخدموها:
1- اختلاق الأخبار وإبراز المثالب:
وهذه أولى الوسائل التي استخدمها المستشرقون والمنصرون لتشويه صورة
الحياة الإسلامية، وعقيدة المسلمين وسيرة رسولهم، -صلى الله عليه وسلم- حتى
ينفّروا أبناء جلدتهم من (الدين الإسلامي، ويصورون المسلمين بأنهم وحوش وسفاكو دماء وأنهم يعيشون حياة تخلف وهمجية، ويضعون قصصاً وحكايات تؤيد ما يقولون، كما أنهم يسعون إلى تسقط الأخطاء وجمع المثالب وإبرازها على أنها الصورة المعبرة عن تاريخ المسلمين، وهذه الوسيلة كانت غالبة على الكتابات الأولى للمستشرقين الذين كتبوا عن الدين الإسلامي وعلومه وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتاريخ المسلمين، سواء كانت مؤلفات أو مقالات في المجلات التي أنشأها المستشرقون في مختلفي الدول الأوربية (هولندا - روسيا - ألمانيا - بريطانيا - فرنسا - أمريكا - إيطاليا) أو في دوائر المعارف العامة.
وقد قل استخدام هذه الوسيلة في الكتابات المؤخرة لا إنصافاً للحقيقة وإنما
تغييراً في الخطة لأن الوسيلة الأولى لم تعد صالحة ولا مقبولة حتى في المجتمعات
الغربية.
ومَن اطلع على كتب القوم وما تكتبه المجلات الصادرة عنهم ودوائر المعارف
يجد ذلك واضحاً، وهذا مثل واحد من أخف الأمثلة (كارل بروكلمان) - المستشرق
الألماني الذي يعتبر حجة عندهم بل عند بعض الباحثين المسلمين، ويعتبرونه من
المعتدلين وقد يبالغ البعض فيعتبره من المنصفين في كتابه) تاريخ الشعوب
الإسلامية (- ولكن إذا قرأت في هذا الكتاب رأيت العجب العجاب ورأيت ... التشويه , بل رأيت الجهل الثقيل ورأيت الكذب الصريح. يقول في (ص31) : (الكعبة بناء ذو أربع زوايا يحتضن في إحداها الحجر الأسود ولعله أقدم وثن [3] عُبد في تلك الديار، وكانت الكعبة تضم تمثال الإله القمري هُبَل، بالإضافة إلى الآلهة الثلاثة المعبودة (اللات والعُزى ومناة)) .
وقوله هذا إما جهل حقيقي وإما كذب وتزوير ولا أظنه يجهل موقع العزى
واللات ومناة وهو يبحث في كتب الجغرافيا والبلدانيات الإسلامية التي تحدد مواقع
تلك الأصنام.
وفي (ص85) وهو يتحدث عن مسيلمة وسجاح يقول -: (ففيما كان محمد
لايزال على قيد الحياة ظهر في تلك البلاد رجل اسمه (مسلمة) وقد دعاه المسلمون
مسيلمة من باب التصغير الذي يقصد به التحقير، وادعى النبوة) .
وهذه فرية ما سبقه إليها أحد ولا ضير أن ينتصر للكذاب المتنبئ؛ لأن الكفر
ملة واحدة، ومعلوم عناية العرب بعلم الأنساب وبالأسماء وكل ما لدينا من كتب
النسب والتراجم لا تذكره إلا باسم مسيلمة فمن أين جاء هذا الأفاك بهذا الاسم؛ وقد
جاء خبره واسمه في صحيح البخاري [4] من قول - الذي لا ينطق عن الهوى -
صلى الله عليه وسلم- - فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-:
(بينما أنا نائم رأيت في يديَّ سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي ... إليَّ في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأوَّلتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة) .
كما أن مسيلمة قد كتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً يقول فيه: من
مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله [5] فهو أعلم باسمه من هذا المستشرق، ثم
إن الاسم - سواء كان مكبراً أو مصغراً - لا يحكي الحقيقة ولا يحكم على الشخص
من خلاله، وإنما الحقائق والأحكام من المواقف والإيمان أو الكفر.
والحقيقة أن ما كتبه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتشريعات الإسلام
وتاريخ الخلفاء الراشدين يمثل قمة السوء والحقد، فقد رمى النبي -صلى الله عليه
وسلم- بكل نقيصة، وقال عن الوحي إنه حالة من الصرع والهلوسة، وقال عن
وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه بسبب الحياة الزوجية الواسعة.
وكل الشعائر الإسلامية مقتبسة - في نظره - من اليهود أو النصارى أو
الهنود أو الفرس، ويدافع عن اليهود وينتصر لهم ويرى أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- ظلمهم، بل ينكر أصل النبوة فيقول: (نضجت في نفسه الفكرة أنه مدعو
إلى أداء هذه الرسالة) ! [6] . ويقول في نفس الصفحة: (أعلن ما (ظن) أنه قد
سمعه كوحي من عند الله) ، ويقول عن عائشة - رضي الله عنها -: (أرملة النبي
الشابة المحبة للفتنة) [7] ، ويتبنى آراء الشيعة في القرآن وأنه محرف [8] ...
إلى غير ذلك من الترهات المبنية على الكذب والافتراء.
وإن من وسائلهم أن ينقل بعضهم عن بعض ويرددون الفكرة الواحدة في
مجموعة من الكتب والمقالات حتى إذا كثر القول بها ظُن أنها حقيقة لا تقبل النقاش.
* يتبع *
__________
(1) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، 6.
(2) سفر الحوالي: العلمانية، 535.
(3) كرر وصف الحجر الأسود بأنه طقس وثني في ص61، 76.
(4) كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، 8/89.
(5) انظر: البداية والنهاية، 5/51، وقال: رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه وهذا إسناد جيد حسن.
(6) تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان، 36.
(7) المصدر السابق، 111.
(8) المصدر السابق، 112.(20/64)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
هل يعود ظاهر شاه لحكم أفغانستان؟
عبد الرحمن نموس
وصلنا هذا التقرير من بشاور يلقي فيه كاتبه نظرة على وضع الجهاد الأفغاني
وبعض الأحداث التي تتفاعل على الساحة هناك ونحن إذ نشكر للأخ هذا الجهد
الطيب كان بودنا لو أنه توسع في بسط وجهة نظر قادة المجاهدين في هذه المشكلة.
- التحرير -
برزت للوجود من جديد احتمالات عودة ظاهر شاه وبقوة واضحة أكثر من أي
وقت مضى، فقبل ثلاثة أسابيع تكلم المهندس حكمت يار عن مؤامرة ثلاثية
الأطراف تهدف لعودة ظاهر شاه، والأطراف الثلاثة هم:
1 - ظاهر شاه نفسه.
2- بعض المنتسبين للجهاد (جماعة جيلاني) .
3- النظام الحاكم في كابل ممثلاً بمحافظ قندهار الجنرال (عبد الحق علومي) .
ولقد سألت المهندس حكمت يار عن تفاصيل الخطة فقال لي: تبدأ الخطة بأن
يهاجم هؤلاء المنتسبون للجهاد مطار قندهار ولا يبدي المطار إلا مقاومة ضعيفة
في هذه الأثناء أيدٍ خفية توزع الأموال من أجل تحريك الناس للقيام بمظاهرات
بحيث يسقط في أيديهم وهو صالح للاستعمال. ويستمر هؤلاء في التقدم نحو مدينة
قندهار بالاتفاق مع علومي الذي ما يلبث أن يعلن استسلامه لهؤلاء، وتكون هنالك
تطالب بعودة ظاهر شاه. وفعلاً تقوم المظاهرات وتبدأ المرحلة الثانية بالتمهيد
لاستقبال ظاهر شاه في مطار قندهار بشكل يشبه مجيء الخميني إلى إيران.
وعلى إثر ذلك توجه حكمتيار عن طريق مدينة (كويتا) الباكستانية إلى
قندهار ليدير العمليات الجهادية بنفسه ويبذل جهده في وأد المؤامرة الخبيثة، وبقي
هناك حوالي أسبوعين يحرض المجاهدين على الجهاد وينبههم على خطورة
المؤامرة المذكورة، كما وجه خطاباً إلى المدنيين يطلب منهم فيه إخلاء المدينة حتى
يتمكن المجاهدون من شن هجومهم الشامل دون المزيد من سفك الدماء.
ولكن بالرغم من كل ذلك ما تزال احتمالات عودة ظاهر شاه قائمة ولا تزال
كل الأطراف تتحرك مؤيدة لهذه العودة، وقد وصف حكمت يار الوضع أثناء عودته
من قندهار - بأنه خطر؛ حيث وقفت عدة قوى في وجه المجاهدين - سواء بشكل
مباشر أو غير مباشر - لتشكل عوامل مساعدة في عودة ظاهر شاه، وتبدو هذه
العوامل في شق منها داخلية، وخارجية في الشق الآخر.
أولاً: العوامل الداخلية:
1- إلى الآن لم يتفق قادة الائتلاف السباعي على مستقبل البلاد وعلى مَن
يحكم البلاد، فبينما أغلب القادة يرون أنهم خضَّبوا تراب أفغانستان بدماء أكثر من
مليون من أبناء شعبها لإعادة الحكم الإسلامي فيها (حكمت يار، سياف، خالص،
رباني) يرى قسم آخر أن هذا الهدف لا يتعارض مع عودة ظاهر شاه الرجل
المناسب الذي يمثل الاعتدال عندهم؛ فهو رجل مسلم أفغاني وله خبرة سياسية
طويلة في الحكم، وقد عاشت البلاد في ظل حكمه فترة آمنة ورغدة (محمد نبي
محمدي، مجددي) ويميل بعضهم إلى استشارة ظاهر شاه في كل حركة وسكنة،
وقد ساعد هؤلاء في إنشاء بيت في مدينة (كويتا) الباكستانية القريبة من جنوب
أفغانستان، ومنطقة قندهار سموه (بيت ظاهر شاه) ، وقد بدأ هذا البيت نشاطه
كمركز إعلامي للملك، فمنه توزَّع صور الملك بالزي العسكري وفيه تُصنع أعلام
أفغانستان التي كان معمولاً بها في العهد الملكي (جيلاني) .
وقد تحدث السائق عبد الحي التابع لجماعة جيلاني إلى مراسل A. M. R. C. عن هذا البيت قائلاً: (لقد قمنا بتوزيع منشورات من هنا تؤيد ظاهر شاه) ، ويضيف المراسل: لقد حصلت على واحد من هذه المنشورات كُتب بالفارسية
وفيه هجوم على قادة المقاومة، كما هاجمت منشورات أخرى من نفس المصدر
حكومة المجاهدين المؤقتة، إضافة إلى ذلك فقد نشط أتباع ظاهر شاه بإغراء بعض
المهاجرين بالعودة إلى مناطقهم الأصلية في قندهار، وقد رجع حوالي (1000)
عائلة - حسب نفس المصدر - إلى قندهار، وأكد هذا الخبر أيضاً مصدر مسؤول
في الاتحاد الإسلامي (مكتب كويتا) ، وذكر مصدر الاتحاد أن المجاهدين لا
يهاجمون مناطق الدولة التي يستقر هؤلاء العائدون بالقرب منها، وذكر تقرير
إعلامي - يصدر عن هيئات دبلوماسية غربية في إسلام آباد - أن ما بين مائة إلى
مائتي عائلة أفغانية تقفل عائدة من مخيمات الهجرة في بلوشستان إلى كل من قندهار
وهلمند ونيمروز في الجنوب الأفغاني.
2- بعض قادة المجاهدين فوجئوا بنتائج الانتخابات التي حصلت ضمن
مجلس الشورى بمدينة الحجاج في إسلام آباد من أجل اختيار حكومة المجاهدين
المؤقتة؛ إذ جاءت الأحزاب الأكبر حجماً والأكثر قوة في مراتب متأخرة بالترتيب
بنتيجة هذه الانتخابات؛ الأمر الذي جعل هذه الأحزاب تعدل رأيها حول موضوع
إجراء الانتخابات العامة وتنتقل من موقف المعارض لها إلى موقف المطالب بها
وبإلحاح، وبدأت مثل هذه الأحزاب بالسعي مسبقاً لكسب تأييد شعبي وسياسي
يضمن لها النجاح مستقبلاً؛ مما اضطرها إلى إعطاء وعود جعلت جهات أخرى
تطمع في المزيد من الامتيازات أو المكاسب من الحكومة.
3- لقد اعتمد التحالف الثماني الشيعي المقيم في إيران على المكاسب المادية
فقط في تقديره للمواقف وتقييمه للمستقبل السياسي للبلاد، فقد رفض هذا الائتلاف
مشاركة حكومة المجاهدين المؤقتة في أي وزارة كما رفض الاشتراك في مجلس
الشورى الذي اختار هذه الحكومة. وعلق أي تقارب بينه وبين ائتلاف الأحزاب
السبعة والحكومة المؤقتة على تطبيق ما وعد به مجددي بصفة شخصية لهذا
الائتلاف أثناء زيارته لطهران في أواخر يناير وأوائل فبراير عام 1989م. وكان
وعد مجددي بإعطاء الائتلاف 100 مقعد في مجلس الشورى، وسبع وزارات -
وهي نسبة تساوي حوالي 20% من كامل نصاب مجلس الشورى، و25% من
كامل نصاب الحكومة. علماً أن نسبة الشيعة إلى مجموع سكان أفغانستان لا تتعدى
8% ورغم تعدد المحاولات وتكرار جنسيات المفاوضات بين ممثلين عن الائتلافين
إلى أن أي تقدم لم يحصل حيث لم يرضَ الائتلاف الثماني بكل المقترحات التي
عرضت عليه. وأصر على حقه بمائة مقعد وسبع وزارات، ثلاث منها وزارات
مهمة، في هذه الأثناء كانت هنالك محادثات سرية تدور بين ممثلين عن التحالف
الثماني وبين سلطات نظام كابل وقد وردت تقارير تفيد أن نجيب الله رئيس نظام
كابل وعد الشيعة بإعطائهم الحكم الذاتي (في مناطقهم وأهمها منطقة (هزاراجات)
كما وعد بتعيين كريم خليلي الناطق الرسمي باسم الائتلاف الشيعي في حينه رئيسا
للوزراء، وعندما سئل حكمتيار عن المفاوضات بين الشيعة والنظام أجاب:
وصلتنا تقارير بهذا الخصوص ولكننا نفضل الانتظار.
كما أن عبد الحق (أحد القادة العسكريين التابع لحزب يونس خالص في منطقة
كابل) أصدر بيانا أكد فيه حصول مثل هذه المفاوضات بين نظام كابل وممثلين عن
الشيعة برئاسة كريم خليلي.
ولما لم يحقق هذا التحالف ما يصبو إليه من مكاسب رفض الاعتراف بحكومة
المجاهدين واعتبرها لا تمثل المجاهدين كافة وبالتالي لا يمكن اعتبارها حكومة
شرعية من وجهة نظره.
4- بعض القادة في الداخل لهم تحفظات حول هذه الحكومة، فقد أعلن أحمد
شاه مسعود (قائد قوات الجمعية الإسلامية التابعة للأستاذ رباني في بانشير والشمال)
للتلفزيون البريطاني - أن الأسس التي قامت عليها هذه الحكومة لا تمثل العدل؛ إذ
كيف تتساوى الأحزاب الصغيرة والأحزاب الكبيرة بنفس عدد الأصوات، حيث تم
تعيين ستين عضواً عن كل حزب من الأحزاب السبعة، ويعلق أحمد شاه مسعود:
ولكن رغم ذلك سنطيع هذه الحكومة ونساعدها ريثما تنتهي مدتها وتبدأ الانتخابات
العامة لاختيار حكومة أفغانستان.
كما سمعت من بعض المصادر المسئولة هنا أن بعض القادة الصغار في
الجبهات بدأوا يفكرون بترك أحزابهم والانضمام للأحزاب المؤيدة لعودة ظاهر شاه،
وفي الغالب أن اثنين من هؤلاء نفذوا ما فكروا به.
ثانياً: العوامل الخارجية:
بالإضافة إلى العوامل الداخلية التي ذكرت هنالك عوامل خارجية تساعد على
عودة ظاهر شاه، ومنها:
1- ظاهر شاه نفسه:
حيث يرى هو ومَن معه أن حكومة المجاهدين الحالية لا تمثل قطاعات الشعب
كافة، ولم يتم تأسيسها على قاعدة واسعة، ويدعو إلى ضرورة عقد (لوياجركا) في
البلاد لاختيار حكومة المستقبل وتقرير مصير البلاد، وهو موقف مضاد لموقف قادة
المجاهدين الذين يرون أن اللوياجركا - المجلس القومي الكبير - تقليد بالٍ مضى
وقته وانتهى عهده أمام النهضة الثقافية الإسلامية والحضارية.
كما دعا أحد كبار مؤيدي ظاهر شاه - وهو المدعو دكتور يوسف (رئيس
الوزراء في عهد ظاهر شاه) في موضوع كتبه لإذاعة لندن باللغة الفارسية ضمن
برنامج متسلسل تعده الإذاعة عن مستقبل أفغانستان - إلى عقد هذه اللوياجركا كحل
أمثل للقضية الأفغانية، ولوضع حد لما وصفه بالاقتتال بين الأهل بعد انسحاب
القوات الروسية.
ورغم عدم أهمية موقف ظاهر شاه ومَن معه إذ لم يشاركوا في يوم من الأيام
في هذا الجهاد حتى يكون لهم القسط الأوفى من قطف ثماره - إلا أن الجهات
الدولية تعول على هذا الموقف وترى ضرورة اعترافه بالحكومة حتى تكون محل
اعترافهم هم.
فقد أوضحت باكستان ضرورة إشراك الائتلاف الثماني الشيعي وظاهر شاه
في حكومة المجاهدين حتى تكون محل اعترافها. وهذا الموقف ينسحب على دول
أخرى في المنطقة.
2- موقف حكومة نجيب:
ترى إدارة النظام الحاكم في كابل أنها آيلة إلى السقوط لا محالة بغض النظر
عن طبيعة وماهية النظام المستقبلي القادم؛ لذا فهي تسعى إلى أن يكون لها نصيب
في هذه الحكومة المستقبلية، وبما أن المجاهدين قد أعلنوا رفضهم وبشكل قاطع
لمشاركة الشيوعيين في الحكم - فكان لابد لهؤلاء أن يسعوا لتسليم السلطة إلى أي
قادم يضمن لهم المشاركة، وهذا الأمر متحقق بقدوم ظاهر شاه الذي لا يرى مانعاً
من تشكيل حكومة واسعة تشارك فيها كل الأنشطة السياسية في البلاد؛ لذا أعلن
نجيب الله - في افتتاحه جلسة اللوياجركا، التي انعقدت خلال يومي 20، 21/5/
1989م - أن حكومته تبذل ما تستطيع من جهد لعودة ظاهر شاه إلى أفغانستان
ووصفه بأنه رجل المرحلة، وأشار نجيب أيضاً إلى أنه لابد لحزب الشعب
الديمقراطي من أن يشارك في أي حكم مستقبلي.
وكرر هذه الإشارة في معرض رده على بيان بوش وبوتو بعد زيارة الأخيرة
لأمريكا والذي طالبا فيه بتنحي حكومة نجيب عن الحكم.
وتأكيداً لمساعي نظام كابل في العمل على عودة ظاهر شاه تم تكليف الجنرال
(عبد الحق علومي) محافظ قندهار بلعب دور مهم في هذه المسألة، وبدأ الأخير فعلاً
تحركه في هذا المجال، فقد كان دوره في المؤامرة المذكورة - كما ذكرنا -أن
ينضم بسرعة للقوات المنتسبة إلى المجاهدين ويدفع زبانيته لتحريك الناس بالتظاهر
مطالبة بعودة ظاهر شاه، كما بدأ علومي يوظف مخابراته بدفع الأموال للمهاجرين
واستقدامهم إلى قندهار والمحافظات الجنوبية القريبة منها ليكونوا درعاً من أي
هجمات متوقعة لإفشال المؤامرة، وأداة في التظاهر لعودة الملك المخلوع، وعمل
نوعاً من المصالحة عندما سمح لبعض أدعياء الجهاد بالنزول إلى المدينة وزيارة من
يشاءون والتحرك بمنتهى الحرية شريطة عدم حمل السلاح، ومازال علومي
وأتباعه يدرسون هذه المؤامرة خصوصاً في مجال استقدام أكبر عدد من المهاجرين
إلى داخل أفغانستان.
3- موقف باكستان:
بدأت باكستان تميل - منذ بداية عهدها الجديد (ما بعد ضياء الحق) - نحو
حل سياسي يرضي أكثر من طرف، وقد تجلى هذا في العديد من النقاط البارزة في
السياسة الباكستانية تجاه القضية الأفغانية.
وأولى هذه النقاط تخفيف الدعم عن المجاهدين بنسبة كبيرة، وقد ذكر بعض
القادة أن الدعم الحالي يساوي خُمس الدعم الذي كان المجاهدون يتلقونه سابقاً،
وذكر قسم آخر له علاقات أقوى مع الباكستان أن الدعم انخفض إلى الثلث.
كما عمدت الحكومة الجديدة إلى إقالة حميد غول - رئيس المخابرات
الباكستانية - الذي يمثل التيار الأكثر تأييداً ودعماً للمجاهدين، ووافقت على وجود
نقاط مراقبة تابعة لهيئة الأمم المتحدة على حدودها مع أفغانستان بينما لم تطالب
بمثل هذه النقاط على الحدود الأفغانية الروسية!
وترى الإدارة الباكستانية نفس رؤية الغرب بأن حكومة المجاهدين الحالية لا
تمثل كل فئات الشعب، ولابد أن تكون الحكومة مبنية على قاعدة واسعة، وقد ذكر
غلام إسحق ضرورة إشراك الائتلاف الثماني الشيعي وضرورة إشراك المستقلين
في أوربا (ظاهر شاه) - حتى يمكن الاعتراف بهذه الحكومة.
كما توقف وزير الخارجية الباكستانية صاحب زاده يعقوب خان في روما -
أثناء رحلته إلى أمريكا - وقابل ظاهر شاه وناقش معه بعض المسائل المتعلقة
بالقضية الأفغانية، كما قابل قبيل سفره بعض الزعماء الأفغان المؤيدين لعودة ظاهر
شاه في مدينة (كويتا) الباكستانية.
وأخيراً صرحت بي نظير بوتو في أمريكا أنها تريد تسوية سياسية في
أفغانستان حتى يستطيع 3.6 مليون مهاجر أفغاني في باكستان أن يعودوا إلى بلادهم، ونقلت مجلة (نيوز ويك) - الصادرة بتاريخ 4/6 - عن بوتو قولها: أنها لا
ترغب في حكومة أفغانية يتحكم فيها الأصوليون، ودعت إلى مفاوضات لإيجاد
حكومة موسعة، ونقلت نفس المجلة عن صاحب زاده يعقوب خان - قوله: إن
الحل العسكري غير مرغوب فيه، وإن على الأمم المتحدة أن تساعد في إنجاز
انتقال سلمي للسلطة.
4- الموقف الأمريكي:
لم تكن سياسة أمريكا في يوم من الأيام لصالح قضية إسلامية - مهما صغرت
أو كبرت - حتى تقف لصالح الجهاد الأفغاني الذي يمكن أن يؤدي إلى قيام دولة
إسلامية - بإذن الله - لكن هذه السياسة هي اليوم أشد وضوحاً في الوقوف ضد
الخيار الإسلامي، فموظفو الإدارة الأمريكية يرون وجوب تعديل سياستهم تجاه
القضية الأفغانية وانتهاج خطة جديدة تتمحور حول كيفية إيصال نظام غربي
يسمونه (بالاعتدال) إلى السلطة وبطريق سياسي لا عسكري (نيوز ويك 4/6) .
كما أن الرئيس الأمريكي - الذي أعلن عن اتفاقه في وجهات النظر مع
السياسة الباكستانية تجاه حل سياسي للقضية الأفغانية - قال في مؤتمره الصحفي
الذي عقده مع بي نظير برتو: إن قضية أفغانستان لم تنتهِ بعد، ولقد تحدثنا أنا
ورئيسة الوزراء الباكستانية عن طرق وأساليب تشكيل برلمان أفغاني غير منحاز
لإحياء الأمن وتغيير الحكومة غير الشرعية في أفغانستان، كما أكد همايون خان
وكيل الخارجية الباكستانية وحدة المواقف الأمريكية الباكستانية عندما أجرى راديو
صوت أمريكا بالفارسية حواراً معه فقال: إن الولايات المتحدة والباكستان تحملان
نفس المواقف منذ البداية بخصوص مشكلة أفغانستان، وتتفقان على حل سياسي
لها ...
إضافة إلى ذلك فإن موقف الإعلام الأمريكي يعكس حقيقة الوضع في
واشنطن؛ فصحيفة (نيو يورك تايمز) - الصادرة بتاريخ 22/5/1989 ترى أن مواصلة الدعم للمجاهدين عبارة عن مجازفة كبيرة خصوصاً بعد الانسحاب السوفييتي، وترى الصحيفة أن الأحزاب الأقوى التي يقودها مَن وصفتهم بالأصوليين يملكون أهدافاً على النقيض تماماً من أهداف أمريكا، كما دعت (نيو زويك) إلى وقف الدعم عمن وصفتهم بالثوار؛ لأن الدعم الأمريكي حقق - حسب الصحيفة - الانتصار بجعْل - القوات الروسية تنسحب من أفغانستان، أما الآن فإن هذا الدعم لا مبرر له وقد ينقلب ضد مصلحة أمريكا!
5- موقف هيئة الأمم المتحدة:
بدأت هيئة الأمم المتحدة بزيادة نشاطها من جديد فيما يخص القضية الأفغانية، فبعد فشل كوردوفيز في حل القضية ووضوح عدائه للمجاهدين هدأت الأمور فترة
ثم عادت لتبدو بشكل اقتراحات عجيبة من قبل هيئة الأمم المتحدة.
فبعض أركان هذه الهيئة يدعو إلى عقد مؤتمر دولي لبحث مستقبل أفغانستان، ولقد كان الأَوْلى أن تتم الدعوة لمثل هذا المؤتمر أيام تواجد القوات الروسية في
أفغانستان لبحث مسألة احتلال هذه القوات لأرض الغير بشكل غير شرعي، أما
اليوم فالمسألة غدت مسألة داخلية بين حكومة غير شرعية جاءت على ظهر الدبابة
الروسية لتحكم البلد، وبين مجاهدين معهم الملايين من الشعب المهاجر من جراء
القمع الوحشي الذي يمارسه العملاء في داخل البلاد، وهؤلاء المجاهدون يطالبون
- وبحق - بتنحي الحكومة الشيوعية وقيام حكومة إسلامية تفي بمتطلبات شعب
مسلم هاجر من أجل دينه ومعتقده.
كما حاول ديكويلار ومن خلفه صدر الدين آغا خان مبعوث هيئة الأمم المتحدة
لشؤون المهاجرين سحب ورقة المهاجرين من أيدي المجاهدين باقتراح إنشاء أماكن
محايدة في أفغانستان يتم ترحيل المهاجرين إليها، وتشرف هيئة الأمم المتحدة على
أمورهم المعيشية فيها. وقد رفض المجاهدون هذا الاقتراح الذي أيدته باكستان لأنه
لا يمثل حلاً حقيقياً لمشكلة خمسة ملايين وثمانمائة ألف مهاجر يعيشون في باكستان
وإيران، ولأن المهاجرين لا يأمنون غدر الحكومة بقصف هؤلاء المهاجرين.
وأمام هذه العوامل فإنه من الواضح أن الأعداء يتكالبون على هذا الجهاد من
كل حدب وصوب يريدون له أن يكون قتالاً ضد روسيا، ويريدون له أن يكون
حرباً وطنية لطرد محتل ثم لطرد عملاء هذا المحتل، ويريدون له أن يكون كل
شيء إلا أن يكون جهاداً إسلامياً ضد إحدى أكبر قوى الطاغوت في الأرض وعمل
على رفع الراية الإسلامية وحرص عليها بكل إمكاناته.
إن استمرار الجهاد هو الذي يحبط هذه المؤامرات والهدف الأول والأخير هو
مرضاة الله - سبحانه - على كل الأحوال فإذا أخلصت النيات وصدقنا التوجه
وتسلحنا بمزيد من الصبر وتلاحم الصفوف فإن الله - سبحانه وتعالى -
[ولينصرن الله من ينصره] والحمد لله رب العالمين.(20/71)
مسلمو كوسوفو
في مواجهة الاضطهاد الصربي
حسن علي أحمد
يشكل الصرب أكبر مجموعة عرقية في يوغسلافيا والتي تتكون من أكثر من
عشر قوميات، عانت يوغسلافيا ولا تزال - بسبب الاختلاف بينها - كثيراً من
الويلات والقلاقل.
وأحداث مقاطعة كوسوفو خلال الشهور الماضية ليست إلا حلقة في تلك
السلسلة الطويلة من الصراعات التي نشأت بين الصرب القوميين والمسلمين منذ
قيام دولة يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الأولى، غير أنها تفاقمت واشتدت بعد وفاة
تيتو عام 1980م، وكان العامل الأول والرئيس في الحفاظ على وحدة يوغسلافيا
رغم كل الفروق بين الجمهوريات الست في القومية وفي فهم وتطبيق الاشتراكية.
ويتكون الاتحاد الفيدرالي في يوغسلافيا من ست جمهوريات ومنطقتين هما:
مقاطعة كوسوفو، ومقاطعة فويفودينا اللتان تتبعان جمهورية صربيا إدارياً ولكنهما
تتمتعان بالحكم المحلي الذي زادت قوته بعد تعديل الدستور عام 1974 م والذي
بمقتضاه أصبحت مقاطعة كوسوفو - عملياً - كأنها جمهورية مستقلة.
بروز القومية الصربية:
لكن الصرب الذين يطمعون في السيطرة على كل يوغسلافيا، وإعادة مملكتهم
القديمة [1] أرادوا اتخاذ خطوات عملية في تحقيق ذلك بعد ثمانية أعوام من الدعوة
الصربية العلنية إلى القومية الصربية وتفوقها العرقي، وكانت البداية في مقاطعة
فويفودينا حيث تمكنوا (وهم فيها أغلبية) بمظاهرة كبيرة شارك فيها أكثر من مائة
ألف صربي - من إسقاط جميع أعضاء المكتب السياسي الحاكم في المقاطعة،
ووضع صرب قوميين بدلاً منهم.
أما في كوسوفو - ذات الأغلبية المسلمة (يشكلون حوالي 90% من عدد
السكان وهم من أصل ألباني) والذين أثبتوا أنهم لن يتنازلوا عن حقهم وأنهم
سيضحون في سبيله بأموالهم في مظاهرات عام 1981 م والتي راح ضحيتها أكثر
من 200 مسلم - فإن الحال قد اختلف كثيراً.
وتقول مجلة (تايم) - في عددها الصادر يوم 19 من سبتمبر عام 1988م -: (اجتمع أكثر من سبعين ألف من الصرب في سميدريفر (بالقرب من بلغراد) في
مظاهرة كبيرة للضغط على الحكومة المركزية ومطالبتها باتخاذ إجراءات فعلية
وضم المنطقة) ! .
هذا، ويعمل الإعلام الصربي على اختلاق الأعذار والأسباب لتهيئة الرأي
العام اليوغسلافي لقبول هذا الاحتلال للمقاطعة، فتنقل المجلة في نفس العدد - عن
راديو مير سمليانتش الكاتب الصربي المعروف - اتهامه لسكان كوسوفو بالاعتداء
على نساء وأطفال الصرب في المقاطعة، وتمضي المجلة قائلة: (إن المسؤولين
في كوسوفو نفوا أن يكون هذا قد حدث، وأن غير الصرب في الجمهوريات الخمس
الأخرى يتفقون على أن هذه الأخبار من الدعاية الصربية المغرضة) .
وفي شهر سبتمبر عام 1988م رفضت قيادة الجمهورية الصربية - برئاسة
سلوبودان ميلوشفتش -طلباً من الحكومة المركزية الفيدرالية بإيقاف المظاهرات
والاحتجاجات، ثم أعلنت عن إرسال قوة من الشرطة الصربية إلى العاصمة
برشتينا لمساعدة القوات الحكومية في الحفاظ على أرواح وممتلكات الصرب أمام
اعتداءات المسلمين عليهم كما تدعي.
ونقلت مجلة (نيوز ويك) - 16 من أكتوبر عام 1988 - تعليقاً على هذه
الأحداث لمدير إذاعة جمهورية سلوفينيا المرئية يقول فيه: (لا أحد يقولها بصوت
عالٍ، ولكن الجميع قلق ويخشى أن تقود الأزمة الحالية لحرب أهلية) .
الاستيلاء على كوسوفو:
وفى وسط الحملة الإعلامية العارمة التي تؤكد على حق الصرب القديم في
مقاطعة كوسوفو، وعلى أن المسلمين فيها قوميون متعصبون يسعون للانضمام إلى
ألبانيا - عدوة يوغسلافيا التقليدية - وعلى أنه لا بد للصرب من الدفاع عن ...
مواطنيهم والحفاظ على وحدة البلاد، وأن ذلك لن يتأتى إلا بحرمان المقاطعة من
الحكم الذاتي، وإلحاقها نهائياً بالجمهورية الصربية - اتخذت السلطات الصربية في
بلغراد المزيد من الإجراءات العملية للاستيلاء على كوسوفو، فأزالت رئيس
الحزب الشيوعي عظيم فيلاسي في 27 من نوفمبر عام 1988 بعد أن اتهمته
بالتعاون مع الانفصاليين، وجعلت ثلاثة من أكبر الموالين لها في قيادة الحزب بدلاً
عنه، وبرغم أن قوات الشرطة تمكنت من إيقاف عشرات الآلاف من المتظاهرين،
وفك الاعتصام الذي قام به بضعة آلاف من عمال المناجم في مدينة (تريبكا) في
21 من فبراير الماضي، وساد الهدوء المقاطعة لبعض الوقت - إلا أن الموقف قد
انفجر مرة أخرى بعد أن تمكن الصرب بقيادة ميلوشفتش من إقناع الحكومة
الفيدرالية بضم المقاطعة لهم وأعلن ذلك في يوم 28 من مارس، ولا تزال المقاطعة
- بعد ثلاثة أشهر - تموج بموجات من الاحتجاج وعدم الرضا، في حين تصاعدت
إجراءات القمع الحكومي بتدخل الجيش وإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول الذي
لم يتوقف حتى الآن.
وتفيد التقارير التي نقلتها وكالات الأنباء العالمية أن عدد القتلى قد جاوز
(150) قتيلاً، والمعتقلين بضعة آلاف، في حين تقوم أجهزة الأمن الحكومية
ومعظمها من الصرب بحملات تفتيش واسعة للمنازل لإرهاب الأهالي وزرع مزيد
من الرعب.
أما في جمهورية صربيا فتجري الآن استعدادات هائلة للاحتفال بالذكرى
المئوية السادسة لمعركة كوسوفو الشهيرة عام 1389م [2] ويتوقع أن يشارك أكثر
من مليون صربي (عددهم الإجمالي حوالي 9 ملايين) في هذا الاحتفال، وحول هذا
الحدث نقلت وكالات الأنباء العالمية تصريحاً لترايكو فيتش زعيم الحزب الشيوعي
هناك يقول فيه: (مع أن هذه المناسبة تحمل في طياتها ذكرى هزيمة الصرب أمام
القوات العثمانية، إلا أن الصرب يحتفلون اليوم لأنهم استطاعوا البقاء على قيد
الحياة رغم قرون متعاقبة من السيطرة التركية!) ومعروف أن الصرب لم يكونوا
يحتفلون بهذه المناسبة من قبل ولكنها نكاية بمسلمي كوسوفو، وتأكيداً لسيادتهم على
المقاطعة.
الإسلاميون في المواجهة:
وليست هذه التصرفات بمستغربة من الصرب الذين أعماهم تعصبهم لقوميتهم
واعتقادهم بتفوقهم العرقي على من حولهم من القوميات الأخرى، وهم إضافة لهذا
من المسيحيين الأرثوذكس الذين يتأجج في صدورهم حقد دفين على الإسلام يدفعهم
للثأر التاريخي من المسلمين، والسعي للسيطرة عليهم وإعادة مملكتهم التي قضى
عليها المسلمون مع نهاية القرن الرابع عشر.
ولذلك فقد سارعت صحيفة بوربا (الكفاح) الرسمية في بلغراد بنشر كتاب
الضِّلِّيل رشدي (آيات شيطانية) في حلقات مسلسلة حال صدوره في بريطانيا،
ولقد سعى الاشتراكيون اليوغسلاف ولأكثر من أربعين سنة متتالية لطمس شخصية
المسلمين واقتلاع عقيدتهم وبث الظلمة في آفاقها، وسخروا لذلك كل ما يملكون من
وسائل مادية ومعنوية، وكان لهذه المحاولات - ويا لَلأسف! - أثر بالغ في إفشاء
الجهل بالإسلام وحرمان أهله من إقامة شعائره التعبدية، ولقد تضاعفت مثلاً
عضوية الحزب الشيوعي في كوسوفر من المسلمين - ما بين عامي 1972م،
و1982م [3] . كما أن قيادة الحزب كانت دائماً بأيدي المسلمين.
وبرغم هذا كله فإن أحداث العامين الماضيين في كوسوفو وفي جمهورية
بوسنيا وأحداث الأشهر الماضية تؤكد أن الإسلام هناك لم يُمت وأن الوعي الإسلامي
له أثره، وكان ليوغسلافيا نصيب فيه رغم طول الوأد وطول الليل المضروبين
على المسلمين فيها.
لقد شهدت السنوات الأخيرة في يوغسلافيا بناء العشرات من المساجد وبعض
مدارس القرآن، مع عودة كثير من المسلمين الذين عاشوا خارج البلاد ورجعوا
وفي نفوسهم تصميم وعزم على تغيير أحوالهم والعمل من أجل المسلمين هناك.
وفي سراجيفو تصدر اليوم صحيفة بريبورو (التجديد) الإسلامية التي يزداد
توزيعها يوماً بعد آخر، وهي وإن كانت لا تؤدي الدور المؤمل لها كاملاً في
الظروف الحالية إلا أنها قامت بدور فعال وكبير في بعث الإسلام، وربط المسلمين
ببعضهم وتبني مجموعة من قضاياهم المهمة، وها هي تعلن على صفحاتها - بعد
الأحداث الأخيرة - أن (500) من أئمة المساجد في بوسنيا وجهوا إليها رسالة
يطالبونها فيها بالدفاع عن المسلمين في كوسوفو، وبأن يكون بُعدها أكثر ريادة من
قبل. كما قام هؤلاء الأئمة - وعلى رأسهم الدكتور صالح كولا كفتش من مسجد
الموستار في بوسنيا والشيخ سعيد سمابيك مفتي الهرسك - بنقد كثير من أساليب
الحكومة وسياستها في التعامل مع المسلمين.
والأهم من هذا هو مفاصلتهم للعلماء، والأئمة المعينين من قبل السلطة،
حيث تمكنوا من إسقاط فرحات سينا من رئاسة المجلس الاستشاري الأعلى لبوسنيا
وكرواتيا وسلوفينيا كما أنهم لا يزالون يطالبون باستقالة رئيس العلماء في يوغسلافيا
حسين موييك.
وهذه أول مرة يتحرك المسلمون فيها مجتمعين تحت قيادة واحدة معلنة، ولا
يزال الطريق أمامهم.
وكلمة أخيرة لابد لنا منها حيث الأحداث الدامية الأخيرة بدأت منذ شهور ولم
تنتهِ، فالأحكام العرفية في كوسوفو لا تزال قائمة والاعتقالات مستمرة ضد
المسلمين فيها ومع ذلك فلم تحرك الدول الإسلامية والعربية ساكناً، ولم يجرؤ أحد
على المساس بعلاقاته مع أحد أركان عدم الانحياز.
إن العلاقات تتوتر وتقطع من أجل قضايا أقل أهمية من هذه الأحداث ولنا في
علاقة الدول العربية مع بعضها البعض على هذا خير شاهد.
إن الإعلام العربي الذي عوَّدنا على الاهتمام بأخبار وأحوال كل مناضلي العالم
الثالث، بل ويحرص على ترجمة ونقل أدبياته كلها مع الإشادة بها لم نعرف منه
حيال مثل قضايا المسلمين هذه إلا الصمت ... ولا يزال!
__________
(1) تمكن الصرب خلال تاريخهم الطويل من إقامة دولة لهم خلال القرن الثاني عشر، كانت كوسوفو عاصمة لها، غير أن ذلك لم يكن ليستمر طويلاً؛ إذ تمكن الأتراك العثمانيون من قهرهم والقضاء على مملكتهم عام 1389م بعد معركة كوسوفو الشهيرة، لتبقى كذلك خمسه قرون آتية، وانسحب الأتراك منها عام 1912م بعد خسارتهم في معارك البلقان.
(2) حصل هذا الاحتفال فعلاً في عرض من التحدي والتهجم والتعاون بين الكنيسة الأرثوذكسية والشيوعيين الصرب القوميين المتعصبين، تحت سمع العالم وبصره.
(3) BURG,Steren , (New Data on the League of Communist of Yogoslavia) ,SLAVIC AEVIEW,Fall/winter,1987,P 563-577.(20/80)
السودان ودوامة التغيير
هل كُتب على السودان وأمثاله من دول العالم الإسلامي أن يعيش أبداً في حالة
ترقب وتغيير فلا يهدأ له بال ولا يستقر على حال، متى تنتهي هذه الدورة بين
المدنيين والعسكريين، فلا العسكريون - بتكوينهم وعقليتهم التي تربوا عليها -
استطاعوا تأمين الاستقرار والعيش الكريم، ولا المدنيون - بضعفهم وهشاشة
ديمقراطيتهم التي يزاولونها - استطاعوا عمل شيء كبير أو الوقوف في وجه
المؤامرات التي يتعرض لها بلد ذو أغلبية إسلامية عربية، وله عمق في داخل
إفريقية.
إن ممارسة هؤلاء السياسيين أقرب إلى البهلوانية السياسية (بوليتيكا) من
ممارسة السياسة بمعناها الحقيقي، إنهم يدَّعون الديمقراطية ولكنهم يمارسون
الدكتاتورية بشكل مقنَّع، فالحزب الكبير يريد ابتلاع الأحزاب الأخرى، وبين
هؤلاء المتلاعبين (الفاشلين) وبين العسكريين يستشري الفساد وتذهب الطاقات،
وتمزق الأوطان، هذا إذا فرضنا في الطرفين الإخلاص الوطني على الأقل، فكيف
والأهواء، ومطامع الدول الأخرى هي التي تتحكم؟ .
أين دور العلماء والدعاة في تربية الشعب والاتصال به، وتكتيل الجماهير
المسلمة على ألا تخضع لهذه المؤامرات ولا تركن إلى هذا الضعف وهذا التمزيق.
إن تجمع الدعاة والعلماء وأصحاب التوجه الإسلامي أَوْلى من تجمع بعضهم
مع الأحزاب العلمانية التي تمارس اللعب على الحبال وتظهر لنفسها في كل مرة
وجهاً جديداً.
ليس هناك أمل لهذه الأمة إذا كان علماؤها ومفكروها لا يستطيعون قيادتها،
ويجب أن لا يترك السودان ذو الوجه الإسلامي العربي يتحكم به أمثال قرنق ومن
وراءه، والمسلمون هم المسؤولون.(20/86)
منبر الشباب
الثقة بالنفس
عبد الله حماد الجهني
إن من أهم ما نفتقده في مجتمعاتنا اليوم الثقة بالنفس، ذلك الإحساس الذي
متى ما تلبّس به الإنسان أحس أنه قادر على أي عمل يمكن عمله بإتقان. تلك
الشعلة التي تضيء لحاملها الطريق لكي يتقدم على بصيرة، ولا أقصد فيه ذلك
الإحساس الذي يرتفع حتى يلامس الغرور، ولا الذي ينخفض حتى يلاصق الخمول.
والناظر في مجتمعاتنا اليوم لا يكاد يرى تلك الشعلة، سواء على مستوى
الأفراد أو الجماعات، ولقد حاول اعداء المسلمين وأذنابهم في القديم والحديث
زعزعة ونزع هذه الثقة بتتالي الضربات والنكبات، فلقد هزمنا كثيراً حتى فقدنا
الثقة بالنصر وأصبحت الهزيمة شيئاً عادياً.
فإذا كانت الثقة بالنفس هي المفتاح للنجاح والنصر، فكيف ننجح وننتصر إذ
لم تكن هذه الثقة موجودة؟ !
الأسباب المؤدية للثقة بالنفس:
وتزرع الثقة أول ما تزرع في الصغر ولا يمنع أن يكتسبها الإنسان في الكبر
وذلك بالرياضة النفسية. وأهم محرك للثقة بالنفس هو التشجيع، ويتضح هذا من
خلال عرض قصتين وقعتا في غزوة خيبر في آخر حصن من حصونها المسمى
(الوطيح) :
أما الأولى فمع الزبير بن العوام حين قال ياسر اليهودي - أخو مرحب وكان
رجلاً قوياً - مَن يبارز؟ ؛ فقال الزبير بن العوام: أنا لك؛ فقالت أمه صفية: يا
رسول الله! ، يقتل ابني!
فقال لها - عليه السلام -: بل ابنك يقتله إن شاء الله. فالتقيا فما هي إلا
لحظة حتى سقط رأس اليهودي.
فانظر إلى الكلمات المشجعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا عملت.
لقد عملت الكلمات في نفس الزبير أقوى مما عمله السيف بجسم اليهودي.
أما الموقف الثاني: فمع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فبعد تلك
المبارزة اقتتل الناس، وكانت الراية عند أبي بكر - رضي الله عنه - وشعارهم
يومئذ: يا منصور أمت أمت، فقاتل قتالا شديداً ثم وجع فأخذها عمر - رضي الله
عنه - فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من الأول ثم وجع، فقال - صلى الله عليه وسلم -
أَمَا والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فدعا علياً -
رضي الله عنه - وهو أرمد فتفل في عينيه ثم أعطاه الراية.
فخرج علي يهرول حتى ركز الراية تحت الحصن، وبعد قتال شديد - هو
أشد من الأول -تمكن علي من فتح ذلك الحصن بإذن الله.
وكيف لا يفعل على هذا وقد أخبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما
يصبو إليه من حب الله ورسوله وفوق هذا كله حب الله وحب رسوله له. إنها
كلمات تبعث في النفس الحماس والثقة، فما أحوجنا اليوم أن نطلق مثل هذه الكلمات
المشجعة التي تنطلق من أفواهنا لتلامس قلوب ونفوس الآخرين.
أسباب عدم الثقة بالنفس:
وأهم ما يفقد الثقة بالنفس وخصوصاً عند الأطفال: الإسراف في نقد الأخطاء. والنقد الجيد كالدواء القوي يصلح الأجسام القوية، ويهلك الأجسام الضعيفة، فالنقد
يزيد الشخص الواثق من نفسه فهماً وإدراكاً، وأما الآخر فيهلكه وليس معنى ذلك
أننا لا ننتقد أحداً، بل هناك تفصيل:
أولاً: مَن ننتقدهم مواجهة وهم الراسخون الذين لا ينقصهم النقد بل يزيدهم.
ثانياً: مَن ينتقد ولكن بطريقة غير مباشرة وهم من عرَّض نفسه للنقد.
ثالثاً: مَن لا ينتقد بل يوجه ويشجع.
وقد اتضح من بحث دقيق أن الأطفال المنبسطين يضاعفون جهدهم عقب النقد، في حين أن المنطوين يضطرب إنتاجهم عقب النقد واللوم. كما ظهر أيضاً أن
بطيء التعلم يحفزه الثناء أكثر من النقد، في حين أن النقد واللوم أجدى للموهوبين.
وأيضاً من الأشياء التي تعوق الثقة بالنفس: السخرية مما يبديه الشخص من
آراء وكبحه حين يختلف رأيه عن آرائنا، فسرعان ما يتعلم أن أفكاره تسبب له
المتاعب ويرى من الخير أن ينقاد ويسكت، والتناسب طردي بين الثقة بالنفس
والنتيجة.
هذا على مستوى الجماعات، أما على مستوى الأفراد، فعدم الثقة بالنفس نتج
عنه الخوف من الخطأ، والتردد وهذا بطبعه أدى إلى الجمود وإلى التقليد، لأنه
يرى أن التقليد أسهل عليه، التقليد في الأفكار والتقليد في السلوك والتقليد في
الشخصية، فتراه يلغي عقله ويمشي وراء من يقلده مغمض العينين مقلداً لهم في
الخطأ والصواب، في الأقوال والأفعال، لا يخالفهم لأنه يعتقد أنه دائم على الخطأ
وهم على الصواب، بينما نجد أن كبار المفكرين والمجددين كانوا يتميزون عن
غيرهم بالثقة بالنفس.
فما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الثقة مثل ثقة سماك بن خرشة (أبو دجانة)
حين قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال أبو
دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني. فقال: أنا
آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه فلو لم تكن عند أبي دجانة الثقة بنفسه لما أخذه.(20/87)
الحلم الذي تحقق
كم كنت أحدث نفسي وإخواني في الله عن الحاجة الملحة إلى منبر إعلامي
ينبثق من الأصالة المتمثلة في رؤية سلف هذه الأمة لجوانب الحياة، ومن ربطه
بواقع الأمة، ومن التجديد الذي تعني به رسم الصورة الصحيحة الواضحة في
أذهان الناس عن الدين بعد أن طمست ولم تعد ناصعة كما كانت في عهد سلفنا
الصالح (رضوان الله عليهم) .
كم كنت أحلم بمنبر يشع منه الفكر الإسلامي الأصيل الذي يربط الماضي
بالحاضر، ويكون مواكباً لهذه الصورة المباركة حتى تؤتي أكلها بإذن ربها بعيداً
عن الأغراض الدنيوية ... والتكتلات الحزبية ... لا تولّي وجهها شطر جهة من
الجهات ... ولا تخضع لسياسة غير سياسة يريدها الله فهو وحده الذي تنتظر منه
العون والمساعدة ...
أيها الإخوة القائمون على مجلتنا الحبيبة: بارك الله في جهودكم وسدد خطاكم، ولا تنسوا أنكم على ثغر عظيم مرابطون، فلا يُؤتَى الإسلام من قبلكم، ولا أخفي
عليكم إعجابي (بكلمة في المنهج) فلتكن نصب أعينكم دائماً، ولا تظنوا الطريق
مفروشاً أمامكم بالزبرجد والياقوت ... وحذارِ حذارِ من سياسة (المقال يعبر عن
رأي كاتبه، ولا يعبر عن رأي المجلة) فما يضر الشاة سلخها بعد ذبحها.
وأهيب بالإخوة في مجلتنا الغراء أن يسيروا قدماً في طريق الدعوة إلى الله
عبر هذه الوسيلة، وأن يتحملوا مسئولية وعبء هذه الصحوة المباركة في بلاد
المسلمين، وأن يبطلوا مفعول تلك الألغام التي زرعها الحاقدون والأعداء في
طريقها.
وتحياتي العطرة لكل القائمين على هذه المجلة، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
أخوكم: أبو معاذ محمود المختار
نشكر الأخ أبا معاذ على عواطفه الصادقة وعلى تشجيعه للبيان وللقائمين
عليها، ونرجو أن نكون عند حسن الظن بنا.(20/92)
مكتبة البيان
إعداد: محمد الحسيني
* د. عابد السفياني: المستشرقون ومن تابعهم وموقفهم من ثبات الشريعة
وشمولها، دراسة وتطبيقاً. نشر مكتبة المنارة مكة المكرمة1408. هـ، 150
صفحة.
لخص المؤلف في خاتمة الكتاب أهم ما ورد فيه، ومن ذلك: أن من أهداف
الاستشراق إبعاد الدين وسلطانه عن النفوس، وأنهم ينظرون إلى الإسلام كنظرتهم
إلى المسيحية، وأيضاً فهم معادون للدعوات الإصلاحية السلفية، ويروجون
للدعوات العقلانية والمنحرفة، وقد ناقش المؤلف بعض المصطلحات والكتب
والاتجاهات التي تأثرت بالمستشرقين.
***
* د. محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة. دار القلم دمشق
وبيروت 1409 هـ، 456 صفحة.
الدكتور محمد حرب عبد الحميد من عشاق التاريخ العثماني، ومن أكثر
الكُتاب العرب معرفة به وحباً له، قضى زمناً في تركيا، درس اللغة والتاريخ
العثمانيين، ويأتي هذا الكتاب للدفاع وللإشادة بأمجاد الدولة العثمانية وتبرئة ساحتها، وما كُتب عنها من نقد. والمؤلف يبادرك منذ أول الكتاب بقوله: (ودولة
العثمانيين أطول دولة في التاريخ ولا يطول عمر الدول إلا بحضارة وعدل،
وحضارة العثمانيين هي ذروة تطور الحضارة الإسلامية) (ص7) . ...
والكتاب يقدم للقارئ العربي ما لم يكن يعرفه من جوانب هذا التاريخ، وقد
أثنى وزاد عما كتب السابقون في هذا المجال - مجال الدفاع - كعبد العزيز
الشناوي، وعلى حسون، وزلّوم، ومازلنا نرقب النظرة الوسطى بين الطرفين.
* د. زغلول راغب النجار: قضية التخلف العلمي والتقني في العالم
الإسلامي المعاصر، كتاب الأمة، قطر 1409هـ، 146 صفحة من القطع
الصغير.
هذا الكتاب يحمل الرقم العشرين من سلسلة كتاب الأمة الذي تصدره محاكم
قطر، وقد خرج في هذه السلسلة بعض الكتب الجيدة في قضايا متنوعة، ومؤلف
كتاب قضية التخلف أستاذ جيولوجيا وذو عاطفة إسلامية، والكتاب على صغره
مليء بالقضايا التي تستحق الاهتمام والفهم.
اعتمد المؤلف في كثير مما ساق على الإحصائيات الثابتة في مجال هجرة
المال والعقول إلى الغرب، ونسبة الأمية، وظاهرة المجاعات في العالم الإسلامي،
كما عرض القضايا التقنية - وجوداً وتطوراً ونقلاً - إلى عالمنا، وفي نهاية الكتاب
قدم المؤلف وصفة علاج لتلك المشكلات في جانبيها المادي والمعنوي، ثم قال: (وهي وسائل إن سهل تسطيرها على الورق فإن إخراجها إلى حيز الوجود يحتاج
إلى جهود وجهود) .
نرجو أن يكون للجامعات ومراكز البحوث في العالم الإسلامي دور في
الإصلاح وقد تجاوز عددها 224 جامعة، وأكثر من تسعمائة مركز للبحوث التقنية، فهل يستمر دورها في إعداد الخبراء للتصدير؟ ، وقد كان الجانب الاجتماعي
والسياسي في هذا الكتاب بحاجة إلى مزيد عناية وتفصيل من المؤلف حبذا لو قام به.
شكر وتقدير
إدارة المنتدى الإسلامي تشكر الذين تبرعوا لدعم مشاريع المنتدى في مجال
الدعوة ونشر العلم والوعي الإسلامي، كما ترجو من الإخوة الذين يودون المساهمة
في ذلك أن لا يرسلوا تبرعاتهم نقداً، بل بواسطة شيك.
أعاننا الله جميعاً على أداء الأمانة، وشكر الله للإخوة جهودهم ومشاركتهم.(20/93)
الصفحة الأخيرة
المشاريع السياحية
عبد القادر حامد
هناك هبة مشهودة في تشجيع المشاريع السياحية والترفيهية في العالم العربي، حتى إن المرء ليظن أن كل شئ أصبح للسياحة والترفيه، قرى سياحية، فنادق
سياحية، استراحات سياحية، مسارح، ملاهٍ، مراقص، منتجعات ... حمى
السياحة تغمر الناس، والمشاريع الاقتصادية عقمت إلا من هذا المصدر السخي!
أين المشاريع الصناعية والتعدينية، أين الخطط الطموحة التي تسخر الموارد
الطبيعية بمساعدة التربية العلمية الحديثة التي أعددنا بها الأجيال منذ زمن ليس
بالقصير، أين الإمكانات والمواهب، أين التكنولوجيا التي نباهي بمعاهدها
وجامعاتها وخريجيها؟ .
أين الزراعة الحديثة التي يسد إنتاجها أفواهنا المفتوحة لإنتاج غيرنا، وماذا
حدث لأرضنا الصالحة المشهورة بخيرها، والتي سال لعاب الأغراب من أجلها
يوماً ومازال؟ لقد تفرق أهلها عنها، وزهدوا فيها، وهي ليست خليقة بزهد،
وهرعوا إلى زوايا البطالة المقنعة، خلف المكاتب التي قتلت الحيوية في النفوس،
وزرعت فيها (التنبلة) بدل الطموح، والتطلع إلى الإيقاع بالآخرين بدل أن يحرص
كلٌّ على ما ينفعه، ويستعين بالله ولا يعجِز.
ولعل الذين ساقوهم إلى هذا المصير يشعرون أن هذه الجموع المتبطلة لابد لها
من ترفيه ينسيها الويل الذي صارت إليه.
إن الشعوب الأوربية التي نقلدها بتشجيع السياحة مكفية من الضروريات
متخمة من الكماليات، وعندها المال الكافي الذي تستثمره في مثل هذه المشاريع،
وبمعنى آخر عندها طبقة وسطى هي الأغلبية، أما نحن فإما قلة قليلة متخمة لا
تعرف أين تنفق مالها ولا كيف تنفقه، وإما كثرة مسحوقة تعيش على الكفاف أو أقل، وليس من طبقة وسطى لها قيمة.
وعلى هذا فإن هذا الاتجاه الخطير إلى السياحة، وهذا الإنفاق عليها سيكون
من نتائجه تعميق الهوة بين هاتين الطبقتين؛ بحيث لا يبقى بينهما شيء مشترك إلا
الفساد الذي يهوون إليه باسم الفن والترفيه. هذا فضلاً عن الأزمات الاجتماعية
التي تترتب على تحويل بلادنا إلى أماكن لهو وعبث وانحلال لطالبي اللهو والعبث
والانحلال من أهل الغرب وأهل الشرق.(20/96)
صفر - 1410هـ
سبتمبر - 1989م
(السنة: 4)(21/)
الافتتاحية
ولنصبرن على ما آذيتمونا
إذاأراد المشرفون على الإعلام الغربي أن يهاجموا شخصاً وينزلوه من عليائه -
إذا كان في منزلة لها أثر- فإنهم يُطبِقون عليه من كل الجهات، وتنهال الكتابات
عنه انهيالاً، وتنثال انثيالاً، فمن محلل لشخصيته وعيوبها؛ ومن مكبر لأخطائه
ودافن لحسناته، ومستصغر لها؛ أو مشكك في الباعث عليها، ولا يسلم منه حينذاك
شيء، لاجسمه ولا قسماته، ولا ثيابه ولا طريقة إشارته، وما يزالون يبدئون
ويعيدون في ذلك خلال أسبوع أو أسبوعين حتى يجتمع لك مما قالته فيه الصحف
والمجلات والإذاعات مقدار هائل يعجز عن الإحاطة به المتخصصون، ويضل
المؤرخ في محاولة البحث عن الحقيقة بين ثناياه.
وعلى العكس من ذلك إذا اتجهت النية إلى إحلال شخص مكانة مهمة فينقلب
القدح مدحاً، وتسخر الأقلام والأجهزة لاختلاق مزايا ومناقب، بل تعد مكاتب
متخصصة للرصد والتنبؤ من أجل المساهمة في صنع الشخصية، وأمامنا مثل
صارخ ومحير لأول وهلة، ولكن هذه الحيرة سرعان ما تذوب بعد فترة تفكير
قصيرة في ما وراء الكَتَبة وما يكتبون.
وهذا المثل هو: بنازير بوتو. فقد بدأت أجهزة الإعلام الغربية حفلة تنصيبها
قبل تسميتها لهذا المنصب بمدة ليست بالقصيرة، أي قبل موت ضياء الحق،
وطبقت عليها نظرية (مرآه الكف [1] ) (التي ذكرها مالك بن نبي) بمهارة، بل
بشطارة [2] . بل وضعت حواليها مرايا كثيرة كل منها عكست عليها لوناً طريفاً،
وأعطت لشخصيتها بعداً مسانداً.
أول هذه المرايا: أنها خريجة أكسفورد ونتاج الثقافة الإنكليزية العريقة وإذا
كان للمتثقف بالثقافة الإنكليزية ذلك السطوع في البلاد التي استعمرتها بريطانيا يوماً
ما، فما بالك إذا كانت هذه الثقافة لبست لبوس (أكسفورد) وادّهنت بدهن (أكسفورد) ؟ !
وثانية هذه المرايا: أنها بنت السياسي العريق، والمتهم المظلوم الذي غدر به
صنيعته (أي ضياء الحق) ليحكم البلاد حكماً فردياً طيلة أحد عشر عاماً بعيداً عن
الديموقراطية التي كان يحبها ذو الفقار علي بوتو حباً جماً!
وثالثة هذه المرايا: أنها خارجة من بيئة إسلامية، هذه البيئة التي تكبح المرأة، وترى من غير الطبيعي إسناد بعض الوظائف والمناصب لها، ولذلك فهي (صيد
سمين) ، وإذا رشحت لرئاسة الوزراء في بلد مسلم فهذه سابقة لها ما بعدها.
ومرايا كثيرة نصبت حولها، ومبالغات وتملق، لم يتركوا شيئاً لم يتناولوه
بالوصف والتعلق: جسمها، قوامها، وشعرها، وبسمتها، ونظراتها وسحرها،
وتفاصيل ملابسها، هذه فقرة من مقال عنها:
(بنازير بوتو التي قابلتها مصادفة في ردهة فندق ضخم؛ رشيقة، نضرة،
كانت تضع قطعة قماش شفاف على شعرها، وترتدي بلوزة فضفاضة، وسروالاً
واسعاً، كلاهما أبيض، وعلى كتفيها شال قطني ذو لونين: خمري وأسود، ممهور
بأحرف اسم حزبها بالحروف اللاتينية (P. P. P.) وبالعربية (ب. ب. ب) [3] .
أترى أنه يصف عارضة أزياء؟ .
وخلال مدة قصيرة صنع الإعلام الغربي بنازير بوتو وأحلها هذه المكانة، وما
زالت مساحة المعجبين المسيّرين تتسع وتتسع، وتضم في خضمها ناساً من مختلف
الطبقات والمستويات والثقافات.
ونحن إذ نذكر ذلك ونستشهد به فلكي نرى كيف تصنع الأساطير في دهاليز
الأساطير، وهي أجهزة الإعلام، ولكي نتبين مواطئ أقدامنا، ونقيس قدراتنا إلى
هذه القدرات الشيطانية التي يمتلكها هذا الإعلام الكافر الذي يحارب الحق بالأباطيل، ويغطيه بالأساطير.
وإنه ليحز في النفس أن تنعكس الصورة الشريرة لهذا الإعلام على شعوب
الأمة الإسلامية، وتبتلى به في عقر دارها على أيدي المقلدين والممسوخين الذين
يقلدون الغربيين في أسوأ أعمالهم، وإذا كان الإعلام الغربي يترك مجالاً لوجهات
النظر المختلفة أن تأخذ مداها مناقشة ومدافعة؛ فإن ربيبه المتسلط فوق رقاب
المسلمين لا يؤمن بخرافة اختلاف الرأي؛ بل يحب الوحدة والتوحد والتفرد،
فيحمل وجهة نظره الأحادية، ويقرع بها الخصوم صباح مساء واذا لم تدخل
طواعية، أدخلت قسراً، وإذا استعصت العقول على حملها فلتلغَ العقول، أو
فلتختف الرؤوس التي تحمل تلك العقول التي عجزت عن استحسان ما لا يستحسن!.
إن القهر الفكري المضروب على المسلمين - وقد شارف هذا القرن على
الانتهاء - ليزري بكل القهر الذي ذاقوه في تاريخهم الطويل، وإن الاستبداد الذي
ألفت فيه الكتب والمقالات عرفه للناس، وعُرِّف به عن طريق ما كتب عنه في
وقته، أما ما يتقلب فيه المسلمون اليوم فربما يبدو للأجيال اللاحقة على أنه نعيم
مقيم، ولسنا متأكدين إن كان التاريخ سيستنطق من شهوده من يمكنه النطق قبل أن
تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
لكن مهما أصر الغي على غيه، وتشبث بباطله؛ فإن على المسلم أن يقابل
ذلك بالصبر والمصابرة، والإصرار على الحق الذي يؤمن به، ولا يلفته عن ذلك
ما يلاقي من كيد وعنت ومكابدة، فهذه هي سنة الله في أنبيائه ورسله وحملة دعوته، [وَمَا لَنَا
أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ] .
__________
(1) ذكر ذلك مالك بن نبي في كتابه: (الصراع الفكري) .
(2) بمعناها اللغوي لا العرفي.
(3) The Guardian Weekly 30/7/1989 م.(21/4)
بيان السنة للقرآن
(2)
الشيخ مسفر الدميني
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
ففي حلقة العدد (18) وعند بياننا لقوله تعالى: [ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] [البقرة: 196] عرضنا لما تعيشه الأمة
الإسلامية اليوم من ذل وهوان وتحكم لليهود في أرضها ومصالحها وعلاقاتها.
وأن الأمل في زوال هذا الذل وهذه المهانة هو أمل فيما وعد الله عباده
الصادقين المتقين من تمكين لهم في الأرض، أما كيف يكون هذا التمكين؟ ومتى
يتحقق؟ فهذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى-.
بين -سبحانه وتعالى- في آية سورة النور صفات المستحقين للتمكين فقال:
[وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [55] .
فالإيمان بالله والعمل الصالح وعبادة الله وحده دون إشراك به هي الصفات
التي يستحق من اتصف بها الاستخلاف في الأرض والتمكين وتبديل الأمن بالخوف، وما لم تكن عبادة الله خالصة من كل ما يشوبها من أنواع الشرك فلن يحصل
الأمن ولا التمكين، ولا تكون العبادة خالصة إلا بالعقيدة الصافية، فالعقيدة هي
الأصل وعنها تقبل الأعمال أو ترد، ولذا قدم -سبحانه- ذكر الإيمان على العمل
فقال: [الذين امنوا وعملوا ... ] فالعمل من غير إيمان بالله لا قيمة له، وكذا
الإيمان لا يكون إلا بالعمل الخالص الموافق للشرع.
والناظر في أحوال الأمة يجد الاختلاف والفرقة والتشتت بين بلدانها وشعوبها، بل بين أناسي البلد الواحد والشعب الواحد، وأسباب هذا الاختلاف كثيرة نذكر
منها:
ظهور القوميات الجاهلية المبنية على التعصب للقوم أو الجنس أو البلد، وهذه
العصبيات أذكاها الاستعمار الأوربي لبلاد المسلمين.
ومنها ظهور التيارات الفكرية المرتبطة بالغرب النصراني أو بالشرق
الشيوعي، وكان أثر هذه التيارات والأحزاب في عقيدة الأمة وفكرها قوياً بحيث قل
أن تجد مثقفاً لا يميل أو ينتسب إلى حزب من تلك الأحزاب أو جبهة من تلك
الجبهات المتعددة الأهواء والاتجاهات والتي يجمعها - غالباً - التنكر للإسلام عقيدة
وشريعة، أو إضعاف أثره في الأمة وعدم الثقة في إمكان قيام الدولة على أسس منه، إضافة إلى ما زرعه المستعمرون من حروب وعداوات بين شعوب العالم
الإسلامي، فقلما تجد دولة لا تضمر لجارتها عداوة أو تخشى منها حرباً.
وهذه الاختلافات وغيرها تحتاج إلى دراسة وبيان لكيفية الخلاص من آثارها
مما لا يتسع المقام لذكره، لكننا هنا سنعرض إلى سبب آخر غير ما تقدم أحسبه
جديراً بالتنبيه لخطورة أثره، ذلكم هو الاختلاف الناشئ عن العقيدة في صفوف
الدعاة إلى الله.
فإذا لم تجمعهم العقيدة الراسخة المستمدة من الكتاب والسنة على منهج سلف
الأمة فما الذي يجمعهم إذاً؛ هل تجمعهم المصالح المشتركة؛ أو المصير المشترك؛
إن العقيدة هي الأصل وهي عنصر الاجتماع والوفاق، كما أنها سبب الخلاف
والعداء والفرقة، والداعي إلى الله عليه أن يتبين خطواته، وأن يعرف موقعه بين
ثلاث وسبعين فرقة حتى لا يكون من دعاة الضلالة الذين يدعون إلى النار وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إن الصدق في البحث عن الحق هو أول أسس الوفاق والاجتماع، فإذا صدق
المختلفون من الدعاة في طلب الحق وُفقوا إليه أو أجروا عليه، والكتاب والسنة
النبوية هما الأصل، وإليهما المصير عند الاختلاف، كما أن فهم الصحابة والتابعين
من سلفنا الصالح لنصوصهما أصل أمرنا بالأخذ به واتباعهم فيه بنص الكتاب
والسنة.
وإذا كان الأمر كذلك فلننظر فيهما ونقف عند حدودهما فسنجد دون شك فيهما
ما يحسم الخلاف ويجمع الشتات ويؤلف بين القلوب المتنافرة، والعقائد المتباينة
فتصبح الأمة يداً واحدة، والدعاة صفاً واحداً، وبين يدي ذلك علينا أن نعلم أن
الاختلاف الواقع بين الأمة أمر نحن منه على بينة، فقد أخبرنا به رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، كما أن هذا الاختلاف قديم فقد وقع في عصر أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمنعنا علمنا بوقوع هذا الاختلاف وقدمه
في الأمة من العمل على جمع الشمل ولم الشتات وتوحيد الكلمة، ذلك أن الذي أخبر
بوقوع الاختلاف والفرقة قد أخبرنا بطريق النجاة، وأعلمنا المخرج من تلك الفتن،
وجعل اتباع ما كان عليه هو - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هو الحق
والصواب الذي لا محيد عنه، وألزمنا أن ندعو من ضل الطريق أو جهل المخرج
إلى سواء السبيل، وهذه مهمة سلفنا الصالح فيما مضى، وهي مهمة الدعاة الآخذين
سبيلهم اليوم، وهل يظن أحد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر أمته
باختلافها إلى فرق وأحزاب ولا يخبرها بالمخرج من الفرقة والاختلاف، ولا يبين
لها طريق الحق والصواب لتسلكه وتتخذه سبيلاً حتى تسلم من الوقوع في النار التي
أخبر أن من ضل طريق الحق كان مستحقاً لها؟ لا يظن به ذلك إلا منافق أو كافر،
ويكفي في رد هذا الظن السيئ قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليأتين على أمتي
ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية
لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة،
وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: ومن هي
يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) [1] ، وللحديث طرق أخرى.
وإذن فالطائفة التي على الحق هي التي على مثل ما عليه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وأصحابه، ويبين هذا الحديث الآخر: (لا تزال طائفة من أمتي
على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) [2] فهذه الطائفة هي الطائفة
الناجية وهي بدون شك تلك التي سلكت سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم -
وسبيل أصحابه، وهم أهل العلم كما قال البخاري أو أهل الحديث كما قال ابن
المديني والإمام أحمد -رحمهم الله جميعاً-.
وسبيل الصحابة الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا الابتداع ولا
التأويل أو التحريف أو التعطيل، كما أن سبيلهم الوقوف عند النصوص الشرعية،
وجعلها المصدر للتشريع، والحكم عند الاختلاف، فلا يردون نصاً صحيحاً، ولا
يتأولونه أو يخرجونه عن ظاهره، ولا يحكمون عقولهم في النصوص أو يقدمون
حكمها على حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما لا يتهمون السلف
بأن طريقتهم في فهم النصوص أسلم وأنهم أعلم منهم وأحكم، بل يرون طريقة
السلف أسلم وأعلم وأحكم، لأنها طريقة الأصحاب الذين أمرنا باتباعهم، فهم قاموا
بالحق، وهم الطائفة المنصورة المؤيدة الذين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر
الله، ومن ظن أنه أعلم منهم أو أحكم فقد ضل وغوى وخسر.
من كل هذا نعرف أن الحق واحد وأن الوصول إليه سهل يسير، فما علينا إلا
أن نأخذ الحق من مصدره ونسلك في فهمه واعتقاده مسلك من نقله إلينا من
الأصحاب والثقات من الأتباع من سلفنا الصالح، ولن تقوم للأمة قائمة إلا إذا اتبعت
ذلك المنهج وسلكت تلك الطريق فهي طريق الوحدة والجماعة ومن سلك غيرها فقد
بغى الفرقة والضعف والهوان، ووقع في وعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- لمن سلك غير طريق أصحابه ومن تبعهم من الفرقة الناجية حيث قال: «كلهم
في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» .
أما متى يكون التمكين؟ فهذا علمه عند الله، وما على المؤمن إلا أن يسلك
طريق الحق وسبيل الأصحاب والأتباع من السلف الصالح، وأن يعمل على نشر
دينه وعقيدة أهل السنة والجماعة، وأن يبث العلم في الناس، فأكثر ما يؤتى الناس
بسبب الجهل والهوى، والجهل دواؤه العلم فمن تعلم العلم الشرعي فقد أخذ بأسباب
الهدى والتقى، فلا يمنعه الهوى من اتباع الحق.
وإن كنت واجداً من أهل العلم من ليس تقياً ولا موفقاً إلا أن الغالب على من
تزود بالعلم الشرعي أن يكون أقرب إلى الحق ممن لا علم عنده من العوام
والأعراب. قال تعالى: [هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] وقال:
[إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم:
(.. ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعَلَّم من لا يَعْلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون
سراً) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه
من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساء
جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [3] .
فتعليم الناس العلم الشرعي، وتربيتهم على عقيدة السلف، هو أول طريق
جمع الكلمة ولم الشتات، وعلى طلبة العلم الأخذ من أفواه الشيوخ والعلماء وعدم
الاتكال على الكتب والصحف فذلك هو سبيل السلف في أخذ العلم وتلقيه، فسيرة
الشيخ وسلوكه جزء من العلم الذي يأخذه عنه التلاميذ، فإذا سلك الشيخ في أخذه
وأدائه وتعليمه منهج السلف في الأخذ والفهم والتعليم، وعلم طلابه أدب الطلب قبل
العلم، وأدب الاختلاف قبل الخلاف، وأسلوب الحوار قبل الجدال، والانتصار لله
لا للنفس، وقبول الحق ولو كان على لسان الخصم وعدم أخذ الناس بالظن، أو
البحث عن عثراتهم ومعايبهم، أو تجريحهم بما لا يجرح، وغرس في نفوسهم حب
الله وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واحترام السلف وانزالهم منازلهم التي
يستحقونها، إلى غير ذلك مما أثر عن سلفنا الصالح، إذا فعل أهل العلم - طلاباً
وشيوخاً - ذلك الأمر فسيتغير الحال، وتنجلي الغمة، وتتفق الكلمة وتقوى الأمة،
ويعز الله جنده ويمكن لهم في أرضه، وهذا أمل نرى بوادره آخذة في الظهور
فحلقات الدروس، وندوات المساجد والمحاضرات المختلفة نرى الاقبال عليها كبيراً، والرغبة فيها شديدة، وأثرها على طلاب العلم خاصة، وعلى المجتمعات
الإسلامية عامة بَيَّن ظاهر، رغم ما نرى في هذه المجتمعات من مظاهر الانحراف
والفساد.
ومادام الكتاب والسنة المصدر هما المرجع عند الاختلاف، فعلى كل طائفة أن
تنظر بعين الانصاف لترى ماذا تركت من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم -، أو أوُلت من نصوصهما، أو ردت من أحكامهما، وعلى أهل العلم أن
يلتقوا ليأخذوا الحق من مصدره، ولا تمنع الأنفة المخطئ من الرجوع إلى الحق اذا
ظهرت حجة خصمه إن كان صادقاً في بحثه وحواره، لأن من كانت بغيته الحقيقة
وهدفه الهدى والسلامة من الضلال، فظهور الحق مع خصمه يسعده ويرضيه
كظهوره على يديه، أما من كان خصامه وجداله لشخصه لا للحق فإن هواه يمنعه
من اتباع الحق إذا كان مع مخالفه.
ولقد كان أئمة أهل السنة والجماعة من سلفنا الصالح مثالاً يحتذى في أدب
الحوار والنقاش، وفي أدب التعلم والتعليم، فهذا أحدهم يقول: ما جادلت أحداً إلا
وتمنيت أن يكون الحق على لسانه، وهذا عبد الله بن المبارك يقول: (طلبت
الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم) ،
ويقول: (طلبنا العلم للدنيا، فدلنا على ترك الدنيا) .
وهذا الاسترسال في بيان حال الأمة وسبيل جمع كلمتها لا يبعدنا عن بيان
الآيات السالفة الذكر، فإن حال أمة الإسلام - من حب للحياة الدنيا وركون إلى
الدعة وترك الجهاد - يشبه في بعض جوانبه حال اليهود الذين يحرصون على (حياة) ويهابون الموت ولو كان سبيلاً لعزهم ومجدهم، ومن خاف الموت وترك الجهاد، وفي تركه الهوان والذلة، وهذا ما تعيشه الأمة اليوم إذ طوت راية الجهاد التي كانت ترهب أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الأرض الكافرة، واستبدلت به ولاءً لأعدائها ومغتصبي أرضها وأوطانها، وتنكرت لدعوة الجهاد بعد أن تركت شرع الله وحكمه، ولا خلاص للأمة مما هي فيه إلا أن ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعقيدة السلف الصافية من شوائب الشرك بصدق وإخلاص وثقة فيما وعد الله.
إما إن ادَّعت الرجوع إلى لله للتجربة الإسلامية في اصطلاح الأوضاع الفاسدة
فهذه توبة منافق مرد على النفاق لا إخلاص فيها ولا صدق نية.
رزقنا الله وإياكم العمل الصالح الخالص لوجهه، وإلى لقاء في عدد قادم إن
شاء الله تعالى.
__________
(1) سنن الترمذي / 26، وانظر العدد الثاني من (البيان) مقال (التجديد في الإسلام) جزى الله كاتبه خيراً.
(2) صحيح مسلم 3 / 1523، النظر العدد الأول من (البيان) ففيه تخريج موسع للحديثين.
(3) صحيح البخاري، كتاب العلم 1 / 159، مع فتح الباري.(21/7)
خواطر في الدعوة
ليعط كل ذي حق حقه
محمد العبدة
إن ما يجري على الساحة الإسلامية في هذه الأيام من الخلط في الأسماء
والمسميات شيء يدعو إلى العجب، فالناس يطلبون من المفكر أن يكون فقيهاً،
ومن الفقيه أن يكون خطيباً، ومن الواعظ أن يكون عالماً، وقد يسأل المتفقه أو
المشتغل بعلم الحديث عن أدق الأمور السياسية فإذا أجاب أتى بالعظائم، ويُسأل
الواعظ الخطيب عن أدق الأمور في العقيدة أو الفقه فيجيب بإجابات غير صحيحة
أو غير دقيقة، وكأن المفترض في هؤلاء أن الواحد منهم إذا أتقن علماً معيناً أن
يتقن باقي العلوم، وبالجملة فالناس يريدون أمة في رجل وينسون أن المواهب
والقدرات موزعة بين الناس، وقد لا تجتمع عدة مواهب إلا في الآحاد من الناس،
وقد يفتح الله -سبحانه وتعالى- على بعض بالخطابة المؤثرة التي تلبي حاجة
العاطفة والوجدان، وعلى الآخرين بالحديث المشوق الهادئ، ويتجه أناس نحو
الكتابة وعالم الفكر، والناس في هذا ما بين عالم ومتعلم، وكل يستفاد منه حسب
طاقته وحسب اختصاصه.
يروى أن الخليفة العباسي المأمون أراد من المؤرخ الواقدي حفظ سورة من
القرآن من أواسط المفصل فلم يقدر، فقال المأمون: هذا رجل فتح الله عليه في
التاريخ، وقد وصف أحد نقاد العلم علماء عصره وقدراتهم ومكانتهم فقال: سفيان
الثوري عالم بالحديث، والإمام الأوزاعي عالم بالسنة، والإمام مالك عالم بهما
جميعاً، فالأمر واضح عند هذا الجيل حول قدرات الناس ومكانتهم العلمية، فلا
يرفعون أحداً فوق مكانته، ولا يبخسون أحداً حقه، بينما نرى اليوم أن أي متكلم أو
خطيب مفوه يقال له: العالم الشيخ الدعية، وهذا خلط وتلبيس على الناس يجعلهم
يسألون ويستفتون من لا يصلح للفتيا والسؤال، حتى أن بعض من أسلم من
الأوربيين صار يُستفتى وهو أحوج ما يكون إلى تعلم الإسلام على أيدي العلماء.
كان أستاذنا الكبير محمد أمين المصري -رحمه الله- مدرساً للحديث النبوي
في قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية وقد سمعته يوماً يقول: إذا كان هناك
علماء فهو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أما أنا ف (طويلب علم) ، وهذا من
تواضعه -رحمه الله- وشدة تحريه ونقده، وكتابه (تفسير سورة الأنفال) يدل على
تحقيق وعلم غزير.
يجب أن يعلم المسلمون أن هناك علماء وهناك طلبة علم ... ومتحدثون..
خطباء وكتاب.. فتوضع الأمور في مواضعها، وترجع إلى نصابها، ويستفاد من
الطاقات كل في موضعه، فالشخصية المحببة للناس الذي يتقن فن العلاقات العامة
يصلح للتصدي لإرشاد الناس والتحدث إليهم، والمفكر الإسلامي قد يكون بعيداً عن
هذه الأجواء ولكن يستفاد منه في عمق الملاحظة ودراسة تطورات المجتمع وعلله
وخفاياه، وقد يطلب من العالم أكثر مما يطلب من غيره فالأصل فيه أن يكون
(ربانياً) يربي الأمة ويسوسها، فإذا لم يوجد فلنستفد من كلٍّ ومقدرته وما فتح الله
عليه به.(21/14)
من قضايا العلم والتعلم
بقية الحديث عن البديل
(3)
د. عبد العزيز القارئ
في غياب العلماء الربانيين، وفي ظل علماء الحاشية [1] تولد في نفوس
كثير من طلاب علوم الشريعة روح التمرد، فأعلنوا العصيان على العلماء.
ظاهرة واحدة لها جانبان متشابهان هما وجهان لشيء واحد: في غياب الفقهاء
المجتهدين، وفي ظل المقلدين الجامدين (المتعصبين لمذاهبهم لقلة علمهم) نشأ روح
التمرد على مدارس الفقه ومذاهبه كلها من أساسها، فوقعت أو تكاد تقع مهزلة فقهية.
وفي غياب العلماء الربانيين في ظل علماء الحاشية نشأ روح التمرد
والعصيان في نفوس المتفقهين وطلاب علوم الشريعة، ليس على العلماء فحسب،
بل على كل شيء، تمرد على جميع الضوابط، فإذا بأبرهة وجيشه، يعكر صفوهم، ويبدد اطمئنانهم هذا التمرد الذي أتاهم من حيث لا يحتسبون.
لاشك أنهم في حيرة دائمة: إن كان هناك علماء ربانيون فالخوف من الطيور
الأبابيل، وإن لم يكن فالخوف من انفلات روح التمرد من عقالها، ولعل هذه
مخوفة أكثر من تلك، لأن هذه بلا ضوابط، [ويَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ] .
وراح المتفقهون يعلمون أنفسهم بأنفسهم، ويربون أنفسهم بأنفسهم، وهذا أمر
غير ممكن، لا يستطيع أي صغير أن يرضع نفسه بنفسه، لا ينبت ريشه إلا في
المحاضن الصحيحة التي خلقها الله لذلك.
كل مجموعة ائتلفت من هؤلاء المتفقهين تجمعت حول نفسها تحاول التعلم،
ولكن أين المعلم، أين الرأس؟ .
رأى الإمام أبو حنيفة حلقة في المسجد فقال: من هؤلاء؟ قالوا: جماعة
يتفقهون. قال: هل لهم رأس؟ قالوا: لا. قال: لا يفقهون أبداً [2] .
في مجال علوم الشريعة عملية التعلم والتعليم أهم عنصر فيها هو (الرأس) ،
أي العالم المعلم، لأنه منوط به أمران مترابطان لا انفصام بينهما: التعليم والتربية: أي (التدبير والسياسة) [كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] [آل عمران / 79] .
قال ابن جرير: الربانيون هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين
والدنيا، ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار. لأن الأحبار هم العلماء، والرباني: الجامع إلى العلم والفقه البصر والسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما
يصلحهم في دنياهم ودينهم [2] .
هذا هو معنى (الرأس) : أي عالم رباني يسوس أمور المتعلمين ويدير شئونهم، ويربيهم ويعلمهم.
بدون هذا الرأس لا يفقهون أبداً، لأن الفقه في الإسلام ليس نظريات مجردة،
ولا قوانين جامدة، ولا معلومات منفصلة عن الحياة، إنه علم وعمل، علم أنزل
للتطبيق، وللحياة، ولذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقون
العلم والعمل معاً.
ولكن أمام ضغوط المجتمع الفاسد، وقصور البديل المتاح سواء كان تعليم
علماء الحاشية، أو التعلم بلا رأس: كثرت الآفات التي يصاب بها المتفقهون اليوم.
من أخطرها فساد المقصد: ومن أعجب مظاهر فساد المقصد هذا الحرص
العجيب على (الإمامة) ، والرئاسة العلمية، هل يلهث جميع هؤلاء لنيل الإمامة؟ .
تجد متفقهين يفترض أنهم في أول الطريق، حدثاء الأسنان، وإن لم يكونوا
حدثاء الأسنان فهم (حدثاء العقول) تجدهم يتعلمون أدوات الاجتهاد (أصول الفقه،
أصول الحديث، تخريج الحديث، علم الرجال، أدلة الأحكام، التفسير، أصول
التفسير ... ) قبل أن يتعلموا الفقهين: فقه التوحيد، وفقه الأحكام، مع أنهما
واجبان ليس على كل متفقه فحسب، بل على كل قادر على التعلم، بينما (الاجتهاد)
لا يجب على كل متفقه، بل لا يجوز أن يتصدى له أي متفقه حتى يكون أهلاً له،
ولا يكون أهلاً له حتى يجتاز مراحل علمية، ويستوفي شرائط معينة لا يسقطها
ضجر هؤلاء المتفقهين بها، لابد من ذلك وإن ضجر منه (حدثاء العقول) .
بعض العلماء المعاصرين ممن لم تتحقق فيهم صفة (الكفاية) ، أي الخبرة
والحنكة، لا أقول بعالم السياسة فحسب، بل حتى بأصول التربية (الربانية) ،
الحنكة والخبرة بتدبير شئون المتفقهين، بعض هؤلاء العلماء يشجعون ظاهرة طلب
الإمامة العلمية والجري وراءها من حدثاء الأسنان وحدثاء العقول تحت وهم أن ذلك
يشجع على حرية التفكير.
منذ عام 1381 هـ رأيت ماذا صنع هذا المسلك، وعشت في داخله متأثراً
حيناً، ومتفرجاً في أكثر الأحيان، وشاهدت بعيني ماذا فرخ لنا هذا الأسلوب في
تعليم المتفقهين، فرخ لنا جيلاً جدلياً من الأئمة الصغار - صغار الأسنان أو صغار
العقول - أتقنوا (الجدل) بدلاً من العلم، حتى إنهم كانوا يجتمعون حول (شيخ
الحديث) في بعض الرحلات البرية يجادلونه طوال الليل حتى مطلع الفجر في
مسائل معدودة لا يتجاوزونها، وأكثرها بينها الشيخ المذكور في كتبه التي صنفها،
لكنهم لا يقرأون، لأن القضية عندهم لم تصبح قضية التعلم، وإنما هي شهوة الجدل. حضرت يوماً درساً فقهياً لأحد أفاضل العلماء، وكان من عادة ذلك الشيخ أن
يخصص الوقت بعد صلاة العشاء للأسئلة، وتقدم فتى في سن (المراهقة) لم يخضرَّ
شاربه بعد، وبين الأذان والإقامة لم يطق صبراً حتى يأتي وقت الأسئلة بعد صلاة
العشاء، وحشر الفتى نفسه بين الصف حتى لاصق منكبي الشيخ، ثم سأل:
الفتى: هل تُشترط الطهارة لمس المصحف؟ .
الشيخ: نعم.
الفتى: ما الدليل؟ .
الشيخ: قوله تعالى: [لا يمسه إلاَّ المُطَهَّرُونَ] ، وحديث: «ألا يمس
المصحف إلا طاهر» .
الفتى: أما الآية فلا دليل فيها لأن المراد بها اللوح المحفوظ، وأما الحديث
فالمراد به ألا يمسه إلا مسلم بدليل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن حمل
المصحف إلى أرض العدو.
والتفت إليه الشيخ فإذا هو فتى حدث السن، فتبسم وقال له: ما الذي ترجح
أنت؟ .
الفتى: أنه لا تشترط الطهارة لمس المصحف.
الشيخ: أعمل بما ترجح لديك.
هذا الأسلوب في تربية الشباب المبتدئين كان يمكن أن يخرج علماء متحرري
الفكر، لو كان أسلوباً صحيحاً سليماً، لكن التجربة التي شاهدتها بنفسي وعشت
داخلها متفرجاً في أغلب الأحيان أثبتت أنه إنما يُفرَّخ (جدلِيين) بلا علم، وأحياناً
يفرخ أدعياء مغرورين يملئون الدنيا ضجيجاً وجدالاً، وربما كتباً، كل ذلك بلا علم
ذلك لأنه فتح باب الاجتهاد على مصراعيه فدخله كل من هب ودب، كأنما هي
دعوة (الجَفَلَى) إلى الاجتهاد.
فكان من ظواهر هذا المسلك العجيب أمران عجيبان:
أولهما: أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها
ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحاً ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون
القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يقصدون
للفتوى والتصنيف في الحلال والحرام، نعم إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس
محتكراً لطبقة من الناس، فلا (كهنوت) في الإسلام، تدبر القرآن والتفقه في الدين
مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف شيء
آخر.
الفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة كل ذلك (حكر) على أهله،
وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية (العلمية) حسبما يقرره أهل الاختصاص،
وحسب الضوابط والقواعد التي اصطلحوا عليها، واستمر العمل بها إلى اليوم.
ثانيهما: أنه نتيجة لهذا المسلك العجيب في التعليم الذي جعل الدعوة إلى
الاجتهاد (الجفلى) ، أصيب طلبة العلم أنفسهم بداء العجلة وسقوط الهمم، ونفاد
الصبر، أو قل عدمه بالكلية، أصبحت صدور طلبة العلم ضيقة، وهممهم ساقطة
هزيلة، لم يعد هناك صبر ومصابرة، ولا جلد على طلب العلم والجلوس عند رُِكب
المشايخ، وملازمتهم لأخذ العلم والعمل عنهم، أصبح طلاب العلم اليوم لا يقدرون
على إكمال متن -أي متن -في أي علم من العلوم.
وهكذا مع ضعف الهمم، بل سقوطها، ومع عموم البلوى بداء العجلة
أصبحت هياكل التعليم الديني (الرسمية) يمكن أن تخرج متخصصين بالسنة النبوية
لا يحفظون حتى خمسمائة حديث، ولم يقرأوا أمهات الحديث، ويمكن أن تخرج
متخصصين بعلوم القرآن والتفسير لا يحفظون القرآن، وقد يخطر في بال أحد من
(دهاقنة) هذه الهياكل أن يخرج قراءً لا يحفظون القرآن، ومعظم (كليات الشريعة)
اليوم تخرج متخصصين بالفقه لم يكملوا دراسة الفقه، ولو على مذهب واحد من
المذاهب المعتبرة.
نصف محدث، ثلث قارئ، ربع فقيه، بعض نحوي أو أديب. أدباء لا
يحفظون المعلقات ولا اللاميتين ولا المقصورة، نحويون لا يحفظون الألفية ولا
الكافية الشافية بل ولا المُلْحَة أو الاجْرُومية، قراء لا يحفظون الشاطبية ولا الدرة
ولا المقدمة، بل ولا حتى القرآن.
محدثون لا يحفظون عمدة الأحكام ولا بلوغ المرام، بل ولم يقرأوا من السنة
شيئاً ولو نظراً. فقهاء لم يكملوا شيئاً من المتون على أي مذهب من المذاهب
المعتبرة: العمدة أو الزاد أو منار السبيل، الهداية أو القدوري، المنهاج أو المهذب، المختصر الخليلي أو الرسالة.
الناس جميعاً في عجلة من أمرهم، ولذلك لجأوا إلى الاختصار، اختصار كل
شيء، العلم اليوم مختصر، والدين مختصر، والعلماء مختصرون، وما لا يمكن
اختصاره، يلغى.
نحن المسلمون اليوم نمارس بعضاً أو جزءاً من الحياة الإسلامية الكاملة،
وهذا القصور أو النقص يسري في كل شيء، ومن مظاهره قصور عملية التعليم،
وهذا النقص الفادح الذي أصابها.
والعجيب أنه صاحب كل ما ذكرنا من ظواهر: ظاهرة أخرى أعجب وأشد
نكاية بكل من يحلم مثلي بالتعلم على طريقة السلف:
بعض الحمقى من المتفقتهين الذين اشتهوا التصدر للفتوى والاجتهاد وأرادوا
التصدي للتصنيف والتأليف بلغ من هوس العجلة في العلم عندهم أن أرادوا تحت
تأثير تلك الشهوة إلغاء سلم التعلم الذي صنعه السلف، اختصاراً للطريق، لأن
هممهم ساقطة مثل غيرهم، لكنهم يطلبون الإمامة، شهوة الإمامة ركبتهم وتسلطت
على عقولهم، وهذا السلم الذي صنعه ونظمه السلف طويل، يحتاج إلى همم عالية، وإلى صبر ومصابرة، وهم لا يستطيعون صبراً، فأرادوا القفز من فوق الجدران:
- من كتب الحديث اختاروا: نيل الأوطار، وربما سبل السلام.
-ومن كتب الرجال: تقريب التهذيب.
- ومن كتب أصول الفقه: إرشاد الفحول.
وكل هذه المصنفات - إن كنت تعرفها - من أدوات الاجتهاد، أعني أنها
مصنفات تصلح للمجتهدين لا للمبتدئين، أو المتفقهين الذين كل همهم الامتثال
وإبراء الذمة.
أدلة الأحكام، وكتب الرجال، وأصول الفقه، هذه أدوات للمجتهد الذي انتهى
من تعلم الأحكام - أي الفقه -، ومن تعلم العقيدة، ومن تعلم علوم الوسائل.
وهل تظن أن هؤلاء المتعجلين يقرأون هذه الكتب، ومعظمها للشوكاني -
رحمه الله- أو يفهمونها؟ إنهم مجرد صيادين، يتصيدون المسائل تصيداً بلا فقه
وبلا قريحة صحيحة، أو ملكة علمية سليمة.
وليتهم سكتوا، أو أن الأمر كان ضرره مقتصراً عليهم، لكنهم تصدروا
للفتوى والترجيح والاجتهاد، وشرعوا يناقشون الآراء والمذاهب، ودخلوا في علم
الخلاف، وهو من العلوم التي لا يقوى عليها إلا فحول الفقهاء، ولما كانت القرائح
فجة نيئة لم تستو بعد فقد عجزوا عن إدراك مغازي الكلام ومراميه، فراحوا
يخطئون العلماء، ويردون على فحول الأئمة وكبار الفقهاء دون وجل أو أدب.
إن العجلة في العلم، مع سقوط الهمم، وقلة الجلد، وعدم الصبر على التلقي
، مع تحكم شهوة طلب الإمامة وحب الرئاسة العلمية الذي تحكم في القلوب، وما
في ذلك من فساد المقصد، كل ذلك وفي ظل أصحاب ذلك المسلك العجيب من
المعلمين الذي وصفناه بالدعوة إلى الاجتهاد (الجفلى) والذي لا يتاح للمتعلم في ظله
تعلم العلم ولا تعلم الأدب كل ذلك أدى إلى هذه الفوضى العلمية وهذا الهزال العلمي
الذي عمت البلوى به اليوم.
كنا مع أحد شيوخنا جلوساً في الصحراء قريباً من طريق المسافر إلى الرياض، وحضرت صلاة المغرب فقمنا نصلي بعد أن أذن أحدنا، ومرت (سيارة) بها مسافرون، فلما أبصروا جماعة الصلاة أوقفوا ركبهم وانضموا إلى الصلاة، وبعد
فراغنا من الصلاة قال أحدهم موجهاً كلامه إلى شيخنا المذكور:
أفتني يا مُطوع أنا سائق السيارة (التاكسي) وأنا مستوطن بالمدينة وأهلي بها، وأنا دائماً مسافر بينها وبين الرياض لا أستقر بحكم عملي ومهنتي يوماً كاملاً في
بلد، ورمضان على الأبواب، فهل أصوم وأنا مسافر؟ .
وقبل أن يتنفس الشيخ، تعجل واحد منا - وهو مثلنا من تلاميذه - فأفتى
السائل بما يأتى:
الأفضل أن تفطر أخذاً بالرخصة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«ليس من البر الصيام في السفر» ، فتفطر وتقضي بعد رمضان.
- قال السائل: لكنني مسافر دائماً، ويثقل على حبس نفسي شهراً كاملاً
للقضاء.
-المفتى المتعجل: هذا هو حكم الشرع، الأفضل أن تفطر ثم تحبس نفسك
بعد رمضان شهراً للقضاء. والتفت السائل إلى شيخنا الذي كان يتفرج على تلميذه
حانقاً، وقال: أنت يا شيخ ماذا تقول أفتني؟
قال له الشيخ: تصوم رمضان في وقته لابأس بذلك، لأنك في حكم المقيم.
وفرح السائل بعد أن سمع هذه الفتوى، وظهر الارتياح على وجهه وقام
منصرفاً وهو يدعو للشيخ كأنما وهبه الشيخ مالاً.
وجادل التلميذ المتعجل شيخه بعد انصراف الركب، فقال الشيخ: مادمت
ستلزمه بالإقامة شهراً للقضاء فلم لا يكون هذا الشهر هو رمضان ويصومه أداء لا
قضاء، ثم ما الداعي لإلزامه بالإقامة وحبسه عن طلب الرزق، وليس في صيام
المسافر لو صام حرج، فكيف وهذا حاله أشبه حال المقيم من جهة أن هذا دأبه دائماً
وعادته، هو ليس شيئاً طارئاً عليه.
بل شاهدت مثلاً آخر أعجب من هذا، كان ممن فرخهم هذا المسلك الذي
وصفت آنفاً: رجل من العوام، كان يعمل بواباً على باب (كلية الشريعة) بالمدينة
النبوية، التي درسنا بها أيام الصبا والشباب، وكان هذا البواب رجلاً صالحاً محباً
لحلقات العلم مداوماً على مجالسة المشايخ، ولكن دون أن يتفقه، وإنما هو مستمع
فقط.
وكان مما سمعه من بعض المشايخ أهل ذلك المسلك العجيب أن على كل مسلم
أن يجتهد على قدر طاقته في تبليغ العلم، وأن الشروط التي اشترطها الفقهاء ما
أنزل الله بها من سلطان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بلغوا عني ولو
آية» ، وفهم صاحبنا من هذا الكلام أن هناك تفويضاً شرعياً لمثله أن يفتي حسب
علمه وطاقته، فجلس بين العوام يُذكِّر ويفتي.
إذا وعظهم ربما أفادهم، لكنه حين يفتي كان يأتي بالعظائم، وسمعت بذلك
فأنكرته في نفسي، فكنت إذا رأيته على باب (كليتنا) أداعبه ببعض غوامض
المسائل، ثم أقول له: يا أبا فلان إياك أن تفتي فتهلك الناس، فالعلم كما ترى
يحتاج إلى التعلم أولاً.
وحضرت يوماً مع صديق لي من طلاب العلم عشاءً في بيت من بيوت البدو
القاطنين في شرق المدينة النبوية، وكانت جلسة بدوية، في فناء واسع مكشوف،
وفي ظلمة الليل البهيم، لا يهتك ستر ذلك الظلام إلا خيوط من ضوء الحطب الذي
كان يشتعل وسط حلقة الضيوف، وعلى جوانبه أدوات (القهوة) ، لكن تلك الأشعة
الضئيلة المنبعثة على استحياء من شعلة النار المتصاعدة من حول (دلال القهوة) لم
تكن كافية لأن نتبين الجالسين ونحن نأخذ مجلسنا بينهم، إلا أن صوت المتكلم الذي
كانوا جميعاً يصغون إليه وهو يفتيهم ويجيب على أسئلتهم كان يشبه صوت بواب
(كلية الشريعة) ... عجباً أبو فلان لا يزال يفتي الناس؟ ! .
قال له سائل بدوي:
-أنا يا مطوع إذا كنت ماشياً في أرض منقطعة موحشة لا أنيس بها ولا أحد
ولا أثر لحياة ولا لأحياء، ثم وجدت فتاة كلها فتنة جالسة في ذلك القفر الموحش،
واستنجدت بي وطلبت مني أن آخذها معي لأوصلها إلى أهلها فهي ضائعة، وأنا
شاب أخشى الفتنة، ولو أمنت على نفسي الفتنة لم آمن من كلام الناس وتهمتهم لي
إن أنا أقبلت بها عليهم. فماذا أفعل؟ أأتركها فتهلك، أم آخذها مع خوفي من نفسي
وخوفي على نفسي وطربت لهذا السؤال، وعجبت من فصاحة هذا البدوي في
صياغته وإلقائه مع أن موضوع السؤال يعد من الواقعات التي يصادفها البدو أحياناً، فهي ليست صورة خيالية، وقلت في نفسي. الآن نسمع العجائب من فقه بواب
(كلية الشريعة) . قال البواب المفتي:
- تتركها ولا تأخذها لأن العلماء قالوا: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وضحكنا أنا وصديقي من هذا الجواب، وبينما كان السائل البدوي يناقش هذا
المفتي العجيب، ويراوده عله يغير فتواه كأنما الفتاة التي تصورها في السؤال ملقاة
فعلاً في الفلاة تنتظر الفتوى، قال لي صديقي: لا يحل لنا السكوت.
قلت: يا أبا فلان، هذه الواقعة فيها دليل من السنة.
فلما سمع صوتي قال: ها.. هنا بعض المشايخ إذن هم أولى بالفتوى مني
اسمعوا منهم.
وأكملت تعليقي على فتواه:
لما مر صفوان بن المعطل السلمي ووجد أم المؤمنين عائشة -رضي الله
عنها- في الفلاة، وكان الركب قد مضوا إلى المدينة النبوية وحملوا هودجها ولم
ينتبهوا إلى خلوه منها لخفة وزنها، فجلست أم المؤمنين متلفعة بجلبابها حتى مر بها
صفوان، فلما رآها وعرفها استرجع، ولكنه لم يتركها، بل أناخ جمله ثم تنحى
عنها حتى ركبت، وأخذها إلى المدينة دون أن يلقي بالاً لما يمكن أن يقوله
المنافقون، وفعلاً هذه الواقعة هي التي استغلها المنافقون فرموا أم المؤمنين عائشة
بالإفك، ثم أنزل الله براءتها من فوق سبع سموات قرآناً يتلى إلى يوم الدين ...
فلا يحل إذن للسائل أن يترك تلك الفتاة معرضة للهلاك أو حتى للفساد إذ قد
يمر بها فاسق، وذلك من أجل مفسدة متوهمة، بل يتوكل على الله ويأخذها معه
ويوصلها إلى أهلها وأجره على الله.
__________
(1) أي حاشية السلطان، كما بيناه في الحلقة السابقة.
(2) تفسير ابن جرير: 3/327.(21/16)
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
-6-
محمد العبدة
ذكرنا في الحلقة السابقة رأي مالك بن نبي في الثقافة وكيف توجه، ونتابع في
هذه الحلقة رأيه في توجيه العمل ورأس المال، والخطوط العريضة للإقلاع
الاقتصادي.
أهمية الاقتصاد:
لم يعد الاقتصاد في العصر الحديث من الأمور الثانوية، وما كان كذلك في
القديم، ولكن العصر الحديث زاده أهمية وزادت مشاكله حدة بسبب التقارب
الجغرافي، وظهور مذاهب الرأسمالية والاشتراكية التي جعلته من المحاور الرئيسية
في حياتها، وبسبب جشع الغرب ومحاولته إبقاء دول العالم الثالث مستهلكة لإنتاجه
(فأوربا التي تكتلت في القرن الحادي عشر من أجل الزحف الصليبي وتكتلت في
القرن التاسع عشر في الميثاق الاستعماري، تعود اليوم إلى تكتل جديد في صورة
(السوق المشتركة) في الظاهر من أجل الصمود في وجه الاقتصاد الأمريكي
والياباني وفي الواقع من أجل الزحف الاقتصادي على مناطق الحضور الأوربي
سابقاً (العالم الثالث والإسلامي بوجه خاص) لترسي فيها دعائم وجود أوربي جديد
بوسائل الاقتصاد) [1] .
وليس هذا موضع تفصيل نظرة الإسلام إلى الاقتصاد ولكن الذي لاشك فيه أن
دولة أو أمة تعيش على فتات الموائد والإعانات من القمح والدقيق والقروض من
البنك الدولي، كيف يتسنى لها الاستقلال السياسي، وكيف تبقى بعيدة عن ضغوط
الشرق والغرب.
كان الطلب على الحاجات قليلاً في الماضي، ولم تقع الشعوب الإسلامية
فريسة\ الاستهلاك، وبسبب التخطيط الاقتصادي الفاشل صار الفلاح ينتظر لقمة
العيش من أمريكا، وقد كان في السابق مكتفياً هو وأسرته في مزرعته وأرضه (فالعالم الإسلامي يواجه اليوم (حالة إنقاذ) تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في
المجال الاقتصادي) [2] .
ونحن لا نضخم من دور الاقتصاد، ولكن ألم يكن كبار الصحابة تجاراً
ومزارعين، ولابد من إعمار الدنيا بالقدر الذي لا تنخرم فيه أمور الدين أو أمور
الآخرة، وكيف يكون المسلم عزيزاً إذا كان جل اعتماده على الكفار.
الاقتصاد اليوم أصبح علماً قائماً بذاته، والظروف الحالية تتطلب تخطيطاً
اقتصادياً يناسب حاجات وموارد بلادنا، وإذا كان الغرب يسخر الاقتصاد للرفاهية
والاستغلال، فلماذا لا يسخره المسلمون للاستقلال ونشر الدعوة والجهاد. الإقلاع الاقتصادي:
ولأهمية هذا الموضوع كان السؤال المتبادر: كيف ينهض المسلمون
اقتصادياً؟ وكيف يكون لهم اقتصاد مستقل؟ فالعالم من حولهم في سباق رهيب، المنتجون في الشمال على محور (واشنطن - طوكيو) يريدون بقاء العالم الآخر (محور: طنجة - جاكرتا) المحطة الرئيسية للاستهلاك، (والمسلم في أول هذا القرن لاهو بالمنتج الذي يرعى حقه، ولا المستهلك الذي ترعى حاجته، لقد كان أداة عمل مستمر فقط، ولم يتكون لديه وعي اقتصادي ولا تجربة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه) [3] .
وعندما حاول العالم الإسلامي النهوض تعثرت خطواته كثيراً، وفشلت
التجارب التي لم تأت عن دراسة لواقع المسلمين الثقافي، بل أخذت من الشرق أو
الغرب كأنها (وصفات) جاهزة لتطبيقها في أرض غير أرضها، قامت صناعات
قبل أن توفر الغذاء للعامل في المصنع، واستقدموا الخبير الألماني (شاخت) ليطبق
نظرياته في أندونيسيا، ولكنه فشل لأن تجربته كانت مع الشعب الألماني وليس مع
الشعب الأندونيسي.
ومن الناحية النظرية، وعندما يكتب المسلمون عن الاقتصاد يبدو تأثير
النظريات الغربية، فهم يحاولون دائماً إثبات أنه يمكن أن تقوم بنوك دون ربا،
واستثمار دون ربا فكأن قضية المال هي الأساس الأقوى في الاقتصاد، ولا
يعرجون كثيراً على موضوع الإنسان الاجتماعي (فالمعنى الاقتصادي لم يظفر في
ضمير العالم الإسلامي بنفس النمو الذي ظفر به في الغرب) [4] أو لا يعرجون
على العمل وأهميته (فالعمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي) [5] (وعندما كان المسلمون الأول يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول ساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية) [6] .
وفي مجتمع ناشئ (فإن كلمة أجر تفقد معناها، لأن العامل لا علاقة له بصاحب عمل ولكن بجماعة يشاطرها بؤسها ونعماها، فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وإزالة الأذى عن الطريق عمل، وغرس شجرة عمل، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل ... وهكذا) [7] ..
توجيه رأس المال:
يفرق مالك بن نبي بين مصطلحي الثروة ورأس المال، فالأول يستخدمه
الفرد في ميدانه الخاص مثل عقاره أو قطيعه أو ورشته (فالثروة لا تسعى لغايتها
كقوة مالية مستقلة، بينما رأس المال ينفصل عن صاحبه ويتسع مجاله ليخلق حركة
ونشاطاً، ويوظف الأيدي أينما حل وحيثما ارتحل) [8] فالثروة مال ساكن، ورأس
المال مال متحرك، والمطلوب من المسلمين توجيه المال في خدمة الاقتصاد
الإسلامي (فالقضية ليست في تكديس الثروة ولكن في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة البسيطة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل) [9] وقد نتج عن عدم توجيه (المال) أن (زاد أغنياء المسلمين على فقرائهم في العطل برغم ما يملكون من ثروات، فكثير منهم لا يهتمون بتولي طفل مسلم لتربيته تربية علمية) [10] (والأموال تنفق في توافه الأشياء وتترك المشاريع ذات النفع العام كالمدارس والمستشفيات إنها مشكلة توجيه رأس المال، إنها مشكلة نفسية وليست مالية) [11] .
ومع هذه الدعوة إلى توجيه رأس المال إلا أن مالك يحذر الدول (من اختيار
مبدأ التنمية الرأسمالية لأنها تكون كما لو قررت مبدئياً أن تضع عملها من أجل
النهوض الاقتصادي في سجن المؤسسات المالية العالمية) [12] بل يرى أن ...
المشكلة ليست في المال ولكن في تعبئة الطاقات الاجتماعية، والرصيد الأساسي هو
الإنسان، (لو سمح لى أن ألخص وجهة نظر عبّرت عنها منذ ربع قرن لقلت أنه
ليس من الضروري (ولا من الممكن) أن يكون لمجتمع فقير المليارات من الذهب
كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا تستطيع الأيام أن تنقص من قيمته شيئاً، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان والتراب والوقت) [13] (إن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان، وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات) [14] .
وبمثل رأي مالك هذا قال ابن خلدون في مقدمته: (الكسب هو قيمة الأعمال
البشرية، والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما
آية من كتابه [وسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ] وسخر لكم
الأنعام، ويد الإنسان مبسوطة على العالم) [15] .
الزراعة والصناعة:
إن ظروف العالم الإسلامي تقتضي عندما يريد النهضة الاقتصادية أن يبدأ
بالزراعة، فهي الأساس، وهي التي تمده ببعض المواد الخام، وهي التي تحميه
من الضغوط الاستعمارية، هذا هو رأي مالك بن نبي الذي يكرره كثيراً في كتبه،
يقول:
(والأرض هي الوسيلة المأمونة - كما يقول اليوم الاقتصاديون الذين
يدرسون مشاكل العالم الثالث - لضمان (إقلاع) مجتمع ما من مرحلة أولية إلى
مرحلة ثانوية) [16] (ولكي يصل الاقتصاد إلى مرحلة التصنيع فليس له ما يعتمد
عليه سوى الزراعة من ناحية والمواد الأولية (الخام) من ناحية أخرى، وهذان هما
ثديا الاقتصاد الإسلامي على العموم) [17] .
وتجربة الجزائر هي أكبر مثال على ذلك حين اهتم بالصناعة وأهمل
الزراعة، ووجد الشعب والعمال أن المواد الضرورية للغذاء غير موجودة.
لاشك أن وجهة نظر مالك بن نبي صحيحة بشكل عام، ولا أظنه يعني أنه
لابد من استكمال الزراعة حتى نبدأ بالصناعة، ولكن الزراعة هي الأساس، وهذا
شيء طبيعي بالنسبة للعالم الإسلامي، فضعفه في الزراعة ومحاولة الانتفاش أنه
صناعي جعلته يستجدي أخيراً المواد الغذائية من الغرب.
لم يقدم مالك بن نبي هنا نظرية متكاملة في الاقتصاد، بل إشارات وخطوط
عريضة فقط، بل نستطيع القول أنه بسط الأشياء أحياناً، وهي أكثر تعقيداً وخاصة
في ظروفنا الحالية. كما أنه وبسبب (السذاجة السياسية) وقع في غلطة كبيرة عندما
ظن أن ما قام به قادة انقلاب (23) يوليو في مصر مما سمي ب (الإصلاح
الزراعي) سيكون خطوة كبيرة في طريق الإصلاح الاقتصادي، إن ما قام به هؤلاء
لا يعدو أن يكون ارتجالاً وتشنجات نفسية ضد الإقطاع وليس نابعاً عن خطة
مدروسة فضلاً عن أن تكون خطة إسلامية، وقد خرجت مصر بعد ذهابهم أضعف
اقتصاداً مما كانت عليه يوم جاؤوا، ولكن مالك الذي عاش في الغرب يفرح بأي
خطوة يخطوها أهل المشرق مما يظن أنه من الإصلاح.
لم يعش مالك حتى يرى انهيار المجتمعات الاشتراكية، سواء في الشرق أو
في البلاد العربية، وانهيار الاقتصاد المزيف، وطبعاً لا تغني الوصفات من
الرأسمالية فالأمل هو في المجتمعات الإسلامية التي (تعيد إلى عالم الاقتصاد
أخلاقيته، ويتلافى بذلك الانحرافات الإباحية التي تورطت فيها الرأسمالية، كما
ينجو من ورطة الماركسية المادية التي سلبت الإنسان ما يميزه عن الآلات
والأشياء) [18] .
__________
(1) مالك بن نبي: المسلم في عالم الاقتصاد / 102.
(2) المصدر السابق / 99.
(3) المسلم في عالم الاقتصاد / 7.
(4) المصدر السابق / 16.
(5) شروط النهضة / 162.
(6) المصدر السابق / 162.
(7) شروط النهضة / 163.
(8) المصدر السابق / 167.
(9) المصدر السابق / 172.
(10) وجهة العالم الإسلامي / 81.
(11) المصدر السابق / 83.
(12) المسلم في عالم الاقتصاد / 72.
(13) مالك بن نبي الرشاد والتيه / 60.
(14) المسلم في عالم الاقتصاد / 73.
(15) المقدمة 2 / 905.
(16) مشكلة الأفكار / 40.
(17) المسلم في عالم الاقتصاد / 24.
(18) المسلم في عالم الاقتصاد / 85.(21/26)
مراجعة في عالم الكتب
قيام وسقوط القوى العظمى
[1]
بول كنيدي
عرض وتعليق: طارق عبد الحليم
حين تعيش أمة من الأمم حاضرها وتبني مستقبلها، وهي ذاهلة عن ماضيها،
معرضة عن تراثها بكل ما تحمله الكلمة من معان، فإنها تكون كالنبتة التي اجتثت
من فوق الأرض، وانقطعت عن أصولها، ففقدت أصالتها وهويتها التي تعينها على
البقاء، لذلك لن تلبت إلا أن تموت.
وحين تغفل أمة عن حاضرها ومستقبلها، وتكتفي بأن تعيش على ذكريات
ماضيها السالف؛ تجتر أحداثه وتردد ما كان لها به من مجد مؤثل دون أن تستلهمه
العبرة لحاضرها ومستقبلها، ليكون بناؤها مؤسساً على قواعد راسية، فإنها تكون
كمن يُخدع بالسراب حتى يموت ظمأ.
والأمة القوية - أمة الوسط - تصل ماضيها بحاضرها، وتمهد بهما معاً
طريق المستقبل، من هنا تبرز أهمية علم (التاريخ) الذي يعرض أحداث الماضي
كما كانت، ثم علم (فلسفة التاريخ) الذي يحاول استجلاء السنن الاجتماعية الكامنة
وراء تلك الأحداث، كما يحاول علم الفيزياء أن يستنبط السنن الطبيعية التي سنها
الله -سبحانه- لعالم المادة ... ومن هنا كذلك، تظهر أهمية التعرف على ما يستجد
من محاولات في هذا الباب.
من هذا المنطق، وحرصاً على اطلاع القارئ على ما يستجد من مساهمات
بارزة في هذا المجال، فإننا نقدم - في هذا المقال - كتاباً احتفلت به الدوائر العلمية
والثقافية في العالم أجمع، بل وأشار الكثير منها إلى أنه يعد من أهم الأعمال
المتعلقة بالتاريخ السياسي والاقتصادي العالمي في هذا القرن. والكتاب بالفعل جدير
بأن يطلع عليه المسلمون للتعرف على ما يقدمه الغربيون من تفسير للتاريخ
الاقتصادي السياسي وما يتوقعونه، بناء على ذلك التحليل لصورة العالم في العقود
القادمة.
أولاً: العرض:
ينقسم الكتاب الذي يقع في 698 صفحة من القطع المتوسط، إلى ثلاثة أقسام
رئيسية هي: الاقتصاد والاستراتيجية في عالم ما قبل التصنيع، وفي فترة التصنيع، واليوم وغداً، هذه الأقسام الثلاثة مقسمة بدورها إلى ثمانية فصول، سنقوم ...
بعرض محتوياتها في السطور التالية.
في البداية يقرر الكاتب بإيجاز أن القوى النسبية بين الأمم الدائرة في العالم لا
تظل ثابتة، وذلك لاختلاف معدل النمو بين تلك الأمم، إلى جانب الطفرات
التكنولوجية التي تميز مجتمعاً عن الآخر، ثم يبسط المؤلف نظريته عن ظاهرة
بروز قوة دولية جديدة على المسرح العالمي، واندفاعها لتقهر من حولها ولتحتل
مكاناً بارزاً بين بقية القوى العظمى بأنها ترجع إلى ذلك التوازن الدقيق بين القوة (العسكرية) لتلك الأمة وبين قوتها (الاقتصادية) . وبشكل أكثر تفصيلاً فإن الانفاق
القومي على القوة العسكرية التي تحفظ كيان مجتمع ما يجب أن يتوازن مع ما تنفقه
تلك الأمة في سبيل تنمية مواردها الاقتصادية وتقدمها العلمي التكنولوجي، والخلل
في تلك النسبة - لصالح أي الطرفين - هو السبب الرئيسي في اندحار تلك الأمة
وأفول نجمها، إذ لو طف ميزان القوة العسكرية لصالح التقدم العلمي والاقتصادي
لصارت الأمة نهباً للطامعين ومرتعاً للغازين المترصدين لها من كل جانب، ولو
تغلبت آلة الحرب العسكرية على المؤسسات الاقتصادية والعلمية، وابتلعت قوة
الأمة لصالحها، فإنها لن تلبث وسائلها وأجهزتها العسكرية أن تغدو قديمة أمام ما
يستحدث من وسائل متطورة في حوزة الأمم الأخرى، مما يجعلها تقهر عاجلاً أو
آجلاً.
هو إذن ميزان دقيق يتراوح بين القوة العسكرية ودرجة التسلح من ناحية،
وبين القوة الاقتصادية التي تحفظ على الأمة مواردها وتقدمها من ناحية أخرى،
وكلاهما مكمل للآخر، وكما يقرر المؤلف (آسفاً) فإن القوة لازمة لضمان التقدم
والرفاهية، كما أن التقدم المادي ضروري لحيازة القوة وضمان سيطرتها.
ويرسم الكاتب في الفصل الأول صورة متكاملة للمسرح العالمي حوالي عام
1500 ميلادية، حيث تركزت القوى العظمى في خمسة مراكز: امبراطورية مينج
الصينية، الامبراطورية العثمانية وتوسعاتها في الهند، امبراطورية مسكوفي في
شمال آسيا، ودولة تاكوجلوا باليابان.. إلى جانب تلك المجموعة من الدويلات
المستقلة المتناحرة في غرب أوربا، تلك المجموعة التي لم يكن هناك في ذلك
الوقت ما يدل أي دلالة على أنها ستحتل المركز القيادي الذي تحتله في عالم هذا
القرن، ولعل أهم ما ميزها عمن حولها من قوى عظمى هو أن تلك القوى كانت
تعاني من عيوب السلطة المركزية التي بنيت -كما يرى المؤلف - على أسس
فكرية عملية، نمطية لاتسمح بإبداع أو تغيير ليس فقط في مجال الدين أو المعتقدات
بل حتى في المجالات التجارية والعسكرية.
ويرجع الكاتب السبب في تطور أمم أوربا الغربية إلى ذلك التحرر السياسي
من وطأة أية سلطة مركزية عليا، مما جعلها تنمو وتندفع في طريق التقدم دون
عوائق، كذلك بسبب تلك المخاوف التي كانت تسودها من جيرانها، فإنها قد حققت
تطوراً في مجال التسلح بشكل متصاعد، جعلها تسيطر أخيراً على العالم المتحضر.
وقد قاومت أوربا بالفعل محاولتي السيطرة اللتين هددتا الاستقلالية الأوربية
من قبل الأسبان وعائلة هابسبورج النمساوية خلال فترة المائة والخمسين عاماً
التالية للقرن السادس عشر، وكادتا أن توقفا عملية التقدم التي كانت قد بدأت تشق
طريقها بالفعل، كما أوضح الكتاب في فصله الثاني.
أما الفصل الثالث فقد عالج الفترة بين 1660 1815 م، حيث أخذت بعض
القوى العظمى في الانحدار، مثل أسبانيا وهولندا، وظهرت قوى أخرى هي:
انجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا؛ تلك القوى التي حكمت حركة العالم
خلال القرن الثامن عشر. وقد عزا المؤلف ذلك لحسن إدراك تلك القوى لما يحتاجه
عصرها من سيطرة بحرية، وحيازتها لأساطيل هائلة تجوب البحار بحثاً عن
الموارد الاقتصادية الجديدة.
وقد أشار الكاتب في الفصل الرابع إلى ذلك التوتر النسبي الذي ساد العالم -
خاصة الولايات المتحدة وروسيا في محاولة توحيد الكتلة الجغرافية السياسية لكل من
الدولتين - خلال القرن التاسع عشر، وما مهد لانجلترا أن تحتل موقع الريادة في
الاستفادة من الثورة الصناعية ومنجزات عصر البخار للدرجة القصوى سواء على
الصعيد الاقتصادي أو العسكري، وفي هذه الفترة ذاتها تخلفت دول كإيطاليا وفرنسا
عن مركز الريادة لتحتله قوى أخرى قد تكون هي الوحيدة التي أُهلت في هذه الفترة
لتشق طريقها في سبيل إحراز القوة والسيطرة؛ وهي ألمانيا إلى جانب الولايات
المتحدة وروسيا واليابان خارج نطاق أوربا الغربية.
وقد تميز النصف الأول من القرن العشرين بأنه كرس (عالم القطبين)
الشرقي والغربي، بعد ظهور القوة الأمريكية الهائلة على مسرح السياسة الدولية،
وكذلك دولة روسيا تحت النظام البلشفي. أما ألمانيا فقد أجبرت القوى الكبرى أن
تقف في وجهها لتمنعها من تحقيق سيطرة امبراطورية مركزية لم يعد أوانها في عالم
القرن العشرين كذلك تميزت تلك الفترة بما أسماه الكاتب (أزمة القوى الوسطى)
وهي الدول التي لم تبلغ مدى القوى العظمى في الاقتصاد والقوه، ولم تنحدر إلى
حد التخلف والتبعية كما هو حال (الدول النامية) .. وهو موضوع الفصلين
الخامس والسادس.
ويلقي الكتاب في فصليه الأخيرين الأضواء على عالم السبعينيات
والثمانينيات، محاولاً التنبؤ بناء على الرؤية التاريخية والمعطيات الحاضرة، بما عساه يكون صورة للقوى العظمى الآخذة في الظهور والأخرى الآخذة في الانحدار والأفول.
ويقرر المؤلف أن مركز الثقل العالمي يتحرك باتجاه دول منطقة الباسفيك -
شرقية وغربية - كاليابان في المقدمة، وهونج كونج وسنغافورة والصين، وكذلك
الولايات الشرقية الباسيفيكية لأمريكا وكندا، وهو يؤيد ذلك بإحصائيات عديدة تؤكد
أن معدل النمو الاقتصادي لتلك الدول يتجاوز معدلات نمو بقية الدول حتى العظمى
منها بدرجة كبيرة، ويعلل الكاتب ذلك حسب نظريته في التوازن الاقتصادي
العسكري بعدم إنفاق تلك الدول على ميزانيات دفاعها ما يخل بذلك التوازن.
ثانياً: التعليق:
وقد قصدنا - بعدما قدمناه من عرض سريع لمادة الكتاب وموضوعه -إلى
تقديم بعض الملاحظات، وإبراز بعض النقاط التي تعين القارئ على استكمال
الفائدة منه، كما تعين قارئ المقال على إعمال الفكر فيما أثرناه، من خلال عرضنا
للموضوع وتعليقنا عليه.
وأول ما نثبته من الملاحظات هو أن الكتاب يعتبر تحليلاً للتاريخ الاقتصادي
السياسي، وليس معالجة لظهور الحضارات وانهيارها كما عالجها المؤرخون أمثال
توينبي في دراسته للتاريخ، وهو أمر لم يدعهِ الكاتب لمؤلفه كما يظهر من عنوانه
الجانبي، والفارق بين النظريتين فارق كبير إذ كافة ما عالجه الكاتب من قوى إنما
ينتمي إلى حضارة واحدة، الحضارة الغربية بوجهيها الشيوعي والرأسمالي اللذين
يشتركان في أصل النظرة المادية العلمانية.
أي إن الكتاب قد تركز حول القوى الغربية - أعني الدائرة في حيز الحضارة
الغربية الحديثة - بصفتها الغالبة في عالم اليوم، ولم يلق بالاً لتحليل ما قد ينشأ من
قوى خارج محيط الغرب وفي بقاع أخرى من العالم.
والكتاب قد بنيت فكرته الرئيسية على أن التاريخ إنما يصاغ بتأثير القوى
العسكرية الاقتصادية، وأغفل تلك الايديولوجيات التي تصنع تلك القوى وتدفعها
للظهور بادئ ذي بدء.. فهو يصور العالم على أنه ساحة صراع اقتصادي مغلف
بالصراع المسلح، ليس إلا ... هذه الصورة وإن كانت تبدو صحيحة للنظرة العجلى
إلا أنها تتجاوز بعداً أساسياً، بل البعد الأساسي في صناعة أحداث التاريخ ... الفكر
والايديولوجية، خاصة في عالم (القطبين) اللذين ظهرا أساساً نتيجة لايديولوجيات
فكرية معينة لا تزال آثارها تحرك العالم وتشكل قالبه الحاضر. وإن التقارب
الشرقي الغربي الذي يلحظه المراقب لمجريات السياسة العالمية اليوم لا يجب أن
يبرر بأنه تنازل عن عالم المبادئ والايديولوجيات الفكرية ليحل محله عالم المال،
بل إنه أقرب لأن يكون أيديولوجية جديدة يتحرك بها القطبان الشرقي الشيوعي
والغربي الرأسمالي كل لصالحه، ثم لا ننسى أن كلا الكتلتين إنما ينتميان لقالب
حضاري مادي واحد فما المانع إذن أن يتقاربا حين تدعو الحاجة لذلك، بل وتلح
عليه إلحاحاً!
كذلك فإن الكاتب قد سوغ سبب نهضة دول أوربا الغربية، وتفوقها على كافة
معاصرها من الامبراطوريات المنهارة، بأنه يعود إلى تلك السلطة المركزية العليا
التي كانت سمة مشتركة لتلك الامبراطوريات، والتي لم تقصر سيطرتها على
النواحي الدينية أو الأخلاقية، بل قد تدخلت حتى في الجوانب الاقتصادية
والعسكرية لتحافظ على نمطيها.. وتلك كان غلطتها القاتلة.
والحق أن ذلك التعليل، وإن كان يحمل حقاً لاشك فيه، إلا أنه لا يجب أن
يحمل على إطلاقه، فنحن نرى أن أوربا الغربية نفسها تتحرك اليوم نحو إيجاد
سلطة مركزية بدرجة ما تتمثل في السوق الأوربية المشتركة، توحيد العملة
الأوربية وغير ذلك من المظاهر، بل إن القوة العظمى في عالم اليوم، الولايات
المتحدة الأمريكية، قد نشأت من اتحاد فيدرالي بين ولاياتها التي تتجاوز الخمسين
ولاية، تخضع كلها لسلطة مركزية عليا واحدة، والأمر كما نراه ليس أمر مبدأ
السلطة المركزية في حد ذاتها، بل هو في خطأ التطبيق، الذي يؤدي بأية سلطة
مركزية، حين تفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ومتابعة ما يجري حولها بوعي
ويقظة، وحين تقل ثقتها في اتباعها ومنفذيها، مما يؤدي إلى وأد القوى المبدعة
والقدرات البناءة في مهدها، وإهدار فرص التقدم وإمكانيات التطور لدى الأمم
والمجتمعات.
__________
(1) THE RISE AND FALL OF THE GREAT POWERS Economic change and Military conflict from 1500 - 2000, PAUL KENNED, والمؤلف بول كندي أستاذ التاريخ بجامعة (بيل) وقد نشرته مؤسسة (هايمان) باللغة الإنجليزية عام 1988.(21/32)
من أعلام أهل السنة والجماعة
عبد الله بن المبارك العالم المجاهد
(3)
د. محمد بن مطر الزهراني
ثانياً: جهوده في علوم الحديث:
يعتبر ابن المبارك أحد الجهابذة النقاد المعتد بقولهم في الجرح والتعديل. وله
اجتهادات في علوم الحديث ومعرفة في عالم الرجال والعلل.
وقد عبر عن ذلك الخليفة هارون الرشيد عندما أتي بأحد الزنادقة ليقتله، فقال
الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله
من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها ويخرجانها حرفاً حرفاً [1] .
وهذه جملة من أخباره وآرائه في هذا المجال:
- قال الحافظ علي بن المديني: انتهى العلم إلى رجلين: إلى ابن المبارك ثم
من بعده إلى يحيى بن معين [2] .
- وقال فضالة النسائي: كنت أجالسهم بالكوفة، فإذا تشاجروا في الحديث
قالوا: مروا بنا إلى هذا الطبيب حتى نسأله - يعنون ابن المبارك -[3] .
- وقال علي بن المديني أيضاً: ابن المبارك أوسع علماً من ابن مهدي ويحيى
بن آدم [4] .
- وقال الإمام أحمد: لم يكن أحد في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه [5] .
- وقال ابن المبارك -رحمه الله-: في صحيح الحديث شغل عن سقيمه [6] .
- قال عبدان بن عثمان: سمعت ابن المبارك يقول: الإسناد من الدين،
ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء [7] .
- وعنه أيضاً قال: الذي يطلب دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا
سُلم [8] .
- وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمدون عليه هذا الأثر وخذوا من الرأي ما
يفسر لكم الحديث [9] .
- وقال أيضاً: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا
غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن [9] .
- وسئل عبد الله بن المبارك عمن نأخذ؟ قال: من طلب العلم لله وكان في
إسناده أشد، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة، وتلقى الرجل غير ثقة
وهو يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة [10] .
ما أحوجنا اليوم نحن طلبة العلم إلى هذه الوصية وهذا التوجيه الكريم من
الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، إنه يرسم منهجاً يجب أن يلتزم به طلبة العلم
طول حياتهم.
إن آفة الأخبار رواتها، وما أقل الثقات في رواة الأخبار في عصرنا وأخص
بالذكر طلبة العلم فهم قدرة الأمة وهم المخاطبون بوصية ابن المبارك، والمفترض
فيهم التوثق، ودقة الفهم وتمحيص الأخبار والنظر فيمن يرويها: في دينه وعقله
وضبطه وعدله، في سيرته واتجاهه الذي يسير عليه في حياته، لكن الواقع خلاف
ذلك، إذ أن مجتمع طلبة العلم اليوم أصبح في الغالب مرتعاً خصباً للإشاعات
والأراجيف التي لا أساس لها من الصحة -وآفتها من مروجيها بينهم- ولا سيما تلك
الإشاعات التي تتعلق بسمعة أحدهم، فإنها تنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم أو
أسرع.
وكان الأولى بطلبة العلم وعلى وجه أخص من يزعمون أنهم دعاة إلى الخير
أن يلتزموا منهج المحدثين في التثبت في الرواية والتمحيص للأخبار والنظر في
أحوال الرجال، فإن ذلك هو الموافق لمنهج الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح،
وهذا المنهج هو منقبة للأمة الإسلامية، وميزة لها عن سائر الأمم.
ثالثاً: مؤلفاته:
قال الإمام الذهبي: دَوَّن ابن المبارك العلم في الأبواب والفقه وفي الغزو،
والزهد، والرقائق وغير ذلك [11] .
وهذه جريدة أسماء مؤلفات ابن المبارك التي وقفت عليها فيما اطلعت عليه من
المصادر:
1 - تفسير القرآن.
2 - السنن في الفقه.
3 - كتاب التاريخ.
4 -كتاب الزهد، طبع باسم: كتاب الزهد والرقائق بتحقيق حبيب الرحمن
الأعظمي.
5 - كتاب البر والصلة.
6 - رقاع الفتاوى.
7 - الرقائق.
8 - الجهاد، طبع بتحقيق الدكتور نزيه حماد [12] .
9 - الأربعين في الحديث.
رابعاً: في مجال الإنفاق في سبيل الله:
كما كان ابن المبارك جواداً بنفسه في سبيل الله كان أيضاً كريماً جواداً بماله
منفقاً في سبيل الله. ولا غرو فقد ورث ذلك من القدوة الحسنة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- الذي وصفه ابن عباس -كما في الحديث الصحيح - بأنه كان أجود
من الريح المرسلة، وأجود ما يكون في رمضان.
وهذه نبذة من أخباره -رحمه الله- في هذا المجال:
- قال الحسن بن شقيق: كان ابن المبارك ينفق على الفقراء في كل سنة مائة
ألف درهم، وإنه قال مرة للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت [13] .
- وقال علي بن الفضيل بن عياض: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك.
أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد
الحرام، كيف ذا؟
فقال ابن المبارك: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به
عرضي وأستعين به على طاعة ربي، ولا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم
به، فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إذا تمّ ذا [13] .
- وبإسناد الخطيب أيضاً إلى حبان بن موسى المروزي قال: عوتب ابن
المبارك فيما يفرق من الأموال في البلدان، ولا يفعل في أهل بلده، قال: انني
اعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا الطلبة للحديث، وقد
احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعنَّاهم بثوا علمهم لأمة محمد -صلى الله
عليه وسلم-، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم [13] .
هكذا يكون الفهم الصحيح لوظيفة المال في الحياة الدنيا، إنه لصون الوجه
والعرض وإعانة طلبة العلم والصالحين والاستعانة به على مرضاة الرب، هذا هو
فهم سلفنا الصالح لوظيفة المال، فهل يقتدي بهم أرباب الأموال من أثرياء المسلمين
اليوم، فينفقون أموالهم في وجهها الصحيح.
إن الإمام ابن المبارك يرسم لنا بسيرته العملية في ماله منهجاً بيناً واضحاً.
إن هذا المنهج ليبين لأرباب الأموال الطريقة الصحيحة لتوزيع صدقاتهم وأموالهم
التي ينفقونها في سبيل الله، في هذا المنهج يبدأ بالإنفاق على من نفعه لدينه ولأمته
أكبر، أولئك هم طلبة العلم العاملون بعلمهم المشتغلون بنشر العلم لأمة محمد -
صلى الله عليه وسلم - عن طلب الرزق.
إنه من المؤلم حقاً أن نرى أموالاً كثيرة - تعد بالملايين - تنفق سنوياً من قبل
أثرياء المسلمين ثم لا تؤدي هذه الأموال الأثر المطلوب من إنفاقها، إنها تنفق دون
تخطيط ودون هدف من إنفاقها سوى إرادة أصحابها أداء الحق الشرعي في أموالهم
وكفى.
إن أموال اليهود تنفق لتخدم عقيدتهم وهدفهم الذي يسعون من أجل تحقيقه.
وأموال الرافضة تنفق لنشر العقيدة الرافضية بين أهل السنة في جميع أنحاء العالم
الإسلامي. وأموال النصارى قد أدت دوراً مهماً في تنصير أبناء المسلمين في
أفريقيا وآسيا، أما أموال أثرياء المسلمين فغالبيتها العظمى تنفق ولا تؤدي دوراً
مهماً لأنها تنفق بدون وعي وبدون تخطيط، وغالبها يوضع في غير محله.
إن أعداداً كثيرة من خريجي الجامعات العربية والإسلامية من أبناء المسلمين
في أفريقيا وآسيا بحاجة ملحة إلى من ينفق عليهم ليتفرغوا للدعوة إلى الله ونشر
العقيدة الصحيحة بين المسلمين وغيرهم في تلك الديار المقفرة من الدعاة إلا من
النزر اليسير، إنهم بحاجة إلى عشرات من أمثال عبد الله بن المبارك ليتفقدوا
أحوالهم ويعينوهم على بث العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لشدة حاجة
الأمة إلى علمهم لاسيما وهي تصارع الشرك والخرافة والتنصير والمبادئ الهدامة
من علمانية وقاديانية وبهائية ورافضة وباطنية وغيرها.
- عن محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس،
وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث
، قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب، وكان مستعجلاً فخرج في النفير،
فلما قفل من غزوته ورجع الرقة سأل عن الشاب، فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه،
فقال عبد الله: وكم مبلغ الدين؛ فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يستقصي
حتى دُل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا
يخبر أحداً مادام عبد الله حياً، وقال: إذا أصبحت فاخرج الرجل من الحبس وأدلج
عبد الله، فأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان
يذكرك وقد خرج، فخرج الفتى في إثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة،
فقال: يا فتى إن كنت لم أرك في الخان؟ قال: نعم يا أبا عبد الرحمن كنت
محبوساً بدين، قال: كيف كان سبب خلاصك، قال: جاء رجل فقضى ديني ولم
أعلم به حتى خرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق
لك من قضاء دينك، فلم يخبر ذلك الرجل أحداً حتى مات عبد الله [14] .
وهذه منقبة أخرى لهذا العالم المجاهد عبد الله بن المبارك - وما أكثر مناقبه -
وهي تفقده لأحوال تلاميذه وقضاؤه حاجاتهم، وهذه حال كثير من أئمة السلف -
يرحمهم الله-، مع تلاميذهم [15] ، وقدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - الذي كان يتفقد أحوال أصحابه فيقضي حاجاتهم ويعين فقيرهم ويعود
مريضهم ... ويعينهم جميعاً على نوائب الحق، فهل من مشايخنا وعلمائنا اليوم من
يفعل ذلك مع تلاميذه؟ ؟ [16] .
كم تخرج على أيديهم في الجامعات الإسلامية من أبناء أفريقيا وآسيا وغيرها؟ فهل سألوا عنهم بعد تخرجهم، هل عرفوا شيئاً من أخبارهم؟ ! !
إنهم يعانون في بلادهم من الفقر والفاقة ومن اضطهاد طواغيت بلادهم، كما
يعانون من هجوم أعدائهم من مبشرين وقاديانيين ورافضة وعلمانيين، ولقد شاهدت
ذلك بأم عيني أثناء زياراتي لغرب أفريقيا وجنوب شرق آسيا، إنهم يحتاجون إلى
مديد المساعدة بالمال والنصح والتوجيه والكتب العلمية النافعة، وهم بحاجة إلى بناء
مدارس لأبنائهم ليحفظوا عليهم دينهم وعقيدتهم وليحموهم من مدارس المبشرين
والعلمانيين والباطنيين.
من غرر كلامه وشعره:
لقد كان ابن المبارك شاعراً وأديباً كما كان إماماً في الفقه والحديث والتفسير
واللغة وغيرها من الفنون، وكان والده يحفزه على حفظ الشعر وهو صغير ويكافئه
على حفظ القصيدة بدرهم، وكان ابن المبارك شاعراً مجيداً صادق اللهجة فلذلك كان
لشعره وقع في النفوس، لا سيما أنه كان مليئاً بالحكم والمواعظ والنصح.
قال الدكتور نزيه حماد: (وشعر ابن المبارك ليس بالقليل، غير أنه منثور
في بطون مدونات العلم وكتب التراجم وأسفار التاريخ والأدب، ويحتاج لمن ينقب
عنه في مظانه، ويعرف الناس بيواقيته ودرره ونفيس مكنوناته، وإنه لمهم حقاً
باعتباره يمثل نموذجاً رفيعاً رائعاً من شعر الزهاد الأوائل والمجاهدين الحكماء من
السلف الصالح، فصاحبه قد قضى عمره في الجهاد والرباط والعلم والزهد، فجاء
شعره مرآة صادقة لتلك النفس الإنسانية السامية التي ارتقت في مدارج الكمال
وعلت في مراتب الفضيلة ومقامات الإيمان والإحسان. وقد وصف الإمام الذهبي
في سير أعلام النبلاء موهبته الشعرية الصادقة بقوله: كان ابن المبارك -رحمه
الله- شاعراً محسناً قوالاً بالحق) . اهـ[17] .
ومن شعره ما يلى: قال الذهبي: قال أحمد بن جميل المروزي: قيل لابن
المبارك إن إسماعيل بن علية قد ولي القضاء فكتب إليه:
يا جاعل العلم له بازياً ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما ... كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك في سردها ... عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك فيما مضى ... في ترك أبواب السلاطين
إن قلت أُكرهت فماذا كذا ... زل حمار العلم في الطين
لاتبع الدين بدنيا كما ... يفعل ضلال الرهابين [18]
وعن سلام الخواص قال: أنشدني ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... ويورثك الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل بدل الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء، ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا ... ولم تغل في البيع أثمانها
لقد رتع القوم في جيفة ... يبين لذي العقل إنتانها [19]
وأنشد أبو بكر الآجري لابن المبارك:
اغتنم ركعتين زُلفى إلى الله ... إذا كنت فارغاً مستريحاً
وإذا ما هممت بالنطق بالبا ... طل فاجعل مكانه تسبيحاً
فاغتنام السكوت أفضل من خو ... ض وإن كنت بالكلام فصيحاً [20]
وقال ابن المبارك يمدح حماد بن زيد مع التحذير من المبتدعة:
أيها الطالب علماً ... إئت حماد بن زيد
فاستفد علماً وحلماً ... ثم قيده بقيد
لا كثور وكجهم ... وكعمرو بن عبيد [21]
وقال يمدح الإمام مالك إمام دار الهجرة:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... فالسائلون نواكس الأذقان
هدي الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان [22]
وهذه نماذج من كلامه:
* قال ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع:
- ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب -عز وجل-.
- وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة.
- وضلالة قد زينت يراها هدى.
- وزيغ قلب ساعة، فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
- وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج [23] .
وقال أبو وهيب المروزي: سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن تزدري
الناس، فسألته عن العجب؟ فقال: أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك، ولا
أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب [23] .
قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال:
غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب، قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخ
شقيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قلت: فإن لم يكن؟
قال: موت عاجل [24] .
مكانة ابن المبارك واهتمامه بإخوانه العلماء:
- قال أبو أسامة: كان ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين
في الناس [25] .
- وعن أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم هارون الرشيد الرقة، فانجفل
الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم
ولد لأمير المؤمنين الرشيد من برج من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت. ما
هذا؟ قالوا: عالم من أهل خرسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك، فقالت:
هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان [26] .
- أخرج الخطيب البغدادي بإسناده إلى الحمادين [27] قالا: كان عبد الله بن
المبارك يتجر في البز، وكان يقول لولا خمسة ما اتجرت، فقيل له من الخمسة يا
أبا عبد الرحمن؟ فقال: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض
ومحمد بن السماك وإسماعيل بن علية. قالا: وكان يخرج فيتجر إلى خراسان فكلما
ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج والباقي يصل به إخوانه الخمسة، قالا: وقدم سنة، فقيل له قد ولي ابن علية القضاء، فلم يأته ولم يصله بالصرة التي
كان يصله بها في كل سنة فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قدم فركب إليه فتنكس على
رأسه، فلم يرفع به عبد الله رأساً ولم يكلمه فانصرف، فلما كان من غد كتب إليه
رقعة: بسم الله الرحمن الرحيم، أسعدك الله بطاعته، وتولاك بحفظه، وحاطك
بحياطته قد كنت منتظراً لبرك وصلتك أتبرك بها وجئت أمس فلم تكلمني ورأيتك
واجداً علي، فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر إليك منه؟
فلما وردت الرقعة على عبد الله بن المبارك دعا بالدواة والقرطاس، وقال:
يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا، ثم كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا جاعل العلم له بازياً ... يصطاد أموال المساكين
إلى آخر الأبيات وقد سبق ذكرها كاملة في الكلام عن شعره، فلما وقف ابن
علية على هذه الأبيات قام من مجلس القضاء، فوطئ بساط هارون الرشيد وقال:
يا أمير المؤمنين، ألله الله، ارحم شيبتي، فإني لا أصبر للخطأ، فقال له هارون:
لعل هذا المجنون أغرى عليك؟ فقال: الله الله أنقذني أنقذك الله، فأعفاه من القضاء، فلما اتصل بعبد الله وجه إليه بالصرة [28] [*] ..
دروس وعبر
ونختم هذا البحث ببعض الدروس والعبر من تلك السيرة العطرة لهذا الإمام
المجاهد والعالم الرباني -رحمه الله ورضي عنه-:
أولاً: إن العالم المسلم يجب أن يعيش لدينه وأمته ونشر العقيدة الصحيحة بين
الأمة وأن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيعه من نفس ونفيس وغال وثمين، وهذا
ما عبر به عبد الرحمن بن مهدي عندما وصف ابن المبارك بأنه كان أنصح علماء
الأمة للأمة.
ثانياً: الفهم الصحيح للزهد هو ترك ما بأيدي الناس والرغبة فيما عند الله،
وأن طلب المال لصون العرض والاستعانة على طاعة الرب وإعانة طلبة العلم
والصالحين لا ينافي الزهد.
وهذا الفهم جسده الإمام ابن المبارك في حياته العملية وفي قوله عندما عاتبه
الفضيل بن عياض على أمره لهم بالزهد والتقلل مع اشتغاله بالتجارة فقال: إنما
أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى
لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال الفضيل: ما أحسن ذا إن تم ذا.
ومن ذلك نفهم أن زهد الصوفية الداعي إلى الكسل والخمول وتعطيل الحياة
ليس صحيحاً، بل هو خلاف فهم السلف الصالح للزهد وخلاف ما أراده الشارع من
المؤمنين.
ثالثاً: إن مهمة العالم المسلم ليست منحصرة في تعليم الناس العلم وتلقينهم
الأحكام، وتحفيظهم المتون بل إن مهمته أوسع من ذلك، إنه القدوة العملية لمن
يربيهم ويعلمهم الفهم الصحيح لطلب العلم والعمل به، والفهم الصحيح لوظيفة المال
في الحياة الدنيا، والمعنى السليم للزهد.
فهو إلى جانب تعليمهم يتفقد أحوالهم وينفق عليهم ويوجههم توجيهاً عملياً فلا
يعلمهم أحكام الجهاد وهو قاعد متخلف مع القاعدين، ولا يعلمهم سُبل الانفاق وهو
مقتر بخيل أو فقير عاطل، ولا يعلمهم التواضع وسعة الأفق وهو متكبر غليظ
القلب ضيق الأفق.
رابعاً: تلك المكانة التي كان يحتلها علماؤنا من السلف الصالح بين الأمة،
إنها مكانة عالية مكانها القلوب والأرواح، مكانة لا يبلغها أرباب المال والجاه
المتسلطون على الأمة بالقوة والقهر والذين غالباً ما تكون محبتهم مصحوبة بالرياء
والمداهنة، وأصدق تعبير عن هذه المكانة لأئمتنا من السلف الصالح أمران:
الأول: ما قاتله أم ولد لهارون الرشيد عندما رأت بأم عينها مكانة الإمام عبد
الله بن المبارك في قلوب ونفوس الأمة، فانطلق لسانها معبراً عن تلك المكانة:..
هذا والله الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان أو
ترغيب وترهيب ...
هذه المكانة لم يكن لينالها علماؤنا لو أن أعمالهم كانت تناقض أقوالهم أو كانوا
يؤثرون الدعة والراحة على التعب والنصب أو كانوا يؤثرون أنفسهم بالرفاه والعافية
عن باقي الأمة.
خامساً: إن لسلفنا الصالح منهجاً في طلب العلم يتدرج فيه حتى يبلغ درجة
الاجتهاد ولا يتجاوز الطالب مرحلة من تلك المراحل إلى التي تليها حتى يتقن
المرحلة السابقة وقد أوجز ابن المبارك المبادئ الأساسية لهذا المنهج فقال: أول
العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر. وقال: كانوا يطلبون
الأدب ثم العلم.
سادساً: العناية بالنابغين والأذكياء من طلبة العلم والعمل على تفرغهم لطلب
العلم وتعليمه للأمة ومساعدتهم بما يحتاجون من المال وغيره.
هذا ما فعله ابن المبارك مع النابغين من طلبة العلم في عصره ومن قبله فعله
شيخه أبو حنيفة -رحمه الله- مع بعض تلاميذه النابهين.
هذا ما يسر الله لي أن أكتبه عن ابن المبارك وأسأله -سبحانه- أن يرزقنا
العلم النافع وأن ينفعنا بما علمنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
__________
(1) تذكر الحفاظ 1 / 273.
(2) تاريخ بغداد 10 / 164.
(3) سير أعلام النبلاء 8 / 357.
(4) تاريخ بغداد 10 / 164.
(5) سير أعلام النبلاء 8 / 351.
(6) المصدر السابق 8 / 357.
(7) مقدمة صحيح مسلم 1 / 15.
(8) الكفاية للخطيب البغدادي / 292.
(9) سير أعلام النبلاء 8 / 352 - 353.
(10) تذكرة الحفاظ 1/ 277.
(11) تذكرة الحفاظ 1 / 275.
(12) قدم له الدكتور نزيه بمقدمة عن حياة ابن المبارك جيدة، وقد استفدت منها في هذا البحث كثيراً، فجزاه الله عني خيراً.
(13) تاريخ بغداد 10 / 159 - 160، ط السلفية بالمدينة النبوية.
(14) تاريخ بغداد 10 / 159.
(15) انظر ما كتبه ابن جماعة في تذكرة السامع والمتكلم، الباب الثاني، الفصل الثالث، وخاصة النوع الثالث عشر منه.
(16) لا يفوتني أن أنوه هنا بجهود سماحة شيخنا الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وبارك فيما بقي من عمره، فهو من بقية السلف الصالح، له جهود طيبة في هذا المجال، رأينا آثارها في أفريقيا حيث يرعى كثيراً من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بإعانتهم من ماله الخاص، ومما يجمعه من المحسنين، أسأل الله له دوام التوفيق إلى كل ما فيه خير الإسلام والمسلمين.
(17) مقدمة كتاب الجهاد لابن المبارك / 25.
(18) تاريخ بغداد 6 / 236، سير أعلام النبلاء 8 / 363 - 364 وسأذكر فيما بعد قصة هذه الأبيات.
(19) جامع بيان العلم وفضله 1 / 165.
(20) سير أعلام النبلاء 8 / 368.
(21) تاريخ بغداد 6 / 29، جامع بيان العلم وفضله 1 / 127.
(22) العقد الفريد 2 / 221.
(23) سير أعلام النبلاء 8 / 359، وهي هكذا في السير وغيره " خمس "، وليس أربع.
(24) المصدر السابق 8 / 352.
(25) تاريخ بغداد 10 / 156، سير أعلام النبلاء 8 / 340.
(26) تاريخ بغداد 10 / 156، سير أعلام النبلاء 8/ 340.
(27) حماد بن زيد بن درهم، وحماد بن سلمة بن دينار إمامان مشهوران.
(28) تاريخ بغداد 6/ 245 - 236.
(*) هذه النصوص وأمثالها في فرار أئمة السلف من تولي القضاء والتحريض على تركه محمولة على أمرين: أ - علمهم بوجود من يقوم به ب - تركه ورعاً وحيطة لدينهم أما إذا ترتب على ذلك خلو القضاء ممن يقوم به أو تسلط الكفرة أو الفجرة علية فتفسد مصالح الناس وتعطل أحكام الشريعة فلا، ولا يفهم من ذلك أنهم يحرصون على اعتزال المجتمع والحياة كما يفعل دراويش الصوفية وخوارج هذا العصر.(21/39)
في الولاء والبراء
هجر المبتدع
(5)
الشيخ بكر أبو زيد
المبحث الثامن الضوابط الشرعية للهجر
هذا بيان (لميزان الشرع في الهجر) وهو من أهم أبحاث هذا الواجب
الشرعي، وعليه: فإذا علمنا أن الزجر بالهجر للمبتدع حتى يتوب إلى الله تعالى،
قد قامت عليه أدلة بخصوصه، وأنه من أولى مفردات قاعدة الشريعة المطردة
(الولاء والبراء) أي الحب والبغض في الله تعالى.
وعلمنا أيضاً: أن المقصود بالهجر: زجر المهجور، وتأديبه ورجوع العامة ...
عن مثل حاله، إلى آخر مقاصد الإسلام من مشروعية الهجر كما تقدم.
وأن الهجر الشرعي لحق الله تعالى (عبادة) من جنس الجهاد، والأمر ...
بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة لا بد من توفر ركنيها: الإخلاص، ...
والمتابعة، أي بأن يكون الهجر (خالصاً صواباً) خالصاً لله، صواباً وفق السنة،
وأن (هوى النفس) ينقض ركنية (الإخلاص) ، كما أن ركن المتابعة ينقضه (عدم
موافقة الهجر للمأمور به) .
إذا تقرر جميع ذلك: فليعلم أن الشرع الشريف يزن الواقعات والأحوال
الداخلة تحت قاعدته العامة (الولاء والبراء) بميزان قسط، وقسطاس مستقيم،
وسطاً عدلاً بين جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنقص عنه،
فتلتقي العفوية للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك
من أحوال تنزل على قاعدة رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها،
فنقول إذاً:
الأصل في الشرع هو: هجر المبتدع لكن ليس عاماً في كل حال ومن كل
إنسان ولكل مبتدع. وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط على أي حال،
وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص، والإجماع، وأن مشروعية
الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد،
وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال
الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يرعاها الشرع وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة..
هذا محصل الضوابط الشرعية للهجر [1] ، لكن ليحذر كل مسلم من توظيف
(هوى نفسه) وتأمير (حظوظها) على نفسه، فإن هذا هلكة في الحق، وهو شر
ممن يترك الهجر عصياناً لأنه يعصي الله تعالى بترك الهجر الشرعي للمبتدع،
وإظهاره ترك الهجر باسم الشرع تحت غطاء وهمي باسم (المصلحة) و (تأليف
القلوب) وهكذا، فالتزام الهجر الشرعي للمبتدع بضوابطه الشرعية لاغير. وعلى
هذا التأصيل تتنزل كلمات الأئمة كالإمام أحمد وغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في المسلك الحق في الهجر:
(فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات
البدعية، بل تركوها ترك المعرض لاترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد
يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة
ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما
أمروا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل
ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين المغالي فيه والجافي
عنه، والله سبحانه أعلم) [2] .
فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات [3] :
من جهة كونها كفراً أو غير كفر
فالمكفرة مثل: البابية، والبهائية، والقاديانية، وغلاة البريلوية.
وغير المكفرة مثل عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية.
ومن جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً لها
ففرق بين المعلن لبدعته الداعي لها، وبين الكاتم لها لأن الداعية، والمعلن
لها، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، هذا
وهم في الدرك الأسفل من النار [4] .
ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية
فالبدعة الحقيقية هي: البدعة التعبدية المحدثة استقلالاً كصلاة الرغائب،
وليست بدعة إضافية، ومثل القول بالقدر، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان،
وبدعة الموالد، والأعياد الحكومية، وعيد غدير خم لدى الشيعة، وهكذا.
والبدعة الإضافية: هي الأمر المبتدع مضافاُ إلى ما هو مشروع أصلاً بزيادة
أو نقص، مثاله:
الدعاء الجماعي بعد الصلاة، فالدعاء مشروع وجعله جماعياً بدعة مضافة لم
يرد بها النص، وبناء العبادات على التوقيف، وسجود الشكر جماعة، واتخاذ
التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه، وهكذا.
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، أي كونها ظاهرة المأخذ فهي بدعة متمحضة
كبدع المآتم والموالد، وصلاة الرغائب ...
أو بدعة فيها احتمال لاستشباه مأخذها، مثاله: القنوت في صلاتي العشاء
والصبح فإنه كان ثم نسخ وبقي المشروع فيها عند النوازل، وشبهة الخلاف لا
تصيره مشروعاً راتباً.
والحقيقة أن هذا الوجه: صوري لا حقيقي إذ البدع مشكلة المأخذ يلحق بها
من الإشاعة والتعصب ما يجعلها بينة، والله أعلم [5] .
ومن جهة اجتهاده فيها أو كونه مقلداً
فالمجتهد مفترع للبدعة، فالزيغ أمكن في قلبه من المقلد، وإن كان كل منهما
موزوراً لكن أثم من سن سنة سيئة أعظم وزراً، والله أعلم [6] .
ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه
أما الإصرار عليها فيجعلها من باب: الدعوة إليها فيكون داعية معلناً لها،
وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها: فلتة، وزلة عالم، إذا كانت منه ثم لم
يعاودها [7] .
ويختلف باختلاف حال المبتدع وما فيه من خير وشر: (وإذا اجتمع في
الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من
الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه
من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من
هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ... ) [8] .
وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة ولم
يتلق عنهم، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالاً، ثم خالط أهل السنة
وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين بل يكون عاشرهم عشرات
السنين، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها، ويدعو إليها، ويصر عليها، فهذا قامت عليه الحجة أكثر، واستبانت له المحجة فما أبصر. فهو من أعظم خلق الله فجوراً، وغيضاً على أهل السنة.
فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال، أما الثاني: فلا والله، بل يتعين هجره، ومنابذته وإبعاده، وإنزال العقوبات الشرعية للمبتدعة عليه،
وأن يُهجر ميتاً كما هُجر حياً فلا يصلي أهل الخير عليه، ولا يشيعون جنازته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حق بعض العصاة
المظهرين لفجورهم:
(وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له
غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم
عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة
راجحة.
وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً، كما هجروه حياً، إذا كان في
ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبى - صلى الله
عليه وسلم - على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسمرة ابن جندب: إن
ابنك مات البارحة، فقال: لو مات لم أصل عليه، يعني لأنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل
نفسه. وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى
تاب الله عليهم، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير ... ) [9] .
وفرق في حال المهجور: بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه، فإن القوي
يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه
-رضي الله عنهم-[10] .
وكذلك بالنسبة للأماكن: ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر
القدر بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك.
وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناء على هذا الأصل: رعاية
المصالح الشرعية. [11]
(ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم
وكثرتهم) [12] .
فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة
على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلا
المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي، لم يشرع الهجر
وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر.
وهذا كحال المشروع مع العدو (القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية
تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح) [13] .
ومن أهم المهمات هنا: إذا كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل: التعليم، والجهاد، والطب، والهندسة، ونحوها متعذر إقامتها إلا بواسطتهم، فإنه يعمل على
تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة التعليم وهكذا، مع الحذر من بدعته، واتقاء
الفتنة به وبها ما أمكن، وبقدر الضرورة، فإذا زالت عاد أهل السنة إلى الأصل في
الهجر، وأبعد لمبتدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في جوابه المحرر في الهجر
المشروع:
(.. فإذا لعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة
مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة
مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه
تفصيل) [14] .
هذا وإن الناظر في أحوال المبتدعة من وجه ما هم عليه من الشناعات،
وإماتة السنن، والنشاط في غير هدى والنصرة لغير حق، وأنهم يفسدون على أهل
السنة صفاء الإسلام، رآهم مستحقين لما قاله الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في
أهل الكلام:
(حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل
والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام) .
(وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القدر، والحيرة مستولية عليهم، والشيطان
مستحوذ عليهم رحمتهم، وترفقت بهم، أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهوماً
وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة [فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا
أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ] ) [15] .
وختاماً: احذر المبتدع، واحذر بدعته، وأعمل الولاء والبراء معه، وتقرب
إلى الله بذلك، وبهجره الهجر الشرعي منزلاً له على قواعد الشريعة وأصولها في
رعاية المصالح ودفع المفاسد، وإياك ثم إياك من تأمير الهوى هجراً أو تركاً،
والسلام.
المبحث التاسع عقوبة من والى المبتدعة
كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق فالساكت عن الحق شيطان أخرس كما
قال أبو علي الدقاق (م سنة 406 هـ) -رحمه الله تعالى-[16] .
وقد شدد الأئمة النكير على من ناقض أصل الاعتقاد فترك هجر المبتدعة،
وفي معرض رد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- على (الاتحادية) قال
[17] :
(ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم أو معاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو من قال: إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً ويصدون عن سبيل الله ... [18] ) .
فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وسقاه من سلسبيل الجنة آمين، فإن هذا
الكلام في غاية الدقة والأهمية وهو وإن كان في خصوص مظاهرة (الاتحادية) لكنه
ينتظم جميع المبتدعة، فكل من ظاهر مبتدعاً فعظمه أو عظم كتبه، ونشرها بين
المسلمين، ونفخ به وبها، وأشاع ما فيها من بدع وضلال، ولم يكشفه فيما لديه من
زيغ واختلال في الاعتقاد، إن من فعل ذلك فهو مفرط في أمره، واجب قطع شره
لئلا يتعدى إلى المسلمين.
وقد ابتلينا بهذا الزمان بأقوام على هذا المنوال يعظمون المبتدعة وينشرون
مقالاتهم، ولا يحذرون من سقطاتهم وما هم عليه من الضلال، فاحذر أبا الجهل
المبتدع هذا، نعوذ بالله من الشقاء وأهله.
المبحث العاشر إشاعة البدعة
نصيحتي لكل مسلم سلم من فتنة الشبهات في الاعتقاد، أن البدعة إذا كانت
مقموعة خافتة والمبتدع إذا كان منقمعاً مكسور النفس بكبت بدعته فلا يحرك النفوس
بتحريك المبتدع وبدعته؛ فإنها إذا حركت نمت وظهرت، وهذا أمر جبلت عليه
النفوس، ومنه في الخير: أن النفوس تتحرك إلى الحج إذا ذكر الحجاز،
وعرصات الوحي، ومواطن التنزيل ... وفي الشر: إذا ذكرت النساء والتغزل
والتشبيب بهن تحركت النفوس إلى الفواحش.
وهذا الكتمان والإعراض من باب المجاهدة والجهاد فكما يكون الحق في الكلام
فإنه يكون في السكوت والإعراض، والله أعلم.
__________
(1) وهذا طرد لقاعدة الشريعة في العقوبة على قدر الجرم كما في تنوع عقوبات المحاربين لتنوع أحوالهم، والفرق بين عقوبة السارق والمغتصب، والفرق بين عقوبة الزاني المحصن وغير المحصن، وهكذا في سائر العقوبات الشرعية يقدر الجرم وما يحف به من أحوال.
(2) الفتاوى 28 / 213، وانظر منه: ص / 6 0 2.
(3) انظر بسط هذه الجهات الست في: الاعتصام للشاطبي -رحمه الله تعالى- 1 / 167 - 174.
(4) الفتاوى 24 / 175، 28، / 205.
(5) انظر الاعتصام 1 / 172 - 173.
(6) وانظر الاعتصام 1 / 167 - 168.
(7) وانظر الاعتصام 1/ 174.
(8) الفتاوى 28 / 209، وانظر ص / 228، بأبسط من هذا.
(9) رواه أحمد في: الزهد.
(10) الفتاوى 28 / 217 - 218.
(11) انظر: فتح الباري 8/ 123، كتاب المغازي.
(12) الفتاوى 28 / 206 -207، وانظر ص / 212 - 213 فهو مهم.
(13) الفتاوى 28 /206.
(14) الفتاوى 28 / 212.
(15) الفتاوى 5 / 119.
(16) شذرات الذهب 3 / 80، وفيات سنة 406هـ.
(17) الفتاوى 2 / 132.
(18) انظر الفتاوى 14 / 463 - 468، مهم 28 / 215، 28 / 217، مهم كالقاعة هنا.(21/51)