محنة الدعاة في الصومال
قبل عام أو يزيد قليلاً ألقت السلطات الصومالية القبض على عدد كبير
جداً من الدعاة، وأودعتهم السجون والمعتقلات، ونسبت إليهم تهمتين:
الأولى: محاربة النظام القائم.
والثانية: إدخال كتب ممنوعة، منها: كتب ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورسائل الشيخ عبد العزيز بن باز -
حفظه الله -، ومؤلفات الأستاذ سيد قطب.
ورافقت عملية الاعتقال حملة إعلامية هدفها تشويه سمعة الدعاة، وكان
الصوفيون الخرافيون أهم ركائز هذه الحملة الظالمة التي استخدمت الإذاعة
والتلفاز والصحف والمساجد، واستنفرت كافة أجهزة السلطة في نشر الإشاعات
والأراجيف، ومع ذلك كان كيدهم ضعيفاً، ففي حديث إذاعي تكلم خرافي كبير ... فقال:
إن هؤلاء الأشرار [عليه من الله ما يستحق] يقولون باستواء الله على عرشه، وينكرون التوسل بالأولياء والصالحين، ويكفرون المسلمين، وما إلى ذلك من
أقوال.
وفوجئنا قبل صدور هذا العدد بأن محكمة الأمن الوطنية في الصومال قد
أصدرت حكمها بإعدام الدعاة الآتية أسماؤهم:
1- عبد العزيز فارح.
2- محمود شيخ فارح.
3- الشافعي محمود محمد.
4- يوسف معلم عبدي.
5- محمد عثمان سيدو.
6- حسن طاهر أويس.
7- نور بارود جرحن.
8- حاشي علهي.
9- أويس محمد إبراهيم.
وحكمت بالسجن 15 سنة مع الأشغال الشاقة على الإخوة الآتية أسماؤهم:
1- عبد العزيز حسين.
2- محمود جامع.
3- محمد هبروا.
وتدخل وسطاء؛ فأوقف المسؤولون تنفيذ أحكام الإعدام.. والذي نود
توضيحه للقراء نوجزه فيما يلي:
1- إن هؤلاء الدعاة ليسوا نكرات، لقد تخرج معظمهم من الجامعة الإسلامية
في المدينة المنورة، وكانوا نماذج طيبة في سلوكهم وعلمهم ومعتقداتهم، وهم حقاً
يقولون باستواء الله على عرشه، ويثبتون ما أثبته الله لنفسه من غير تأويل ولا
تعطيل ولا تشبيه، ويحاربون الخرافات، وبشكل أكثر وضوحاً فهم سلفيون في
المنهج والاعتقاد، ولا يكفرون أحداً من المسلمين بذنب أو معصية، وعلى نقيض
ذلك فكبار رجال السلطة والخرافيون هم الذين قالوا بتكفير هؤلاء الدعاة الطيبين.
2- اعتدنا سماع هذه التهم الباطلة التي يلصقها الظالمون بالدعاة الطيبين
كقولهم: يحاربون النظام، وقولهم: كانوا يخططون لانقلاب ضد النظام، وما إلى
ذلك من أكاذيب، ونستطيع وصف الجريمة وأبعادها قبل أن نطلع على أقوال النظام، لأن ما يقال صورة طبق الأصل لصور اعتدنا سماعها مع اختلاف يسير في
الشكل والإخراج.
وإذا كانت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونشر معتقدات السلف الصالح -
رضوان الله عليهم -، والاجتماع على ذلك مع التحذير من البدع والخرافات
والمتاجرة بالدين وسوء استغلاله.. نقول: إذا كانت هذه الأمور كلها تآمراً، إذن،
فالعلماء الطيبون، والدعاة المخلصون، والشباب الغيورون على دينهم كلهم
متآمرون!
3- يأبى الله إلا أن يظهر الكذاب على حقيقته، فأقوال محكمة النظام تخالف
[شريط كاسيت] لازلنا نحتفظ به، ورغم ما فيه من شتم لهؤلاء الدعاة فهو شهادة
ببراءتهم، واعتراف من النظام بتورطه في مخططات وجرائم ضد الدعاة ...
وقد يسأل سائل: ما علاقة نظام علماني بالصوفية والخرافيين؟ وماذا يريد
هذا النظام -وهو علماني- من الاستواء، والتوسل وغير ذلك من الأمور التي لا
يعتقدها ولا يؤمن بها؟ .
وجوابنا على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: إن تعاون الصوفيين الخرافيين مع العلمانيين حقيقة تتكرر في
جميع بلدان العالم الإسلامي، وهناك روابط بينهم من أبرزها الشرك ووحدة الوجود
والحلول، ونقصد بهذا غلاة الصوفيين.
الوجه الثاني: يستغل العلمانيون الصوفيين الخرافيين، ويتخذون منهم أداة
لضرب الصف الإسلامي من داخله، والصوفيون انتهازيون نفعيون يحقدون أشد
الحقد على دعاة الإسلام الذين يلتزمون منهج السلف الصالح -رضوان الله ... عليهم -.. وقصارى القول: أن الأهواء والمصالح هي التي تربط بين الطرفين، ولا يقتضي هذا أن يحب كل طرف الطرف الآخر، فأصحاب الأهواء والمصالح لا يحبون ولا يعظمون إلا أنفسهم.
4- كيف تكون كتب أهل السنة والجماعة خطراً ويحكم بالإعدام على كل من
ثبت أنه أدخلها إلى البلاد، وتكون كتب المبشرين مباحة ولا مانع يمنع من إدخالها
وتوزيعها وتدريسها؟ !
كيف تغلق المدارس الشرعية التي قدمت خدمات لا تنسى لأبناء الصومال،
وتشجع المدارس التبشيرية؟ ! ففي [مقديشو] وحدها أكثر من ثلاثين مدرسة صليبية! .
كيف يجري التضييق على دعاة الإسلام، ويمنعون من ممارسة نشاطهم في
بيوت الله؟ ! بيوت الله، وليست بيوت زعماء النظام وسدنته.. نقول: كيف
يجري التضييق على دعاة الإسلام في حين كان الشيوعيون يشرقون ويغرِّبون في
الصومال دون حسيب ولا رقيب، وعندما اختلفوا مع قادة [الكرملين] أصبح رسل
[واشنطن] يشرِّقون ويغرِّبون؟ ! .
5- كنا ولازلنا نتمنى أن يشرح الله صدور القادة العسكريين في مقديشو للحق، ويتوبوا إلى الله من جرائم اقترفوها كان من بينها: إعدام عشرة علماء من كبار
علماء الصومال عام 1975، لأنهم عارضوا النظام عندما غيَّر آخر ما تبقى من
شرع الله، وسن قانوناً يقتضي بمساواة الذكور والإناث في الميراث.. وتتابعت
الجرائم بعد ذلك، وكانت موضع احتجاج واستنكار الدعاة في كل بقعة من العالم
الإسلامي، ولكنهم -بكل أسف- وبعد 12 عاماً من جريمتهم الأولى يقدمون الآن
على الحكم على علماء آخرين بالإعدام، ويزجون بمئات من الدعاة في السجون من
بينهم الشيخ: محمد معلم حسن، رغم ما يعانيه من أمراض، والشيخ محمد نور
قوي.
ألا فليعلم هؤلاء العسكريون بأن الصومال بلد مسلم عريق يعتز بدينه وعقيدته، وقد ابتلاه الله في تاريخه الطويل بطغاة كُثُر، كانوا يظنون أنهم خالدون فلفظهم وبقى الإسلام عزيزاً قوياً، وسيبقى الإسلام فيها شامخاً كريماً.
ألا فليعلم العسكريون أن دعاة الإسلام لا يخشون سجون الظالمين ومعتقلاتهم،
ولا يخيفهم التهديد ولا الوعيد، وسجْن نفرٍ منهم يغذي الدعوة ويطورها، وسوف
يهيئ الله لدينه رجالاً يحبهم ويحبونه، يجاهدون في سبيله من أجل أن يكون الدين
كله لله في الأرض.
إن مشكلة الصومال ليست مع هؤلاء الدعاة الأبرار الأخيار، وإنما المشكلة
في الفقر المدقع، فهل حل هذا النظام العسكري مشكلة الفقر؟ ! وكل صومالي
يعرف بأن عدد الفقراء في ازدياد.
ومشكلة الصومال مع الانتهازيين والوصوليين الذين يسرقون قوت الفقراء
والمحتاجين، وقد كثر عددهم مع مجيء هذا النظام.
والعلماء الدعاة أكبر ثروة تملكها الأمة، وهم عماد نهضتها وسر قوتها،
ومساكنهم ونواديهم ليست السجون والمعتقلات، وإنما المساجد والمدارس والجامعات
والنوادي، وهم الذين يعالجون المجرمين وقطاع الطرق والمدمنين على المخدرات.. ولن يسلم من عقوبة الله وبطشه الذين ينكلون بالدعاة ويطاردونهم. قال تعالى:
[إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
والآخِرَةِ ومَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ] [آل عمران/21] .(6/89)
ماذا وراء تفجير مركز
أهل الحديث في لاهور
أقامت جمعية أهل الحديث حفلاً خطابياً في مركزها في مدينة لاهور -
باكستان- في 23 رجب من هذا العام.
ونجح المجرمون الآثمون في زرع قنبلة في مزهرية جاء بها أحد الجناة قبل
نصف ساعة من وقوع الحادث الأليم، وأعطاها لأحد الحاضرين الذي سلمها للذي
بجانبه حتى وصلت إلى المنصة - هذه رواية رئيس شرطة البنجاب -، وانفجرت
القنبلة الساعة الحادية عشرة ليلاً، فأسفر عن انفجارها استشهاد سبعة وإصابة
حوالي 100 شخص بجروح بينهم عشرة كانت جروحهم خطيرة، وفقد أربعة
سمعهم بسبب شدة الانفجار، وكان من بين القتلى: الشيخ عبد الخالق قدوسي نائب
أمير الجمعية، والشيخ حبيب الرحمن يزداني أحد كبار العلماء، والشاب محمد خان
رئيس جماعة (جنود الشباب لأهل الحديث) - رحمهم الله جميعاً. ...
أما أمير الجمعية الشيخ (إحسان إلهي ظهير) : فأصيب بجروح خطيرة،
ونقل على الفور إلى أحد مستشفيات لاهور، وبعد بضعة أيام تم نقله إلى أحد
المستشفيات في مدينة الرياض غير أن روحه فاضت في 30/ 3/1987 ودفن في
البقيع في المدينة المنورة، رحمه الله رحمة واسعة.
والسؤال الذي يفرض نفسه:
من قتل الشيخ إحسان إلهي ظهير وإخوانه؟ ، ومن هذه الجهة التي استباحت
مركزاً إسلامياً آمناً بمثل هذه الصورة التي وصفها رئيس تحرير صحيفة [جنك]
التي تصدر في لندن في 30 / 3/1987، فقال:
«إن هذا العمل يعتبر الأول من نوعه يتم في اجتماع ديني أو سياسي على
صعيد باكستان» .
وللإجابة على هذا السؤال نقول:
لم تعلن حكومة باكستان عن القتلة، ونحن لا نملك دليلاً أكيداً ... ولكن هناك
قرائن لابد من ذكرها:
إن معظم ما كتبه الشيخ إحسان إلهي ظهير -رحمه الله- كان يدور حول
الباطنيين: عقائدهم، فضائحهم، أقوال كبار علمائهم، وكان يكتب بالعربية
والأردية والفارسية، ولم يقف نشاطه عند التأليف والكتابة بالصحف، وإنما كان
يعقد الندوات، ويجوب المدن متحدثاً عن الباطنيين محذراً من مؤامراتهم ومكائدهم.
ومن جهة أخرى: فالذين كان يهاجمهم وينقدهم يعتقدون بأن أهل السنة
نواصب، وهذا يعني: أنهم كفار مرتدون عن الإسلام، ويجوز قتلهم أفراداً
وجماعات، كما يجوز هدم مساجدهم ومراكزهم.
ومن آخر ما اقترفته أيديهم: عمليات إبادة شملت الفلسطينيين جميعاً في لبنان.
ومن جهة رابعة: فلهم أطماع في العالم الإسلامي بشكل عام، وفي شبه القارة
الهندية بشكل خاص، ولعل هذا من الأسباب التي دعت رئيس شرطة البنجاب إلى
القول: «إن الحادث قد تم بأيد خارجية» [الصحف الباكستانية الصادرة في25/3] .
وربما كان المجرم باكستانياً في الهوية، ولكنه في الحقيقة منهم، ولا يتحرك
إلا إذا أمروه.
وقد أشرنا إلى أطماعهم في باكستان، في العدد الرابع من هذه المجلة
[باكستان أمام التحديات] .
ومن جهة خامسة: كان للشيخ إحسان إلهي ظهيٌر حوارٌ مع أحد قادتهم قبل
الحادث الأليم بيوم واحد، واستمر الحوار حوالي ست ساعات، وشهد الجمهور بأن
إحسان إلهي ظهير قد أقام الحجة على المرجع الباطني..
ومما يضاعف من اتهامنا لهذه الجهة: أن المنتمين إليهم قد أعربوا عن
ابتهاجهم وغبطتهم بنتائج هذا العدوان الأثيم، داخل باكستان وخارجها، في حين
استنكرت الأحزاب الباكستانية الجريمة ونددت بالمجرمين.
ومن المؤسف أننا وجدنا من يقول بأنه كان للفقيد خصوم كُثُر، وأنه لعل
الشيوعيين هم الذين نفذوا الجريمة من أجل زيادة القلاقل والاضطرابات في ... باكستان، أو ربما كان حزب الشعب [بوتو] وراء هذه الجريمة.. الخ.
والذي نقوله: لو كان المجرمون من الشيوعيين أو من حزب الشعب لاختاروا
مركزاً آخر ومنطقة أخرى، فمركز أهل الحديث بقيادة الشيخ إحسان كان من أشد
خصوم الباطنيين، ولم يكن بينهم وبين حزب الشعب ولا غيره مثل هذه العداوة..
ونخشى أن يكون الباطنيون وراء نشر مثل هذه الإشاعات.
ومن الجدير بالذكر: أن قتل الشيخ إحسان إلهي ظهير وإخوانه في مركزهم
الإسلامي جاء بعد قتل الشيخ الدكتور صبحي الصالح بعد أن انتهى من أداء الصلاة
في مسجد من مساجد بيروت.
ومثل هذه الجرائم المتكررة تفرض على علماء ودعاة أهل السنة دراسة هذه
الظاهرة دراسة جادة، ووضع كافة الوسائل التي تمكننا من تفويت الفرصة على
أعدائنا الذين لا يخشون الله، ولا تقف جرائمهم عند حد معين.(6/93)
ذو الحجة - 1407هـ
أغسطس - 1987م
(السنة: 2)(7/)
الافتتاحية
وأذن في الناس بالحج
[وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ
بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ] [الحج /27-29] .
منذ أن أمر الله خليله إبراهيم -عليه السلام- أن يهتف بالناس داعياً لهم إلى
حج البيت؛ تتواصل جموع الحجيج من البشر، جيلاً بعد جيل، شاهدة على دعوة
الأنبياء بالصدق، وملبية نداء الله عز وجل. وإنها لمناسبة جليلة، وإنه لموسم
عظيم؛ أن يقف عشرات الألوف من المسلمين من شتى البلدان والأصقاع على
صعيد واحد، على هذه الأرض المباركة التي جعلها الله قبلة للعالمين..
وإذا أراد متحدث أو كاتب أن يستنبط عبرة أو حكمة من حكم الحج، ويجعلها
مدار حديثه لما لها من دلالات وإشارات، فإن هناك أمرين على غاية من الأهمية
هما:
المكان، والمغزى العام من هذه الشعيرة:
أما المكان: فلأمر ما أمر لله الناس أن يحجوا إلى هذا البيت، ويطوفوا حوله
ملبين، متجردين، رابطين الشعائر بالعقائد، فهذا الحشر العظيم يوم الحج الأكبر
يذكرهم بذلك المشهد العظيم الذي سيصيرون إليه، والذي آمنوا به ابتداء وجعلوه
غاية لأعمالهم، ونهاية لمساعيهم.
ولأمر ما جعل الله هذا المكان مهبطاً لخاتمة رسالاته، التي جاءت تؤكد كل
معاني الخير والرحمة ما عرف منها قبل الإسلام وما لم يعرف، وجعله كذلك مثابة
للناس وأمناً، يثوبون إليه من كل مكان، وتهوي قلوبهم إليه من وراء المسافات:
[وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وأَمْناً واتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وعَهِدْنَا
إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ] ... [البقر ة /125] .
وعلى الأرض المحيطة بهذا البيت أورث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه
وسلم- وصحابته الكرام القيام على دعوة إبراهيم، وأسند أولوية الانتساب إلى
إبراهيم إلى خاتم الرسل وإلى من اتبعهم من المؤمنين.
[إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ ولِيُّ
المُؤْمِنِينَ] [آل عمران/68] .
ومعنى هذا أن اليهود والنصارى الذين يدعون الانتساب إلى أبي الأنبياء
إبراهيم، دعواهم باطلة، ويترتب على هذا البطلان انهيار الأساس المعنوي الذي
يتحكمون فيه بشعوب الأرض، ويغتصبون حقوقها تحت أي مبرر كان.
ولا نريد بكلامنا هذا أن نفرج عن همنا المكبوت بسب هؤلاء، وبالتهجم
عليهم من خلال الكتابة أو الخطابة، وإنما نرمي إلى غرس المغزى من وراء ذلك
في قلوب المؤمنين، هذا المغزى هو الثقة بالنفس، والاعتزاز العاقل الذي يدفع إلى
العمل الجدي القائم على التفكير الهادئ، والبعيد عن ثورة العواطف التي قد يثاب
فاعلها على نيته، ولكنها لا تؤدي إلى خروج من مأزق، ولا تساعد على حل
المشكلات، هذا إذا لم تكن هي بدورها سبباً للفوضى والتخبط.
إن من المعاني التي تشير إليها الآية الكريمة: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً
لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة 143] هو الوسطية
المكانية التي ترتب مسؤولية ضخمة على أتباع هذه الرسالة التي انطلقت من هذا
المكان، ولقد حملت الأجيال المبكرة للمسلمين هذه المسؤولية بجدارة تثير الإعجاب، وقدمت رسالة الإسلام للعالمين بكل ما تتضمنه من طهارة، وعدالة، وسماحة،
وحب للعلم وحرص على السمو، وبُعد عن سفساف الأمور. ولا يزال حملهم هذه
المسؤولية بقوة مثلاً أعلى لنا وشاهداً على تقصيرنا في هذا المجال، مع أن ... الله لم يبخل علينا بالقدرات والإمكانات، حاشاه عن ذلك سبحانه وتعالى.
إن أصحاب الفكر الغربي والقيِّمين على ترويجه يجعلون من بلادهم مركز
العالم ومحوره، فكل شيء منهم يبدأ وإليهم يعود، بينما واقع العالم يكذبهم ويدحض
دعاويهم وغرورهم، بينما يتجاهلون من عداهم تجاهلاً مقيتاً، وخاصة الإسلام
والمسلمين، ويرفضون الاعتراف بالحقائق الساطعة الواضحة، ويسخرون كل
الوسائل التي تعمل على تشويه الحقائق، وغسل الأدمغة، وأقرب مثال على ذلك
ترويجهم هذه المصطلحات الرجراجة المائعة عندما يتحدثون عن قضايانا، مثل:
المسألة الشرقية، والشرق الأوسط.. وما ذلك إلا لكي يصرفوا النظر عما لا
يريدون أن يظهر.
أما المغزى العام من هذه العبادة فهو ما ينبغي أن يتفطن له المسلمون وخاصة
الطبقة الفتية منهم، والتي تقع عليها مسؤولية حمل عبء الدعوة الإسلامية في هذا
العصر، ونعني بذلك مبدأ الأخوة الإيمانية التي يجسدها الحج بأوضح صورة وكأنها
عدم اعتراف عملي بكل ما فرق ويفرق المسلمين من الروابط العرقية والإقليمية
واللغوية التي استغلها أعداء الإسلام بنجاح حتى الآن -مع الأسف الشديد- وضربوا
بها وحدة المسلمين وعملوا على إثارة التناحر والشقاق الذي يضعف القوى ويزيل
الشوكة.
ولا نريد أن نتبرأ من أسباب الضعف ونلقيها على الأعداء، ولكن نقول:
إن العدو لا ينجح في تنفيذ خططه إذا لم يجد الأرض الصالحة لذلك، وإذا لم
يجد نقاط ضعف ينفذ من خلالها.
إن الواقع الإسلامي، بما فيه من سلبيات كثيرة، ومن مجالات تحتاج إلى
علاج وإصلاح ليستثير الهمم، ويستنهض العزائم، من أجل التجديد والتغيير، وإن
ذلك من أبرز ما تشير إليه مناسبة الحج. [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن
تَقْوَى القُلُوبِ] [الحج / 32] .(7/4)
التجديد في الإسلام
التجديد عند ابن تيمية
(7)
ولد ابن تيمية ونشأ في عصر يموج بالاضطراب السياسي والفكري، فقد
تعرض المسلمون لهجمات التتار المتوحشين الذين كانوا يزحفون زحف الموت
تسبقهم شائعات الرعب والخوف، فدمروا بغداد وقتلوا خليفتها، ثم زحفوا على
الشام حتى حاصروا دمشق، ولم يدر بخلد أحد أن النصر عليهم من الأمور الممكنة، فقد تغلغلت الهزيمة النفسية في أعماق المسلمين شعباً وولاة. كما سيطرت
الانحراف العقائدي المريع على الخاصة والعامة، فقد كاد الناس أن ينسوا مذهب
السلف الصالح، وانتشرت الصوفية المبتدعة بين صفوف الجماهير، وعرضت
العقيدة الإسلامية على طريقة علماء الكلام، وجمد الفقهاء على المذاهب وأوصدوا
باب الاجتهاد، وكانت العصبية المذهبية على أشدها، وفي المساجد الكبرى توضع
محاريب عدة، لكل مذهب محراب.
هذه الأوضاع العقدية الفقهية كانت مستقرة سائدة لا يفكر أحد في كسر مألوفها
والخروج عليها، لأن مصير من يخالف هذه الأوضاع معروف: يرميه العلماء عن
قوس واحدة، ويحاربونه في نفسه ورزقه، ويرفعون أمره إلى السلطان على أنه
خطر يهدد البلاد والعباد، وكان السلاطين في غالبهم جهلة لا يميزون بين حق
وباطل، وهكذا كان يضطهد المخلصون.
نشأ ابن تيمية في هذه البيئة، ودرس عيوبها، وعرف بما آتاه الله من عقل
واسع وشخصية فذة، كيف يصدع بكلمة الحق في هذا المجتمع، وكيف يرجع
بالناس إلى الجادة المستقيمة. وكيف يحارب الخرافة والفلسفة، بل وكيف يقود
الجماهير في عصر ضعف فيه شأن السلطة واستفحل خطر أعدائها.
بدأ الشيخ دروسه سنة 681 هـ وانتهت إليه رياسة المذهب الحنبلي وهو في
مقتبل شبابه، وكتب (الفتوى الحموية) في عقيدة السلف، وكانت أول عمل علمي
ينشر فيه عقائد السلف المخالفة لمألوف الناس، فثار عليه العلماء وحاكموه وحرموه
من التدريس، ولم يثنه هذا أو يفلُّ من عزيمته، بل ظل يناضل في جميع الميادين
بلا هوادة، ويختط لأهل السنة طريق الإصلاح فألف في الرد على الرافضة،
والفلاسفة، وعلماء الكلام، والصوفية، والنصارى، وغيرهم. وألّف في دراسة
العيوب والمشاكل الاجتماعية وتحليلها، وألّف في الفقه ودراسة الأحكام على مذهب
الإمام أحمد ثم ألّف فيه باعتباره مجتهداً لا يلتزم بمذهب.
ونستطيع أن نقول: إن ابن تيمية أحيا مدرسة الحديث والسنة في عصره،
ورفع شأنها واستطاع أن يجتذب إليها صفوة العلماء في عصره، ويكفي أن نذكر
من أساطين هذه المدرسة الذين تتلمذوا على يديه: ابن قيم الجوزية، والإمام الذهبي، وابن كثير، والإمام المزي، والإمام محمد بن عبد الهادي.. ثم من ساروا على
النهج من بعد.
وإذا كان المقصود بالتجديد هو إرجاع الدين غضاً طرياً بعد أن تراكمت عليه
البدع والانحرافات بشتى أشكالها وصورها فذهبت برونقه وبهائه، إذا كان المقصود
هذا، فإن هذا الوصف ينطبق تماماً على شيخ الإسلام ابن تيمية، فمع وجود علماء
كبار في عصره وقبل عصره يجمعون بين العلم والعمل، وربما وصلوا إلى درجة
الاجتهاد، ولكن لم يقوموا بدور التجديد بشكل عام، وهو إرجاع الناس إلى السنة
وإلى المنهج الصحيح الذي يمنعهم عن الانحراف، ومحاربة كل أنواع الانحراف،
بينما نجد ابن تيمية قام بالأعمال التالية:
1- نقد مناهج الفلاسفة والمتكلمين وحاربهم بنفس سلاحهم وأثبت أن عقائد
الإسلام لا تحتاج إليهم، وأن ما يسمونه الأدلة البرهانية والعقلية موجودة في الكتاب
والسنة، ولئن كانت طبقة الفلاسفة ومن يتأثر بهم هي طبقة محدودة في المجتمع
الإسلامي فإن المتكلمين ومن يتبعهم يمثلون تياراً كبيراً، ولفهم ابن تيمية للصلة
الوثيقة بين الأفكار وأثرها قام بالهجوم أيضاً على أتباع هذا المذهب الذي حاول أن
يكون وسطاً بين تيار الاعتزال وبين أهل السنة، وعرضوا الإسلام عرضاً جافاً،
وكان رأيهم في الإيمان والقضاء والقدر وغيرها من أمور العقيدة مما أثر في فهم
المسلمين لدينهم وبالتالي في التطبيق العملي لهذا الدين؛ وكان هذا من أعظم أعمال
ابن تيمية في الدفاع عن عقيدة أهل السنة وبيانها بجلاء ووضوح، وقد ألف في ذلك
كتابه الفذ (درء تعارض العقل والنقل) .
2- نقد الفرق المنحرفة بأداة قوية وبيان ناصع كالجهمية والرافضة وغلاة
الصوفية وألف في ذلك (منهاج السنة النبوية) و (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء
الشيطان) .
كما رد على النصارى في كتابه القيم (الجواب الصحيح) الذي يعد من أعظم
ما كتب في الرد على النصارى.
وإذا كان العلماء السابقون لابن تيمية أو المعاصرون له، قد تفرغوا للعلم
ونشره، وألفوا في الحديث أو الفقه أو التفسير أو غير ذلك من العلوم الإسلامية فإننا
هنا بإزاء عالم يرى من واجبه إزالة ما تراكم من البدع والضلالات ورد الناس إلى
الكتاب والسنة ولذلك ألف في الموضوعات التي يرى أنها واجبة عليه لتحقيق هذا
الهدف، ولذلك لم يكتب تفسيراً كاملاً مع أن مادة التفسير كانت من أحب العلوم إلى
نفسه ولكنه يصرح أنه لا يريد أن يكرر ما كتب سابقاً ولذلك فسر سوراً معينة أو
آيات معينة.
3- أحيا الاجتهاد، والرجوع إلى النصوص الشرعية، وتحكيم الدليل بقوله
وفعله، فلم يكتف بالهجوم على التقليد المتعصب فحسب، بل زاول الاجتهاد ورجح
في المسائل التي يبحثها ما يراه أسعد بالدليل غير مكترث لمخالفة رأي فلان أو فلان، ولذلك لا نجد في تلاميذه وأتباعه من رواد هذه المدرسة ما نجده عند غيرهم من
التعصب الممقوت وإن كانوا متبعين لمذهب معين كابن كثير والذهبي وغيرهما.
ومن هذا المنطلق ناقش القضايا المستجدة الحادثة التي توقف فيها العلماء
وأعطى فيها الرأي المدعم بالدليل.
ومن ذاك فتاويه المشهورة في (التتار) وقد كانت حالتهم وضعاً سياسياً طارئاً
على المسلمين، لأن المتأخرين منهم المعاصرين لابن تيمية أسلموا وكان في جيشهم
القاضي والمفتي ولكنهم يقاتلون المسلمين ويتحاكمون فيما بينهم إلى قانونهم الخاص
الذي وضعه لهم (جنكيز خان) وقد تحير العلماء فيهم ولكن ابن تيمية قال فيهم كلمة
الحق.
وإن المتتبع لأوضاع عصرنا اليوم يجد أن ابن تيمية بقي حياً في واقعنا
السياسي، بل هو كما قال عنه مالك بن نبي: «قدم الترسانة الفكرية التي استمدت
منها كل الحركات الإسلامية التي جاءت بعده» .
4- زاول بنفسه القيادة الحقيقية للأمة، وكان جديراً بها، لمواهبه النادرة
العظيمة، واستجماعه لخصائص القائد، فكان يدافع عن مصالحها ضد المستغلين،
ويحفظ حقوقها ضد المنتهبين، ويدفع عنها كيد عدوها ما استطاع.
ولعل من أعظم المواقف موقفه مع التتار حيث كان يحرض الناس على قتالهم
ومنازلتهم، ويباشر القتال بنفسه، ويصدر الفتاوى التي تطمئن صدور الناس، بل
ذهب بنفسه إلى (قازان) التتري وأنّنبه وقال:
«إن أجدادك الوثنيين لم يجرؤوا على ما جرؤت عليه» وقازان لا يتكلم بل
يطلب منه الدعاء ويذهب الشيخ إلى مصر لمقابلة السلطان الناصر، ويكلمه كلاماً
شديداً فيقول له: «إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطاناً يحوطه
ويحميه» [1] .
وعلى الصعيد الداخلي كان ابن تيمية في جماعة من أصحابه الغيورين
يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعزير المفسدين ويحرض السلطان
على غزو بلاد النصيرية وتأديبدهم.
5- إن مواقف الشيخ هذه سواء في العقيدة أو الفقه أو غيرها لم يخترع لها
أصولاً جديدة وإنما استطاع أن يُعمِل أصول السلف ويطبقها على القضايا المستجدة
فوسع دائرة المنهج ليستوعب تلك القضايا مع بقائه مربوطاً بأصول منهج السلف
الأولى، وهذا هو التجديد عند ابن تيمية -رحمه الله- وجزاه الله خيراً عن الإسلام
والمسلمين.
__________
(1) البداية والنهاية 14 / 14.(7/7)
في الصحيح غُنية
عن الضعيف والموضوع
من الأخبار والآثار
الشيخ: مقبل بن هادي الوادعي
قال أبو نعيم - رحمه الله - في الحلية (4/139) حدثنا محمد بن أحمد بن
الحسن، ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث (ح [1] ) وحدثنا سليمان بن أحمد، ثنا
محمد بن عون السيرافي المقري، قالا: ثنا أحمد بن المقدام، ثنا حكيم بن خذام أبو
سمير، ثنا الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، قال:
وجد علي بن أبي طالب درعاً له عند يهودي التقطها فعرفها فقال: درعي
سقطت عن جمل لي أورق. فقال اليهودي. درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي:
بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحاً، فلما رأى علياً قد أقبل تحرف عن
موضعه وجلس علي فيه ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في
المجلس، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تساووهم في
المجلس وألجئوهم إلى أضيق الطرق، فإن سبوكم فاضربوهم وإن ضربوكم
فاقتلوهم. ثم قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي سقطت عن
جمل أورق، والتقطها هذا اليهودي. فقال شريح ما تقول يا يهودي؟ قال درعي
وفي يدي. فقال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين. إنها لدرعك ولكن لابد من
شاهدين، فدعى قنبراً مولاه والحسن بن علي وشهدا: إنهما لدرعه. فقال شريح:
أما شهادة مولاك فقد أجزناها، أما شهادة ابنك لك فلا نجيزها. فقال علي: ثكلتك
أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. قال اللهم نعم. قال: أفلا تجيز شهادة سيد
شباب أهل الجنة؟ والله لأوجهنك إلى (بانقيا) [2] تقضي بين أهلها أربعين يوماً
ثم قال لليهودي: خذ درعك. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي
المسلمين، فقضى عليه ورضي، صدقت -والله- يا أمير المؤمنين إنها لدرعك
سقطت عن جمل لك التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله،
فوهبها له علي، وأجازه بتسعمائة، وقتل معه يوم صفين. السياق لمحمد بن عون، وقال عبد الله بن سليمان فقال علي: الدرع لك، وهذا الفرس لك، وفرض له في
تسعمائة ثم لم يزل معه حتى قتل يوم صفين.
غريب من حديث الأعمش عن إبراهيم، تفرد به حكيم ورواه أولاد شريح
عنه عن علي نحوه.
حدثناه محمد بن علي بن حبيش قال: ثنا القاسم بن زكرياء المقري قال: ثنا
علي بن عبد الله بن معاوية بن ميسرة عن شريح. قال: لما توجه علي إلى حرب
معاوية افتقد درعاً له، فلما انقضت الحرب، ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد
يهودي يبيعها في السوق. فقال له علي: يا يهودي هذه الدرع درعي لم أبع
ولم أهب. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. فقال علي: نصير إلى القاضي، فتقدما إلى شريح، فجلس علي إلى جانب شريح، وجلس اليهودي بين يديه، فقال علي: لولا أن خصمي ذمي لاستويت معه في المجلس، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: صغروا بهم كما صغر الله بهم. فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين، فقال: نعم إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي، لم أبع ولم أهب. فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ فقال: درعي وفي يدي. فقال شريح: يا أمير المؤمنين بينة. قال: نعم قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي. قال: شهادة الابن لا تجوز للأب. فقال: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته! سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه؟ ! أشهد أن هذا للحق، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدرع درعك، كنت راكباً على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين، فوقعت منك ليلاً فأخذتها، وخرج يقاتل مع علي الشُراة [3] بالنهروان فقتل.
تحقيق الرواية:
هذه القصة قرأتها في سبل السلام للصنعاني عازياً لها إلى الحلية، وأعجبت
بها، وكنت آنذاك لا أميز بين الصحيح والموضوع، وقد ارتسمت في ذهني، لما
اشتملت عليه من العدل والإنصاف من أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-،
وقاضيه شريح بن الحارث الكندي -رحمه الله-، وبعد زمن طويل طالعت في
كتاب الأباطيل للجوزقاني فإذا هو يذكر القصة في الأباطيل. ولما رأيت الناس
معجبين بهذه القصة كما أعجبت بها، فذاك يلقيها في محاضرته، وآخر ينشرها في
مجلته، وآخر يذكرها في كتابه، والقصة لا تصح؛ رأيت أن أذكر ما قال أهل
العلم في هذه القصة، فالجوزقاني -رحمه الله- ذكرها في الأباطيل (2/197) وقال
(ص 198) : هذا حديث باطل تفرد به أبو سمير وهو منكر الحديث. إلى آخر ما
ذكره.
وذكرها ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/388) وذكر نحو ما ذكره
الجوزقاني.
وذكرها الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة أبي سمير حكيم ابن خذام
(وقد تصحف في الحلية والأباطيل إلى حزام) وذكر الحافظ الذهبي أن أبا حاتم قال:
إنه متروك الحديث. وقال البخاري منكر الحديث، يرى القدر. وقال القواريري:
وكان من عباد الله الصالحين.
فعلم بهذا أنها ضعيفة جداً من طريق أبي سمير حكيم بن خذام.
وأما السند الثاني ففيه سقط أو تصحيف، وهو من طريق علي بن عبد الله بن
ميسرة عن شريح، وعلي بن عبد الله بن معاوية لم يرو عن أبيه عن جده عن
شريح كما في الميزان واللسان، فعلم بهذا أن في السند سقطاً أو تصحيفاً، ثم علي
ابن عبد الله ذكر الإمام الذهبي عن أبي حاتم أنه كتب عنه قصة غير هذه أخبره بها. وقال: كتبت هذا لأسمعه من هذا الشيخ، ثم تركته لأنه موضوع.
ثم وجدت القصة بالسند الثاني في أخبار القضاة لمحمد بن خلف الملقب بوكيع
(2 / 194) فقال: حدثني علي بن عبد الله بن ميسرة بن شريح القاضي قال:
حدثني أبي عن أبيه معاوية بن ميسرة عن شريح قال: لما رجع علي من قتال
معاوية وجد درعاً له افتقده بيد يهودي يبيعها فقال علي: درعي، لم أبع ولم أهب.
فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فاختصما إلى شريح فقال له شريح: هل لك بينة؟ قال: نعم قنبر والحسن أبني. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب. قال:
سبحان الله رجل من أهل الجنة. فعلم بهذا أن في نعيم سقطاً أو تصحيفاً.
وسندها مظلم لم أجد في كتب الجرح والتعديل إلا ترجمة علي بن عبد معاوية
بن ميسرة في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم قال أبو حاتم: شيخ. اهـ.
فعلم أن هذه القصة لا تثبت وعدالة الإسلام معلومة من غير هذه القصة
الباطلة والحمد لله.
__________
(1) رمز لتحول الإسناد.
(2) اسم بلدة في العراق.
(3) الشُراة: فرقة من فرق الخوارج.(7/11)
من مشكاة النبوة
منصور الأحمد
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن
القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير. احرص على ما
ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان
كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان» .
هذا الحديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، ويمثل - بما يتضمنه من المعاني والدلالات- منهجاً سلوكياً مبنياً على قاعدة اعتقادية واضحة وراسخة، هذه القاعدة هي الإيمان بالقدر إيماناً صحيحاً بعيداً عن الاتكالية التي يهوي فيها كثير من المسلمين نتيجة الفهم الخاطئ لعقيدة القضاء والقدر، مما يفتح الطريق لأعداء الإسلام لرميه بكل الصفات المُنَفِّرة، ولوصم المسلمين كلهم بأنهم سلبيون واتكاليون وغير جديرين بأخذ زمام المبادرة في أي شيء، ولاتخاذ هذه الشبهة فاتحة وخاتمة يفتتحون ويختتمون بها هجومهم على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة.
يبدأ الحديث بتقرير حقيقة. لا ينبغي أن يعتريها الغموض، ولا أن يحيط بها
الشك وهي حقيقة التطلع إلى العلو، والارتفاع عن الضعة والضعف، والمجاهدة
والمكابدة من أجل التخلص من كل ما يربط الإنسان بالأرض، حقيقة القوة.
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير» .
هكذا على الوجه الذي يستغرق كل معاني القوة وكل معاني الخيرية، دون
استثناء، فلا يشار في الحديث إلى نوع معين من معاني القوة، ولا يحدد لها
محتوى محدد تنحصر فيه، كي لا تنجرف الشخصية إلى تقديس نوع بعينه من
أنواع القوى، فالمطلوب من المؤمن أن يكون قوياً في كل شيء ما وسعه ذلك. قوة
في البدن، وقوة في الحق.
وهذه القوة المفضلة المحبوبة من الله ليست غاية بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة
لغاية أسمى، فالمؤمن القوي أقدر على نشر الحق وتعريف الناس به، سواء في قوة
حجته أو قوة شخصيته وسلوكه.
والقوة التي يشيد بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجعلها مناط التفضيل هي
القوة المنبعثة من الإيمان، والمؤسسة على القاعدة التي تعصمها من الشطط والتهور؛ فتشيع الأمن في النفوس والاطمئنان في المجتمعات، وليست القوة التي تنطلق من
عقالها لتهلك الحرث والنسل، وتبث الرعب، وتركب مراكب التدمير لتعبد الناس
لها.
وحينما يستشعر المؤمن هذا المعنى تكبر نفسه، وتتطلع دائماً إلى أفاق جديدة
ترتادها، فلا يكتفي بكلمة الإيمان يقولها بينه وبين نفسه، بل يعمل بمقتضاها
ولوازمها، ويحملها للعالمين بقوة غير هياب ولا وجل، يمثل الصف المؤمن بعزته
فتترفع نفسه عن صغائر الأمور، ولا تبالي بالصعاب التي تعترضها في سبيل
عقيدتها. وكذلك من وجد في نفسه ضعفاً، سواء كان موروثاً أو مكتسباً، يحاول
جاهداً أن يتخلص منه بالتدرب على التحمل والمعاناة، وبمقدار ما يقطع من أشواط
في تحرير نفسه من معرة الضعف والخنوع يكون حب الله له.
وحتى لا يطرح المؤمن الضعيف نفسه في مهاوي اليأس -حينما يدركه العجز
عن السمو والارتفاع، فينحط نازلاً إلى منحدر لا قرار له؛ - يبقي الرسول -صلى
الله عليه وسلم- له شعلة الأمل مضيئة تنير نفسه، فتقف بها عند الحد الأدنى وهو
أصل الإيمان الذي يمسك نفسه ويجعلها تتطلع دائماً إلى الأفضل.
ثم يرسم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- الخطة العملية من أجل
تحقيق معنى القوة الذي جعله مناطاً للأفضلية، وهو الحرص على ما ينفع. وما
ينفع هنا تحدده الغاية الأولى، وهي الإيمان، فكل ما يعود بالنفع على هذه الغاية
النبيلة فالحرص عليه مطلوب، والبحث من نيله مسعى كريم يثاب عليه المؤمن،
حتى وإن أضيف إلى المؤمن نفسه، فالمؤمن هو الأداة الرئيسية التي أوكل الله إليها
تنفيذ شرعه، وإقامة دينه، وكل ما يجعل هذه الأداة تقوم بعملها خير قيام فهو داخل
في دائرة المطلوبات لله عز وجل، وكل ما يعوقها عن أداء هذه الأمانة وتبليغ هذه
الرسالة فهو داخل في دائرة الممنوعات التي طلب إلى المؤمن اجتنابها.
ومن أجل أن لا يتكل المؤمن على نفسه، ولا يغتر بقوته أبداً؛ ومن أجل أن
يظل على ذكر من خالقه ورازقه وواهبه كل المواهب والوسائل يطلب النبي -صلى
الله عليه وسلم- منه أن يستعين بالله، فكل عمل لا يستعان بالله عليه لا يبارك الله
فيه، لأنه يكون مصروفاً إلى غير مرضاة الله من الغايات النفسية كالأثرة وحب
الجاه وإشباع الرغبات.
وقد جاءت جملة (واستعن بالله) على سبيل الاحتراس، وذلك لكثرة ما
يكتنف الأعمال والمساعي من نسيان هذا الأصل الاعتقادي الأصيل وهو الاستعانة
بالله في الأمور كلها، والتبرؤ من الحول والطَوْل إلا به -سبحانه وتعالى-.
وجاءت جملة (ولا تعجز) احتراساً ثانياً، حتى يتضح المعنى المطلوب
للاستعانة، فلا تقتصر علي الاستعانة باللسان دون اتخاذ للأسباب، ومع ذلك فإن
كثيراً من الناس فهم الأوامر الشرعية معزولة عن سوابقها ولواحقها، مقطوعة عن
الظروف التي تحيط بها، ومنفصلة عن الأساس الذي تنبثق منه. فكم من الناس
من يحرص على ما ينفعه دون الاستعانة بالله، فينحرف بعمله عن غايته المطلوبة،
إلى غاية قصيرة المدى -كحب الذات- فيقع في دائرة الطمع والطغيان! وكم من
المسلمين من استحال به الأمر إلى أن لا يقابل متطلبات الدعوة إلى الله بغير الدعاء
دون عمل، بل دون التفكير بعمل! ولا يقابل الصعوبات والكوارث النازلة
بالمسلمين بغير الحوقلة والاسترجاع، ولا شيء غير ذلك! . فينبغي أن تفهم هذه
الجمل الثلاث على أنها معنى واحد متصل، لا أنها ثلاث جمل منفصلة، فطلب ما
ينفع، والحرص عليه يجب أن يكون محاطاً بالاستعانة بالله، بعيداً عن العجز
والخَوَر والضعف.
وكي يكون المؤمن إيجابياً دائماً، بعيداً عن كل ما يوقعه في دائرة الندم الذي
يشل الحركة، ويكبل الفكر، ويكدر الإحساس؛ يطلب منه الرسول -صلى الله
عليه وسلم- عندما يصيبه مكروه، أو لا يتحقق له ما يريد - بعد أن يكون قد بذل
جهده، واستفرغ وسعه - أن يكف عن تقريع نفسه، وأن يحررها من الأسف على
ما مضى، فما مضى لا يمكن أن يعود، والتقريع لن يعيد مفقوداً، ولن يصحح
خطأ، وقصاراه أن يلف النفس بغيوم من الهم تقتل الأمل، وتغتال النشاط أو تجمده.
ذلك لأن المرء إذا صحت غايته، وخلصت نيته، وقام بالأسباب فليس من
الضروري أن تترتب النتائج بناء على ما قدم من مقدمات، لأن تقدير الله هو
الغالب، ومشيئته هي الماضية، فلا ينبغي أن تتقطع النفس حسرات على تخلف
النتيجة عن الفعل بعد استفراغ الوسع، واستنفاد الأسباب.
وفضلاً عن أن هذا الأسف وهذا اللوم الذي يوجه إلى النفس لا يفيد شيئاً، فإن
فيه نوع اعتراض على قدر الله، حيث ينظر المرء إلى الفعل وكأنه جهد شخصي
معزول، لا علاقة لمشيئة الله له، وكذلك فيه تأَلٍّ عليه سبحانه وتعالى، لذلك يحفز
النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن على أن ينأى بنفسه عن مثل ذلك فيقول:
«ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» .
ولنا أن نتوقع أشياء كثيرة من أعمال الشيطان التي تفتحها كلمة: (لو)
ونتصور احتمالات الشر على كثرتها عندما يسلم الإنسان قياده إلى الشيطان.
فالشيطان لا يريد للمؤمن راحة البال ونقاء السريرة، ولا يريد له أن يوجه ... جهده إلى عمل إيجابي منتج له ولفكرته، ويحول بينه وبين تجاوز الخطأ، ويسره أن يدور الإنسان المؤمن في حلقة متصلة من الأخطاء المتتابعة ولا يهتدي لمخرج من ذلك.
وهكذا يحدد الرسول الكريم للمؤمن الغاية والهدف، ويسلحه بالوسيلة، ويرسم
له مجال العمل: قلب متصل بالله ومتجه إليه، وجهد إيجابي يتطلع إلى الأحسن
دائماً، وأعمال تستمد فاعليتها عن تسديد الله لها، ونفس راضية تقابل المصاعب
بالصبر والثبات، وسد لكل ذرائع الشيطان التي يسهل تسلله منها.
فلله ما أَسَدَّ هذا الكلام، وما أسمى هذا التوجيه، ولسنا ندري -والله- بأي
جانبيه نحن أشد إعجاباً: بوجازته وجمال سبكه؟ أم بما احتواه من كريم المعنى
وجليل المحتوى؟ !
فصلى الله وسلم على قائله، وجمعنا به، وسقانا من حوضه.(7/15)
النبي والرسول
د. سليمان العايد
1- النبي في اللغة:
إن النبي على وزن فعيل، معلول الآخر، فإن كل مهموزاً فهو من النبأ
بمعنى الخبر، قال تعالى: [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * ... عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ] ، وسمى النبي نبيئاً لأنه مخبَر من الله، مخبِر عنه، قال تعالى: [قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ] [التحريم /3] ، وقال: [نَبِّئْ عِبَادِي
أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ] ، [الحجر / 149] ، وقال: [ونَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ]
[الحجر/ 51] .
فالنبي هو الذي يخبَر من الله، ما يخبره به ملك الوحي، ويبلغهم أمره ونهيه
ووحيه.
وهو فعيل بمعنى فاعل أو مفِعل مثل أليم بمعنى مؤلم.
ويجوز أن يكون مأخوذاً من (النبء) بمعنى المرتفع، والنبأة: النَّشَز من
الأرض. والنبىء: الطريق الواضح.
وإذا كان صحيحاً فجمعه على فعلاء (نبآء) وقال الجوهري: يجمع أنبياء،
لأن الهمز لما أبدل، وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة. وأما إن
كان معلول الآخر فهو مأخوذ من النبوة والنباوة، وهى الارتفاع عن الأرض، أي
أنه أشرف على سائر الخلق، فأصله غير الهمز.
وقال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة بالهمز. غير
أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية، والخابية، إلا أهل مكة،
فإنهم يهمزون هذه الأحرف، ولا يهمزون غيرها، ويخالفون العرب في ذلك. قال: والهمز في النبي لغة رديئة.
وقال الزجاج: القراءة المجمع عليها في النبيين والأنبياء طرح الهمزة، وقد
همز جماعة من أهل المدينة جميع ما في القرآن من هذا.
والنبي هو الطريق، قال الكسائي: النبي: الطريق، والأنبياء: طرق الهدى، قال أبو معاذ النحوي: سمعت أعرابياً يقول: من يدلني على النبي أي على
الطريق.
والنبي: العلم من أعلام الأرض التي يهتدى بها. قال بعضهم: منه اشتقاق
النبي، لأنه أرفع خلق الله، وذلك لأنه يهتدى به. والنبي معلول الآخر يجمع على
الأنبياء كغني وأغنياء. والنبي سمي نبياً لأنه يجمع المعاني المذكورة كلها فهو
الطريق الوحيد إلى الله، وهو أكبر عالم في الطريق إلى الله، وهو رفيع المنزلة،
ارتفع قدره لأنه شرف على سائر الخلق. ثم هو بعد ذلك يُنبئ بخبر السماء.
2- الرسول:
يطلق في اللغة على معنيين:
أولهما: الإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه أي وجه، قال تعالى عن بلقيس
ملكة اليمن: [وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ] [النمل /35] . والاسم الرسالة، والرسول، والرسيل. قال كثير عزة:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر، ولا أرسلتهم برسيل
روي: برسول.
والرسول يطلق على الرسالة. يؤنث ويذكر، ويطلق على المرسل ويستوي
في رسول المذكر والمؤنث والواحد والجمع مثل عدو وصديق، قال تعالى: [إنَّا
رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ] وقال أبو ذؤيب الهذلي:
ألكنى إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر
أراد خير الرسل، فوضع الواحد موضع الجمع كقولهم: كثر الدينار والدرهم. أي كثرت الدراهم والدنانير.
وثانيهما: المتابعة. قال تعالى: [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً
رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ]
[المؤمنون / 44] ، قال ابن عباس في تفسير [تترى] يعني يتبع بعضهم ... بعضاً [1] . وقد أخذ هذا المعنى من قوله: «جاءت الإبل رسلاً» أي متتابعة. وقيل في معنى المتابعة: إن من يوحى إليه متابع للأخبار عن الله عز وجل، فالرسول يتابع أخبار الذي بعثه، أخذاً من قولهم الآنف ذكره.
وقد يطلق الرسول على الرسالة، قال تعالى عن موسى وأخيه: [فَقُولا إنَّا
رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ] أي: إنا رسالة رب العالمين أي ذوا رسالة رب العالمين.
كذا قاله أبو إسحاق. وقد سبق الكلام عليه.
«والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة، وإرسال الرياح، وإرسال
الشياطين وإرسال النار، قال تعالى: [يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ونُحَاسٌ] ،
وقال تعالى: [جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً] والملك في اللغة: هو حامل الألوكة، وهي
الرسالة، وقد قال في موضع آخر: [ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْياً أَوْ مِن
ورَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ] . وقال تعالى: [وهُوَ الَذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ] .
وقال تعالى: [أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاً] ، لكن
الرسول المضاف إلى الله إذا قيل رسول الله، فهو من يأتي برسالة من الله من
الملائكة والبشر كما قال: [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ] . وقالت
الملائكة: [يَا لُوطُ إنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إلَيْكَ] . وأما عموم الملائكة والرياح
والجن فإن إرسالها لتفعل فعلاً، لا لتبلغ رسالة، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً] . فرسل الله الذين يبلغون عن الله أمره ونهيه هي رسل
الله عند الإطلاق ? وأما من أرسله الله ليفعل فعلاً لمشيئة الله وقدرته فهذا عام يتناول
كل الخلق، كما أنهم كلهم يفعلون بمشيئته وإذنه المتضمن لمشيئته، لكن أهل
الإيمان يفعلون بأمره ما يحبه ويرضاه، ويعبدونه وحده، ويطيعون رسله،
والشياطين يفعلون بأهوائهم وهم عاصون لأمره متبعون لما يسخطه، وإن كانوا
يفعلون بمشيئته وقدرته [النبوات، ص 174] .
وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاً] في قوله أرسلنا وجهان: أحدهما أنا خلينا الشياطين وإياهم،
فلم نعصمهم من القبول منهم. قال: والوجه الثاني: وهو المختار أنهم أرسلوا
عليهم وقيضوا لهم بكفرهم، كما قال تعالى: [ومَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] ومعنى الإرسال هنا التسليط. قال أبو العباس: الفرق
بين إرسال الله -عز وجل- أنبياءه وإرساله الشياطين على أعدائه في قوله تعالى:
[أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ] أن إرساله الأنبياء إنما هو وحيه إليهم أن:
أنذروا عبادي. وإرساله الشياطين على الكافرين تخليته وإياهم، كما تقول: كان
لي طائر فأرسلته، أي: خليته وأطلقته. [اللسان (رسل) ]
ومثل الإرسال» لفظ البعث يتناول البعث الخاص والبعث الشرعي كما قال:
[هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ] ويتناول البعث العام الكوني. كقوله: ... [فَإذَا جَاءَ وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ] .
وقال تعالى: [وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ ... العَذَابِ] . فالعام بحكم مشيئته وقدرته. والخاص هو أيضاً بحكم مشيئته وقدرته. وهو مع ذلك بحكم أمره ورضاه ومحبته. وصاحب الخاص من أولياء الله يكرمه ويثبته، وأما من خالف أمره، فإنه يستحق العقوبة ولو كان فاعلاً بحكم المشيئة، فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئاً، ولا يحتج بالمشيئة على المعاصي، إلا من تكون حجته داحضة، ويكون متناقضاً، متبعاً لهواه، ليس عنده علم بما هو عليه كالمشركين الذين قالوا: [لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ] [النبوات 174 - 175] .
الفرق بين النبي والرسول:
لدينا في هذه المسألة أربعة أقوال، وكل قول له أنصاره، ومؤيدوه وأدلة على
ما ذهبوا إليه.
وأول هذه الأقوال، قول من قال: إنهما لفظان مترادفان، وفي الشفاء
للقاضي عياض 1/488 «مثل: هما سواء، وأصله من الإنباء وهو الإعلام.
واستدلوا بقوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ] فقد أثبت لهما معاً الإرسال، قال: ولا يكون النبي إلا رسول؛ ولا الرسول إلا نبياً.
والناظر في النصوص الأخرى يجد ما يرد هذا الرأي ويضعفه، وأول هذه
النصوص الآية المذكورة آنفاً، وهي دليلهم على ما قالوا إذ فرق الله تعالى بين
الاسمين، ولو كانا شيئاً واحداً لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ [انظر ... الشفاء 488] .
ووصف الله بعض رسله، بالنبوة والرسالة، قال تعالى عن نبيه موسى -
صلى الله عليه وسلم-: [واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وكَانَ رَسُولاً
نَّبِياً] ، فجمع بين النبوة والرسالة بالعطف بالواو، وهذا يدل على أنهما لفظان
متغايران، أو أن أحدهما يشتمل على معنى زائد عن الآخر، ولا يجوز عطف
المتماثلين من كل وجه.
ويضعفه الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك
وابن حبان عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال:» قلت: يا رسول الله كم
المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً «وفي رواية أبي أمامة قال
أبو ذر:» قلت: يا رسول الله، كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف، وأربعة
عشر ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً «.
فهذه النصوص كلها صريحة في رد رأي من يقول بترادف اللفظين، ولم يبق
أمامنا إلا أن نقول: إنهما مفترقان من وجه، ويجتمعان من وجه، وتلمساً لهذا
الفرق، قال بعضهم: إن النبي من أوحى إليه بشرع، ولم يؤمر بالتبليغ،
والرسول من أوصي إليه، وأمر بالتبليغ. واستدلوا لرأيهم بقوله تعالى: [وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ] . إذ قالوا: المعنى:» وما أرسلنا من رسول إلا أمة، أو نبي وليس بمرسل إلى أحد «.
واستدلوا بالمدلول اللغوي للكلمتين، فالنبي مأخوذ من الإنباء والنبأ وهو الخبر بينما
الرسول مأخوذ من البعث والتوجيه.
وهذا الرأي لا يخلو من ضعف، لأن الله قد نص على إرسال الرسل والأنبياء
في الآية المذكورة [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ] فالرسل والأنبياء مرسلون، وهم يقولون: المرسلون الرسل،
دون الأنبياء.
2- قول الله تعالى: [ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] [الأعراف 56] . وتقول
الملائكة: [رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْماً] [غافر 7] ، والرحمة من معانيها
النبوة، قال تعالى: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ] وفي ترك البلاغ والإنذار كتمان
لرحمة الله، وتضييق لها، وتحجير لواسعها، وجحد لنعمة الله التي أمر نبيه أن
يحدث بها [وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] ، وأعظهم رحمة، وأكبر نعمة هي رحمة
الهداية، ولم يثبت بنص صحيح أن الله اختص نبياً من الأنبياء، وأوحى إليه وحياً، وقال له: هذا لك خاصة لا يشركك فيه الناس.
3- النصوص في القرآن والسنة تبين أن الأنبياء كانوا يقاتلون في سبيل الله،
والقتال من أكبر وأعظم واجبات الدعوة والتبليغ، قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ
مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا] [البقرة /246-252] .
وروى مسلم والإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-:» غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع
امرأة، وهو يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً، ولم يرفع سقفها،
ولا آخر قد اشترى غنيمات أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا، فدنا من القرية
حين صلى العصر، أو قريباً من ذلك. فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور،
اللهم أحبسها علي شيئاً «.
وقال تعالى: [إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ واخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] [المائدة /44] .
4 - ما رواه البخاري 11 /405 ومسلم من حديث ابن عباس أنه قال: قال
النبي - صلى الله عليه وسلم -:» عرضت علي الأمم، فأخذ النبى يمر معه الأمة، والنبى يمر معه العشرة، والنبى يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت
فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال لا، ولكن انظر إلى الأفق،
فنظرت فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك.. الخ «ووجه الاستدلال تفاوت
الإجابة من الأمم، وهذا لا يكون إلا بعد دعوة من الأنبياء. ثم إن هذا الحديث قد
يكون في مقام عزاء الرسول لقلة من أجابه، وآمن به، وفي مقام تبشيره، فناسب
عرض الأمم السابقة وكأن الحديث يقول: إن هؤلاء على ما بذلوه بين جهد في
الدعوة، أنت أكثر منهم أمة. والله أعلم.
5 - إن اتباع الأنبياء -وهم لا يوحى إليهم- مطالبون بالتبليغ، والدعوة
والجهاد فكيف بالأنبياء وهم أفضل، وقد اختصهم الله بالوحي، قال تعالى [قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي] وقال تعالى [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] وقال - صلى الله عليه
وسلم -: (بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) . وقال:» لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم «، وقال - صلى الله عليه وسلم -:» من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على النفاق «.
وقال فريق آخر: إن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي من لم
يوح إليه بشرع جديد. وإن أمر بالإبلاغ والإنذار [2] .
ولا أعلم لهؤلاء دليلاً على قولهم هذا إلا استقراء متفوضاً بمثل يوسف، فقد
كان رسولاً وكان على ملة إبراهيم، وداود وسليمان كانا رسولين، وكانا على
شريعة التوراة، قال تعالى عن مؤمن من آل فرعون: [ولَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن
قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ
رَسُولاً] وقال تعالى [إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
وأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ وعِيسَى وأَيُّوبَ ويُونُسَ
وهَارُونَ وسُلَيْمَانَ وآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * ورُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ورُسُلاً
لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] [النساء: 163-164] .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بينهما إلى أن الرسول هو من يبعث
إلى مخالفين أي قوم كافرين، فيدعوهم إلى الإسلام، والنبي هو من يرسل إلى
موافقين يقيم فيهم حكم الله الذي يعرفونه ويؤمنون به. قال في كتاب النبوات:
» النبى هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف
أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله
ولم يرسله هو إلا أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول. قال تعالى
[وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ] ... [الحج 52، 53] ، وقوله، [مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ] فذكر إرسالاً يعم النوعين، وقد خص أحدهم بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس وقبلهما آدم كان نبياً مكلماً، قال ابن عباس:
«كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام» فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنون الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول، وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قضية معينة، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن، كما فهّم الله سليمان حكم القضية التى حكم فيها هو وداود، فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره، وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله من الخبر والأمر والنهي، فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، ولابد أن يكذب الرسول قومٌ، قال تعالى: [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ، وقال: [مَا يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ] . فإن الرسل ترسل إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم، وقال:
[ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] ، وقال: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ، فقوله: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا ... نَبِيٍ] دليل على أن النبي مرسل. ولا يسمى رسولاً عند الإطلاق، لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعالم، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «العلماء ورثة الأنبياء» .
وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة انتهى [172-173] .
هذه هي الآراء في التفريق بين النبي والرسول، والثلاثة الأخيرة تفرق بينهما
وهو الصحيح. وقال القاضي عياض: والصحيح والذي عليه الجماء الغفير أن كل
رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً [3] .
__________
(1) تفسير بن كثير، 5/468.
(2) الشفاء 1/488، وتفسير الآلوسي 17/157.
(3) الشفاء 1/488.(7/19)
خواطر في الدعوة
ثم يأتي سبع عجاف ...
محمد العبدة
عندما يتاح للدعوة أن تنشط وتعبر عن نفسها، وتنطلق في صفوف الناس
لتنقذهم من الظلمات إلى النور، وتنقلهم من الجهل إلى العلم، وتأخذ بأيديهم إلى
الحياة الكريمة، عندما يتاح لها ذلك لماذا لا يستطيع أصحابها استثمار هذا الرخاء
كما فعل نبي الله يوسف -عليه السلام- عندما علم أنه سيأتي بعد الرخاء سبع
عجاف. فأخذ للأمر أهبته واستعد له استعداد الحازم البصير. ولم يموه على نفسه
وعلى الناس ويطمئنهم بأن الأمور تسير إلى الأحسن، بل صارحهم وبين لهم.
ونحن نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- يبتلي المؤمنين بسنوات عجاف ليخرجوا
من المحنة أكثر مضاء وصفاء، وأكثر خبرة ودراية، فيستغلوا كل ظرف ومناسبة
للسير بالدعوة خطوة أو خطوات إلى الأمام، ونحن نعلم ما يخطط له الأعداء من
مكر الليل والنهار، وما يفعله الذين لا يكفون عن البطش والقهر وكأنهم الوحش
الذي ولغ في الدماء فهو يتلذذ بها، فإذا أبعد الله هؤلاء وأراح منهم العباد والبلاد
فليهتبل المسلمون الفرصة وليضاعفوا من نشاطهم ويرسخوا أقدامهم.
لقد أتيحت للمسلمين فرصة في صلح الحديبية فاستغلها الرسول -صلى الله
عليه وسلم- أحسن استغلال، ووافق على الشروط التي ظاهرها لمصلحة قريش،
وتمكن المسلمون بعدها من نشر الدعوة والتجوال بين القبائل لا يردهم أحد، وفي
فترة قصيرة تضاعف عدد المسلمين، فالذين حضروا الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة،
والذين حضروا فتح مكة بعد سنتين كانوا عشرة آلاف، وهذا الصلح هو الفتح
المقصود بالآية [إنا فتحنا لك فتحا مبينا] فهو فتح بالفرصة التي أتيحت للدعوة،
فأقبل الناس على دين الله أفواجاً.
إن عرض الإسلام في جو من هدوء الأعصاب وحرية الحوار بالحجة والكلمة
الطيبة سيكون له أبلغ الأثر في صفوف الآخرين، ذلك أن الحق له قوة ذاتية يظهر
بها على الباطل، فإذا أحسن العرض واختير الوقت المناسب، وكان الداعية عالماً
بما يدعو له، فطناً أريباً قد فقه مقاصد الإسلام ومراميه، جاءت النتائج طيبة بإذن
الله.
أما تضييع الفرص بسبب حسن ظننا الذي لا حدود له، وأنه لن يأتي ما
يزعجنا ويعكر صفو راحتنا، وأن الأمور تسير كما نريد، فليس وراء هذا إلا
العجز والندم. وقد تستغل الفرصة بأعمال ضعيفة ليس لها أثر يذكر، وتمضي
الأيام والسنون دون القيام بعمل ترتاح له نفس المسلم ويبنى عليه ما بعده، ولا
يحتاج كل جيل للبدء من جديد والرجوع إلى نقطة الصفر، ومتى يشفى صدر
المؤمن إذا كانت كل الجهود والطاقات تذهب للتكديس لا للبناء.(7/27)
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً
عثمان جمعة ضميرية
إن كل دين من عند الله تعالى يتضمن جانبين اثنين: العقيدة، والشريعة، إذ
أن من طبيعة الدين الرباني أن يتضمن تنظيماً لحياة الناس بالتشريع، وأن لا
يقتصر على الجانب العقدي وحده، ولا على الجانب التهذيبي أو الأخلاقي وحده،
ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك.
فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله تعالى للبشر، فهو يربط حياة الناس
بمنهج الله تعالى، ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية عن الشعائر التعبدية،
ولا عن القيم الخلقية، ولا هذا وذاك عن الشعائر والأحكام التنظيمية، في أي دين
يريد أن يصرِّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي..
وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس، كما يبطله في
الحياة، وهذا يخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله تعالى.
وإذا كانت العقيدة واحدة لا تختلف؛ فإن الشريعة لكل قوم، مباينة لغيرها من
الشرائع، مختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً،
ثم يجعله الله تعالى حلالاً في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وقد يكون خفيفاً في
شريعة، فيزداد في الشدة في شريعة أخرى، وقد تختلف طرق العبادة نظراً
لاختلاف الناس وطرق تعليمهم، باختلاف استعداداتهم وظروف بيئتهم في مختلف
العصور والأزمان، إذ أن الشريعة تأتي لتلبية حاجات الناس، وفق علم الله -
سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما يصلح للبشر في مكان وفي كل زمان، وهذه الحاجات
قد تختلف من أمة لأخرى ومن زمن لآخر.
كما تختلف الشرائع في شمولها لبعض الأحكام مما لم يكن منصوصاً عليه في
شريعة سابقة خاصة؛ لأن كل شريعة لاحقة إنما جاءت مكمِّلة أو موضحة لشريعة
سبقتها، أو مصححة لما وقع فيها من انحراف.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما جاءت به شريعتنا الإسلامية من تعاليم، مما
لم يكن في الشرائع السابقة، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية، وفي
روابطهم الشخصية، ومعاملاتهم، بعضهم مع بعض، فردية كانت هذه المعاملات
أو جماعية، كبيان أحكام البيع والإجازة في العقارات والمنافع.. وغير ذلك من
ضروب المعاملات.
وهذا الاختلاف بصوره المتنوعة، إنما يقتضيه ما لله -سبحانه وتعالى- من
الحكمة البالغة والحجة الدامغة في اختلاف صور العبادات والشرائع باختلاف
استعداد الأقوام ومقتضيات الزمان والمكان.
وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى كثير من هذه المعاني، فقال عن ... عيسى - عليه السلام -:
[ومُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ولأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ] ... [آل عمران: 50] . وقال -سبحانه وتعالى- عن دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم- ورسالته: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] ... [الأعراف: 157] .
وقال الله تعالى أيضاً: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا
كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ]
[المائدة: 15] .
ثم يضع الله -سبحانه وتعالى- قاعد عامة فيقول: [ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
[البقرة: 148] .
فكل أهل دين لهم قبلة ووجهة، فلليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني
وجهة هو موليها، وقد هداكم الله تعالى -أيها المسلمون- إلى القبلة الجديرة بأن
تتوجهوا إليها، وثم وجه الله.
وهذا شبيه بقول الله -تبارك وتعالى-: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] [المائدة: 48] .
فقد جعل الله تعالى لكل أمة شريعة ومنهاجاً، أي سبيلاً وسنة وطريقة، وهذه
السنن والطرق مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلل
الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، ليبتلي بذلك عباده، فيعلم من يطيعه ومن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل الله تعالى غيره هو: التوحيد والإخلاص لله،
الذي بعث الله تعالى به رسله وأنبياءه -عليهم الصلاة والسلام-.
يدل على هذا المعنى: أن الله -سبحانه وتعالى- ذكر في سياق الآيات
الكريمة السابقة ما كتبه على بني إسرائيل في التوراة، وذكر بعد ذلك: أنه قفَّى
بعيسى بن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بعثه إليهم
بالعمل بما فيه، كما أمر بني إسرائيل بالعمل بالتوراة، ثم ذكر نبينا محمداً -صلى
الله عليه وسلم- وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب،
وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أُنزل إليه، دون سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه
قد جعل له شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله، ممن قصَّ عليه قصصهم، وإذ
كان دينه ودينهم واحداً. فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم، ولأمته فيما
أحل لهم وحرم عليهم، فقال سبحانه وتعالى: [إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن
كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] ، إلى قوله تعالى مخاطباً نبيه محمداً -صلى الله
عليه وسلم-: [وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً
عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً] [المائدة: 48] .
ويقول الشيخ ولي الدين الدهلوي رحمه الله، في بيان هذا المعنى: إن أصل
الدين واحد، اتفق عليه الأنبياء -عليهم السلام-، وإنما الاختلاف في الشرائع
والمناهج، وتفصيل ذلك:
أن الأنبياء جميعاً -عليهم السلام-، قد أجمعوا على توحيد الله تعالى. عبادة
واستعانة، وتنزيهه عما لا يليق به، وتحريم الإلحاد في أسمائه، وأن حقَّ الله على
عباده: أن يعظّموه تعظيماً لا يشوبه تفريط، وأن يسلموا وجوههم وقلوبهم إليه،
وأن يتقربوا بشعائر الله إلى الله، وأنه قدّر جميع الحوادث قبل أن يخلقها، وأن لله
ملائكته لا يعصونه فيما أمر، ويفعلون ما يؤمرون، وأنه ينزل الكتاب على من
يشاء من عباده، ويفرض طاعته على الناس.. فهذا أصل الدين، ولذلك لم يبحث
القرآن الكريم عن ماهيِّة هذا الأشياء -إلا ما شاء الله- لأنها كانت مسلَّمة فيمن نزل
القرآن الكريم بألسنتهم. إنما الاختلاف وقع في صور هذه الأمور وأشكالها، فكان
الرجم في شريعة موسى -عليه السلام-، وجاءت شريعتنا بالرجم للمحصن،
والجلد لغيره. وجاء في شريعة موسى القصاص فقط، وجاءت شريعتنا بالقصاص
والدية جميعاً ... وعلى ذلك اختلافهم في أوقات الطاعات وآدابها وأركانها.
وبالجملة: فالأوضاع الخاصة، مُهِّدت وبينت بها أنواع البر والارتفاقات هي
الشرعة والمنهاج [1]
ولكن الشرعة والمنهاج الذي لا يقبل الله تعالى غيره هو ما أمر الله تعالى
محمداً -صلى الله عليه وسلم-، لأن شريعته هي كلمة الله الأخيرة، التي جعلها الله
تعالى له ولأمته إلى قيام الساعة. وقد جاء الأمر بذلك من الله -سبحانه وتعالى-،
فأمره أن يحكم بهذه الشريعة التي جعلها الله تعالى له، من بعد الذي آتاه بني
إسرائيل، الذين وصف الله تعالى لنبيه صفتهم في اختلافهم بغياً بينهم، فقال
سبحانه وتعالى:
[ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] ... [الجاثية: 16-18] .
ولن يفوتنا هنا أن نشير إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا أن
أصل دين الأنبياء واحد، وإن كانت شرائعهم مختلفة، كما أنَّ أولاد العلاّت أبوهم
واحد، وإن كانت أمهاتهم شتى، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
«أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة» قالوا: كيف
يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من عَلاّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد،
وليس بيننا نبي» [2] .
__________
(1) حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي: 1/86-88.
(2) أخرجه البخاري ومسلم.(7/29)
من أعلام الإسلام
الطحاوي [1]
229-321 هـ
إعداد: سليمان الحرش
أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الحجري المصري
الطحاوي الحنفي، نسبة إلى (طحا) في قرى مصر، ولد سنة تسع وعشرين
ومائتين. تفقه على مذهب الإمام الشافعي ثم انتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة.
وقد ذكر ابن خلكان في الوفيات: أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه
عن مذهب الشافعي لأن خاله المزني قال له يوماً: والله لا يجيء منك شيء.
فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي، حتى برع وفاق
أهل زمانه، وانتهت إليه رئاسة الحنفية في مصر.
شيوخه:
تخرج -رحمه الله- على كثير من الشيوخ، وأفاد منهم، وقد أربى عددهم
على ثلاثمائة شيخ، فقد سمع من هارون بن سعيد الأيلي، وعبد الغني بن رفاعة،
ويونس بن عبد الأعلى، وعيسى بن مثرود، ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم،
وبحر بن نصر الخولاني، وخاله أبي إبراهيم المزني، فقد روى عنه مسند الشافعي، وسليمان ابن شعيب الكيساني، ووالده محمد بن سلامة، وإبراهيم بن منقذ،
والربيع بن سليمان المُرَادي، وبكار بن قُتيبة، ومقدام بن داوود الرُعيني، وأحمد
ابن عبد الله بن البرقي، ومحمد بن عقيل الفريابي، ويزيد بن سنان البصري
وغيرهم.
تلاميذه:
وروى عنه خلق منهم: أحمد بن القاسم الخشاب، وأبو الحسن محمد ابن
أحمد الأخميمي، ويوسف الميانجي، وأبو بكر بن المقريء، وأبو القاسم الطبراني، وأحمد بن عبد الوارث الزجاج، وعبد العزيز بن محمد الجوهري، قاضي
الصعيد، ومحمد بن بكر بن مطروح، ومحمد بن الحسن ابن عمر التنوخي،
ومحمد بن المظفر الحافظ، وغيرهم.
وارتحل إلى الشام في سنة ثمان وستين ومائتين، فلقي القاضي أبا خازم وتفقه
عليه.
عقيدته ومنهجه:
الإمام الطحاوي من أئمة السلف الصالح، العاملين على هدي من الله وبصيرة، الذين لا يألون جهداً في نشر مذهب السلف في العقيدة المستمدة من الكتاب والسنة، وخير شاهد على ذلك كتابه العظيم -والذي تلقاه العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول-
(العقيدة الطحاوية) فإن الدارس لهذا الكتاب يتبين له من خلال دراسته أن مؤلفه -
رحمه الله- قد التزم بمنهج أهل السنة والجماعة، في مفهوم الاعتقاد، وخاصة فيما
يتعلق بالأسماء والصفات، والتي جنحت فيها كثير من الفرق، من مشبهة،
ومعطلة، ومؤولة إلا ما أخذ عليه في بعض المواطن النادرة (وأبى الله أن يتم إلا
كتابه) .
أما منهجه في المذهب وترجيحه للأقوال فإنه يعتبر قدوة ومدرسة في ذلك،
فلم يمنعه التزامه بمذهب (أبي حنيفة رحمه الله) النظر في الأدلة والأقوال المخالفة لمذهبه، وترجيح بعضها على بعض بحسب ما يراه راجحاً، وما يتبين له من الحق، وهذا من أمثل المناهج في التفقه والنظر، وذلك لمن حصلت له الأهلية في ذلك.
ومما يؤيد ذلك ما قاله ابن زولاق: «سمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر
الطحاوي يقول: سمعت أبي يقول: وذكر فضل أبي عبيد بن جرثومة وفقهه، فقال: كان يذاكرني في المسائل فأجبته يوماً في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة!
فقلت له: أيها القاضي أو كل ما قاله أبو حنيفة أقول به؟ فقال: ما ظننتك إلا مقلداً، فقلت له: وهل يقلد إلا عصبي، فقال لي: أو غبي، قال: فطارت هذه بمصر
حتى صارت مثلاً وحفظها الناس» [2] .
ثناء العلماء عليه:
لقد أثنى على الإمام الطحاوي غير واحد من أهل العلم، والفقه، والحديث،
وعلماء الجرح والتعديل. قال ابن يونس: وكان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلف
مثله.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلامة، الحافظ الكبير، محدث
الديار المصرية وفقيهها. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: الفقيه الحنفي،
صاحب التصانيف المفيدة، والفوائد الغزيرة، وهو أحد الثقات الأثبات، والحفاظ
الجهابذة.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان الطحاوي ثبتاً، فقيهاً، عاقلاً. وقال
الصلاح الصفدي في الوافي: كان ثقة نبيلاً، ثبتاً، فقيهاً، عاقلاً لم يخلف بعده مثله. وقال السيوطي في طبقات الحفاظ: الإمام العلامة الحافظ، صاحب التصانيف
البديعة.
مصنفاته:
أما تصانيفه فقد كانت غاية في التحقيق، وحوت من الفوائد وحسن العرض
والتصنيف ما جعلها جديرة بالاهتمام منها:
1- العقيدة الطحاوية: والتي قال عنها السبكي: (جمهور المذاهب الأربعة
على الحق يقرؤون عقيدة الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول) [3] .
2- اختلاف العلماء.
3- بيان السنة والجماعة في العقيدة.
4- حكم أراضي مكة المكرمة.
5- شرح الجامع الصغير والكبير للشيباني في الفروع.
6- عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان.
7- الفرائض.
8- قسمة الفيء والغنائم.
9- كتاب التاريخ.
10- كتاب التسوية بين حدثنا وأخبرنا.
11- الشروط الصغير.
12- الشروط الكبير.
13- المحاضرات والسجلات.
14- المختصر في الفروع.
15- نقد المدلسين على الكرابيسي.
16- اختلاف الروايات علي مذهب الكوفيين.
17- مشكل الآثار.
18- شرح معاني الآثار.
وفاته:
توفي -رحمه الله- سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ليلة الخميس مستهل ذي
القعدة. بمصر، ودفن بالقرافة، وله ثمان وثمانون سنة.
__________
(1) انظر ترجمته في طبقات الشيرازي 8/218، الأنساب 8 / 218، تاريخ ابن عساكر 2 /189-190 المنتظم 6 / 186، وفيات الأعيان 1 / 71- 72، الوافي بالوفيات 8 / 9 -10، مرآت الجنان 2 / 281، تذكرة الحفاظ 3 / 808، البداية والنهاية 11/174 العبر 2 / 11، سير أعلام النبلاء 15 / 27-32، لسان الميزان 1 / 174-282، شذرات الذهب 2 / 288، طبقات الحفاظ 339، حسن المحاضرة 198، اللباب 2 / 275، كشف الظنون 5 / 58، النجوم الزاهرة 3 / 239، مقدمة العقيدة الطحاوية، مقدمة شرح معاني الآثار، وكتب أخرى.
(2) لسان الميزان لابن حجر في ترجمته للطحاوي 1 / 280.
(3) من كتابه معيد النعم ومبيد النقم.(7/33)
دعوة إيمانية
عبد الرحمن عبد الله
أنزل الله كتابه وأرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليبين للناس غايتهم في
هذه الدنيا، وهي عبادة الله كما أراد [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ، ولله
سبحانه وتعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عبودية في السراء، وله
عبودية عليه فيما يكره، كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية
فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد،
وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى.
فالوضوء بالماء البارد في شدة الحرارة عبودية، كما أن الوضوء بالماء البارد
في شدة البرد عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبداً لله في
الحالتين قائماً بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: [أَلَيْسَ
اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] [الزمر: 25] وفي القراءة الأخرى: عباده.
فالكفاية التامة تكون مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد
خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه [1] .
وإن من أنواع العبادة التي ركّز الإسلام عليها ونبه إلى أهميتها (ذكر الله عز
وجل) . ومعلوم أن المسلم يبحث عن أفضل الأعمال عند الله فيعمل بها، وقد روى ...
لنا الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث معاذ - رضي الله عنه -
قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أخبركم بخير أعمالكم ... وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى يا ... رسول الله، قال: ذكر الله عز وجل» [2] .
وأما التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فالذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا
جهاد، والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد، أفضل من المجاهد الغافل عند الله
تعالى فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
وقد جاء رجل يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة شرائع الإسلام عليه، وطلب منه ما يتمسك به، ليصل به إلى الجنة، وذلك من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر ... علي فأنسى، وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى» [3] .
فهذا الحديث يدلُّ دلالة واضحة على أن الذكر من أهم ما يعين المسلم على
العمل بشرائع الإسلام وفهمها، وعلى الأعمال البدنية كما سيأتي قريباً -إن شاء الله
تعالى- مذكوراً عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
وليس المقصود جميع أنواع الذكر وأوقاتها، ولكن المقصود التنبيه على بعض
أنواعه التي وردت فيها فضائل عظيمة، وذُكرت فيها مثوبة جليلة.
ومن هذه الأذكار، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، حيث
وردت في فضلها أحاديث كثيرة، نذكر ما صح سنده منها، فأولها:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الكلام إلى الله تعالى أربع:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا يضرّك بأيهن بدأت» [4] .
2- أخرج الإمام الترمذي عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم قال: «إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر،
لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة» [5] .
3- أخرج الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث أبي هريرة،
وأبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى- عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ... قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة ومن قال: الله أكبر، مثل ذلك، ومن قال لا إله إلا الله مثل ذلك،
ومن قال الحمد لله رب العالمين من قِبَلِ نفسه كتبت له ثلاثون حسنة، وحطت
ثلاثون خطيئة» [6] .
4- وأخرج الإمام الطبراني عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل
مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملء ما خلق، الحمد لله عدد
ما في السموات وما في الأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله على
ما أحصى كتابه، والحمد عدد كلّ شيء، والحمد ملء كلّ شيء وتسبّح الله مثلهن،
تعلمهن وعلمهنّ عقبك من بعدك» [7] .
5- وأخرج الإمام النسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «خذوا جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، ومعقبات
ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات» [8] .
6- وأخرج الإمام أحمد من مسند سمرة بن جندب أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: «خير الكلام أربع، لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» [9] .
7- وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس» [10] .
8- وأخرج ابن ماجه والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على غراس، هو خير من هذا؛ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل كلمة منها شجرة في الجنة» [11] .
9- وروى الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فقال: يا
محمد أقرئ السلام أمتك، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها
قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» .
فانظر يا أخي الكريم إلى ما ورد في فضل هذه الكلمات الأربع، وإلى سهولة
هذه العبادة، أفلا يكون من عرف هذا الخير ثم غفل عنه من أزهد الناس في العمل
الصالح؟ ! بلى والله إنه لكذلك، فلا تكن منهم! .
وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية أنّ لذكر الله أكثر من مائة فائدة ذكر منها في
الوابل الصيب ثمان وسبعون فائدة، نذكر منها اثنتين لأهميتهما، وهما اختصاراً:
الأولى: أن دوام ذكر الرب -تبارك وتعالى- يوجب الأمان من نسيانه الذي
هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب-سبحانه وتعالى- يوجب
نسيان نفسه ومصالحها، فمن نسى الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب
في الآخرة.
وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته،
وغمّه، وهمّه، وحزنه، ما هي إلا عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة، والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه
البتة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا
يدخل الجنة الآخرة.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من الحبس ... من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه،
فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً ويقيناً
وطمأنينة. [12]
الثانية: أنّ الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله
بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه وإقدامه،
وكتابه أمراً عجيباً فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة
وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً. [13]
والمسلم الذي عرف رسالته، يجد من التكاليف والمسئولية الملقاة على عاتقه
ما يأخذ يومه وزيادة، بل إنه يحتاج أن يكون يومه أكثر من أربع وعشرين ساعة.
وكنت كثيراً ما أتعجب من كثرة ما صنف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله
تعالى- مع سعة علمه، فقلما تمر مسألة إلا وله فيها تصنيف أو فتوى أو رسالة ... أو.. أو.. أضف إلى جهاده في سبيل الله، وسفره، وإلى تعليمه لطلبة العلم، وإلى
مناقشته لأهل البدع، وإلى الحقوق التي لنفسه على نفسه، والتي للخلق عليه،
والتي.. والتي..؟ ! سبحان الله متى تيسر له فعل كل هذا، ومتى تيسر له أن
يتعلم كل هذا العلم؟ !
وإنني لأرى أن من أسباب ذلك بعد توفيق الله له وإعانته، أرى كثرة ذكره لله
أكبر عامل ساعده على هذه الأمور.
هذا.. وفي الختام أحب أن أذكر حديثاً ينبغي لكل مسلم حفظه وتطبيقه، وهو
ما رواه ابن ماجه -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن بسر أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال لهم: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً» [14] .
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونسألك اللهم الإخلاص والصدق في القول
والعمل. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الوابل الصيب لابن القيم (6-7) .
(2) أحمد في مسنده 5/239.
(3) أخرجه الترمذي (3372) ، والحاكم 1 / 495 وصححه، ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه مسلم من حديث جابر 3 / 1685.
(5) الألباني في صحيح الجامع برقم (2601) .
(6) أخرجه أحمد 2 / 302، 3 / 25 - 27 ? صحيح الجامع رقم (1718) .
(7) صحيح الجامع، رقم (2615) .
(8) صحيح الجامع، رقم (3214) .
(9) صحيح الجامع، رقم (3284) .
(10) صحيح الجامع، رقم (5037) ، ومسند أحمد 5 /10.
(11) أخرجه ابن ماجه (3807) ، وصحيح الجامع (2613) .
(12) الوابل الصيب (58) .
(13) الوابل الصيب (97) .
(14) انظر صحيح الجامع رقم (3630) .(7/36)
الغربة والغرباء
مالك إبراهيم الأحمد
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ... فطوبى للغرباء» [1] .
وعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن
الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: من هم يا رسول
الله؟ قال: «الذين يَصلُحون إذا فسد الناس» [2] وروي بزيادة بلفظ: «قيل
ومن الغرباء؟ قال: النُّزاع من القبائل» [3] .
كما روى عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد عن عبد الله بن عمرو بن
العاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «طوبى للغرباء، قيل:
ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن
يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» [4] .
في الحديث الأول بيان مبدأ الإسلام، وأنه بدأ غريباً بين الأديان، وكان أهله
غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب
ذلك ويفتن في دينه، ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء
الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة فزالت غربته
عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم.
وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ (كما هو حال زماننا هذا) لقلة المتمسكين به.
وهذه الغربة تزداد شيئاً فشيئاً بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس.
أما فتنة الشبهات فقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على
ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة [5] .
وأما فتنة الشهوات فقد بين الرسول- صلى الله عليه وسلم - ذلك حيث ... قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» [6] .
أما فتنة الشبهات فينجى منها الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث. «لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى
يأتي أمر الله وهم على ذلك» [7] وهم الغرباء في آخر الزمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«.. وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة.
ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً بينهم لا يعرفه
منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا فطوبى لمن تمسك بالشريعة كما أمر ... الله ورسوله» اهـ.
قال ابن القيم:
«.. فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جداً سُمُّوا
غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء.
والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء. وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة - الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على
أذى المخالفين. هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة
عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين» .
وقال أيضاً:
«ومن صفات هؤلاء الغرباء -الذين غبطهم النبي -صلى الله عليه وسلم- التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف
عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير
الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء
منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده.
وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم
بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم» .
وقال أيضاً:
«فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله،
وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن
الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا
الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه واذدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه
وإمامه -صلى الله عليه وسلم-، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه:
فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل. فهو غريب في دينه
لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد
عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد
طرقهم» [8] .
ونجد في كتب السلف مدح السنة وأهلها، ووصفهم بالغرباء.
قال الأوزاعي: «أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، ... ترفقوا - يرحمكم الله- فإنكم من أقل الناس» .
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: «إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه
الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب إلى عالم
وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد
وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غرره إبليس قد صعد به إلى أعلى درجة
العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها، وسائر ذلك من الرعاع، همج
عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار» .
وقال الآجري في وصفه الغريب: «فلو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة
ويئن بزفرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد
أصيب بمحبوبه وليس كما ظننت، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به، لا
يبالي بذهاب دنياه إذا أسلم له دينه، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران»
اهـ.
وكما بين الحديث أن الغرباء قلة في الأزمان، من يطيعهم قليل ومخالفوهم
كثير، وهم صنفان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح نفسه ويصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى
الصنفين وأفضلهما.
والغربة أنواع: أولها غربة أهل الحق، أهل الله وأهل الإسلام بين المسلمين
وهي الغربة الممدوحة، وأصحابها هم الطائفة المنصورة.
والغربة الثانية: هي غربة الباطل بين أهل الحق وهي غربة مذمومة.
والثالثة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن الوطن.
صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبره:
والغريب قد يكون غير مشتهر عند الناس، ولا يأبه به كما ورد في صفة
الغريب بعض الأحاديث، منها: حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «طوبى لعبد مغبرة قدماه في سبيل الله عز وجل، شاعث رأسه، إن
كانت الساقة كان فيهم، وإن كان في الحرس كان منهم، وإن شفع لم يشفع، وإن
استأذن لم يؤذن له، طوبى له، ثم طوبى له» [9] .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«رب أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله عز وجل لأبره» [10] . ...
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله ...
يحب العبد النقي الغني الخفي» رواه مسلم في صحيحه.
وروى البيهقي في الأسماء والصفات أن عمر بن الخطاب دخل المسجد فوجد
معاذ بن جبل جالساً إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم- وهو يبكي فقال له عمر:
ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك - لرجل من أصحابه -؟ قال: لا.
ولكن حديثاً حدثنيه حبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في هذا المسجد. فقال: ما
هو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أخبرني أن الله عز وجل يحب الأخفياء، الأتقياء
الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة [11] .
ونختم حديثنا عن الغرباء بقول الآجري -رحمه الله-: «من أحب أن يبلغ
مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل:
فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على
ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما
يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك
كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق
جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب
فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون،
فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت
من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على
خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه
الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها
خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة..» .
__________
(1) صحيح الجامع الصغير، رقم 1576.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1273.
(3) توقف الألباني في تصحيحه وتضعيفه انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1273.
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1619.
(5) انظر رواياته في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204، 205.
(6) رواه البخاري في صحيحه.
(7) رواه البخاري في صحيحه.
(8) مدراج السالكين 3 / 194-201.
(9) رواه البخاري تعليقاً، والطبراني بإسناد صحيح.
(10) رواه الترمذي وحسنه.
(11) قال محقق كتاب الغرباء: إسناده صحيح، وروي بطرق كثيرة فيها ضعف.(7/41)
من شذرات القلم
اختيار: مازن محمد راغب
بركة الطاعة
عن أنس قال: اشتكى ابن لأبي طلحة، فمات، وأبو طلحة خارج ولم يعلم
بموته، فلما رأت امرأته أنه قد مات، هيأت شيئاً ونحته في جانب البيت، فلما
جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد
استراح، فظن أبو طلحة أنها صادقة، ثم قربت له العشاء ووطأت له الفراش، فلما
أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته بموت الغلام، فصلى مع النبي -صلى
الله عليه وسلم-، ثم أخبره بما كان منها، فقال النبي: لعله أن يبارك الله لكما في
ليلتكما، فجاءهما تسعة أولاد، كلهم قرأوا القرآن.
أخرجه البخاري
كذبة كبيرة
.. وما أتفه تلك الكذبة الكبيرة التي قالت إن الطائرة اليوم قد قربت أقطار
العالم بعضها إلى بعض، ومن ثم أحس الناس بقرب المكان ووحدة الإنسان،
ووجوب التعاون بين البشرية، أو كما قالوا: صار العالم أضيق من أن يتنازع فيه.
ما أتفه هذه الكذبة الكبيرة، أفلا ينظر الناس حولهم وهم يتكلمون؟ السلام هو
الذي يسود العالم اليوم بعد أن قربته إلى بعض الطائرة والصاروخ؟ أم هو ... النزاع البشع الذي لم يحدث له مثيل في التاريخ؛ إنها المشاعر من الداخل، وليست الطائرة وليس الصاروخ، ومن ثم كانت العقائد هي أضخم شيء في ... حياة البشرية، فهي المحرك الذي يحرك النفس من الداخل. هي الموجه إلى شتى صفوف العمل وصفوف السلوك وصفوف الوجدان.
معركة التقاليد / محمد قطب
العلم أكرم نسب
قال عمرو بن سليمان العطار:
كنت بالكوفة أجالس أبا حنيفة، فتزوج زفر بن الهذيل، فحضره أبو حنيفة
فقال له: تكلم. فخطب فقال في خطبته:
«هذا زفر بن الهذيل، وهو إمام من أئمة المسلمين، وعلم من أعلامهم في
حسبه وشرفه وعلمه» .
فقال بعض قومه:
ما يسرنا أن غير أبي حنيفة خطب، حين ذكر خصاله، وكره ذلك بعض
قومه، وقالوا له:
حضر بنو عمك وأشراف قومك وتسأل أبا حنيفة يخطب؟ ! فقال: لو حضر
أبي قدمت أبا حنيفة عليه.
الانتقاء - لابن عبد البر
من أمثال العرب
(أساء سمعاً فأساء إجابةً)
وقصته أن سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي كان تزوج صفية بنت أبي
جهل فولدت أنس بن سهيل فخرج معه ذات يوم وقد خرج وجهة فوقفا بحزورة مكة، وأقبل الأخنس بن شريق الثقفي فقال: من هذا؟ قال سهيل: ابني، قال: حياك
الله يا فتى، أين أَمُّك؟ (أي: أين قصدك) فظن أنه يقول له: أين أُمُّك؟ قال:
أمي في بيت أم حنظلة تطحن دقيقاً، قال أبوه: أساء سمعاً فأساء جابةً (بمعنى
إجابة) فلما رجعا قال أبوه: فضحني اليوم ابنك عند الأخنس، قال كذا وكذا، قالت: إنما ابني صبي، قال: أشبه امرؤ بعض بزّه، فأرسلها مثلاً.(7/46)
أدب وتاريخ
موقف الإسلام من
العصبية القبلية
محمد الناصر
كيف عالج الإسلام العصبية القبلية؛ كيف عمل على تذويبها؟ سؤال مهم
يطرح نفسه، إذ كيف كان الفرد مشلول الإرادة، مسلوب القوة أمام عبوديته لطغيان
القبيلة؟
صحيح أن المرء ما كان يجد الأمن والاستقرار إلا في رحاب القبيلة، فهي
البنية الاجتماعية المعتبرة، في صحراء ينعدم فيها النظام والعدل، والسلطة التي
تحفظ الأمن.
إلا أن هذا لا يعتبر مبرراً كافياً، ليلغي الفرد عقله ويسير حسب هوى القبيلة، وجبروتها.. وقد مر معنا سابقاً قول دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وعندما تحدثنا عن الشعر الجاهلي، تبين لنا مدى قوة سيطرة روح القبيلة،
فهي المعبود المطاع..
وفي صدر الإسلام كان لروح القبيلة، ومجد الآباء والأجداد تأثير عجيب مما
جعل قبيلة قريش وقبائل العرب تقف متجبرة متغطرسة أمام الحق الأبلج.
أ- قوة العصبية وسيطرتها على مجتمع الجاهلية:
«ذكر الزهري: أن أبا جهل وجماعة معه وفيهم الأخنس بن شريق، وأبو
سفيان، استمعوا قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الليل، فقال الأخنس
لأبي جهل: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: تنتازعنا نحن
وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى
إذا تجاثينا (أو تحاذينا) على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي
من السماء فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه [1] .
يستمع هؤلاء النفر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال ثلاث ليال -
والرسول لا يعلم بهم- ثم يلتقون ويتعاهدون على عدم العودة والاستماع، فالقرآن
يستهوي نفوسهم لكن العصبية حملت هؤلاء وأبا جهل خاصة على هذا الموقف
المعاند الظالم.
أبو جهل هذا يقتل في بدر، ويصعد فوقه عبد الله بن مسعود -رضى الله
عنه-، ويسأله: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وهل فوق رجل قتله قومه؟
(أي ليس عليه عار) . لأن قومه قتلوه! [2] عصبية حتى عند الموت! .
وإسلام حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- في السنة السادسة للبعثة
كان بسبب نصرة ابن الأخ أولاً، لأن أبا جهل اعتدى عليه.
قال ابن إسحاق [3] :» مر أبو جهل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عند الصفا، فآذاه ونال منه (ورسول الله ساكت) فقام رسول الله ودخل المسجد
وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصفا تسمع ما يقول أبو جهل.. فأخبرت حمزة ما سمعت من أبي جهل، فغضب ودخل المسجد، وأبو جهل
جالس في نادي قومه فقال لهم (الحمزة) : أتشتم ابن أخي وأنا على دينه؛ ثم ضربه
بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل
فقال أبو جهل: دعوا أبا عُمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، فعلمت
قريش أن رسول الله قد عز وامتنع.. فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه «.
إن قوة تأثير القرابة، وعصبية الدم كانت سبباً في إسلام حمزة -رضي الله
عنه-.. وإن حماية أبي طالب لرسول الله، ودعوته بني هاشم وبني المطلب
لنصرته -عليه الصلاة والسلام- كانت من هذا القبيل وحصار بني هاشم مؤمنهم
وكافرهم في الشعب» وأن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة
حتى يسلموهم للقتل «. وقد لبثوا في شعب أبي طالب ثلاث سنين [4] كان مقاطعة، لأعراف القبائل فيها تأثير كبير.
إن الإسلام استفاد من رابطة القبيلة في نشر الدعوة، ولا مانع من استخدامها
مظلة واقية ضد نيران مجتمع متعصب له تقاليده. وشعر أبي طالب في قصيدته
اللامية [5] يبين مدى حمايته لرسول الله، ومدى قوة رابطة العصبية رغم الخلاف
في المعتقد:
ونُسلمه حتى نصرع حوله ... نُذهل عن أبنائنا والحلائل
وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ... ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
فوالله لولا أن أجيء بسبة [6] ... تُجرُّ على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جداً غير قول التهازل
كان من العار عندهم ألا ينصر القريب قريبه، ولو خالفه في المعتقد، ومن
هنا وقف أبو طالب من ابن أخيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- هذا الموقف
المشرف، فقد كان» لزاماً على العربي أن يقوم بنصرة الأخ وابن العم أخطأوا أم
أصابوا، عدلوا أم ظلموا، بمعنى أن الرجل كان يلحقه العار، إذا قعد عن نصرة
أخيه أو ابن عمه ... ولذلك قالوا (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) . وهذا من حكمة
الجاهلية.. فالنصرة عندهم هي الإعانة على الغير أما في الإسلام فقد اعتبر من
ضمن النصرة نصيحة الظالم لرده عن ظلمه ... [] 7 [.
إن الإسلام حرم نصرة الظالم ففي الحديث الشريف: «انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً. قيل: يا رسول الله.. فكيف أنصره ظالماً؟ قال عليه الصلاة والسلام:
تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه» ] 8 [.
لقد نفّر الدين الحنيف من إعانة العشيرة على الباطل، وصور ذلك الفعل
القبيح تصويراً مؤثراً، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: «مثل الذي يعين
عشيرته على غير الحق مثل البعير ردي في بئر فهو يُنْزع بذنبه» ] 9 [.
ب- كيف عمل الإسلام على تذويب العصبية:
عرفنا في الفقرة السابقة قوة العصبية في المجتمع الجاهلي وسنرى الآن كيف
غير الإسلام هذه الروح، إذ بدأ بغرس ربطة الدين، ووشيجة العقيدة، وهى أساس
كل تغيير.
«إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين، ليست وشيجة الدم
والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة،
وليست وشيجة اللون واللغة ولا الجنس والعنصر، ولا الحرفة والطبقة إنها وشيجة
العقيدة» .
«أما الوشائج الأخرى» فقد توجد ثم تنقطع العلاقة (بين الفرد والفرد ... ) . يبين الله لنوح -عليه السلام- لماذا لا يكون ابنه من أهله] إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [فوشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما] فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [إنه ليس من
أهلك ولو كان هو ابنك من صلبك «] 10 [.
» وامرأة فرعون التي طلبت من ربها أن ينجيها من فرعون وعمله وأن
ينجيها من القوم الظالمين إنها امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية وقفت وحدها في
وسط ضغط المجتمع وضغط القصر وضغط الملك وضغط الحاشية ورفعت رأسها
للسماء! إنه التجرد الكامل من كل هذه المؤثرات والأواصر «] 11 [.
وفي الحديث الشريف:» من قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصَبة أو يدعو
إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقِتْلةٌ جاهليةٌ «] 12 [، والعمية هي الأمر الأعمى
لا يستبين وجهه.
وقال تعالى:] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [] المجادلة: 22 [.
قال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية: إنها نزلت في أبي عبيدة حين قتل
أباه يوم أحد، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي عمر حيث قتل
خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني
ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر» ] 13 [.
لقد جمعت هذه العقيدة صهيباً الرومي وبلالاً الحبشي وسلمان الفارسي وأبا
بكر العربي القرشي تحت راية واحدة، راية الإسلام، وتوارت العصبية، عصبية
القبيلة والجنس والقوم والأرض وهاهو مربي هذه الأمة وقائدها -عليه الصلاة
والسلام- يعلم ويربى إذ يقول لخير القرون كلها مهاجرين وأنصار: «دعوها فإنها
منتنة» .. وما هي؟ صيحة نادى بها أنصاري: ياللأنصار، وردَّ مهاجري:
ياللمهاجرين فسمع ذلك رسول الله وقال: «ما بالُ دعوى جاهلية؟» قالوا: يا
رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها
منتنة» ] 14 [. حقاً إنها منتنة ...
وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من
قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» ] 15 [.
فانتهى أمر هذا النتن، وماتت نعرة الجنس واختفت لوثة القوم.. ومنذ ذلك
اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، وإنما وطنه هو دار الإسلام تلك الدار ... التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها] 16 [.
روى ابن هشام] 17 [: «أن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه - قال لسعيد
ابن العاص (ومر به) : إني أراك كأن في نفسك شيئاً أراك تظن أني قتلت أباك!
إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله،.. ولكنى قتلت خالي العاص بن هشام بن
المغيرة: فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور بروقه (أي بقرنه)
فَحِدْتُ عنه.. وقصد له ابن عمه عليُّ فقتله» . قتل عمر خاله، وقتل على ابن
عمه.. في سبيل الله، إنه الانتماء إلى مجتمع العقيدة الذي ذابت فيه العصبيات كلها، وانتهت رواسبها في مجتمع الطهر والتجرد..
إذ غزوة بدر قاتل فيها القريب قريبه، ولما خرج للمبارزة في هذه الغزوة
بعض الأنصار.. نادى منادي قريش: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.. ولما
خرج حمزة وعلي وعبيدة - رضي الله عنهم -. قالوا: (أي قريش) نعم أكفاء كرام.. وقُتل عندها عتبة وشيبة والوليد من سادة قريش] 18 [.
إن هذه الروح الإيمانية، وهذا الانضواء تحت راية لا إله إلا الله محمد
رسول الله، خلَّص المجتمع الجديد من عصبيات قاتلة، بمجرد أن عاشوا حقيقة هذه
الشهادة.
وإن الأخوة التي قامت بين المهاجرين والأنصار كانت دليلاً حاسماً على قيام
دولة العقيدة ونشوء مجتمع قضى على رواسب العصبية الجاهلية.
وفي خطبة الوداع وضع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أسس التجمع
العقيدي الصحيح إذ قال: «وكل دم في الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه: دم
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لم تضلوا
كتاب الله.. وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت
ونصحت..» ] 19 [.
والشعر الإسلامي:
ساهم أيضاً في ترسيخ هذا البنيان الضخم، حيث ألغى الإسلام العصبية
ورابطة الجنس، وصار الشعر يتمثل هذه القيم الجديدة الكريمة.. بعد أن كان
سلاحاً يثير أحقاد القبائل.
فالعباس بن مرداس يقاتل بني عمه مخالفاً هواه مطيعاً ربه ودينه حيث يقول] 20 [:
ويوم حنين حين سارت هوازنٌ ... إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع
أمام رسول الله يخفق فوقنا ... لواءٌ كخذروف السحابة لامع
ويقول:
نذود أخانا عن أخينا ولو نرى ... مطالاً لكنا الأقربين نُتابع
ولكن دين الله دينَ محمد ... رضينا به فيه الهدى والشرائع
القبيلة وحدة اجتماعية يستفاد منها:
كنا قد ذكرنا أن الإسلام استفاد من رابطة القبيلة في نشر الدعوة، واستخدمها
مظلة واقية ضد ميزان المجتمع المتعصب.. إن الإفادة من الرابطة القبلية وصلة
القربى لمصلحة الإسلام شئ، والخضوع لهذه الرابطة المنحرفة الظالمة شئ آخر.
لقد استفاد الإسلام من الطاقات الطيبة كلها بما ينسجم مع تعاليمه، إذ كانت
كتائب الجهاد في الفتوحات الإسلامية تضم تكتلات قبلية تثار فيها الحماسة الصادقة، والنخوة العربية خوفاً من العار، إضافة لما جدَّ من استعلاء الإيمان، وعقيدة
الجهاد.
«إن قبائل المسلمين كانت تتحرك كوحدات حربية في الميدان.. إن ما أذابه
الإسلام وقاومه هو العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب، ولكنه لم يحارب القبيلة في
حد ذاتها، كوحدة لها وجود عميق في البيئة العربية، لقد ظلت القبيلة هي الوحدة
الاجتماعية، والوحدة الحربية المعترف بها في الفتوح الأولى، واستفاد الكيان
الإسلامي من هذا الوجود إلى أقصى حد…»
(وفي معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب اختلطت صفوف المسلمين،
فصاح بهم خالد بن الوليد (أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتى) فتميزت
كل قبيلة في صفوفها وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية
الأنصار مع ثابت بن شماس) ] 21 [.
قال تعالى:] وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [] الحجرات 13 [.
ولو نظرنا إلى منازل القبائل العربية، لوجدناها مطابقة لتعبئة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- عند زحفه من البناج إلى الحيرة..
وفي كتب السيرة والفتوحات نلاحظ أن الخليفتين الراشدين الصديق والفاروق
كانا يبعثان القبائل ويستعملان على كل قبيلة قائداً منها..
والجدير بالذكر أن المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله كان لهم
وضع خاص فلم تكن لهم دائماً في الفتوح وحدات خاصة بهم من قبائلهم، إنما كنا
نجدهم في القيادات غالباً كخالد بن الوليد والنعمان بن مقرن وإخوانه] 22 [.
فالعقيدة تذيب العصبية، وتستفيد من رابطة القرابة وتستعلي على المصلحة
الشخصية والقبلية، ويكون المسلم ضد هواه، صلته بربه قوية، علاقته مع إخوانه
المؤمنين وطيدة.. وكلما ضعف رابط العقيدة، وتخلخل صفاء التوحيد، برزت
العصبية من جديد، والهوى والنزوات.. وسنرى في الصفحات القادمة كيف عادت
العصبيات إلى المجتمع الإسلامى بنسب متفاوتة، وخلال القرون المتوالية.
(نعرضها بإيجاز بإذنه تعالى)
__________
(1) انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/315.
(2) المصدر السابق 1/635.
(3) المصدر السابق 1/292.
(4) مختصر السيرة النبوية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 68-69.
(5) القصيدة: في السيرة النبوية لابن هشام 1/272-280 (وفي طبقات فحول الشعراء ص 244 جزء 1 البيت الثاني من هذه الأبيات) .
(6) وردت (بسنة) في رواية أخرى.
(7) تاريخ الإسلام السياسي: 1 / 65 د حسن إبراهيم حسن.
(8) حديث متفق عليه.
(9) مسند الإمام أحمد 1 / 401 وفي مسند أبي داود: 7 / 17 مختصر المنذري، وقد سكت عنه المنذري.
(10) في ظلال القرآن: 4 / 1886، 6 / 3622.
(11) في ظلال القرآن: 4 / 1886، 6 / 3622.
(12) صحيح مسلم بشرح النووي: 12 / 238.
(13) أسباب النزول للواحدي، ص 236، وتفسير ابن كثير (8 / 79) نقلاً عن كتاب الولاء والبراء ص 228.
(14) صحيح البخاري: 48/648، ح 4905.
(15) صحيح مسلم: كتاب الإمارة، ح 3 / 1476، ح 1848.
(16) انظر: معالم في الطريق، ص 143، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 142.
(17) السيرة النبوية: 1 / 636.
(18) انظر تفصيل المبارزة في: السيرة النبوية لابن هشام، 1 / 625.
(19) مختصر السيرة النبوية: الشيخ محمد بن عبد الوهاب: حجة الوداع، ص 175.
(20) شعر الدعوة الإسلامية، قصيدة (501) : عبد الله الحامد، والسيرة النبوية لابن هشام 2/464 (والمناسبة: أن بني سُليم جاهدوا يوم حنين ومعهم شاعرهم عباس مع المسلمين يقاتلون هوازن وهوازن تجتمع وإياهم في النسب) .
(21) كتاب الطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال، ص 43.
(22) فتوح البلدان، ص 304 نقلاً عن أحمد عادل كمال (الطريق إلى المدائن) ، ص 25.(7/50)
قراءات تاريخية
اختيار: محمد العبدة
جاء في (الكامل) لابن الأثير في حوادث سنة 500هـ عن الصراع بين
السلاجقة في عهد محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان وبين الباطنية:
(فلما صفت السلطنة لمحمد، ولم يبق له منازع لم يكن عنده أمر أهم من
قصد الباطنية وحربهم والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم، فرأى البداية
بقلعة أصبهان التي بأيديهم، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان واجتمع له
من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة وأحاطوا بجبل القلعة.
فلما اشتد الأمر عليهم (على الباطنية) كتبوا فتوى فيها:
(ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم
الآخر، وأن ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- حق وصدق، وإنما يخالفون
في الإمام. هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم.، وأن يقبل طاعتهم ويحرسهم
من كل أذى) [1] . فأجاب الفقهاء بجواز ذلك [2] وتوقف بعضهم. فجُمعوا
للمناظرة (الفقهاء فيما بينهم) ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني،
وهو من شيوخ الشافعية، فقال بمحضر من الناس: يجب قتالهم ولا يجوز إقرارهم
بمكانهم ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين، فإنهم يقال لهم: أخبرونا عن إمامكم، إذا
أباح ما حظره الشرع أو حظر عليكم ما أباحه الشرع، أتقبلون أمره؟ فإنهم يقولون: نعم، وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع [3] .
ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل لهم من يناظرهم فصعدوا إليهم
وناظروهم، وعادوا كما صعدوا وإنما كان قصدهم (الباطنية) التعلل والمطاولة [4] ، فلجّ حينئذ السلطان في حصرهم، ثم أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا
عوضاً عنها قلعة (خالنجان) وطلبوا من الإقامة ما يكفيهم، وقصدهم المطاولة [5] ،
وحاولوا قتل أحد الأمراء فعندئذ جدد الحصار عليهم، وأمر بإخراب قلعة (خالنجان) .
ثم طلبوا أن ينزل بعضهم ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى قلعة الناظر
(بأرجان) فأجيبوا إلى ذلك، ثم ظهر الغدر من ابن عطاش فزحف الناس ... مع السلطان وملكوا الموضع، وقتل أكثر الباطنية، وكانت مدة البلوى بابن عطاش اثنتي عشرة سنة [6] .
__________
(1) يعنون أنفسهم، وهذا كذب منهم واحتيال، وهم ما سموا الباطنية إلا لإبطانهم الكفر، وهذا الأسلوب ليس غريباً عنهم.
(2) هذه غفلة منهم، وكيف يأخذون ظاهر الكلام ولا يعلمون من الذي كتب هذا، وما هي سيرته وتاريخه، ويظنون أن هذا من الأخذ بالظاهر، ولم يعلموا أن سيرة الزنادقة غير هذا.
(3) هذا هو الحق، وهذا هو الفهم الصحيح للنصوص، ولأغراض الإسلام ومراميه، وليس الأخذ بحرفية الكلام.
(4) يقصد التأخير لعلهم ينجحون بحيلة ما.
(5) مرة أخرى؟ ! ! .
(6) الكامل 10 / 434.(7/57)
مشاهداتي في بريطانيا
عندما تصطدم المرأة
مع فطرتها! !
د. عبد الله مبارك الخاطر
إن نسيت فلن أنسى خلال إقامتي؛ في ديار الغرب صورتين متناقضتين غاية
التناقض لامرأة مشهورة تعمل في المحاماة.
الصورة الأولى: توفرت في هذه المرأة الصفات التالية: قوة البنية، ذرابة
اللسان، الحماسة لما تؤمن به وتعتقده، النشاط الدائب: فمرة تقرأ مقالاتها في
الصحف، ومرة أخرى تسمعها تتحدث في التلفاز وتقارع فحول الرجال الحجة
بالحجة.. ومرة ثالثة تستمع إليها في المحاكم تدافع عن القضية التي نذرت نفسها
من أجلها.
قد يظن القارئ الكريم أنها محامية لشركة من الشركات أو لمؤسسة من
المؤسسات. لا يا أخي. إن عملها الوحيد الدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها
بالرجل، ولهذا تجد عندها إحصائيات عجيبة عن الوزارات والمؤسسات والشركات
وعن نسبة الرجال والنساء في كل منها.. وكم أرغمت هذه الجهة أو تلك على قبول
عدد من النساء وفصل الزيادة من الرجال.. وكم ربحت الحكم ضد شركات أقدمت
على تسريح مجموعة من النساء بسبب عدم الحاجة إليهن..
كانت هذه المرأة ذائعة الصيت، ولها مكانة كبيرة في المجتمع الغربي، كما
كانت مثالاً يحتذى به للنساء بل وللرجال الذين ينادون بالمساواة المطلقة بين
الجنسين.
الصورة الثانية: صورة هذه المرأة وهى مريضة، وقد حولها طبيبها الخاص
إلى قسم الطوارئ في مستشفى الأمراض النفسية الذي كنت أعمل به.. وقد شاهدت
بعيني مشهداً يختلف تماماً عن المشهد الذي يراه الناس على شاشة التلفاز أو في
قاعة المحكمة:
شاهدت امرأة ضعيفة منهارة محطمة تشعر أنها تعيش وحدها في هذه الدنيا،
ليس لها ابن ولا زوج ولا أخ ولا والد.. أما النساء فيعرفنها محامية قوية تدافع عن
حقوقهن، ولا حاجة لهن بها إذا كانت مريضة في المستشفى، أو مقعدة في بيتها،
أو في مأوى العجزة.. كنت أعرف مشكلتها قبل أن أسألها ومع ذلك سألتها حيث
لابد من سؤال المريض والاهتمام بكل ما يقوله.. قلت لها: ما مرضك وبماذا
تشعرين؟ فأجابت:
«أريد رجلاً يشاركني الحياة ويقول لي: لا! ! .. لقد مللت الحياة التي
عشتها، والعمل الذي اخترته» .
هذا مرضها أنقله بأمانة ودقة.. وقد قمت بواجبي وأعطيتها العلاج اللازم
للمصاب بحالة (اكتئاب) ولكنني أشعر بأنها لن تشفى من هذا المرض لأنها لن تجد
رجلاً عاقلاً يغامر بحياته وعقله ويتزوجها، وإذا وجدت فسوف يكون من أشباه
الرجال ولن يقول لها. (لا! !) ومثل هذا الرجل لا يحل مشكلتها.. ومن جهة
ثانية، فلو شفيت من مرضها وعادت إلى عملها السابق، فسوف تعيد سيرتها
الأولى لأن أمثالها يبحثن عن الشهرة والطبع عندهن يغلب التطبع.. فهي تريد أن
يتحدث الناس عنها مهما كانت النتائج. أرأيتم المرأة عندما تصطدم مع الفطرة التي
فطر الله الناس عليها؟ ! .
قال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] .
والمشكلة أن الناس شاهدوا هذه المرأة بكامل قوتها وذرابة لسانها ولم يروها
وهي على فراش المرض تشكو من المرض النفسي: [الاكتئاب] ، وكان إعجاب
الخادعين والمخدوعين بها هو سبب مرضها، ومصدر شقائها وبؤسها وقهرها،
وهذا الذي شاهدته بنفسي، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أراد مزيداً من الأدلة
فليبحث عن نسبة الذين يعانون من أمراض نفسية من النساء الشهيرات في ديار
الغرب، بل وفي ديارنا.
إن قوامة الرجل في بيته خير له ولزوجه وأولاده، والتنازل عن هذه القوامة
للمرأة جحيم لها لا يطاق، ومساواة المرأة مع الرجل أكذوبة ابتدعها أعداء المرأة
من اليهود والصليبيين والشيوعيين وسائر العلمانيين الملاحدة، وجميع الإحصائيات
الحديثة تؤكد فشل هذه الأسطورة.
[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
[النور: 63] .(7/59)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
مصر إلى أين؟ !
أهي هي ديمقراطية السادات؟ !
إشراف: محمد عبد الله
لمصر مكانة متميزة في قلوب المسلمين، في مختلف بلدان العالم الإسلامي،
فتراهم يهتمون بأخبارها أشد الاهتمام، ويفرحون لفرحها ويحزنون لحزنها..
وكيف لا يكون الأمر كذلك، وما من بلد في العالم الإسلامي إلا ونجد نفراً عن ... كبار المثقفين فيه قد درسوا في معاهد مصر وجامعاتها، وبشكل أخص (الأزهر) ...
وتتلمذوا على فحول علمائه الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي كما قاوموا الاستعمار
الإنكليزي، وقاوموا -بالأدلة والبراهين- سموم وأباطيل دعاة التغريب من ... الملاحدة الذين كانوا يدعون إلى الزندقة والفجور، وينادون بتقليد أوربا والسير ورائها حذو القذة بالقذة.
ونحن في (البيان) نشعر بأن هناك مؤامرة رهيبة تستهدف وحدة مصر
وأمنها وعقيدة شعبها، وأول طرف في هذه المؤامرة الولايات المتحدة الأمريكية
وسيدتها إسرائيل، ومن شاء الاطلاع على ما تدبره إسرائيل ونصيرتها أمريكا
فليقراً كتاب (خنجر إسرائيل) الذي نشره الكاتب الهندي (ر. ك. كارانجيا)
صاحب مجلة (بليتز) الهندية..
وجاء نشر الكتاب عام 1957، وفيه وثيقة سرية أعدتها الأركان الإسرائيلية، وقد جاء فيها:
«.. دولة أو منطقة ذات استقلال ذاتي قبطي» .. أي سوف يقيمون في
مصر دولة قبطية، وكان كارانجيا صديقاً لفرعون الخمسينيات والستينيات، وقد
أطلعه على الوثيقة، ورغم ذلك نفذت إسرائيل جزءاً من المؤامرة التي وردت في
الوثيقة في مسرحية ما يسمى بحرب حزيران وثبت بما لا يدع مجالاً للشك تواطؤ
السوفييت والأمريكان مع إسرائيل. والوثائق تشهد على ذلك.
ومن شاء مزيداً من المعلومات على ما تدبره إسرائيل كذلك فليعد إلى (استراتيجية إسرائيل في الثمانينات) وهو المقال الذي كتبه الموظف السابق ... في السلك الدبلوماسي الصهيوني في مجلة (كيفونيم - شباط 1982 -. وقد جاء ... ... فيه:
«إن مصر بسبب أزماتها الداخلية لا يجب أن تشكل خطراً استراتيجياً ... علينا، فإذا أخذنا بعين الاعتبار القطيعة المتزايدة بين المسلمين والمسيحيين فيها.. فإن تفكك مصر والعمل على تفتيتها إلى دويلات منفصلة عن بعضها يجب
أن يكون الهدف الأساسي لإسرائيل على جبهتها الغربية» .
وجاءت تحركات قيادة الأقباط منذ أكثر من عقد ونصف لتؤكد لنا حقيقة
الخطر الذي يهدد مصر.. لقد زار بعضهم الولايات المتحدة الأمريكية، واجتمعوا
بكبار المسؤولين في البيت الأبيض.. وقبل ذلك فقد تم اكتشاف وثيقة خطيرة وفيها
محضر اجتماع تزعمه البابا شنودة، وكانت أجهزة الأمن المصرية على علم بمعظم
ما يدبره الأقباط، ومع ذلك فما استطاعت أن تفعل شيئاً يستحق الذكر، لأنها تخشى
من اعتراض الذين يحركون الأقباط من الخارج، وفضلاً عن ذلك فليست
متخصصة بمتابعتهم وإنما هي متخصصة بمتابعة الدعاة إلى الله -جل وعلا- من
أعضاء وقيادات الجماعات الإسلامية.
والطرف الثاني في المؤامرة التي تهدد مصر: العبيديون الجدد الذين يتطلعون
إلى احتلال مصر مرة أخرى، ومنها يحاولون التسلل إلى دول شمال أفريقيا،
وللعبيديين وسائل لا تقل خبثاً ودهاء ولؤماً عن وسائل اليهود، وهم الذين
يصافحون اليهود في الخفاء وينسقون معهم، أما في العلن فيعلنون أنهم ضد اليهود،
وهم الذين سيحررون القدس وما حولها من الأراضي المباركة التي احتلها اليهود..
وللعبيديين نفوذ في البلدان العربية لا يستهان به، ويشن العبيديون وأعوانهم حملة
شعواء ضد مصر وشعب مصر، ويستغلون (كامب ديفيد) ونحن لا نقلل من
خطورة اتفاقية كامب ديفيد، والذين وقعوا على بنودها طعنوا أمتهم طعنة موجعة،
ولكن ليس العبيديون أحسن حالاً منهم، فتعاونهم مع اليهود أقدم وأمتن، وعلى
أحسن الاحتمالات فكلهم سواء.. فكيف ينجح العبيديون في عزل شعب مصر المسلم
الأبي عن قضاياه المصيرية في العالمين: العربي والإسلامي؟ ! . وشعب مصر
بريء من كامب ديفيد وأطرافها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام - كما
يقولون-.
ومن الآثار المدمرة التي فرضها اليهود والأمريكان والسوفييت والعبيديون
نتيجة مؤامراتهم على مصر: عزلتها وسوء أوضاعها الاقتصادية..
لقد زعم فرعون الهالك أن مصر ستكون -بعد كامب ديفيد- جنات تجري من
تحتها الأنهار، وأن المال الأمريكي والخبرة اليهودية سيجعلان من سيناء وغيرها
من الأراضي المصرية مصدراً أساسياً من مصادر التغذية والتصدير في الشرق
الأوسط، وفي عام 1986 م وجدت مصر نفسها عاجزة عن سداد ديونها البالغة
[35 مليار دولار] ، وبلغ سعر الدولار في السوق الحرة [2. 25 جنيه مصري] ،
ووقفت البنوك والشركات الدولية من هذه الأزمة موقفاً مؤسفاً، وتخلت الولايات
المتحدة كعادتها عن مصر وشعب مصر، وقال خبراء البنوك والاقتصاد في العالم
رأيهم بكل صراحة:
لا ثقة لنا بالذين يشرفون على دفة الاقتصاد في مصر، وبدأوا يلوحون بأنهم
يريدون إشرافاً مباشراً على المشاريع الاقتصادية فيها، وبشكل آخر يريدون تكرار
المأساة التي فعلها الخديوي إسماعيل.
وقد يقول الشيوعيون المصريون: هذا هو جزاء الذين ابتعدوا عن السوفييت
وساروا في فلك الأمريكان! ! فنقول:
لقد استغل السوفييت اقتصاد مصر أبشع استغلال فربع مبيعات السوفييت
الخارجية من الأسلحة في العالم كله كانت تشتريها مصر بالعملة الصعبة، وكان
الخبراء السوفييت يُسّيرون سياسة الجيش المصري، وأخيراً قضي على هذه
الأسلحة خلال ساعات فقط في 6 حزيران 1967م، وليعد من شاء إلى ما قاله عبد
الناصر تلميحاً، وكبار العسكريين تصريحاً عن تورط السوفييت في هذه ... المؤامرة.. وورثت مصر في عام 1987 ديوناً عسكرية وعسكرية فقط للسوفييت مقدارها [ثلاثة مليارات دولار] ، وقبل بضعة أشهر تم الاتفاق على سداد هذه الديون خلال 25 عاماً مع فترة سماح ست سنوات، وأن يكون سدادها عن طريق سلع مصرية، ولكن السوفييت طالبوا بسعر جديد للدولار وأذعنت مصر لطلبها، فلقد كان سعر الدولار سابقاً 70 قرشاً مصرياً وأصبح الدولار - بموجب الاتفاق ... الجديد- يعادل أكثر من جنيه تقريباً.. وطبعاً كانت هذه مكرمة سوفييتية، وإيذاناً بتعاون اقتصادي جديد بين البلدين، ومما يجدر ذكره أن هذه الديون كلها ورثتها مصر من أيام عبد الناصر.
وقصارى القول: فإننا ننظر بعين القلق إلى واقع مصر ومستقبلها.. ونحذر
من مؤامرات أعداء الإسلام داخلها وخارجها، ونتساءل بكل محبة وشفقة:
هل مشكلة مصر مع دعاة الإسلام وحملته؟ ! :
شهدت مصر أحداثاً متلاحقة خلال الأشهر الماضية من أشهرها:
- اعتداء الأقباط على مسجد من مساجد المسلمين.
- محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق حسن أبو باشا.
- الاعتداء على سيارة مسؤول الأمن الإقليمي بالسفارة الأمريكية، والمشرف على أمن السفارات الأمريكية في مصر والأردن والسودان [دانيس وليامز] .
- محاولة اغتيال مكرم محمد أحمد، رئيس تحرير المصور.
- انتخابات عامة فاز فيها عدد غير قليل من الإسلاميين.
وبعد كل حدث تتجه أصابع الاتهام إلى الجماعات الإسلامية [على الإطلاق!] يعني يستطيع موسى صبري القبطي أو من أراد من الحاقدين على الإسلام فور سماعه الخبر أن يكتب تعليقاً يتهم فيه الجماعات الإسلامية، ويتحدث عن ماضيها الأسود [على حد زعمه] في الإرهاب والاغتيالات ... ويتباكى على مستقبل مصر، وينادي الدولة طالباً منها الضرب بيد من حديد.
وفي الصباح نقرأ العجب العجاب في الصحف المصرية، فهذا يتحدث عن (لحية) المجرم الذي أطلق النار، وذاك يكتب عن (جلبابه) الطويل الأبيض، والثالث يجري استطلاعاً عن الجماعات الإسلامية وأسمائها ومبادئها وخلافاتها، والرابع يتحدث عن الإرهاب، والخامس يتخيل طريقة إلقاء القبض على المجرم الملتحي نقول يتخيل مجرد تخيل! ! .
ويتحرك اليساريون، والأقباط، والقوميون العلمانيون وغيرهم من الملاحدة يتحركون وينظمون هجمة شرسة ضد الإسلام والمسلمين، ومن مزاعمهم التي
يكثرون من ترديدها قولهم: إن السادات أفرج عن الجماعات الإسلامية، وأطلق
الحبل لهم على غاربيه في الجامعات والمعاهد وعقد حلفاً معهم ضد اليساريين
والناصريين! ! .
ما أكذبهم وأقل حياءهم! ! إن سجون مصر كانت مزدحمة بالدعاة إلى الله في
عهد السادات وفي العهود التي سبقته سواء كان العهد ثورياً أو ملكياً، والعهد الذي
جاء بعده.. وأعدم السادات مجموعتين من الدعاة وأهلكه الله في وقت كانت سجونه
ومعتقلاته غاصة بقادة وأعضاء الجماعات الإسلامية على مختلف اتجاهاتهم
وانتماءاتهم.. واستشهد نفر منهم تحت التعذيب الساداتي.
وهؤلاء الذين ينتقدون السادات لأنه أفرج عن المعتقلين بعد انتهاء مدة سجنهم
هم الذين يزعمون بأنهم ديمقراطيون ويحاربون التسلط والاستبداد والعنف! ! ولكن
العنف والاستبداد والإرهاب يكون مقبولاً عندهم إذا كان الضحايا من الدعاة إلى الله
الذين لا ذنب لهم إلا أن قالوا: ربنا الله.. ولا يريد هؤلاء الملاحدة أن يفهموا بأن
الله جلت قدرته فضحهم، وفضح أسيادهم من السوفييت والأمريكان والناصريين،
وأدرك شعب مصر الأبي بعد رحلة مضنية أنه لا عزة ولا كرامة ولا نصر لنا إلا
بالإسلام، فأسلموا زمام أمرهم لله تعالى وأذعنوا له غاية الإذعان.
نعود إلى الحديث عن الموقف العام بعد كل حدث يحدث.. فالنظام يستنفر
مختلف أجهزته ومؤسساته: الإذاعة، والتلفاز، والصحف والمجلات، وتنقل عنهم
وكالات الأنباء وكبريات الصحف والمجلات العالمية، ورجال الأمن والمباحث
يعودون إلى القوائم المعدة، ويلقون القبض على قيادات وأعضاء الجماعات
الإسلامية، ومعظمهم يكون قد غادر السجن خلال أيام أو أشهر أو عام أو عامين
على أبعد تقدير.
وخطباء الجمعة الرسميون ينفذون تعليمات وزارة الأوقاف أو الداخلية وكلاهما
سواء، وخطبهم لا تختلتف عما يكتب في الصحف اللهم إلا الاستدلال بالآيات
الكريمة والأحاديث الشريفة، ويكون هذا الاستدلال في غير موضعه المناسب.
والذين يؤثرون السلامة من الإسلاميين يسارعون إلى إصدار التصريحات
التي تعبر عن تأييدهم للنظام، واستنكارهم للعنف والإرهاب، وإيمانهم ... بالديمقراطية - أي ديمقراطية النظام-، وإذا كانت المشكلة مع الأقباط، فإنهم يسعون إلى كنائسهم، ويعقدون معهم الندوات، ويقولون بهذه المناسبات كلاماً لا ينبغي أن يقال شرعاً.
أية ديمقراطية هذه؟ !
إننا لا نعلق آمالاً على العمل الديمقراطي، ولم نتسرع في اتخاذ هذا الموقف.
لقد درسنا الأنظمة الديمقراطية دراسة دقيقة، وتبين لنا من خلال هذه الدراسة أنها
تصطدم مع النظام الإسلامي جملة وتفصيلاً، صحيح بأن الإسلام يعتمد على نظام
الشورى، ويضمن للفرد حرية التعبير عن رأيه، ولكن الشورى شيء والنظام
الديمقراطي شيء آخر، فالدستور والقانون جزء من نظام شامل في الإسلام، ولا
يجوز للشعب ولا لممثليه أن يشرعوا لأن التشريع حق لله وحده لا شريك له.
واعتمدنا في اتخاذنا لهذا الموقف على دراسة عميقة لتجارب الإسلاميين، لا
نقول: في البلاد العربية وحدها، ولكن في العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه..
ووصلنا إلى نتيجة أن مثل هذا العمل مضيعة للوقت وهدر للطاقة.. ومع ذلك فإننا
لا نغالي في موقفنا، وسنظل نلتمس العذر لغيرنا، ولو كانت الديمقراطية في عالمنا
الإسلامي كالأنظمة الديمقراطية في ديار الغرب لقلنا: فليبق النظام الديمقراطي -
رغم فساده- فذلك أفضل من تسلط العسكريين ومن هم على شاكلتهم.
وإذا سلمنا جدلاً بأن النظام المصري ديمقراطي.. لكان من حقنا أن نتساءل:
لماذا لا يطبقون ديمقراطيتهم في تعاملهم مع الجماعات الإسلامية؟ ! ..
* هناك أحزاب انتهازية تافهة وتافهة جداً تعد شرعية، أي مرخص بها من
قبل السلطة، ولها مراكز، بما في ذلك اليسار.. أما الإسلاميين على مختلف
انتماءاتهم وحتى الذين يتعاملون مع النظام بمرونة وإيجابية فغير مسموح لهم بفتح
مراكز، ونشاطهم لا يزال غير قانوني.. ومن المتوقع في كل يوم يمر أن تصدر
السلطة مرسوماً باعتقال قيادة وأعضاء جماعة إسلامية -متجاهلة عدد أعضائها في
المجلس النيابي- لأنها غير شرعية وغير مرخص بها، ومثل هذا الموقف ليس
مستغرباً على الإطلاق، وهناك أمثلة مشابهة حدثت في مصر نفسها..
فما الذي جعل السلطة تسمح بقيام أحزاب تافهة يمينية ويسارية! ! وتمنع
الجماعات الإسلامية وحدها؟ ! .
وفي جميع بلدان العالم التي تؤمن بالديمقراطية هناك أحزاب دينية، مسيحية، أو يهودية، أو هندوسية، فلماذا الإسلام وحده رغم اختلافه في شموليته وعدله
ومساواته عن الأديان الأخرى التي ضل دعاتها وانحرفوا عن منهج الله تعالى.
* من أبسط معاني الديمقراطية أن كل متهم بريء حتى تثب إدانته بعد أن
تتوافر له ضمانات المحاكمة العادلة أو القضاء العادي.
وفي ظل الديمقراطية المزيفة التي اخترعها السادات: كل بريء من الدعاة
إلى الله مدان حتى تثبت براءته.. والبراءة تثبت بعد تعذيب لا يطاق في معتقلات
مظلمة، وبعد سجن يستمر بضعة أشهر أو بضعة أعوام، والمحاكمة تتم أمام محاكم
عسكرية، وهذا النظام لا يطبق على غير الإسلاميين.. ويخرج الداعية من هذه
السجون متهماً وهو الذي قد ثبتت براءته، وأقوال القضاة لا تساوي شيئاً أمام أقوال
رجال المباحث.
وقد يقول الذين يبالغون في حسن الظن: في هذه الأقوال مبالغة! ! لهؤلاء
ولغيرهم نقول:
عودوا إن شئتم إلى محاضر جلسات المحاكم وأقوال الشهود واعترافات الذين
نالهم التعذيب وفي جميع العهود لا نستثنى من ذلك عهداً منها، وسوف تجدون أننا
ما قلنا شيئاً يستحق الذكر في وصف التعذيب الذي يتعرض له الإسلاميون داخل
هذه السجون.. ومن حقنا هنا أن نتساءل بمرارة. أية ديمقراطية هذه التي يتحدثون
عنها؟ ! .
وفي الأحداث الماضية اعتدى الأقباط على مسجد من مساجد المسلمين في
الصعيد، واعتدوا على غير المسجد تنفيذاً للأوامر التي جاءتهم من تل أبيب
وواشنطن وغيرهما فما الذي حدث؟ !
تم اعتقال قادة وأعضاء الجماعات الإسلامية، واستنفرت كافة الأجهزة ...
ضدهم، ولم نسمع أن إجراء رادعاً قد اتخذ ضد الأقباط، لا بل كان الناس ... من أبناء جلدتنا يتسابقون في الثناء على مواقفهم الوطنية، وهي شهادات تفوح ... منها رائحة النفاق والكذب على الله، ثم على التاريخ.
وسارعت السلطة إلى اعتقال الأشخاص أنفسهم قبل الانتخابات بأيام ولماذا؟! قالت السلطة: وزعوا مناشير يقولون فيها بأن النظام الديمقراطي
ليس من الإسلام!
غريب هذا والله! ! لو أن إنساناً أو جماعة أو صحيفة في بريطانيا أو
الولايات المتحدة أو غيرهما من الدول الديمقراطية قالوا: نحن لا نؤمن
بالديمقراطية، هل يعتقلون؟ ! . الطبيعي: لا. وتقارع الحجة بمثلها، فالصحيفة
ترد عليها صحيفة، والكاتب يرد عليه كاتب آخر، وهكذا أو يهملون..
ومن ثم لماذا تخشى السلطة في مصر من أفراد يوزعون مناشير يقولون بأن
الديمقراطية ليست من الإسلام.. والسلطة تملك الأزهر، وجاد الحق، وشعراوي،
وغيرهم وغيرهم، وكل هؤلاء يقولون: الديمقراطية من الإسلام، والاشتراكية من
الإسلام، والصلح مع إسرائيل من الإسلام، ويملكون إذاعات، وتلفاز، وصحفاً،
ومجلات، ومساجد، ونوادي، والعالم ينقل كل ما يريدون، ولولا اعتقالاتهم لما
سمع الناس أن هناك شباباً وزعوا مناشير يقولون فيها بأن الديمقراطية ليست من
الإسلام.
وتكررت الاعتقالات بعد محاولة اغتيال وزير الخارجية السابق -أبو باشا-،
وبعد الاعتداء على سيارة مسؤول الأمن الإقليمي بالسفارة الأمريكية، وبعد الاعتداء
على رئيس تحرير المصور.
* ومن أبسط معاني الديمقراطية: سيادة القانون. والمحاكم المصرية التي لا
تُحكِّم شرع الله -جلّ وعلا-، ورغم واقعها المؤسف.. فقد اعترفت رسمياً بأن
المعتقلين من أعضاء الجماعات الدينية -على حد قولهم- قد تعرضوا للتعذيب
الجسدي والنفسي داخل السجون، وقررت المحكمة المختصة إحالة عدد كبير من
ضباط وجنود الشرطة إلى المحاكم بتهمة تعذيب هؤلاء المعتقلين.. ولكن ما الذي
حدث؟ ! .
1- أعلنت السلطة أنها سوف تحمي هؤلاء الضباط والجنود، وزعمت أن ما
نسب إليهم ليس صحيحاً.
2- قرار الإحالة تم إلى محاكم عادية وليست عسكرية لأن المحاكم الأخيرة
مختصة بقضايا أمن الدولة وهؤلاء المجرمون حماة الدولة.
3- الإحالة جاءت قاصرة على صغار الضباط والجنود، أما قيادتهم كوزير
الداخلية السابق حسن أبو باشا فلم تتعرض لهم المحكمة لأنهم فوق القانون. فكيف
يكون المأمور مجرماً وآمره بريئاً، وأين سيادة القانون التي يجعجعون بها؟ ! .
لقد كان قرار المحاكم الأخير، بل قرار النائب العام صورة طبق الأصل عن
قرار المحاكم المماثل في السبعينيات.. وتبين أن ذاك القرار كان دعاية إعلامية
للنظام السابق ضد مراكز القوى.. وبكل أسف فمن عادة كثير من الدعاة التسرع في
هذه المناسبات فيبادرون إلى إصدار التصريحات التي تعبر عن إعجابهم وتقديرهم
للمحاكم المصرية لأنها أثبتت استقلاليتها ولم تتأثر بضغط السلطة وهيمنتها.. وكم
نتمنى أن يتريث إخواننا، ولا يزكون من لا يستحق التزكية.. كم نتمنى أن يتقوا
الله بكل كلمة يتفوهون بها، أو كل موقف يقفونه.. ولو فكروا ملياً لعلموا علم
اليقين أنه لا عدل ولا مساواة إلا في ظل هيمنة شريعة الله --سبحانه وتعالى-..
وقرار المحاكم المصرية لم يرفع عنا ظلماً ولا استبداداً، ولم ينقذنا من المجرمين
الجناة، ولا نريد أن يستغلنا ظالم ضد ظالم آخر.
محاولة اغتيال (أبو باشا) :
سارعت أجهزة الإعلام المصرية إلى اتهام الإسلاميين، وتحركت أجهزة
الأمن والمباحث والمخابرات، فاعتقلت من لم يكن قد اعتقل منهم قبل أن يظهر أي
دليل على تورط أية جهة بهذا الحادث.. وقلنا فيما مضى: أن هذا الموقف من
السلطة يخالف أبسط معاني الديمقراطية، ويتعارض مع سيادة القانون.
وبعد هذه المحاولة بأيام نشرت صحيفة القبس الدولي خبراً في صفحتها
الأخيرة وتحت عنوان (أسرار العرب) قالت فيه: (إن عصابة من عصابات
تهريب المخدرات كان حسن أبو باشا وعدها بتمرير صفقة من صفقاتها الكبيرة
ونكث بوعده فحاولت قتله) ، ولصحيفة القبس مصادرها المهمة، وفضلاً عن ذلك
فما من أحد يتهمها بتعاطفها مع الجماعات الإسلامية.. وما الذي يمنع أن يكون الذي
أطلق النار على وزير الداخلية السابق أطلق لحيته لتتجه الأنظار إلى غير الجهة
التي أقدمت على اغتياله؟ ! .
إن اللحية اليوم ليست وقفاً على الإسلاميين وحدهم، فكثير من الوجوديين
وغيرهم يطلقون لحاهم، ولبس (الجلباب) ليس مستغرباً في مصر، فكيف تتجاهل
السلطة هذه المسلمات وتلصق المحاولة بالإسلاميين؟ ! .
ولنفترض جدلاً بأن مجموعة من مجموعات الجهاد هي التي نفذت هذه العملية، فهذا الافتراض يضعنا أمام سيل من الأسئلة:
تعلم السلطة -وعلمها واسع في ذلك- بأن المنتسبين للجهاد مجموعات وليسوا
مجموعة واحدة، وكل مجموعة تضم عشرات أو مئات من الأفراد، وليس لهذه
المجموعات صلات تنظيمية مع بعضها البعض، والذين نفذوا العملية اثنان
ويستحيل انتسابهم إلى عدة مجموعات.. فلماذا أقدمت السلطة على اعتقال
المجموعات كلها؟ ! بل إن الذي نعلمه أنها قد اعتقلت مجموعات كبيرة لا علاقة لها
بمجموعات الجهاد، وإذن فالقضية عندهم ليست محاسبة الذين نفذوا العملية ومن
وراءهم، وإنما القضية إعلان حرب ضد العاملين للإسلام.
ومن جهة ثانية فنحن لا نعرف عدد الذين اعتقلوا ولا أحد يعرف ذلك، وإن
كنا نعلم بأن العدد كبير بسبب كثرة الذين يشتكون من اعتقال أقربائهم، وتذكر
الصحف أن عدد الذين اعتقلوا يتراوح بين (2500) إلى (5000) والذين ينتظرون
الاعتقال ضعف هذا العدد أو يزيد، ومن الأعراف الديمقراطية أن السلطة تعلن
أسماء الذين اعتقلتهم، فأين وزير الداخلية من مراعاة هذه الأعراف؟ ! ...
ولكن النظام البوليسي الإرهابي يسمي الأمور بغير مسمياتها! ! .
ومن جهة ثالثة فمما فُطِر عليه المسلم حب الخير، وكره الإرهاب والعنف
والبطش، ولكن الذين يتحدثون عن موقف الإسلام من الإرهاب عليهم أن ينظروا
إلى الأمور نظرة شاملة عميقة ليست فيها سطحية ولا خداع.. وهذه النظرة تفرض
علينا أن نقلب صفحات تاريخ وزير الداخلية السابق، ونبين حقيقة موقفه من
الجماعات الإسلامية:
- منذ بداية السبعينيات كان اللواء حسن أبو باشا من كبار الضباط في مباحث
أمن الدولة، وفي عام 1975 جرى تعيينه مديراً عاماً لمباحث أمن الدولة.
- كان اللواء حسن أبو باشا المسؤول الأول عن تصفية تنظيم ما يسمى بـ (التكفير والهجرة) ، وأثبت براعة نادرة عندما ورَّط هذا التنظيم في مقتل الشيخ الذهبي -رحمه الله- عام 1977م.
- أصبح اللواء حسن أبو باشا مساعداً لوزير الداخلية -النبوي إسماعيل-
لشؤون مباحث أمن الدولة، وكان المسؤول عن تعذيب الذين تم اعتقالهم إثر هلاك
السادات.
- وعندما أصبح وزيراً للداخلية عام 1982, استعمل أساليب كثيرة في تعذيب
المعتقلين منها ما أسماه المواجهة الفكرية مع المعتقلين، وكان يستخدم التلفاز
والصحف وعلماء السلطة في شتم المعتقلين والإساءة إليهم.. وقد أقدم على فصل
عدد غير قليل من رجال الشرطة لأنهم رفضوا تنفيذ أوامره الجهنمية في تعذيب
الدعاة المعتقلين..
كان (أبو باشا) يزاول مع رجاله تعذيب المعتقلين بالصعق الكهربائي،
وبالضرب بالعصي الغليظة والكابلات والأسلاك المفتولة والكرابيج.. وقد هتكوا
أعراض بعضهم من الرجال والنساء..
وليست هذه اتهامات يطلقها خصومه بدون دليل.. لقد أكدت المحاكم المصرية
صحة ما ذكرناه.. ومن شاء فليعد إلى محاضر هذه المحاكم.. فكيف يتناسى أدعياء
الديمقراطية جرائم حسن أبو باشا ويستنكرون دفاع الشباب عن أنفسهم وأعراضهم
ضد هذا الوحش الكاسر؟ ! .
يا أصحاب العقول، ويا أهل المروءة: أرأيتم هذا الاستهتار بعقول الناس..
أرأيتم هؤلاء الذين يتباكون على حسن أبو باشا الذي مارس الإجرام طوال عمره..
هذا الذي حاول القضاء على أعز ما تملكه مصر -العقيدة والرجال-، وبعد ذلك كله
فنحن لا ندري -وكما قلنا قبل صفحات- هل الذين حاولوا اغتيال وزير الداخلية
السابق هم من الإسلاميين أم لا ولا نثق بما تقوله السلطة المصرية، ولا نبرر
العنف.. ولكن العنف يقود إلى العنف، والمسألة يجب أن تعالج بكل أبعادها
ونتائجها.
زكي بدر.. وعام الحسم:
قال وزير الداخلية المصري زكي بدر [وهو أحد تلامذة حسن أبو باشا] :
إن عام 1987 هو عام الحسم مع الجماعات الدينية المتطرفة -على حد ... زعمه - ويعنى بذلك طبعاً: الجماعات الإسلامية على الإطلاق.
والحديث عما يسمى بعام الحسم اصطلاح مؤسف أكثر من ترداده أساتذة زكي
بدر فيما مضى، وحسم الله سني عمرهم وأراح المسلمين من شرورهم وأكاذيبهم..
ونحن نسأل الله أن يصلح زكي بدر ويشرح صدره للحق، وسنكون من السعداء
بتوبته وعودته إلى كنف ربه -إن شاء الله-.. وهكذا الدعاة يفكر زكي بدر وأمثاله
كيف يقضون عليهم، ونحن نسأل الله أن يهدي هذا الظالم وغيره إلى الحق، ولهذا
فنحن نقول له ولمن هم وراءه:
إن مشكلة مصر ليست مع الدعاة إلى الله -سبحانه وتعالى-، وإنما مشكلتها
مع المجرمين الذين سرقوا أموال الأمة وخيراتها، وتركوها قاعاً صفصفاً، وليس
هذا أيضاً اتهاماً نتهم به السلطة، إن القضايا التي رفعت في المحاكم المصرية ضد
بعض الوزراء تشهد على ذلك، وإن الوثائق التي تنشر ضد أسرة فرعون وأصهاره
في واشنطن وغيرها تشهد على ذلك أيضاً.
ومشكلة مصر ليست مع الدعاة إلى الله -جل وعلا-، وإنما مشكلتها مع تجار
المخدرات، ومعظمهم من كبار ضباط المباحث والمخابرات والشرطة وأهل الرقص
والغناء.. وهؤلاء من أهم أسباب تدهور الاقتصاد المصري، ولو حُلت هذه القضية
لانتعش الاقتصاد من جديد ولكن (حاميها حراميها) . والمخدرات تصدرها إسر ائيل، ... وهذه سياسة قديمة منذ أيام نائب (هُبل) في الخمسينيات والستينيات. ...
- مشكلة مصر مع الخونة العملاء الذين زينوا لها الباطل، وزعموا أنها ...
سوف تتحول إلى جنات تجري من تحتها الأنهار إذا هي استسلمت لإسرائيل..
وبعد هذا الإذلال تراهم يحرصون أشد الحرص على عزلة مصر وضعفها وهوانها، وهؤلاء أول من يعلم أنه ليس هناك من داعية إسلامي صادق يقبل الصلح مع
إسرائيل، وسوف يقود هؤلاء الأبطال كتائب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأبي
بكر وعمر، وليس كتائب كسرى وأشباه كسرى.. سيقود هؤلاء الأبطال كتائب
الجهاد لتحرير الأقصى مهما طال الليل وادلهم الخطب.
- والذين أوهموا زكي بدر أن عام 1987 هو عام الحسم مع الجماعات
الإسلامية لا يريدون الخير لمصر ولا لشعب مصر.. ومشكلة أكثر [العساكر] ،
أنهم لا يقرأون التاريخ ولا حتى الجغرافيا، ولا يتعظون بما حل بأقرب الناس إليهم.
لقد ظن الإنكليز وعملاء الإنكليز في مصر أن إبعاد الداعية الإسلامي
المجدد الشيخ حسن البنا -رحمه الله- عن الانتخابات في الأربعينيات يعنى القضاء عليه وعلى جماعته.. وظنوا أن عام الحسم عندهم سيكون في قتل حسن البنا -رحمه الله-.. وفي الثمانينات أي بعد أربعين عاماً نجح في الانتخابات ستة وثلاثون نائباً من حملة دعوة البنا، ومنهم ابنه.. ورحل الإنكليز وعملاء الإنكليز، ونسأل الله أن يلحق بهم الأمريكان وعملاؤهم (وليس بين هذا المثال وموقفنا من الانتخابات والديمقراطية أي تناقض) .
وظن الذين أعدموا الداعية الإسلامي الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- أن عام
1965 هو عام الحسم فحسمهم الله وبقيت أفكار سيد قطب، وهو القائل -رحمه
الله-:
«إن كلماتنا ستبقى عرائس من الشموع، فإذا متنا في سبيل الله دبت فيها
الحياة، وانتفضت حية بين الأحياء» .
وفعلاً دبت الحياة في ما كان يدعو إليه بعد استشهاده، وكانت كتبه في
الستينيات تكتب داخل مصر بخط اليد ويتناقلها الشباب.
لا يتسع المقام لمزيد من الاستطراد.. ومسكين -والله- زكي بدر، كيف
يجهل أو يتجاهل تاريخ بلده القريب والبعيد.. يجهل أو يتجاهل وزير الداخلية أن
الشعب المصري لا يتمسك بشيء كما يتمسك بعقيدته الإسلامية، ولا يقبل المساومة
عليها بحال من الأحوال.
يجهل أو يتجاهل هذا المسكين أن مصر التي لفظت العبيديين والشيوعيين
والفراعنة والإنكليز.. هي مصر التي سوف تلفظ اليهود والأمريكان وعملاءهم في
الداخل -إن شاء الله-.
- وتزعم السلطة أن مجموعة أو بعض مجموعات الجهاد اتصلوا بالعبيديين
خارج مصر، ومع شكنا بكل ما يقولون ويرددون؛ فسوف نفترض جدلاً أن هذا
الاتصال قد تم فعلاً.. وهو عند العلماء الدعاة المخلصين داخل مصر وخارجها
انحراف غير مقبول مهما كانت تبريراته وأسبابه، وكما قلنا في بداية هذا المقال:
إن العبيديين وعملاءهم في البلدان العربية يتطلعون إلى احتلال مصر من جديد أو
إلى إشعال الفتن والاضطرابات فيها.. ولكن كيف تطوق هذه الفتنة؟ ! فالذين
يتعاملون حقيقة مع اليهود والأمريكان ومع الشيطان.. هؤلاء أعجز وأضعف عن
مواجهة الذين يُتهمون بالتعامل مع العبيديين.
ونؤكد مرة أخرى: إن القادرين على تطويق هذه الفتنة هم العلماء المخلصون
من الدعاة داخل مصر وخارجها عندما تتاح لهم حرية مخاطبة المغرر بهم من
الشباب بصورة مستقلة ليس فيها مباحث ولا إرهاب.. وعندئذ سوف يفضح هؤلاء
العلماء تاريخ العبيديين، وتعاونهم في القديم والحديث مع كل عدو للإسلام..
وسيبينون للمغرر بهم عقائد وتصورات هؤلاء الغلاة، وسيكون هذا الحديث بالأرقام
والأدلة والبراهين، وعندما يقول هؤلاء الشباب المغرر بهم: إن إرهاب زكي بدر
وغيره ألجأنا إلى اتخاذ هذا الموقف نقول لهم:
هؤلاء أشد ظلماً وأكثر لؤماً ممن تشكون منهم، فأنتم كالمستجير من الرمضاء
بالنار.. وإذا كان هناك من يقبل التعاون مع العبيديين فهم قلة والحمد لله، ومعظم
الشباب في مصر يفهمون دينهم، ويمتازون بسلامة العقيدة والحمد لله.
وبعد:
هذه خواطر كتبناها على عجل، آملين أن يعيد العقلاء النظر بمواقفهم،
فالعصاة المجرمون نسأل الله أن يرزقهم التوبة، وينصرفوا إلى تتبع المخربين
الهدامين، ويمدوا يد العون والمساعدة للشباب الدعاة الذين لا يريدون مغانم ولا
مكاسب في هذه الدنيا الفانية.
والذين يعلقون آمالاً عريضة على النظام الديمقراطي نقول لهم:
اتعظوا بتجارب غيركم، ولا تستسمنوا ذا ورم! والخطاب يفهم من عنوانه،
فانظروا كيف تم استقبالكم.. ولعل الله أن ينفع بكم، ولكن لا تكونوا شهود زور
على نظام يسمي الاستبداد ديمقراطية.
والشباب الذين يتسرعون في اتخاذ مواقف تحتاج إلى روية وإلى خبرة في
الأمور.. لهؤلاء نقول:
كفاكم فوضى وتخبط، ولا تظنوا أنكم تعيشون على هذا الكوكب وحدكم، ولا
تسيئوا الظن بإخوانكم من الذين يختلفون معكم فيما تذهبون إليه.. واعلموا بأن
المسلمين لن يحققوا أهدافهم إلا بوحدة كلمتهم، وصدقهم مع ربهم، والتزامهم بكتاب
الله -جل وعلا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
إن ظروف مصر الاقتصادية تزداد سوءاً يوماً بعد آخر، والسلطة ضعيفة
وسوف تركع أخيراً أمام أوامر صندوق النقد الدولي، وسوف تكون هذه الأوامر
على حساب مصالح الفقراء المعدمين، وأعداء الإسلام داخل النظام سوف يزينون
للظلمة أهمية ضرب الاتجاه الإسلامي ليكسبوا عطف اليهود والأمريكان والسوفييت
والتصدي لهذا الموقف يحتاج إلى رواد وعقول وتجرد لله، وأخذ بالأسباب
الشرعية، والذي أقدم على حل المجلس النيابي فجأة، وقبل بضعة أشهر، قد يحله
مرة أخرى فأمر هذا المجلس بيده، أما أمرنا فبيد الله -سبحانه وتعالى-، وما علينا
إلا فعل الأسباب.
[ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ](7/62)
الإسلام: أمل فلسطين
بعد عشرين عاماً على الهزيمة
بمناسبة مرور الذكرى العشرين لحرب حزيران 1967 حذرت الحكومة
الإسرائيلية خطباء المساجد في مدن وقرى فلسطين من أن يشيروا إلى الاحتلال
الإسرائيلي، أو يحرضوا الناس على ما من شأنه أن يبث الوعي بينهم، وينبههم
إلى حقوقهم الأساسية المنهوبة من قبل العدو اليهودي.
ولم تكتف سلطات الاحتلال بالتحذير، بل إنها استجوبت بعض هؤلاء
الخطباء عما ينشرونه بين الناس من أفكار رافضة لكل أشكال الهيمنة والاحتلال.
ومناسبة يوم الخامس من حزيران لا ينبغي أن تمر دون أن يشار إلى مجموعة
من الحقائق التي تتعلق بها.
- لابد من الإشارة إلى أن الهزيمة عام 1967 أمام اليهود، ومن قبلها هزيمة
عام 1948 كانت هزيمة أنظمة، وليست هزيمة شعوب، تلك الأنظمة التي جثمت
على صدر شعوبها، وبدل أن تكون حارساً أميناً، وراعياً رحيماً، كانت على
خلاف ذلك، فلا هي تسلمت هذه الأمانة الثقيلة بجدارة، ولا هي حافظت عليها
بحرص وحصافة، وإنما أذاقت محكوميها المرَّ كله، وجردتها من كل معاني العزة
والكرامة، وداست كل حرمة في سبيل الحفاظ على هيمنتها وتحكمها وامتيازاتها
التي اغتصبتها من حق الشعوب المسكينة المسوقة بالحديد والنار إلى مالا تريد.
وإن تعجب؛ فإن أعجب العجب ما بلغته هذه الأنظمة المهزومة التي كانت
بادية العري لكل ذي مُسكة من عقل، فأصبحت بعد هزيمة 1967 مكشوفة
السوءات لكل ذي عينين؛ حيث ادعت أن هدف إسرائيل (كان) إسقاط هذه الأنظمة
التي هي رأسمال كل مجد وعزة لشعوبها (! !) ولكن الله قدر ولطف! فلم تستطع
إسرائيل تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي! في حين احتلت الأرض وشردت ناسها،
ولكن ذلك لا يعتبر شيئاً، وليس خسارة تقاس بالكسب الذي تحقق، وهو خروج
هذه الأنظمة سليمة معافاة من هذه المحنة! ! .
أرأيت هذه القِحّة؟ ! وهل هناك صفاقة إعلامية تعدل هذه الصفاقة؟ ! .
- في الوقت الذي بنت فيه إسرائيل دولتها على أساس من إيمانها بالتوراة
المحرفة، وجعلت عقيدتها الدينية هي المحرك الفكري الذي تنطلق منه وتعتز
بباطلها أشد الاعتزاز، وتعلن بذلك أمام سمع العالم وبصره، ترانا على المستوى
الرسمي -نحن الذين هزمتنا إسرائيل بمثل هذه العقيدة العنصرية الباطلة، وبمثل
هذا الزور المفضوح- ضائعين تائهين نتسول الأفكار والمذاهب من عتبات الشرق
والغرب، ونلبس المرقَّعات التي يفصلها لنا أعداؤنا الذين لا يريدون لنا خيراً،
فنبدو كمجموعات من المتسولين الأذلاء، فاقدي الحس والكرامة.
ولكن رغم هذه الصورة القاتمة التي يعكسها إعلامنا، ورغم الحرب التي
يعلنها على الإسلام أعداؤه في الداخل والخارج، ورغم الاحتلال الصهيوني الذي
يحاول أن يلغي هوية الشعب الفلسطيني وينكر عليه أي انتماء فإننا نجد هذا الشعب
أكثر ما يكون تمسكاً بحقوقه، وكذلك فإن بوادر رجوعه إلى الإسلام يحس بها كل
من يرصد الاتجاهات الفكرية التي تحرك هذا الشعب.
- والعودة إلى الإسلام تتجلى بالإحساس العميق الذي أخذ يشعر به الجيل
الجديد من أبناء فلسطين؛ من أن له هوية قد منع من التعبير عنها لمدة طويلة، وله
عقيدة تمده بكل عوامل الصمود في وجه التحديات. وأن هذه العقيدة -وهي
الإسلام- هي العقيدة الوحيدة القادرة على التصدي للعدو الذي فشلت في صده كل
النظريات والأيديولوجيات والأفكار التي قوبل بها حتى الآن.
وهذه العقيدة لا تعوزها الاستدلالات الملتوية، ولا الدعاية المركزة من أجل
غرسها وتحبيب الناس بها، بل هي مركوزة في ضمير هذا الشعب وفي وعيه
الباطن، والتفاتة بسيطة إلى الماضي كي يكتشف أبسط الناس ثقافة في فلسطين
وفي غيرها أن هذه البلاد قد تعرضت لهجوم صليبي استيطاني شرس في السابق،
وأنها وقعت ضحية الفرقة والتناحر التي ضربت العالم الإسلامي، وبعد مدة طويلة
عندما استفاق الوعي الإسلامي، وأخذ المسلمون بأسباب النصر من الرجوع إلى الله
والإعداد الجاد طردوا الصليبيين شر طردة، واقتلعوهم من هذه الأرض التي
دنسوها لفترة ليست بالقصيرة.
والرجل العادي حينما يتذكر ذلك يتذكر ببساطة أن الجحافل التي نظفت
فلسطين وباقي بلاد الشام من رجس الصليبيين كانت تفعل ذلك باسم الله، وتحت
راية الإسلام، وتتخذ من مصطلحاته زادها الفكري والتعبوي من مثل الجهاد
والمرابطة، والذود عن حياض الإسلام، وتطهير مسرى النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وإعادة الأرض التي بارك الله فيها إلى حظيرة ديار الإسلام.. وأن سنين
طويلة منذ أوائل هذا القرن، من التبعية للغرب ولرموزه، ومن الجري وراء
سراب الشعارات التي يرفعها أعداء الإسلام من شتى الألوان والاتجاهات، يستغلون
ويخدعون بها ذراري المسلمين؛ لم تورثنا إلا ذلاً على ذلك، ولم نجن من وراء
سرابها إلا الخيبة والخذلان على كل صعيد! .
كل ذلك جعل أهل الحق يحاولون نفض الغبار والتراب الذي أهاله أهل
الباطل عليه، مما نقرأه أو نسمع عن أنبائه في داخل فلسطين المحتلة.
* هذه العودة المباركة إلى الإسلام تلقى حرباً من جهتين:
فاليهود وحلفاؤهم يتخوفون من آثارها ويرصدونها بعيون مفتوحة،
ويحاولون الوقوف في طريقها بشتى الوسائل، مثل التعتيم الإعلامي الذي تعامل ... به، وذلك التشويه الذي يمارس ضدها. وهذا طبيعي بالنسبة لليهود فهل يعلمون أن العقيدة الوحيدة التي لا ينطلي على معتنقيها كيدهم وغدرهم هي العقيدة الإسلامية، وأن عدوهم الأول الإسلام، وصدق الله القائل:
[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا] [المائدة / 82] .
على أن الشيء المؤسف هو معاداة التوجه الإسلامي بين العرب في فلسطين
من قبل أدعياء الوطنية من العلمانيين والمرتبطين بهذه الجبهة أو تلك ممن يتاجرون
بالقضية الفلسطينية، والذين افتضح إفلاسهم وتضخيمهم لأدوارهم وألاعيبهم لكسب
الأنصار والأعوان.
ومما يثير الأسى ويؤلم الفؤاد ما كتبه صحفي فلسطيني -ممن تدفع لهم منظمة
التحرير وتنفق على صحفهم في الضفة الغربية- ناعياً على أصحاب هذا التوجه
الإسلامي من أهل فلسطين، ومعتبراً خطورة فكرهم قد تفوق الفكر الصهيوني،
وإذا عرفنا سبب هذه الحملة التي يحملها هذا الصحفي وأمثاله على التوجه الإسلامي
الفتي في فلسطين بطل عجبنا وزال استغرابنا.
فتنامي التيار الإسلامي في فلسطين يهدد بسحب البساط من تحت الذين
يحتكرون ادعاء مقاومة إسرائيل في العلن، بينما هم يلتقون معهم في السر [انظر
ما نشر من كتاب يوري أفنيري: صديقي العدو] .
وكذلك فإنه لا يروق لأمثال حنا سنيورة وإلياس فريج أن يروا للمسلمين أثراً
ولا أن يسمعوا لهم صوتاً، كي لا يفقدوا مبرر وجودهم وعيشهم على ما تقدمه
منظمة التحرير من رواتب وامتيازات.
- تبقى هناك كلمة أخيرة حول النشاط الإسلامي في فلسطين، فهذا النشاط هو
معقد الأمل بالنسبة لغالبية المسلمين في كل بقاع العالم من أجل تحرير فلسطين.
وهذا البعث الإسلامي الذي يبشر بخير هو الجدير منا بكل مساندة مادية أو معنوية،
وينبغي التنويه به وتسديد طريقه نحو سلامة التصور ووضوح الهدف.
أما سلامة التصور فتتلخص في اتخاذ الإسلام القائم على كتاب الله وسنة
رسوله والانطلاق من هذا الأساس الواضح لفهم الإسلام، والبعد كل البعد عن ما
يخالف ذلك من المناهج والسبل، وكذلك عدم الانخداع بكثير ممن يحملون الراية
الإسلامية ليغطوا بها كراهيتهم الدفينة للإسلام وحقدهم القديم على العرب -حملة
الإسلام للعالمين- كالشعوبيين والباطنيين الذين يفوقون في خطرهم اليهود
والنصارى والملاحدة لأن هؤلاء كراهيتهم معلنة ممكن اتقاؤها، أما أولئك فعداوتهم
باطنة قد تخفى أو تغيب عن كثير من ذوى النوايا الطيبة.
وكلنا أمل في أنه لو قيض لأصحاب الصوت الإسلامي النقي -ممن يرزحون
تحت نير الاحتلال الإسرائيلي والقهر اليهودي، ومن إخوانهم في المهاجر في شتى
بقاع العالم- القيادة الحكيمة التي تجمع كلمتهم على التقوى والمنهج الإسلامي
الصحيح، بعيداً عن أصحاب الأهواء من مستغلين ومبتدعين، وبعيداً عن تجار
الجماجم الذين انكشفت خزاياهم؛ لو حصل ذلك -وما ذلك على الله بعزيز- لزالت
أسطورة (إسرائيل) من الوجود كما زال كثير من الأساطير التي كانت في يوم من
الأيام حقائق.
فنسأل الله لإخواننا في فلسطين المحتلة السداد والثبات والرشاد بمنه وكرمه إنه ولي ذلك والقادر عليه.(7/77)
التنكيل بالمسلمين في الهند
.. إلى متى؟ !
شهدت الأحياء المسلمة في مدينة ميروت الهندية التي توصف عادة بأنها
المدينة التاريخية للإسلام في الهند، في الأسبوع الثالث من شهر مايو مذبحة دامية،
ضمن مخطط الإبادة الذي يتعرض له مسلمو الهند، حيث بلغ عدد الضحايا فيها ما
يزيد على الـ 100 قتيل حسبما أوردته وكالات الأنباء. قُتل غالبيتهم برصاص
قوات الشرطة المؤلفة في معظمها من الهندوس الذين فتحوا نيران أسلحتهم على
المسلمين دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال.
كما دوهمت منازل المسلمين، ونهبت متاجرهم، وأحرق العديد من ممتلكاتهم، وفرض حظر التجول على أحيائهم في هذه المدينة التي تبعد حوا لي 80 كيلو متراً شمالي شرقي دلهي، التي تعرض فيها أيضاً الحي القديم، الذي يقطنه المسلمون لمداهمات الشرطة وفرض حظر التجول.
ولقد قامت قوات الشرطة بانتهاك حرمة مساجد المسلمين، وأزالت مكبرات
الصوت فيها بحجة أنها تستخدم في بث الكراهية الدينية والتحريض على العنف
وذلك إشارة إلى النداءات التي أطلقها المسلمون لحض إخوانهم على الدفاع عن دينهم
والوقوف في وجه الاعتداءات الهندوسية. هذه الاعتداءات التي بلغت حداً من
الوحشية وصفت بعض أحداثه مجلة النيوزويك الأمريكية في عددها الصادر في
8 / يونيو /1987 بقولها:
«.. اندفعت جموع الهندوس الهائجة تجوس خلال ماليانا [إحدى القرى
المجاورة لميروت] فساداً، تنهب وتحرق منازل ومتاجر المسلمين ثم تحولت هذه
الجموع لتهاجم المسلمين أنفسهم وتعتدي على الرجال والنساء والأطفال على السواء، لتشعل النار في بعضهم، ثم تطلق عليهم الرصاص، أو تضربهم بالفؤوس،
بينما كانوا يولون مذعورين من هول الآلام التي أصابتهم.
وقد عثرت قوات الشرطة على عشر جثث لأفراد عائلة كُدست في إحدى
الآبار. كما وُجدت بعض الجثث التي امتلأت بطلقات الرصاص طافية على بعد
أميال في مصب إحدى قنوات الري» .
كما تطرقت مجلة الإيكونومست البريطانية في عددها الصادر في
30/5/ 1987م إلى الأحداث الأخيرة في مدينة ميروت فقالت:
«إن المسلمين في الهند يعانون من الغبن الاقتصادي فبينما هم يشكلون 12% من مجموع سكان الهند إلا أنهم لا يحصلون سوى على نسبة ضئيلة من الدخل
ولا يملكون من الثروة إلا أقلها.
وفي مدينة ميروت التي تشتهر بصناعة المقصات والصناعات اليدوية
والحلويات نجد أنه بينما يقوم المسلمين بتصنيع هذه السلع فإن الهندوس هم الذين
يملأون جيوبهم من أرباح المتاجرة بهذه السلع.
ولا يُمثل المسلمون تمثيلاً عادلاً في وظائف الطبقة الوسطى التي تشمل
القضاء ووظائف الخدمة المدنية العالية وشركات القطاع الخاص الكبيرة بالإضافة
إلى الشرطة.
وغالب من أُرسل لإخماد الاضطرابات من المتعصبين ضد المسلمين. فقد
تصرفت قوات الأمن بشكل مقيت في ميروت إذ ساهمت في إذكاء أعمال العنف
والاضطرابات بدلاً من أن تعمل على إخمادها. وطبقاً لأقوال سكان المدينة فإن
قوات الأمن ساهمت في تحريض هياج سكان إحدى القرى مما أدى إلى مقتل 90
شخصاً» .
يقف وراء الكثير من هذه المذابح مسؤولون ينتمون إلى الطوائف الهندوكية
المتطرفة كمنظمة آر. أس. أس. وغيرها التي تتربص بالمسلمين الشر. حيث
تقوم هذه المنظمة المعادية للإسلام بإثارة القلاقل والفتن، وتحاول اغتصاب أوقاف
المسلمين والسيطرة على مساجدهم ومقابرهم بشتى الطرق والوسائل، كما يعمدون
إلى قتل المسلمين ونهب أموالهم وإحراق أطفالهم ونسائهم.
ثم إن الأمر لا يقتصر على الطوائف الهندوكية فحسب، بل إن الحكومة
الهندية تدأب منذ سنوات على إدخال التغييرات والتعديلات على قانون الأحوال
الشخصية للمسلمين، كالإرث والنكاح والطلاق، وذلك تمهيداً لتنفيذ القانون المدني
العام في الهند الذي يفرض على كل الديانات والطوائف نظاماً واحداً يخالف
نصوص الإسلام.
كما أن هناك الكثير من المساجد (ما يزيد على الأربعين مسجداً) تضع
الحكومة الهندية يدها عليها بحجة أنها آثار من العصر المغولي وتمنع الصلاة فيها.
ولم تكتف بذلك بل إنها ساندت قرار مصادرة مسجد بابري الذي أنشئ منذ ما يزيد
على أربعة قرون في عهد الملك المغولي بابر وتسليمه للهندوس وهو ما فجر غضب
المسلمين وزاد من إشعال فتيل أعمال العنف.
هذا التعصب الهندوسي أشارت إليه جريدة الواشنطن بوست في عددها
الصادر في 27 / مايو / 1987, حين قالت:
«إنه من الواضح أن الحكومة الهندية تستميل الهندوس وتحابيهم، وقد أدت تلك التصرفات إلى تعزيز آراء الأقليات المختلفة بأن زعامة حزب
المؤتمر الحاكم تشجع التعصب الهندوسي» .
ولكن هذا التعصب الهندوسي ضد المسلمين يتخذ أبعاداً أكبر، فهم يواجهون
حرب إبادة تشبه تلك التي نفذها النصارى تجاه مسلمي الأندلس. وهذه الحرب لا
تنتهي عند حد، فهي مستمرة منذ تقسيم الهند في الأربعينات، بل وتزداد حملات
التنكيل وفرض الردة عن الإسلام على المسلمين يوماً بعد يوم.
لا نريد هنا أن نسكب الدمع وننوح على إخواننا في الهند كلما حاقت بهم
كارثة، ولكن علينا أن نذكر بهؤلاء الذين لا بواكي لهم في العالم العربي بل وفي
العالم الإسلامي.
وما يثير الاستغراب حقاً هو هذا التعتيم الإعلامي الذي تمارسه أجهزة الإعلام
والصحافة بخاصة في العالم العربي على أحداث المسلمين في الهند لكأن هؤلاء
المسلمين لا يستحقون عشر معشار ما ينشر عن أخبار النصارى واليهود، أو لكأن
هؤلاء المسلمين ليسوا من سكان هذا الكوكب.
ولعل ما يفتقده المسلمون في الهند هو تلك القيادات التي تعرف كيف تقود
جموع المسلمين الضائعة، وتردهم إلى هدي الله وتصهر قواهم وجهودهم في بوتقة
واحدة تستطيع معها أن تدفع شر الهندوس وغيرهم، وأن ترد لهم الصاع صاعين -
بإذن الله تعالى-، وترفع الذل والهوان عن المسلمين في الهند بدلاً من الزعامات
السياسية التي أصبحت أذناباً للهندوس وغيرهم يتكسبون باسم الإسلام وهو برئ
منهم.
ويبقى واجباً على العلماء المخلصين العاملين في الهند من أمثال الشيخ أبي
الحسن الندوي وأمير الجماعة الإسلامية وأمير الجماعة السلفية وغيرهم أن يبادروا
بتقديم صورة واضحة وشاملة عما يلحق بالمسلمين من صنوف القهر والتنكيل ليطلع
المسلمون والعالم على ما يجري في الهند، ويكونوا على بينة من أحوال المسلمين
هناك.
كما ينبغي على المسلمين في شتى بقاع العالم المبادرة لمساندة إخوانهم في
الهند، وتقديم العون المادي والأدبي لهم، وأن يتخلوا عن هذا التقاعس، وعدم
البذل حتى في أقل القليل لنصرة إخوان لهم في الدين.
فإلى متى هذا التقاعس والذل والهوان؛ وإخواننا يئنون ويصرخون ولا مجيب! نداء نطلقه إلى كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(7/81)
إسرائيل.. والمفاعل النووي الباكستاني
فضيحة الجاسوس الإسرائيلي بولارد الذي كان يعمل في وكالة المخابرات
الأمريكية جاءت تؤكد بأن اليهود لا يثقون بأحد ولو كان الولايات المتحدة الأمريكية، وليس في قاموسهم شيء اسمه الصداقة أو الثقة أو المحبة.. فرغم الأسرار التي
تقدمها أمريكا لإسرائيل، ورغم المساعدات المادية وغير المادية اكتشفت أمريكا بأن
إسرائيل تتجسس عليها، وتمد لها يد الصداقة وتطعنها في اليد الأخرى، وهذا هو
خلق اليهود في القديم والحديث.
وكشفت فضيحة بولارد أسراراً مذهلة عن منطقة الشرق الأوسط.. ومنها أنه
أرسل صوراً للمفاعل الذري العراقي، وكانت وكالة المخابرات الأمريكية قد
التقطت هذه الصور بواسطة الأقمار الصناعية، واعتمد الطيران الإسرائيلي على
هذه الصور في تدميره للمفاعل الذري العراقي.
وقد تقول إسرائيل:
إن العراق يشكل خطراً عليها بسبب قربه من فلسطين المحتلة.. ولكن
المسألة أكثر عمقاً، فبعد ضرب المفاعل النووي العراقي بدأت إسرائيل تثير مسألة
المفاعل النووي الباكستاني، وقبل بضعة أشهر ذكرت صحيفة (جيروزيلم بوست)
في تقرير لها أن إسرائيل اقترحت على الهند ثلاث مرات شن هجوم مشترك لنسف
المفاعل الباكستاني، ولكن الهند رفضت العرض في كل مرة. [نشرت الصحف
العربية تصريح جيروزيلم بوست في 23/2/87] .
وهل صحيح بأن الهند لا تريد ضرب المفاعل النووي الباكستاني، كما قالت
الصحيفة؟ ! لا نعتقد ذلك لأن اعتداءات الهند على باكستان لا تنتهي بدون مفاعل
نووي، فكيف مع وجود هذا المفاعل؟ ! .
وقد نقلت الصحف ووكالات الأنباء غير مرة تهديدات رئيس وزراء الهند -
راجيف غاندي- لباكستان بسبب المفاعل النووي.. والعجيب أن هذا الذي يهدد
باكستان يملك مفاعلاً نووياً وقد أجرت بلده تجارباً على القنبلة النووية، فكيف يكون
سلاحه برداً وسلاماً على البشرية، وسلاح باكستان خطراً ودماراً؟ ! .
ومن الذي أباح لأمريكا وروسيا وإسرائيل وعدد من دول أوربا امتلاك أسلحة
نووية، وجعله حراماً على باكستان وغيرها من الدول التي تدين شعوبها ... بالإسلام؟ ! .
إن الهند تخطط لضرب المفاعل الباكستاني لكنها لا تريد أن تكون إسرائيل
شريكة لها لأسباب لا يجهلها الذين سبروا غور سياسة حزب [غاندي] رغم تعاون
الهندوس السري مع إسرائيل.
وعلى صعيد آخر؛ فقد حركت إسرائيل أمها الحنون -أمريكا- لكي تقوم
بدورها في الحملة الإعلامية ضد باكستان، ولكي تهيئ الرأي العام العالمي لأي
تصرف ضد هذا الخطر المخيف الذي يهدد البشرية، ونقلت وكالات الأنباء في 26
/ 2 / 87 أن الولايات المتحدة حذرت باكستان من أن استمرارها في البرنامج
النووي قد يؤدي إلى قطع المساعدات عنها، وأثار السفير الأمريكي هذه المسالة في
تصريح له جاء فيه:
«إن أي قرار تتخذه باكستان بإجراء تجربة نووية سيحمل الكونغرس على تجميد المساعدات، وسيثير أزمة في العلاقات بين البلدين» .
والذي نراه أن إسرائيل سوف تستمر في كيدها ضد المفاعل الباكستاني،
وكذلك الهند تساندها روسيا والأولى تساندها الولايات المتحدة، ولا يشفع لباكستان
صداقة حكومتها مع أمريكا.
إن الدول الكبرى وإسرائيل والهندوس لا يقبلون أن يمتلك المسلمون سلاحاً
نووياً، وهم يعلمون بأن الحكومات تزول وتبقى الشعوب المسلمة، وهذه الشعوب
سوف تستخدم هذا السلاح إذا اعتدي عليها فهل تتكرر مأساة المفاعل العراقي في
باكستان؟ نسأل الله أن لا يكون الأمر كذلك.(7/85)
بأقلام القراء
قراءة في البيان
محمد عبد الله آل شاكر
الأخ الكريم الفاضل مدير تحرير (البيان) - سلمه الله -.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
* ففي وسط الضجيج الإعلامي وسبل الإصدارات الكثيرة من الصحف
والمجلات المتنوعة -هنا وهناك- تأتي مجلة (البيان) التي تضطلعون بأعباء
تحريرها، لتكون الصوت الإسلامي المتميز الذي يرفع راية الجهاد بالكلمة،
ولتكون صوت الحق ومنبراً من منابر المنهج الأصولي لكل مسلم أياً كان موقعه،
كما أشرتم إلى ذلك في افتتاحية العدد الأول، التي حددتم فيها منهج المجلة وخط
سيرها، وتلكم أهداف عالية وآفاق سامية، نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديكم لتحقيقها
من خلال جهدكم وجهادكم، وأن يمدكم بعون من عنده.
* وقد قرأت باهتمام بالغ الأعداد الأربعة التي صدرت، وقد كانت حافلة بمادة
طيبة، وبحوث علمية متخصصة في جوانب عديدة من علوم الشريعة؛ فالدراسة
القيمة حول التجديد، تجمع بين العمق والأصالة وإشراقة الأسلوب وحلاوة إيمان
الكاتب التي تظهر من خلال بحثه، ولم يعوزه التوثيق الدقيق لكل فكرة، بل ولكل
كلمة أحياناً، وهذه ميزة طيبة، على ألا تطغى الهوامش على المتن، فمزيداً من
الأبحاث الجادّة كهذا البحث، والله يوفق العاملين المخلصين! .
* وأما ما دبجته براعة الشيخ محمد صالح العثيمين فقد جاء في إبّانه، فرسم
بعض معالم المنهج الذي ينبغي أن نتخذه من الخلاف الفقهي دون أن يعدو أحد
المختلفين على الآخر، ثم عالج في مقاله الثاني قضية خطيرة في الاقتصاد، وهي
(الربا) ورسم طريق الخلاص وحذر من أسباب الحرب التي أعلنها الله تعالى على
المرابين، وكشف بعضه حيلهم في ذلك، وهو لا يزال بحاجة إلى فضل بيان، لعل
الله تعالى يهيئ مرة ثانية العودة إليه، لما له من خطورة بالغة في حياة المسلمين.
* وقد أعجبت بهذه (الخواطر في الدعوة) التي سجلها الأخ أبو أنس بأسلوب مشرق وبيان عذب، وروح مؤمنة، تظهر فيها الغيرة على (هذه الشريعة ... العربية) دون إجحاف أو عصبية! ! ونأمل أن يستمر الكاتب في تسجيل خواطره ... وتأملاته! .
* وأما زاوية (الأدب والتاريخ) فالحاجة إليها ملحة، وكانت التفاتة طيبة من المجلة لبيان موقع الأدب في الثقافة الإسلامية المعاصرة والدعوة بحاجة إلى ... العناية بالأدب بشتى فنونه وتوظيفه لخير الدعوة والارتقاء بها، وما أعظم ... تأثير الكلمة الطيبة المشرقة والأسلوب الرصين في النفوس، ولنا في كتابات أئمة الدعوة وقادتها ما يشير بوضوح إلى هذه الحقيقة متمثلة بما كتبه الأستاذ سيد قطب - رحمه الله-، وبما تركه الأستاذ السباعي -رحمه الله- من تراث رائع، وغيرهما من الكتاب الإسلاميين والدعاة، وهم بحمد الله كثيرون ونأمل أن تكمل (البيان) تلك الجهود البناءة المشكورة.
ومن خلال هذه الزاوية نظرنا إلى الجاهلية في الشعر الجاهلي وتعرفنا على
ملامحها، ولعل البحث يسلمنا -بعدها- لنتعرف على جوانب من الأدب الإسلامي
بمفهومه الواسع.
وقد أقامت هذه الزاوية، أو ساهمت في محاولة إقامة منهج لكتابة تاريخنا
الإسلامي من وجهة النظر الإسلامية لتكشف الزيف وتهتك الأقنعة التي يتستر
وراءها الهدامون والمغرضون والمشككون في تاريخنا الإسلامي العظيم الذي نعتز
به ونقدمه للأجيال وسيلة إيضاح لمبادئ الإسلام الواقعية المثالية، وأعني تاريخنا ...
الإسلامي بالتزامه بأحكام الإسلام.
* ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ولعل (شؤون العالم الإسلامي)
تكون مما يعين المسلم على التعرف على أحوال إخوانه في أرض الله الواسعة،
والاهتمام بهم، وفيها يجد كل مسلم في أي بلد سبباً يشده إلى المجلة لأنه يشعر
باهتمامها بقضاياه، فمزيداً من الاهتمام بذلك وعلى قدر الوسع والطاقة.
* أما الوجه الكالح للحضارة الغربية، فإنه سوف يزيح الغشاوة عن أبصار
وبصائر كثير من المخدوعين بحضارة القرن العشرين وجاهليته.
* وهذه الإشارات التنويهية بما سبق لا يعني تقليلاً من أهمية غيرها، وهنا
أجد لزاماً علي أن أشير إلى بعض ما أراه نصيحة خالصة -إن شاء الله- لمجلتنا:
- إذ يجب العناية بالإخراج ليتفق المضمون والشكل معاً، من حيث كتابة
العناوين ومن حيث الحرف وتنسيق الموضوعات وإخراجها، ولا أرى ضيراً من
الإفادة من تجارب بعض المجلات الأخرى.
- استغلال أجزاء الصفحات في نهاية المقالات التي لم تستوعب الصفحة
الأخيرة من كل مقال بنشر كلمات خفيفة أو حكم.. أو غير ذلك تتناسب مع
مستويات القارئ العادي الذي قد لا يهتم بالبحوث العلمية..
- حبذا لو كان في المجلة زاوية ثابتة عن: آية وحديث يعالج كل منهما
بأسلوب مركز موجز قضية عقيدية أو فكرية أو سلوكية، وقد نشر بعض ذلك في
بعض الأعداد.
- استكتاب عدد من الكتاب والمفكرين، وقد بدأ ذلك يظهر في الأعداد
الأخيرة كالعدد الرابع، وذلك يثري المجلة بأفكار الكتاب الإسلاميين ويجعل المجلة
مجلة كل المسلمين، ويغطي مساحة واسعة من أرض المسلمين.
- حبذا لو كان هناك اهتمام ببيانات التوزيع ووكلاء المجلة في كل بلد،
وبيان بعض المعلومات الضرورية، ويأتي في المرتبة الأولى من الأهمية: انتظام
صدور المجلة وتوزيعها في الأسواق.. ونرجو أن يكون ذلك خطوة أولى تمهد
لصدورها شهرياً إن شاء الله تعالى.
هذا وأضرع إلى الله تعالى أن يوفقكم ويبارك جهدكم وجهد جميع الأخوة
العاملين، ويحقق على أيديكم ما يصبو إليه قراؤكم في شتى ديار المسلمين، وان
يهيئ أيضاً من الأخوة القراء ما يحملهم على المشاركة في المجلة.. وأرجو ألا
أكون قد أثقلت عليكم، فاقتطعت جزءاً من وقتكم، ولكن إخلاصي وحرصي دفعني
إلي ذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/92)
أيها الشوق قد ملكت عناني
شعر:عبد الله بن غالب بن حسن العَقِيْلي اليماني العديني
هيج الشوق للبيان لساني ... أيها الشوق قد ملكت عناني
من لي الآن والبيان بنأي ... من يرى الآن للبيان بياني
جدّ في السير وامتطِ الريح وامضِ ... واعبر الجو والبحار ثواني
بلغ النصح والتحية أدِّ ... واسند القول من يفاعِ يماني
يالها الله كم لها الآن تصبو ... نفس حر تجاذبتها يدان
كم بها القلب مغرم حين تبدو ... في سنا الشمس ليس فيها تواني
صادت الفكر والعقول بسحر ... في اجتنا القول واقتضاب المعاني
تنشر العلم للعباد وفيها ... نفحة المسك واختصار المثاني
ترتدي المجد والسمو بعزٍ ... هكذا الفخر فلتعش للزمان(7/95)
يارب وفق دعاة الحق
شعر: قاسم بن عبده بن ملهي بنى عزّ الدين العديني
الخير يا قوم بين الناس منتشر ... والفضل يقبل في الساعات مرّات
يا رب وفق دعاة الحق قاطبة ... وارزقهم الصبر في وجه الصعوبات
إن الدعاة وإن كنا نظنهمو ... فينا قليلاً فقد جاءوا بخيرات
كم في المجلات والإفتاء فائدة ... خصَّ " البيان " وقلبها صفيحات
ففي البيان كلام يستلذ به ... قاري المجلة إن يفتح وريقات
وفي البيان كلام يطمئن به ... قلب المحبين أو قلب المحبات
خصت مقالتها في حسن منهجها ... فلا نظير لها في ذي المجلات
يا طالب الخير هلا قد مددت يداً ... تبغي السلامة من لدغ لحيات
ما كل حمراء لحماً أنت ماضعه ... أو كل بيضاء كانت من شحيمات
كم من مقال ولا يغني لقارئه ... غير الهراء وتضييع لأوقات
كم من مقال وإن نقرأه كدّرنا ... زور المميلين أو كذب المميلات
أهل البيان جزيتم كل مغفرة ... فداوموا السير في حسن الصناعات
جزاكم الله كل الخير وانتبهوا ... للمرسلين لمن يرسل بزلاّت
أبنتم الحق في تعداد أربعة ... فكيف بالحق إن جئتم بعشرات
يا أيها الناس لا تنسوا لها عدداً ... فإن رحلتم فخطوا في الوصيات
أستودع الله أهل الخير أجمعهم ... مع السلام عليكم والتحيات(7/96)
صفر - 1408هـ
أكتوبر - 1987م
(السنة: 2)(8/)
الافتتاحية
.. والحديث مستمر حول حطين
قد يبدو من الغريب أن يتفق الخصوم على الاحتفال بذكرى موقعة كانت
نصراً لجانب، وهزيمة لجانب آخر، وأن يتبارى الجانبان في إعادة دراسة هذه
المعركة وتقويمها واستخلاص الدروس منها.
ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يثير العجب إذا كان حول معركة مثل معركة (حطين) . فإذا كانت هذه المعركة تمثل علامة بارزة في التاريخ العربي ... والإسلامي، وتعتبر وسام فخر واعتزاز لا للقائد الذي قادها - وهو صلاح الدين - فحسب، بل للأمة التي عمل من أجلها، وللفكر الذي كان صلاح الدين يمثله، وهو الفكر الإسلامي - فإنها تعتبر نقطة مهمة في التاريخ العالمي. فعلى الرغم من أن الصليبيين قد انهزموا فيها هزيمة منكرة، ولم تقم لهم بعدها قائمة تذكر، إلا أنهم انكبوا على دراسة النتائج التي حصلت نتيجة احتكاكهم المسلح بالمسلمين، وعكفوا على الانتفاع من معرفتهم لأحوال المسلمين عن قرب، ومن تحليلهم للعوامل المؤثرة في انتصارهم وهزيمتهم، وهكذا شكلت معركة حطين منعطفاً مهماً في حياة الغربيين. وكذلك فإن حوادث التاريخ قد تتشابه، فاحتلال اليهود لفلسطين، وإقامتهم دولتهم فيها بمساعدة ومساندة من الغرب الصليبي، في فترة ضعف وتفرق من المسلمين؛ وعلى الرغم من مرور أربعين عاماً على ذلك، ... ومع هذا، وعلى الرغم مما ينتاب العرب من مصاعب ومآسٍ، وما يعوقهم من شتات وتناحر؛ فإن إسرائيل لازالت جسماً غريباً مرفوضاً من الغالبية العظمى للشعوب المحيطة بها، ولا يبدو في الأفق أي تغير في تقبل هذه الشعوب لهذا الجسم الغريب، على الرغم مما يجري بين الحين والآخر مما يسمى بالصلح أو بإمكانية التعايش.
لهذا كله قد يبدو مفهوما أن يتنادى مؤرخو الحروب الصليبية إلى مؤتمر لهم
في القدس وحيفا بمناسبة مرور 800 سنة على معركة حطين.
ومن جهة أخرى نجد أن أكثر دولة عربية دعت إلى الاحتفال بهذه المعركة،
إن لم يكن غيرة وخجلاً من احتفال الأعداء بها؛ بينما نحن أولى منهم بذلك، فلأن
الواقع المؤلم الذين نعيشه يفرض علينا أن نجند كل طاقاتنا المعنوية إلى جانب
الطاقات المادية في وجه الذين يستهدفون عقيدتنا وأرضنا بل وجودنا كله.
وإذا كان احتفال الدول العربية بهذه المناسبة ينطوي - في جانب منه - على
إدراك محمود لأهميتها ومكانتها من مجمل تاريخنا وصراعنا مع قوى الشر، إلا أنه
مما يحز في النفس، ويؤلم الفؤاد، أن يجيء إحياء هذه المناسبة بصورة تخالف
عملياً دلالتها التوحيدية. إذ، أي شيء أكثر ألماً وأقسى أثراً من احتفال كل دولة
على انفراد، وبطريقتها الخاصة؛ بهذه المعركة الخالدة؟ .
أليس من التناقض، بل ومن السخرية والهزء بمعانيها وبالأهداف التي عمل
لها قائدها: صلاح الدين؛ أن نحتفل بها، بينما نطبق عملياً فكر من هزمهم صلاح
الدين، ونرفع بيننا حدود من أجلاهم صلاح الدين، ونعمق معاني العصبية
والإقليمية والطائفية التي حاربها صلاح الدين؟ .
ثم أليس من الفكر المشوه الذليل، والترديد الممجوج الثقيل، الذي يمثل غباء
في فهم التاريخ وإصراراً عليه؛ ما نقرأه للأمين العام للجامعة العربية في هذه
المناسبة حيث يقول:
(… إن الحروب التي سميت بالصليبية؛ لم تكن حقيقة صراعاً بين الإسلام
والمسيحية بقدر ما كانت صراعاً بين مشروع استعماري، وبين مقاومة وطنية،
وقد حلل المؤرخون الغربيون هذه المسألة، ودعوا إلى كثير من الحذر في تصديق
النظرية القائلة بأن هذه الحروب تمثل صراعاً دينياً ... ) .
هل يدعي حضرة الأمين العام أن العلاقات بين الإسلام والمسيحية منذ أن
ختمت الرسالات برسالة الإسلام إلى يوم الناس هذا كانت سمناً على عسل! ؟ وهل
يستطيع أن يرشد الناس إلى خط السلام المضيء الذي قابلت وعاملت به المسيحية
الإسلام في أي بلد جاورته فيه؟ ؛ وهل الراهب بطرس الذي أطلق صيحاته
المسعورة في جَنَبَات أوربا؛ يستعديها ويستنفرها (لاستنقاذ قبر المسيح من الكفار) ،
لأن الفرصة لائحة وقد لا تتكرر؛ لم يكن مسيحياً، بل علمانياً ملحداً من الهراطقة، قد حكم عليه (بابا روما) ومجلس الكرادلة بالحرمان لأجل ذلك؟ !! ... ...
بل هل كان قادة الحروب الصليبية من أمثال: فريديك بربروس الألماني،
وفيليب أوغست الفرنسي، وريتشارد قلب الأسد الإنكليزي، ولويس التاسع،
وغيرهم وغيرهم؛ نقول: هل كانوا ممن عوقبوا بالحرمان، وطردوا من رحمة
الكنيسة! ؟ ثم ما هذه المصطلحات: مشروع استعماري … مقاومة وطنية! .
هل كان مصطلح: (الاستعمار) قد خرج إلى حيز الوجود في ذلك الزمن
البعيد؟
وهل كانت كلمة (مقاومة) قد ترجمت وأقحمت في اللغة العربية إقحاماً متعمداً، ... وأبعدت كلمة (الجهاد) وغيرها ذات المدلول والمفهوم الإسلامي عن طريقها، إرضاء لخواطر الغربيين وعبيدهم الذين يدين أمين جامعتنا العربية العتيدة لمرجعيتهم الموثوقة بالولاء! .
وهل كان لكلمة (وطن ووطنية) المدلول نفسه الذي ترسخ في وعي المسلمين خلال المائة سنه الأخيرة؟ !
أين المصطلحات التي لم تنهزم أمام زحوف الصليبيين السوداء، ولم تختف
وتغرق في وديان الدماء التي أراقها هؤلاء في استباحتهم كل مدينة إسلامية دخلوها
مصطلحات الجهاد في سبيل الله، والمرابطة في الثغور للدفاع عن حياض
الإسلام، تلك المصطلحات التي لم تستجلب استجلاباً من لغات اليونان واللاتين،
ولا من أدبيات الشرق والغرب، وإنما كانت نابعة من تراث هذه الأمة ومن دينها
وعقيدتها.
ليس عندنا شيء نقوله ... وليس لنا تاريخ نرجع إليه ونستقي منه العلم
بالأحداث وفهمها وتحليلها، ولذلك فليس لنا إلا (المؤرخون الغربيون) ، وهم قد
حللوا - فيما حللوا - هذه المسألة، وحذروا من تصديق مقولة: أن الحروب
الصليبية هي صراع بين الإسلام والمسيحية! وعلينا أن نحذر، وإلا فالويل لنا إن
لم نحذر! ! .
وتكملة لتحليل المؤرخين الغربيين الأمناء فقد توصلوا إلى أن مشعلي الحروب
الصليبية كانوا متآمرين على عقيدة الصليب، خارجين على تعاليم الكنيسة، وما
هزموا إلا عقوبة لهم على ذلك! أليس من أعمدة تعاليم السيد المسيح (عليه الصلاة
والسلام) : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟ ! .
إلى هذه النتيجة يجب أن ننتهي، وإلى مثل هذا التخريف ينبغي أن نصغي،
وبمثل هذا الفكر المريض نحس ذكرى حطين، أليست مناهجنا التعليمية تردد مثل
هذا الهراء وتحقنه دون بقية من خشية أو حياء؟ .
لا يصلح الناس فوضى لا سَرَاة [1] لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا …!
لقد كتب الكثير عن حطين وعن صلاح الدين، ولكن ما نود ترديده وتأكيده
في هذا المكان هو أن صلاح الدين سلك إلى النصر الطرق الصحيحة، وأعد الأمة
للمواجهة إعداداً متكاملاً فكان التفكير بالجهاد وإعداد العدة له يسير - جنباً إلى جنب - مع الإصلاح الداخلي لأحوال الأمة، فعدل كثير من الضرائب المضروبة بغير
حق، وأصلح فكر الأمة، فحارب العقائد الفاسدة التي تفتُّ في عضدها وتفرق
كلمتها، وشجع العلماء، وأشاع العدل.
وقد عكس مؤرخ معاصر للحروب الصليبية (وهو وليم الصوري) تخوف
الصليبيين واحترامهم لصلاح الدين في الوقت نفسه، وحسابهم الحسابات للمواجهة
معه فقال: (إن أي نمو في قوة صلاح الدين إنما هو مجلبة لتخوفنا، فهو رجل حكيم عند إسداء الرأي، مقدام في الميدان، وغاية في الكرم) .
ويلخص بهاء الدين بن شداد صاحب النوادر السلطانية مفتاح شخصية صلاح
الدين بقوله: (كان كل كلامه يدور حول الجهاد، وكل تفكيره منصباً على القتال، ...
ولم يكن يهتم إلا بمن حمل السلاح، ولا يعباً بأي شخص له مقاصد أخرى) .
فالفكر الجهادي هو الفكر الذي آمن به صلاح الدين، ولم يدر بخلده - بعد
الاحتلال الصليبي الطويل - أن يضع عن كاهله عبء الجهاد، ولم تحدثه نفسه أن
الأمة قد تعبت من الحرب، وأنه لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، والتسليم بحقائق
الأمور، ولم يكن يحركه مثل هذا التفكير ليرسم الخطط ويتصالح مع العدو،
ويلتقي معه على موائد المفاوضات في منتجعات سرية، أو في ردهات قصوره! لا، فقد كان -كما وصفه أبو شامة- ( ... شديد المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام ...
به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في
الجهاد، وفي الإرفاد؛ لصدق وبّر في يمينه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل
الله أهله وأولاده ووطنه وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب
بها الرياح يمنة ويسرة) (الروضتين222) .
وكانت نظرته إلى الجهاد ليست نظرة مرهونة بالواقع الذي يحيط به، ولا
تمليها عليه المواجهة مع الصليبيين فحسب، بل هي نظرة مأخوذة من صلب العقيدة
الإسلامية في مراميها ومقاصدها ووسائلها = جهاد دائم لأعداء الله على كل أرض،
وحيث قدر الله له أن يكون. انظر إلى ما يفضي به إلى صديقه ومستشاره: (القاضي الفاضل) :
(متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت) [2] .
غاية واحدة، وهمة عالية، أين منها همم كثير من مدعي البطولات في هده
الأيام، الذين تقاصرت هممهم فلم تعد تتجاوز ظل كراسيهم المهزوزة، وانحصرت
اهتماماتهم في غايات ما أبعدها عن طرق العزة والمجد، ومما أقربها من الضياع
الشخصي والاجتماعي.
__________
(1) السراة: جمع سري جاء على غير قياس: وهو الشريف الرفيع، أو هو اسم مفرد للجميع كنفر ورهط، وليس بجمع.
(2) الروضتين، ص 222 نقلاً عن البيان /العدد السادس.(8/5)
التجديد في الإسلام
(8)
الحركة التجديدية الحديثة
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
إذا كنا عرضنا لحال المجتمع المسلم منذ عهد عمر بن عبد العزيز، وحتى
عهد شيخ الإسلام ابن تيمية.. فيا ترى ماذا سنقول عن الحياة الإسلامية قبيل حركة
الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب؟
وإذا كان العالم الإسلامي منذ القرن التاسع قد تردى أكثر من أي وقت مضى
في الضعف والجهل والتقليد والتمزق فماذا عسى يكون حاله في القرن الثاني عشر؟
لقد وصل إلى وضعٍ أدق ما يوصف به أنه ردةٌ إلى الجاهلية الأولى في معظم
نواحي الحياة وتقديس للأضرحة والشيوخ والأولياء والأشجار، وصرف للعبادة
لغير الله.
ولعل من أبلغ ما وصف به حال العالم الإسلامي ما خطته براعة المؤرخ
الأمريكي (لوثروب ستودارد) في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) حيث يقول:
(في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فاربدّ جوُّه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب ... واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يرى في العالم الإسلامي ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين.. يحكمون حكماً واهناً فاشي القوة متلاشي الصبغة، وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة في حكمها وينشئون حكومات مستقلة؛ ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن..
وجاء فوق جميع ذلك، (رجال الدين) المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقاً فوق
إرهاق، فغلت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس
المسلمين، وبارت التجارة بواراً شديداً، وأهملت الزراعة أيّما إهمال.
وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب
الرسالة الناس سجناً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب
الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من
مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس
بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس
التماس الشفاعة من دفناء القبور.
وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشرب الخمر والأفيون في كل
مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت سائر الحرمات على غير خشية ولا استحياء!
ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار
الحج المقدس.. ضرباً من المستهزآت.
وعلى الجملة فقد بُدِّلَ المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطاً بعيد القرار،
فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهي الإسلام
لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يلعن المرتدون وعبدة
الأوثان) [1] .
تجديد مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
في وسط هذا الجو المكفهر شاء الله أن تنطلق دعوة التوحيد من أرض
الجزيرة العربية كما انطلقت شرارتها الأولى منها، وكانت أرض الجزيرة - وبلاد
نجدٍ خاصة - أنسب البقاع لظهور الحركة التجديدية حيث بقيت هذه البقعة بعيدة
عن سيطرة الدول الكبرى آنذاك فلم يكن أحد يطمع فيها أو يلتفت إليها، وكان أهلها
من صفاء البادية وقوتها وحيويتها ما يحقق البقاء والنماء لهذه الدعوة المرتقبة.
فانطلق صوت الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي - المولود سنة
1115 هـ - منادياً بضرورة نبذ الشرك والعودة إلى نقاء التوحيد وصفائه والذي
كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها.
وكان الشيخ قد حصل على ثروة من العلم عظيمة وتميز بفهم ثاقب وغيرةٍ
متوقدةٍ جياشة، وقد فرغ لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الشيخ الإمام ابن القيم
رحمهما الله حتى استوعبهما وأتقنهما ووجد فيهما الفهم الصحيح لنصوص الكتاب
والسنة.
ومن ثم بدأ دعوته في حريملاء ثم في العيينة ثم في الدرعية مخاطباً فيها
جمهور الناس كما يخاطب رؤوسهم داعياً إلى نبذ البدع، وتحكيم الشرع، وإقامة
الكتاب والسنة، حتى حقق الله له ما أراد، وأقام كياناً سياسياً على أساس من تعاليم
الإسلام، بدأ في التوسع شيئاً فشيئاً، حتى استتم بلاد نجد كلها، ثم الحجاز، إلى
أن اصطدمت جيوش الدعوة الغضة بقوات محمد علي المجهزة بأحدث الوسائل
العصرية، فاخرت سير الدعوة ولكنها لم تستطع أن تحول بين أنوارها وبين
المسلمين.
ولقد كان لجهود الشيخ الشخصية ولمدرسته التي ربّاها على يديه أعظم الآثار
في الأمم الإسلامية منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، ويعزو كثير من المؤرخين معظم
الحركات الإسلامية النقية في أفريقية والهند وغيرها إلى آثار تلك الدعوة المباركة.
ولقد استطاعت هذه الدعوة أن تحرر الأراضي التي وصلت إليها من ألوان
الشرك والخرافة وأن تعيد تعبيد الناس لربهم الحق، وتربيتهم على اتباع السنة
الغراء حتى نشأت من أولئك البدو الجهلاء الجفاة الذين عرفوا بالسلب والنهب وقطع
الطريق ... جماعة مستقيمة على شرع الله، تغضب لله وتغار على حرماته،
وتتورع عن كل ما فيه أدنى شبهة، وتبذل النفس والنفيس في سبيل إعزاز هذا
الدين ونصرة دعاته.
وكان هؤلاء هم قوام الجيش الذي فتح بلاد نجد والحجاز وأغار على بعض
مناطق الخليج والعراق وفي عزمه أن يخضع العالم الإسلامي، لهذه الدعوة الربانية.
لقد استطاع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينشئ دولة تحمي دعوته بالقوة،
وكان واضحاً أنه قد خطط لذلك وعرض على عددٍ من الأمراء حتى قبل الإمام محمد
ابن سعود رحمه الله، وناصر الدعوة الجديدة.
وبذلك ضمن الشيخ استمرار دعوته وقوتها وبقاءها، وأفاد من الأمن الذي
استتب، والوحدة التي قامت في نشر تعليمات الإسلام، وتربية الناس على المعتقد
الصحيح، وتحريرهم من لوثات الشرك والوثنية، وهدايتهم إلى خلق الإسلام
الصحيح في البر والتعاون والإحسان وكف الأذى وإكرام الضيف والعزوف عن
الدنيا وملذاتها، والحذر من المحرمات في الأموال والمآكل والمشارب حتى أصبح
رجالات الدعوة صوراً حية للإسلام يذكرون برجال خير القرون الأولى.
وانتشر العلم وكثر طلابه وأصبحت البلاد مثابة العلم والعلماء، واشتغل أئمة
الدعوة بشرح تعاليمها وأسسها ومبادئها والرد على مخالفيها وتفنيد شبهاتهم، حتى
نشأ عن ذلك حركة علمية إسلامية صافية.
ولقد كان من الآثار المباركة لهذه الدعوة أن فضحت البدع والخرافات
والمذاهب الضالة وحذرت المسلمين من الاغترار بها فهاجمت الرافضة والمتصوفة
والقبوريين وغيرهم من أهل التأويل والتعطيل.
وعموماً فقد جددت دعوة الشيخ ومدرسته دين الإسلام الذي بعث به محمد
صلى الله عليه وسلم والذي جدده العاملون المخلصون عبر التاريخ، فكان لها من
تجديد عمر بن عبد العزيز القوة الناتجة عن اعتماد الدولة للمنهج التجديدي، وكان
لها من تجديد الإمام أحمد بن حنبل ثم الإمام ابن تيمية محاربة ما شاع في العصر
من العقائد والبدع المخالفة، ونشر التوحيد الخالص، وتربية الناس على أخلاق
الإيمان.
ولم يكن تأثير الشيخ محصوراً في الزمان ولا في المكان، أما في المكان فإن
من المقطوع به أن ثمة خيوط واصلة بين دعوته وبين بعض المصلحين المجددين
خاصة في الهند وحسبك ما قام به الإمام الشيخ المجدد (نذير حسين الدهلوي) ، ثم
الشيخ (محمد بشير السهسواني) صاحب كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ
دحلان) والذي ألفه للرد على (زيني دحلان) أحد علماء مكة في هجومه على الدعوة
الوهابية وإلصاق التهم بها [2] .
كما كان لها تأثير في غرب أفريقية وفي سومطرة وفي بلاد المغرب العربي، ولتعرف طرفاً من ذلك انظر المراجع المحال إليها في الهامش [3] .
أما في الزمان فإن الدعوة لم تكن طمعاً شخصياً ينتهي بنهاية حياة حامله، بل
كانت دعوة ربانية متجردة، ولذلك لم تحطمها الضربات الشرسة التي وجهت إليها،
ولا زالت تؤثر في وجدان الجماهير الإسلامية على الرغم من عداء كثير ممن
يجهلونها أو يتجاهلون حقيقتها.
ولازال المسلمون الواعون في الأرض كلّها يُعنون بدراسة آثار الشيخ
ومؤلفاته، وآثار أولاده وأحفاده وأتباعه، فيجدون فيها من تجريد التوحيد وحماية
حماه من الطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك، وتوضيح شرك الأفعال وشرك
الألفاظ، وشرك الإرادة، وشرك العبادة مالا يجدون في غيرها.
ليس لأن الشيخ جاء بجديدٍ من عنده، ولكن لأن الدعوة التجديدية تعني بكشف
الجوانب التي تتسع فيها شقة الانحراف وتأكيدها تفاعلاً مع طبيعة الوضع الذي
تعايشه وتعالجه.
أما في بلاد نجد فلا يزال كثيرون - حتى من عامة الناس - يمتازون باليقظة
والحساسية في الألفاظ والعبارات، فلا يقولون شيئاً من الاستعمالات التي ورد النهي
عنها والتي أبرزها الشيخ في كتاب (التوحيد) ولا يرضون أن يسمعوها من أحد.
ولازال فيهم بقية من سلوك حسن أخذ مأخذ العادات المألوفة المتواضع عليها،
فهو يقاوم تيارات الانحلال التي تعصف عليهم من كل مكان بعض المقاومة.
__________
(1) حاضر العالم الإسلامي، ترجمة: منيرا البعلبكي، تعليق: شكيب أرسلان، دار الفكر ج 1
ص259 ويلحظ في تعبيراته استعمال بعض الألفاظ التي لا نوافقه عليها.
(2) انظر عون المعبود، الموضع المشار إليه في أول البحث، وانظر كتاب: المصلح المظلوم والمفترى عليه لمسعود الندوي، ص 56 - 86، ط اسنة1397.
(3) كتب كثيرون عن أصداء دعوة الشيخ، وبالغ بعضهم واعتدل آخرون، وأهم المراجع هي:
* - حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص2
* - بحوث مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ج2
* - مجلة (الفيصل) عدد15
* - تراجم الشيخ عامةً ومنها كتاب مسعود الندوي المشار إليه.(8/10)
تاريخ العلاقات
الشيوعية الصهيونية
بقلم: محمد آمحزون
في غياب المفاهيم الإسلامية الصحيحة، ولأن الرأي العام في العالم الإسلامي
هو فريسة خداع منظم متصل، يحاول إغراق المنتسبين إلى الإسلام في الجهل
والتبعية باسم الشعارات المضللة، وحيث إنه ليس في العالم الإسلامي من يجهل
دور الغرب الصليبي في المؤامرة ولم يتحدث فيه ويكتب عنه؛ ولكن الكثير هم
الذين يجهلون صلة البلشفية والشيوعية باليهودية والصهيونية فكراً ونظاماً، ودورها
في خلق ما يسمى إسرائيل، فإني سأكشف النقاب في هذا المقال عن أبعاد هذه
الصلة وحقيقتها وأهدافها لخدمة اليهودية الصهيونية أولاً وأخيراً.
أثر اليهود في الثورة البلشفية وفي الفكر الشيوعي:
قامت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م لإسقاط القيصرية وإقامة دولة
شيوعية. ومما يلاحظ أن اليهود كانت لهم سيطرة شبه مطلقة على هذه الثورة
وقيادتها حتى وفاة لينين. ففي دراسة حديثة صدرت عام 1965م لكاتب يهودي
أمريكي عاصر لينين ورافقه وهو (لويز فيشر) ورد أن لينين يهودي الأصل.
وذهبت إلى نفس القول مجلة (فرنسا القديمة) عام 1918م، وصحيفة (الساعة ...
الباريسية) ذات الاتجاه الاشتراكي الراديكالي عام 1917م، وقالت: إن اسم لينين ...
اليهودي هو (زيدر بلوم) .
ومما يؤكد دور اليهود في هذه الثورة البلشفية أنه في شهر مايو عام 1907م
انعقد في لندن مؤتمر الحزب الشيوعي الخامس والأخير قبل الثورة، حضره
(105) مندوبين عن البلشفيك بزعامة لينين، و (97) من المنشفيك بزعامة
مارتوف و (44) من الديموقراطيين الاشتراكيين تتزعمهم روزا لوكسمبورغ،
و (55) من الاتحاد اليهودي يتزعمهم رفائيل ابراموفيتش وليبرغولدمان، و (35) من
الديموقراطيين الاشتراكيين الليتوانيين يتزعمهم دانيشفسكي، وكانت قيادات هذه
المنظمات جميعاً لليهود: لينين، مارتوف، روزا لوكسمبورغ، ابرا موفيتش،
ليبر غولدمان، دانيشفسكي. وضم المؤتمر من أصل (336) مندوبٍ (220)
مندوب يهودي و (116) من أصل غير يهودي. وأعقب هذا المؤتمر إصدار
صحيفتين: صحيفة (بروليتاريا) ، وتمثل البلشفيك ويحررها لينين وبروفنسكي
وزينوفييف وكامينييف وكلهم من اليهود ماعدا بروفنسكي. وصحيفة (غولوس
سوسيال ديموكرات) أي الصوت الاشتراكي الديموقراطي، ويحررها مارتوف وبليخانوف وإكسلرود ومارتينوف - بيكل - وكلهم يهود ماعدا بليخانوف. ثم أصدر تورتسكي اليهودي أيضاً في نفس العام 1908 صحيفة (فيينا برافدا) .
وهكذا كانت مصادر الفكر الشيوعي جميعاً تسيطر عليها عناصر يهودية، كما
كانت المنظمات الماركسية كلها من صنع أيديها وتنظيمها وبقيادتها.
وقد لقيت الحركة البلشفية دعماً مالياً مكشوفاً من البيوتات اليهودية الكبيرة:
فقد صرح جاكوب شيف المليونير اليهودي بأن الثورة الروسية نجحت بفضل دعمه
المالي، وقال إنه عمل على تحضير ذلك مع تروتسكي. وفي ستوكهولم كان
اليهودي (ماكس واربورك) ينفق بسخاء على هدم النظام القيصري بسبب عدائه
لليهود. ثم انضم إلى هؤلاء يهود آخرون من أصحاب الملايين: والف شبورك،
وجيفو لوفسكي الذي تزوج تروتسكي ابنته.
وبعد موت هرتزل تولى زعامة الحركة الصهيونية حاييم وايزمن الذي التقى
مع لينين في 8 مايو 1916 بحضور الكاتب الصهيوني جاك ليفي في بيت
الصناعي اليهودي دانيال شورين في زيورخ بسويسرا لبحث المخطط الثوري
الاشتراكي لتقويض القيصرية التي كانت تقف في وجه إقامة الكيان الصهيوني في
فلسطين.
ومما قاله لينين لوايزمن: (على نجاح الثورة في روسيا يتوقف تحرير اليهود ...
من كابوس ملوك أوربا وحكامها ورفعهم إلى أعلى المراتب في الدولة، وفرض
احترامهم وشخصيتهم، وسوف تحقق الثورة (في روسيا) للشعب اليهودي المشتت
ما عجزت عن تحقيقه لهم الثورة الفرنسية عام 1787) . واقتنع وايزمن بالفكرة
وقال للينين: (إن فتح أبواب الشرق واستقرار اليهود في فلسطين يتوقف في الدرجة الأولى على تدمير الامبراطورية العثمانية، وبتدميرها تزول الحواجز والعقبات التي تعترض المسيرة إلى أرض الميعاد ... عمرها أصبح محدوداً، وانهيارها وشيكاً. لابد من إنشاء دولة يهودية في فلسطين بعد أن تحقق الثورة الروسية أهدافها) .
وفي أعقاب نجاح الثورة واستيلاء الشيوعيين على السلطة قام لينين:
أولاً: بإصدار قرار بتحريم العداء لليهود، أي أنه اعتبر العداء لليهود جريمة
معاقباً عليها. وكان قراره تعبيراً عن عرفان الثورة بالجميل ليهود روسيا في دورهم
الأساسي بتقويض النظام القيصري. ونجد هنا أن لينين ألغى الموقف الرسمي
والمجتمعي من اليهود دون أن يلغي في المقابل موقف اليهودية من الدولة والمجتمع، وهو موقف يقوم على التغلغل في المرافق والمراكز الحساسة واستغلال النفوذ.
ثانياً: أصدر إعلاناً يعد فيه بتأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وكان
ذلك في نفس المرحلة الزمنية التي أصدر فيها بلفور-وزير خارجية بريطانيا- وعده
المشهور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ولم يكن هذا التوافق فلتة أو
مصادفة وإنما حدث وفق مخطط مدروس. وبذلك حققت اليهودية انتصارين في
اتجاهين مختلفين وبقوتين متناقضتين. فقد كانت هذه المسألة - إقامة كيان صهيوني
في فلسطين- نقطة الالتقاء الوحيدة عام 1917م بين الشيوعية والرأسمالية. وعلاوة
على ذلك فإن لينين - قائد الثورة - بنى فكره وإيديولوجيته انطلاقاً من الفكر الماركسي، وماركس كما هو معروف كان يهودياً، ويجهل كثير ممن وقعوا في شباك الماركسية أن ماركس الذي اشتهر بالدفاع عن الحرية وحرية المستضعفين بصورة خاصة كان يؤيد الامبراطورية البريطانية -وهي إمبراطورية إمبريالية توسعية- بل وقد جعل مصالح الديموقراطية الثورية ومصالح إنجلترا مترابطة وفي كفة واحدة، وعبر عن ذلك في إحدى المقالات التي كتبها في صحيفة (نيويورك تربيون) الأمريكية التي كان مراسلاً لها في أوربا قال:
(ففي هذه المسألة -أي المسألة الشرقية- نرى أن مصالح الديموقراطية
الثورية مترابطة مع مصالح إنجلترا بشكل وثيق. فلا الديموقراطية ولا إنجلترا
تستطيع أن تدع القيصر يجعل من القسطنطينية إحدى عواصمه، وإذا سارت
الأمور نحو الأسوأ فإننا سنرى الواحدة أو الأخرى تتصدى له بنفس الزخم والمقاومة) [نيويورك تربيون Tribune New York 7 إبريل 1853م] .
كيف ذلك ونحن نعلم أن بريطانيا ذات اتجاه ليبرالي إمبريالي يتناقض قلباً
وقالباً مع ما يسمى الديموقراطية الثورية أو الاشتراكية الثورية التي يزعم ماركس
أنه يتبناها! إن في ذلك تناقضاً واضحاً يكشف النقاب عنه أن ماركس رغم تظاهره
بالإلحاد لإضلال وغواية البشر كان يهودياً في الصميم؛ إذ كانت بريطانيا وقتئذ
موئل اليهود وسندهم أكبر إلى جانب هولندا، وذلك قبل أن ينتقل مركز الثقل
اليهودي بصورة نهائية إلى الولايات المتحدة. بل كان ماركس صهيونياً، وله كتاب
اسمه: (المسألة اليهودية) ؛ فقد اتصل عام 1862م بفيلسوف الصهيونية الأول ...
وواضع أساسها النظري (موشي هيس) صاحب كتاب (الدولة اليهودية) ، وعن
هذا أيضاً تلقى (تيودور هرتزل) الذي لم يزد على أفكار (موشي هيس) سوى أن ...
بسَّطها وأقام لها تنظيمها السياسي فيما يعرف بالحركة الصهيونية.
وقد بلغ من إعجاب ماركس وتأثره بـ (موشي هيس) أن قال عنه في كتابه (المسألة اليهودية) : (لقد اتخذت هذا العبقري لي مثالاً وقدوة، لما يتحلى به من دقة في التفكير واتفاق آرائه مع عقيدتي وما أومن به) ، وكذلك فإنه مما يلفت النظر إلى أن ماركس قد عبر بالشيوعية عن يهوديته ما كتبه فيما بعد (الحاخام لويز بورنس) ، وهو أحد أقطاب الصهيونية الحديثة قال: (إن كارل مار كس حفيد الحاخام مردخاي ماركس كان في روحه واجتهاده وعمله ونشاطه وكل ... ما قام به وأعدَّ له أشد إخلاصاً لإسرائيل من الكثير ممن يتشدقون اليوم ... بدورهم في مولد الدولة اليهودية) .
ومما يثبت أيضاً أن لليهود دوراً هاماً في ترويج الفكر الشيوعي ما ورد في البروتوكولات الصهيونية؛ فقد جاء في البروتوكول الثاني:
(لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء. ولاحظوا أن نجاح داروين ...
وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في
الشعب الأممي (غير اليهودي) سيكون واضحاً لنا على التأكيد) . ...
هذا بالإضافة إلى شواهد أخرى لا يتسع المجال لذكرها كلها؛ فقد ... نشرت مجلة (فريكان هيبرو) في عددها الصادر يوم 10/ 3 / 1920م وهي من ... كبرى المجلات اليهودية:
(إن الثورة الشيوعية في روسيا كانت من تصميم اليهود.. وإن ما تحقق ... في روسيا كان بفضل العقلية اليهودية التي خلقت الشيوعية في العالم) . وبتاريخ ...
الخامس عشر من شباط عام 1968 ألقى ألكسي كوسيغين خطاباً في مدينة
(مدينسك) السوفيتية جاء فيه: (نحن لسنا أنصار حرب جديدة في الشرق الأوسط، ...
بل على العكس نريد سلاماً مستقراً في المنطقة، وهناك بعض الدول العربية ... تؤيد هذا الموقف. إننا نرفض تصفية إسرائيل، بل نؤيد استمرار إسرائيل كدولة) .
ومما يلاحظ أن الاتحاد السوفييتي منذ بداية الثورة البلشفية لم يتحرج في اتخاذ موقف التأييد المطلق والتنسيق المتكامل بينه وبين الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل وبعد قيامها. ومن مطالعة النصوص والوثائق التي تغص بها سجلات الأمم المتحدة - ويستطيع كل إنسان الحصول عليها بأي لغة شاء- يتضح عدد من الحقائق والمواقف التي تدين الاتحاد السوفياتي في تأييد قيام إسرائيل وفي التمهيد لها، ثم في توفير ظروف استمرارها وبقائها وقوتها.
الشيوعية في بلدان أوربا وأثر اليهود فيها:
لو دققنا في قيادات الحركات الشيوعية الأخرى خارج روسيا لوجدناها غاصة
باليهود على مستوى القيادة والتنظيم أو على مستوى الفكر والمحتوى.
ففي ألمانيا بعد نجاح الثورة الشيوعية الأولى عام 1917م، قامت ثورة
شيوعية مماثلة قادتها روزا لوكسمبورغ، وهي يهودية بولونية شاركت وأسهمت في
النشاط الشيوعي مع التنظيمات الماركسية الأولى خارج الاتحاد السوفياتي لكن هذه
الثورة قمعت ثم أعدمت روزا لوكسمبورغ. وقد أوفدت الأممية الشيوعية (كارل ...
رادك) لقيادة الحزب الشيوعي الألماني في أعقاب فشل روزا لوكسمبورغ، ثم
تبعته (روت فيشر) وكلاهما يهودي.
وفي نفس هذه الفترة تقريباً قام يهودي شيوعي آخر وهو (بيلاكون) بثورة
في هنغاريا وكان هذا عام 1919م. وقد أعقب هذه الثورة مجازر ذهب ضحيتها
عشرات الآلاف من المواطنين. وكان الحصاد مجاعة عامة انتهت بإسقاط (بيلاكون) ؛ الذي فر وعاد إلى روسيا ليتسلم فيها إدارة منظمة الإرهاب في الجنوب ...
منها.
وفي بلدان أوروبا الشرقية الأخرى لم يكن اليهود أقل نفوذاً وارتباطاً بالحركة
الشيوعية.
ففي رومانيا كانت سكرتيرة الحزب (أنَّا باوكر) التي ولدت في بوخارست
لأبوين يهوديين ثم هاجر والداها وكان جزاراً - مع أحد اخوتها إلى إسرائيل
واستوطنها. عاشت فترة من الزمن في أمريكا، ثم استطاعت أن تبلغ ذروة السلطة
في الحزب الشيوعي الذي تسلَّم الحكم في أعقاب الحرب العالمية الثانية من الجيش
الأحمر.
وفي بولونيا ظل يحكمها إلى فترة غير بعيدة أربعة يهود هم: مينك وسكريينر
فسكي، ومودز يلفسكي، وبرمان، وهذا الأخير كان يعيش في روسيا، ثم اختارته
موسكو ليكون حاكم بولونيا الخفّي بعد الحرب.
وفي تشيكوسلوفاكيا استطاع اليهودي سلانسكي أن يفرض ديكتاتورية حمراء
أخرى، ثم شملته حملة التطهير، لكن الذين حاكموه كانوا أيضاً من اليهود: سيفان
رايتز وغيره، وظلت تشيكوسلوفاكيا تحت حكم اليهود الشيوعيين، وقد تمكن
هؤلاء من تنظيم مساعدة إسرائيل عام 1948 م عسكرياً وبشرياً وأمدوها بالكثير من
أسباب القوة، ثم صاروا يمدونها بعد ذلك بكل أخبار صفقات التسلح الشيوعي إلى
البلدان العربية، ومواقع جيوشها وكفاءتها وتنظيماتها، وكل ما اتصل بأسرارها
العسكرية، وإلى جهود هؤلاء وإلى عوامل أخرى يرجع الفضل فيما حققت إسرائيل
من نصر خاطف عام 1167 م.
وفي هذا الصدد نذكر قول الشاعر:
ونشحد من يهود الشرق عدلاً ... كمن تخذ الغراب له دليلا
وحين نبحث عن أصول وزراء التعليم والتربية في جميع بلدان أوربا لشرقية
في الستينات نجدهم يهوداً وبغير استثناء. ويرجع حرص اليهود على هذه الوزارة
بالذات إلى حرصهم؛ على توجيه النشء وصياغة أفكاره وفق المخطط الذي أعدّوه.
قائمة لبعض القيادات اليهودية العليا في الحركة الشيوعية والتي كان لها دور
في الثورة البلشفية.
لينين: اسمه الأصلي: زيدر بلوم. قائد الثورة البلشفية عام 1917 الأمين
العام للحزب حتى وفاته.
كروبسكايا: زوجة لينين، شغلت أمانة سّر لجنة تحرير (الأيسكرا) ، أول
صحيفة شيوعية.
تروتسكي: اسمه الأصلي (برونشتاين) ، عاش فترة من حياته في نيويورك، رئيس سوفيات بطرسبورغ عام 1905 م، أسهم في ثورة 1917م.
روزا لوكسمبورغ: يهودية بولونية، أسهمت في جميع النشاط الشيوعي ... الذي سبق ثورة روسيا، وكانت مع أعضاء حزبها شريكة في التخطيط للحركة الشيوعية في أوربا.
بارفوس: رئيس سوفيات بطرسبورغ بعد تروتسكي، أسهم في ثورة 1905
و1917م
مارتون: عضو تحرير صحيفة _ أيسكرا (الصحيفة الشيوعية الأولى. قاد
الانشقاق ضد لينين وسمى أنصاره المنشفيك، اسمه الأصلي: رباوم.
زينوفييف: كان يعرف مع لينين وكامينيف بالثلاثي، وهو صديق لينين
الشخصي وأحد أبرز العناصر الشيوعية، ترأس الأممية الشيوعية من عام 1919م
حتى 1926م.
إكسلورد: عضو تحرير صحيفة (أيسكرا) ومن القادة الأوائل للحركة
الشيوعية مع بليخانوف في جنيف.
ليبر غولدمان: من رواد الحركة الشيوعية الأوائل، أسهم في مؤتمر لندن
عام 1907 م.
لتفينوف: واسمه الأصلي مايروالاش. وزير خارجية روسيا بين 1930-
1939، أسهم في سرقة بنك تغليس قبل الثورة للحصول على المال وتمويل
الحركة الشيوعية.
سفردلوف: أحد قادة الثورة البلشفية ومن العناصر البارزة في اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي السوفياتى، ورئيس لجنة الدستور وثانى رئيس للجمهوريات
السوفياتية بعد الثورة.
كامينيف: أول رئيس للجمهوريات السوفياتية بعد الثورة البلشفية.
يوريتزكي: رئيس مفوضية الجمعية التأسيسية التي قامت في أعقاب الثورة.
رادك: قاد الحزب الشيوعي الألماني موفداً من الأممية الشيوعية بعد إعدام
روزا لوكسمبورغ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بعد وفاة لينين.
وارون أيزفوفتش كرمر: عضو اللجنة المركزية للمؤتمر الأول للحزب الذي
وحد المنظمات الماركسية في روسيا القيصرية.
روز شتاين: المشرف على جميع الشؤون الشرقية وما يتصل بالعلاقات
الروسية - الإسلامية في الدولة الشيوعية بعد الثورة. وقد أشرف على تأسيس أول
حزب شيوعي في فلسطين عام1919م، وكان حزباً يهودي القيادة. وإلى العناصر
اليهودية في هذا الحزب أوكل أمر إنشاء الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية.
ولمن يريد التوسع في موضوع العلاقات الشيوعية الصهيونية فليرجع لكتاب (التاريخ السري للعلاقات الشيوعية الصهيونية) لنهاد الغادري، من منشورات دار
الكتاب العربي؛ وهو كتاب يكشف عن الصلات بين الحركتين الشيوعية
والصهيونية وعلاقتهما الواحدة وفكرهما الواحد وعناصر تكوينها المشتركة. ويقدم
مجموعة من الوثائق تدين الحركة الشيوعية بالعمل بالتوافق مع الحركة الصهيونية
ولمصلحة اليهودية، كما يقدّم مجموعة من الوثائق لتاريخ الأحزاب الشيوعية
العربية ودور اليهود في إنشاءها وتمويلها.
أثر اليهود في نشر الفكر الشيوعي في البلاد العربية الإسلامية:
إن اليهود بدأوا منذ القرن التاسع عشر - على الخصوص - في التطلع
والتخطيط لإقامة كيان صهيوني في فلسطين. وقد كانوا يعلمون جيداً أن ليس
بإمكانهم أن يطأوا أرض فلسطين بأقدامهم وأن يقر لهم فيها قرار إلا في حالة ضعف
المسلمين وتخلفهم، كما كانوا يدركون أن الإسلام هو السر الحقيقي لقوة المسلمين
ونهوضهم. ولذلك أقدموا بما لديهم من هيمنة على وسائل الإعلام المختلفة على نشر
الفكر الشيوعي وتمويل وتأسيس الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية، ونشر
الإلحاد وغير ذلك من المفاهيم العلمانية المادية التي تدعو المسلمين إلى فصل الدين
على الدولة، وعن الحياة والتحلل من الأخلاق والقيم الإنسانية. وكان ذلك تحت
ستار الشعارات الخادعة المضللة، فتغلغلت تلك الأفكار في عقول كثير من الشباب
الذين فقدوا التوجيه الصحيح والفهم العميق المستنير للإسلام لأسباب داخلية أهمها
غياب الإسلام عن الساحة كنظام حضاري ومنهج حياة شامل، ولأسباب خارجية
أهمها الغزو الشيوعي الصهيوني والصليبي للعالم الإسلامي، واستيراد أساليب
وأنظمة ظاهرها التقدمية والتحرر، وباطنها الاستلاب والاحتواء والجمود. فقد
جرب المنتسبون إلى الإسلام مختلف الأنظمة الوضعية من ليبرالية واشتراكية فلم
تزدهم إلا بلة وجموداً وتأخراً وتبعية للغير. علماً بأن الظروف التي مرت بها أوربا
وجعلتها تكره الدين - بمفهومه الكنسي المحرّف الضيق الانتهازي - هي ظروف
ليست موجودة في الإسلام، ولله الحمد.
وقد استغل الشيوعيون اليهود وعلى رأسهم ماركس معركة الدين والعلم،
والدين والدولة في أوربا للتمويه والمغالطة وتعميم الأحكام بالقول أن الدين أفيون
الشعوب -أي الدين عامة - وأنه يتعارض مع النظر العقلي، وهي شبهة لها مجالها
الحقيقي في واقع الكنيسة والفكر الغربي، بينما لا نجد لها أي أثر في الإسلام
والفكر الإسلامي.
إن الكنيسة في غرب أوربا حرّفت الدين المنزل من عند الله، ونشرت
الأوهام والخرافات بين الناس، وابتزت الأموال بغير حق، ووقفت في وجه
الحركة العلمية وحجّرت الفكر. ولاشك أن هذه المواقف الكنسية السلبية باسم الدين
أعطت له مفهوماً مظلماً قاتماً ظل يعيش في أعماق الفكر الأوربي في العصر
الحديث. هذا علاوة على أن التحريف الذي وضعه الفكر الغربي للدين لا يمكن أن
ينطبق على الإسلام؛ فرجل الدين في الغرب يوصف بأنه لا يصلح لفهم أمور
الحياة والتدخل في شؤون الدولة بسبب انقطاعه عن صحبة الناس في الأديرة
والكنائس، إذ أن الكنيسة في الأصل تركت القوانين والأوضاع التي كانت تسود
الإمبراطورية الرومانية تتحكم في شؤون الناس.
أما الإسلام بمفهومه الصحيح المستمد من الكتاب والسنة - لا بمفهوم المنافقين
الذين يرفعون شعار الإسلام، لكن في آن واحد يجزئونه ويشوهونه تبعاً لأهوائهم
ومصالحهم الخاصة - فقد أقام العدل والمساواة بين الناس؛ لا فرق في ذلك بين
حاكم ومحكوم في الحقوق والواجبات، وأمر بالشورى وحرية التعبير في إطار
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشجع العلم، وحرر الإنسان من رق التقليد
الأعمى وربّاه على حرية الفكر والاستقلال في الإرادة مع التقيد بالدليل؛ فهي حرية
فكرية تقوم على قواعد النظر والاستدلال بعيداً عن الأهواء والأوهام. ولم يقف أمام
الحضارة والعلم والمدنية معارضاً أو مناهضاً كما فعلت الكنيسة في العصور
الوسطى، بل كان باعثاً للانطلاقة العلمية التي أدت إلى ابتكار المسلمين للمنهج
العلمي التجريبي. وهذا المنهج التجريبي هو الذي تسلمته أوربا من المسلمين عن
طريق الأندلس وصقلية والشام وأقامت عليه مدنيتها الحديثة وعلاوة على هذا فإن
الإسلام لا يقتصر على الشعائر التعبدية -كما هو الأمر عند الكنيسة- بل هو منهج
كامل للحياة الإنسانية؛ إذ إن معنى الإسلام: الاستسلام والانقياد والخضوع لله
والتزام حكمه في كل شؤون الحياة، أي بمعنى إسلام النفس كلها لله حيث تكون
أفكار الإنسان ومشاعره وسلوكه العملي كلها محكومة بالدستور الذي أقره الله.
فالسلطة التشريعية حق لله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يشاركه فيها أحد، ومدار
الإسلام على ذلك كله، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 55] ،
وقال تعالى: [ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] [المائدة: 44] .
وقال جل وعلا: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ] [يوسف: 40] إلى غير ذلك من التقريرات
الكثيرة الواردة في القرآن الكريم.
ويبدو شمول التشريع الإسلامي أيضاً في بعدٍ آخر وهو النفاذ إلى أعماق
المشكلات الإنسانية المختلفة، ما يؤثر فيها وما يتأثر بها، والنظر إليها ومعالجتها
معالجة محيطة مستوعبة مبنية على معرفة النفس الإنسانية وحقيقة دوافعها وتطلعاتها
وضرورياتها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها وربط التشريع
بالقيم الإنسانية على الصعيد الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، فجاء هذا التشريع لخدمة الإنسانية ولمصلحة الجميع، [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ
اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك: 14] .
ومما يلاحظ أن الحملات التي تُوجَّه ضد الدين الحق -وهو الإسلام- إنما
توجه من قبل دعاة المذاهب المادية وعلى رأسهم اليهود ضمن مخطط رهيب يتبلور
من خلال الغزو الفكري الذي حاول بمختلف الأساليب القضاء على أثر الإسلام في
عقر داره، وإيهام المخدوعين من أبناء هذه الأمة أن لا سبيل للتقدم إلا بإبعاد
الإسلام عن مجالات الحياة المختلفة؛ هذا كسلاح لتركيز السيطرة اليهودية والتمكين
لها في البلاد الإسلامية، إذ يدرك اليهود جيداً أن الإسلام يقف سداً منيعاً في وجه
أي احتواء أو تبعية أو تنازلات لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بأرض إسلامية
كفلسطين وتهجير وتشريد شعب مسلم بأكمله.
وهذه قائمة لبعض اليهود ممن كان له أثر كبير في تمويل وتأسيس الأحزاب
الشيوعية العربية:
ليون سلطان: يهودي مغربي، مؤسس الحزب الشيوعي بالمغرب عام
1943 م.
أبراهام السرفاتي: شمعون ليفي: يهوديان مغربيان أسهما أيضاً في إنشاء
الحزب الشيوعي بالمغرب تحت رئاسة (ليون سلطان) السابق الذكر، وهما ...
عضوان في حزب التقدم والاشتراكية.
يعقوب كوجمان: يهودي عراقي، من مؤسسي الحزب الشيوعي في العراق.
أميل، أوسكا، مولر: ثلاثة شيوعيين يهود حملوا الأموال والتوجيهات
الأجنبية للحزب الشيوعي السوري اللبناني. وقد وردت أسماؤهم في اعترافات
وفيق رضا القائد الشيوعي القديم، وجميعهم من موفدي الكومنترون.
ساسون دلال: يهودي عراقي، من مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي، تولى
مناصب قيادية فيه.
برنمو: يهودي شيوعي من فلسطين. كان مستشاراً لقيادة الحزب الشيوعي
السوري اللبناني.
هلل شفارتس: مؤسس منظمة (الأيسكرا) في مصر.
مرسيل إسرائيل: مؤسس منظمة الشعب الماركسي في مصر.
جاك تيبر شامي: رئيس الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وهو ... يهودي روسي الأصل من فلسطين.
كورييل: يهودي مصري إيطالي الأصل، مليونير، أسس الحركة
الديموقراطية للتحرر الوطني في مصر، وهي حركة شيوعية انضم إليها فترة من
الزمن بعض عناصر القيادة الحاكمة في مصر.
أبو زيام: شارك جاك تيبر -السابق الذكر- في توجيه الأحزاب الشيوعية في
سوريا ولبنان وفلسطين، ويعتبر من أبرز خبراء الكومنترون في شؤون الشرق
العربي. وقد تزعم الحزب الشيوعي في فلسطين بين عامي 1924-1929م.
أفيجور: يهودي روسي، انتدبه الكومنترون لتأسيس الحلقات الماركسية
الأولى في مصر.
إن خطط اليهود المتآمرين على الأمة الإسلامية لا تقف عند حد، وتكاد تكون
هي ذاتها منذ هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة: تغذية الأحقاد
وإذكاء النفاق وإشعال نار الفتن لتدمير المجتمع الإسلامي بنشر الإلحاد والفساد
والانحلال بين أفراده باسم الليبرالية تارة وباسم الشيوعية تارة أخرى.
ألم يأن للمسلمين أن يتصدوا للمتآمرين على وجودهم وكيانهم وعقيدتهم ويقفوا
صفاً متراصاً لإحباط خطط اليهود.
ولعل فيما قاله أحد مشاهير الفلاسفة - إدمون يوركه - ما يشير إلى الطريق
الذي يجب على قوى الخير المتمثلة في المسلمين سلوكه لإنقاذ أنفسهم بل وإنقاذ
البشرية من المخططات الإجرامية لقوى الشر المتمثلة في اليهود وغيرهم: (إن كل
ما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر هو أن يظل أنصار الحق مكتوفي الأيدي دون
القيام بعمل ما) .(8/15)
خواطر في الدعوة
التخصص.. أو التشتت
محمد العبدة
بالغ الغربيون في التخصص، وأعجبهم ذلك لما لمسوه من الفوائد في أول
الأمر، فتجد العامل أو الموظف أو المدرس لا يعلم إلا في حيز ما أسند إليه، فإذا
خرج عن هذه الدائرة فهو لا يفقه شيئاً، وهذه ناحية إيجابية في الأصل، لأنها تنتج
المهارة، وتعطي النتائج السريعة.
ولكن شدة التخصص أدت في النهاية إلى ضيق الأفق وضعف المدارك في
بقية شؤون الحياة. والمبالغة تؤدي إلى نقيضها أحياناً، فشدة البياض تصبح مهاقاً
ويقابل هذا التخصص عند الغربيين ما عند المسلمين من ميل نحو الموسوعية
الفضفاضة في العلم، وحشر أنفسهم في شتى المجالات في العمل، فالفرد هنا
مطالب بأن يعلم كل شيء، أو له خبرة في كل شيء أو هكذا يدعي ولا يزال
يعجبهم القول القديم: فلان (بحر علم) أو (دائرة معارف) ونسوا أو لم ينتبهوا إلى
أن هذا العصر لا يحتمل مثل هذا، وإذا كان في العصور السابقة من هو فعلاً (بحر
علم) فإن هذا لا يصح اليوم، بل لن يتهيأ له وإن أراده، لتشعب الأمور وتعقدها،
مما لا يتيح صفاء للذهن وراحة للجسم.
وإذا كان هذا في العلم، فكذلك في الدعوة ومن يتصدى لها، فلن يتهيأ له أن
يتقن كل شي. وإذا حاول فإنما يأتي به على وهن وضعف، أو يأتي به فجاً لم
ينضج بعد.
فإذا كان الداعية المسلم هو المواطن أو التاجر، وهو الكاتب والخطيب
والمتحدث، وهو الذي عليه أن يحل مشاكل الناس ... فهل يستطيع الإحاطة بكل
هذا، وهل ينتج في دعوته، وإذا كان بعض الرجال يتحملون هذا كله، ويقومون
به، فإن غيرهم لا يستطيع، وإذا كان البعض قد أوتي قدرة وتحملاً وصبراً، فأين
تدريب من هو دونه على تحمل المسؤولية وتنمية مواهبه في فن من فنون العمل؟
وقد رأينا من أساتذتنا من يقوم بهذا، ولكن كثرة الأعمال تثقل عليه في النهاية، وتجعله لا يستطيع أن يقوم بجزء منها، ونكون قد خسرناه مرتين. مرة: لأننا لم
نستفد من اختصاصه.
والثانية: أننا لم نستفد من فترة اكتمال تجربته ونضوج عقله.
ونحن هنا لا نريد أن نقلل من أهمية المعلومات العامة، وتوسيع المدارك،
ولا من قدرات بعض الناس، وإنما نريد أن نكون واقعيين نعرف روح
العصر وما يتطلبه، ونعلم كيف تتطور الأحداث، وكيف نستفيد من التيسيرات المادية الحديثة التي توفر الجهد، وتساعد على التغلب على ما فقد من صفاء الذهن، كما نريد أن يتعمق أهل الاختصاص في اختصاصهم دون أن يفقدوا ميزة سعة الأفق، كي نستثمر جهودهم ولا نشغلهم بأمور شتى، فتضيع الجهود أو لا ينتجون إلا قليلاً.(8/26)
نظرات في الدراسات الاجتماعية
مصادرها ومناهجها
طارق عبد الحليم
تحتل الدراسات الاجتماعية مكاناً بارزاً بين العلوم التي تشتد إليها حاجة الأمم، مع تزايد درجة وعيها بسنن الله سبحانه في خلقه الماديّ والبشريّ جميعاً، ومع
اضطراد رقيها العقلي والخلقي، وبعدها عن عفوية الفهم، وتلقائية التصرف.
وإن كنا نقصد بتلك الدراسات ما يتناول الحالة الإنسانية في انفرادها
واجتماعها بالبحث والتحليل، وإظهار ما يعتريها من ظواهر نفسية، وسنن
اجتماعية، فإن القرآن الكريم قد أحلَّ تلك المباحث محلاً عالياً، وأولاها رعاية
بالغة، وعالج في محكم آياته العديد من تلك الظواهر، كما أفصح عن دوام تلك
السنن؛ دل سبحانه على اضطراد سننه العامة المادية والاجتماعية في قوله تعالى:
[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 62] ،
وعالج حركة النفس الإنسانية حين تواجه خطراً محدقاً يكاد يذهلها عن قوام وجودها
- الإيمان - حتى لتظن بالله الظنون، قال تعالى: [إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ ومِنْ
أَسْفَلَ مِنكُمْ وإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]
[الأحزاب: 10] ثم يصف سبحانه حالة النفس المنافقة المخادعة، وقد واجهت
الخوف والفزع: [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] [الأحزاب: 19] . ويفصح سبحانه عن اختلاط
أصحاب النية الصافية الكاملة التوجه لله سبحانه بمن لا يزال للدنيا نصيب من نفسه، وإن لم يصادم ذلك الإيمان في معرض بيان أثر ذلك على الدعوة الإسلامية
وتقدمها، منبئاً عن ذلك القدر الرفيع من الإيمان الذي يتمحض فيه الخير، وتتفرد
فيه النية لله، [حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا
تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ولَقَدْ عَفَا
عَنكُمْ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] [آل عمران] [1] .
ثم كثير كثير من الآيات المحكمات التي يعالج فيها الحق سبحانه تلك الحالات
التي تطرأ على النفس أفراداً وجماعات، ليكون المؤمن على بصيرة من نفسه،
وعلى وعي بمسالكها ودروبها.
يقول سيد قطب في الظلال: وكان القرآن الكريم يتنزل في إبان الابتلاء،
أو بعد انقضائه، يصور الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه،
فتنكشف المواقف، والمشاعر، والنوايا والضمائر، ثم يخاطب القلوب وهي
مكشوفة في النور، عارية من كل رداء أو ستار ويلمس فيها مواضع التأثر
والاستجابة [2] .
ثم السنة الشريفة التي فيها بيان الكتاب وتفصيله، هي بيان لما بين العبد
وربه، وبين العبد وأخيه، وبين العبد ونفسه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في سنته القولية والعملية، وفى سيرته الطاهرة قد مارس أعلى درجات التربية
النفسية، والتوجيه الجماعي لتلك العصبة المؤمنة الأولى ممارسة فعلية وبياناً قولياً
بما يصلح أن يكون منهجاً متكاملاً وأساساً ركيناً لما هو موضوع تلك الدراسات
الاجتماعية الإنسانية.
وقد تناول عديد من علماء المسلمين وأئمتهم، في مجالي المباحث الأخلاقية
والتربوية، ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق قويم، وما يجب أن يتحاشاه من
سلوك ذميم، من خلال التعرض لتلك الصفات الحميدة التي دل عليها الكتاب
وفصلتها السنة كالصبر والحلم وكظم الغيظ في مجال المباحث الخُلُقية، كالإمام
النووي وابن القيم وغيرهما.
كذلك تناثرت في خلال بعض الدراسات التاريخية إشارات للسنن الاجتماعية
التي جعلها الله سبحانه قوانين ثابتة تحكم التجمعات البشرية في كل زمان ومكان،
كما يتضح في كتابات ابن تيمية وابن القيم على وجه الخصوص كما ظهرت في
العصر الحديث بعض الدراسات التي تناولت الجوانب الخلقية والأصول التربوية
الإسلامية وبعض الظواهر الاجتماعية بالبحث والتحليل، نذكر منها - على سبيل
المثال لا الحصر- تلك الدراسات القيمة للأستاذ محمد قطب عن (منهج التربية
الإسلامي) والتي تناول فيها، فيما تناول، بعض الظواهر المتعارضة في الحياة الاجتماعية، والتي تتعرض لها النفس الإنسانية بعامة، في صورة من الصور، كالفردية والجماعية، أو السلبية والإيجابية [3] .
وقد أسهم الدكتور محمد أمين المصري، بدراساته العميقة حول التربية
الإسلامية وأغراضها، وحول دور الفرد والمجتمع في الإسلام، وسلوك الفرد
وأهميته، في مجموعة محاضراته (المجتمع الإسلامي وكتاب المسؤولية)
وغيرهما، مما هو جدير بأن يكون محل احتفاء ورعاية من المسلمين، لما فيه ... من توجيهات فذة، وتحليلات رائدة.
كذلك ما تناوله الأستاذ مالك بن نبي من ظواهر شائعة في المجتمعات
الإسلامية المعاصرة، بعد أن تقهقرت في سلم الرقيّ الحضاريّ كالسطحية، وذهان السهولة، وما أشار إليه الأستاذ جودت سعيد في كتابه القيم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ؛ إلى غير ذلك مما يهم المسلمين اليوم أن يرصدوه في واقعهم وأن يتعاملوا ... معه تعاملاً واقعياً مبنياً على معرفة وإحاطة بما يعتمل في النفس الإنسانية من دوافع الخير ونوازع الشر.
ومما لاشك فيه أن الساحة الإسلامية قد ماجت بأحداث جسيمة خلال العقود
القليلة الماضية، وتجاوبت تلك الساحة للأحداث بردود أفعال شتى، ظهرت من
خلال أوضاع لا تغيب عن عقل الباحث المتتبع لمسرح الحياة الإسلامية في تلك
الفترة المعاصرة. وكان من نتائج تلك الأحداث وردود أفعالها في واقع المسلمين
وحياتهم أن ظهرت معطيات جديدة في الخريطة الاجتماعية للحياة الإسلامية لم تكن
من قبل، كما تعرضت النفس المسلمة - الفردية والجماعية - لمؤثرات لم تتعرض
لها من قبل، ذلك كله قد جعل الحاجة ماسة -أكثر من أي وقت مضى- إلى مزيد
الاهتمام بتلك الدراسات الاجتماعية والإنسانية، والتي تتناول بالتحليل والملاحظة
النفس الإنسانية المسلمة في واقعها الفرديّ والجماعي، ومن خلال حالات واقعية
محددة بعيدة عن التجريد، لتصل إلى الأسباب الكامنة وراء تلك الظواهر العديدة
التي تجتاح المسلمين وحياتهم، وتجتالهم عن طريق الحق والتقدم للهدف.
ولنزيد الأمر إيضاحاً فيما يخص تلك الدراسات، نستعين بضرب المثل -
أسوة بالقرآن الكريم - ولنتصور جماعة من العاملين بأحد المصانع، وقد لاحظ
القائمون عليهم ضعفاً وتكاسلاً، انعكس على قلة الإنتاج ورداءته، ولمعالجة ذلك
القصور كان أن عرض اقتراحان:
أولهما:
أن يبين للعاملين في هذا المجال -من خلال محاضرات وندوات طويلة
ومكثفة - ما يجب أن يكون عليه العمل، وما هي صفات العامل المجد، وما هي
عواقب التكاسل والتراخي، وما هي مزايا الجد والاجتهاد وفضل الإيثار وعدم
الأنانية.. على أن يتم هذا التوجيه سواء بالكلمة المسموعة أو النشرة المكتوبة.
ثانيهما:
أن نتناول بالملاحظة والتحليل تصرفات العاملين في المواقف المختلفة -
أفراداً وجماعات - وطبيعة العلاقات بينهم، وأن تشمل تلك الدراسة طبائع مثل تلك
التجمعات مقارنة بمثيلاتها ممن يشترك معها في صفاتها وخصائصها ونزعاتها، ثم
علاقتها بقياداتها التي تدفعها للتكاسل والإحجام، أو البذل والعطاء، وما هي وسائل
حفز أولئك الأفراد ليكونوا أغزر إنتاجاً، وأكثر نشاطاً، وأقل اختلافاً، وتعارضاً
في المصالح كما يشمل البحث الحياة الشخصية للأفراد، فرداً فرداً ليرى ما يؤثر
فيها من مشكلات وصعوبات تنعكس على أدائها بشكل أو بآخر، وما يوجهها في
حركتها من دوافع داخلية مستترة قد تتوافق مع الهدف العام والسياسة النهائية
للمصنع أو تتعارض معه، كذلك تلك العلاقات التي تنشأ بين الناس من حداثة وود
وأخوة، أو عداء وبغض وتحاسد، والتي يرجع وجود كل منها إلى طبيعة النفس
الإنسانية في أساس فطرتها حين تتعارض المصالح أو تتدافع الأهواء، بحكم ما هو
واقع لا بحكم ما يجب أن يكون.
حين تتم هذه الخطة، وينتهي هذا البحث، فإنه يمكن أن نزيل ما أمكن من
عوائق داخلية تعرقل الاندفاع لتحقيق الهدف والوصول إلى الغاية وزيادة الإنتاج
وكفاءته.
إذا انتقلنا بذلك المثال من مجال العمل والصناعة إلى مجال النشاط الإنساني
عامة، في اجتماعه لأداء عدد من الأهداف المحددة كمجموعة إنسانية، أو لتكوين
وحدة بشرية تاريخية كمجتمع متكامل، لاتضح لنا أهمية ما أشرنا إليه من دراسات.
فالحل الأول: يمثل الاتجاه المثالي في حل المشكلات، وهو الطريق الأسهل.
والحل الثاني: يمثل الاتجاه الواقعي التجريبي، الذي اعتمده القرآن في مواجهة الأحداث أثناء تنزله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ ... ليصلح من خلال الحركة الواقعية الحية، كما يصلح من خلال البيان النظري.
الحل الأول: يمثل حلماً جميلاً يتمناه الناس جميعاً، ينبني على فرضية أن
الناس تتبع أحسن ما يقال لهم، وأنه بمجرد ظهور الحق ومعرفته، سينصاع له
الكل متحدين متآلفين! وأن النفس الإنسانية حينذاك تكون في قمة الأداء، لا تشوبها
شائبة من طمع أو تحاسد أو مصلحة.. ولكن رصيد ذلك في الواقع قليل..
والحل الثاني: يأخذ في الاعتبار ما أوضحه الله سبحانه في محكم آياته من أن
(الإنسان) قد جبل على صفات مشتركة مركوزة في أساس فطرته، قال تعالى: [إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وإذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً] ...
[المعارج: 70] ، وقال تعالى: [خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ] [الأنبياء: 36] ، وقال
تعالى: [وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً] [النساء: 28] ، والإنسان هو الإنسان.. المسلم
يعلو بإنسانيته، لا فوقها - كما زعمت النصارى حين فرضت على قساوستها ترك
الزواج لأجل الله! في زعمهم - ويدافع شهواته وطبائعه فينتصر حيناً، وله الثواب
والفضل لله تعالى، وينهزم حيناً، فثم شرعت الحدود والعقوبات للتطهير والتكفير.. ثم عفو الله العميم.. ذلك والمشرك مخلد إلى الأرض قانع بالدون سادر في عينه. فاعتبار تلك الطبائع والفطر -إذن- بالنظر إلى تلك القوانين الكلية التي تحكم
حركة المجتمعات الإنسانية عامة، وأسباب صعودها واندفاعها، ثم عوامل ضعفها
وانهيارها إنما هو بمثابة الطريق المرسوم الذي يخطو عليه المسلمون عارفين
بدروبه وشعبه، آمنين مزالقه ومخاطره، وهو الهادي لهم في تجمعاتهم العامة
والخاصة، الكبيرة والصغيرة، إذ هي سنن كلية الهية لا تتخلف في زمان دون
زمان، ولا تجامل فئة دون فئة.
ولا يظن ظان أن تلك الدراسات مبتوتة الصلة عن العلوم الشرعية، وأن لا
مكان لها فيما يتعلق بالعلم الشرعي! وإنما هي -كما في علوم التاريخ والعربية
والأصول - علوم خادمة للعلوم الشرعية الأساسية كالتفسير والفقه والحديث، والتي
هي كلها في آخر الأمر إنما تفي بإقامة حياة الناس في الأرض على حسب ما أراد
لهم ربهم سبحانه، فهي تعين على فهم الواقع، وتساعد على استنباط ما يصلح حياة
المسلمين من الأحكام الشرعية، التي تحكم واقع المجتمعات عامة، وخلجات
النفوس خاصة، كما تحكم تصرفات الأفراد وقوانين الدول.
وقد تعرضت تلك النوعية من الدراسات في هذا المجال، والتي ظهرت بشكل
مستقل متخصص في أوربا منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي للكثير من النقد
والإعراض.
وكان ذلك النقد والإعراض مبنياً على مبدئين رئيسين:
أولهما: أن ما يعرف حالياً بالدراسات الاجتماعية والإنسانية، هو وليد الفكر
الغربي، وحضارة الغرب - بكل ما تحمله من أوزار فكرية - تجعل نتاجها
محظوراً، وإن صلح بعضه، درءاً للشبهة، وبعداً عن مواطن الزلل. كما أن
كثيراً من رواد تلك الدراسات في الغرب من الشخصيات المشبوهة التي ينبعث
فكرها من خبث فلا تنتج للناس إلى خبثاً.
ثانيهما: أنه - على العكس من ذلك وفي مقابله -يقدم الإسلام لأبنائه، كمنهج
شامل للحياة الإنسانية من لدن حكيم خبير، تصوراً واضحاً، وأساساً سليماً يصور
الحركة الاجتماعية في سكونها وتطورها، وفي صعودها وهبوطها، ويصف الحياة
الإنسانية في أدق خلجاتها النفسية من المصادر البشرية، انحراف عن الصواب،
ونكوص عن الحق، لا يليق بالطليعة المسلمة التي تنشد أن تكون مناراً وضيئاً
يفىء إليه المسلمون من كل حدب وصوب.
وكلا الأمرين حق لا ريب فيه، فالدراسات الاجتماعية والإنسانية والغربية -
في العديد من جوانبها - تختلف عن الإسلام في المصادر والوسائل، ومن ثم في
الأهداف والنتائج.
كذلك فإن الزاد الهائل الذي رصده القرآن -كما أشرنا إليه - ليضع به تصوراً
واضحاً لأسس الاجتماع الإنساني على أساس أن (الإنسان) هو خلق الله تعالى،
وتحليل النفس الإنسانية كما هي عليه من ناحية، وكما ينبغي أن تكون من ناحية
أخرى، لجدير بأن يغترف منه الباحثون ما يقيمون به علماً يوجه حركة المجتمع،
وخلجات النفس إلى الأمثل والأكمل.
إلا أن ذلك كله لا يمنع من أن يتعرض المسلمون لنتاج الفكر الغربي في هذا
المجال دارسين وناقدين، مصححين أو مزيفين، بشرط دقة التحري في البحث،
وأن يكون الباحث كالصيرفي الماهر الذي ينقد صحيح الذهب من زائفه، وأن يكون
على علم شرعي يتمكن به من تمييز ما يخالف عقيدة أهل السنة ومنهج نظرهم، أو
يصادم معلوماً من الدين بالضرورة ويهدم أصلاً من أصول الشريعة، مما هو
مشترك بين بني آدم بحكم اتفاق الفطرة، واتحاد الأصل، ووحدة السنن، وبما
يتمشى مع توجيهات الله سبحانه للمسلمين بما يحفظ له علو المكانة وشرف المنزلة
التي يسود بها سائر المخلوقات.
وإننا لنجد ذلك المنهج جلياً في تلك الدراسة العميقة التي كتبها الدكتور (محمد
عبد الله دراز) عن (دستور الأخلاق في القرآن) والتي بحث فيها النظرية ...
الأخلاقية في مباحث الغرب، بنظر المسلم المتمكن من فهم دينه، فأقر بالصحيح،
وكشف عن وجه الضعف والخلل، أو النقص والقصور، ثم وضع أساساً للدستور
الأخلاقي الإسلامي كما أوصت به نصوص الكتاب الكريم بناء على تلك الدراسة
المقارنة.
فعلى سبيل المثال، نجد الباحث في حدود حديثه عن مصادر الإلزام الأخلاقي
قد تعرض لكاتبين من كبار مفكري الغرب، أولهما: هنرى برجسون في كتابه (مصدرا الأخلاق والدين) حيث قال عنه دراز: (استطاع الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، في تحليله العميق لقضية الإلزام الأخلاقي أن يكشف له عن مصدرين:
أحدهما قوة الضغط الاجتماعي، والآخر قوة الجذب ذي الرحابة الإنسانية المستمدة
من العون الإلهي) [4] .
إلا أنه عقب على ذلك -بعد التحليل - بأن عرض برجسون لا يفي بالمقصود، بل ويخالف المنحى القرآني في بعض جوانبه؛ قال: (أما إذا تناولناه - على أنه
نظرية في الإلزام الأخلاقي -فإن تحليله يحمل بعض الصعوبات، وشيئاً من
الانحراف عن الجادة، بالنسبة إلى وجهة النظر القرآنية) [5] .
كذلك فقد تعرض لما كتبه المفكر الفرنسي (عمانويل كانت) عن الإلزام
الأخلاقي في كتابه (أسس ميتافيزيقا الأخلاق) فقال: (ولقد أحسن (كانت) صنعاً
برغم النقص في طريقة تقديمه لنظريته حين أكد أنه كشف عن مصدر ... الإلزام الأخلاقي في تلك الملكة العليا في النفس الإنسانية) .
ثم أوضح أن ذلك يتفق تماماً - حسب ما يرى- مع النظرة المستخلصة من
القرآن في تكوين الإحساس بالخير والشر لدى الإنسان في قوله تعالى: [ونَفْسٍ
ومَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا] وتزويدها بالبصيرة الأخلاقية في قوله
تعالى: [بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] [6] .
ذلك المنهج الذي يتعرض لنتاج الفكر الغربي فيحلل وينقد، ويصحح ويزيف
هو ما أردنا إليه، إذ تتسع من خلاله آفاق المعرفة، وتتفتح المجالات المتعددة التي
يجب أن يعني بها المسلمون أكثر من عناية الغربيين فالحكمة ضالة المؤمن، أينما
وجدها فهو أحق بها ممن سواه.
إلا أنه يتعين علينا، قبل أن نمضي في بحثنا قدماً، ألا ندع مجالاً للبس أو
الغموض لدى القارئ في تحديد نوعين من المصادر التي أشرنا إليها آنفاً:
أولهما:
تلك المصادر التي يرجع إليها في تحديد القواعد العامة والقوانين الكلية التي
تندرج تحتها تلك الأشكال من العلاقات الاجتماعية والإنسانية، والتي تستقي منها
الإجابات والحلول لشتى المشكلات والأوضاع الواقعية، ونعني بها: كتاب الله
وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته ثم ما انبنى عليهما من منهاج استقر
عليه الصحابة والتابعون، وتمثل في حياة وسير أعلام الأئمة على مر العصور.
وثانيهما:
تلك المصادر التي يمكن أن تسهم في إثراء مجال التجربة الإنسانية، في
الواقع الحي، بحيث يشمل نطاق البحث الإسلامي كافة ما يمكن أن يشمله من
أوضاع وعلاقات، سواء نشأت في الواقع الإسلامي، أو في الواقع الغربي بحكم ما
هو مشترك بينهما في الصفات الإنسانية العامة.
فالمصادر الأولى:
هي مصادر الحلول والهداية، إلى جانب التجربة الواقعية.
والمصادر الثانية:
هي مصادر تغني مجال التجربة، وإن تقيدت في نتائجها النهائية ... وتحليلاتها بمعطيات المنهج الإسلامي لتوائم الواقع الإسلامي الذي تُطبق عليه.
ولا بأس - إذا وصلنا إلى ذلك القدر من البحث - أن نعرض لمثالين من
إسهامات باحثي الغرب في المجال الذي أشرنا إلى أهميته في بحثنا، مما نجده
صالحاً للاستعانة به في فهم مجال تلك الدراسات المطلوبة وتحديد منهاجها ومجالها.
أول تلك الدراسات لأحد العلماء الألمان وهو (ماكس فيبر) 1864 - 1920 ...
حيث ذكر خلال تحليله القيم للبناءات الاقتصادية الكبرى، وما يرتبط بها ... من عوامل اجتماعية، تؤخذ في الحسبان لتؤتي تلك البناءات ثمارها، إلى ... أن المجموعات البشرية - بشكل عام - حين تعمل لهدف من الأهداف بشكل ... جماعي، فإنها تمر بأطوار محددة لا تكاد تختلف- حسب ما ذهب إليه ... ... الكاتب - في حالة المجموعات الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
أولها: سلطة الزعيم أو البطل الموهوب: الذي يقوم العمل على أكتافه
وبمواهبه الذاتية وقدراته الشخصية، التي عادة ما تكون قدرات فائقة، وفي هذه ...
المرحلة يكتفي الاتباع بترسم خطى الزعيم واتخاذ أقواله منهجاً وأفعاله معلماً،
وغالباً ما تنعدم روح النقد وتندر روح الابتكار في تلك المرحلة للثقة في الزعيم
المؤسس، ويكون الولاء مقدماً على الكفاءة، من حيث أن الحاجة إليه في إحكام
الترابط أشد من الحاجة إليها، وقد استغنى عنها بمواهب الزعيم.
الثانية: وهي التي تنشاً حين اختفاء الزعيم المؤسس لسبب من الأسباب، وفيها تتجه المؤسسة إلى أحد شكلين من أشكال التعامل والتعارف.
أولهما: التقليد أو التقليدية:
وفيها تجري الأمور على ما قرر ذلك الزعيم دون تغيير أو تبديل، كما يقل
التجديد ولا يتوقع أن ينشأ زعيم من طراز المؤسس، بل حتى إن نشأ فإنه عادة لا
يلاقي قبولاً كافياً لمنحه سلطة العمل المطلق ولا يندفع العمل للأمام إلا بقدر طاقة
القصور الذاتي، المخزونة فيه من المرحلة الأولى.
ثانيهما: التنظيمية العقلية:
وفيها تنحو المؤسسة منحى التنظيم المبني على التخطيط والعقل وإعطاء كل
مشارك دوراً فعالاً، دون ادعاء لوراثة الزعيم المؤسس من أحد أتباعه، أو
لضرورة تقليد خطواته كما رسمها، وتكون الحركة على أساس تقييم صحة العمل
ونتائجه لا على أساس نسبته لما قرره المؤسس.
وعلى أساس الخط الذي تختاره المؤسسة - في المرحلة الثانية - من هذين
الاتجاهين يكون مدى نجاحها أو إخفاقها في الوصول لهدفها المحدد [7] .
وما سبق هو عرض محض - بما يناسب الواقع الإسلامي - لما ذكره العالم
الألماني، يلحظ فيه قوة الملاحظة، واستقراء الواقع، مع محاولة استنباط السنن
العامة التي تربط الحوادث الاجتماعية برباط واحد، وتخضعها لقانون عام، حتى
يمكن تعرية آثارها والاستفادة منها فيما شابه تلك الحالات بأن ظاهرة العمل
الجماعي، كما وصفت في تلك الدراسة، هي ظاهرة اجتماعية عامة، تنشاً - عادة
- حول نواة ديناميكية متحركة تجتذب حولها - حسب قوة جاذبيتها الخاصة-العديد
من الوحدات العاملة، لتدور في فلكها، وتتغذى بحرارتها، وتهتدي بمسارها، ثم
لا تلبث تلك النواة أن تختفي لسبب أو لآخر، فماذا يكون مصير تلك الوحدات
العاملة؟ وهل ينفرط عقدها ويتناثر جمعها؟ ! الاستقراء الذي تدفعه تلك الدراسة قد
دل على طريقين: أحدهما يخضع لذلك التقليد الممقوت الذي يجعل التابع أقرب
للآلة منه للإنسان، فلا يصح عنده إلا ما كان ولا مكان لجديد تحت الشمس! وما
كان البطل الموهوب ليخطئ، بل وما كانت الظروف التي لابست وجوده وعمله
لتتغير بما يستدعي إعادة النظر في منهاج عمله، وإن ظل الهدف ثابتاً.. إلى آخر
تلك الظواهر التي هي إلى خواص النفس المريضة أقرب من النفس المخلصة.
والطريق الآخر يرجع -في حقيقة أمره - إلى دقة المؤسس الأول في رسم
الخطوات التالية التي تضمن مسيرة المؤسسة للأكمل، كما يتأثر بمدى عمق الفهم
وسعة الأفق واستيعاب المنهج لدى الصف الثاني من العاملين، حين تغير الظروف
وتبدل الأحوال، فتنشأ حينئذ التخصصات، وتنمى المواهب، ويترك المجال
مفتوحاً لكل اجتهاد يدفع عجلة التقدم، وتتسع الصدور للنقد البناء، وتتساقط دعاوى
العصمة.
إلا أنه من الضروري الإشارة إلى قصور تلك الدراسة عن أن تشمل ذلك
النمط الخاص الذي تفرد به أنبياء الله -صلوات الله عليهم-، فإن إطلاق ذلك
التصور على كافة ما يطرأ على الاجتماع الإنساني في كل المجالات كما صور
الباحث تجوُز لم لا يصح، إنما منشؤه عدم إدراكه لمعنى النبوة ودورها، فإن
الأنبياء عليهم السلام، الذين هم أقطاب البشرية التي دارت حولها تجمعات ... إنسانية هائلة، واهتدى بهديهم البشر في كل زمان ومكان، لا يخضعون لذلك التحليل، إذ إنهم سادة المربين الذين أحسنوا توجيه الاتباع إلى خيري الدنيا والآخرة.
وثاني تلك الدراسة يختص بدراسة تصرفات الأفراد حين يعملون بشكل
جماعي لتحقيق هدف من الأهداف، خلاف الأولى التي عنيت بشكل وتطور
المجموعة البشرية كمؤسسة جماعية لا بأفرادها داخل تلك المؤسسة، وقد أوضح
صاحبها وهو العالم الأمريكي (توم يرنز) أن نشاط الأفراد يتجه داخل المؤسسات
الجماعية-أيا كانت طبيعتها وهدفها - إلى ثلاثة أشكال:
الأول - النشاط التعاوني:
ويعني أن الأفراد تنزع فيما بينها-وقد اجتمعت على هدف من الأهداف - إلى
أن تتعاون لتحقيق ذلك الهدف، إذ هي تدرك بالفطرة أن قواها الذاتية منفردة لا
تقوى على تحقيق الهدف إن لم تنضاف بعضها إلى بعض.
الثاني - الاتجاه التنافسي:
وهو يعنى أن الأفراد حين يعملون بشكل جماعي، وبرغم ضرورة التعاون
التي يدركونها فيما بينهم، فانهم ينزعون -كأفراد أو كمجموعات -إلى التنافس على
تحصيل أكبر قدر من الإمكانيات المتاحة داخل تلك المؤسسة لصالح فرد من أفرادها
أو مجموعة من مجموعاتها على السواء.
الثالث - التعامل السياسي:
ولا يعني مصطلح السياسة في هذا المجال ما يتبادر إلى الذهن مما هو
معروف من معاني السياسة الدولية الخارجية أو الداخلية، إنما يعني - بإيجاز -
استخدام تلك الأساليب غير المباشرة التي يلجأ إليها الفرد - أو الجماعة - في
ظروف خاصة، لتحقيق هدف معين، مثال ذلك من يحاول إبراز قيمة عمله
الشخصي، وأهميته بالنسبة للصالح العام للمؤسسة، وكم يلاقي من متاعب في
سبيل إنجازه، حتى يصل إلى هدف خاص -قد يكون مشروعاً في غالب الأحيان -
كتثبيت وجوده داخل تلك المؤسسة، أو اكتساب قدر أكبر من الأهمية يمهد به لكسب
معنوي أو مادي [8] .
ومع التأكيد على أمرين:
أولهما: خطر التعميمات والإطلاقات التي تطلقها تلك الدراسات على نتائجها
واستقراءاتها.
والثاني: أن تلك الدراسة إنما كانت مادتها التي استمدت منها مشاهداتها، هي
الجماعات الأوربية - أو الغربية على الأصح - التي تتميز بثقافة خاصة لها جذور
نفسية معينة، كما أن لها وسائلها الخاصة في النظر للأهداف والوسائل على حد
سواء.
إلا أنه لا يمكن القول بأن تلك الدراسة وإن كانت تتناول مجالاً معيناً من
مجالات الاجتماع الإنساني في سبيل تحقيق أهداف مشتركة، إلا أنها في حقيقتها
وصف لذلك التدافع الذاتي الذي أقام عليه الله سبحانه أمر الدنيا والناس، وهي
صورة العلاقات البشرية المعقدة التي تحتاج إلى تشريح وتفصيل في كل دقائقها،
ليتمكن الناس من نهج ما يصدر عنهم وعن غيرهم -أفرادا وقيادات - في مختلف
المواقف والحالات.
ولاشك أن تحليل تلك القوى العاملة -على السطح وتحته - في المجتمعات
الإنسانية يعطي تصوراً للمسلمين، يمكنهم من تقوية مجتمعاتهم وتحديد القوى
السالبة التي تدفعهم للوراء، وتقليل آثارها ما أمكن.
فالتركيز على فهم سنة (الاتحاد) وضرورته كبديل وحيد للوصول إلى الغاية
المنشودة إنما يتأتى بإبراز ذلك النوع الأول من النشاط التعاوني وتقوية الشعور به
وتنميته. كذلك فإن الحد من آثار ذلك الاتجاه التنافسي، أو تحويل قوته الدافعة إلى
قوة مفيدة للعمل بدلاً من أن يكون سبيلاً للتحدي بين الأفراد، والمنافسة الذميمة
بينهم، أو مجالاً لاختيارات القوى التي يظهر فيها ضعف النفوس، وصغر
الاهتمامات، لهو هدف من الأهداف التي تستحق أن يبذل فيها الباحثون جهدهم
للوصول إلى كافة تفصيلاته التي يمكن أن يبرز فيها في مختلف المجالات.
كما أن إدراك السبل والوسائل التي يتخذها الناس للوصول إلى أغراضهم -
وإن كانت مشروعة - لهو ضرورة حتمية يحتاجها الدعاة إلى الله ليكونوا على
بصيرة في تعاملاتهم، إذ إنه مما لاشك فيه أن الوصول للغرض بشكل مباشر
مستقيم قد يكون أقصر طريق وأوضحه، إلا أنه يمنع منه موانع كالحذر من سوء
فهم الآخرين، أو الحرص على عدم تجاوز حد معين في العلاقات، أو غير ذلك..
ومحاولة تقليل آثار تلك الممارسة السياسية في العلاقات - إلا فيما تصلح ... له - أنفع للمجتمع الإسلامي، والنفس المسلمة وإن كانت في حالة إيمانها أرفع مما يدركه ذلك العالم الإنكليزي، إلا أنها لا تسلم من أن تتعرض لتلك النوازع البشرية العامة خيرها وشرها.
من هنا تنشأ أهمية توجيه الهمة إلى تحليل تلك العلاقات والنوازع التي تنشأ
من ضرورة التعاون أولاً، ومن طبيعة النفس ثانياً، ثم من سنن الاجتماع ونتائجه
أخيراً.
ونحن لا نقصد في هذا المقال إلى استقصاء مثل تلك الدراسات، أو بسط ما
فيها بالشرح والنقد، وإنما قصدنا إلى أن نؤكد على ضرورة أن نولي هذه النوعية
من البحث مزيداً من الاهتمام، وأن تبني على هدى القرآن والسنة، ومراجعة ما
أفرزته العقول البشرية في هذا المضمار، كما ضربنا أمثلة من ذلك التناول ومنهجه، لما يمكن أن يكون مجالاً للبحث والتحليل في التركيبة الإسلامية الاجتماعية
المعاصرة.
ولعل الله سبحانه أن يلهمنا الصواب في القول والعمل جميعاً.
__________
(1) انظر ابن كثير 1 / 422، و: في ظلال القرآن 1/494.
(2) في ظلال القرآن 5 /2831.
(3) محمد قطب، منهج التربية الإسلامية 1 / 162 وبعدها.
(4) دستور الأخلاق في القرآن لدراز / 23.
(5) المصدر السابق / 24.
(6) المصدر السابق / 25 - 27.
(7) Weber, Max The theory of social and economic7- Organization P 341 ... . 392, and pugh, D ,S Writers on Organizations P15
(8) كذلك يمكن الرجوع إلى مصادر أخرى لهذا الموضوع مثل:
Pugh, D s Writers on organizations Power and Politics , pfeffer Psychology of Group lnfluance,p pulou.(8/28)
لابد من التحقيق.. ولكن..
منصور الأحمد
-1-
من المتفق عليه بين الباحثين أن علم الحديث بمنهجيته وأصوله وتطبيقاته؛
من مزايا الأمة الإسلامية، ومما تفردت به دون الأمم كلها، وأنه علم من مبدئه إلى
منتهاه إسلامي الانبثاق والنشأة والكمال.
وهو باختصار شديد علم يهدف إلى توثيق النصوص المنقولة، والتمييز بين
ما يصلح أن يكون أصلاً ومستنداً للحكم الشرعي وما لا يصلح لذلك.
وليس المقام مقام استرسال في بيان حدود هذا العلم، والخوض في مسائله
الواسعة؛ وإنما هناك حاجة إلى التنبيه إلى بعض القضايا نراها جديرة بالاهتمام
وتستحق من القارئ الكريم التفاتة ونظرة فيها شيء من التأمل.
-2-
لقد مر علم الحديث بفترات مختلفة، فنجد أن العصر الذهبي لهذا العلم قد
شغل القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، حيث نشط العلماء في الرحلة والتدوين،
وحفظت السنة النبوية في دواوينها المعتمدة، وعكف العلماء وطلبة العلم عليها
مقابلة وتمحيصاً وفهماً.
والفترة الثانية كانت فترة توسع وانبساط واشتغال بكثرة الطرق، وحرص
على النادر من طرق الرواية، وإن كان كل ذلك لم يؤد إلا إلى أقل القليل من
الإضافة إلى ما هو معروف من النصوص المعروفة والمشهورة والتي عليها مدار
الاستنباط.
وخلال هذه الفترة لاحظنا شيئاً من الخلل حصل نتيجة التباعد بمن علمي
الحديث والفقه ففي الفترة الأولى كان غالب الفقهاء محدثين، وغالب المحدثين فقهاء، وهذا هو الشيء الطبيعي لإنتاج ثقافة أصيلة نافعة، ولكن في الفترة الثانية حصل
شيء من التباعد بين هذين الاختصاصين اللذين لا غنى لأحدهما عن الآخر،
فأصبحنا نرى مؤلفين في الفقه لا علم لهم بالحديث، ومؤلفين في الحديث لا علم لهم
بالفقه إلا في القليل النادر.
ولكن من حسن حظ علم الحديث أن هيئ له في آخر هذه الفترة عالم فذّ، كان
محدثاً وفقيها هو العلامة الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، والذي ألف كتابه (فتح الباري) فكان خدمة عظيمة للفقه القائم على الحديث، ولدراسة الحديث القائمة ...
على الفقه الواسع والبصر به رواية ودراية.
وهناك فئة ثالثه نشأت في هذه الفترة، واستمر تأثيرها السلبي في الثقافة
الإسلامية إلى عصر نهضة المسلمين في هذا القرن، وهذه الفئة حشدت في مؤلفاتها
روايات باطلة وضعيفة، وسودت صفحاتها بما هب ودب من الأخبار والآثار، دون
تمحيص وتدقيق، وسرت هذه الأخبار والروايات كمسلمات عند كثير من المسلمين
فيما بعد فكان لها أثرها السيء الذي أوقعهم في دوامة من التبريرات والردود،
وشغلهم في الدفاع عن أباطيلهم في أغلب الأحيان.
والناظر في كثير من كتب التفسير والفقه والوعظ سيجد أمثلة كثيرة من
الإسرائيليات والأحاديث المنكرة، وكثيراً مما لا يصلح أن يحتج به على الإسلام،
أو يعاب بسببه. ويحمل وزر ذلك المؤلفون البعيدون عن التحقيق، والذين أطلق
عليهم لقب العلم، بينما أصدق لقب يمكن أن يطلق عليهم هو لقب: (حاطب الليل) . ...
وفي هذا العصر شعر كثير من المسلمين بواجب التحقيق العلمي للتراث
العربي والإسلامي، ونتج عن ذلك جهود مشكورة تصلح أن تكون مثالاً يحتذى.
-3-
وإذا كان هناك شيء من النقد؛ فإن كثيراً من الأمور المستحسنة والمطلوبة قد
يتعاطاها من لا يحسنها، أن من ينحرف بها عن هدفها المنشود، ويسير بها إلى
وجهة أخرى قد لا تكون لها علاقة بالعلم وحدوده، أو التحقيق ومجالاته.
وهناك أمثلة على ظواهر شائعة لابد من التنبيه عليها:
فهذا مؤلف يؤلف رسالة أو كتاباً في موضوع ما، ويريد أن يظهر بمظهر
العالم النحرير، فيوهمك - بكثرة هوامشه وإحالاته - أنه قد اطلع على كل ما ذكر
في هذه الهوامش، وبنظرة بسيطة جداً تكتشف أن هذه المراجع التي أشار إليها
ليست إلا ما نقله من مؤلف آخر في هذه المسألة! .
(وهذا آخر يبحث في قضية يريد أن يستشهد عليها بحديثه، فتخدعه نفسه،
فيلبس لباس كبار المحدثين، فيعمد إلى فهارس كتب الحديث فيجمع كل ما ورد من
طرق وروايات، وكل ما قيل حول ذلك من دقائق علم الحديث؛ مما قد لا يكون ... له كبير مساس بالموضوع الذي يبحث فيه، ويكفيه في هذا الصدد أن يكون
الحديث صحيحاً في ذاته، ولو ورد في مرجع واحد، ولكنه التكلف الذي يخرج البحث عن المقصود، ويضيع وقت الباحث والقراء فيما لا يعود عليهم بفائدة جديدة.
وهذا ثالث يكتب مقالة قصيرة، إذا ما قارنتها بما تحتها من حواشٍ لرأيت
العجب، ولكادت تلك الحواشي تعادل نص المقالة! .
وليس الاعتراض على أمثال تلك الحالات استهانة بالتحقيق والتوثيق، ولا
بجهود بعض المحققين الذين يبذلون جهوداً مشكورة في تمييز الصحيح من غيره،
والذين كرسوا جهودهم لذلك، وأنتجوا نتائج طيبة؛ ولكن اللوم يتجه إلى أولئك
النفر الذين لا يفهمون مدلولات الكلام ولا مصطلحات المحدثين، وليس عندهم
الحصيلة الكافية من الفقه بالنصوص، وبالفائدة المرجوة من التخريج، ومع ذلك
يستسهلون الصعب، ويتقحمون فيما لا يحسنون ويتجرءون على الخوض في أمور
أولى بهم أن يتركوها لمن يحسنها.
إننا بحاجة إلى التركيز في بحوثنا، والبعد عما لا فائدة منه من التكرار وزيادة
البسط والشرح في أمور قد بحثت، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى ...
استخلاص النافع الذي لابد منه لكل نهضة، والقادر على الثبات أمام الأفكار الوافدة
التي تكاد تعصف بالأمة في غيبة المنهجية في البحث، ولابد من البعد عن إثارة
القضايا الجانبية التي تستهلك الجهود ولا تؤدي إلى كبير نفع، والأمور التي يحتاج
إليها المسلمون من السعة والكثرة بالقدر الذي يحتم عليهم التخصص وفرز العناصر
والبعد عن (الموسوعية) وادعاء العلم بكل شيء، وليس عيباً اليوم أن تعرف جانباً
من العلم وتتقنه وتحسن التحرك من خلاله؛ وأن تجيب عن جوانب أخرى أو علوم
أخرى بـ (لا أدري) ؛ ولكن العيب كل العيب، أن تدعي معرفة كل شيء
وتخوض في كل اتجاه خوضاً سطحياً لا يؤدي إلى شيء، وبهذا تجمد الأفكار،
وتقبر الثقافة.(8/40)
مواقف في الفكر
الإسلامي الحديث
محمد بن حامد الأحمري
أصبح الإسلام موضوع الساعة في العالم، الكل يكتب ويخطب ويناقش،
وسيطرت قوة الحقيقة الإسلامية على الساحة، تحقيقاً لوعد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لهذا الدين بالظهور إلى قيام الساعة، سواء بالحجة والبيان، كما في
العهد المكي، أو بهما إضافة إلى القوة والسلطان كما في العهد المدني [1] وما تلاه، ثم في غالب التاريخ الإسلامي، ففي حال عدم ظهوره بالقوة والسلطان فإن قوة
الحجة والبرهان معلومان بالضرورة من بديهيات الإيمان.
ولا غرابة أن نجد كاتباً كافراً يبدو نصرانياً يقول: (الإسلام يفرض على
المجتمع الحديث احترام حقوق الله وحقوق الإنسان، التي نص عليها القرآن لذلك
تسعى الاشتراكية أن تكون إسلامية، وتسعى الديموقراطية أن تتلون بالدين) [2] ،
ثم صدرت مقولات كثيرة، وظهرت سلوكيات تبدو محابية للإسلام ممن عرفوا
بعدائهم له جهراً، ثم عادوا يتملقونه ويتظاهرون بعدم الاختلاف معه.
وربما جعل أحدهم نفسه فقيهاً ومفتياً في مهمات أمور الإسلام، ركوباً للتيار.
وأكتفي بسوق مثال واحد من هؤلاء ألا وهو المطران كابودجي الذي شُهر بالدفاع
عن القدس، وقال: إنه تزوج القدس كما تزوج غيره قضية فلسطين، وزعم أن
الله عهد إليه بتحرير القدس. يقول: (كلنا مسلمون، منا من أسلم على طريق القرآن ومنا من أسلم عن طريق الحكمة.. الرب أبونا) [3] وعلى ما في ... الكلمة من خداع لفظي ولكنها من أمثلة التزلف للإسلام من عدو محارب له.
إن هذا التوجه والاندفاع للحديث عن الإسلام ودراسته مع إبقاء الأهداف
المريبة، يستوجب إظهار قوة ونفوذ الفكر الإسلامي، وإحسان التعامل مع موجة
العداء الجديدة، والهيمنة عليها. ولأن مفاهيم الإسلام جاءت مهيمنة على غيرها،
فأساس هذه المفاهيم ومنبعها أنزله الله مهيمناً على ماعداه. ...
المواجهة مع أعداء الله فكرية أو عسكرية لا تعرف الهدوء ومن توقع أن
الهجمة انتهت أو ضعفت فهو غافل غائب عن ميدان الصراع. ومن المؤسف أن
المواجهة الفكرية، المطلوب من المسلمين القيام بها لا تتناسب في هذه الظروف مع
شراسة الهجمة واتساع دائرتها. ويمكن القول أن عدداً قليلاً ونادراً من الإنتاج
الفكري الإسلامي اليوم يستحق الاهتمام والدراسة، أما الغالب فجهود يغلب عليها
أسلوب التغزل بمبادئ الإسلام ومثله أو الدفاع والاعتذار، وتملق الناس ومهادنة
أحوالهم السائدة، وليس بما يمليه الإسلام من علوٍ له على ما سواه وتنفيذ لحكمه
مهما بدا في نظر البشر غريباً.
هذه الكتب أو الأعمال الفكرية أيا كان -نوعها التي تسودها السطحية
وغموض الهدف تنتشر بواسطة الشهرة والصداقة والمعرفة الشخصية في مجتمع
اعتاد بعضه على الإملائية الفكرية، التي تملي على المسلمين القراءة للكاتب المردد
لا للكاتب الرائد، تملي وتوجه إلى القراءة للفكر المهادن للجمود الفكري وليس للفكر
الواعي الموقظ.
نتيجة لهذا النوع من الفكر تخرج للساحة أعدادٌ هائلة من المسلمين تتناسب في
كل أمورها مع تلك الثقافة الواهنة الخجلى التي تغذت بها وتعاني مما تعانيه تلك
الكتب.
ورحم الله إقبال إذ يقول:
جوهر الآساد أضحى خزفاً ... حين صار القوتُ هذا العلفا
إن هذا النوع من الفكر لا يمكن أن يوجد لنا ما نهدف إليه وما يحتاجه
المسلمون من قوة معنوية فكرية تكون أساساً للقوة المادية. إن قوة [وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] كانت روحاً قوية سرت في قلوب الصف الأول فأوجدت ما تبع
من قوى. إن القرآن هو مصدر التثقيف والبناء الفكري والتربوي للرسول -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه، وعائشة -رضي الله عنه-تقول حين سئلت عن خلقه -
صلى الله عليه وسلم-: كان خلقه القرآن.
فأي جيل يمكن أن يخرجه ركام الوهن والجهل والتقليد والتلقية هذه الأيام،
لكم نسخط على التقليد الذي أوهن العقل والروح عند المسلمين. ثم نمارس نفس
العيب إنما بأسلوب آخر ما أحرانا أن نخترق هذا الركام ونستصفي منه ما يعنينا ... لا ما يثقلنا (فإن الغلبة والاستيلاء المعنوي يقوم بنيانه في الحقيقة على الاجتهاد ...
والتحقيق العلمي. فكل أمة تسبق غيرها إليه تتولى قيادة العالم وزعامة الأمم،
وتستولي أفكارها هي على العقول. أما الأمة التي تتخلف في هذا الطريق فلا تجد
مناصاً من اتباع الغير وتقليده إذ لا يبقى في أفكارها ومعتقداتها من القوة والأصالة
ما يكسبها السيطرة على الأذهان فيجرفها تيار الأفكار القوية التي تقوم بها الأمة
الباحثة المجتهدة) [4] . أما الأفكار المهزومة فهي التي تنجب أجيال الهزيمة فكراً ...
وفعلاً.
ومما زاد هذا الوهن الفكري تعقيداً وقوعه تحت ما يمكن أن نسميه مشكلة
الميراث الثقافي أو التراث. وأحيانا تحت أثر الثقافة الأجنبية الغربية، فكثيراً ما
نجد التراث يسوق الكاتب أو العالم في عراك تاريخي لا علاقة له بالواقع. أو في
الجانب الآخر نجد الكاتب يقرر أفكاراً في بعض الأوقات لا تكون إسلامية ثم يبحث
عن الشاهد من الآية والحديث لسببين: إما أن تكون مؤيدة لفكرته، لا مؤسسة لحكم
أو موقف فيكون رأيه هو الأساس والآية مؤيدة وليست مؤسسة؛ أو أن تكون مسوقة
للزينة أو ما يسمى بحسن الاستشهاد. وقد تجد الآية أو الحديث على ندرتهما غير
متناسقين مع السياق.
إن قيام المسلمين بنقد إنتاجهم الفكري وإبراز الحق فيه وتقويم الأخطاء
المتتالية لضرورة ملحة وسط هذا الزخم الذي يتراكم دون أنً يجد مقوماً. كيف لا
يدرك من يكتبون عن الإسلام أهمية نقد أعمالهم. والنقد وتذكير النفس بعيوبها قاعدة
قرآنية ثابتة: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] .
ألا يرى هؤلاء الكتاب أن الله قد خاطب بهذه الآية محمداً وأصحابه حثاً لهم
على ملاحظة عيوب النفس والصف واستكمال المحاسن ونفي النقائص ولئلا يعلق
المسلمون مصائبهم على مشاجب الاستعمار والشيوعية والقومية.. إلخ.
وفي طريق الهروب من النقد نلبس هذه الكتب والأفكار لباس الإسلام وقداسته
وكأن كل نقد لها فيه مساس بقدسية الإسلام وجنابه، وهذا الاتجاه لا يعنى مهابة نقد
هذه الأعمال فلم يشفع للأحاديث الضعيفة والموضوعة أن لجأت تحت مظلة الحديث
الشريف. بل هتك علماء السنة أستارها. والنقد البناء ضرورة لتخليص الناس من
الآراء التي جانبت الصواب. وفي هذا الطريق توضع الأسماء والكتب الصغيرة
والكبيرة تحت معيار الكتاب والسنة مع احترام من وفُقّ وعذر غيره وبيان الحق.
__________
(1) من شرح ابن تيمية للحديث في الفتاوى.
(2) التراث والحداثة، بولس خوري، ? 162.
(3) مقالات راشد الغنوشي، 124.
(4) نحن والحضارة الغربية، المودودي، ص 12.(8/43)
الطب بين عالَمين
الدكتور أحمد القاضي
الطب الإسلامي: هو كل ما استُحدث من العلوم والتقنية الطبية، واتفق مع
التعاليم الإسلامية، أو التعاليم الإسلامية وما اتفق معها من المستحدث من العلوم
الطبية والتقنية.
ومواصفات الطب الإسلامي كعلم هي التميز والتفوق.
ونعني بالتميز والتفوق أن يكون طباً متميزاً ناجحاً فيما فشل فيه الطب
الحديث، ولكي يكون كذلك يجب أن تتحقق فيه الشروط الخمسة التالية.
1-الإيمان، أي أن يكون طباً ربانياً يلتزم بالتعاليم الإلهية فيما يحل ويحرم.
2- الشمولية، وذلك بأن يهتم بالمريض ككل جسداً وعقلاً وروحاً، وأن يكون
هذا أسلوبه في مواجهة كل مشكلة يقابلها.
3- المنطقية (الرشد) ، بأن يكون منطقياً في تصوراته وممارساته.
4- العالمية، بأن يكون عالمياً في مصادره لا يتحيز لمصدر دون آخر، ما
دامت الطرق والوسائل والممارسات تتفق مع التعاليم الإسلامية، وينتظر منها ... الفائدة.
5- المنهجية العلمية، وهي أن نضع أية ممارسة أو منطلق نتبعه تحت
التمحيص العلمي الدقيق، فإذا ثبتت فائدته اتبعناه، وإلا تركناه.
حينما وضعنا هذه الشروط عام 1980 افترضنا نظرياً أنه إذا اجتمعت هذه
الصفات مع ما توفر لدينا من العلوم والإمكانيات الطبية؛ فسينتج طب جديد فريد
من نوعه، ناجح في ممارساته.
وقد أجرينا بعض الدراسات الإحصائية في جنوب أفريقيا عام 1982، وفى
أمريكا عام 1983, فثبت: أن اتباع التعاليم الإسلامية ينتج عنه نقص في نسبة
الإصابة بالأمراض والوفيات، والعكس صحيح، أي: أن مخالفة التعاليم الإسلامية
ينتج عنه زيادة في نسبة الإصابة بالأمراض، ومنها السرطان وغيره من الحميات،
ويتسبب في زيادة نسبة الوفيات، وهذا ما دفعنا إلى تأسيس (مؤسسة العلوم الطبية
الإسلامية) عام1983 لتجسيد المفاهيم النظرية والمعلومات التي تبلورت في نطاق ...
الجمعية الطبية الإسلامية خلال خمسة عشر عاماً.
وكان السؤال: إذا التزمنا ومارسنا هذه المبادئ الخمسة، فهل يمكن تقديم
طب جديد ناجح متميز؟ حيث إننا قد افتقدنا هذه الشروط الخمسة في العلوم الحديثة
عامة، وفي الطب الحديث خاصة.
وقد يفاجأ البعض بهذه النتيجة، لأن للعلوم الحديثة بريقاً يبهر الأبصار.
والبعض يظن أن العلوم الحديثة بلغت الذروة!
ومن أجل دراسة إحصائيات الطب الحديث في أمريكا خلال العشرين سنة الماضية نظرنا إلى ثلاثة معايير:
1- نسبة الإصابة بالأمراض.
2- نسبة الوفيات.
3- نسبة سعادة الجمهور (الصحة البدنية والنفسية) .
وقد وجدنا-على ضوء هذه المعايير -: أن نسبة الإصابة بالأمراض قد ... زادت. صحيح أن بعضها قد تلاشى؛ لكن ظهرت أمراض جديدة محيرة لم تكن موجودة. وأما نسبة الوفيات فقد تزايدت.
وتلاشت سعادة الجمهور، فقد تزايدت بدرجة كبيرة نسبة الانتحار والاعتداء
على الحياة.
ونستخلص من كل ذلك: أن الطب الحديث لا يحقق ما ينتظر منه من نجاح.
أي أنه فشل في عدة جبهات، وإذا دققنا النظر بحثاً عن أسباب ذلك وجدنا أن:
أ - الإيمان - كمقياس لتحديد الخبيث من الطيب - معدوم، وذلك أن ما يحدد
الطيب من الخبيث هو رأي الخبراء، فإذا نادت الأغلبية أن زواج الرجل بالرجل
أمر طبيعي فيكون مباحاً، وإذا أجمع الخبراء أنه لا بأس بالكحول في الأدوية
الطبية فإنه يستعمل في 90% من الأدوية السائدة اليوم!
ب - الشمولية وهي مفقودة في كثير من الممارسات.
فالرعاية الطبية جزئية، حيث تهتم بجزء من المشكلة، ولا تهتم بالأمر كله،
فمثلاً:
تأخذ الأم طفلها الرضيع إلى طبيب الأطفال المختص، فيفحص جسم الطفل
وطوله ووزنه، وحالته الغذائية ونموه، ويعطيه اللقاحات اللازمة، ولكن لا يتجرأ
بالسؤال عن حالته الاجتماعية وحياة الأسرة الروحية، وخطتها في تنشئة الطفل من
حيث السلوك أو الدين أو العقيدة، فيعتبر هذا تدخلاً لا شأن له به، بل يدرسون في
مدارس الطب الغربية أن الطبيب يجب أن يبتعد عن الأخلاقيات! .
فنتيجة هذه الرعاية الجزئية القاصرة للطفل هناك زيادة وبائية في الانحرافات
الخلقية في الجيل الناشئ، في إدمانهم على المخدرات، وإصابتهم بالأمراض
الجسمية والنفسية، وبعضها يؤدي إلى فقد الحياة.
وبعد ممارسة التربية الجنسية في الغرب خلال الثلاثين سنة الماضية لتحقيق
الأهداف التالية:
1- القضاء على الأمراض التناسلية وتخفيض نسبتها.
2- تخفيض نسبة الأطفال غير الشرعيين.
3- تخفيض نسبة المشاكل الأسرية، من طلاق واعتداءات وغير ذلك. ماذا
كانت النتائج؟ .
كانت النتائج عكس ما خطط له، فقد نجم عن ذلك:
1- زيادة مخيفة في الأمراض التناسلية.
2- زيادة الحصول على وسائل منع الحمل وبذلها لمن يريد.
3 - زيادة مطردة لمشاكل الأسر، من طلاق وانهيار واعتداءات وانحلال
وانتحار! لماذا؟ .
لأن برامج التوعية اقتصرت على النواحي الحيوية والعضوية، وتجاهلت
النواحي الخلقية والاجتماعية والدينية وقيودها ومنظماتها تماماً.
بينما قام القرآن الكريم بالتوعية الجنسية من النواحي المختلفة المتكاملة:
العضوية والخلقية والاجتماعية.
4- المنطقية وهي مفقودة كذلك من كثير من الممارسات:
أ- حيث تنفق ملايين الدولارات لتوعية الجمهور وتحذيره من أضرار ... الكحول؛ بينما تحتوي الصيدليات أنواعاً كثيرة من الأدوية تحتوي علي نسبة عالية من الكحول قد تؤدي إلى 90% منها، وبعضها يحتوي على نسبة من الكحول قد تصل إلى نسبة ما في النبيذ والبيرة وبعض المشروبات الأخرى، بل قد تزيد عنها! .
ب- تنفق آلاف الدولارات لإنقاذ مريض عمره 90 سنة في حالة غيبوبة،
وفى المستشفى نفسه قد يكون الطبيب نفسه يقضي على عشرات الأجنة الحية،
ويأخذ أجراً أو ثمناً مقابل ذلك باسم إباحة الإجهاض! .
ج - تنفق ملايين الدولارات كل عام في العالم على علاج بضع مئات من
النساء - على أكثر تقدير - كي تنجب أطفال الأنابيب، بينما يقتل خمسون مليون
طفل في أنحاء العالم كل عام باسم الإجهاض.
د - تستخدم مئات الملايين من النساء وسائل منع الحمل بتشجيع ودفع من
كثير من الدول وأحياناً بالإكراه (كما في الصين والهند ومصر) ، في الوقت الذي
يتحدث فيه الأطباء عن مجهوداتهم في عمليات فتح الأنابيب، أو عمليات طفل
الأنبوب! .
هـ تنفق مئات الملايين من الدولارات على العمليات الفنية البارعة في ... نقل الأعضاء، كالقلب والكبد والكلى، أو وضع أعضاء صناعية لأفراد قاربوا على النهاية، في الوقت الذي يموت فيه أكثر من عشرة ملايين طفل كل عام من الجوع والإسهال! .
وإن إنفاق هذه المبالغ لإنقاذ هؤلاء الأطفال سيجعل من الممكن -بإذن الله-
إبعاد شبح الموت عن ملايين الأطفال البائسين في العالم كل عام، والذين أمامهم أيام
وسنين طويلة ومستقبل، كما يمكن أن يكونوا أدوات إنتاج مفيدة.
4- العالمية (الانفتاح على كل ما هو مفيد) .
ينظر أغلب متخرجي المدارس الغربية بتوجس إلى كل ما هو غريب عن
مدارسهم، ولذلك يفتقد الطب الحديث كثيراً من الآراء والممارسات المفيدة في
مضمار الطب، كالطب العربي والطب الصيني (الوخز بالإبر) كذلك في توزيع
نتائج المعرفة الطبية، فهناك تفاوت كبير بين طبقات المجتمع وبين الشعوب والدول
في مدى استفادتها من الخدمات الطبية.
5- المنهجية العلمية ونعني بها: الملاحظة الدقيقة للإحصائيات الأمنية
والاستنتاج المنطقي، أي: الأسلوب القرآني.
وهذه المنهجية العلمية نفتقدها في كثير من مجالات الطب الحديث، سواء ... في البحث العلمي أو في الممارسات التطبيقية، إضافة إلى أن هناك كثيراً من
الممارسات غير الأخلاقية في مجال البحث العلمي بين الحين والآخر في الغرب.(8/47)
دحض شبهات
حول نظام الأسرة في الإسلام
د. محمد بن عبد الله السلمان
تمهيد:
منذ أن ظهر الإسلام ديناً ارتضاه الله تعالى للبشرية في كل زمان ومكان
وأعداؤه - وما أكثرهم - يتربصون به الدوائر، ويتلمسون كل طريق ليبعدوا
المسلمين عن دينهم بتشويههم مبادئ هذا الدين، معتقدين عن جهل أو حقد-وهو
الغالب- أن هذه الشُبه حقيقة واقعة، وما علموا أن ما زعموه من شُبه إنما هي من
ميزات الإسلام، ودلالة واضحة على صلاحيته شريعة ومنهج حياة. بل إن حديثهم
العدواني عن الإسلام كثيراً ما يكون سبباً في نشره واتساع محيطه ومعتنقيه كما قال
الشاعر:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عَرْف العود
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
ولكي لا يطول بنا الحديث نعالج الموضوع من عدة نقاط هي:
مشروعية الزواج في الإسلام:
إن أساس عناية الإسلام بالأسرة: حضه على الزواج وترغيبه فيه، لأنه
أساس لتكوين الأسرة المسلمة وبالتالي تكوين المجتمع المسلم، وقد وردت نصوص
كثيرة تحث على الزواج وترغّب فيه عند الاستطاعة، ومن ذلك قوله تعالى: ... [ولْيَسْتَعْفِفِ الَذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ] [النور: 33] . ...
وما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له ... وجاء) [1] .
ومعنى ذلك: أن الإسلام حريص على تكوين الأسرة المسلمة وكثرة أفرادها
بالزواج، ليعيش الطفل المسلم بين أبويه ينهل من رعايتهما وعطفهما. وقد أثبتت
الأبحاث العلمية الحديثة أن الأطفال الذين يعيشون بين أبويهم أقوى جسماً وعقلاً
وعاطفةً من أطفال الملاجئ.
ولا تقتصر حكمة الزواج في الإسلام على ذلك، بل تتعداه إلى حِكم أخرى
لاشتمال الزواج على مصالح كثيرة منها: تحصين الزوج والزوجة، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بكثرة أمته [2] ، بل قرر
بعض العلماء أن الزواج أفضل من نوافل العبادة [3] .
شبهة تعدد الزوجات:
إذا كان الإسلام قد حث على الزواج فإنه - بجانب ذلك - أباح للرجل أن
يتزوج بأكثر من واحدة إلى أربع نسوة، واشترط توفر العدل بين الزوجات. وقد
وجد أعداء الإسلام في ذلك وسيلة للنيل منه، وذلك بزعمهم أن في ذلك إهانة للمرأة. وللرد على ذلك نشير إلى عدة أمور هي:
1- الإسلام أباح التعدد ولم يأمر به أو يحث عليه، وفرقٌ بين إباحة الشيء
والأمر به، فالإسلام أباح التعدد حلاً لكثير من المشاكل الاجتماعية التي تحصل من
جرَّاء منع التعدد وتحريمه، فهو في ذلك مراعٍ للفطرة الإنسانية السليمة التي تتطلب
ذلك.
2- اشتراط الإسلام العدل بين الزوجات في الإنفاق والمعاملة. فمن يتزوج
بأكثر من واحدة ولم يعدل بين زوجاته كان آثماً في عمله كله. يقول تعالى: ... [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً]
[النساء / 3] . وفى الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أن من لم
يعدل بين زوجاته جاء يوم القيامة وشِقه مائل) .
3- عندما تكون الزوجة عقيماً، فالتعدد حلٌ لمشكلتها مع زوجها الذي قد
يرغب بإنجاب الأولاد، ولاشك أن زواج زوجها بأخرى مع بقائها معه خيرٌ لها من
أن يطلقها ويتزوج بأخرى.
4- عندما تكون الزوجة مريضة أو غير قادرة على القيام بواجباتها تجاه
زوجها إما لمرض جسمي أو غيره، فإن زواج زوجها بأخرى مع بقائها معه خير
لها من فراقها وهي على هذه الحالة.
5- عندما تكون نسبة النساء في مجتمعٍ ما أكثر من نسبة الرجال، لحروبٍ
طحنت الرجال أو لغيرها من الأسباب، فإنه لا يوجد حل لمشكلة ذلك المجتمع
وحفظه من براثن الفساد والفتن سوى التعدد. وأقرب مثال على ذلك ما حصل في
ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تبين من الإحصائيات الدقيقة أن النساء
يشكلن 70% من مجموع السكان، ومعنى ذلك أن الرجال يشكلون 30% من
السكان، وبالتالي سيبقى45% من النساء بدون زواج، فارتفعت بعض الأصوات
هناك تطالب بإباحة التعدد حلاً لهذه المشكلة الخطيرة.
ومثال آخر: ظهر قريباً في إحدى دول الخليج التي خرجت فيها بعض
الدراسات أثبتت أن نسبة النساء فيها أكثر من الرجال. وأوضحت تلك الدراسات
والإحصائيات أنه مما زاد هذه المشكلة انتشاراً ظاهرة زواج المواطن من خارج
وطنه بسبب غلاء المهور.
6- وأخيراً فإن الإسلام قد جاء والتعدد كان نظاماً اجتماعياً معروفاً عند
العرب وغيرهم من الأمم الأخرى، وكان بدون تحديد لعدد معين، فجعله الإسلام لا
يزيد على أربع زوجات واشترط العدل بينهن حفظاً لحقوق المرأة وكرامتها.
شبهة الطلاق:
وكما أباح الإسلام التعدد فقد أباح الطلاق أيضاً، وجعله حلاً لمشاكل اجتماعية
قد تحصل بين الزوجين لا يمكن حلها إلا بالطلاق. ومع ذلك اتخذ أعداء الإسلام
من إباحة الإسلام للطلاق منطلقاً للتهجم عليه. وزعموا أن في ذلك إهانة لكرامة
المرأة وسبباً في تشرد الأولاد. وللرد على ذلك نشير إلى عدة أمور:
1- أن الإسلام حينما أباح الطلاق بغَّض به، وجعله الرسول أبغض الحلال
إلى الله [4] .
2- رغب الإسلام في الصلح بين الزوجين وإيجاد الحل لمشاكلهما قبل البتِّ
في الطلاق. فقد يكون سبب النزاع عوامل خارجية عن حياة الزوجين الخاصة
يمكن إيجاد حل لها وتستقيم الأمور، يقول تعالى: [فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَماً
مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا] [والنساء: 35] ، فإن انسدت أبواب
الإصلاح، ولم يكن التوفيق بينهما فالطلاق هو الحل الأخير، وسيوفق الله الطريق
الأصلح لكل واحد منهما [وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ] [النساء: 30] .
ومع ذلك ترك الإسلام للرجل والمرأة فرصة للتفكير؛ فشرع الطلاق الرجعي
ليستطيع الرجل أن يراجع فيه امرأته بدون مهر أو عقد جديد إذا كانت لازالت في
عدتها.
3- أن الإسلام حينما أباح الطلاق إنما وافق بذلك الفطرة السليمة بجعله حلاً
لمشكلة اجتماعية قد تحصل بوجود خلاف وعدم التئام بين الزوجين ولا حل لهما إلا
بالطلاق. ولنا أن نتصور كيف تكون الحال لو أن الطلاق ممنوع أو محرم، إن
الحياة بين هذين الزوجين ستكون جحيماً لا يطاق. ولهذا نجد في أوربا أن القوانين
فيها أخذت تجيز الطلاق مع أن الكنيسة النصرانية بتعاليمها المحرفة لازالت تحظر
الطلاق حتى مع ثبوت الخيانة الزوجية. وكانت فقط تحكم بالتفريق الجسدي بين
الزوجين مما سبّب مشاكل اجتماعية خطيرة.
4- أما زعم أعداء الإسلام أن الطلاق سبب لتشرد الأولاد في البلاد الإسلامية، فإن هذا غير صحيح ولا دليل له من الواقع. ذلك أن إحصائيات الطلاق في العالم
الإسلامي أشارت إلى أن أكثره يقع في السنة الأولى من الزواج وقبل الإنجاب
بسبب فشل اختيار أحدهما للآخر. وقد ورد في تلك الإحصائيات أن 77% من
وقائع الطلاق تقع قبل إنجاب أي ولد، وأن 17 % تقع بعد إنجاب طفل واحد [5] . ثم تتدنى النسبة كلما كثر عدد الأولاد. وحينما يقع الطلاق مع وجود الأولاد كفل
الإسلام الحياة الكريمة للأولاد - في رعاية أحد الأبوين - وأوجب النفقة على الأب، بل أوجب الإسلام على الأب إعطاء الأم أجراً حتى على إرضاع ولدها. يقول
تعالى: [وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ] .. [وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى] [الطلاق: 6] .
مكانة المرأة وحقوقها:
وهكذا اتضح لنا أنه حتى في المسائل التي أثارها أعداء الإسلام زعماً منهم أن
فيها إهانة للمرأة إنما في الحقيقة هي في مصلحة المرأة وحماية حقوقها.
وحينما نبحث عن نظرة الإسلام للمرأة وتكريمه لها في جوانب أخرى نجد أن
الإسلام قد أعلى من شأنها وأعطاها من الحقوق ما لم يعطه لها الغرب الأوربي
المتمدن. فما بالك بالأمم الأخرى قبل الإسلام! ! .
فلو نظرنا إلى الأمم الأخرى قبل مجيء الإسلام لرأيناها-في مجملها-تحط
من مكانة المرأة، وتحرمها أبسط حقوقها. فاليهودية المحرفة: تعتبر حواء ومن ثَم
المرأة عموماً سبباً في شقاء الإنسانية لأنها أخرجت آدم - بزعمهم - من الجنة.
وجاءت النصرانية المحرفة: فتبعت اليهودية في احتقارها للمرأة، حتى أن
المجتمعات الأوربية النصرانية- حتى نهاية العصور الوسطى-كانت تشك في
إنسانية المرأة هل هي إنسان أم لا؟ ! .
وبلغ من ظلم بعض المجتمعات للمرأة أن أوجبت عليها إحراق نفسها إذا مات
زوجها كما في البرهمية بالهند.
أما في المجتمع العربي قبل الإسلام: فقد وجدت عادة وأد البنات عند بعض
القبائل العربية (أي: دفنهن وهن أحياء خوف العار) ، كما أن المرأة عندهم لا تَرث
بل قد تورث كأي سلعة أو مال.
وجاء الإسلام ليعطي للمرأة حقوقها الكاملة، ويكرمها، ويرفع من مكانتها.
ويتضح ذلك مما يلي:
1- أعلن المساواة الكاملة بين المرأة والرجل في الإنسانية والإيمان. يقول
تعالى: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى
بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ] ، وقوله تعالى: [الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ والْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ
والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ والصَّابِرَاتِ والْخَاشِعِينَ والْخَاشِعَاتِ والْمُتَصَدِّقِينَ
والْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ والْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحَافِظَاتِ والذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيراً والذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً] .
2- رفع الإسلام الظلم الذي كان يقع على المرأة في الجاهلية؛ فحرّم وأد
البنات، وألغى نظام وراثتها كسائر السلع، وأشركها في الميراث مع الرجل، وإذا
كان قد جعل نصيبها من الميراث نصف ميراث الرجل فإن هذا لم يكن إلا تقديراً
للواجبات والتكاليف المالية التي أوجبها الإسلام على الرجل من النفقة على الأولاد
والزوجة والوالدين ومن يعولهم شرعاً. فلو مات ميت عن ابن وبنت مثلاً: فإن
للإبن ثلثا المال وللبنت ثلث المال. لكن يترتب على الابن أن يدفع مهراً عند
زواجه ونفقة على زوجته وأولاده، بينما البنت: سيُدفع لها مهر ولا تجب عليها أي
نفقة حتى على نفسها، بل تكون النفقة على زوجها. وهكذا.
3- أعطى الإسلام للمرأة حقوقها الشخصية، مثل: حق التصرف بمالها
شراءً وبيعاً وهبةً دون أن يكون للرجل -حتى زوجها-سلطة على مالها أو أخذ شيء
منه إلا برضاها. وهذا الحق لم تمنحه حتى القوانين الوضعية في البلاد الأوربية
التي تدعي التحضر والتمدن. ففي فرنسا حتى عام 1939م: لا يسمح القانون
هناك للمرأة بالتصرف بمالها إلا بإذن زوجها، ثم عدِّل القانون بإعطاء المرأة شيئاً
من الحرية في التصرف بمالها لكن مع بعض القيود أيضاً. وفي ألمانيا الغربية: لم
يعط القانون هناك للمرأة حق اقتناء الممتلكات حتى عام 1957م [6] ، بل إن نظام
العمل والأجور في أوربا وأمريكا لازال حتى الآن ينقص أجر المرأة المالي بالنسبة
للرجل. فيصل في بريطانيا مثلاً إلى75% من أجر الرجل مع تساويهما في
الوظيفة ونوع العمل [7] .
4- الإسلام كفل للمرأة الحياة الكريمة في جميع مراحل حياتها بنتاً أو زوجةً
أو أماً. فالبنت: لها على والدها حق النفقة والرعاية التامة كأخواتها، والزوجة:
لها على زوجها حق النفقة والرعاية والمعاملة بالمعروف قولاً وعملاً، يقول
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [8] . ...
أما الأم: فقد أعطى الإسلام لها حقوقاً كبيرة من التكريم والنفقة والعطف
وخفض الجناح. يقول تعالى عن حق الوالدين: [وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا
تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] [الإسراء: 24] . بل حق الأم يفوق حق الأب بنسبة
3: 1، فقد جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا رسول
الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. ... قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) .
وهكذا نرى أن الإسلام يزيد من تكريم المرأة كلما كبرت وأصبحت بحاجة إلى
الرعاية، بينما نرى في المجتمعات غير الإسلامية اهتماماً بالمرأة مادامت في
جمالها وشبابها، ثم نسيانها بعد أن تتقدم بها السن. ولهذا تكثر في المجتمعات
الأوربية العجائز اللاتي يسكن لوحدهن، وكثيراً ما تمرض أو تموت دون علم
أولادها بها قربوا في المسافة أم بعدوا؟ .
5- ونتيجة لشدة عاطفة المرأة وتأثرها الشديد بالمواقف: جعل الإسلام
شهادتها نصف شهادة الرجل: [أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى] ... [البقرة: 282] . ويقول -صلى الله عليه وسلم- عن النساء: ( ... وما رأيت من ... ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن. قالت امرأة: يا رسول الله؛ وما ... ... نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ ... فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين) [9] .
6- وأخيراً؛ فإن الإسلام يجعل من رعاية الرجل لابنته أو أخته عبادة يؤجر
عليها. يقول - صلى الله عليه وسلم-: (من ابتلي من البنات بشيء، فأحْسن إليهن: كن له سِتراً من النار) . وقال أيضاً: (من عال جاريتين حتى تبلغا: جاء يوم القيامة أنا وهو؛ وضم أصابعه) [10] .
__________
(1) رواه الجماعة (والباءة) : المهر (وجاء) : كاسر لحدة الشهوة.
(2) رواه الترمذي.
(3) انظر مثلاً كتاب النكاح في زاد المستقنع للحجاوي.
(4) حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ، ليس صحيحاً (التحرير) .
(5) عن كتاب علم الاجتماع، تأليف د عبد الكريم عثمان وآخرون، ص 142، 145.
(6) عن كتاب علم الاجتماع، تأليف د عبد الكريم عثمان وآخرون، ص 143، 145.
(7) عن مجلة البيان، العدد الخامس، ص 54.
(8) رواه الترمذي، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.
(9) رواه مسلم 4 / 27 0 2.
(10) رواه مسلم 4 / 27 0 2.(8/51)
أدب وتاريخ
قصيدة وموقف
لخبيب بن عدي (رضي الله عنه)
المناسبة والشاعر [1] :
خبيب بن عدي: صحابي جليل من الأوس، وقارئ داعية إلى دينه، كان في
البعثة التي أرسلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى نجد، حيث قدم على رسول
الله بعد أُحد رهط من (عُضَل والقارة) وقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما؛ فابعث
معنا نفراً من أصحابك يفقِّهوننا في الدين، ويُقرؤوننا القرآن، ويُعلموننا شرائع
الإسلام.. فبعث رسول الله نفراً، منهم: خبيب وزيد بن الدثنة وعاصم بن ثابت
بن أبي الأقلح.. حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهذيل بين عسفان ومكة -
استصرخوا عليهم هذيلاً وغدروا بالصحابة، فمنهم قتيل وأسير.
أُسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، وقدم المشركون بهما مكة، (قال ابن
هشام) : فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة ... حيث إن خبيباً كان قد
قتل في بدر الحارث بن عامر من أهل مكة.. فقتلته قريش ثأراً لصاحبهم، وتشفيّاً
بعباد الله المؤمنين.
سُجن الصحابي الجليل انتظاراً لتنفيذ الجريمة البشعة فيه، حيث خرجت به
قريش إلى التنعيم (خارج حدود الحرم) ، وصلّى ركعتين خفيفتين، واجتمع الرجال
والنساء والأطفال يحضرون مصرع الصحابي الجليل وصلبه، وعندما رفع إلى
خشبته وأوثقوه، قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا،
ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
وفي هذا الموقف العصيب قال هذه القصيدة:
1- لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مَجمعِ
2- وكلُّهم مُبدي العداوةِ جاهدٌ عليّ لأني في وَثاقي بمضيع
3- وقد جمّعوا أبناءهم ونساءهم وقُربتمن جذع طويل مُمنّع
4- إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصدَ الأحزابُ لي عند مَصرعَي 5- فذا العرشِ صبّرني على ما يُراد بي فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي
6- وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصالِ شلْو ممزّع
7- وقد خيروني الكفرَ، والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع
8- وما بي حِذارُ الموت، إني لميّتٌ ولكن حذاري جحم نار مُلفع
9- فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي
10- ولست بمبدٍ للعدو تخشّعاً ولا جزِعاً، إنّي إلى الله مَرجعي
المفردات الغريبة:
5-ياس: أصلها يئس، فخففت.
6-أوصال: أعضاء مقطعة. شلو: ضعيف.
8 - جَحْم: الملتهب. الملفع: المضطرم. جحم نار ملفع: في (الاستيعاب) : حر نار تلفع.
9 - وفي رواية: (مضجعى) بدل مصرعي.
في جوّ الأبيات:
1- إن الصحابي الجليل يصور غربته وسط جوّ جاهلي حاقد، فقد تجمع
المشركون حوله، يُبدون العداوة، يشتفون بإراقة دم المسلم الطاهر النقي، ولا ذنب
له إلا أن يعلن إسلامه صادقاً، جمعوا الأبناء والنساء، وقد قربوه من جذع ليصلبوه
عليه، عرضوا عليه الكفر ففضّل الموت: (وقد خيروني الكفر والموت دونه) .
وهكذا المشركون في كل عصر، والطواغيت في كل حين، مطلبهم واحد
من المؤمنين: أن يتركوا دينهم، وإلا فهم متزمتون، متطرفون، رجعيون، أعداء
الوطن.
2- وها هو مسلم اليوم يعيش في غربته القاتلة، ولكن طوبى للغرباء،
فالصحابي يشكو غربته وكربته وما أرصد له الأحزاب عند مصرعه..
ويدور الزمن دورته وإذا بالمؤمنين يفرون بدينهم في فجاج الأرض، وهم
يحسون الغربة والكربة، يلاحقون ويضطهدون، ويضيَّق عليهم في كل أرض ...
يَقبضون على الجمر ماداموا يتمسكون بعقيدتهم، ولا يساومون عليها.
3- إن والي حمص - سعيد بن عامر الجمحي -رضي الله عنه-أيام أمير
المؤمنين عمر -رضى الله عنه- كان ممن حضر مصرع خبيب ودعوته في
الجاهلية، يقول سعيد بن عامر. (فوالله ما خطرت على قلبي دعوة خبيب وأنا في ...
مجلس قط إلا غشي عليّ) .
كم من المسلمين اليوم من يُرفع على أعواد المشانق، وكم من المؤمنين من
يُقتلون بالعشرات، والجرافات تواريهم في قبور جماعية. وقد يكون من بينهم
بعض الأحياء! وكم من ليال لجيران أقبية التعذيب لا تدع لأصحابها فرصة للنوم،
من أنين المعذبين المضطهدين؟ ! .
ومسلمو العصر الحديث لا يحركون ساكناً، وأحفاد سعيد بن عامر-رضي الله
عنه-لا يرف لهم جفن عندما يسمعون بهذه المآسي.. بَلْهَ الغيبوبة التي كانت تصيب
الصحابي الجليل الوالي الورع..
أين كلمات الحق التي تقال؟ أين الإنصاف، ولا ذنب لهؤلاء إلا أن قالوا:
ربنا الله؟ ! .
إن منطق الجاهلية الحديثة، جاهلية القرن العشرين يقول: إن هؤلاء وأمثالهم
مشاكسون متطرفون، يجب أن يخضعوا ويتركوا إثارة القلاقل، وإعلان دعوة
التوحيد؛ لأن الدين قضية شخصية لا تحتاج إلى كل هذا؟ ! . وقديماً قال المنافقون
في شهداء الرجيع مثل هذا القول. يقول ابن إسحاق عن ابن عباس -رضي الله
عنهما-[2] : لما أصيبت السرية - في الرجيع - قال رجال من المنافقين: يا ويح
هؤلاء المفترين الذين هلكوا، لا هُم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل تعالى قوله: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى
مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ] [البقرة: 204] .
4- إن الصحابي البدري القارئ، إنسان يشعر بكيد الجاهلية، وتذرف عيناه
الدمع من غير جزع، فما هو بخائف من الموت، فالموت حق، ولو لم يمت بحد
السيف مات بغيره، ولكنه يخشى ألا يكون قد قام بحق الدعوة، وحق الإسلام، إنه
يخشى مَسَّ النار الملتهبة..
إن الذي يموت على الإسلام، لا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه ما
دام في سبيل الله.
ولن يبدي للعدو جزعاً ولا تردداً، ولا تراجعاً، فنفس المؤمن عزيزة، فهو
صاحب دعوة، أدى رسالة رسول الله (اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ...
ما يصنع بنا) ، (اللهم اقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً) .
5- إن خبيباً مثال التضحية والفداء في السراء والضراء، وأين منه أدعياء
البطولة - في أيامنا الحاضرة - وقت الرخاء ومواتاة الظروف؟ ! ، وإذا ما تنكرت
لهم الأيام انقلبوا خائبين إلى أحضان أعدائهم ولو كانوا من المشركين! .
إن العقيدة الصلبة، والتربية الإيمانية، هي التي تفرق بين أجيالنا وجيل
الذروة، جيل القمة السابقة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
واستمع إلى قول زيد بن الدثنة-رضي الله عنه-عندما قدم ليقتل في التنعيم
أيضاً:
قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك
نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: (لا والله ما أحب أن محمداً الآن في ... مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي) .
قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد
محمداً، ثم قُتل- رحمه الله-[3] .
هكذا تكون التربية العقدية، ولا مخلَص لنا مما نحن فيه إلا بالعودة إلى هذه
التربية القرآنية الإيمانية الخالصة لوجهه تعالى.. بعيدة عن كل شائبة.
6- لابد من التربية الصلبة التي رُبِّي عليها أصحاب رسول الله؛ حتى
يستطيع المسلمون اليوم أن يَثبتوا للجاهلية الجديدة والغربة الثانية.
فالملأ من قريش الذين أعدموا الصحابة في التنعيم موجودون في معظم أنحاء
العالم الإسلامي ولو تغيرت اللافتات والأسماء، هنالك قريش وهذيل وبقية
المشركين في جزيرة العرب، وهنا: الشيوعية، والأحزاب العلمانية، والباطنية،
والطواغيت التي ترفض تحكيم شرع الله..
7- وأخيراً أختم هذه الخواطر (من وحي القصيدة) بأبيات لشاعر الدعوة
الإسلامية حسان بن ثابت -رضي الله عنه-يرثي فيها خبيب بن عدي -رضي الله
عنه-عندما قتل صبراً بمكة [4] :
1-ما بال عينك لا ترقا مدامعها شحّاً على الصدر، مثلَ اللؤلؤ الفَلَقِ
2- على خبيبٍ، وفي الرحمن مصرعُه لا فشل حين تلقاه ولا نزق
3-فاذهب خبيبُ، جزاك الله طيبةٌ وجنة الخلد عند الحور في الرُّفَق
4-ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم حين الملائكة الأبرارُ في الأفق
5-فيما قتلتم شهيدَ الله في رجلٍ طاغٍ قد أوعث في البلدان والطرق
هكذا كانت عين حسان -رضي الله عنه- - وأمثاله من المؤمنين - لا ترقأ
مدامعها، تنهمر غزيرة على خداع الجاهلية وضلالات الشرك التي أودت بأهل
الرجيع، سرية القراء والدعوة إلى الله.. وهكذا يكون التعاطف بين المؤمنين،
ويكون الرثاء في معاني جديدة، معاني الإسلام؛ (الجنة، والملائكة، والشهادة) . ...
__________
(1) الإصابة 1/ 418، الاستيعاب 1 / 430، وابن هشام 2 /170-177.
(2) السيرة النبوية: ابن هشام 2 /174.
(3) سيرة ابن هشام: 2 /172.
(4) ديوان حسان: ص 168
الغريب: - اللؤلؤ الفلق: شبه انتشار الدمع بانتثار اللؤلؤ المتفلق، لا ترقأ: لا تجف
- في البيت الرابع: يقصد يومَ القيامة
- أوعث أفسد (ويشير إلى: الحارث بن عامر الذي قتله خبيب يوم بدر) .(8/58)
ستشرق الشمس
شعر: علي محمد
كان الولاء لديني في رُبا بلدي ... فعاد حقاً لأهل الحي والبلد
لو تصبح النفس طوع الوحي في أدب ... تأبى الميوعة في دين ومعتقد
ويسلك العقل منهاجاً له أطر ... من التثبت لم يجنح ولم يحد
بعد التحرر من أوهام فلسفة ... أو منطق لبني اليونان معتمد
أو هرطقات لأوباش هنادكة ... قالوا بوحدة رب الخلق والجمد
أو من تعصب بدعيٌ لبدعته ... يظن خيراً بقطب الغوث والوتد
قد يأذن الله في تفريج كربتنا ... ويبصر الدرب من يشكو من الرمد
قل لي بربك ما تركيب أدمغة ... تعطي العبيد مقام الواحد الأحد
من يعصب العين لا تحمد عواقبه ... وحاطب الليل لا يجني سوى الزبد
وسالك الدرب إن يدرك معالمه ... إدراك مجتهد فذٍ ومتئد
ويتق الله في الأسباب كاملة ... وفق النواميس لم يضعف ولم يحد
سيدرك النصر إن يأذن به صمد ... بعد امتحان بخير المال والولد
ودولة الظلم لن تبقى إلى أمد ... وهل تدوم وما دامت إلى أحد
ستشرق الشمس لا تجزع لغيبتها ... ويبزغ الفجر فوق السهل والنجد
وترجع القدس تزهو في مآذنها ... وعد الإله الكريم المنعم الصمد(8/63)
الإسلام والجاهلية
عودة العصبيات من جديد
محمد الناصر
ج - عودة العصبيات من جديد:
تحدثنا فيما مضى عن أثر هذا الدين الحنيف في تذويب العصبيات ورواسبها، وكيف أن أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - سَمَوا بأنفسهم فوق تقاليد
الآباء، وأعراف الأجداد.
إلا أننا نلاحظ عودة العصبية، عندما كان وازع العقيدة ضعيفاً.. وبذور
الإيمان لم تزدهر بعد.. والتربية القرآنية لم تلامس بعض القلوب.. وذلك في
مظاهر متعددة برزت في:
1- حروب الردة.
2- العصر الأموي.
3- أحقاد الشعوبية.
4- عصبية القومية والوطنية في العصر الحديث.
1- حروب الردة:
إن الحديث عن فتنة الردة ليس بالأمر السهل إذا اختلطت فيها المفاهيم،
فتلونت العصبية مع ضعف أثر الدين بميل نفوس الأعراب إلى حياة الفوضى
والغزو، وحنينهم إلى ماضٍ قريب ألفوه قروناً متطاولة..
لقد كانت النزعات بين المرتدين ليست واحدة، وكانت شعاراتهم متباينة،
يجمعها التفاف حول متنبئين كذابين، هم يعلمون كذبهم، إلا أنها عُبيَّةُ [1] الجاهلية، وعصبية القبيلة لأحد أبنائها ونتن الوثنية الذي عاد من بعض الوجوه..
(لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عظم الخطب، واشتد الحال،
ونجم النفاق في المدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع
آخرون عن أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة
والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى
الحق كما في (صحيح البخاري) عن ابن عباس، وكانت ثقيف بالطائف قد ثبتوا
على الإسلام…) .
(وقد روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث القاسم عن ...
عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت ...
العرب قاطبة وأشربت النفاق، واللهِ لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات
لهاضها، وصار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كأنهم معزى مطيرة في
حُشٍ في ليلة مطيرة بأرض مسبعة ... ) [2] .
(وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله، ... ماخلا أهل المسجدين مكة والمدينة، وارتدت أسد وغطفان وعليهم طليحة الأسدي، وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي.. وارتدت ربيعة وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة الكذاب ... وارتدت سُليم مع الفجأة، ... وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة… [3] .
اختلاف الشعارات والنزعات بين المرتدين:
(جعلت وفود العرب تقدم المدينة: يقرُّون بالصلاة ويمتنعون عن أداء ... الزكاة، ومنهم من امتنع عن دفعها للصديق، ومنهم من احتج بقوله تعالى: ... [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ] . قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكنٌ لنا [4] .
لقد غاب عن بال هؤلاء: أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وعندما عقد
الصديق- رضي الله عنه-لواء الجيش لخالد بن الوليد، أوصاه وبيّن له وضع
القبائل، إذ يقول له: (سر في أصحابك على تعبية جيدة، فإذا لقيت أسداً وغطفان ...
فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا لك ولا عليك، متربص دائرة السوء،
ينظر لمن تكون الدّبرة) (أى: النصرة والغلبة) فيميل مع من تكون له ... الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم [5] .
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة،
ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم.. ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق
من ذلك وأباه..
وقد روى الجماعة سوى ابن ماجه عن أبي هريرة: (أن عمر بن الخطاب- ...
رضي الله عنه- قال لأبي بكر: علام تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله: أمرت ... أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا ... قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ؟ فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقاً- وفي رواية: عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة ... والزكاة، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت ... أنه الحق) [6] .
وبعد عودة جيش أسامة بن زيد، عقد أبو بكر الألوية، فعقد أحد عشر لواءً.. عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة، فإذا فرغ ساروا إلى مالك بن ... نويرة إنْ أقام له، ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة ... إلخ [7] .
ولقد عرض الصديق على كبار الصحابة قيادة الجيش فأبوا عليه ذلك وكانوا
يطمحون للشهادة ...
(دعا أبو بكر زيدَ بن الخطاب لذلك، فقال: يا خليفة رسول الله قد ... كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم أرزقها، فأنا أرجو أن أرزقها في هذا الوجه، وإن أمير الجيش لا ينبغي أن يباشر القتال ... بنفسه، فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فقال مثل ما قال زيد، فدعا سالماً مولى أبي حذيفة ليستعمله فأبى عليه، فدعا أبو بكر خالدَ بن الوليد فأمّره على ... الناس) [8] ... واستشهد هؤلاء الصحابة الذين اعتذروا عن القيادة - رحمهم الله جميعاً-.
بعد هذا العرض السريع لفتنة الردة وانتقاض القبائل على خليفة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم.. مع اختلاف النزعات والشعارات، نلاحظ أمرين ... واضحين، هما:
1- قوة العصبية في نفوس الأعراب.
2- تعالي أصحاب الإيمان على هذه العصبية من الصحابة، (وقسم من أهل
القبائل) وقفوا لقومهم محاربين مقاتلين كما سنلاحظ ذلك..
العصبية راسخة الجذور في الجزيرة العربية:
والمتتبع لحروب الردة، يجد أن سواد الأعراب لم يدخل الإيمان قلوبهم، ولقد
وصفهم القرآن بذلك: [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ولَمَّا
يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وإن تُطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً] ...
[الحجرات: 4] .
(هولاء الأعراب وقف معظمهم من الدين الإسلامي بالذهنية المغلقة ...
المتعصبة التي لا تدرك معنى الدين؛ [الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفَاقاً وأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ] [التوبة: 97] .
(كانوا يعدون الرسول رجلاً أوتي السلطان على العرب؛ فيطيعونه ... على أنه رئيس مقتدر..) . (وكان العرب المسلمون ينظرون إلى الأعراب المتبدين ... نظرة حذر وارتياب، وكانوا لا يرتضون لأعرابيٍّ تحضَّر أن يتبدى.. وكان للقبيلة الواحدة حاضر وبادية، والتمازج حاصل بين سكنة الحواضر ... ... وسكنة البوادي.. وكان الرسول الكريم يفرق بين الأعراب الموغلين في الصحراء، والأعراب المقيمين في الضواحي والمستجيبين لدعوة الإسلام..) [9] . ...
كان الأعراب بعيدين عن التربية المباشرة، تربية العقيدة والإيمان، كانت
فترة الإعداد غير كافية لاقتلاع رواسب الجاهلية الموغلة في نفوسهم. إن جذور
العصبية عريقة، والتعلق بعادات الغزو والنهب والفهم لحياة الفوضى، وكرههم
للطاعة وحياة الانضباط، كل ذلك مع ضعف العقيدة سبَّب ردةً عنيفة في جزيرة
العرب..
وسوف أستعرض بعض المواقف التي تجلّي لنا هذا الأمر:
عندما واجه خالد بن الوليد - رضي الله عنه -بجيوش المسلمين طليحة ...
الأسدي أُسر حِبال بن أبى حبال، ولما أراد المسلمون أن يبعثوا به إلى أبي بكر ...
الصديق قال: (اضربوا عنقي ولا تُروني محمَّدِيكُم هذا) ؛ فضربوا عنقه [10] . ...
نزل عمرو بن العاص وهو عائد من عُمان على سيد بني عامر (قرة بن
هبيرة القشيري) ، وذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال قرة ... لعمرو: (إن لك عندي نصيحة وأنا أحب أن تسمعها. إن صاحبك قد توفي. قال عمرو: أو صاحبنا هو؛ لا أمَّ لك- يعني: دونك؟ قال له قرة: وإنكم يا معشر قريش كنتم في حرمكم تأمنون فيه ويأمنكم الناس ثم خرج منكم رجل.. فلما ... بلغنا ذلك لم نكرهه، وقلنا: رجل من مضر يريد يسوق الناس، وقد توفي، والناس ... إليكم سراع، وإنهم غير معطيكم شيئاً؛ فالْحقوا بحرمكم تأمنون فيه [11] . ...
وعندما اقترب عمرو من مشارف المدينة لقيه عيينة بن حصن خارجاً من ... المدينة، فقال له: ما وراءك ياعيينة؟ قال له: يا عمرو استوينا نحن وأنتم، فقال له عمرو: كذبت يا ابن الأخابث من مضر. ثم لحق عيينة بطليحة الأسدي [12] .
هذا هو منطق الجاهلية ورجسها، وعقلية مشايخ القبائل، ولننظر ... في مواقف عجيبة صدرت عن أصحابها خلال حرب اليمامة.. مع مسيلمة الكذاب ... وقومه.
كان (الرجال بن عُنْفوة) به من الخشوع، ولزوم قراءة القرآن والخير ... ... شيء عجيب.. وفد على رسول الله مع قومه وكان من أكبر من أضل أهل ... اليمامة حتى اتبعوا مسيلمة، وكان قد أرسله الصديق لأهل اليمامة يدعوهم ... إلى الله، فارتد مع مسيلمة، وشهد له بالنبوة.. سُمع الرجال هذا وهو يقول: (كبشان انتطحا، فأحبهما إلينا كبشنا) [13] .
ضلال عجيب، وعصبية قاتلة أوردته المهالك. ...
وها هو مسيلمة يقف مخذولاً أمام كتائب الإيمان ليقول لقومه في حديقة الموت: (اليوم يوم الغيرة.. إن هزمتم تستنكح النساء سبيات.. فقاتلوا عن
أحسابكم وامنعوا نساءكم) [14] .
وبقوة الحسب ومجد العشيرة يستثيرهم محكم بن طفيل أكبر مؤيدي ... مسيلمة - خذله الله - إذ يقول: (ما كان عندكم من حسب فأخرجوه) [15] .
(قال قائل لمسيلمة: يا أبا ثمامة أين ما كنت وعدتنا؟ (وذلك بعد أن قتل ... محكم بن طفيل) قال الكذاب: أما الدِّين: فلا دين، ولكن قاتلوا عن أحسابكم، ...
فاستيقن القوم أنهم على غير شيء) [16] .
وأخيراً: أسوق الخبر التالي، وهو يدل على عصبية عجيبة لا تدانيها ... إلا عصبية ما قبل الإسلام:
(جاء رجل إلى اليمامة وقال: أين مسيلمة؟ دلُّوه عليه، فقال له: من يأتيك؟ قال: رجس. قال: أفي نور أم في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: ... ... أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، ... واتبعه هذا الأعرابي الجلف - لعنه الله- حتى قتل معه يوم عقربا، لا رحمه
الله) [17] .
هكذا نلاحظ أن العصبية الجاهلية برزت قوية جائرة، سببت فتنة أريقت لها دماء، وأزهقت فيها أرواح.. والإسلام ينادي: (دعوها؛ فإنها ... ... منتنة) على لسان رسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
ومن مستلزمات الجاهلية، والحياة القبلية كما مر معنا في الشعر الجاهلي: ... حياة الغزو، وأحياناً على بكر أخينا، وهذه النفسية ظهرت خلال فتنة ... ... الردة واضحة.
قدم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس على الصديق، يطلبان جعلاً ليخذلان من وراءهما من القبائل، فرفض الصديق ذلك، وبعد عودت هما شن خارجة بن حصن (أخو عيينة) غارة على المدينة المنورة، فخرج ... إليهم الصديق بمن معه من المسلمين وهزمهم في ذي القصة [18] .
وهذا الفجاءة من بني سليم كان قدم على الصديق وزعم أنه أسلم، وسأله أن يجهز معه جيشاً يقاتل به أهل الردة فجهز معه جيشاً، فلما سار ... ... جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله.. فلما سمع الصديق بعث ... وراءه جيشاً فرده وقد جمعت يداه إلى قفاه وقُتل.
من شحّت نفوسهم بدفع الزكاة:
وهنالك بعض المرتدين امتنعوا عن دفع المال وتأدية الزكاة لخليفة رسول الله..
قال الأشعث بن قيس لأبي بكر الصديق:
(والله ما كفرت بعد إسلامي، ولكني شححت على مالي) ، وذلك عندما جئ به وبقومه من أسرى كندة بعد هزيمتهم.. وقال وفد كندة أيضاً نفس ... ... القول: (والله ما رجعنا عن الإسلام، ولكنا شححنا على أموالنا) [19] . ...
(وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرقوها بينهم مالك بن نويرة ... وتيس بن عاصم، والأقرع بن حابس التميمي، وكذلك فعل حذيفة بن بدر الفزاري، ومثله بنو سليم، وحاولت طيء أن تقلد جيرانهم بني أسد إلا أن ... عدي بن حاتم رفض ذلك وأقنع قومه، وقدم بالصدقات على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه-) [20] .
الغزو وحياة الفوضى:
وهكذا نلاحظ أن العرب الذين كانوا يأنفون من الانصياع إلى سلطة واحدة،
صعُب عليهم أن يخضعوا لرجل من قريش يؤدون إليه أموالهم. وهذا شاعر كندة
حارثة بن سُراقة يقول:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا ... فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر؟
أيورثنا بكراً إذا مات بعده ... فتلك إذن والله قاصمة الظهر [21]
جاءت سجاح بمن معها من قبيلتها (تغلب) من الجزيرة وقد ادعت النبوة،
وهي من نصارى العرب، ولما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها، فاستجاب
لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب..
ثم اتفق أتباعها على قتال الناس فقالت لهم فيما تسجعه: (أعدوا الركاب، واستعدوا
للنهاب، ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب) . ثم قصدت اليمامة لتأخذها
من مسيلمة.
واتفق الكذّابان؛ (وتزوجها مسيلمة وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى
قومها ... وقد نادى مؤذّنها: إن مسيلمة قد وضع عنكم صلاتين مما آتاكم به محمد-
يعني: صلاة الفجر وصلاة العشاء ... ثم انثنت راجعة إلى بلادها الجزيرة وأقامت
في قومها بني تغلب..) [22] .
إغارة ونهب وفوضى…وحنين إلى مظاهر الجاهلية تلك. ولقد قال أحد
أتباعها (عطاء بن حاجب) بعد أن رجع إلى الإسلام في سجاح [23] :
أضحتْ نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذُكراناً
فلعنة الله رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالكفر أغْوانا
دعاة كذبة، ما كان يمكن أن يصدقوا لو كانت روابط الإيمان قوية، وجذور
الدين راسخة.
حفظة القرآن، وأصحاب الإيمان:
هؤلاء الأتقياء الأبرار، هم الذين حسموا الموقف في هذه الفتنة، وارتفعوا
فوق التقاليد والأهواء، فقد حاربوا قومهم وقبائلهم مع كتائب الإيمان..
ولقد استمر القتل في الصفوف من حفظة القرآن في اليمامة، (وجعل منادي
المسلمين، ينادي: يا أهل القرآن فيجيبون المنادي فرادى ومثنى، فاستمر بهم
القتل؛ فرحم الله تلك الوجوه) [24]- كما روي عن عمر- رضي الله عنه - وهو
يذكر تلك الأيام.
(وصبر الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم.. وكان جملة من قتلوا في ... ... حديقة الموت وفى المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفاً (من المرتدين) ، ومن المسلمين: استشهد ستمائة، وقيل: خمسمائة؛ ... ... فالله أعلم، وفيهم من سادات الصحابة أمثال: ثابت بن قيس بن شماس ... الأنصاري الخزرجي، ومنهم: زيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب لأبيه، ... ... ومنهم: أبو دجانة، ومنهم: عباد بن بشر الأنصاري، وأبو حذيفة بن عتبة ... ومولاه سالم ... ) [25]-رحمهم الله أجمعين-.
كانت المعارك ضارية، حتى أن المسلمين تراجعوا عدة مرات أمام بني حنيفة، إذ جاء الخلل إلى الصفوف من الأعراب، وعندها صاح أحد ... أصحاب رسول الله (ثابت بن قيس) -رضي الله عنه-: أخلفنا يا خالد.. فقال: ... ... ذلك إليك، فنادِ في أصحابك، فأخذ الراية ونادى: ياللأنصار.. فتسللت إليه رجلا رجلاً.. أربعمائة رجل لا يخالطهم أحد.. ونادى خالد: ياللمهاجرين.. فأحدقوا ... به، ونادى عدي ومكنف بن زيد الخيل الطائي لطيءٍ؛ فثابت إليهما طيءٌ وكانوا ... أهل بلاء حسن، وعزلت الأعراب ناحية…
ويكمل الرواية رافع بن خديج فيقول: (وإنما كنا نؤتى من قبل الأعراب.. ...
وأجهضهم أهل السوابق والبصائر، فهُم في نحورهم..) [26] . إن العقائد تقاس
بالابتلاء والشدائد، وعامة الناس لا يجدون نفعاً في هذه المواطن، وما أجدر ... الدعاة أن يستفيدوا من مثل هذه الدروس.. أصحاب رسول الله - صلى الله ... ... عليه وسلم - وأهل السوابق على قلة عددهم هم الذين قلبوا ميزان المعركة.. ... وكثرة الأعراب من المسلمين سرعان ما كانوا يتراجعون عندما عضهم السيوف. ...
لقد وقف عدي من قومه موقفاً صلباً مؤمناً، وحارب إلى جانب خالد بن الوليد، ولقد قاتل المسلمون من بني سليم المشركين من قومهم، فانه زم الأعراب من المرتدين (من بنى عبس وذبيان ومَنْ معهم من مدد طليحة لهم بابنه حِبال) الذين أغاروا على المدينة، وقتل حبال، وكان أول الفتح، وذل بهذه الموقعة المشركون، وعز المسلمون، عندها وثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم،
وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا
من المسلمين وزيادة.. وجعل خالد -رضي الله عنه- بعد أن هزم طليحة
وأسداً يتردد شهراً يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهُرهم ...
حين ارتدوا..) [27] .
وكان ابن عمرو اليشكري من أشراف اليمامة، وكان مسلماً يكتم إسلامه،
وكان صديقاً للرّجال، فقال شعراً، فشا في اليمامة منه هذه الأبيات [28] :
يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليل بفتنة الرّجَال
فتن القوم بالشهادة [29] والله ... عزيز ذو قوة ومحال
إن ديني دين النبي وفي القوم ... رجال على الهدى أمثالي [30]
أهلك القوم محكم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال [31]
قلت للنفس إذ تعاظمها الصبرُ ... وساءت مقالةُ الأقوال
إن تكن ميتتي على فطرة الله ... حنيفاُ فإنني لا أبالي
فبلغ ذلك مسيلمة ومحكماً وأشراف أهل اليمامة، فطلبوه، ففاتهم ولحق
بخالد بن الوليد، فأخبره بحال أهل اليمامة ودلّه على عوراتهم.
إنه الإيمان يستعلي في نفس ابن عمرو اليشكري، جعله يضحِّي بقومه ...
في سبيل دينه.
دروس وعبر:
هذه هي حروب الردة، فتنة عمياء، وعصبية هوجاء، إلا أنها لا تخلو من
عبر وعظات..
1 -العصبية خطيرة خبيثة من فتن الجاهلية، تتلون وتخدع أصحابها، فلا
يرون الحق، ويدافعون عن الباطل، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
2 -التعلق بالمال والمتاع الزائل، مع ضعف الإيمان وغبش التصور أودى
ببعض المرتدين المهالك، فشحت نفوسهم عن دفع الزكاة.
3 -إن قوة الإيمان، وفهم العقيدة، من هدي الإسلام.. الذي يصنع العجائب
وهذا ما ظهر في موقف الصدِّيق وصموده، وعدم تهاونه في أداء الزكاة، ولقد
قرر بحزم أن يحارب المرتدين، وأن يرسل جيش أسامة ابن زيد إلى تُخُوم البلقاء
والشام، (واللهِ لا أحل عقدةً عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت ... بأرجل أمهات المؤمنين؛ لأجهزنَّ جيش أسامة…)
وظهرت مواقف حفظة القرآن وأصحاب الإيمان عظيمة غيَّرت مجرى
التاريخ..
4- إن مهادنة المشركين باسم المصلحة وضعف الإمكانيات ليس له ما يبرره، وواقع الصديق وما كان فيه هو وأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين - من ضيق وشدة، وانتقاض العرب، ما جعله يتنازل عن حق من حقوق الله، ... ولا أن يسالم أو يساوم في دين الله.
إن مواقف الصحابة تنفي علينا في هذا الزمن كل التواءٍ وخداعٍ، وجرأةٍ على الفتوى باسم الدين.
5- إن العودة إلى التربية الصافية، إيمانية خالصة ضرورة ملحة، ... وفرض محتم، ينقذ المسلمين مما هم فيه من تسيب وضياع وانهزام. ...
6- إن القلة المؤمنة هي رصيد الشدائد، وعماد كل نهضة جادة وصحوة يقظة، مادامت (هذه النخبة) متمسكة بكتاب الله وسنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - كما فهمها سلف هذه الأمة.
7- وصورة الردة تتمثل بإيجاز في:
(أن العرب افترقت في ردتها؛- فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام وقالوا: لو كان نبياً لما مات.
- وفرقة قالت: نؤمن بالله ولا نصلي.
- وطائفة أقروا بالإسلام وصلُّوا، ولكن منعوا الزكاة.
- وطائفة شهدوا: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكن صدَّقوا مسيلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشركه معه في النبوة.. ...
ولم يشكّ أحدٌ من الصحابة في كفر من ذكرنا ووجوب قتالهم إلا مانع الزكاة ثم زالت الشبهة عن الصحابة -رضي الله عنهم- وعرفوا وجوب قتالهم؛ فقاتلوهم [32] .
وها نحن في هذا العصر نرى مَنْ ينكر الزكاة، ويجحد أركان الإسلام،
ويتفلت من تحكيم شرع الله، ثم يزعم أنه مسلم، ويجد من يفتي له بإسلامه، مادام
يتلفظ بالشهادتين، ولو لم يأت بأي عمل من أعمال الإسلام، فأي عجب أكثر من
هذا؟ ! .
__________
(1) عبية الجاهلية: كْبرها ونخوتها.
(2) البداية والنهاية لابن كثير: 6 / 304.
(3) المرجع السابق: 6 / 312.
(4) المرجع السابق: 6 / 311.
(5) الخلافة الراشدة والبطولة الخالدة في حروب الردة، للشهيد المحدث المؤرخ أبي الربيع سليمان ابن موسى الكلاعي الاندلسي (565 634 هـ) تحقيق ونشر د أحمد غنيم (ص 67) .
(6) البداية والنهاية: 6 /311، 315.
(7) البداية والنهاية: 6 /311، 315.
(8) حروب الردة: الكلاعى (ص 56 57) .
(9) الشعر الجاهلي، د يحيى الجبوري، ?3236.
(10) حروب الردة: الكلاعي، ص 74.
(11) حروب الردة الكلاعي، ص 85 86.
(12) حروب الردة الكلاعي، ص 85 86.
(13) انظر البداية والنهاية، 6 /323، وحروب الردة، ص 104.
(14) البداية والنهاية، 6 /324.
(15) حروب الردة الكلاعي، ص 143و145.
(16) حروب الردة الكلاعي، ص 143و145.
(17) البداية والنهاية 6 / 327، 313، 319، وحروب الردة: ص 53، 4 5 و39 و40.
(18) البداية والنهاية 6 / 327، 313، 319، وحروب الردة: ص 53، 4 5 و39 و40.
(19) انظر حروب الردة: الكلاعي، ص 328، 44?50?226.
(20) انظر حروب الردة الكلاعي، ص 238، 44?50?226 وانظر رواية ابن كثير للأبيات 6/313 ففيها بعض الاختلاف.
(21) انظر حروب الردة الكلاعي، ص 238، 44?50?226 وانظر رواية ابن كثير للأبيات 6/313 ففيها بعض الاختلاف.
(22) البداية والنهاية 60/320321.
(23) الإصابة لابن حجر: 2 /477.
(24) انظر حروب الردة للكلاعي، ص 177.
(25) انظر البداية والنهاية، 6 / 325 وما بعدها.
(26) انظر حروب الردة 133138، والبداية والنهاية: 6 /324.
(27) البداية والنهاية 6 /313، 319.
(28) حروب الردة: الكلاعي، ص 105 106.
(29) كان قد شهد (الرجال) لمسيلمة بالنبوة، ففتن الناس.
(30) لم يصرح باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يعرض بأن لا نبي سواه وأن مسيلمة مفتر على الله.
(31) محكم بن طفيل من أكبر أعوان مسيلمة.
(32) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 29، 30.(8/65)
وذكرهم بأيام الله ...
محطم الأصنام
اختيار: محمد العبدة
جاء في (البداية والنهاية) لابن كثير في حوادث سنة 418 هـ، وفي ... (الكامل) لابن الأثير في حوادث 416 هـ عن فتوحات السلطان محمود بن سبكتكين (محمود الغزنوي) في الهند ما يلي:
(وفي هذه السنة ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضاً، وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بـ (سومنات) ، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق وتزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه، على مذهب التناسخ، وكانوا يحملون إليه كل عِلق نفيس، ويعطون سدنته كل مال جزيل، ويحمل إليه الماء من نهر (الغانج) ما يغسل به، ويكون عنده من البرهميين كل يوم ألف رجل لعبادته، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس ... زواره) .
وكان السلطان محمود كلما فتح من الهند فتحاً وكسر صنماً يقول الهنود:
إن هذه الأصنام قد سخط عليها (سومنات) ، ولو أنه راضٍ عنها لأهلك من
تقصدها بسوء، فلما بلغ ذلك السلطان عزم على غزوه وإهلاكه ظناً منه أن الهنود
إذا فقدوه ورأوا كذب ادعائهم دخلوا في الإسلام، فاستخار الله تعالى، وسار من
غزنة عاشر شعبان من هذه السنة في ثلاثين ألف فارس سوى المتطوعة، وسلك
سبيل (الملتان) ، وفى طريقه إلى الهند بريّة قفر، لا ساكن فيها ولا ماء، فتجهز
هو وعسكره على قدرها، ثم زاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل تحمل الماء والميرة، فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصوناً مشحونة بالرجال، فيسر الله تعالى فتحها، ثم سار إلى سومنات فلقي في طريقه عدة حصون فيها كثير من الأوثان شبه
الحجاب والنقباء لسومنات على ما سول لهم الشيطان، فقاتل من فيها وفتحها
وضربها وكسر أصنامها، ثم سار إلى سومنات فوصلها يوم الخميس منتصف ذي
القعدة، فرأى حصناً حصيناً مبنياً على ساحل البحر، فلما كان الغد وهو الجمعة
زحف وقاتل من به، فرأى الهنود من المسلمين قتالاً لم يعهدوا مثله، وقاتل الهنود
على باب الصنم أشد القتال، وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخلون إلى سومنات
فيعتنقونه ويبكون ويخرجون فيقاتلون إلى أن يُقتلوا، حتى كاد الفناء يستوعبهم،
فدخلوا البحر إلى مركَبين لهم لينجوا فيهما، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضاً وغرق
بعضٌ، وأخذ السلطان الصنم سومنات وكسر وأحرق بعضه.
وكان الهنود قد بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم
الأعظم، فأشار من أشار من الأمراء على السلطان بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم
لهم، فقال: حتى أستخير الله -عز وجل-، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر
الذي ذكر؛ فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: (أين محمود الذي كسر الصنم) ،
أحب إلى من أن يقال: (الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا) . ثم عزم
فكسره؛ فوجد عليه من الجواهر واللآلئ والذهب ما ينيف على ما بذلوه، ونرجو
من الله له في الآخرة الثواب الجزيل. فرحمه الله وأكرم مثواه.(8/75)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
أحوال المسلمين في السودان
إشراف: محمد عبد الله
تحدثنا في العدد الأول من هذه المجلة [ذي الحجة عام 1406] عن المجاعة
التي تتعرض لها السودان.. واستنكرنا تنافس الأحزاب على الانتخابات، وأنها
أنفقت بضعة مئات من الملايين من الدولارات، وقلنا:
لو كان زعماء هذه الأحزاب يعيشون مشكلة المجاعة لجمعوا هذه الأموال،
وشكَّلوا حكومة هدفها إنقاذ ربع السودان من موت يهددهم..
وقلنا أيضاً:
(لقد بات من المؤكد أن الاتحاد السوفييتي يمول الحزب الشيوعي كما يمول
بشكل غير مباشر التمرد في جنوب السودان، كما بات من المؤكد أن الولايات
المتحدة الأمريكية تمول وتراهن على حزب آخر [من الأحزاب القبلية الكبيرة] ،
وهي التي كانت وراء مصالحة نميري مع زعيم هذا الحزب.. وهناك أنظمة تمول
أحزاباً أخرى، ولا نعتقد أن نتائج المعركة الانتخابية سوف تكون في مصلحة
السودان، مهما كانت النتائج) .
وعندما قلنا بأن هذه النتائج ليست في مصلحة السودان مهما كانت هذه النتائج، ما كنا ننجم أو نرمي بالكلام على عواهنه.. وما اعتدنا هذا ولا ذاك والحمد لله..
ولكننا كنا نعتمد على معلومات دقيقة من أهمها: مسيرة ما يسمى بالديمقراطية في
منطقتنا، وقد ثبت فشلها، والذين ابتدعوا هذا النظام، هم الذين يحركون [العساكر]
إذا تجاوز السياسيون الخطوط الحمراء التي رسمت لهم، أو إذا كانت مسيرة
الديمقراطية تخدم تطلعات المسلمين ومن الجدير بالذكر أن الديمقراطية شيء
والحرية في ظل النظام الإسلامي شيء آخر، ولا لقاء بين النظامين.
ونعتمد أيضاً على معرفتنا لتاريخ الأحزاب في العالم العربي وهذه الأحزاب
صنعها المستعمرون وعملاؤهم في بلادنا.. فهي أحزاب علمانية يعتمد معظم قادتها
سياسة المراوغة واللف والدوران وتضليل الشعوب ... ويتخذون هذه الأمور كلها
ديناً لهم.
والأحزاب السودانية الحاكمة لا تخرج عن هذا الإطار، فتاريخها يشهد على
أنه ليس هناك مناهج تنتهجها، ولا ضابط يضبطها، فإذا اصطدمت طموحات القادة
اختلفوا مع بعضهم، وتحالف كل طرف مع أحزاب أخرى، ولا يتورعون في
استخدام أية وسيلة ضد خصومهم، ويستحيل أن يستمر ائتلاف حزب مع حزب
آخر؛ فالثقة مفقودة.. ويبقى الائتلاف طالما بقيت مصلحة، وإذا شعر أي حزب
من هذه الأحزاب بقدرته على الانفراد في الحكم ولو عن طريق انقلاب عسكري لا
يتوانى لحظة واحدة في هدم ما أسموه ديمقراطية.. وهؤلاء جميعاً تعاونوا مع
النميري ثم يتهمون بعضهم بهذا، ويتناسون أنفسهم، ولو حقق الحاكم العسكري
السابق لأي حزب ما يريده أو بعض ما يريده لسارت الأمور بينه وبينهم على أحسن
ما يرام.. ولكن الحاكم العسكري السابق لا يقل عنهم جشعاً وحباً للسيطرة والهيمنة.
ونعرض فيما يلي بعض التطبيقات والشواهد التي تؤكد صحة ما توقعناه من هذه الأحزاب:
بعد عام من الائتلاف الحكومي استقالت الوزارة وقال الرئيس عن سبب الاستقالة: (رغم وضوح سياسة الحكومة إلا أن الوزراء أخفقوا في تطبيقها. قال: إن التراشقات حدثت بين بعض الوزراء، كما أن بعضهم أساء الحكومة) ، والشاهد هنا قول رئيس الوزراء [.. إلا أن الوزراء أخفقوا..] وما لم يقله رئيس الوزراء، ويبدو أنه لا يريد أن يقوله قاله وزير التجارة السابق محمد يوسف أبو حريرة؛ لقد هاجم الحزب الذي ينتمي إليه -الحزب الاتحادي الديمقراطي- بسبب سيطرة التجار الجشعين عليه، وهاجم الحكومة لأنها لم تضع حداً للفساد والرشاوي، وكان الوزير قد شن حملة ضد من وصفهم بـ (طفيلي السوق) بمن فيهم المهربون وتجار السوق السوداء، واتهم الحكومة والقصر الجمهوري علناً بالتساهل في قوانين الفساد، وعند تشكيل الحكومة الجديدة كانت النية متجهة إلى تعيين أبو حريرة في وزارة أخرى، لكنه سارع وأعلن استقالته. والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: كيف كانت الأوضاع العامة في السودان في ظل حكومة الائتلاف؟ ! .
والجواب على ذلك محزن جداً: ففي الغرب مصادمات ذهب ضحيتها [1500] حسب رواية بعض وكالات الأنباء، و [2000] حسب رواية علي ... تاج الدين عضو مجلس رأس الدولة لرويتر.. وقال أيضاً -أي: علي تاج الدين-:
إن قيام جماعات مسلحة بسرقة الماشية في مناطق ريفية يشكل أخطر تهديد
للأمن، ومن جهة أخرى فهناك قوات ليبية كانت قد دخلت غرب السودان لمهاجمة
تشاد، وكأن هذه المنطقة دارفور ليست داخل إطار دولة مسؤولة عن أمنها وحدودها.
وفي الجنوب: اشتد بأس قوات ما يسمى بـ (حركة تحرير السودان) التي يتزعمها (قرنق) ، واحتلت (الجكو والبيور) بمساعدة أثيوبيا، ومن المؤسف ... أن قرنق يملك أسلحة لا يملكها الجيش السوداني، بل ولا تملك حكومة الائتلاف ... المال الذي تسلح به الجيش السوداني الذي يجد نفسه عاجزاً عن حفظ الأمن في الغرب أو الجنوب.
وأصبح السطو المسلح في معظم أرجاء السودان جريمة عادية.. وهناك ندرة في توفر بعض البضائع الضرورية كالسكر والصابون، وكانت البطيخة الواحدة في
شهر رمضان الفضيل تباع بسعر قدره [35 جنيها] ، وتحويلات المواطنين من
الخارج تناقصت لأن التضخم يرتفع سنوياً بنسبة 40%.. واضطرت الحكومة إلى
استيراد اللحم وكانت السودان مشهورة بتصديره.. كما تستورد السكر والنفط..
وعائدات الدولة لا تساوي نصف حاجتها، ولم ترد الحكومة لصندوق النقد الدولي
شيئاً، أما الصناعات فقد أصيبت بضربة قاتلة، لأن المصانع السودانية تحتاج إلى
[20 مليون دولار] شهرياً والحكومة لا تملك مثل هذا المبلغ حتى ولا نصفه.. أما
السكك الحديدية فبعضها قد تعطل، وبعضها يحتاج إلى صيانة عاجلة، وهذا من
الأسباب التي لا تمكن الجنود السودانيين من أداء واجبهم.. والمجاعة تزداد حدتها،
وتجد الحكومة نفسها عاجزة عن نقل الطعام لبعض المناطق التي تنتشر فيها
المجاعة.
في ظل هذه الأوضاع الرهيبة تشكلت حكومة جديدة، وكانت الوجوه هي
الوجوه باستثناء أفراد قلائل ومنهم الذين لا يحظون بثقة الجشعين من التجار،
وهناك صراع مكشوف بين الحزبين الحاكمين، فالاتحادي يتهم الأمة بتزوير
الانتخابات، وتعيين العناصر الأنصارية في المراكز المهمة في الدولة كالجيش
والشرطة.. ويتهم الاتحادي الأمة أيضاً بأنه يحاول الانفراد في السلطة، ويحاول
استقطاب عناصر مهمة من الحزب الاتحادي بقصد تقويضه.
والخلاف بين الحكم والمعارضة على أشده، ولم يستطع رئيس الوزراء إقناع
حزبه بإشراك المعارضة في الحكم..
ومن هذا المنطلق نقول:
إن البدايات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة، وحكومة هذه حالها عاجزة عن
إنقاذ السودان وحل مشكلاته.
والأنكى من ذلك أن الحزبين الحاكمين لهما جذور إسلامية، وهذه الجذور
أكسبتهما شعبية منذ القديم، فأحدهما يعتمد في شعبيته على المهدي ودعوة المهدي،
والآخر يعتمد على الطائفة الصوفية الختمية، ورفع الحزبان شعار القوانين
الإسلامية في معركة الانتخابات.. والآن يعارض الحزبان بأسلوب ماكر تحكيم
الشريعة الإسلامية، لأنها قوانين نميري، فهل هناك إسلام نميري، وإسلام
الاتحادي، وإسلام المهدي؟ أليس الإسلام واحداً يا دهاقنة السياسة؟ ! .
والغريب أننا نجد أهل الحل والعقد في كل حزب قسمين: العلمانيون وهم
الأغلبية، وغير العلمانيين وهم قلة، وفهمهم للإسلام مشوه وغير سليم،
والعلمانيون يعارضون تحكيم الشريعة الإسلامية.. ويتحالفون من أجل الصد عن
سبيل الله مع كل عدو للإسلام والمسلمين داخل السودان وخارجه.. ولقد تحالفوا
فعلاً في الستينات مع الشيوعيين واليساريين والصليبيين.. وهم يتحالفون اليوم مع
الصليبيين والوثنيين، وقد رفضوا اشتراك المعارضة الإسلامية في الحكم، وقبلوا
الصليبيين والوثنيين، والمثل يقول: تسألني من تعاشر أسألك من أنت! ! .
وقادة هذين الحزبين قادرون على تخدير مشاعر المسلمين أو معظم المسلمين
في السودان.. فهم يتحدثون عن سعيهم الحثيث من أجل استبدال قوانين نميري -
كما يقولون- بقوانين صادق! ! ! ويحركون من جهة أخرى حلفاءهم ليعارضوا
بشدة سن قوانين إسلامية، وقد تمضي بضع سنين على هذه الحال.
إن الوضع خطير وخطير جداً في السودان، فهناك مؤامرات عالمية تستهدف
وحدة هذا البلد الطيب، ويشترك في هذه المؤامرة: الأمريكان، والسوفييت،
واليهود، والصليبيون.. وهناك أدلة على ذلك لا يجادل في صحتها مطلع على
الأحداث، ومن يقرأ تصريحات بعض السياسيين والعسكريين السودانيين يجد بأنهم
توصلوا لهذه القناعة. فقد سئل اللواء الركن عبد الله أبو قرون قائد منطقة بحر
الغزال العسكرية عن تورط جهات خارجية بحرب الجنوب؛ فأجاب:
(نحن لا نتحدث عن طلاسم، فهناك إذاعة معروفة تابعة للقوات المتمردة تبث من داخل الأراضي الأثيوبية، وهناك مكاتب علنية للمتمردين في عدد من الدول الأوربية. والبعض يقدم الدعم بحجة أن قرنق مسيحي وتجب مساعدته،
والبعض يقدم مثل هذا الدعم بحجة أن حركة المتمردين حركة اشتراكية.. ثم ... إننا أوضحنا أكثر من مرة وبالأدلة الملموسة أن قرنق يحصل على مساعدات عسكرية من الدول الشرقية والدول الغربية على حد سواء، وهو يملك الآن ... أسلحة متطورة كما يملك بطاريات مدفعية مضادة للطيران، فضلاً عن مدافع ثقيلة ... ) .
[عن المجلة العدد386 تاريخ 7/7/1987] .
ومؤامرة بهذا الحجم من التخطيط والإعداد تتطلب من دعاة الإسلام في
السودان أن يوحدوا صفوفهم، وينهضوا ليؤدوا الدور المطلوب منهم داخل السودان
وخارجه، ونصيحتنا لهم نلخصها فيما يلي:
1 -ليس هناك إسلام نميري، وإسلام غير نميري، فالإسلام كل لا يتجزأ،
ولا يجوز أن يتقدم العقل على نصوص الكتاب والسنة، ومن أطلق العنان لعقله
القاصر، وراح يلوي أعناق النصوص لتوافق أهواءه كان ضالاً مضلاً، وإن زعم
بأنه داعية.. وإن طبَّق صيته الآفاق.. ونحن ندين الله بمنهج وأصول أهل السنة
والجماعة وهو ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة خير القرون المفضلة، وليس
بقول هذا أو رأى ذاك.
2-ثبت تاريخياً أن هذه الديمقراطية المزعومة في بلادنا لا تخدم الإسلام
والمسلمين، والذين ابتدعوها عندهم من الوسائل ما يمكنهم من قطع الطريق على
الإسلاميين إذا تجاوزت هذه الديمقراطية الإطار المرسوم لها كما قلنا في مقدمة هذا
المقال، ومن جهة أخرى فتحكيم شرع الله لا يخضع لرغبة الأقلية والأكثرية، ولا
يجوز بحال من الأحوال أن تقام الحدود، لأن الأكثرية أرادت ذلك، وفي دورة
أخرى تتغير الأكثرية فتلغى قوانين إقامة الحدود، والانتخابات لا تعبر بالتأكيد عن
رأي الأكثرية فهناك التزوير، وهناك الأموال والرشاوى، وهناك الإعلام، وهناك
الطائفية والقبلية.. وهذه الأمور تلعب دوراً مهماً في اختيار الممثلين، فقد تختار
قبيلة من القبائل شيوعياً لأنه من أعيان القبيلة مع أن جمهور القبيلة من المصلين.
3- يجب أن يبين العلماء، والدعاة في السودان للمسلمين فساد الأحزاب الحاكمة، ويكشفوا تاريخها الأسود، وعقائد وأخلاق العلمانيين فيها.. ومواقفهم القديمة والحديثة من مسألة تحكيم الشريعة الإسلامية، ويفضحوا مصادر تمويل هذه الأحزاب، ومن جهة أخرى لابد من كشف تحالفات الصوفيين والخرافيين مع العلمانيين.. وكيف يستغلهم العلمانيون في حرب الإسلام والمسلمين؟ وكيف يقدم الصوفيون والخرافيون مصالحهم على كل شيء؟ لقد استغلهم الطاغية السابق أبشع استغلال، وكان يزعم أنه واحد منهم..
4 -نسأل الله أن يشرح قلوب الذين يحاورون قرنق وغيره للحق، هؤلاء
الذين يقولون له: تحكيم القوانين الإسلامية في الشمال، وفى الجنوب يختار الشعب
ما يريد من قوانين.. ألا يعلم هؤلاء أن الذين صنعوا ثورة (قرنق) لا يقبلون وحدة
السودان حتى ولو احتكم الناس فيها إلى شريعة ماركس أو إلى شرائع الغرب؟ ! .
ومن ثم فقرنق عميل لا يملك من أمره شيئاً، ولا ندري كيف يحكم بلد عدة
شرائع مختلفة والنصارى فيه لا يتجاوز عددهم 5%؟ ! .
إلى متى يمضي هؤلاء في المساومات والتنازلات وهم يقرأون قوله تعالى: [فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ * ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] [القلم /8، 9] ؟ ...
لابد أن ننصح إخواننا هؤلاء ونفند شبهاتهم ونرد عليهم ردوداً علمية متزنة،
ونحذرهم من مغبة السير في سبل معوجة، ومن تفسير الإسلام تفسيراً يتناسب مع
مواقفهم السياسية الغوغائية المتقلبة.
5 -فهم الواقع المعاصر فهماً دقيقاً، والتعامل مع هذا الواقع كما يأمرنا جل
وعلا دون إفراط أو تفريط.. فالذين ظنوا أن النميري سيحكِّم لهم شرع الله جهلوا
أو تجاهلوا حقائق كثيرة منها: تاريخ النميري، والعقلية التي يفكر بها، وحرصه
على بطانة معينة وقفت معه في جميع الأطوار التي مر بها.. وهذا الكلام وغيره
قلناه أيام النميري ولم نحسن الظن به يوماً واحداً.
والذين يظنون أن النظام الديمقراطي سيحكِّم لهم الإسلام يجهلون طبيعة النظام
الديمقراطي، أو يجهلون النظام الإسلامي، أو يستخفون بعقول الناس، والذين
يظنون بأن الإسلام قوانين تعدل، وتبقى أحزاب وتجمعات تعرب عن كفرها
بالإسلام، وتتربص به الدوائر، وتجاهر بذلك كله، فهؤلاء مفرطون في جهلهم،
وإذا أقيمت الحجة عليهم، وأصروا على مواقفهم السياسية فهم مبتدعون، نسأل الله
لهم الهداية والاستقامة.
وبعد:
هذه هي مشكلات السودان عرضناها باختصار.. ومع قناعتنا بأن وحدة جهود
العاملين للإسلام في هذا البلد الطيب سيكون لها أثر فعال لا يستهان به.. مع ذلك
فالمؤامرة أكبر من حجم وإمكانات دعاة الإسلام في السودان، ومن حقهم على
إخواننا المسلمين في العالم أن يمدوا لهم يد العون والمساعدة. والمساعدة ليست
قاصرة على المال، ولا نستهين بدور المال في مثل هذه المعركة، ولكن المساعدة
تتطلب وجود مؤسسات قوية تعمل في جنوب السودان وغربه، بل وفي جميع
أرجائه، فما من مكان في هذا البلد الكريم إلا وقد دخله المبشرون.. وهذه
المؤسسات يجب أن تشمل التعليم والعلاج الصحي والإغاثة، والأهم من ذلك كله
الحاجة إلى دعاة متفرغين ينشرون الإسلام بين القبائل الوثنية وبين المسلمين
الجهلاء..
وعلى العلماء ودعاة الإسلام أن يعقدوا المؤتمرات والندوات التي يفضحون
فيها مخططات الأمريكان والسوفييت والنصارى واليهود في السودان.. ويجب أن
تنبثق عن هذه المؤتمرات والندوات لجان تعمل وتنشط بصدق وأمانة وأن لا يكون
عملها دعاية لحزب من الأحزاب أو جهة من الجهات.
وأخيراً: لا ينقضي عجبنا من خوف حكومة الائتلاف من الحبشة مع أن
الحبشة عبارة عن جزيرة صغيرة في بحر متلاطم من المسلمين.. ولو كانت
المعركة إسلامية حقاً يقودها العلماء والدعاة المتجردون، وتحرك المسلمون في
البلدان المجاورة للسودان فقط كمصر، وليبيا، وتشاد، والصومال، وارتيريا،
والمسلمون في الحبشة نفسها.. لو كان الأمر كذلك لشعر الصليبيون بحقيقة حجمهم، وشعر أعداء الله كلهم بصغارهم وهوانهم.
والمجلة يسرها أن تتلقى المساعدات للمسلمين في السودان وفي شرق أفريقيا
كالصومال وارتيريا وأوغندا، كما يسرها أن تتعاون مع المخلصين لتحقيق الأهداف
الإسلامية المرجوة، والله ولي التوفيق.(8/78)
في الصومال ... مجاعة
الجارديان 0 1 / 7 / 1987م
ذكرت وكالات الغوث العالمية أن (200) ألف شخص في مناطق وسط الصومال باتوا في حاجة ملحة إلى مواد غذائية، حيث بلغ معدل الوفيات بين الأطفال في بعض القرى (15) طفلاً في اليوم الواحد.
وكانت أمطار غزيرة في أعقاب عامين من الجفاف قد أهلكت الكثير من الإبل والماعز والدواجن.
والمراسلون الصحفيون يحذرون من أن يتحول الصومال إلى أثيوبيا ثانية،
فالموت يحصد الألوف، والأحياء يعيشون حالة حرمان شديدة بسبب هلاك المواشي،
وازداد الأمر سوءاً بعد هطول الأمطار الغزيرة التي تسببت في تفشي الأوبئة التي
تنتقل بواسطة المياه.(8/85)
من أخبار المجاهدين الأفغان
احتدمت المعارك بين إخواننا المجاهدين الأفغان والعدو الشيوعي في 29
رمضان الماضي.. وشملت هذه المعارك منطقة [جاجي] ولاية بكتيا، ومنطقة
[جلال آباد] ولاية ننكرهار.
وكان العدو الشيوعي قد رمى بثقله في المعركة لأن قوافل إمدادات المجاهدين
تنطلق من هاتين المنطقتين، وأهم فترة يتم فيها الإرسال في فصل الصيف..
وبدأت المعركة بقصف مدفعي ثقيل وجوي عنيف تبعه إنزال قوات
(كوماندوس) مع تقدم أرضي، وتمكن العدو في البداية من احتلال بعض المواقع في
[جاجي] ، واستمات المجاهدون في مقاومة البلاشفة، ومعظمهم كانوا من الاتحاد-
السياف-، واستمرت المعركة حتى غاية 20 شوال الماضي حيث انسحب العدو
يجر أذيال الخيبة والهزيمة..
وكان المجاهدون يقاتلون بأسلحة عادية، ورغم قلة الزاد والعتاد فلقد أيدهم
الله- جلّ وعلا- بنصره.
أما معركة [ننكرهار] ، فقد استمرت خمسة أيام، وشارك فيها: الاتحاد -
السياف-، والحزب الإسلامي - حكمتيار-، والجمعية - رباني -، وجماعة
يونس خالص.. وهكذا تجلت وحدة فصائل المقاومة في هذه المعركة بشكل جيد؛
والحمد لله.
وكانت الإصابات التي ألحقها المجاهدون بالشيوعيين تزيد على [1500] ،
بين قتيل وجريح، وأسروا أكثر من [50] من جنود العدو، وأسقطوا عدداً من
طائرات السوفييت.. وكان من نتائج هذه المعارك سيطرة المجاهدين على بعض
النقاط من [بشاور] إلى المناطق الشرقية في أفغانستان.. وهذه نقاط إضافية، في
حين أراد العدو السيطرة على قوافل إمدادات المجاهدين في جاجي وننكرهار.
[ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] .
هذا ما علمناه عن المعارك الأخيرة، أما الصحف وأجهزة الإعلام الغربية:
فقد راحت تتحدث عن الدعم الأمريكي للمجاهدين الأفغان، وعن صواريخ (ستنجر)
وأنها سبب هذا الانتصار [ولمن شاء أن يقرأ: ما كتبته صحيفة (الهيرالدتربيون)
الأمريكية تاريخ 7 / 7 /1987، نقلاً عن الواشنطن بوست] .
والذي نعلمه علم اليقين أن مثل هذه الصواريخ لم يكن لها وجود في هذه
المعارك، بل قد كانت الأسلحة التي استخدمها المجاهدون عادية جداً، ومن جهة
أخرى فإن صواريخ [ستنجر] وغيرها من الأسلحة التي تعمل على الرادار
والكمبيوتر وما شابه ذلك تكون ناجحة في بدء استخدامها، وهذا النجاح يمكن أن
يستمر من أسبوع إلى بضعة أسابيع.. وخلال هذه الفترة الزمنية يكتشف العدو
ميزات السلاح وخصائصه ويكتشف ما يبطل مفعوله، والذين يملكون صاروخ
[ستنجر] صاروا يطلقون الصاروخ حتى يكاد يلامس الطائرة ثم ينحرف عنها بسبب
[التشويش] ، الذي ينبعث من الطائرة نفسها أو من طائرات [تشويش] تعمل في
سماء المعركة، وهذا ما حصل لصواريخ سام (6) بعد سبعة أيام من بداية حرب
تشرين عام 1973 م.
فليحذر القارئ الكريم من الصحف وأجهزة الإعلام الغربية، وليحذر أيضاً من
الصحف العربية التي تنقل عنها دون تثبت أو تمحيص، وليعلم أن جند الإسلام هم
الذين انتصروا في هذه المعارك وغيرها من المعارك الأخرى، وقد نصرهم الله -
جل وعلا -بفضله ثم بصدقهم وطلبهم الشهادة في سبيل الله.
وبعد هذه المعارك الطاحنة استدعى السوفييت عميلهم [عدو الله] ، الذي
أسماه أبوه نجيب الله، وبحث مع سيده [جورباتشوف] إمكانية التوصل إلى تسوية
للحرب الأفغانية التي ازدادت حدتها في الأشهر الأخيرة.
وأكد عدو الله مجدداً أنه على استعداد للتفاوض مع كل الفئات التي تريد
المصالحة، وقال: إنه على استعداد للاتصال بمؤيدي الملك ظاهر شاه الذي يقيم في
المنفى.
ورغم أن نجيب الله كان قد أعلن من جانبه وقفاً لإطلاق النار قبل ستة أشهر؛
فإن ناطقاً بلسان الخارجية السوفييتية اعترف في الأسبوع الماضي بأن الإصابات
بين الجنود السوفييت وجيش كابول ارتفعت خلال الآونة الأخيرة إثر تصعيد
المجاهدين الأفغان هجماتهم ضد الشيوعيين. [انظر صحيفة ذي إنديبندانت]
ترجمة الصحف العربية 22/7/1987.
ورفض أعوان ظاهر شاه خدعة عدو الله الجديدة، وأعلنوا أنهم لن يقبلوا
المشاركة في السلطة مع النظام الشيوعي [ومن بينهم مجددي وجيلاني] لأنهم
يعرفون بأن الشعب لن يسامحهم على اتخاذ مثل هذا الموقف، ولبعض أعوان الشاه
تجربة سابقة مع الشيوعيين، ويعرفون غدرهم ومكرهم وأنهم ينقلبون ضد أقرب
الناس إليهم.. ومن جهة أخرى: فلا تزال أمريكا غير مطمئنة إلى موقف السوفييت
من القضية الأفغانية.
أما إخواننا قادة المجاهدين الذين يحترمهم الأفغان ويثقون بهم: فمواقفهم ثابتة
والحمد لله، فالأخ الشيخ عبد رب الرسول السياف يرفض الحديث عن الحلول
السياسية ويقول لمن يسأله: نحن تركنا الكلام عن هذه الحلول لأصحابها، ويكفينا
الحديث عن الجبهات.
وقال أيضاً في رده على مبادرات الشيوعيين الجديدة: ليس من حق الأجانب
إعداد وثائق الأمة الأفغانية، ولن يقبل الشعب بأقل من إقامة دولة إسلامية في بلده.
وقال الأخ الأستاذ حكمتيار
في مقابلة له مع الإذاعة البريطانية عن مفاوضات [كاردويز] :
أولاً: أنا أرى أنها ضياع للوقت، والثاني: غير عادلة، والثالث: أن
المفاوضات غير مفيدة، والرابع: أنها ليست بين طرفين أصليين، والخامس: أنها
تسبب تعقيد القضية لا حلها.
نسأل الله لنا ولهم الثبات على الحق، وأن يرزقنا وإياهم الصبر على الابتلاء، فمهما اشتد الخطر وادَّلهم الظلام فالنصر آتٍ لا ريب فيه - إن شاء الله -.
[إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] .(8/86)
أفريقيا وإسرائيل مرة ثانية
أوردت جريدة الأندبندنت في 19 / 6 / 1987م نقلاً عن، وكالة الأسوشيتدبرس ... النبأ التالي:
ذكرت صحيفة (هاآرتس) : أن شركة صناعة الطائرات الإسرائيلية التي
تملكها الدولة ستقوم بفتح مركز للتدريب في نيجيريا على الرغم من القطيعة ...
الدبلوماسية بين هذه الدولة الأفريقية وإسرائيل منذ (14) عاماً.
ويقول التقرير: إن قائد القوات الجوية النيجيرية كان قد زار الجناح
الإسرائيلي في معرض باريس الجوى يوم 16 / 6 /1987م، فيما يبدو للترتيب
لفتح المركز، هذا ولم تعط الجريدة أية تفاصيل أخرى، فيما قامت شركة صناعة
الطائرات الإسرائيلية مؤخراً بنفي ما جاء بالتقرير.
ومما يذكر: أن روابط إسرائيل السرية مع دول أفريقيا السوداء كانت قد
شملت تدريب الحرس الرئاسي في زائير، وتزويد المغرب بالمعلومات في مجال
الاستخبارات، وكذلك إرسال الأسلحة إلى أثيوبيا.
وقد درجت إسرائيل على نفي هذه العلاقات تجنباً للإحراج الذي قد تسببه
للدول الأفريقية، إلا أن المسؤولين قد اعترفوا عبر قنوات خاصة أن الإيماءة إلى
هذه العلاقات قد تفتح الباب لعلاقات دبلوماسية مستقبلية.
هذا وكانت نيجيريا من بين تسعة وعشرين دولة تقطع علاقاتها الدبلوماسية
مع إسرائيل في أعقاب حرب الشرق الأوسط عام 1973م.
ولنا على هذا النبأ الملاحظات التالية:
إن التعاون الجديد المزمع البدء به بين الكيان اليهودي ودولة نيجيريا والذي
تحدثت عنه جريدة (هاآرتس) الصهيونية يعد إضافة جديدة إلى سجل التعاون الذي
سبق وأن شرعت به الدولتان منذ الأعوام التي تلت حرب عام 1973، وأن هذا
التعاون الذي يمثل طفرة أخرى تحققها إسرائيل في مسلسل مخططها الهادف إلى فك
عزلتها الدولية على وجه العموم، وتعميق تغلغلها في هذه القارة على وجه
الخصوص، ذلك المخطط الذي قطعت فيه إسرائيل شوطاً بعيداً يأتي متزامناً مع
اشتداد وطأة الهجمات التي تتعرض لها هذه القارة على يد الصليبية العالمية التي
أخذت في أيامنا هذه تلبس لبوس الإنسانية المتمثلة في مد يد العون والإغاثة إلى
بعض الشعوب المنكوبة في هذه القارة التي تعيش المحن تلو المحن وتئن تحت
وطأة النكبات، تلك المساعدات التي اتخذت أشكالاً شتى، من إغداق الأموال وبناء
المستشفيات وتوفير المواد الغذائية، كما أنه يأتي في وقت تكاد تخلو فيه هذه القارة
التي شكل المسلمون فيها نسبة لا يستهان بها من أي عمل إسلامي منظم بالمستوى
المطلوب يتناسب مع ما تحيكه أيادي الصليبيين واليهود وربيبتهم الشيوعية التي هي
الأخرى ماضية في مؤامراتها البشعة ضد شعوب هذه القارة.
إن إسرائيل التي تدرب الحرس الرئاسي في زائير ذات الولاء الغربي
وتتعاون مع دول أخرى غربية الولاء، هي ذاتها التي تزود النظام الدموي في
أديس أبابا ذا الولاء الماركسي (التقدمي) بالسلاح، كيف لا وهو الذي كان الأداة
الفعالة في عملية تهجير يهود الفلاشا في الماضي القريب، وهو اليوم أداة في تذبيح
أبناء شعبنا المسلم في أرتيريا، وليس هذا الذي تقوم به إسرائيل بغريب على من
اطلع على ماضي الشيوعيين ووعى حقيقتهم من خلال مواقفهم المخزية تجاه
شعوبهم وأوطانهم، فلطالما التقت مصالح اليهود مع الشيوعيين، لقد التقت عام
1948م عندما انحاز الشيوعيون إلى اليهود وأدانوا دخول الجيوش العربية إلى
فلسطين لمحاربة اليهود، وهكذا فإن إسرائيل لا ترى بداً من دعم أي نظام ماركسي
(تقدمي) كالذي في أثيوبيا، تجد فيه ضالتها كي تنال من أبناء المسلمين أينما حلّوا. ...
لم يعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين دولة وأخرى- لاسيما في حالاتٍ كتلك
التي مع إسرائيل - يمثّل مؤشراً على توقف التعامل بينهما، بل على العكس من ... ذلك، فكثيراً ما تكشف علائق حميمة ولقاءات وزيارات متبادلة، كانت في طي الكتمان، بين قادة دول لا يوجد بينها أي نوع من العلاقات الرسمية في الظاهر، بل القطيعة الكاملة وإشهار العداء أكثر بكثير مما عليه حال كثير من الدول التي تربطها علاقات دبلوماسية كاملة. فلم يعد (فَنُّ) قطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيضها سوى ستار يُسدل كلما دعت الحاجة، ليكون حاجباً بين الشعب وبين ما يرسم من سياسات ومخططات تخص تلك الدولة، حتى إذا ما نضج كل شيء رُفع الستار ليواجه الشعب ما فات الأوان لتداركه.
إن ما حققته إسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية - وما تحققه اليوم
أعظم- من أن يطرق عبر أسطر قليلة كهذه، ولقد سبق وأن تكلمنا في عدد سابق
عن التغلغل اليهودي في أفريقيا، وعن الأمر الذي بات ينذر بالخطر من جراء
شروع عدة من الدول الأفريقية، من بينها دول ذات أغلبية مسلمة، بإعادة العلاقات
الدبلوماسية مع إسرائيل، واليوم وبعد انقضاء أشهر معدودة على نشر ذلك المقال
تطالعنا كبريات الصحف بأنباء النجاح الذي حققته وتحققه إسرائيل في مجال كسب
أصدقاء لها في أفريقيا، لقد تمكنت إسرائيل من جر دول جديدة غير التي ذكرت في
المرة السابقة إلى صفها، فقد أعادت دولة (توغو) علاقاتها الدبلوماسية كاملة، في
حين باتت كل من غينيا الاستوائية والغابون على حافة إعادة تلك العلاقات. ويرى
المراقبون السياسيون في (سيراليون وأفريقيا الوسطى) مرشحين محتملين للحاق
بمن سبقهما. وكان إسحاق شامير (رئيس وزراء إسرائيل) حسبما أوردته جريدة
جروزاليم بوست، قد رد دعوة وجهت إليه لزيارة غينيا الاستوائية إبان جولته
الأفريقية احتجاجاً على عدم إعادة غينيا لعلاقاتها مع إسرائيل على الفور! [1] .
ومن المعلوم أن معظم الدول الأفريقية (سوى ثلاثة هي: ملاوي، ليسوتو،
وسوازيلاند) كانت قد اتخذت مواقف مؤيدة للدول العربية بشأن النزاع مع إسرائيل
لاسيما في أروقة الأمم المتحدة، وذلك في مقابل دعم الدول العربية لها ضد نظام
جنوب أفريقيا وحظر تصدير النفط له. وكان هذه الدول فعلاً قد تلقت مساعدات
مالية من الدول العربية بلغت ملايين الدولارات إبان فترة ارتفاع عوائد النفط،
وتستغل إسرائيل الظروف الراهنة على أتم وجه، فهي من جهة تستغل حالة التردي
الاقتصادي الذي عم أغلب الدول العربية لاسيما النفطية منها وعجزها عن مواصلة
دعمها لهذه الدول بالشكل الذي كانت عليه إبان ما يسمى بـ (طفرة البترول) ، فلم
يعد هناك ما يبرر بقاءها إلى جانب العرب، فقد انحلت الآصرة التي كانت تربط
الطرفين (الآصرة المالية) ، وهي من جهة ثانية تتمتع بما آلت إليه أحوال الدول
العربية من اضطرابات وفوضى وانقسامات في الآراء السياسية فيما يتعلق بمستقبل
العلاقات مع إسرائيل وطريقة التعايش معها، تلك الفوضى وذلك الانقسام المعلن
الذي وصل ذروته في أعقاب الزيارة التي قام بها الفرعون الصغير إلى فلسطين
المحتلة وما تلاها من لقاءات متبادلة معه معلنة وغير معلنة مع بعض العرب، في
ظروف كهذه وجدت إسرائيل ضالتها، فأخذت تتحرك في كل صوب وجهة من أجل
بلوغ مراميها، وبدأت إسرائيل تعرض خدماتها المختلفة لهذه الدول التي هي بأمسّ
الحاجة إليها، فتارة بعرض التكنولوجيا، وأخرى بالتعاون في المجال الأمني،
وثالثة في مجال الزراعة، وما إلى ذلك من أساليب الجذب والإغراء.
ولن تثار دهشتنا إذا ما علمنا أن دولة كنيجيريا ذات الغالبية المسلمة تستعين
بمئات من الخبراء اليهود الذين يقومون بأعمال الاستشارة والتدريب [2] . وعلى
الرغم من وجود هذا العدد الضخم من اليهود على أرضها فإن المراقبين الغربيين
يرون أنه من غير المرجح أن تُقدم نيجيريا على تجديد العلاقات مع إسرائيل رسمياً، وهي التي لم يمضِ على انضمامها إلى منظمة المؤتمر الإسلامي إلا فترة قصيرة، وهكذا يتعامل النظام في نيجيريا مَثَلُه مثل كثير من الأنظمة التي ابتليت بها
الشعوب الإسلامية دولياً بغير الوجه الذي يطل به على شعبه، ألا ما أحوج
المسلمين العاملين منهم على الساحة الإسلامية على وجه الخصوص اليوم أكثر من
أي وقت مضى للانتباه إلى ما يحاك ضدهم في الخفاء من أمور هي ألصق ما تكون
بمستقبل كيانهم، بل وبوجودهم، ألا يُعد عمل كهذا حراسة في سبيل الله وحفاظاً
على ممتلكات المسلمين من أن تؤول إلى أيادي المجرمين؟ ! بلى والله. إن على
المسلمين أن يَرْقَوا بأفكارهم وبتقويمهم لمكر أعدائهم، وأن يكونوا بمستوى الكمائن
والمكائد المعدة لهم.
__________
(1) جريدة الأندبندنت 23 / 6 /1987م.
(2) الأندبندنت 23 / 6 / 1987م.(8/89)
جديد ... قبل نصف قرن
لندن في 1937م
دولتان جديدتان ستظهران على خارطة العالم في غضون سنتين، وذلك فيما
إذا تم تبنّي الاقتراحات المقدمة في الهيئة الملكية التي تعني بشؤون فلسطين، والتي
كانت قد نشرت تقريرها هنا (في لندن) في 7/7/1937، وبموجب الخطة التي
أعدتها الهيئة فإن الانتداب البريطاني سينقسم إلى دولتين مستقلتين: إحداها يهودية
ممتدة على طول الساحل الفلسطيني، وأخرى عربية في المناطق الداخلية. وستتم
إقامة مثلث بين الدولتين يتخذ شكل استمرار الانتداب البريطاني للمدن الفلسطينية
(القدس، الناصرة، بيت لحم) ، وكذلك الشريط الضيق الذي تمتد عليه هذه المدن
والذي يمتد من القدس وحتى يافا.
وقد أخرت الحكومة البريطانية الخطة وأوعزت إلى بعض سفنها الحربية [هود وريبلسي] إلى التوجه من مالطة إلى حيفا تحسباً لأي قلاقل.
هيرالدتربيون 8 / 7 /1987 م
قبل نصف قرن من الآن، وبالتحديد في 7/7/1937 م انتهت الهيئة الملكية
البريطانية من مسودة خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداها عربية والأخرى
يهودية، على أن تظهر هاتان الدولتان إلى حيز الوجود في غضون سنتين من
التاريخ المبين، وذلك في حالة تبني الخطة. وقد وافقت الحكومة البريطانية حينئذ
على تبني خطة التقسيم (وكانت قد تعهدت من قبل في 1917م على لسان وزير
خارجيتها بلفور على إنشاء وطن قومي لليهود) وأوعزت إلى بعض سفنها الحربية
للإبحار من مالطة إلى حيفا تحسباً لوقوع بعض القلاقل والاضطرابات من جانب
العرب احتجاجاً على هذا القرار.
هذه مجرد إشارة عابرة إلى واقعة من وقائع تاريخ العلاقات البريطانية العربية
الحالك السواد، والتي كانت محكومة بتجاهل العرب وحقوقهم من قبل الإنكليز،
وبالنظرة الاستعمارية المتغطرسة ذات الوجهين: وجه التملق والمخادعة الذي
تتعامل به مع المسؤولين، ووجه البطش والإرهاب الذي تكبت به صوت الشعوب
التي تود التعبير عن حقوقها.
ولكن كل ذلك معروف ومفهوم، فليس لنا أن نلوم العدو أن يكون عدواً، ولا
صاحب المصلحة أن يحتال لتحقيق مصالحه الخاصة؛ ولكن غير المفهوم هو
تسابقنا نحن العرب إلى خطب مودة هذه الدولة العريقة في صناعة المشاكل وإنتاج
الآلام لأغلب شعوب الأرض، ورجاؤنا لها كي تساعدنا وتقف إلى جانبنا لتحصيل
حقوقنا الضائعة، مع أن كل حيثيات الماضي والحاضر تدلنا على أننا نعتمد على
أوهام، ونركن في إرواء عطشنا إلى سراب.
وشتان بين موقفنا الدائم من بريطانيا وبين موقف اليهود من ألمانيا التي
أرغموها على أن تظل رهينة دعايتهم وابتزازهم، وعلى الرغم من تعويضها لهم
بالأسلحة والأموال إلا أنه يبدو أنه لا ألمانيا ستقف عن دعم اليهود، ولا هؤلاء
يشعرون أن ما قدمته وتقدمه لهم ألمانيا كافٍ للتكفير عن جرائمها المزعومة! .
فأين قادة من قادة؟ ! وأين مواقف من مواقف؟ ! .(8/93)
الحضارة المعاصرة ... الوجه الآخر
الانتحار
إعداد: ضيف الله الضعيان
قد يعجب القارئ من طرقنا لمثل هذه الموضوعات، وقد يظن ظانٌ أو يتوهم
متوهمٌ أن هذا ضربٌ من التكلف في نقد الحضارة الغربية وشيء من المبالغة في
إبراز الوجه الآخر لهذه الحضارة ... خصوصاً وأن كثيراً من بلدان المسلمين لا
تخلو من كثير من هذه الظواهر أو المظاهر ...
ونقول للأخ القارئ: إن الأمر ليس كذلك لسببين:
الأول: إنه وإن وجدت مثل هذه الآفات والأمراض الاجتماعية في بعض
مجتمعاتنا الإسلامية، إلا أنها لاتصل إلى حد الظاهرة العامة كما هي الحال في
مجتمعات الحضارة المعاصرة ... وعلى الأخ القارئ أن يقارن كل ما سبق مناقشته
من تلك الظواهر في المجتمعات الغربية بمثيلاتها في مجتمعات المسلمين كي يرى
الفارق في ذلك.
الثاني: إنه رغم ما بيَّناه في الفقرة السابقة من تباين حجم المشكلة، إلا أن
وجود هذه الأمراض الاجتماعية وغير الاجتماعية في بلادنا ومجتمعاتنا إنما هو في
الأصل نتاج وإفراز من إفرازات هذه الحضارة، انعكس على مجتمعاتنا الإسلامية
نتيجة الهجمة الاستعمارية الشرسة التي مارسها ويمارسها الغرب بجميع أشكالها
وفنونها.
فالهدف إذن: بيان الوجه الخفي من هذه الحضارة لمجتمعاتنا، والذي نراه
ويراه العقلاء من أبنائها سبباً رئيساً في إفلاسها ومؤشراً واضحاً على بداية نهايتها
وانهيارها.
وهي أيضاً إشارات تحذيرية نضعها على طريق شعوبنا اللاهثة خلف كل ما
هو غربي، علّها تقف عندها متأملةً.. لتعي وتدرك ما تأخذ وما تدع من هذه
الحضارة ...
ذكرنا في حلقات سابقة من هذه الزاوية أمثلة حية مما تعانيه المجتمعات
الغربية المعاصرة من أمراض اجتماعية وصحية واقتصادية؛ وغيرها كنتاج سلبي
لمعطيات الحضارة المادية التي تعيشها تلك المجتمعات، فتناول الخمور والمخدرات
وما ينبني عليه من آثار، جاء نتيجة محاولة ردِّ الاعتبار والبحث عن السعادة
بالهرب من الواقع المرّ..
ومرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وغيره من الأمراض الفتاكة هو
النتاج الطبيعي للفوضى الجنسية والأخلاقية.. والاعتداءات الجسمية والجنسية على
الأطفال أثر من آثار التحلل الاجتماعي والتفكك الأسري..
وحديثنا في هذه الحلقة عن: ظاهرة (الانتحار) في المجتمعات المتحضرة
والتي هي الغاية في الهرب من جحيم تلك الحضارة وويلاتها ... حيث بلغت حداً
من الانتشار، حتى أصبحت في رأي علماء النفس والاجتماع صرعة غربية..
فالواقع السريع للتطور التكنولوجي المتلاحق، والاتجاه الشرس نحو المادية
المفرطة، وتفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية والأسرية أوجد إحساساً بالضياع،
وأوجد أزمة هوية لدى الشباب والمراهقين في بلاد الغرب التي أصبحت مهددة
بانهيار نفسي وجماهيري ...
هذا الإحساس بالضياع الذي يعيشه مراهقو الغرب أوجد نزعة نحو التخلص
من مشاكل الحياة المادية باللجوء إلى الانتحار ... فقد أجرت (مجلة المراهق)
الأمريكية مسحاً بين عينة من الصبية والفتيات في فئة السن بين 15 و 19 عاماً
لاستطلاع مشاعرهم تجاه ظاهرة الانتحار المتزايد في المجتمع الأمريكي.. المسح
الذي شارك فيه أكثر من (500) صبي وفتاة جاء بنتائج مفزعة تقول:
إن الثلث ممن وجِّهت إليهم الأسئلة حاولوا فعلاً التخلص من حياتهم بعد أن
استسلموا لليأس والقنوط، ولقد رُوعي في تكوين واختيار تلك العينة أن تكون ممثلةً
لواقع المجتمع الأمريكي بجميع طبقاته.. وينتهي المسح أيضاً إلى أن 73% من
الشباب والمراهقين فكَّروا في الإقدام على الانتحار مرة أو أكثر خلال حياتهم..
ويشير الاستطلاع إلى ظاهرة خطيرة أخرى ... وهي: أن غالبية من حاولوا
الانتحار هم من الفتيات في أخطر مراحل العمر وأحوجها إلى الجو النفسي الأسري
عند رفضها أو عجزها عن دفع تكاليف سكنها ومعيشتها! ! .
يُنْشَرُ هذا الاستطلاع في وقت ينعق فيه أدعياء تحرير المرأة المسلمة!!
ليخرجوها من عش وجو الأسرة الآمن إلى حيثُ القلق والاضطراب النفسي
والأخلاقي..
أما عن أسباب الانتحار: فهي عديدة ومتنوعة، وأكثرها شيوعاً حسب ما
كشفت عنه الإجابات هو: صراع الجيلين، أي: الخلاف بين المراهق ووالديه،
ولاسيما وأن الأب ينتمي إلى عهد كان أقلَّ شراسة في ماديته.. وثمة دوافع أخرى
في رأي المراهقين، إذ يقول من أُجري عليهم المسح: أن الإحساس بالوحدة يدفع
إلى التفكير في الانتحار، وكذلك الانزعاج والاستياء من المظهر الشخصي للمرء
يُزَهِّده في حياته، وخلافه مع صديقه أو صديقته يجعله يريد أن يبرح الدنيا.. ومما
يزيد الطين بِلَّةً أن الشخصية الانتحارية لا تجد من تفض إليه بمكنوناتها لحين تزول
الغُمة وتنفرج الأسارير ... وفي ذلك تقول نتائج المسح: أن ربع من فكروا أو
أقدموا على الانتحار فعلوا ذلك بعد أن خاب أملهم في وجود من يُسرون إليه
بمعاناتهم [1] .
وفي اليابان حيث التقدم الصناعي والقفزات المادية السريعة: أفاد تقرير
رسمي نشر بتاريخ 12/2/1987م أن 802 من الشباب الياباني المراهق قد
انتحروا في العام الماضي، مما يشكل زيادةً بواقع 44% عن العام الذي سبقه، ...
وقال تقرير وكالة الشرطة القومية: أن 299 فتاة قد انتحرت خلال عام 1986م،
وذلك بزيادة 9. 6% سجلت أعلى رقم قياسي.
وذكر التقرير: أن مشاكل المدارس كانت حافزاً لانتحار 207 شاب، تليها
المشاكل العائلية التي أودت بحياة 107 أشخاص، والمشاكل الغرامية التي ذهب
ضحيتها أكثر من 90 شخصاً [2] .
وإذا كان وباء العصر (الإيدز) يقضي على مئات الأشخاص كل سنة في
المجتمعات الأمريكية والأوربية، فإن من المصابين به من يفضل أن يموت ... بيده لا بيد فيروس المرض؛ احتجاجاً على إصابته به، فيقدم على الانتحار، ... كما أقدم عليه زوجان إيطاليان بأن أطلقا على نفسيهما النار بعد أن أوصيا ... برعاية ابنهما الوحيد [3] .
وإن كان بعض ما تقدم من حالات أو محاولات الانتحار يبدو له ما يبرره على
مستوى العقلية المادية على الأقل، فإن كثيراً من ممارسي هذه الظاهرة قد قضوا
نحبهم لأسباب تبدو تافهةً أو مضحكة في نظر من أُوتي عقلاً وإيماناً..
* ففي تقرير حوادث الانتحار اليابانية -سابق الذكر-: تعتقد الشرطة أن
الزيادة الحادة في إقدام الفتيات على الانتحار جاءت بعد انتحار المغنية الشهيرة
(يوكيكو أوكادا 18 عاماً) ، التي قفزت من أعلى مبنى شاهق في طوكيو في إبريل
1986م [4] .
* وأقدمت الأم البريطانية على الانتحار بعدما فشلت في العثور على دواء
يضع حداً لتساقط شعرها، مخلفةً وراءها ثلاثة أولادٍ عن عمر يبلغ 43 عاماً [5] .
* وانتحر الأب الإنكليزي ذو الخمسين عاماً بسبب مضايقات حماته، بعد أن
نفَّذ مذبحة في أسرته ضمَّنها العجوز التي كانت سبباً في انتحاره [6] .
* وأن آخر يقذف بنفسه وطفله من الطابق التاسع عشر احتجاجاً على حكم
المحكمة بضم الابن لصالح الأم المطلقة [7] .
* وأخرى تقرر مفارقة الحياة بسبب مرض جلدي في وجهها [8] .
إلى آخر ما هنالك من الحالات الفردية التي فارقت الحياة لأتفه الأسباب ...
وما سياقنا لمثل هذه الحالات إلا ليتعرف القارئ المسلم عن كثب على ما
تعيشه الشعوب الغربية من قلق واضطراب نفسيين، وخواء روحي، وضيقِ أفقٍ
نتيجة البعد عن منهج الله، والنظرة المادية القاصرة للكون والحياة.
__________
(1) صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 22 / 4 / 1987م.
(2) صحيفة الجارديان بتاريخ 20 / 12 / 1986م.
(3) الشرق الأوسط بتاريخ 5 / 2 / 1987م.
(4) القبس 13 / 2 / 1987م.
(5) القبس 19 / 9 / 1986م.
(6) الشرق الأوسط 13 / 5 / 1987م.
(7) الشرق الأوسط 22 / 4 / 1987م.
(8) الشرق الأوسط 30 / 6 / 1987م.(8/95)
بريد القراء
ردود
وكتب الأخ سعد بن حمود العرموش، من الرياض - السعودية، الرسالة التالية،
ننشرها لأهميتها.
أخي الفاضل مدير تحرير مجلة (البيان) المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على بعض أعداد مجلتكم، بل مجلتنا الحبيبة (البيان) ، وقد
سررت أعظم السرور عند قراءتها، ولكن الطريقة التي تعرفت بها على المجلة
كانت عن طريق الصدفة أو القدَر على الأصح.
فقد دخلت ذات يوم مع زميل لي مكتبة قريبة من منزلنا، فوجدت وعلى غيرالمعتاد أربعة أعداد من مجلة تحمل اسم (البيان) كانت موضوعة فوق ... طاولة المحاسب عند مدخل المكتبة، ربما ليتعرف عليها كل من يدخل، لا أدري لم أعرها وزميلي أي اهتمام، ربما لكثرة المجلات والصحف والنشرات التي تغص
بها جنبات كل مكتبة وليس فيها من المفيد إلا القليل.
وأثناء الدفع أخذت أقلب صفحات أحد الأعداد، قرأت صفحة العنوان،
أعجبني الاسم، عرفت هوية المجلة ومصدرها، وعرفت أن لها توجهاً إسلامياً؛
فتساءلت يا ترى:
- هل هي مثل كل المجلات الإسلامية في وقتنا الحاضر -أو قل: أغلبها-
ذات ميول مذهبية أو حزبية؟ وهل هي لسان لنظام من الأنظمة التي تكاد تكون
أكثر من تابعيها؟ .
- وهل تعتمد على مبدأ الثورية والحركية العمياء دون تأسيس أو تأصيل في
النفوس، ودون زرع لمبادئ الدين الحنيف في نفوس القراء، ثم تعاهد هذا الزرع
ورعايته؟ .
- هل هي ذات هدف مادي بحت؛ فتعتمد على حشد الأوراق المسودة ببعض
الحبر على شكل أسطر للقراءة، دون نظر إلى المادة والمضمون؟ .
- هل تشد القارئ وتغوص به في بحر مشكلاتنا المعاصرة، أم أنها تركز
على الجانب المعرفي فقط؟ .
كل هذه التساؤلات خطرت ببالي خلال أقل من دقيقة، فأخذت أبحث عن
الجواب من خلال صفحات أحد الأعداد الموجودة أمامي. كانت الأعداد من الثاني
إلى الخامس (أي: أربعة أعداد فقط) ، فوقعت يدي على العدد الثالث، فتحت
صفحة المحتوى فوقعت عيني على ما أثلج صدري:
- منهجُ المجلةِ منهجُ أهل السنة والجماعة، والحمد لله. ونِعم المنهج هو.
كيف لا وهو منهجٌ معِينه الذي لا ينضب: الكتاب والسنة وأقوال علماء السلف.
-خطُّها في سبيل الدعوة: خطُّ السلف: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ] الآية. [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] .
-مبدأها في النقد: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله. قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
-وفي التجريح: [لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَن ظُلِمَ] .
إخواني القائمين على مجلة (البيان) :
مجلتكم متميزة، ونزيهة جداً، ومحتواها ممتاز جداً، ولكن لي بعض
الملاحظات التي أحب أن أُبديها، وهي صغيرة جداً ولا تقلل من قيمة هذا الجهد
الجبار الذي أخرج لنا هذه المجلة الفتية، وربما تكون بعض هذه الملاحظات
اقتراحات، وأرجو أن تتقبلوها بصدرٍ رحب.
- الإخراج: إخراج المجلة يجب أن يكون أفضل مما هو عليه الآن، فالأولى
أن تشتمل المجلة على فواصل زخرفية وعلى عناوين كبيرة نسبياً.
- يلاحظ أن (البيان) لا تخاطب فئة معينة من المسلمين هم الفئة المثقفة، أو ...
قل: من هم فوق سن العشرين من الشباب الجادّين، وأقول: (الجادّين) لأن هناك
فئة ونوع من الشباب لا يقبل المواد جافة هكذا، لابد من عنصر مشوق في المجلة
يجذب إليها جميع فئات المجتمع المسلم. إذاً فلابد من وجود أبواب متميزة للمرأة
المسلمة المستهدفة من جميع أعداء الإسلام. ولا تكون أبواب المرأة على غرار
المجلات الأخرى أبواب ركيكة ورتيبة. بل تكون جامعة بين الجد والتشويق
والتوجيه.
- وكذلك أرى أن توجِّه المجلة بعض صفحاتها لتوجيه الطفل المسلم، جامعةً
بين عناصر التشويق والبساطة المفيدة. كأن تعتمد على الأسلوب القصصي المباشر، وغير ذلك من الأساليب التي لا نشك أنكم تعرفونها جيداً.
- لم تعرض المجلة من خلال القسم المتعلق بشؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
في أعدادها السابقة إلى أي إشارة أو تحليل أو خبر عن إخواننا المستضعفين في
جمهوريات السوفييت الجنوبية المسلمة. ولا إخواننا المضطهدين في أوربا الشرقية
[يوغسلافيا - المجر - بلغاريا ... ] .
وهذان الجزءان العزيزان من وطننا الإسلامي يهمنا جداً معرفة أخبارهم
وأحوالهم ومشكلاتهم، ولكننا لم نتمكن من ذلك بسبب الهوة الإعلامية السحيقة التي
تفصل بيننا وبينهم، فإعلامنا المحلي مقاطعٌ لكل ما هو شرقي، اللهم إلا بعض
الأخبار القصيرة بين الفينة والفينة، مما لا يفي بالغرض المطلوب.
لذلك نرجو من مجلتنا (البيان) متابعة أحوال أهل قبلتنا وإخواننا في هذه
البقاع بخاصة، وجميع بقاع الأرض عامة، متابعةً دقيقة ومتواصلة. يقول قدوة
أهل القبلة: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) .
- كثير من كتاب (البيان) الأفاضل لا نعرف عنهم شيئاً سوى أسمائهم ,
ونتعرف على شخصياتهم من خلال كتاباتهم فقط. حبذا لو وُضع تعريف موجز
بكاتب كل مقال بجانب ذلك المقال، ولا يستمر ذلك فترة طويلة؛ حتى نتعرف على
كتَّابنا؛ وتتقارب قلوبنا أكثر وأكثر، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف
وما تناكر منها اختلف.
- تطول مدة انتظارنا للعدد الجديد. فحبذا لو قلصت الفترة بين العدد والذي
يليه، فلو كانت (البيان) أسبوعية، فهذه أمنيّة، ولو كانت نصف شهرية فهي منّا
بالقبول حَرِيّة، وإن أصبحت شهرية فسيطول شوقنا إلى مشُوقتنا. وإن لم يتأتّى
شيء من ذلك فسنتحمل كونها تصدر كل شهرين، وذلك تقديراً منا لظروف إخواننا
القائمين على (البيان) - أعانهم الله-.
بعد قراءتي للأعداد الأربعة الماضية عزمت على الكتابة إليكم وطلب
الاشتراك في هذه المجلة التي نحسبها- إن شاء الله- ستكون درّة المجلات الإسلامية. ولكني فوجئت بعدم تحديد رسوم الاشتراك، وعلمت من خلال ردود بريد القراء
(العدد الرابع) أن هناك مشكلة في عملية الشحن ومع الموزعين، أرجو من الله أن
يساعدكم على تخطي هذه العقبات.
كما فوجئت باختلاف سعر النسخة من عدد إلى عدد، وهذا ما لم نعهده في
أي مجلة، أرجو أيضاً أن يتم تلافي ذلك مستقبلاً- إن شاء الله-.
وختاماً أرجو أن تتقبلوا هذه الملاحظات الصغيرة بصدر واسع رحب، وكما
قدمت فهذه الملاحظات لا تقلل أبداً من قيمة جهدكم الكبير بل هي من باب التناصح
وإهداء العيوب. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير، وسدَّد على طريق الحق خطاكم،
إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم / سعد بن حمود بن سعد العرموش
المجلة
ملحوظاتك يا أخ سعد موضع اهتمام المجلة.. ومخاطبة الناشئة والمرأة
ندرسه بعناية من قبل صدور العدد الأول من (البيان) ، وتحديد قيمة الاشتراك
تجده في موضع آخر من هذا العدد.. والقائمون يحرصون أشد الحرص على أن
تكون المجلة شهرية، ولعلنا نوفق إلى تحقيق هذه الرغبة قريباً إن شاء الله. أما
الإخراج فنظن أن فيه بعض التحسن الذي يتناسب مع موضوع هذه المجلة وأهدافها.. ونرجو أن تتحفنا دوماً برسائلك القيمة، وفقنا الله وإياك لكل خير.
ومن الأخ الفاضل أبي بلال - صنعاء -وردتنا الرسالة التالية:
الأخوة الأفاضل: أسرة تحرير البيان المكرمون.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فأحب أن أوجه إليكم جزيل الشكر، وخالص الحب والود، لما تبذلونه من
جهد في تحرير (البيان) ، وفي التحسين المستمر الذي نلمسه عدداً بعد عدد، وقد ...
سرني أن أرى التوجه الجاد لإخراج (البيان) إلى القراء المسلمين، باعتبارها
مجلة كل مسلم يعتز بالسنة ويسعى للجماعة، وباعتبارها مجلة لتبصير كل مسلم،
من أهل السنة، ومن غيرهم، ولدعوة كل مسلم يحب السنة إلى نهج السنة،
وسلوك طريق الإصلاح والتأليف، دون إثارة الضغائن، أو تحريك الكوامن.
ودون أن تخص باهتمامها طائفة من المسلمين دون غيرهم، أو تكون لساناً لبعضهم، بل هي لسان الحق الذي ينتسب إليه المسلمون كلهم، إليه تدعو، ومعه تدور
حيث دار.
ومما أحب تذكير الاخوة أسرة تحرير (البيان) به:
1 -الاهتمام بدعوة كل مسلم إلى منهج السنة والجماعة، ومخاطبة قلوب
المسلمين وعقولهم بكلمة الحق، وبيانه لهم، وتعريفهم به عن كثب.
2 -تشجيع الأبحاث والمقالات التي تهتم بترجمة المبادئ والأصول،
وتحويلها إلى برامج عملية قابلة للتجسيد الواقعي والحركة الفعلية، وذلك كخطوة
أولية للخروج من دائرة الطرح النظري أو الجدلي في كثير من الأحيان، ومن أجل
الإسهام في تأصيل الحركة الإسلامية ودفعها وترشيدها.
3 -الاهتمام بإيجاد منظور منهجي متكامل للحركة الإسلامية عموماً، يقوم
على العقيدة الصحيحة، وينطلق من الأصول التشريعية، والخصائص الحضارية
للإسلام.
4 -العمل على استيعاب كافة الاهتمامات والميول المشروعة لدى مختلف
النوعيات التي تريد المجلة إسماعها صوتها، والتحاور والتخاطب معها.
5 -إحياء الوعي لدى جمهور المسلمين، والتأكيد على ارتباط النتيجة بالسبب
ارتباطاً سننياً ثابتاً. وأن مسألة نهوض الأمة ليست مرتبطة بالانتماءات أو الأماني، بل ترجع إلى حسن الفهم وجدية العمل.
ثم أسأل الله لي وللمسلمين، أن يبصرنا ويؤتينا رشدنا، وأن يثبت أقدامنا،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المجلة
جزى الله الأخ أبا بلال كل خير على نصائحه القيمة وعواطفه الطيبة نحو
المجلة.. ومعذرة على ما حذفنا من رسالته لأننا لا نريد الردود وما تجر من سلبيات.. ومع ذلك فنحن نقدر للأخ بُعد نظرته.. ونرجو أن لا يبخل على المجلة بقلمه الطيب؛ فهو من أصحابها، ونود أن يلاحظ أهداف المجلة في كل ما يكتب، والله الموفق.(8/100)
ومن الأخ الفاضل أبي بلال - صنعاء -وردتنا الرسالة التالية:
الأخوة الأفاضل: أسرة تحرير البيان المكرمون.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فأحب أن أوجه إليكم جزيل الشكر، وخالص الحب والود، لما تبذلونه من
جهد في تحرير (البيان) ، وفي التحسين المستمر الذي نلمسه عدداً بعد عدد، وقد
سرني أن أرى التوجه الجاد لإخراج (البيان) إلى القراء المسلمين، باعتبارها مجلة ...
كل مسلم يعتز بالسنة ويسعى للجماعة، وباعتبارها مجلة لتبصير كل مسلم، من
أهل السنة، ومن غيرهم، ولدعوة كل مسلم يحب السنة إلى نهج السنة، وسلوك
طريق الإصلاح والتأليف، دون إثارة الضغائن، أو تحريك الكوامن. ودون أن
تخص باهتمامها طائفة من المسلمين دون غيرهم، أو تكون لساناً لبعضهم، بل هي
لسان الحق الذي ينتسب إليه المسلمون كلهم، إليه تدعو، ومعه تدور حيث دار.
ومما أحب تذكير الاخوة أسرة تحرير (البيان) به:
1 -الاهتمام بدعوة كل مسلم إلى منهج السنة والجماعة، ومخاطبة قلوب
المسلمين وعقولهم بكلمة الحق، وبيانه لهم، وتعريفهم به عن كثب.
2 -تشجيع الأبحاث والمقالات التي تهتم بترجمة المبادئ والأصول، وتحويلها
إلى برامج عملية قابلة للتجسيد الواقعي والحركة الفعلية، وذلك كخطوة أولية
للخروج من دائرة الطرح النظري أو الجدلي في كثير من الأحيان، ومن أجل
الإسهام في تأصيل الحركة الإسلامية ودفعها وترشيدها.
3 -الاهتمام بإيجاد منظور منهجي متكامل للحركة الإسلامية عموماً، يقوم
على العقيدة الصحيحة، وينطلق من الأصول التشريعية، والخصائص الحضارية
للإسلام.
4 -العمل على استيعاب كافة الاهتمامات والميول المشروعة لدى مختلف
النوعيات التي تريد المجلة إسماعها صوتها، والتحاور والتخاطب معها.
5 -إحياء الوعي لدى جمهور المسلمين، والتأكيد على ارتباط النتيجة بالسبب
ارتباطاً سننياً ثابتاً. وأن مسألة نهوض الأمة ليست مرتبطة بالانتماءات أو الأماني،
بل ترجع إلى حسن الفهم وجدية العمل.
ثم أسأل الله لي وللمسلمين، أن يبصرنا ويؤتينا رشدنا، وأن يثبت أقدامنا،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المجلة
جزى الله الأخ أبا بلال كل خير على نصائحه القيمة وعواطفه الطيبة نحو
المجلة.. ومعذرة على ما حذفنا من رسالته لأننا لا نريد الردود وما تجر من سلبيات.. ومع ذلك فنحن نقدر للأخ بُعد نظرته.. ونرجو أن لا يبخل على المجلة بقلمه
الطيب؛ فهو من أصحابها، ونود أن يلاحظ أهداف المجلة في كل ما يكتب، والله
الموفق.(8/104)
بأقلام القراء
الأُخوَّة
عبد العزير الشرقي _ بريطانيا
إن الأخوة في الله منزلة عظيمة تصفي النفوس، وتجمع القلوب، وعلى علو
مكانتها لم يزل الأدعياء يحكون المحبة في الله وإنما هي محبة في الشيطان، وإلا
فكيف تكون محبة في الله وليس فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟ ! .
لقد خاب قوم وخسروا، ظنوا أن مجرد الميل القلبي لأحد من الناس علامة
الأخوة في الله، وضل آخرون أرادوا بزعمهم أن يخرجوا المحبة من العبادات،
ويجعلوها مجردة، يريدونها محبة قائمة بذاتها، لا ترتبط بروابط، ولا تحكمها قيود.
وغالب من ترى ممن يتحدث عن الحب ومعانيه، إنما ينطلقون من هذا
المنطلق، ولما ضاق عليهم الأمر بعد أن كان رحباً، قصروا الحب على العلاقة
الجنسية بين الرجل والمرأة، وضاق الحب بمعانيه السامية الشمولية والواسعة التي
تملأ ما بين السماء والأرض، وأصبح لا يسع إلا أربعة أمتار مربعة تلك هي
مساحة الفراش! .
وكان الإعلام الخبيث المُوجَّه لهدم دين هذه الأمة هو الذي تولى كبر هذه
الخطيئة. وإذا أردت أن تعرف مبلغ الرزيّة فسل أحد الناشئة ممن رباهم الإعلام
الخبيث، سله ما هو الحب كما تتخيله؟ سوف تسمع كلاماً مخجلاً. وهل على هذا
الناشىء من تثريب، وهو يشاهد في الرائي يومياً أن الحب علاقة بين الذكر
والأنثى تؤدي مهما تعددت الطرق إلى الفراش؟ ، وتسمع بعد ذلك من يقول: إن
الرائي يرشد الأمة إلى الفضيلة! نعم، يعنون بالفضيلة: كل ما يأتي من الغرب
الفاجر المتحلل، ويعنون بالتخلف والرجعية: كل ما ورثوه من آبائهم وأسلافهم من
دين وثقافة وتراث.
أبَعد ذلك نطمع أن نُنصر على عدونا؟ ، أو أن يكشف ما بنا إذا كان من
عمّدوه على أدبنا يقول: لابد أن نتبع الغرب بخيره وشره، بحلوه ومره، فإن
الخير كل الخير في الغرب، والشر كل الشر في الشرق؟ ، فماذا نتوقع؟ .
وهذه قِرَدَتُنَا! اتبعت الغرب في كل شيء إلا ما ينفع، وتخلت عن موروثاتها
إلا ما يضر. كلٌ يدعو للإصلاح، وكلٌ يريد التغيير، ولكن الخلاف. أي حال
نريدها ونسعى إليها؟ .
هل هي مزيدٌ من التحرر والانطلاق في ركب الحضارة الذي سبقنا بقرون،
أم العودة إلى ديننا والتمسك به؟ ، بمعنى آخر؛ الذوبان أو التفرد؟ ، التبعية أم
القيادة؟ .
أي حال نريد؟ وايم الحق لئن اتبعنا الغرب وأعرضنا عن ديننا إننا إذاً
لخاسرون! .
ما قامت أمة إلا على عزة بنفسها، أما نحن فتركنا سبب عزتنا وابتغينا العزة
عند أعدائنا. نستقي من أعدائنا مناهج التربية والتعليم والإعلام.(8/106)
ربيع الآخر - 1408هـ
ديسمبر - 1987م
(السنة: 2)(9/)
الافتتاحية
نحن أسرى المصطلحات الغريبة
التحرير
أقول: نحن أسرى المصطلحات الغريبة، وليس (الغربية) ، فليس الغرب
هو الذي يؤثر في ثقافتنا الحديثة عن طريق تثبيت مفاهيمه، بل الشرق كذلك، هذا
مع اعتبارنا أن الثقافة الغربية والثقافة الشرقية (ونعني بها: الفكر الماركسي
والاشتراكي السائد في دول أوربا الشرقية وروسيا ومن يدور في فلكها) وجهان
لموروث واحد.
إن الغزو الثقافي أخطر أنواع الغزو والسيطرة، فهو ببساطة يجعل المغزو
يتحرك وينشط بعيداً عن هيمنة الأساطيل والأسلحة المنظورة، ظاناً أنه يتحرك
مستقلاً حراً مالكاً زمام أمره، ولكنه في حقيقة أمره مسلوب الإرادة، مسخر نشاطه
وجهوده من أجل الأرض التي أنبتت الثقافة التي تثير إعجابه، فيرفع لواءها،
ويسير في ظلها، وقد يموت ويميت جموعاً لا تحصى في سبيل ذلك. وسواء علينا: أعَلِمَ بذلك أم لم يعلم.
ومن أشد العناصر الثقافية أثراً وفتكاً في ثقافات -الشعوب قضية (المصطلحات) .
فالمصطلح كلمة، أو كلمتان، أو ثلاث كلمات، وقد لا تتعدى ذلك إلا في
حالات نادرة، ولكن هذه الكلمة قادرة على أن تفرغ العقول والقلوب وتملأها، ولها
مفعول السحر الذي يستعصى فهمه على المنطق وقوانين العقل. وغالباً ما تكون
بعيدة عن المحاكمات المحددة، ملتبسة بأثر العواطف والغرائز، وتكتسب -من
خلال استعمالها بين شعب وشعب، وظرف وظرف- ظلالاً، ويصبح لها في
مسيرها تضاريس ناتئة، وانهدامات غائرة، وتنعكس عليها آثار النفوس من حقد
وحسد وضغينة وانتقام، وتصرخ من بين حروفها الأهواء والعواطف الملتوية ... التي تغلف التواءها بكثير من الادعاء والتطاول وحب التغلب والسيطرة.
والمصطلح باختصار هو (حبة) أو (جرعة) سحرية، يتناولها فرد أوجماعة؛ فتحول اتجاه تفكيره أو تفكيرهم من جهة إلى جهة - إن لم تفقده التفكير أصلاً-، وقد يتسلل هذا المصطلح إلى العقل العام تسللاً، كأن تطرحه جماعة أو شخص صاحب مصلحة أو هوى في شيوعه وانتشاره، فيطرح من خلال وسيلة عامة ككتاب أو إذاعة أو صحيفة أو مناهج دراسية.. فيُلْتَقَط ... ويُستعمل ويشيع، ولا يمضي وقت قصير حتى تضاف إليه الشروح والحواشي، وتشذب انعكاساته الضارة عن طريق تزيينه بأساليب الحكماء والمنظرين، فتمتد جذوره في أرضٍ وفِد عليها، ويبدأ يعطي ثماره: فكراً ... وافداً وثقافة هجينة.
وكتطبيق لهذه الرؤية، فلنتفحص نموذجاً واحداً من هذه المصطلحات الشائعة والتي تجري على الأقلام والألسنة هذه الأيام، وهو كلمة (الرجعية) .
ماذا تعني هذه الكلمة في أذهان مبتدعيها؟
وماذا تعني عند مردديها، وخصوصاً في المجتمعات المسلمة؟ ...
وما مدى الهوة بين مدلولها الأصلي، من حيث الوضع، ومدلولها في ... ... أذهان الناطقين بالعربية؟
وهل يمر هذا المصطلح في فترة شبابه، أم أنه دلف إلى الشيخوخة التي ستودي به إلى الموت والاندثار، وآذنت شمسه بالمغيب؟
أما ما تعنيه هذه الكلمة: فأمامنا ما ورد في الموسوعة السياسية؛ حيث تقول: «هي نقيض التقدمية (!) ، ويطلق الشيوعيون واليساريون هذه ... الكلمة على الأحزاب والتيارات التي تنادي ببقاء المؤسسات القديمة على ... قدمها» [1] .
وبناء على هذا فإن هذا التعريف يبين لنا مَنْ وضع هذا المصطلح، ومن روجه، وهم (الشيوعيون واليساريون) ، ويطلقونه على خصومهم ... جملة.
والشيوعيون وخصومهم، من حيث المبدأ والمنشأ، هم نتيجة لمجتمع وثقافة
تختلف اختلافاً كبيراً عن مجتمعاتنا وثقافتنا، وليس المجال مجال تفنيد آرائهم والرد
عليهم. ولكن الذين أدخلوا هذا المصطلح إلى ثقافتنا هم الذين تأثروا بتلك الأفكار،
ورأوا أن يحققوا عن طريق إشاعتها مآرب وغايات في نفوسهم، في ظل مطاردة
لكل ما هو أصيل، وهيمنة لكل ما هو غريب.
وقد كَثُرَ استخدام هذا اللفظ بعد خروج المستعمرين من البلاد العربية
والإسلامية، وتفرغت الشعوب لمواجهة تحديات البناء الداخلي، فكان أن برز
اتجاهان رئيسيان لوضع أسس هذا البناء:
الاتجاه الأول:
الذي يرى أن البناء لابد أن يعتمد أسساً نابعة من عقيدة الأمة (وهي الإسلام) ،
والتي لولاها لما أمكن لها أن تحمل خصائص الأمة، حيث إن الإسلام هو الذي
جعل لها دوراً تاريخياً محورياً، وبتجاهل هذه العقيدة، أو القفز فوقها، أو
استجلاب عقائد موازية؛ فإنه لا أمل في إصلاح، ولا رجاء في الخروج من
المأزق والمشاكل التي تعيق حركة هذه الأمة، بل سيؤول أمرها من ضعف إلى
ضعف، ومن تمزق إلى انهيار واندثار.
وهذا الاتجاه ممثل في غالبية الشعوب الإسلامية مع اختلاف مستوياتها
المعيشية؛ ففيه الغني وفيه الفقير، وفيه الذي حصل على قسط عال من الثقافة،
وفيه ذوو الثقافة المتوسطة، وفيه أصحاب المهن الحرة ...
ولو أن فرصة تتاح لاستقراء النفسيات والانتماءات لوجدنا أن غالبية هذه
الشعوب ذات انتماء إسلامي يصعب إخفاؤه، وإن تكلف بعض الناس إخفاءه تحت
قشرة رقيقة من فعل عوامل شتى، كالجهل والتجاهل الناتج عن الدعاية المضادة
المستمرة، وكالترهيب الواقع على كل من يفصح عن ارتباطه الحقيقي بهذا الدين
مبدأ ومعاداً، وكالخلط والتشويش المقنن الذي يقدم إلى عقول الناشئة عن طريق
المناهج التعليمية.
والاتجاه الثاني:
على النقيض من الأول، اتجاه إلى السيطرة على توجيه هذه الجموع بحجة
أنها جموع قاصرة التفكير، ولابد من استجلاب مبادئ (جديدة) لتحل محل عقائدها
البالية؛ ثم توصف هذه المبادئ المجلوبة بشتى الأوصاف الحسنة البراقة، وتضفي
عليها أنواع من التزيينات الموحية: كالتقدم، والتطور، والبناء، والتنوير،
والتجديد، والتحديث، والعلمية، والمنطقية، … الخ، في حين تقذف المبادئ
القديمة بأبلغ أنواع السباب والشتائم والأوصاف المقذعة مثل: الرجعية، والغيبية،
والتخلف، والجمود، والتحجر، والتقوقع، والظلامية، والسلبية، والتعصب،… إلخ.
ومن خلال تتبع استخدام لفظ الرجعية يلاحظ: أن هذا اللفظ يطلق دائماً على
شريحة من المجتمع تزداد ملامحها تحديداً كل يوم، ويرتبط أفرادها فيما بينهم
برباط فكري واحد، ألا وهو انتماؤهم لعقيدة واحدة هي الإسلام، ومن غير
المسموح لهم أن يردوا على التهم الموجهة إليهم، والقذف الساقط على رؤوسهم،
بطريقة متكافئة مع الطرق التي يتوجه منها إليهم الثلب والتنفير.
وهناك أمور مفروغ منها عند جميع الناس على اختلاف عقائدهم، فليس من
مسلم أو غير مسلم يرضى بأن تتوقف عجلة التاريخ عند نقطة معينة، ولا أن يبقى
النشاط الإنساني في مكان واحد، وليس من مسلم يريد الرجوع بالناس إلى عصر
الجَمَل بعدما ركبوا السيارة والطيارة والمركبات الفضائية، وكذلك فإن الحملات
الكلامية لا يمكن -لاعتبارات كثيرة- أن تتجه مباشرة وصراحة إلى دين الأمة إلى
في حالات نادرة، وفي أمكنة خاصة. وذلك لأن ما يترتب على هذا من مكاسب
وإنجازات لا يتناسب مع الأضرار المتوقعة، ولذلك فلابد من الالتفاف والمداورة
بشن هذه الحملات على الأشخاص، وتجريدهم من مكانتهم في النفوس، وجعل
صورهم تهتز في أنظار الناس من حولهم، حتى لا يكون هناك مثل أعلى يمكن
النظر إليه، فيخلد الناس إلى اليأس، ويألفون القنوط حينما لا يسمعون عمن يقول:
(لا إله إلا الله محمد رسول الله) إلا كل سمعة سيئة، ولا يعرفون عنه إلا الصورة ...
المشوهة التي رسمها له خصومه، وتكون النتيجة لا فقدان الأمل بالأشخاص فقط؛
بل فقدان المبرر للتمسك بهذا الدين من حيث هو، إذ أنه دين صعب التطبيق،
مكبل للنشاط الإنساني، داعٍ إلى الكسل والخمول. وتكون النتيجة النهائية أن هذا
الدين هو المتسبب الأول والأخير في تخلف هذه الشعوب، لذلك لابد من القضاء
على أثره في النفوس بشتى الطرق.
ومن المستحسن -بعد أن حددنا ملامح من يُرْمَون بهذا الوصف- أن نشير إلى
بعض السمات التي تربط بين من يستخدمونه.
فهناك قدر مشترك بين الجميع، وهو: كراهية الإسلام والمسلمين بشكل عام.
وهذه الكراهية إما أن تكون متوارثة لأن أصحابها يعيشون عقدة العيش على هامش المجتمع الإسلامي.
وإما أن تكون مستحدثة نتيجة جهل أو تربية معوجَّة في دهاليز التبشير.
وإما أن يكون الدافع إليها النفاق والحرص على الدنيا من منصب، أو مال،
أو امتيازات.
وهذا الصنف الأخير كثير بين صفوف المسلمين، وهو أشد الأصناف أثراً
وأكثرها وقاحة وإصراراً في حشر مصطلحات أسياده في ثنايا كلامه بمناسبة أو
غير مناسبة، وتكاد أهدافه القريبة وغاياته الشخصية تطل من بين ثنايا كلماته التي
لا يريد بها بناء مبادئ تبقى وعقائد تترسخ، فشتان ما بينه وبين العقائد الباقية،
والفرق بينه وبين الصنف الأول كالفرق بين الدعي الأفَّاق الوصولي وبين صاحب
المبدأ.
وقد كانت الفترة الذهبية لاستخدام هذا المصطلح هي فترة الخمسينات
والستينات، وبدأ انحساره -إلا في أماكن قليلة- منذ مطلع العقد الثامن من هذا
القرن، وهذا يعنى أنه قد استهلك، ومجه الناس، وفقد أثره، وذلك لشكهم وفقدانهم
الثقة فيمن يستخدمه، ولتجنيه وعدم صحته في إنفاقه على من يُرمى به.
وهاهنا لفتة لابد منها، فمحاولة زرع المصطلحات في الكيان الثقافي للأمة
الإسلامية ليست أمراً جديداً، بل هو قديم. ومع ما نتج عن هذه المحاولات الملحة
من نتائج سيئة إلا أن الفكر الإسلامي-بما فيه من أسباب المناعة- كان يلفظ كثيراً
من هذه المصطلحات الغريبة ويسقطها بعدما تبين ما تُحدثه في كيان الأمة من أثر
تخريبي ينعكس على كيانها المادي والفكري فرقة وبلبلة، ويعمل على عدم امتلاكها
القدرة لا على البناء، ولا على دفع مسيرتها نحو المستقبل.
__________
(1) الموسوعة السياسية (كيالى - زهيري) .(9/4)
موقف أهل السنة والجماعة
من العلمانية
بقلم: محمد المصري
من أجل بيان موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية [1] هناك كلمة لا
نحسب أنها تغيب عن ذهن القارئ الواعي بأمر هذا الدين، وإن كنا نخشى أن
تكون قد تاهت -أو توارت- أثناء الصراع الدائر بين أهل السنة والجماعة والفرق
المختلفة الضالة التي تنتسب لهذا الدين.
إن أحد التحديات الخطيرة -إن لم تكن أخطر هذه التحديات على الإطلاق-
والتي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر لَهِي إسقاط اللافتات الزائفة
وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية
الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ولفضح العلمانية ومواجهتها لابد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى
المطلوب من الوضوح في نفوس أهل السنة.. فإنه بدون هذا الوضوح تعجز
تجمعات أهل السنة -ويعجز علماؤها- عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة،
وتتأرجح هي أمام التجمعات الجاهلية -ومنها العلمانية-، حيث تحسبها تجمعات
ليست بكافرة، وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد
نقطة البدء في مواجهة هذه التجمعات الجاهلية من حيث تقف هذه التجمعات
الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم، والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيدة جداً.
لابد من توضيح للحقائق وتحديد للمفاهيم:
ونظراً لما أصاب كثيراً من التصورات الإسلامية من انحراف وغبش في
أذهان الناس في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الإسلام -الظاهرون منهم
والمتسترون- من شبهات وأباطيل، فإن من الضروري أن يقوم أهل السنة
والجماعة بتجلية تلك التصورات، وكشف هذه الشبهات في كلمة موجزة عن حقيقة
العلمانية الكافرة، وبيان أن التوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي -
بل في الوجود كله- هو في الوقت ذاته أكبر نقيض للعلمانية. ومن ثَم كان لابد من
معرفته حق المعرفة والتأكيد عليه في جميع مراحل الدعوة إلى الله، مع بيان سبيل
إحياء الأمة في التمسك واتباع مناهج وأصول أهل السنة والجماعة، وإذا كان معنى
(لا إله إلا الله) الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وخير تعريف للطاغوت مما ذكره
الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود
أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو
يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما ... لا يعلمون أنه طاعة لله» [2] .
فإننا نستطيع القول بأن الشرك -الذي ظل عبر التاريخ محور الصراع بين
الأمم والرسل- هو عبادة الطاغوت مع الله أو من دونه في أمرين متلازمين:
أ - الإرادة والقصد.
ب- الطاعة والاتباع.
أما شرك الإرادة والقصد: فهو التوجه إلى غير الله تعالى بشيء من شعائر
التعبد، كالصلاة والقرابين والنذور والدعاء والاستغاثة تبعاً للتبريرات الجاهلية
المردودة القائلة: [مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى] [الزمر: 3] ، وطاغوت
هذا النوع قد يكون صنماً أو وثناً أو ميتاً أو جنيَّاً أو شيخاً.. الخ.
وأما شرك الطاعة والاتباع: فهو التمرد على شرع الله تعالى، وعدم قبول حكمه وتحكيمه في شؤون الحياة بعضها أو كلها. وهو مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية، بين الإيمان والكفر، كما أنه السمة المشتركة بين الجاهليات كلها على مدار التاريخ، وبه استحقت أن تسمى جاهلية مهما بلغ ... ... شأنها في الحضارة والمعرفة، [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ] [المائدة: 50] .. [أَم ... ... لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] [الشورى: 21] ، ... ... وطاغوت هذا النوع قد يكون زعيماً أو حاكماً أو كاهناً، أو قد يكون هيئة تشري عية أو أنظمة وأوضاع وتقاليد وأعراف، أو مجالس نيابية وبرلمانات وقوانين ... ودساتير وأهواء ... الخ.
والواقع أن كلا النوعين من الشرك مردهما إلى أصل واحد وهو: تحكيم غير
الله والتلقي عن غيره، فإن مقتضى تحكيمه وحده ألا تتوجه البشرية إلى غيره بأي
نوع من أنواع العبادة والقربات، وألا تتوجه وتسير في حياتها كلها إلا وفق ما شرع
لها في كتبه وعلى لسان رسله: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 40] ، فرد الأمر كله إلى الله واتخاذه
وحده حكماً في كل شيء هو بعينه العبادة التي أمر الله ألا يصرف شيء منها لغيره، وهذا هو ذات الدين القيم الذي لا يرضى الله تعالى سواه، وإن جهله أكثر الناس
على مدار التاريخ.
إذا تقرر هذا، فكل ما يجابه هذه الحقيقة أو جزءاً منها فهو طاغوت في أي
صورة كان، وفي أي عصر ظهر، ولا يكون الإنسان -فرداً أو مجتمعاً- شاهداً ألا
إله إلا الله حقيقة إلا بالكفر بالطاغوت والبراءة منه وأهله.
لابد من عبودية إما لله وإما لغيره:
قال ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة العبودية: «إن الإنسان على مفترق
طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية
فيقع لا محالة في عبودية لغير الله» [3] وكل عبودية لغير الله كبرت أو صغرت
هي في نهايتها عبادة للشيطان، [أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ] [يس: 60، 61] ، يشمل
ذلك العرب الذين قال الله تعالى فيهم: [إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ إنَاثاً وإن يَدْعُونَ
إلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً] [النساء: 117] ، ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار
التاريخ.
لقد تغيرت ولاشك بعض مظاهر العبادة فلم يعد هناك تلك (الإناث) التي كان
العرب في شركهم يعبدونها ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الإناث
القديمة أوثان أخرى، الدولة والزعيم والمذهب والحزب والقومية والعلمانية والحرية
الشخصية والجنس ... الخ. عشرات من الإناث الجديدة غير تلك الإناث الساذجة
البسيطة التي كان يعبدها العرب في الجاهلية، تضفي عليها القداسات الزائفة،
وتُعبد من دون الله، ويُطاع أمرها في مخالفة الله وفي تغيير خلق الله، وما تغيرت
إلا مظاهر العبادة (تطورت) ! ! ولكن الجوهر لم يتغير، إنه عبادة الشيطان. ...
وعلى ضوء هذا الفهم الإجمالي لمعنى الطاغوت والعبادة يتضح لنا المعنى
الحقيقي لشهادة (لا إله إلا الله) الذي هو -كما سبق-: الكفر بالطاغوت، وإفراد
الله تعالى وحده بالعبادة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم -الذي يعتبر في حقيقة الأمر من المعلوم من الدين
بالضرورة عند أهل السنة والجماعة-؛ نستطيع أن نرى حكم الإسلام في العلمانية
بسهولة ووضوح ونستطيع أن نصل بالقضية إلى المستوى المطلوب من الحسم
والوضوح في نفوس أهل السنة اللازمين لفضح العلمانية ومواجهتها..
إن العلمانية باختصار: نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً
مع شهادة (لا إله إلا الله) من ناحيتين أساسيتين متلازمتين:
أولاً: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.
ثانياً: من ناحية كونها شركاً في عبادة الله.
إن العلمانية تعني -بداهة-: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة
الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من طواغيت أخرى من دون الله،
فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين، ومن ثم فهي -بالبديهة أيضاً- نظام جاهلي،
لا مكان لمعتقده ولا لنظامه ولا لشرائعه في دائرة الإسلام، بل هو كافر بنص
القرآن الكريم: [ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] [المائدة: 44] ، فهل يبقى بعد هذا مجال للشك أو التردد في الحسم والوضوح اللازمين في نفوس
أهل السنة اليوم تجاه العلمانية؟
الحق أنه لا مجال لشيء من ذلك، ولكن الغياب المذهل لحقائق الإسلام من
العقول والقلوب، والغبش الكثيف الذي أنتجته الأفكار المنحرفة؛ هذا وذاك هما
اللذان يجعلان كثيراً من الناس يثيرون شبهات متهافتة لم تكن لتستحق أدنى نظر
لولا هذا الواقع المؤلم. فمن هذه الشبهات: استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ
الكفر أو الجاهلية على من أطلقهما الله تعالى عليه من الأنظمة والأوضاع والأفراد،
بذريعة أن هذه الأنظمة -لاسيما العلمانية الديمقراطية- لا تنكر وجود الله، وبذريعة
أن هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية لا تمانع في إقامة شعائر التعبد، وبحجة أن
بعض أفراد الأنظمة العلمانية الديمقراطية يتلفظون بالشهادة، ويقيمون الشعائر من
صلاة وصيام وحج وصدقة، ويحترمون من يسمونهم برجال الدين (!) ،
ويحترمون المؤسسات الدينية.. الخ. وفي ظل هذه الشبهات المتهافتة المردودة
يستصعب بعض الناس - ومنهم للأسف الشديد بعض من يرفع راية الدعوة
الإسلامية اليوم- القول بأن الأنظمة العلمانية الديمقراطية أنظمة كافرة جاهلية، وأن
المؤمنين بها المتبعون لها جاهليون؟
ومن الواضح أن الذين يلوكون هذه الشبهات لا يعرفون معنى (لا إله إلا الله) ، ولا مدلول (الإسلام) ، وهذا على فرض حسن الظن بهم، وهو ما لا يجوز في حق كثير من المثقفين، وبالذات بعض الذين يرفعون راية الدعوة ... الإسلامية اليوم ويتعللون بهذه العلل الواهية.
إن تاريخ الدعوة الإسلامية وصراع أهل السنة والجماعة المرير عبر القرو ن، وإن القرآن الكريم كله من أوله إلى آخره ومثله السنة المطهرة لتقطع الطريق على هذه الشبهة وقائليها.
هل تحمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه العنت والمشقة والحرب
والجهاد ثلاثاً وعشرين سنة متوالية؟ ، وهل نزل القرآن الكريم موجهاً وآمراً وناهياً
طوال هذه السنين من أجل أن يقول الجاهليون باللسان فقط.. لا إله إلا الله،
ويقيموا الشعائر التي يمن دعاة العلمانية على الله أنهم يسمحون بها؟ ! ! وما الفرق
بين قول قريش: (يا محمد: اعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة) ، وبين قول العلمانيين -لفظاً أو حالاً-: نعبد الله في المسجد، ونطيع غيره في المجالس التشريعية والبرلمان وفي القضاء والتجارة والسياسة؟
أهو شيء آخر غير أن قسمة أولئك زمنية، وقسمة هؤلاء مكانية أو
موضوعية؟
يقول ابن كثير -رحمه الله-في تفسير قوله تعالى: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] :
«ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكم، المشتمل على كل
خيرٍ، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات
التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به
من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من
السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم (الياسق) - وهو
عبارة عن: كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية
والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد
نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى
يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير» [4] .
وبناء على ما سبق يتضح أن تلك الشبهة، شبهة التلفظ بالشهادة وإقامة بعض
الشعائر لا وزن لها ولا اعتبار، ذلك لأنه بعد أن نجحت الجاهلية -مؤقتاً- في
تنحية شرع الله من أن يحكم حياة المسلمين في ديارهم، وحاول أعداء الإسلام
إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب الإلحادية والمادية، وبعد أن فشلوا
في تنفيذ هذا المخطط وأصابهم اليأس من ذلك لجأوا -بعد التفكير والتدبير- إلى ما
هو أخبث وأخطر؛ لجأوا إلى: اصطناع أنظمة تحكم بغير ما أنزل الله، وفي
الوقت نفسه هي تدعي الإسلام وتظهر احترام العقيدة، فقتلوا إحساس الجماهير،
وضمنوا ولاءها، وخدَّروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون شريعة الله في مأمن من
انتفاضتها. ولذلك لا يجرؤ أرباب هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية على التصريح
بأنهم ملحدون أو لا دينيون، أو أنهم ضد شريعة الله، بينما يصرحون -مفتخرين-
بأنهم ديمقراطيون مثلاً.
وتبلورت مقالات العلمانيين وأفكارهم التي تعبر في جوهرها عن حقيقة
الجاهلية، ولكنها وبخبث شديد وتدبير محكم تحاول أن تنتسب إلى الدين بتبجحٍ
غريب ومكرٍ وضيع، وذلك حتى لا ينفر من هذه الأفكار جمهور المسلمين، فهم
يريدون أن تسري العلمانية ببطء في عقول ونفوس جمهور المسلمين سريان السم
البطيء الذي يودي بحياة صاحبه دون أن يتنبه له جسده.
أنواع من الجاهليات:
وهذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقفنا، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك
يجب أن نعلم أن الجاهلية بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه وإنكار لوجوده..
فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين، وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه
بوجود الله سبحانه وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة، كجاهلية
الوثنيين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه وأداء للشعائر التعبدية، مع
انحراف خطير في تصور دلالة شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، ...
ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم (مسلمين)
من العلمانيين، ويظنون انهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم
بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع
استسلامهم لغير الله من العبيد.. وكلها جاهلية.. وكلها كفر بالله كالأولين.. أو
شرك بالله كالآخرين.
والعلمانية الديمقراطية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة
والتعامل لغير الله وفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله. لأن
الدارس لعقائد الجاهلية العربية يجد -من أول وهلة- أنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى، كالخلق والرزق والتدبير والإحياء
والإماتة، [ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ] [لقمان: 25] .
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد؛ [سَيَقُولُ
الَذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ] [الأنعام:
148] ، وأنه يدبر الأمر، [ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ] [يونس: 20] ..
وكانوا يؤمنون بالملائكة، [وَقَالَ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا
المَلائِكَةُ] [الفرقان: 31] .
وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب، كقول زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم حساب، أو يعجل فينقم [5]
وكذلك كان لدى الجاهليين العرب بعض الشعائر التعبدية، منها: تعظيم البيت
الحرام، وطوافهم حوله، ووقوفهم بعرفات، وتعظيم الأشهر الحرام. وكذلك ذبحهم
ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب، وإهدائهم للبيت الحرام، آوتخصيص
شيء من الحرث والأنعام لله، [وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيباً] [الأنعام: 136] .
ومن الناحية التشريعية: كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود، كحد
السرقة، فقد ذكر الكلبي، والقرطبي في (تفسيره) : أن قريشاً كانت تقطع يد
السارق [6] ، وهو حد معروف في الشرائع السابقة- كما في حديث المخزومية
وشفاعة زيد لها-، وشيء آخر سبقت -بل فاقت- به الجاهلية العربية الجاهليات
اللادينية المعاصرة وهو: (حرية التدين) ، فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا
دين إبراهيم -عليه السلام-، وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان
منهم عبدة الكواكب، وعباد الأوثان، وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
موقف الإسلام من الجاهليات بأنواعها:
ولكن -وهذا هو المهم-، بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟ إن الله تعالى حكم
على هذه البيئة وعلى الواقع الأرضي حينئذ بأنها كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور
جميعهاً صفراً في ميزان الإسلام، ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، واشتد النزاع، معركة شرسة ونزاع حاد، حتى أن
السيف كان الحكم الأخير.
والشيء المثير أيضاً: أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى
كلمة واحدة، هي كلمة: (لا إله إلا الله) ، كلمة يصر عليها رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار
والرفض..
لماذا؟ .. لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى شهادة (أن لا إله إلا الله) ، كان الجواب الفوري: [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] [ص: 5] ، فالقضية واضحة في أذهانهم: إن الالتزام بهذه
الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ماعدا الله من معبوداتهم
وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة
وطاغوت الكهانة وطاغوت التقاليد.. الخ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله؛
جليله وحقيره وكبيره وصغيره.. إلى الله تعالى وحده لا شريك له. كذلك فإن بيننا
اليوم -ممن يقولون: إنهم مسلمون- من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق
وبخاصة أخلاق المعاملات المادية.. وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من
جامعاتنا وجامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الشخص؟
وما للإسلام والعري على الشواطئ؟ وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ وما
للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ وما للإسلام وتناول كأس من الخمر
لإصلاح المزاج؟ وما للإسلام وهذا الذي يفعله (المتحضرون) ؟ ، فأي فرق بين
هذا وبين سؤال أهل مدين: [أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا] ... ... [هود: 87] .
وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد،
وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد.. فما للدين
والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة
القانون الوضعي؟ وما للدين والسياسة والحكم؟ ، لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق
إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده! ! فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في
تلك الجاهلية الأولى؛ ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم
والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله والسلوك الشخصي
في الحياة والمعاملات المادية في السوق والسياسة والحكم.. تتهمهم بالرجعية
والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم
بالتطرف! !
أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعو شعار (الدين لله والوطن للجميع) ... ...
وشعار (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) من أدعياء الإسلام من العلمانيين أو ... غيرهم؟ إن من عادة المنافقين والزنادقة من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار ... ...
الصريح والواضح وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يسعدون بسلاح ... ... التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين ... ... وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة ... نفوس القلة التي قد ساورتها الشكوك تجاه نوايا هؤلاء الذين يرفعون شعارات ... العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويداً ... رويداً! !
فارتفعت لذلك شعارات (المدرسة العقلانية) ، وشعار (حكم الشعب للشعب) ، وشعار (الحرية الشخصية) ، وشعار (الأمة مصدر السلطات) ، وشعار ... (حرية الثقافة والفكر) ، وحاول البعض منهم تهدئة بعض مشاعر الإسلاميين فرفعوا ... شعار: (تطوير الشريعة) ، (مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر) ، وشعار ... ... ... (تقنين الشريعة) ، وبعد أن نفد صبر بعضهم أعلنوها صريحة ورفعوا شعار ... (فصل الدين عن الدولة) ، و (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) ، ... و (الدين لله والوطن للجميع) ، و (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) أوَ ليس هذا أيضاً ما يطبقه الذين يجعلون للدين برامج تسمى برامج (روحية) ضمن ... ... أجهزة الإعلام الشيطانية والذين يجعلون أحكاماً للأحوال الشخصية ضمن ... قوانين الحكم الجاهلية، والذين يجعلون في كل صحفهم ومجلاتهم العلمانية ... الجاهلية صفحة يسمونها صفحة الفكر الديني؟ ! ويقولون: إن مكان الدين هو المسجد فقط، ويظهرون لعامة المسلمين أنهم يحجون لبيت الله في العمر مرة، ويتعمدون إبرازها في أجهزة إعلامهم، بينما هم يقصدون بيوت أعداء الله ... شرقاً وغرباً كل حين، يتلقفون منهم المناهج، ويتلقون التشريعات والأوامر والنواهي والحلال والحرام! !
سؤال يبحث عن جواب محدد:
إننا نتوجه بالسؤال إلى هؤلاء العلمانيين.. إلى كل من يدعي الإسلام من
هؤلاء، فنقول:
إذا أخرجنا -على سبيل التحكم- جزءاً من النشاط الإنساني في الحياة -إما
السياسة وإما غيرها- عن دائرة الإسلام.. فمن أين نتلقى منهج وقيم وموازين
وتشريعات هذا الجزء؟
وأياً ما كان الجواب فإن نتيجته ومؤداه واحد لا ريب فيه؛ التلقي عن غير
الله والطاعة والاتباع لغير الله.
والنتيجة هي الشرك بالله. وهل هناك صورة من صور الاعتراف بالشرك
أصرح من هذه؟ أعني شرك الطاعة والاتباع! ! إنه شرك في عبادة الله، وإن
كان الذين يمارسونه قد يجهلون معنى عبادة الله وحده، وما ذلك بغريب على
الجاهليين، «فإن عدي بن حاتم -رضي الله عنه-- في الجاهلية لم يكن يتصور
أن ذلك عبادة، فإنه لما دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (تلا -
صلى الله عليه وسلم- قوله: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] ،
فقال عدي -وكان نصرانياً-: يا رسول الله: لسنا نعبدهم، قال: أليس يحلون لكم
ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي -
صلى الله عليه وسلم-: فتلك عبادتهم» . [7] قال ابن تيمية -رحمه الله-تعليقاً
على ذلك: «قد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون ... لهم» [8] .
نتائج لابد منها:
إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا
خفاء فيه ولا مداورة ولا التباس، ولكن الخفاء والمداورة والالتباس إنما يحدث عمداً
من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا امتداد لجاهليتهم في بلاد
المسلمين إلا من خلال هذا التخفي والمداورة والتلبيس على جماهير المسلمين،
وذلك من خلال راياتهم الزائفة التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين
الواعين بحقيقة هذا الصراع المنبهين إلى خطره الداهم على الدين وأهله.
إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائما جبهة الرفض الباطنية. والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية لتدمير أهل السنة والجماعة - باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى-، أقول: إن هذه المعارك ... وهذه الجبهات يجب أن لا ينسى معها أهل السنة والجماعة أن حصونهم لازالت ... مهددة من داخلها، وأن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل والتي تصارعهم في معارك خافية - غالبا ً- وسافرة -أحياناً - هي التي تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث. وإن أخطر مراحل هذا الصراع هي: مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.
أما آن لأهل السنة والجماعة أن يتنبهوا لهذه الأخطار الماحقة في الداخل
والخارج، والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟ أما آن لهم أن يتكتلوا هم أيضاً دفاعاً
عن وجودهم وعقيدتهم ضد تجمعات الجاهلية الشرسة؟ .
أما آن لهم -أو لكثير منهم- أن يتخلوا عن معاركهم الوهمية وخلافاتهم
الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم، ويركزوا جهودهم المشتركة -المادية
والمعنوية- لمواجهة هذه التحديات التاريخية والمعارك الفاصلة الحقيقية والجذرية؟
أما آن لهم هذا؟ ؛ [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ
الحَقِّ] [الحد يد / 16] .
نسأل الله الهدى والرشاد، فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (secularism) في الإنكليزية أو (secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (العلم) على الإطلاق، فالعلم بالإنكليزية والفرنسية معناه (science) ، والمذهب العلمي يطلق عليه كلمة (scientism) ، والترجمة الصحيحة لكلمة (secularism) هي: (اللادينية) أو (الدنيوية) ، وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة (secularism) : هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو (إقامة الحياة على غير الدين) سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.
(2) إعلام الموقعين 1 / 50.
(3) مقدمة رسالة العبودية / 6.
(4) تفسير القرآن العظيم 2 / 67.
(5) شرح ديوان زهير / 81.
(6) أضواء البيان للشنقيطي 3/392.
(7) انظر رواياته في الدر المنثور: 3 / 230، وأصله في الترمذي: كتاب التفسير، وسنده صحيح.
(8) فتح المجيد: 86 نقلاً عن الإيمان.(9/9)
طبقات كتب الحديث [1]
شاه ولي الله الدهلوي
اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلا خبر النبي -صلى الله
عليه وسلم-، بخلاف المصالح، فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس،
ونحو ذلك، ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره - صلى الله عليه وسلم - إلا تلقي
الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة، سواء كانت من لفظه - صلى الله عليه
وسلم -، أو كانت أحاديث موقوفة قد صححت الرواية بها عن جماعة من الصحابة
والتابعين، بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص أو الإشارة من الشارع،
فمثل ذلك رواية عنه -صلى الله عليه وسلم- دلالة. وتلقي تلك الروايات لا سبيل
إليها في يومنا هذا إلا تتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم
رواية يعتمد عليها غير مدونة.
وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة، فوجب الاعتناء بمعرفة
طبقات كتب الحديث.
فنقول:
هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات، وذلك لأن أعلى أقسام
الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به، ثم ما استفاض من
طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها، واتفق على العمل بها جمهور فقهاء
الأمصار، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة، فإن الحرمين -محل الخلفاء
الراشدين في القرون الأولى ومحط رحال العلماء طبقة بعد طبقة- يبعد أن يسلموا
منهم الخطأ الظاهر، أو كان قولاً مشهوراً معمولاً به في قطر عظيم، مروياً عن
جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين، ثم ما صح أو حسن سنده وشهد به علماء
الحديث ولم يكن قولاً متروكاً؛ لم يذهب إليه أحد من الأمة.
أما ما كان ضعيفاً، أو موضوعاً، أو منقطعاً، أو مقلوباً في سنده، أو متنه،
أو من رواية المجاهيل، أو مخالفاً لما أجمع عليه السلف، طبقة بعد طبقة، فلا
سبيل إلى القول به.
فالصحة: أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح أو حسن، غير
مقلوب، ولا شاذ ولا ضعيف، إلا مع بيان حاله، فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله
لا يقدح في الكتاب.
والشهرة: أن تكون الأحاديث المذكورة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها وبعد تدوينها، فيكون أئمة الحديث -قبل المؤلف- رووها بطرق شتى،
وأوردوها في مسانيدهم ومجاميعهم، وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب، وحفظه، وكشف مشكله، وشرح غريبه، وبيان إعرابه، وتخريج طرق أحاديثه،
واستنباط فقهها، والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة، إلى يومنا هذا، حتى
لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه، إلا ما شاء الله، ويكون نقاد الحديث
قبل المصنف وبعده وافقوه في القول بها، وحكموا بصحتها وارتضوا رأي المصنف
فيها، وتلقوا كتابه بالمدح والثناء. ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون منها،
ويعتمدون عليها، ويعتنون بها، ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها وتعظيمها.
وبالجملة: فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان وكملا في كتاب كان من الطبقة الأولى ثَمَّ وثَمَّ، وإن فقدتا رأساً لم يكن له اعتبار، وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل إلى حد التواتر، ومادون ذلك يصل إلى الاستفاضة ثم إلى الصحة القطعية - أعني: القطع المأخوذ في علم الحديث المفيد للعمل - والطبقة الثانية إلى الاستفاضة، أو الصحة القطعية، أو الظنية.، وهكذا ينزل الأمر.
فالطبقة الأولى:
منحصرة بالاستقراء في ثلاث كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح
مسلم.
قال الشافعي: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك، واتفق أهل الحديث
على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه، وأما على رأي غيره
فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى، فلا جرم أنها
صحيحة من هذا الوجه، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج
أحاديثه ووصل منقطعه، مثل كتاب ابن أبي ذئب، وابن عيينة، والثوري،
ومعمر، وغيرهم، ممن شارك مالكاً في الشيوخ، وقد رواه عن مالك بغير واسطة
أكثر من ألف رجل، وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد،
كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره في حديثه [2] ، فمنهم المبرزون من
الفقهاء: كالشافعي، ومحمد بن الحسن، وابن وهب، وابن القاسم، ومنهم نحارير
المحدثين: كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق،
ومنهم الملوك والأمراء: كالرشيد، وابنيه، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على
جميع ديار الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة، وأقوى به عناية،
وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم، حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل
العلماء يخرجون أحاديثه، ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه،
ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها
غاية، وإن شئت الحق الصراح فقس كتاب الموطأ بكتاب الآثار لمحمد والأمالي
لأبي يوسف تجد بينه وبينهما بُعد المشرقين، فهل سمعت أحداً من المحدثين
والفقهاء تعرض لهما واعتنى بهما؟
وأما (الصحيحان) : فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل
المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون
أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين. وإن شئت الحق الصراح فقسهما
بكتاب ابن أبي شيبة، وكتاب الطحاوي، ومسند الخوارزمي، وغيرهما؛ تجد
بينها وبينهما بُعد المشرقين.
وقد استدرك الحاكم عليهما أحاديث هي على شرطهما ولم يذكراها، وقد
تتبعت ما استدركه فوجدته قد أصاب من وجه ولم يصب من وجه، وذلك لأنه وجد
أحاديث مروية عن رجال الشيخين بشرطهما في الصحة والاتصال فاتجه استدراكه
عليهما من هذا الوجه، ولكن الشيخين لا يذكران إلا حديثاً قد تناظر فيه مشايخهما،
وأجمعوا على القول به والتصحيح له، كما أشار مسلم حيث قال: «لم أذكر هنا
إلا ما أجمعوا عليه» . وجل ما تفرد به المستدرك كالموكا عليه [3] ، المخفي
مكانه في زمن مشايخهما، وإن اشتهر أمره من بعده، أو ما اختلف المحدثون في
رجاله، فالشيخان كأساتذتهما كانا يعتنيان بالبحث عن نصوص الأحاديث في
الوصل والانقطاع وغير ذلك، حتى يتضح الحال، والحاكم يعتمد في الأكثر على
قواعد مخرجة من صنائعهم كقوله: زيادة الثقات مقبولة، وإذا اختلف الناس في
الوصل والإرسال والوقف والرفع وغير ذلك، فالذي حفظ الزيادة حجة على من لم
يحفظ، والحق أنه كثيراً ما يدخل الخلل في الحفاظ من قبل الموقوف ووصل
المنقطع، لاسيما عند رغبتهم في المتصل المرفوع، وتنويههم به، فالشيخان لا
يقولان بكثير مما يقوله الحاكم. والله أعلم. وهذه الكتب الثلاثة التي اعتنى القاضي
عياض في المشارق [4] بضبط مشكلها ورد تصحيفها.
الطبقة الثانية:
كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنها تتلوها، كان مصنفوها
معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث، ولم يرضوا في كتبهم
هذه بالتساهل فيما اشترطوا على أنفسهم، فتلقاها من بعدهم بالقبول، واعتنى بها
المحدثون والفقهاء طبقة بعد طبقة، واشتهرت فيما بين الناس، وتعلق بها القوم
شرحاً لغريبها، وفحصاً عن رجالها، واستنباطاً لفقهها. وعلى تلك الأحاديث بناء
عامة العلوم كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي، وهذه الكتب مع
الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها (رزينٌ) في (تخريج الصحاح) ، و (ابن الأثير) ...
في (جامع الأصول) ، وكاد (مسند أحمد) يكون من جملة هذه الطبقة، فإن الإ مام أحمد جعله أصلاً يعرف به الصحيح والسقيم، قال: ما ليس فيه فلا تقبلوه.
الطبقة الثالثة:
مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم، وفي زمانهما،
وبعدهما، جمعت بين الصحيح، والحسن، والضعيف، والمعروف، والغريب، والشاذ، والمنكر، والخطأ، والصواب، والثابت، والمقلوب، ولم تشتهر في
العلماء ذلك الاشتهار، وإن زال عنه اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به
الفقهاء كثير تداول، ولم يفحص عن صحتها وسقيمها المحدثون كثير فحص منه،
ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب، ولا فقيه بتطبيقه بمذاهب السلف، ولا محدِّث
ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله - ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما
كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث -، فهي باقية على استتارها واختفائها
وخمولها، كمسند أبى يعلى، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف أبى بكر بن أبى شيبة، ومسند عبد بن حميد، والطيالسي، وكتب البيهقي، والطحاوي، والطبراني،
وكان قصدهم: جمع ما وجدوه، لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل.
والطبقة الرابعة:
كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين
الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد المختفية، فنوَّهوا بأمرها، وكانت على
ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، ككثير من الوعاظ المتشدقين، وأهل الأهواء،
والضعفاء، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين، أو من أخبار بني إسرائيل، أو
من كلام الحكماء والوعاظ، خلطها الرواة بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -
سهواً أو عمداً، أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح، فرواها بالمعنى
قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية، فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة، أو
كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة جعلوها مستبدة برأسها [5] عمداً،
أو كانت جملاً شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثاً واحداً بنسق واحد، ومظنة
هذه الأحاديث كتاب: الضعفاء لابن حبان، وكامل ابن عدي، وكتب الخطيب،
وأبى نعيم، والجوزقاني، وابن عساكر، وابن النجار، والديلمي، وكاد مسند
الخوارزمي يكون من هذه الطبقة، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفاً محتملاً،
وأسوؤها ما كان موضوعاً أو مقلوباً شديد النكارة. وهذه الطبقة مادة كتاب (الموضوعات) لابن الجوزي.
وهاهنا طبقة خامسة:
منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء، والصوفية، والمؤرخين، ونحوهم، وليس
له أصل في هذه الطبقات الأربع، ومنها ما دسه الماجن في دينه العالم بلسانه،
فأتى بإسناد قوي لا يمكن الجرح فيه، وكلام بليغ لا يبعد صدوره عنه -صلى الله
عليه وسلم-، فأثار في الإسلام مصيبة عظيمة، لكن الجهابذة من أهل الحديث
يوردون مثل ذلك على المتابعات والشواهد فتهتك الأستار، ويظهر العوار. أما
الطبقة الأولى والثانية: فعليهما اعتماد المحدثين، وحول حماهما مرتعهم ومسرحهم وأما الثالثة: فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين
يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث، نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد،
و [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً] ، وأما الرابعة: فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط
منها نوع تعمق من المتأخرين. وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة
والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم،
فالانتصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث، والله أعلم.
__________
(1) هذا فصل من كتاب: (حجة الله البالغة) للعلامة شاه ولي الله الدهلوي، رأينا أن ننشره مستقلاً لما فيه من الفوائد العلمية القيمة في هذا الموضوع.
(2) وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة.
(3) الموكا عليه: المستور الحال.
(4) كتاب: مشارق الأنوار للقاضي عياض.
(5) أي: مستقلة.(9/20)
التوحيد مفتاح دعوة الرسل
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
لقد أكرم الله تعالى هذا الإنسان، وأعظم عليه المنَّة، عندما بعث إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب والشرائع، التي تتفق مع فطرة هذا الإنسان، التي فطره الله تعالى عليها؛ من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، الخالق المعبود، الذي ... لا يستحق العبادة أحد سواه.
ثم أكرم الله تعالى هذا الإنسان مرة أخرى، عندما ختم الرسالات السماوية
برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم-، وتكفّل بحفظها وحفظ كتابها، حيث قال ...
سبحانه وتعالى: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] .
وبذلك كانت رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هي الرسالة الوحيدة
التي بقيت على أصولها المنزلة، محفوظة -بحفظ الله تعالى- من أي تغيير أو
تحريف أو تبديل، وبذلك تم الحفاظ على دعوة التوحيد، نقية صافية، كما جاء بها
جميع الرسل، عليهم الصلاة والسلام، إلى أن ختموا بمحمد -صلى الله عليه
وسلم-، وقد جاؤوا جميعهم بدعوة الإسلام وكلمة التوحيد.
والتوحيد: هو قاعدة كل ديانة جاء بها من عند الله تعالى رسولٌ. ويقرر ... الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول على ... حدة، كما يقررها في دعوة كل الرسل إجمالاً، على وجه القطع واليقين:
[ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ]
[المؤمنون: 23] .
[وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ]
[الأعراف: 65] .
[وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: 73] .
وهي الكلمة نفسها التي تكررت على لسان شعيب وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-، حتى أصبحت قاعدة عامة، قررها الله سبحانه ... وتعالى فقال: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا
فَاعْبدُونِ] [الأنبياء: 25] .
[ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]
[النحل:36] .
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أول ما يدخل به
المرء في الإسلام، وأخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب.
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل-رضي الله عنه-عندما بعثه
إلى اليمن: «إنك تأتى قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله
وحده، وفي رواية: فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم
أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله، عز وجل، افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم
وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى، افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإيّاك وكرائم أموالهم،
واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [اخرجه الشيخان] . وقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله
إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل»
[رواه الشيخان] .
وفي هذا الحديث الشريف تفسير لقول الله تعالى: [فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ
وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ] [التوبة: 5] .
والتخلية في هذه الآية الكريمة، والعصمة في الحديث الشريف، الذي جاء
قبلها، كلاهما بمعنى واحد.
فكل الرسل، عليهم الصلاة والسلام، قد أدركوا حقيقة (التوحيد) وكلهم بعثوا
بها، وكلّهم دعا إلى عبادة الله الواحد، دعا إلى الحقيقة التي تلقاها وأُمر بها كما أُمر
أن يبلغها، وقد نهضوا جميعا -عليهم الصلاة والسلام- بذلك؛ لإيمانهم المطلق
بكونها الحقيقة الصادرة إليهم من الله تعالى وحده، ومن ثم كان هناك مصدر واحد
لا يتعدد، يتلقى منه البشر التصور الصادق، الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله،
هذا المصدر هو الذي أنزل على خاتم رسل الله تعالى محمد-صلى الله عليه وسلم-، هذا الكتاب، القرآن الكريم، أنزله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وهو كتاب واحد في حقيقته، وهو تصور واحد في قاعدته: رب واحد، وإله واحد، ومعبود واحد، مشرع واحد لبني الإنسان، فالله تعالى هو الذي خلق، فهو الذي
يشرع ويأمر وينهى، ومنه نستمد جميع الأحكام من حلال وحرام: [أَلا لَهُ الخَلْقُ
والأَمْرُ] [الأعراف: 54] . [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن
قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ]
[البقرة: 21-22] .
وإن التوحيد المطلق لله سبحانه وتعالى، يقتضي توحيد دينه الذي أرسل به
الرسل، عليهم الصلاة والسلام، للبشر جميعاً، وتوحيد رسله الذين حملوا هذه
الأمانة، والرسالة للناس، ولذلك عبر الله تعالى عمن يريدون التفرقة بين الله
ورسله، وعمن يريدون التفرقة بين الرسل -بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض-
عبَّر عن هؤلاء وعن هؤلاء أيضاً بأنهم [هُمُ الكَافِرُونَ حَقاً] ، فقال الله، سبحانه
وتعالى: [إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ويُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ
ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ
الكَافِرُونَ حَقاً وأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً] [النساء: 150-151] .
وما ذلك إلا لأن التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن لله سبحانه
وتعالى، كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظَّم غير متروك للتعدد والتصادم،
والفوضى والعبث، ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس والسنن،
في هذا الوجود أينما امتد بصره، وهو أيضاً التصور الكفيل بضم جميع المؤمنين
في موكب واحد يقف أمام صفوف الكفر، وفي حزب واحد يقف أمام حزب
الشيطان..
ولكن هذا الصف الواحد، هو صف المؤمنين حقاً بالله سبحانه وتعالى،
وصف أصحاب العقيدة الصحيحة، التي لم يدخلها تحريف ولا انحراف، عقيدة
التوحيد التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكفل الله تعالى بحفظها،
ومن ثم كان الإسلام هو دين التوحيد، الذي لا يقبل الله تعالى من البشر ديناً غيره،
لأنه هو الدين الحق:
[إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ] [ال عمران: 19] [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ
دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] [ال عمران: 85] .(9/25)
خواطر في الدعوة
المسلم وأغلال البيئة
محمد العبدة
إن مما تتطلع إليه همة المسلم ويراه من أوجب الواجبات العودة بالناس إلى
هذا الدين الذين ارتضاه الله، وتطبيقه في حياتهم تطبيقاً عملياً، والمسلم عندما يريد
ذلك لابد أن يرتفع بالناس إلى مستوى الإسلام، ولابد لمن يقوم بمثل هذه المهمة
العظيمة أن ينتزع نفسه من الآثار السلبية للبيئة المحيطة به حتى يستطيع انتشال
الناس مما هم عليه من الهوى واتباع العادات والمألوف، وحب الدنيا والانغماس
فيها.
ولكن كيف يقوم بهذه المهمة إذا كان مكبلاً بالواقع غارقاً فيه؟
إننا - في الحقيقة - نحمل في عقلياتنا وتصرفاتنا آثار البيئة التي عشنا فيها،
بسلبياتها وإيجابياتها، بيئة المنزل والمدرسة، بيئة الشارع والمجتمع، بل وبيئة
النظم السياسية والاقتصادية التي حولنا، وهذا من الأمراض الخفية التي لا ينتبه لها، لأننا لم نتعود النظر إلى مشكلاتنا بعمق وتبصر، للابتعاد عن مواطن الضعف
والخلل، أو على الأقل النظر بين كل مرحلة وأخرى لمعرفة السلبيات التي تعوقنا.
قد يكون المجتمع الذي يعيش فيه المسلم مجتمعاً تعود على الإسراف في إنفاق
المال، دون حساب أو تخطيط أو تدبير ولا يستفاد من هذا المال بتوظيفه في طرق
الخير التي تنفع الفرد والجماعة، يتأثر المسلم بهذه البيئة فينفق أحياناً على
الكماليات أو المأكل والملبس والمسكن مالا يليق بالمسلم الداعية في مثل هذه
الظروف الصعبة، ولهذا فهو لا يوفر جزءاً من دخله ليستثمره في وجوه الخير،
ومع ذلك فهو يظن أنه لم يقدم على خطأ لأنه لا يعرف قيمة المال وأهميته في حياة
الأمم وتقدمها، بل ربما ظن أن الكلام في التدبير والاقتصاد هو من قبيل الكلام في
(الماديات) التي يترفع عنها، ولا يجب الخوض فيها، لأنه مشغول بأمور أهم من
المال، ولقد نزل القرآن الكريم والعرب يتفاخرون بالكرم حتى وصلوا به إلى حد
الإسراف فأرجعهم الله سبحانه وتعالى إلى حد الاعتدال، فقال: [ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ
البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً] والحقيقة أنه رباهم تربية حضارية، وعلمهم أن المال
هو من بعض مقومات الدول والحضارات، وإلا فهو التفاخر الفردي، وإن كان في
الأصل هو خلق كريم.
وقد يعيش المسلم في بيئة اجتماعية معينة، بيئة الريف والمدن أو البدو
والحضر، أو بيئة الفقر والغنى، فماذا نجد؟ .. نجد أن المسلم يتصرف أحياناً
بسذاجة وسطحية في تقويمه للناس، أو يتصرف بخديعة ومكر، وهو يظن أن هذا
من الذكاء و (الشطارة) وينسى قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (لست
بالخب لكن الخب لا يخدعني) وكان الأولى أن يوجه مكره إلى أعداء الإسلام.
وقد يعيش المسلم في بيئة الإقليميات الضيقة التي ابتليت بها مجتمعاتنا في
العصر الحديث هذه الإقليميات النتنة التي لا تكتفي بأن يتعصب ويفخر أهل إقليم
على إقليم آخر بل تصل إلى تعصب كل مدينة على أختها، وقد يقع المسلم في
حبائل هذه الإقليمية دون أن يدري، فينظر للمسلمين الآخرين نظرة أهل بلده، وكلٌ
يظن أن الآخرين لا يفهمون الإسلام مثل فهمه، وأنهم مقصرون وهو الحقيق بأن
يعيد مجد الإسلام، وقد يأتي بهذه النظرة على شكل المزاح والطوائف، ولكنك
تشعر أنه في داخله يحمل هذا المرض. والعجيب أن هذا المسلم يدعو إلى العالمية
، وهو يعتقد فعلاً أن دعوته عالمية وأن الإسلام لا يقبل هذا المنطلق الإقليمي -هذا
مع أن الله قد بين أنه خلق الناس شعوباً وقبائل من أجل التعارف، لا من أجل
التناكر والتناحر- وأن الإسلام جاء ليهدم هذه العصبية، وقد يقع المسلم في نوع من
الجاهلية ولكنه إذا ذُكّر تذكر وآب إلى الحق، أو هكذا يجب أن يكون.(9/28)
فقه الإسلام ودعوة للمراجعة البناءة
(1)
حاجة الدعاة المسلمين
إلى المراجعة
الدكتور: محمد رشاد خليل
لا تشتد حاجة الدعاة المسلمين اليوم إلى شيء كما تشتد حاجتهم إلى المراجعة
البناءة لحصاد جهودهم في مجال الدعوة الإسلامية. ذلك أن هذه المراجعة ضرورية
اليوم لتصحيح أخطاء التجربة، ولتلافي أوجه القصور في العمل، وتلافي أسباب
ما حدث عند البعض من فشلٍ، والعمل على توحيد الصفوف على خطة عمل تأخذ
في حسابها كافة العوامل المؤثرة على سير الدعوة سلباً وإيجاباً، وتفرق بين الممكن
والواجب، وتنسق بين الإمكانات والأهداف، وتعمل على رفع أسباب الاختلاف
والفرقة التي يكون سببها: نقص العلم، وقلة الخبرة، وسوء التقدير، وسوء الفهم، وسوء الظن، وفرط الثقة، وعدم التخطيط، أو سوء التخطيط، وسوء التنفيذ.
المخاطر التي تهدد الصحوة الإسلامية:
وإنه مما يضاعف هذه الحاجة أن ما ذكرته أصبح يمثل تهديداً جدياً للصحوة
الإسلامية المستهدفة أصلاً من أعداء أقوياء في الداخل والخارج قد أجمعوا أمرهم
على إجهاضها وتصفيتها وضربها بكل الوسائل، ولقد نبهت منذ سنوات في مقالات
عدة إلى هذا الخطر، وحذرت من مغبة تجاهله، وحذرت من أن أجهزة الرصد
والمراقبة في الشرق والغرب وتوابعها في العالم الإسلامي تعكف على دراسة المد
الإسلامي، وأن هناك سيلاً من الدراسات والتحليلات التي تتناول ظاهرة البعث
الإسلامي تتدفق من مختلف الاتجاهات، وأن هذه الدراسات والتحليلات تتسم
بالإثارة والتحريض والتخويف والتشويه، وأن مسئولين على أعلى مستوى في
الإدارة الأمريكية لا يكُّفون عن التحذير من هذا المد حيناً، وتوعده حيناً، والدعوة
إلى احتوائه حيناً. وفي مقابلة أجرتها مجلة (يو. إس. نيوز) مع مستشار الأمن
الأمريكي وقتها (ربنجيوا بريزنسكي) قال (بريزنسكى) كلاماً خطيراً جداً هذا نص
ترجمته.
«أولاً ينبغي أن نعلم أن العالم الإسلامي بعد مئات من السنين التي قضاها في التبعية الأجنبية المباشرة بدأ يدخل في طور اليقظة الدينية والسياسية، وهذه اليقظة والانتفاضة يمكن أن تتخذ مظاهر إيجابية أو سلبية، ومن الواضح أن المصلحة الأمريكية تقضي أن تكون هذه المظاهر إيجابية» .
والذي يقصده (بريزنسكي) من الإيجابية هو احتواء هذه اليقظة، وتوجيهها
لخدمة المصالح الأمريكية، أما كيف يمكن احتواء هذه اليقظة وتوجيهها لخدمة
المصالح الأمريكية فذلك أسلوب غربي درجت عليه الدوائر الاستعمارية، وبرعت
فيه، ولا يجب التقليل من قيمة هذا التوجيه، أو الاستخفاف بمراميه لأن الدوائر
الاستعمارية تملك من إمكانات التوجيه والتحكم الشيء الكثير؛ فقد يكون من أساليب
ذلك التوجيه دفع الحركة الإسلامية -دون وعي منها- إلى اتجاهات تشتت جهدها،
وتستفرغ طاقتها، وقد يكون منها شغلها بمعارك جانبية، أو أهداف وهمية.
ولقد رأينا كيف تحول العداء الموجه إلى السياسة الأمريكية وعملائها -بعد
غزو روسيا لأفغانستان- إلى روسيا، مما دفع بعض المحللين إلى القول بأن الغزو
الروسي لأفغانستان تم بتنسيق مقبوض الثمن بين أمريكا والروس.. ونحن لا نريد
أن نتوه في متاهة التحليلات التي كثيراً ما تكون هي نفسها موجهة، ولكن الذي
نريد أن ننبه إليه هو أن جعبة الاستعمار تحوي الكثير من المفاجآت والأساليب
والخطط.
وسواء كان غزو أفغانستان بتنسيق مشترك بين الأمريكان والروس أو لم يكن
فمن المهم أن نعرف أن التخطيط لا يمكن مواجهته بالارتجال والاستنتاجات العفوية، وإنما يواجه بتخطيط علمي منظم يدرس كافة الاحتمالات، ويستوعب الصورة من
جوانبها المختلفة، ويقدر لكل حالة ما يلائمها. ونحن لا نشك لحظة في المصلحة
المشتركة بين الشرق والغرب في ضرب الصحوة الإسلامية، وانهما معاً ومن
خلفهما الدول الدائرة في فلكهما -سواء تم تنسيق أم لم يتم- يستخدمون كل ما
يملكون لمنع قيام قوة إسلامية لها وجود عالمي مؤثر في توازن القوى الاستعمارية
بأي حال من الأحوال، ولا يجب أن يغيب عن وعينا لحظة واحدة أن هذه القوى
تملك من وسائل التوجيه والتأثير في العالم الإسلامي الشيء الكثير، وإنها عند
الضرورة لن تتورع عن التدخل السافر المكشوف، ومن هنا يتحتم على الحركة
الإسلامية أن يكون لها عقلها الواعي المدبر، القادر على التخطيط الواعي المنظم.
إن فرصتنا باتساع مدى الصحوة الإسلامية، والعجز الظاهر حالياً عن
احتوائها وتدجينها لا يجوز أن يشغلنا لحظة واحدة عن الخطر ومداه وإمكاناته، كما
لا يجب أن نغفل لحظة واحدة عن أن الصحوة الإسلامية تواجه أعداء أقوياء مدربين
على العمل المخطط والمنظم، ولهم يد طويلة في كل ركن من أركان العالم
الإسلامي، ولهم وسائل تأثير وعمل نشطة وقوية وراءها رصيد هائل من الخبرة
والتجربة.
إجهاض الصحوة الإسلامية أخطر من نكبة الأندلس:
إن إجهاض الصحوة لو حدث فسوف يكون كارثة أشد هولاً بما لا يقاس من
نكبة الأندلس، لأن نكبة الأندلس وإن تمثلت في عملية استئصال بشعة، إلا أنها
كانت محصورة في طرف، ولم تشمل الأمة كلها، أما خطر إجهاض الصحوة فإنه
يهدد مستقبل الأمة الإسلامية كلها بل يهدد وجودها كله، ذلك لأنه سيجعل الطريق
خالياً تماماً من أي عوائق لتكمل العلمانية مهمتها التي تمارسها بجد ونشاط منذ أكثر
من قرن من الزمان، هذه المهمة التي تتمثل في إنهاء الوجود الإسلامي تماماً
وتبديل الإسلام وليس مجرد تحريفه ديناً آخر يكون مطية للعلمانية وأداة من أدواتها، وجزءاً من الشكل العام الذي صاغت فيه نفسها، هذا إذا كتبت الغلبة للعلمانية
الغربية التي حافظت على الدين بمفهومها الخاص كجزء من الشكل (الديكور)
الخاص بها لأنها تزعم أنها تؤمن بحرية العقيدة -بمفهومها الخاص طبعاً للعقيدة-
ضمن منظومتها الخاصة بها في الحرية والتي تحرص على أن تكون سمتها التي
تميزها عن العلمانية الشرقية أي الشيوعية. أما إذا كتبت -ونعوذ بالله من كلا
الحالتين- الغلبة للعلمانية الشرقية أي الشيوعية، فإنها سوف تتعامل مع الإسلام
كبقايا متخلفة من عصور تجاوزها التطور (ديالكتيك الطبيعة) كما يقولون. وهؤلاء
لا يريدون الدين كشكل (ديكور) لأن نظامهم يقوم على الإلحاد كعقيدة ولا يؤمنون
بالمفهوم الغربي للحرية، ويرون الدين مظهراً من مظاهر التخلف التي يجب
التخلص منها نهائياً..
إنني لا أتكلم هنا عن تصور مستقبلي لشكل الكارثة، وإنما أتكلم عن بوادر
لها واقع حقيقي في العالم الإسلامي سواء فيما يتعلق بالعلمانية الغربية أو العلمانية
الشرقية.
العلمانية هي الخطر الحقيقي الذي يهدد الوجود الإسلامي:
إن الحقيقة التي يجب أن نستوعبها استيعاباً عميقاً يحرك في أعماقنا إحساساً
متكافئاً بالخطر، هي أن العلمانية بشقيها أو بشطريها هي الخطر الحقيقي الذي يهدد
الوجود الإسلامي تهديداً مباشراً، ذلك لأن العلمانيين يعلمون أكثر مما نعلم نحن -
مع شديد الأسف- أن التهديد الحقيقي للعلمانية لا يتمثل في شيء على المدى الطويل
كما يتمثل في الإسلام، لأن الإسلام وحده هو الذي يملك إمكانات حقيقية (علمية
وعملية وتنظيمية) لمواجهة العلمانية والتصدي لها، إن قوة الإسلام تتمثل -كما
يعرف هؤلاء بأكثر مما نعرف نحن (مع شديد الأسف) - في أساسه العلمي الراسخ
الذي لا توجد فيه أي ثغرة من ثغرات الضعف الذي يتمثل في جزء خرافي أو
أسطوري أو تلفيقي كما هو شأن الأديان الأخرى، وهي الثغرات التي أمكن
للعلمانية أن تستغلها عند الأديان الأخرى لتضربها في مقتل ...
إنهم يعلمون أكثر مما نعلم نحن -وياللحسرة- أن الإسلام لم يعتمد قط على أي
عنصر خرافي أو أسطوري للترويج لنفسه. وأن قوته الهائلة إنما استمدها من
الطرح العلمي الخالص الذي استقطب عقول العقلاء، الذين دانوا له بالطاعة،
والذين كان ليقينهم العلمي الراسخ بأن الإسلام حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه، هذه القوة الدافقة الهائلة التي لا يعرف التاريخ لها نظيراً، وأنهم إذا كانوا
قد حاربوا الدين في الغرب أو الشرق باسم العلم فإن هذا الدين لو نجحت الصحوة
الإسلامية في إعادة عرضه بدءاً مما ألحقه به الجهلاء بل والأعداء المخربون من
خرافات وأساطير، فإنه سوف يستعيد سلطانه الساحق على العقول التي تؤمن بالعلم، وهو السلطان الذي دانت له ومن أجله العقول في الماضي، ودانت لهم الدنيا من
بعد بفضل تمسكهم به؛.. ويومها لن تستطيع قوة في الأرض أن تقف في وجهه لا
باسم العلم، ولا باسم العقل ولا باسم أي شيء آخر.
مسئولية الدعاة عن توجيه الصحوة:
لذا فإن الدعاة مسئولون أمام الله تعالى مسئولية كبرى عن توجيه الصحوة
وحمايتها، إن هذه الصحوة في أشد الحاجة إلى القيادة المؤمنة الواعية التي تستطيع
توجيهها إلى العمل الصائب الذي يُجَنّبْهَا المخاطر، ويجعلها على وعي بالفخاخ
المنصوبة على كل خطوة في الطريق.. إن أكثر ما يملأ النفس حسرة وأسى هو
رؤيتها للنيران التي توقد للشباب المسلم في كل مكان، لقد حدثنا القرآن الكريم عن
أخدود واحد من الأخاديد التي حفرها الطغاة ليحرق فيها المؤمنون، ودعانا إلى أن
نلعن هؤلاء الطغاة، بل علمنا كيف نلعنهم فقال تعالى: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ *
النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا
نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [البروج: 4-9] .
إن القرآن الكريم لا يعرض علينا صورة من الماضي نتسلى بها، ولا
يعرضها على المؤمنين ليتعزوا بها فقط إذا ابتلوا، وإنما يعرضها علينا ليكشف لنا
عن النهج الطاغوتي في مواجهة المؤمنين، وليبين لنا أن الطواغيت لا تتردد مطلقاً
في أن تعمد إلى أبشع الوسائل لسحق الإيمان إذا شعرت أنه يعرض طاغوتيتها
للخطر، وهو يكشف لنا في نفس الوقت عن حجم الإيمان المطلوب ليكافئ هذا
الخطر الطاغوتي ويواجهه.. وهذا الإيمان المطلوب ليس هتافاً تشق به الحناجر
عنان السماء، ولا هو كلمات لاهبة تصب لعناتها على الطغاة، إنه ثمرة جهد
صبور معين واعٍ في التعليم والإعداد والتربية، والذين عاينوا وجربوا وواجهوا
يعلمون علم اليقين أي نوع من الإيمان، وأي قدر من الإيمان هو المطلوب لمواجهة
المحارق التي يَستنزل هَوْلها الحليم من علياء حلمه، ويستخرج الجلد الصبور من
جلده وصبره.
خطر استهلاك الشباب:
وإنها لجريمة لا تَعْدلها جريمة أن يعبث عابث باسم الإسلام بشحن الشباب
الغض الذي لم يستوِ على سوقه، ولم يستحصد عوده، ولم تكتمل أهبته، ثم يدفعه
بجهل وغرور وحمق إلى المحارق التي قد تفتن هذا الشباب عن دينه، وما أكثر ما
فتنت.. ثم ما أشد ظلم هؤلاء إذا ألقوا من بعد المسئولية على الشباب إذا فتنوا،
وتاهوا، وضاعوا، بل وانقلبوا أحياناً حرباً على الإسلام، وأدوات في أيدي
أعدائهم.
ثم إنها لجريمة أخرى أن يحجم الدعاة عن توجيه هذا الشباب مكتفين باتهامهم
بالتطرف أو الغلو أو الجهل، مع أن غيرهم أولى بأن يتهم بالتقصير في البلاغ
والبيان والنصح، لا أعني به هذا البلاغ الذي يتمثل في كلمة تلقى إلى الشباب من
مذياع أو تلفاز أو صحيفة كثيراً ما يكون أصحابها قد تقاضوا عليها أجراً يصبحون
بعد ذلك راضين عن أنفسهم متصورين أنهم أدوا الأمانة، ونصحوا للأمة، فإذا لم
يستجب الشباب لنصحهم فاللوم يقع على عاتق الشباب لا عليهم.
إن العمل المطلوب هو بذل أقصى الجهد من أجل تبصير الشباب بحقائق
الواقع، وتسليحهم بفهم سليم للإسلام، وإنه لمما يحز في النفس أن يترك الشباب
هكذا، دون خبرة كافية بأساليب العمل، ودون فقه كافٍ بالإسلام، ودون عالم كاف
بحقائق الحياة، ودون معرفة صحيحة بالتاريخ، ودون وعى كاف بأحوال العصر
وظروفه وقواه ومتغيراته.. يترك هكذا في مواجهة آلات جهنمية تستغل فيه
حماسته لدينه، مستدرجة إياه هنا وهناك إلى معارك تفتعلها لصرف الأنظار عن
فشل، أو عن تورط.. إن مسئوليتنا أمام ربنا تحتم علينا أن نحول بكل ما نملك من
خبرة وعلم وجهد دون استهلاك هذا الشباب في مواجهات غير متكافئة لم يعدوا لها،
ولم يختاروا زمانها.. كما أنها تحتم الحيلولة دون استهلاك هذا الشباب نفسه في
صراعات داخلية في نطاق الحركة نفسها سببها الأساسي قلة العلم، وقلة الفقه،
وقلة الخبرة.
الاختلاف والفرقة أشدا خطراً:
ومع التحذير الذي قدمناه من المخاطر الخارجية، نحذر كذلك من مخاطر
داخلية داخل الصحوة نفسها هو خطر الاختلاف والفرقة، بل إن هذا الخطر أشد
تدميراً من خطر الإجهاض الخارجي، ذلك أن الخطر الخارجي إنما يمارس دوره
من خلال منافذ وثغرات في البناء، وأخطر هذه الثغرات والمنافذ هي الاختلاف
والفرقة، وبقدر ما ندعو إلى الحذر من الخطر الخارجي ندعو كذلك إلى ألا نجعل
من هذا الخطر " شماعة " نعلق عليها عجزنا ونبرر بها فشلنا، بل إنا لا يجب أن
نلوم القوى الخارجية، أو نتوقع منها شيئاً آخر غير ما تفعله بنا، وإنما يجب أن
نلوم أنفسنا. لقد قامت هذه القوى أساساً على استغلال الغير، ولذا فلا توجد حدود
أو اعتبارات تردعها عن هذا الاستغلال، وهذه القوى لا تعرف إلا شيئاً واحداً اسمه
(المصالح) ، وهي من أجل ضمان هذه المصالح لا تتورع عن ارتكاب أشنع الجرائم
التي تؤثمها أية معايير أخلاقية، ذلك أن السياسة الغربية فصلت منذ قرون فصلاً
تاماً وكاملاً ونهائياً بين الأخلاق من أي نوع وبين المصلحة سواء كانت مصلحة
قومية أو فردية، وذلك منذ أن دانت بدين المذهب الطبيعي الذي يقول: بالبقاء
للأصلح الذي هو الأقوى، وليس الأحسن خلقاً، والذي يؤمن أصحابه إيماناً مطلقاً
بحق القوي في استغلال الضعيف وتسخيره، بل فرقوا بين نوعين من الأخلاق:
أخلاق القوة التي ترى الرحمة والشفقة والإحسان والتسامح عجزاً وضعفاً؛ وأخلاق
الضعف التي ترى الرحمة والشفقة والإحسان والتسامح ديناً وتقوى؛ وهم يعدون
الأولى هي الأخلاق التي تليق بالسادة المؤهلين تأهيلاً طبيعياً للسيادة والسيطرة،
ويعدون الثانية هي أخلاق العبيد المؤهلين أيضاً تأهيلاً طبيعياً للخضوع والذل
والمسكنة، وقد ساد هذا المذهب في الغرب والشرق، فظهر في فرنسا في صورة
الوضعية التي أسسها (أوجست كونت) وفي إنجلترا في صورة المذهب الحسي عند
(بنتام) وفي صورة الفلسفة التطورية عند (دارون) و (هربرت سبنسرا) ، بل
إن هربرت سبنسر صرح بأن من حق الشعوب القوية استعمار الشعوب الضعيفة،
وفي ألمانيا في فلسفة القوة عند نيتشه والذي مجد الشراسة والافتراس كخلق إنساني
للأقوياء، وأفرز النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وفي إيطاليا سبق
(ميكافيللي) إلى تقرير المذهب الذي يعرف باسمه اليوم ويدين به الساسة في كل بلد، والذي يقول بأنه لا أخلاق في السياسة، وفي أمريكا ظهر في صورة المذهب
النفعي (البراجماتى) الذي أسسه وليم جيمس، وفي روسيا في صورة الشيوعية..
وعليه فيجب أن نتصرف على أساس أن سلوك الاستعماريين هو سلوك ثابت
مؤسس على اعتقاد راسخ، وليس مجرد نزوات طارئة أو وقتية..
ولاشك أن الذي مكن وما يزال يمكن للاستعماريين فينا هو عجزنا وضعفنا
وهواننا وفرقتنا، ولكن حين يكون التفرق والاختلاف في الصحوة التي تعقد عليها
الآمال في خروج الأمة الإسلامية من بئر الهوان فإن الأمر لا يحتمل التلكؤ، وإنه
جد خطير..
ولنواجه الواقع الإسلامي دون لف أو دوران، ودون مواربة لأن ذلك يعني
ترك الخرق يتسع، والشق يتحول إلى شقوق تؤدي في نهاية الأمر إلى انفجار
الصحوة من داخلها، وساعتها لا ينفع الندم، وساعتها لن يكون الحساب حساب
الذين اختلفوا وحدهم، وإنما سيكون أيضاً حساب الذين عرفوا وسكتوا، والساكت
عن الحق شيطان أخرس.
اختلاف الناس:
لا أقول إنه يمكن رفع الاختلاف كلية، لأن الاختلاف في الناس سنة من سنن
الله تعالى من أجلها خلقهم، قال تعالى: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ] [هود /118] . جاء في تفسير هذه الآية: «يخبر تعالى
أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى: [ولَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً] ، وقوله: [ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ
مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم
ومذاهبهم وآرائهم. قال عكرمة: مختلفين في الهدى، وقال الحسن البصري:
مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً، والمشهور الصحيح الأول» [تفسير ابن
كثر 1 /464-465] .
الاختلاف في المسلمين أكثر منه في أهل الكتاب السابقين:
بل لقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث الفرق المشهور من أن
الاختلاف في أمته سيكون أكثر من الاختلاف في اليهود والنصارى، وقد روي هذا
الحديث بطرق كثيرة منها ما رواه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبى
سفيان -رضي الله عنهما-، أنه قام فقال: ألا إن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قام فينا فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين
وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تَجارى بهم الأهواء
كما يتجارى الكلَب بصاحبه» .
لا عذر في الاختلاف الذي سببه الأهواء والشهوات:
لكن ذلك لا يعني أن أهل الخلاف معذورون في اختلافهم عند الله تعالى، بل
العكس هو الصحيح، وهو أنهم محجوجون عنده، لان الاختلاف وقع منهم بسبب
أهوائهم وشهواتهم، ولذلك تخلفت عنهم رحمة الله تعالى التي كتبها للذين يتبعون
هداه ويخالفون أهواءهم وشهواتهم، ولا يخالفون هدى الله، ولذا قضى الله عليهم
بالعذاب ما لم يتوبوا.
الاختلاف الذي يعذر فيه:
إنما يعذر في الاختلاف الذي يكون سببه الجهل وفساد التأويل فيما يعذر
المخالف فيه بجهله أو بفساد تأويله مما لا يكون معلوماً من الدين بالضرورة، أو مما
يجب على كل مسلم أن يعرفه، وهذا النوع من الاختلاف، يجب فيه تعليم الجاهل
، وبيان فساد التأويل للمتأول، مع التأكيد على المخالف بعد البيان إذا أصر على
الخلاف بعد البيان يكون متبعاً لهواه مفارقاً للجماعة التي من شذ عنها شذ في النار.
خلاف يثاب عليه:
وفي داخل الجماعة التي كون من شذ عنها شذ في النار، خلاف أعذر الله
فيه المخالفين من المجتهدين في فقه الأحكام العملية فيما يجوز فيه الاجتهاد، ولأنهم
استفرغوا الوسع، وبذلوا الجهد، ولم يتبعوا أهواءهم وعدهم الله بالأجر حتى مع
الخطأ.
من أجل ذلك كله دعوت وأدعو إلى المراجعة البناءة للعمل الإسلامي لتوجيه
الصحوة الإسلامية، وحمايتها من المخاطر التي تتهددها، ويجب أن تكون المراجعة
على منهج هدفه أن يحصر الخلاف، ويتعلم الجاهل، ويتنبه المتأول ويلزم الناس
الجماعة التي بدونها تصبح الصحوة فقاعة في الهواء؛ ولن يتحقق ذلك إلا على
أساس من فقه صحيح للإسلام.(9/30)
مهمة الإعلام الإسلامي
بقلم: عبد الرحمن نموس
ليست مهمة الإعلام الإسلامي إلا تبليغ رسالة الإسلام وتوضيح صورتها أمام
من جهلها والذود عنها ضد من عادها وما كان رسولنا الكريم إلا مبلغاً لهذه الرسالة
عندما نزلت من السماء وفق الأمر الإلهي في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] [المائدة: 7] .
فنهض صلوات الله وسلامه عليه في أداء المهمة، وقام بإبلاغ الرسالة حتى
أتاه اليقين وقد شهدت له أمته بذلك.
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال في خطبته يومئذ: «يا أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء
وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد (ثلاث مرات) .
وإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو قدوتنا وأسوتنا [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ] [الأحزاب / 21] .
وإذا كانت الرسالة قد أنزلت للناس كافة [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا] [سبأ / 28] وإذا كنا مطالبين بقوة بالاقتداء بالرسول الكريم -صلى الله
عليه وسلم-، وفي نشر هذه الرسالة والحفاظ عليها، فإن ذلك يتطلب منا أن نبذل
أضعاف ما نبذل من الجهد، وأن ننهض للذود عن أنفسنا وعن المليار مسلم الذين
عبث بهم السيل ما عبث، وعن الدين الذي ارتضاه ربنا لنا وبه صرنا المسلمين.
وللإعلام -الذي يمكن أن يسمى " تخصيصاً " بالعملية الإعلامية، من حيث
البث والاستقبال وأدوات البث- عدة عناصر:
أ- رسالة تشكل محور العملية الإعلامية.
ب- مرسِل يقوم على بث هذه الرسالة.
ج- وسيلة يتم بها الإرسال.
د- مستقبل هو المستهدف من هذه الرسالة.
والرسالة: هي مجموعة الأفكار التي يتم التعبير عنها بإشارات لغوية تكون
في الغالب على شكل أحرف أو كلمات تتحول إلى جمل مفيدة تترك أثراً في نفس
مستقبليها سلباً أو إيجاباً، ويسعى المرسل من خلالها إلى تحقيق هدف معين.
أما المرسِل: فهو الشخص الذي يبث الرسالة الإعلامية عبر وسيلته المناسبة
بغية تحقيق أهداف معينة قد تكون تعزيز مبادئ وأفكار معينة، أو تعديلها، أو
محاربتها، أو تأييدها. ومستقبل الرسالة هو كل من يتلقاها وتترك فيه انطباعاً ما،
سلباً أو إيجاباً، أما انعدام الأثر بالكلية بالنسبة للمستقبل فلا يعد استقبالاً لها ولو
سمعها أو قرأها، لأن للتفاعل معها دورا أساسياً.
والوسيلة هي الشيء الذي يتم من خلاله نقل الرسالة، كالصحيفة أو المذياع..
ويختار المرسل عادة الأسلوب الذي يراه جيداً لإيصال رسالته إلى أذهان
مستقبليها وهو في ذلك لا يخرج عن أحد الأساليب الثلاثة التالية:
1- التعرض للفكرة أو الظاهرة المطروحة في الرسالة من خلال بعدها
الوصفي، كأن يتناول ظاهرة اجتماعية معينة ويصفها وصفاً دقيقاً من خلال واقعها، دون أن يزيد على ذلك أو يضع آراء من عنده تبين سلبية أو إيجابية هذه الظاهرة، وبالتالي يترك القرار النهائي للمستقبل في أن يستوعب هذا الوصف ويقيمه من
منظوره الخاص، ويخلص إلى نتيجة هذا التقييم بنفسه دون تدخل مباشر من
المرسل، الذي قد يلجاً إلى الإيحاء الخفي في إبداء ما يريده من وصف تلك الظاهرة.
2- التعرض للفكرة من خلال بعدها الوصفي مع إضافة تقييم موضوعي لهذا
الوصف، وذلك بأن يتعرض المرسل للفكرة أو الظاهرة فيصبغها الوصف الدقيق
كما في الفقرة الأولى ثم يتبع هذا الوصف بتقييم موضوعي يبين فيه الجوانب
المضيئة في الظاهرة والجوانب المظلمة، وقد يجري موازنة بين هذه وتلك ثم
يتوقف تاركاً للمستقبل التوصل إلى النتيجة التي يريدها هو ويريد للمستقبل أن
يصل إليها. أو قد يزيد على ذلك بأن يقدم النتيجة التي وصل إليها بعد التقييم ... بنفسه، ولكنه يترك للمستقل حرية الالتزام أو عدم الالتزام بها.
3- التعرض للفكرة أو الظاهرة وتبيان أبعادها ولو بصورة موجزة ثم التزام
موقف حيالها وحض أو تحريض المستقبل صراحة على تبني موقف المرسل من
الظاهرة.
وذلك بأن يعرض المرسل للظاهرة أو الفكرة من منظوره الخاص ويقيمها
ويصل إلى نتيجة ويؤكد أن نتيجته هي الصحيحة وما سواها خطأ ويلزم بالتالي
المستقبل على الأخذ بما قدمه له على أنه الصحيح ولا يترك له الحرية للتفكير جيداً
بها، بل قد يهمل المرسل الذي يلجأ إلى هذا الأسلوب الوصف والتقييم
الموضوعيين، ويقدم النتيجة التي يريدها، ويضع لها من المبررات ما يشاء حتى
يقنع المستقبل بها، ويحضه على تبنيها، الأمر الذي قد يصل إلى حد ازدراء آراء
المستقبل وخلفيته الثقافية وقدراته على تقييم الظواهر والأفكار مما يؤدي بدوره إلى
رد فعل سلبي عند المستقبل قد يجعله في الموقف المضاد -إن استطاع- وفي موقف
السكوت على مضض إن لم يستطع.
ويخرج عن هذا الضبط القرآن الكريم بما فيه من منهج إعلامي رباني، ولأنه
كلام الخالق وليس كلام بشر يستوي فيهم المرسل والمستقبل، ففي القرآن الكريم
الحكمة والموعظة الحسنة، وفيه الجدال بالتي هي أحسن، وفيه الترغيب وفيه
الترهيب، وفيه الوصف، وفيه التحريض، ومثل ذلك السنة النبوية، فالرسول -
صلى الله عليه وسلم- وإن كان بشراً لكنه بالإضافة إلى ذلك هو نبي مرسل [ومَا
يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى] [النجم: 3-4] .
أما ماخلا أسلوب القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة فيكون من المناسب أن
لا يشعر مرسل الرسالة الإعلامية مستقبلها بأنه من طبقة أدنى مستوى أو أقل فهماً
حتى لا يجعله عرضة للمواقف المبنية على ردود الأفعال.
وهنا تبدأ أهمية شخصية المرسل في اختيار الأسلوب الإعلامي الأنجع الذي
يمكن ممارسته تجاه مستقبلي الرسالة، خصوصاً وأن عدداً لا يستهان به من
المستقبلين لا يستقبل رسالة المرسل وحده، بل يستقبل رسائل من ألوان شتى تجعله
يعيش في بحر متلاطم الأمواج من المعلومات الصحيحة والخاطئة، الغثة والسمينة
تجعلهم يتيهون بين الخطأ والصواب ويتعثرون في الاهتداء إلى القيم من غيره.
والإعلام الإسلامي وسط هذا البحر الكلامي الهائج هو الأقدر على أن يمثل نقاط
العلام البارزة التي تهدي الحائر من عامة المسلمين أو غيرهم إلى الطريق الصحيح، وهو إذ يفعل ذلك لا بنوعية الورق ولا بحجم الكلام المكتوب أو كمية البث
المسموعة بل بالإنسان المرسل الذي أوكلت إليه مهمة الإرسال أياً كانت الطريقة.
وهذا ما يؤكد على أهمية المرسل في العملية الإعلامية، لذا فمن المناسب ... بيان أهم الصفات التي يتحلى بها المرسل الإسلامي الناجح، وهي:
أ- الأسوة الحسنة: وتكون الأسوة الحسنة من وجهين:
الأول: أن يتأسى المرسل أو على الأقل أن يجتهد للتأسي بأخلاق وأسلوب
الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في التبليغ والدعوة وغير ذلك فهو المشهود
له بالأخلاق العظيمة من رب العالمين [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم: 14] وهو
القائل -صلى الله عليه وسلم-:» بعثت لأتمم حُسْنَ الأخلاق « [1] والله سبحانه
وتعالى حضَّنا على أن نتأسى برسولنا الكريم بقوله سبحانه وتعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] [الأحزاب: 21] .
والثاني: أن يكون المرسل بتحقيقه للبند الأول أسوة حسنة لمن يبلغهم رسائله
لأنه إن تخلت عن هذا المعنى فلن يجد الأذن الصاغية لكلمته أو العين القارئة
لعبارته، ويكون إضافة لذلك قد تخلف عن جوهر أساسي يدعو إليه في رسائله
ووقع فيمن وصفهم الله عز وجل بالمقت في قوله: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 3-4] .
ويدخل في إطار الأسوة الحسنة انسجام القول مع العمل كما بينت الآية
الكريمة، إذ يشكل هذا الانسجام بين القول والعمل نقطة أساسية تعين المستقبل الذي
يستقبل كماً هائلاً من المعلومات المختلفة التي تدعو إلى تبني أفكار ونظريات شتى
على اختيار الأسلم والأصح، وتجعله يكبر ويحترم الرسالة التي أخلص لها
مرسلوها وانسجموا معها فجاءت نابعة من القلب قابلة لأن ينسجم معها المستقبلون.
وحقيقة نواجهها جميعاً هي أن الكثيرين لا يميزون بين حقيقة الإسلام وبين
المسلمين إذ يرون الإسلام فيهم فإن أساءوا كانت الإساءة للإسلام والعكس صحيح.
2- أن يتخلق المرسل الإسلامي بأخلاق القرآن اقتداءً بالرسول الكريم - ... صلى الله عليه وسلم- الذي قالت عنه عائشة رضي الله عنها: (فإن خلق نبي ... الله - صلى الله عليه وسلم- كان القرآن " [2] ، وعندما يتحقق ذلك بالمرسل يكون قد امتلك زمام الأمر تجاه مستقبلي رسالته بحيث يجدون أنفسهم أمام إعلام ملتزم منسجم لا ينبني على مراوغة ولا على دجل، الأمر الذي يسهل لهم ويمهد سبيل الاقتناع بالرسالة وتبنيها. ويوضح لهم الفارق بين الرسالة الإسلامية الواقعية والرسائل الأخرى التي بنيت على نظريات من خيال ... أصحابها ولم تنجح بحال -في معالجتها لمشاكل الإنسان- من الإفراط أو التفريط.
3- الإيجاز والبيان وعدم الإلحاح: فالكلام الكثير ينسي بعضه بعضاً وتضيع
قيمته بذلك، أما الإلحاح والكثرة فقد تسبب السآمة للنفس، فعن أبي وائل شقيق بن
سلمة قال: كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يذكّر الناس في كل خميس مرَّة،
فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن: لوددت أنك ذكَّرتنا كل يوم، قال:» أما إنه
يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا « [3] .
والتكرار الذي قد يظن صاحبه أنه من الأدب والبلاغة قد يكون تكراراً غير
محمود يجعل ما دخل في القلب يتطاير مرة أخرى، وما قبلَتْه النفس وهو جديد
تعافه نتيجة التشدق به والإعادة.
4- عدم استخدام وسيلة الإرسال أياً كانت كمنبر للردود الشخصية أو
الهجمات اللاذعة غير المبنية على أساس علمي واضح، إذ يجب أن تسمو الوسيلة
الإعلامية عن ذلك وتترفع، مستمرة في أداء رسالتها الأصلية وفق منهجها الواضح؛ فللشريعة أساسياتها المتينة والثابتة التي منها ينطلق العمل الإعلامي والدعوي،
وأما مما اختلف فيه من نقاط على الدرب فتعالج بالأساليب الخاصة بها من غير
التعرض والتعرض المضاد في الوسيلة الإعلامية، حتى تحافظ هذه على ... مستوى رفيع من الأخلاقية الإسلامية، التي منها يستنشق المدعو أو المستقبل ... رائحة الرسالة الناجحة الهادفة.
5- إن الرسالة الإعلامية الإسلامية تعتمد على خصائص ثابتة تمثل خصائص
الشريعة نفسها من ثبات وشمولية وواقعية ومرونة وصلاحية، وبالتالي فإن مضمون
الرسالة ينطلق في هذه الخصائص، ولكن سر نجاح أو فشل تلك الرسالة يرتبط
بمقدار معرفة وخبرة المرسل بمستقبِلي رسالته، هذه المعرفة والخبرة التي تمكنه
من أن يقدم لكل جمهور مادته المفضلة عبر وسيلته المفضلة، وواضح أن لكل
وسيلة جمهورها ولكل رسالة مستقبليها، والخبرة والفراسة في ذلك هي سر النجاح، إذن: إن إساءة الاستخدام في هذه النقطة تؤدي إلى نتائج عكسية غير ما يتوخاه
المرسل.
6- المعرفة الجيدة بالإعلام المضاد وبمخططاته والعمل على صدها وردها
بالأدلة العلمية الدامغة لا بالهجمات الكلامية الفارغة، لأن المستقبل الذي اعتاد أن
يستقبل رسالة واضحة مدللة بأدلتها التي تدحض فيها ظاهرة أو تؤيد فكرة يجد من
غير المألوف ومن غير المقنع أن يلجأ المرسل إلى مجموعة عبارات محشوة بالشتم
والسباب على الإعلام المضاد، لأنه تصرف كذا أو وقف موقف كذا، دون أن يبين
المرسل إلى أي شيء استند في موقفه، وعلى أية أدلة ارتكز في مواجهته.
إن المستقبل الذي يستقبل الرسائل الإعلامية الإسلامية قد وعى تماماً ماذا
يعنيه طرح الشعارات الرنانة التي تدين اتجاهاً أو فكراً أو ظاهرة، أو تؤيد ذلك
الاتجاه أو الفكرة أو الظاهرة، وهو اليوم بحاجة إلى منهج إعلامي واعٍ تحمل
رسائله له ما يريح النفس ويقنع العقل، ويواجه الأعداء الذين لا ننتظر منهم
السكوت بالأدلة القادرة على إسكاتهم، والبراهين الباترة لادعاءاتهم.
7- معالجة الأخطاء التي يتعرض لها المرسل خلال بث رسائله بهدوء وتروٍ
وبصيرة، لأن الاعتماد على الإصلاح العاطفي أو المبني على ردود الفعل العصبية
سيؤدي بالضرورة إما إلى الإفراط أو التفريط، ومن هنا وجب الحذر والدقة في
معالجة أخطاء المرسل، مع وضع قاعدة (كل ابن آدم خطاء) بالحُسبان.
وبعد هذا الاستعراض الموجز لأهم صفات مرسل الرسالة الإعلامية ... الإسلامية؛ لابد من الإلماع إلى أهم العقبات التي تقف حجر عثرة في وجه تقدم تلك الرسالة، أو على الأقل تعيق تقدمها بشكل ملحوظ.. ومن ذلك:
1- عدم الالتزام الفعلي والجيد بالمنهج الرباني الموضوع لنا، ويبدو ذلك
واضحاً من خلال تناقض الكثيرين من أصحاب الرأي المستنير بين قول وعمل.
ومن ذلك: أن تقع بأيدي بعض الشباب محاضرة أو موضوع عن الغيبة
والنميمة وأثرهما السلبي في البناء الإسلامي، ثم ما نلبث أن نصل إلى نهاية
المحاضرة أو الموضوع حتى نرى لمزاً أو غمزاً بشخصيات إسلامية من مستوى
صاحب المحاضرة أو أعلى مستوى. إننا نهاجم فعلاً معيناً وفق نصوص وأدلة
شرعية واضحة، ثم نأتي على ارتكاب ذلك الفعل، متخذين لأنفسنا مبررات تقنعنا
بضرورة خوض ذلك الغمار، جهلاً أو تجاهلاً، أو اتخاذ أعذار قد تقنعنا ولا تقنع
أحداً غيرنا، ولربما لم تقنعنا أصلاً ولكننا تصنَّعنا الاقتناع.
2- الاستهانة ببعض المخالفات الشرعية أمام أكذوبة (ضرورات العصر) فالإعلام الإسلامي إعلام عقائدي يتمثل بقواعد ومبادئ راسخة ينمو بنمائها ويزدهر بازدهارها في أنفس المسلمين، ولكن بعض هذه المبادئ أو القواعد قد يتم نقضها بحجة " ضرورات العصر " أو لأنها أمور صغيرة هنالك ما هو أهم منها بكثير، أو لأن البعض يعتقد أن نمو الإسلام وتقدمه لا يتوقف عليها.
وأمثلة بسيطة على هذه الأمور:
(التصوير، التدخين، حلق اللحية بغير ضرورة ملجئة، الاختلاط أحياناً)
علماً أن هذه الأمور جميعاً تخل بسلوك المسلم إخلالاً كبيراً، شعر بذلك أم لم
يشعر، اعترف بأثرها السلبي أم لم يعترف.
وإذا كان لمثل هذه الأمور أثرها السلبي في نمو شخصية أي مسلم، فكيف
يكون أثرها بالنسبة للقائم على توجيه الرسالة الإعلامية الإسلامية..؟ ! إنه تساؤل
جدير بالإجابة. ولكل قارئ أن يجيب بنفسه.
3- النقص العام وعدم التكامل في التوجيه:
يبدو واضحاً أن أغلب الرسائل الإعلامية الإسلامية تتوجه هذه الأيام إلى
المواعظ المتعلقة بالأعمال العبادية المحضة، وبالرغم من ضرورة هذه وموقعها
الأساسي في الإعلام الإسلامي فالواجب عدم الاقتصار عليها، فالإسلام دين متكامل
يتسع لكافة أمور الحياة، وبالتالي يلزم تنوع الرسائل بتنوع المستجدات وحسب
أولويات مدروسة.
إضافة إلى ذلك: فإنه من المفيد جداً وضع خطط يتم تنفيذها وفق جداول
زمنية معينة وبعد دراسة موضوعية شاملة، بحيث تؤدي هذه الخطط في النهاية إلى
النتيجة التي يتوخاها المرسل.
أسباب نجاح العملية الإعلامية:
مما تقدم يتبين، بأن الإعلام الإسلامي يعاني من عقبات عدة تستلزم
بالضرورة العمل الجاد لإزاحتها والتغلب عليها، وربما كان الخوض في هذا المجال
خوضاً في مجال واسع لا يسعني عرضه مفصلاً هنا، ولكن أعرض بعض النقاط
التي إنما تعبر عن وجهة نظرٍ، أدعو الله أن تلاقي القبول.
1- اختيار الكفاءات الصالحة والقادرة على القيام بهذا العبء:
فمعلوم أن القائم على العملية -وخصوصاً توجيه الرسائل- هو العنصر الأهم
فيها، وبالتالي فإن العمل على إنجاح هذه العملية يستوجب أن يكون القائم عليها
أهلاً للمهمة من حيث المستوى العلمي والإدراكي، ومن حيث النظرة الشمولية
لمتطلبات العمل، والأفق الواسع الذي يمكن من وضع المخططات التي تضمن
أحسن النتائج.
إن العلاقة التي يمكن أن تقوم بين المرسل ومستقبلي الرسالة علاقة تحتاج
إلى مزيد من الدقة في التعامل، فالمستقبلون يتلقون الرسائل فينسجمون مع بعضها
ويحبون بعضها ويمتعضون من قسم منها، وقد تثور ثائرتهم على جزء منها نتيجة
خلفية خاطئة عنها أو جهل مستعص بها، فكيف يتعامل القائم مع ذلك الاختلاف؟ !
إنه أمر خاضع -بالإضافة إلى العلم والإدراك وسعة الأفق- إلى مقومات شخصية
تستطيع أن تستوعب هذا الاختلاف المؤقت وتحيله انسجاماً ووحدة في النظر عند
الجميع حتى يتشكل عند المتلقين جميعاً، شيء أهم من الرأي العام وأرفع، وربما
كان الصبر الطويل واحداً من مقومات تلك الشخصية.
2- تحري الدقة التامة بمصادر بعض الرسائل الإعلامية:
إن المصادر الأساسية لرسالة الإعلام الإسلامي مصادر موثوقة بذاتها كالقرآن
الكريم والسنة النبوية، ولكن الأمر يختلف عندما تعترض العمل أحداث مستجدة لابد
من طرحها وقضايا معاصرة لابد من معالجتها، فمن أين نأتي بالمصادر الموثوقة
لمثل ذلك؟
هل نعتمد على وكالات الأنباء العالمية ونكون بذلك مروجين لكذبها وإشاعاتها؟ أم نعتمد على ما تتناقله بعض الوسائل الإعلامية الأخرى من غير فحص ولا تحرٍ ولا تدقيق؟
أم يكون لنا تميزنا بهذه وتلك، واستقلالنا بالعرض والتحليل دون تأثر أيضاً
بهذه وتلك؟ .
فالغلط أو الكذب في وسيلة الإعلام الإسلامية لا يتساوى أبداً مع الغلط أو
الكذب في أي وسيلة إعلام أخرى، بل هي أضعاف ذلك، لأن الغلط وإن كان
مبرراً شرعاً فهو غير مبرر في الغالب عند المستقبل، بل هو أحياناً لا يريد أن
يبرر، لأن الغلطة غلطة موجِّهه وليست غلطة تلميذه.
أما الكذب بالإضافة لكونه خرقاً للشريعة هو عمل سلبي كبير، يراه المستقبل
وصمة تهز كيان الاستقبال عنده، وفي هذا خطر لا يخفى. ولتلافي ذلك لابد من
الركون إلى مصادر مؤهلة ثقة وصدقاً وإدراكا وتحليلاً، تعين المستقبل على تلقي
رسالة صادقة متميزة.
3- وضوح الهدف: إن معرفة ما يريده المرسل من رسالته بوضوح،
ومعرفة كيفية بث الرسالة بالشكل الذي يحقق له ما يريده أمر غاية في الأهمية،
فإذا كان هدف الإعلام الإسلامي إعداد الجيل العقائدي الواعي الذي يفهم الإسلام
على أنه دين عبادة وعمل، وشرْع دنيا وآخرة، ومنهج حياة متكامل، فإن عليه أن
يعد لإيجاد هذا الفهم في أذهان المستقبلين، علماً أن هذا عملاً غير سهل في إطار
التنوع الإعلامي وتعدده، ولكن عدم السهولة لا تعني الاستحالة، فباعتماد أسلوب
العمل المنظم والصحيح يتمكن المرسل -بإذن الله- تحقيق هدفه، وتبدو أهميته
واضحة للتكامل في بث الرسائل في هذا المجال.
فعندما يكون لكل رسالة إعلامية على حدة هدف خاص تسعى لتحقيقه من
خلال منهج مرسوم لا من خلال تعبئة صفحات أو سد فراغ في برنامج مسموع،
وعندما تلتقي أهداف هذه الرسائل في محصلة عامة من غير تناقض، ساعيةً إلى
إيجاد الشخصية المتكاملة، وعندما يتحقق الانسجام الكامل بين الأهداف الجزئية
المرسومة لكل رسالة على حدة، والهدف العام الذي يجب أن تلتقي عنده كافة
الرسائل لتصب في توجه فكري معين، نكون قد خطونا خطوة هامة في العمل على
تحقيق الشخصية الإسلامية المتكاملة عند متلقي الرسالة.
ويبقى لمقدار استجابة المتلقي نفسه، ولمقدار تأثير المرسل بالمتلقي حتى
يجعله متكيفاً أكثر من الاستقبال أثرٌ آخر في تحقيق الهدف المنشود.
وربما كان هنالك عوامل جانبية أخرى لم يتسع المجال لذكرها.
__________
(1) الموطأ، كتاب حسن الخلق / 8، قال ابن عبد البر: هو حديث مدني صحيح.
(2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب 139.
(3) متفق عليه، والرواية للبخاري، كتب العلم، باب 12.(9/39)
سؤال وفتوى
الشيخ. محمد صالح العثيمين
نص الفتوى:
«زعم أحد الوعاظ في مسجد من مساجد أوربا في درس من دروسه: أنه لا
يجوز تكفير اليهود والنصارى، وتعلمون -حفظكم الله- أن بضاعة معظم الذين
يترددون على المساجد في أوربا من العلم قليلة، ونخش أن ينتشر مثل هذا القول،
ونرجو منكم بياناً شافياً في هذه المسألة» .
الجواب:
أقول: إن هذا القول الصادر عن هذا الرجل ضلال، وقد يكون كفراً، وذلك
لأن اليهود والنصارى كفرهم الله -عز وجل- في كتابه، قال الله تعالى: [وقَالَتِ
اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ
قَوْلَ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ، فدل ذلك على أنهم مشركون، وبين الله تعالى في آيات
أخرى ما هو صريح بكفرهم:
-[لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ]
-[لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ]
-[لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ]
-[إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ]
والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين
لم يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وكذبوه، فقد كذب الله - عز وجل -،
وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو.
ويا سبحان الله؛ كيف يرضى هذا الرجل أن يقول: إنه لا يجوز إطلاق
الكفر على هؤلاء، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وقد كفرهم خالقهم -عز
وجل-؟ ، وكيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء وهم يقولون: إن المسيح ابن الله،
ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء؟ .
كيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء وأن يطلق كلمة الكفر عليهم، وهم يصفون
ربهم بهذه الأوصاف السيئة التي كلها عيب وشتم وسب.
وإني أدعو هذا الرجل، أدعوه أن يتوب إلى الله -عز وجل-، وأن يقرأ قول
الله تعالى: [ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] ، وألاَّ يداهن هؤلاء في كفرهم، وأن يبين
لكل أحد أن هؤلاء كفار، وأنهم من أصحاب النار، قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة -أي
: أمة الدعوة- ثم لا يتبع ما جئت به، أو قال: لا يؤمن بما جئت به، إلا كان من
أصحاب النار» .
فعلى هذا القائل أن يتوب إلى ربه من هذا القول العظيم الفرية، وأن يعلن
إعلاناً صريحاً بأن هؤلاء كفرة، وأنهم من أصحاب النار، وأن الواجب عليهم أن
يتبعوا النبي الأمي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإنه بشارة عيسى -عليه الصلاة
والسلام-، مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن
المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم
والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي
أنزل معه وأولئك هم المفلحون.
وقال عيسى ابن مريم ما حكاه ربه عنه: [يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا
جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ] .
لما جاءهم مَنْ..؟ من الذي جاءهم..؟ المبشَّر به أحمد، لما جاءهم
بالبينات قالوا: هذا سحر مبين، وبهذا نرد دعوى أولئك النصارى الذين قالوا: إن
الذي بشر به عيسى هو " أحمد " لا " محمد "، فنقول إن الله قال: [فَلَمَّا جَاءهُم
بِالْبَيِّنَاتِ] ولم يأتكم بعد عيسى إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومحمد هو أحمد، لكن الله أَلْهَمَ عيسى أن يسمي محمداً بأحمد، لأن أحمد اسم تفضيل من الحمد،
فهو أحمد الناس لله، وهو أحمد الخلق في الأوصاف كاملة، فهو عليه الصلاة
والسلام أحمد الناس لله، جعلاً لصيغة التفضيل من باب اسم الفاعل، وهو أحمد
الناس بمعنى أحق الناس أن يحمد، جعلاً لصيغة التفضيل من باب اسم المفعول،
فهو حامد ومحمود على أكمل صيغة الحمد الدال عليها أحمد.
وإني أقول: إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام،
فإنه كافر لا شك في كفره، لأن الله -عز وجل- يقول في كتابه: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] ، ويقول -عز وجل-:
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] .
وعلى هذا -وأكررها مرة ثالثة- على هذا القائل أن يتوب إلى الله -عز
وجل-، وأن يبين للناس جميعاً أن هؤلاء اليهود والنصارى كفار، لأن الحجة قد
قامت عليهم وبلغتهم الرسالة، ولكنهم كفروا عناداً.
ولقد كان اليهود يوصفون بأنهم مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا الحق وخالفوه،
وكان النصارى يوصفون بأنهم ضالون لأنهم أرادوا الحق فضلوا عنه، أما الآن فقد
علم الجميع الحق وعرفوه، ولكنهم خالفوه، وبذلك استحقوا جميعاً أن يكونوا
مغضوباً عليهم، وإني أدعو هؤلاء اليهود والنصارى إلى أن يؤمنوا بالله ورسله
جميعاً، وأن يتبعوا محمدا -صلى الله عليه وسلم-، لأن هذا هو الذي أُمروا به في
كتبهم، كما قال الله تعالى:
[ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ والَّذِينَ هُم
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ
وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] .
[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
والأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] .
وليأخذوا من الأجر بنصيبين، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد -صلى الله عليه
وسلم- ... الحديث» .
ثم إني اطلعتُ بعد هذا على كلام لصاحب " الإقناع " في باب: حكم المرتد،
قال فيه بعد كلام سبق:
«.. أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو
صحح مذهبهم؛ فهو كافر» .
ونقل عن شيخ الإسلام قوله:
«من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود
والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، أو أعانهم
على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة؛ فهو كافر» .
وقال أيضاً في موضع آخر:
«من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله؛ فهو مرتد» .
وهذا يؤيد ما ذكرناه في صدر الجواب، وهذا أمر لا إشكال فيه. والله
المستعان.
*******
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
اقرأوا القرآن تعرفوا به،
واعملوا به تكونوا من أهله،
ولن يبلغ حقُّ ذي حق أن يطاع في معصية الله،
ولن يُقرِّب من أجلٍ؛ ولن يباعد من رزق؛ أن يقوم رجلٌ بحق، أو يذكر
بعظيم.(9/48)
شذرات وقطوف
«ليس كل خلاف يستروح إليه، ويعتمد عليه. ومن تتبع ما اختلف فيه
العلماء، وأخذ بالمرخص من أقاويلهم، تزنْدق أو كاد» .
ابن الصلاح
«إن المبادئ والأفكار في ذاتها -بلا عقيدة دافعة- مجرد كلمات خاوية، أو
على الأكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المشعة من قلب
إنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع» .
سيد قطب
أحبُّ الفتى ينفي الفواحش سمعُهُ ... كأنَّ به عن كل فاحشةٍ وَقْرا
سليمُ دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هُجراً
إذا شئتَ أن تُدْعَى كريماً مكرماً ... أديباً ظريفاً عاقلاً ماجداً حرا
إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلةٌ ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
غِنى النفس ما يكفيك من سَدِّ خلِّة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
سالم بن وابصة الأسدي(9/52)
أدب وتاريخ
ابن الأثير وموقفه من الدولة العبيدية
وبعض الدول المعاصرة لها
محمد العبدة
كنت أعلم أن للمؤرخ ابن الأثير موقفاً من الدولة العبيدية - التي تسمى بالفاطمية- يتعلق بتصحيح نسبهم إلى علي -رضي الله عنه-، وهي القضية التي أثير حولها جدل كبير بين القدماء والمعاصرين، وكنت أظن أن الأمر يتعلق بموضوع النسب فقط، وهو شبيه بموقف ابن خلدون أيضاً، وإن كانا قد خالفا في هذه المسالة أكثر علماء الأمة ومؤرخيها. ولكن من خلال قراءتي لأحداث القرنين الرابع والخامس في (الكامل) تبين لي أن ابن الأثير لا يصحح النسب فقط، بل هو متعاطف مع هذه الدولة بشكل عام، فهو يمدح ملوكهم ويبرز محاسنهم ولا يذكر عيوبهم، ويؤكد في كل مرة يترجم لأحدهم بقوله: (الخليفة العلوي) ، كأنه يريد أن يرسخ هذا في ذهن القارئ، ثم تبين لي أنه يغرق في مدح بعض ملوك الدولة البويهية وأمراء الدولة الأسدية والحمدانية، وهذه الدول والإمارات كلها غير ... سنية.
ثم رجعتُ إلى حوادث المائة الأولى من الهجرة، لأرى كيف عرض
لموضوع الدولة الأموية والأحداث التي عاصرتها، فتأكد لي هذا الاتجاه عنده.
ونحن لا نريد مناقشة ابن الأثير حول نسب العبيديين، فقد كتب الكثير حول
هذا الموضوع، وآراء العلماء والمؤرخين الذين دحضوا نسبهم وكذبوهم فيه
موجودة معروفة لمن أرادها، ولكن سنكتفي بذكر أعمالهم القبيحة التي لم يشر إليها
هذا المؤرخ ولم يعلق عليها أو ينتقدها، مع أنه نقد أعمال غيرهم من الملوك الذين
هم أفضل منهم بكثير، بل لا يقارنون بهم، ومع أن ابن الأثير من أسرة علمية
مشهورة، فهو صاحب (أسد الغابة في معرفة الصحابة) ، وأخوه مجد الدين أبو
السعادات صاحب (جامع الأصول) ، ووالده من كبار موظفي الدولة الزنكية، وهي
دولة سنية، وعاش في مدينة سنية وهي الموصل، وقد تتبعت من كتب عنه أو
ترجم له أو لمن أخذ عنهم من العلماء؛ فلم أجد جواباً شافياً عن السؤال المتبادر: ما
هو سبب هذا الاتجاه عند ابن الأثير؟ ؛ وقد انتقدوه لتحامله أحياناً على صلاح
الدين الأيوبي، وعللوا ذلك بتعصبه للأسرة الزنكية والأخلاق، ولكن لم يشيروا إلى
مدحه لملوك الدولة العبيدية وغيرهم مما سنوضحه في هذا المقال، ولعل الله ييسر
لنا الاطلاع على مصادر أخرى، لنحاول كشف أسباب هذا الميل عند مؤرخنا
الكبير.
الدولة العبيدية:
نشأت هذه الدولة في المغرب بين قبائل تجهل الإسلام؛ فانخدعوا بدعوة أبي
عبد الله الشيعي، وناصروه حتى استقر له الأمر، واطمئن فكتب إلى رئيسه
الباطني في مدينة (سلمية) في بلاد الشام أن يقدم إليه، فلما دخل المغرب تسمَّى
بعبيد الله، ولقَّب نفسه بالمهدي، والعلماء يقولون: إن اسمه سعيد، وهو من ولد
ميمون القداح الملحد المجوسي. وعندما تمكن عبيد الله بطش بأقرب الناس إليه
والذي أسس له الملك، داعيته أبي عبد الله الشيعي، وبطش بالمخالفين من قبيلة
(كتامة) ، ولم يعلق ابن الأثير على ظلمه هذا، بينما نجده ينتقد ما فعله عبد الملك
بن مروان بعمرو بن سعيد الأشدق حين غدر به وقتله، فقال: «وكان عبد الملك
أول من غدر في الإسلام» [1] ، وعندما ذكر كلام عبد الملك في مرضه الأخير
وهو يذم الدنيا ويحذر من الآخرة قال: «ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا ويخاف،
فإن من يكون الحجاج بعض سيئاته، علم أيَّ شيء يقدم عليه» [2] ، أما ما فعله
عبيد الله بالعلماء العاملين الذين كرهوا دولته وعقيدته الفاسدة كالإمام أبى جعفر
محمد بن خيرون المعافري، حين قتل تحت أرجل زبانية عبيد الله [3] ، فهذا لا
يذكره ابن الأثير، وجرائم عبيد الله وذريته بعلماء أهل السنة كثيرة كابن البردون
الإمام الشهيد، الذي قتله داعية عبيد الله صلباً [4] ، والإمام الشهيد قاضي مدينة
برقة محمد بن الحبلي الذي قتله إسماعيل الملقب بالمنصور، وهو حفيد عبيد الله.
يقول الذهبي: علق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق،
ثم صلبوه، فلعنة الله على الظالمين [5] .
يقول المؤرخ عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الملقب بأبي شامة عن عبيد
الله: «وكان زنديقاً خبيثاً عدواً للإسلام، متظاهراً بالتشيع، قتل من الفقهاء
والمحدثين جماعة كثيرة، ونشأت ذريته على ذلك، وكان يرسل إلى الفقهاء
والعلماء فيذبحون في فرشهم، وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين» [6] .
ويقول عن أولاده: «ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم، وزاد شره على شر
أبيه أضعافاً، وجاهر بشتم الأنبياء» [7] .
هذا رأي كثير من علماء المسلمين والمؤرخين في ذرية عبيد الله، ولكن ابن
الأثير في ترجمته لملوك هذه الدولة لا يكتفي بالسكوت عن مساوئهم، بل يمدحهم
ويطريهم، ويحاول التهوين من شأن عقائدهم المخالفة لعقائد أهل السنة. قال في
ترجمة معد بن إسماعيل الملقب بالمعز، وهو رابع ملوكهم: «وكان فاضلاً جواداً، شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة وإنصاف الرعية، وستر ما
يدعون إليه إلا عن الخاصة، ثم أظهر، وأمر الدعاة بإظهاره، إلا أنه لم يخرج فيه
إلى حد يذم به» [8] .
وإذا كان سب الصحابة وإكراه الناس على عقائدهم الفاسدة شيء لا يذم، فمتى
إذن يذمون؟ ! .
وحاول مرة أخرى الاعتذار عن شاعر (المعز) محمد بن هانئ الذي قتل في
برقة وهو مرافق لسيده في انتقاله إلى مصر، قال: «وكان من الشعراء المجيدين
إلا أنه غالى في مدح المعز، حتى كفَّره العلماء لقوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
وبعد أن سرد له أشعاراً أخرى توجب الكفر قال:» وبالجملة فقد جاوز حد
المديح «، هكذا مجاوزة فقط، وليس كفراً صريحاً.
وبعد أن استقر المقام للمعز في مصر أرسل أحد قواده لأخذ بلاد الشام،
واستطاع هذا القائد احتلال دمشق، إلا أن الشريف أبا القاسم الهاشمي جمع الناس
للمقاومة، فقال ابن الأثير:» فجمع أحداثها، ومن يريد الفتنة، فثار بهم في
الجمعة الثانية، وأبطل الخطبة للمعز « [9] .
والمعز هذا الذي يقول عنه ابن الأثير:» وكان فاضلاً «كان مغرمَّاً بالنجوم
ويعمل بأقوال المنجمين، وقد أشار عليه أحدهم أن يختفي سنة كذا لأنها شؤم عليه،
فعمل سرداباً واختفى فيه، فكان أحد جنوده إذا رأى سحاباً سلم عليه ظناً منه أن
المعز فيه [10] ، وهذا يدل على تشجيعه للغلو فيه.
وجاء بعد المعز ابنه نزار الملقب بـ (العزيز) الذي استوزر يعقوب بن
يوسف ابن كلس، وهو يهودي الأصل، ثم عيسى بن نسطورس النصراني الذي
استناب على الشام يهودياً يعرف بـ (منشا) ، فارتفعت كلمة النصارى واليهود في
عهد هذا الوزير، وكان وزير المنصور الملقب ب: (الحاكم) وزيراً نصرانياً اسمه
فهد بن إبراهيم. كما أن وزير الحافظ كان بهرام الأرمني الذي استقطب حوله أبناء
جنسه وأساء السيرة، حتى اضطر للهرب إلى بلاد الشام [11] .
وأما أفعال (الحاكم) القبيحة، ومحاولة ادعائه الربوبية، وتصرفاته الغريبة
المتناقضة فهي مشهورة معلومة، وفي أواخر عهد العبيديين: استعانوا بالروم خوفاً
من توسع دولة نور الدين زنكي، مما اضطره لإرسال صلاح الدين الأيوبي لإنقاذ
مصر من الخطر المحدق بها.
والخلاصة أنها دولة باطنية إسماعيلية ابتلي بها المسلمون أكثر من قرنين.
مع البويهيين:
ليس من العسير لمن يقرأ ما كتبه ابن الأثير في (الكامل) أن يحس بتعاطفه
مع الدولة البويهية، فهو لا يذكرهم إلا مادحاً معظماً الأوائل منهم، بل يغالي في
المديح أحياناً عندما يعتبر وفاة ركن الدولة الحسن بن بويه مصيبة للدين والدنيا معاً، ثم يقول في نهاية ترجمته: (رضي الله عنه وأرضاه) .
وفي ترجمته لمعز الدولة البويهي -وهو ثالث الإخوة الذين حكموا العراق
وبلاد فارس-، يقول ابن الأثير:» وكان حليماً كريماً عاقلاً «. أما ابن كثير
فيقول عنه:» بنى داراً ببغداد، فخرب معالم بغداد بسببها، وكان رافضياً خبيثاً،
وفي عهده كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد بلعن كبار الصحابة من
الخلفاء الراشدين ولم ينكر عليهم معز الدولة، ولم يغيِّره، قبَّحه الله وقبح شيعته من
الروافض « [12] .
ويقول ابن الأثير عن عضد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه:» وكان
عاقلاً فاضلاً، حسن السياسة، كثير الإصابة، محباً للفضائل وأهلها « [13] .
والحقيقة: أن عضد الدولة لا يختلف كثيراً عن (معز الدولة) ، وكان وزيره
نصر بن هارون نصرانياً، وهو الذي أنفق سنة كاملة لعمارة المشهد العلوي [14] . والدولة البويهية كانت من الأسباب القوية لإضعاف الخلافة العباسية، بل فكَّر
ملوكها بإزالة الخلافة عن بني العباس ونقلها إلى الطالبيين، لولا النصيحة التي
جاءت بأن وجود خليفة عباسي ضعيف خير من وجود خليفة طالبي تزول بوجوده
شرعية البويهيين أمام أتباعهم الشيعة، ومع ذلك فقد كانوا مستهترين بالخلافة، فقد
نهب بهاء الدولة قصر الخليفة الطائع وقبض عليه وخلعه من الخلافة، وكانت
للدولة البويهية صلات جيدة مع القرامطة الباطنيين [15] .
ولم يقدموا أي مساعدة للمسلمين الذين قدموا بغداد سنة 361 هـ مستغيثين
من الروم، وكان السلطان البويهي في رحلة صيد في الكوفة فخرج أهل بغداد
منكرين عليه ذلك، فوعدهم بالمساعدة، ثم إن " بختيار " طلب من الخليفة مالاً
لتجهيز الناس، وأجبره على دفع المال، ثم صرفه في مصالحه الخاصة وبطل
حديث الغزاة [16] .
الإمارة الأسدية:
عندما ضعفت الخلافة العباسية طمع كل صاحب قوة في اقتسامها، وأخذ
جزءاً منها ليعلن فيه مملكته ولو كانت هذه المملكة مدينة صغيرة، وفي هذا الجو
من التمزق والأنانية وجدت الإمارة الأسدية، نسبة إلى بني أسد بن خزيمة، وأول
أمرائهم المشهورين: علي بن مزيد، ثم ابنه المنصور، وبرزت في عهد صدقة بن
منصور الذي أنشأ مدينة الحلة [17] واتخذها عاصمة قبيلته وإمارته، كما اتخذوا
التشيع عقيدة لهم.
هذه الإمارة مثل بقية الدول الصغيرة التي عاشت في هذا العصر، تعيش على
التناقضات والتحالفات مع السلاطين الأقوياء ولا تهتم بمصلحة عامة، فهي لا تقيم
ديناً ولا دنيا، وإن كان أمراؤها الأوائل من أصحاب الشجاعة والكرم.
وابن الأثير يمدح هؤلاء الأمراء ولا يذكر مساوئهم، وأهمها: الخروج على
الخليفة وعلى السلطان السلجوقي، وإفناء الناس بحروب تخدم مصلحتهم، فقد قتل
صدقة بن دبيس في قتاله مع السلطان محمد بن ملكشاه وهو عند مؤرخنا (من
محاسن الدنيا) . أما ابنه دبيس بن صدقة فقد عاث في الأرض فساداً، فاضطر
الخليفة لقتاله، ودارت الدائرة على دبيس فانهزم وفر إلى شمالي الجزيرة، والتحق
بالفرنج وحضر معهم حصار حلب وحسن لهم أخذها، ثم فارقهم والتحق بالملوك
السلاجقة، ثم قتله السلطان مسعود بن محمد، يقول الذهبي:» وأراح الله الأمة
منه، فقد نهب وأرجف وفعل العظائم « [18] .
استمرت هذه الإمارة بعد دبيس ضعيفة ممزقة قائمة على النهب والسلب
والإفساد، مما اضطر الخليفة أن يأمر بإجلاء بني أسد عن الحلة، وذلك عام
558 هـ.
الصليحيون:
كما يمدح ابن الأثير علي بن محمد الصليحي الذي ملك اليمن كلها عام
455 هـ، وكان داعية للدولة العبيدية في مصر، فيقول عنه:» ودخل مكة مالكاً لها، وظهرت منه أفعال جميلة « [19] ، ولا يذكر أنه على مذهب العبيديين.
وقد يقال: إن ابن الأثير مؤرخ حيادي، يذكر ما سمعه، وما نقله، ولا
يتدخل في النصوص، وإنما يعرضها كما وجدها، ويترك مهمة البحث والنقد لغيره. ولكننا نراه في مواضع أخرى ينتقد أو لا يذكر محاسن بعض الملوك، ويمدح في
حين يمدح غيرهم كما مدح ملوك البويهيين والعبيديين.
فعندما ترجم للخليفة عبد الرحمن الناصر الأموي صاحب الأندلس لم يزد على
أن ذكر أوصافه الجسمية، وكم بقى في الحكم، ولم يذكر شيئاً من حسناته وفتوحاته
وجهاده مع الفرنجة، واكتفى بالقول في نهاية الترجمة:» وكان ناسكاً « [20] .
هذه أمثلة من مزالق خفية، أردت التنبيه عليها، والقصد هو تنقيح تاريخنا
وتصحيحه، ولم أرد من ورائها تنقص ابن الأثير، ولا التهوين والإقلال من قيمة
كتابه (الكامل) ، فهو مجهود عظيم يستحق التقدير.
__________
(1) الكامل 4 / 522.
(2) المصدر السابق 4/521.
(3) سير أعلام النبلاء 14 /217.
(4) المصدر السابق 14 /216.
(5) المصدر السابق 15 / 374.
(6) الروضتين في أخبار الدولتين 1 /201.
(7) المصدر السابق 1 / 202.
(8) الكامل 8 / 665.
(9) المصدر السابق 8 / 591.
(10) المصدر السابق 8 / 664.
(11) د محمد ماهر حمادة: الوثائق السياسية 4 / 44.
(12) البداية والنهاية 11 / 256.
(13) الكامل 9، / 19.
(14) المظفري: تاريخ الشيعة /212.
(15) الكامل 8/615.
(16) المصدر السابق 8/618.
(17) قال في الروض المعطار في خبر الأقطار: وهي مدينة كبيرة منفية على شط الفرات بناها سيف الدولة زعيم بني مزيد حوالي 495 هـ انظر الروض / 197 بتحقيق إحسان عباس.
(18) سير أعلام 19 / 613.
(19) الكامل 10 / 30.
(20) الكامل 8 / 535.(9/54)
سيطرة العادة وتحكيم الهوى
من مقومات الجاهلية
محمد الناصر
كان أهل الجاهلية يعظمون الآباء والأجداد، ويتغنون بمفاخر القبيلة، فهم
أكثر الناس عدداً، وأقواهم شكيمة، وأعلاهم نسباً، فالكبر ديدنهم، وعظمة الدنيا
تملأ قلوبهم، من كثرة الأموال والبنين إلى الخيل المسومة.. وقطعان الإبل
والمواشي.
ومع الزمن كانت هذه التقاليد قد أصبحت ديناً، فلا يجوز المساس بها، ولا
يصح الخروج عما تعارف عليه أبناء القبيلة الواحدة.
كاد الفرد أن يلغي عقله أمام مطالب العادات الموروثة، وعندما أطلت تباشير
الدين الجديد اصطدم الدين الحنيف بهذه التقاليد، ولذلك حذر الإسلام من التعلق
بالعادات الضالة وندد بفعل أصحابها، وحذر من الوقوع في متاهاتها بعد نعمة
الإسلام.. ونستعرض بعض هذه العادات المذمومة كنماذج فقط.
الفخر بالأحساب:
قال -عليه الصلاة والسلام -:
«أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب،
والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والناحبة -أو قال: النائحة- إذا لم تتب
قبل موتها» [1] .
دل الحديث على بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من الخصال الرديئة،
وورثتهم اليوم طائفة من هذه الأمة تجاوزوا فيها أسلافهم، فتراهم يفتخرون بمزايا
آبائهم وهم عنهم بمراحل، فهذا يقول: كان جدي الشيخ الفلاني، وهذا يقول:
جدي العالم الرباني.. إلى غير ذلك [2] .
ويذكر ابن تيمية -رحمه الله-: أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو
حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل..
ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحداً بنسبه ولا يذم أحداً بنسبه، وإنما
يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان، ثم استشهد بالحديث
الشريف: «أربع من أمر الجاهلية» ، وقد سبق ذكره، فجعل الفخر بالأحساب
من أمور الجاهلية « [3] .
لقد غلا القوم في تعظيم الأسلاف والأكابر حتى حجبهم هذا التعظيم عن قبول
دين الحق، فحال هذا التقليد دون إسلام أبى طالب، رغم اعتقاده بصدق ابن أخيه
-صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه من هدى.
وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه قال:» لما حضرت أبا طالب
الوفاة، جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو
جهل، فقال: ياعم؛ قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له:
أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم-، فأعادا،
فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا ... الله « [4] .
والعصبية والتمسك بتراث الأسرة والعشيرة هو الذي جعل أبا جهل يقول:
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا
فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه
الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا؟ ، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه [5] .
لقد رفض الإقرار بالحق، وبالقرآن الذي استمع إليه خلسة مع نفر من
أصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جوار الكعبة، وتأثروا بما
سمعوا.. لكنها التقاليد والعادات والحفاظ على موروثاتها.
كان المشركون يستكبرون على المرسلين، [إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاَّ
اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * ويَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ] [6] ، فالتكبر
والإعراض والجمود على العادات السقيمة كانت من أمراض الجاهلية وما تزال.
والثأر: عادة متأصلة، تسببت في حروب لا تنطفىء، وكان الثأر من أرسخ
عادات الجاهلية وأقواها أثراً.. وكثير من أيام العرب كان السبب الأول فيها الثأر،
كحرب البسوس، وأيام الأوس والخزرج وغيرها.
وقبيل فتح مكة المكرمة اعتدى بنو بكر على خزاعة في وقعة الوتير، ثم
ألجأوهم إلى الحرم قالت عندها بنو بكر لقائدهم نوفل بن معاوية الديلي: يا نوفل،
إنا دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم، يا بني بكر:
أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ [7] .
لقد نسي نوفل هذا قدسية الحرم (عندهم) ، وتجاهل حتى التأدب في ألفاظه في
سبيل إصابة الثأر.
وكان من هذا القبيل أن صحابياً فاضلاً (وهو: عبد الله بن عبد الله بن أبي
سلول) يعرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل أباه رأس النفاق،
لما بلغه قوله: [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ، لأنه يخشى إن قتله مسلم ألا
تطاوعه نفسه فيثأر فيقتل مسلماً بمنافق:» وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله،
فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله، فأقتل
مؤمناً بكافر فأدخل النار [8] .
عادات وأعراف ليس من السهل التخلص منها بسرعة ... العادات متأصلة
قضى الإسلام على السيء منها، وأحل محلها تشريعات عادلة.. حرم إراقة دم
المسلم، [ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ
وأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً] [9] .
وجعل إقامة الحد للحاكم المسلم، فنظم الحقوق، وشفى النفوس، [ولا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف
فِّي القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً] [10] .
إن الإسلام قضى على عادة الثأر بتشريع القصاص: [ولَكُمْ فِي القِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [11] .
وفي أيامنا هذه يقتل البريء -فى كثير من الحالات- ويترك الجاني، لأن
أهل القتيل لم يستطيعوا التوصل إليه، وتناسى الناس مدى حرمة دم المسلم،
وانتكسوا في الجاهلية من جديد.
التقليد الأعمى:
أهل الجاهلية كان دينهم مبنياً على أصول، أعظمها التقليد، فهو القاعدة
الكبرى لجميع الكفار من الأولين والآخرين كما قال تعالى: [وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم
مُّقْتَدُونَ] [12] .
[وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ] [13] .. إلى غير ذلك مما يدل على أن
أهل الجاهلية كانوا في ربقة التقليد لايحكمون لهم رأياً ولايشغلون فكراً، ولذلك
تاهوا في أودية الجهالة، وعلى طريقتهم كل من سلك مسلكهم في أي عصر كان.
فأهل الجاهلية جعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل، أنه
لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم وجمود ... قرائحهم [14] .
يقول تعالى: [وانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ] [15] .
إن المتتبع لأحداث التاريخ وتراجم الماضين ليقف حائراً مدهوشاً لما يرى من
وقائع مذهلة أقدمت عليها طوائف من الناس، فأسبغت قدسية وتعظيماً على الآباء
والشيوخ والأجداد، وأطلقت عليهم من الصفات والنعوت ما يطلق عادة على الآلهة.. ولتقاليد الأسلاف سلطان قوي يخلب ألباب البشر، وسلطان الأجداد والشيوخ
يجب أن يقف عند حد معين لا يتجاوزه، وإلا كان وبالاً ومصيبة على البشرية، لا
يعرف مداها إلا الله [16] .
إن اتباع العادات كان سبباً في مجانبة الحق، لأن أصحابها يقدمونها على
السنة. يقول الإمام الشاطبي:
«من أسباب الخلاف ... التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت
مخالفة للحق، وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد
المذموم، فإن الله ذم ذلك في كتابه بقوله: [إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ] . وقوله:
[قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ] ، فنبههم على وجه
الدليل الواضح، فاستمسكوا بمجرد التقليد.. فقالوا: [بَلْ وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ] [17] .
وللاستفادة مما كان عليه الآباء ينبغي أن يخضع ذلك للكتاب والسنة، للعلم
والهدى، لأنه:» إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضاً لا
يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه « [18] .
إن الخطورة تكمن في تحكيم العادات في أمر الناس ولو خالفت الكتاب والسنة، وما من عادة سيئة أو بدعة محدثة إلا وتُميت سُنة نيِّرة.. ولذلك حرر الإسلام العقول من الجمود على الماضي أو العادات الدارجة ذات الإلف إلى النفوس، وسد كل الطرق المؤدية إلى تشويه صفاء التوحيد والعقيدة.. كتعظيم القبور والأضرحة، وما شابهها.
قال -صلى الله عليه وسلم-:» لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم،
إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله «أخرجه الشيخان.
وقال -صلى الله عليه وسلم- محذراً من الغلو:
» إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو « [19] .
لقد أهلك الغلو أناساً كثيرين من طوائف هذه الأمة، وسما الإسلام بعقلية
المؤمنين، واشترط أن يكون هوى المؤمن تبعاً لأحكام الشرع. وفي الحديث
الشريف عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال:» لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به « [20] .
وهكذا حرم الإسلام الغلو في الرجال وفي المعتقد، وحرم كذلك الأهواء
وتحكيم العقول في معارضة الأدلة الشرعية الصحيحة، ومنذ القديم ضلت المعتزلة
بسبب تحكيم العقل في كتاب الله، ولاتباع الهوى في التأويل، وكثرة الجدل.. قال- عليه الصلاة والسلام -:» ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل « [21] .
اتباع الهوى من رواسب الجاهلية:
كان أهل الجاهلية يتبعون أعراف الآباء وموروثات الأجداد، فليس لديهم
تشريع سماوي، وكانوا يحكمون الشهوة والهوى ونزوة العقل كما يحلو لهم، ذلك
أنه لا معبود لهم إلا الهوى صراحة أو مواربة، وعلى» حسب المعبود يكون منهج
الحياة، فحين يكون المعبود هو الله يكون منهج الحياة هو المنهج الرباني المبين فيه
الحلال والحرام والحسن والقبيح والمباح وغير المباح، وحين يكون المعبود شيئاً
آخر يكون منهج الحياة هو الذي يمليه ذلك الشيء المعبود، سواء كان هو الهوى
صراحة دون مواربة، أم كان هو الهوى من وراء أستار وشعارات وعناوين! ومن
ثم تتعدد الصور في الجاهليات المختلفة، وتلتقي في أنها كلها هوى.. إن يكن هوى
فرد بعينه أو مجموعة أفراد أو هوى كل الناس مجتمعين.. فكلها في النهاية ... أهواء « [22] .
إن الشريعة حدت من تحكيم الهوى، وضبطت الأمور بالنصوص الثابتة،
فحرمت البدع في الدين لأنها تقّول على الله ورسوله؛» لأن الشريعة كانت إذا
أخذت في الدروس بعث الله نبياً من أنبيائه يبين للناس ما خُلقوا لأجله، وهو التعبد
لله.. وأن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال
فيها: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] [23] .
وفي الحديث الشريف الذي رواه العرباض بن سارية -رضي الله عنه-:
«فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ.. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل
محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [24] .
فاتباع الهوى في التشريع حقيقته افتراء على الله تعالى.. يقول تعالى:
[أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ] [25] .
لذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها،
والمعصية يتاب منها [26] .
إن اتباع الهوى والغلو في الرجال والعقائد ضلَّل كثيراً من الفرق، كالخوارج
والشيعة.
أما الخوارج: فقد غلوا في فهم آيات الوعيد، وأعرضوا عن آيات الرجاء،
وأما الشيعة: فقد كان الغلو كذلك أحد أسباب ظهورهم، وابن سبأ اليهودي كان
حامل لواء الرفض، ثم كان مقتل الحسين-رضي الله عنه- مقوياً لتيار الغلو عندهم، ثم استمر خط التشيع في الانحراف حتى وصل الغلو إلى رفع الأئمة لدرجة النبوة، بل وإلى مقام الألوهية عند بعض طوائفهم [27] .
وكان تحكيم العقل في القضايا الشرعية وتعريب كتب الفلسفة من أسباب
ظهور البدع في المجتمع المسلم، إذ كان المعتزلة قد ضخموا دور العقل في القديم،
وكذلك القدرية والجهمية والمرجئة، فقد ضلوا من قبل لتحكيمهم العقل في أمور
العقيدة، وعدم قبول أي حديث يخالف ما تقرر في أذهانهم بحكم العقل أو تأويلهم له، فأدى ذلك بهم إلى رد كثير من الأحاديث الصحيحة والطعن في رواتها [28] .
ولذلك كان الجدل مذموماً، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أبغض الرجال
إلى الله الألد الخصم» [29] .
وروي عن الأوزاعي قوله: «إذا أراد الله بقوم شراً؛ ألزمهم الجدل ومنعهم
العمل» [30] .
وفي العصر الحديث ظهرت طوائف سارت على خُطى المدرسة العقلية
الاعتزالية، تحسِّن ما تشاء، وترد من أحاديث المصطفى ما تشاء، لتساير
الحضارة الغربية في زعمها، مدرسة عصرية عقلية، بل مدرسة انهزامية أمام
حضارة التيه والضياع، تريد التفلت من تراثنا وسنة نبينا لتتبع الناعقين من اليهود
والنصارى ولو دخلوا جحر ضب لدخلوه، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-:
«لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه،
قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» [31] .
يروى عن الأوزاعي أنه قال: «اصبرْ نفسك على السُّنة، وقِفْ حيث وقف
القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه
يسعك ما وسعهم [32] .
نعم يسع المسلم اليوم ما وسع سلفه الصالح من التمسك بالسنة الصحيحة،
والعقيدة الصافية، وفي ذلك النجاة بإذنه تعالى من الضلال والانحراف وتشعبات
الفرق الضالة.
حياتنا المعاصرة وبعض صور التقليد المذمومة:
في حياتنا المعاصرة، وبعد أن أنعم الله علينا بالإسلام، ترى أن اتباع الهوى
والعرف والتقليد، ما يزال يحجب الحق عن عدد كبير من طوائف المسلمين،
والغلو بالشيخ أو الزعيم ما زال له دوره، إن هؤلاء» يقلدون شيوخهم في الخطأ
والصواب من أفعالهم، ويأخذون عنهم كل ما يأمرون به أو يدعون له، ولا يقبلون
بهم نقداً أو نصحاً.. ورغم ذلك يزعم هؤلاء الأتباع أنهم مؤمنون بضرورة التجديد
والتغيير ووجوب التمسك بالبينة والدليل «.
» تُرى لو جمد عقل صلاح الدين الأيوبي على مثل هذه الأفكار هل كان
قادراً على دحر قوات العدو، وتحرير القدس وبلاد الشام من دنس الصليبيين
والباطنيين العبيديين؟ وهل كان شيخ الإسلام ابن تيمية قادراً على إصلاح ما فسد
من عقائد الناس، وتوحيد كلمة المسلمين وجمعهم على مواجهة التتار، وما أعقبه
من نصر؟ «.
» مثل هذه المناهج لا تصلح أن تكون أساساً للتغيير ووحدة صف المسلمين
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نختصر الطريق، ونعود إلى التمسك بالمنهج
الأول الذي صلح به أمر هذه الأمة من قبل؟ ولا صلاح لأمتنا اليوم إلا به [33] .
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما
بدأ» [34] .
لابد من العودة إلى منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، وإن تقديس الأضرحة
والتبرك بها، والتعلق بخرافات التصوف وتهويمات المشايخ، أبعد كثيراً من
المسلمين عن منهج السلف الصالح والتقيد بالكتاب والسنة.
إن الغلو في الشيخ أو الأمير أبعد كثيراً عن تحكيم دينهم، لأنه لا يمكن أن
يفهم هؤلاء كفهْم الشيخ أو الزعيم، لأن الفتوى جاهزة، وهذا بلاء وفتنة، وتربية
الأتباع لا الأحرار.
قال ابن عباس -رحمه الله-: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛
أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر وعمر!» .
وقال الإمام الشافعي: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد» . وقال أيضا: «إذا صح
الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط» .
وقال الإمام مالك: «ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر -
صلى الله عليه وسلم» . وقال: «ما كان من كلامي موافقاً للكتاب والسنة فخذوا
به، وما لم يوافق فاتركوه» [35] .
إلا أن التقليد دفع البعض في العصور المتأخرة إلى التعصب الذميم البشع
لآراء الأئمة وأقوالهم، وتقديمها في أحيان كثيرة على النصوص الصريحة المخالفة
لهذه الآراء والأقوال … « [36] .
رغم أن الأئمة كانوا ينهون من أخذ عنهم من مغبة التقليد دون معرفة الدليل
الشرعي الذي أخذوا عنه رأيهم، وأن الأئمة أنفسهم كانوا يرجعون عن رأيهم إذا
تبيَّن لهم الدليل.
قال الشاطبي - رحمه الله -:» ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل ...
والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسب ذلك عن جادة الصواب والتابعين،
واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلُّوا عن سواء السبيل « [37] .
وأخيراً: لابد من العودة إلى منهل النبوة الصافي وما كان عليه سلف هذه
الأمة، وطرح الأعراف والبدع المستحدثة. اللهم جنبنا الهوى وابعدنا عن الزلل.
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.
(2) مسائل الجاهلية: الشيخ محمد عبد الوهاب، شرح السيد محمود شكري الآلوسي/127.
(3) الفتاوى: ابن تيمية 35/240.
(4) المصدر السابق، والحديث في الصحيحين.
(5) السيرة النبوية: ابن هشام 1/316.
(6) سورة الصافات /35-36.
(7) السيرة النبوية: ابن هشام 1/316.
(8) المصدر السابق 2/293.
(9) سورة النساء /93.
(10) سورة الإسراء /33.
(11) سورة البقرة /179.
(12) سورة الزخرف /23-24.
(13) سورة البقرة /170.
(14) مسائل الجاهلية /7، 10.
(15) سورة ص /6-7.
(16) الكشاف الفريد، خالد محمد علي الحاج 2/64.
(17) الاعتصام، للشاطبي 2/180، 362.
(18) الاعتصام، للشاطبي 2/180، 362.
(19) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس (انظر حاشية فتح المجيد /176.
(20) قال النووي: حديث صحيح، فتح المجيد /331.
(21) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(22) واقعنا المعاصر: محمد قطب /18.
(23) الاعتصام، للشاطبي 1/48.
(24) رواه النووي في الأربعين.
(25) سورة الجاثية /23.
(26) الفتاوى: ابن تيمية 10/9.
(27) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: اللالكائي 1/37، 41-43.
(28) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: اللالكائي 1/41.
(29) أخرجه البخاري في صحيحه ح: 4523، 7188.
(30) رواه عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2 / 114.
(31) أخرجه الشيخان،: اللفظ لمسلم.
(32) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1 / 154.
(33) منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، محمد سرور زين العابدين 1 / 4 1، وما بعدها.
(34) أخرجه مسلم في صحيحه.
(35) انظر: الاعتصام 2/346، وفتح المجيد / 320.
(36) الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد: محمد إبراهيم شقرة.
(37) الاعتصام للشاطبي 2/347، وفيه مزيد أمثلة لنماذج كثيرة.(9/60)
شعر
كسرى عبر العصور
شعر: محمد أمين أبو بكر
كان كسرى سيِّدَ البلدانِ في الشرقِ الحزِينْ
تسجدُ القطعانُ في ميدانِهِ
تُعبَدُ النيران في بُلدانِهِ
تُذعِنُ الأقيالُ في إيوانِهِ
ترقُدُ الأصقاعُ في أحضانِهِ
كان علجاً ثابتَ الأركان في كلِّ مكانْ
يقهر الفرسان يرميهم إلى،
بئر الهوانْ
يزهق الأرواحَ بالآلاف من،
أجل بقاءِ الصولجانْ
في ربوع الكون أعلى برج عزٍ
ثابت البنيان
* * *
فجأة شعَّتْ
شموسُ الحق في ذاك الزمانْ
تأكل الأحقادَ والأحلاكَ،
تسمو بالحنانْ
تجعل الأنجادَ والأغوار في الدنيا
جِناناً في جنانْ
في حماها كان ميلادُ الحضارةِ والسعادةِ
والمنى والعنُفوانْ
* * *
في ظلال الحقِّ والتوحيدِ والعزم الأكيدْ
زلزل الإسلامُ عرشَ الظلمِ والطغيانِ،
والكفر العنيدْ
فازدهت بين الروابي الخضرِ أنسامُ الأمانْ
لم تدع في الأرضِ مخلوقاً،
حزيناً أو كئيباً أو مهانْ
* * *
ثم جاءتنا عهودٌ،
نامَ أبناءُ الأباةِ الفاتحينْ
عن دروب المجدِ عن
أبواب أسوارِ القلاعِ الشُمِّ والحصنِ الحصينْ
عن لصوصٍ داهموا بيتَ علي
وأبي بكر وعثمان وكلِّ المسلمين
واستطابوا النومَ في ليلِ الهوان الُمرِّ
دونَ العالمين
واستماتوا في حَمى التمثيل والتلحين في
ظُلَم السنين
والتقَوْا في موكب الرقص أُسوداً
تتحدَّى كلَّ أشكالِ الَمنُونْ
فافتَقدْنا كلَّ أسفارِِ العصور،
الغرِّ وانتُهِبَ العرين
واستفاقت بعد طول النوم أنيابٌ لكسرى
تُغرقُ الأصقاعَ في حقدٍ جَديدْ
تستطيبُ النهشَ في الشعب الشريدْ
استباحَت في الدياجي،
كل طهرٍ في إمام أو عظيم أو شهيدْ
لم تدعْ فينا صغيراً أو كبيراً،
أو يتيماً أو وليدْ
دون أن تُصليه نار القهرِ والترويعِ،
والحقد الشديدْ
تنهشُ الأطفال في حيِّ الخيام السودِ
في ليلِ الزمانْ
تزهق الأرواحَ في القدس وفي
لبنانَ، في كل مكانْ
تدفن الأحلامَ والأمجادَ،
بين مقابرِ الجولانِ والأغوارِ،
في ليل الهوانْ
استباحت كلَّ أرماسِ الأولى،
أحقاد ليل كسرويَّه
وارتوت أظفار (بن غوريون) من،
سمل العيونِ القرشيِّه
في حمى إجرام أيد عربيِّه
جددت في الأرضِ أنهارُ دماءٍ سيرتها
في ليالي التيه أحقاد جيوشٍ تتريِّه
في دياجٍ ما رأينا مثلها،
حتى زمان الجاهليَّة
حين أضحى في ربوع العربِ،
من باعوا لكسرى سيف سعدٍ،
ثم أهدوه خيولَ القادسيَّة
فى ربوع العرب من بيعوا لكسرى
كي يضيعوا بين أظفارِِ المنيَّة
في ربوع العرب من أنسى شعوب العرب،
ما لاقته من كِسرى عياناً
عندما خانوا أمانات العصورِ الراشدية
يوم عاموا في بحار الظلم،
والطغيانِ في دم القضيَّهْ
ثم هدَّوا كل أسوار بناها
زحفنا الهدَّارُ في عهد " صلاح الدينْ "
يوم خانوا كل ما ائتُمنوا على أسرارِهِ
من نور أمجاد الكماة الغابرينْ
فارتوى " دايانُ " من دم الشهامة والكرامة والإباءْ
وانتشى " شارونُ " في تمزيقِ أشلاء المروءةِ والوفاءْ
وانتهى " بيريزُ " من سلب خيول
قادها " عقبة " في عصر العطاءْ
واشترى ما شادَهُ " عمروٌ " وأعلا صرحَهُ
يوماً بأنهار الدماءْ
يوم باعوا كل أسياف الأباةِ الفاتحينْ
يوم أهدوا للصوصِ الحاقدينْ
كل ما شادته في " اليرموكِ " في،
" حطينَ " في " جالوتَ "،
أفواجُ الأباةِ الخالدينْ
هكذا ظَنُّوا قطافَ النجم من عليائِهِ
هكذا خالوا بناءَ المجدِ في هذي السنينْ.(9/69)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
المجاعة في الصومال
إن قومي يقاسون المرض والجوع.. إننا نفنى فناءً بطيئاً!!.. وخلال
وقت قصير سوف لن يبقى منّا أحد! .. بإمكانك رؤية هذه المأساة البشرية، مقابر
أهلينا وهياكل ماشيتنا باتت في كل مكان «.
بهذه الكلمات الحزينة والنبرات المؤثرة وصف شيخ قبيلة صومالي -لأحد
الصحفيين الغربيين- الحالة المأساوية التي يعيشها إخوانه المسلمون في تلك البقعة
من العالم الإسلامي.
فمنذ مطلع هذا العام والصومال -ذلك البلد الأفريقي المسلم- يئن تحت وطأة
المجاعات وحالات الجفاف التي تتوالى منذ حين، والتي أتت على كل شيء،
وخلفّت وراءها عشرات الألوف من الموتى ومئات الألوف من المرضى والهلكى،
أمّا الناجون فكثيرٌ منهم -إن لم نقل: جلّهم- قد باتوا في حالة صحية متردية من
جراء سوء التغذية، هذا وتعيش المناطق المنكوبة حالة شلل اقتصادي تام، لاسيما
بعد شروع الآلاف من أفراد القبائل -من الذين أنهكهم الجوع والظمأ- بهجرات
جماعية، تاركين وراءهم أمتعتهم وممتلكاتهم، قاصدين أطراف المدن والقرى بحثاً
عما قد يسدون به رمقهم، وقد أقيمت للنازحين -الذين يربو عددهم على النصف
مليون- مخيمات مؤقتة في العراء وتحت أشعة الشمس الحارقة، ولا يجد النازحون
ما يستظلون به سوى جلود ماشيتهم التي يتخذونها أسقفاً تقيهم لهيب أشعة الشمس،
وتسود المخيمات أجواء صحية سيئة للغاية، حيث يعيش ساكنوها في ظروف
وضيعة لا تليق ببني الإنسان، فقد انقلبت هذه المخيمات إلى محل لرمي النفايات
والفضلات، ومكان لقضاء الحاجات.
وهكذا فقد بات انتشار الأمراض الفتاكة كالكوليرا والدوسنتاريا أمراً وشيك
الوقوع، مما ينذر بمزيد من الضحايا، نظراً لضعف المناعة البدنية التي آلت إليها
حالة الغالبية بسبب حدة سوء التغذية، لاسيما بين الأطفال الذين تعرض كثير منهم
إلى حالات فقدان الوزن بدرجة تنذر بالخطر -حسب تقرير إحدى منظمات الإغاثة
العالمية-، وذلك بسبب النقص الشديد في المواد الغذائية وسوءها والذي من أحد
مضاعفاته مرض ذات الرئة الذي أخذ هو الآخر يحصد المئات من الأطفال في
غياب الأدوية والمضادات الحيوية، التي كان من واجب منظمات الإغاثة العالمية
توفيرها كأبسط احتياط أولي لمثل هذه الحالات المتكررة الحدوث في بلد فقير
كالصومال.
قحط وجفاف متواصل:
وتأتي حالة الجفاف التي تجتاح الصومال اليوم امتداداً لما عاناه -ومازال
يعانيه- على مدى الأعوام الثلاثة الماضية من انخفاض شديد في معدل سقوط
الأمطار، وجفاف كان سبباً في هلاك أعداد ضخمة من المواشي والجمال، فقد
تحدثت وكالات الإغاثة العالمية عن هلاك ما يربو على 78% من الأغنام والماعز،
و66% من الدواجن، و 53% من الجمال، وإن هول الفاجعة ليعظم في عين
القارىء إذا ما علم أن 70% من الصوماليين هم من البدو الرعاة الذين ليس لهم ما
يعتمدون عليه في معيشتهم سوى هذه المواشي، وما تنتجه لهم كمصدر وحيد
لأسباب البقاء.
وهكذا فإن نمط العيش في هذا البلد هو من النوع الهش الشديد التأثر بتقلبات
الطقس التي تأتي أول ما تأتي على الثروات الحيوانية التي هي للصوماليين
كالأرض بالنسبة للمزارع، فإذا ما سلب الأرض حرم من سبب العيش، إلا أن
يرحمه الله.
هذا بالإضافة إلى أن هذه الثروة الحيوانية الضخمة تشكل العمود الفقري
للاقتصاد الوطني في الصومال، كما أنها تمثل المورد الرئيسي للعملات الصعبة،
باستثناء المساعدات المالية التي يحصل عليها من قبل بعض الدول والهيئات والتي
لا تخلو من شروط مسبقة، ولا أدَلَّ على حيوية الثروة الحيوانية وأهميتها كعنصر
أساسي في اقتصاد هذا البلد مما نشر في البيانات الاقتصادية من أن صادرات هذه
الثروة قد بلغت في عام 1986: ما مقداره 135 مليون دولار، ومع أنَّ هذا الرقم
يشكل 80% من واردات العملة الصعبة. فإذا ما تذكرنا تلك الإحصائيات التي
نشرتها المنظمات العالمية عن الخسائر التي حلت بالثروة الحيوانية تجسدت لنا
المأساة التي حلت بذلك البلد المسلم.
الصومال تقرع أجراس الخطر:
في أواخر العام الماضي 1986 م بدأت وزارة الثروة الحيوانية الصومالية
اتصالات أولية مع هيئة برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة -ومهمته التنسيق مع
باقي هيئات الإغاثة الدولية-، تحذرها من مغبة تحوُّل حالة الجفاف التي تجتاح
البلاد -والتي طال أمدها- إلى مجاعة واسعة وخيمة العواقب قد تودي بحياة
العشرات من الألوف من السكان.
وفي مطلع هذا العام ومع بداية شهر شباط عاودت الجهات الحكومية
اتصالاتها وإنذاراتها لجمع من منظمات وهيئات الغوث الدولية وبشكل رسمي -
خطِّي هذه المرة-، مشعرة إياها بوشوك وقوع كارثة في المناطق المتضررة من
جراء طول موسم الجفاف، كما وزعت الحكومة مذكرات مفصلة وضحت فيها حجم
المساعدات الضرورية المطلوبة من مأكل ومأوى، والتي كان من الواجب توفيرها
قبل حلول شهر آذار من هذا العام، في الوقت الذي لم يكن قد سجلت فيه بعد أية
حالة وفاة بين السكان.
ومما يجدر ذكره: أن الإحصائيات الحكومية هذه جاءت مطابقة فيما بعد لما
نشرته اثنتان من كبريات وكالات الإغاثة الدولية - وهما (أوكسفام) [1]
واليونيسيف من بيانات تشير إلى مدى تدهور الوضع الصحي لدى السكان، هذا بالإضافة إلى قيامها بلفت أنظار أكبر عدد ممكن من هيئات الإغاثة الدولية - ممن يعنيهم الأمر- إلى حقيقة ما يجري هناك.
لقد قرعت الصومال أجراس الخطر، وجاءت نداءاتها واستغاثاتها مبكرة
وفاسحة المجال أمام كل من تحدثه نفسه القيام بأي عمل غوثي.. لقد حدث كل ذلك
إلا أن صدى قرع أجراس الخطر تلك لم يكن سوى التفرج والصمت التامَّين؟ ! ... صيحة في واد ... !
لقد جاءت نداءات واستغاثات الصومال صيحة في واد ... ! لقد أدارت
الوكالات والهيئات الدولية آذاناً صماء لتلك النداءات على كثرتها وحدّة نبراتها،
والتي جسدت بؤس ومأساة أولئك العزل من الناس، الذين لم يعد لهم حول ولا قوة
سوى استقبال الكارثة التي باتت في انتظارهم.
ومما زاد من تفاقم تلك المأساة وحدتها: تلك الخلافات التي نشبت بين هيئات
ومنظمات الغوث، والتي كان مبعثها -حسبما ذُكر في تقارير المتتبعين لتطورات
الوضع هناك - (التنافس) ... !
ولا ندري ما طبيعة ذلك " التنافس؟ وعلى أي شيء كان يدور؟ أَعَلَى الزج
بأكبر عدد ممكن من تلك الهياكل البشرية المتحركة في ميادين الصراع مع الجوع
والظمأ؟ أم على التلذذ بمنظرها وهي تتساقط في ساحات الفناء الواحدة تلو ... الأخرى؟ ! !
وكنتيجة طبيعية لهذا " التنافس " فقد انعدمت بين هذه الهيئات " المتنافسة "
أدنى مستويات التنسيق والتعاون، فعلى سبيل المثال لا الحصر ترفض: إحداهنّ
(منظمة الصحة العالمية) -في مطلع شهر نيسان من هذا العام- طلباً للأخرى
(منظمة اليونيسيف) مقدماً من الجهات المحلية للبحث في قضية وفاة [26] شخصاً
بعد إصابتهم بمرض الإسهال، بحجة عدم قيام تلك الجهات بإبلاغها مباشرة! !
وأخشى ما نخشاه أن يكون غياب التنسيق هذا والذي مبعثه التنافس هو في
حقيقة أمره ثمرة لتنسيق وتخطيط خبيثين تحوكه أيادي القائمين على إدارة دفة هذه
الهيئات من اليهود والصليبيين -كما سيتبين بعد قليل-، الذين لا يرقبون في مسلم
إلا ولا ذمة، ولا يدعون فرصة إلا واستغلوها أبشع استغلال للوصول إلى مآربهم
في النيل من أبناء المسلمين، حتى ولو كان باسم إغاثتهم.
ومن نفس المنطلق هذا ترفض منظمة الصحة العالمية القيام بمسؤولياتها على
ضوء النتائج التي خرجت بها منظمة اليونيسيف في أعقاب عملية المسح التي
أجرتها، بحجة أن هذه النتائج كانت على جانب شديد من المبالغة والتهويل! !
ومن الملفت للنظر حقاً، أن رفض منظمة الصحة العالمية لنتائج هذه
المسوحات المقدمة إليها لم يقتصر على المنظمات والهيئات التي تخوض حالة
تنافس معها فحسب، بل إنه تجاوز إلى أكثر من ذلك ليشمل منظمات أخرى
كمنظمة " أوكسفام " التي انتقد تقريرها انتقاداً لاذعاً، على الرغم من شمولية بياناته
ودقتها، والتي جاءت محذرة من تفشي حالات سوء التغذية التي ظهرت في بعض
الأقاليم.
الدور الأميركي:
وعلى الرغم من كل ما قامت به منظمة الصحة العالمية من ممارسات خبيثة
في حق مسلمي الصومال، إلا أن ذلك لم يؤهلها للوصول إلى دور الصدارة في
(مسرحية الإغاثة) هذه، بل لقد أسند هذا الدور إلى الولايات المتحدة الأمريكية
ومنظماتها (الإنسانية) ، ولا غرابة في ذلك البتة؛ فهي التي عودتنا أن يكون لها
النصيب الأكبر في هذا الطراز من الجرائم التي ترتكب في حق الشعوب المغلوبة،
كيف لا واليهود لهم أكبر نصيب من إدارة دفة الأمور فيها؟ !
ويأتي دور أمريكا هذا عبر منظمتها المسماة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية،
وهي تعتبر أكبر مصدرٍ للإعانات الغذائية في العالم، كما أنها تأتي في طليعة
هيئات الإغاثة الدولية -بالنسبة للصومال- من حيث النفوذ الذي تتمتع به وحجم
المساعدات المفترض تقديمها له. ولعل دور هذه الوكالة التآمري في مسرحية
الإغاثة هذه يرتسم في مخيلة القارىء إذا ما علم أن ممثل دولة الصومال لديها هو
يهودي اسمه ليو كوهين (lew cohen) ! ! والممارسات المشبوهة لهذه الوكالة
كثيرة قد لا يتسع المقام لذكرها، لذا فإننا سنكتفي فيما يلي بذكر شواهد مُنتقاة من
تلك الممارسات بالقدر الذي يفي بالغرض، ولكي تتضح الصورة:
فلقد كانت المرة الأولى التي فاتحت فيها الحكومة الصومالية هذه الوكالة في 7
/ 2 /1987م، وفي حينها طلبت مساعدات ملحة على شكل مواد غذائية وعقاقير
طبية. إلا أن رد هذه الوكالة " الإنسانية " لم يأت إلا بعد عشرة أيام وبالتحديد في
17 / 2 /1987 م، وعبر الكليمات المعدودة التي احتواها الرد قال كوهين: إنه
حسب توقعاته، فإن ما لدى الحكومة من احتياطات غذائية يكفي لتغطية هذه
الطلبات. أما بالنسبة لما تتطلبه عملية توزيع هذه المواد من نفقات؛ فيقول كوهين: إن الوكالة ربما تقوم بمساعدة مالية لتغطية هذه النفقات، على أن هذه المساعدة لن
تتخذ شكل إعانات مالية جديدة، بل إنها تأتي من أرصدة ما يسمى بـ (480 pL) ، وهذه عبارة عن عوائد مالية كانت الحكومة قد حصلت عليها من مبيعات مواد
غذائية -في السوق المحلية- جاءتها عن طريق هذه الوكالة.
ومما يجدر ذكره: أن الأرصدة الآنفة الذكر تقع بصورة مباشرة تحت هيمنة
الوكالة الأمريكية، ولا يسمح للحكومة بمسها أو التصرف بها البتة، إلا بعد
الحصول على موافقة الوكالة أولاً! !
هذا ولم تكن الحكومة في رسالتها الثانية أوفر حظاً منها في المرة الأولى،
على الرغم مما تضمنته من تأكيدات من أن وزارتها المالية قد باتت في حالة عجز
تام، ومن أنها لم تعد قادرة على القيام بمسؤولياتها.
وحينما يأتي دور تحديد حجم الضحايا فللوكالة موقف آخر أقرب للطرفة منه
للواقع، ولا غرابة في ذلك، لقد قدرت الحكومة عدد المتضررين -من الذين باتت
حالتهم الصحية في أمس الحاجة إلى عون طبي- بـ (880) ألفاً، أما الوكالة
الأمريكية فإنها -وبطبيعة الحال- لا ترى ذلك، بل إنها شددت على أن عددهم -أي: المتضررين- لا يجاوز بحال العشرين أو ربما الثلاثين ألفاً! ! وأغرب من ذلك:
رفضها لطلب الحكومة بتوفير ما مقداره (13500) طن من الحبوب لإغاثة أسوأ
الأقاليم تضرراً الأمر الذي يتطلب توفير مبلغ (550) ألف جنيه استرليني للقيام
بهذه العملية، علماً بأن المبلغ المذكور يكفي -زيادة على ثمن ونقل وتوزيع
الحبوب- لتوفير كميات أخرى من الحليب المجفف وزيوت الطهي، إلا أن رد
الوكالة كان منطلقاً من (قناعتها) من أنه من غير المعقول أن تتجاوز تلك
الاحتياجات الغذائية حدّ الـ (450) طن! ! وهذا يعني: حصر النفقات الكلية بما
لا يزيد على (70) ألف جنيه استرلينى! !
وعلى الرغم من تزايد حالات الوفيات المبلغ عنها مع حلول منتصف شهر
نيسان من هذا العام-حيث سُجلت مئات من حالات الوفاة بين الأطفال بسبب سوء
التغذية المشار إليها آنفاً-، فإن رسائل الوكالة الصادرة في تلك الفترة كانت ما تزال
تصف الحالة بأنها ليست حرجة، إلا أنها تسترعي الاهتمام! !
وفي الفترة ذاتها وبالتحديد في 13/4/1987م، كتبت وزارة الداخلية
الصومالية إلى الوكالة الأمريكية معبرة عن صدمتها لطبيعة الردود الاستخفافية التي
تلقتها رداً على رسائل الاستغاثة التي بعثت بها، ومطالبة إياها باتخاذ مواقف أكثر
جدية تجاه تطورات الأحداث. إلا أن المراسلات التي توالت بين الطرفين فيما بعد
لم تسجل أي تراجع ملحوظ في ردود الوكالة عن نمطها الاستهتاري المعهود،
وهكذا فقد بقيت أقاليم وسط الصومال بدون أي إعانات غذائية، باستثناء كميات
متواضعة جداً -وصلت من دول مجاورة- لا تتناسب وحجم الكارثة، وبقي الحال
على ما هو عليه، حتى إذا ما حل شهر حزيران من العام نفسه غطت موجات
المجاعة المكتسحة تلك الأقاليم (فدج، هيران، جل جدود) ، وخلّفت وراءها
الخراب والدمار وأعداداً مخيفة من الموتى بشكل لم يشهده تاريخ المنطقة قط،
وبذلك تحققت أحلام كوهين وأقرانه..
وهذا الذي ذكرناه ليس إلا غيضاً من فيض، وما هو إلا جزء يسير مما
استطاعت أقلام وعدسات الصحفيين الوصول إليه وتغطيته، ولا شك أن ما خفي
أعظم وأهول.
وبعد....
ونحن -في هذا المقام- إذ نلفت الأنظار إلى أحابيل هذه المنظمات المشبوهة
ومؤامراتها الإجرامية على الصومال -وأمثاله من الدول المغلوبة-، لابد من كلمة
أخيرة حول الدول التي تعاني من المشاكل الاقتصادية الخانقة، حيث إن الظروف
الطبيعية والحوائج المعيشية مثل القحط والجفاف ليست هي المسؤول الأول عن
حالة البؤس والمصائب التي حلت بشعوب هذه الدول، وإنما سلوك الذين يقبضون
على زمام الأمور هناك من أكبر العوامل التي ساعدت على إفقار هذه الشعوب
وتجريدها من كل شيء، لا من الأشياء التي تشكل قوام حياتها المادية فحسب.
وإن التخبط، وقصر النظر، وسوء التخطيط، وخراب الذمم، وإنفاق مال الأمم
على ما لا يجدي ... كل ذلك ينبغي أن لا يستبعد من الحسبان عند تحليل تلك
الأوضاع.
__________
(1) أوكسفام: مؤسسة تبشيرية مشهورة مقرها " أكسفورد " في بريطانيا، وتساهم في أعمال الإغاثة في أفريقيا وغيرها.(9/74)
إندونيسيا - فساد
14 أيلول (سبتمبر) - قالت وكالات الأنباء:
إن القوات المسلحة في أندونيسيا حثت الحكومة على اتخاذ إجراءات صارمة
لمكافحة الفساد في البلاد.
وقال السيد سويجينج ويجايا المتحدث باسم القوات المسلحة في البرلمان
للصحفيين: إن الجيش يريد أن يرى اتخاذ إجراء صارم للقضاء على الفساد بين
المسؤولين.
وفي تعليقات شديدة اللهجة نشرتها اليوم صحيفة (انجكاتان بيرسنجاتا) التي
تصدرها القوات المسلحة، وعدة صحف أخرى، كشف السيد ويجايا عن أن الجيش
اتخذ إجراءً صارماً لم يحدده، ضد أفراد فيه ارتكبوا مخالفات. ولم يذكر تفاصيل
أخرى.
ويشغل الجيش في أندونيسيا (100) مقعداً في البرلمان المؤلف من (500)
مقعداً.
وجاءت تعليقات السيد ويجايا في إطار تركيز جديد على فساد مزعوم في
البلاد. وقد دعا بعض المسؤولين إلى مطالبة جميع الوزراء وكبار موظفي الحكومة
وأعضاء البرلمان بإعلان موقفهم المالي قبيل تولي مناصبهم. وفي آب (أغسطس)
الماضي: نفى الرئيس سوهارتو علناً مزاعم اختلاس من صندوق خيري تديره
زوجته.
التعليق:
هل إندونيسيا غير مثيلاتها من دول العالم الثالث؟ وهل حكامها من صنف
آخر غير الأصناف التي ابتليت بها ملايين المسلمين في العالم؟ وإذا كانت
أندونيسيا بحراسة مبادئ (الباتشاسيلا) العتيدة قد فتحت أبوابها وجزرها لرياح
التبشير النصراني من كل نوع، واحتضنت وأحيت كل العقائد والمفاهيم الوثنية
هناك، فمن سيسألها عن الفساد؟ ومن سيحاسبها عن الأموال التي تذهب إلى
جيوب (المحاسيب) ؟ .
وإننا لبعد المسافة، ولعدم معرفتنا باللغة الأندونيسية، لا نعرف اللقب الذي
أنعم به على مديرة (الصندوق الخيري) هناك. ولكن إلى أن يتحقق لنا العلم بذلك
فسوف نمنحها لقباً مما يحفل به تراثنا الحديث من ألقاب، مثل: (السيدة الأولى)
أو (سيدة أندونيسيا الأولى) أو (الماجدة ... ) أو إن لم يعجبها لقب قادم من الشرق
الأوسط فنحيلها على الجيران في الفلبين فقد أصبح عندهم لقب شاغر للتأجير،
نعني: [إميلدا ماركوس رقم (2) ] .(9/81)
كلمة حول أحداث الحرم
وقعت أحداث الحرم بينما كان العدد الثامن تحت الطباعة.. وهذا أول عدد
يصدر بعد هذه الأحداث، ولأننا نعتقد بأن الفتنة التي افتعلت في بيت الله الحرام
ليست حدثاً طارئاً تزول آثاره بعد بضعة شهور؛ لذا وجدنا بأنه من الواجب علينا
تنبيه القارئ إلى حقيقة ما يدبره هؤلاء ضد أمتنا الإسلامية، ونوجز كلامنا في
النقاط التالية:
من يتتبع مسيرة بعثات الحج الإيرانية منذ قيام ثورتهم وحتى وقوع فتنتهم
الأخيرة يعلم أنهم يخططون لما هو أبعد مما يسمونه مظاهرة سلمية. وأنهم ليس في
سجلهم البعيد والقريب أي نقطة إيجابية لصالح المسلمين، بل هو مملوء بالكيد
والتنسيق مع أعداء الإسلام في الداخل والخارج.
والتاريخ الإسلامي زاخر بالشواهد على أن هؤلاء الباطنيين يتطلعون دائماً
للسيطرة على مكة المكرمة، ومَنْ من المسلمين لا يذكر صفات الذين سرقوا الحجر
الأسود، وروعوا حجاج بيت الله الحرام، وذبّحوا آلاف الحجاج الأبرياء الآمنين.
والتاريخ يعيد نفسه، وهؤلاء يسيرون على خطا أولئك والأسباب التي يتذرع
بها هؤلاء تدعو للضحك والسخرية.. فقد قالوا: إنهم يقومون بمظاهرات سلمية
للتنديد بإسرائيل وأمريكا.. فهل إسرائيل وأمريكا موجودتان في الحرم؟ !
وهل هؤلاء الذين يتخذون من سب إسرائيل وأمريكا في العلن غطاء لأحقادهم
المدفونة بعيدون عن إسرائيل وأمريكا كما يدعون؟ ! .
إن أقل الناس معرفة -حتى الذين انخدعوا بالشعارات التي رفعها هؤلاء-
صار يعرف ما وراء الكذب والبهتان الذي يسترون به مؤامراتهم وأراجيفهم. وإن
المسلمين الذين لم يحجب الله بصائرهم وأبصارهم كلهم مجمعون على كره أمريكا،
ويعرفون أنها هي السند الرئيسي لإسرائيل، والتي تعمل دائبة وبلا كلل على
إجهاض أي توجه إسلامي صحيح، والأخذ بيد كل عدو للإسلام، وليسوا بحاجة
إلى هؤلاء الأدعياء كي يبصرونهم بحقيقة أمريكا وإسرائيل.
إن هدف هؤلاء الذي أكدته الوثائق لا يقف عند حدود هذه المظاهرات
الغوغائية فقط، بل يتعداه إلى ما وراء ذلك، من نشر للفوضى في صفوف
المسلمين، وتدمير لبنية مجتمعاتهم، ولئن لم يستطيعوا أن يحولوا هذه البلاد تحت
هيمنتهم فهم لم يخسروا شيئاً، فالتنكيل لن يلاحقهم، والتخريب والتدمير لن يمس
ما يملكون، وإنما سيقع على من ينخدعون بدعاواهم من الحمقى والمغفلين.
وخلاصة القول: أن هذه الفتنة ستستمر باستمرار هؤلاء الذين لا يجيدون إلا
فن الشغب وبث الفوضى، والذين جعلتهم أحوال المسلمين المتردية يؤدون دورا
هداماً في العالم الإسلامي -ونقول (الإسلامي) وليس العالم الغربي أو الشرقي-
عجزت أمريكا وروسيا عن تأديته، والحذر وعدم الاغترار بدعاوى هؤلاء هو
الأصل.(9/82)
محنة جديدة للدعاة في تونس
نفذ حكم الإعدام بشابين تونسيين، ونفذت أحكام أخرى تتراوح بين السجن
المؤبد والسجن لمدد طويلة بمجموعة أخرى. وقد نقلت وسائل الإعلام العالمية ما
صدر عن السلطة التونسية بشأن ذلك. ولا نريد ذكر تفاصيل ذلك، وإنما نريد
الإشارة إلى أن نتائج هذه المحاكمة كانت متوقعة، وأن الأحكام لم تصدر يوم النطق
بها رسمياً، وإنما صدرت عند بدء الحملة الإعلامية الشرسة التي وظيفتها التمهيد
ليكون وقع هذه الأحكام الظالمة خفيفاً على الناس، ولإحداث الصدى التبريري
المناسب الذي يحجب العقلية المتغطرسة والمتعجلة التي تتميز بها هذه الأنظمة عند
معالجة كل ما له تعلق بقضايا الإسلام والمسلمين.
ومنذ أن أسندت الدولة أمر محاكمة هؤلاء إلى محكمة برئاسة المدعي العام
للدولة، ظهر أنها لن تكون منصفة ولا عادلة في حكمها على هؤلاء، فكيف يكون
الخصم هو الحكم؟ ! .
ومن الدعاوى التي ساقتها السلطة للتنكيل: أن هؤلاء اتصلوا بإيران، وقد
أكد قادة حركة الاتجاه الإسلامي في بيانات أصدروها بأنه لا صلة لهم بإيران،
وأنهم يرفضون سياسة هذه الثورة ومنهجها.
ومن جهة ثانية: فإن الذين فروا تحت وطأة المطاردة كان من المنطقي أن
يفروا إلى إيران التي ادعى أعداؤهم أنها تساندهم، ولكنا نراهم قد التجأوا إلى
جهات معادية لإيران.
أما عن القول بأنهم يؤيدون الثورة الإيرانية؛ فإن كثيراً من المسلمين قد أيدوا
هذه الثورة، ورجوا منها الخير ثم تراجعوا عن ذلك، وإن من الملفت للنظر أن
أجهزة الإعلام عربية وغربية وقفت إلى جانب الإعلام التونسي الظالم وشاركته
إصدار أحكامه على هؤلاء الشباب منذ البداية، ولم يتنبه هؤلاء الذين لا يزالون
يلوكون ألفاظ التطرف والتعصب حتى عافتها النفوس ومجتها الأسماع أن أساليبهم
الفجة هذه هي التي تدفع الشباب المتسرعين دفعاً أن يقفوا منهم هذه المواقف التي
يقذفونهم بسببها هذا القذف، ويرمونهم عليها بأقذع الشتائم وأقبح الأوصاف.
فأين ادعاءات القائمين على هذا الإعلام بمسؤوليته التربوية والتوجيهية،
وحمله لواء الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان والكشف عن الحقائق؟ ؛ إننا وبكل
أسف لم نلمح ولم نحس حتى ولا من وراء السطور والكلمات أي أثر لتحذير النظام
التونسي الإقدام على مثل هذه الجرائم المتكررة لتشويه صورة العاملين للإسلام
عموماً، مع أن مواقف هذا النظام في عدم حياده ومجافاته للحق معروفة بدءاً
بعلمانيته التي يتفاخر بثمارها، ومروراً بالاستهتار بأركان الإسلام كالصوم،
والاستهتار بالقرآن الكريم وبأحكامه، وليست بعيدة تلك الفتاوى التي أصدرها كثير
من أفاضل العلماء بردة رئيس هذا النظام وذلك حين تجرأ وسخر من كثير من
الأحكام الإسلامية ومما عرف من الدين بالضرورة.. وانتهاء بمنع الحجاب، فقد
صرح الهادي خليفة وزير الدولة للتعليم الثانوي والابتدائي بتونس بأنه تقرر حظر
ارتداء الطالبات زي المحجبات في مختلف المدارس والمعاهد والكليات [القبس -
14/9/1987] .
بل إن هذا النظام لا يكف عن الافتخار بما يندى له جبين المؤمن، بل تثور
له النخوة العربية، ألا وهو: فتحه لأبواب بلاده لأمواج الفساد العاتية التي تقذف
بها الحضارة الغربية باسم السياحة وزيادة الدخل القومي، حتى تحولت تونس
الإسلامية على يديه إلى بلد يكاد يفقد هويته، التي إن فقدها فقد تحول إلى (بالوعة)
من بالوعات الفساد في هذه الحضارة الراهنة.
إننا في (البيان) نستنكر هذه الجرائم ضد الدعاة، ونعتقد أن مسيرة الدعوة
إلى دين الله لن توقفها مثل هذه التصرفات في بلد أنجب فحول العلماء والمجاهدين
كالشيخ محي الدين القليبي.
كما إنها فرصة ليعيد الشباب المسلم في تونس النظر في مواقفهم ومناهجهم
التي لم تسلم من دعاوى (العقلانية) ، وليبقوا على وفائهم لمنهج أهل السنة، الذي
لو لم يكن له إلا حفظ وحدة المغرب العربي الفكرية، وتجانسه الثقافي لكفت مزية.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(9/84)
الحضارة المعاصرة الوجه الأخر
إعداد: ضيف الله الضعيان
«.. والرسالة روح العالم ونوره وحياته،» فأي صلاح للعالم إذا عدم
الروح والحياة والنور؟ ! «» والدنيا مظلمة ملعونة، إلا ما طلعت عليه شمس
الرسالة.. «
ابن تيمية
وأخيراً اعترف الغرب
ترجمة وتعليق: محمد عثمان عقال
مجلة (بلين تروث) (the plain truth) مجلة تبشيرية تنصيرية، تصدر
بسبع لغات، ويوزع منها 20 مليون نسخة شهرياً مجاناً، وقد ورد في عدد أكتوبر
1987 منها مقال حول انحطاط المستوى التعليمي في الغرب تحت عنوان: (أعيدوا
دور الوالدين في التعليم) . وقد وجدنا من المفيد ترجمة هذا المقال لما فيه من حقائق
تحتاج إلى معرفة.
المدارس العليا تخرج جهلة وأشباه متعلمين! شباب لا يستطيعون قراءة
صحيفة أو كتابة رسالة مفهومة إلا بصعوبة بالغة! ماذا يحدث في مدارس اليوم؟ !
مثال واحد يوضح المشكلة..
طلبة الولايات المتحدة وضعوا صحراء سيناء في فيتنام! بعضهم الآخر قال:
إن رئيس وزراء كندا السابق (بيير ترودو) كان لاعب هوكي من مدينة مونتريال
فهل هناك أية غرابة إذا كان أولياء الأمور والمربون قلقين من نوعية ومستوى
التعليم لدى الشباب؟
وقد كشفت إحصائيات أخرى أجريت في أمريكا في صفوف طلبة في سن
السابعة عشرة، قام بها (المعهد القومي لتقويم التقدم التعليمي) عن حقائق مُرَّة:
* ثلثان منهم لم يستطيعوا تحديد تاريخ الحرب الأهلية في أمريكا في الفترة ما
بين1850-1900م.
* وثلث آخر كانوا يجهلون أن كولومبس أبحر للعالم الجديد قبل 1750م، ثم
إن إحصائية أخرى أكثر حداثة وجدت أن 20% من طلبة أمريكا لا يستطيعون
تحديد موضع أمريكا من خريطة العالم!
وكما قال مدير المعهد القومي للدراسات الجغرافية في الولايات المتحدة وفي
أسلوب مفعم بالمرارة: نحن الآن قد وصلنا إلى حد أن " جوني " ليس عاجزاً عن
القراءة فحسب، بل إنه لا يعرف حتى موضع قدميه!
والأغرب من هذا: أن كثيراً من طلبة المعاهد في أمريكا -ممن هم في سن
التاسعة عشرة- يجهلون من هي الأطراف المتصارعة في الحرب العالمية الثانية.
وهذا الجهل ليس محصوراً في الولايات المتحدة فقط؛ ففي دراسة بريطانية
حديثة جاء أن أكثر من نصف الطلبة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 - 11 عاماً لا
يستطيعون فهم تعليمات إنذار الحريق البسيطة، وأن 44% منهم غير قادرين على
حل رموز جداول الحافلات ووسائل الانتقال، هذا وعلى الرغم من إدخال بعض
التحسينات الطفيفة على نظام التعليم! فإن المشاكل الأساسية لا تزال قائمة.
الحلقة المفقودة:
يؤيد كثير من دعاة الإصلاح في الولايات المتحدة فكرة العودة إلى النظام
التأديبي القديم في المدارس، ويرون أنه لابد من البدء مرة أخرى بتدريس
الأساسيات. في حين أن الغالبية العظمى ترى أن هذا الانهيار يعود إلى ضعف
الحوافز لدى المدرسين، وأنهم بحاجة إلى زيادة رواتبهم.
ولكن كل هذه الحلول تنقصها مادة وحيدة مفقودة تجاهلتها التقارير، وهي:
دور أولياء الأمور في التربية والتعليم. كما أشار إلى ذلك وزير التعليم السابق في
الولايات المتحدة (تيرل بال) ، حيث قال بحق:
» إن انهيار مستوى التعليم في المدارس الأمريكية في بعض من جوانبه
يعكس -إلى حد ما- طبيعة التقلبات على مستوى الأسرة، فلدينا أسر كثيرة يعمل
فيها كلا الوالدين، وأسر كثيرة أيضاً لا يديرها إلا شخص واحد (أباً أو أماً) «.
ونتيجة للسلبيات المترتبة على مثل هذه الحالات فإن الآباء قليلاً ما يهتمون
بالعناية بأولادهم، فهم مثلاً لا يلتفتون إلى متابعة تطور سير دراسة ولدهم إلا حينما
يفاجئ أمه بقوله: أماه.. إنني لا أفهم شيئاً.
حتى المدرسون بدورهم أصبحوا يتذمرون من اللامبالاة التي يتصف بها
سلوك الآباء. ففي مقال لـ (فيكتور فوجس) في جريدة (وول ستريت جورنال)
يقول:
» مما لا شك فيه أن اهتمام الآباء بأبنائهم، والقيم التي يحرصون على
غرسها فيهم هي من العوامل الأساسية التي تحسم مدى نجاح الطفل في المدرسة،
فنحن -مثلاً- نجد أن أبناء العائلات الآسيوية التي وفدت حديثاً إلى أمريكا غالباً ما
يتفوقون على أترابهم في المدارس الأمريكية والكندية «. ويستطرد مستر فوجس
قائلاً:
» إن تفوق الطلبة الآسيويين لدليلٍ واضح بأن الاجتهاد في التحصيل،
واحترام المدرس، والمشاركة الفعالة من الآباء في متابعة تعليم الطفل يبقى لها الأثر
الإيجابي الكبير في التفوق «.
إن الآباء الذين يهتمون بتعليم أبنائهم يحصلون على نتائج إيجابية دائماً،
وأحسن مثال على ذلك هو: اليابان، فالأم اليابانية تهتم كثيراً بتربية طفلها، كما
يقول الأستاذ جورج دي فوس، وهو انثروبولوجي من جامعة كاليفورنيا ظل يدرس
حضارة اليابان لمدة 22 سنة، فهو يقول:
» إن الأم اليابانية عنصر كبير الأهمية والتأثير في تربية أطفالها، لأنها
تجعل من نفسها المسؤول الوحيد عن تعليمه، وتدعم بقوة دور المدرسة، وإن تربية
الطفل تبدأ منذ الولادة «.
إن السبب الرئيسي في انهيار مستوى تعليم الشباب بشكل عام في الدول
الصناعية هو عدم مشاركة الآباء في مسار التعليم، فإن الأب يرسل ابنه إلى
المدرسة بين الخامسة والسادسة من عمره، ثم ينتظر من الحكومة أن تتكفل بمهمة
تربية وتعليم هذا الطفل.
-انتهى المقال-
***
هذه حقائق يعترف بها عقلاء الغرب بعد أن أصبح من الصعوبة إخفاؤها،
ونسوقها لنؤكد بها تسيباً موازياً في التربية والتعليم في البلاد العربية والإسلامية،
حيث إن المستوى التربوي والتعليمي في حالة يشكو منها كل من هو مطلع على
حقائق الأمور.
وإن معالجة الماديين لمشاكلهم الاجتماعية تظل محكومة بنظرتهم المحدودة،
وقد تكون الحقيقة على مقربة منهم، ولكن يجدون الاعتراف بها صعباً، لأنه قد
يهدم الأساس الاجتماعي الذي ينطلقون منه برمته.
فلا شك أن التمرد على الفطرة، والتحدي الوقح لكل العقائد والأعراف،
والتنصل من كل ما تواطأت عليه البشرية ومصلحوها بحجة التطور والحرية،
والخروج بالمرأة عن وظيفتها التي خلقها الله، كل ذلك من الأسباب التي ينتج عنها
ما اشتكى منه القوم، إن لم يكن هو السبب الرئيسي.
ومع أن هذه النتائج يدركها أبسط معلم في مدرسة مارس مهنة التعليم،
ويستطيع أن يقيم عليها أمثلة لا حصر لها؛ فإننا وللأسف الشديد ماضون في أغلب
بقاع العالم الإسلامي في تشجيع المرأة على الخروج من بيتها بحجج يلوكها دعاة
الفتنة وأهل الأهواء، وبالتقنينات التي تدعم ذلك الخروج بشتى السبل، ويساند ذلك
إعلام لا يفتأ ليل نهار عن التحريض والإغواء ووصف الوقاحة والجرأة على الذنب
والشذوذ بالشجاعة والعبقرية والكفاح.
فهل ستكون النتيجة بعد كل ذلك أحسن مما توصل إليه الغرب الذي داس
الأسرة وروابطها، وسار شارداً لا يدري إلى أين المصير؟ ! .(9/87)
من داخل روسيا
موسكو - 28 أيلول (سبتمبر) -رويتر:
تقول تاتيانا المطلقة الشابة:
«عندما تنام طفلتي أشعر بغصة في حلقي، إنني أتوق في الحقيقة إلى
صديق يشاركني كل أفراحي وأحزاني، وابنتي الصغيرة تنتظر أباً» .
هذه شكوى تاتيانا (28) سنة، في خطاب أرسلته لمحرر عمود: (القلوب
الوحيدة) في صحيفة منظمة الشباب الشيوعي، في أوكرانيا.
وبتصفح خطابات المحرومين من الحياة العائلية، يستشف القارئ أن السلطات
تبذل جهوداً منسقة لتخفيف وطأة مشكلة اجتماعية رئيسية في الاتحاد السوفيتي،
وهي: جمع شمل الملايين من العزاب والمطلقين، وكثير منهم لديه أطفال.
وإعلانات القلوب الوحيدة فكرة جديدة إلى حد ما في الاتحاد السوفيتي، حيث ... ظلت الأيدلوجية الرسمية تؤكد على مدى سنوات أن الشيوعية قد حطمت الحواجز الطبقية، وأزالت العقبات من أمام العلاقات الإنسانية.
وتستجيب أبواب القلوب الوحيدة، مثل العمود الذي ينشر في صحيفة
(كومسومولسكوي زناميا) الأوكرانية لشكاوى الباحثين عن الحياة العائلية في بلد ينتهي فيه زواج واحد من كل ثلاث زيجات بالطلاق، ويزيد فيه عدد النساء غير المتزوجات على عدد الرجال غير المتزوجين بدرجة كبيرة جداً.
وتقول الصحيفة الأوكرانية التي بدأت نشر عمودها الأسبوعي، وعنوانه:
«أنا بانتظارك» منذ أربعة أشهر: أنها تتسلم حوالي ألف خطاب في اليوم.
وقال خطاب يُعد نموذجاً لما يتسلمه العمود: «أنتظر عمودكم دائماً وأنا على
أحر من الجمر» .
وتقول (لود ميلا) ، وهي مطلقة في الرابعة والثلاثين من عمرها، ولها ابن
في العاشرة:
«لن أصف مأساتي، سأقول فقط: إنه ليس باستطاعة كل امرأة قررت
الرحيل ومعها طفل عمره شهر أن يكون رحيلها بعيداً بلا عودة على الإطلاق» ! .
وفي خطاب آخر قالت (جالينا) التي تعيش في شبه جزيرة القرم:
«أنا في الثانية والعشرين، ولي طفل عمره ثلاثة أشهر، ونفتقد وجود رجل
قوي. لقد تخلى رجل عنا، ولكننا لا نعتقد أن كل الرجال مثله» .
واشتكت " ليلينا " المدرسة (28) سنة قائلة:
«إن زوجي السابق لا يقوم بأي دور في تربية ابننا، وحتى لا يتذكره،
ومع كل يوم يمر أزداد اقتناعاً بمدى حاجة ابني إلى أب» .
لا للزوجة الموظفة:
ومن السمات البارزة في خطابات من رجال سوفييت التأكيد على أنهم لا
يريدون أن تكون شريكات حياتهم موظفات طموحات.
فقد كتب فالنتين (29) سنة ومطلق، الذي قال إنه يهوى التصوير: «أريد
فتاة أو امرأة متعاطفة، عمرها بين 25، 29، تتمتع بشخصية مرحة، وتعرف
أشغال الإبرة والطبخ وتوفير جو عائلي مريح» .
ويشاركه هذا الأمل ديمتري -كهربائي عمره 24 سنة- الذي قال: " إنه
يعيش مع والدته وإخوته، وقال: «أريد فتاة متعاطفة، تطبخ جيداً، وتتمتع
بالحيوية والطيبة» . وقال (ألكسندر) (21) سنة الذي أتم تدريبه كبحار في ميناء
(أوديسا) على البحر الأسود: (عمل البحار صعب، ولكنه يصبح أكثر سهولة
إذا انتظرت عودتك على الشاطئ فتاة مخلصة) .
ويحرص بعض الرجال على التأكيد على أنهم لا يشربون (الخمور) ، من أجل
الفوز بقلوب النساء اللاتي يكرهن معاقرة الخمر.
ويقو ل (ألكسندر) : «ليس لدي عادات سيئة، وأحب الرياضة، وأنظر
إلى الحياة العائلية بجدية، وأريد أن تكون فتاتي رقيقة، وأن تشاركني اهتماماتي» .
وتحرص كثيرات من النساء غير المتزوجات على التأكيد على أنهن
سيصبحن زوجات وأمهات ممتازات.
وقالت (فالنتينا) (33 سنة) والتي تعمل مدرسة: «أحب الأطفال جداً،
ولكنني لم أتزوج، وسعادتي الكبرى في القيام بالأعمال المنزلية» .
هذا التقرير يعكس الحياة الاجتماعية في البلد الذي يعد النموذج لتطبيق
النظرية الشيوعية ويحاول كاتب التقرير أن يكون حيادياً، وينقل شهادات صادقة
من قِبل الرجال والنساء في روسيا، ولذلك فهو يبدو تقريراً وصفياً يحاول التقاط
بعض الصور عن الحياة الاجتماعية تحط النظام الشيوعي.
إن العقيدة الشيوعية حاولت القضاء على كل الروابط العائلية الموروثة،
وسخرت من كل القيم التي أقامتها الأديان واحترمتها الأجيال، مدفوعة بتفسيرها
المادي للحياة، ومؤكدة -بسطحية وتعصب ودموية- على أن تاريخ الجنس البشري
هو تاريخ البحث عن الطعام فقط.
وبعد أن فند العقلاء هذه النظرية حتى قبل أن تطبق؛ هاهي ذي الشعوب التي
رزحت تحت نيرها تعبر عن رفضها لها، وضيقها بها، ذلك لأن الفطرة البشرية
قد تشوه وتمسخ، ولكن لا يمكن اقتلاعها من جذورها.
وفي مكان آخر من هذا العدد من المجلة هناك شهادة أخرى عن الطرف الآخر
لهذه الحضارة - وهو الطرف الذي داس الروابط العائلية والقيم الربانية باسم الحرية
الفردية-، نظرتان لم تحققا السعادة والاستقرار للجنس البشري، وكل واحدة منهما
دعت وتدعو الناس إلى احتقار كل القيم والمواريث الخلقية، بحجة مختلفة مزعومة
سواء حجة الإنتاج، أو حجة الحرية الفردية.
يفتخر العبيد من أبناء المسلمين بما يسمى بتحرير المرأة سواء في الشرق أم
في الغرب، وتعجبهم صورة المرأة هناك، حيث تزاحم الرجال كتفاً بكتف،
وتمارس المهن التي كانت إلى وقت غير بعيد وقفاً على الرجال، وتعجبهم صورتها
وهي تقود السيارة أو الطائرة، وتقوم بما من شأنه أن يلفت إليها الأنظار، ويوجه
إليها عبارات التشجيع؛ ولكن ينسون أو يتناسون أن الأنظار سرعان ما تصدف
عنها، أو التشجيع سرعان ما يحجب عنها ليصرف إلى أخرى أصغر منها سناً،
وأكثر منها جاذبية، وأنها بعد قليل ستلتفت لترى نفسها وحيدة في صحراء قاحلة،
أو في سديم قطبي متجمد.
إن المقولة التي قدمت على أن الدولة تستطيع أن تربي وأن ترعى وأن تعول
مقولة لا تثبت عند الفحص والاختبار، فلئن استطاعت الدولة أن تتكفل بالرعاية
المادية والصحية لرعاياها، فهل هي قادرة على تأمين العلاقات الاجتماعية التي لا
غنى لهم عنها؟ !
إن الناظر بتأمل وتعقل إلى حياة هؤلاء الذين تفلتوا من كل ما يربطهم بوحي
السماء، وإلى المنزلة التي آلت إليها المرأة عندهم لَيَشعر بالإشفاق والرثاء -والله-، على الرغم مما يتمتعون به من تقدم مادي، وليس غريباً أن تسود الأمراض
الاجتماعية المدمرة، والأمراض الأخرى التي تهدد البشرية بعد أن انعتقوا من كل
الروابط، وأصبح المشروع مستهجناً والمحرم مألوفاً، فسخروا من الزواج ونفروا
منه، وحولوا العلاقات العائلية والروابط الاجتماعية إلى علاقات ميكانيكية بعد أن
انصرف الرجال عن الزواج نتيجة لتشجيع العلاقات الجنسية الحرة دون تحملهم لما
يترتب على الزواج من أعباء وشعور بالمسؤولية، أصبح على المرأة أن تواجه
وحدها جفاف هذا المجتمع، وأصبحت الضحية الأولى التي تنعكس عليها تناقضاته
وعيوبه، فهي راكضة لاهثة أبداً، تركض في مبدأ حياتها لتتعلم، ثم تركض
لكسب وظيفة تعيش منها، ثم تركض وتلهث وراء " الموضة " لتلفت إليها شاباً
متقلب المزاج لا يلبث أن ينصرف عنها إلى غيرها، لأنه حر لا رابط ولا وازع،
فتبدأ المحاولة من جديد تجاه ثان وثالث.. وهكذا هي مسعورة بين حاضر ليس له
لون ولا طعم، وبين مستقبل مكشر يتهياً لتلقي بنفسها بين فكيه وحيدة منبوذة.
إن قيمة المرأة عند المسلمين لا تزيدها الأيام إلا ارتفاعاً، بينما هي عند
الماديين ممن أعماهم بريق هذه الحضارة الزائف لا تزداد على الأيام إلا هبوطاً.
ونحن هنا لا نعمم، ولا ندعي أن مجتمعاتنا خالية من العيوب، وإلا فقد انتقلت إلينا
كثير من المفاهيم الخاطئة، فبدأنا نرى التسيب العائلي والتخلي عن المسؤولية من
قِبل كل من الرجل والمرأة، وخاصة في بعض الأسر الغنية.
وعلى هذا، فأي قيمة تبقى للأرباح المادية -مهما كانت- إذا خسر الإنسان
تربية أولاده، وتخلى عن رعايتهم.
إن الرجال هم الرجال، والنساء هن النساء، في أي مجتمع كانوا، وأي
عقيدة اعتنقوا، وإن نداء الفطرة يقول: إن الرجل يبحث عن المرأة التي تعمر
البيت بوجودها وحركتها، لا عن التي تملأ المعامل والمكاتب والشوارع بينما تخلف
وراءها بيتها فريسة للفراغ والخراب. والمرأة تبحث عن الرجل الذي يقف إلى
جانبها خلال حياتها كلها، فيرعاها وأطفالها، لا الذي يعجب بها في لحظة عابرة ثم
يتركها إلى غير رجعة. وماعدا ذلك فزيف وتصنع أو جهل وعمى. [وَمِنَ النَّاسِ
مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلَى عَذَابِ السَّعِيرِ] [الحج: 3-4](9/91)
أخبار حول العالم
السودان يطرد وكالات غربية
للإغاثة والتنمية
نيروبي -28 أيلول (سبتمبر) - رويتر
قال مسؤولو وكالات للإغاثة: إن السودان أمر ثلاث وكالات أجنبية للإغاثة
والتنمية بمغادرة البلاد خلال ثلاثة أسابيع قائلاً: إنه لم يعد هناك حاجة لخدماتها.
ولكن المسؤولين قالوا: إن التلفزيون السوداني ذكر أن أوامر الطرد صدرت ... لأن الوكالات انتهكت الأمن القومي للبلاد.
وقال السيد برنارد ويلسون المدير برابطة منظمات الموارد المسيحية التي
تخدم السودان لرويتر: إن الرابطة تسلمت أمر الطرد أمس، وجاء في الأمر: أن
موقف الغذاء في السودان قد تحسن وأنه لا داعي لبقاء الرابطة.
وقال السيد ويلسون: إن الرابطة التي تعمل في السودان منذ عام 1972 ,
ستستأنف هذا القرار.
وقال المسؤولون: إن التلفزيون السوداني ذكر يوم السبت: أن الرابطة
ومنظمة وورلد فيجن الأمريكية ومنظمة الاتحاد اللوثري العالمي يجب أن تغادر
البلاد خلال ثلاثة أسابيع؛ لأنها انتهكت الأمن القومي.
وقال مدير الاتصالات بمنظمة وورلد فيجن جاكوب أكول: إن منظمته لم
تتسلم بعد قرار الطرد، لكنه أعرب عن دهشته لأن الحكومة السودانية تعتبر
المنظمة خطراً على الأمن.
وقال السيد أكول: لقد دعينا للقيام بمهمة، والحكومة تشرف على جميع
أعمالنا ... وإذا كانوا لا يريدوننا في السودان فإننا ببساطة سنغادر البلاد.
وللوكالات الثلاث صلات مسيحية، وكانت تعمل في جنوب السودان حيث يقاتل
جيش تحرير شعب السودان القوات الحكومية منذ عام 1983.
ولم يتسن الاتصال بمسؤولي الاتحاد اللوثري العالمي للحصول على تعليقهم
على القرار.
هجرة اليهود السوفييت
ازدادت أكثر من أي وقت
منذ 1981
جنيف -أول تشرين الأول (أكتوبر) - رويتر
ذكرت إحدى السلطات التي تهتم بشؤون الهجرة: أن الاتحاد السوفييتي سمح
لما مجموعه (5. 480) يهودياً بالهجرة عبر فيينا حتى الآن هذه السنة، أي ضعفي
أي رقم للمهاجرين في أي عام كامل منذ عام 1981.
وقالت اللجنة الحكومية للهجرة التي تتخذ من جنيف مركزاً لها: إن (699)
يهودياً هاجروا في أيلول (سبتمبر) بالمقارنة مع (782) في آب (أغسطس) ، وأكثر
من خمس مرات من العدد الذي سمح له بمغادرة الاتحاد السوفييتي في أيلول
(سبتمبر) 1986 والبالغ (126) يهودياً.
وقد مر جميع المهاجرين اليهود عبر فيينا. وكان الاتحاد السوفييتي قد أعلن
أنه سيخفف الأنظمة بالنسبة إلى هجرة اليهود، غير أن الرقم لا يزال أدنى من رقم
المهاجرين الذين سجل في عام 1979 , ويبلغ (51,330) يهودياً.
وقد تراجعت هجرة اليهود إلى (560, 9) يهودياً في 1981، ولم يغادر في
العام الماضي سوى (943) يهودياً، والشهر الماضي توجه (171) من المهاجرين
إلى إسرائيل مما رفع رقم الذين توجهوا إلى هناك هذه السنة إلى (1,351) يهودياً.
محكمة في تركيا تبرىء متظاهرين
اعترضوا على منع الحجاب
28 أيلول - وكالات الأنباء:
برأت محكمة أمن الدولة في قونية 19 طالباً وطالبة كانوا قد أوقفوا بتهمة
التظاهر للاعتراض على منع الحجاب، وكان 16 من الذين حكم ببراءتهم من
الطالبات.
التعليق:
عجيب أن يحاكم من يتهم بهذه التهمة أمام محاكم أمن الدولة، بل الأعجب أن
يمثل من يطالب بحريته في أن يرتدي من اللباس ما يتفق مع دينه وعقيدته أمام أي
محكمة من أي نوع كانت. لقد تحولت محاكم أمن الدولة من محاكمة الجواسيس
والخونة والذين ينشرون الفاحشة والفساد بين الناس إلى مطاردة المتمسكين بما
أمرهم به ربهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الصين تقول: إن اليسارية
كانت خطأ كبيراً
بكين -أول تشرين الأول (أكتوبر) - رويتر:
أعلنت الصين الشيوعية اليوم أن اليسارية كانت أكبر خطأ فادح في تاريخها الذي بدأ منذ 38 عاماً، وتعهدت بعدم التورط في صراع طبقي مرة أخرى.
وذكرت صحيفة الشعب الرسمية اليومية في مقال افتتاحي بمناسبة العيد الوطني:
إن الصين تقيم اشتراكية من نوع خاص بها، عن طريق تطبيق (الحقائق
العالمية للماركسية) على الظروف السائدة فيها.
وجاء في الصحيفة: إن التاريخ يعلمنا أن اليسارية كانت أكبر أخطائنا منذ
عام 1949. إنها الخطر الأساسي.. ويجب علينا توجيه اهتمام خاص لمنعها، لا
يمكننا ولن نقوم بحملات سياسية للصراع الطبقي.
وكانت أكبر الحملات مرارة هي الثورة الثقافية للزعيم ماو تسي تونج خلال
الفترة من 1966إلى 1976، عندما جرى اضطهاد ألوف الأشخاص وبينهم عدة
زعماء حاليين، وتم انتهاك القانون والنظام، وتفشت الفوضى في الاقتصاد.
وجاء في المقال الافتتاحي أيضاً أنه يجب على الصين أن تواصل مناهضة "
الليبرالية البورجوازية " -أي: الأفكار السياسية الغربية -، وأن تتمسك ... بالاشتراكية وزعامة الحزب الشيوعي.
اقتراح:
اقترح مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي ميخائيل ديكيل أن يطرد ... (1.400.000) فلسطينيَّاً من الضفة الغربية وغزة إلى الأردن وباقي الدول العربية.
الغارديان 30/7/1987(9/95)
بأقلام القراء
أمانة الله الغالية
محمد أبو زيد
لقد كانت الخلافة من الأمور العظيمة الجليلة، حيث خلق الله الأرض مكاناً لها
وأمر الإنسان وأهبطه إليها ليقوم بهذا الشأن الجليل ويحمل هذه الأمانة الغالية على
أسس من المنهج الإلهي المعصوم. قال تعالى: [وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ
فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] [البقرة: 30] ، وكانت تعتور الأرض جولات الإيمان والكفر،
وكان الله سبحانه كلما انحرف الناس بهذه الخلافة عن نهجه النزيه القويم يرسل
الأنبياء ليعيدوا إلهيته على أرضه كما هي في سمائه، [وهُوَ الَذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ
وفِي الأَرْضِ إلَهٌ] [الزخرف: 84] ، وهذه سنة الله في خلقه، كلما حادوا عن دينه
ومنهج خلافته المراد من خلقهم وأمسى الحق غريباً معذباً على الأرض هبّت غارة
الله مسرعة تلقف الكفر من جذوره لتنصر الحق المستضعف وأهله المستذلين بما
صبروا وتبرَّؤوا من الشرك وأهله.
وهاهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بعثه الله بهذه المهمة بعد أن
محيت معالم خلافة التوحيد والعبودية لله وعاد الناس يستعبد بعضهم بعضاً.. يسنون
قوانين، ويضعون شرائع ما أنزل الله بها من سلطان.. وفي هذا الوسط البئيس
بدأت دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصارع أمواج الكفر العاتي والإلحاد
السافر والساخر من كل فضيلة.
وعانى المؤمنون في ذلك الحين بحراً من الذل والهوان، وذاقوا أمرَّ ألوان
العذاب، ومع هذا ثبت المؤمنون على عقيدتهم وبقيت عزتهم بدينهم وثقتهم بوعد
ربهم.
وتبقى المحن بازديادٍ حتى لا يثبت على هذا المنهج إلا العصبة المؤمنة
المخلصة، التي لم تتخذ بطانة من دونها ولا ولياً غير إلهها.. فتصوغ المحن هذه
العصبة في قالب الرجولة لتزيدها صلابة وصبراً وضبطاً للنفس وزجراً لها عن أي
محاولة لتبرير المداهنة للباطل أو التنازل عن أي صغيرة من الهدف والمنهج، أو
الرضى بجزء من الدين عن كله.. عندئذ تكون الجماعة المؤمنة أهلاً لحمل أمانة
الله الغالية واستلام الخلافة في الأرض، فيأذن الله لها بالتمكين لتمثل الصورة
الحقيقية للخلافة التي يريدها الله سبحانه.
لقد أرادت قريش بعد موجتي التكذيب والعناد ثم التعذيب، أرادت أن تنظر
هل وصلت ضرباتها لداخل العصبة المؤمنة وهزت قلوب أفرادها أم لا؟ أو لعل
قائدها يترك هذا الهدف الصعب والطريق الشاق الشائك المحفوف بالمكاره، ويقبل
بعروض منحطة كزوجة جميلة ومال وفير ومُلك علماني عظيم! وبالتالي تنتهي
المعركة من الجولة الأولى، ولا تكون العصبة المؤمنة أهلاً لاستلام الأمانة
والمحافظة على طهارتها ونزاهتها المرهفة من نجس المشركين، وتثبت أنها دون
مرحلة التمكين في الأرض وعاجزة عن إعطاء الصورة الحقيقية والمرادة للخلافة
بمنهجها الإلهي وحاكميتها الواحدة. لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثبت
ورفض مداهنة الطاغوت أو الركون له، ولم يطأطىء رأسه لتلك الإغراءات
المنحدرة، ولم يقبل منهم الملك أو الوزارة ثم يدعو إلى الله من خلاله.. لأن
الخلاف مع الطاغوت جذري ولا تصلح معه الحلول الترقيعية التي عن طريقها
تشترى الدعوات وتدفن في مهد طفولتها بعيدة عن أهدافها التي قامت من أجلها.
وقد خاض في هذا المعترك العفن كثير من أهل هذا الزمان، فوقعوا بأحابيل
الطواغيت، وخسروا المعركة من الجولة الأولى، وهي فترة الاستضعاف والابتلاء
للتأهيل لاستلام أمانة الله الغالية.
وهكذا عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام قيمة هذه الدولة
وصبروا لها، ولم يهنوا أو يستكينوا أو يضعفوا، ولم يستعجلوا النصر بطلبه من
طاغوت على طاغوت، فلم يستعينوا بغير الله؛ فكانوا أهلاً للتمكين، وأورثهم الله
أرضه في المدينة ليقيموا فيها دولة الخلافة والنبوة، فأبدلهم الله بعد الضعف قوة،
وبعد المهانة عزة.. وبعد الخوف أمناً، بما صبروا على ولائهم لربهم وتبرئهم من
الكافرين. قال تعالى: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ
ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: 55] .
وبقي المسلمون في هذا التمكين والتأييد من الله مدة بقائهم عادلين في الأرض
ممثلين للصورة الصحيحة للخلافة التي أرادها الله على أرضه، عارفين لقيمة هذه
الدولة، حريصين على حمايتها والذب عنها.
وهكذا تمر الأيام على المسلمين متحلِّين بهذا التمكين، إلى أن بدأت قيمة
الخلافة والدولة تتضائل في أذهانهم لموت الذين عانوا من أجلها وذاقوا مرارة
التعذيب والصبر والقهر والذل حتى ظفروا بها.. مات الذين أشربوا العقيدة
والمفاصلة والتميَّز في قلوبهم.. وبدأ تأييد الله لهذه الدولة يبتعد عنها بقدر ما تبتعد
هي عن تمثيل الصورة الصحيحة للخلافة بمنهجها القويم وشريعتها العُليا، إلى أن
زالت أهليتهم للتمكين في الأرض، فأخذ الله أمانته الغالية -المتمثلة بالخلافة-
ليستدير التاريخ من جديد، وتبدأ الأمة الإسلامية كما بدأ نبيها الكريم -صلى الله
عليه وسلم- وصحبه، تحاول وتنافح لتعود المعركة من جولتها الأولى، جولة
سيطرة الطاغوت الحاقد على رقاب المسلمين بكل ما تحويه من استضعاف وإذلال
وتعذيب وتنكيل؛ ليجتازوا مرحلة التأهيل الصعبة كما اجتازها سلفهم.
وهذا حال الأمة الآن، تلطمها أمواج الكفر في كل مكان، فتقتل من شبابها،
وتستحيي من نسائها، وتضع الآلاف في السجون، وتُخرج المتقين من أرضهم
وديارهم لتضيق عليهم الواسع وتضطرهم للكفر أو المداهنة، وليضعوا المسلمين
على مفرق طريق مع عقيدتهم وأهدافهم.. وليغروهم بعد هذه اللطمات كما حاولوا
أن يغروا نبيهم من قبل.. لكن هذا كله سيقوي عود الجماعة المسلمة ويجعلها بعد
هذا الصبر والثبات مع كمال المفاصلة أهلاً لأن يمكِّنها الله في الأرض كما مكَّن
نبيها بعد أن تثبت جدارتها على رعاية أمانة الله الغالية …(9/100)
ومن مختارات الأخ عبد العزيز صالح الحجيلان وصلتنا هذه الأبيات:
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل ... لا ينفع العلم إن لم يُحسن العملُ
العلم زين وتقوى الله زينته ... والمتقون لهم في علمهم شغل
وحجة الله يا ذا العلم بالغة ... لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل
تعلم العلم واعمل ما استطعت به ... لا يُلْهِيَنَّك عنه اللهو والجدل
وعلم الناس واقصد نفعهم أبداً ... إياك إياك أن يعتادك الملل
وعظ أخاك برفق عند زلته ... فالعلم يعطف من يعتاده الزلل
وإن تكن بين قوم لا خلاف لهم ... فامرر عليهم بمعروف إذا جهلوا
فإن عصوك فراجعهم بلا ضجر ... واصبر عليهم ولا يحزنك ما فعلوا(9/102)
جمادى الآخرة - 1408هـ
فبراير - 1988م
(السنة: 2)(10/)
الافتتاحية
هل المسلمون بحاجة إلى منهج نقدي؟
من عادتنا، عندما نريد أن نتحدث عن مقومات النهوض وأسباب الفشل؛ أن
نلقي باللوم الأكبر على الأسباب الخارجية، كأن نلوم الاستعمار وأعداء الإسلام،
هذا في الغالب، وأحيانًا نحب أن نكون أكثر إنصافًا فنقول: إن هناك أسبابًا داخلية
في المسلمين أنفسهم. ولكن هذه الأسباب تظل في دائرة الكلام العام غير المحدد،
وغير المحلل، والجمل الوعظية التي تستهلك كثيرًا من جهود الدعاة، ويظنون
بعدها أنهم قد قاموا بالواجب، وأزاحوا عبء المسؤولية عن كواهلهم، وكثيرًا ما
يستنيمون لعبارات الإطراء والمديح التي تكال لهم ممن يسمعونهم من عامة الناس،
ويجدون متعة داخلية لا حدود لها وهم يحاطون بمثل هذه الكلمات: ما شاء الله..
سبحان الله.. الله يفتح عليك.. الخ.
وبهذا يتضح أن ما يسمى بـ (النقد الذاتي) القائم على منهج محدد غير متأثر
بالأهواء والعواطف لا زال أمرًا بعيد المنال عند المسلمين، ولازالوا لا يملكون
الجرأة على إحلاله المكانة اللائقة في حياتهم، ولا زالت الطبقة التي تقع عليها
مسؤولية حمل الدعوة - وهي طبقة المثقفين وقادة الفكر - تشمئز من النقد،
وتعتبره عملاً تخريبيًا هدامًا مثبطًا، وتضفي عليه شتى الأوصاف المنفرة، ولا
تنسى أن تسند حيثيات التهرب من النقد بما يصح وما لا يصح من الأدلة الشرعية.
هذه مقدمة لابد منها عند التعرض لبعض أمراضنا التي نعانيها، والتي تعيقنا
ليس عن البناء فقط؛ بل عن التقدم ولو قليلاً في أحيان كثيرة.
وإن من أهم الأمراض التي نتوارثها، وتكاد تكون قد أصبحت ظاهرة
تتحكم بنا، ما نلاحظه عندما تطرح بعض الأسماء المشهورة ومواقفنا منها، فإن
هذه المواقف تكون في الأغلب مطبوعة بطابع المغالاة: حبًا أو بغضًا، اتباعًا أو
نبذًا.
ومن أجل تفصيل هذه المسألة نقول:
إن داء التفرق قد ضرب المسلمين، وسمومه قد مشت في أوصالهم. ومع أن
هذا الداء من أكثر الأدواء التي حذرنا منها ديننا الحنيف قرآناً وسنة، إلا أننا
ماضون فيه، غير ملتفتين إلى العواقب.
ومن أهم الأسباب التي تذكي هذا التفرق، وتؤدي إلى ضياع الجهود؛ الأفكار
المسبقة التي تكون نتيجة للنظرة المتسرعة إلى الآراء والشخصيات. قلِّبْ أفكار
كثير من الجماعات - كل جماعة على حدة -في الأشخاص، فإنك تجد نظرة أحادية
الجانب، قد تكون صدى لآراء شخص مشهور فيها، وهذه الآراء المرتجلة آتية إما
عن عدم تعمق في الدراسة، أو بنظرة شخصية؛ أو بقصور في التحليل؛ أو قيلت
في ظروف معينة اقتضتها.
فمثلاً إذا أحب قوم شخصًا رفعوه إلى درجة التقديس، ولم يعودوا يقبلون فيه
نقدًا، أو يرون فيه أي مجال لأي مأخذ، وحتى إذا كانت له أخطاؤه التي يصعب
الدفاع عنها؛ ترى أنصاره ومحبيه يلوون الحجج، ويلفقون الأدلة، ويعتسفون في
الدفاع، ويجهدون أنفسهم فيما لا طائل تحته، وكان الأجدى عليهم، والأرحم
بالرجل أن يقال: إنه أخطأ في هذا، وتنتهي القضية.
والاعتراف بالخطأ من قبل الشخص أو مريديه لا ينزل من مكانة، ولا
يجحد الفضيلة، ولا يخرج من جنة، أو يدخل في نار، ولكنه التعصب المذموم،
والبعد عن الوسطية.
وقل مثل ذلك في حالة ما إذا كرهوا شخصًا لسبب من الأسباب، فإن الهوى
المتحكم يهوي به وبسمعته إلى الحضيض، ولا تعود نفوس القوم تتقبل ما يمكن أن
يقوله من حق في ذاته، ويصعب عليها أن تستمرئ إنصافه، وينقلب التمحل في
الأدلة لبراءة المحبوب إلى تمحل في اصطياد العثرات للمُبَغَّض، وتًجًنَّ في تلفيق
التهم والإشاعات ضده، حتى يصبح كالمنبوذ الذي إن عاش غير مؤذٍ للمجتمع
بأفكاره التي تجيء نتيجة إحساسه بالنبذ؛ فإنه يعيش عضوًا أشلَّ غير منتج في
المجتمع.
وهكذا، ونتيجة لهذا الاتجاه السائد في تقويمِ الناس والآراء، يفقد المجتمع
التوازن، ويغدو من الصعب أن تجد لك مكانًا في مجتمعات مشطورة إلى شطرين:
أنبياء وشياطين!
وفي مجال الثقافة يتوقف التجديد، وتتجمد الآراء عند نقاط معينة، حيث لا
تبقى حاجة إلى دراسة أو مراجعة، فقد كفى الزعماء والقادة الناس مؤونة التفكير
بإشاراتهم الملهمة! وتوجيهاتهم المعصومة حيال الوقائع والأحداث، مع أن هذه
الإشارات والتوجيهات تلقي بظلالها التربوية السلبية، وتعطي مردودًا سيئًا في
الواقع الإسلامي، وترسخ جذور عبادة الأشخاص، وقتل الطموح من جهة، وغمط
الناس أشياءهم من جهة أخرى.
وإذا أردنا أن نتقدم خطوة في رصد هذه الظاهرة، فإن العجب يتملكنا عندما
نرى أن من المسلمين من ينتحل المعاذير، ويقيل العثرات لغير المسلم، فيأخذ عنه
في بعض جوانب التفكير والاجتهاد - بحجة الانفتاح واتساع الأفق «والحكمة ضالة
المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها» -! مع أنه يختلف عنه في الأصول؛ ويشيح
بنظره، وينأى بنفسه بتاتًا عن أخيه المسلم، وينصب له العداوة، من أجل خلاف
فرعي أو شخصي!
إن ما يميز المسلم الحق عن غيره أنه يدور مع الحق حيث دار، ومن أي
جهة صدر، وإن النظرة النقدية للذات، ومراجعة الأخطاء وتصحيحها هي من
الأساسيات المهمة التي أمر الله عباده بها، وعلمهم إياها حيث يقول، عز من قائل: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] .
وإن حياة الصحابة الكرام كانت تطبيقًا عمليًا لهذا المبدأ: نقد للذات،
واعتراف بالخطأ، وإنصاف للخصوم، وبعد عن التعصب. وإننا لنعثر في ... سيرتهم على أمثلة رائعة لا يمكننا أن نقع على ما هو أسمى منها في تاريخ ... البشرية [1] .
ولكن مما يؤسف له أن المسلمين انشغلوا في تفضيل من يعرفون على من لا
يعرفون، واتبعوا الظنون التي لا تغني من الحق شيئًا، وداروا - ومازالوا - في
حلقة مفرغة، يضخمون أخطاء إخوانهم في الدين، ويتجاهلون محاسنهم، في حين
يضيعون الأوقات ويشغلون المسلمين في المدح العريض لبعض من يتعصبون لهم،
مع أن هذا لا يفيدهم ولا يفيد من يمدحون، ومع أن المسلم مطلوب منه أن لا يغلو
في مدح أو ذم، وأن لا يحيد عن القصد في أمره كله. فقد صح عن النبي - ... صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم
التراب» [2] .
وقال لمن غالى أمامه بالمدح: «ويحك قطعت عنق صاحبك» [3] .
وما أحكم كلمة الإمام ابن تيمية في هذا المجال حيث أجاب على سؤال حول
قضية تفضيل بعض المشايخ على بعض فقال:
(أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض؛ مثل من يرجح إمامه الذي
تفقه على مذهبه؛ أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره ... فهذا باب أكثر
الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس، فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة
والمشايخ، ولا يقصدون اتباع الحق المطلق، بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح
متبوعه، فيرجحه بظن يظنه، وإن لم يكن معه برهان على ذلك. وقد يفضي ذلك
إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم، وهذا مما حرم الله ورسوله ... )
ثم قال: (فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم؛ فإنه يجب النهي عنه، فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون: أيما أفضل:
الترجيع في الأذان، أو تركه؟
أو إفراد الإقامة، أو إثنائها؟
وصلاة الفجر بغلس، أو الإسفار بها؟
والقنوت في الفجر، أو تركه؟
والجهر بالتسمية، أو المخافتة بها، أو ترك قراءتها؟ ونحو ذلك. فهذه
مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده،
من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطؤه
مغفور له ... الفتاوى [20/291-292] .
إن حال المسلمين اليوم أشد ما تكون حاجة إلى الرجوع إلى منهج علمي محدد
للنقد والمراجعة يستطيع أن يستنقذ الصالح من كل شيء ويضيفه إلى مثله،
ويستبعد الخطأ ويسقطه من حسابه، ونعني بالعلمية والتحديد أن يكون هذا المنهج
غير متأثر بالأهواء والنزوات، قائمًا على أدلة ثابتة، بعيدًا عن ادعاء العصمة
لأحد بعد الأنبياء، قادرًا على بيان مكامن الضعف والتقصير، راسمًا الطريق
للخروج منها، يتجنب طريق التحريض والصراخ والعويل والبكاء على الأطلال
التي يمارسها كثير من الدعاة عن حسن نية.
بذلك يمكننا - بإذن الله - أن نجد لنا مكانًا في أرض الله التي يورثها عباده
الصالحين، وبما عداه فإن النتيجة ليست إلا أصفارا مطروحة من أصفار.
- التحرير -
قال الذهبي في ميزان الاعتدال:
(.. فإن ذكرت أحدًا منهم من (الأئمة المتبوعين) فاذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله، ولا عند الناس، إذ إنما يضر الإنسان الكذب والإصرار على كثرة الخطأ والتحري على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجناية، فالمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب) .
__________
(1) كمثال على الاعتراف بالخطأ وعدم تلمس الأعذار راجع قصة المخلفين الثلاثة، ورواية كعب بن مالك لها في تفسير ابن كثير: سورة التوبة وكمثال على عدم التأثر بالهوى الشخصي والإنصاف
راجع قصة عمر بن الخطاب مع أبي مريم السلولي قاتل أخيه زيد بن الخطاب في حروب الردة.
(2) صحيح مسلم، 8/228.
(3) صحيح مسلم، 8/227.(10/4)
المدرسة الإصلاحية ... والتجديد
لابد قبل الكلام عن المدرسة الإصلاحية التي قادها الأفغاني ومحمد عبده ومن
تتلمذ عليهما في نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وهل ينطبق عليها مفهوم
التجديد أم لا؟ أن نعود مرة ثانية إلى تعريف التجديد وتحديد مضمونه وأن نفرق
أيضاً بينه وبين (التطوير) أو (العصرانية) حتى لا يختلط الأمر وتلتبس المفاهيم.
عودة إلى معنى التجديد:
جاء في العددين الأول والثاني من (البيان) حول معنى التجديد: فتجديد الدين يعنى إعادة نضارته ورونقه وبهائه وإحياء ما اندرس من سننه
ومعالمه ونشره بين الناس، ويكون التجديد بإحياء الفرائض المعطلة، وإزالة ما
علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة، وتخليص العقيدة من
الإضافات البشرية لتفهم بالبساطة التي فهمها سلف هذه الأمة، وإحياء الحركة
العلمية في مجال النظر والاستدلال، والعمل على صياغة حياة المسلمين صياغة
إسلامية شرعية ".
وجاء في كتاب (مفهوم تجديد الدين) : إن التجديد يشمل حفظ نصوص الدين
الأصلية صحيحة نقية، ونقل المعاني الصحيحة للنصوص وإحياء الفهم السليم لها،
والسعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر، وبين المجتمع النموذجي
الأول الذي أنشأه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإحياء مناهج ذلك المجتمع في
فهم النصوص والاجتهاد، كما يشمل التجديد تصحيح الانحرافات النظرية والفكرية
والعملية والسلوكية وتنقية المجتمع من شوائبها [1] .
التطوير أو العصرانية:
(إذا كان التجديد يعني الإحياء والعودة إلى منهج المجتمع النموذج في فهم النصوص فإن التطوير يعني أن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية المعاصرة) [2] .
وقد عرفت حركة تطوير الفكر الديني الغربي باسم (العصرانية) وهي تطويع
مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية ومفاهيمها، وإخضاعه لتصوراتها ووجهة نظرها
في شؤون الحياة، ومنذ أوائل القرن التاسع عشر ظهر في أوربا نزعات بين
صفوف اليهود والنصارى سميت بالتحررية أو الإصلاحية، وهدفها إعادة تفسير
مفاهيم الدين في ضوء ما يسمى معارف العصر، فقالوا:
إن الشريعة الإلهية رغم أنها موحى بها من عند الله فهي موقوتة بظروفها التي
جاءت بها وليست دائمة. وفرقوا بين (الإلهي) و (البشري) وأعطوا الثاني حق
التطوير والمعرفة الجديدة في كل عصر أو (الوحي المتطور) ، وأنكروا معجزات
عيسى عليه السلام مثل إحياء الموتى وتكثير الطعام، كما أنكر بعضهم ألوهية
المسيح (وهذه من حسناتهم) وفي سبيل هذا المبدأ راحوا يقترحون ويخترعون أي
فكرة لتطوير الدين وجعله ملائمًا لعصرهم. فقالوا بفكرة (الروح) ، و (الشكل)
فروح الدين دائمة وأما شكله فهو متغير، ونادى بعضهم بالحلول حتى يعطي ... لكل كلمة يقولها فيلسوف قيمة الوحي الإلهي. وظهر بين صفوف المسلمين من ... يمثل هذه الروح وراح يعبث بالنصوص يؤولها حسب هواه وحسب انهزاميته أمام الغرب وعلى رأس هؤلاء سيد أحمد خان الهندي.
وإذا اضطر كتاب اليهود لتأويل نصوص كتبهم وتفسيرها تفسيراً لا يتعارض
مع التقدم العلمي فقد يكون لهم بعض العذر في ذلك لما في كتبهم المحرفة من تناقض
واضطراب وقصص ومقولات تستعصي على الفهم، وتناقض العقل تناقضاً ... صريحاً، إذا اضطروا إلى ذلك فليس للمسلمين أي عذر أو أي مبرر للمحاولات المكشوفة للتقرب من الغرب، والتظاهر بأن الإسلام لا يتعارض مع حضارتهم، ... ذلك أن الإسلام محفوظ بحفظ الله، سواء أكان ذلك بحفظ النصوص من القرآن ... والسنة، أوطريقة فهم هذه النصوص، والقواعد التي وضعت لاستنباط الأحكام ... والاجتهاد تعطي العلماء المرونة الكافية لفهم كل عصر وبيان ما هو حق وما ... هو باطل، دون خضوع لضغوط العصر ومشكلاته.
المدرسة الإصلاحية:
على ضوء هذا التعريف للتجديد والفرق بينه وبين التطوير، نحاول تقويم
المدرسة الإصلاحية التي توسم بالتجديد ويقال عن زعمائها إنهم مجددون. ودراسة
ما قام به جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومن تأثر بهما من محاولات لفهم
الإسلام على ضوء هذا العصر، وتفسير بعض نصوصه تفسيرًا يلائم الحضارة
الغربية، لنرى هل ينطبق عليهم اسم التجديد أم اسم التطوير.
إن زعيم هذا الاتجاه، والمذكي لناره، هو جمال الدين الأفغاني أو (الأسد
أبادي) كما صح أخيرًا من تحقيق نشأته. ومع أنه لم يترك وراءه عملاً علميًا يكون
دليلاً لآرائه وأفكاره - سوى كتابه (الرد على الدهريين) وآرائه المنشورة في مجلة
(العروة الوثقى) ؛ لكن بصماته ظاهرة وواضحة في تلميذه محمد عبده وغيره ممن
كانوا يحضرون دروسه ومناقشاته، وربما كان يفضل أن يلقي بآرائه شفاهًا، ليكون
التأثير أقوى (لا شك أنه ذو شخصية مؤثرة مسيطرة) وربما لخطورة ما كان يلقي
من آراء أيضاً فهو يثير موضوعًا هنا وموضوعًا هناك حسب نوعية الناس الذين
يستمعون إليه.
وإذا أردنا تقديم فكرة موجزة عن نشاط وآراء الأفغاني نقول:
1- له نشاط سياسي واسع وحركة دائبة لا تفتر، فهو يؤسس الأحزاب
وينشر الصحف والمجلات؛ ويتحالف مع الدول ثم ينقلب عليها، ويدبر المؤامرات، ويدخل المؤسسات العالمية كالماسونية، كل هذا وهو يتنقل بين البلدان يدعو
الشرق - والمسلمون منهم - إلى النهوض والتقدم، أو هكذا ظاهر دعوته، لأن
الغموض كان يحيط ببعض تصرفاته وأساليبه، كصلته بأمراء روسيا القيصرية،
وإقامته عندهم في بطرسبرج أربع سنين كان فيها موضعًا لإكرام القيصر [3] .
ولكن هذه الحركة لم ينتج عنها شيء علمي مما تتطلع إليه آمال المسلمين، ... كإحياء خلافة، أو تأسيس ملك إسلامي، ولم يصدر عنها تيار إسلامي قوي ... يصارع الغرب ويقف في وجه شروره.
2- من الناحية الفكرية كان الأفغاني فيلسوفًا قبل أن يكون مصلحًا، فهو من
الناحية السياسية يتكلم عن الشرق وأمراضه، ويقول: (فالشرق، الشرق، وقد
خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه وما
يعترض توحيد الكلمة فيه داء انقسام أهليه واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على
الاختلاف) [4] ، ويقول عثمان أمين: (إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني
ومحمد عبده ليست هي الجامعة الإسلامية وإنما هي في صحيحها الجامعة ... الشرقية) [5] ، وهو من الناحية الدينية يحاول الجمع بين الملتين السابقتين: اليهودية والنصرانية وبين الإسلام) لما لاحظه من تمام الاتفاق بينها في المبداً ... والغاية) [6] . ثم تراجع عن هذه الفكرة متهماً القائمين على هذه الأديان بأنهم يحبون التفرق، ويقول عنه رشيد رضا: (كان يميل إلى مذهب وحدة الوجود الذي يقول به فلاسفة الإفرنج وبعض الصوفية) [7] ، والإنسان عنده مَلَك أرضي يجب أن يرتفع بروحه إلى العالم العقلي، فكأنه يريد جمع الشرق والأديان كأحلام ... فلسفية كبيرة، وشعارات جذابة ولكنها غير واقعية.
أو أن في الأمر شيئًا آخر كان يخطط له من وراء هذه الشعارات، وليس
غرضنا هنا تحليل شخصية وأعمال الأفغاني بقدر ما هو استجلاء أفكاره وتطلعاته
من حركته الدائبة من ثم لبيان هل ينطبق عليها اسم التجديد؛ والحقيقة أنه إذا كان
سلوكه الشخصي فيه كثير من المخالفات لقواعد وآداب الإسلام وعقيدته كما وصفنا
عدا عن ارتباطاته السياسية فهل يكون مجددًا؛ والمجدد لابد أن يكون من أهل السنة
عقيدة وسلوكًا.
محمد عبده:
إذا كانت شخصية الأفغاني وأهدافه فيهما شيء من الغموض، فإننا مع محمد
عبده حيال شخصية واضحة، فآراؤه التي تأثر فيها بأستاذه أو فكره الخاص مكتوب
بقلمه أو بواسطة تلميذه رشيد رضا، وسنجد أن معظم الآراء التي طرحها فيما
يسمى بـ (الإصلاح) يمكن إدراجها تحت مفهوم (العصرانية) ومحاولة التلفيق بين
الإسلام وروح الحضارة الغربية أو تابع فيها خطأ المعتزلة من قبل، ففي كتابه
(رسالة التوحيد) أعاد منهج علماء الكلام في عرض العقيدة الإسلامية وتركيزهم
على توحيد الربوبية، ووافقهم في قولهم (إن أول واجب على المكلف أن يأتي به
هو النظر والفكر، وإن الأصل الثاني للإسلام: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند
التعارض) [8] ، وجارى المعتزلة في عدم الأخذ بحديث الآحاد في العقائد. يقول:
(ما قيمة سند لا أعرف بنفسي رجاله ولا أحوالهم، ولكنا نعرض هذه المأثورات
على القرآن فما وافقه كان القرآن هو حجة صدقه، وما خالفه فلا سبيل ... لتصديقه) [9] .
ويتبع أستاذه الأفغاني في موضوع (تقارب الأديان) فقد أسس بعد عام 1885م
جمعية سرية للتقريب بين الأديان شارك فيها عدد من رجال الدين (المستنيرين)
ممن ينتمون إلى الأديان السماوية الثلاثة [10] ، وهو لا يشنع على النصارى
شركهم وادعاء الربوبية لعيسى عليه السلام، ويحصر الخلاف معهم بأنهم لم ... يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول:
(وليس المراد بنبذهم الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته وإنما المراد أنهم طرحوا جزأ منه وهو ما يبشر بالنبي -صلى الله عليه وسلم-)
وعندما تعرض لموضوع الزواج من كتابية قال: (فهي تدين بوجوب عمل
الخير وتحريم الشر والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة محمد -صلى
الله عليه وسلم-) [11] ، وقرر هذه القاعدة في كتابه (الإسلام والنصرانية) وذكر
بأن الأصل السابع من أصول الإسلام الثمانية مودة المخالفين في العقيدة [12] .
في التفسير:
أكثر ما تظهر (عصرانية) محمد عبده عندما يتعرض لتفسير القرآن الكريم
فهو يحاول تأويل بعض الآيات تأويلاً يتناسب - بظنه - مع العلم الحديث أو مع
روح العصر. ففي قوله تعالى [ومِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ] ، قال: المراد هنا
النمامون المقطعون لروابط الألفة، لأنه ينكر أن يكون السحر حقيقة ... ... ... ملموسة [13] .
عندما يقول رشيد رضا في تفسير المنار: (إن الأجسام الحية التي تسمى
بالميكروبات يصح أن تكون نوعًا من الجن) وأن كل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكًا. عندما يذهب بعيدًا في تفسير هذه الآيات فإنما يعبر عن رأي شيخه وموقفه من الجن والملائكة. بل إن الشيخ محمد عبده يدعو كل مفسر؛ لأن يتزود بشيء من اللغة العربية ودراسة السيرة، والنظر في الكون ثم يفهم القرآن حسب عصره، وهذه دعوة جريئة للخوض في كتاب الله بغير علم. ...
الفقه والسياسة الشرعية:
لم يتكلم محمد عبده عن الحكومة الإسلامية كما تكلم على عبد الرازق بعدئذ في
كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ولكن كلام الشيخ عن السلطة في الإسلام وأنها مدنية
من جميع الوجوه وأنه ليس في الإسلام سلطة سوى الموعظة الحسنة والدعوة إلى
الخير، فإن كلامه هذا كان مقدمة وتمهيدًا لما كتبه على عبد الرازق، وإن لم يكن
بالوضوح نفسه، وربما يقال إنه يقصد أن الحكومة في الإسلام ليست ... (ثيوقراطية) أو ليس في الإسلام سلطة كسلطة البابا عند النصارى ولكنه يبقى كلامًا غامضًا مما شجع هذا الاتجاه الذي يعتبر أن الحكم والخلافة ليستا من أصول الإسلام.
أما رأي الشيخ في الجهاد فهو ينم عن ضعف شديد أمام الغربيين فهو يرى أن
المسلمين إنما شهروا سيوفهم في أول الدعوة دفاعًا عن أنفسهم، أما الفتوحات التي
وقعت بعدئذ فهي من (ضرورة الملك) ورأيه هذا يعنى أن الفتوحات كانت سياسة
بحتة قصدها التوسع.
ومجمل آرائه الفقهية يلحظ فيها هذا الضعف، فعندما استفتي: هل يجوز منع
تعدد الزوجات؟ أجاب: نعم، لأن العدل المطلق شرط واجب التحقيق وتحقيق هذا
العدل مفقود حتمًا، فللحاكم والعالم منع التعدد اللهم إلا في حالة واحدة، ما إذا كانت
الزوجة عقيماً.
وهذا تحكم منه في شرع الله لم يأذن به، وكذلك فتواه في حل إيداع الأموال
في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها، ويبلغ الشيخ قمة التقرب من الغرب
والانبهار أمام حضارته عندما يتكلم عن الرسم والنحت وسائر الفنون فيقول:
فحفظ الآثار والرسوم والتماثيل هو حفظ للعلم والحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة
على الإبداع فيها. ويقول لتلميذه رشيد رضا: إن الراسم قد رسم والفائدة محققة، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان (فنحن أمام رجل يريد إعمال عقله في النصوص وليس فهم النصوص ومقاصد الشريعة، ومع ذلك فالشيخ محمد عبده يختلف عن أستاذه، فقد رأى من خلال تجربته أن الاهتمام بالتعليم وتربية الأجيال والابتعاد عن مشاكل الأفغاني ومشاغله السياسية هو الحل الصحيح، وهذا مما أغضب أستاذه فأرسل إليه يعنفه ويقول: كن فيلسوفًا يرى العالم ألعوبة ولاتكن صبيًا هلوعًا (ولكن محمد عبده آثر وصمم على انتهاج طريق إصلاح التعليم لأنه يرى أن أسباب الخذلان عند المسلمين هو القصور في التعليم الديني [14] ، ونقد الأزهر وجموده وطرق تعليمه، وعبارات الكتب المتأخرة المتداولة، ودعا إلى كسر قيود التقليد الأعمى، وهاجم الصوفية الذين يعتقدون بالأموات وقال: إن هذا من أعمال الوثنيين، كما نقد جمهور العامة لأنهم إما جبرية ... أو مرجئة، وبعض هذا النقد من الإيجابيات إلا أنه غالى في مهاجمة التقليد، فكان ... من وراء ذلك فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لمن يحسنه ومن لا يحسنه، كما أنه في هجومه على عقيدة (الجبر) والتكاسل ضخّم من شأن الاختيار حتى قرب من المعتزلة، وهجومه على الصوفية وإن كان حقًا إلا أنه لم يتبن عقيدة أهل السنة، بل كان كهجوم المعتزلة عليهم لأن الصوفية لا يأبهون للعقل ويعتمدون على الذوق والوجدان، وإذا كان أهم أعمال محمد عبده هو كسر الجمود الذي ران على التعليم والأزهر، وعلى المفاهيم بشكل عام، فإن ذلك كان على حساب مبادئ الإسلام وتعاليمه، وسنرى أن تلميذه رشيد رضا كان خيرًا منه ولكن ليس كل تلامذته على هذه الشاكلة فمنهم قاسم أمين وسعد زغلول.
وعلى كلى حال لا يزال يتمسح بمحمد عبده من يريد إسلاماً عصرياً يلائم
هواه أو ضعفه.
رشيد رضا:
من أبرز تلامذة ومحبي محمد عبده، وهو وإن اختلف معه في بعض الأمور
أو ابتعد عن منهجه في التفسير بعد أن استقل به منفردًا ولكنه ظل وفياً له، منافحًا
عنه وعن الأفغاني حتى آخر حياته، ولا شك أن رشيد رضا يعتبر من المصلحين
البارزين في هذا العصر، فقد كانت مجلة المنار من المجلات الإسلامية التي تهتم
بشؤون المسلمين وتدافع عن الإسلام، وفيها كتب آراءه في الإصلاح، ونبه الأمة
وحذرها، وأبدأ وأعاد في أهمية الإصلاح السياسي بتقييد الحكومات بالشورى،
وركز على سنن الاجتماع البشري وعمارة الدنيا في سبيل الآخرة، والارتقاء
بالمسلمين والاهتمام بالصناعة وثروة الأمة، وهاجم الترف والإسراف، ودعا
العلماء للقيام بواجبهم دون خوف أو ملل، واهتم بالتعليم وتربية الأمة، وكان من
آماله الكبيرة إنشاء معهد للدعوة والإرشاد لتخريج أجيال تفهم دينها وتتعلم ... العلوم الحديثة، وقد حاول جاهدًا إقامة هذا المعهد، فرحل إلى العاصمة استامبول،
وأقام هناك سنة، ولكنه لم يوفق ثم رجع إلى القاهرة، ولكن جهوده لم تدعم ولم يقم
المعهد [15] ، وفي تفسير المنار أودع نظراته الثاقبة في داء الأمة وأسباب رقيها،
وتكلم عن فلسفة تاريخ الاجتماع البشري [16] ، كما دعا إلى نبذ التقليد والتعصب
للمذاهب الفقهية إلا أنه ذهب إلى أبعد مما تحتمله هذه المسألة.
ومع هذه اللهجة الصادقة في الإصلاح وانتهاج مذهب السلف في الأسماء
والصفات والرجوع إلى الأحاديث النبوية - وهذا مما يختلف به عن شيخه - إلا أنه
ظل متأثرًا به في كثير من المواضيع، فهو يردد شبهة العقلانيين التي تقول بأن
علماء الحديث لم يبحثوا في المتون أو يعتنوا بها، وإنما كانت عنايتهم بالأسانيد،
ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها لانتقصت كثير من الأسانيد [17] ،
وظل متأثرًا بشيخه في موضوع المعجزات التي ذكرت في القرآن يحاول تأويلها
تأويلاً بعيدًا غير مقبول، اعتذارًا من أحرار الغرب كما يسميهم. فمعجزة حمل
السيدة مريم بعيسى عليه السلام هو أنها عندما بشرت به انفعل مزاجها ففعل في
الرحم فعل التلقيح، وكان نفخ الروح الذي ورد بعدئذ متممًا لهذا التأثير [18] ! !
وعندما تكلم عن إصلاح المرأة وتعليمها، وموضوع التعدد كانت لهجته اكثر تقيدًا
بالشرع وبالأحاديث، وأكثر ثقة بالإسلام من منهج شيخه، ولكنه وافق شيخه في
موضوع التعدد وأنه يجوز منعه، كما حاول تبرير كل تصرفات شيخه وأستاذه
الأفغاني، واعتذر عن بعض مواقفهم مثل دخولهم في الماسونية.
وبعد:
فإن المدرسة الإصلاحية أو (المعتذرون) ليسوا على درجة واحدة فالأفغاني
غير محمد عبده، والأخير غير رشيد رضا، وإذا كانت أهداف الأفغاني ومحمد
عبده متقاربة من ناحية الشكل النهائي رغم اختلافهما في الوسائل، فإن رشيد رضا
أقرب منهما إلى الإصلاح المنشود، وأقرب إلى فهم الإسلام.
ومشكلة المدرسة العصرانية أن منهجها غير قابل للتطبيق لأنهم يريدون
استنبات بذرة أجنبية وإدخال جسم غريب لا تتقبله طبيعة هذه الأمة.
ولأنهم انطلقوا من فرضية انهزامية تقول بأن الدين يجب أن يتلاءم مع
العصر الحاضر بظروفه وأحواله وعلومه وتقدمه لم يصلوا إلى النتائج المتوخاة،
فالدين لا يساير كل تطور بل الصحيح كما يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: (إن
الدين يميز بين تغير سليم وآخر غير سليم، وبين نزعة هدامة وأخرى ... بناءة) [19] .
ورغم أننا لا نستطيع التقليل من شأن ما قام به رشيد رضا من جهود لإصلاح
حال الأمة الإسلامية، وصدق لهجته في ذلك، وما قام به أستاذه من كسر للجمود،
وتوجيه النظر للأخذ بالأسباب، إلا أننا لا نستطيع اعتبار هذه المدرسة (مدرسة
تجديدية) -رغم تباين أصحابها في الأخذ بالعصرانية - لا نستطيع اعتبارها مدرسة
تجديدية حسب التعريف والأوصاف التي وضعت للمجدد والتجديد، والحقيقة أنهم لم
يستطيعوا إرجاع الدين غضًا طريًا بعلمهم وعملهم وسلوكهم، بل حاولوا تطويره،
وهنا تكمن الخطورة لأن التطوير يشوش مفاهيم الإسلام بإدخال الزائف على
الصحيح حتى يظن الناس أن هذا من الدين، وسيئة أخرى للتطوير هو أنه ينتهي
بالتفرق لأن كل جماعة تذهب في التطوير مذهبًا يخالف الأخرى [20] ? والفرق
بين العصرانية التي ينادي بها بعض المفكرين المستغربين وبين التجديد في الإسلام
أن الأصول الصحيحة للإسلام موجودة وعلى ضوئها يمكن تجديد الدين وبعثه نقيًا
خالصًا.
__________
(1) بسطامي محمد سعيد: مفهوم تجديد الدين /27، وانظر ص281.
(2) بسطامي محمد سعيد مفهوم تجديد الدين / 96.
(3) رشيد رضا: تاريخ الإمام 1/54.
(4) خاطرات جمال الدين، مقال في (تراث الإنسانية) م 1/833.
(5) المدرسة العقلية في التفسير /388.
(6) د فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام / 151.
(7) تاريخ الأستاذ الإمام 1 / 79.
(8) الرومي: المدرسة العقلية الحديثة في التفسير /287.
(9) محمد عمارة: الإمام محمد عبده مجدداً /83.
(10) المصدر السابق / 34.
(11) المصدر السابق / 102.
(12) مصطفى غزال: دعوة جمال الأفغاني /247.
(13) بسطامي محمد سعيد: مفهوم تجديد الدين /243.
(14) محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالغرب / 121.
(15) درنيقة: رشيد رضا.
(16) تفسير المنار 4 / 429.
(17) المصدر السابق 3 / 665.
(18) الرومي: المدرسة العقلية في التفسير / 665.
(19) مفهوم تجديد الدين / 209.
(20) انظر ما كتبه محمد محمد حسين في كتابه (الإسلام والحضارة الغربية) حول هذا الموضوع.(10/9)
من مشكاة النبوة
لا يحقر أحدكم نفسه
منصور الأحمد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (ألا لا يمنعنَّ أحدكم رهبةُ الناس أن
يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجلٍ ولا يباعد من رزق، أن يقول
بحق، أو يذكر بعظيم) [1] .
وعن أبى سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يحقرن
أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؛ قال: يرى أمرًا لله
عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله - عز وجل - له يوم القيامة. ما منعك
أن تقول في كذا وكذا؛ فيقول: خشية -الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن ... تخشى [2] .
هذان الحديثان موضوعهما واحد، وهو موضوع جليل وخطير وأي شيء
أجل وأخطر من قول كلمة الحق، والشهادة به؟ وهما بمجموع معانيهما يحددان
العلل والأسباب التي تجعل الناس يستنكفون عن قول كلمة الحق، ومعالجة هذه
العلل بالدواء الذي ليس قبله ولا بعده دواء.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يخاطب أمته بهذين الحديثين فإنما
يرمي إلى تربية هذه الأمة، وإعدادها إعدادًا ربانياً لمهمتها المنشودة في الأرض
وفي التاريخ، ويبنيها بناء عقيديًا متماسكًا.
والمشكلة بالنسبة للأمة الإسلامية ليست في معرفة الحق والكشف عنه -حيث
إن الله قد اقتضت حكمته أن لا يخلي هذه الأمة من طائفة تعرف الحق، وتبينه
للناس - ولكن المشكلة الخطيرة هي السكوت في وجه الباطل، وعدم الجهر بالحق
الواضح خوفًا من ضرر، أو طمعاً في نفع شخصي.
إن هذين الأمرين: الخوف والطمع هما اللذان يحجبان كلمة الحق أن تصل
إلى الآذان، ويقفان حاجزًا أمام تواص الناس بالحق والصبر عليه.
ولم يزل الخوف هو العامل الأهم في القعود عن القيام بواجب الجهر بالحق،
والرضا بالدون من الأهداف، والسهل من الأعمال، وهذا الخوف يكون من بطش
ظالم، أو طغيان طاغوت، أو خوفًا من انقطاع رزق، وتضييق في عيش.
فالشيطان عندما يأتي ليصرف العالم عن القيام بهذه المهمة المقدسة يبث في ... فؤاده الرعب عن طريق تخويفه من عاقبة ذلك بإبرازه ما حدث لبعض من ... قام بهذه المهمة، وتضخيمه لما نزل بهم من صنوف التنكيل والعسف، بل ... يذهب إلى أبعد من ذلك، بأن يخوفه الموت نتيجة لذلك، حيث يصور له أن ما يحدث للمجاهدين في سبيل الله إنما هو من فعل أعدائهم بهم، وأنهم هم المؤثرون بآجالهم إطالة أو تقصيرًا، وكذلك يستعرض له الذين يضيق عليهم بسبب عدم قدرتهم على ضبط أنفسهم، وما هم عليه من هم وغم، وما في حياتهم من خشونة لا لزوم لها! وكيف أن من يسمون أنفسهم بدعاة الحق مطاردون في كل أرض، مذادون عن كل حوض، يتنكر لهم القريب، ويجفوهم الصديق.
ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد من المسلم دائماً أن يكون على
ذكر من بدهيات عقيدته، وعلى وعي لأحابيل الشيطان، فلا يغفل عن حقيقة أن
الآجال مقدرة من الله تعالى، وأن لا أحد يستطيع أن يتقدم أو يتأخر عن أجله الذي
حدد له، وأنه ليس بمقدور أحد أن يزيد أو ينقص من أجل أحد، وكذلك فإن الله إذا
أراد نفع أو ضرر إنسان فليس هناك من يستطيع أن يغير تلك الإرادة.
داءان خطيران وقع فيهما الدعاة إلى الله، فتقاعسوا عن الإرشاد والتبليغ
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما:
التشبث بالحياة والحرص على حطامها.
* أما التشبث بالحياة، والبعد عن شبح التهديد، وإيثار السلامة فدفعهم إما إلى
السكوت عما لا يسكت عليه؛ وإما إلى قلب الحقائق، والدخول في التأويلات التي
تزين الباطل، وتخفي دمامته وقبحه. مع أن الله قد أخذ العهد على العلماء ببيان
الحق، دون أن تأخذهم في الله لومة لائم، وقد حذرهم من مصائر الذين كتموا الحق
وأهملوه، قال تعالى: [وإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ ورَاءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]
[آل عمران: 187] .
ووصف الله المؤمنين بأنهم [أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] [المائدة: 54] .
* وأما الحرص على حطام الدنيا فقد كان له أثره المدمر في مسيرة المسلمين
فكم من عالم عالم بالحلال والحرام ألجمه حب المال عن قول كلمة حق في موقف
يحتاج إليها فيه! وكم من أناس تفضل الله عليهم بنعمة العلم والفقه يغضون الطرف
عن كثير من المنكرات والمخالفات خوفًا من انقطاع جرايةٍ أو مرتب، أو ذهاب
امتيازات مادية يتمتعون بها، وقد يخدعهم شيطانهم بإقناعهم أن هذه الامتيازات هي
حقٌ يستحقونه، وأنهم أولى بها من غيرهم، ويغفلون أو يتغافلون عن الجانب
الآخر من القضية وهو أن هذه الامتيازات ما هي إلا رشوة لهم على سكوتهم،
وجائزة لهم لالتزامهم الأدب والسلوك الحسن أمام أعداء الله الذين تُحمد أمامهم
الغلظة، لا رقة السلوك وحسنه.
إن مما يؤسف له أن الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية حرب الإسلام، وندبوا
أنفسهم لإخفات كل صوت يدعو إلى الله على بصيرة بصدقٍ وتجرد؛ قد تنبهوا إلى
مقاتل الدعاة التي يصوبون إليها أسلحتهم، واستثمروا نقاط الضعف هذه ليعبثوا
بدين الله ودعاته كما يحلو لهم؛ فهم يداولون بين سلاح التخويف والإرهاب تارة،
وسلاح الوظائف والامتيازات والرشا تارة أخرى، وقد تتخصص كل جهة من
الجهات في استخدام واحد من هذين السلاحين على حسب مقتضيات الظروف
والأحوال.
لقد جعل الله المال فتنة للناس، ومحكًا لتمييز المخلص في دعوته من غيره،
وكم رأينا من الناس من كان في حال العسر يرفع عقيرته بالشكوى من أوضاع باتت
تلفه وتلف غيره، ويشتهر بين الناس بالعمل في سبيل الإسلام، حتى إذا تحول إلى
حيث جاء الرزق رغدًا، وطلَّق الفقر؛ خفت صوته بل تلاشى، ولفه ثوب الكسل، وأصبح النشاط الذي كان بالأمس أثرًا بعد عين. من يدري؟ ! فربما تكون نفسه
قد أقنعته أنه الآن -في حالته الحاضرة- قد وجد ثمرة جهاده ونتيجة صبره! مع
أن أوضاع المسلمين في أغلب البقاع لا ترضي، ومشاكلهم متشابهة، وأينما اتجهنا
وجدنا التهديدات التي تهدد مصيرهم، والأخطار التي تزيدهم ضعفًا؛ فموالاة أعداء
الله؛ والتنصير الماحق الذي يتحيف بلاد المسلمين بل يهب عليها كالريح الصفراء؛ والدعوات الهدامة التي يروج لها في كل مكان؛ وتبديد ثروات المسلمين على ما
لا يفيد؛ وإخضاع الإسلام في مجال الدعاية للأشخاص والأهواء؛ ... كل ذلك
وغيره كثير وكثير من المجالات التي يترتب على العلماء أن يقولوا فيها قولة
واضحة لا غموض فيها ولا التواء. وتبقى مسألة أخيرة وردت في الحديث الثاني،
في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحقر أحدكم نفسه) هذه المسألة هي مسألة
الثقة بالنفس التي أراد عليه الصلاة والسلام أن يغرسها في نفوس المسلمين، فالثقة
بالنفس هي الدافع إلى العمل، وهذه الثقة لا تكون إلا حيث تكون النفس على يقين
من صحة ما تدعو إليه، ومن بطلان ما عداه، ومن آثارها أن الشخص يتحول من
عضو سلبي في المجتمع، ضائع في تيار الغفلة، إلى شخص مؤثر إيجابي لا يهاب
أحدًا إلا الله، يستهين بالباطل، وتزداد استهانته به كلما انضم إليه بهذا الشعور
أمثاله من الذين يتخذون من رسول الله أسوة حسنة.
فصلى الله على هذا النبي الأمي الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، فهدانا
- بهداية الله له -إلى أحسن السبل، وعرفنا مواطن الخير بأقصر عبارة وأجلاها،
ونسأله تعالى أن يجعلنا من [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً
إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً] [الأحزاب: 39] .
__________
(1) رواه أحمد في (المسند) 11494 بإسناد صحيح.
(2) رواه ابن ماجه، حديث رقم: 4008.(10/18)
خواطر في الدعوة
الفقه العملي عند الإمام مالك
محمد العبدة
كان الإمام مالك بن أنس يرسم منهج أهل السنة ويعبر تعبيًرا صادقًا عن
نظرتهم للأمور عندما قال قولته المشهورة: (لا أحب علمًا ليس تحته عمل) وكأنه
يرد بذلك على منهج الجدل وتكديس المعلومات التي ليس لها من الواقع العملي
نصيب، والذي بدأ يتغلغل في جسم المجتمع الإسلامي يومها. ولذلك أجاب عمن
سأله عن هذا النوع من العلم: انظر ما ينفعك في ليلك ونهارك فاشتغل به.
لقد انغمس كثير من المسلمين بعد عصر مالك بالكلام الذي ليس تحته عمل،
وأتعبوا أنفسهم وأتعبوا غيرهم، بطرق وعرة لا تصل بالمسلم إلى اليقين والعلم
النافع، ووقع المسلمون في فخ فلسفة اليونان التي تعتمد على المنطق الذهني البارد، فالفيلسوف هنا يرسم صورًا في ذهنه ولكن لاوجود لها في عالم الواقع، وأحياناً لا
يمكن أن توجد؛ ولهذا ضعف العلم التجريبي عند المسلمين وضعف الاهتمام
بالمشكلات الواقعية كما كان يفعل أئمة الفقه أمثال مالك والشافعي؛ وانصب الاهتمام
على مشكلات خيالية يفترض لحلها الافتراضات وهي لم توجد بعد، وظهرت
المعتزلة وخاضوا بأدق التفاصيل التي ليس لها وجود - وهم الذين يحاول بعض
الكتاب المعاصرين الرفع من شأنهم والإيحاء بأنهم يمثلون تيار العلم والنهضة -
هؤلاء لم يتكلموا ويتوسعوا في العلوم الطبيعية أو العلوم الرياضية التي تنفع
المسلمين، وإنما شغلوا المسلمين ب (الكلام) ونسوا هم وغيرهم أن الدنيا طريق
الآخرة، ولابد لهذا الطريق من أن يعمر ولكن عمران الوسيلة لا عمران الغاية،
لأنه إذا صلحت حال الفرد مع فساد الدنيا حوله واختلال أمورها فلن يعدم أن يتعدى
إليه فسادها وتؤثر عليه وتخل بآخرته، وكيف يقوم بالعبادات على وجهها الصحيح
والمشروع، وكيف ينشر العلم ويجاهد في سبيل الله إذا كانت دنياه خربة، ثم
يستعين بالكفار في مأكله وملبسه ومسكنه وأسلحته، وكيف يحافظ على دينه
والأعداء يتناوشونه من كل مكان.
وتابع علماء أهل السنة منهج الإمام مالك، من هؤلاء الإمام الشاطبي، وشيخ
الإسلام ابن تيمية الذي دعا إلى المنهج التجريبي العملي، وأن حصول المعرفة يأتي
من خلال استقراء الجزئيات، وإنني أعتقد أنه لو سار المسلمون على هذا المنهج
لتغير حالهم، ولما وصلوا إلى هذا الضعف المزري ولما صرفوا كل طاقاتهم في
حفظ الحواشي والكلام البارد الذي سطره أمثال (سعد الدين التفتازاني) أو (العضد
الإيجي) الذين حولوا العقيدة الإسلامية إلى ألغاز وأحاج، يقول الدكتور النشار: (إن
ابن تيمية يؤمن بالجزئيات ويرى أن التجربة وحدها هي أقرب إلى الحقيقة مما
ينتجه الفلاسفة بقياس، وليس هناك في الحقيقة من تكلم - فيما قبل العصور الحديثة
بما تكلم به ابن تيمية، لقد وصل حقًا إلى أوج الدرج في فلسفة المنهج التجريبي، وعبر عن روح الحضارة الإسلامية الحقة) (مناهج البحث عند مفكري الإسلام /
221) . وهذا الذي قاله ابن تيمية هو منهج أهل السنة لا كما يحاول بعض
المعاصرين اعتبار كثير من علماء الكلام الذين تأثروا بمنهج المعتزلة في الجدل،
من أهل السنة.
لقد تنبه الغربيون في العصر الحديث للأثر الخطير الذي يجره المنطق
الأرسطي على طرق التفكير، وتكلموا عن الفكر الذي وراءه عمل، أو من الممكن
تطبيقه في دنيا الواقع وقالوا: إذا كانت لديك فكرة وأردت تحديدًا لمضمونها فانظر
ماذا عسى أن يكون لها من نتائج تطبيقية في دنيا العمل، فهل يعي المسلمون كلام
الإمام مالك، ولا يجرون وراء الهيام الأحمق بـ (الكلام) ؟(10/22)
قراءات حول العقل العربي
طارق عبد الحليم
منذ بداية السبعينات، وعقيب هزيمة1967 تزايدت تلك الدراسات والكتب
التي تتحدث عن العقل العربي، ماضيه المنصرم، وحاضره المشهود، ومستقبله
المنشود، وينتمي أغلب أصحاب تلك الدراسات إلى اتجاهين رئيسيين:
أولهما: المنتمون لما يسمى التيار القومي الداعون إلى وحدة العرب على
أساس القومية المشتركة.
ثانيهما: المنتمون إلى الاتجاه التغريبي، بشكل عام، والذي يستقي نظرياته
وآراءه من الغرب، وفي إطار ذلك الفكر الغربي.
والطرفان وإن اختلفا في الأفكار والنظرات، وفي الأهداف والمشارب إلا
أنهما اتفقا على ضرورة الحديث عن (العقل العربي) كل من زاويته الخاصة، في
تلك الآونة التي أعقبت انحسار الفكر القومي بهزيمة 67 من ناحية، وفقدان الثقة
في المعطيات الفكرية الغربية من ناحية أخرى، وما ألجئوا إلى ذلك إلا نتيجة
لتصاعد التيار الإسلامي بشكل عام.. فكانت المصلحة الجامعة بينهما هي الحديث
عن العقل العربي والذي يقصد به العقل الإسلامي، وإن عبر عنه (بالعربي)
تحاشيًا للصدام المباشر مع الإسلام من ناحية، ودسًا للسم في الدسم من ناحية
أخرى.
وإنك لتعجب عجبًا لا يكاد ينقضي حين تقرأ كتابًا كاملاً لواحد من هؤلاء
الكتاب، يتناول فيه الفكر العربي، والعقلية العربية، وصلة واقع الأمة بماضيها..
إلى آخر تلك الموضوعات التي يدندنون حولها فلا تكاد تجد، ولو مرة واحدة، كلمة
(الإسلام) في طول الكتاب وعرضه! إنما هي كلمات مثل (التراث) ،
الماضي، (الدين) ، (السلف) ليس إلا!
وإذن أمر يشتم منه رائحة الهوى، ولو كان بحثًا عن الحقيقة خالصاً لوجه
الحق.، لكان ذلك الحديث من أهم ما تتناوله الأقلام في هذه الآونة، فمما لاشك فيه
أن (العقل العربي) يحتاج إلى الدرس والتحليل من زاوية إسلامية أولاً، ومن
زاوية عربية ثانيًا، إلا أن ذلك الإخلاص يظهر ناقصًا في تلك الدراسات من حيث
ألبست أهدافها لباسًا عربيًا لتقف موقفًا وسطًا يكفل لها أعينًا تقرأ وآذانًا تسمع،
وعقولاً تخدع.
من تلك الدراسات كتب ثلاث سنتناولها في هذه المراجعات كمثال دال على ما
وراءه:
بنية العقل العربي: د. محمد عابد الجابري.
خطاب إلى العقل العربي: د. فؤاد زكريا.
قصة عقل: د. زكي نجيب محمود.
-1-
تذهب تلك الدراسة التي قدمها الدكتور المغربي محمد عابد الجابري كمحاولة
لتحليل بنية العقل العربي، إلى تحديد طرق الفهم المختلفة التي استطاع العقل
العربي خلال مرحلة نموه ونهضته أن يؤسس عليها معارفه، والتي تتلخص في
ثلاثة طرق مختلفة المنهج، تعتمد: إما على تحليل (الخطاب) (13) واستنباط
الألفاظ من المعاني، كما سلك أهل اللغة والبيان أو علماء الأصول والمتكلمون
بمختلف اتجاهاتهم، أو على (الإشراق) والفهم الباطني للألفاظ، كما فعلت
الصوفية من ناحية أو الشيعة والباطنية من ناحية أخرى (251) ، وآخرها الاتجاه
الفلسفي الذي ينطلق فيه العقل من التصورات الذهنية البحتة لإقامة بناء نظري ثم
محاولة إقامة البرهان عليه، كما فعل الفلاسفة المنتسبون للإسلام.
وبشكل عام - وبرغم جدية الموضوع وأهميته - يمكن القول بأن الدراسة لم
تقدم جديدًا في مجال فهم العقل العربي، بل كانت مجرد إعادة تصنيف لتلك الفرق
المختلفة التي سلكت مسالك عقلية مختلفة، لأسباب عديدة، محاولة أن تجد في
الإسلام ما يؤيد مذاهبها، دون التفات إلى حقيقة الإسلام كما فهمه أهل السنة
والجماعة، الذين يعي المؤلف تمامًا الفرق بينهم وبين سائر الفرق التي تحدث عنها
(205، 66) بينما لم يقدم تحليلاً لمذهبهم البتة، ولا نملك إلا أن نسجل على
المؤلف تحيزًا ظاهرًا لبعض الاتجاهات التي توافق منحاه العقلي بشكل عام،
فالمعتزلة في رأيه، كانوا وظلوا دائمًا، الممثلين الرسميين والمخلصين للبيان
والنظام المعرفي البياني (54) ، كما أنهم الرواد الأوائل لما عرف (بعلم البلاغة)
(64) وهم أصحاب (الرؤية العالمية) في الفكر الإسلامي (177) ، بينما أهل السنة
الأوائل - يعني الصحابة والتابعين - هم (النصيون) الملتزمون بحرفية ... النصوص فالعقل عند أهل السنة (يعني استشعار النص وهو ما يسمونه بالاجتهاد) ! (53) وهم، -أي أهل السنة - يتعاملون مع النصوص على أساس من مجرد ... التقليد والاتباع وليس على أساس من التنظيم والتنظير كما فعل المعتزلة (66) .
والكتاب - بعد - مليء بالتناقضات، وضعف التحقيق، فالمؤلف - في
تعاطفه مع المعتزلة - يذهب إلى أن المعتزلة كانوا أشد وطأة على الشيعة من أهل
السنة (66) بينما تجاهل حقيقة أن الاعتزال نفسه قد ذاب في مذهب الشيعة، بلى
إنه حين أراد تقرير وجهة نظر المعتزلة الأوائل في العقيدة، اعتمد على القاسم
الرسي الشيعي الزيدي لبيان ذلك المذهب (177) . ذلك التعاطف هو ما يوضح
أسباب هجومه على (سلطة السلف) (133، 562) التي قرنها بسلطة (الماضي)
والعادة، كذلك موقفه من الإجماع سواء في اللغة والنحو (127) أو في الفقه
والتشريع، بل اعتباره أن أصل الإجماع هو مصدر القهر السياسي الذي عانت منه
الأمة الإسلامية في تاريخها (134) ! ويذهب لإثبات مذهبه ذاك إلى أن خبر الواحد
إنما يستمد قوته من إجماع الصحابة (125) وسلطة السلف ليس إلا! ويهاجم القياس
كأصل شرعي، كما يتبين من طريقة مناقشته عند الأصوليين (137) مقارنة بما
يقابلها من تعاطف مع ظاهرية ابن حزم التي يصورها على أنها تحرر من سلطة
السلف، ومن القياس، وأنها دعوة للاجتهاد المبني على العقل! والتعامل المباشر
مع النفر (515، 569) دون وساطة السلف - الصحابة والتابعين - أو غيرهم من
العلماء والأئمة.
والحق أن الكاتب قد دخل مدخلاً وعرًا في مناقشة مسائل فقهية وأصولية
متخصصة، تخرج عن مجال تخصصه كباحث في (الفلسفة) ، أما عن مفهوم
السببية كما تقرره عقلية العربي - حسب رأي المؤلف - فإن البيئة العربية
الصحراوية توجه العقل إلى عدم ربط السبب بالنتيجة! (243) ، وأنها تنشيء
تلقائيًا ذلك المفهوم الذي ظهر لدى الأشاعرة في تفسير ارتباط السبب بالنتيجة على
أنه حكم العادة الجارية بل إنه جعل المعتزلة كذلك من دعاة مذهب (العادة) -
كالأشاعرة تمامًا - ليكتمل مفهوم النظرة الجزئية التي تولدها البيئة الصحراوية..
وهي نتيجة تؤكد خطورة تبني قوالب فكرية مسبقة، وإخضاع الأفكار والوقائع
لمقرراتها مهما استلزم ذلك من اعتساف التحليل واضطراب النتائج، إلى جانب
تجاهله لمفهوم السببية عند أهل السنة بشكل تام [1] .
ثم يقدم المؤلف للعقلية العربية حلاً مبنيًا على ضرورة القضاء على سلطة
السلف في حياة الأمة، والخروج من قيد اللفظ والنص، وإسقاط القياس كمسلك
عقلي للاستنباط واعتماد (العقل) وحده بديلاً، من خلال عصر تدوين جديد يقوم
على فكر الرباعي (المغربي) الأندلسي (ابن حزم - ابن رشد - ابن خلدون -
الشاطبي) .
-2-
أما الكتاب الثاني، فهو عبارة عن عدة مقالات مجموعة، صدرت في مجلة
العربي للكاتب د. فؤاد زكريا، في الفترة ما بين 1976-1987 تحت عنوان
(خطاب إلى العقل العربي) وتناول هذه المجموعة من المقالات عدة موضوعات،
قسمها صاحبها إلى ثلاثة أقسام:
1-: دافع الثقافة العربية.
2-: الفكر والممارسة في الوطن العربي.
3-: أضواء على العالم المعاصر.
والكاتب يعكس بشكل واضح خلطًا وقصورًا في فهم الإسلام، وتصور طبيعة
العلاقات التي يجب أن ينبني عليها المجتمع المسلم.
فعلى الرغم من أن الكاتب قد تعرض لبعض الأسباب الرئيسية التي نشأ عنها
الخلل الحالي في المجتمعات الإسلامية، كالحكم الفردي المطلق، والسلطة الإرهابية
والوصاية على الشعوب بدعوى الجهل والتخلف، إلا أن التناقض يبدو في تحليلاته
حين تنتقل من مجال الممارسة إلى مجال الفكر والثقافة.
والكاتب - كغيره من أصحاب الاتجاه اليساري المادي - يتوهم صراعًا دائرًا
بين العلم والدين (64) في المجتمع الإسلامي، على غرار الصراع بين الكنيسة
والعلم في أوربا القرون الوسطى، ويعزو لتلك المشكلة الموهومة أسباب التخلف
والانحطاط (22) ! .
كذلك فهو يرى أن أسس الدين الإسلامي، التي تقوم على أن القرآن لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن (كلمة الله الحرفية التي لا يتناولها التغيير
ولا التبديل) (74) ، يجعل من الصعب على المسلمين أن يتقبلوا تغييرًا في طبيعة
العلاقة بين الله - عز وجل - وبين الناس على غرار ما تقبلته أوربا حين قدمت
إلهًا يحكم العالم بالرياضيات، في فكر ديكارت، أو غير ذلك من صور العلاقة بين
الخالق والمخلوق، التي تنحى فيها سلطة الخالق وسيطرته الفعلية على البشر بشكل
تام وحاسم.
والحق أن إثارة مثل تلك المشاكل المفتعلة، وتقديم مثل تلك التحليلات الواهية
إنما يعكس أمرين:
أولهما: ضحالة المعرفة وقصور الفهم بطيعة الدين الإسلامي، الذي يعرف
الصغير الجاهل قبل الكبير العالم أنه لا تعارض بين التمسك بتعاليمه وقيمه وأحكامه
الشرعية، وبين ارتياد الفضاء، أو استخدام الكمبيوتر، أو تحليل المواد إلى
عناصرها للاستفادة منها.
وثانيهما: هو الرغبة الدفينة في تصوير العقبات أمام الأخذ بشرائع الإسلام
كما أنزلها الله سبحانه دون تبديلها أو تغييرها، تحت شعار البحث الثقافي المنصف
أو الرغبة في الإصلاح.
كما حاول الكتاب في قسمه الثالث إلقاء الأضواء على فساد المجتمع الرأسمالي
وتناقضه، لحساب المجتمع الاشتراكي الذي يحمل - في رأي الكاتب - الحل
الأمثل للأزمات الحالية، مع أن المنصف يعلم فساد النظم الرأسمالية وفشل التجارب
الاشتراكية.
-3-
وفي سلسلة الحديث عن العقل العربي، قدم الدكتور: زكي نجيب محمود
كتابه قصة عقل (1983) الذي نحا فيه منحى السيرة الذاتية العقلية، مؤرخًا
لرحلته الثقافية منذ اشتراكه في مجلة لسلامة موسى، بمقالات عن وحدة الوجود
(18) إلى أن اتجه إلى الثقافة الغربية اتجاهًا تاماً، يصوغ من خلالها اتجاهه
الفكري، وليتخير منها مذهبًا فلسفيًا يجعله له (هاديًا ونبراسًا) (93) هو مذهب
(الوضعية المنطقية) لفتجنشتين، وخلاصته: أن الكلمات التي يستعملها الإنسان
(اللغة) نوعان:
نوع يمكن أن يعاين معناه مباشرة بالحس أو التجربة العلمية، وهو يحمل دليل
صدقه، إذ ينطبق على موجود خارجي.
ونوع آخر يتناول ما وراء المحسوس، وهو لغو لا معنى له. فاللغة غرضها
الأساسي هو أن تشير إلى موجودات فعلية تعاين بالحس لتكون مدلولاتها صادقة
(92و115) وهذا النوع الأخير من اللغة هو من قبيل التعبيرات الوجدانية التي
تقاس بمقاييس (الشعر أو ما إلى الشعر من وسائل التعبير) (116) .
ولما كان الإيمان من قبيل الوجدانيات كما يراه المؤلف، وألفاظه تعبر عن
معان ذاتية لذلك فهو (تصديق بغير برهان، وأما منطق العقل فطريقه البراهين) !
(111) . لذلك فالتعبيرات التي تتناول موضوعات كالإيمان أو غيره (هي تعبير
ذاتي عما يخالج المتكلم من مشاعر.. وهاهنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس
موضوعية لتفرقة بين حق وباطل) (175) . وبناء على ذلك فإنه ليس من حق أي
جماعة أن تتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا
كان كل من الجماعتين مستندًا إلى مبادئ غير المبادئ التي تستند إليها
الجماعة الأخرى (100) . فالحق - إذن -في رأيه نسبي حين يختص بمسائل لا تخضع للتجارب المعملية، وأنصار كل فكرة أو دين هم على حق من وجهة نظرهم، ولا يحق لأحدهم أن ينظر للغير على أنه ضال أو منحرف! ولا يخفى ما وراء تلك الأفكار من ضلال وخطورة والتواء.
والكتاب جاء بعد محاولات سابقة للكاتب تهدف إلى نشر هذا المذهب من
خلال الحديث عن الفكر العربي، وإحياء التراث، الذي تعرف عليه المؤلف منذ
سنوات قليلة بعد أن تشرب الثقافة الغربية حتى النخاع، ولم يتمكن من التعرف
على الفكر الإسلامي إلا من خلال (إحياء علوم الدين) للغزالي، أو (تهافت التهافت)
لابن رشد، فجاءت محاولاته خالية من الإخلاص، عارية عن الخبرة، هادفة لهدم
التراث من حيث تبدو محاولة لإحيائه! [*]
__________
(1) راجع مفهوم السببية عند أهل السنة، البيان، العدد الرابع / 38.
(*) الأرقام ببن القوسين هي أرقام الصفحات التي يرجع إليها في المصدر الأصلي.(10/24)
علماء معاصرون
المحدث الكبير
محمد أنور شاه الكشميري
تاج الدين الأزهري
ولادته ونشأته:
هو الفقيه المجتهد محمد أنور بن معظم شاه، ولد بكشمير سنة 1292هـ وقد
تربى على والديه تربية مثالية، ولذلك كان معروفًا بالتقوى وغض البصر واحترام
الأساتذة، كان يقول الشيخ مولانا القاري محمد طيب رحمه الله: كنا نتعلم السنن
النبوية من سيرة الشيخ أنور وكأن الأخلاق النبوية تجسدت في صورته [1] .
ودرس على والده الشيخ غلام رسول الهزاروي كتبًا في الفقه وأصوله ولما
بلغ السابعة عشرة من عمره سافر إلى ديوبند، والتحق بدار العلوم هناك وتخرج
منها سنة 1313هـ، وقد حصل على إجازة درس الحديث من شيخ السنة مولانا
رشيد أحمد الكنكوهي وشيخ الهند مولانا محمود الحسن رحمه الله، ويصل سنده إلى
الإمام الترمذي والشيخ ابن عابدين الحنفي.
قوة حافظته وطريقته في المطالعة:
كان الشيخ رحمه الله شديد الاستحضار قوي الحافظة، شغوفًا بالمطالعة، وقد
انتهى من مطالعة (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) للحافظ العيني في شهر
رمضان المبارك وأراد بذلك أن يستعد لدراسة صحيح البخاري في العام الدراسي
المقبل الذي كان يبدأ في شهر شوال، وقد استوعب (فتح الباري شرح صحيح
البخاري) للحافظ ابن حجر مطالعة أثناء قراءته صحيح البخاري على شيخه مولانا
محمود الحسن رحمه الله [2] .
وكانت طريقته في المطالعة أنه إذا وقع في يده أي كتاب علمي مطبوعًا كان
أو مخطوطًا أن يأخذه ويطالعه من غير أن يترك شيئا منه، وهو أول عالم بين
علماء الهند طالع مسند الإمام أحمد بن حنبل المطبوع بمصر، فكان يطالع منه كل
يوم مائتي صفحة مع نقد أحاديثه وضبط أحكامه [3] .
مكانته العلمية:
كان الشيخ رحمه الله إمامًا في علوم القرآن والحديث، وحافظًا واعيًا لمذاهب
الأئمة مع إدراك الاختلاف بينهما، وقادرًا على اختيار ما يراه صوابًا، ولم يقتصر
في مطالعته على كتب علماء مدرسة بعينها - مع أنه كان حنفيًا - وإنما قرأ لعلماء
مدارس مختلفة لهم انتقادات شديدة فيما بينهم، مثل الحافظ ابن تيمية والحافظ ابن
القيم وابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر رحمهم الله، وقد أحاط بكتب أهل الكتاب
من أسفار العهد الجديد والقديم، وطالع بالعبرية وجمع مئة بشارة من التوراة تتعلق
برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-[4] .
رحلاته العلمية:
سافر الشيخ رحمه الله بعد تخرجه إلى عدة مدارس، ودرس هناك عدة أعوام، وقد التقى في فرصة زيارة الحرمين الشريفين بعدد من رجال العلم، منهم الشيخ
حسين الجسر الطرابلسي عالم الخلافة العثمانية صاحب الرسالة الحميدية والحصون
الحميدية [5] .
وبدأ بالتدريس في دار العلوم في ديوبند بعد عدة أعوام من رجوعه من
الحرمين الشريفين، وظل مدرسًا بها حتى عام 1345 هـ، ثم رحل إلى (داهبيل)
في مقاطعة (كجرات) ، وأسس بها معهدًا كبيرًا يسمى (بالجامعة الإسلامية)
وإدارة تأليف تسمى (بالمجلس العلمي) .
آراء معاصريه من العلماء فيه:
وقد أثنى عليه العلماء المعاصرون، ولثناء المعاصر على المعاصر قيمة
كبيرة. فقد قال الشيخ سليمان الندوي رحمه الله: هو البحر المحيط الذي ظاهره
هادئ ساكن وباطنه مملوء من اللآلئ الفاخرة الثمينة [6] .
وقال المحدث علي الحنبلي المصري رحمه الله: ما رأيت عالمًا مثل الشيخ
أنور الذي يستطيع أن ينقد على نظريات الحافظ ابن تيمية والحافظ ابن حجر وابن
حزم والشوكاني رحمهم الله، ويحاكم بينهم ويؤدي حق البحث والتحقيق مع رعاية
جلالة قدرهم [7] .
جهوده في الرد على القاديانية:
قد ظهرت في العالم فتن كثيرة، وقد عمل العلماء ضدها بجهد كبير، ومن
الفتن الكبرى التي وقعت في هذه البلاد (الهند) بوحي من أعداء الإسلام وتأييد منهم
(نشأة الفتنة القاديانية) وقد تصدى العلماء لهذه الفتنة الملعونة، وواجهوها وجدوا
في القضاء عليها في جميع البلاد.
وكانت جهود الشيخ أنور رحمه الله في مواجهتهم أكثر من جهود العلماء
المعاصرين لأنه لم يكن يدخر جهدًا ولا يهدأ له بال ولا يرتاح له فكر في ليل أو
نهار، وكان يفكر دائماً في إيجاد الطرق الكفيلة للقضاء على هذه الطائفة فأيقظ
العلماء من النوم العميق في أنحاء العالم، وحثهم على القيام بواجبهم في القضاء
عليها بالتبليغ والتصنيف، وقد تيسر لأصحابه وتلامذته تأليف كتب ورسائل ضد
هذه الطائفة الكاذبة باللغات المختلفة.
وقد ألف الشيخ أنور بنفسه، مؤلفات صغيرة وكبيرة حولها منها:
1- إكفار الملحدين.
2- التصريح بما تواتر في نزول المسيح.
3- تحية الإسلام في حياة عيسى عليه السلام.
4- عقيدة الإسلام في حياة عيسى.
5- خاتم النبيين.
وهذه كلها باللغة العربية إلا كتاب خاتم النبيين فإنه باللغة الفارسية.
آثاره:
قد ترك الشيخ آثارًا في صورة التلامذة والكتب المؤلفة، فأما عدد تلاميذه
فيزيد على ألفين وأكتفي بذكر بعض منهم:
حضرة الأستاذ الشيخ مناظر أحسن الجيلاني رحمه الله: كان عالمًا كبيرًا
ومحدثًا جليلاً ومصنفًا عظيمًا وله مصنفات كثيرة.
والمحدث الكبير مولانا حفظ الرحمن السوهاروي رحمه الله.
والشيخ القارىء محمد طيب رحمه الله: ومن تصانيفه ما يلي: أصول الدعوة
الدينية، نظام الأخلاق في الإسلام، شأن الرسالة، القرآن والحديث.
والمحدث الجليل مولانا محمد إدريس الكاندهلوي رحمه الله.
كانوا مصنفين في علوم القرآن والسنة.
أما كتبه المؤلفة غير التي ذكرتها فهي كما يلي:
(فيض الباري شرح صحيح البخاري) في أربعة مجلدات، (عرف الشذى
على جامع الترمذي) ، (مشكلات القرآن) ، (نيل الفرقدين في مسألة رفع اليدين) ،
(فصل الخطاب في مسألة أم الكتاب) ، (ضرب الخاتم على حدوث العالم) ، (خزائن
الأسرار) ، وكلها كتب باللغة العربية.
__________
(1) مشاهير علماء ديوبند، القاري فيوض الرحمن، ص 485، نقش دوام مولانا، انظر ص 81.
(2) التصريح بما تواتر في نزول المسيح، علامة أنور شاه كشميري، ص 14 نفحة العنبر، محمد يوسف البنوري، ص 300، مقدمة أنوار الباري، 2 / 245.
(3) نفحة العنبر، ص 25، مقدمة أنوار الباري 2 / 245.
(4) المصدر السابق، ص 95.
(5) تاريخ دار العلوم ديوبند، السيد محبوب رضوي، ص 199، دائرة المعارف الإسلامية 17/306.
(6) مقدمة أنوار الباري، 2/240? نفحة العنبر، ص 4 30، تاريخ دار العلوم - ديوبند، ص 119.
(7) الأنور، عبد الرحمن كوندو، ص 595.(10/30)
شروط لا إله إلا الله
عثمان جمعة ضميرية
إن كلمة التوحيد، التي سبق الحديث عن معناها، جعلها الله تعالى عنوان
الدخول في الإسلام، وثمن الجنة ومفتاحها، كما جعلها سبب النجاة من النار ومغفرة
الذنوب.
وتواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المعاني: فمنها: ما
جعل الإتيان بالشهادتين سببًا لدخول الجنة، وعدم احتجاب قائلها عنها، فإن النار لا
يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طهر
من ذنوبه بالنار:
فعن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن
عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق
والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» [1] ، وفي رواية: «أدخله
الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول-صلى الله عليه وسلم- قال:
«يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين -وأعطاه نعليه - فمن لقيت من وراء هذا الحائط
يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقنًا بها قلبه، فبشره بالجنة» [2] .
وعنه أيضاً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا
الله وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد غير شاك، فيحجب عن الجنة» [3] ، وفي
رواية له أيضاً: «إلا دخل الجنة» .
وعن عثمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» [4] .
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة»
قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق ثلاثاً» ثم قال في
الرابعة: «على رغم أنف أبي ذر» قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رَغِمَ
أنف أبي ذر [5] .
ومعنى هذا الحديث: أن الزنى والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد،
وهذا حق لا مرية فيه، وليس فيه أنه لا يعذب عليهما مع التوحيد [6] ، ففي مسند
البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا إله إلا الله نفعته يومًا من
دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه» [7] .
ومن الأحاديث النبوية ما جاء بيانًا لتحريم دخول النار على من أتى
بالشهادتين، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ رضي الله عنه: «ما
من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه
الله على النار» [8] .
وفي حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه
الله» [9] إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية الشريفة [10] .
وقد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة، ويغتر
بكلمة يديرها على لسانه، دون أن يفقه معناها، يظنها مفتاحًا للجنة، بمجرد نطقها
باللسان، غافلاً عن شروطها التي ينبغي أن تتحقق، ومقتضياتها التي ينبغي أن
يعمل بها، لتكون مفتاحًا صالحًا لفتح أبواب الجنة الثمانية.
وشهادة التوحيد هذه، سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، ومقتضى لذلك، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يختلف
عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع من الموانع، وهذا قول
الحسن البصري ووهب بن منبه، رحمهما الله.
فقد قيل للحسن البصري رحمه الله؛ إن أناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا
الله دخل الجنة؟ فقال: من قال لا إله إلا الله، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.
وقال للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا
إله إلا الله، منذ سبعين سنة، فقال الحسن: نعم العدة، لكن لـ " لا إله إلا الله "
شروطاً، فإياك وقذف المحصنة!
وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما
من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك [11] .
ويدل على صحة هذا القول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رتب دخول
الجنة على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص: فعن أبي أيوب الأنصاري
رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال:
«تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» [12] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على
عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة
المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» فقال الرجل: والذي نفسي
بيده، لا أزيد على هذا شيئاً، ولا أنقص منه. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» [13] .
وقد تواردت مع ذلك آيات وأحاديث تبين توقف دخول الجنة والنجاة من النار
على من فعل الفرائض واجتنب المحارم، فصارت تلك الأحاديث السابقة مفسرة
مبينة، وينبغي أن يؤخذ بالبيان والمبين معًا، ولا يجوز إعمال بعض النصوص
والأدلة وإهمال سائرها [14] .
ومن القواعد المقررة: أن المطلق يحمل على المقيد، فإذا جاءت نصوص
مطلقة، وجاءت نصوص أخرى متحدة معها في الحكم والسبب، فإنه يحمل النص
المطلق على المقيد. والأحاديث التي جاءت تبين أن دخول الجنة وتحريم النار
معلق على شهادة (أن لا إله إلا الله) ، وهذه الأحاديث المطلقة جاءت أحاديث
أخرى تقيدها. ففي بعضها:
من قال: «لا إله إلا الله مخلصًا ... » ، وفي بعضها: «مستيقناً بها قلبه..» وفي بعضها: «صدق لسانه..» ، وفي بعضها: «يقولها حقا من قلبه..» .. الخ.
وكذلك علقت الأحاديث دخول الجنة على: (العلم بمعنى لا إله إلا الله)
ونصوص أخرى تبين الثبات على هذه الكلمة، ونصوص أخرى تدل على ... ... وجوب الخضوع لمدلولها.. إلخ.
ومما سبق كله استنبط العلماء رحمهم الله تعالى شروطًا لابد من توافرها، مع
انتفاء الموانع، حتى تكون كلمة " لا إله إلا الله " مفتاحًا للجنة، وهذه الشروط هي
أسنان المفتاح، ولابد من أخذها مجتمعة، فإن شرطًا منها لا يغني عن سائر
الشروط.
ولعل هذه الشروط تكون واضحة من الإشارات التي سنشير إليها في هذه
العجالة، فاحرص عليها - أيها المسلم - وتحقق بها، لئلا تقف أمام باب الجنة
فترد، لأنه لا يفتح لك!
1- إن لكل شيء حقيقة، ولكل كلمة معنى، فينبغي أولاً: أن تعلم معنى
كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) علمًا منافيًا للجهل بها، في النفي والإثبات، فهي تنفي
الألوهية عن غير الله تعالى وتثبتها له سبحانه، فلا معبود بحق إلا الله، وقد سبق
ذلك وافيا في بيان (مفتاح الجنة) سابقًا.
ومن الأدلة على هذا الشرط: قول الله تعالى: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ
واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] [سورة محمد: 19] .
[شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ] [آل
عمران/18] [إلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ] [الزخرف: 86] .
وأخرج مسلم عن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» . ويكتمل هذا
الشرط بما يليه، وهو الشرط الثاني.
2- اليقين المنافي للشك: ومعنى ذلك أن تستيقن يقينًا جازمًا بمدلول كلمة
التوحيد، لأنها لا تقبل شكًا، ولا ظنًا، ولا ترددًا ولا ارتيابًا، بل ينبغي أن تقوم
على اليقين القاطع الجازم. فقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين:
[إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] [الحجرات: 15] .
فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب، والبعد عن
الشد، فإن لم يحصل هذا اليقين فهو النفاق، والمنافقون هم الذين ارتابت قلوبهم،
قال الله تعالى: [إنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ
فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ] [التوبة: 45] .
وقد سبق آنفًا حديثان في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيهما:
«أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيهما إلا
دخل الجنة» وفي رواية «فيحجب عن الجنة» . «ومن لقيت وراء هذا ... الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه..» .
3- وإذا علمت، وتيقنت، فينبغي أن يكون لهذا العلم اليقيني أثره، فيتحقق
الشرط الثالث وهو: القبول لما اقتضته هذه الكلمة، بالقلب واللسان: فمن رد دعوة
التوحيد ولم يقبلها كان كافرًا، سواء كان ذلك الرد بسبب الكبر أو العناد أو الحسد،
وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين ردوها استكبارًا [إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ
لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * ويَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ؟]
[الصافات: 35 - 36] .
أما المؤمنون الذين قبلوا هذه الكلمة وعملوا بمقتضاها فلهم النجاة عند الله
تعالى، وعدًا منه، لا يخلف الله وعده: [ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقاًّ
عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ] [يونس: 103] .
وهم أصحاب المثل الطيب، الذين ينتفعون بما جاء به الرسول عليه الصلاة
والسلام من الهدى والعلم. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن-صلى
الله عليه وسلم- قال: «مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير
أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت
منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب
منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فقه
في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم
يقبل هدى الله الذي أرسلت به» [15] .
4- أما الشرط الرابع: الانقياد للتوحيد الذي دلت عليه هذه الكلمة العظيمة،
انقيادًا تامًا، وهذا الانقياد والخضوع هو المحك الحقيقي للإيمان وهو المظهر العملي
له.
ويتحقق هذا ويحصل بالعمل بما شرعه الله تعالى، وبترك ما نهى عنه،
وذلك هو الإسلام حقيقة، إذ هو: أن يسلم العبد ويستسلم بقلبه وجوارحه لله تعالى،
وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال سبحانه: [ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلَى اللَّهِ وهُوَ
مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى] [لقمان: 22] .
وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه أنه لا يؤمن المرء حتى ينقاد لحكم الله وحكم
رسوله: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] . وحتى ميول الإنسان
وما يهواه، ينبغي أن يكون من وراء ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وتابعًا له: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» [16] ، وهذا هو
تمام الانقياد وغايته.
5- الشرط الخامس: الصدق في قول كلمة التوحيد، صدقاً منافيًا للكذب
والنفاق، حيث يجب أن يواطئ قلبه لسانه ويوافقه، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، ولكن لم يطابق هذا القول ما في قلوبهم، فصار قولهم كذبًا ونفاقًا مخالفًا للإيمان،
ونزلوا في الدرك الأسفل من النار: [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]
[الفتح:11] [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم
بِمُؤْمِنِينَ] 8 [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] 9 [
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]
[البقرة: 8-10] ..
في آيات كثيرة وسور بمجملها في القرآن الكريم تتحدث عنهم.
وفي الصحيحين: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله.. صدقًا من قلبه إلا
حرمه الله على النار» فاشترط الصدق من القلب، كما اشترطه في قوله لضمام بن
ثعلبة: «إن صدق ليدخلن الجنة» [17] .
6- المحبة، وهي الشرط السادس فحب المؤمن هذه الكلمة، ويحب العمل
بمقتضاها ويحب أهلها العاملين بها، وإلا لم يتحقق الإيمان ولم تكتب له النجاة،
ومن أحب شيئًا من دون الله فقد جعله لله ندًا: [ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ
أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ] [البقرة: 165] .
وعلاقة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه، وموالاة من والى الله
ورسوله، ومعاداة من عاداه واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- واقتفاء أثره
وقبول هداه، وهذه كلها شروط في المحبة لا تتحقق إلا بها [18] ، وهى مؤشر
على حب الله للعبد بعد ذلك.
ومتى استقرت هذه الكلمة في النفس والقلب، فإنه لا يعدلها شيء، ولا يفضل
عليها، فإن حبها يملأ القلب فلا يتسع لغيرها، وعندئذ يجد حلاوة الإيمان:
«ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواه، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن
يقذف في النار» [19] .
وحتى لو تحققت تلك الشروط السابقة كلها، ولكنها فقدت الروح فيها وفقدت
سبب القبول عند الله، فإنها لا تنفع صاحبها ما لم يحقق سبب ذلك القبول، وهو
الشرط السابع.
7- الإخلاص، ومعناه: صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية العمل بصالح
النية، من كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه.
وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، تؤكد هذا
الشرط، وتجعله سببًا لقبول الأعمال عند الله تعالى. قال الله سبحانه وتعالى:
[ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ
وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] [البينة: 5] [فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ] [الزمر: 2] .
وفي حديث عتبان بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن الله حرم
على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله عز وجل [20] .
والآيات والأحاديث في الإخلاص كثيرة جدًا، فهو سبب القبول عند الله عز
وجل، فلا يقبل الله تعالى من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه وموافقًا لشرعه.
8-ومع هذه الشروط مجتمعة، لابد من الإقامة على هذه الكلمة، ليختم للعبد
بها ختامًا حسنًا، فإنما الأعمال بالخواتيم، ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:» إن الرجل ليعمل الزمان
الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل
الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة «
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عند الشيخين» .. فوالذي لا إله
غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق
عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها «.
وقد أمر الله تعالى بالإقامة على الإسلام والتوحيد: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] [آل عمران: 102] .
وقد جاءت الأحاديث الشريفة تبين هذا المعنى: عن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» من مات يشرك بالله شيئًا
دخل النار «وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» [21] .
وفي حديث أبي ذر: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا
دخل الجنة» [22] .
فاحرص أيها المسلم على كلمة التوحيد بشروطها تلك، واحذر من كل ما
ينافيها، فإن ما ينافيها ويوقع في الشرك قد يكون أخفى من دبيب النمل.
قال ابن القيم رحمه الله، في قصيدته النونية، مشيرًا إلى أسنان هذا المفتاح
الذي تفتح به أبواب الجنة، وهي العمل بشرائع الإسلام، وتحقيق تلك الشروط
السابقة، فقال:
هذا، وفتحُ الباب ليس بممكن ... إلا بمفتاح على أسنان
مفتاحه بشهادة الإخلاص والتو ... حيد، تلك شهادة الإيمان
أسنانه الأعمال، وهو شرائع الـ ... إسلام، والمفتاح بالأسنان
لا تلغين هذا المثال فكم به ... من حل إشكال لذي العرفان
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، ومسلم في كتاب الإيمان.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، ومسلم في الإيمان.
(6) كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، لابن رجب ص 12.
(7) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 1/17.
(8) أخرجه البخاري في العلم، ومسلم في الإيمان.
(9) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الصلاة، ومسلم في المساجد.
(10) انظر: تهذيب مدارج السالكين لابن القيم: ص 187.
(11) أخرجه البخاري تعليقًا في الجنائز.
(12) أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم في الإيمان.
(13) أخرجه البخاري في الزكاة، ومسلم في الإيمان.
(14) انظر: كلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب الحنبلي ص 31- 22 فهذه المعاني مأخوذة منه.
(15) أخرجه البخاري، كتاب العلم، ومسلم، كتاب الفضائل.
(16) قال النووي في الأربعين النووية: حديث حسن صحيح، جامع العلوم والحكم، ص 364 -365.
(17) أخرجه البخاري في الزكاة، ومسلم في الإيمان.
(18) معارج القبول للشيخ حافظ حكمي رحمه الله 1/383.
(19) متفق عليه.
(20) متفق عليه.
(21) أخرجهما الشيخان.
(22) أخرجهما الشيخان.(10/34)
من القومية إلي الوطنية
ناصر إبراهيم البريدي
احتل الاستعمار بلاد المسلمين سنوات طويلة، وقد بذل في هذه السنوات من
الجهود الجبارة لحرب الإسلام والمسلمين، ما يعجز القلم عن تسطيره في مثل هذه
العجالة، ولم يخرج منها إلا وقد اطمأن إلى أنه قد خلف جنودًا يحملون رسالته،
ورجالاً يذبون عن أهدافه، يحيون ويموتون في سبيله، وإن كانوا من أبناء جلدتنا
ويتكلمون بلغتنا، كثير منهم يركعون ويسجدون معنا ويصلون في مساجدنا.
ولمواجهة الخلافة الإسلامية - التي كانت قائمة في آخر عهد الدولة العثمانية-
تبنى الاستعمار لغة القوميات التي أتت على أمتنا بالشرور والويلات.
وبعد أن قضى على الخلافة العثمانية، جاءت اتفاقية (سايكس - بيكو) التي
قطعت فيها الأمة العربية إلى دويلات، وشتت شمل المسلمين من خلال تلك
المؤامرات. وبعد أن ارتفع صوت القومية طويلاً وأدى جزءاً من الأهداف
المرسومة له، ظهرت دعوة أخرى - لا تقل خطرًا عن مؤامرة القوميين - تلك هي
الدعوة إلى الوطنية، واتخاذ الوطن إلهًا يعبد من دون الله، وارتفع صوت الوطنيين
في كثير من الدول الإسلامية يدعون إلى مبادئ تخالف دعوة الإسلام، وتدعو إلى
الانصهار في بوتقة الوطن، واعتباره رابطًا قومياً يعلو فوق كل الروابط.
ولم يدر أولئك - ولربما علموا - ما يحمل هذا الفكر الخبيث من سموم، وما
سيجره على الأمة من مصائب ونكبات.
إننا في الوقت الذي تتداعى فيه أمم الكفر على أمتنا، وتجتمع علينا في إطار
عقيدة واحدة، نجد بيننا من يرفع شعارًا يمزقنا، ومبادىء تفرقنا.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث في قوم تحكمهم العصبيات،
وتسودهم الوثنيات، فكان السلاح الذي رفعه -صلى الله عليه وسلم- في وجه أولئك
هو الإسلام، الذي جمعهم بعد تفرق، وذابت فيه كل الفوارق والألوان والجنسيات
والطبقات.
وفي ظل الإسلام عقدت أعظم مؤاخاة في التاريخ، جمعت العربي مع الرومي، والفارسي مع الأوسي، والحبشي مع الخزرجي، ولم يكن هناك أي اعتبار
لميزان الجنس واللون والوطن.
وإن أخطر ما في مثل هذه الدعوة أن بعض المسلمين يتحمس لها ويدافع عنها
بحسن نية وسلامة مقصد، بل وتجدهم يرددون ما يزعمون أنه حديث نبوي (حب
الوطن من الإيمان) وهو حديث موضوع [1] لا يجوز الاحتجاج به ولا الركون إليه.
وأشير هنا إلى أن حب الوطن أمر غريزي جبلي لا يستطيع الإنسان أن ينكره
أو ينفيه، ولكن الخطر الداهم أن كثيرًا من دعاة الوطنية اتخذوه صنماً يعبد من دون
الله، وتخلوا على مبادئهم الإسلامية باسم الوطنية [ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ] [البقرة: 165] .
ولنقرأ مقاطع من مقالة كتبها أحد أولئك حيث قال: (ليس أغلى على الإنسان
أو غيره من الوطن، من الأرض، من التراب الذي يخصه، وعلاقة الإنسان
وغير الإنسان بأرضه علاقة تختلف عن كل علاقة، فهي أصلب، وهي أشد) . ثم
يمضي الكاتب في غلوه، فيقول: (ليس ثمة ما هو أرقى من العلاقة بين المخلوق
وتربته وأرضه ووطنه) .
ولم يكتف بذلك، بل جاءت القاصمة -التي لا تقصم الظهر، ولكن تقصم
الدين-:
(إن كل شيء يذهب ويتلاشى، إلا حب الأرض، حب الوطن، هو الذي
يستمر مشتعلاً في الذات دائمًا أبدًا، كالوشم الذي لا يتغير) .
هذه النتيجة المتوقعة من أدعياء الوطنية، وهذا الكاتب لا يعبر عن نفسه،
ولكنه خريج مدرسة قائمة، علمته: كيف يحب، ومن يحب، ومتى يحب.
نسي هذا الكاتب -أو تناسى-أن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق
عرى الإيمان، وتجاهل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [2] .
ونتيجة لهذا الغلو والإفراط أصبحوا من أجل الأرض يحبون، وفي سبيل
التراب يبغضون، وفي ذات الوطن يوالون ويعادون.
نعم.. كل إنسان يحب وطنه، ولكن المسلم يجعل هذا الحب في إطاره
الصحيح، فهو حب طبيعي فطري ولكنه لا يقدمه - بحال من الأحوال - على حب
الله وحب رسوله، ولا يساويه بحب دينه، بل ولا يرقى حب الوطن إلى حب
الوالدين.
إذا هو حب يحكم بحب أسمى منه والعلاقة بالوطن تخضع لعلاقة أقوى منها.
أما أن يصل حب الوطن إلى أن يقول شاعرهم:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه بالخلد نفسي
فهذا حب لا يقره الإسلام ولا يرضاه بل يمقته ويأباه.
إن حقيقة الدعوة للوطنية تبرز عندما تتعارض مصلحة من مصالح الوطن -
الموهومة - مع مبادئ الإسلام وقيمه الحقيقية، نجد إن دعاة الوطنية يقدمون تلك
المصلحة الظنية على ما يقره الإسلام ويدعو إليه.
ولأولئك نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد ذم المنافقين الذين فضلوا البقاء في
الأوطان على الخروج منها للجهاد في سبيل الله فقال:
[ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ
قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً] [النساء: 66] .
وأخبر سبحانه عن النهاية المخزية للذين رفضوا الهجرة وارتدوا عن دينهم
إيثارًا لحبهم لأوطانهم، وتفضيلها على حب الله ورسوله.
[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ
فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: 97] .
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحب مكة، ولكنه قدم الهجرة فرارًا
بدينه على حب وطنه، وكذلك فعل صحابته الكرام، وهكذا يكون حب الوطن
والولاء له ليس حبًا مطلقًا ولا ولاء محررًا من كل قيد، كما يريد أولئك الأدعياء.
وأقول بصدق: إن الذي يزعم حب الوطن حبًا مجردًا من مبادئ الإسلام
وضوابطه إنه كاذب في زعمه خائن لوطنه وأمته، هو أول من ينسحب في معركة
الذب عنه والدفاع عن حرماته، وما قصة المنافقين في (أحد) إلا برهان قوي للرد
على هؤلاء، وفي (الأحزاب) خير دليل على حقيقة مواقفهم:
[وإذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ
مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إن يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً * ولَوْ
دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا ومَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلاَّ يَسِيراً *
ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً]
[الأحزاب: 13-15] .
وأحداث أفغانستان شاهد حي على مواقف المجاهدين الصادقين، الذين أبلوا
بلاء حسنًا في الذب عن ديارهم وبلادهم، ومواقف الذين يجعجعون بالوطنية، فلما
جد الجد ونادى منادي الجهاد: [ولَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً] [الإسراء: 46] .
فبان الصادق من الكاذب [3] والوفي من الخائن، فاعتبروا يا أولى الأبصار.
__________
(1) هذا حديث موضوع، وانظر تخريجه في:
1 - موضوعات الصنعاني، ص 47، حديث رقم 81، بتحقيق نجم عبد الرحمن خلف، وفي الهامش كلام قيم
2- المقاصد الحسنة، ص 173، رقم 386 وقال لم أقف عليه
3- كشف الخفاء، للعجلوني، ص345، 346? رقم1102، وفيه كلام طيب
4- الموضوعات الكبرى لعلي القاري، ص181، 182? بتحقيق الشيخ محمد الصباغ.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان.
(3) لان المؤمن مطالب بأن يدافع عن وطنه وعن حرماته، وهو داخل في دفاعه عن دينه وعقيدته، لأن استباحة الوطن المسلم استباحة للدين.(10/42)
رجال منتظرون
أمل أمة
جمال أحمد رجب
أمة تفيء إلى ربها، وتعود من بعد طول غياب في ظلمات الجاهلية
وشرورها، أمة تستروح نسمات الإيمان، وقد آن لها أن تقف مرة أخرى بعد
عشرات من السنين على طريق الأصالة والتوحيد.
أمة ينبض قلبها بدم جديد، فتعود إليها حياتها متجددة، بعد أن ظن أعداؤها
أنهم قد قضوا عليها بالسم الزعاف، وما دروا أنهم قد قتلوا الحياة واغتالوا الوجود
يوم أن أوقفوا ريادتها وأنهكوا حياتها.
وهاهم أعداء الأمة اليوم يصرخون.. فمن ينجيهم من عذاب أليم؟ ! ! أمة
تعود إلى ذاتها التي ضيعتها، وإلى رسالتها التي هانت عليها، أمة تعود إلى روحها
إلى قرآنها.. إلى سنة نبيها.. إلى شريعتها.. إلى دستور حياتها. وطريق
العودة طويل طويل..
طويل أولاً في وقته وزمنه، فهو طريق التأسيس المنهجي وليس الإصلاح
والترقيع العفوي [أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ..] .
وطويل ثانيًا في تضحياته ومشقاته، فلن يترك الباطل الحق في يسر وسهولة
ولن يرفع أعداء الله راياتهم البيضاء إلا بعد معارك طوال.
يقول ربنا: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..] ، فهنا أمران من عداد التضحيات
والمشقات:
الأول: أنه ينبغي على رجال الأمة أن يحملوا الأمانة كما أبلغهم الله إياها،
ويبلغوها العباد كما أراد الله لا كما تهوى الأنفس وتزينه الشياطين، وهذه تضحية
ومشقه أولى.
الثاني: يفهم من قوله تعالى [واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] [المائدة: 8] أن
البلاء واقع بمجرد إبلاغ الحق إلى الخلق، وهذه تضحية ومشقة ثانية، يقول ربنا:
[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً..] وعلى هذا الطريق - طريق العودة - يقف رجال يحملون
عقيدة الأئمة وسلف الأمة، فعليها يأتلفون ويجتمعون، ومن دونها يفارقون،
يتربون على عظائم الأمور ومكارم الأخلاق، صفوفهم منتظمة، حريصون على
الوحدة والائتلاف وليس الفرقة والخلاف، هممهم عالية، صبر على المحن، وبعد
عن الفتن، عقولهم متزنة، جنوبهم لينة، أخطاؤهم معدودة، إذا ذكر الله وجلت
قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، دامعة أعينهم،
حزينة قلوبهم، يبكون يوماً قصيًرا لغد طويل، لا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا،
ولا يفرحون بما أتاهم منها، [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]
أنفاسهم طويلة مثل طول طريقهم.. وآراءهم حكيمة على مثل ما يواجهون..
واعون لواقعهم الذي يحيونه فهم له مستبينون لا يخدعهم معسول قول جاهلية
عصرهم عن حقيقة كيدها وعنادها وتنكرها لطريق الله، واجتيالها للعباد - كل
العباد - عن مصدر عزهم وسعادتهم ألا وهو دينهم الحق، فماذا بعد الحق إلا
الضلال؟ ! !
فهم ممتثلون قوله تعالى: [وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]
وهؤلاء هم الرجال المنتظرون.
هم الصف الأول، هم النخبة الموجهة، هم الصفوة المنتقاة، هم حراس الأمة
وقادتها وعقولها، رجال هم عين الأمة وضميرها، رجال يذودون عن الأمة،
ويدافعون عنها، ويدفعون الأعداء، رجال يوجهون الأمة، وبهم تسترشد الأمة
طريقها، رجال تلوذ بهم الأمة - بعد الله - في مدلهمات الأمور وجسام المواجهات، رجال تناط بهم أمانة حمل هذا الدين العظيم، وإبلاغه للناس والتمكين به في
الأرض [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] ، رجال تحتاجهم الأمة في كل ظروف تاريخها
الطويل، وحاجتها إليهم اليوم أشد، إنهم رجال المواقف ...
غير أن المنهجية الأصولية التي تلتزم بها هذه الأمة ورجالها تقتضي أن
نعرض صفحة من علمها المدون يقتضيه السياق:
أولا: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ... ] اتفق أهل السنة
على أن العلماء من أولى الأمر وطاعتهم معطوفة على طاعة الله ورسوله، وبداهة
فإن هؤلاء العلماء في زماننا هم الذين يطيعون الله ورسوله، ويتقون الله مع قيامهم
بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولذا لا
يجوز أهل السنة لعلمائهم أن يغيروا دين الله فيأمرون بما شاؤا وينهون عما شاؤا.
مما تقدم وجب على الأمة طاعة علمائها.
ثانيًا: إننا نحيا عصر التخصص العلمي الدقيق، ولهذا كان علينا أن نصبغ
الحركة الإسلامية بصبغة التخصصية، فهذا يتخصص بتاريخ الأمة الإسلامية على
مر القرون يعلم حركته، ويدرك تطوراته ومراحله، ويفهم مده وجزره، وآخر
يتخصص بعلم الرجال الذين تصدوا القيادة والتوجيه والتأثير في هذه الأمة في
القرون الأخيرة - مثلاً - فيعلم نشأتهم وتربيتهم ومنطلقاتهم وأفكارهم ومخططاتهم
وأهدافهم التي سعوا لتحقيقها ولتنفيذها في هذه الأمة، وثالث يتخصص بعلم التفسير
الشرعي يفهم أصوله ويعلم مدلولات النصوص ومراميها وأسباب نزولها والمحكم
منها والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد إلى آخر ذلك.. ورابع يتخصص
بعلم الاقتصاد.. وخامس بعلم الدعوة والتأثير والتربية.. . إلى آخر تلك
التخصصات وهذه العلوم والفنون التي تحتاجها الأمة متمثلة في رجال أكفاء،
يوجهون ويصنعون حضارتها.
إن ميزات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنه قد ربى جيلاً كاملاً
قادرًا على أن يتبوأ مكانة في الصدارة لهذه الأمة، وحينما رحل الرسول الكريم إلى
ربه لم تنهزم الأمة ولم تندثر بل علت وانتشرت وغزت الأرض لتكون كلمة الله
هي العليا.
وهانحن نقول مشددين عليها:
أعطني رجالاً أصنع لك حضارة..
-يتبع-(10/46)
الآثار النفسية
للفيديو والتلفزيون
ليس بمقدور أحد أن ينكر ما للتلفزيون والفيديو من الآثار السيئة في النفس
الإنسانية، ولو أنصف كل مشاهد لأعلن عما ينتابه من إحساس لدى المشاهدة،
وليس هناك سوى الموتى لا تأثير للتلفزيون فيهم أمامه لأنهم موتى بلا نفوس.
ويقول خبراء شركة "جنرال إليكتريك " إنه بعد نصف دقيقة من المشاهدة
يبدو المخ وكأنه نائم، وهنا وجه الخطورة بالنسبة للتلفزيون، فإذا اعتاد المشاهد
الاستسلام للمشاهدة فإنه يظل مستسلمًا [1] ، وهنا مكمن الخطر فالمخ شبه نائم
وليس بمقدوره أن يدرأ عن النفس ما يوجه إليها ويصبح عاجزًا عن المقاومة فتصب
المعلومات فيه صبًا لتبدو الآثار الجانبية في النفس والعقل.
ومن المؤكد أن هذه الآثار لا تأتي مباشرة عقب صب المعلومات وتغلغلها في
النفس، وإنما تظهر بعد حين نتيجة تضافر برامج أخرى تعمل على تراكم الآثار
التي تأخذ بدورها من جديد بالاندفاع من الداخل نحو الخارج، على صورة سلوك
حركي يترجم التفاعل اللاإرادي المديد الذي يأخذ سبيله إلى النفس على شكل مفاهيم
امتزجت مع الشخصية فأكسبتها بعضًا من ملامحها وأهدافها ولذا فإن تأخر ظهور
هذه النتائج يوهم الكثيرين ويدفعهم للإقلال من الأخطار الناجمة عن ذلك، بل إن
العامة يرفضون هذا الرأي، أو على الأقل فإنهم لا يعتدون به.
والتلفزيون يثير كثيرًا من العمليات العقلية الشعورية واللاشعورية، فهو يثير
الخيال أو الوهم، فيعيش الإنسان مع خيالاته المستمدة مما يراه على شاشة
التلفزيون أو الفيديو، كما يثير فيه روح التقمص أو التوحد مع من يرى من
شخصيات يعجب بها، أو آراء أو أفعال، كما تجعله يسقط آماله، وآلامه وعقده،
ومخاوفه النفسية على ما يشاهد من مناظر وشخصيات وأحداث، ويشجع فيه أحلام
اليقظة، وفيها يهرب الإنسان من الواقع المؤلم ليحقق رغباته المكبوتة التي عجز
عن تحقيقها في عالم الحقيقة، وفي ذلك نوع من التصريف. وكذلك يقال أنه يشجع
السلبية حيث أن المشاهدة لا تتطلب أي جهل من قبل المشاهد، كذلك فإنها تقدم
الأفكار جاهزة، وقد يتعود على ذلك فيتكاسل حتى عن مجرد التفكير أو النقد أو
التمحيص فيما يرى ويسمع، يضاف إلى ذلك أنه يرى - في حالة التلفزيون
خاصة- أشياء مفروضة عليه ليس له دخل في تصميم برامجها أو وضعها [2] .
التلفزيون وأحلام اليقظة:
يمكننا اعتبار مشاهدة التلفزيون نوعًا من أحلام اليقظة، وهى أحلام لا تعود
إلينا بل لشخص آخر في مكان بعيد مع العلم أنها تعرض على شاشة داخل عقولنا.
فالعيون الثابتة المحدقة في الشاشة الصغيرة تكاد تكون الحاسة الوحيدة العاملة من
حواسنا، ومع ذلك فإنها تتجاهل الصور وهي تصب داخل مناطق اللاوعي في
عقولنا، وقد بينت المئات من الدراسات العلاقة المباشرة بين حركة العين والتفكير.
فعملية جمع المعلومات بالنظر تتطلب أن يكون المشاهد يقظًا نشطًا، لا أن يتقبل
كل ما يجري أمامه بطريقة سلبية، وهناك دراسات تثبت أنه عندما تكون العينان
ساكنتين أو محدقتين بطريقة مخيفة فالتفكير يكون مضمحلاً تمامًا، كما يقول جيري
ماندر [3] فربما دخلنا في العصر الذي تحشى فيه المعلومات مباشرة في العقل
الباطن عند الجميع.
وأكثر المشاهدين يشعرون بمثل هذه الأحلام التي يبدو أنها تجمح بالخيال،
فتتوزع الصور المتركبة من المشاهدات المتتالية ذات الموضوع الواحد أو المتقارب، بل باستطاعة هذا الخيال أن يؤاخي بين الصور المتناقضة ليؤلف بينها، ويجعل
منها مادة تصلح لإطلاق أحلام اليقظة على غاربها، بعيدًا عن الواقع وهروبًا من
المسؤوليات [*]
__________
(1) محسن محمد: الإنسان حيوان تلفزيوني ص 208.
(2) الدكتور عبد الرحمن العيسوي: الآثار النفسية والاجتماعية للتلفزيون العربي، ص 33-34.
(3) جيري ماندر: أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون، ص 168.
(*) فقرة من كتاب: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، مروان كجك.(10/49)
أدب وتاريخ (قصة قصيرة)
قهوة أبي صالح
د. مصطفى السيد
-1-
... لم يكن حبهم " لقهوة أبي صالح " وتعلقهم بها صورة من صور الهيام
بالتاريخ التي ألفها العربي، واعتاد الهجرة إلى أيامه الماضية، لاسيما في هذه
الفترة التي سكنت فيها النفوس بالقحط والإملاق، واستعمرها القلق، بل ربما كان
هناك دافع أعمق من ذلك.
لقد كانت " قهوة أبي صالح " أشبه بالمصحات النفسية التي يشعر المختلف
إليها بجواذب عميقة تشده نحوها، كما يخرج المنقلب عنها بغير قليل من العافية،
وبقطرات من التفاؤل. مشرعة الأبواب كحدود المسلمين في وجه العلوج، تسير
بضع خطوات لتبلغ صحنها، ولكنك تشعر بأنك تعبر بكل خطوة قرنًا من القرون
الخوالي! ! ! وما إن تجد نفسك مستقرًا في وسطها حتى تصافح بصرك جُدُر سود
كأنها قطعة من ليل بهيم تخلف في هذا المكان، وفي صدر المجلس كان - أبو
صالح - كثريًا من الكريستال يغمر المكان نورًا بوجهه الآتي من القرن الحادي
عشر الهجري يقلب بصره في وجوه الحاضرين بابتسامة صادقة يحاول كل من في
المجلس أن يختزنها، وكم يود لو حولت إلى فتات من المسك ليودعها خزائن
الذاكرة، ومخازن الأفئدة. وعلى يساره انتصبت خزانة ذات رفوف - أعتقد أن
القرية كلها خلت من نظير لها، إلا ما استقر في أذهان الشيبان عن أثاث المجالس
القديمة - ثبتت هذه الخزانة في الجدار، مزدانة بدلال القهوة مرصعة بأباريق
الشاي، وفي سفح هذه الخزانة كان أبو صالح يستقر مسندًا ظهره إلى جدار توارى
خلفه مستودع (الحطب) وبحركات لتكرارها باتت كأنها آلية (يشب الضو) وهو في
الشتاء مدفأة للجسوم وفي (القيظ) مدفأة للنفوس. ثم يشرع في تنضيد الفناجين
والكؤوس محدثة نغمة موسيقية تشد الحاضرين إلى المجلس، وتنتزع منهم آخر
اهتماماتهم بما هو خارج المجلس، ولا يقطع الصمت إلا كلام (أبي صالح) مرحبًا
بالحضور، متابعًا الأباريق التي تصطلي حر النار دون أن يغفل عن تعليق ينطق
الصمت، ويسيل بحر الكلام.
-2-
وينصب الزوار في مجلس أبي صالح، على اختلاف طبقاتهم وتشعب
همومهم الدينية والدنيوية والفكرية. كبار موظفي الدولة، مدرسو الجامعات،
التجار، الفراشون، الكل يخلعون جميع ألقابهم ومكاناتهم الاجتماعية ليستقروا في
هذا المطهر الروحي الذي يشعرون فيه بالتخلص من أدران الترف، ومستلزمات
الحضارة الطارئة.
وفي فترات اللقاء المتواصلة الحوار، والمستمرة النقاش يتوحد الجميع في
المناقشة، وكثيرًا ما يصغي حملة الدكتوراه - باهتمام صادق - إلى ملاحظة لأحد
الفراشين بتمعن وتروٍ. وهكذا ظلت (قهوة أبي صالح) المنزل الوحيد الذي يجسد
الماضي حجرًا وبشرًا وقبل ذلك فكرًا.
-3-
كان للطعام لذة لا يجدها أحدنا الآن كما كان لكل المتع نكهتها المميزة؛ هل
كان السبب في ذلك قلتها؟ أم لأنها كانت لا تحصل إلا عبر جسر من المتاعب،
فتختلط لذة الطعم بنشوة النصر، على أرض شرسة مسِّيْكَةٍ، يتابع أبو صالح حديثه
قائلاً:
لقد بات الإنسان عبداً للمعارض على اختلاف أنواعها، معارض السيارات
ومعارض الأثاث والأطعمة الدسمة، والثياب المتأنقة، ... الخ، ولكن متابعة
الجديد في هذه الميادين لم تشبع الشهوات التي تستبد بالنفوس. بالله عليكم يا جماعة
الخير - تابع أبو صالح حديثه وهو يجمع بين الحديث ومناولة الضيوف فناجين
القهوة - أليس هذا السعار الدنيوي الاستهلاكي خطر على دنيانا قبل آخرتنا؟ وعلى
رجولتنا قبل قلوبنا؟ إنه تدمير لحصون المناعة في النفوس، وغذاء للاسترخاء
والتراخي، بل إنه عبادة للدنيا [مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وحَبِطَ
مَا صَنَعُوا فِيهَا وبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
علت الجالسين سحابة من الصمت ثم الاسترجاع والحوقلة سوى ما كان من
الشيخ (أبي سعد) رجل الأعمال الناجح والرحالة الذي لا يكاد يضع عصا التسيار،
فقد أجاب أبا صالح قائلاً:
هون عليك يا أبا صالح، ففي الحاضر من المشكلات والإشكالات ما يتعدى
البكاء على الأطلال، إن العمل من قبلك على مد الجسور بين الجيلين - الشباب
والشيوخ - يحقق للإسلام مصلحة أكبر من نشوة النصر الآتية من نسف هذه
الجسور. لقد أتى على هذه الصحراء حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، ثم
أخذت الحياة تدب في أنحائها، وأخذت الخضرة - إحدى ألوان الحضارة - تنعش
الصمت الرائن على قلبها، وتبعثر السكونية الجاثمة على صدرها؛ وهكذا امتد بنا
العمر حتى رأينا البحر الأخضر موازيًا للبحر الأحمر.
يا أبا صالح - ولا يهون الجماعة - لقد احتفظت هذه الصحراء بالكنوز التي
استؤمنت عليها، ثم أدت الأمانة؛ وما علينا إلا أن نعرف كيف نؤدي دورنا كما
أدت هذه الأرض دورها. مجلسك هذا في كثير من البلدان صار تابعًا لإحدى دوائر
مصلحة السياحة، لأن الإنسان قد غدا إنسانًا آخر، لم يبق من الماضي فيه شيء،
سوى بقية دمع في موانىء العيون، وعاطفة دينية تنبعث من رقدتها في بعض
المناسبات والمواسم فحسب، انقطعت الصلة بين مؤسسات الماضي والحاضر. هذا
رائي، ولا مانع أن نسمع رأي الأستاذ أمين، فما أدري (إيش) رأي الأستاذ أمين
فما قلت؟
- ما عقب كلامك يا أبا سعد.
- هذا تواضع منك يا أستاذ أمين فجهدك ملموس مع أولادنا، بالمدرسة،
والناس يسمونك قنطرة الجيلين، والجسر الذي يعبر عليه الشيوخ إلى عالم الشباب، ويطل منه الشباب إلى عالم الشيوخ.
- لدي إضافة قصيرة لما قلته يا أبا سعد وهي:
إن التاريخ من خلال (قهوة أبي صالح) وأمثالها لم يدخل المتحف، وهو بحد
ذاته مكسب عظيم، والفضل في ذلك لله ثم لأمثال هذه القهوة، لكنني أخشى أن
تتحول النظرة إلى تاريخنا العظيم إلى أنه مجرد تاريخ ماض لا مجال لاستئنافه،
يوفر التفكه بهذا التاريخ مادة دسمة للزائرين يتحدثون فيها اغتيالاً للأوقات التي
أصبحت عبئاً اكثر منها ثروة.
صاح أبو صالح وقد علت وجهه ابتسامة رقيقة موجهاً حديثه للأستاذ أمين
وأبي سعد:
حدثوا الناس حديثًا تبلغه عقولهم.
أجابه الشيخ سعد:
يا أبا صالح حديثنا لم يتجاوز المدركات، ولم يدخل منطقة الإعجاز، كل
الذي أخشاه أن يصبح حضورنا في هذا العصر مظهريًا محضًا، ففي مجلس يتردد
اسم ابن تيمية ما لا يحصى مرارًا، وتتساقط كالسيل الأتي شهادات الثناء المرسلة
إليه، وتتسابق دعوات الترحم عليه، ولكن للأسف لم يتمكن ابن تيمية - عمليًا -
حتى الآن من تجاوز قهوتك إلا في حالات نادرة..
إنني أخشى أن يقتصر دورنا وينحصر في (حراسة) ابن تيمية، مجرد تصور
هذا الدور كارثة حقاً.
ابن تيمية مازال حيًا بالرغم من كل العواصف التي اجتهدت في نسخ اسمه
وطمس فكره من مدرسة المفكرين الكبار والمصلحين الأتقياء.
ولكن يا أبا صالح أخشى أن تسكرنا هذه الفكرة وتلقي في روعنا أن الإشارة
والمدح لهذا المفكر وذلك الفكر هما دورنا نحوه.
ثم التفت أبو سعد إلى الأستاذ أمين قائلاً:
أقرأ في وجهك كلامًا، تفضل يا أستاذ أمين.
إن كلامك يا شيخ يذكرني بما كنت أراه صغيرًا في قريتي، فقد كنت أرى
المصحف معلقًا في الجدار، وقد أودع ثوبًا قشيبًا مطرزًا بقصب، وربما ظل على
تلك الحال أيامًا وشهورًا طوالاً.
موقفنا من ابن تيمية - والحال هذه - يلتقي في النهاية مع موقف أعدائه منه،
وهو أن تظل أفكاره تتنقل بين الأفواه والأسماع، ومن رسالة ماجستير إلى رسالة
دكتوراه، دون أن تتاح لها فرصة العمل، وهنا يحضرني قول أحد شعراء الحداثة
المعاصرين، في وصف مثل هذه الحالة:
الحياة تجف في عينيه، إنسان يموت
والكتب والأفكار مازالت تسد جبالها وجه الطريق
لم يكن (محمد الباحث) معنياً بشيء من النقاش الدائر في (قهوة أبي صالح) إلا
من ناحية واحدة، وربما ضاق ذرعًا به، ولذلك ما أن أتم الأستاذ أمين حديثه حتى
قال بتغيظ لم يقو على إخفائه.
لا أدري هل أبقت تطورات الحياة مكانًا أو دورًا لابن تيمية وأمثاله؟ ثم لماذا
ابن تيمية بالذات؟ فأنا لا أسمع في هذا المجلس إلا اسمه؛ ألا يوجد من مفكري
الإسلام ممن جاءوا بعده من يسد مسده؟
- والله ما مثل ابن تيمية مع غيره من العلماء إلا كما قال أبو نواس:
متى تحطِّى إليه الرَّحل سالمة ... تستجمعي الخَلْق في تمثال إنسان
- إنها مبالغة يا أستاذ أمين.
- لا والله يا أبا سعد لقد شغل ابن تيمية عصره، وكان حضوره لافتًا، لأنه
لم يكن تكرارًا لغيره، ولا مفكر أوراق (الكربون) الذي يواجه مشاكل عصره بعقول
غيره، أو بأفكار (مبسترة) مسبقة الإعداد، لقد كان غواصًا يعود باللآلئ بحاثة لا
يرتضي الحلول الملفقة، وعلى المستوى الاجتماعي استأنف التواصل مع العامة -
بعد أن غاب ذلك التواصل أو كاد - إبان عصره، حتى كانت العامة تعتقد أنه
إمامها وشيخها وأن همومها تقلقه وتشغله، ودعاة الضلال أزعجهم ذلك لأنه اختطف
منهم السيطرة على مواقعهم التقليدية، أما علماء عصره البارزون فلم ير المطالع
لسيرة حياته إلا تلك السيرة الطيبة التي كان يسيرها معهم، وأخيرًا لا آخراً فبلاط
الحكم في دمشق والقاهرة لم يفتقده، مكبلاً بالأصفاد تارة، منذرًا ومحذرًا من أخطار
التتار والطابور الخامس تارة أخرى. إنه الحضور المتفاوت المكان المتكامل الدور..
- جزاك الله خيرا يا أستاذ أمين. إن حضور ابن تيمية هو الذي ذكرت،
وحضورنا الآن حضور باهت ليس له قيمة، لقد بات ابن تيمية ضميرنا الإسلامي،
مبعث راحتنا ومصدر ألمنا في آن معًا.
-كيف ذلك يا أبا سعد؟
نرتحل إلى فكره فنجد للحياة لذة غير التي اعتدناها في عالم الناس، ونحاول
أن نبحر في سفائنه فتنتصب الأمواج عالية حتى تكاد تفقد الربابنة الرؤية، وتنتزع
من الركاب الطمأنينة وذلك مصدر ألمنا.
أردنا أن نطلق ابن تيمية من سجن القلعة، فدخلنا به سجن الغربة.
(طوبى للغرباء) أنهى أبو صالح الحديث بهذه الكلمة، ثم قام الجميع لأداء
صلاة المغرب.(10/52)
أدب وتاريخ
نور من الوحي
شعر: أبي معاذ الخالدي
نور أضاء من البطحاء وائتلقا ... حتى بدا ذا جلال يغمر الأفقا
نور من الوحي وهاج أصيب به ... هامُ الظلام وهامُ الظلم فانفلقا
نور من الذكر والتنزيل يحمله ... جبريل مبتدئًا باسم الذي خلقا
يا رب شكرًا على نعماء سابغة ... أنت المنزل وحيًا هاديًا فرقا
أجبت دعوة " إبراهيم " حين دعا ... وابن البتول ببشرى المصطفى صدقا
يا فرحة الكون بالمختار.. موكبه ... رهط من الملأ الأعلى قد ارتفقا
أنقذت فيه بلادًا -أنت بارئها ... وصنت هدي النبيين الذي سبقا
هذي النبوات في التاريخ مرحمة ... للعالمين ... وتأديب لمن فسقا
يهدي بها الله أقوامًا فيجمعهم ... وليس ما يجمع الرحمن.. مفترقا
فلم يعد سر تجميع الورى نسبا ... من الجدود.. ولا دارًا.. ولا طبقا
هذي الروابط سخف لا يقر به ... إلا الذي عن سبيل الله قد مرقا
ما الأرض إلا تراب.. ليس يعبده ... موحد.. لا ولا يرضاه منطلقا
وما الحظائر للإنسان يسكنها ... ما دام يستشعر الإيمان والخلقا
تلك الطواغيت أوثان يقدسها ... عبيد إبليس عن غي ومحض شقا
منهاجنا الحق.. إسلام يوحدنا ... فلا نكون على إسلامنا فرقا
مهما نأى منزل.. مهما نأى زمن ... فالمنهج الحق للنائين خير لقا يا رب ثبت عبادًا خلصًا سلكوا ... درب النبيين.. واجعل هديهم فلقا(10/58)
أدب وتاريخ
حول حروف الجر
منصور الأحمد
-1-
من منا لا يعرف أكثر حروف الجر؛ ولا يعرف أثرها على الاسم وهو جره
بالكسره، إذا كان مفردًا، وبالياء إذا كان مثنى أو جمعاً، وأنها من علامات الأسماء، فلا تدخل إلا عليها؟
ولكن، ما سبب تسميتها بحروف الجر؟
السبب في ذلك لأنها تجر معنى الفعل قبلها إلى الاسم بعدها، وتسمى أيضاً
(حروف الإضافة) ، لأنها تضيف معاني الأفعال قبلها إلى الأسماء بعدها. وذلك لأن
من الأفعال ما لا يقوى على الوصول إلى المفعول به، فيتقوى بهذه الحروف، كما
تقول:
(جلست على الكرسي) و (رحبت بسعيد) ولو قلت: (جلست كرسياً)
و (رحبت سعيدًا) لم يصح لضعف الفعل اللازم عن الوصول إلى المفعول به، ما لم
يستعن بحرف الجر.
-2-
كما أن استعمال حروف الجر يسبب كثيًرا من الصعوبات لدارس اللغة
الإنكليزية؛ فهو كذلك في اللغة العربية، ويقع الكاتبون في أخطاء كثيرة في
استعمالهم لهذه الحروف، حيث إن اختيار كل حرف لكل معنى من معانيه المتعددة
يتطلب دقة ومراناً لا يتأتى إلا من خلال القراءة الكثيرة للأساليب الصحيحة،
وملاحظة ذلك عند الكتابة أو الارتجال.
وزيادة في الإيضاح نقول: إن من الأفعال ما يختلف معناه باختلاف حروف
الجر التي يتعدى بها، فمثلاً: الفعل (رغب) فعل لا يتعدى بنفسه، بل يحتاج إلى
حرف جر يحدد معناه، ويختلف هذا المعنى باختلاف حرف الجر الذي يعقبه:
فقولك: رغبت في الأمر.
غير قولك: رغبت عنه.
وهذا غير قولك: رغبت إليه أن يفعل كذا، وهكذا.
ولهذا لا يصح أن يقال: (رغبت أن أفعل كذا) لأن من يسمع ذلك لا يدري:
هل رغبت في الفعل، أم في تركه؟
-3-
تقرأ أحيانًا في بعض الكتابات:
(ذهبت إلى عنده) وهذا خطأ شائع لأن الظروف (لدى، لدن، عند) لا تجر
إلا بحرف الجر (من) ، والصواب أن تقول: (ذهبت إليه) .
-4-
كثيرًا ما يقع الخلط في الاستعمال بين (اللام) و (إلى) من حروف جر.
فمثلاً: اتجه المصلي للقبلة. هذه الدار إلى فلان.
وهذان الاستعمالان كلاهما خطأ، والصحيح فيهما أن يقال:
اتجه المصلي إلى القبلة. هذه الدار لفلان.
وكذلك يقع الخلط كثيرًا بين (الباء) و (في) .
فمثلاً: جلست بالسيارة. كتبت في القلم.
كلتاهما خطأ، والصواب:
جلست في السيارة. كتبت بالقلم.
وإذا أردت أن ترتقي بأسلوبك: كتابة وخطابة وحديثًا، من حيث دقة استعمال
حروف الجر فراقب ورود هذه الحروف في القرآن الكريم، وأمعن النظر في
الأفعال التي تعدت بهذه الحروف، أو المشتقات التي تعلق بها الجار والمجرور،
وستجد ذلك مرجعًا قريبًا وغاية في النفع بإذن الله.(10/60)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
التتار في شبه جزيرة القرم
يرجع تاريخ تواجد التتار في شبه جزيرة القرم إلى أيام العصر الذهبي لدولة
المغول التتار واحتلالهم للجزيرة في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي
وما تبع ذلك من ظهور كيان مستقل في مطلع العقد الرابع من القرن الخامس عشر
لما اصطلح عليه فيما بعد بـ " تتار شبه جزيرة القرم "
لمحة تاريخية:
دخل الإسلام شبه جزيرة القرم في أواخر القرن الثالث عشر، وعم انتشاره
أرجاءها مع مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، وتتار القرم كلهم مسلمون سنة
ويتكلمون لغة محلية شديدة التأثر باللغة التركية، وينحدر البعض منهم من أصول
تركية جاءت عن طريق القبائل التركية التي استوطنت الجزيرة في عهود مبكرة
قبل غزو المغول لها. وحكمت الجزيرة منذ نشوء الدولة المستقلة فيها سلالة
(Girey) (ربما تكون خيري والله أعلم) وازدهرت حضارة دولة التتار هذه
واتسعت رقعتها حتى شملت المناطق المتاخمة للسهول المحاذية للبحر الأسود، وبعد
وصول الفتوحات العثمانية إلى تخوم المستعمرات الرومانية على ضفاف البحر
الأسود بثلاثة أعوام وبالتحديد عام 1478م قبل مسلموا التتار بسيادة الخلافة
العثمانية عليهم إلا أن الجزيرة بقيت تتمتع باستقلالية صنع قراراتها المحلية حتى
حين. وفي القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين كان لمسلمي القرم شأن آخر
فقد قويت دولتهم وعظم شأنهم وأصبحت لهم القدرة على حشد الآلاف من الفرسان
وعدد ضخم من المقاتلين فشكلوا بذلك قوة أقليمية ضاربة يحسب لها حسابها. لقد
أقلق وضع المسلمين الجديد هذا بال جيرانهم لاسيما القياصرة منهم وبدأوا يعدون لهم
الكمائن والفخاخ للإيقاع بهم وإجهاض نهضتهم هذه التي أقضت مضاجعهم فلم يهدأ
لهم بال ولم يقر لهم قرار وهم يرون هذه الدولة المسلمة الفتية التي باتت تشكل
شوكة في أعناقهم وعامل استنهاض مكين لبقية الشعوب الإسلامية المبتلاة بهيمنتهم
وهمجيتهم. وهكذا بدأت أعمال التحرش والاستفزاز تظهر في الأفق شيئًا فشيئًا بين
المسلمين وبين إمارة موسكو المتنامية القوة ثم ما لبثت أن تحولت هذه الاستفزازات
إلى مواجهة عسكرية شاملة وظهر المسلمون على أعدائهم في بادئ الأمر ونجحوا
في الإغارة على موسكو ذاتها عدة مرات ووصلوا إلى أسوارها وحاصروها في عام
1571 م بل وفرضوا الجزية على أمرائها ثم امتدت غاراتهم المستمرة والمنتظمة
لتشمل فيما بعد بقاع أخرى إلى الشمال من موسكو، ووصلوا حتى حدود بولندا
غربًا. إلا أن الكفة ومع مطلع النصف الثاني من القرن السابع عشر أخذت ترجح
لصالح القياصرة الذين حققوا بعض الانتصارات التي أعادت إليهم شيئًا من الثقة
بالنفس فكانت حافزًا لهم للثأر لهزائمهم المتكررة. وعلى الرغم من هزيمتهم النكراء
على يد مسلمي القرم وحلفائهم العثمانيين في عام 1711م إلا أنهم عادوا وغزوا
الجزيرة بعد سلسلة طويلة من الحروب دارت بينهم وبين الدولة العثمانية في الفترة
ما بين 1735-1739م و1768-1774م والتي اضطر العثمانيون في نهايتها إلى
التخلي عن سيادتهم على السواحل الشمالية للبحر الأسود وأعقب ذلك انفصال دولة
القرم عن السيادة العثمانية وإعلانها دولة مستقلة.
وفي حقيقة الأمر فإن القياصرة لم يمنحوا الجزيرة استقلالها البتة بل على
العكس من ذلك فقد جعلوا منها ولاية جديدة تدور في فلكهم ونصبوا عليها حكامًا
ينفذون لهم رغباتهم التي يملونها عليهم كما يفعلون اليوم في أفغانستان، ولم تكن
هذه المرحلة من تاريخ الجزيرة تمثل غاية أطماع القياصرة فيها، بل كانت جسرًا
يوصلهم إلى هدفهم الأسمى وهو ابتلاع الجزيرة وضمها بشكل نهائي. وجاء مطلب
ملكة القياصرة (كاترين) في 1783م بضم الجزيرة مجسدًا لمخاوف المسلمين
وتوقعاتهم القديمة والتي نشأت منذ تخلي العثمانيين عن الجزيرة، مما حدا بالآلاف
منهم إلى ترك مدنهم وقراهم واللجوء إلى حمى الدولة العثمانية.
وبالفعل فقد حقق القياصرة حلمهم بعد فترة قصيرة واحتلوا الجزيرة وباشروا
على الفور في تنفيذ سياساتهم في طمس هوية وتاريخ المنطقة، فشرعوا بإلغاء
الأسماء المحلية للمدن والقرى واستبدلوها فيما بعد بأخرى يونانية. وكترسيخ لهذا
المبدأ ومنذ مطلع عام 1784م أخذوا بمصادرة جميع الأراضي ذات الأهمية
الاستراتيجية والزراعية من أصحابها الشرعيين وقاموا بتوزيعها فيما بعد على كبار
المسؤولين ومن ثم على المستوطنين الجدد الذين استقدموا بأعداد كبيرة من مناطق
مختلفة في عام 1790 م، ومن جهة أخرى فلقد كانت أحداث عام 1829م وما
تضمنته من اعتراف الدولة العثمانية بسيادة القياصرة على جزيرة القرم بمثابة
قاصمة الظهر التي حرمت مسلمي الجزيرة من آخر أمل لهم في استعادة استقلالهم
الأمر الذي دفعهم للقيام بهجرات جماعية ضخمة في تلك الفترة تلتها هجرات أخرى
أضخم في الفترة ما بين 1860-1870م و1891-1902م ترك فيها مئات من
العوائل مدنهم وقراهم في موطنهم الأم واتجهوا إلى حياض الدولة العثمانية.
ولم يكن المسلمون الذين آثروا البقاء في موطنهم بأوفر حظًا من إخوانهم الذين
هاجروا بدينهم، فقد وقعوا ضحية جريمة نكراء نفذها القياصرة الصليبيون في
الفترة ما بين 1860-1863م أرغموا فيها على هجر مدنهم وقراهم والرحيل إلى
أواسط آسيا وبالتحديد إلى ما يعرف اليوم بجمهورية كازاخستان. ولا أدل على
خبث مرامي ذلك المخطط الإجرامي الذي نفذ في حقهم مما ذكرته إحصائيات عام
1897م من أن عدد المسلمين الذين تبقوا هناك بات لا يشكل سوى نسبة ضئيلة لا
تتجاوز ثلث مجموع سكان الجزيرة، وأن غالبيتهم من الفلاحين والأميين، في حين
بلغت نسبة المستوطنين الجدد من الروس والأوكرانيين 45 %. وفي عشية قيام
الثورة الشيوعية كانت نسبة 40% من الفلاحين المسلمين مازالت لا تملك أرضًا
تزرعها وتقتات منها، هذا بالإضافة إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية.
ما بعد الثورة الشيوعية:
في أعقاب الثورة الشيوعية (17/10/1917) سادت الحرب الأهلية وحالة
الفوضى أرجاء روسيا مما تسبب في غياب السلطة المركزية وانكسار الطوق
الحديدي الذي كان مفروضًا من قبل القياصرة على شعوب المنطقة التي كانت ترزح
تحت نير حكمهم، ورافق تنامي قوة الشيوعيين واستقرار الأمور لصالحهم زيادة
المخاوف لدى مسلمي القرم حيال مستقبلهم الذي بات يكتنفه الغموض أكثر من أي
وقت مضى بعد سلسلة المجازر الجماعية وحمامات الدم التي ارتكبتها أيادي البلاشفة
الحمراء في حق شعوبهم من أجل الوصول إلى دفة الحكم، فكيف بهم وهم
المسلمون حملة تهمة الإسلام الخالدة وكفى بها من تهمة.
وسط هذه المخاوف وحالة الفوضى التي عمت البلاد نجح أهالي القرم في
إنشاء حكومة مستقلة لهم في منتصف شهر تشرين الثاني من العام ذاته، إلا أن
الوضع الجديد هذا لم يلق استحسانًا لدى الشيوعيين فأرسلوا إليهم إنذارًا شديد اللهجة
طالبوا فيه أفراد الجيش بتسليم أنفسهم وإلقاء أسلحتهم خلال فترة أربع وعشرين
ساعة من صدور الإنذار. وما هي إلا ساعات قليلة حتى اكتسحت القوات الشيوعية
البرية والبحرية شبه الجزيرة واحتلتها بأكملها وحلت حكومتها المستقلة في 25 / 1
1918م أي بعد ثلاثة أشهر فقط من قيامها، وتعتبر هذه الفترة الوجيزة هي الفترة
الوحيدة التي نال خلالها أهالي القرم استقلالهم منذ أن اكتسحت جيوش القياصرة
بلادهم في عام 1783م كما سبق.
وشرع المسلمون بالهرب من الجزيرة، واعتصمت أعداد كبيرة منهم في
الجبال خشية المذابح التي عرف الشيوعيون بها. وبالفعل ففي شهري شباط وآذار
من العام نفسه نفذ الشيوعيون مجازر رهيبة في عدد من مدن المسلمين راح
ضحيتها الآلاف من الأبرياء، وتكاتف المسلمون بقوة في وجه هذا المد الهمجي
الأحمر. وذكر شهود عيان في شهر أيار من نفس العام أنهم عثروا في مدينة
(سمفر بولو) كبرى مدن الجزيرة على قبور جماعية يحوي الواحد منها مالا
يقل عن 1500 شخص.
وفي أعقاب ذلك (6/3/1918م) ، وكمحاولة لتهدئة الأوضاع، بادر البلاشفة
بالإعلان عن تشكيل ما أسموه بحكومة محلية وحاولوا، ولكن بدون أي جدوى إسناد
بعض المناصب الحكومية لشخصيات مسلمة مرموقة، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً
على ذلك فبعد مرور عامين فقط على تشكيل تلك الحكومة بدأ الشيوعيون بسحب
المناصب الحكومية المهمة من أيدي الأهالي وأسندوها إلى رفاقهم، وهذا ولاشك هو
أبسط معاني الحرية لديهم، وما أحداث جمهورية كازخستان المسلمة عنا ببعيدة.
إلا أن لينين أدرك بعد فترة قصيرة من توليه دفة الحكم أهمية منح الأقليات
العرقية شيئًا من المكاسب في هذه المرحلة الفتية من عمر الثورة إذا ما هو قرر
الإبقاء على إمبراطورية أجداده، فقرر إعطاء نوع من الحكم الذاتي لبعض المناطق
الحساسة كتلك التي يشكل فيها المسلمون نسبة عالية وأطلق بعض الحريات وسمح
بتدريس اللغات المحلية كما أنه أفسح بعض المجال أمام الأقليات للمشاركة في صنع
القرارات المحلية في الوقت الذي احتفظت فيه الحكومة المركزية في موسكو لنفسها
بالهيمنة المطلقة على الوزارات والمؤسسات الرئيسية وتعيين الوزراء وكبار
مسؤولي الأقاليم، الأمر الذي لم يلق قبولاً لدى زعماء المسلمين مما دفعهم إلى
المطالبة بمنحهم استقلالية حقة تكفل لهم صنع قرارهم السياسي المستقل، إلا أنهم
ومع ذلك لم يجنوا من وراء مطالبهم تلك سوى الوعود البراقة التي بقيت حبراً على
ورق.
ولا شك أن لينين لم يكن ليلجأ إلى مثل هذا النوع من التعامل إلا لكسب تلك
الأقليات إلى جانبه حينًا من الدهر أو على الأقل ضمان حيادهم، وهذا فن في
التعامل مع الشعوب ذكي ما زال عليه كثير من طغاة اليوم، إلا أنه ومع كل أسف
لم يزل هناك كثير من الطيبين من الذين لا يستقون من التاريخ عبرًا ومن الماضي
دروسًا ممن تنطلي عليهم هذه الأحابيل فتراهم يحسنون الظن بكل وجه جديد يطل
عليهم بل وتجدهم وفي طليعة المؤيدين له والمبررين لبعض نواقصه فيكونون بذلك
أداته الأولى التي يثبت بها نفسه حتى إذا ما تحقق له ذلك كانوا هم أول ضحاياه.
ومن جهة أخرى كان للسياسات التي نفذها البلاشفة منذ اليوم الأول لاستيلائهم
على السلطة بالغ الأثر على سير الحياة في الجزيرة فعلى سبيل المثال أدت سياسة
مصادرة الأراضي الزراعية وتهجير الفلاحين وهيمنة الدولة على مساحات شاسعة
من المزارع وصلت إلى 50% من مجموع الأراضي إلى هبوط مستوى الإنتاج
الزراعي بشكل رهيب لم يسبق أن عرفت الجزيرة له مثيلاً مما أدى إلى حدوث
مجاعة مروعة أودت بحياة عشرات الألوف من السكان، فقد وصل معدل الوفيات
في بعض المدن إلى 50% في حين انخفض عدد سكان الجزيرة بمعدل 21% وقد
استغل البلاشفة أحداث المجاعة أبشع استغلال كوسيلة لتركيع شعب الجزيرة لهم،
وقد ظهر ذلك في أوضح صورة عند منعهم لوصول إمدادات الحبوب التي بعثت بها
تركيا إلى المتضررين حيث تم تحويلها إلى مناطق أخرى، وسادت الفوضى أنحاء
الجزيرة وكثرت حوادث السرقة وباتت أكثر من أن تحصى لاسيما من قبل جنود
الجيش الأحمر الذين أطلق لهم العنان ليعيثوا كما يشاؤون. وأدى غياب العقاقير
الطبية وتردي الأحوال الصحية إلى تفشي الأمراض التي فتكت بالإنسان كما فتكت
بالحيوان.
ونشرت جريدة (أزفستيا) الروسية الصادرة في 15/7/1922 تقريرًا للرفيق
كالينين جاء فيه أن عدد متضرري المجاعة في شهر شباط بلغ (302. 000) مات
منهم (14. 413) وفي شهر آذار ارتفع عددهم ليصل إلى (379. 000) مات
منهم (19. 902) وفي شهر نيسان (377. 000) مات منهم (12. 754) كما
ذكر التقرير أن أكل لحوم البشر لم يكن أمرًا غير مألوف.
وبعد مرور ما يقرب من أربعة أعوام على هلاك لينين ومجيء ستالين إلى
السلطة (كانون ثاني1928) دخلت الجزيرة طورًا جديدًا من أطوار حياتها السياسية
الحافلة بالمآسي، ففي تلك السنة أقدم ستالين على حملات تطهير وإبادة جماعية
شعواء ردت إلى الأذهان المذابح التي اقترفها المغول اّبان غزوهم لعاصمة الخلافة
العباسية بغداد، ولم تقتصر تلك الحملات على شبه جزيرة القرم فقط بل امتدت
لتشمل سائر الجمهوريات المسلمة الرازحة تحت نير حكمه البغيض. ونفذت أحكام
الإعدام بأعداد كبيرة من رجال الدين وأغلقت المساجد والمدارس الدينية وحوّل كثير
منها إلى نواد رياضية واصطبلات، كما شرعوا بهدم المساجد فلم يبق من (1558)
مسجدًا إلا قليل يعد على الأصابع، وكمحاولة يائسة منهم لفصل المسلمين عن دينهم
وتاريخهم العريق قاموا باستبدال الحروف العربية باللاتينية وتزامنت هذه الحملة
الخبيثة مع حملة أتاتورك المشابهة في تركيا.
كما أرغم ما بين 30 - 40 ألف من فلاحي القرم على ترك مزارعهم
والرحيل إلى مناطق الأورال وسيبيريا الأمر الذي أدى فيما بعد إلى وقوع مجاعة
أخرى في عام 1931 كنتيجة لنقص المحاصيل الزراعية راح ضحيتها أعداد
ضخمة من السكان في الوقت الذي كانت تقوم فيه الحكومة الشيوعية بجمع وتصدير
ما تنتجه الجزيرة من محاصيل من أجل الحصول على العملة الأجنبية وذلك لدفع
عجلة الثورة الصناعية في البلاد على حد زعمهم.
عملية التهجير ورحلة الهلاك:
في أواخر العقد الثالث من هذا القرن ازدادت حدة التوترات بين روسيا
الشيوعية وألمانيا الهتلرية التي باتت جيوشها المكتسحة على أبواب روسيا، وظهر
شبح الحرب في الأفق وبدأت الشكوك والمخاوف تساور ستالين حيال ولاء بعض
الأقليات العرقية القابعة تحت حكمه لاسيما تلك التي تتمركز في الأقاليم الغربية مما
يعرف اليوم بالاتحاد السوفييتي كشبه جزيرة القرم وشمال القوقاز والتي تمثل بحكم
موقعها الاستراتيجي الخط الدفاعي الأول في وجه الجيوش الألمانية المتقدمة.
ومنذ ذلك الحين وستالين يهم بالتخلص من سكان هذه الأقاليم الحساسة وذلك
بنفيهم إلى الأقاليم الداخلية من روسيا وأواسط آسيا. إلا أن التقدم السريع الذي حققه
الألمان على جبهات القتال باتجاه روسيا حال دون تنفيذ ذلك المخطط. ومع اكتساح
الألمان لشبه جزيرة القرم في أواخر السنة الثانية للحرب (تشرين الثاني 1941)
انخرط عدة مئات من الآلاف من أهالي الجزيرة - بما فيهم الروس - في صفوف
الجيوش الغازية وقاتلت جنبًا إلى جنب ضد الجيش الأحمر، وكان من بين أولئك
عدة آلاف من المسلمين التتار. وما من أدنى شك أن كراهية المسلمين المقيتة
للشيوعيين وأملهم في تطهير جزيرتهم منهم كان الحافز الوحيد وراء تواطئهم مع
الألمان.
ومن جهة أخرى فقد قاتلت أعداد كبيرة من مسلمي الجزيرة في صفوف
الجيش الأحمر ذودًا - في ظنهم - عن حياض الوطن، وأملاً في أن يلقى ذلك
تقديرًا وإجلالاً من الرفاق الحمر. وتحدثت الصحف الروسية في حينها عن
البطولات النادرة التي سطرها المسلمون التتار ضد الجيوش النازية، كما حاز عدد
منهم على أوسمة البطولة التي لا تمنح في العادة إلا في الحالات النادرة.
ومع بداية الهجوم الروسي المعاكس في 8 / 4 /1944 وبداية تراجع الألمان
ومن ثم إخلائهم لمعظم أرجاء الجزيرة شرع الشيوعيون وعلى الفور بتنفيذ عقوبات
الإعدام بحق كل من اشتبه به التعاون مع الألمان، وتحدثت التقارير في حينها عن
المجازر الجماعية التي أقيمت في الطرقات والتي راح ضحيتها ألوف من المسلمين، ولم يشفع لبعضهم قتالهم في صفوف الجيش الأحمر. كما شنت الشرطة السوفيتية
السرية غارات ليلية مكثفة ومتكررة على منازل المسلمين التتار أجبرتهم فيها وتحت
وطأة السلاح على ترك منازلهم ومدنهم استعدادًا لمغادرة المنطقة بأسرها.
وعومل المسلمون معاملة وضيعة لا تليق ببني الإنسان. فقد كشفت وثيقة
سرية -كشفت فيما بعد-محتوى لرسالة كتبت في عام 1968 من قبل أحد الروس
ممن كانت تربطه صداقة ببعض مسلمي الجزيرة جاء فيها: إن بعض العوائل كانت
قد أعطيت مهلة خمس عشر دقيقة لأخذ أمتعتها والاستعداد للرحلة الطويلة! ! في
حين لم يعط آخرون سوى خمس دقائق لمجرد التجمع قبل السفر كما أنهم منعوا من
اصطحاب أي من ممتلكاتهم حتى ظن كثير منهم أنهم أخذوا ليقتلوا! ! ..
ولنكمل قراءة ما جاء في هذه الرسالة من أمور تشيب لها الولدان، تمضي
الرسالة فتقول:
كلا إنهم لم يؤخذوا ليقتلوا، لقد كانت رحلة الموت البطيء في عربات
المواشي المكتظة بالناس والشبيهة بخزانات نقل الغاز، استغرقت الرحلة التي
أخذت طريقها عبر سهول كازاخستان ذات المناخ الصيفي المحرق من ثلاثة إلى
أربعة أسابيع، لم يستثن أحد من رحلة العذاب هذه حتى المرضى والعجزة، أما
البقية الباقية من الذين كانوا في جبهات القتال فإنهم عادوا بعد انتهاء الحرب ليجدوا
عمليات التهجير بانتظارهم وليلحقوا بأزواجهم وأطفالهم الذين (شحنوا) قبلهم.
لقد حصد الموت العجزة والضعاف، حتى الفتية لم تحتمل أجسامهم ذلك العناء لقد حصدهم الجوع والاختناق والنتانة، ومع طول أمد الرحلة أخذت الجثث بالتفسخ وسط تلك العربات المختنقة بالزحام، ولم يسمح للمهاجرين بدفن موتاهم أثناء الوقفات القصيرة التي كان يتوقفها القطار للتزود بالماء والطعام، بل كان عليهم تركها بجانب السكة ".
يا لها من مبادئ سامية نبيلة تلك التي أتتنا بها الشيوعية، ويا لها من دعاوٍٍ
وشعارات صادقة تلك التي يعد بها المناضلون الشيوعيون شعوبهم وأتباعهم، إن
نتانة خلقهم الذي جبلوا عليه لتفوح والله من بين أسطر هذه الرسالة المقتضبة التي
لم تكشف لنا سوى عن نقطة صغيرة وسط محيط متلاطم الأمواج.
لقد تمخضت عملية التهجير تلك عن شحن ما يربو على (250) ألف من
مسلمي القرم إلى مناطق الأورال، سيبريا، كازاخستان، وبقية جمهوريات أواسط
آسيا التي تبعد آلاف الأميال عن مواطن سكناهم.
وفي كازخستان لم تكتف السلطات الشيوعية المحلية بما لقيه المسلمون من
عناء وضنك في رحلتهم تلك بل زادت على ذلك بأن ألّبت السكان المحليين ضدهم
حيث استقبلوهم بشتى صنوف الإهانات التي تراوحت بين نعتهم بنعوت تمس
كرامتهم، ورشقهم في بعض الأحيان بالحجارة، وتفشت في صفوف المهجرين
الأمراض المختلفة كالملاريا والمغص الكلوي كنتيجة لتلوث مياه البرك التي كانت
تمثل مصدر المياه الوحيد لهم، وبسبب رداءة الأغذية وشحتها، ولم يطرأ أي
تحسن على ظروفهم الصحية إلا بعد دخول عام 1945 م حينما تمكنوا من حصد
محاصيلهم التي زرعوها بأنفسهم. كما عانى المسلمون هناك كثيرًا من صرامة
القيود التي فرضت على تنقلاتهم في مناطق سكناهم الجديدة فلم يعد أحدهم قادرًا
على تجاوز حدود مدينته أو قريته. وسنت لمخالفي هذه القوانين عقوبات صارمة
وصلت في بعض الأحيان إلى السجن مدة 25 سنة مع الأشغال الشاقة في معسكرات
العمل وأدت حالة الفقر المدقع التي عايشها المسلمون التتار إلى حرمان أبنائهم من
حق الدراسة في المعاهد العليا.
وضعهم الحالي:
استمرت الظروف القاسية التي ألمت بالمسلمين من أهالي القرم منذ اليوم الذي
شردوا فيه من ديارهم، حقبة من الزمن امتدت إلى ما بعد هلاك ستالين في عام
1953م، إلا أن هلاك هذا الأخير فتح الباب أمام خليفته خروشوف للتحدث عن
جرائمه. ففي حديثه المشهور - الذي لم ينشر في حينه - أمام المؤتمر العشرين
للحزب الشيوعي الذي عقد في شهر شباط من عام 1956 م تطرق خروشوف إلى
جرائم تهجير الشعوب التي أعدها ونفذها سلفه ستالين، وكان مما ذكره في حديثه
أن تهمة تواطؤ التتار مع الألمان كانت تهمة خاطئة! !
ومع أنه هناك من يقول بأن خروشوف أعاد للتتار كثيرًا من حقوقهم التي
سلبهم إياها سلفه كرفع القيود التي كانت مفروضة مثلاً على تنقلاتهم بناء على قرار
نشر في28/4/1956م إلا أن هذا القرار وغيره من القرارات الأخرى لم يرد
لمسلمي القرم حقهم الشرعي في استرداد أملاكهم التي أخذت منهم عنوة كما أنه لم
يعد لهم حقهم المشروع في العودة والاستيطان في موطنهم الأم على الرغم من
تبرئتهم من تهمة " خيانة الوطن " في أيلول 1967م، في الوقت الذي نالت فيه
الأقليات الأخرى موافقة السلطة بالرجوع إلى مواطنها الأصلية منذ عام 1957 م
والتي كانت قد هجرت منها تحت نفس الذريعة.
ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا ومسلمو القرم ما فتئوا يسعون للحصول على
موافقة السلطات للعودة إلى جزيرتهم، فتارة عن طريق تقديم طلباتهم للمحافل
السياسية للحزب، وتارة أخرى بالمظاهرات والمسيرات التي نادرًا ما تحدث في
العاصمة موسكو كما حصل منذ فترة قصيرة من الآن عندما تجمع ما يقرب من
300 منهم في ما يسمى بالميدان الأحمر واعتصموا لمدة 27 ساعة مطالبين بتنفيذ
رغباتهم قبل أن تفرقهم قوات الشرطة. كما قامت الشرطة قبل أيام قلائل بتفريق
حشد آخر منهم أربى على 5000 احتشدوا في مدينة إلى الجنوب قليلاً من مدينة
طشقند عاصمة جمهورية أوزبكستان وكرروا مطالبهم.
ولم يطرأ أي تغير ملموس على مواقف السلطة الشيوعية تجاه تلك المطالب،
فعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية قابلت تلك السلطات مطالب المسلمين بأساليب
مختلفة فتارة باتهامهم بإثارة النزعات العرقية، وأخرى برفع شعارات معادية للدولة
السوفيتية، وثالثة بطرد رموزهم من وظائفهم أو معاهدهم الدراسية وكثيرًا ما
أصدرت في حقهم أحكامًا بالسجن في معسكرات العمل لمدة تتراوح ما بين 5 - 7
أعوام.
كما اتخذت السلطات الشيوعية إجراءات صارمة لضمان عدم عودة المسلمين
إلى جزيرتهم في الفترة التي أعقبت صدور قرار بتبرئتهم فعمدت إلى طردهم من
الجزيرة حال اكتشاف أمرهم ثم قامت بتحذير المستوطنين الجدد من مغبة بيع أو
تأجير بيوتهم لهم وهددتهم بعقوبات صارمة واعتبرت كل عقود البيع أو التأجير تلك
لاغية كما فرضت غرامات مالية على أطرافها.
وكنتيجة لهذه الإجراءات فإنه لم يتبق من مجموع 6000 شخص من المسلمين
ممن وصلوا إلى الجزيرة في نهاية عام 1967م سوى ثلاثة رجال وعائلتين! أما
أولئك الذين نجحوا في الحصول على فرص عمل هناك فإن عمليات الفصل والطرد
كانت بانتظارهم حال التعرف على أصولهم العرقية، كما قامت الشرطة السرية
بغارات دورية على الأماكن التي يشتبه فيها وجود مواطنين مسلمين.
وفي النصف الأول من عام 1972م وسعت السلطات نطاق هذه الإجراءات
لتشمل المناطق المحيطة بالجزيرة وذلك لمنع تمركز العوائل المنفية حولها،
وصحيح أن عدة مئات من عوائل المسلمين أتت إلى الجزيرة من خلال مشاريع
عمل إلا أن هؤلاء اقتصروا على كونهم عوائل فلاحية أمية اشترطت مسبقًا بقاؤهم
وبشكل دائم في المزارع والحقول التي أتوا من أجل العمل فيها وعلى هيئة تجمعات
لا تزيد في حال على عائلتين وفي حالات خاصة على خمس عوائل هذا بالإضافة
إلى حرمان أولادهم من حق الدراسة في المعاهد المتقدمة.
ولم تكن مشكلة ارتفاع عدد السكان في الجزيرة أو وفرة الأيدي العاملة وندرة
فرص العمل هي الباعث على فرض تلك القيود الصارمة، بل العكس هو الصحيح
فإن الحكومة الروسية ما فتئت تحضر العمال الروس والأوكرانيين للذهاب إلى
الجزيرة والعمل فيها في محاولة منها لسد الثغرة الناجمة عن قلة اليد العاملة.
وفي شهر نيسان من عام 1970م كانت هناك خطة لنقل ما يقرب من نصف
مليون من المستوطنين من غير التتار إلى القرم في محاولة للتغلب على تلك المشكلة
في الوقت الذي كانت تعاني فيه جمهوريات آسيا الوسطى حيث قطن التتار-من
زيادة كبيرة في عدد العمال والتي أدت مؤخرًا إلى بدء ظهور حالة البطالة.
وباختصار شديد، لقد حرم مسلمو القرم من أبسط حقوق الإنسان التي يتبجح بها
الرفاق الشيوعيون عند الحديث عن حريات الشعوب، لقد سلبوا حتى من تلك
الحريات البسيطة التي يتمتع بها غيرهم من الأقليات في الاتحاد السوفييتي الذي كان
الأولى أن يسمى الاحتلال السوفييتي فهو في حقيقته احتلال وقهر وهو أبعد ما يكون
عن أدنى مبادئ الاتحاد وإن هو إلا دولة كبيرة (روسيا) جثمت على صدور دول
صغيرة غُلبت على أمرها على حين غفلة منها [*] .
وبعد:
فمعاملة الروس البلاشفة للمسلمين التتار، والتي عرضناها في الصفحات
السابقة؛ ليست إلا نموذجًا مما دأب عليه هؤلاء الشيوعيون، ومن قبلهم آباؤهم
وأجدادهم الروس القياصرة الصليبيون للشعوب المسلمة التي وقعت تحت سيطرتهم.
والدارس لمعاملة هؤلاء للشعوب المسلمة في أواسط آسيا يستنتج أنهم لا يقلون
عداوة للمسلمين عن أضرابهم من الصليبيين الأوربيين، وكذلك فإن هؤلاء
الشيوعيين الذين ورثوا ظلم وطغيان القياصرة لا يختلفون عن هؤلاء إلا بتفننهم في
حرب الإسلام والمسلمين، وابتكاراتهم الدموية، وتقدمهم في مجال الدعاية من أجل
القضاء على كل ما يمت بصلة إلى الفهم الصحيح لهذا الدين من قبل معتنقيه وأهله.
إنهم يكررون كثيًرا كلمات من مثل: (الحرية، السلام، التقدم، العدالة
الاجتماعية، تكافؤ الفرص، الشعوب المحبة للسلام، الديموقراطية، محاربة
الاستعمار ... إلخ) وهم أول من ينتهك هذه المصطلحات، بل إن هذه المصطلحات
نفسها ينبغي ألا تفهم - عندما يتلفظون بها وتدنسها أفواههم - إلا بعكس ما ترمي
إليه حتى يستقيم فهمها مع المقاصد التي تقوم عليها دعايتهم وهى الكذب، وتزوير
الحقائق، وظلم الشعوب وانتهاك حرماتها.
إن الشيوعيين - من أجل الوصول إلى أهدافهم - يستحلون كل محرم،
ويرتكبون كل نقيصة، ولا يتورعون عن ارتكاب كل مخزية، وهم - كنظرائهم
الأوربيين - أبناء موروث ثقافي واحد تقريبًا، من مبادئهم المقدسة أن الغاية تبرر
الوسيلة، والذي يشك في أن الروس والأوربيين جميعًا أبناء ثقافة واحدة تستقي
مثلها من مبادئ اليونان والرومان الوثنيين، بالإضافة إلى المسيحية المحرفة؛ ما
عليه إلا أن يقارن حرص الدول الأوربية على قتل مقومات الشخصية الإسلامية
حيثما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كالحرص على نشر الثقافة الأوربية وقيمها،
وكراهية اللغة العربية، ومحاولة قتل حب المسلمين بل العرب لها، ومحاربة
المصطلحات القرآنية والإسلامية ما أمكنهم ذلك؛ نقول: يقارن ذلك بحرص دول
أوربا الشرقية الشيوعية التي تضم بين شعوبها أعدادًا كبيرة من المسلمين، بفتنة
هؤلاء المسلمين عن دينهم، واستخدام كافة الأساليب لطمس هويتهم، وقطع
روابطهم الإسلامية بدأ من تحطيم بنيتهم، وتهديم مساجدهم ومعاهدهم، وملاحقة من
يرفض الانصياع منهم - ولو سرًا - إلى ما تمليه رغبات هذه الأنظمة، بل وصل
الأمر إلى تدخلهم بأخص خصائصهم وهى أسماؤهم التي لا يسمحون لهم بأن يشم
منها أنهم مسلمون، وبلغاريا مثل معروف لهذا الذي نقول.
وإذا كان من عبرة لنا من عرضنا لهذا الطرف من الظلم للمسلمين، ومن
الحرب الضروس التي يشنها عليهم أعداؤهم، فهذه العبرة أن الظلم والكيد لم يستطع
اقتلاع هذه العقيدة من صدور أصحابها، ومع أنه كانت له آثاره الهدامة في حياة
هذه الشعوب الإسلامية؛ إلا أن ذلك ينبغي أن يدفع المسلمين في كل مكان إلى
الوعي والعمل على فضح أساليب الشيوعية وأساليب جميع الذين يكيدون للإسلام
والمسلمين.
إن المبادئ - الشرقية والغربية - والتي عاشت ولازالت تعيش من عدائها
للإسلام، قد ثبت فشلها، وقدمت حوادث التاريخ وعبره تراجعها سواء على
الأرض، أو في نفوس أصحابها، وهذه بشارة لنا - نحن المسلمين - وحافز لنا،
فهل نكون على مستوى المسؤولية؟ .
__________
(*) المراجع:
(1) Fisher، A (1978) (The Crimeam Tatars) ، Hooyer (Instituthion Press، Stanford Univarsity، Stanford، California
(2) Minority Rights Group، Report No 6، Soviet Treatment Of Some National Minorities
(3) Wheeler G E (1976) (Islam in the Soviet Union) ، Pall Mall Press، London.(10/63)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
نظرة سريعة إلى أحوال المسلمين
في الفلبين
وصلنا من الأخ سلامات هاشم، رئيس (جبهة تحرير مورو الإسلامية)
تقريران فيهما لمحة عن أوضاع المسلمين هناك، وتطورات قضية جهادهم في ظل
نظام (أكينو) الحالي، ويسرنا أن نقدم النقاط الرئيسية التي اشتمل عليها هذان
التقريران كبداية لتعاون مستمر إن شاء الله.
تقترب حكومة (أكينو) من نهاية عامها الثاني، ولم تستطع أن تأتي بدليل
عملي يثبت قدرتها على الخروج من المأزق والأزمات الخطيرة التي وقعت
فيها الدولة أثناء حكم الدكتاتور السابق المخلوع، وإن المشاكل التي أوجدتها
الإدارة الحالية أكثر مما حلته.
والجهود التي بذلتها بغية استقرار الحكومة وإيجاد حلول لمشاكلها السياسية
والأمنية والاقتصادية العويصة قد باءت كلها بالفشل الذريع، والدلائل تشير إلى أن
الحكومة لن تستقر ولن تستطيع أن تحل مشاكلها، بل ربما تتضاعف مشاكلها
بمرور الأيام، إذا قدر لها البقاء لفترة من الزمان، وصدق رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- إذ قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة» .
المحاولات الانقلابية:
شهدت إدارة أكينو خمس محاولات انقلابية عسكرية منذ قيامها في25 فبراير
1986م. ولاشك أن هذه المحاولات الانقلابية المتكررة - رغم فشلها -تدل على
أمور كثيرة منها: ضعف الحكومة، وعدم وجود الثقة المتبادلة بين القيادات المدنية
والعسكرية، حيث إن مؤسسة الدولة العسكرية منقسمة إلى قسمين: قسم موال
للحكومة وقسم ضدها، وإن المحاولات الانقلابية الأخيرة هي أخطر وأقوى من
المحاولات السابقة، ويبدو أنها ليست المحاولة الأخيرة بل ستكون هناك محاولات
قادمة، وربما أقوى من المحاولات السابقة.
وجدير بالذكر أن قائد المحاولات الانقلابية الفاشلة الحديثة مازال متخفيًا وهو
مصمم على مواصلة جهوده للإطاحة بالحكومة الحالية لتحل محلها لجنة مشتركة من
مجموعة من السياسيين والعسكريين.
وكادت المحاولات الحديثة أن تنجح، فقد استولى الثوار على القاعدة
العسكرية الرئيسية وعلى بعض الإذاعات التلفزيونية، ووصلت المعارك إلى أبواب
القصر الرئاسي، حيث مكتب الرئيسة أكينو وسكنها الرسمي، وجرح أثنائها ابنها
الوحيد ولقي حرسه الثلاثة مصرعهم.
التطورات العامة في الفلبين باختصار:
1 - الحكومة الحالية لم تستقر وسوف لن تستقر ولم تحل شيئًا من مشاكلها
العويصة وسوف يستمر هذا الوضع لفترة من الزمان.
2- احتمال تكوين مجلس عسكري سياسي لتولي الحكم مع بقاء السيدة أكينو
رئيسة رمزية إما بدون سلطة أو ببعض السلطات المحدودة. وفي هذه الحالة سوف
تتصاعد الحرب بين الحكومة والشيوعيين، وبينها وبين المسلمين.
3-المخابرات المركزية الأمريكية تلعب دورًا كبيرًا في تسيير الأمور في
البلاد، ولعبت دورًا سيئًا في الأحداث الأخيرة إن لم تكن هي مدبرتها.
4-المفاوضات بين الحكومة ومسواري وصلت إلى طريق مسدود، وعلى أي
حال لم يتوقع أحد ممن يعرفون الأوضاع وحقائق الأمور في البلاد أن تنجح تلك
المفاوضات، والحكومة لم تقصد إنجاحها.
التطورات الخاصة في منطقة مورو الإسلامية:
1- لاشك أن المنطقة تتأثر نوعًا ما بالتطورات في حكومة مانيلا، غير أن
الظروف فيها تختلف كثيرًا عن الظروف في بقية الفلبين، فقد تكون التطورات نقمة
بالنسبة للحكومة، ونعمة بالنسبة لمنطقة مورو، وإن المحاولات الانقلابية السالفة
الذكر أوضح مثال لذلك، حيث كانت هذه الحادثة نقمة على حكومة أكينو ولكنها
نعمة لمنطقة مورو، لأن الحكومة اضطرت إلى أن تسحب قواتها المنتشرة في
المناطق الإسلامية لتعزيز القوات الموالية لها في مانيلا، حيث وضعتها في أماكن
استراتيجية حول العاصمة.
2-أما تغيير الحكام في الفلبين فلا يؤثر كثيرًا على وضع المسلمين وليس
هناك فرق كبير في معاملتهم مع المسلمين، والحكام الفلبينيون النصارى كلهم
متفقون على أن الإسلام هو عدو حكومتهم الأول، وأن وجود الجماعة الإسلامية في
الجنوب خطر على الدولة، وصدق الله العظيم إذ يقول: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ
ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] ، ويقول في آية أخرى: [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] .
3-إن حكومة أكينو التي كان كثير من الناس داخل البلاد وخارجها يأملون أن
تنفذ وعودها بإعادة حقوق المسلمين المسلوبة إليهم، وأن تعاملهم معاملة عادلة هي
مثل الحكومات السابقة في معاملتها للمسلمين وفي سياستها إزاء قضيتهم.
والخلاصة أن الوضع في منطقة مورو الإسلامية لم يتغير، وأن موقف
الحكومة الحالية تجاه شعب مورو المسلم كموقف الحكومات السابقة، وليس هناك
أمل في استرجاع حقوق المسلمين المسلوبة بواسطة الأسلوب السياسي السلمي، وان
الطريق الصحيح هو استمرار الجهاد في سبيل الله.
أحوال المسلمين في جنوب الفلبين:
1-رغم الحياة القاسية والظروف الصعبة التي تحيط بالمسلمين فإنهم يشقون
طريقهم إلى حياة إسلامية أفضل، فرغم بعدهم الجغرافي عن بقية العالم الإسلامي
فقد تأثروا بالوعي الإسلامي المنتشر والمحسوس بين صفوف المسلمين في شتى
أنحاء العالم الإسلامي، فقد انتشرت المدارس الإسلامية الأهلية، وكذلك مدارس
قراءة وتحفيظ القرآن الكريم، وازداد عدد المساجد، فقد أعادوا إقامة المدارس
والمساجد بعد أن أحرقتها السلطات الفلبينية وازداد تمسكهم بتعاليم دينهم.
2-لعل انتشار الظلم والفساد من ضمن العوامل التي دفعت الناس إلى الإقبال
على الإسلام فقد سئموا الحياة في ظل المجتمع الفلبيني الظالم الفاسد، وهم الآن
يتخبطون في الظلام للبحث عن نور ينير لهم الطريق السوي الذي يوصلهم إلى
حياة أفضل، وقد وجدوا هذا النور في برامج جبهة تحرير مورو الإسلامية التربوية
والتعليمية والاجتماعية، وفي خطتها للدعوة الإسلامية العامة والخاصة.
3-إن الدعوة الإسلامية تجد أرضًا خصبة في المنطقة، فإن المسلمين يهتمون
بدينهم الآن أكثر من اهتمامهم به من قبل، وغير المسلمين يقبلون على الإسلام عن
حب ورضا.
وضع الجهاد والمجاهدين:
تحسن وضع الجهاد ومجاهدي جبهة تحرير مورو الإسلامية وخاصة في
مجالات الإعداد والتدريب والتنظيم وتنسيق القيادات الإقليمية ولجان الجبهة،
وأجهزتها المختلفة حيث اغتنموا فرصة الهدوء النسبي الذي ساد البلاد منذ قيام
حكومة أكينو فعملوا على إعداد العدة والتدريب في جميع الميادين الضرورية في
الجهاد.
إن وضع الجهاد والمجاهدين يتحسن بمرور الأيام، وأصبحت جبهة تحرير
مورو الإسلامية الآن أقوى من قبل وذلك بعون الله سبحانه وتعالى ثم بفضل جهود
العلماء والدعاة والقواد العاملين في ميدان الدعوة والجهاد، فقد استطاعوا بعون الله
وفضله أن يوحدوا صفوف المجاهدين المخلصين الصادقين تحت راية الإسلام وفي
ظل جبهة تحرير مورو الإسلامية، وتمكنوا من توجيههم إلى طريق الجهاد الصحيح.
السلطات الفلبينية تقتل العلماء المسلمين وتحرق المعاهد والمدارس الإسلامية:
تقوم الوحدات التابعة للقوات المسلحة الفلبينية الجديدة التي أنشأتها حكومة
الرئيسة أكينو مؤخرًا بقتل العلماء المسلمين، وإحراق المعاهد والمدارس الإسلامية
في بلاد (المورو) بجنوب الفلبين.
وقد تلقى عدد من العلماء والأساتذة والدعاة في جنوب الفلبين رسائل بتوقيعات
مستعارة كانت موضوعاتها الرئيسية هي التهديدات بالقتل والاغتيال أو الخطف.
وقد وجهت هذه التهديدات بوجه خاص إلى العلماء والدعاة الذين يخطبون في
المساجد، ويطوفون البلاد لنشر الوعي الإسلامي والمدرسين المشهورين
والمعروفين بمواقفهم الإسلامية الصحيحة الثابتة، والذين يشرحون الدين الإسلامي، ويدعون الناس إلى الله في الإذاعات المحلية.
ولم تمنع تلك التهديدات العلماء والدعاة المخلصين من ممارسة عملهم
الإسلامي بل تجاهلوها وضاعفوا جهودهم في نشر الحق، ودعوا هؤلاء الذين
يهددونهم بالقتل إلى توثيق الروابط والتفاهم، وتدعيم المحبة والتعاون على إحلال
الأمن والاستقرار في البلاد، كما دعوهم إلى الإسلام، دين العدل والخير والبركة،
واستمرت التهديدات تارة بالرسائل، وتارة بالتليفونات وغيرها، ولم يلتفت
العاملون في الحقل الإسلامي إليها، ولم يكن أحد يعرف بالتأكيد من أين تأتي تلك
الوسائل والاتصالات التلفونية فضلاً عن مصدر التهديدات، وإن كانت التحريات
تشير إلى شبكة الاستخبارات الفلبينية والعناصر المعادية للإسلام بصفة عامة.
وقد نفذ أحد هذه التهديدات في19 مارس1987 واكتشفت مصدرها بالتأكيد
حيث قام عملاء استخبارات الجيش الفلبيني تحت إشراف أحد ضباط المخابرات
المدعو (إميليو كوميلينج) باغتيال الشيخ إبراهيم ديرون أحد العلماء والدعاة
المشهورين في " كوتباتو " في جنوب الفلبين، وهو داعية ومدرس في معهد
كوتواتو الإسلامي، وعين وكيلاً للمعهد قبيل استشهاده، والفقيد رحمه الله تعالى
معروف بمواقفه الإسلامية الصحيحة، وعمله الدؤوب في ميدان الدعوة والتربية
والتدريس.
وقد عرف بالتأكيد أن عملاء المخابرات الفلبينية التابعة للكتيبة رقم (35) في
بلدة (تَبٍيْرا) بمحافظة (ماجيندانا) ، هم الذين قتلوا الشيخ الشهيد رحمه الله بقيادة
ضابط المخابرات المدعو (ميليو كوميلينج) ، وقد أصيب المرحوم بثلاث رصاصات
في رأسه وصدره وذراعه، وتوفي رحمه الله قبل أن يصل إلى المستشفى.
وقد اكتشف أيضاً أن العملاء الذين قتلوه تابعون لشبكة استخبارات، الجيش
الفلبيني التي تعمل في الجنوب الإسلامي، وهي مكلفة بالقيام بما يسمونه (المهمة
القذرة) وتعني هذه العبارة: القيام بقتل العلماء والدعاة والزعماء الإسلاميين إضافة
إلى التزوير وتلفيق الأخبار وإيجاد البلبلة ونشر الفساد والإفساد والفوضى في بلاد
المسلمين.
وعندما علم مدبرو القتل باكتشاف أمرهم هربوا وتركوا المنطقة، وليس هناك
أي سبب دفع المجرمين إلى قتل الشيخ سوى أنه عالم وداعية يقوم بنشر الوعي
الإسلامي، ويدعو إلى إقامة حكم الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية والتمسك
بالعادات والتقاليد الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة.
وقد تظاهر في مدينة " كوتبانو " إثر الحادث ما لا يقل عن عشرة آلاف طالب
وموظف وغيرهم من عامة الشعب المسلم استنكارًا للجريمة البشعة التي لم يكن
الهدف منها قتل الشيخ المذكور فحسب، بل كانت جزءاً من المخططات الفلبينية
لمحاولة القضاء على الإسلام والمسلمين في المنطقة، ونبهوا المسلمين بأن قتل
علمائهم الأبرياء من قبل السلطات الفلبينية ليس إهانة للإسلام والمسلمين فحسب
ولكنه جزء من العمليات المدبرة التي تهدف إلى محو الإسلام في المنطقة، ودعوا
المسلمين إلى مواجهة هذا التحدي. والتهديدات بقتل أو اغتيال العلماء والدعاة
مستمرة حتى الآن، وقد اضطر بعضهم إلى الانتقال إلى أماكن آمنة تاركين بيوتهم
وأموالهم وأراضيهم.
وفي الوقت نفسه قامت بعض العناصر التابعة للقوات المسلحة الفلبينية الجديدة
في الشهر الماضي بإحراق عدد من المعاهد والمدارس الإسلامية في قرى (مغانوي
وأمباتوان، وكيتانجو) بمحافظة (ماجينداناو) وقبل إحراق المعاهد والمدارس هددوا
بقتل المدرسين فيها، علماً بأن الحكومة الفلبينية تتهم المعاهد والمدارس الإسلامية
بتخريج مجاهدين ودعاة يقومون بتغيير الوضع في البلاد وإقامة مجتمع لا يتمشى
مع الدستور الفلبيني ونظامه.
أكينو على خطى ماركوس في حرب المسلمين:
وقد تبين الآن بوضوح أن حكومة أكينو - التي علق عليها بعض المسلمين
داخل الفلبين وخارجها آمالهم بسبب تصريحاتها المغرية بشأن قضية المسلمين
ووعودها بمنح المسلمين حقوقهم -ليست أقل عداء للإسلام والمسلمين من الحكومات
السابقة، وهى تنفذ نفس الخطة المعادية للإسلام والمسلمين ولكن بأسلوب آخر
وبعمليات خفية تحت ستار الشعارات الماكرة والوعود الكاذبة، [ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ
اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] .
وليس هذا بغريب، فإن الرئيسة أكينو تعتمد كل الاعتماد في اتخاذ قراراتها
ووضع سياستها على مستشاريها من القساوسة ورجال الكنائس الفلبينية، إضافة إلى
المخابرات الأمريكية، وصدق الله العظيم إذ يقول: [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] ، ولن يستطيعوا ذلك إن شاء الله فإن مجاهدي
جبهة تحرير مورو الإسلامية قد عاهدوا الله تعالى العلي القدير القاهر فوق عباده
على أن يستمروا في جهادهم في سبيل الله لإعلاء كلمته إلى أن يحقق الله لهم
النصر، أو ينالوا الشهادة وشعارهم (النصر أو الشهادة) .(10/76)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
الملأ في تونس..؟
بقلم: يحيى محمد رسام
نحن نعلم - من خلال استقراء أحداث تاريخ الصراع بين الحق وحملته،
والباطل وذويه - أنه " ليس من السهل على الذين جعلوا من أنفسهم طواغيت
ومستبدين أن يلزموا الصمت أمام الحق وحملته، وهو يهدد كيانهم، ويقرع أجراس
الخطر في أبوابهم، ويرسل عاصفة على معاقلهم ليخلص الناس من استعبادهم
وجبروتهم، ويعيد للإنسان كرامته وحريته اللائقة به.. ".
ولذلك فهم يلجئون لأساليب متعددة، وطرق متنوعة لمحاربة الحق والمبشرين
به.. وقد جاءت حقائق القرآن مؤيدة لحوادث التاريخ فمن أسالبيهم:
1 - معرفة الحق.. وجحوده:
ومعناه أنه مهما كانت معرفة أهل الباطل وعلى الأخص الملأ من كبار القوم
وأعوانهم، للحق الذي يبشر به ورثة الأنبياء والدعاة إلى الله أكيدة وعميقة في
قلوبهم، فإن ألسنتهم ووسائل إعلامهم تجحدها، أنفة ومكرًا واستكبارًا وظلمًا:
[وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُواً] ..
2 - قلب الحقائق، وتزييف الوقائع:
فقد عودتنا الأحداث أن الذين في قلوبهم زيغ يقلبون الحقائق، ويزيفون
الوقائع، ويجعلون الجناة ضحايا، والضحايا الحقيقيين جناة، ومجرمين! وهذه
الحقيقة أوضح من أن تحتاج لشواهد وأدلة.. وسنزيدها تأكيدًا بما هو مشاهد في
الأحداث المعاصرة..
3- رمي المؤمنين بما هم متورطون فيه:
وذلك من أساليبهم -أيضًا - فبدلاً، كما يفرض المنطق، من أن توضع
الأمور في مواضعها، يقومون برمي المؤمنين بما هم واقعون فيه، ومتلبسون به،
فهم مثلاً الذين يمارسون كبت الحريات، وإرهاب الشعوب، والتطرف في معاملة
الخصوم والمخالفين لهم، وهم الذين يسيطر عليهم جنون العظمة، وشهوة السلطة،
فظنًا منهم أن الآخرين مثلهم، يعملون من أجل تحقيق شهوة.. سواء كانت شهوة
حكم أو سلطة أو شهوة مال وشهرة.. فهم لذلك يمارسون عملية الإسقاط المعروفة
في علم النفس في أبشع صورها.. ويستعملون لذلك أساليب التهييج والتحريض،
بكل جرأة وغفلة.. ألم يقل فرعون لموسى وهارون.. وقد جاءا يدعوانه إلى الله
وعدم ظلم بني إسرائيل فرماهم بما هم بريئون منه.. بل وبما هو متلبس به إلى
الأعماق.. فقال لهما: [وتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ] ، ظنًا منه أن موسى
وهارون لو حكما لتكبرا مثله وحاشاهما ذلك.. فهما نبيان لله منزهان عن الكبر
والكبرياء..
4- ادعاء الحرص وحب الخير لشعوبهم، وإظهار الخوف على ذهاب
مصالحهم:
ولنضرب المثل بفرعون أيضاً، ألم يقل وهو من هو في طغيانه، وظلمه،
وتسلطه واستبداده.. ألم يقل لقومه مظهرًا حرصه عليهم، ومحذرًا لهم من موسى،
ومشفقًا على مستقبلهم: [إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] تمامًا نفس المنطق يكرره الطواغيت في كل مكان.. وفي كل زمان.. [يبدل
دينكم] مؤامرة لنشر الفساد، وإثارة الفتن.. كلام يقولونه في مواجهة شعوبهم..
خوفًا من استجابة هذه الشعوب لورثة الأنبياء، أو سيطرة الحق على قلوبهم ومن ثم
يفلتون من سيطرتهم والانقياد لهم.. إذًا فموسى عليه السلام يريد إظهار الفساد في
الأرض، أما فرعون فإنه مخلص لشعبه يمحض له النصح، ولا يسير به إلا في
الطريق السليم، سبيل الرشاد [مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] وفرعون يمثل في هذا المضمار قدوة للطغاة، ورائدًا لأهل الباطل، بل لقد ... أصبح علمًا على من تكبر وطغى، قديماً وحديثاً.
ومن أساليبهم في مواجهة الحق وأهله اتباع أسلوب آخر وهو:
5-أسلوب الانتقاص والتسفيه والاستهزاء بورثة الأنبياء:
ولعل هذا الأسلوب من أشد أساليبهم خطرًا، وذلك أنهم " بإظهار عدم
الاكتراث واللامبالاة بالدعاة إلى الله أو بذكرهم، ولكن بأسلوب الاستهانة
والاستهزاء والسخرية، يهدفون إلى التهوين من أمرهم في أعين الناس والتقليل من
مكانتهم أمام الشعوب، حتى لا يتجرأ أحد على الاستجابة لهم، فضلاً عن الاقتداء
بهم، بل حتى لا يصغي لكلامهم، أو يلتفت لدعوتهم ولا يخفى ما في ذلك من مكر
سيئ يراد به صرف الناس عن دعوة الله، وصدهم عن سبيله، بل إنه يحمل في
طياته تلميحًا وإغراء للسفهاء كشأن كثير من الإعلاميين اليوم للنيل منهم وإشاعة
الأباطيل والافتراءات حولهم، حتى تتزعزع الثقة فيهم، فلا يتبعهم أحد. انظر إلى
ما قاله الملأ من قوم نوح عنه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: [قَالَ المَلأُ مِن
قَوْمِهِ إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] وما أجمل وأروع ما علق به أحد العلماء العاملين
على هذه الآية حينما قال: " هل بعد هذا الأسلوب النابي والمبالغة في الطعن حيث
لم يكتفوا برميه بالضلال وهو اتباع غير سبيل الرشاد حتى وصفوا ضلاله بأنه
غاية في الوضوح والإبانة. ومرة أخرى قالوا: [قَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ
إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ] وهكذا رموه بالسفاهة وهي قلة
العقل دون أن يكلفوا أنفسهم بالنظر في أدلة صدقه، ودون دليل معهم، إنما هو
التكبر عن قبول الحق والاستعلاء عن الخضوع والاتباع لدين الله الذي يدعو إليه
ويبشر به.
6- استشارة الأمة في قتل الدعاة إلى الله:
ثم يأتي في آخر المطاف بعد الحرب النفسية والإعلامية الإفصاح عن ما يبيتونه للحق وأهله، من الاجتثاث من الأرض ومن أصوله، لذلك يلجئون للشعوب لتبرير فعلتهم، فيطلبون من الأمة صورة ديمقراطية وشورية نادرة، السماح لهم بقتل هؤلاء الدعاة. هؤلاء هم الدعاة.. وهم يطالبون بذلك حتى يواصل الشعب سيره في طريق الرشاد والتقدم والرفاهية، وهاهو فرعون يمارس أعلى درجات الديمقراطية ومشاورة شعبه: [ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ] وهل يحتاج فرعون الإذن من شعبه، وقد أصدر حكمه مقدمًا، وهل الشعب في وضع يجعله قادرًا على ممارسة حقه في إبداء رأيه في أي قضية تخصه، أم أنه المكر وخداع الشعوب!
7- تشابه الأساليب، وتشابه القلوب:
وكما رأينا وكما بين الله لنا تماثل أساليب أصحاب الباطل، قديماً وحديثًا في
الصد عن سبيل الله حتى لكأن أولهم أوصى أخرهم [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَذِينَ مِن قَبْلِهِم
مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] ولكن
الآية تشير إلى وجود علة أخرى غير التواصي، وهي الطغيان فمن طبيعته عندما
يسيطر على القلوب والنفوس، فإنه ينتج عنه نفس الأساليب وتصدر عنه نفس
الانفعالات لمقاومة ومحاربة حملة الحق، وتحذير الناس منهم، ولكن القرآن في
موضع أخر يذكر علة أخرى [تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ] إذًا فهو الطغيان، وتشابه القلوب
في الزيغ والضلال!
وماذا عن الملأ في تونس..؟
إذا تأملنا ما قاله الملأ في تونس في وسائل إعلامهم سنجد دون عناء أنهم قد
كرروا ما قاله الملأ من قبلهم، في مواجهة الدعوة، وورثة الأنبياء، ويكفى مثلاً لما
يردده الإعلام التونسي ضد الدعاة إلى الله من شباب الاتجاه الإسلامي ما نشرته
جريدة العمل التونسية في عددها الصادر في 4 صفر 1408 / 7 2 سبتمبر 1987
وفي أماكن مختلفة من العدد، وإن كان أمكر تلك المقالات ما ورد في الصفحة
الأولى تحت عنوان (حتى لا تكون فتنة) .
وقد حشرت المجلة كل الشبهات والدعايات التي مارسها وقالها كل أعداء ... دين الله على مر العصور، مما ذكرناه في أول هذا المقال، ابتداء:
1- من اتهامهم بالتخطيط لإسقاط النظام.
2- اتهامهم بقلة العقل والسفاهة، وعدم القدرة على التفكير.
3- وبأنهم أصيبوا بجنون العظمة، والتكبر والهوس في السلطة.
4- وبأنهم يريدون إقامة نظام على غرار النظام الإيراني الهمجي.
5- وبأنهم مثيرو فتن، ومظهرو فساد، وأباحوا ما حرم الله من سفك الدماء.
6- ثم وصفهم العودة إلى الحكم الإسلامي عودة إلى عهود التخلف ... والرجعية وعهود الأمير والحاشية والحريم..!
وأخيرًا بعد هذا كله بالإرهاب والتطرف والشذوذ في فهم الدين.
ثم تأتي الخلاصة وهى المطالبة بالقضاء عليهم من الجذور، فهم ثعبان يبث
سمومه، ولا حل إلا ذلك إن أراد الشعب التونسي أن يسير على درب الرشاد.
ألا ترى معي أن الملأ في تونس يفكرون بعقلية فرعون وملئه، ويرمون
الدعاة بما رمى به موسى، ويظهرون الحرص على مصالح الشعب والسير به في
طريق الرشاد، طريق هامان وفرعون، وبعقلية الملأ والطواغيت، والمتكبرين في
كل زمان ومكان.
تساؤلات:
والآن فهل يمكن أن يكون الدعاة إلى الله من أصحاب الاتجاه الإسلامي في
تونس هم وراء ما زعمته السلطة ووسائل إعلامها وما أسمته بالمغامرة الفاشلة
لإسقاط نظام الحكم، في مسرحية هزلية.
إن الوقائع والأحداث التي سبقت المسرحية الأخيرة أثبتت بوضوح أن الاتجاه
الإسلامي أبعد ما يكون عن مثل هذه الأساليب، وإن تحليلات المطلعين والمراقبين
تشير إلى أن هنالك بعض الفئات من غير الاتجاه الإسلامي وبمعاونة بعض أجهزة
الحكومة أحيانًا وبرضاها وعلى عينها أحيانًا أخرى وراء كثير من الحوادث هناك.
ثم لماذا الربط بين الاتجاه الإسلامي والحكومة الشيعية في إيران، وموقفهم
وبياناتهم معروفة منها، والعالم كله أصبح يعرف موقف الحركة الإسلامية عالميًا من
إيران وثورتها، لولا أنه المكر السيء ضد الاتجاه الإسلامي في تونس.
هل العودة للحكم الإسلامي عودة لعهود التخلف والحريم؟ ! وهل مطالبة
الاتجاه الإسلامي للعودة للحكم الإسلامي وتطبيق شرع الله يمكن أن يسمى تخلفًا
ورجعية وعودة لعهد الأمير وحريمه؟ ! ومن قال ذلك؟ وهل يبقى مسلمًا من
يصف حكم الإسلام، وهو حكم الله، بالتخلف؟ أو يستهزئ بشيء من أوامر الله؟
وهل إذا طالب الإسلاميون بالحرية السياسية لهم كغيرهم ودافعوا عن مواقفهم صاح
بهم المغرضون أنتم مثيرو فتن ولا عقل لكم! .
ثم من هم الذين يفهمون الإسلام على الوجه الصحيح وأنه (دين السماحة
والاعتدال) هل هم الأقلية من الحزب الاشتراكي هناك الذي لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الشعب التونسي المسلم تحتكر لنفسها مواقع السلطة والنفوذ؟ وتمارس أبشع صور الإرهاب والتطرف من تكميم الأفواه، واستصدار أحكام ... السجن المؤبدة، والإعدام ضد الدعاة إلى الله، من أبناء الشعب، ومارست ولازالت إقصاء الإسلام عن سائر مجالات الحياة، واستبدلته بالأنظمة والقوانين العلمانية الملحدة. هل هي هذه الفئة أم هم العلماء المجاهدون والمخلصون من أبناء تونس ومعهم الأكثرية من الشعب التونسي المسلم.
وهل إذا هب هؤلاء للمطالبة بالحريات وتوسيع قاعدة الديمقراطية والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية وحماية دينه وأخلاقه! يقال لهم ... مثيري فتن ولا عقل لهم، وإرهابيون ومتطرفون، ويقال للمستبدين والمنحرفين حريصون على الأمة ومصالحها، وأدرى بما يعود عليها بالخير والصلاح والرشاد.
إن ذلك هو التعامي عن الحق بل إنه قلب الحق باطلاً والباطل حقاً.
ومن هو المتطرف والإرهابي والشاذ في فهم الإسلام، هل هو الفئة الواعية
المجاهدة أم العلمانيون والاشتراكيون الذين عزلوا الإسلام عن الحياة، والذين يرون
في أداء فرائض الصيام مثلاً تعطيلاً للإنتاج؟ !
ثم نحن نسأل هل الحزب الحاكم في تونس لازال يحكم تونس نتيجة فوزه في انتخابات شعبية حرة؟ هذا على مسايرة أنه قد جاء إلى الحكم قبل ... ثلاثين سنة نتيجة قيادته لحركة جهادية. هل أعطى الشعب التونسي رأيه للحزب الاشتراكي، وصوت له، أم أن مخططات استعمارية أجنبية هيأت له الأوضاع وقوى عالمية من شرق وغرب ساندته ليحقق لها بعض أهدافها، ... وهو القضاء على الإسلام حصن الأمة الذي تحتمي به، ضد مؤامرات أولئك المستعمرين وتلك القوى العالمية.
وكلمة مخلصة لهؤلاء:
نذكرهم بها ونقول لهم قبل أن يقوم الناس لرب العالمين في يوم لا ريب فيه،
ولا ينفع فيه ومعه الندم.
إن الإسلام ليس دعوى باللسان وفي وسائل الإعلام، وليس شارة يتزين بها
الإنسان أو حتى شعائر تؤدى حينما نشاء! إنما الإسلام التزام بما جاء به رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- من عند ربه، الإسلام تطبيق شامل لكل ما في القرآن
والسنة، الإسلام التزام في حياة الإنسان الشخصية، والتزام في نظام المجتمع،
والاقتصاد والسياسة، وكل نواحي حياة الناس.
ثم نذكرهم بأن العودة لشريعة الله التي لا يعتريها نقص البشر ولا هوى البشر
ولا جهل البشر، لأنها الشريعة الكاملة الشاملة المرنة الصالحة لكل زمان ومكان،
ليس عودة بالمجتمع لعهود التخلف والرجعية، وليست الدعوة للاحتكام للقوانين التي
صنعها للبشر رب البشر؛ رجوعًا بالمجتمعات إلى عصور الانحطاط والكبت
والجهالة.
ثم لا ننسى أن نقول بأن على الجميع أن يدرك بأن هذا الأسلوب من القتل
والتعذيب لن يجدي فتيلاً، ويكفي أمتنا تجارب مريرة، أخفقت فيها كل المحاولات
التي استمرت لأكثر من قرن في مواجهة الحركة الإسلامية.
[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] وإن
الله مظهر دينه، على كل دين ولو كره المشركون. فهل من معتبر؟ [*] .
__________
(*) كتب هذه التحليل قبل التغيرات الأخيرة التي حصلت في تونس.(10/82)
وكالات الأنباء.. وأخبار المسلمين!
سنعرض للقارىء الكريم نموذجًا يلخص صورة الحياد المزعوم في نقل
الأخبار، وسننقل الخبر بنصه كما أوردته وكالة " رويتر " للأنباء، ثم نلقي عليه
بعض الأضواء.
نيجيريا -شغب:
سجن أربعة مسلمين في أحداث شغب دينية.
لاجوس/ 2 تشرين الثاني (نوفمبر) رويتر: قال راديو لاجوس الرسمي:
إن أربعة شبان مسلمين أدينوا وسجنوا في مطلع الأسبوع الحالي بتهمة
الاشتراك في أحداث شغب دينية وقعت في شمال نيجيريا في شهر آذار مارس
الماضي وأودت بحياة 16 شخصًا.
وهؤلاء الرجال الأربعة، بين عشرات من المشتبه فيهم، الذين مثلوا أمام
محكمة خاصة في " أبوجا " التي ستكون عاصمة للبلاد في المستقبل، وقضت
المحكمة يوم السبت الماضي بسجن ثلاثة من مثيري الشغب عشر سنوات لكل منهم
بتهمة الاعتداء الجسيم على آخرين خلال قلاقل وقعت بين طلبة مسلمين ومسيحيين. وكانت هذه الاضطرابات قد اجتاحت ولاية " كادونا " ودمرت عشرات الكنائس
وبض المساجد، وحكم على الشاب الرابع بالسجن ثلاث سنوات بتهمة الإخلال
بالأمن، في حين حصل متهمان على حكم بالبراءة. وظل جميع المتهمين الذين لم
يعرف عددهم بالضبط رهن الاعتقال منذ إلقاء القبض عليهم قبل ما يزيد على سبعة
أشهر.
حتى يتهيأ ذهن القارىء للحكم مسبقًا لابد من الإثارة، والإثارة هنا وسيلتها
استعمال الكلمات، ومن أجل ذلك يطالعنا عنوان الخبر بحدي معادلة بسيطة:
الحد الأول: نيجيريا..
الحد الثاني: شغب..
واختيار كلمة شغب اختيار مقصود، فالانعكاس التلقائي البسيط الذي تحدثه
كلمة " شغب " في أذهان الناس جميعاً بشتى مستوياتهم هو: هيجان يقوم به شخص
أو أشخاص، يرافق هذا الهيجان تخريب للممتلكات واعتداء على حياة أناس آمنين،
والنقطة المهمة هنا أنه ليس وراء هذا الهيجان أي هدف سوى التخريب وحب
الاعتداء، وليس من محرك للنزوع إلى هذا الشغب إلا فساد في البنية النفسية
والعقلية لمن يقوم به وتعطشه للدم وإنزال الأذى بغيره!
وهكذا تكون الأرضية المجهزة برد الفعل العفوي تجاه هذا الخبر قد تكونت،
وقد حدث هذا بسهولة وبساطة وبحيلة بعيدة عن التعقيد لم تكلف إلا كلمة!
والآن إلى استبدال الحد الثاني من المعادلة بما يقابله:
(سجن أربعة مسلمين في أحداث شغب دينية) .
ليس من شيء طريف في هذا العنوان الصحفي سوى أمرين:
1 - حذف كل ما يمكن أن يتصف به هؤلاء الأربعة وإبقاء صفة واحدة، هي
أنهم مسلمون، فكونهم رجالاً أو نسًاء، شيبًا أو شبانًا، متعلمين أم جهلة، كل ذلك
غير مهم أما المهم فهو كونهم مسلمون، والغاية ستظهر بعد قليل.
2 - وصف أحداث الشغب بأنها دينية، وأرجو من القارىء الكريم أن يصبر
معي قليلاً إن كان ممن يستثقل الحديث عن الإعراب واللغة، ففي الحقيقة: إن
الإعراب يحدد وظيفة الكلمة، ويضعها موضعها الصحيح لتعطي الأثر المطلوب.
لقد كان إضافة صفة " دينية " إلى الأحداث ضرورية من وجهة نظر صائغ
الخبر وناقله، فلو اكتفى بكلمة أحداث شغب لما كان هناك غرابة لا لمسلم ولا لغيره، فليس غريباً أن يقوم مسلم أو مجموعة مسلمين بأحداث شغب مجردة، ولكن لما
كان صائغ الخبر حريصًا على الأمانة والحياد في النقل؛ ولما كان يريد من هذه
الصفة أن تقوم بوظيفة تكميلية لكلمة شغب أضافها.
وأحداث الشغب الدينية لابد أن ترتبط بمسلمين لينتج عنها معادلة جديدة تستقر
وتترسخ في الجانب غير الواعي لمن يقف على الحياد أو لمن له موقف سابق من
الإسلام والمسلمين هذا المعادلة هي:
المسلمون = شغب (ديني) !
في سياق الخبر تتطابق وجهة نظر ناقل الخبر المطلقة مع وجهة صاحب
الخبر وهو راديو لاغوس الرسمي، وهذا التطابق واضح من ترك نهاية الخبر
سائبة لا يعرف عند أي عبارة انتهت، ولو جهدت لتعرف نهاية الخبر كما نقله
الراديو وتميزه عن التعليق الذي تدسس بنعومة (ولكنها نعومة ثقيلة سمجة) لما
استطعت، ولظلت تخميناتك كلها في دائرة الظنون.
إن الحياد المزعوم يفضح نفسه، ويبدو حيادًا فجًا إذا ما تقدمنا مع الخبر
خطوة خطوة، فانظر إلى عبارة (بين عشرات من المشبه فيهم) كم عشرة يا ترى!! ثلاثة، أربعة، ستة، أكثر..؟ !
وكذلك عبارة (الاعتداء الجسيم) ما حدود هذا الاعتداء، على ماذا حصل؟
على أجسادهم، على أموالهم؟ ! ثم كلمة (آخرين) ألا ترى أن التجهيل مقصود؟
أليس من الحق أن يوصفوا بأي وصف؟ (قلاقل وقعت بين مسلمين ومسيحيين)
نصل إلى هذه العبارة - وبعد كل الشحن الذي شحننا به الذين يتحكمون حتى
بصراخ المسلمين وشكاواهم - لتوحي لنا بأن المسلمين دائمًا هم البادئون بالقلاقل
وأن المسيحيين دائمًا في موقف الدفاع عن النفس! هل تريد دليلاً على هذه ... الدعوى؟! هذه الاضطرابات قد (دمرت عشرات الكنائس وبعض المساجد) عشرات الكنائس: ثلاثين، أربعين، تسعين، وما فوق ذلك؟ كله محتمل، (بعض المساجد) مهما حاولنا التكثير فإن كلمة (بعض) تقول لنا: لا ليس إلى هذا الحد، (بعض المساجد! !) ، ثم لاحظ هذا التقابل الطريف:
قلاقل وقعت بين طلبة مسلمين ومسيحيين.
دمرت عشرات الكنائس وبعض المساجد!
إن تصوير المسلمين بهذه الصورة، وتجاهل الأسباب التي تدفعهم إلى ما
يقومون به من أعمال، وإظهارهم بمظهر مجموعات خارجة على القانون، تتخذ
من الإخلال بالأمن مهنة، وتصغير ما ينزل بهم من تنكيل، وتناسي ما يقع عليهم
من اعتداءات يومية، وتضخيم آثار دفاعهم عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ودينهم، وإبرازهم على هيئة قطاع الطرق؛ كل هذا من مهمة هذا الإعلام الذميم الكافر
الذي يدعي الموضوعية بينما هو في تناوله لقضايا المسلمين أبعد ما يكون عن
الموضوعية، وأقصى ما يكون عن مراعاة مقتضيات الضمير الحي، فضلاً عن
الصدق الذي هو صفة لازمة للحق من أي جهة صدر.
لقد عنيت بهذا الخبر وجعلت من تحليله دليلاً يرشدنا إلى عدم الركون إلى كل
ما تلقي به وسائل نقل الأخبار العالمية، وخاصة فيما يتعلق بأحوال المسلمين. وأنه
لابد من الحذر الشديد، والنظر بعمق إلى الأهواء التي تكمن وراء الكلمات وكشفها
وتعريتها حتى يتضح الصواب من الخطأ، وتظهر الحقيقة من بين ثنايا التحامل.(10/88)
أخبار حول العالم
رجم اليهود بالحجارة
لم يكن حادث مقتل أربعة من الفلسطينيين -قبل أسبوعين من الآن- بعد
تعرضهم لحادث من قبل سيارة شحن كبيرة يقودها يهودي في قطاع غزة المحتل،
هو السبب الرئيسي للاضطرابات التي تشهدها الأراضي المحتلة والتي بلغت حدتها
حدًا لم تصله منذ 20 عامًا، ولعل سببًا حقيقيًا لهذه الاضطرابات يكمن في الحلقة
السياسية المفرغة التي آلت إليها جهود عملية إحلال السلام في المنطقة، كما أن
الاهتمام الضئيل الذي حظيت به القضية الفلسطينية أثناء القمة العربية الطارئة في
عمان في الشهر الماضي هو عامل آخر لا يقل عن سابقه أهمية. لقد دفع إحساس
شباب المخيمات بتخلي زعمائهم عنهم إلى أخذ المبادرة بأنفسهم.
ينعكس تنامي قوة الإسلام هنا (في الضفة الغربية وغزة) بارتفاع عدد
المساجد التي تضاعف عددها تقريبًا، في الضفة الغربية، على مدى العشرين سنة
الماضية، وفي قطاع غزة ارتفع عددها من (200) إلى (600) .
ولا تعزى ظاهرة زيادة عدد المساجد فقط إلى الارتفاع الذي طرأ على عدد
السكان على مدى تلك الفترة، فقد أخذ الإسلام يحل محل القومية بشكل سريع كقوة
توحيد للفلسطينيين الذين أصبحوا يعتقدون أنه الأمل الوحيد لدفعهم باتجاه النصر.
وليس من الصواب شجب أو وقف ظاهرة تزايد عدد الملتزمين بالدين-
فالإسلام يبقى واحدًا من بين الأديان العظيمة في العالم - لكن الخطر يكمن في
القالب السياسي الذي قد يأتي به، فالأصولية (والكلام يشمل جميع دول الشرق
الأوسط) هي العملاق النائم.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه:
ماذا لو ظهر الشباب الأصوليون في غزة بأنهم القوة الوحيدة التي تستطيع
عمل شيء بطولي في وجه إسرائيل؟ إن مظهرًا كهذا قد يؤجج حماسة الشباب في
تلك الدول جميعًا، سواء منها التي دخلت في سلام مع إسرائيل؛ أو تلك التي
التزمت حد الحديث عن الحرب، ولم تتجاوزه.
التايمز 23 / 12/ 1987
في وسط المخيمات التي تحيط الأسلاك الشائكة نشأت بين الشباب علاقات
حميمة لم يعرفوها من قبل أبدًا، ويلتقي الشباب ذوو الأفكار المتشابهة الذين يمثلون
الجيل الثالث من أبناء المخيمات، من أنحاء قطاع غزة المختلفة وذلك لإجراء
اتصالات بين بعضهم. لقد فقدوا الأمل لعدة أسباب:
*لقد فقدوا الأمل لعدم توفر فرص العمل، فكثيرًا ما ترى الأطباء والمهندسين
وأطباء الأسنان والعلماء يمتهنون مهنًا وضيعة، كالعمل في المطاعم، أو كنس
الطرقات، أو العمل في المزارع.
*لقد فقدوا الأمل في الدول العربية التي أولت القضية الفلسطينية اهتمامًا
ثانويًا في قمة عمان الطارئة.
*لقد فقدوا الأمل في الدول العظمى حيث تجاهل مؤتمر القمة بين أمريكا
وروسيا القضية الفلسطينية.
*لقد فقدوا الأمل بمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد أصبح عرفات في نظر
شباب المخيمات دبلوماسيًا كثير التجوال عديم القيمة، خصوصًا بعد المعاملة التي
لقيها في مؤتمر عمان، كما لم يعد لهم أي أمل في المفاوضات من أجل السلام.
*لقد وجدوا بعض الأمل في الإسلام، نعم إنه المسجد، كما يقولون، حيث
الجهاد الإسلامي.
لقد أدخلت المظاهرات المصحوبة برشق الحجارة الرعب في قلوب
المستوطنين اليهود فقد اضطر (2500) منهم إلى الرحيل عن أماكن إقامتهم متجهين
إلى حيث يجدون الأمان، وناقمين على رجال الأمن لعدم قدرتهم على وضع حد
لهذه المظاهرات.
التايمز 22/12/1997
كل التقارير التي نقلت أخبار المظاهرات في أرض فلسطين المحتلة أجمعت
على أن المحرك الأساسي الذي كان له الأثر الرئيسي لهذه الحشود في وجه سلطان
العدو هو الإسلام، وأكثر هذه التقارير كانت عباراته مغلفة بالإشفاق والقلق من هذه
الظاهرة، فما يزعج اليهود والذين ظاهروهم وزرعوهم في أرضنا هو عودة الناس
في هذه البلاد - وغيرها من بلاد المسلمين - إلى دينهم الذي ارتضاه الله لهم،
واستلهامهم منه معاني الصمود والكفاح، ولاشيء يقض مضاجعهم غير أن يفهم
المسلمون دينهم فهماً صحيحًا، ولا يعتبروه دين نواح وشكوى وأدعية وأوراد في
زوايا معزولة، ولا يكدر خواطر الأعداء - على كافة أصنافهم - سوى أن يُرمى
بتفسيرهم للإسلام في وجوههم.
ولذلك ففي كل تقرير عن تلك الأحداث نرى كيف أن عبارات الاعتراف
بالإسلام " كواحد من الأديان العظيمة في العالم "! تغتصب منهم اغتصابًا، وتفوح
منها رائحة الخوف والهلع.
وكذلك نلمح العبارات المملوءة تحريضًا واستعداء وترهيبًا، والتي يخاطب بها
القيمون على المنادين بالإسلام، والسائرين في طريقه.
لا شيء يكدر خاطر كاتب التقرير إلا أن يظهر " الشباب الأصوليون في غزة
بأنهم القوة الوحيدة التي تستطيع عمل شيء بطولي في وجه إسرائيل! " حيث " إن
مظهرًا كهذا قد يؤجج حماسة الشباب في تلك الدول جميعًا! ! ".
وماذا بعد؟ !
عند ذلك يخرج المارد من قمقمه! ويهيج العملاق مخربًا ومثيرًا للفزع
والاضطراب في هذه الدول! ويدمر اقتصادها، وتندثر حضارتها! وتخسر ما بنته
الطبقات " المستنيرة " عبر المئة سنة الأخيرة ... الخ.
أرأينا كيف يبدو أعداء الله حريصين على مصلحة الدول الإسلامية؟ ! وهم
ما يفتأون منذ عرفتهم البشرية يزرعون الشر، ويقتلعون الفضيلة ويبشرون بالإثم
والعدوان؟ ! .
يا قوم:
إن الذي جعلكم تعترفون بالإسلام كواحد من الأديان العظيمة في العالم، بعد
أن أنفقتم كل فترات تاريخكم في حربه وحرب أهله - ولا تزالون -؛ لهو القادر
على أن يبدل (نظرتكم التجزيئية) إلى هذا الدين، ويجعلكم - أنتم ومن تتولونهم
ويتولونكم - ترغمون على الاعتراف بأن الإسلام هو الإسلام، دينًا يرفض الظلم
بجميع أشكاله وصوره، حيث كان، وأينما وجد، وعقيدة عملية تستعصي على
تفسيرات أعدائها، وشروح من يريدون تغييبها في التراب.
أهل مكة أدرى بشعابها
(16/11/1987)
أشاد شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل بفكرة المؤتمر الدولي، وانتقد
معارضيه في إسرائيل بسبب مخاوف لا مبرر لها بشأن جهود السلام في الشرق
الأوسط.
وقال بيريز - وهو يرد على أسئلة البرلمان الإسرائيلي-:
" العالم العربي يقترح مفاوضات مع إسرائيل تبدأ بمؤتمر دولي "، وقال:
إنه يجلس الآن ويضحك كيف أن إسرائيل نفسها منخرطة في تشدد متزايد لا داعي
له، ومخاوف لا مبرر لها من أضرار لاوجود لها! وضغوط لا يمكن أن تمارس
علينا ".(10/91)
الصفحة الأخيرة
التحرير
(إن الأحوال في المخيم (مخيم جباليا) فظيعة أو غير إنسانية، وإهانة
للمبادئ الحضارية، أتحدى أي أحد يأتي إلى هنا ولا يصدم) .
(إذا بقي هذا المكان بالشكل الذي هو عليه؛ فإن ذلك سيكون إدانة لكيان
أنشىء على أساس قوة أخلاقية غاية في القوة) .
بهذه الكلمات القوية أدان وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني (ديفيد ...
ميللر) الأوضاع التي يعيش فيها سكان المخيمات الفلسطينية في ظل الاحتلال الصهيوني، فقد زار مخيم (جباليا) في قطاع غزة ولم يصدق ما رأته عيناه! ولكن، هل الإنكليز صادقون عندما يتجهون بإدانتهم لإسرائيل، وهل ما يصدر عنهم يمثل رؤيتهم الأخلاقية للقضية برمتها؟
إن المستقرئ لأحداث التاريخ الحديث يصدم حين يرى سلوك هؤلاء يختلف
اختلافًا كليًا عما يقولونه جدًا أو هزلاً. وإذا كان كثير من العرب: رسميين وغير
رسميين، ستدغدغ عبارات (ميللر) عواطفهم، وسيهز الفرح والاستبشار مشاعرهم
طربًا لهذه العبارات العاطفية الصادقة التي تصدر عن ممثل الدولة التي زرعت
إسرائيل في الجسد العربي؛ فإن الأغلبية العربية التي تنطلق من مبدئية إسلامية
تزن الأمور بميزان الإسلام، وتقيس الكلام والشخصيات حسب ما توصيها به
عقيدتها ينبغي أن لا تقيم لهذا الكلام وزنًا، ولا ترجو من ورائه ثمرة، بل يحسن
بها أن تكون على حذر مما يكمن وراء أمثال هذه التصريحات، ولا تنخدع بمن
يعيشون على تسويق الأوهام التي يسمونها: حقوق الإنسان والمبادئ الحضارية،
والأخلاق!
أية حقوق؟ ! وأي إنسان؟ وأية حضارة؟ ! وأية أخلاق يدافع عنها هؤلاء؟!
هل هناك من شك في أنهم لا يفهمون من هذه الرموز إلا ما يريهم منها
بصرهم القاصر ورؤيتهم العنصرية المحدودة التي تجعلهم يتجاهلون معاناة شعب
كامل أصم صراخه سمع العالم، وينقل لهم مراسلوهم ليل نهار أحواله وأخباره، بل
أنفاسه! وهل كانوا يجهلون ماذا سيحل بشعب شردوه من أرضه، ليضعوها بين
يدي إخوانهم اليهود؛ وجهه إلى الأسلحة التي زودوا بها هؤلاء؛ وظهره إلى الحدود
التي أقاموها هم بخبث وخسة؟ ثم كيف يظن بعض الناس أن كلام المسؤول
البريطاني ربما يكون تكفيرًا عما اقترفته دولته إذا كان يقول بعظمة لسانه: (إن
هذا الكيان قد أنشىء على أساس قوة أخلاقية غاية في القوة) ؟ !(10/98)
شعبان - 1408هـ
أبريل - 1988م
(السنة: 2)(11/)
الافتتاحية
[كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله]
إن سيطرة اليهود على فلسطين، وما أصاب أهلها وما حواليها من البلاد من
ذل وتشريد وقهر نتيجة ظلم اليهود وأنصار اليهود.. كل ذلك هو محنة وابتلاء
للمسلمين، يبتلي الله به عباده بسبب تقصيرهم في الدفاع عن حرماتهم. وفي
الابتلاء يسقط قوم، وينجح آخرون، أما الذين يسقطون فهم الذين يكونون عوناً
للعدو في نشر فكره ومشابهة أخلاقه، ويكونون عيناً له على أبناء جلدتهم يبيعونهم
لقاء عرض من الدنيا قليل، ويتاجرون بدماء شعوبهم من أجل التمكين لأنفسهم. أما
النكاية بالعدو فآخر ما يفكرون فيه. ومن هؤلاء الذين يؤمنون بسياسة الأمر الواقع، ويدركهم التعب من طول الطريق ومشقة السير، فيطرحون الحلول التي يرضى
عنها الأعداء كي يظهروا أناساً واقعيين غير متعصبين.
وأما الذين ينجحون فهم الذين يعتبرون المحنة فرصة لتمييز الخبيث من
الطيب من النفوس، ويصبرون على البلاء دون تذمر أو عجلة، ويرجعون إلى
عقيدتهم ودينهم الذي يتفق مع منطق التاريخ وقوانين الصراع، ويرون أن وجود
اليهود في فلسطين - ولو استظهروا بكل قوى الكفر، شرقية وغربية - مخالف
لمنطق التاريخ وسننه الجارية.
لقد أراد اليهود وأنصارهم أن يقطعوا صلة المسلمين في فلسطين بربهم،
ووضوا من الخطحط للقضاء على هذا الشعب وتشتيته الشيء الكثير.. لكن إرادة
هؤلاء ليست مطلقة، حتى ولو ملكواما شاءوا من المال والسلاح؛ لأن الله وإن أمد
للظالم، فهو - سبحانه وتعالى - لا يتركه يتمادى بظلمه وجبروته إلى الأبد، ولأن
الباطل مهما علا وعربد وانتفش فإن الحق غالبه لا محالة.
لقد كانت - وما زالت - محنة رهيبة أن يصول اليهود ويجولوا في الأرض
التي بارك الله فيها، محنة لا لمن يستوطن هذه البقاع فقط، بل لكل مسلم على وجه
الأرض.
وكان هناك بدهية مستقرة عند أغلب المسلمين، وهي أن سيطرة اليهود على
فلسطين بمساعدة الغرب الصليبي ليست إلا مرحلة من مراحل الصراع الطويل بين
الإسلام من جهة، وبين الصليبية الغربية من جهة أخرى. وهذه السيطرة تحقق
عدة مكاسب، فهي تساعد على بناء قاعدة متقدمة للمستعمرين الأوربيين، وتكون
عامل إضعاف مستمر للقوى العربية الإسلامية بأيد غير صليبية، وإن كانت أمينة
على تطبيق القيم والمفاهيم الغربية. ولا غرابة في ذلك؛ فاليهودية والصليبية
تشتركان في عمق فكري واحد.
وكان في تغييب الإسلام عن التأثير في مجرى الأحداث - منذ أن اكتسح
الغرب الصليبي البلاد الإسلامية، وخصوصاً منها التي كانت واقعة ضمن الدولة
العثمانية - جناية كبرى على هذه البلاد وعلى شعوبها التي أريد أن تزدهر بينها كل
الدعوات ما عدا الإسلام، ونتنفس في أجوائها كافة البدع، واستثني الإسلام بكل
صلف وخسة، وطوردت كل دعوة صادقة للحفاظ عليه عقيدة للأمة، ووسيلة عملية
وهدفاً، لا مجرد تراث للتغني والمزايدة.
في مثل هذا الجو أصبح أعداء الإسلام وتلامذتهم الجهلة يرددون مقولات
كثيرة ليست إلا خيانة وتواطؤاً تلبس لباس التعالم والاستهزاء بعقول الناس مثل:
التفريق بين اليهودية والصهيونية.
القومية العربية طريق تحرير فلسطين.
الدولة العلمانية هي مطلب الفلسطينيين.
بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد هو سبيل تحرير فلسطين.
نضال الطبقة العاملة هو سبيل التحرير.
إلى غير ذلك من الشعارات التي لا تكاد تحصى، والتي تتشعب في متاهات
لا تنتهي، ولا يجمعها إلا شيء واحد فقط هو الكيد للإسلام وأهله في هذه البلاد.
وفي ظل هذه الدعوات والشعارات وصل العرب إلى مستوى لا يحسدون
عليه، فتبددت طاقاتهم، وتفرقت كلمتهم وزالت هيبتهم.
ففي الوقت الذي سودت فيه آلاف الصحائف في الدعوة إلى الوحدة على
مستوى العالم العربي؛ كان داء الإقليمية يستشري ويمد جذوره عبر هذا العالم الذي
تعصف به الأهواء، وتتوزعه القوى الكبرى بعيداً عن رغبات شعوبه.
لكن على الرغم من كل هذا فإن هناك حقيقة تستعصي على التجاهل وهي أن
المحرك المركزي لهذه الشعوب هو الإسلام، وأنه العقيدة التي لا يورث القفز عنها
ومحاولة تجاوزها إلا الذل والضياع.
فقد غبر العرب زمناً يولون وجوههم قبل المشرق والمغرب، ولم يحصدوا
ممن استنصروا بهم إلا الخيبة والشماتة والبوار.
تشبثوا ببريطانيا فخذلتهم، وها هم يتمرغون على أعتاب وريثتها أمريكا،
والنتيجة ماثلة للعيان: ضياع للمقدرات، واستنزاف للطاقات، وصورة قاتمة عن
الإسلام وعن العرب ترسمها الصحافة اليهودية والصليبية المسيطرة في أوربا
وأمريكا.
ومنذ أواسط الخمسينيات اتجه العرب نحو روسيا الشيوعية، وحدثتهم أنفسهم
المضلَّلة بأن روسيا هذه ستنصفهم من الظلم الواقع عليهم من قِبل الغرب، بل إن
منهم من منَّى نفسه أن يهب الروس ليقاتلوا معه ذوداً عن حياض العرب بقنابلهم
النووية والهيدروجينية! مع أن هؤلاء الروس البلاشفة يعلمون حق العلم أن العرب
بوضعهم الحالي الضعيف - بعيداً عن عقيدة واضحة يتمسكون بها، وينافحون عنها
بصدق - لا يساوون أكثر من أجزاء لصفقة يحققون من ورائها نفوذاً على موائد
المساومات مع القوى الغربية.
لقد أدرك الناس ذلك بكل وضوح، وليس غريبًا أن يعبر أهل فلسطين عن
هذا الإدراك تعبيراً عملياً سمع به العالم كله. فقد وقع هذا الشعب ضحية القوى
الصليبية العالمية التي ظاهرت الصهيونية على سلبه حقوقه وتشريد أكثريته ... في الآفاق، ووقع مرة أخرى ضحية انخداعه بالوعود المعسولة، وكان يتغدى على الخطب، ويتعشى بالشعارات، وينام على حلم يداعب أجفانه بـ (صلاح
دين) آخر يأتي من الشرق، وبـ (قطز) جديد يأتي من الجنوب أو الغرب.
ولم يدر أن الذين وضع أمله فيهم لتحقيق هذا الحلم ليسوا من هذا الأمر في ... كثير ولا قليل.
فالأمر على زمان صلاح الدين وقطز كان أسهل! ولم تكن هناك حدود، وقانون
دولي، وهيئة أمم، ومجلس أمن ... ! عجباً! كيف ظن الفلسطينيون أن هناك من
يمكنه أن يتحدى ما يسمى (بالشرعية الدولية) ؟ ! .
لقد أدرك أهل فلسطين ذلك جيداً، فرأوا أن يبادروا الأمر بأنفسهم - وحسناً
فعلوا - فتركوا أمر الحسابات لأصحاب الحسابات، وحملوا عقيدتهم الإسلامية
يستلهمونها الثبات، وأعرضوا عمن سرقوا صبرهم داخل الحدود وخارجها من
شيوعيين وعلمانيين، وقرروا أن ينطلقوا من المسجد وأن يلجئوا إليه.
وهكذا تبدو لهذا الشعب عدة حقائق جديرة بالتوقف عندها:
فقد أدركوا أن المحرك الفعلي للجهاد والكفاح هو الإسلام، وأن الشيوعيين
الكذبة هم حلفاء اليهود، وقفوا معهم منذ البداية، ويرون في إسرائيل دولة وجدت
لتبقى.
وأن دعاة القومية العلمانيين هم صنائع للإنكليز، يكاد يقتلهم اللهاث وراء
الحلول الاستسلامية التي يعدهم بها أولياؤهم من الصليبيين.
وعلى الرغم مما يظهر من شعور بالهلع لدى من نصبوا أنفسهم متكلمين باسم
هذا الشعب؛ لأنهم وجدوا كل متاجرتهم السابقة لم تفد شيئاً، فتحركوا بنشاط
إعلامي واسع لاحتواء دوافع الانتفاضة، ومن ثم التأثير على توجيهها الوجهة التي
يريدون؛ فإن مما يبشر بالخير إدراك الشباب الفلسطيني المسلم إفلاس دعاة
العلمانية الذين فاجأتهم أحداث الضفة الغربية وغزة، فسارعوا وسط الحيرة يتدبرون
أمرهم ليطوقوا هذا الواقع الجديد.
ولكن.. هل يستمر حبل الأكاذيب إلى ما لا نهاية؟ !
يأبى الله ذلك ... ويأبى المؤمنون الذين يستمدون منه - وحده - العون والتسديد.(11/4)
مجددون معاصرون
حفل عصرنا الحديث بكوكبة مباركة من المجددين الذين صدقوا ما عاهدوا الله
عليه، وثبتوا على الحق الذي آمنوا به ودعوا الناس إليه، وصبروا على كل نصب
ومخمصة.. ولهذا فلقد التف الناس حولهم، واستجابوا لمطالبهم النبيلة، ووثقوا بهم
أشد الثقة.. وإذا كان من المتعذر علينا فيما تبقى من هذا البحث تناول أسمائهم كلها
فلسوف يكون حديثنا قاصراً على الأسماء التالية:
- محمد رشيد رضا.
-عبد الحميد بن باديس.
-العربي بن بلقاسم التبسي.
- حسن البنا.
-سيد قطب.
-محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ.
- عبد العزيز بن باز.
- محمد ناصر الدين الألباني.
ونظن أن بعض قرائنا الكرام سوف يستغربون اختيارنا لهذه الأسماء، وربما
قالوا: لقد أوقعنا كُتَّاب هذه المجلة في حيرة فهم يتحدثون عن التزامهم منهج أهل
السنة والجماعة ثم يشيدون برجال بعضهم لم يلتزم في دعوته أصول هذا المنهج؟ !
وجوابنا على ذلك: إننا ننطلق من منهج أهل السنة والجماعة، وهو مقياسنا
في الحكم على الرجال، ومن خالف هذا المنهج سنقول له: أخطأت والصحيح
عكس ما قلته واجتهدته، والمجدد ليس معصوماً عن الخطأ، والخطأ في مسألة لا
يخرج المجتهد من إطار أهل السنة والجماعة إذا كان من الداعين له.. والذي نريده
من إخواننا القراء أن يمهلونا حتى ننتهي من كل ما نريد أن نقوله في هذا البحث،
والله الهادي إلى سواء السبيل.
عودة إلى الحديث عن رشيد رضا
ولد محمد رشيد رضا في 27 جمادى الأولى سنة 1282هـ في قرية ...
(القلمون) التي تبعد عن مدينة طرابلس الشام بنحو ثلاثة أميال، ودخل المدرسة الرشيدية في طرابلس ثم تركها بعد سنة ودخل المدرسة الوطنية ... ... الإسلامية، وتتلمذ على الشيخ حسين الجسر مدير المدرسة الذي كان له إلمام ... واسع بالعلوم العصرية، وكان في أول نشأته يميل إلى التصوف كما كان شديد الإعجاب بكتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي.. ثم ظفر- على حد
قوله- بنسخة من جريدة العروة الوثقى في أوراق والده فأعجبته، وكتب إلى
جمال الدين الأفغاني الذي كان يقيم في الأستانة لكنه لم يجتمع به، ثم اجتمع ... بالشيخ محمد عبده أثناء زيارته لطرابلس الشام، ثم رحل إلى مصر في رجب ... سنة 1315هـ، الموافق سنة1898 م، وفي العام نفسه أصدر مجلة المنار التي استمرت حتى سنة 1354 هـ، الموافق عام 1935م.
وكان عضواً في الحكومة السورية الأولى التي أقامها فيصل بن الحسين بعد
الحرب العالمية الأولى، فلما استولى الفرنسيون على سورية وسقطت هذه الحكومة
عاد إلى مصر، وأعاد إصدار مجلة المنار بعد توقفها.
مات أستاذه محمد عبده سنة 1323 هـ، الموافق سنة1905 م، وهذا يعني
أنه عاش في صحبته حوالي سبع سنين، واستمرت المنار ثلاثين عاماً بعد موت
محمد عبده، واستمر عطاء رشيد رضا الذي يكاد لا ينضب، وخلال هذه المرحلة
صلح حاله وأقبل على كتب السنة ينهل منها، ويعترف في مقدمة المنار بأنه خالف
منهج محمد عبده بعد وفاته:
(هذا وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه الله تعالى
بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء،
وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، وفي بعض الاستطرادات
لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا
العصر، أو يقوي حجتهم على خصومهم من الكفار والمبتدعة..) .
كانت مجلة المنار سجلاً تاريخياً لأحداث العالم الإسلامي طيلة أكثر من ثلث
قرن، وكان رشيد رضا هو المنار بتحليلاتها السياسية، ودراساتها الشرعية..
ولهذا فلقد كان يواصل الليل مع النهار من أجل أن تخرج المنار في مطلع كل شهر.. والعجيب أنها كانت تخرج كثيفة المحتوى، كثيرة الفائدة، وكان بعيد النظر في تعليقاته ومواقفه، غزير المادة، كما كان أسلوبه قوياً متماسكاً.
قال شكيب أرسلان:
(ويطول العهد بعد الأستاذ الأكبر السيد رشيد - فسح الله في أجله - حتى
يقوم في العالم الإسلامي من يسد مسده في الإحاطة والرجاحة وسعة الفكر وسعة
الرواية معاً والجمع بين المعقول والمنقول والفتيا الصحيحة الطالعة كفلق الصبح في
النوازل، العصرية والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة مما لا شك أن الأستاذ
الأكبر فيه نسيج وحده انتهت إليه الرئاسة لا يدانيه فيه مدان مع الرسوخ العظيم في
اللغة والطبع الريان من العربية والقلم السيال بالفوائد في مثل نسق الفرائد والخبر
بطبائع العمران وأحوال المجتمع الإنساني ومناهج المدنية وأساليبها وأنواع الثقافات
وضروبها إلى المنطق السديد الذي لم يقارع به خصماً مهما علا كعبه إلا أفحمه
وألزمه ولا نازل قرناً كان يستطيل على الأقران إلا رماه بسكاته وألجمه.
وأجدر بمجموعة (المنار) أن تكون المعلمة الإسلامية الكبرى التي لا
يستغني مسلم في هذا العصر عن اقتنائها) [1] .
دعوة الشيخ رشيد:
نعيد للأذهان أننا نتحدث عن دعوة الشيخ رشيد رضا في المرحلة التي تلت
وفاة شيخه محمد عبده (1905 - 1935) ، ونلخص أهم ما دعا إليه في النقاط
التالية:
1- كان ملتزماً بمنهج أهل السنة والجماعة، وكان يحرص على أخذ أدلته من
الكتاب والسنة، ويهتم بتخريج الأحاديث، ومعرفة الصحيح من الضعيف أو
الموضوع، وانتهج مذهب السلف في الأسماء والصفات.
2 - من أهم ما دعا إليه نبذ التقليد، والتحذير من البدع والخرافات، والتنديد
بمناهج الصوفيين وبيان ما وقعوا فيه من انحرافات وضلالات. وموقف رجال
عصره من البدع والتقليد يختلف عن موقف رجال وعلماء عصرنا.
لقد عاصر رحمه الله هيمنة أصحاب البدع والخرافات على شئون العالم
الإسلامي ومقدراته، فالسلطان عبد الحميد كان صوفياً نقشبندياً، وبقربه قبع أبو
الهدى الصيادي يأمر وينهى مدة لا تقل عن ثلاثين عاماً وكان يوغر صدر السلطان
عبد الحميد ضد كل جديد ومجدد.. وكان اسم وظيفته الرسمية مشيخة المشايخ أو
شيخ مشايخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف.
وفي مصر خاض السيد رشيد معركة حامية الوطيس ضد الخرافيين.
والمبتدعين.. وردوا من جهتهم له الصاع صاعين، وحاولوا تشويه سمعته،
وبالغوا في الإساءة إليه، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: كان رشيد رضا أول داعية في
العصر الحديث يتصدى للمبتدعين والخرافيين، وكان ينطلق في مواجهتهم من
التزامه بمنهج أهل السنة والجماعة.
3 - كان بارعاً في ربطه بين التصورات والمفاهيم الإسلامية، وبين واقع
العصر وذلك لأنه كان من العلماء المعدودين في عصره، وكان باعه طويلاً في
العقائد والتفسير والحديث والفقه والأصول وعلوم اللغة العربية، والعلوم الاجتماعية كما كان إلمامه بمشكلات العصر جيداً وذلك بسبب أسفاره ومخالطته لعدد من
علماء الغرب وفلاسفتههم، وكان يعرف أفكارهم وطروحاتهم، وله ردود جيدة
عليهم في كتابه (الوحي المحمدي) وفي مجلة المنار.
4 - وكما قلنا في العدد الماضي كان داعية من دعاة الإصلاح، لقد هاجم
الترف والإسراف، وحذر من الجهل والتخلف والخوف من الظالمين، ونادى
بالشورى وندد بالاستبداد والمستبدين، ودعا علماء الأمة إلى القيام بواجبهم في
الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مآخذنا عليه:
1- ذكر في كتابه (تاريخ الإمام) العجب العجاب عن جمال الدين الأفغاني
وعن محمد عبده.
- ذكر انتسابهما للمحفل الماسوني، وذكر في الجزء الثاني مفاوضات محمد
عبده مع القسيس الإنجليزي إسحاق تيلور، وفي الجزء الأول ذكر اشتراك اليهود
في هذه المفاوضات التي كان هدفها توحيد الأديان، والتقريب بين الإسلام
والنصرانية! !
- وذكر حوار محمد عبده مع عباس ميرزا أحد زعماء البهائيين ونبهه - أي
رشيد رضا - إلى انحرافات البهائيين فأجاب تلميذه لم أفهم من عباس أفندي شيئاً
من هذا! !
- وكان ملتصقاً بمحمد عبده ويعرف صلته بحزب الأمة واللورد كرومر،
والجاسوس الإنجليزي الخطير (ولفرد بلنت) ، ويعرف أيضاً تردد شيخه على
صالون الأميرة نازلي داعية التبرج والسفور.. كان رشيد رضا يعرف كثيراً عن
انحرافات محمد عبده ومع ذلك قال في ثنائه عليه:
(وإنني وايم الحق لم أطلع له على عمل إلا الحقيق بلقب المثل الأعلى من
ورثة الأنبياء..، وقال أيضاً: إن هذا الرجل أكمل من عرفت من البشر ديناً وأدباً
ونفساً وعقلاً وخلقاً وعملاً وصدقاً وإخلاصاً، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا
ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري) [2] .
ولا ندري هل هذا رأي رشيد رضا الحقيقي بشيخه رغم أخطائه الفادحة التي
تتعارض مع المنهج الذي كان يتبناه ويدافع عنه ويشن حملات عنيفة ضد مخالفيه
من المبتدعين المقلدين ... أم أن المجاملة حالت بينه وبين الاعتراف بالحق؟ !
2 - بقيت بصمات محمد عبده ظاهرة فيما كان يكتبه رشيد رضا بعد وفاة
الأول، ومن الأمثلة على ذلك تأويله لمعجزة انشقاق القمر رغم تخريج البخاري
ومسلم لها، وتضعيف كثير من الأحاديث التي لا تتفق مع آراء أصحاب المدرسة
الإصلاحية كما أنه صحح بعض الأحاديث الضعيفة التي تتفق مع أفكاره التي كان
ينادي بها [3] . لكنه مع ذلك لم يتخلى عن منهج أهل السنة وكما يقولون: لكل
جواد كبوة ولكل صارم نبوة.
3 - لم يكن موقف رشيد رضا من الدولة العثمانية سليماً، ومن آثار هذا
الموقف المؤسف قبوله الاشتراك في أول حكومة سورية بعد الحرب العالمية الأولى،
وأهداف هذه الحكومة لم تكن خافية على أمثال رشيد رضا، بل وكثير من
رجالات هذه الحكومة معروفة انتماءاتهم العالمية المشبوهة.
ولو أن رشيد رضا وقف عند حد نقد سياسة السلطان عبد الحميد وإطلاقه
لأيدي الخرافيين والمستبدين، أو أنه وقف عند حد نقد رجالات الاتحاد والترقي لما
وجدنا في هذا أو ذاك غلواً منه، ولكن موقفه تجاوز هذا الحد ولم يكن صائباً في
موقفه، وكان المنتظر منه غير ذلك لطول باعه في معرفة أحوال العصر، ولا
ندري إلى متى يستمر جهل كثير من العلماء بالسياسة؟ وإن كان موقف رشيد رضا
هنا ليس ناتجاً عن الجهل.
لماذا بدأنا برشيد رضا؟ :
يبقى الشيخ رشيد رضا رغم أخطائه عالمًا كبيراً من كبار علماء أهل السنة،
ومن يتحدث عن التجديد في العصر الحديث لا بد أن يذكر مجلة المنار وصاحبها إذا
كان جاداً ومنصفاً في بحثه. ولقد تأثر به علماء كبار مشهود لهم بالفضل والخير
والعدل. نذكر منهم الآتية أسماؤهم.
1- أسندت رئاسة تحرير مجلة المنار بعد وفاة رشيد رضا إلى العلامة السلفي
الشيخ محمد بهجت البيطار أحد كبار علماء بلاد الشام، وذلك بسبب الروابط القوية
التي كانت تربطه بمؤسسها، ولأنه خير من يخلفه في هذه المهمة، وقد أشاد الشيخ
بهجت برشيد رضا ومنهجه في تقريظ له لكتاب الوحي المحمدي وفيما كتبه في
المنار.
2 - قال العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألبإني: (السيد محمد
رشيد رضا، رحمه الله له فضل كبير على العالم الإسلامي، بصورة عامة، وعلى
السلفيين منهم بصورة خاصة، ويعود ذلك إلى كونه من الدعاة النادرين الذين نشروا
المنهج السلفي في سائر أنحاء العالم بوساطة مجلته المنار،.. ويقول أيضاً: فإذا
كان من الحق أن يعترف أهل الفضل بالفضل، لذوي الفضل، فأجد نفسي بهذه
المناسبة الطيبة مسجلاً هذه الكلمة، ليطلع عليها من بلغته، فإنني بفضل الله عز
وجل، بما أنا فيه من الاتجاه إلى السلفية أولاً وإلى تمييز الأحاديث الضعيفة
والصحيحة ثانياً يعود الفضل الأول في ذلك إلى السيد رضا رحمه الله عن طريق
أعداد مجلته المنار التي وقفت عليها في أول اشتغالي بطلب العلم) [4] .
3 - أسندت رئاسة تحرير المنار بعد توقف دام ثلاث سنوات إلى الشيخ حسن
البنا رحمه الله، ويقول الأستاذ محمود عبد الحليم: (لم يكن الشيخ حسن البنا غريباً
على أسرة الشيخ رشيد فقد كان على صلة بالشيخ منذ كان طالباً بدار العلوم وكانت
دار مجلة المنار ملتقاه بأكثر من التقى بهم من رجالات الحركة الإسلامية في ذلك
العهد، واتخذت أكثر القرارات في مواجهة المؤامرات ضد الإسلام في هذه الدار
وظل الأستاذ حسن البنا على اتصال بالشيخ رشيد بعد قيام دعوة الإخوان،
وكان يستشيره في كثير من الأمور) [5] .
وكتب الأستاذ البنا يقول: (وقد عز على الإخوان أن يخبو ضوء هذا السراج
المشرق بالعلم والمعرفة من اقتباس الإسلام الحنيف، فاعتزموا أن يتعاونوا مع
ورثة السيد رحمه الله على إصدار المنار من جديد، وقد تم الاتفاق على ذلك وصدر
العدد الخامس من السنة الخامسة والثلاثين في غرة جمادى الآخر سنة 1358
الموافق 18 يوليو سنة 1939: أي قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بعدة أشهر،
وتلاه خمسة أعداد أخرى تمت بها السنة الخامسة والثلاثون من المجلة..) .
ومما كتبه شيخ الجامع الأزهر محمد مصطفى المراغى في افتتاحية العدد
الخامس:
(والآن وقد علمت أن الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيد سيرته
الأولى فسرني هذا فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي
يعيش فيه، ويعرف مواع الداء في جسم الأمة الإسلامية ويفقه أسرار الإسلام، وقد
اتصل بالناس. اتصالاً وثيقاً على اختلاف طبقاتهم وشغل نفسه بالإصلاح الديني
والاجتماعي على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة، وبعد فإني أرجو
الأستاذ البنا أن يسير على سيرة السيد رشيد رضا، وأن يلازمه التوفيق كما
صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين، عليه نتوكل وبه نستعين) [6] .
4 - تعتبر جمعية العلماء في الجزائر، امتداداً لدعوة رشيد رضا في مصر
وبلاد الشام، فرئيس الجمعية ونائبها - في عهد ابن باديس - البشير الإبراهيمي،
قال: إن جمعية العلماء مدينة بالكثير لرشيد رضا ومجلته المنار، وكان قد التقى به
في دمشق خلال إقامته فيها (1916-1920) [7] ... ويستعيد الإبراهيمي ذكرياته
مع ابن باديس فيقول:
(ولا أنسى مجلساً كنا فيه على ربوة من جبل قاسيون في زيارة من زياراته
لي، وكنا في حالة حزن لموت الشيخ (رشيد رضا) قبل أسبوع من ذلك اليوم،
فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له. ليس لإكماله إلا
أنت، فقال لي: ليس لإكماله إلا أنت، فقلت له: حتى يكون لي علم رشيد، وسعة
رشيد، ومكتبة رشيد، ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد. فقال لي
واثقاً مؤكداً: إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيراً يغطى على التفاسير
من غير احتياج إلى ما ذكرت) [8] .
ومن خلال رسائله الشخصية التي كان يرسلها لصديقه شكيب أرسلان، والتي
جمعها الأخير في كتاب أسماه (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة) نعلم متانة
الروابط التي تربط رشيد رضا مع علماء وقادة المغرب العربي كله.
5- تصدى رشيد رضا للدعاية المناوئة لعلماء نجد، وكان يطلق عليهم في
رسائله إلى شكيب أرسلان الوهابية، وعندما انتشرت الأراجيف ضدهم بعد افتتاح
الطائف وزع ألوفاً من رسالة (الهدية السنية والتحفة النجدية) ونشر مقالات في
الدفاع عنهم والرد على خصومهم، وقد قال له شيخ الأزهر أمام ملأمن العلماء:
(جزاك الله خيراً بما أزلت عن الناس من الغمة في أمر الوهابية) [9] . ...
واستمرت صلات رشيد رضا مع علماء نجد وزعمائها إلى أن لقى وجه ربه ولقد
كانت موتته بينهم.. وكانت له مثل هذه الصلات مع السلفيين في مختلف بلدان
العالم الإسلامي.
6 - وعندما أصدر علي عبد الرازق كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي
تحمس له العلمانيون أشد التحمس، كان الكاتب يرد في بعض ما كتبه على رشيد
رضا في كتابه (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي نشره في المنار قبل إلغاء
أتاتورك للخلافة، وبيت القصيد أن العلمانيين كان يمثلهم علي عبد الرازق
والإسلاميين كان يمثلهم رشيد رضا.
7 - بعد وفاته أقيمت له حفلات تأبين [10] في كل من مصر، وتونس،
وبغداد، ودمشق، وتبارى عدد من علماء الأمة وزعمائها في هذه البلدان في إلقاء
الكلمات التي عددوا فيها مآثر الفقيد.. وفي هذا كله دليل على علو مكانته، وتقدير
الناس لدوره القيادي الذي استمر حوالي أربعين سنة.
ولهذا ففي حديثنا عن المجددين المعاصرين بدأنا برشيد رضا، لأن الذين
سنذكرهم استفادوا منه، ولأنه كان ملتزماً بمنهج أهل السنة ومن أراد العودة إلى
مؤلفاته فعليه أن يتذكر غلطاته التي أشرنا إليها (مآخذنا عليه) ونسأل الله أن يغفر
له ويرحمه.
__________
(1) حاضر العالم الإسلامي: المجلد الأول، الجزء الأول،؟ 284 والسيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة تأليف شكيب أرسلان، ص 15، مطبعة ابن زيدون بدمشق.
(2) انظر كتاب عبقرية الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده، لمؤلفه عباس محمود العقاد، ص 190، مكتبة النهضة بمصر.
(3) أشار الشيخ ناصر الألباني إلى ذلك، انظر حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه ص1/400- 405، الدار السلفية، الكويت، وللشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله رسالة في الرد على رشيد رضا، اسمها الروضة الندية في الرد على من أجاز المعاملات الربوية وهي رد على أحمد محمد محجوب وفتوى الربا والمعاملات في الإسلام (لرشيد رضا) .
(4) حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه: 1 / 400 -، وذكر الشيخ ناصر في المصدر نفسه بعض أخطاء رشيد رضا.
(5) انظر كتاب: الإخوان المسلمون - أحداث صنعت التاريخ1/ 246 لمؤلفه محمود عبد الحليم.
(6) مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص253.
(7) سجل مؤتمر جمعية العلماء، ص 37 عن كتاب جمعية العلماء وأثرها الإصلاحي في الجزائر،
د أحمد الخطيب، ص 149.
(8) مقدمة تفسير ابن باديس، 26، نشر دار الفكر.
(9) السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، شكيب أرسلان، ص 366 الناشر مطبعة ابن زيدون بدمشق.
(10) حفلات التأبين ليس لها أصل شرعي وإنما نذكرها لبيان مكانة رشيد رضا بين صفوف الدعاة والعلماء.(11/8)
زيادات أبي الحسن القطان
على سنن ابن ماجه
د. مسفر بن غرم الله الدميني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد.
فقد حفظ الله لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، ومن مظاهر
ذلك الحفظ ما قام به علماء الأمة من السلف الصالح - حيث اعتنوا بحديث رسول
الله-صلى الله عليه وسلم- حفظاً وتدويناً ونشراً له وتعليماً، فمنهم من اعتنى
بالصحيح فأفرده - كالبخاري ومسلم - ومنهم من ضم إليهما دونه - كأصحاب
السنن والمسانيد - ومن هؤلاء الأئمة: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني الشهير
بابن ماجه، مصنف كتاب (السنن) الذي عده العلماء رابع السنن الأربع وسادس
الكتب الستة.
وقد روى عنه كتاب السنن هذا عدد من العلماء منهم:
- أبو الحسن القطان.
-وسليمان بن يزيد القزويني.
-وأبو جعفر محمد بن عيسى المطوعي الأبهري.
ويبدو أن الروايات غير رواية (أبي الحسن) قد انقطعت، فلم يبق متنها
سوى رواية أبي الحسن القطان هذه، وهي التي اعتمدها الأستاذ محمد فؤاد عبد
الباقي عند طبعه وترقيمه للكتاب، واعتمدها الدكتور محمد مصطفى الأعظمي عند
طبعه وفهرسته أيضاً للسنن.
وأبو الحسن هو: علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القزويني، القطان
(254 - 345هـ) أحد الأئمة الأعلام الحفاظ، فقد جاء في ترجمته أنه كان يحفظ
مائة ألف حديث، وقال عنه الذهبي. الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام ... عالم
قزوين.. جمع وصنف وتفنن في العلوم وثابر على القرب ... .
ولما كان رحمه الله تعالى في هذه المنزلة العالية من العلم والحفظ، وكان ممن
سمع من أبي عبد الله بن ماجه سننه، ومن طريقه - اليوم فقط -يتصل الإسناد؛
فإنه عند روايته سنن ابن ماجه لطلابه ربما كان عنده للحديث الذي يرويه لهم من
السنن إسناد آخر عال من غير طريق ابن ماجه يلتقي معه في شيخه أو من دونه،
فتراه يسوق إسناده العالي عقب روايته لحديث ابن ماجه، وهنا يروي الراوي عنه
تلك الزيادات مضمومة إلى أحاديث السنن نفسها، وهذا منه - رحمه الله تعالى -
يشبه عمل أصحاب المستخرجات، وربما زاد حديثاً مستقلاً بإسناده ومتنه -وهذا
قليل -بلفظ حديث ابن ماجه أو بنحوه.
ويجد المطالع للسنن تلك الزيادات بنوعيها مصدرة بقوله: قال أبو الحسن،
أو: قال القطان، أو قال أبو الحسن بن سلمة، أو: قال أبو الحسن القطان.
والذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر ما صنعه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي،
والدكتور محمد مصطفى الأعظمي عند طبع كل منهما للكتاب، فأما الأول منهما فقد
جعل للأحاديث التي ساقها أبو الحسن بن سلمة بأسانيدها ومتونها أرقاماً مسلسلة مع
أحاديث السنن، فيحسبها الناظر من أحاديث سنن ابن ماجه جاءت في صورة
التعليق، أما الأحاديث التي ساق أبو الحسن أسانيدها وأحال على أحاديث ابن ماجه
المتقدمة لها في متونها فلم يجعل لها أرقاماً مستقلة مسلسلة، بل ذكرها عقب أحاديث
السنن، لكنه بدأ بكل زيادة سطراً جديداً.
أما الدكتور الأعظمي فجعل لكل زيادة- سواء تحمل إسناداً ومتناً معاً، أو
إسناداً مع الإحالة على متن ابن ماجه -رقماً مسلسلاً مع أحاديث السنن دون تفريق
في نوع الحرف أو إشارة في الحاشية، ولم يشر إلى ذلك إلا إشارة عابرة هي قوله
في المقدمة:
( ... وعدد أحاديثه أربعة الآف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثاً بما فيها من
زيادات القطان.) . وعملهما هذا - غفر الله لهما - يوهم بعض طلاب العلم أن
الجميع من سنن ابن ماجه، وأن تلك الزيادات من معلقات ابن ماجه عن أبي الحسن
القطان، بينما الأمر خلاف ذلك، فأبو الحسن القطان تلميذ ابن ماجه، وراوية سننه
وليس شيخه، وتلك الأحاديث الواردة في صورة التعليق من زيادات أبي الحسن
القطان على كتاب شيخه ابن ماجه، ثم إنها ليست معلقة بل مسندة له، فربما ... التقى مع شيخه أثناء الإسناد وربما استقل بحديث تام بإسناده ومتنه.
ولما كانت زيادات أبي الحسن القطان هذه مدرجة مع أحاديث سنن ابن ماجه
- كما قدمنا- بل إنها قد تأخذ رقماً مسلسلاً مع تلك الأحاديث، مما يوهم بعض
طلاب العلم أنها من السنن لذلك رأيت أن أفردها بالذكر ليتنبه إليها من لا علم له ... بها، ولتكون عند العارف بها مجموعة مستقلة، مرتبة حسب ورودها في السنن، وقد سلكت في إيراد هذه الزيادات حال كل نوع منها، فإن كانت الزيادة حديثاً كاملاً بإسناده ومتنه اكتفيت بنقله تاماً، وإن كانت الزيادة كالحديث المستخرج - بحيث يلتقي أبو الحسن بن سلمة مع شيخه ابن ماجه أثناء الإسناد مع علو بدرجة أو أكثر - ثم يحيل على المتن الذي ذكره ابن ماجه قائلاً: بنحوه، أو. مثله، فإني أنقل أولاً حديث ابن ماجه بإسناده ومتنه ثم أتبعه زيادة أبي الحسن، وذلك ليعرف القارئ موضع الالتقاء مع شيخه، وليعرف أيضاً متن ابن ماجه الذي أحال عليه، ولكني سأكتفي -في هذا المقال- بإيراد الأحاديث التي جعل لها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أرقاماً مسلسلة مع أحاديث سنن ابن ماجه، وذلك لأنها زيادات مستقلة مشتملة على إسناد الحديث ومتنه، ثم أذكر أرقام الأحاديث التي استخرج عليها أبو الحسن زياداته تلك، علماً بأن في النسخة المخطوطة التي اعتمدها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي من الأحاديث والزيادات ما ليس في النسخة التي اعتمدها الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، وكذلك العكس، وسيجد القارئ قائمة تحوي أرقام الأحاديث المشتملة على الزيادات مقارنة ليسهل الرجوع إليها، ولتعرف الزيادات في كل طبعة.
أولاً: الأحاديث الزائدة:
321 -قال أبو الحسن بن سلمة: وحدثناه أبو سعد عمير بن مرداس الدونقي، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم أبو يحيى البصري، ثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن
جابر أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- نهاني
أن أشرب قائماً، وأن أبول مستقبل القبلة (1: 116) .
451 -قال القطان: حدثنا أبو حاتم، ثنا عبد المؤمن بن علي، ثنا عبد
السلام بن حرب، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول
الله-صلى الله عليه وسلم-: «ويل للأعقاب من النار» (1: 154) .
596- قال أبو الحسن: وثنا أبو حاتم، ثنا هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن
عياش، ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: «لا يقرأ الجنب والحائض شيئاً من القرآن» (1: 196) .
ثانياً:
أرقام الأحاديث التي استخرج عليها أبو الحسن القطان زياداته على السنن،
وذلك بذكر رقم الحديث في طبعة عبد الباقي والرقم الذي يقابله في طبعة الأعظمى:
رقم الحديث المشتمل على الزيادة ... رقم الحديث الذي يقابله في
في طبعة عبد الباقي ... ... ... طبعة الأعظمي
----------------------------------------------
22 00
84 73
00 213
244 217
244 218
252 227
256 232
257 00
261 256
00 257
284 282
299 299
300 301
321 325
323 328
324 00
326 332
346 355
350 360
356 367
358 370
374 387
388 403
400 416
402 419
413 431
446 464
451 00
262 480
469 488
518 540
525 00
596 00
657 624
675 00
1303 1296
وقد جعلت هذه الزيادات بنصوصها ومواضعها مع ترجمة لابن ماجه وأبي
الحسن القطان في رسالة لطيفة أسميتها (زيادات أبي الحسن القطان على سنن ابن
ماجه) أرجو أن تطبع قريباً. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(11/18)
خواطر في الدعوة
ولكن أصحابه لم يقوموا به!
محمد العبدة
يروى عن الإمام الشافعي أنه قال في (الليث بن سعد) : (هو أفقه من مالك
ولكن أصحابه لم يقوموا به) ومقصود الشافعي - رحمه الله - أن أصحاب مالك نشطوا في نشر فقهه وعلمه، وسُمع به في الآفاق، ولم ينشط تلامذة الإمام الليث بن سعد لمثل ذلك. ونحن إذا استبعدنا عامل الحسد والمنافسة من معاصري هذا الإمام فقد يكون السبب في ذلك هو غفلتهم عن تقدير مكانة شيخهم أو إهمالاً وضعفاً منهم في نشر آرائه العلمية، وقد يكون للحسد دور أحياناً في إهمال الرجال وعدم الاستفادة منهم، ولكن يبقى مرض الإهمال والغفلة من الأمراض المستحكمة خاصة إذا غلف بغلاف من سوء الفهم للنصوص التي وردت بذم المداحين، ولا يذكرون النصوص الأخرى التي تشعر المسلمين وتنبههم إلى أهمية بعض الصحابة ومكانتهم العلمية أو القيادية حتى لا يقع الإهمال عن حسن نية.
إن الإعلاء من شأن أهل الحق عدا عن أن فيه إزراء وغضاً من مكانة أهل
الباطل، حتى لا يرفع لهم ذكر ولا يقتدى بهم، فهو كذلك مما يشجع الناس على
الالتفاف والاستفادة من الدعاة والعلماء الذين ينتصبون أمثلة للمنهج السوي، كما
كانوا يقولون. (إذا رأيت أحداً يكره مالك بن أنس فاعلم أنه مبتدع) .. والجيل
الذي لا يستفيد من الذين سبقوه ويبني علىما بنوا، ولا يقدر العلماء والنابهين،
سيكون مآل أمره إلى الفشل لأنه سيعود في كل مرة إلى نقطة الصفر، ويعود إلى
الأخطاء ذاتها، وتتكرر تجارب الفشل والنجاح، وقد تبتلى الأمة أحياناً بأمثال
الحجاج بن يوسف الذي آذى الصحابي الجليل أنس بن مالك فكتب إليه الخليفة عبد
الملك موبخاً: (والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً يخدم عزير بن عزرا،
وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته وكرامته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو
خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه) .
وعندما أنكر الشيخ أبو محمد العز بن عبد السلام على ملك دمشق ما عزم
عليه من الصلح مع الصليبيين، أخذ وسجن، ثم حمله الملك معه عندما ذهب
لتوقيع هذا الصلح، ووضعه في خيمة انفرادية، وكأنه أراد أن يدلل على (حسن
النوايا) فقال للمفاوضين: هذا الشيخ أنكر علي الصلح معكم فكان جوابهم: لو عندنا
مثل هذا الشيخ لغسلنا قدميه وشربنا غسالتهما.
ونحن لا نطلب الغلو في الرجال كما يفعل النصارى، فهذا من أبعد الأشياء
عن الإسلام، ولكن لا يجوز لنا أن نغمطهم حقهم، أو أن نطمس ذكرهم بكل ما
أوتينا من الوسائل وعن غفلة وحسن نية أحياناً.
ونحن نرى بأعيننا مصداق ما قاله عبد الملك بن مروان وما يفعله الأوربيون
الآن بعظمائهم أو بكل من أسهم في نهضتهم، ولا ينسون أحداً منهم، ولو كان عمله
قليلاً، وهذا يذكرني بإهمال المجلات والصحف عندنا لذكر كبار علمائنا، فعندما
توفي الشيخ محمد الأمين الشنقيطي لم تذكره إلا صحيفة واحدة، وفي زاوية صغيرة
من صفحاتها، وهؤلاء العلماء والدعاة لا يضيرهم عند الله أن يذكرهم الناس أو لا
يذكرونهم، ولكن أليس من حقهم علينا أن نستفيد منهم، وإذا لم نفعل هذا وبخسنا
الناس أشياءهم، أليس في ذلك ظلم لنا ولهم؟ ! ..(11/22)
البدعة وأثرها في
الانحراف في الاعتقاد
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
الحمد لله حمداً كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكمال وجهه، والصلاة على
رسوله الهادي إلى صراطه المستقيم بالحكمة والبصيرة، صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته وسلك سبيله إلى يوم الدين، وبعد.
إن الله بفضله ورحمته وشمول رعايته خلقه قضى بإنقاذ عباده من مكايد
الشيطان ومخططاته، فأرسل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- على فترة من
الرسل وبعد أن تحولت الديانات السماوية بفعل الأحبار والرهبان إلى ديانات
ممسوخة يمجها العقل وتأباها الفطر السليمة سواءً ما كان منها متعلقاً بعلاقة العبد
بربه أو ما كان متعلقاً بعلاقة العباد مع بعضهم، فجاء -صلى الله عليه وسلم-
رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً ورسولاً عاماً للثقلين الجن والإنس،
مؤيداً بكتاب كريم من رب رحيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه
العظة والعبرة، وفيه الحكمة والموعظة، وفيه الوعد والوعيد، والترغيب
والترهيب، وفيه التشريع الضامن لأحسن علاقة بين العبد وبين ربه، وبين العباد
فيما بينهم، ضمن لهم الحفاظ على كامل الحقوق الأساسية - الدين والنفس والعقل
والمال والعرض - وعلى كامل ما تفرع عنها مما يعود عليها بالكمال ورفع ... الحرج.
جاء -صلى الله عليه وسلم-كماوصفه ربه: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 128] ، فبلغ -
صلى الله عليه وسلم- رسالة ربه وأمانة من أرسله، ونصح -صلى الله عليه
وسلم- للأمة النصح الكامل، ما من خير إلا دل الأمة عليه وما من شر إلا حذرها
منه، فانقاد لدعوته -صلى الله عليه وسلم- صفوة مختارة من عباد الله، آمنوا بالله،
وأخلصوا دينهم لله وجاهدوا مع رسول الله حق الجهاد مضحين في سبيل الله
بأموالهم وديارهم وأهليهم، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وحطم -صلى الله
عليه وسلم- الأصنام التي حول الكعبة وهو يقول [وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ
إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] [الإسراء: 81] .
وكان -صلى الله عليه وسلم- مدركاً أن الشيطان حريص على نقض ما أبرمه -
صلى الله عليه وسلم- من وحدة إسلامية ترجع في حياتها وفي تكييف علاقاتها إلى
كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وأن مداخل الشيطان على عباد الله مختلفة ومتنوعة،
فمن كان إيمانه ضعيفاً انقض عليه بخيله ورجله في التشكيك وطرح الشبهات في
أصول الإيمان وفروعه حتى يرتد عن دين الله بالكفر والإلحاد والزندقة. وإن كان
إيمانه قوياً لا مدخل عليه في التشكيك والزعزعة دخل عليه من باب الابتداع ومن
باب الغلو في الدين وأتباعه كما هي حاله لعنه الله مع الأحبار والرهبان من اليهود
والنصارى حيث انقادوا لوساوس الشيطان ومكايده وضلالالته، فحرفوا كتب الله،
وغيروا مقتضيات شرعه، حتى صارت ديانات ممسوخة ليس لها عند الله القبول،
قال تعالى: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدركاً طرق غواية الشيطان
وإضلاله فركز -صلى الله عليه وسلم- لحماية هذا الدين على أمرين: أحدهما:
التحذير من الغلو والإفراط في الدين ومجاوزة الحد في المدح والثناء إذا كان ... ذلك لغير الله، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
قال: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» رواه الإمام أحمد والترمذي
وابن ماجه.
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله
عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-كنيسة رأتها بأرض
الحبشة وما فيها من الصور، فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد
الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند
الله» .
ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله-صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح
خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: «لعنة الله على
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» - يحذر ما صنعوا - ولولا ذلك
لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد،
ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه
وسلم-: ما شاء الله وشئت، قال. «أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده» . رواه
النسائى وابن ماجه.
ولأبي داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. ... فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله ... أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد» .
ولأبي داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انطلقت
مع وفد بني عامر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقلنا: أنت سيدنا. فقال:
«السيد الله تبارك وتعالى» . فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال:
«قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» .
فهذه الأحاديث وغيرها من عشرات الأحاديث ومئات أمثالها كلها تؤكد
حرص رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على سلامة أمته من وساوس الشيطان
وخواطره وإيحاءاته وهمزاته، وتحذر هذه الأمة أن يدخل الشيطان عليها مع مداخله
على من سبقها من الأمم من يهودية ونصرانية وغيرهما، فإن أكبر باب للشيطان
للضلالة والإضلال هو باب الغلو والابتداع. فلقد نهى -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه أن يتجاوزوا الحد في إطرائه ومدحه وتعظيمه، وحمى جناب التوحيد من
أن تدنس مقتضياته أو تطمس معالمه، وأوضح في أكثر من مقام أن ضلال من
قبلنا من اليهود والنصارى وغيرهم كان بسبب غلوهم في أنبيائهم وصالحيهم حيث
كانوا يتخذون المساجد على قبورهم، فيعظمونها على سبيل العبادة، وكانوا بذلك
شرار الخلق عند الله، وكانوا بذلك أبعد الخلق عن الله، وكانوا بذلك أولياء الشيطان
وحزبه. [أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ] .
ومع هذا الحرص الشديد من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وتناقل علماء
السنة الآثار الواردة في ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- وإشاعتها بين عباد الله إلا
أن الشيطان كان دائب الحركة في سبيل الغواية والضلال والإضلال، وقد وجد له
من الصوفية والمتصوفة، من اتخذهم له أولياء واتخذوه لهم وليًّا فغلوا في دين الله،
وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله، فاعتقدوا النفع والضر عند غير الله، والمنع
والعطاء لدى غير الله، لدى مشايخ الطرق وأدعياء التصوف والدجل والشعوذة
أحياء وأمواتاً، وصرفوا للمخلوق مما هو محض حق الخالق حقوقاً لا تصح نسبتها
إلا لله فهذا البوصيري يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من أوذ به ... سواك عند حلول الحادث العم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا البرعي يقول:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذ يوم تلقاني
فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني
وهذا البكري يقول:
وناده إن أزمة أنشبت ... ظفارها واستحكم المعضل
عجل بأذهاب الذي اشتكى ... فإن توقفت فمن أسأل؟ !
وهذا رابع يقول:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل وا ذخري ومفتخري
فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر
وبالرغم من حركات الشيطان في الغواية والإضلال، وقدرته على اصطفاء
مجموعة من عباد الله ليكونوا أعواناً في الضلال والإضلال؛ إلا أن الله يأبى إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون، فلقد وعد الله تعالى بحفظ كتابه من التحريف والتغيير
والتبديل، وتم وعد الله فلقد مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرناً وهو
محفوظ بكل وسائل الحفظ سراجاً منيراً ومحجة بيضاء، كما أن الله تعالى قيض
لسنة رسوله (ص) رجالاً أتقياء أذكياء صالحين نقلوها إلى الأمة الإسلامية ... نقية صافية وبذلك تحقق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» ؟ وقوله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنة رسوله» الأمر الثاني من ... الأمرين اللذين ركز عليهما -صلى الله عليه سلم- في حماية الدين: الابتداع في الدين.
لقد عرَّف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين يضاهي بها أحد
مقتضياته، إلا أن هذه المضاهاة تنطلق من معقول بشري محدود ليس له القدرة
على استطلاع حكمة الله في تشريعه، ولا علم الله بما تصلح به أمور عباده، يأتي
العقل البشري فيرى حسناً ما ليس بالحسن ويظن نقصاً فيما فيه الكمال، فيقول
اجتهاداً أو انسياقاً وراء هوى أو إغواء شيطان ما ليس في الدين في شيء مما هو
محض الإحداث والابتداع.
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل الحرص على تجنيب أمته شر
الابتداع فأكثر من ذم الابتداع وحض الأمة على التمسك بسنته -صلى الله عليه
وسلم- فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
وكل ضلالة في النار» .
وقال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي رواية: «من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» - وقال: «إن أحسن الحديث كتاب الله
وخير الهدي هدي رسول الله، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .
ولم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن التشريع مكتمل فما من خير إلا
ودل الأمة عليه، وما من شر إلا حذرها منه، وقد حكى الله سبحانه وتعالى كمال
الدين فقال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ
دِيناً] فلقد وقف -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في حجة الوداع ومعه جمع كبير
من أصحابه، فذكرهم ووعظهم وبين لهم ما على العبد من حقوق لله وحقوق لعباده،
وكان -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر يقوله لهم: «ألا هل بلغت اللهم فاشهد»
؟ ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة أتم بلاغ،
وأدى الأمانة أتم أداء.، ونصح للأمة النصح البالغ، وبين لهم حبائل الشيطان
ووساوسه وخواطره ومكائده ومداخله على العباد.
لا شك أن الابتداع الطريق القصير إلى تشويه الدين وطمس معالم الإشراق
فيه، والتحكم على الله وعلى رسوله، والاشتراك مع الله تبارك وتعالى في التشريع
بما لم يأذن به الله، وفضلاً عن هذا الأثر السيء للابتداع فإنه يستلزم أموراً مهينة
أهمها ما يلي:
أولاً: القول بلسان المقال أو بلسان الحال: أن الدين ناقص وأن هناك جوانب
تكميلية ينبغي الأخذ بها تكملة للدين، وفي هذا رد قوله تعالى. [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] كما أن فيه تكذيباً لقول
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا
يزيغ عنها إلا هالك» ؟ فإن من يبتدع يعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة، ولكنه يدعي أنها عمل صالح. فما صلاح عمل لم يأمر به الله ولم يفعله رسوله
الله؟ ! وما صلاح عمل يراد به إكمال ما أكمله الله على أتم وجه ورضيه؟ !
ولكنها وساوس الشيطان وهمزاته.
ثانياً: إن الابتداع يستلزم القدح في إبلاغ رسول الله رسالة ربه، فلقد أرسل
الله رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره بإبلاغ الرسالة، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] فبلغها -صلى
الله عليه وسلم- أتم بلاغ. فإذا كان المبتدع يرى في بدعته الخير والعمل الصالح،
ويعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة ولكنها حسنة في نفسها - حسب زعمه -
فإن هذا يعني أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حاشاه وكلا - بين أمرين: إما
أن يكون جاهلاً بما ينفغ الأمة وأن هناك جملة من جوانب الخير لا يعلمها فجاء
معاصرو القرون المتأخرة فأخرجوها للأمة وأضافوها إلى الدين، أو أن يكون -
صلى الله عليه وسلم- يعلم حسن هذه الأعمال المبتدعة، إلا أنه كتمها عن الأمة
وهذا يعني تخونه والقدح في أدائه رسالة ربه، وكلا الأمرين شر وقدح في شهادة
أن محمداً رسوله، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- مبرأ عنهما معاً.
ثالثاً: إن في الابتداع مخالفة صريحة لأوامر رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أكد ضرورة التمسك بسنته والابتعاد عن
الابتداع والإحداث في الدين، كما أكد أن الإحداث في الدين مردود ولا شك إن
مخالفته -صلى الله عليه وسلم- مظنة الفتنة. قال تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
ولقد فهم أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وتابعوهم هذا الفهم، ففي
الجامع لأبي بكر الخلال أن رجلاً جاء إلى مالك بن أنس فقال: من أين أحرم؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وأحرم منه. فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك. فقال الرجل: ما تكره من
ذلك؟ قال: أكره عليك الفتنة. قال: وأي فتنة من ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن
الله تعالى يقول: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ] ؟ وأي فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله-
صلى الله عليه وسلم-وفي رواية: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك
خير من اختيار الله واختيار رسوله؟ !
لقد حرص أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تبليغ الأمة سنة
رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وبالغوا في التحذير عما يخالفها من قول أو
فعل مهما كان ذلك وعلى أي وجه يكون، ولم يفرقوا في الإنكار بين ما ظاهره
الحسن وما ظهر سوءه، فلم يقولوا بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، بل اعتبروا
البدعة أمراً منكراً وزوراً من القول والعمل، وقولاً على الله بلا علم، وتشريعاً من
الدين بما لم يأذن به الله، حجتهم في ذلك الإيمان بأن الله أكمل دينه وأن رسوله -
صلى الله عليه وسلم- بلغ رسالة ربه وأدى أمانته وبين لعباد الله خصائص دينهم
ومقتضيات أعمالهم وأن الأخذ بالبدعة يعني مناقضة ذلك الإيمان باعتبار أن البدعة
في ظن مبتدعيها والآخذين بها إكمال نقص في الدين، كما أن حجتهم كذلك الامتثال
للانتهاء عن الابتداع مطلقاً مهما كان وعلى أي سبيل يقع، يستوي في ذلك حسنة
وسيئة للعموم في نفي البدع والابتداع، فقد حذر -صلى الله عليه وسلم- عن
الابتداع بلفظ العموم فقال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ؟ وبلفظ
الاختصاص والحصر فقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة» .
ومن حججهم رحمهم الله في رد الابتداع إدراك أن الابتداع باب الشيطان إلى
الغواية والإضلال والضلال، فمنه دخل على الأمم السابقة يضلهم ويمنيهم ويغويهم
ويزين لهم أبواب الابتداع حتى غيروا كتب الله وحرفوها. وبدلوها فأحلوا ما حرم
الله وحرموا ما أحل الله.
أدرك أصحاب رسول الله ذلك وكانوا حربًا على البدع والابتداع والإحداث
والمحدثات، وفيما يلي مجموعة من الآثار الواردة عن أصحاب رسول الله في
محاربة البدعة.
فقد روى محمد بن وضاح القرطبي في كتاب البدع والنهي عنها بإسناده فقال: بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن عمرو بن عتبة- في أصحاب له - بنوا مسجداً
بظهر الكوفة، فأمر عبد الله بذلك المسجد فهدم، ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من
مسجد الكوفة يسبحون تسبيحاً معلوماً، ويهللون ويكبرون، قال: فلبس برنسًا ثم
انطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يفعلون رفع البرنس عن رأسه ثم قال: أنا أبو عبد
الرحمن، ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- علماً أو لقد
جئتم ببدعة ظلماً، قال: فقال عمرو بن عتبة: واللهِ ما فضلنا أصحاب محمد -
صلى الله عليه وسلم- علماً ولا جئنا ببدعة ظلماً، ولكننا قوم نذكر ربنا، فقال:
بلى والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم لتسبقن سبقاً بعيداً، ولئن
حُرْتُم يميناً أو شمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً.
وذكر بإسناده عن بعض أصحاب عبد الله بن مسعود قال: مر عبد الله برجل
يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشراً، وهللوا عشراً، فقال
عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أو أضل، بل
هذه، بل هذه، يعني: أضل.
وروى بإسناده عن أبان بن أبي عياش قال: لقيت طلق بن عبد الله بن كرز
الخزاعي فقلت له: قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد
من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوماً وفي بيت هذا يومًا، ويجتمعون يوم
النيروز والمهرجان ويصومونهما، فقال طلق: بدعة من أشد البدع والله لهم أشد
تعظيماً للنيروز والمهرجان من غيرهما ثم استيقظ أنس بن مالك فوثبت إليه فسألته
كما سألت طلقاً فرد عليَّ كما رد علي طلق كأنما كانوا على ميعاد.
وروى بإسناده قال: ثوب المؤذن في المدينة في زمان مالك، فأرسل إليه
مالك فجاءه فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع
الفجر فيقوموا. فقال له مالك. لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه، قد
كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا البلد عشر سنين، وأبو بكر وعمر
وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا مالم يكن فيه. فكف المؤذن عن ذلك،
وأقام زماناً ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا
الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال: ألم أنهك لا تحدث
عندنا مالم يكن؟ ! فقال: إنما نهيتني عن التثويب، فقال له مالك: لا تفعل. فكف
أيضاً زماناً، ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل مالك إليه فقال له: ما هذا الذي
تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا
تحدث في بلدنا مالم يكن فيه.
وقد ذكر الشاطبي رحمه الله تفسير التثويب الذي نهى عنه مالك رحمه الله بأن
المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة حي على
الفلاح. وذكر الشاطبي في كتابه الاعتصام قال: وقال ابن حبيب أخبرني ابن
الماجشون أنه سمع مالكاً يقول. من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد
زعم أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-خان الدين لأن الله تعالى يقول: [اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] وأختتم هذا
البحث بما روى أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله
عنه قال: وعظنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب
وذرفت منها الدموع فقلت: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال:
«أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش
منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/24)
وكلمة بها كلام قد يؤم [*]
د. مصطفى السيد
الكلمة الطيبة [كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا] وفي روضة النبوة وقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن
الفأل فقال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم البخاري 7/8 والكلم في مرضاة الله كالكلْم (الجرح) في سبيله، كلاهما طريق مَهْيَعٌ إلى الجنة.
ولئن طوت المنون أولئك المتكلمين فلقد ظلت الأجيال المتعاقبة تبعث الحياة
في الموروث من كلماتهم. وإذا كان شموخ الحضارة المادية المعاصرة قد قزم وحجَّم
الآثار المادية للمدنيات الغابرة، فإن هذا الشموخ قد سجل تراجعاً ملحوظاً في مجال
الكلمة، وظلت (روائع) الأقدمين في كل أمة قدوة المتأدبين وقبلة القائلين. ولم
تكن الكلمة لتدخل متحف البيان أو لتلج معرض الجمال وهي عطل من مؤهلات
البقاء أو غفل من طاقة الإشعاع.
لم تكن كذلك في الماضي، ولن تكون في الحاضر، بل لقد كانت تأخذ من
جهد قائلها كل مأخذ. روى العتبي (إخباري عباسي) قال: قيل لمعاوية: أسرع
إليك الشيب. قال: كيف لا؟ ولا أعدم رجلاً من العرب قائماً على رأسي يلقح لي
كلاماً يلزمنني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت به البرد- (جمع
بريد) ابن عساكر16/375.
وأخرج أبو نعيم عن ثابت البناني قال: كان الحسن في مجلس، فقيل لأبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير تكلم، فقال: (أو هناك أنا؟ ثم ذكر الكلام ومؤنته) (الحلية2/213) .
وإذا كان أبو العلاء يتحاشى الكلمة مخافة ألا يكون من أهلها فلا يجمل بأهلها أن يكتموها، وأن يظلوا محرمين بالصوم عن الكلام، متلبسين بشعيرة الصمت حتى ولو وجدوا متكلماً.
قال العلامة الشنقيطي في معرض تعليقه على قوله تعالى: [إنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِياً] (هذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسياً ... كان جائزاً في شريعتهم، أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا-صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو ... إسرائيل، نذرأن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه (أضواء البيان
4/267) .
والكلام هو الأصل، والصمت طارئ أو عارض فهو ميزة الإنسان (علمه البيان) وتركيز معناه وتكثيفه من فرائد سيدنا محمد -صلى الله عليه
وسلم-» أعطيت جوامع الكلم «والعبارة في سياق التحدث عما خص به رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-» وجعل الله منيحة داود عليه السلام الحكمة
وفصل الخطاب « (البيان والتبيين 4/31) (وكانوا يمدحون شدة العارضة وقوة المنة وظهور الحجة) البيان والتبيين 1/176 ويحمد الصمت إن جاء الكلام
مباينا للخير» فليقل خيراً أو ليصمت «أو إذا كان العبث محركه، واللغو مادته
[والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] ولقد قال عبد الملك بن مروان لمن أطال
الكلام وقصر في الفائدة. يا هذا بكلامك مدح الصمت!
واستأذن مثل هذا النموذج في السكوت بعد كلمة طويلة في غير ما طائل فقال
عبد الملك له: وهل تكلمت حتى تصمت؟ ! .
ترى كم من كاتب ومتكلم قد ينفعه أن يتأمل ملياً كلام عبد الملك. واليوم كما
الأمس وكذا الغد، ستظل الكلمة الحجر الأساسي في صرح الحضارة، والمطلب
الأول في بناء العقول التي إن غذيت بصائب الكلام أثمرت صالح العمل.
ولئن اغتصبت المنابر، وعلاها علوج الألسنة، ومنافقو الروح، وتمكنوا من
السيطرة على أكثر المواقع في الساحة الفكرية دعماً للظلم أو ملئاً للفراغ بالفراغ،
فذلك وإن كان مدعاة للأسف، فلن يقوى على البقاء، بل ربما سقط قبل أن ينفق
قائلوه.
لئن حصل ذلك كله -وهو حاصل - فإن مسئولية أصحاب الأقلام الشريفة
تتأكد وتزداد في الذب عن قيم الحق والعدل ورفع المعاناة بكل صورها عن كل
مأزوم ومكروب.
لقد فرضت الآثار العظيمة نفسها على ذاكرة التاريخ وشقت طريقها إلى البقاء، متحدية كل طاقات الخصوم التي حاولت طمسها. ينطبق هذا على فرائد النصائح التي صبها علماء المسلمين في آذان الظالمين، ومسامع الغافلين، كما ينطبق على موسوعات العلم والمعرفة التي وصلت إلينا، عابرة قروناً متطاولة من فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا. إنها الكلمة التي أعطاها صاحبها دمه وحياته، فأعطته جواز البقاء، لا يقهر الفناء إلا الكلمة والحجر والكلمة أطول عمراً من الحجر وأصلب على الزمن وأقدر على مغالبة الفناء.
وكم من كلمات خرجت من القلوب لتصبح منهج عمل، ودستور حياة،
وتكون نقطة تحول في سلوك كثير من الشخصيات.
وصدق الله القائل في فضل الكلمة الطيبة [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا] .
نسأل الله أن يلزمنا كلمة التقوى وأن يجعلنا من أهلها.
__________
(*) شطر بيت من ألفية ابن مالك، ومعنى يؤم: أي يقصد أي كما أن الكلمة تدل على واحد الكلام فكذلك تدل على مجموعة كلمات تشكل معنى.(11/33)
ضوابط العمل الصالح
جمال أحمد بشير
في توجه العبد المؤمن إلى ربه، وفي سيره وانقطاعه إليه يحتاج إلى ما
يضبط سلوكه ويزن أفعاله حتى لا يحيد عن الطريق ولا يخطئ الجادة. لذلك ذكر
سلفنا الصالح شروطاً وضوابط للعمل الصالح باستقراء نصوص الكتاب والسنة
وبدون هذه الشروط والضوابط يكون العمل معرضاً للخلل والنقصان؛ بل والرد
على صاحبه فلا يجني من عمله إلا التعب والمشقة.
ونذكر فيما يلي أهم هذه الشروط:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
الثاني: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فلا بد من إخلاص النية لله في أي عمل يعمله العبد. قال تعالى: [ومَا
أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] [البينة: 5] ، وقال -صلى الله عليه
وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [1] ؟ وقال -صلى
الله عليه وسلم-: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً
أشرك فيه غيري فأنا بريء منه؛ وهو كله للذي أشرك» [2] .
ولا بد في إخلاص العمل من أن يكون هذا العمل مما شرعه الله على لسان
رسوله -صلى الله عليه وسلم- يقول تعالى: [قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ] [آل عمران: 31] ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في
أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [3] وفي لفظ. «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا
فهو رد» .
وبهذين الشرطين يتحصن المسلم من ألد أعدائه ألا وهو الرياء والبدعة والشرك. يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: (فهما توحيدان، لا نجاه للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-) [4] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان،أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع. لا نعبده بعبادة
مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول
الله) كما قال تعالى: [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] .
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا. يا أبا علي ما أخلصه
وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإن كان صواباً
ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله،
والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] [5] .
ويقول ابن القيم رحمه الله: (فلا يكون العبد متحققاً بـ[إيَّاكَ نَعْبُدُ] إلا
بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والثاني: الإخلاص للمعبود [6] .
والعمل - بالمشروع يحصن المؤمن من الوقوع في المبتدع من الأعمال
ويغنيه عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك العباد: إذا تعبدوا بما شرع
من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناً، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح
الذي بعث الله به رسوله، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية، والمقامات العلية،
والنتائج العظيمة، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه، كالتغبير ونحوه، من
السماعات المبتدعة، الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد،
لفقهاء بعض الناس. أو في قدره، كزيادة من التعبدات، أحدثها من أحدثها لنقص
تمسكه بالمشروع منها) [7] .
ومن الضوابط المهمة التي ذكرها أهل السنة في شأن الأعمال الصالحة التي
تقرب إلى الله تعالى: القصد. والمداومة.
قال تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] ،
وقال تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج: 78] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن
يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة،
والقصد القصد تبلغوا [8] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
«سددوا وقاربوا، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها
إلى الله وإن قل» [9] .
وعنها رضي الله عنها قالت: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي
الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل. وقال. اكلفوا من الأعمال ما
تطيقون [10] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال:
«إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا،
واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» [11] .
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث الثاني: (ثم ختم ذلك بأن المداومة
على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً
لكن ليس فيه مداومة) [12] .
وقال ابن حجر في شرح (واكلفوا، من الأعمال ما تطيقون) : (ما تطيقون)
أي قدر طاقتكم، والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية لكن
بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال) [13] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة) [14] إلى أن قال: فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها، كانت محرمة، مثل أن يصوم صومأ يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب. وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة) [15] .
وأورد قول ابن مسعود: (إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن، وقراءة
القرآن أحب إلي) [16] . وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في معرض
شرحه للأحاديث المذكورة السابقة أن فيها إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل شيئان:
أحدهما: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم- وعمل آله وأزواجه من بعده. وكان ينهى عن قطع ... العمل [17] .
والثاني: أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد
والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير [18] .
وقال ابن رجب رحمه الله في تفسير (سددوا وقاربوا) : المراد بالتسديد:
العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه [19] .
وحول معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- «وأبشروا» قال: يعني أن من
مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب
المجتهد في الأعمال. فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها، فمن سلكها
فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها. وخير ...
الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله ... من غيره. وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان ... بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ... ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح) [20] .
ومما يتعلق بهذا الباب ما ثبت في الصحيح من نصح النبي -صلى الله عليه
وسلم- لعبد الله ابن عمرو بن العاص بأن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، وبأن
يصوم من كل شهر ثلاثة أيام عندما رآه مقبلاً على الطاعة والعبادة وقال له: «إن
لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، فائت كل ذي
حق حقه» .
فينبغي مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب
ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه. لذلك نرى ابن القيم قد قسم الناس
في العبادة إلى أربعة أصناف، ثم رجح الصنف الرابع الذين: قالوا: إن أفضل
العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ... ووظيفته [21] . وليعلم المؤمن أن المشقة ليست مقصودة في التكليف كما قرره علماء الأصول من أهل السنة بل الأصل هو رفع الحرج والعنت عن الناس. فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر. قال الشاطبي -رحمه الله- (أصل آخر: وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل) [22] . ثم ... زاد الأمر توضيحًا فقال:
(فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع، من حيث إن ...
الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع ... باطل) [23] . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة، في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته،
وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن، وصاحبه
أطوع، وأتبع، كان أفضل. فإن الأعمال. لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما
يحصل في القلوب حال العمل) [24] ومما ينبغي التنبيه عليه أن هذه الأمور
وأمثالها لا تدرك إلا بالعلم وطلبه ولذلك ورد في حديث عائشة السابق (واعلموا)
وهو إشارة إلى أهمية العلم النافع الذي يثمر العمل الصالح المقبول.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، وابن ماجه في الزهد، ومسند أحمد 2 /301، 435.
(3) متفق عليه.
(4) شرح العقيدة الطحاوية / 200.
(5) مجموع الفتاوى ا /333-334.
(6) مدارج السالكين 1/ 83.
(7) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 99.
(8) رواه البخارى ح 6463.
(9) المصدر السابق ح 6464.
(10) المصدر السابق ح 6465.
(11) صحيح البخاري، كتاب الإيمان 0.
(12) فتح الباري 11/298.
(13) فتح البارى 11 / 299.
(14) الفتاوى 5/272.
(15) الفتاوى 5/272 -273.
(16) المصدر السابق 5/276.
(17) المحجة في سير الدلجة / 45.
(18) المصدر السابق / 46.
(19) المصدر السابق / 51.
(20) المصدر السابق /52، 53.
(21) مدارج السالكين 1 / 88.
(22) الموافقات للشاطبي 2 /128.
(23) المصدر السابق /129.
(24) الفتاوى 25/281-282.(11/36)
رسالة إلى أخي المسلم
بقلم: محمد محمد بدري
أخي العزيز، أيها المسلم من أجل الإسلام في كل مكان يا من يقلب وجهه في
السماء ويعمل فكره في الكون باحثاً عن الطريق الصحيح لعودة أمة الإسلام.. إني
أشاركك حيرتك وهمومك وتطلعاتك.. لقد عانيت ما تعاني، فتعال نبحث معاً في
هدوء دون أن أضيق بك أو تضيق بي.. نعم لن أضيق بك يا أخي العزيز فإني
أستبشر خيرًا باهتمامك وتطلعك وتفكرك من أجل عودة أمة الإسلام، وإني أرى
نفسي فيك، فقد مشيت معك هذا الدرب ومررت على ثغراته ومَنَّ الله علي بمعرفة
كثير من مسالكه ومنعطفاته، لن أطلب منك أن تكون أسير فهمي أو فهم غيري،
لن أزعم لك أني أحتكر الفهم الصحيح وحدي.. لكني أدعوك دعوة هادئة إلى كتاب
الله عز وجل الذي أنزل ليمنحنا الحياة [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ
إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]- إنك - يا أخي العزيز - تتفق معي أن هدفنا في الحياة قد
حدده الله عز وجل بقوله: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] عبادة الله وحده
لا شريك له.. وأن الناس إذا انحرفوا عن هذا الهدف كان على المسلمين أن
يعيدوهم إلى دائرة الالتزام به.. وعليه فمهمتنا هي تحقيق عبودية الإنسان كل
الإنسان في الأرض كل الأرض لله رب العالمين.
واعلم -يا أخي العزيز- أنك تحزن وأنا أحزن معك من هذه الغربة الثانية
للإسلام «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء» .. (يصلحون
ما أفسد الناس «وتسعى وأسعى معك من أجل أن نصلح ما أفسد الناس ونغير هذا
الواقع ونعيد أمة الإسلام إلى الخيرية التي أرسلت من أجلها [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] وهكذا يا
أخي تجمعني معك أخوة الإسلام والرغبة في عودة أمة الإسلام
إلى المقدمة في قيادة الأمم.. ويجمعني معك شعور كلانا بالغربة، غربة
الإسلام بين أهله..
واتفاقك واجتماعك معي في هذه المقدمات هو ما دعاني اليوم أن أحدثك بكل
بساطة وكما يتحدث الأخ إلى أخيه في موضوع تدفعنا إليه تلك الصحوة الإسلامية
المباركة التي تسير في طريق عودة الأمة إلى الله لكي تصبح أمة مسلمة تستحق
نصر الله ورضوانه.
أخي العزيز.. تتفق معي أن نزول هذه الأمة من عليائها كان وفق سنن
ربانية مفادها أن الله عز وجل لا يمكن للناس حتى يستقيموا على عهده [وعَدَ اللَّهُ
الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] تتفق معي في ذلك؟ ! فهل تؤمن معي أن عودة هذه الأمة
تخضع لسنن معينة أيضاً؟ ! إذا كنت تؤمن بذلك، فأنت رجل يؤمن بإمكانية
التغيير.. وهذا يدعوني إلى أن أقرر أمراً هنا أراك لا تخالفني فيه وهو أن التغيير
يخضع لعلاقة بين الهدف والوسيلة.. فإذا كنا نريد عودة الأمة المسلمة فهذا هدف له
وسائل توصل إليه.. وإنه من الخطأ كل الخطأ أن نتصور أن نجاحنا في تحقيق
هدفنا يمكن أن يحدث بطريقة سحرية غامضة الأسباب؟ ! قد تقول -يا أخي العزيز
- إن ما نملكه من وسائل لا يكفي لنصل إلى هدفنا، وإننا في حاجة إلى إمكانيات
أكبر، وهذه الإمكانيات غير متوفرة لدينا الآن؟ .. وأنا أوافقك على ذلك،.. ولكن
إذا كنا لا نملك الآن ما يمكننا من الوصول إلى هدفنا هل نتوقف عن العمل حتى
تتدخل القوة الخارقة الغامضة الأسباب لتوصلنا إلى هدفنا؟ ! .. أم أن المطلوب منا
هو العمل قدر الوسع والطاقة واستخدام الوسائل التي نملكها.. وما وراء ذلك من
أمور أرادها الله بمشيئته المطلقة وحكمته البالغة فالله أعلم متى يهب النصر ويمكَّن
لمن يستحق من عباده.
أخي العزيز: إن علينا أن نعلم أن الحركة الإسلامية تخضع لسنن الله العامة
التي تشمل البشر جميعاً مؤمنهم وكافرهم، والإيمان والالتزام بعقائد أهل السنة
والجماعة دون الأخذ بالأسباب المادية للنصر لا يضمن النصر والظهور والتمكين
في الأرض.
والآن - أخي العزيز - هل اتضح عندك ما أردت الوصول إليه.. إنه بكل
بساطة ووضوح وتحديد إقرار لفكرة " المنهجية في العمل الإسلامي " فبين الحركة
وبين هدفها منهاج عمل يلعب دوراً كبيراً في تحقيق ذلك الهدف، والمنتصر في
أمور الدنيا هو من يملك في تحركه منهاجاً واضحاً سواء كانت أهدافه سليمة أم لا..
فالدنيا ليست للمؤمنين فقط [كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ] وللدنيا
قوانينها وأسبابها، ومن قوانين الدنيا أن الذي يمتلك منهاجاً واضحًا في العمل هو
الذي ينجح في الوصول إلى الهدف،.. والمنهاج الذي نريده لحركتنا منهاج يأخذ
بالإمكانات المتوفرة حالياً للحركة ليصل إلى أهداف معينة، بينما هو يسعى
للحصول على إمكانات أخرى توصل إلى الهدف الأكبر. أو بعبارة محددة وبسيطة
منهاج قوامه (الاستفادة من الإمكانات حسب الظروف للوصول إلى الأهداف مع
حساب الاحتمالات ومحاولة إيجاد الحل لكل احتمال) .. (وتفصيل ذلك له مقام
آخر) .
ولكني أريد أن أقول لك - يا أخي العزيز - إن الله تعالى قال: [قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي] فالتحرك الإسلامي يجب أن
يكون واعياً صادراً عن خطط مدروسة، وإعداد محكم، واستراتيجية كاملة واضحة
تغطي كافة مراحل التحرك وتدرس الواقع من جميع جوانبه.. فإذا كانت كذلك فإن
التحرك يكون صحيحاً.. ويكون مؤثراً.. ويكون مُبْلِغًا الهدف بإذن الله.. ويكون
لحركتنا شرف أذان الفجر في ليل الشتاء الطويل الذي نعيشه وتعيشه أمتنا..
وسيجيء هناك الحق ويزهق.(11/41)
القنبلة البشرية المؤقتة
في حوض البحر الأبيض المتوسط
إعداد وتعليق: قسم الترجمة بالمجلة
نشرت صحيفة (الديلي تلغراف) مقالاً بعنوان (القنبلة السكانية المؤقتة في
حوض المتوسط) تناول فيه كاتبه هذه القضية التي تقض مضاجع الغرب وهي
الزيادة السكانية الكبيرة بالنسبة للدول التي تقع شرق وجنوب المتوسط، وتراجعها
في الدول التي تقع شماله.
تكشف الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة عن أعراض أزمة في
طور التكوين تتعدى حدود الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل بكثير، وتمس الأزمة
كل قطر من أقطار المتوسط غير الأوربية من المغرب إلى البوسفور متزايدة في
تأمين متطلبات أجيالها الناشئة.
لا شك أن زيادة عمق الهوة بين الدول الغنية في الشمال، والدول النامية
والفقيرة في جنوب المتوسط سوف تؤثر على توازن دول حلف الأطلسي
والمجموعة الأوربية التي تملك كلها مصالح مباشرة في المنطقة.
أما بالنسبة للفلسطينيين فالأرقام مذهلة حقاً، فالشريط الساحلي المتداعي الواقع
في واجهة البحر المتوسط المعروف بقطاع غزة كان ولا يزال مرشحًا لمدة طويلة
ليكون إحدى الشرائح الأرضية المنسية الأكثر كثافة سكانية على وجه المعمورة،
فقد تضاعف عدد السكان فيه منذ1948 ثلاث مرات من (200) ألف إلى (600)
ألف تقل أعمار نصفهم عن الرابعة عشرة، وبعد أن تقلصت محاصيل الفاكهة على
الصعيد المحلي لم يبق من موارد الدخل إلا ما يجلبه ما يقرب من (40) ألف عامل
يضطرون كل يوم للانتقال إلى إسرائيل - ومعظمهم بطرق غير قانونية، وكذلك
من التبرعات التي تهبهم إياها وكالة غوث اللاجئين الأونروا unrwa.
هذا ويتفق الخبراء العرب والإسرائيليون على أن الفلسطينيين الواقعين تحت
الاحتلال الإسرائيلي سيتساوى عددهم مع الإسرائيليين في غضون 20 - 25 سنة
قادمة.
ويزيد هذا التنبؤ في تعقيد ما يسميه (ميرون بن فينيستي) المساعد السابق
لرئيس بلدية القدس والرئيس الحالي لمشروع تجيمع المعطيات عن الضفة الغربية:
(الأزمة والحيرة القاسية) لدى إسرائيل. فهو يرى أن إسرائيل لم تكسب حدوداً
استراتيجية مناسبة لأول مرة في حرب الأيام الستة إلا لتجد نفسها أمام مشكلة
السكان العرب في الأراضي التي أخضعت لها والذين يتزايد تهديدهم لفكرة
(إسرائيل) ذاتها كدولة يهودية.
لا يمكن فصل اقتصاد الأراضي المحتلة عن اقتصاد إسرائيل أبداً، إذ إنهما
متشابكان إلى أبعد الحدود. فإسرائيل في حاجة إلى اليد العاملة العربية التي يفوق
عددها (100) ألف عامل يشتغل الكثير منهم (في مهن حقيرة) يترفع عنها
الإسرائيليون عادة، وتحتاج الصناعة الإسرائيلية سوقاً فلسطينية لاستهلاك بضائعها
المتنوعة ابتداء م+ن الأغذية المعلبة إلى معجون الأسنان.
ويتماثل هذا التزايد السكاني في فلسطين مع الحال في كل من بلاد الشام
وشمال أفريقيا، وقد أوضحت ذلك بشكل جلي الدراسة التي قام بها برنامج الأمم
المتحدة للبيئة حول ما يتوقع بالنسبة للخمسين سنة المقبلة عندما نشر (خطته
الزرقاء) في أثينا في الخريف السابق، حيث برهن التقرير على أن ثلثي سكان
البحر الأبيض المتوسط في الخمسينات كانوا أوربيين منتشرين في الدول الممتدة من
مضيق جبل طارق إلى مضيق البوسفور، غير أن هذه الصورة ستنعكس بحلول
(2025) وسيصبح البحر المتوسط في غضون عشر سنوات من الآن بحراً إسلإمياً، إن لم يكن عربياً، السيناريو الذي طالما توجس منه مستشارو شارلمان خيفة.
وقد أدى هذا التنبؤ بأعضاء بارزين من دول المجموعة الأوربية التي تطل
على البحر الأبيض المتوسط إلى المناداة لاتخاذ تدابير فورية، فالإيطاليون في ... حالة هلع من إمكانية تدهور اقتصاد بلدان البحر الأبيض المتوسط الجديدة المرتبطة بازدياد عدد سكانها، حيث إن هذا يعني تقلصاً لأسواق دول الشمال الكائنة بجوار جيران تعم بينهم البلبلة، وقد اقترح (فرانكو رافيليو) رئيس إدارة الطاقة في إيطاليا أن تستثمر الدول الشمالية (30) مليار دولار من رصيد الأرباح الناجمة عن انخفاض أسعار النفط في إطار مشروع شبيه بمشروع مارشال لتدعيم الأنظمة الاقتصادية في دول البحر الأبيض المتوسط. وقد صرح (بييرو باسيتى) - وهو وزير سابق للصناعة - قائلاً: (إن ما نشاهده حالياً في البحر المتوسط قد يجعل المباحثات بين الشرق والغرب تبدو كأنها صفحة مطوية من فصول التاريخ) .
وتواجه اليونان حالياً مسألة تجمد عدد سكانها -إن لم نقل: ظهور علامات
تقلصهم -في حين يزداد عدد سكان خصمها اللدود - تركيا - بشكل مطرد. وسوف
تصبح كل من تركيا ومصر في غضون (25) عاماً قوتين عظيمتين في المنطقة من
الناحية البشرية، حيث سيزداد عدد سكان كل منهما آنذاك على (100) مليون نسمة.
إن التركيبة السياسية المعقدة القابلة للانفجار والناجمة عن فقدان التوازن في
الأرقام تتجسد بخطوة مكشوفة في لبنان، فعلى مدى (45) سنة منذ أن وزعت
السلطة والمناصب على الأقليات حسب الحجم تحت بنود الميثاق الوطني المبرم في
1943 تمكن الشيعة من الانتقال من المرتبة الثالثة إلى المرتبة الأولى ليصبحوا
أكبر طائفة دينية في البلد.
تترعرع في بيروت في الوقت الحاضر نزعة دينية متطرفة من جراء الفقر
والفوضى اللذين يشكلان البيئة المثالية لتفشي التعصب الديني والعقائدي على حساب
التعقل والتسامح! ! فمثل هذه التطورات ليست بالضرورة من صنع التدخل
الخارجي البعيد العهد في شئون البلاد من طرف (الملالي) في طهران وقم. إذ
يشير ظهور الحجاب والشادور واليشمك على رءوس الشابات في إسطمبول
والقاهرة وتونس إلى أن الطريق نحو التعصب الديني نابع من أماكن شتى.
من بين جوانب الاضطرابات الأخيرة التي قام بها الفلسطينيون في الأراضي
المحتلة القوة المتزايدة للمتعصبين الإسلاميين! ! مما يبعث على الأسف في صفوف
أنصار فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. إن مكونات النقمة على بواعثها لا تخفى
على من له نظرة أقل تبصراً من نظرة السيد (ديفيد ميلر) . ويبعث منظر عمارات
غزة الممتدة بغير اتساق ولا انتظام في الذهن صورة يمكن تعميمها على بقية البلدان
الجديدة في البحر الأبيض المتوسط.
في العشرين سنة القادمة (ستغطى أكثر من أربعة أخماس السواحل بمساكن لإسكان (200) مليون مقيم، ومنتجعات سياحية من أجل الغزوات السنوية لأكثر
من (500) مليون سائح، وسيغلب على الشكل الجديد لسواحل البحر المتوسط ... طابع المدن المكتظة بالسكان وهو أمر بعيد كل البعد عن التصور الأسطوري لبلاد الرعاة وصيادي السمك في أركاديا arcady.
إن تحديث الزراعة وإدخال التقنية عليها سيجعل مدن حوض المتوسط تنتفخ
بالسكان الوافدين بالإضافة إلى تزايد سكانها الأصليين، فمثلاً تستوعب إسطمبول
سنوياً - رغم أنفها - ثلث مليون من المهاجرين المتقاطرين عليها من القرى، وبما
أن فرص العمل تتقلص كل يوم فإن الكثير يكسبون لقمة عيش لا تكاد تسد الرمق
بعد جهد وعناء في ممارسة (الأعمال الهامشية) مثل تلميع الأحذية، وكنس
الطرقات، وغسل السيارات، وحمل الأمتعة.
إن أحوالاً كهذه من شأنها أن ترسخ المخاوف حول مدى قدرة بلدان البحر
المتوسط غير الأوربية على تطوير وتوسيع أسواقها.
وقد كاشفني (عز الدين جسوس) - الوزير المغربي المكلف بالعلاقات
المغربية بالسوق الأوربية المشتركة - بهذا الواقع المر دون لف أو دوران، فقد
صرح بأن بلده يهدف إلى تحسين علاقاته مع بلدان السوق الأوربية المشتركة ويحلم
في أحسن الحالات بالانضمام التام إليها إذ إن دخول إسبانيا والبرتغال السوق
الأوربية قد وضع المغرب أمام خطر فقدان سوق لترويج ما يعادل مليون طن من
المنتجات الزراعية والحمضيات.
وقد اختتم كلامه قائلاً: (لا يمكن أن يتحول البحر الأبيض المتوسط - وهو
أكبر الممرات التجارية في التاريخ - إلى طريق مسدود، فقد سبق أن أدت محاولة
ذلك في الماضي إلى الحرب) .
وإذا تركنا جانباً إسهاب) الخطة الزرقاء (في الجانب الاجتماعي فإن توقعاتها
لمصير البحر الأبيض المتوسط تذكر المرء بشكل عجيب بالسيناريو الذي رسم
خطوطه بوليبيوس، الذي سبق ليفي حول الاصطدام بين القوتين العظميين شمال
وجنوب البحر الأبيض المتوسط روما وقرطاج: الحرب البونية الأولى First
punic war
الديلي تلغراف 19 /1/1988
تعليق على المقال
هذا المقال يعطي صورة واضحة لا غموض فيها عن نظرة أعداء الإسلام
بشكل عام، والغربيين بشكل خاص؛ إلى التكاثر السكاني عند المسلمين، ويعكس
النظرة الضيقة المتعصبة المخالفة لكل ادعاءات التحضر والحياد العلمي الذي يزعمه
من يتناولون القضايا الإسلامية بالبحث والتعليق.
ويأتي هذا المقال في وقت تصدر فيه دراسات كثيرة كلها تدق نواقيس الخطر
في الغرب للبحث عن حل لمشكلة زيادة السكان في البلاد الإسلامية، وخصوصاً
القريب منها من أوربا، ويرد موازياً للدراسات والتقارير الصادرة من اليهود سواء
داخل إسرائيل أو خارجها، ويجد له مناسبة في الأجواء السائدة الآن في فلسطين
المحتلة والتي وجد العدو فيها نفسه في مأزق حقيقي أبرز مظاهره الزيادة السكانية
المتصاعدة والمتسارعة في صفوف الفلسطينيين، يقابلها تراجع في نسبة الزيادة
عند المغتصبين اليهود.
وإذا كانت أغلب الدراسات في هذا الموضوع تؤكد على المقارنة بين العرب
واليهود للبحث عن حل إقليمي على مستوى فلسطين وماحولها فقط؛ فإن هذا المقال
يضع المقارنة بين العرب واليهود في إطار القضية الأوسع والأعمق، ويعتبرها
جزءاً من مشكلة ذات أبعاد تتعلق بالصراع الدائم بين الإسلام والصليبية الأوربية
الوثنية تحديداً..
ونتيجة لهذه النظرة فإن الغربيين يرعبهم أن يعود البحر المتوسط بحراً
إسلامياً، ويؤلمهم أن يختل التوازن الذي أرادوه لهذه المنطقة التي جعلوها مجالاً
للتنافس فيما بينهم، ومضماراً لجشعهم وشرههم.
إن بواعث التعصب والعنصرية وحب السيطرة والتعالي التي تحكم آراء
الغربيين تجاه المسلمين واضحة من خلال كلمات هذا المقال، فبينما نراه يتحسر
على الوضع الذي أراده الغرب للبنان؛ نجده يأسى بمرارة لمشاهد لابسات الحجاب
والشادر واليشمك (البرقع) في العواصم الإسلامية، وكذلك إن جهاد أهل فلسطين
وهم في غالبيتهم مسلمون على مدى ثلاثة أرباع القرن ضد الاستعمار البريطاني
وضد الاستيطان اليهودي لم يعره كاتب المقال بالاً، حتى آلمته وأوجعته الأخبار
الجديدة التي نقلت إليه وإلى غيره (القوة المتزايدة للمتعصبين المسلمين! !) .
واختصاراً فإن مما تجدر ملاحظته في هذا المقال أنه:
1- خطاب موجه بالدرجة الأولى إلى الدول التي يهمها أن يبقى المسلمون
ضعفاء على كل المستويات، ونذير خطر لها كي تبذل ما في وسعها لعلاج هذا
الأمر الخطير.
2 - وأنه يشير بطريق غير مباشر، وبما لا يدع مجالاً للشك، إلى أن الذي
يشجع قضايا تحديد النسل والحد من الزيادة السكانية بين المسلمين، وتشجيع
الدعوات العاملة على ذلك تحت شعارات كثيرة مثل: (تنظيم الأسرة) ، (تنظيم
المجتمع) ؟ (تخطيط الأسرة) إلى غير ذلك من الشعارات الكثيرة.. نقول:
إن الذي يشجع على ذلك هم أعداء للإسلام والمسلمين ويخدمون أفكار مصاصي
دماء الشعوب من المتعصبين الأوربيين، علموا بذلك أو جهلوه.
3 - إن هذا المقال مثال على قصر نظر السياسات الاستعمارية المادية التي
تقيس كل شيء قياساً مادياً رقمياً، وتبني توقعاتها على ما يقدمه إليها (العلم الجامد)
الذي اتخذوه إلهاً يعبد من دون الله، غافلين عن أن قوانين الحياة ليست بهذا الجمود، وأن الصراع لا يحسم لمصلحة من يملك المال والسلاح فقط في مواجهة من لا
يملكها؛ بل إن فضل الله وعونه يشتمل على أمور كثيرة بالإضافة إلى المال
والسلاح اللذين - إذا لم يضف إليهما التواضع والرحمة والشكر - يتحولان إلى أداة
تقتل صاحبها..
إن الغربيين - مع اعترافنا لهم بأنهم كشفوا كثيراً من الأمور التي كانت
مجهولة، وسخروا المادة في خدمة الإنسان، وتفوقوا على غيرهم في دراسة
الظواهر الكونية والطبيعية - لهم منطقهم الخاص القاصر في فهم التاريخ وفي فهم
حقائق الصراع البشري، وهم والمسلمون على طرفي نقيض، فالمسلمون لهم
منطقهم الذي تعلموه من كتاب ربهم الذي يقول: [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) ولِيُمَحِّصَ
اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ] [آل عمران: 140-141] .(11/44)
أدب وتاريخ
ولات حين مندم
عدنان بن سالم الفهد
.. قال الفتى الشامي: وقفت متقطع الفؤاد.. مقروح الكبد.. من هول
الفاجعة! ! بالأمس كانت أمي.. واليوم أبي.. رحمة بي يا أرحم الراحمين.. إني
لأذكر ذلك الأمس حينما قفل في وجهي باب من أبواب الجنة بموت أمي.. وبكيت
ذلك اليوم وبكى كل نبض في قلبي حتى تقطعت أطنابه حرقة ومرارة.. وكلما
تذكرت قصة إياس القاضي - عندما ماتت أمه فبكى وأجاب عندما سأله السائل ما
أبكاك؟ ! قال: (كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما) فتزداد حرقتي
ويزداد نحيبي.. وها هو الباب الثاني قد أقفل اليوم.. من يواسيني؟ ؟ .. ومن
يدعو لي بالرضا؟ ؟ .. رحمة الله عليك يا أمي.. كم قد تحملت من عذاب وألم،
وكم كنت لا أعرف لك فضلاً! ! .. رحمة الله عليك يا أبي.. وحمداً لك يا رب أن
لم تجعل أبواب رحمتك تقفل في وجهي، أما قال رسولك في صلة الوالدين بعد
موتهما ... وإكرام صديقهما، ومنه ما ورد عن ابن عمر: (إن أبر البر صلة الولد
أهل ود أبيه) ..
أعاهدك يا رب أن أصل صديقهما، وأبرهما بأهل ودهما بعد موتهما..
وإني أتوب إليك توبة نصوحًا عن ما مضى من عصياني وعقوقي.. ولكن..
للتوبة شرط إرجاع الحق.! ! أبي.. أمي.. ولكن يا رب.. يا للهول! ! ..
ياللفجيعة! ! .. أحقاً أني في حقيقة؟ ؟ كيف أعتذر؟ ؟ .. كيف أرجع الحق
وصاحبا الحق قد مضيا؟ ! ! كيف أقابلهما؟ ؟ .. كيف أرجع الحق.؟ . كيف
يقبل قولي؟ .. ولات حين مندم! ! . أبي.. أمي..
قال الفتى الشامي: فتخيلت لفرط حزني أن أبي قد تبسم وهو يقول لي:
يا أسعد: إني أعلمك كلمات في المروءة.. قلت: نعم يا أبي، كأنك تسمعني
وأنت في عالمك الآخر.. قال: لا يا بني.. بل أعيد عليك كلمات تعرفها قد علمتك
إياها في صغرك.. أو أحسبك قرأتها في تلك الأكداس من الكتب التي كنت تقرأ لي
منها بعد أن هداك الله والتزمت بالإسلام - أو كما زعمت لي -.. يا بني.. (إن
للسان مروءة فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر
.. وللخلق مروءته، فمروءته سعته وبسطه للحبيب والبغيض) .. بني أما مروءة
النفس هي حملها قسراً وقهراً على ما يجمل ويزين، وترك ما يدنس ويشين ليصير
لها ملكة في جهره وعلانيته) .
- قال الفتى الشامي. نعم يا أبي. نعم، ولكن ثق أني على عهدك وسأحمل
نفسي على المروءة الحقة في لساني وجناني..
- قال الفتى: قالت أمي مقاطعة. دعك من هذا يا أبا أسعد فوالله ما رأيت
منه تلك المروءة التي تحدثه عنها، فما كان للسانه حلاوة ولا لين، وما كان في
خلقه سعة ولا بسطة، وما حمل نفسه قسراً وما أجبرها قهراً. قال الفتى: حسبك
ياأماه.. حسبك.
- قال الفتى. فصرخت صرخة قطعت كبدي ومزقت أضلعي.. ونحبت
وبكيت.. وأمي تكمل: مروءتك يا بني أين كانت عندما كنا في الحياة الدنيا؟ ؟
- قال الفتى: وأين أنت يا أماه الآن؟ ؟ ألست معي.. إني أعتذر إليك مما
بدر مني.
- قالت: دعك من هذا يا بني كفاك يا أسعد [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ] ? [وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]- قال الفتى: فشهقت.. فوقعت ولكن تمالكت نفسي ونهضت قائماً.. رحماك ربي.. أرجوك يا أمي لا تكملي.. إني قد تبت الآن.. و.. سوف تصفحين عني.. لا لن أعود لمثل ذلك.
- قال أبي: وما ذلك يا أم أسعد؟ !
- قالت أمي: أما تذكر يا أبا أسعد كم رفع في وجهي صوتاً منتصراً لزوجته
أو محتجاً على تدليلي لابنته.. أما سمع وهو الملتزم بالإسلام ذلك الحديث عن أبي
الدرداء، أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال أبو
الدرداء: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول. «الوالد أوسط أبواب
الجنة» .. فإن شئت فضيع هذا الباب أو احفظه.. والله يا أبا أسعد ما أمرته
بطلاق وإنما كانت بعض الأمور المنزلية البسيطة.. ووالله لو أرجعت إلى الدنيا
لسامحته.. ولكن قد مضى قول ربي أن لا أعود..
- قال الفتى: نعم يا أمي إني أعلم ذلك.. ولكن لِمَ لَمْ تغفري لي وأنا في
الدنيا؟ ؟ ..
قال الفتى: إني أعلم لم ذلك! ! .. لأني ما اعتذرت ليغفر لي أو أسامح
ولكني أخذت زوجتي إلى غرفة أخرى متسلياً بها.
- قد أضعت الباب (باب الجنة) يا أسعد..
- لا. لا يا أبي ما أضعته..
- قال الفتى. قال أبي: أضعته يا أسعد.. أما أغضبتك في ذلك اليوم..
فنظرت إلي شزراً، وأنت تعلم في ذلك اليوم أن ابن أبي حاتم قد نقل عن عروة في
قوله تعالى: [واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ] ، قال عروة: إن أغضباك
فلا تنظر إليهما شزراً..
وجهي، أما قال رسولك في صلة الوالدين بعد موتهما ... وإكرام صديقهما،
ومنه ما ورد عن ابن عمر: (إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) ..
أعاهدك يا رب أن أصل صديقهما، وأبرهما بأهل ودهما بعد موتهما.
وإني أتوب إليك توبة نصوحاً عن ما مضى من عصياني وعقوقي.. ولكن..
للتوبة شرط إرجاع الحق..! ! أبي.. أمي.. ولكن يا رب.. يا للهول! ! .. يا
للفجيعة! ! .. أحقاً؟ ني في حقيقة؟ ؟ كيف أعتذر؟ ؟ .. كيف أرجع الحق
وصاحبا الحق قد مضيا؟ ! ! كيف أقابلهما؟ ؟ .. كيف أرجع الحق.. كيف يقبل
قولي.. ولات حين مندم! ! .. أبي..؟ مي..
قال الفتى الشامي: فتخيلت لفرط حزني أن أبي قد تبسم وهو يقول لي:
يا أسعد: إني أعلمك كلمات في المروءة.. قلت: نعم يا أبي، كأنك تسمعني
وأنت في عالمك الآخر.. قال: لا يا بني.. بل أعيد عليك كلمات تعرفها قد
علمتك إياها في صغرك.. أو أحسبك قرأتها في تلك الأكداس من الكتب التي
كنت تقرأ؟ ي منها بعد أن هداك الله والتزمت بالإسلام - أو كما زعمت لي -.. يا
بني.. (إن للسان مروءة فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر.. وللخلق مروءته، فمروءته سعته وبسطه للحبيب والبغيض) .
بني (أما مروءة النفس هي حملها قسراً وقهراً على ما يجمل ويزين، وترك
ما يدنس ويشين ليصير لها ملكة في جهره وعلانيته) .
- قال الفتى الشامي. نعم يا أبي. نعم، ولكن ثق أني على عهدك وسأحمل
نفسي على المروءة الحقة في لساني وجناني..
- قال الفتى: قالت أمي مقاطعة. دعك من هذا يا أبا أسعد فوالله ما رأيت
منه تلك المروءة التي تحدثه عنها، فما كان للسانه حلاوة ولا لين، وما كان في
خلقه سعة ولا بسطة، وما حمل نفسه قسراً وما أجبرها قهراً.. (قال الفتى: حسبك
يا أماه.. حسبك..) .
- قال الفتى: فصرخت صرخة قطعت كبدي ومزقت أضلعي.. ونحبت
وبكيت.. وأمي تكمل: مروءتك يا بني أين كانت عندما كنا في الحياة الدنيا؟ ؟ .
- قال الفتى: وأين أنت يا أماه الآن؟ ؟ ألست معي.. إني أعتذر إليك مما
بدر مني.
- قالت: دعك من هذا يا بني كفاك يا أسعد: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ (7) ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ] [وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ...
- قال الفتى: فشهقت.. فوقعت ولكن تمالكت نفسي ونهضت قائماً..؟
حماك ربي.. أرجوك يا أمي لا تكملي.. إني قد تبت الآن.. و.. سوف تصفحين
عني.. لا لن أعود لمثل ذلك.
- قال أبي: وما ذلك يا أم أسعد؟ !
- قالت أمي: أما تذكر يا أبا أسعد كم رفع في وجهي صوتاً منتصراً لزوجته
أو محتجاً على تدليلى لابنته.. أما سمع وهو الملتزم بالإسلام ذلك الحديث عن أبي
الدرداء، أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال أبو
الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول. (الوالد أوسط أبواب
الجنة) .. فإن شئت فضيع هذا الباب أو احفظه.. والله يا أبا أسعد ما أمرته بطلاق
وإنما كانت بعض الأمور المنزلية البسيطة.. ووالله لو أرجعت إلى الدنيا لسامحته
.. ولكن قد مضى قول ربي أن لا أعود..
- قال الفتى: نعم يا أمي إني أعلم ذلك.. ولكن لم لم تغفري لي وأنا في
الدنيا..
قال الفتى: إني أعلم لم ذلك! ! .. لأني ما اعتذرت ليغفر لي أو أسامح
ولكني أخذت زوجتي إلى غرفة أخرى متسلياً بها.
- قد أضعت الباب (باب الجنة) يا أسعد..
- لا. لا يا أبي ما أضعته..
- قال الفتى. قال أبى: أضعته يا أسعد.. أما أغضبتك في ذلك اليوم..
فنظرت إلى شزراً، وأنت تعلم في ذلك اليوم أن ابن أبي حاتم قد نقل عن عروة في
قوله تعالى [واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ] قال عروة: إن أغضباك فلا
تنظر إليهما شزراً..
- قال الفتى: قلت: يا أبي.. ولكنك ظلمتني.. فقال لي أبي: وإن.. وإن
يا أسعد.. أما نقل لك البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس أنه قال: «ما من
مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسباً إلا فتح الله له بابين - يعني من الجنة -
وإن كان واحد فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضي عنه،
قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. وربك يقول [وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] ثم.. أي ظلم هذا؟ ! ! .. هل أمرتك بشر؟ ؟ لا والله.. إن هي إلا أمور دنيا..
ولتكن أموراً كنت تتعبد الله فيها ... ثق تماماً.. أنك أضعت الباب يا أسعد..
- قال الفتى: فصرخت.. وما عساني أن أفعل وقد ماتا..؟ ! نعم.. لا
عذر ولا قبول.. وربي بالمرصاد.. ويلي! ! ..
- قال الفتى: وسرت راجعاً بعد دفن أبي ومعي من الجموع الكثير.. وكنت
والله مرعوباً متفتت الأحشاء كسيفاً مطرقاً.. ما زال في فكري ذلك اليوم.. وتلك
الأيام التي كنت أرد على أمي أصواتاً أو أحتج على أبي مغاضباً وكإني سيد الدنيا..
وفي تلك الأيام التي ما أرضى أن ترفع أمي طرفاً لزوجتي أو يحتج أبي على
تصرف لي مهما كان صغيراً.. في تلك الأيام كنت أعلم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] .. وما أعي معنى لذلك
إلا اليوم.. وكم أبكيتها.. ولكني كنت أقرأ قول ابن عمر: بكاء الوالدين من
العقوق والكبائر.. وأقرأ قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
ثلاثاً قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وجلس وكان
متكئاً: ألا وقول الزور، وما زال يكررها حتى قلت ليته سكت) - قال الفتى:
وكم أبكيتك يا أمي.. وكم.. ويا ليتنى قد اعتذرت، ما منعني إلا النسيان أو
الغضب، و.. لست أدري.. ولكني سأستغفر ربي ما عشت وأتذكر الأثر دائماً:
لا تقطع من كان يصل أباك فيطفأ بذلك نورك) .. - قال الفتى: وخطرت لي أمي..
بني أسعد.. إذا ألمت بك مصيبة فكيف تفعل؟ ؟
- قلت: سأستغفر ربي.. قالت: أما لو كنت حية لهانت عليك. قال الفتى:
قلت كيف ذاك يا أماه؟ ؟ قالت: روي عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني
خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه فغرت عليها،
فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال له: (هل أمك حية؟) ، قال: لا، قال: تب إلى
الله عز وجل وتقرب إليه ما استطعت، فذهب.. يقول الراوي: فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة..
- قال الفتى الشامي: قلت: يا أماه والله لست أدري هل أضعت الجنة حقاً أم
ماذا..؟ ولكني حسبي بإني قد بررت ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ولا يكلف الله
نفساً إلا وسعها..
- قال: قالت أمي: دونك وما رغبت فيه من زهد في الجنة، وهل ظننت
أن سلعة الله تكون حسب الهوى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
» رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم
يدخل الجنة «.. دعك من هذا، أما أحرقت قلبي وأنا حية؟ .. أما أبكيتني طاعة
لشهواتك أو لنزعاتك أو لزوجتك أو لأمزجتك الخاصة في مواعيد إعداد الطعام أو
استقبال ضيف.. بني.. اسمع بني وأخبر من وراءك من الناس.. قال الفتى:
قلت هاتي يا أم.
- قالت: بني إن الطاعة التي يريدها الله ليست الطاعة التي على هواك متى
غضبت نفرت.. ومتى رضيت وأنست استرضيت.. فالأم لهجها الدائم) قد
رضيت عليك يا بني) . وما تظنها قائلة وقد فطر الله قلبها على حب الابن.. أما
ترى كم من أصدقائك من هجر وفجر فإذا رجع إلى أمه تبسمت وكأن لم يكن قد
حدث منه شيء.. وأنى لها أن تعتب على فلذة كبدها.. ولكن.. هل يرضي هذا
الله؟ .. ثم إن كان ذلك فما معنى قوله تعالى: [وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا
تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] .. وهذا قضاء وحكم وجوب من رب العزة على عدم
التأفف وهو الأصغر.. وما علمت الأم تبالي بالتأفف ولكنه طاعة لله، وتأدب معه،
وقد قرن ذلك بالإخلاص له وعدم الشرك.. ومرة أخرى قرن فقال: [واعْبُدُوا اللَّهَ
ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] .. إذا كان لك رغبات في الحب والكره،
وذبذبات في الرأي فمتى كان لك أن تقيس الرضا بمعيارك وتظن أنه رضى للوالدين
فقد هلكت يا أسعد.. أما رأيت كيف يستذل الطائر وينكسر إذا خفض جناحه للنزول
فكذلك اخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. وهذا ما فهمه ذلك السلف الصالح.. أما
سمعت عن ذلك الرجل الذي حمل أمه على عنقه حاجاً وكان يرتجز وهو يطوف
ويقول:
إني لها بعيرها المذلل ... إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم التفت إلى ابن عمر وقال له: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: لا ولا
بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل الكثير.
- قال الفتى: وأكملت أمي قائلة: إيه يا بني.. كم كنت أتمنى أن أراك
شاكراً لي قلباً وقالباً، وكم كنت لا أراك إلا مرات قلائل ربما يمر اليوم واليومان
ولا أراك.. وقد شغلت بمعافسة زوجتك وأولادك.. وأحن أن تتمثل الطاعة الحقة
التي عرفها أبو هريرة رضي الله عنه عندما كان في بيت غير بيت أمه، فإذا أراد
أن يخرج مر ببيت أمه ووقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله
وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله
كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.. ثم إذا أراد أن يدخل
بيته صنع مثله ... بربك يا بني هل كنت تستطيع أن تتخلف عن زوجتك يوماً أو
يومين.. لا..
- قال الفتى: قلت: ولكن يا أماه كانت سليطة اللسان لا تتركني.. أما أنت
فطيبة القلب..
- قال الشامي: قالت: هو ذاك.. إنها سلعة الله.. ولكني لا أعلم ما يفعل
بي غداً حتى أصفح عنك أولاً.. فذلك اليوم الذي سنتقابل فيه هو اليوم الذي يفر فيه
المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.. لكل منا شأن يغنيه.. وهو يوم لا
أعرف فيه إلا نفسى! ! ..
- قال الشامي. فتأملت ما خطر لي وبكيت وأنا أقول:
فضيعتها لما أنست جهالة ... وطال عليَّ الأمر وهو قصير
فآهاً لذي عقل ويتبع الهوى ... وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
ولكن هيهات.. ولات حين مندم ...
- قال الفتى:.. أما بعد.. فإني لا أعلم هل يقدر لي الله من الأعمال
الصالحات ما يؤهلني للتوفيق في الحياة والاستغفار عن ذنبي، أم تراه يصيبني
بتفريطي في حقهما يوم كانا.. وكم رأيت من عبر ودولة الأيام على الناس.. فالله
منتقم ... والله بالمرصاد..
.. فيا غافل.. وما زال والدك معك.. وما زالت أمك معك.. أما لك في
قصتي معتبر؟ ! ! اسمع يا أخا الإسلام، والله إني أخشى عليك وعلى أهلك
وأولادك الهلاك.. كن على حذر.. وتأمل معنى آية التأفف.. [فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ] وحسبي بها.. فرفع طرف الأم نحو السماء مصيب:
إذاالتفتت نحو السماء بطرفها ... كن حذراً من أن يصب قلبك السهم
وفي آية التأفيف للمرء مقنع ... ولكنه ما كل عبد له فهم
ودونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير
وطاعتها وبرها قولاً وعملاً، لا قول لطيف.. وعمل هباء.. فالكلمات لا
تغني ولا تشبع من جوع. أما تعرف من هم أصحاب الأعراف؟ .. جاء في بعض
التفاسير عنهم أنهم أقوام قتلوا في سبيل الله ولكنهم خرجوا بدون إذن آبائهم فكانوا
من أصحاب الأعراف.. ومن قال لك يا مسكين أنك ستموت شهيداً؟ وقد خرجت
بطراً لمشاغل الدنيا.
- قال الفتى الشامي: يا أخا الإسلام.. لا تظن كما ظننت سابقاً أن طاعة
الآباء والأمهات حسب رغبتك وهواك، وإنما هي حسب ما يرغبان هما.. وإلا
لهان الأمر! !
- قال الفتى: كنت أظن أن أبي سيئ الطباع.. وأمي شرسة نمامة، ولكني
أتأمل اليوم وأقول: إن ذلك الرجل الذي قد خلقه الله منبوذاً أو مكروهاً بين الناس
طوال حياته المديدة فكان يتألم ويحتقر.. قد ضمن له الله ألا يظلم.. ووعده بتاج
يناله حقاً وهو إذعان أولاده له إذا ما كبر..
- قال الشامي:.. فبأي حق يا شامي قد انتزعت هذا الحق من أبيك؟ .. إنه
والله الهوى وحب النفس.. ويلك يا شامي يوم تعرض الموازين القسط.
يا أخا الإسلام.. يا من رغبت بزوجتك وفرحت بها متجاهلاً أمك.. ويا من
رغبت بمالك وعيالك وأصدقائك عن أبيك.. تأمل معي كيف تكون الطاعة..
أما تذكر قصة الثلاثة الذين كانوا في الغار.. نعم.. قال الأول: اللهم كان لي أبوان
شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فَناء بي طلب الشجر يوماً فلم
أرح عليهما حتى ناما.. فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما
فلبثت والقدح على يدي أنظر استيقاظهما.. حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا
غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه
الصخرة.. تأمل أخي بأي شيء توسل إلى ربه.. بالطاعة الحقة.. ومن يفعل هذا
اليوم فعله؟ ! فكم ترى زوجات مترفات منعمات.. وأنى للأم المسكينة من أن تغبق
أولاً، وكم من أبناء قد أترفوا بنعيم وأنى للأب أن يغبق قبلهم ...
أخا الإسلام.. لا تظنني أريد تفريطاً في حق الزوجة أو الأطفال ولكن أعطِ
كل ذي حق حقه.. وإياك وما أنا فيه.. واغتنم حياتهما، ورغم أنف امرء أدرك
أبويه أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة.. وما هي إلا مرارات وآلام أجترها يوشك
أن تنسينيها الأيام ولكن من لي بمحوها من اللوح المحفوظ.. يوم تجد كل نفس ما
عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً
ويحذركم الله نفسه ...
.. ثم إنك توشك أن تقول لي: ولكن لست كأفعالك فاعل فما قدمت على أبي
زوجة، وما رفعت على أمي صوتاً.. وأنا أقول لك: صدقاً قلت ولكن.. أما وإن
أوشكت أن تصر على سلامة سيرتك معهما.. فشد الوثاق ولا تمن.. فذلك هو
رباط قد هداك الرحمن لحراسته وحفظه فدونك وتوثيقه ... ويا سعتادتك.(11/51)
شعر
إلى متى؟
شعر: أبي معاذ الخالدي
تحية يا فتى الإسلام والعرب ... في غمرة الليل والإعصار الغضب
تحية.. وفلول الحق لاهثة ... وواثب الحق رغم الحرق لم يثب
تحية.. لك في السراء أبعثها ... وفي الشدائد في الآلام في النكب
ومن دياجي ملمات يضيق لها ... صدر الحليم أناجي كل ذي أرب
من أمتي وعوادي الدهر تطحنها ... في مهمة القحط والأجداب واللغب
من أمتي أمة كانت مكانتها ... فوق الثريا تخطت هامة الشهب
عزاً وبأساً.. وإيماناً تلوذ به ... في كل مصطدم في الدهر اضطرب
تجتاز ليل البرايا من مشاعلها ... وهج الهداية يجلو ظلمة الريب
شبابها درة الأكوان ما جنحوا ... لغير حق.. وما مالوا إلى لعب
إذا جنا الليل لم تلبث مضاجعهم ... أن حركتهن ترنيمات مغترب
جثوا أمام شديد الطول خاشعة ... أبصرهم ودموع الذل في صبب
والوحي عطّر أجواء الظلام ولو ... لا الوحي ما بزغوا كالصبح من عجب
تمتد أعمدة الضوء التي هتكت ... بقوة الحق ما استعصى من الحجب
يا ليل كم شهدت عيناك من بطل ... يبكي أمام جلال الله في رهب؟
وفي النهار ليوث.. كان واحدهم ... في ساحة الحرب كالإعصار كاللهب
في كف أروع لا يخشى وإن ... الموت ينقض كالموتور من قرب
والله أكبر.. رغم اليأس قنبلة ... عنيفة الحس ترمي القوم عنه كثب
يا للشهادة.. أعيتهم مذاهبها ... حيناً فما يئسوا من شدة لطلب
وللسيوف المواضي كم قضت وطراً ... وكم رأت خطراً في لجة الغضب؟
أولئك القوم آبائي مفاخرهم ... مفاخري.. وأنا أولى الورى بأبي
أعظم وأكرم بجيل كان منبته ... روض العقيدة في إثمارها العجب
ويا سعادته.. والكون يحضنه ... وينتشي من عظيم الحب كالحبب
ويا شقاوة أعداء قد احترقوا ... حقداً وضاق عليهم واسع السهب
غشى النواظر حتى ما تكاد ترى ... من الحقائق إلا صورة الكذب
فعد إلى الله.. يامن عضه الألم ال ... دامي ويا من ربي في دجية الريب
واحمل إلى الكون نور الحق إنك ... إن تحمل إلى الكون نور الحق في لب(11/58)
معضلة التاء المربوطة والهاء!
منصور الأحمد
يشيع اليوم على أقلام الكاتبين: طلاباً، ومدرسين، وصحفيين، وحتى أدباء
خطأ يحسبونه بسيطًا ولكنه ليس بذلك، إذ إنه يوقع في عدم الدقة والالتباس وهو
عدم الاهتمام وقلة الاكتراث بالتفريق بين حرف الهاء (هـ، ـه) والتاء المربوطة
(ة، ـة) وعندما تحاول لفت نظر من يقع في مثل ذلك في كتابته يجيبك في استغراب
وكثيراً في عدم اكتراث: ما الفرق؟ !
فتقول له: الفرق أنهما حرفان مختلفان لكل منهما وظيفته، وشتان ما بينهما،
وإن تشابها في الظاهر، ويجب أن يكون أحدهما منقوطًا، وهو (التاء المربوطة)
والآخر غير منقوط، وهو (الهاء) .
وللتمثيل لذلك فإن: شجرة، مكتبة، وجميع الأسماء التي تنتهي بتاء مربوطة
يجب نَقْط تائها وصلاً ووقفاً، غاية ما في الأمر أننا عندما نقف عليها نلفظ التاء
هاءً (وهذا هو الذي يوهم من لا تدقيق عنده ومن لا يعير ذلك انتباهه أنها هاء
فيتركها بدون نقط) .
أما الكلمات: جباه (جمع جبهة) وجوه، الله، تنبيه، معتوه ... فهذه الكلمات
تنتهي بالحرف (هـ) ولا يصح بحال نقطه لأننا نقرؤه هاء في حالتي الوصل والوقف
وكذلك الكلمات: كتابه، قوله، دوره- تكتب هاء لا تاء مربوطة (أعنى هاء
دون نقط) لأنها هنا هاء الضمير وتقرأ هاء وصلاً ووقفاً، ولو نقطناها لربما حسبت: كتابة (مصدر كتب) قولة (المرة من القول) دورة (المرة من الدوران) .
وهناك خطأ آخر (وهو متفرع من عدم التفريق بين التاء المربوطة والهاء)
ولكنه لا يظهر إلا في القراءة وهو لفظ التاء المربوطة أثناء القراءة هاء ساكنة مثل: (عاد الطلاب إلى المدرسه بعد انتهاء العطلهْ الصيفيهْ) والواجب أن تقرأ (عاد
الطلاب إلى المدرسة بعد انتهاء العطلةِ الصيفيةِ) وقد يلجأ بعض الناس إلى لفظ
التاء هاء ساكنة أثناء القراءة لأنه لا يعرف حركة التاء أهي: ضمة أم فتحة أم
كسرة؟ وهنا يصبح الخطأ الإملائي هروبًا من الخطأ الإعرابي، ولا يظن من يفعل
ذلك أنه ارتكب خطأين وتداوى من الداء بداء آخر.
إن هذه الملاحظات ربما تقابل بهز الكتف من فئتين:
أ - فئة غير مقتنعة بأن هذا الأمر ذو بال ومهم إلى درجة التنبيه عليه، بل
لا تعتبر أمر اللغة العربية كله من الأمور التي ينبغي صرف الجهد إليها ونحن هنا
لا نعني غير المسلمين، أو أعداء الإسلام بل نعني كثيراً من المسلمين ذوي النوايا
الطيبة.
ب - وفئة أخرى تعتبره تحصيل حاصل، وهناك من أمور اللغة ما هو أهم
منه لبذل الجهود، وقد يستكثرون أن ينبه على موضوع كهذا في مجلة.
ولنا أمل في كل من يقرأ هذه الملاحظات من الفريقين أن يغيروا من رأيهم
ويعطوها شيئاً من الجدية، فضعف العربية ليس إلا ضعفاً لأهلها، والخطأ فيها منها
كبائر ومنه صغائر، ولكن الصغائر إذا صاحبها التكرار والإصرار أصبحت كبائر.(11/60)
هل الدولة العباسية دولة أعجمية؟
محمد العبدة
من أصعب الأمور في الدراسات الاجتماعية أن تظن أنك في معمل للكيمياء،
أو أنك أمام معادلات رياضية، إذا أضفت هذا العنصر إلى ذاك، أو هذا الرقم إلى
أخيه فلا بد أن تكون النتيجة معلومة محددة، فالنفس الإنسانية تأبى هذه المعادلات،
بل هي أعقد مما كان يظن علماء النفس في أول هذا القرن.
وفي تعليلنا لحوادث التاريخ، أو عندما نصف عصراً من العصور لا نستطيع-
وبكل بساطة - أن نلقي الكلام على عواهنه، ونحدد طبيعة هذا العصر أو ذاك
بجملة واحدة وكأنها بديهية رياضية. ومما يتردد على الألسنة قول بعض المؤرخين
أو الأدباء الذين يكتبون في التاريخ أن الدولة العباسية (دولة أعجمية خراسانية،
ودولة بني مروان دولة عربية أعرابية) [1] هكذا وبهذا التعميم، وبهذا الإطلاق
تصبح هذه الكلمة مسلمة لا شك فيها ولا جدال، وهذه التعميمات والنظرة الأحادية
للدول تطبق أحياناً على الأفراد فيظن الناس أن هذه صفاتهم الرئيسية، وباقي
الصفات ضعيفة، كما يقال: شجاعة عليٍّ وحياء عثمان رضي الله عنهما، فيظن
البعيد أن علياً شجاع بلا سياسة، وأن عثمان حيي بضعف.
إن هذه التعميمات في الأحكام قد تكون صادقة في جانب من الجوانب، ولكنها
لا تعطي الصورة الصحيحة للموضوع المتحدث عنه، وهذا من أكبر المغالطات
التي تحجبنا
عن التفكير السليم، بل وتحجب الحقائق عنا لأننا لم نتعود الدخول في
التفاصيل والجزئيات التي باستقرائنا لها نكون أقرب للصواب.
وقبل أن نجيب على السؤال المتبادر: هل الدولة العباسية أعجمية خراسانية؟ أحب أن أوضح طبيعة الدعوة العباسية أولاً ثم الدولة العباسية ثانياً.
أولاً: نشطت الدعوة العباسية كحركة مضادة للدولة الأموية، همها الأول
إسقاط الحكم الأموي مهما كانت الوسائل، فهي حركة منظمة ترفع شعارات عامة
لتجمع الناس من حولها، وينضوي الكل تحت لوائها، كل حسب فهمه وتوقعاته،
ولا مانع لديها من العمل بواجهات متعددة ومختلفة، فهي إسلامية ترفع شعار العدل
ضد ظلم بني أمية، وهي هاشمية ترفع شعار أحقية بني هاشم دون تفريق بين آل
العباس أو آل علي. وهي في خراسان تتقرب من السكان الأصليين ومن العرب
اليمانية الذين استقروا هناك، ومن قوادها ومنظميها عرب وخراسانيون، وقد ينضم
إليها من يحمل في نفسه أغراضاً دينية وسياسية بعيدة كل البعد عن الإسلام.
يقول ابن تيمية واصفاً هذه الحالة: وكان في أنصارها من أهل المشرق ...
والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «الفتنة
هاهنا» [2] وظهر حينئذ كثير من البدع ... وكان المهدي من خيار خلفاء بني
العباس وأحسنهم إيماناً وعدلاً وجوداً فصار يتتبع المنافقين الزنادقة [3] .
ثانياً: ولكن الدعوة بعد نجاحها وتحولها إلى دولة تبنت المذهب السني، وتجد
الدولة نفسها في صراع مع أصحاب المذاهب الهدامة من (مانوية) أو (بابكية ... خرمية) وعندما لم تجد في العراق ما يكفي من العلماء لنشر السنة أتوا من المدينة بعلماء مهدوا السبيل كربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد، وارتحل إليهم هشام بن عروة وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومحمد بن إسحاق، ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك " [4] .
ويقول ابن تيمية: وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهداً للصلوات في أوقاتها من بني أمية، فإن أولئك كانوا كثيري الإضاعة لمواقيت الصلاة كما جاءت فيهم الأحاديث:
(سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها
واجعلوا صلاتكم معهم نافلة) [5] .
وهذه الدولة فيها ظلم أيضاً وقع من ملوكها أو ولاتها وفيها بدع تبناها المأمون
وإخوته، وترجموا كتب اليونان التي كان لها الأثر السيئ على الأمة الإسلامية
ولكنها تبقى دولة إسلامية كما جاء في الحديث (ثم يكون ملكاً عضوضاً) ويصفها
المؤرخ ابن طباطبا: بأنها دولة فيها مكر وخداع، وفي تعليق للذهبي عن تحول
الدولة إلى بني العباس قال: (فرحنا بمصير الأمر إليهم ولكن والله ساءنا ما جرى
من سيول الدماء والسلب والنهب) [6] .
ونستطيع القول: إن الدعوة العباسية أرادت أن تكون دولة إسلامية غير
منحازة لفريق دون آخر ولكنها لم تتخذ الوسائل الكافية لذلك، بل وقعت فيما أبت
وتسلط عليها في بعض الفترات أسر ذات نفوذ كبير، ثم تسلط عليها الأتراك.
ونعود للسؤال الأول: هل الدولة العباسية دولة أعجمية؟ فنقول:
1- إن مؤسسي هذه الدولة من بني هاشم من صميم قريش وكانوا مؤسسين
فعلاً وليسوا أداة بيد أحد، والذي خطط لهذه الدعوة هو محمد بن علي بن عبد الله
بن العباس وقام بتنفيذها بعده ابنه إبراهيم. وبدأت الدولة بأخيه عبد الله الملقب
بالسفاح ثم بأبي جعفر المنصور، وكانوا أقوياء ولا يستطيع أحد أن يتخذهم أداة
لتنفيذ أغراضه.
2- كان عدد النقباء الذين يشرفون على الدعوة في خراسان وغيرها اثني
عشر نقيباً معظمهم من العرب أمثال:
سليمان بن كثير الخزاعي، وهو رئيس النقباء وشيخهم.
مالك بن الهيثم الخزاعي.
طلحة بن رزيق الخزاعي.
موسى بن كعب التميمي.
القاسم بن مجاشع التميمي.
قحطبة بن شبيب الطائي.
خالد بن إبراهيم الشيباني.
سالم بن سلام البجلي.
3- إن اصطلاح (أهل خراسان) لا يعني بالتاكيد أن جميعهم من سكان البلاد
الأصليين، فالعرب استوطنوا قرى خراسان ومدنها، وكثير منهم من العرب الذين
هجّرهم زياد بن أبيه حين كان أميراً على العراق، وذلك لشغبهم على الأمويين،
وكثيراً ما يظن بعض الكتاب أن فلاناً أعجمي بسبب نسبته إلى إقليم أو مدينة في
إيران، والحقيقة أنه عربي فالذي يسمع باسم جديع بن علي الكرماني يظنه أعجمي
وهو من رؤساء الأزد، أو الفضل بن سليمان الطوسي وهو من تميم [7] .
4- من الأدلة على أن عرب خراسان ساهموا في الدعوة العباسية ما تؤكده
رواية في مخطوط (أخبار العباس) تقول: " طالت الفتنة بين نصر بن سيار وعلي
ابن الكرماني ومن كان بها من العرب حتى أضجر ذلك كثيراً من أصحابها، وجعلت
نفوسهم تتطلع إلى غير ما هم فيه وإلى أمر يجمعهم، فتحركت الدعوة يدعو اليماني
اليماني والربعي الربعي.. " [8] .
ولا شك أن الموالي لهم دور في قيام الدولة، فالدعوة كما قلنا قامت بواجهات
متعددة.
5- وأما ما يذكر عن رسالة إبراهيم بن محمد بن علي العباسي إلى أبي مسلم
الخراساني الذي يقول فيها: (.. وإن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل..)
(الطبري 6/ 14) فهذا الجزء من الرسالة فيه تناقض صريح، فكيف يعتمد
على نقباء عرب وعلى قبائل عربية ويوصي خاصة باليمانيين ثم يقول له اقتل كل
عربي. وقد حاول الدكتور يوسف العش في كتابه عن الخلافة العباسية أن يثبت
تصحيف هذه الجملة وأنها ربما تكون (إنساناً مريباً) وحاول منقح الكتاب أن يثبت
أنها (لساناً غريباً) ولكن الدكتور فاروق عمر أثبت من خلال مخطوط (تاريخ
الموصل) للأزدي أن الرسالة كتبت بهذه الصيغة (فاقتل من شككت في أمره ومن
كان في نفسك منه شبهة، أو وقع في نفسك منه شيء، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار
تتهمه فاقتله) [9] . ونحن هنا لا نناقش الوصية من حيث قسوتها أو وحشيتها،
فالأزدي نفسه الذي أورد هذا النص أنكر على العباسيين قسوتهم على حركة قامت
بالموصل، والذي نريد التأكيد عليه هو أنه لا يمكن أن يصدر كلام متناقض من قبل
منظر كبير للدعوة مثل إبراهيم الإمام.
6-إن العباسيين بعد أن استقر لهم الأمر استخدموا أقسى الوسائل مع
خصومهم سواء كانوا عرباً أم خراسانيين فقد قتل أبو سلمة الخلال الذي كان يسمى
بوزير آل محمد، وقتل عبد الله بن علي العباسي عم الخلفاء السفاح والمنصور لأنه
منافس خطير لأبي جعفر على الخلافة، وقتل قائدهم المشهور أبو مسلم الخراساني، كما جابه المنصور حركة الرواندية الباطنية بعد أن أصبحوا خطراً على الدولة،
أما قبل ذلك فلم يتحرك لهم وعندما نصح بضربهم قال. (دعهم يدخلون النار في
طاعتنا على أن يدخلوا الجنة في معصيتنا) [10] .
وأخيراً فإننا لا نستطيع أن نبرئ الدولة العباسية بشكل عام من الوصف الذي
وصفت به لأنه قد تسلط فعلاً بعض الأسر الأعجمية الذين لهم هوى وثقافة معينة
يريدون تطبيقها على نظم الحكم أو العادات والتقاليد، ومن أمثلة هذه الأسر.
البرامكة، وبنو سهل، وبنو طاهر، ولكن الخلفاء في هذه الفترة كانوا أقوياء
وعندما كانوا يشعرون بجدية خطر هؤلاء كانوا يستأصلونه.
وقد يقال إن طبيعة التطور في أمثال هذه الدول أن تستعين بالأباعد حسداً
وحرصاً وبعداً عن أطماع الأقارب وإن كان فيه هلاكها في النهاية. وقد وقع لبني
أمية في الأندلس قريب من هذا وتبقى المشكلة في هذا الفكر الذي يريد أن يلخص
حال دولة بجملة واحدة، ولا يحب الدخول في تفاصيل الأسباب الكثيرة والجزئيات، هذه النظرة القاصرة الأحادية للأمور وعللها والتي لا زالت تؤثر في حياتنا
وتقويمنا للأشخاص والأشياء.
__________
(1) هذه الكلمة للجاحظ ويرددها كثير من القدامى والمعاصرين.
(2) يعني من المشرق.
(3) مجموع الفتاوى الكبرى 4 / 20.
(4) محمد بن الحسن الحجوي: الفكر السامي في تاريخ التشريع الإسلامي 1 / 315، تحقيق
د عبد العزيز القارئ.
(5) الفتاوى 4 / 21.
(6) سير أعلام النبلاء 6/58.
(7) د فاروق عمر: بحوث في التاريخ العباسي / 3 4.
(8) المصدر السابق / 48.
(9) المصدر السابق / 26.
(10) د فاروق عمر: بحوث في التاريخ العباسي / 85.(11/62)
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
ثورة.. ولا كالثورات
إن انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة هي الحدث الذي شغل
العالم طيلة الأشهر الأربعة الماضية، فقد سيطرت أحداثها على نشرات الأخبار
العالمية، وتناقلت صورها كل شاشات التلفاز، وكان لها صدى واسع ومؤثر في
جميع العواصم، واستطاعت أن تحدث انقلاباً في النظرات على مستوى لم يسبق له
مثيل.
فقد أحدثت تغييراً جوهرياً في نفوس كثير ممن كانوا ينظرون إلى القضية
الفلسطينية على أنها مشكلة حفنة من اللاجئين، وفتحت أعينهم على رؤية شعب
عملاق نهض من سباته، على الرغم من وقوعه تحت وطأة الاحتلال حوالي
أربعين سنة. وأحدثت دفعاً قوياً لثقة هذا الشعب بنفسه، حينما رأى مقاومته غير
المتكافئة للعدو تحدث هذه البلبلة والحيرة في صفوف اليهود وأنصارهم. فزاده ذلك
إصراراً، وفجر طاقاته الكامنة. فهذه البلبلة والحيرة التي وقعت لليهود انعكست
إيجابياً على أهل فلسطين، وجعلتهم يواجهون آلة العدو العسكري بصدور عارية إلا
من الإيمان، وأيد مجردة من كل سلاح إلا سلاح الحجارة، وشفاه يقترن فيها هتاف
(الله أكبر) بمقت اليهود ومن يقف خلفهم. وكذلك أوقعت هذه الأحداث المفاجأة في
نفوس لصوص الحركات الجهادية والمقاومة الحقيقية، نعني. مناضلي المكاتب
وردهات الفنادق الفخمة، فانطلقوا - كعادتهم - يتزلفون وينافقون وينفون أي
خلاف بينهم وبين من هم داخل دائرة الاحتلال.
فإذا قال قائل: إن هذه الانتفاضة سوف تستغل من الجهة الفلانية أو الجهة
الفلانية، فنحن نقول لهم: هذه حركة إسلامية سوف تؤتي أكلها ولو بعد حين..
وأعظم ميزة لهذه الثورة الفريدة في وجه الاحتلال الغاصب هي إدراك الجيل الفتي
من أبناء فلسطين أن انتظار الفرج من وراء الحدود لم يعد بالحل الأمثل، وأنه -
في ظل الظروف العامة للمنطقة وشعوبها ومعاناتها المتراكمة - لم يبق إلا الاعتماد
على النفس من مخرج، فقد فتح هذا الجيل عيونه ليرى نفسه وجهاً لوجه مع أقسى
أنواع المعاناة:
1- عدو جاثم مستهتر ومستمر في اجتثاث جذور هذا الشعب من أرضه،
وزرعها - من جديد - بشذاذ الآفاق الذين يستجلبهم من كل مكان.
2- وجيل سابق أدركه التعب، وكاد يقتله اليأس نتيجة لتناوب النكبات عليه.
3- وصراخ كثير ينبعث من وراء الحدود، ذو ألوان متعددة: شرقية وغربية، يجأر به مهرجون محترفون بتوجيه السباب للصهيونية والإمبريالية والرجعية.
وبتضخيم أدوارهم في ساحة كادت تخلو إلا منهم، ومنظمات وأنظمة تتناخى وتزبد
وترغى! ولكن، ماذا كان نتيجة ذلك كله؟ ... لا شيء!
إن هذا الجيل قد فهم " ألف باء " النضال ببساطة شديدة، ولم يعد يحتاج إلى
أمثلة بعيدة عن أرضه يحتذيها لمحاربة الغاصبين، ولم يترب ويتثقف لا على
(أدبيات) حرب فيتنام، ولا على (نضالات) جيفارا ورفاقه! وإنما استمد عناصر
الكفاح من (الله أكبر) التي لا تزال ترتفع من المآذن المزروعة في أرضه،
واستلهم مواجهة العدو المسلح حتى الأسنان من روح الشهادة والشهداء التي هي من
بدهيات دينه الذي لم ينتشر ظله على هذه الأرض بسهولة، بل بعد أن تضمخت
بدماء الشهداء، وضمت بين أحضانها صفوة الخلق من صحابة رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-، ومن سار على نهجهم من المسلمين المجاهدين دعاة الحق والخير
والعدل والحرية.
إن البطولات التي يظهرها أبناء فلسطين في مواجهة أعداء الله أمثلة ترتفع لها
هامة كل مسلم وكل عربي، بل كل مهضوم الحق يؤمن أنه بالإصرار على حقه
سيصل إليه لا محالة.
وإن الشهداء الأبرار الذين سقطوا برصاص العدو الغادر، وبآلة قمعه التي
تسلحه بها أمريكا وحليفاتها؛ هم الذين يضيئون لهذا الشعب طريق العزة والكرامة.
على مدى أربعة أشهر كانت أيام الجمعة مناسبات تشحن روح التصدي لهذا
العدو، ويعبر فيها المسلمون في فلسطين عن غضبهم من استمرار الاحتلال،
ويستهينون فيها بأسلحة المرتزقة اليهود، فيسقط منهم القتلى، ويتعرض الكثير منهم
للضرب والتنكيل بكافة صنوفه وأشكاله، وغدت المساجد - كشأنها دائماً - معاقل
للإعداد والمقاومة، ومثابة لطالبي التوبة الذين تخلوا عن الضعف والخمول،
وانضموا إلى صفوف هؤلاء الفتيان المفعمين بالحيوية وكراهية العدو اليهودي.
ومما يلفت النظر مسارعة أصحاب النفوس الضعيفة - الذين كانوا يتعاونون
مع العدو، ويقدمون له المعلومات عن إخوانهم، ويعملون كجواسيس وعيون تبلغ
السلطات الصهيونية بتحركات أهلهم لقاء منفعة رخيصة، أو بسبب عداوة وحقد
شخصي- نقول: مسارعة هؤلاء لإعلان توبتهم في المساجد على رءوس الجماهير، ندماً على ما فعلوا، أو خوفاً من غضبة هذه الجماهير الصادقة التي من المتوقع أن
تذهب بهم وبمن يعملون لهم.
إن من حق فلسطين على المسلمين في كل أنحاء العالم أن يقدموا ما
يستطيعون من دعم ومساندة لأهلها الصابرين والمرابطين في وجه العدو الصهيوني، وأن يفكروا بطرق جدية بعيدة عن أساليب الدعاية والمزايدات كيف يكونون عمقاً
حيوياً لهذه الهبة التي لا ينبغي أن نقف منها موقف المتفرج.(11/68)
أقوال على هامش الانتفاضة
الأدلة المتوفرة الآن في أرشيفات الدولة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي تفند
الخرافة الدعائية المستحيلة والقائلة بأن رحيل الفلسطينيين الجماعي عن أراضيهم
كان طواعية، وبأمر من القيادة العربية العليا.
الحاخام دايفيد غولد بيرغ - عن جريدة الاندبندنت
الصواب والخطأ في فلسطين كما في أي مكان آخر، ولكن الشيء الغريب في المسألة الفلسطينية هو أن العالم أصغى للطرف الذي ارتكب المخالفات، وأصم أذنيه عن الاستماع للضحية.
أرنولد توينبي
السجون والإبعاد وحتى الموت تعتبر المدارس التي يولد فيها الثوار الحقيقيون.
كريستيان ساينس مونيتور
لا أستطيع أن أغفر للعرب إجبارهم لأبنائنا على أن يطلقوا النار عليهم! .
غولدا مائير(11/71)
هدم العقيد لمزاجيته
أفضل من هدم سجن
من قذائف الحاكم بأمره في ليبيا الجديدة أنه أعلن في خطاب ألقاه أمام ما
يسمى بمؤتمر الشعب العربي أنه سيداهم مع ذوي المسجونين السجن الموجود في
طرابلس وسيهدمه ثم يفرج عن أربعمائة ليبي معتقلين فيه. وأنه سيتحمل شخصياً
مسئولية هذه الخطوة وما ينشأ عنها، وأنه لا مكان للسجون في ليبيا.. وفي اليوم
التالي نفذ ما وعد به حيث قاد بنفسه " بلدوزر " وبدأ بهدم جدار السجن وكان حوله
عدد كبير من رجال السلطة وذوي المعتقلين، وفي مشهد عاطفي مؤثر خرج
السجناء يعانقون أقرباءهم والدموع تتساقط من أعين الجميع وكأنها حبات المطر،
و (كاميرات) التصوير تنقل هذا المنظر المؤثر وهذا ما يحرص عليه ويعشقه الحاكم
بأمره في طرابلس.. وغير مستغرب على المعتقلين وذويهم أن يتفاعلوا مع هذا
الحدث فلقد كانوا يظنون أنهم لن يلتقوا في هذه الدنيا وكان الأهل لا يعلمون فيما لو
كان أبناؤهم أحياء أو أمواتاً. وفي الوقت نفسه كان مكتب الاتصال الخارجي يبلغ
البعثات الدبلوماسية في طرابلس. هذا القرار الذي ينص على الإفراج عن المعتقلين
الأجانب أيضاً.
وأعلن صاحب القذائف في المؤتمر الآنف الذكر أن جميع المواطنين العرب
يمكنهم اعتباراً من الآن الدخول بحرية ومن دون أي قيد أو شرط إلى ليبيا، وقال
بالحرف الواحد:
(نحن نعلن أنه اعتباراً من هذه اللحظة أن ليبيا هي أرض كل العرب
بمقدورهم دخولها عبر جميع المنافذ وسوف نقاوم أي شخص يمنع أي عربي من
دخول ليبيا بحرية تامة من دون قيد أو شرط) . وتوعد الذين يعرقلون منح
تأشيرات للعرب فقال:
(إذا سمعت أن أي مكتب أخوة أو مكتب شعبي في الخارج منع أي عربي
عن القدوم إلى ليبيا بحرية سوف أرسل له جماهير من هنا أو جماهير عربية هناك
لتزحف عليه وتدمره) .
وفي 24 رجب عام 1408 هـ تجمع آلاف المواطنين أمام مبنى الجوازات
والسفر وفي مقدمتهم الذين كانوا ممنوعين من السفر، وتقدمهم العقيد معمر حيث
دخل بهم المكاتب وأمر بإحضار ملفات الممنوعين، ثم بدأ بتمزيقها وشاركته
جماهيره في التمزيق، وقام بتسليم الممنوعين من السفر جوازاتهم الممنوعة.
وغير مستغرب أن يكون هذا الحدث موضع اهتمام الناس في الوطن العربي،
وبشكل أخص في ليبيا لأن مثل هذا الأمر يعد ظاهرة جديدة، ولأن الشعب العربي
عاطفي ينسى العقل والمنطق بل والتاريخ والجغرافيا أمام الأحداث المؤثرة التي تمر
به.. ونحن في (البيان) نحرص على عرض هذا الحدث في إطاره الصحيح،
وننبه القراء أولاً إلى أنه لا يجوز تجاوز الأحداث التي شهدتها ليبيا خلال الأعوام
الماضية، لقد قامت عدة انقلابات عسكرية ضد العقيد كان آخرها قبل حوالي
شهرين، وفشل الانقلاب ورافق فشله بطش وتنكيل وسفك دماء، وتحركت القبائل
تطلب الثأر من النظام، وأصبح العقيد وقبيلته في وضع لا يحسدون عليه..
وجاءت هذه المحاولة بعد الصدمة العنيفة التي تعرض لها نظام العقيد على يد
القوات التشادية، وساد الذعر في أوساط الجيش وأدرك أفراده أن الحاكم بأمره يزج
بهم في معارك ليس لهم من ورائها أي مصلحة، وكثر التذمر بين رجال القوات
المسلحة، وانتشرت ظاهرة الهروب من الخدمة، وأصبح رجال مخابرات العقيد
وجماهيره كالجيش الانكشاري غير قادرين على ضبط الأمور، ورجل المخابرات
ليس مستعداً دائماً للوقوف مع النظام ضد أهله وذويه. أما ضباط الجيش فيتساءلون:
مهما فعلنا لن نكون عند الحاكم بأمره كما كان زملاؤه في مجلس الثورة. لقد
بطش بمعظمهم، فناس منهم علم الناس بموتهم، وناس آخرون لا يعرف أحد فيما
لو كانوا أحياء أو أمواتاً، ويقولون أيضاً: إلى متى سيبقى هذا الرجل يطلب منا أن
نفكر بعقله وليس بعقولنا؟ هل هذا هو الإسلام الذي زعم أنه جاء ليكون جندياً من
جنوده، أم هذه هي أخلاق العرب حيث يتشدق دائماً بأن أمله الوحيد تحقيق الوحدة
العربية؟ أم هذه هي الحرية والتقدمية والديمقراطية التي يكثر من تردادها؟ !
ويطارد العقيد كابوس المعارضة في الخارج يزيد عددهم على ستة عشرألفاً
من كبار المثقفين وأصحاب الاختصاصات العلمية المهمة وهؤلاء يؤثر غيابهم على
مستقبل بلد لو كان عدد سكانه أضعاف عدد سكان ليبيا، فكيف يكون الحال مع بلد
يقل عدد سكانه عن ثلاث ملايين نسمة، ومساحته واسعة جداً، ولهؤلاء أنصار كثر
داخل السجون الصغيرة، والكبيرة في ليبيا، ولا ندري هل شملتهم قرارات الإفراج
أم لا؟ !
هذا العدد الضخم من المعارضة لا يثقون بالعقيد، ويؤكدون بأن هذه ليست
المبادرة الأولى في سياسته الارتجالية، ولا يتصورون بأن الأمن سيعود إلى ربوع
ليبيا في ظل هيمنة الحاكم بأمره، ويتساءلون كيف يطاردنا النظام ونحن في الخارج، ويسخر قطاع الطرق والقراصنة والمجرمين لتصفيتنا في مختلف عواصم العالم
ثم يزعم بأنه وفي موقف من مواقفه المزاجية قرر بأنه لن تبقى هناك سجون في
ليبيا بعد الآن؟ !
وفضلاً عن هذا كله فالشعب فقد المواد الضرورية من الأسواق، والعقيد
يتحدث بعقلية راعي الإبل أو الغنم، ونحسب أنه سوف يصدر كتاباً أخضر جديداً
يشرح فيه كيف يستغني عن العملة الصعبة في ظل نظام يقوم على المقايضة، فمن
يملك البيض يشتري خبزاً، ومالك القمح يشتري زيتاً، وهكذا.. والخلاصة فنظام
العقيد أشرف على الانهيار، وبات يشك بأقرب الناس إليه، ونصحه زعماء قبيلته، بأنهم لا يقبلون أن ينتقم الناس منهم وهم لا يستطيعون مقاومة الشعب كله، وفي
مثل هذه الحالات عودنا الحاكم بأمره في طرابلس كما عودنا أشباه الحاكم بأمره على
تفجير قذيفة من قذائفهم السلمية التي يمتصون عن طريقها النقمة الشعبية العارمة،
فكانت مبادرته بهدم سجن من سجون طرابلس، وفتح البلد أمام المواطنين العرب..
وفي ثنايا هذه المبادرة تبرز شخصية العقيد المستبدة الظالمة التي لا يمكن الاطمئنان
إليها، ونحسب أن بعض الناس سيقولون لنا: كيف يهدم الرجل سجناً ويفتح بلاده
أمام العرب ثم تقفون منه هذا الموقف؟ ولماذا تتسرعون في إصدار الأحكام؟ !
نقول لهؤلاء: على رسلكم وتعالوا نناقش ما قاله العقيد، وما قيل رسمياً عن
هذه المبادرة:
* قال العقيد: اعتباراًمن هذه اللحظة فستكون ليبيا هي أرض كل العرب،
إلخ ... قال مثل هذا الكلام منذ بداية ثورته.. وعندما غضب من السادات طرد
العمال المصريين بطريقة غير كريمة، وسجن بعضهم، وعندما غضب من
بورقيبة أيضاً طرد العمال التونسيين.. وليس هناك مانع يمنعه من تكرار مثل هذه
الأفعال لأنه يتحرك بمزاجية غريبة.
* ومن جهة أخرى ماذا سيصنع العرب في ليبيا، والبلد في حالة إفلاس وهو
الذي يملك موارد هائلة من النفط ولكن العقيد أنفقها على ثوار كوستاريكا،
ونيكاراغوا، وإيرلندا وحبش، وجنبلاط، وغيرهم.. وغيرهم. أما الحديث عن
المؤسسات والمصانع التي أفلست وماذا فعل بها الخبراء السوفييت فهذا يحتاج إلى
مقالات، بل ويعرف عامة الليبيين مثل هذه الأمور التي تعد سبة عار في تاريخ هذا
النظام.
* وكيف نصدق أن هذا النظام سوف يفتح صدره للعرب وهو الذي قطع
الرواتب والمساعدات عن شباب ليبيا الذين يدرسون في الخارج مما جعل نفراً منهم
يرتمون هنا وهناك بحثاً عن لقمة العيش.
* قال العقيد بأنه يتحمل وحده مسئولية الإفراج عن المعتقلين، ومن قبل
تحمل وحده مسئولية الزج بهم في السجون، وتحمل وحده تبذير أموال الأمة.
صحيح أن العقيد أفرج عن المعتقلين ولكن المشكلة أنه يتصرف بما يوحيه
إليه عقله. إن كان الذين أفرج عنهم مذنبين فأين المحاكم والقانون والمحامون،
ولماذا لا تعلن هذه الأمور على الملأ؟ ! .
لماذا لا يتفضل العقيد إن كان جاداً ويقول: كان عقلي كل شيء في حياتكم،
وقررت الآن العودة إلى المحاكم والقوانين، وكل مواطن بريء حتى يدان، ولا
يدان إلا إذا دافع عن نفسه بحرية ومن غير كبت ولا إرهاب..
* قال العقيد: " إذا سمعت أن أي مكتب أخوة أو مكتب شعبي في الخارج
منع أي عربي عن القدوم إلى ليبيا بحرية سوف أرسل له جماهير من هنا أو
جماهير عربية هناك لتزحف عليه وتدمره ".
وهذا المقطع وحده من خطاب العقيد يفسر لنا نفسيته التي لا يستطيع التحرر
مما تمليه عليه من هواجس وأهواء، فهو دوماً صاحب القرار، والجماهير ملك
يديه من المحيط إلى الخليج - هذا إن سلمنا جدلاً بأنه قومي عربي - ومن يخالفه
فمصيره الموت والدمار.. مسكينة أمتنا التي طالما ابتليت بمثل هذا الرجل العجيب
الغريب، والمدهش حقاً أن كثيراً من العاطفيين يعجبهم قول العقيد هذا، ولو تأملوا
قليلاً لوجدوا فيه محنة ليبيا التي استمرت حوالي عشرين عاماً! !
فالمكاتب الشعبية مكاتبك أيها العقيد، ورجالها أنت الذي اخترتهم، وهم أعز
ما تملك فكيف لا يسلمون من تدميرك عندما يمنعون أي عربي من دخول بلدك؟
انتبه أخي القارئ إلى قوله (أي عربي) ، فإذا افترضنا صدق العقيد هل يدمر
المواطن الليبي لأنه منع مجموعة من تجار المخدرات مثلاً؟ ! ومن ثم لماذا قرار
التدمير بيد العقيد وهو الذي يعتمد على أشبه ما يكون بصراع الطبقات، ولماذا
يستغرب العقيد تحرك قطعات عسكرية لتدميره وتدمير نظامه أو تحرك الشعب في
الداخل والخارج لمثل هذا الغرض؟ فهل قرارات التدمير التي يأمر بها شرعية
وتقدمية والقرار الذي يصدره الشعب أو الطبقة الواعية من الشعب ليست شرعية
ولا هي تقدمية؟ !
أيها العقيد العتيد: اعلم أن هذه المسرحية إذا انطلت على غوغاء الناس
وعامتهم فلن تنطلي على ضباط جيشك، ولا على المعارضة في الخارج والداخل،
ولن يقبل إنسان يحترم نفسه أن يعيش في بلد دستوره وقوانينه مزاجك ومواقفك
المتقلبة.. وحتى عامة الناس سيشعرون بعد حين فقدان المصداقية فيما قلته وسوف
تزداد نقمتهم، ولن يثقوا بك حتى لو تبت وصحت توبتك.
أيها العقيد النجيب. إن مزاجيتك لا يقبلها ولايرضاها أحد داخل ليبيا ولا
خارجها فإذا قال الرجل الثاني في نظامك: إنني مؤمن بكتابك الأخضر، فاعلم أنه
يكذب عليك كما تكذب أنت عليه وعلى غيره، فحدد موقفك وأعلن عن المبادئ التي
تؤمن بها:
* هل أنت مسلتم وتريد تحكيم شرع الله كما أعلنت في بداية حكمك، إذن
لماذا تقول بإلغاء السنة والتي حكم عليك بسبب ذلك علماء المسلمين في العالم بالردة؟ ولماذا قتلت عدداً غير قليل من الدعاة، وأئمة المساجد؟ ولماذا حاولت إرغام
الطالبات على الخروج بغير إذن أهلهن والتدرب على السلاح والاختلاط بالسفهاء
من جماهيرك؟ !
* هل تؤمن بالقومية العلمانية وتعتقد أنه لا فرق عندك بين أبي جهل وأبي
بكر، أو بين أبي لهب وعمر بن الخطاب، إذن لماذا وقفت مع إيران ضد العراق
ومع إيران في عدوانها على الخليج ومحاولاتها المكشوفة من أجل السيطرة على
الحرمين؟ !
* هل أنت يساري شيوعي؟ .. إن الذي نعلمه أن المعسكر الشيوعي لا يثق
بك ولا يعتبرك من المنتمين إليه ولا حتى من المؤيدين، وما تظنه أسراراً يذكره
عامة الناس وخاصتهم، وآخر هذه الأمور تأييد الخبراء السوفييت للانقلاب الفاشل
ضدك، وهؤلاء الخبراء ومن وراءهم خدعوك فيما أسميته مصانع أسلحة..
* هل أنت عبيدي باطني؟ وقد زعمت في بعض تصريحاتك أنك قريب
للخميني، ورغم تناقضاتك الكثيرة فلا زلت ثابتاً على موقف ودي من إيران
وحلفائه افي بلاد الشام؟ !
* أم أنت أمة وحدها، لا تدين ولا تؤمن بغير مزاجيتك، وهذه المزاجية
تلتقي حيناً مع الإسلام في موقف من المواقف، وحيناً آخر مع القومية العلمانية
وهكذا، وهذا هو الأرجح، وهنا مكمن الخطر.
أيها العقيد العجيب: ثق أننا والله نحب أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى،
وتطهر قلبك من الكفر الذي طالما أعلنته في إذاعتك وأجهزة إعلامك، وتحفظ
لسانك من النطق بالكفر والفسوق والعصيان، وتغير أفعالك المنكرة الشنيعة..
يسرنا يا أيها العقيد أن تفتح صفحة جديدة ناصعة بيضاء في تاريخ ليبيا وتغلق
صفحة كالحة سوداء لم يشهدها هذا البلد المنكوب في ظل استعمار الطليان وطغيانهم
ننصحك صادقين أيها العقيد إن أردت التغيير أن تغير القناعات التي في عقلك..
وأن تتخلى عن المزاجية، ثم تتلف الكتاب الأخضر وتقلع عن الكتابة لأنك لست
أهلاً لها، وتحترم قبل ذلك دين الأمة.. نعم أن تحترم عقيدة الأمة، فالمسلم قد
يصبر على الذل، وقد يصبر على الجوع، وقد يصبر على الحرمان ولكنه لا
يصبر ولا يسكت عن تأديب كل من يمتهن دينه، وإذا غلب على أمره بعض الوقت
فسوف ينفجر البركان لا محالة ويجتث الطغاة وينتصر المسلمون على الظالمين
المفسدين.
لقد أردت أيها العقيد - كما أراد أساتذتك من قبل - أن يعبدك الناس من دون
الله وأن يكون كتابك الأخضر مقدماً على القرآن الكريم، ولبثت من عمرك عشرين
عاماً تقتل وتبطش وتسجن ثم ما الذي حدث؟ !
إن الذين تربوا في مدارسك وجامعاتك ومعاهدك من الشباب لا يكرهون شيئاً
كما يكرهون نظامك، ولا يحتقرون شيئاً كما يحتقرون كتابك الأخضر، وسيبقى
هذا موقفهم حتى لو أصبح الكتاب أسود أو أحمر، ولا يقدمون شيئاً على حب الله
ورسوله.
أيها العقيد العتيد: لا أظنك تفهم هذه الحقيقة لأن المنصب يعمي قلب صاحبه، وكذلك كان من قبلك لا يتعظون ولا يعتبرون، وليست مشكلتك مع هذه الجهة الإسلامية أو تلك.. إن مشكلتك مع الإسلام، ومشكلتك مع كل من يدين بالإسلام مهما كان انتماؤه وجنسيته وإقامته.
ليتك تفهم أيها العقيد أن الأرحام التي أنجبت عمر المختار وصحبه ما زالت
تنجب رجالاً يحبون الموت كما تحب أنت وجماهيرك ولجانك الحياة ... وأن
الرجال الذين قهروا الطليان وسجلوا أنصع الصفحات في تاريخ المسلمين الحديث ما
زالوا هم الرجال لأن الإسلام العظيم هو الذي صنع هؤلاء وأولئك ... وأن الأرض
الطيبة لا تزال هي الأرض بنعمة الله وفضله.
فليتك أيها العقيد تثوب إلى رشدك وتتوب إلى ربك وتكفر عن جرائمك
وظلمك قبل أن يأتي يوم لا ينفعك فيه الندم.(11/72)
جهاد المسلمين في أفغانستان
يمر بأخطر مراحله
عود على بدء
لا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.. أن يكون حيادياً في موقفه من الغزو
الشيوعي لأفغانستان، وانطلاقاً من هذه القناعة، ولأن المسلمين كالجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، لهذا وذاك وقف
المسئولون عن المنتدى الإسلامي إلى جانب إخوانهم المسلمين الأفغان، وقدموا كل
ما يقدرون عليه، وكانوا يعيشون بقلوبهم وعواطفهم ومشاعرهم مع المشردين
الأفغان في محنتهم ومصيبتهم، ومنذ بداية المعارك كان أهل المنتدى يرون
وجوب وحدة المجاهدين الذين يجمعهم منهج أهل السنة، وعليهم جميعاً أن يترفعوا
عن المصالح الشخصية والعقلية القبلية ويكونوا على قلب رجل واحد، وسجلنا هذه
المعاني وغيرها في أول عدد من أعداد " البيان " على شكل رسالة مفتوحة إلى
المجاهدين الأفغان، وفي عدد آخر تحدثنا عن باكستان ودورها تحت عنوان
باكستان أمام التحديات.. وعندما أعلن الشيوعيون عن مبادرتهم في إنهاء الحرب
قدمنا دراسة شاملة في (البيان) تحت عنوان (جهاد المسلمين في أفغانستان يمر
بأخطر مراحله) ، ثم رأينا أن نجمع المقالات بل الأبحاث الثلاثة في كتاب.. ونحن
إذ نقدم هذا الكتاب إلى قراء " البيان " نرجو أن يكون من وراء ذلك فوائد كثيرة
وعبر عديدة.
وقبل بضعة أشهر بدأت أجهزة الإعلام العالمية تتحدث عن اتفاق أمريكي
سوفييتي حول أفغانستان، وفي 9 / 2 /1988 أعلن " غورباتشوف " الأمين العام
للحزب الشيوعي الروسي أن جيش بلاده سيبدأ في الانسحاب من أفغانستان ابتداء
من 15 مايو /1988، وسيتم انسحاب جميع القوات السوفييتية خلال عشرة أشهر.
وقد اطلعنا على الأخبار والبيانات الصادرة عن هذه الجهة أو تلك،
والتصريحات الرسمية الصادرة عن الدول الكبرى والصغرى فما وجدنا شيئاً جديداً
نضيفه على ما سبق ذكره في بحثنا السابق (جهاد المسلمين في أفغانستان يمر
بأخطر مراحله) . ومن أهم أقسام هذا البحث ما يلي:
* المبادرة سوفييتية وليست أفغانية.
* هل يرغب السوفييت في الانسحاب من أفغانستان.
* وهل يقبل السوفييت الانسحاب دون قيد أو شرط.
* أهدافهم من وراء المبادرة.
* موقف المجاهدين من المبادرة.
* أين مواطن الخلل؟
* وما النصر إلا من عند الله.
مرة أخرى نقول من يقرأ هذا البحث بإمعان لن يجد جديداً، وهذا من فضل
الله وتوفيقه، والذين ينطلقون من مناهج ثابتة ويتحررون من ضغط العاطفة، ومن
الرغبة في تسجيل مواقف يرضون بها هذه الجهة أو تلك يستطيعون رصد الأحداث،
وفهم الواقع بدقة، ولا يتناقضون في تحليلاتهم ومواقفهم.
واستجابة لرغبة قرائنا سنكتب عن الأحداث الجديدة ولكن سنتناولها بإيجاز،
ونريد من إخواننا المسلمين أن يراقبوا هذه الأحداث بدقة ويعلموا من خلالها كيف
تتغير الأحوال عندما تتفق الدولتان العظميان على موقف من المواقف ووعي
المشكلة جزء من حلها.
* رفض سكرتير وزارة الخارجية الأمريكية التعليق على موقف بلاده من
حكومة المجاهدين، وقال: سمعت بها الآن، ثم بدأت أجهزة الإعلام تنقل عن إدارة
البيت الأبيض عزمها على إيقاف المساعدات التي تقدمها للأفغان.
* المصادر الرسمية السوفييتية والغربية والأمريكية تدعو إلى وجوب عودة
ظاهر شاه وتشكيل حكومة ائتلافية، كما تدعو إلى ضرورة اشتراك السياسيين
الأفغان المقيمين في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا بهذه الحكومة،
وهؤلاء السياسيون الذين يتحدثون عنهم عملاء للغرب وخصوم للإسلام والمجاهدين.
* مصادر سوفييتية وغربية تتساءل: لماذا لا تشارك المنظمات الأخرى؟
يعنون: المنظمات الرافضية الهزيلة مثل: حركة إسلامي - آية الله محسني -
الشورى والاتفاق - آية الله بهئشتي، وغيرهما.. في اتحاد المجاهدين السبعة
ويريدون من وراء هذا أن تكون الأكثرية المطلقة ضد الإسلام السني.
ولهذا جاء في بيان غورباتشوف الآنف الذكر: " إننا نعتقد أن إيران الدولة
المجاورة لا يجب أن تظل بمعزل عن أية تسوية سياسية في أفغانستان ".
ونذكر القراء بما ذكرنا في أبحاثنا الماضية عن دور إيران، كما نذكر القراء
بتعاون نظام الآيات وعملائهم داخل أفغانستان مع الشيوعيين السوفييت، وعند
المجاهدين حقائق مذهلة عن مثل هذا التعاون.. وبكل أسف فقد سمعنا أن بعض
المجاهدين يهدد إذا أخرج من باكستان في الالتجاء لإيران، فليتذكر هؤلاء مواقف
إيران بجدية ... وليتذكر كيف يعاملون الأفغان السنة في إيران:
والمستجير بعمرو حين كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار وتحاول الهند
بالتنسيق مع السوفييت إشراك إيران في حل مشكلة أفغانستان، وتصرح باكستان
بأنها تطلع إيران على كل ما تجريه من مفاوضات تتعلق بهذه المسألة.
وهؤلاء المجاهدون الأبطال الذين قدموا آلاف الشهداء، وسجلوا أروع
الصفحات في تاريخ أمتنا الإسلامية الحديث، ونالوا إعجاب العالم وتقديره.. هؤلاء
المجاهدون الأشاوس تغير أسلوب الحديث عنهم في الصحف وأجهزة الإعلام
العالمية وقسمتهم إلى قسمين:
* معتدلون.
* متطرفون.
فالمعتدلون - مجددي وكيلاني ومحمدي - وهم الذين ينادون بعودة ظاهر شاه
وتشكل حكومة ائتلافية، وهم الذين يريدون الخير لبلدهم وما إلى ذلك من ألفاظ
رقيقة وألقاب فضفاضة.
أما المتطرفون فهم الذين نعرف بأنهم يريدون أن يحكموا شرع الله في بلدهم..
أصبحوا الآن متطرفين وسيقال غداً بأنهم دعاة عنف وإرهاب، وأنهم متعطشون
لسفك الدماء ...
وكما قلنا في أبحاثنا السابقة، ستغلق في وجوههم الأبواب التي كانت مفتوحة،
وستمنع عنهم المساعدات، وسوف تهاجمهم أجهزة الإعلام، وسيتأثر بهذه الدعاية
المسمومة كثير من المغفلين الذين يغيرون قناعاتهم بسهولة ويسر.
وليعلم إخواننا أن الجنة حفت بالمكاره، والنار بالمغريات، والمهم إرضاء الله
سبحانه وتعالى، وحذار مما يسمى بالحكومة الائتلافية أو الحيادية فليس هناك شيء
اسمه الحياد، وكيف يكون الإنسان حيادياً بين الشيوعية والإسلام، أو بين العلمانية
والإسلام؟ بل كيف يكون هناك ائتلاف بين أعداء الله وعبيده الطائعين الراكعين.
قال تعالى: [فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ، ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] .
إن أعداء الله جددوا تحالفهم واتفقوا أن لا تقوم في أفغانستان دولة مسلمة
سنية وسيشعلون نار الفتن ويستخدمون جميع التناقضات، ونقاط الضعف في هذا
البلد المسلم، فحذار حذار أن توجه البنادق إلى غير صدور الشيوعيين والعلمانيين
الكافرين، وكما قلنا سابقاً فأهم شيء في جهاد المسلمين الأفغان الاستقلالية، ولن
يتمتعوا بالاستقلال إلا إذا انتقلوا إلى داخل أفغانستان واستفادوا من جبالها الشامخة،
وجعلوا من أرضها مقبرة لكل أفاك أثيم.
ما نأمله من إخواننا المجاهدين أن يتعاملوا مع هذه المرحلة بنوايا خالصة،
وعزائم قوية، وعليهم أن يرصوا صفوفهم، ويحذروا من إرجاف المرجفين،
وتخذيل المتقاعسين الذين يبحثون عن أي حل في أفغانستان.. إن دماء وأعراض
الملايين لا يجوز بحال من الأحوال أن يستهان بها أو أن تهدر بموقف متسرع أو
قرار غير مدروس.. إنها الأمانة يجب الوقوف عندها طويلاً.. طويلاً.. ولا
ندري لعلها بعون الله تعالى وتوفيقه بداية نصر الإسلام التي لن تكون أيسر من
الجهاد نفسه.. إن كثيرين ممن صبروا على آلام الجهاد ولأوائه قد لا يطيقون
الصبر على غنائم النصر، ولا يملكون كبح جماح شهوة السلطان والسلطة، فتكون
القاصمة القاضية.
ولنا في غزوة أحد وماتنزل عنها من الآيات عظة وعبرة.. - لقد صبر
الأصحاب على مرارة الطريق وآلامه، وانتصروا في غزوة بدر، وظنوا أن الجهاد
قد انتهى بهذا، ودخلوا غزوة أحد ظانين أن النصر لهم لا محالة، وجاءت الغنائم،
وضعفت النفوس، وبرز حظ الدنيا فكانت الهزيمة كما قال الله تعالى: [ولَقَدْ
صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وعَصَيْتُم مِّنْ
بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] .
حتى قال بعض الأصحاب. ".. والله ما علمت أن فينا من يريد الدنيا حتى
نزلت هذه الآية ... ".
ولقد حذرنا الله تبارك وتعالى وبين لنا سبب الفشل والهزيمة وذهاب الريح
فقال:
[ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]
فالتنازع والتفرق، وتنوع الاتجاهات، وتوزع المقاصد وتنوع الولاءات إن لم
يسبب الهزيمة - لا سمح الله - فهو بلا ريب سبب في تأخير النصر.
إذاً فليستمر الجهاد، وليكن من الداخل، دون منة هذا الطرف أو ذاك، أو
وصاية هذه الجهة أو تلك، وليكن بطريقة مدروسة، وليكن بطريقة مستقلة.. جهاد
دائم مستمر حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تبارك وتعالى.
اللهم اجمع كلمة إخواننا المجاهدين على الهدى، ووحد صفهم، واربط بين
قلوبهم بحبك، اللهم خذ بأيديهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، وارحم ضعيفهم، واجبر
كسرهم، وسدد رميهم، واخذل عدوهم.. اللهم أبطل بحولك وقوتك مكر الأعداء،
وأزل هذه الغمة عن هذه الأمة، ورد أمة محمد إليك رداً جميلاً.. يا عزيز يا كريم
يا واسح الفضل وعظيم الاقتدار ... آمين ... آمين، وصلى الله على نبينا محمد
وآله وصحبه.(11/79)
أخبار حول العالم
أوزبكستان
زيادة في السكان.. وتمسك بالإسلام
مراسل (بي. بى. سي) في موسكو: " جيرمي هاريس "
شن الحزب الشيوعي السوفييتي هجوماً عنيفاً على الأسلوب الإداري في
إحدى جمهوريات آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفييتى. وذكرت جريدة (برافدا)
لسان حال الحزب الحاكم أن المسئولين في جمهورية " أوزبكستان " يسبحون في
الفساد والتهاون في العمل. ويبدو مقال صحيفة برافدا وكأنه سيناريو يحكي مخاوف
موسكو البالغة من شبح تحرك الجمهوريات الواقعة تحت هيمنتها في آسيا الوسطى
التي بدأت الحياة تدب فيها. وتشكل المقالة عرضاً لعدد من أوجه القصور العام
الذي تشهده هذه الجمهورية، وكذلك الخمول واللامبالاة والفساد الإداري والمحسوبية كل ذلك مقترناً بظاهرتين اثنتين تمثلان السبب الرئيسي لمخاوف موسكو الشديدة
وهما:
أ - تعاظم معدل النمو السكاني.
ب - استمرار ولاء السكان للإسلام.
وتقول الصحيفة: (إن الثلث فقط من عدد العاملين في أوزبكستان يمكن اعتبارهم عمالاً بمعنى الكلمة، وبما أن ظاهرة البطالة من الأمور المعترف بها رسمياً في المجتمعات الشيوعية؛ فإن صحيفة برافدا تحاول تفسير هذه الظاهرة على أنها: إما وليدة غياب العمال عن وظائفهم؛ أو انعدام جديتهم في عملهم.
وتضيف الصحيفة: إن معدل الولادات في هذه الجمهورية قد وصل إلى ثلاثة
أضعاف معدلات الولادة في سائر الجمهوريات السوفييتية، مما يستدعي تحسين
طرق تنظيم النسل فيها (الدعوة إلى الحد من تناسل المسلمين) .
كما اعترفت الصحيفة بانتشار نفوذ الإسلام على نطاق واسع بين أهالي
أوزبكستان، وتقول الصحيفة: إن مسئولاً سابقاً في الحزب الشيوعي ساعد في بناء
مسجد هناك! ! وكانت موسكو قد عينت رئيساً جديداً للحزب في أوزبكستان في
الشهر الماضي، في محاولة للحد من تفشي ظواهر الفساد المذكورة، ومع أن
(البرافدا) لم تنتقده بشدة؛ لكنها لم تترك لقرائها مجالاً للتفاؤل بأنه سينجح في مهمته
هذه فعلاً.(11/84)
فضائح أباطرة التبشير
جيمي سويغارت 52 سنة، شخص يتقد حيوية، يقدم برنامج تلفزيوني
باسمه ويصل إلى تسعة ملايين أمريكي. ويشرف على إمبراطورية للبث
التلفزيوني التبشيري تقع في (باتون روج في ولاية لويزيانا) وأرباح هذه
الإمبراطورية حوالي (156) مليون دولار سنوياً، وتبث برامجها إلى (140) بلداً، ويتبعها كلية لألف طالب لتعليم الإنجيل، وكنيسة تتسع لسبعة آلاف شخص،
وهو معروف بموهبته الموسيقية، وبعدائه للكاثوليك.
هذا المبشر (التاجر) سبق له أن أشرف على فضح منصرين آخرين
يستخدمون التلفزيون لهذا الغرض، ففي العام الماضي شارك في كشف النقاب عن
الفضيحة الأخلاقية لـ (جيم باكر) زعيم جماعة التسبيح بآلاء الرب، سكرتيرته
جاسيكا هاهن.
كما ساهم (سويغارت) في كشف فضائح (مارفن غورمان) المنافس له في
نشاطه من (نيو أورليان) ، وقد أدى بهما التنافس على النفوذ إلى أن اتهم
سويغارت غورمان بالفساد الخلقي وأثبت ذلك بالأدلة الدامغة التي أدت إلى تجريد
(غورمان) من مناصبه الدينية، ومع أن هذا الأخير قدم شكوى لدى
المحكمة ضد سويغارت مطالبا بمبلغ (90) مليون دولار كتعويض عن التشهير به، ونشر إشاعات خاطئة حوله، إلا أن ذلك لم ينفعه.
أخيراً وقع سويغارت في الفخ، وجاء دوره في مسلسل الفضائح، حيث يبدو
أن غورمان قد انتقم لنفسه، فقد حصل على صور لسويغارت مع إحدى المومسات، ويقول غورمان إن سويغارت قد اعترف بعد محادثة دامت ساعتين في سيارته أنه
سبق أن كانت له علاقة مع (عدد كبير من العاهرات) ، وفي اليوم التالي انهار
سويغارت باكياً أمام غورمان ومحاميه.
وقد صرح مصدر أن هذه الفضيحة سيكون لها أبعاد خطيرة على هذه
المؤسسات التبشيرية المعروفة بـ Evangelical christiansأكثر من فضيحة
(باكر) العام الماضي.
وهذا المبشر (سويغارت) هو الذي تحدى الشيخ أحمد ديدات، وجرت بينهما
المناظرة العلنية أمام الجمهور، وصورت هذه المناظرة على شريط فيديو موجود
في السوق.
وبعد: فهذه هي قصة هذا المبشر، كما نشرتها الصنداي تايمز 21/2/1988(11/85)
مشاهداتي في بريطانيا
حادثان لهما معنى واحد
د. عبد الله مبارك الخاطر
الحادثة الأولى:
بطل هذا الحادث - إن جاز أن نطلق عليه كلمة بطل - شاب عربي من
عصاة المسلمين كان يدرس في بريطانيا ثم أنهى دراسته وكره العودة إلى بلده بسبب
الحرب التي لا يريد أن يكون جندياً فيها لا لشيء إلا لأنه لا يحب أن يموت،
وليس أمامه للإقامة في بريطانيا إلا الزواج، وتزوج فعلاً من امرأة نصرانية
إنكليزية من مقاطعة (ويلز) ، وأهل هذه المقاطعة يحتفظون بشيء من الأخلاق
والعادات الطيبة..
وكان الزوج وديعاً في بداية حياته الزوجية، وكانت المسكينة تظن أنها سوف
تعيش حياة سعيدة معه، وطالما حلمت بالأولاد والمستقبل والاستقرار والهناء والنعيم.
والزوج كان ممثلاً يظهر خلاف ما يبطن، والزوجة عنده وسيلة للإقامة..
وبعد حين من الزمن عاد إلى الحياة التي ألفها.. عاد إلى الكاس والطاس..
عاد إلى استقبال وصحبة حثالة الناس.. عاد إلى الأفلام الماجنة المثيرة! !
رفضت المرأة سلوك زوجها، وحاولت إقناعه بتغيير مسلكه، وذكرته بما
كان بينهما من وعود قبل الزواج، ولكن الطبع غلب التطبع، ولم تجد المرأة أمامها
إلا الانفصال عن هذا الرجل، فانفصلت غاضبة حانقة عليه وعلى بلده الذي ينتمى
إليه، وعلى الدين الذي يدين به.
استغل أقرباؤها المتعصبون هذا الموقف أبشع استغلال، وألصقوا عيوب
زوجها السابق بالإسلام، ودفعتها كثرة الحديث عن الإسلام إلى دراسته لتشهر به
وبكل من يدين به، وعند الغربيين جلد ومثابرة إذا بحثوا مسألة من المسائل..
وبعد أن قرأت مجموعة من الكتب التي أتيح لها الحصول عليها، وبعد أن
زارت أكثر من مركز إسلامي وقابلت عدداً من المسلمين تبين لها عظمة الإسلام
وصفاءه وأنه دين الفطرة فأسلمت وحسن إسلامها وعلمت خطورة من ينتسب
للإسلام ثم يتخلق بأمثال أخلاق زوجها السابق، وأصبحت بحمد الله من العاملات
للإسلام.
الحادثة الثانية:
شاب عربي مسلم كان يدرس في لندن، ولم يستطع إقناع نفسه أنه يعيش في
لندن فعلاً، ومن الأمثلة على ذلك أنه كان يقود سيارته في الشوارع العامة المزدحمة
وكأنه في صحراء مقفرة وليس له من يشاركه السير فيها، ولهذا فالرجل يسير
بالسرعة التي يريدها ولا يهتم بالإشارات الضوئية، وكانت له حوادث كثيرة..
وذات مرة صدم امرأة مسنة وكان الحق معها، وكان صاحبنا المخطئ، ثم أطلق
العنان لذلوله - عفواً لسيارته - وأدرك أن المرأة هلكت في أرضها، ولم يحاول
إسعافها، وخشي من المحاكمة فهرب إلى بلده وترك دراسته وجاء ابن المرأة
العجوز إلى المستشفى فوجد أمه قد فارقت الحياة، وبعد البحث والتحقيق علم أن
الذي تسبب في الحادث عربي مسلم وأنه هرب وغادر بريطانيا، وكان الرجل لأول
مرة يسمع بكلمة مسلم وإسلام - كما ذكر فيما بعد - فدفعه الغضب والفضول إلى
دراسة شيء عن هذا الدين الذي خرج أمثال هذا الذي قتل أمه، وشاء الله له الخير
والهداية، وشرح صدره للحق، وعلم أن الإسلام يأمر بغير ما فعله قاتل أمه وأنه
دين الحق والعدالة والحرية والمساواة، فأعلن إسلامه، وصلح حاله، وكان لسان
حاله ير دد كما كان لسان حال التي ذكرناها في الحادث الأول يردد:
ظلمته ألسنة تؤاخذه بكم ... وظلمتموه مقصرين كسالى(11/86)
استراحة البيان
إعداد: صالح الغفيلي
أولاً: قبس من النور:
قال الله عز وجل: [وَالْعَصْرِ، إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا
وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]
وقفة مع السورة:
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:
في هذه السورة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما
يريدها الإسلام، وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح
وأدق صورة. إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار، وتصف الأمة
المسلمة: حقيقتها ووظيفتها، في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة.. وهذا هو
الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله..
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناجح، هو ذلك المنهج ... الذي ترسم السورة حدوده، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه.. وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار ...
ثانياً: قبس من السنة:
المرور بين يدي المصلي:
عن أبي جهيم الحارث بن الصئمة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم
لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) رواه البخاري.
ثالثاً: من كلام السلف رضي الله عنهم:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: اطلب قلبك في ثلاثة مواطن:
عند سماع القرآن الكريم، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم
تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك الفوائد لابن
القيم / 148
رابعاً: محبة الله:
قال ابن القيم رحمه الله ...
في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة:
1- قراءة القرآن.
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
3 - دوام ذكره على كل حال.
4 -إيثار محابه على محابك.
5 - مطالعة القلب لأسمائه وصفاته.
6- مشاهدة بره وإحسانه.
7 - انكسار القلب بين يدي الله.
8 - الخلوة به سبحانه وخاصة في أوقات الاستجابة.
9- مجالسة الأخيار.
10- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله
(مدارج السالكين 3 /17-18 (بتصرف) .(11/90)
من رسالة للأخ عبد الله المسفر نختار هذه الفقرة:
ذكر الذهبي في ترجمة عمرو بن العاص:
قال عمرو بن العاص: خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم حتى نزلنا
الإسكندرية، فقال عظيم منهم: أخرجوا إلي رجلاً أكلمه ويكلمني فقلت: لا يخرج
إليه غيري، فخرجت معي ترجماني، ومعه ترجمان حتى وضع لنا منبران، فقال: ما أنتم؟ قلت: نحن العرب، ومن أهل الشوك والقرظ، ونحن أهل بيت الله،
كنا أضيق الناس أرضاً وشره عيشاً نأكل الميتة والدم ويغير بعضنا على بعض، كنا
بشر عيش عاشه الناس. حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ شرفاً، ولا
أكثرنا مالاً، قال: أنا رسول الله إليكم يأمرنا بما لا نعرف، وينهانا عما كنا عليه
فشنفنا له، وكذبناه، ورددنا عليه حتى خرج إليه قوم من غيرنا فقالوا. نحن
نصدقك ونقاتل من قاتلك، فخرج إليهم وخرجنا إليه وقاتلناه فظهر علينا، وقاتل من
يليه من العرب فظهر عليهم فلو يعلم من ورائي من العرب ما أنتم عليه من العيش
لم يبق أحد إلا جاءكم فضحك، ثم قال. إن رسولكم قد صدق، وقد جاءتنا رسل
بمثل ذلك وكنا عليه حتى ظهرت فينا ملوك فعملوا فينا بأهوائهم، وتركوا أمر
الأنبياء فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه وإذا فعلتم مثل الذي فعلنا
فتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عدداً منا، ولا أشد منا قوة ((سير أعلام النبلاء
3 / 70-71)
هكذا كان العرب في الجاهلية في ظلمة يدركون شدتها حينما جاءهم الله بنور
هذا الدين فأخرجهم من الكفر إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين.
لم يتردد هذا الصحابي لحظة واحدة أن يذكر تلك الصفات التي كان يحس
بمرارتها بعد أن شم رائحة الإيمان، وعاش في رحاب التوحيد)
صدق وصراحة وشجاعة، وعدم خجل من ماضيهم المشين، في الوقت
الذي نجد كثيرًا من المسلمين يحرصون على إبراز آثار الماضي والتي ... لا يحرصون على عرضها على الإسلام أموافقة له أم مخالفة؟ نحس بالهزيمة فنتلمس شيئاً نفخر به، وليس عندنا الشجاعة والإحساس بعظمة هذا الذين ... لنتخذه هو وحده - وهو كذلك - المفخرة الحقيقية، ولذلك نجد قوماً يهتمون ... بالآثار فيبذلون جهوداً في البحث والتنقيب ليقولوا لغيرهم من الأمم: إن عندنا شيئا ً كما عندكم حتى لو وصل بهم الأمر إلى الفخر بالأصنام لربما بحثوا ... ... ليشابهوهم في فخرهم، فلا غرابة إذا رأينا أن النصر الذي نزل عليهم لم ينزل ... علينا، وأن التمكين الذي سعدوا به لم نسعد به.(11/92)
قديم جديد
الإنكليز حلقة الشر المفرغة
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله
نشرت في العدد 24 من جريدة البصائر الجزائرية سنة1948 وأعدنا نشرها
لما فيها من سداد الرأي وقوة التعبير.
أيها العرب:
إن الإنكليز هم أول الشر ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان، منهم يبتدئ الشر
وإليهم ينتهي، وإنهم ليزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صور مجسمة تؤلم وتؤذي
وتقتل، وجنادل مسمومة تهشم وتحطم وتخرب، لا لمة تلم ثم تنجلي، وطائف
يمس ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق، ويزيدون عليه بأنهم لا يطردون
بالاستعاذة، وتذكر القلب، ويقظة الشواعر، وإنما يطردون بما يطرد به اللص
الوقح من الصفع والدفع والأحجار والمدر، ويدفعون بما يدفع به العدو المواثب،
بالثبات المتين للصدمة، والعزم المصمم على القطيعة وبت الحبال، والإرادة
المصرة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة
الإيمان: (إن الإنكليز لكم عدو فاتخذوهم عدوا) . يرددها كل عربي بلسانه،
ويجعلها عقيدة جنانه، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدمه من قربانه.
قد غركم أول الإنكليز فأعيذكم أن تغتروا بآخره بعد أن صرح شره، وافتضح
سره، وانكشف لكم لينه، عن الأحساك والأشواك، وقد تمرس بكم فعرف الموالج
والمخارج من نفوسكم، قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلل معادن النفوس
منكم قبل أن يحلل معادن الأرض من وطنكم، وعجم أمراءكم فوجد " أكثرهم من
ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم.
قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوى أمله، ولولا وعده لكانت
الصهيونية اليوم كما كانت بالأمس حلماً من الأحلام يستغله (الشطار) ويتعلل ... به الأغرار.
وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه
ما انتدب إلا ليحقق وعده، وأنه في ظل انتدابه، وبأسنة حرابه، حقق صهيون
مبادئ حلمه، فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز، وقوانين الإنكليز، وفتن
ضعفاءكم بالخوف، وفقراءكم بالمال، حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع
والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهد الأرض بأيديكم وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم وابتزاز أرزاقكم.
وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين
على هذه الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير
المشروع. ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعة إلا في دين الإنكليز؟ !
وعلمتنم أن بريطانيا هي التي جرت ضرتها البلهاء أمريكا إلى مجادَّتكم
وجرأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم
وبين أمريكا من صلات، وأنها هي التي ألبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى
إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفف، وتظاهرت بالروية
والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويهاً بهذا الحياد الفاضح،
فكانت كالقاتل المعزِّي … يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم، إن المؤمن لايلدغ من
جحر مرتين.
وقد لدغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا، وخدعتم من
الجانب الإنكليزي كرات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خدع خلفكم كما خدع سلفكم،
واستهوى أمراءكم وكبراءكم، ودعاكم إلى موائده الفقار (كذا، ولعلها. موائد
القمار) فلبيتم، وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة،
وما آنس منكم إلا التهافت على أعتابه والتعلق بأسبابه.
فيا ويحكم ... أكلُّ ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء؟ أو لأنهم أقوياء وأنتم
ضعفاء؟ كلا ... إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخذية، وليسوا أغنياء
عنكم، وإنهم لأقوياء بما يستمدونه من أرضكم وجيوبكم، فاقطعوا عنهم المددين
يضْووا ويهزلوا، واخذلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمروا جزيرتكم
تخرب جزيرتهم؛ إن لِبدة الأسد هي بعض أسبابه إلى زرع الهيبة في القلوب،
ولكن لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كل أمة استرجعت شعراتها من
تلك اللبدة التي تكمن وراءها الرهبة، لأمسى الأسد هراً مجرود العنق، معروق
الصدر، بادي الهزال والسلال.
إن الغنى عمل وتدبير، فلو عملتم لكنتم أغنياء؛ وإن الغنى من غنى النفس
بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات، وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم
أن تكونوا أقوياء لكنتم؛ وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد.
هذا أول الإنكليز عرفتموه، فهل عرفتم آخرهم؟ إنهم كانوا أداة تفريقكم في
الماضي، وكانوا عوناً للزمان عليكم، فلما رأوا شملكم إلى اجتماع، وجامعتكم إلى
تحقق، جمعوا لكم كل ما عندهم من مكائد ومصائد ...
إنهم ينطوون لكم على العظائم، وإن في جعبتهم ما في جعبة الحاوي من
حيات، وإن في أيديهم عروق الجسم العربي يضغطون على أيها شاءوا متى شاءوا
ولهم مع ذلك من بينكم العيون الراصدة، والألسنة الحاصدة، وفيكم مع ذلك
الآذان السامعة، والهمم الطامعة، وفي سجلاتهم ذممكم وهممكم وقيمتكم قدروها
تقديراً، وأوسعوها تحليلاً وتدبيراً.
إنهم ما حركوا مشروع سوريا الكبرى في ميقات معلوم إلا ليفتنوا بعضكم
ببعض، ويغروا بيتاً ببيت، وقريشاً بتميم. فينخرق الإجماع وتفترق الجامعة.
وإن هذه النقطة هي أعلى ما يصل إليه الدهاء الإنكليزي؛ كما أنها أعسر
امتحان للضمير العربي الذي يتمنى أن يتكتل العرب ولكن بدافع من أنفسهم لا على
يد عدوهم؛ وإن الإنكليز لقادرون على تحريك غيرها من الفتن المفرقة؛ وإنكم -
أيها العرب - لا تردون كيدهم إلا بإجماعكم على تحديهم، واجتماعكم على إيقاف
تعديهم، وإقامة جامعتكم على اعتبار مصلحة العرب، ووطن العرب، فوق
الأغراض والأشخاص.
إنكم لا تردون كيدهم بقوة جامعة الدول العربية، حتى تسندوها بجامعة
الشعوب العربية؛ فحركوا في وجوههم تلك الكتلة متراصة يرهبوا ثم يذهبوا.
لمسنا في هذه الكلمة حقائق مريرة وأومأنا إلى قضايا يسوؤنا أن نزيد حمأتها
مداً.
ولكن ما عذرنا إذا أمسكنا عن الشرح، ولو كان فيه جرح، وقد تأدى إلينا من
تراث أجدادنا العرب هذه الحكمة الغالية: " من كتم داءه قتله ".
***
قال الأصمعي:
سمعت أعرابياً يدعو الله وهو يقول:.
هربت إليك بنفسي - يا ملجأ الهاربين - بأثقال الذنوب أحملها على ظهري،
لا أجد شافعاً إليك إلا معرفتي بأنك أكرم من قصد إليه المضطرون، وأمَّل فيما لديه
الراغبون، يا من فتق العقول بمعرفته وأطلق الألسن بحمده، وجعل ما امتن به من
ذلك على خلقه كفاء لتأدية حقه؛ لا تجعل للهوى على عقلي سبيلاً، ولا للباطل
على عملي دليلاً.(11/95)
الصفحة الأخيرة
كيف تنجو من العقاب إذا كنت
جاسوساً أو فاسداً؟ ! [1]
ربما تستغرب هذا العنوان وتشعر بالدهشة وتستنكر تشجيع الناس على
التجسس والفساد، فهل يصح العفو عن الجاسوس أو إطلاق سراح فاسد الذمة؟ ! ...
الجواب: نعم، إذا كان يضم إلى هاتين الصفتين صفات آخرى لا بد منها ومؤهلات لا يمكن تجاهلها.
أهم المؤهلات التي ترشح الجاسوس خرب الذمة في بلادنا للعفو عنه، أو
إطلاق سراحه أن يكون نصرانياً مثلاً، والنصرانية دين قائم على التسامح!
والكنيسة تخدم لترسيخ هذا المبدأ، فما إن تسمع بأحد (رعاياها) قد وقع في
المصيدة حتى تهب للسعي لتخليصه، ومع أنها لا تتدخل في السياسة (كما تزعم) إلا
أنها تجد من عون السياسيين وأهل السياسة ما يعجب ويطرب!
أما إذا انضم إلى " نصرانية " هذا المجرم كونه يحمل هوية أجنبية - ونعني
بالأجنبية. غير العربية: أوربية أو أمريكية تحديداً - فهذا المؤهل مؤهل ذهبي،
إذ عن طريق التسامح مع حملة هذه الهويات نثبت أشياء كثيرة:
أ - نثبت تحضرنا وبعدنا عن التعصب.
ب - ونثبت عدالتنا التي لا تحابي القريب، وتبطش بالبعيد، بل تدق عنق
القريب، وتقول للغريب: (خلا لك الجو فبيضي واصفري) .
ج- ونثبت أخيراً أننا أهل مصالح رخيصة وقريبة المدى لا أهل مبادئ
نتحمل كل النتائج للدفاع عنها..
أما إذا وقعت في المصيدة لمجرد وشاية من شخص لم تدخل مزاجه (وكنت
مسلماً، لا كنيسة تحنو عليك، ولا هوية أجنبية في جيبك تقيك شر العاديات) فاعلم
أنك ستبقى هناك حيث تندب حظك أنك لم تكن ألمانياً جاسوساً أو إنجليزياً راشياً.
إلى أن يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل
هذا إذا بقيت حياً ... ! .
__________
(1) في 25/11/1987 أطلقت بعض الدول العربية سراح أحد الجواسيس وكان قد منح الجنسية الألمانية عام 1986 وكان حكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً وفي 25/2/1988 أفرجت عن البريطاني " جون سميث " الذي كان حكم عليه بالسجن المؤبد لرشوته مسئولين، فنفذ بشركائه حكم الإعدام، أما هو فقضى من مدة عقوبته 7 سنوات فقط وتمتع بالعفو الذي جاء تعبيراً عن حسن نوايا هذه الدولة تجاه الشعب البريطاني.(11/100)
شوال - 1408هـ
يونيو - 1988م
(السنة: 2)(12/)
الافتتاحية
التقريب بين المذاهب والأديان
حيلة الأقوياء حلم الضعفاء
أن يتداعى قوم مختلفون في وجهات النظر إلى مؤتمر أو اجتماع ليدلي كل
بوجهة نظره أمام الآخر، ويوضح جوانب من فكره، قد تكون خافية على الآخرين، لتكون صورة الفكر الذي يحمله واضحة أمام الناس لا لبس فيها ولا غموض؛
فهذا لا مانع منه، ولا بأس فيه. حيث إن هذا لا يعدو أن يكون تجلية للحق
المنشود، وإزالة لأوهام قد تعلق في أذهان الآخرين بفعل مؤثرات شتى سابقة.
ولكن الذي ينعم النظر في كنه ما يسمى بدعوات التقريب بين النحل والأديان، ويستبطن حقيقتها سيجد أن هذه الدعوات - إن لم تكن ترمي إلى عكس ما تدعو إليه - فهي على الأقل مشبوهة مدخولة.
وحتى يقام الدليل على هذه الدعوى فلابد من تحليل الأجواء التي تنبعث منها
هذه الدعوات، ومن نظرة في حالة من يدعو إليها، ومن ينتدب للمشاركة فيها،
ومن دراسة جدوى هذه الدعوات سواء في صفوف من تعقد باسمهم؛ أو الجهة ... التي تنظم وتشجع مثل هذه التظاهرات.
لو تتبعنا الظروف والأجواء التي تنشط فيها دعوات التقريب لسهل علينا أن
نرى أن الداعين إليها والذين يرجون قطف ثمرتها يعيشون في " مأزق " وتحيط بهم
(أزمة) ، ويظنون أن دعوتهم قد تخرجهم من هذا المأزق وتنتشلهم من هذه الأزمة. فما هو المأزق عند دعاة التقارب الإسلامي المسيحي مثلاً؟
إن دعوات التقارب والحوار الإسلامي المسيحي كلها تقريبًا نشأت في الجانب
المسيحي، ومع أن هذا الجانب هو الغالب غلبة مادية؛ لكن من السهل إدراك
الأزمة التي يعيشها من يمثلونه، فقد وجدوا أن قرونًا طويلة من الصراع والصدام
مع الإسلام لم تحل مشاكلهم معه، ولم يلمحوا أن حملة العقيدة الإسلامية يمكن أن
يلينوا على العسف والقهر، ولم تبدُ عليهم آثار من تعب المصاولة في حلبات
التذويب أو التشويه، بل يفاجأ هؤلاء - وهم في عنفوان تسلطهم المادي وهيمنتهم -
بالإسلام الذي عملوا على تجريده من كل قوة، وسخروا لحرب أهله كل أنواع
الأسلحة، فنهبوا مقدراتهم، وضربوا وحدتهم، وبثوا بينهم كل سموم العصبيات،
وتجاهلوا ثقافتهم، وأبرزوا عيوبهم، وكبتوا محاسنهم، بل أظهروا محاسنهم في
ثوب العيوب، وضربوا بين شعوبهم وبين الإسلام بالأسداد، على الرغم من
ادعائهم حرية الفكر يفاجئون بهذا الإسلام لا زال حياً له نفس يعلو وجسم يتحرك.
فكيف السبيل وما العمل؟ !
هنا يلبسون جلد الحَمَل، ويقدمون أنفسهم على أنهم يريدون أن يفهموا الإسلام فقد اكتشفوا كثيرًا من النقاط الإيجابية فيه وفي أهله، ومن الخسارة أن تضيع
الجهود في الحروب والصراعات، ولابد من اكتشاف نقاط الالتقاء، وتضييق
الفوارق، فتجوز الخدعة على بعض مفكري المسلمين، فيكتبون البحوث التي غالبًا
ما تكون مملوءة بالنفاق والتشويه والتمييع.
ومما له دلالة يحسن التوقف عندها أن الداعين لمثل هذه الندوات تجمعهم صفة
واحدة وهى خدمة المفاهيم الغربية، فهم إما أن يكونوا من السفراء السابقين في
الدول الإسلامية، أو من الذين يدرسون الإسلام في بعض الجامعات الغربية التي
تقدم خدماتها لوزارات الخارجية هناك، أو من رجال الكنيسة الذين يقومون بمهام
التنصير في البلاد الإسلامية.
أما فيما يتعلق بالجانب الإسلامي فإن الذين ينتدبون للمشاركة غالباً ما يكونون
إما من المفتين الرسميين، أو أصحاب مناصب لها شبهة تعلق بدين الإسلام من
الذين ترسلهم دولهم كي يدفعوا عنها تهمة التعصب والانغلاق، ويبرزوا بالنيابة
عنها وجه الإسلام المتطور!
أما من حيث النظر في نتائج دعوات التقارب وندوات الحوار فإنها لا تؤدي
إلى شيء مما يسمى التقارب أو تضييق شقة الخلاف، ولا تعطي أي نتيجة عملية
على هذا الصعيد، اللهم إلا تحقيق أهداف الأذكياء من الداعين إليها، كجمع
المعلومات عن المسلمين، وتسجيل الشهادات التنازلية التي يقيدونها عندهم كسابقة
يستشهدون بها فيما يستقبلون من أحداث ومشاكل مع المسلمين، فتكون هذه
الشهادات زيادة في رصيدهم الذي يستخدمونه لشق الصفوف وزيادة الهوة بين
إسلاميين: إسلام هو الإسلام، وإسلام آخر متطور يجتهدون في إحلاله محل
الإسلام الشَّموس الذي ضاقت بهم السبل والحيل في تأهيله وترويضه.
وتبقى وراء ذلك الخلافات كما هي، وهذا أمر طبيعي، فالقفز فوق الخلافات
العقائدية لا يحلها ولا يذيبها، وتجاهل قرون متطاولة من العداء والصراع ذر للرماد
في العيون، واستهانة بتاريخ كل من الإسلام والمسيحية، فضلاً عن أنه من
المستحيل التبرؤ من أي تاريخ إلا بالتبرؤ أولاً من العقيدة التي انبثق منها وعنها
ذلك التاريخ.
وقل مثل ذلك في ما يطرح من دعوات لإزالة الخلاف السني- الشيعي، فهي
دعوات كثيرًا ما تنبثق من الجانب الذي يواجه طريقاً مسدودًا، وتهدف إلى تسويق
أصوله لتكون مقبولة عند الطرف الآخر، هذا مع ملاحظة التساهل إلى درجة
السطحية والغفلة - إن لم نقل الغباء - عند من يختارون ناطقين باسم أهل السنة،
والمداورة والإيهام والعناد الذي لا يخفيه لحن القول عند محاوري الشيعة.
على أن المثير فيما يتعلق بالحوار السني - الشيعي هو الجهل المطبق الذي
يلف الداعين إلى ذلك، لا الجهل فيما ينبغي أن يكون عليه تصور المسلم في هذا
العصر، بل الجهل بحقيقة عقيدة الآخر وأسسها، والنظر إلى الخلاف على أنه لا
يعدو خلافًا على قضايا فرعية، أو على أمور أخرى عفّى عليها الزمن، فماذا
عسانا أن نقول فيمن يطرح - كمنطلقات لإزالة الخلاف -ما يلي:
* نحن والشيعة متفقون على أن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن للتشريع.
*وأنه لا يمكن طرح مسألة الإمامة كمشروع معاصر.
*وأن مشكلة المهدي المنتظر ليست من الأهمية بمكان.
إلى غير ذلك مما يعكس عقيدته وفكره هو، ونظرته إلى سلبيات العقيدة
الأخرى.
كيف يقال إن السنة والشيعة متفقون على أن السنة هي المصدر الثاني
للتشريع؟ أية سنة؟ ! هل يعتد أحد الطرفين بما يسميه الآخر سنة؟ ! وترك
البحث في الخلافات وإثارتها يرضى به أهل السنة، ولكن هل هناك عاقل يظن أن
الشيعة ترضى به؟ إذن؛ لانهار أساس مكين من أسس عقيدتها، فلو وقع ظلم على
شيعي من أي جهة حتى لو كانت يهودية أو مسيحية سرعان ما يتناخى القوم بـ "
يالثارات علي والحسين! " ولا حاجة للقول أن التشيع - كما آل معناه في هذا العصر - يقوم على جملة أركان منها: البراءة واللعن، البراءة ممن، ولعن من؟ !
وكيف يمكن التخلي عن فكرة الإمامة؟ أليست أصلاً من أصول الدين عند
الشيعة تعادل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؟ والمنطق
الإيماني يقول: إن الإيمان بهذه الأمور كل لا يتجزأ، وإن كل الأصول الشيعية
تنبع من مشكلة الإمامة وإليها تعود، وكذلك قضية المهدي المنتظر، لو ترك القوم
الاعتقاد بالمهدي لانهار ركن " الرجعة " وما ينبني عليه ويتفرع منه - وهو كثير-
عندهم..
ليس من مقصود هذه الكلمة أن تستقصي الأصول التي يخالف فيها الشيعة
أهل السنة، ولكن الهدف هو إظهار أن مقولة التقريب أسطورة من الأساطير، لو
أنتجت نتائجها المنطقية لجعلت كل طرف يتخلى عما هو أساسي في عقيدته،
ولتشكل من ذلك فريق ثالث لا هو سني ولا هو شيعي، فهل يمكن تصور وجود
هذا الفريق في المجتمع الإسلامي؟ نعم، إنه فريق " الإلحاد "، وإلا فالمشاهد أن
قضية التقريب بين المذاهب لا تروج إلا في صفوف أهل السنة، نظرًا للكثرة
العددية والانفتاح الذي يعيشون فيه - إن لم نقل التسيب- والتعصب والخوف من
الآخر لم يوجد إلا في صفوف الطوائف الأخرى سواء على صعيدها الشعبي أو
الرسمي. وأمامنا تجارب من الماضي والحاضر على سبيل المثال لا الحصر.
فدار التقريب التي كانت يشرف عليها مرجع إيراني هو العلامة (القمي)
كانت في مصر، في حين أنه لم يكن لهذه الدار ولو فرع واحد في أي جزء من
إيران، وقد يقال، من باب التذاكي والشطارة: إن حكومة إيران على أيام سيء
الذكر الشاه السابق لم تكن إسلامية، ولكن نقول: هل تغير الحال على عهد طيبي
الذكر حكام إيران الحاليين؟ إن الدستور الإيراني منَّ على أهل السنة حين اعترف
بهم وجعلهم على سوية واحدة وفي مرتبة اليهود والنصارى والبهائيين والزرادشتين، هذا في الوقت الذي لا نلحظ فيه هذا التفريق بين المسلمين أنفسهم ولا بينهم وبين
غيرهم في الماضي والحاضر في أي دستور آخر غير الدستور الآنف الذكر. وبعد ...
فإن هذا الكلام لا يتوجه إلى أصحاب الأهواء والأغراض، وإنما يتجه إلى
الذين تسوءهم حال المسلمين وما هم عليه من الفرقة والضعف والتخلف الذي نرى
أن أسبابه ترجع بالدرجة الأولى إلى الجهل بعدة أمور:
* الجهل بحقيقة ما هم عليه من دين، وخلطهم بين الأصل والفرع والواجب
والمسنون.
*الجهل بأعداء هذا الدين وتاريخهم ونفسياتهم ودوافعهم التي تحركهم.
*الجهل بالماضي كيف وقع، وبالحاضر كيف يسير، وعدم القدرة على ربط
كل حدث بالآخر ربط الأسباب بالنتائج، حتى طمع فينا كل طامع، ونعق بين
ظهرانينا كل ناعق.
إن بدعة التقريب والتقارب شأنها شأن البدع جميعًا، تقدم نفسها على أنها
خدمة للحق والحقيقة، وجهد في سبيل الله، ولكنها - علم ذلك مبتدعوها والمدندنون
لها أو لم يعلموا - جهد في سبيل الشيطان.(12/4)
مجددون معاصرون
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عندما أعلن عن تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر عام 1931 م
كان قد مضى قرن كامل على احتلال فرنسا لهذا البلد المسلم، وكانت استراتيجية
هذا المحتل هي أن تصبح الجزائر قطعة منه أو بتعبير أدق كانت السياسة المتبعة
هي فرنسة الجزائر، ولذلك مارس هذا الاستعمار أشد أنواع الاضطهاد والقهر
وسلب الأموال، وتحويل المساجد إلى كنائس، وفرض اللغة الفرنسية كلغة ثقافة
وتخاطب، واستطاعت قوات الاحتلال الفرنسي القضاء على جميع الثورات التي
فجرها العلماء وزعماء البلاد، هذه الثورات التي كانت تفتقد الشمولية، والقدرة
على التنظيم، رغم تضحياتها وبطولة زعمائها، ولذلك كانت تقمع في كل مرة،
وما أن حل الثلث الأول من القرن العشرين حتى كان الظلام قد خيم على الجزائر
كلها، فما تبقى من المساجد التي هدمها العدو كانت تحت رقابته لا يخطب فيها إلا
من ينافق له، وألغيت المحاكم الإسلامية وبدأت جحافل المبشرين تزحف نحو
الجزائر.
يقول الشيخ البشير الإبراهيمي واصفاً هذه الحالة: «كان من نتائج الدراسات
المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا بالمدينة المنورة
(1913) أن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين
عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه
ويفسدان عليه دينه ودنياه:
1- استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار.
2- واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، المتجرون
بالدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضي وطواعية. والاستعماران متعاضدان
يؤيد أحدهما الآخر بكل قوته، ومظهرهما معًا تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم فتسعى
في الانفلات، وتفقيرها لئلا تسعى بالمال على الثورة [1] .
أرادت فرنسا شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، وإذا أراد الله شيئًا سهل أسبابه،
وكان من كرمه سبحانه وفضله على أهل الجزائر أن يسر بروز رجال أعلام
استفادوا من تجارب الذين سبقوهم، ودرسوا مشكلات أمتهم دراسة دقيقة، وقرروا
العمل الجاد لإخراج المسلمين في الجزائر مما هم فيه إلى حالة ترضى الله سبحانه
وتعالى، وكان فارس هذه الحلبة والبارز في ميدانها الشيخ عبد الحميد بن باديس
رحمه الله، فبعد رجوعه إلى الجزائر من رحلته العلمية إلى تونس ومصر، ثم
الحجاز والشام [2] كانت فكرة الإصلاح والعمل المنظم قد اختمرت في ذهنه ولم
يبق إلا التمهيد لها، فكان يبث هذه المفاهيم لكل من يشهد حلقاته العلمية في التفسير، يقول رحمه الله: (إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت
لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور
وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة) [3] .
ثم يلتفت رحمه الله إلى العلماء والقادة فيقول:
" ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلا بإهمالهم أمر الاجتماع
ونظامه، إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتثار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، فعلى أهل العلم - وهم المسؤولون عن المسلمين بمالهم من إرث النبوة فيهم - أن
يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية [4] الكريمة فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع
والشورى في كل ما يهمهم من أمر دينهم) [5] .
وهكذا كان رحمه الله يمهد لما صمم عليه من تأسيس جمعية تلم شمل العلماء
والدعاة الصادقين، ولا تقتصر على فئة دون فئة ولا على إقليم دون إقليم.
مراحل تأسيس جمعية العلماء:
1- مرحلة الشعور بالخطر الجاثم على صدور أهل الجزائر والتفكير بالحلول، وأسباب الداء وكيفية الدواء، وهذه المرحلة كانت بوادرها في المدينة المنورة عام 1913م عندما التقى الشيخ ابن باديس مع رفيق دربه وجهاده الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان مهاجرًا إلى الحجاز للدراسة والاطلاع، وقد وصف الإبراهيمي هذه المرحلة أدق وصف فقال:
" كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبآت الغيوب لها أن يرد
عليَّ بعد استقراري بالمدينة المنورة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد
ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس أعلم علماء الشمال الأفريقي-ولا أغالي - وباني
النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر ... كنا نؤدي صلاة
فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي ونخرج إلى منزلي فنسمر مع
الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل
لصلاة الصبح. ثم نفترق إلى الليلة الثانية إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها الشيخ
بالمدينة، كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر
ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صوراً ذهنية
تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد
بضع عشرة سنة.
وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها
الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا عام
1931 [6] .
2-التمهيد لجمع المسلمين وبث روح التعاون والعمل الجماعي في صفوفهم،
بواسطة دروس التفسير في مساجد قسنطينة وكانت الإدارة الفرنسية تعرقل دروس
الشيخ ابن باديس فينتقل من مسجد لآخر، كما أن هذه المرحلة كانت فترة نضوج
لأبرز قادة الجمعية الذين رحلوا إلى المشرق وتنقلوا بين المدينة المنورة ودمشق
والقاهرة، واتصلوا بأعلام الدعوة السلفية في هذه المدن، وتدارسوا معهم واقع
العالم الإسلامي والحلول اللازمة للنهوض.
3-زار ابن باديس عام1924 الشيخ الإبراهيمي في مدينة (سطيف) وأخبره
بأنه عقد العزم على تأسيس جمعية باسم (الإخاء العلمي) تجمع شمل العلماء والطلبة
وتوحد جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وعهد ابن باديس إلى
الإبراهيمي مهمة وضع القانون الأساسي للجمعية، فوضعه الإبراهيمي واتفقا ... عليه [7] ولكن هذا المشروع لم ير النور لعدم تجاوب علماء قسنطينية مع رغبة ابن باديس ولأن الاستعداد لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد.
4-أصر ابن باديس على إنشاء جمعية للعلماء وأنه لابد من عمل إصلاحي
كبير، وتنازع العلماء رأيان: الأول تبناه الإبراهيمي وخلاصته: أن يكون هدف
الجمعية تعليميًا، وأن يربي جيل متخصص في مختلف الفنون والمعرفة ينطلق
المربون به في حملة شاملة على الباطل والبدع.
والرأي الثاني: وقد تبناه ابن باديس ويقوم على مهاجمة المبطلين والمبتدعين
منذ البداية، ولأن البدع قد طال عليها الأمد وشاب عليها الوالد وشب عليها الولد،
فلا يطمع في زوالها إلا بصيحة مخيفة تزلزل أركانها، وإعصار شديد يكشف الستر
عن هذا الشيء الملفق ليتبينه الناس على حقيقته. وقد تم الاتفاق على الأخذ بالرأي
الثاني. وبناء على ذلك أصدر ابن باديس جريدة (المنتقد) عام 1925 التي يبين
اسمها عن معنى النقد الذي يخالف منهج أرباب الطريقة (اعتقد ولا تنتقد) وكتب
ابن باديس في المنتقد عن دعوة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ونقل عن (المنار)
رسالة عبد الوهاب النجدي إلى عبد الله الصنعاني [8] .
ثم صدرت (الشهاب) [9] وفيها الدعوة إلى مناصرة فكرة الإصلاح وتجميع
القوى وأن يكتب إلى الشهاب من يوافق على هذه الأفكار، فانهالت الرسائل المؤيدة، ومنها رسائل من الشيخ الطيب العقبي، ومبارك الميلي.. وقد جاء في رسالة
الشيخ العربي التبسي: " أزفت ساعة الجماعة وتصرم عصر الفرد " [10] وفي
عام 1931 نشرت (الشهاب) اقتراحًا بتأسيس جمعية العلماء وكان الغرض هو جمع
القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم من العلم للتعاون على خدمة الدين
الإسلامي واللغة العربية، والنهوض بالأمة [11] .
استجاب كثير من العلماء لدعوة ابن باديس وتقرر الاجتماع في الساعة
الثامنة من صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة 1349 هـ الخامس من
مايو 1931 في نادي الترقي بعاصمة الجزائر، وكان عدد المجتمعين اثنين وسبعين
من العلماء وطلبة العلم، وكان هذا الاجتماع بمثابة جمعية عمومية لوضع القانون
الأساسي ثم عقد اجتماع آخر وانتخب الشيخ ابن باديس رئيسًا والشيخ الإبراهيمي
نائبًا للرئيس.
إن تأخير قيام الجمعية إلى هذا الوقت مع أن نشاط ابن باديس وحديثه عن
العمل الجماعي ورد في أوائل العشرينات إنما كان لتطلع ابن باديس إلى مشاركة
جميع العلماء الذين يؤمنون بالإصلاح، وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا والدخول في حوار
مع كل فرد منهم، كما يتطلب وضوح الأهداف والغايات.
5- حاول بعض الصوفية من أعضاء الجمعية والمشايخ الذين لهم ارتباط
بالإدارة الفرنسية السيطرة على الجمعية ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا، وفي عام 1932
خرجوا من الجمعية وانتخب ابن باديس مرة ثانية رئيسًا بالإجماع، وبذلك صفت
الجمعية لرجال الإصلاح الذين كان منهجهم واضحًا منذ البداية.
أما السؤال المتبادر، لماذا دخل هؤلاء في الجمعية أصلاً؟ فالجواب:
أن ابن باديس تعاون مع المعتدلين من الطرقيين والعلماء الرسميين ولم يتعاون
مع الملوثين الذين ظهرت أباطيلهم وأراد من هذا التعاون شيئين:
الأول: أراد أن يواجه المستعمرين وعموم أعداء هذا الدين بموقف إسلامي
موحد، وموقفه هذا يذكرنا بالوفد الذي قابل به ابن تيمية قازان زعيم التتار وكان
يضم الصوفيين والمبتدعين.
الثاني: كان ابن باديس يعرف كيف يتحرك، وكيف يتعامل مع الناس،
وكيف يستفيد من الظروف والمناسبات التي تمر، وكان يضع هذه الأمور كلها في
موضعها وإطارها الصحيح، وهذا التعاون لم يغير أو يبدل شيئًا من قناعات ابن
باديس وزملائه، بل كانوا أصحاب القرار وأهل الأكثرية في الجمعية.
ولابد من الإشارة هنا إلى إيمان ابن باديس بالمرحلية ولذلك نراه ينتقي
العبارات لكل مرحلة انتقاء دقيقًا وذكيًا، فعندما أخذ الترخيص للجمعية كانت الغاية
التي أعلنت في القانون الأساسي (محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر
والبطالة والجهل، وكل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل) وهذه الأخيرة فيها
تلميح إلى الصوفية، ولكن بعد الانتخاب الثاني 1932وتصفية الجمعية من أعوان
الإدارة دعا ابن باديس إلى (الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء
بفهم الأئمة المعتمد عليهم، ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية ... ... المحمدية) [12] .
وبعد مضي خمس سنوات على تأسيس الجمعية أكد البشير الإبراهيمي على
غايات الجمعية وخاصة في الأمور التالية:
1- محاربة الطرقية وأنه لا يتم في الأمة الجزائرية إصلاح مع وجود هذه
الطرقية المشؤومة.
2- نشر التعليم الحر البعيد عن إشراف الحكومة بين صفوف الصغار والكبار
3- الوقوف في وجه التبشير والإلحاد.
وهكذا كلما قويت الجمعية ووجد ابن باديس أن الفرصة مناسبة لتوسيع دائرة
عمل الجمعية، أعلن عن الأهداف الكبرى لها، وإذا لم يتح له ذلك ذكر أهدافه عن
طريق الصحافة التي كان يمتلكها هو شخصيًا وليست تابعة للجمعية مثل (المعتضد)
و (الشهاب) .
أهداف الجمعية:
في عام 1356 هـ 1938 م حددت الجمعية أصولها ومبادئها في النقاط
التالية:
1- الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده وأرسل به جميع رسله،
وكمله على يد نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لا نبي بعده.
2- القرآن هو كتاب الإسلام.
3- السنة (القولية والفعلية) الصحيحة تفسير وبيان للقرآن.
4- سلوك السلف الصالح (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين) تطبيق صحيح لهدي الإسلام.
5- البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- فعله، وكل بدعة ضلالة.
6- المصلحة كل ما اقتضته حاجة المسلمين في أمر دنياهم ونظام معيشتهم
وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم بما تقره أصول الشريعة.
7- التوحيد أساس الدين، فكل شرك في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل
فهو باطل مردود على صاحبه.
8- اعتقاد تصرف أحد من الخلق مع الله في شيء ما شرك وضلال،. وبناء
القباب على القبور والذبح عندها لأجلها، والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال
الجاهلية، فمن فعله جهلاً يُعلّم ومن أقره ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل.
9- الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في
الشيخ، وتجميد العقول، وإماتة الهمم.
10- عند المصلحة العامة من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف يفرق
الكلمة ويصدع الوحدة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة
بإذن الله ثم بقوة الحق، وادراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة:
[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] .
عبد الحميد بن باديس
بقسنطينة الجامع الأخضر أثر صلاة الجمعة 4 ربيع الأول 1356 [13] .
وما كانت الشعارات التي يرفعها ابن باديس: (القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا، وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير ... لجميع سكان الجزائر غايتنا) [14] إلا تلخيصاً لهذه المبادئ.
إن النزعة السلفية واضحة في هذه الأصول والغايات المعلنة ولا شك أن رحلة
ابن باديس وزملائه إلى المشرق واطلاعهم على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
واجتماعهم بعلماء الشام وما كتبه رشيد رضا في المنار له أثر كبير في توجهات
الجمعية، كما أن جيل المصلحين الأول مثل الشيخ صالح بن مهنا قد تأثر بالحركة
السلفية، ومع ذلك فإن ابن باديس وزملاؤه لم يكونوا نسخة مطابقة لعلماء الشام أو
الجزيرة بل كان عندهم من سعة الأفق أحيانًا أكثر من الذين تأثروا بهم، وقد تظهر
الدعوة السلفية أحيانًا في قطر من الأقطار الإسلامية دون أن يطلع أهله على ما في
القطر الآخر وذلك لأنها دعوة حق يهتدي إليها من أوتي فطرة سليمة وقلب واع.
إنجازات الجمعية:
قامت الجمعية بأعمال كبيرة وجليلة وجهود تستحق التقدير والثناء الحسن،
فلها دور كبير في بث الوعي الديني وإحياء المفاهيم الإسلامية الصحيحة من الكتاب
والسنة ومحاربة الخرافيين الذين يتاجرون بالدين ويتعاونون مع المستعمرين، وقد
سدوا منافذ العلم وسيطروا على عامة الشعب بسبب الجهل، وقد كانت كتابات ابن
باديس والإبراهيمي مزلزلة لأركانهم فانقمعوا وانحسروا والتف الشعب حول العلماء
العاملين.
يقول البشير الإبراهيمي ساخرًا من الطرقيين: " القوم عارفون بالله وإن لم
يدخلوا كتابًا ولم يقرءوا كتابًا، وكل من ينتسب إليهم عارف بالله بمجرد الانتساب
أو بمجرد اللحظة من شيخه، ومن تنقيحاتهم تحديد مراحل التربية (الخلوية) لمعرفة
الله بثلاثة أيام (فقط لا غير) تتبعها أشهر وأعوام في الانقطاع لخدمة الشيخ من سقي
الشجر ورعي البقر وحصاد الزرع وبناء الدور مع الاعتراف باسم الفقير والاقتصار
على أكل الشعير ... "
وأنشطة الجمعية متشعبة وشاملة يصعب الحديث عنها كلها ولذلك سنقتصر
على ذكر نشاطها التعليمي الذي كان من أهدافه الرئيسية إحياء اللغة العربية لغة
القرآن والإسلام بعد أن حاول المستعمر إقصاء اللغة تمهيداً لإقصاء الدين. ولا شك
أن هذه مهمة صعبة، وهي أمل كل المصلحين الذين عاشوا قبل هذه الفترة وبعدها، فقد كان من المجمع عليه عندهم أن أهم وسيلة لترقية الأمة ونقلها من ذلها
وضعفها هو التربية والتعليم، لإنشاء أجيال جديدة تتسم بالسلوك الإسلامي والفهم
العميق لهذا الدين، وقد حققت الجمعية كثيرًا من هذا مما يعتبر في عصرها من
المعجزات.
كانت المدارس الحكومية قليلة جدًا، وهي خاضعة خضوعًا تامًا لإشراف
الإدارة الفرنسية في مناهجها ومدرسيها، بل كانت فرنسا تتعمد التجهيل، يقول
محمد فريد وجدي الذي زار الجزائر 1901: (هجرت ربوع العلم وخربت دور
الكتب وصارت الديار مرتعًا للجهل وكادت تدرس معالم اللغة العربية ... الفصحى) [15] .
ويقول الشيخ الإبراهيمي: (إن مدارساً عامرة بهذا الصنف من الأطفال الذي
لم يجد إلى التعليم الحكومي سبيلاً، وإن عدده لكثير إنه ليقارب التسعين بالمائة من
أبناء الأمة) [16] .
قصدت الجمعية لهذا الخلل، فشجعت الجمعيات الإصلاحية في كل مدينة
لإنشاء مدرسة، وهذه الجمعية تتكفل بدفع رواتب المعلمين وتشجيع الأهالي على
التبرع، وكانت جمعية العلماء تشرف على هذه الجمعيات المحلية وتشرف على
اختيار المدرسين، وقد بلغ عدد هذه المدارس عام 1935 سبعين مدرسة ويقدر عدد
التلامذة بحوالي 30. 000 بين صبي وفتاة.
وكانت جمعية العلماء تنظم للمدرسين دورات تدريبية لرفع مستواهم التعليمي ومناقشة أساليب ونظم التعليم وفي عام 1944 نشطت الجمعية نشاطًا بارزًا
فأنشأت خلال عام واحد ثلاثاً وسبعين مدرسة في مدن القطر وقراه [17] وفي عام
1948 بلغت مدارس الجمعية حوالي140 مدرسة، وفي عام 1954 ازداد العدد إلى
170 مدرسة، وقد بلغ عدد تلاميذ هذه المدارس عام 1951 (36. 286) تلميذًا
وتلميذة منهم 16. 286 يدرسون دراسة كاملة في المدارس العربية ولا يلتحقون
بالمدارس الحكومية، وبقية الطلبة سهلت لهم الجمعية أمر متابعتهم الدراسة في
مدارسها بأن جعلت لهم دوامين للتعليم في الصباح والمساء. وفي عام 1947
أسست الجمعية أول معهد للتعليم الثانوي في قسنطينة أطلق عليه اسم عبد الحميد بن
باديس، وبدأت الجمعية تشجع خريجي هذا المعهد للالتحاق بجامعات الزيتونة في
تونس أو الأزهر أو جامعة دمشق أو جامعة بغداد، وكأن الجمعية كانت تهيئ
الشباب لعملية بناء الجزائر المستقلة.
وهذا الجهد العظيم هو صراع مرير مع الإدارة الفرنسية لتثبيت هوية هذا
الشعب وأنه مسلم عربي، ففي هذه المدارس تعلم الأطفال العربية لأن التعليم في
المدارس الحكومية كان كله باللغة الفرنسية، وهذه الأمور كانت واضحة في ذهن
ابن باديس وصحبه من اليوم الأول وأن نهضة الإسلام مقرونة بنهضة اللغة العربية.
فجزاهم الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين، من رجال قاموا بواجبهم حق القيام.
* يتبع *
__________
(1) د تركي رابح: الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية في الجزائر /100.
(2) سنتكلم عن دراسة ابن باديس في الزيتونة ورحلته إلى المدينة ودمشق والقاهرة وأثر ذلك في فكره وشخصيته في ترجمة مفصلة لحياته إن شاء الله.
(3) د/ أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين / 96 نقلاً عن تفسير ابن باديس.
(4) كان رحمه الله يفسر قوله تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وإذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] [النور: 62] .
(5) تفسير ابن باديس: دار الفكر / 559.
(6) د تركي رابح: عبد الحميد بن باديس /172 نقلاً عن البصائر.
(7) الخطيب: جمعية العلماء / 96.
(8) الطالبي: ابن باديس وآثاره 1/ 81.
(9) أصدر ابن باديس جريدة الشهاب عام 1925، والجدير بالذكر أن الشيخ حسن البنا رحمه الله أصدر جريدة باسم الشهاب أيضاً عام1947 وأشار في افتتاحية العدد الثالث إلى أسبقية مجلة الشهاب التي أصدرها الشيخ ابن باديس ورجا أن تسير مجلته على طريق مجلة الشهاب الجزائرية.
(10) الخطيب: جمعية العلماء / 98.
(11) المصدر السابق / 102.
(12) الخطيب: جمعية العلماء / 114.
(13) جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قانونها الأساسي ومبادؤها الإصلاحية دار الكتب - الجزائر.
(14) سجل الجمعية / 76.
(15) الخطيب: جمعية العلماء المسلمين / 64.
(16) تركي رابح: ابن باديس / 156.
(17) الخطيب: جمعية العلماء / 210.(12/9)
الفيديو والتلفزيون
خطر مؤكد على الأطفال
يظهر التأثير الهائل للفيديو والتلفزيون على الأطفال بشكل واضح عندما يتم
إدخال الجهازين أو أحدهما إلى البيت بعد نشوء الأطفال ووعيهم، إذ يبدو ذلك جليًا
في تبدل تكوينهم الشخصي والنفسي. ويستطيع المراقب إدراك ذلك من خلال نشوء
اهتمامات جديدة لدى الأبناء وأنماط من السلوك تحاكي سلوك الممثلين أو
الشخصيات الخرافية الوهمية، أما أولئك الأطفال الذين يولدون والتلفزيون في
بيوتهم فإنه يغدو بعد حين أهم موجه لتفكيرهم وسلوكهم وذوقهم واهتماماتهم، وقد لا
يلاحظ ذلك كثير من الآباء والأمهات، وخاصة أولئك الذين لا يهمهم أين تسير
السفينة ومن يوجه الدفة.
ويؤكد الدكتور إبراهيم إمام خطر التلفزيون - والفيديو - على الأطفال،
ويراه خطراً ثابتاً، ويحذر من التقليل من ذلك أو تهوين الأمر، فيقول:
" إن تأثير الإعلام على الأطفال تأثير ثابت، ولا ينبغي للمسؤولين أن يقللوا
من خطره، أو يهونوا من أمره، ولاشك (في) أن طريقة معالجة التلفزيون للتراث
الثقافي العالمي نفسه، وخاصة أسلوب استخدام الكاميرا يجعل التلفزيون مصنعًا
للخوف والرعب بالنسبة للموضوعات العنيفة، وعندما يخلط الأطفال بين الواقع
والخيال، ويتعرضون للتأثير الضار باستمرار، ويرون المجرم بطلاً خفيف الظل،
والقانون لا ينتصر إلا في النهاية، ورجل الشرطة موضع تهكم وسخرية،
والقاضي إنسانًا مترددًا ومضحكًا، فإن احتمال عدم التأثير بذلك كله أمر جد عسير،
وقد يكون صحيحًا أن تأثير التلفزيون - والفيديو - على الأطفال الأصحاء يختلف
في شدته ونوعيته عن تأثيره على الأطفال الذين لا يحسون بالأمر، ولكن لابد أن
يكون التلفزيون مؤثرًا على كلا النوعين " [1] .
التلفزيون والتحصيل الدراسي لدى الأطفال:
يشكو الآباء والمربون من آثار التلفزيون السلبية في علاقة الأطفال بالكتاب
والمدرسة، وتبدو نتائج ذلك ظاهرة على معظم الأطفال الذين يتابعون المشاهدة.
ومن الملاحظ لدى العاملين أن مما يؤدي إلى التأخر الدراسي، وعدم متابعة المعلم
أثناء الشرح سبب كثير منه التعلق ببرامج التلفزيون، والسهر الطويل في متابعة ما
يجري على الشاشة المرتعشة، إذ وجد أن الأطفال الذين لديهم أجهزة تلفزيون أو
فيديو يذهبون للنوم متأخرين عن نظائرهم في السن ممن لا يوجد لديهم، ويبدو
أيضًا أن التلفزيون يتداخل مع الواجبات المنزلية التي يكلف بها التلاميذ [2] وبذلك
يبدو الطفل سلبيًا أمام ما يدور في قاعة الدرس.
وفي ربيع عام 1977 ظهر كتاب بالغ الآثار والأهمية في الأسواق الغربية،
وهو الكتاب الوحيد الذي ناقش تجربة التلفزيون ومشاهدته، وبين أهميتها عن
محتوى البرامج التي تظهر على شاشته. هذا الكتاب من تأليف (ماري دين) وقد
أسمته (المخدر الكهربي) وكان سببًا لضجة كبيرة عند الآباء القلقين، وعلماء النفس
والمربين، ولقد أكد الكتاب أن مشاهدة الأطفال التلفزيون تسبب عندهم نوعًا من
الإدمان، وأنها تحول جيلاً كاملاً منهم إلى أشخاص يتميزون بالسلبية، وعدم
التجاوب، ولا يستطيعون اللعب والابتكار، ولا يستطيعون حتى التفكير ... بوضوح [3] ، فكيف يتسنى لمثل هؤلاء الأطفال استيعاب الدروس وتركيز اهتمامهم فيما يلقى عليهم أو يطلب منهم التفكير فيه إذا كانت معظم أوقاتهم تستنفد أمام الشاشة الصغيرة؟ .
وفي تقرير لمنظمة اليونسكو العالمية، رقم (33) تبين أن الأطفال، في البلاد
العربية، من سن السادسة إلى سن السادسة عشرة يقضون ما بين اثنتي عشرة
ساعة وأربع وعشرين ساعة أمام التلفزيون أسبوعيًا، وأن سن الخامسة حتى
السابعة هي الفترة التي يبدي فيها الطفل أقصى اهتمام بمشاهدة التلفزيون، وفي
المرحلة التي تسبق هذه الفترة فإن الطفل في سن الثلاث سنوات يقضي 45 دقيقة
يوميًا أمام التلفزيون، وفي سن أربع سنوات ينفق ساعة ونصف الساعة يوميًا [4] .
ولم تزل الدراسات والتقارير العلمية تتوالى في تبيان ما للأجهزة السمعية
البصرية من أثر بالغ الضرر فيما يظهر على شاشاتها، ولذلك فإن تقريراً آخر نشر
في مجلة اليونسكو عن نتيجة الاستطلاع الياباني عن وسائل الإعلام جاء فيه: إن
فيض المعلومات التي تقدمها أجهزة الإعلام يعطل القدرات التأملية الخلاقة لدى
الأطفال. وأوضح التقرير أن الأطفال كانوا ضحية لبرامج التلفزيون والمجلات
الهزلية. وذكر الأطباء والمدرسون الذين شملهم الاستطلاع أن وسائل الإعلام أشد
ضررًا بالأطفال وخاصة البرامج الترفيهية الساقطة والمجلات الهزلية التي ترد ... إليهم [5] ، وإن حشو مخيلة الطفل، وإشغال فكره بهذه الترهات لا تدع له مجالاً لاستيعاب المعلومات التي يتلقاها في المدرسة، مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى كراهية الطفل للمدرسة والكتاب لشعوره بقصورهما وعجزهما عن جذبه إليهما كما يجذبه التلفزيون والفيديو، إذا أنهما لا يتطلبان من الطفل مجهودًا ولا حركة، ويحشوان رأسه بالخيالات والأوهام، ويضحكانه ويعلمانه الرقص والغناء، وكيفية إقلاق راحة الآخرين [*] .
__________
(1) الدكتور إبراهيم إمام: الإعلام الإذاعي والتلفزيون، ص 138.
(2) الدكتور عبد الرحمن عيسوي: الآثار النفسية والاجتماعية للتلفزيون العربي، ص79.
(3) جيري ماندر: أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون، ص 137.
(4) مجلة العربي: العدد 317 إبريل (نيسان) 1985.
(5) سيد شلبي والأمير أباظة: الفيديو والمجتمع الإسلامي، ص 33.
(*) فقرة من كتاب: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، ,مروان كجك.(12/19)
مناقشة ابن عباس للخوارج
دروس وعبر
معن عبد القادر
أصيبت الأمة الإسلامية في القرون المتأخرة في أعز ما تملك وهو عقيدتها
الصافية النقية التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله عز وجل،
وسار عليها صحابته رضوان الله عليهم، وتبعهم في ذلك ثلة من الأولين وقليل من
الآخرين، ولا تزال طائفة من الأمة سائرة عليها كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله
عليه وسلم-.
وهذه المصيبة العظيمة لها جذور تاريخية ترجع إلى القرون الأولى. فقد
بدأت هذه المصيبة بمقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-
على يد مجوسي حاقد، ثم قتل ذي النورين عثمان بن عفان --رضي الله عنه-،
بمؤامرة دنيئة، ثم ظهر القول بنفي القدر، ثم أوقدت الفتنة بين المسلمين، ودار
القتال بينهم، ثم خرجت الخوارج بمقولة شنيعة، ثم ظهر التشيع، وازداد ... أهله غلواً وبعداً عن الدين، وانتشر الرفض في بقاع شتى من العالم الإسلامي.
وفي كل مرة كانت هذه الانحرافات تجد من يتصدى لها من الرجال الأفذاذ
الذين جمعوا بين العلم والعمل، والجهاد في سبيل الله، وكان هؤلاء يعملون على
تنقية الأجواء الإسلامية من كل انحراف ومن كل دخيل.
وفي الأسطر التالية أثر يتحدث عن نموذج لانحراف خطير ظهر في هذه
الأمة، وكيف تصدى لهذا الانحراف رجل تخرج من مدرسة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- التي تخرج منها أعظم الرجال.
وهذا الأثر فيه فوائد شتى، لم يكن المقصود استخراجها جميعاً، بل ترك ذلك
للقارئ الكريم، وإنما حسن التنبيه على بعض فوائده على وجه الاختصار.
وطريقة عرض هذا الأثر هي: عرض جميع رواياته التي وقفت عليها ومن
ثم إدراج الزيادات على السياق الأصلي، وقد أسوق نصًا غير النص الأصلي - في
بعض المواطن - لأن في ألفاظه زيادة فائدة.
وسياق الرواية الأصلي هو لمتقدم المخرجين لهذا الأثر من أصحاب مصنفات
الحديث.
وهذا نص الأثر:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار -
على حدتهم - وهم ستة آلاف وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب
وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا
أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا فإني لا أقاتلهم
حتى يقاتلوني وسوف يفعلون. فلما كان ذات يوم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين:
أبرد عن الصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك. قلت:
كلا إن شاء الله تعالى وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا. قال: فلبست أحسن ما
أقدر عليه من هذه اليمانية، قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا. قال: ثم
دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. قال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد
اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن [*] الإبل، وجوههم معلمة من آثار السجود، عليهم
قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر. قال: فدخلت. فقالوا: مرحبًا بك يا
ابن عباس! ما جاء بك؟ وما هذه الحلة، قال: قلت ما تعيبون علي؟ لقد رأيت
على رسول الله أحسن ما يكون من هذه الحلل، ونزلت [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق] قالوا: فما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم
عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، وليس فيكم منهم أحد، فقال
بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله تعالى يقول: [بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] ، وقال
رجلان أو ثلاثة لو كلمتهم.
قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وختنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.
قال: وما هنّ؟
قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ] ، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: وقاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم ولئن
كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير
الكافرين.
قال: قلت أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -
صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون [ينقض قولكم] أترجعون؟
قالوا: نعم.
قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ] ،إلى قوله: [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ] . وقال في المرأة وزوجها: [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا] . أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح
ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بضع امرأة. وأن تعلموا أن الله
لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.
قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.
قال: أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة، أم تستحلون
منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد
كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ، فأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت
من هذه؛ فنظر بعضهم إلى بعض.
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، فإن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشًا يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم
كتابًا فكاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان. فقال: اكتب يا علي هذا ما قاضى عليه
محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت،
ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله حقًا وإن
كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كان أفضل من علي -رضي الله عنه- وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه.
أخرجت من هذه؛ قالوا: اللهم نعم. فرجع منهم ألفان، وبقي منهم أربعة آلاف
فقتلوا على ضلالة.
هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف، باب ذكر رفع السلام
10/157 رقم 18678) ومن طريقه - بنفس اللفظ تقريبًا -أخرجه أبو نعيم في
(الحلية 1/318) ، وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى 8/179) ، وابن عبد البر
القرطبي في (جامع بيان العلم وفضله 2 / 103 طبعة المنيرية) ، ويعقوب بن
سفيان البسوي في (المعرفة والتاريخ 1/522) ، والحاكم في (المستدرك 2/150-
152) ، وأخرج بعضه الإمام أحمد في (المسند 1/342، 5/67 رقم 3187،
طبعة شاكر) كلهم أخرجوه من طريق عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل الحنفي ثنا ابن
عباس به، ولكل منهم لفظ مختلف وزيادات أثبتنا منها ما كان فيه زيادة معنى.
وهذا الأثر نسبه الهيثمي في (مجمع الزوائد) إلى الطبراني وأحمد في المسند،
وقال: رجالهما رجال الصحيح، وأشار إليه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 7 /
282) ، وابن الأثير في (الكامل) وابن العماد الحنبلي في (الشذرات) ، وذكر
غيرهم سياقات أخر لهذه القصة ولكنها عن غير ابن عباس من غير هذا الطريق،
وإنما مقصودنا رواية ابن عباس فقط..
وقال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند 5 / 7 6 رقم 3187) : إسناده
صحيح. اهـ
أصول ودروس مستفادة من الأثر:
أولاً: لقد أتى الخوارج من قبل فهمهم السقيم لنصوص الشرع، ويرجع
ضلالهم إلى أسباب أهمها:
1- فهم النصوص ببادئ الرأي، وسطحية ساذجة، دون التأمل والتثبت من
مقصد الشارع من النصوص، فوقعوا في تحريف النصوص وتأويلها عن معناها
الصحيح.
2-أخذهم ببعض الأدلة دون بعض، فيأخذون بالنص الواحد، ويحكمون على
أساس فهمهم له دون أن يتعرفوا على باقي النصوص الشرعية في المسألة نفسها،
فضربوا بعض النصوص ببعض (وبهذا أسكتهم ابن عباس -رضي الله عنه-، فقد
كان يأتيهم بباقي الأدلة في الموضوع نفسه، فلا يجدون لذلك جواباً) .
وسبب ضلال الخوارج هو سبب ضلال طوائف عديدة من المسلمين. يقول
الشاطبي رحمه الله أن أصل الضلال راجع إلي (الجهل بمقاصد الشريعة،
والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا
يكون ذلك من راسخ في العلم) [1] .
ثانياً: الحرص على وحدة المسلمين وجماعتهم، وتوحد صفهم، وهذا ظاهر
من موقف على -رضي الله تعالى عنه- ابتداء حين (جعل يأتيه الرجل فيقول يا
أمير المؤمنين: إن القوم خارجون عليك فيقول: دعهم حتى يخرجوا، فإني لا
أقاتلهم حتى يقاتلوا وسوف يفعلون) فكان -رضي الله عنه- حريصًا على أن لا يأتي
إلى الخوارج بشيء من القتال ونحوه يفرق به المسلمين، ويضعف شوكتهم، ما لم
يخرجوا هم عليه، أو يؤذوا المسلمين ببدعتهم.
وهذا الأصل متمثل أيضًا في موقف ابن عباس -رضي الله عنهما- في
حرصه على الخروج إليهم وانتدابه نفسه للتفاهم معهم، وتفنيد شبهتهم وإرجاعهم
إلى الحق.
فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الامتناع عما يضعف شوكتهم،
ومن بذل الجهد في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ولابد أن نُتْبِع هذا الأصل بأصل
آخر وهو:
ثالثًا: ولعله من أصل الأصول وأعظمها لكثرة ما تشتد إليه حاجة المسلمين
ألا وهو (السبيل إلى وحدة المسلمين وجمع صفهم) .
إن وحدة المسلمين أصبحت مقولة يقولها كل مسلم، وكل جماعة، فالكل
ينادي بالوحدة والكل يزعم أنه ساعٍ إليها حريص عليها، ولكن ما هو السبيل الحق
إلى تحقيق هذه الوحدة، هنا موضع الخلاف، وهنا تزل الأقدام، وتضل الأفهام،
وتنحرف الأقلام.
إن وحدة المسلمين مطلب شرعي ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، فلا بد
أن تكون الوسيلة إليه شرعية. إن وحدة المسلمين يجب أن تكون عبادة نتقرب بها
إلى الله عز وجل، والله لا يعبد إلا بما شرع، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو
رد كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
إن وحدة المسلمين بمعناها الشرعي الصحيح، تعني أن يعودوا جميعًا إلى
الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على فهم السلف
الصالح، هكذا وهكذا - فقط - يمكن أن نتحد، وهذا هو السبيل الوحيد لوحدة
الصف، وهذا الذي سلكه ابن عباس وأقره عليه على -رضي الله تعالى عنهما-.
ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى الخوارج حتى يعيدهم إلى الصف
الإسلامي، فبين لهم أولاً وقبل أن يناظرهم المنهج الصحيح، فقال: (أرأيت إن
قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-
مالا تنكرون ... ) إذن هو الكتاب والسنة والعودة إليهما، وقد كان صرح لهم قبل
ذلك بالفهم الذي ينبغي أن نفيء إليه إذا اختلفت أفهامنا فقال: (جئت أحدثكم عن
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهره، عليهم نزل الوحي،
وهم أعلم بتأويله) الله أكبر! ما أنصع هذا المنهج وما أشد وضوحه، الرجوع إلى
الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
وبعد أن بين لهم المنهج شرع يدحض حجتهم، ويفند شبهتهم، ويوضح فساد
منهجهم فمن عاد منهم وتنازل عن معتقداته وآرائه، واعتقد اعتقاد جماعة المسلمين
فقد عاد إلى الصف، ومن أبى وأصر على معتقده فهو خارج على الصف ولا سبيل
للوحدة معه، بل عندما آثار بقية الخوارج الفتنة، قام إليهم علي -رضي الله عنه-
فقاتلهم ولم يتحرج في ذلك.
إن السبيل إلى وحدة المسلمين هو الاتحاد على الأصول الثابتة من الكتاب
والسنة وكل سبيل آخر للوحدة لا تقره الشريعة، ولا يجوز لنا - ونحن عباد الله
سلمنا أمرنا إليه - أن نجعل منها صنمًا نستجيز من أجله كل وسيلة غير مشروعة.
إن الوحدة التي تنشأ عن ضم الطوائف المختلفة في الأصول في دائرة واحدة،
وإعطائها مسمى واحد على اختلاف عقائدها، هي وحدة غير شرعية، وإن الصف
الذي ينشأ عنها ليس مرصوصًا.
ولنتأمل في قول الله عز وجل: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً] ، ثم قال:
[وَلاَ تَفَرَّقُوا] ، يقول الشاطبي رحمه الله تعليقًا على الآية: (تبين أن التأليف إنما
يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير
ما تعلقت به الأخرى فلابد من التفرق وهو معنى قول الله تعالى: [وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] [2] .
إذن فتضييع الأصول من أجل الوحدة سبيل غير شرعي، بل هو فوق ذلك
عمل لا يقره العقل، وإليكم التوضيح.
إن التفرق بين المسلمين حاصل ولابد، فكلام الله حق [وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] وكلام رسوله حق «تفترق هذه الأمة على ثلاث
وسبعين فرقة» ... وقال: «سألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» فإذن
فإنه يستحيل في الواقع أن يزول الاختلاف تمامًا وأي مسلم يوقن بمعاني هذه
النصوص، ليس عنده طمع في ذلك فهذا أمرٌ قضى الله به، ولكنه ستبقى طائفة
على الحق.
فإن كان الأمر كذلك فهل يعقل أن نفرط في أصولنا - ونحن معاقبون إن فرطنا - من أجل السعي في حصول أمر مستحيل.
إن كل مسلم مخلص صادق غيور يحزن على حال المسلمين، ويغتم له
ويتأسف عليه أسفًا شديدًا، ولكن ليس الحل أبدًا أن نفرط في الأصول من أجل
تحقيق أمر قد قرر الشارع أنه لا يكون، كيف وقد أمرنا الله بقتال طائفة من
المسلمين إن بغت وهل يكون القتال إلا تفرقة؟ بل وفيه ما هو أشد من ذلك، ولكنه
أمر الله [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] .
وعذرًا أخي القارئ إن أطلنا في هذا الأصل، فلقد فحش فيه الخطأ
والانحراف.
رابعًا: الحكم في تقييم الرجال: إن أحوال الخوارج من كثرة العبادة والاجتهاد فيها غير خافية على أحد، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم..» وقال ابن عباس في ...
وصفهم كما في هذا الأثر: ( ... لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن ... الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود ... ) ومع كل هذا فلقد أتوا ببدعة ... خطيرة، ووضعوا بذور الخلاف بين المسلمين، وليس من مسلم سليم العقيدة ... ... إلا ويذكرهم في معرض الذم، ولم يذكرهم العلماء في مصنفاتهم إلا للتحذير ... ... من بدعتهم وبيان فساد معتقدهم دون أدنى فخر واعتزاز بعبادتهم. ...
إن المنهج الإسلامي الواضح، يدلنا على أنه يجب تقييم الرجال أولاً من منطلق معتقداتهم وتصوراتهم، وجميع السمات الأخرى -إذا أقرها الشرع - تأتي بعد ذلك لا قبله. فلو انطلقنا في الحكم على الخوارج من خلال شدة اجتهادهم في العبادة، وجعلنا ذلك هو المقياس الأول في ... الحكم عليهم، لكان ينبغي أن نجلهم ونحترمهم، فنرفع درجتهم حتى فوق درجة الصحابة إذ يقول الرسول،صلى الله عليه وسلم، لصحابته في شأن ... الخوارج: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم» فكم يكون هذا التقييم سخيفًا؟ ...
ولكن الأمر يختلف تمامًا، ويعود إلى نصابه الصحيح، عندما يحكم عليهم من
خلال معتقداتهم وتصوراتهم فنرى أنهم قد ابتدعوا في دين الله بدعة خطيرة فاحشة،
فوضعوا بذور الخلاف والفتنة.
إن الاعتقاد الصحيح، يليه العمل الصالح، هو الذي يميز المسلم الحق
المنتمي إلى أهل السنة والجماعة، أما كل الاعتبارات الأخرى فإنه يشترك فيها
المسلم الحق مع غيره من أهل البدع والضلال. فلا ينبغي أن تكون معيارًا أساسيًا.
ونتيجة لانحراف هذا الأصل عند كثير من الإسلاميين -فضلاً عن عامة
المسلمين -وجدنا من غالى في الثناء على جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
وغيرهما، وذلك أنه حكم عليهم من منطلق ظنه بأن لهم جهدًا مشكورًا في نشر
الإسلام والدفاع عنه، ولم يضع للاعتبار الأساسي وزنًا، فلم يضع في حسابه أن
الأول كان شيعيًا، وأنه كان عضوًا بارزًا في الماسونية ومؤسسًا لبعض فروعها في
البلاد العربية، وأن الثاني - مع إخلاصه في الدفاع عن الإسلام - قد أوَّل
المعجزات وقدم العقل على النقل، وكانت له علاقة مشبوهة مع المستشرقين.
لقد شاع تعظيم بعض الرجال وتقديسهم على ما هو أقل من ذلك، مثل قدمه
في مجال الدعوة، أو كثرة الأفراد الذين اهتدوا على يديه، أو شدة التعذيب الذي
لاقاه من الطغاة، أو طول فترة السجن في زنزاناتهم. ولا نعني بكلامنا أبداً أن مثل
تلك الأعمال لا وزن لها، بل لها فضل عظيم إن صح الأصل الأول، وحتى لو لم
يصح فنحن نعترف بالحق، ونثبت الفضل لكل صاحب فضل، ولكن المحظور هو
الانسياق وراء العواطف، فنعظم الرجال ونتحمس لهم، ونشهد بعدلهم وصدقهم
ونزاهتهم، بل وكثيًرا ما نسمع من يشهد لهم بالجنة! ! لأجل اعتبار من تلك
الاعتبارات.
خامسًا: إن تبني الخوارج لموقفهم ابتداء لم يكن عن تثبت وتمحيص ونظر
ولذلك فقد زالت شبهتهم، ودحضت حجتهم بعد دقائق معدودة من بداية المناظرة،
وإن كان القسم من الخوارج الذي فاؤوا إلى الحق يمدحون على ذلك لتجردهم
وإخلاصهم، وعودتهم إلى الجادة الصحيحة حينما تبين لهم ذلك دون مماراة ولا
مماطلة، وإن كانوا يمدحون على ذلك فإنهم ينتقدون على سرعة تبنيهم للفكرة ابتداء
دون تثبت وتمحيص.
إن الذين لا يعتنقون الفكرة عن اقتناع عميق بالفكرة ذاتها، وبعد تثبت من
أدلتها الشرعية الصحيحة بمنهج سليم، يكثرون التنقل.
إن الدعوة المعاصرة تواجه تحديات ضخمة، ومشاكل عدة، من الداخل
والخارج، فما لم يكن أصحابها على قناعة شرعية قوية بأفكارهم، وبأدلتها فإنه لا
يؤمن عليهم التذبذب بين الصف والصف إن بقي عندهم الحماس للإسلام، أو
الانتكاس إن فقدوا حماسهم لدينهم.
وإنه لمن المؤسف حقًا أن نرى كثيًرا من أتباع الدعوات، أذهانهم خواء من
كل فكرة أصيلة، مليئة بتاريخ دعوتهم وسيرة عظمائهم فقط هي زادهم في الطريق، ودافعهم إلى العمل، فنصيحتنا إلى كل مسلم مخلص، أن يستوثق من أصوله،
ويطلب عليها الأدلة الشرعية وأن يفهمها بالمنهج الصحيح، وأن يفتش بتجرد عن
قناعته بالأفكار التي يؤمن بها ويدعو إليها، وينظر هل هي أصيلة أم أنها موجودة
بوجود المؤثر والمرغب، فإن زال المؤثر زال التأثير، ولنأخذ درسًا عظيمًا من
الصحابي الجليل كعب بن مالك- أحد المخلفين الثلاثة-وقد هجرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك المسلمون السلام عليهم، ثم جاءته الدعوة للجوء إلى من يعززه ويكرمه [3] فلم يتذبذب أو يتردد، بل قذف رسالة ملك غسان إلى التنور لشدة إيمانه بأنه على الحق، ونصيحة لإخواننا الدعاة: إن الذي يتبنى فكرة بسرعة ولظروف معينة عرضة لأن يتخلى عنها بنفس السرعة، لظروف أخرى.
سادسًا: إن مخالفة ابن عباس التامة للخوارج في جميع الأفكار والتصورات
لم تمنعه من العدل في القول، فقد كان بمقدوره السكوت لكن العدل مع المخالفين
جعله يصفهم بما وجد فيهم -وإن كان في هذا الوصف مدح لهم -قال: (فدخلت
على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم في العبادة ... ) فعلى العاملين في حقول الدعوة
إلى الله الاتصاف بالعدل مع مخالفيهم، وعدم الامتناع من ذكر محاسنهم، بل
ويحرصوا على أن يستفيدوا منها [4]
سابعًا: وما كان هذا الدرس بحاجة إلى أن يذكر لظهوره ووضوحه وكثرة
الأدلة عليه، لولا أن التفريط فيه قد وقع من كثير من العاملين للإسلام فضلاً عن
عامة الناس، ألا وهو الحرص على صلاة الجماعة.
ولقد سمعنا حوادث عديدة عمن يفرطون في حضور الصلاة جماعة مع
المسلمين في المساجد بحجة انشغالهم بطلب العلم، أو ببعض البحوث الهامة، أو
أنه وإخوانه يتداولون أمرًا يهم المسلمين، فيعتذرون بذلك عن تفويتهم الجماعة.
فعلى هؤلاء وغيرهم، أن يتأملوا في حال ابن عباس، وقد انتدب نفسه لمهمة
عظيمة، لا شك في أن فيها مصلحة للمسلمين، ومع ذلك فحرصه على صلاة
الجماعة شديد إذ يقول لعلي -رضي الله عنه-: (أبرد عن الصلاة، فلا تفتني حتى
آتي القوم فأكلمهم ... ) .
فهل نفقه هذا الأمر، ونعلم أن التمسك بأحكام الدين جميعها واجب على كل
فرد، وهو من أبرز سمات المسلم، وهو من تعظيم حرمات الله، فلم نتهاون
ونتساهل في أوامر الله يا عباد الله؟
ثامنًا: ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل، من أصحاب المنهج الصحيح ألا
ييأسوا من عودة الطوائف المنحرفة إلى المنهج القويم ممن أمعنوا في الضلال،
فهاهم الخوارج على شدة بدعتهم وتمسكهم بها (حتى أن عبد الرحمن بن ملجم -
أحدهم - قد قتل عليًا تقربًا إلى الله بقتله) ومع ذلك فقد عاد منهم كثير إلى الحق بعد
أن تبين لهم، فلا ينبغي أن نيأس من عودة تلك الطوائف المنحرفة إلى الحق،
خاصة وأن كثيرًا من المنتسبين إليها هم من الأتباع حجبهم مشايخهم ومتبوعوهم عن
الاستماع للمخلصين خوف تذبذب موقفهم وتخليهم عنهم، فلم يصل الحق إلى كثير
من الأتباع حتى تحصل لهم المقارنة بينه وبين ما هم عليه.
فعلى الدعاة إلى الله أن يحرصوا على الوصول إلى الأتباع بعيدًا عن الملأ
والمشايخ والقادة.
هذا، ولا يزال في القصة دروس عظيمة، منها أسلوب المناظرة والجدل مع
أهل البدع ولعلنا نفرد هذا في مقال خاص، ونشير في الختام إلى بعض الدروس
الأخرى الهامة، التي لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولعل في الإشارة إليها كفاية
لأولي الألباب.
ففيها أن ينتدب الكفء نفسه للمهام وأن الإخلاص وحده لا يكفي في صحة
العمل، وأن على الداعية أن يغشى الناس في مجالسهم، وعليه أن لا يستثار لانتقاد
ذاته، وفيها أيضًا استئذان الفرد قائده إذا هم بفعل ما.
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب.
__________
(*) ثَفِن: مفردها (ثفنة) بكسر الفاء: وهي ما ولى الأرض من كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، ويحصل فيه غلظ من آثار البروك، وتجمع أيضًا على ثفنات (النهاية 1/215) .
(1) الاعتصام للشاطبي 2/182.
(2) الاعتصام للشاطبي 2/192.
(3) اقرأ القصة كاملة في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك 8/113 رقم 4418 الطبعة السلفية الأولى.
(4) اقراً مقال: (وإذا قلتم فاعدلوا) من هذه المجلة أعداد رقم 5، 6.(12/22)
يا له من دين.. لو أن له رجالاً
محمد العبدة
كلما أقرأ أو أسمع أنه في عام 1992م ستكون السوق الأوربية المشتركة
مفتوحة الحدود، مشرعة الأبواب لمواطنيها في التنقل والتجارة، ودون أية قيود
وأنهم يستعدون لهذه النقلة، كلما أسمع ذلك يملكني الحزن والأسى، كيف يجتمع
هؤلاء الناس ويتعاونون على ما بينهم من اختلاف في اللغة، وعلى ما بينهم من
إحن قديمة، وعلى ما بينهم من تعصب إقليمي عرقي، وكيف لا يجتمع المسلمون
والدعاة منهم بشكل أخص وبين أيديهم كل العوامل التي تحتم الاتحاد والتعاون
والتناصر.
لا شك أن الذي يدفع بالغربيين إلى اتخاذ هذه الخطوات التعاونية هو نظرتهم
للعواقب والتفكر بالنتائج التي تتمخض عن هذا التعاون وأنه يحقق لهم مصالح كثيرة، فهي سياسة دنيوية تقوم على استخدام العقل وتبعد العواطف والغرائز جانبًا، ولا
شك أن الذي يمنع المسلمين من التعاون والتفاهم هو ضعف النظر في العواقب وعدم
الانتباه لما يحيط بالمسلمين من أخطار، وما يتربص بهم من شرور، وتحكيم
العواطف والنظرة الضيقة، والنظر للمصالح الآنيّة والفردية، وليس الذي ينقصهم
غيرة دينية أو نقص في الحماسة لنصرة الإسلام، وإنما هو التخلف الحضاري الذي
جعلهم لا يفكرون تفكيرًا هادئًا متزنًا مستبصرًا، بل لا يستحثهم هذا الضعف الذي
ابتلوا به فأصبحوا طعمة لكل طامع ونهبة لكل ناهب، لا يستحثهم على الاتحاد أو
التعاون على الأقل.
إن بعض الغربيين يستغربون جدًا أن تتكلم الشعوب العربية لغة واحدة، ويفهم
كل منهم عن الآخر ومع ذلك يكون بينهم هذا التفرق والتناحر، وكأن كل قطر قارة
منعزلة، وكثيرًا ما يسألون: هل يستطيع المصري التفاهم مع المغربي أو العراقي
مع اليمني، لأنهم لا يتصورون أن كل هذه الأقاليم التي تتكلم بلغة واحدة تكاد لا
تتفق على شيء إلا على التفرق والتناحر.
أتقام تكتلات كبيرة لأعداء الإسلام، ونحن نمارس هواية التشرذم والتفرق
ونكثر من عدد اللافتات والعناوين.
أيقيم أعداء الإسلام دولاً طويلة عريضة على أفكار وكتب من اختراع بشر بل
هي من حثالة أفكار البشر، وكتاب الله بين أيدينا، وتفسيره بين ظهرانينا، وهو
حبل الله المتين، وهو العروة الوثقى لا انفصام لها، ويبقى المسلمون على حالهم
المزرية هذه؟ !
ألا يحق لنا أن نطمع بمطلب متواضع من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية
وهو التفكر بما يدور حولهم، وكيف يتكالب أعداء الإسلام تكالبًا شديدًا، ولا ينفكون
لحظة واحدة عن التخطيط والتدبير، وتقليب الأمور، حتى يتسنى لهم دوام
السيطرة والهيمنة على الأمم المغلوبة على أمرها.
إن رؤية الحقيقة خير من التمادي في المراوغة والقول بأن كل شيء يسير
على أحسن ما يكون، والتبصر في العيوب وإبرازها في شجاعة، ومعالجتها وإن
كان الدواء مؤلمًا، أفضل من الإمعان في التغافل، والبقاء في دائرة التراشق بالتهم
والتهم المضادة.(12/34)
الإمام محمد بن الحسن الشيباني
وكتابه " السِّيَرُ الكبير "
عثمان جمعة ضميرية
-1-
اقتضت حكمة الله تعالى أن تختم الرسالات السماوية برسالة نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم-، فكانت رسالته دعوة عالمية خالدة، تتميز بالسمو والكمال،
وتنطق بالهدى والعدالة والحق، وتهدف إلى صلاح الفرد والمجتمع وإلى خير
الإنسانية بأجمعها.
ودعوة هذا شأنها لابد أن تنظم العلاقة بين الفرد وخالقه، وبين الفرد وأخيه
في المجتمع، وبين الفرد والمجتمع كله من حوله، كما تنظم علاقة الأمة المسلمة
بغيرها من الأمم، إذ هي " تحد للمكلفين حدودًا في أمور دينهم ودنياهم.
-2-
وكان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتلقون أحكام هذه الشريعة عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- مباشرة، فيرجعون إليه في كل ما يتصل بشئون الدين
والدنيا في مجال العقيدة والإيمان، وفي مجال العبادة والأخلاق، وفي نطاق
المعاملات المالية ... الخ، وحفظوا ذلك عنه وفهموه وصدروا عنه في فقهم.
وبعد أن انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- والتحق بالرفيق الأعلى، وتفرق
الصحابة في البلدان، وصار كل واحد منهم مرجع ناحية من النواحي، فكثرت
الوقائع، وجدت الحوادث، وكان كل منهم يفتي فيما يواجهه من مسائل بحسب
اجتهاده. وتتلمذ عليهم جيل من التابعين أخذ عنهم العلم: قرآناً وسنة واستنباطًا
منهما، ضمن قواعد وضوابط تضبط عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية،
دُوّنت فيما بعد، وأطلق عليها اسم " أصول الفقه ".
وفي هذه المرحلة انتشرت رواية أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-،
وأعقب ذلك عملية نشيطة في التدوين، وظهور مدرستين فقهيتين هما: مدرسة أهل
الحديث في المدينة النبوية، ومدرسة أهل الرأي في العراق (بالكوفة) .
-3-
وليس من غرضنا في هذا المقال دراسة تطور هاتين المدرستين وخصائص
كل منهما، ووجه الفرق بينهما ... ولكن حسبنا هنا الإشارة إلى أن هذا الانقسام
تعمق فيما بعد، وأدى إلى انفصام بين أهل الرأي وأهل الحديث، وكل منهما
بحاجة إلى الآخر، حتى إن الإمام الخطابي رحمه الله قد رأى في عصره آثار هذا
الانقسام فكتب في مقدمة «معالم السنن» يقول:
ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين:
أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في
الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث
بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل
بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو
قفر وخراب.
وجدت هذين الفريقين - على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في
المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم
إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير
متظاهرين!
فأما هذه الطبقة، الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما
وَكْدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره
موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون
سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا على الفقهاء، وتناولوهم
بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم
قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرِّجون من
الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده
من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم
التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها. وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم
في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته
الألسن فيما بينهم، من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي،
وغبنًا فيه.
وهؤلاء- وفقنا الله وإياهم - لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم
وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة واستبرؤوا له
العهدة. فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم
والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم
وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً.
وترى أصحاب أبى حنيفة لا يقبلون من الرواية إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد
بن الحسن والعِلْية من أصحابه، والأجلة من تلاميذه، فإن جاءهم عن الحسن بن
زياد اللؤلؤي وذويه رواية قولٍ بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.
وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني
والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا
إليها، ولم يعتدوا بها في أقاويله.
وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم الخ.
-4-
وهذه الكلمة الضافية الرائعة من عيون ما كتبه الإمام الخطابي، رحمه الله،
تؤكد أهمية الجمع بين الحديث والرأي السليم أو النظر والأثر، لأن كل واحد منهما
محتاج إلى الأخر، فالشافعي -كما قال القاضي عياض - تمسسك بصحيح الآثار
واستعملها، ثم أراهم أن من الرأي ما يحتاج إليه، وتبنى أحكام الشرع عليه، وأنه
قياس على أصولها، وَمُنْتَزَعٌ منها، وأراهم كيفية انتزاعها والتعلق بعللها وتنبيهاتها، فعلم أصحاب الحديث: أن صحيح الرأي فرع للأصل، وعلم أصحاب الرأي:
أنه لا فرع إلا بعد أصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن والآثار أولاً.
-5-
وهذا الرأي الذي تقدم وغيره ينبئ عن مكانة من جعله الله تعالى معلمًا من
معالم هذه المدرسة المتميزة، التي توازن بين مدرستي الحديث والرأي في الفقه
الإسلامي، ويشير إلى المنزلة الرفيعة التي يتبوؤها الإمام محمد بن الحسن الشيباني،
تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان وصاحبه، رحمهما الله تعالى.
وما أكثر ما نجد من منارات، ومعالم في تاريخنا الإسلامي المجيد! ! فلتكن
هذه المقالة عن واحد من هذه المنارات، عن الإمام محمد بن الحسن، الذي تتلمذ
على أبى حنيفة وتأثر بفقهه، ونبغ في مدرسته، حتى أصبح مرجع أهل الرأي في
حياة أبي يوسف بعد وفاة أبي حنيفة، وهو الذي رحل إلى المدينة وأخذ عن الإمام
مالك بن أنس، وله رواية خاصة في الموطأ، وهى رواية مشهورة من أوثق
الروايات وأجلها، يعقب أحاديثها بما عليه العمل عند أبي حنيفة، ويبين السبب
الذي من أجله وقع الخلاف. قال الإمام محمد: أقمت على باب مالك ثلاث سنين،
وسمعت منه لفظاً سبعمائة حديث ونيفاً.
وقال الشافعي: كان محمد بن الحسن إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثروا، حتى يضيق بهم الموضع.
-6-
في سنة 132هـ رزق أبو عبد الله، الحسن بن فرقد الشيباني، من أهل
حرستا، في غوطة دمشق ببلاد الشام، بولده محمد بن الحسن، في واسط بالعراق، فقد كان أبو عبد الله في جند الشام، وانتقلت أسرته إلى مدينة واسط، وفيها ولد
محمد بن الحسن الشيباني الحرستانى، ثم انتقل إلى الكوفة مع والده.
وفي العراق، نشأ محمد بن الحسن وترعرع، ثم حفظ القرآن الكريم وتلقى
مبادئ تعليمه، وبدأ يختلف إلى حلقة أبي حنيفة في الكوفة، وقد جرى معه ما يدل
على نبوغه المبكر وذكائه المتوقد، ولم تكن حلقة أبي حنيفة مجرد حلقة عادية
لتعليم مبادئ الفقه، بل كانت مدرسة تضم النوابغ من الطلبة الذين يذكي فيهم
شيخهم روح الاجتهاد والبحث بمسائله التي يطرحها عليهم ثم مناقشتها بكل حرية
وشورى ليصل إلى رأي ناضج، يأمر بعد ذلك بكتابتها وتدوينها في بابها من كتاب
الفقه الإسلامي العظيم.
وانصرف محمد بن الحسن بكليته إلى العلم انصرافاً ملك على جوانب حياته،
حتى إنه قال لأهله: لا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا تشغلوا بها قلبي، وخذوا ما
تحتاجون إليه من وكيلي، فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي.
-7-
لازم محمد بن الحسن شيخه الأول أبا حنيفة، وسمع منه وكتب عنه، وبعد
وفاته لازم أبا يوسف حتى برع في الفقه، وسمع أيضاً من مسعر بن كدام، ومالك
ابن مغول، وعمر بن ذر الهمداني، وسفيان الثوري، والأوزاعي، ومالك ابن أنس،
ولازم مالك بن أنس مدة - كما سبق - حتى انتهت إليه رياسة الفقه بالعراق بعد
أبي يوسف.
وتفقه به أئمة أعلام كالشافعي، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وهشام بن عبيد
الله الرازي، ويحيي بن معين، ومحمد بن سماعة، وأسد بن الفرات، وغيرهم
كثير.
-8-
وقد أثنى عليه العلماء ثناء عاطراً يدل على علو مكانته ومنزلته، وحسبك
شهادة الإمام الشافعي فيه.
قال الإمام الشافعي: أخذت من محمد بن الحسن وِقْرَ بعير من علم، وما
رأيت رجلاً سميناً
أفهم منه - أو أخف روحاً منه - وكان يملأ القلب والعين.
وقال: كان إذا تكلم خيل لك أن القرآن نزل بلغته.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه.
وكان الشافعي أيضاً يقول: ما رأيت أحداً سئل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت
الكراهية في وجهه إلا محمد بن الحسن، وما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام،
والعلل، والناسخ والمنسوخ من محمد بن الحسن، ولو أنصف الناس لعلموا أنهم لم
يروا مثل محمد بن الحسن، ما جالست فقيهاً قط أفقه ولا أفتق لساناً بالفقه منه، إنه
كان يحسن من الفقه وأسبابه أشياء تعجز عنها الأكابر ... وقال إبراهيم الحربي:
قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدقيقة؟ قال: هي من كتب محمد
بن الحسن.
هذه شهادة إمام أهل السنة، وتلكم شهادة ناصر السنة واضع علم الأصول في
الإمام الرباني محمد بن الحسن الشيباني، تغنيان عن كل شهادة بعدهما.
-9-
وذلك كله يشير إلى طرف من منزلة الإمام محمد -رحمه الله- في الفقه
الإسلامي ومكانته فيه. وقد رتب العلماء طبقات المجتهدين في الفقه الإسلامي
ووضعوا محمداً، رحمه الله، في الطبقات الأولى، إن لم يكن في الأولى منها،
وجعلها ابن كمال باشا الحنفي سبع طبقات، وتبعه في ذلك الشيخ ابن عابدين
الحنفي.
فالأولى: طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة، ومن سلك مسلكهم
في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط الأحكام والفروع من الأدلة الأربعة من غير
تقليد لأحد لا في الفروع، ولا في الأصول.
الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف، ومحمد، وسائر
أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من الأدلة المذكورة، على
مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام
الفروع، لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول.
والثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، كالخصاف والطحاوي والكرخي..
الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالرازي الجصاص وأضرابه.
الخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كالقدوري، وصاحب ... الهداية - المرغيناني - وأضرابهما.
والسادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضيف، وظاهر المذهب، وظاهر الرواية والرواية النادرة، كأصحاب المتون.
والسابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر.
-10-
إلا أن هذا التقسيم لطبقات الفقهاء، ليس تقسيماً دقيقاً، ولا تقسيماً حاصراً
مميزاً لكل طبقة عن الأخرى، ولذلك أبدى بعضهم نظراً في ذلك، فقال الشيخ
هارون بن بهاء الدين المرجاني الحنفي:
«ليت شعري، ما معنى قولهم: (إن أبا يوسف ومحمداً وزفر، وإن خالفوا
أبا حنيفة في بعض الأحكام، لكنهم يقلدونه في الأصول - في معرض عدهم من
الطبقة الثانية السابقة - ما الذي يريد به؟
فإن أراد منه الأحكام الإجمالية التي يبحث عنها في كتب الأصول، فهي
قواعد عقلية وضوابط برهانية، يعرفها المرء متن حيث أنه ذو عقل وصاحب فكر
ونظر، سواء كان مجتهداً أو غير مجتهد، ولا تعلق لها بالاجتهاد قط.
وشأن الأئمة الثلاثة - أبو يوسف ومحمد وزفر - أرفع وأجل من أن لا
يُعرفوا بها كما هو اللازم من تقليدهم غيرهم فيها، فحاشاهم ثم حاشاهم عن هذه
النقيصة، وحالهم في الفقه، وإن لم يكن أرفع من مالك والشافعي فليسوا بدونهما،
وقد اشتهر في أفواه الموافق والمخالف وجرى مجرى الأمثال قولهم: أبو حنيفة أبو
يوسف، بمعنى أن البالغ إلى الدرجة القصوى في الفقاهة: أبو يوسف» .
وقال الخطيب البغدادي: قال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور
الأمر، ظاهر الفضل، أفقه أهل عصره ... وكذلك محمد بن الحسن، قد بالغ
الشافعي في الثناء عليه، وذكر ابن خلدون أن الشافعي رحل إلى العراق ولقي
أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، وكذلك أحمد بن حنبل أخذ عنهم مع وفور
بضاعته في الحديث.
ولكل واحد منهم أصول مختصة تفرد بها عن أبي حنيفة، وخالفه فيها، ونقل
عن الغزالي أنه قال: إنهما خالفا أبا حنيفة في ثلثي مذهبه!
وهذا ما أبداه أيضاً العلامة ابن بدران الحنبلي في (المدخل إلى مذهب الإمام
أحمد بن حنبل) عندما عرض للسبب الذي لأجله اختار كثير من العلماء مذهب
الإمام أحمد على غيره، وفي بحثه عن الاجتهاد والتقليد، ومن ذلك قوله عن الطبقة
الأولى من المفتتين والمجتهدين المنتسبين إلى مذهب فقهي معين: «ثم إن للمفتي -
المجتهد - المنتسب إلى أحد المذاهب أربع أحوال: أحدها: أن لا يكون مقلداً
لإمامه، لا في مذهبه، ولا في دليله، لكنه سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى،
ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيراً منه على أهله، فوجده صواباً، وأولى من غيره،
وأشد موافقة فيه وفي طريقه ... وحكي عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر
أصحاب أبي حنيفة أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم لأنهم وجدوا طريقتهم في
الاجتهاد والفتاوى أسد الطرق ... وحكى اختلافاً بين الحنفية والشافعية في أبي
يوسف ومحمد والمزني وابن سريج: هل كانوا مستقلين في الاجتهاد أم لا؟ قال:
ولا تستنكر دعوى ذلك فيهم في فن من فنون الفقه بناء على جواز تجزئ منصب
الاجتهاد، ويبعد جريان الخلاف في حق هؤلاء المتبحرين الذين عم نظرهم الأبواب
كلها.
-11-
ومع هذا الخلاف في كون الإمام محمد مجتهداً مطلقاً أم لا؛ فإن مكانته في
العلم مكانة بارزة، ففي التفسير تعرف مكانته من قول الشافعي رحمه الله:» لو
أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت، لفصاحته «ويقول محمد -
رحمه الله-:» ينبغي لقارئ القرآن أن يفهم ما يقرأ «فله مكانته في معرفة
أسلوب القرآن الكريم وبيان أحكامه وناسخه ومنسوخه، ومن ثم كان من أعلم الناس
بكتاب الله.
وفي الحديث والسنة: كان للإمام محمد عناية خاصة، فهو قد رحل إلى الإمام
مالك وسمع منه الموطأ، وله روايته الدقيقة، التي تتميز عن رواية يحيى الليثي
بأنه يعقب بقول أبي حنيفة وقوله في كل مسألة غالباً. والكتاب مطبوع وله شروح
متعددة كشرح (ملا علي القاري) .
وله كتاب» الآثار «الذي يروي فيه أحاديث مرفوعة وموقوفة ومرسلة،
وعليه شروح، وقد عني الحافظ ابن حجر برجاله فكتب رسالته» الإيثار بمعرفة
رجال الآثاروله كتاب «الحجة على أهل المدينة» فيه كثير من الآثار التي يرويها
بسنده، وفي سائر كتبه جملة صالحة من الأحاديث والآثار.
وأما ثقافته اللغوية، فحسبك قول الإمام الشافعي: إنه كان من أفصح الناس،
وكان ثعلب يقول: محمد عندنا حجة من أقران سيبويه، وكان قوله حجة في اللغة.
وذكر ابن يعيش في شرحه خطبه (كتاب المفصَّل) أن محمداً ضمَّن كتابه ... المعروف بـ «الجامع الكبير» في كتاب الأيمان منه، مسائل فقه تُبتنى على أصول العربية، لا تتضح إلا لمن له قدم راسخة في هذا العلم ... وكان أبو علي الفارسي يتعجب من تغلغل الإمام محمد في النحو، في الجامع الكبير.
وقال ابن جني عن كتب الإمام محمد وأثرها في علم النحو: إنما ينتزع أصحابنا منها العلل، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها ... إلى بعض بالملاطفة والرفق.
-12-
والذي يشهد للإمام محمد ومكانته: تصانيفه ومؤلفاته، الجيدة المتقنة، التي
كانت عماد الكتب المدونة في الفقه الإسلامي، «كالأسدية» التي هي أصل
«المدونة» في مذهب الإمام مالك، وكتاب «الأم» للإمام الشافعي رحمه الله،
وهذه الكتب هي التي حفظت فقه المذهب الحنفي، وتعتبر أصولاً له، وبخاصة
الكتب المعروفة بـ «ظاهر الرواية» .
فمن كتبه «الجامع الصغير» في الفقه، وقد طبع مع شرح له للكندي سماه
«النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير» وفي مقدمة الشرح تفصيل لشراح
الجامع الصغير منذ القديم.
و «الجامع الكبير» وهو كتاب جامع لجلائل المسائل، مشتمل على عيون
الروايات ومتون الدرايات، حتى قال بعضهم: ما وضع في الإسلام مثل جامع
محمد بن الحسن، وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة بعناية أبي الوفاء الأفغاني،
وللكتاب شروح ومختصرات كثيرة.
«السير الصغير» و «السير الكبير» الأول: يرويه عن أبي حنيفة،
والثاني من آخر مؤلفاته، وكلاهما في العلاقات الدولية وأحكام الجهاد، وعليه
شروح كثيرة، وسنفرده إن شاء الله تعالى، بمقال مستقل.
ومن أهم كتب الإمام محمد «الأصل» أو «المبسوط» ، وهو من أول
تصانيفه، وأجمعها لأبواب الفقه، وفيه يسجل آراء أبي حنيفة، وأبي يوسف
وآرائه هو، ويناقش ويعلل للأحكام ويستدل لها، ويقبل ويرفض من الآراء،
حسب منهجه الفقهي. وقد طبع هذا الكتاب، أو قسم كبير منه، في خمس مجلدات، وصور أخيراً في الباكستان، ومعه ما سبق أن حققه ونشره الدكتور شحاتة، وهو
ما يتضمن كتاب «السلم» من أصل الكتاب.
وله كتاب «الزيادات» ألفها بعد الجامع الكبير، استدراكاً لما فاته فيه من
المسائل.
وهذه الكتب الستة المتقدمة، هي التي تعرف في المذهب الحنفي بكتب
«ظاهر الرواية» أو «مسائل الأصول» لأنها رويت بطريق الشهرة، أو التواتر
عن الإمام محمد، بخلاف الكتب الأخرى التي رويت عنه بطريق الآحاد.
وقد جمع هذه الكتب كلها الحاكم الشهيد في كتاب واحد سماه (الكافي) وقد
شرحه السرخي في كتابه الضخم (المبسوط) الذي طبع في القاهرة في ثلاثين جزءاً
ثم صور حديثاً عن هذه الطبعة، وما أجدره بطبعة علمية حديثة محققة مخرجة
الأحاديث.
ومن كتبه الأخرى: (الرقّيات) و (الكيسانيات) و (الجرجانيات)
و (الهارونيات) و (النوادر) ، وله أيضاً (الحجة على أهل المدينة) وفيه احتجاج على
فقهاء أهل المدينة في مسائل الفقه ومناقشتها، وقد طبع في أربع مجلدات بعناية أبي
الوفاء الأفغاني، وتعليق المفتي السيد حسن الكيلاني.
و (كتاب الآثار) وهو مسنده يرويه عن أبي حنيفة، وقد طبع اكثر من مرة
وترجم الحافظ ابن حجر لرجاله في رسالته (الإيثار بمعرفة رواة الآثار) ، وقد طبع
أخيراً في كراتشي بالباكستان عام 1407هـ.
ولهذه الكتب مخطوطات كثيرة في كثير من بلدان العالم الإسلامي، عنيت
بذكرها كتب التراث وتاريخ الأدب العربي، والكتب التي ترجمت حديثاً للإمام
محمد بن الحسن الشيباني.
ومنها: رسالة (الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وأثره في الفقه الإسلامي)
للدكتور محمد الدسوقي، وقد طبع حديثاً في قطر، وفي كشوف الدراسات العليا
بكلية الشريعة بجامعة الأزهر (الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأثره في الفقه
الإسلامي) مسجلة عام 1968م.
-13-
ولسنا الآن بسبيل الكتابة المفصلة عن جوانب شخصية محمد وفقهه -رحمه
الله-، فإن ذلك يحتاج إلى مقام غير هذا المقام، وما أردت لهذه الكلمات إلا أن
تكون مقدمة بين يدي التعريف بكتابه الرائع (السير الكبير) وهو أول كتاب في
العلاقات الدولية الإسلامية، جعل كثيراً من المفكرين، ومنهم الأجانب، يعتبرون
الإمام محمداً أبا القانون الدولي، قبل غروسيوس وغيره.. وإذ طالت هذه المقدمة، فلنلو عنان القلم لندع التعريف بالكتاب وأهميته لمقالة أخرى لاحقة - إن شاء ... الله تعالى-
-14-
وليكن ختام هذه الكلمة الإشارة إلى وفاة الإمام محمد رحمه الله في سنة ... (189 هـ) ، بعد حياة حافلة بالعلم: دراسة وتدريساً وتأليفاً ورئاسة للقضاة، في عهد هارون الرشيد، -رحمه الله-، فقد خرج والكسائي مع الرشيد إلى «الريِّ» في بلاد ما وراء النهر، والتي تقع الآن في بلاد إيران، وفي هذا العام أيضاً توفي الكسائي، بل في يوم واحد، فروي أن الرشيد جزع لموتهما، وقال: «دفنت الفقه والنحو بالري» .
فسلام على الإمام الرباني، محمد بن الحسن الشيباني، ورحمه الله، في
الأولين والآخرين كفاء ما قدم من خدمة جليلة للفقه الإسلامي العظيم. والحمد لله
رب العالمين.
* للبحث صلة *(12/36)
شذرات وقطوف
اختيار: مازن محمد راغب
أين المشكلة؟
.... أمر الاعتقاد في الإسلام لم يترك لاجتهاد الناس ولا لأذواق المجاذيب؛
بل هو محصور في مصدر واحد هو النقل ... بخلاف فقه الشريعة، فإن المصدر
الرئيسي له هو الوحي، ولكن ترك فيه مجال كبير لاجتهاد المجتهدين ...
وكان هذا من أعظم أسباب شمول الشريعة ومرونتها التشريعية. النبي-صلى
الله عليه وسلم- أقر الاختلاف في الأحكام في عهده، ولم يخطّئ أحداً من المجتهدين
رغم اختلافهم، إلا إذا اشتط الفهم بأحد منهم فتكلم بغير فقه، لذلك لا يعد الاختلاف
في فقه الأحكام من حيث المبدأ مشكلة في حياة المسلمين، المشكلة في أدب
الاختلاف ...
البهاليل في عصر الكمبيوتر للدكتور عبد العزيز القارئ
الفضيلة في عصرنا
... نحن في عصر تكاد الفضيلة الإنسانية فيه تلحق بالألفاظ التاريخية التي
تدل على ما كان قديماً ... بل عادت كلمة من كلمات الشعر تراد لتحريك النسيم
اللغوي الراكد في الخيال، كما تقول: السحاب الأزرق، والفجر الأبيض، والشفق
الأحمر، والتطاريف الوردية على ذلك الشمس. وأصبح الناس ينظر أكثرهم إلى
أكثرهم بأعين فيها معنى وحشي له مس كمس الضرب أو طعن أو ذبح.
مصطفى صادق الرافعي وحي القلم ج 2
السياسة
... ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم
يصنعه الرسول ولا نزل به وحي. ومن قال لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد
غلط وغَلَّط الصحابة.
ابن القيم في الطرق الحكمية
قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله:
يا مطرف، عظ أصحابك. فقال مطرف:
إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن:
يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم، فلم يأمر
أحدٌ بمعروف، ولم ينه عن منكر.(12/48)
نظرية «الوسيلة والهدف»
في القيادة
ر. ج. هوز [1]
ترجمة: طارق عبد الحليم
هذه الدراسة المترجمة التي نقدمها في مجال الدراسات الاجتماعية، استكمالاً
لما قدمناه في العدد الثامن من «البيان» ، هي لعالم الاجتماع الأمريكي روبرت
هوز، المتخصص في علم النفس الاجتماعي Social Psychology والتي قدم
فيها الورقة الأولى لنظرية جديدة في فن القيادة وسماها بنظرية (الوسيلة والهدف) ،
وتعني بتحديد المهام الرئيسية للقيادة كما يراها، والتي على رأسها إيضاح الهدف
المنشود، وبيان الوسيلة لتحقيقه، وأثر ذلك على سلوك الاتباع.
ظهرت - في الحقبة الأخيرة - مجموعة من الدراسات في مجال دراسة
«القيادة» تعرف باسم نظرية «الوسائل والأهداف» ، وحسب هذه النظرية فإن
فعالية القيادات تتحدد بدرجة تأثيرها على حفز همم المرؤوسين (الاتباع) ، ورفع
قدراتهم على أداء العمل بفعالية، وتنمية شعورهم بالرضا والاكتفاء الداخلي عن
العمل، وقد أطلق على هذه النظرية «الوسائل والأهداف» لأنها تصب اهتمامها
على كيفية تأثير القائد على تصورات اتباعه عن «الهدف» من العمل الجماعي،
وعن تطلعاتهم الشخصية، وطرق ووسائل تحقيق كلا الهدفين.
الأسس التاريخية للنظرية:
تمتد جذور نظرية «الوسائل والأهداف» في القيادة، لنظرية أكثر عمومية
تبحث في مجال «الدوافع» تعرف باسم نظرية «التوقعات»
(Expectations) وبشكل مختصر، فإن هذه النظرية الأخيرة تنص على أن
تصورات الأتباع ومواقفهم يمكن استنباطها من:
أ- درجة اقتناعهم بأن العمل الجماعي الذي يقومون به، سيؤدي إلى نتائج
محددة (التوقع) .
ب- درجة تقييمهم لهذه النتائج (التقييم) .
ولهذا السبب، فإن رضا الناس عن عمل ما، وما يحققه لهم من شعور
بالاكتفاء الداخلي، إنما يكمن في قناعتهم بأن هذا العمل سيؤدي بهم إلى الوصول
لتحقيق، أشياء ذات قيمة عالية في نظرهم.
هذا الأساس العقلي النظري، يمكن من خلاله التنبؤ بعدد من الظواهر
المتصلة بموضوع القيادة، فمثلاً: لماذا تتصرف القيادات بشكل ما في موقف ما؟
أو كيف يمكن أن تؤثر القيادة على «حفز همم» (Motivation) الأتباع على
العمل؟
وهذا الأمر الأخير، هو محور اهتمام هذه الدراسة الحالية، وهو أن «همم
الاتباع إنما تحفز على العمل حسب سلوك القيادة وأثرها في توضيح أهداف العمل
وقيمته، ووسائل تحقيق هذه الأهداف» .
وقد طور عدد من الباحثين (إيفانز، هارمر، جرين) في هذا الشأن، بعض
الافتراضات المحددة بشأن أثر السلوك القيادي على وسائل وأهداف الأتباع. وقد
ركز هؤلاء الباحثون على أمرين:
1 - كيفية تأثير القائد على توقعات اتباعه في أن «الجهد المبذول سيؤدي
إلى أداء فعال، ومن ثم إلى نتائج قيمة، ومقابل مجزٍ.
2- كيفية تحول هذا التأثير إلى دافع لحفز همم الأتباع لزيادة العمل كماً وكيفاً.
وعلى الرغم من أن تنظير فن القيادة من زاوية الوسائل والأهداف للاتباع،
يدرج في مراحله الأولى، فإننا نعتقد أن له مستقبلاً واعداًٍ لسببين:
أولهما: أنها تعالج جوانب من سلوكيات القيادة لم تبحث من قبل، إلا أنها
تبدو مثمرة.
وثانيهما: أنها تحدد - بدرجة كافية من الدقة - العوامل المختلفة التي يتوقف
عليها سلوك القيادة في المواقف المختلفة.
وقد افترض» إيفانز «في بنائه النظري الأساسي، أن فعالية القيادة تتحدد
بقدرتها على إتاحة الفرصة للأتباع للوصول إلى النتائج التي يسعون إليها، مع ربط
هذه النتائج التي يرجونها بحسن أدائهم للعمل. وقد أوضح» إيفانز «أن أحد مهام
القيادة الاستراتيجية، هو إيضاح الوسيلة للأتباع لإتمام وتحقيق عمل ما للوصول
إلى نتائج وأهداف ذات قيمة لهم، كذلك فإن من مهام القيادة أن ترفع من درجة
» المقابل المتوقع «لدى الأتباع، بأن تكون داعمة لهم عن طريق الاهتمام براحتهم،
وحالتهم الاجتماعية والعامة، ذلك أن الإحساس الناشئ لدى الأتباع بأن القيادة
تدعمهم شخصياً، هو في حد ذاته» قيمة «مطلوبة كجزاء على العمل والجهد
يمكن للقائد أن يمنحها بنفسه، وتؤدي إلى رفع دافعية الأتباع للعمل ومزيد من الجهد.
كذلك فقد درس» إيفانز «العلاقة بين سلوك القيادة من جهة، ودرجة توقع
وتطلع الأتباع لتحقيق أهدافهم، وأوضحت هذه الدراسة أنه كلما أعطت القيادة
التوجيهات الكافية لأداء العمل، كلما كانت العلاقة بين سلوك القيادة وبين أداء
الأتباع طردية إيجابية.
وكما ربط» إيفانز «بين جودة أداء الأتباع، ودرجة قناعتهم بأن عملهم
سيؤدي إلى نتائج محددة قيمة، كذلك ربط بين هذا الأخير وبين سلوك القيادة وأدائها، بأن جعل وظيفة القائد الأساسية هي إيضاح الوسيلة لتحقيق الأهداف بشكل لا
يشوبه لبس، وجعل النتائج المرجوة مرتبطة بحسن الأداء كما سبق ذكره.
وانطلاقاً من هذا الخط فقد طور» هوز وكيسلر «نظرية أكثر تعقيداً من
نظرية (إيفانز) . وتسعى هذه النظرية لبيان أثر أربعة نماذج من السلوك القيادي
على الأبعاد الثلاثة التالية:
1- رضاء واكتفاء الأتباع بعملهم الجماعي.
2 - قبول الأتباع لقيادتهم، واقتناعهم بها.
3- قناعة الأتباع بأن جهدهم سيؤدي إلى أداء حسن، ومن ثم لتحقيق الهدف
المرجو.
هذه النماذج الأربعة القيادية هي:
1- القيادة الموجهة: Directive Leadership
وتعرف بأنها القيادة التي تعرف الأتباع بما هو منتظر منهم، وتعطي
التوجيهات المحددة للعمل المطلوب وكيفية أدائه، وتجعل دور الفرد كالتابع معلوماً
محدداً في مجموعته. كذلك فإنها تجدول العمل، وتحافظ على مستوى معين من
الأداء بالحرص على التزام الأتباع لقواعد وقوانين محددة.
2- القيادة الداعمة: Supportive Leadership
وتعرف بأنها القيادة المتوددة، القريبة من الأتباع، والتي تظهر الاهتمام
بأوضاعهم واحتياجاتهم. وهذه النوعية من القيادة تهتم عادة بالتفصيلات الصغيرة
التي تجعل العمل أكثر إمتاعاً، وتعامل الآخرين على أساس من الندية والتكافؤ،
وبطريقة ودية دون حواجز.
3- القيادة المشاركة: Participative Leadership
وهي القيادة التي تستشير أتباعها، وتستمع لاقتراحاتهم، وتضعها موضع
الجدية والاهتمام والدراسة قبل اتخاذ قراراتها.
4 -القيادة التي تصب اهتمامها على العمل: A chievement-oriented
Leadership
وهي التي تحدد أهدافاً عالية لأتباعها، وتتوقع منهم أن يتصرفوا على أحسن
مستوى، وأن يكونوا ساعين دائماً لتحسين أدائهم، كذلك فإنها تظهر الثقة في أن
أتباعها سوف يتحملون مسؤولياتهم، ويصبون اهتمامهم على إنجاز الأهداف السامية هذه النوعية من القيادة تؤكد دائماً على سمو الأداء، والثقة في قدرة الأتباع على
تحصيل هذا المستوى.
وقد ذكرت بعض الدراسات أن هذه الأنماط المختلفة من السلوك القيادي قد
تظهر في قيادة واحدة تبعاً لاختلاف الموقف، فعلى سبيل المثال، قد يكون القائد»
موجهاً «في بعض الحالات، لكنه مشاركاً أو داعماً في حالات أخرى. لذلك فإن
الطريقة التقليدية في تعريف القائد بأنه» داعماً «أو» مشاركاً «أو» موجهاً «
لم تعد بذات نفع، كذلك فإن القيادة تستطيع أن تتخير من أنماط السلوك القيادي ما
يناسب الموقف المطلوب لقيادة الأتباع. والنظرية التي كنا بصددها الآن، وإن
كانت تعتبر شرحاً مؤقتاً - وغير نهائي - لتأثير سلوك القائد، فإنها غير متكاملة،
ذلك أنها لا تتناول بقية أنماط السلوك القيادي، كما أنها لا توضح أثر هذا السلوك
على العوامل الأخرى خلاف رضاء الأتباع، وشعورهم بالاكتفاء.
نظرية الوسيلة والهدف:
الافتراضات العامة:
الفرض الأول: أن سلوك القائد مقبول ومرضي للأتباع، إذا كان الأتباع
يرون في هذا السلوك مصدراً لتحقيق اكتفائهم ورضاهم الداخلي حالاً أو مستقبلاً.
الفرض الثاني: أن سلوك القائد يجب أن يكون له تأثير» حافزي «، بمعنى
أن يحقق زيادة الجهد، حين يرتبط بأمرين:
1- أن يجعل تحقيق احتياجات الأتباع متوقفاً على حسن أدائهم.
2- أن يساعد هذا السلوك على توفير الظروف الملائمة لتحسين الأداء
بواسطة التعاون والتوجيه والدعم والجزاء اللازم لتحقيق كفاءة الأداء.
ومن الأبحاث السابقة على نظرية» التوقع «السابق ذكرها، يمكن استنتاج
أن مهام الزعيم الاستراتيجية هي:
1- تحديد وحفز احتياجات الأتباع التي تكون للقائد إمكانية السيطرة عليها
وتحقيقها لهم.
2 - التركيز على زيادة الإنتاجية الفردية للاتباع لتحقيق أهداف العمل.
3 - تسهيل وإيضاح وسائل زيادة الإنتاجية بالتدريب والتوجيه.
4 - مساعدة الأتباع في الحصول على آمالهم والإفصاح عنها.
5 - تقليل فرص الشعور بالإحباط.
6 - زيادة فرص الرضاء الشخصي للأتباع عن العمل، بشرط حسن أدائهم.
العوامل الشرطية: Contingency Factors
هناك فئتان من المتغيرات الظرفية (التغير في الموقف والظروف) يمكن
اعتبارهما عوامل شرطية.
والعامل الشرطي: هو المتغير الذي يؤثر على العلاقة بين متغيرين آخرين.
مثال ذلك: يمكن القول بأن» هيكلية العمل « (كعامل شرطي) تؤثر على درجة
الارتباط بين كل من سلوك القائد التوجيهي (كمتغير أول) وإحساس الأتباع بالرضاء
نتيجة هذا السلوك (كمتغير ثان) ففي حالة ارتفاع درجة هيكلية العمل: كلما زادت
درجة توجيه القائد لأتباعه، كلما قل إحساسهم بالرضاء عن العمل ونتائجه،
والعكس في حالة ضعف هيكلية العمل (أي درجة وضوح المطلوب وتنظيمه) نجد
أنه كلما زادت درجة وكمية توجيهات القائد للأتباع، كلما زاد إحساسهم بالرضاء
لهذا يمكن القول بأن العلاقة بين درجة توجيه القيادة للأتباع وإحساس الاتباع
بالرضاء، متوقفة على (أو مشروطة ب) هيكلية العمل ودرجة وضوحه.
والعاملان الشرطيان في هذه النظرية هما:
1- الصفات الشخصية للأتباع.
2- الضغوط البيئية التي يجب أن يتلاءم معها الأتباع حتى يتمكنوا من تحقيق
أهدافهم، والوصول لإرضاء ذواتهم، وتأمين احتياجاتهم. وبالرغم من أن هناك
عوامل ظرفية أخرى تؤثر على تحديد نوعية السلوك القيادي، إلا أنها غير محددة
حتى الآن.
الفئة الأولى من العوامل الشرطية (صفات الأتباع) : Subordinates Characteristics
تؤكد نظرية الوسيلة والهدف على أن سلوك القيادة يكون مقبولاً لدى الأتباع،
ما دام محققاً لرغباتهم وآمالهم حالاً أو مآلاً. وتحدد صفات الأتباع الشخصية هذا ا
لمفهوم.
فمثلاً، قد أوضح رينون وميتشل باستخدام مقياس» مركز التحكم «أن
درجة الفرد على هذا المقياس تؤثر في العلاقة بين السلوك القيادي المشارك،
ودرجة رضاء الفرد التابع. وهذا المقياس يعكس رأي الفرد في مدى استجابة البيئة
المحيطة لسلوكه وتصرفاته. فبعض الناس يعتقدون أن ما يحدث لهم -من البيئة
المحيطة-إنما هو بسبب سلوكهم هم، والبعض الآخر يعتقد أن ما يعرضون له إنما
يكون بسبب الصدفة العابرة لا أكثر.
فالطائفة الأولى ترحب بالقيادة المشاركة (نظراً لأن أفرادها يرون أن
مشاركتهم في صنع القرار ستنعكس على ما يحدث لهم) أكثر من الطائفة الثانية التي
تفضل النمط القيادي الموجه.
كذلك فإن درجة قناعة الأتباع، بتكافؤ إمكانياتهم الشخصية مع الأعمال
الموكلة لهم، تعتبر من الصفات الشخصية للأتباع التي يمكن أن تعد من قبيل
العوامل الشرطية، فإنه كلما كان الأتباع أكثر إحساساً بقدرتهم الشخصية على أداء
العمل المطلوب، كلما قل ترحيبهم بالنمط القيادي الموجه أو السلوك التدريبي،
حيث أن ذلك يؤدي إلى تقليص دافعية الأفراد على العمل، حيث يرون ذلك نوعاً
من الرقابة التي تضيق عليهم الخناق.
الفئة الثانية من العوامل الشرطية (الضغوط البيئية) : Environmental
Pressures
وتحدد هذه الفئة بمجموعة العوامل التي لا يمكن للأفراد السيطرة عليها، مع
أنها لا تزال ذات أهمية بالغة في الوصول بهم إلى درجة الاكتفاء والقدرة على
تحسين الأداء. وتؤكد النظرية على أن تأثير السلوك القيادي على الحالة النفسية
للأتباع، يتوقف على ظروف بيئية أخرى ذات علاقة بدافعية الأتباع، هذه
الظروف البيئية هي:
1- نوعية العمل المنوط بالفرد.
2 - نظام تسلسل السلطة الرسمي للمنظمة.
3 - مجموعة العمل الأساسية التي يعمل الفرد من خلالها.
وتقييم هذه العوامل البيئية يمكن من التنبؤ بدرجة ونوعية تأثير السلوك
القيادي على مجموعة معينة من الأتباع.
وتؤثر هذه العوامل الثلاثة السالفة الذكر على الأتباع بإحدى الطرق الثلاث
التالية:
1- أن تكون» حاثّة «لدافعية الفرد وانكبابه على عمله.
2- أن تضبط سلوك الأتباع في شكل محدد لصالح العمل وهذه الضوابط
تساعد على إبراز آمال الأتباع في أن الجهد سيؤدي للجزاء الحسن، وعلى الحد من
تخوفاتهم من حدوث تضارب أو اضطراب.
3- كذلك فإنها تعتبر كمكافآت على بلوغ درجة الكفاءة المطلوبة للعمل فمثلاً:
قد يعتبر الفرد أن الثناء الذي يتلقاه من زملائه في مجموعة العمل التي يتبعها، على
حسن أدائه، مكافأة إضافية، بغض النظر عن ثناء القائد نفسه عليه. من هنا يمكن
القول بأن أثر القيادة على دافعية الأتباع للعمل يرتبط بدرجة تأثير البيئة المحيطة
كحاثة للدوافع، أو كضوابط للسلوك أو كعامل جزائي إضافي.
وبالنسبة للبيئة، فإن نظرية» الوسيلة والهدف «تؤكد على أنه عندما تكون
أهداف العمل ووسائله واضحة-بسبب طبيعة العمل الروتينية، أو نمطية العادات
ووسائل التحكم في الأداء - فإن أي محاولة للقيادة في أن تتدخل لإيضاح العمل
ووسائله وأهدافه بشكل زائد ستكون غير ذات نفع، لأنها ستعامل من جهة الأتباع
على أنها تدخل مباشر دون داع. وعلى الرغم من أن ذلك قد يؤدي إلى تحسن
الأداء بعض الشيء إلا أنه سيؤدي كذلك للحد من درجة رضاء واكتفاء الأتباع في
أداء عملهم.
كذلك فإن هذه النظرية تنص على أن سلوك القيادة يساعد على حفز همم
العاملين ما دام يساعدهم على التلاءم مع مخاطر ومجاهل البيئة المحيطة التي تأتي
من مصادر متعددة لإحباطهم.
ومثل هذا السلوك القيادي الذي يحمي الأتباع من مخاطر ومجاهل البيئة،
يؤدي لزيادة دافعيتهم للعمل نحو الهدف، طالما أنه يزيد من قناعتهم بأن حسن
الأداء سيؤدي إلى حسن الجزاء.
وهذه الافتراضات، والمواصفات الخاصة بالشروط الظرفية، تقدم هيكلاً
مشجعاً يمكن من خلاله بناء وتطوير البحث مستقبلاً للوصول إلى نظرية متكاملة في
القيادة.
__________
(1) Path-goal Theory of Leadership, HOUSE, R J and MITCHELL, T R, Journal of Contemporary Business 1974 P81-94.(12/50)
إسرائيل بعد 40 سنة ...
دولة مضطربة
عن THE Guardian Weekly (1/5/1988)
إعداد: قسم الترجمة بالمجلة
بلغت إسرائيل أربعين سنة من عمرها ولازالت في اضطراب وحيرة تشبه
حالتها عند قيامها.
لقد تمكنت إسرائيل من استيعاب ضعف السكان الأصليين من المهاجرين،
وحولت مساحات شاسعة من الصحراء إلى أرضٍ زراعية منتجة، وأنجزت
إنجازات هامة في مجالات الصناعة والزراعة، ويحق لها أن تفتخر بأعلى نسبة
من المثقفين القادرين على القراءة والكتابة؛ وبنسبة عالية من الكتب المنشورة
تضاهي أعلى النسب في العالم.
لكن الاحتفالات هذا العام ألغيت بسبب اعتذار الضيوف الأجانب عن الحضور
تحت تأثير الخوف أو الاشمئزاز من الانتفاضة الفلسطينية التي هزت أركان البلاد
منذ ديسمبر الماضي، وتصرف الحكومة تجاهها، من جهة أخرى فإن الإسرائيليين
أنفسهم لهم مشاغل أخرى.
إن سن الأربعين هو سن النضج، يعي فيه المرء هويته وحدوده، لكن الأمر
يختلف بالنسبة لإسرائيل، فجميع المسائل الأساسية المتعلقة بوجودها لا تزال دون
حل، وهي على الرغم من قدرتها العسكرية والاقتصادية لا يزال موضوع بقائها
هشاً معرضاً للخطر، فالإسرائيليون لا يعرفون بعد شكل وطبيعة الدولة التي
يعيشون فيها، وهم مختلفون على تحديد هويتهم، ومختلفون على من هو
«اليهودي» وإلى الآن لم يتفقوا على تحديد موقفهم من اليهود خارج إسرائيل، ومن
غير اليهود الذين يعيشون داخلها، وفي الوقت الذي يتفاخرون به باستقلالهم تراهم
يزداد اعتمادهم يوماً بعد يوم على قوة أجنبية هي الولايات المتحدة الأمريكية التي قد
لا تتفق مصالحها إلى الأبد مع مصالحهم، وقبل كل شيء؛ فإنهم - إلى الآن- لم
يجيبوا على السؤال المصيري: ما معنى حصولهم على دولة، وهل إسرائيل
حصن منيع يحتمي فيه اليهود من عالم معاد لا يرحم خلف جدران عالية مشحونة
بالأسلحة؟ ! أم إنها دولة مثل سائر الدول، لها سفارات، وحلفاء، وأصدقاء،
وأعداء، أي هي وطن يعيش فيه الشعب اليهودي كجزء من المجموعة الدولية؟
يقول الخبير في الشؤون السياسية شلومو أفنيري:
(لو سألتني عن رأيي لأخبرتك أن أبشع دور لعبته عداوة العرب الدائمة لنا
هو أنها شغلت إسرائيل - منذ وجودها - بالصراع من أجل البقاء حتى إننا لم نجد
من الوقت ما يساعدنا على اتخاذ قرار حول طبيعتها) .
لقد أطلقت الانتفاضة الفلسطينية شرارة جدل علني عنيف سوف يشتد في
الانتخابات المقبلة في شهر نوفمبر، وإن هذا الجدل ليس بين العرب واليهود بل هو
بين اليهود أنفسهم، ولم يعد الخلاف حول مصير الأراضي المحتلة إلا مسألة واحدة
من مسائل كبيرة.
أثناء الفترة التي ركزت وسائل الإعلام العالمية الانتباه فيها على الانتفاضتة
كانت أفضل المؤسسات في إسرائيل تعاني من أزمات بالغة الحدة، فالخدمات
الصحية تكاد تنهار تحت وطأة الإضرابات الطويلة المتتابعة التي يقوم بها الأطباء
والعاملون في الحقل الصحي، وكذلك الجامعة العبرية - وهي أفضل جامعة في
البلد - مهددة بالإفلاس، والمدارس الحكومية في تدهور مستمر بسبب قلة التمويل،
والكثير من الإسرائيليين يرون أن خطر البيروقراطيين وعجرفتهم يضاهي خطر
رماة الحجارة في غزة في تهديده للمعنويات العامة ولسلامة إسرائيل.
وتعاني إسرائيل كذلك من أزمة قيادة؛ فقد انتهى جيل دافيد بن غوريون،
وغولدا مائير، وموشى دايان، ومناحيم بيغن، وزعماء إسرائيل الحاليون أصغر
حجماً وأقل تأثيراً.
يقول الفيلسوف اليهودي دافيد هارتمان:
(لابد أن تعود أربعون سنة علينا بشيء من مبادئ الحكمة، لقد انتهت فترة
المراهقة لدينا ... لقد كانت لنا آمال صباً كبيرة مثل حرب الأيام الستة والضربات
الساحقة في لبنان، ولكن الصراع الآن هو بين سياسة قائمة على الرعب النابع من
أزمة نفسية من جهة وبين سياسة التعقل من جهة أخرى إن الناس بحاجة لتزعامة،
ولكن البلاد لا تزال محكومة بعقلية الأحياء والحارات، ولا يزال الساسة ضيقي
الأفق، ومن الصعوبة بمكان العثور على شخص قادر عن التعبير عن رؤية قومية
حقة) .
لقد كان الصهاينة الأوائل يتوقون إلى تكوين دولة يهودية، على غرار
سويسرا تكون صغيرة ومحايدة وهادئة، فقد كتب ثيودور هرتزل مؤسس الحركة
الصهيونية عام 1896 يقول:
إننا كيهود سوف نعيش: أحراراً على أرضنا، وسنموت في سلام في بيوتنا، وسيتحرر العالم بحريتنا، وسيستغني بمالنا، وسيرتفع بعظمتنا، وإن أي عمل نقوم به هناك لمصلحتنا الخاصة سينعكس على بقية العالم خيراً وبركة
وسيكون له مردود قوي.
كانت تلك أحلاماً وردية، إلا أنها لم تحسب حساب أمرين مشؤومين غيرا
وجه الصهيونية [1] :
أولاً: كان الهولوكست الذي أجبر الصهاينة على استبدال تصورهم لدولة
مثالية مؤلفة من نخبة من الرواد بخطة عملية تستهدف إعادة إسكان مئات الألوف
من اللاجئين في وقت قصير.
ثانياً: كان هناك عداء السكان العرب في فلسطين وفي الدول المجاورة لما
يسمى الآن إسرائيل، وهو عداء لا يروض ولا يستكين، فقليل من الصهاينة من
استطاع إدراك مشكلة العرب، فأنصار الصهيونية الأوائل تصوروا أن العرب
سرعان ما سيقبلون بالحضور اليهودي في فلسطين، وسيرحبون بالامتيازات
الاقتصادية التي ستنجم عن ذلك، حتى عندما خاضوا حرب الاستقلال ضد خمسة
جيوش عربية سنة 1948 فإن أغلب الإسرائيليين - حسب رأي شلومو أفنيري -
توقعوا أنه بمجرد انتهاء الحرب سوف يقبل جيرانهم العرب بالأمر الواقع [2] لكن
هذا لم يحصل، فقد ولدت إسرائيل في حلبة الصراع ولما تخرج من هذه الحلبة منذ
ولادتها، فحتى الآن يتحدى الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع
غزة بالحجارة والزجاجات الحارقة، ولكن حتى الآن لا يوجد بديل سياسي مقنع
يضمن في الوقت نفسه حق إسرائيل في الوجود ويلبي مطالب الفلسطينيين في
الحصول على وطن. فعقلية الذي يعيش تحت الحصار؛ والحساسية المفرطة تجاه
الأمن؛ والخوف من هؤلاء الذين لا يعترفون بحقك في الوجود، ويسعون بكل
الطرق إلى تدميرك؛ ... كل هذا لا يزال جزءاً من كابوس يجثم على صدر كل
إسرائيلي.
لقد أخطأ الصهاينة الأوائل التقدير في شيء آخر كذلك، فقد توقع الكثير منهم
أنه بمجرد قيام الدولة اليهودية فإن يهود الشتات سيتقاطرون من كل الأنحاء على
«أرض الميعاد» طائعين، ولكن أغلب الذين عادوا فعلاً خلال السنين الماضية كانوا
لاجئين، فيهود الغرب الأثرياء ظلوا بعيداً، حيث إن قيام إسرائيل قد ضاعف من
نفوذ الكثير منهم سياسياً، ومن ثقتهم بأنفسهم في الدول التي يقيمون فيها، وقلل من
رغبتهم في المجيء إلى إسرائيل الأمر الذي يثير التوتر والغضب بين شقي اليهود
الإسرائيليين والأميركيين وهى مشاعر مشحونة تطفوا أحياناً على السطح بين الفينة
والأخرى يعجب المرء لحدتها، كالتراشق الذي احتدم حول قضية الجاسوس
(بولارد) أو سياسة القبضة الحديدية التي تنتهجها إسرائيل في الأراضي المحتلة.
إن أمة تعيش في سلام قد تجد من المفيد أن يكون جزء من أبنائها خارجها،
يعملون في تقوية وتحسين مركزها خاصة إذا كانوا كجاليات تتمتع بنفوذ لكن بالنسبة
لدولة صغيرة تعيش تحت الحصار فإنها بحاجة إلى تجميع كل قواتها داخل جدرانها. يقول المؤرخ الأمريكي آرثر هيرتزبرغ:
(مهما كانت لباقة الإسرائيليين فإنهم لم يتخلوا أبداً عن المبدأ الذي اختطه)
ابن غوريون بكل فظاظة بقوله: إن اليهودي الحق هو من يعش في إسرائيل
فقط.
إن الحصار الدائم الذي تعيشه إسرائيل أوقف نموها في مجالات مهمة أخرى،
فالكثير من المؤسسات الاجتماعية الفريدة في البلاد مثل الجيش المدني والكيبوتسات،
والهستدروت، وبرامج الصحة والخدمات الاجتماعية، قد أنشئت قبل قيام
إسرائيل، وقد تلاشت الروح الاشتراكية التي قامت عليها هذه المؤسسات إذ أن
الدولة نفسها تكافح من أجل البقاء.
لمدة طويلة كان يكفي لهذه المؤسسات لكي تزدهر الدافع الخاص باليهود للعودة
إلى وطنهم الموعود.. والحياة الحرة في مجتمع يهودي خالص لكن في السنوات
الأخيرة ركدت هذه المؤسسات الأساسية، ومثاليتها تآكلت في ظل التهرب من
الحلول على الصعيد السياسي، ومن جراء التضخم المالي في أواخر السبعينات
وأوائل الثمانينات.
المزارع الجماعية تحتاج إلى تمويل ضخم من الحكومة لتبقى على قيد الحياة،
والهستدروت والخدمات الصحية والاجتماعية أصبحت إمبراطوريات مفضوحة
للتبذير والفساد، حتى حزب العمل الذي أسسه بن غوريون والذي كان قوة سياسية
متحركة أدركه الهرم، وقد فشل تحالف حزب العمل اليساري والليكود اليميني في
مواجهة هذه الأزمات الداخلية.
الانحرافات أعاقت السياسة الإسرائيلية، وقيدت الزعامة الإسرائيلية بتحالفات
أعاقت قدرتهم على اتخاذ القرار وأعطت للأحزاب الصغيرة نفوذاً يتجاوز حجمها
الطبيعي، لأنها كثيراً ما تمكنت من تركيع الحكومة بانسحابها من التحالف. إن
انتخابات 1984 تمخضت عن شلل أخير وأجبرت حزبي العمل والليكود على
التناوب على رئاسة الوزراء بين «بيريز» وخصمه السياسي اللدود «إسحاق
شامير» .
يقول جاد يعقوبي:
إنها حكومة ذات رأسين تعاني من انفصام الشخصية وهى عاجزة عن اتخاذ
قرارات مصيرية بسبب الطريق المسدود الذي وصلته، حتى لو كان بيغن أو بن
غوريون رئيساً للوزارء الآن فإنهما سيعانيان من نفس المشكلة.
قريباً سيكون على الناخبين أن يختاروا، وهذه المرة ستأتي الانتخابات بعد
الانسحاب من لبنان وحل المشكلة الاقتصادية في إسرائيل، وستكون الفروق أكثر
وضوحاً بين الأحزاب والبرامج اكثر واقعية. وقد يحاول السياسيون أن يرقعوا
الاختلافات بينهم مرة أخرى ولكن سوف تكون وراءهم أصوات أخرى تتحدث عن
الفروق الحقيقية.
ويعتبر الياكيم هيتسني المؤرخ والمنظر لحركة الاستيطان اليهودي في الضفة
الغربية: أن اليهود كانوا دائماً متميزين عن بقية العالم، إذ كانوا يعانون دائماً من
خليط من السحر واللعنة، نحن قوم كنا ولا نزال تحت رحمة القدر نؤمن بإله واحد
لا يرى، ولذلك اضطررنا لبناء جدران حولنا والبقاء في حالة استنفار قصوى ليل
نهار. كنا مجبرين على العيش في الجبال لا في السهول، حتى أننا خضنا غمار
حرب أهلية منذ ألفي سنة كانت بين من يريدون التفرد ومن لهم نزعة عالمية.
بالنسبة لنا يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ليست مجرد قطعة أرض وإنما هي
ساحة صراع. يدور عليها قتال دائم من أجل تأكيد هويتنا.
ويرى هيتسني أنه يجب على إسرائيل عدم التخلي عن الضفة الغربية إذا
أرادت الاحتفاظ بشخصيتها اليهودية.
أما يهوشافاط هاركابي الرئيس السابق للمخابرات العسكرية وأستاذ العلاقات
الدولية فيرى أنه للسبب نفسه يجب التخلي عن الضفة الغربية، فقد قال: «نحن
لا نستطيع أن نحارب العالم بأسره، ولا نستطيع التقوقع على أنفسنا أيضاً، فمما لا
خلاف عليه أن هذا البلد سيبقى صغيراً حتى في حالة إلحاق الضفة الغربية كاملة به، وقد نستطيع أن نبقى أحياء داخل حدود غير آمنة ولكننا لا نستطيع أن نستمر
كدولة يهودية إذا كان نصف شعبنا عازماً على محقنا، نحن بين أمرين أحلاهما مر
ولذلك يجب علينا اختيار الأقل سوءا ".
__________
(1) إن كان وجه الصهيونية جميلاً عند أنصارها فهو قبيح أساساً عند العرب والمسلمين - المترجم.
(2) إذا كان هذا ظن بعض اليهود فهو ليس اعتقاد جميع الذين عملوا على زرع إسرائيل في فلسطين - المترجم-.(12/58)
أدب وتاريخ (قصة قصيرة)
مقام الشيخ بركات
علي محمد
كان الأستاذ عادل يتبادل الحديث مع الأستاذ سعيد وهما في طريقهما إلى
المدرسة في الكَفْرْ، عندما صعد الحافلة متسول نصف معتوه، كبير في السن يهتز
ويتأرجح، ويمسح لعابه بكمه المتهدل المتسخ، يستجدي الركاب ويتهدد ويتوعد،
يهددهم بأنه سيدعو عليهم بأن تنقلب الحافلة بهم في عرض الطريق.
ويبدو أن الأستاذ سعيد من منبت متأثر كثيراً بالكرامات والأولياء، والأبدال
والأوتاد! حيث إنه طلب من الأستاذ عادل أن يبادر إلى إعطائه بعض الدراهم
خشية أن تنقلب الحافلة فعلاً. لأن المتسول المذكور (عبد الكريم أبو شطة) من
المباركين المستجابي الدعوة.
أجابه الأستاذ عادل: هل تتكلم من كل عقلك يا أستاذ؟
- طبعا ولم لا؟ فإن الأحاديث عن الخوارق التي جرت على يديه يتناقلها
الصغير والكبير، وسترى بعد قليل أنه سينزل ونمضي نحن في الحافلة، ويسبقنا
إلى القرية التالية ماشياً، حيث سينتظرنا هناك.
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
- ماذا يا أستاذ عادل؛ أو تنكر الكرامات؟
- وهل قلت لك أني أنكر الكرامات؟
- لا لم تقل ولكن لسان حالك يقول هذا.
- أنا لا أنكر الكرامات بشكل مطلق يا أستاذ سعيد. فالله قادر أن يكرم من
شاء من عباده، لكن أن تصبح الكرامات طعامنا وشرابنا وتدخلنا في باب إشراك
هؤلاء العبيد والأموات مع الله سبحانه وتعالى في الخلق والأمر فلا.
- يعني أنت لا تصدق أن الشيخ أحمد أبو سرود قد جاء من عرفات إلى
استانبول وأكل الكبة المشوية عند أهله وعاد ليلاً إلى عرفات؟
- يا أستاذ سعيد، بارك الله في عقلك أهذا الذي تعلمته في الجامعة؟
- بدأنا بأسلوب السخرية!
- لا يا أستاذ سعيد أنا لا أسخر منك، ولكن أن يكون كلام العوام وخرافاتهم
كلاماً منزلاً محكماً لا يقبل النقد، وتناقشني شهراً كاملاً حول حجية حديث الآحاد،
وأنه لا يجوز أن نأخذ به في العقيدة لأنه ظني فهذا غير معقول.
- ولكن هذه الكرامات لا ينقلها العوام فقط، بل إن ساداتنا المشايخ ينقلون
كثيراً منها عن أصحاب المقامات والأضرحة.
طيب يا أستاذ سعيد ما رأيك لو برهنت لك برهاناً عملياً أن كل هذه المقامات
والأضرحة خلط بخلط؟
أعوذ بالله! أعوذ بالله!
(وكانت الحافلة قد وصلت بهم إلى الدوار الموصل إلى الكَفْرْ)
هل هنا على هذا الدوار مقام أو ضريح يا أستاذ سعيد؟
-لا.
إذاً ما رأيك لو أشعنا في الكفر أن على هذا الدوار قبراً قديماً لأحد الصالحين
قد اندرس وضاعت معالمه؟
لماذا؟
- لأريك بأم عينك أن الناس ستحمل هذه الإشاعة محمل الجد، وربما يقيمون
في العام القادم مقاماً كبيراً للشيخ المزعوم!
دعك من هذا يا رجل، وهل تظن الناس مجاذيب إلى هذا الحد؟
طيب، أنت ماذا تخسر إذا تعاونت معي؟ أم أنت خائف من النتيجة.
- لا لست خائفاً، ولكن!
وبما أنك نصف موافق فما رأيك أن نطلق على الشيخ المزعوم اسم: الشيخ
بركات؟
- طيب، كما تشاء.
واتفقا على إشاعة الأمر بأسلوب هادئ في المدرسة وعند الحلاقين باعتبار أن
دكان الحلاق من أهم وسائل الإعلان.
أجاب الحلاق (سليم أبو لسان) موافقاً على كلام الأستاذ عادل: طبعاً لابد أن
يكون الأمر صحيحاً. وهل من المعقول أن الجديدة وأم الكوسا عندهم عشرات
الصالحين، ونحن لا يوجد عندنا ولا مقام واحد؟
- الشيخ بركات يا حاج سليم كان من كبار الصالحين وكانت له مكانته عند
الباب العالي.
إذاً أنت تعرف كل هذه المعلومات عن الشيخ بركات قدس الله سره وتسكت.
لا والله أنا لست ساكتاً ولكن المسألة غابت عن ذهني في زحمة المشاكل.
(وانتشر الخبر في الكفر انتشار النار في الهشيم. ورآه عدد من الناس في المنام،
وتحدثوا عن طوله الفارع، وعمامته الضخمة وكراماته التي
لا تحصى، وكيف أن المئذنة كانت تنزل إليه عندما كان يريد أن يؤذن.. و..
و..) .
(وبدأ الحديث في المدرسة بين أخذ ورد بين الأساتذة جميعاً) .
- دعوكم من هذه الخرافات يا ناس.
يعنى تريد أن تقول أن الشيخ بركات غير موجود؟
- طبعاً غير موجود.
- ما الذي تقوله يا رجل؟ ولماذا تريد مسخ الصورة الجميلة للشيخ بركات
رحمه الله، وكيف تجرؤ أن تقول هذا؟ وهل تستطيع أن تثبت ذلك؟
- قبل أن تؤكد أن الشيخ بركات لم يوجد، وأنه لم يكن قط. عليك أن تعتبر
ظروف الوجود، وأنواع الوجود. وأنا متأكد من أن الشيخ بركات كان موجوداً لكنه
وجود من نوع شاعري خاص غريب.
- ولكن يا إخوة كيف انفجر الينبوع الغربي في الكفر على يديه إذا لم يكن
موجوداً؟ !
-لا، لا، هو موجود، لقد وجد على وجه ما.
أجاب المدير باستخفاف. تعني أنه وجود ذهني في الخيال؟
- أو ليس الوجود الخيالي وجوداً أو ليس الأشخاص الأسطوريون موجودين؟ ...
صحيح إنه ربما يكون وجود الشيخ بركات خيالياً، لكن افتراض وجوده،
وتأكيد هذا الوجود، هو تأكيد على وجود الأشخاص الذين يمثلون الخير والصلاح
في هذا المجتمع.
- لقد كان الشيخ بركات موجوداً. إنني أصر على ذلك، تفكروا أيها الأخوة
قليلاً تصلوا إلى نتيجة تقول بأن شرط الوجود لا يشمل المادة فقط، إنه يعني فقط
العلاقة بين الصفة والموضوع، إنه يعبر عن علاقة فقط، حتى الصفات يمكن أن
تأتي بعد ذلك. والمهم هو الجوهر وبعض الصفات الذاتية كالوجود. وقضية
الوجود مفروغ منها بالأدلة المنطقية.
وكيف ذلك يا أستاذ؟
- القضية بسيطة: - كل ما يقول عنه العلماء والمشايخ موجود فهو موجود.
- قال العلماء إن الشيخ بركات موجود.
- إذاً فالشيخ بركات موجود.
- المصيبة أن الشيعة الإمامية الذين قالوا بعصمة الأئمة أدى بهم هذا إلى
التطرف فكيف بمن يقول بعصمة كل من وضع على رأسه خرقة ملفوفة؟ !
- أتكفرني يا أستاذ السند والدليل؟ !
- هو لا يكفرك يا أستاذ! طول بالك!
- ولكن لابد من الإقرار بأن الوجود من دون صفة هو - عملياً - عدم وجود
شيء.
- ولكن صفات الشيخ موجودة وأكيدة ألم تقرأ ما كتبت عنه الجريدة البارحة؟ وماذا كتبت؟
- تحت عنوان «اكتشاف مقام الشيخ بركات» كتبت تقول:
ولد الشيخ بركات قدس الله سره في قرية الكفر عام 1100هـ وهو من سلالة
سيدنا خالد بن الوليد، وقد درس على عدد كبير من العلماء منهم فلان وفلان، ولقد
اشترك مع الجيش التركي في إحدى معاركه مع الصليبيين. وما إن استبد به
الحماس حتى نفخ عليهم، فآثار زوبعة ضخمة، رفعت الجيش المعادي مسافة مائة
متر في الهواء، وسقطوا جميعاً مضرجين بدمائهم ...
ومن أين جاء الصحفي بهذه المعلومات؟
- وهل جاء بها من بيت أبيه؛ هذا تاريخ. ووالله أنت لا تصدق ولو رأيت
الشيخ بركات بأم عينيك. وهل عدم معرفتك لدليل على صحة المعلومات يعني أن
المعلومات غير صحيحة؟
- ولكن هذه دعوى وتحتاج إلى دليل، فالبينة على من ادعى، وعلي وعليك
التثبت من صحة أي دعوى، وإلا ادعى كل واحد منا ما يحلو له.
- هذه ليست دعوى، إنها حقيقة، وأنت الذي تدعي عدم صحة الخبر،
وعليك البينة.
- يا رجل لا تحمل الأمر أكثر مما يحمل، وتستخدم كل وسائل الجدل في
إثبات قضية اخترعها خيال الأستاذ عادل، ليثبت بها غوغائية الجمهور، والسير
بلا تثبت وراء كل ناعق.
- الأستاذ عادل اخترعها! ؟ - أولاً: الأستاذ عادل يحب الجدل مثلك، وكل
قضية يطلب عليها دليل، ودعواه عندنا غير مقبولة. فإنه من حقده على الأولياء
والصالحين يدعي أنه هو الذي اخترع وجود الشيخ بركات، والشيخ بركات قدس
الله سره موجود من زمن أجداده، ولن تنفعه دعواه شيئاً. وثانياً: فإن هذا الادعاء
يزرع الشك في كل الأولياء والصالحين ومقاماتهم وكأن الدنيا خلت تماماً من
الصلاح والصالحين. أعوذ بالله! !
وقرع الجرس وانصرف الأساتذة إلى الدروس، وسار الأستاذ سعيد مذهولاً
مما رأى يحدث نفسه: معقول؟ غير معقول! . أيمكن أن تكون كل هذه الناس
مجاذيب؟ والجريدة؟ أيمكن أن تردد ما يقوله الناس بدون تمحيص؟ غريب! ! !
إن في الأمر لغزاً ما، كيف اجتمع المشايخ بالأمس في الدوار وأقاموا
الحضرة (احتفال) للشيخ بركات؟ والشيخ بركات اخترعه الأستاذ عادل! ! أيمكن
أن يكون الخرف أصابهم جميعاً؟ غير ممكن! ! غير ممكن! !
وبدأت تتسرب إلى ذهنه فكرة جديدة تحل له اللغز. وهي أن الشيخ بركات
موجود فعلاً، وأن الأستاذ عادل يعلم ذلك مسبقاً وقد خدعه وأوهمه أنه هو الذي
اخترع وجود الشيخ بركات.
وحاول الأستاذ عادل أن يزيل هذه الفكرة من رأسه لكنه لم يفلح.
واستمر النقاش في المدرسة على هذا المنوال عدة أيام، وكان العام الدراسي
في أواخره، وقد انتهت المناقشات بذهاب كل أستاذ إلى بلده عندما حانت العطلة
الصيفية.
* * *
وفي العام التالي ركب الأستاذ عادل والأستاذ سعيد الحافلة ذاهبين إلى المدرسة
في الكفر، وكان الأستاذ عادل قد نسي الموضوع لكنه انتبه إلى الأستاذ سعيد وهو
يتمتم في سره ببعض العبارات عندما أصبحوا على مقربة من الدوار. وكم كانت
دهشتهم كبيرة عندما وجدوا بناءاً جميلاً لمقام الشيخ بركات ينتصب شامخاً على
الدوار وبجانبه مسجد كبير فخم على الطراز المعماري التركي.
ابتسم الأستاذ عادل ونظر إلى الأستاذ سعيد.
لكن الأستاذ سعيد لم يعره كبير انتباه، بل طلب من السائق أن يتوقف قليلاً،
ورفع يديه وقرأ الفاتحة على روح الشيخ بركات.(12/65)
(قصيدة)
يا مُسْلِمَة
من ديوان: شجون غريب
لأبي عاصم القارئ
يا مسلمهْ
ما بين نجد والسَّراة وحول آكام الحرم
ترتيل (أم المؤمنين) أضاء ديجوراً أصم
ونطاق (أسماء) الأبية في كتائبنا علم
وهدى رَحَى (الزهراء) سيدة الأمم
نغم يجلل هام حادينا
ويزين ترنيمات قارينا
ويهيج مكتوم الهوى للسيد الأكرم
يا مسلمهْ
هذي (علوج الروم) قد لبست بُرُوداً عربيه
يخفون أحمرهم، وأصفرهم، وكفر (المزدكيه)
لو يملكون لبعثروا فينا بذور الهمجيه
ولمزقوا خمر المصونات المخدرة الأبيه
ما هذه ريح الصبا
ولا شذى القيصوم، أو شيح الربى
لكنها هوجاء، زوبعة تولول، أجنبيه
يا مسلمه
إني أرى قطعانهم هاجت هياج الزبد
وتروم تاجاً قد لبستيه لعز الأبد
نسجته آيات الكتاب بقلبك المتوقد
وعلى جبينك أسدلته يد الحبيب (محمد)
فدعي قطيع البهم
يهوي لذل جهنم
ولنمض نحو سمائنا في المسجد.(12/71)
نظرة في كتاب (الكامل)
لابن الأثير
د. سليمان الدخيل
هناك فرق بين أن ننسب ابن الأثير - عليه رحمة الله - إلى التشيع وحاشاه
عن ذلك ونحن لا نملك عليه دليلاً، بل نجد في ترجمته ثناء العلماء والحفاظ من
مشاهير أهل السنة [1] ؛ وبين أن نقف عند نزعة التشيع في كتابه (الكامل في
التاريخ) وقفة لا تقلل من قدر الكتاب وقيمته بقدر ما تلفت النظر إلى ملاحظة يحسن
التنبه لها.
وقد اطلعت على ما كتبه الأخ الكريم (محمد العبدة) عن (ابن الأثير وموقفه
من الدولة العبيدية وبعض الدول المعاصرة لها) في العدد التاسع من هذه المجلة
الغراء (البيان) وقد لفت نظري ما أشار إليه صاحب المقال مما يدل على نزعة
تشيع عند ابن الأثير في هذا السفر العظيم، وقد تساءلت بيني وبين نفسي: من أين
لابن الأثير هذه النزعة في الكامل؟
أترى هو الجهل بعقائد الشيعة الأمر الذي قال معه ابن الأثير - حين حديثه
عن دعوة العبيديين (الفاطميين) ولم يخرج فيه -يعني المعز- إلى حد يذم ... به!! [2] .
قال في موضع آخر-وهو يتحدث عن واحدة من عقائد الشيعة (الرجعة) - ما
نصه: (قال عمرو ابن الأصم: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشيعة تزعم أن
علياً مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: كذب والله هؤلاء الشيعة، لو علمنا أنه مبعوث
قبل يوم القيامة ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله) . ثم يعلق ابن الأثير بعد ذلك قائلاً:
(أما قوله هذه الشيعة فلا شك أنه يعنى طائفة منها فإن كل شيعة علي لا تقول هذا،
إنما تقوله طائفة يسيرة منهم، ومن مشهوري هذه الطائفة جابر بن يزيد الجعفي
الكوفي، وقد انقرض القائلون بهذه المقالة فيما نعلمه) [3] .
وعلى كل حال فالقول بانقراض (الإمامية) وهم القائلون (بالرجعة والوصية)
غير مقبول من ابن الأثير، لاسيما وقد عاش في عصر تكاثر فيه الشيعة وأصبح
لهم وجود ظاهر إلى حد قال معه أحد الشيعة: (ولولا مجيء المغول لرفرف لواء
التشيع على الشرق الإسلامي) [4] .
وهو العصر الذي ألفت عنه كتب خاصة بأعيان الشيعة، وفيهم الإمامية ومن
أبرزها (الأنوار الساطعة في المائة السابعة) للشيخ أغا بزرك الطهراني، وقد
أحصى فيه مؤلفه قرابة ثلاثمائة رجل من أعيان الشيعة ومع ذلك قال محققه أنه ... لا يمثل بشيء تاريخ الشيعة في ذلك القرن الذي تغلغلوا فيه في بيوت ... الأمراء، ودخلوا بلاط الخلفاء، وكان منهم الوزراء والعلماء [5] .
وكان من هؤلاء من كان في الموصل أمثال (محمد بن أبي الفوارس الحلي) [6] .
وفي عقيدة الرجعة - بالذات - والتي نفى ابن الأثير وجودها في عصره
تطالعنا مصنفات الشيعة بالأعداد الكبيرة المؤلفة فيها على امتداد القرون، وفيها ما
هو في القرن السابع - وقد عايشه ابن الأثير - من أمثال: كتاب (الغيبة للحجة وما
جاء فيها عن النبي والأئمة ووجوب الإيمان بها) للأشرف بن الأغر المعروف بتاج
العلا العلوي الحسيني المتوفي سنة 610 هـ، فهل كانت هذه الكتب سرية حتى لم
يطلع عليها أمثال ابن الأثير؟ أم أنها ألفت في عصور متأخرة ونسبت للأوائل؟ !
ووفق ذلك كله فالسمعاني (ت 562) يشهد بوجود أصحاب هذه العقيدة في
عصره [7] .
أم هي لظروف العصر وملابسات البيئة التي عاش فيها ابن الأثير؟ وهي
بيئة كان للشيعة فيها وجود ليس على مستوى الأفراد فحسب وإنما على مستوى
الولاة والحكام. ومن أمثلة ذلك: الملك الرحيم (ت 657) الذي ملك (الموصل)
نحواً من خمسين سنة [8] وهو الذي أزال الدولة الأتابكية (وهم أسياده قبل) ، وكان
يبعث في كل سنة إلى مشهد علي قنديلاً ذهبياً زنته ألف دينار، وهذا-كما قال
الحافظ ابن كثير-دليل على تشيعه، بل على قلة عقله [9] .
وكان في الأصل أرمنياً، حتى نقل (الذهبي) عنه أنه كان يحتفل لعيد
(الشعانين) لبقايا فيه من شعار أهله، فيمد سماطاً عظيماً إلى الغاية، ويحضر
المغاني، وفي غضون ذلك أواني الخمور فيفرح وينثر الذهب من القلعة ويتخاطفه
الرجال؟ فمقت لإحياء شعار النصارى، وقيل فيه:
يعظم أعياد النصارى محبة ... ويزعم أن الله عيسى بن مريم
إذا نبهته نخوة أريحية ... إلى المجد قالت أرمنيته: نعم [10]
وإذا كان الأمر كذلك فيه، فلا غرابة أن يسير إلى (هولاكو) التتري - بعد أن
أوقع ببغداد ما أوقع، ثم انفصل عنها- على هيئة الخادم المتلطف له، ومعه الهدايا
والتحف! ! حتى رجع إلى بلاده متولياً من قبله [11] .
هذا الملك أثنى عليه ابن الأثير في مقدمة كتابه، فقال: ( ... مولانا مالك
الملك (! !) الرحيم، العالم المؤيد، المنصور المظفر بدر الدين، ركن الإسلام
والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلد الله دولته) ! ! [12] . بل الأمر أعجب
من ذلك، فابن الأثير إنما انساق في إتمام تأليف كتابه (الكامل) عن أمر الملك
الرحيم هذا، وهذا ما حكاه ابن الأثير نفسه في مقدمة كتابه حين قال: (فلما جمعت
أكثره أعرضت عنه مدة طويلة لحوادث تجددت وقواطع توالت وتعددت، لأن
معرفتي بهذا النوع كملت وتمت، ثم إن نفراً من إخواني وذوي المعارف والفضائل
من خلاني.. رغبوا إلي في أن يسمعوه مني، ليرووه عني، فاعتذرت بالأعراض
عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسودته ولم أصلح ما أصلح فيه من
غلط وسهو.. إلى أن قال: فبينما الأمر كذلك إذ برز من طاعته فرض واجب
واتباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافعة.. مولانا مالك الملك
الرحيم.. فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألفت الدواة
وأصلحت القلم وقلت: هذا أوان الشد فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب،
وإذا أراد الله أمراً هيأ له السبب وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن
السكيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنة
لأقوال اللوام ... ) [13] .
وقال ابن كثير-في ترجمته للملك الرحيم -: وقد جمع له الشيخ عز الدين
كتابه المسمى بالكامل في التاريخ فأجازه عليه وأحسن إليه [14] .
وإذا كان الأمر كذلك فهل بإمكاننا أن نفسر نزعة التشيع في (الكامل) بهذا
الأمر وهي نزعة لا يمكن تجاهلها ولا قبولها - مهما كانت أسبابها - فبالإضافة إلى
الأمثلة التي ساقها الأستاذ محمد العبدة في مقاله الآنف الذكر أسوق الأمثلة التالية:
1 - في أحداث الفتنة الواقعة بين الصحابة يلحظ القارئ (للكامل) تغليب
الروايات التي تصف خصوم (علي) -رضي الله عنه- بصفات يبعد قبولها، بل
يبعد أن يقول بها علي نفسه، ومنها أن علياً يصف معاوية ويقول: ( ... وخلاف
معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق بن
طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حرباً لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في
الإسلام كارهين ... ) [15] .
وحين رفعت المصاحف (للتحكيم) في (صفين) من قبل أهل الشام، قال
أصحاب علي:
نجيب إلى كتاب الله، فقال لهم علي: (عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم
وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمراً، وابن أبي معيط، وحبيباً، وابن أبي سرح،
والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، فقد صحبتهم أطفالاً
ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال ... ) [16] .
إذا كانت هذه الرواية - وأمثالها كثير- لا تليق بمقام الصحابة فلا أدري لماذا
يكثر من ذكرها (ابن الأثير) ؟ دون أن يعلق على كثير منها.
فإن قيل: إن مجمل الروايات التي ساقها إنما سبقه بذكرها الإمام الطبري في
(تاريخه) وابن الأثير في (مقدمته) أبان أنه اعتمد فيما شجر بين الصحابة على
الطبري، فلا لوم عليه في ذلك؛ أجيب بأن هناك فارقاً في المنهج بينهما، فالطبري
وإن لم يعلق على هذه الروايات المنكرة فقد صرح في مقدمته أن في تاريخه ما
يستشنع وإن ذلك كان من قبل الرواة، ورأى الطبري أن إسناده كل رواية إلى
رواتها يعفيه من التبعة، ويجعل الحكم للقارئ يحكم معرفته بالرواة، والأمر يختلف
عند ابن الأثير الذي جعل من منهجه -أحياناً - الحكم على الروايات، والتعليق
على بعض الروايات، وكان جديراً به أن يعلق على هذه المرويات المنكرة، كما
صنع الحافظ (ابن كثير) الذي قال -في معرض حديثه عن هذه الروايات -: «ثم
ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم -يعني معاوية وأصحابه - وبين علي،
وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص
فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك [17] .
وحين تعرض لرواية أبي مخنف في لعن علي معاوية ومن معه، ثم لعن
معاوية علياً ومن معه، قال:
» ولا يصح هذا والله أعلم « [18] .
2- وفي الدولة العباسية، وحين حديثه عن الخليفة (المتوكل) قال:
وفي سنة 236 هـ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام،
وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع
الناس من إتيانه.. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام
ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أن يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم وكان
من ندمائه من يسخر من علي -رضي الله عنه- وقيل أن المتوكل كان يبغض من
تقدمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق في محبة علي وأهل بيته، وإنما
كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن
الجهم الشاعر الشامي من بني شامة ابن لؤي، وعمر بن فرح الرخجي، وأبو
السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالى بني أمية، وعبد الله ابن محمد بن
داود الهاشمي المعروف بابن أترجه، وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه
بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين
يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر فيه ما كان، فغطت
هذه السيئة جميع حسناته، وكان من أحسن الناس سيرة، ومنع الناس من القول
بخلق القرآن إلى غير ذلك من المحاسن) [19] .
وهذه الرواية حين نرجع إلى الطبري لا نجدها بهذا السياق، بل نجد الطبري
يكتفي بسياق الحادثة (هدم قبر الحسن وما حوله، وحرث وإسقاء فوضع القبر) [20] .
فلماذا أطال ابن الأثير في ذكرها مؤكداً على بغض المتوكل لعلي وأهل بيته،
بل كان يبغض من كان محباً لعلي من الخلفاء قبله؟ وهل صحيح أن» ندماء
المتوكل كانوا مشهورين بالبغض لعلي؟ وإذا كان الإمام أحمد من مستشاري ... المتوكل [21] فهل لهذا اكتفى بالإشارة إلى وفاته مجرد إشارة؟ ! [22] .
وعلى فرض تسليمنا بكون المتوكل فيه (نصب) [23] فهل يستحق من ابن
الأثير أن يقول عنه: «إن هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتله! ويقول: إن هذه السيئة غطت جميع حسناته؟ ! وهو الخليفة الذي أثنى عليه طائفة من
العلماء فقال: خليفة بن خياط (ت 240 تقريبًا) :
استخلف المتوكل فأظهر السنة - وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق
برفع المحنة وبسط السنة ونصر أهلها [24] . وقال ابن خلكان: رفع المحنة في
الدين وأخرج أحمد بن حنبل من الحبس وخلع عليه [25] . وقال ابن تيمية:
» وفي أيام المتوكل عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا
الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم « [26] .
ويقول ابن كثير:» إن السنة قد ارتفعت جداً في أيامه [27] . وقد استبشر الناس
بولايته فإنه كان محباً للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا
يتكلم أحد في القول بخلق القرآن [28] .
وكان محبباً إلى رعيته قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم
بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق ورد عليهم حتى رجعوا إلى الدين،
وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بنى أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة،
وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله.
هذه بعض أقوال العلماء في المتوكل، وإذا كان يظهر منها تتبعه لأهل البدع
وقمعهم فإن قمعه لبدعة (التشيع) ظاهرة، فقد كان يتبع أخبارهم ويطارد مشايخهم
في أقطار الخلافة، وتتبعه للشيخ (بشر الجعاب) الذي كان يظهر التشيع (بالدينور)
وله أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه، كما ذكر قصته مطولة ابن خلكان [29]
نموذج لهذا التتبع، ولعل هدمه لقبر الحسين من هذا الباب، والسؤال المطروح
لماذا تستثير مثل هذه الأعمال ابن الأثير إلى حد يقول معه إنها غطت جميع ... حسناته؟ !
وفي معرض حديثه عن (المعتضد) ذكر أنه عزم في سنة 286هـ على لعن
معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس. قال ابن
الأثير: (وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته، إلا أنه استدل فيه بأحاديث كثيرة
على وجوب لعنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تصح ... ) [30] وهذا
الكتاب ساقه (الطبري) بطوله في أحداث سنة 284هـ[31] وفيه من الغرائب
والأحاديث المنكرة ما لا يتصور، وفوق ما فيه من أحاديث منكرة فهو صريح في
لعن أبي سفيان وابنه معاوية، ويزيد، ومروان بن الحكم بن الحكم وولده وهم -كما
في الكتاب - أئمة الكفر، وقادة ضلالة وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول،
ومغيري الأحكام، ومبدلي الكتاب، وسفاكي الدم الحرام؟ ! ! [32] إلى غير ذلك
من شناعات يحار القلم في تدوينها، ويعجز اللسان عن النطق بها والعجب أن يقول
(ابن الأثير) أن الكتاب قد أحسن كتابته! ! وكان ينتظر منه أن يقول كما قال ابن
كثير: إن هذا من هفوات المعتضد [33] .
ثالثاً: تعاطفه مع الشيعة:
يظهر للمتأمل في (كامل ابن الأثير) تعاطفه مع الشيعة، أو من لهم ميول
(علوية) على الأقل، فتراه كثيراً يترجم للشيعة وخاصة (الإمامية) وربما ذكر بعض
معتقداتهم ولم يعلق عليها، ففي أحداث سنة 305هـ قال: وفيها توفي أبو جعفر
بن محمد بن عثمان العسكري رئيس الإمامية، وكان يدعي أنه الباب إلى الإمام
المنتظر ... [34] ، وكما صنع مع (ورام بن أبي فراس) [35] الذي توفي سنة
605 هـ وقال عنه ابن الأثير: وكان صالحاً [36] ويطيل في تراجمهم كما فعل
مع الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن زريك الأرمني وزير العاضد العبيدي،
والمتوفي سنة 556 هـ، والذي نص ابن الأثير على إمامته، وقال عنه: وكان
الصالح كريماً فيه أدب، وله شعر جيد، وكان لأهل العلم عنده إنفاق، ويرسل
إليهم العطاء الكثير، فذكر نماذج لها، ونماذج من شعره أيضاً [37] ، وفي ترجمته
للملك الأفضل (علي بن صلاح الدين) [38] أطال في ترجمته كذلك وامتدحه بأشياء
لم يسبغها على أبيه (صلاح الدين) [39] وهو أفضل منه ومما قاله في الأفضل: «
وكان رحمه الله من محاسن الزمان، لم يكن في الملوك مثله، كان خيراً، عادلاً،
فاضلاً، حليماً، كريماً، قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالباً.. إلى أن قال:
وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم
حرم الملك والدنيا، وعاداه الدهر، ومات بموته كل فعل جليل، فرحمه الله ورضي
عنه» [40] .
وتعاطف (المنتصر) العباسي مع العلويين [41] جعلت (ابن الأثير) يقول في
وصفه: كان المنتصر عظيم الحلم، وراجح العقل، غزير المعروف، راغباً في
الخير جواداً كثير الإنصاف، حسن العشرة، وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين - عليهما السلام - فأمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه وأطلق وقوفهم وأمر برد
فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب عليه السلام [42] بل نقل
عن بعضهم: إن المنتصر كان شاور في قتل أبيه (المتوكل) جماعة من الفقهاء
وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرها، فأشاروا عليه بقتله فكان
كما ذكرنا بعضه [43] .
وفي مقابل هذا التعاطف كان ابن الأثير يعرض ببعض أهل السنة الذين يرى
منهم انحراف عن علي -رضي الله عنه-، كما ذكر في ترجمته لمصعب ابن عبد
الله بن ثابت بن عبد الله بن الزبير [44] وفي حديثه عن الحسن ابن زيد بن الحسن
ابن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذكره فيمن توفي سنة168 هـ ثم قال عنه:
«وكان قتد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله وحبسه ببغداد،
وأخذ ماله فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله، وكان جواداً إلا أنه كان منحرفاً
عن أهل بيته مائلاً إلى المنصور» [45] .
وأخيراً فهذا ما تيسر الوقوف عليه في (الكامل لابن الأثير) ويبقى بعد ذلك
كلمة أراها مهمة في نهاية هذه الدراسة، وهي أن هناك صنفين من القراء قد لا
يستفيدون من هذه الدراسة الفائدة المرجوة:
الصنف الأول: يفهم هذه الدراسة فهماً قاصراً ينتقض هذا السفر العظيم
(الكامل) ، بل ربما وصل به الأمر إلى انتقاص (ابن الأثير) نفسه، نظراً لوجود
هذه الملاحظات عليه فلا يرى حاجة إلى الاستفادة منه، وإذا ذكر عنده اشمأزت
نفسه، وتمنى لو غيره ذكر! !
والصنف الثاني: على النقيض وهؤلاء بلغت بهم الثقة، ووصل بهم
الإعجاب مبلغاً لا يمكن أن يقبلوا معه نقداً صحيحاً -لا يقلل من قدر الكتاب، ولا
ينقص من قدر مؤلفه - بل يعتبرون هذا النوع من الدراسة هدماً لكتب التراث
وتجنياً على جهود الأسلاف ... إلى غير ذلك من التهم الباطلة.
والحق أن كلا الأمرين قصور في الفهم لا تهدف إليه هذه الدراسة التي أريد
منها مزيد الثقة بهذه النفائس من كتب التراث بعد إيضاح ما فيها من هنات لا يكاد
ينجو منها عمل البشر. والله المستعان.
__________
(1) انظر ترجمته في البداية والنهاية 13/133 وسير أعلام النبلاء 22/ 353.
(2) الكامل في التاريخ 8/664.
(3) الكامل 3/392، 393.
(4) أغا بزرك الطهراني: الأنوار الساطعة في المائة السابعة، ص 88.
(5) المرجع السابق، ص هـ، و.
(6) انظر الأنوار الساطعة/166.
(7) الأنساب 1/344، اللباب 1/84.
(8) ابن كثر: البداية والنهاية 13 /203.
(9) المصدر السابق 13/203.
(10) سير أعلام النبلاء 23/357.
(11) المصدر السابق 23/357.
(12) الكامل 1/5.
(13) الكامل في التاريخ 1/4-6.
(14) البداية والنهاية 13/203.
(15) الكامل في التاريخ 3/291.
(16) الكامل في التاريخ 3/316.
(17) البداية والنهاية 7/282.
(18) المصدر السابق 7/310.
(19) الكامل 7/55، 56.
(20) الأمم والملوك 9/185.
(21) انظر البداية والنهاية 10/358.
(22) الكامل 7/80.
(23) ذكره الذهبي: سير أعلم النبلاء 12/35.
(24) انظر سير أعلام النبلاء 12/31.
(25) وفيات الأعيان 1/351.
(26) الفتاوى 4/21، 22.
(27) البداية والنهاية 10/358.
(28) المصدر السابق 10/382.
(29) وفيات الأعيان 1/351.
(30) الكامل 7 /485.
(31) تاريخ الطبري 10/55-65.
(32) الطبري 10/62.
(33) البداية والنهاية 11/86.
(34) الكامل 8 /109.
(35) ورام هذا ذكره صاحب طبقات أعلام الشيعة (الأنوار الساطعة في المائة السابعة، ص 197) ، وانظر: لسان الميزان 6/218.
(36) الكامل 12/282.
(37) الكامل 11/274، 275.
(38) ذكر الذهبي تشيعه، فقال: وفيه تشيع بلا رفض سير أعلام النبلاء 21/295، كما ذكر تشيعه، ابن كثير في البداية والنهاية 13/104، والصفدي في: الوافي بالوفيات 12/234 واغا بزرك الطهراني في (طبقات أعلام الشيعة) (الأنوار الساطعة في المائة السابعة) ص 121.
(39) انظر ترجمته لصلاح الدين في الكامل 12/ 95، وما بعدها.
(40) الكامل 12/428، 429.
(41) انظر: سير أعلام النبلاء 12/42.
(42) الكامل 7/116، ويلاحظ أن ابن الأثير كلما جاء على ذكر علي أو أبنائه قال: عليه السلام، كما يلاحظ هنا تقديمه الحسين على الحسن؟ ! .
(43) الكامل 7/115.
(44) الكامل 7/57 ومصعب هذا أثنى عليه طائفة من العلماء ووثقوه، ولم يذكروا هذا الانحراف فيه، بل ذكروا توقفه في القرآن انظر: تاريخ بغداد 13/ 113، 114 سير أعلام النبلاء 11/30، ميزان الاعتدال 4/120، تهذيب التهذيب 10/163.
(45) الكامل 6/80.(12/73)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
حول الانتفاضة
حوار مع وفد مسلمي بريطانيا
في الفترة الواقعة بين 12-18 آذار (مارس) قام وفد من المسلمين البريطانيين
[المكون من: إبراهيم هيوت، وسليمان إيتم، وموسى باترسون، وعيسى دربي،
ومحمد عطاء الله، وعبد الله باول، وعبد الرحيم غرين، وصاحب مستقيم بليهر،
برئاسة الأخ يوسف إسلام] بزيارة لتفقد أحوال المسلمين في فلسطين المحتلة،
وكانت فرصة طيبة لمجلة «البيان» أن تلتقي مع بعض أعضاء هذا الوفد: الأخ
يوسف إسلام والأخ إبراهيم هيوت لتنقل للقراء انطباعات هؤلاء الأخوة عما يعانيه
الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما شاهدوه من أوضاعهم هناك.
وبعد الترحيب بهم وتهنئتهم بسلامة العودة كان هذا الحوار:
البيان: لاشك أن أحداثاً هامة جدت على الساحة الفلسطينية، هل كان ذلك
هو الدافع وراء زيارتكم لإخوانكم هناك؟
الأخ يوسف إسلام: لقد عزمنا على زيارة فلسطين إثر مشاهدتنا على شاشات
التلفزيون المعاملة الوحشية التي يعامل بها اليهود إخواننا وأخواتنا في الإسلام هناك، وخاصة بعد اقتحامهم المتكرر للمسجد الأقصى، لقد أثرت بنا تلك المناظر عميق
الأثر، حيث استحال بعد ذلك أن يقر لنا قرار، وأن نبقى عاجزين عن أي حركة،
لذلك صممنا على الذهاب إلى تلك البقاع، وزيارة إخواننا، وتقديم ما في طاقتنا من
مساعدة مادية أو معنوية.
أو على الأقل إحساسكم بضرورة إشعارهم بتعاطف ودعم إخوانهم خارج
فلسطين.
* نعم، مع أننا لم نكن نعلم في البداية أن الأخبار الخارجية تكاد تكون
معدومة، وقد تبين لنا فيما بعد أن اتصالهم بالعالم الخارجي ضئيل جداً، وأنهم
ليسوا على علم بما يجري خارج فلسطين، أو حتى في أماكن أخرى من فلسطين
نفسها، فالاتصالات الإذاعية والمنشورات الصحفية وغيرها معرضة لرقابة شديدة،
وكان علينا -كمسلمين بريطانيين نتمتع بما لا يتمتع به كثير من المسلمين وهو
حرية التنقل - أن نخترق هذا الطوق الحديدي، فنتصل بهم على أمل أن تطمئن
نفوسهم إلى أن لهم إخوة يشاطرونهم مشاعرهم.
أين أقمتم خلال هذه الزيارة؟
* لقد نزلنا في فندق بالقدس اسمه «مضافة الحجاج» وهو ملك لأحد
المسلمين، ثم انطلقنا من هناك في مختلف الاتجاهات.
هل يمكن أن تحدثونا عن جولاتكم هناك؟
* كان لنا برنامج عمل وضعناه، بمساعدة بعض الإخوة من الأوقاف (أوقاف
المسجد الأقصى) لقد قدموا لنا نصائح، ولأن الوقت قصير جداً فقد حرصنا على
استغلال كل دقيقة لزيارة أهم المناطق وتكوين فكرة عامة، فذهبنا إلى أمكنة كثيرة
في الضفة الغربية وغزة، ومسحنا مناطق: نابلس، رام الله، الخليل، أريحا،
الجليل.
لاشك أن الفلسطينيين يعانون كثيراً من الاحتلال الإسرائيلي فهل لمستم ورأيتم
شيئاً من هذه المعاناة؟
* لو نظرنا إلى الأمر نظرة عامة، فمنذ وصولنا تبين لنا بشكل واضح أن
اليهود يحاولون إحكام السيطرة على كل شبر، فلا يمكن لأحد أن يتحرك دون
ترخيص من اليهود، فالسيارات لها لوحات ملونة بألوان خاصة للتعرف ما إذا
كانت قادمة من الضفة الغربية أم لا، وليس باستطاعة أحد أن يتجول خارج الضفة
لأنه لو فعل ذلك لكان من السهل إيقافه، وهو معرض دائماً لمثل هذه الأسئلة: من
أنت؟ وإلى أين تقصد؟ وأين أوراقك الشخصية؟ ... الخ
وهم يسعون إلى إفساد برنامجك وخاصة إذا كنت مسلماً، عندما دخلنا وسط
الفلسطينيين رأينا تلك المنازل المتداعية الفقيرة، فسألنا عن أصحابها فعلمنا أنهم
مسلمون، فسألنا: لماذا لا يعاد بناؤها؟ فكان الجواب أنه ليس لهم الحق في إعادة
بنائها، ولو حاولوا الحصول على تصريح بإعادة البناء لما استطاعوا، حيث إنه
من رابع المستحيلات الحصول على هذا التصريح، فالعقبات الإدارية معقدة جداً،
وأخيراً وبعد ضياع وقت طويل يكون الجواب: لا، ليس لك الحق في البناء وقد
يحدث أن يحصل البعض على الموافقة، ولكن هذا صعب ونادر جداً.
إلى جانب ذلك ترى مدناً هائلة حديثة البناء ومجهزة بأحدث التجهيزات
والمرافق، وقد اختيرت لها الأماكن الاستراتيجية فبدت كالقلاع الحصينة فتسأل
عنها فيقال لك: إنها المستوطنات! كنا نظن أن المستوطنات عبارة عن مخيمات
مؤقتة متواضعة ولكن هذا الظن زال عندما رأيناها رأي العين، والأنكى من ذلك أن
هؤلاء الفلسطينيين الذين لا يسمح لهم بإعادة بناء بيوتهم المتهدمة هم الذين يبنون
تلك المدن المحصنة الحديثة (المستوطنات) ، إذاً ماذا يفعلون وقد سدت إسرائيل في
وجوههم كل طرق الرزق وألجأتهم إلى العمل في خدمتها؟ ! إن ما رأيناه من
مفارقات هناك غريب وخارق للعادة حقاً.
ومع كل هذا الوضع المأساوي ترى الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح
يتبخترون بخيلاء وبطر ويضحكون من المسلمين وإذا رأوا أحداً فليس غريباً أن
يخاطبه أحدهم: هيه، أنت، خذ هذه الحجارة وارمها هناك، ونظف هذا المكان
وإذا خالفهم انهالوا عليه بالضرب وأنواع الإهانات!
لقد ذهبنا للصلاة في المسجد الأقصى، وعلى الرغم من فرحنا بذلك لكننا كنا
نشعر أننا محاصرون من كل جانب وخاصة يوم الجمعة، فعدسات التصوير
وكاميرات الفيديو منصوبة في كل جانب من جوانب المسجد الأقصى تراقب
المصلين والداخل والخارج، والجنود فوق السطوح وفي ساحة المسجد، والطائرات
العمودية تحوم حول وفوق منطقة الحرم، ومقابل المسجد تبدو الجامعة العبرية على
التل وقد نصبت فيها أجهزة التصوير وأجهزة التنصت، هكذا تحس طيلة وجودك
هناك أنك محاصر، وبعد الصلاة يبدأ الأطفال بالتكبير (الله أكبر) ثم الرجال ثم بعد
ذلك النساء، إنها مأساة إنسانية لا توصف وليس لها نظير في العالم تحدث كل يوم
جمعة، يلي ذلك هدير الطائرات العمودية وصوت آلات التصوير التي تلتقط صور
هذا المشهد.
ماذا عن السجون الإسرائيلية؟
* لقد ذهبنا إلى نابلس حيث وقعت اضطرابات كبيرة والتقينا مع بعض
الأخوة الذين كانوا في السجن فرووا لنا ما يجري في السجون وطبيعة المعاملة التي
لاقوها في السجن، لقد قضى بعضهم 16 عاماً وبعضهم 7 سنوات، وقد وصفوا لنا
سياسة التجويع التي تفرض عليهم في السحن، وكذلك حشر العدد الكبير في مكان
لا يتسع إلا لواحد فقط! لقد أغلقت المدارس وعطلت لتتحول إلى سجون، 8 آلاف
سجين باعتراف اليهود أنفسهم، هل تصدق؟ بالإضافة إلى الجنود الذين يعيثون
فساداً فيغيرون على المنازل ليلاً يكسرون النوافذ والأبواب ويحطمون الأثاث ثم
يذهبون ...
هل لاحظتم آثاراً للتوجه الإسلامي في الانتفاضة؟
* لاشك أن الإسلام يشكل محركاً أساسياً وقوياً لهذه الانتفاضة، فالشعب
الفلسطيني في غالبيته شعب مسلم ولابد له أن يستوحي عوامل الإصرار والصمود
في وجه العدو من عقيدته وثقافته، وقد كان المنطلق الأساسي لهذه الانتفاضة من
المساجد، وكذلك فإن ملاحظة شيوع الحجاب الإسلامي بين النساء هناك، في
الضفة وغزة تدل على أثر إسلامي واضح.
ما مظاهر التمييز التي يقوم بها اليهود ضد المسلمين؟
* هناك مؤسسة إسلامية في غزة تدير مأوى للعجزة وكبار السن وكان من
شأنها أن أمر الحاكم العسكري حظر جمع التبرعات لهذه المؤسسة، وأمر بإغلاق
المأوى وهكذا هام هؤلاء العجزة على وجوههم بدون مأوى ولا حماية، بينما رأينا
على مسافة أمتار قليلة من المأوى المغلق مؤسسة مسيحية لها كل صلاحيات التوسع
والتسهيلات، بل هناك منظمة شيوعية! أما إذا كان الأمر يتعلق بمنظمة إسلامية
فإن أشد القرارات وأكثرها إجحافاً تتخذ ضدها.
هل شعرتم أن موقفكم تبدل بعد اطلاعكم المباشر على الأحداث هناك؟
* نعم، تصورنا الأساسي لحقيقة اليهود تغير جذرياً، فقد كنت أظن - كمسلم
بريطاني - أن اليهود ليسوا بهذه الصورة من الفظاعة، ولكن بعد أن رأيتهم بأم
عيني فيمكن أن أعتبرهم أقسى الناس قلوباً وأشدهم وحشية، وإلا فما جريمة العرب
المسلمين في فلسطين تجاه اليهود، هل نكلوا بهم كما فعل فيهم في دول أوربا؟
وهل كانت فلسطين في أيديهم فجاء الفلسطينيون فانتزعوها منهم؟ ! أم أن جريمة
أهل فلسطين أنهم من حملة رسالة آخر الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى
البشرية.
إنهم يقدمون أنفسهم إلى الغرب على أنهم هم الدولة الديموقراطية الوحيدة في
الشرق الأوسط في حين أن كل الدول المحيطة بها دول دكتاتورية!
* إن الدعاية السياسية الرهيبة والتي يتحكمون بها هي التي تجعل الغربيين
يتقبلون هذا التزوير، وإن أفضل طريقة لمقارعة اليهود هي الإسلام، لا السياسة
ولا الدعاية، ولا المال، الإسلام فقط، فهو أكبر خطر يتهددهم ويرعبهم.
هل الدوافع التي تجعل مسيحي الغرب يقدمون المساعدات الكبيرة لليهود هي
اشتراكهم في ثقافة واحدة أم هو التعصب ضد المسلمين والتأثر بدعايات اليهود؟
* إننا نعتقد أن هذا التآمر من قبل اليهود والذين يدعمونهم ليس إلا استمراراً
للحروب الصليبية والحملات الاستعمارية ضد المسلمين، وهي شكل جديد يعتمد
على تجزئة العالم الإسلامي وتفتيته، وهي حلقة من المخطط العام، وهم بزرعهم
إسرائيل في فلسطين تمكنوا من طعن العالم الإسلامي في الصميم، وجعلها عامل
عدم استقرار دائم يستنفذ الطاقات وينشر الفتن، وإن مشكلة فلسطين تبقى المشكلة
المركزية للعالم الإسلامي، ولا تقارن أي مشكلة إسلامية أخرى بها أبداً.
بالنسبة لك كمواطن بريطاني تمكن من زيارة فلسطين ما هي رؤيتك لدورك،
أنت وبقية المسلمين هنا في بريطانيا؟
* أولاً: إطلاع الناس على مشاهداتنا، والتعبير عن مشاعرنا، وذكرياتنا مع
إخواننا الواقعين تحت الهيمنة الإسرائيلية والمحاصرين من كل جانب، وسنحاول
مساعدتهم على قدر طاقتنا عن طريق جمعيتة الإغاثة الإسلامية، وعن طريق إلقاء
المحاضرات والتصريحات.
هل كانت لكم مناقشات مع بعض الإخوة، وهل قدموا لكم بعض الآراء؟
* لقد حدثونا عن تجاربهم المريرة تحت نير الاحتلال وما يتعرضون له من
محن. فالحياة اليومية عندهم صراع دائم من فقد أبنائهم ومن إتلاف متاعهم، ومن
سوء المعاملة التي يلقونها من العدو، وكأن لسان حالهم يطلب أن ننقل هذه الصور
السوداء عن معاناتهم إلى ما وراء حدود فلسطين، إلى جميع بلدان؟ ! العالم، فهم
مدركون لأثر النشاط الإعلامي، وهاهم اليهود يستغلون كل الأكاذيب وكل أساليب
الدعاية من أجل أن يلفتوا نظر العالم إليهم.
نتقدم بالشكر لأعضاء وفدكم الكريم، ونحيي فيكم هذا الاهتمام بأوضاع
المسلمين في فلسطين المحتلة، ونرجوا من الله سبحانه وتعالى أن نلتقي دائماً على
ما فيه مصلحة المسلمين وعزتهم. وأن تكون أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.(12/84)
نداء لإغاثة المسلمين في لبنان
إن المتتبع لأخبار (لبنان) هذا البلد المنكوب بحرب قذرة خطط لها من قبل
القوى الكبرى وإسرائيل، وشارك أباطرة الطوائف في تأجيجها حتى أكلت الأخضر
واليابس. إن المتتبع لهذه الحرب لا يسعه إلا أن يرى أن الفئة الوحيدة المغبونة
والتي تدور الحرب على رؤوسها هم أهل السنة فهم الذيتن ضربوا في بيروت
وطرابلس وصيدا والمخيمات الفلسطينية، وهم المعزولون عن القرار السياسي،
وهم الذين تضرروا أكثر متن غيرهم من الدمار الاقتصادي الذي حاق بلبنان، فكل
الفئات الأخرى تقدم لها المساعدات الكبيرة من دول عربية وأجنبية، ومن الأمثلة
على ذلك أن ما تنفقه إيران على شيعة لبنان يزيد تقريباً على خمسين مليوناً من
الدولارات شهرياً، وليست المساعدات المادية فقط هي التي تقدم للطوائف الأخرى، بل إن التخطيط المعادي للإسلام مكنهم من السيطرة على مناطق مهمة في لبنان
فأقاموا فيها دويلاتهم، وهذا ما مكنهم من ابتزاز الأموال والتلاعب بمقدرات الناس [1] وقد أشارت الصحف كثيراً إلى مثل هذه الأمور، وأصبح زعماء الطوائف لا
يستحون من التصريح بها، ومنذ بدء الحرب في لبنان وحتى كتابة هذه الأسطر فقد
حرص اليهود والأمريكان والسوفييت والنصارى وأشباههم في المنطقة العربية على
أن يبقى أهل السنة كالأيتام على موائد اللئام، ولطالما اجتمعت هذه القوى الكافرة
المجرمة ووقفت في خندق واحد لتبطش بالمسلمين في كل مكان.
وكان من آثار التدهور الاقتصادي المريع في لبنان أن المسلمين ازدادوا فقراً
في حين ازدادت الطوائف الأخرى ثراءً لأنهم من تجار الحروب، ونحن من خلال
المؤسسة التي تصدر مجلة البيان (المنتدى الإسلامي) قمنا بدور متواضع في مساعدة
إخواننا المسلمين في لبنان، ولكن حاجتهم أكبر من طاقتنا، ومن يطالع الصحف
ويستمع إلى وكالات الأنباء يحترق قلبه ألماً مما يسمع ويقرأ عن الأطفال الجياع
والرجال الذين يراد لهم أن يكونوا أذلاء، أمام هذه المناظر المفجعة وانطلاقاً من
شعورنا بألم إخواننا فإننا ندعوا المحسنين إلى البذل والإنفاق وليذكروا دائماً قوله
تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [البقرة: 261] .
وليذكروا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلمون كالجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» .
فأين أنتم يا أبناء الجسد الواحد؟ تذكروا عندما تجلسون مع أطفالكم أن هناك
في لبنان أطفالاً لا يجدون رغيف الخبز، تذكروا أن هناك نفراً من المسلمين تستغل
أوضاعهم من أجل إخضاعهم ويتحكم في مصائرهم كما يتحكم بالسوام من البهائم.
ونحن في (المنتدى الإسلامي) نرسل بانتظام مساعدات إلى المسلمين في لبنان،
ومن يرغب في المساهمة في هذا الخير فيمكن أن يرسل إلى العنوان المبين في
نهاية هذه الصفحة في لندن ويذكر فيه أن هذا المبلغ مخصص للبنان، وليكن
مطمئناً أن هذه الأموال تأخذ طريقها إلى الأفواه الجائعة والأجسام العارية وتوزع
حسب موازين شرعية ليس فيها إن شاء الله هوى أو تفرقة.
AL-MUNTADA AL-ISLAMI TRUST
National WEST MIN STER BANK
FULHAM BRANCH
ACCOUNT NO: 44348452
831 FULHAM ROAD
LONDON SW6 UK
__________
(1) أقاموا مرافئ يستوردون ويصدرون عن طريقها كل الأشياء الممنوعة كالأسلحة، والمخدرات التي ازدهرت مزارعها والتعامل بها في ظل هذه الفترة السوداء.(12/90)
هزيمة جديدة لأثيوبيا
حققت جبهة تحرير أريتريا نصراً كبيراً على صعيد القتال الطويل ضد
الجيش الأثيوبي وذلك حينما تمكن مقاتلوها من دحر الأثيوبيين عن مدينة (أفابيت)
البالغة الأهمية في هجوم مباغت شنوه في 17/3/1988 موقعين في صفوفهم أبلغ
الإصابات وأجسمها على الإطلاق منذ اشتعال نار الحرب هناك منذ ما يربو على
ربع قرن.
وقد أكد صحافيون غربيون - زاروا المعركة - ما أعلنه المقاتلون من
تحريرهم للمدينة المذكورة، ورووا ما شاهدوه من مناظر مروعة على سفوح التلال
المحيطة بالمدينة تدل على فداحة الهزيمة التي لحقت بالأثيوبيين في هذه المعركة
لوحدها.
ويرى السالك للطرق المؤدية إلى (أفابيت) سيلاً من سيارات الشحن العسكرية
الأثيوبية- التي غنمها المقاتلون - المدججة بالذخيرة إلى جانب مئات المدافع
ومنصات إطلاق الصواريخ والدبابات التي بلغ عددها (60) دبابة حسب مصادر
الجبهة.
فقد ولى الأثيوبيون مدبرين دون أن تتوفر لديهم الفرصة حتى لاصطحاب
أسلحتهم معهم. كما تمكن الأرتيريون من أسر أعداد كبيرة جداً من الجنود
الأثيوبيين بلغت (18 - 20) ألف. كما وقع في قبضتهم ثلاثة من المستشارين
العسكريين الروس أحدهم برتبة عقيد. وفي تطور آخر تمكن الأرتيريون من إزاحة
القوات الأثيوبية عن منطقة شمال بحري في 22/4/1988 مكبدين إياهم (1085)
إصابة بينها (530) قتيل، كما قصفت مدفعيتهم ضواحي مدينتي كون وأسمرا
عاصمة أريتريا، كما أنهم أعلنوا استعادتهم لمدينة أجاردات الواقعة في غرب الإقليم. وتبدو حكومة أديس أبابا -بعد الهزائم التي منيت بها- في حاجة أكثر من أي وقت
مضى إلى تحقيق نصر مهم على صعيد القتال وذلك أملاً في استعادة ما فقدته من
مواقع بالغة الأهمية، إلى جانب النهوض بمعنويات جيشها المنهارة.
وقد أقدمت حكومة أديس أبابا على اتخاذ خطوات في اتجاه الإعداد لهجوم
معاكس كبير، من بينها إعادتها للعلاقات الدبلوماسية مع الصومال الأمر الذي أتاح
لها فرصة سحب ألوف من قواتها المرابطة على الحدود هناك وزجها في الجبهة
الشمالية. أما على الصعيد الإعلامي فقد امتلأت الصحف الأثيوبية بالنداءات التي
تحث الشباب على الانخراط في صفوف الجيش استعداداً لسحق المتمردين على حد
زعمهم. وتقول مصادر دبلوماسية غربية أن (منغستو هيلا ماريام) رئيس النظام
الأثيوبي ربما يكون قد تمكن من حشد ما بين (100-150) ألف مقاتل معظمهم في
مقتبل العمر. ومن جهة أخرى وكخلق شيوعي مألوف، لجأ ماريام إلى استخدام
سياسة التجويع في المناطق الدائر فيها القتال وتمثل ذلك بطرده للعديد من هيئات
ومنظمات الإغاثة الدولية العاملة هناك، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى مضاعفة
كوارث المجاعة التي تعاني منها المنطقة أصلاً.
إلا أنه على الرغم من كل تلك الاستعدادات، فإن دبلوماسيين غربيين لا
يرون في الجيش الأثيوبي المقدرة على تحقيق تقدم عسكري يذكر ضد الأريتريين،
بل على العكس من ذلك فإن مستقبل ماريام السياسي -حسب تقديراتهم - سيكون
متوقفاً على نتيجة ذلك الهجوم المزعوم
ومما تجدر معرفته أن الجيش الأثيوبي يعد ثاني أكبر جيش في القارة
الأفريقية من حيث العدد كما أنه يأتي بالمرتبة الثانية من حيث العدة بعد جيش
جنوب أفريقيا، فقد أغدقت عليه أمريكا منذ منتصف هذا القرن ما قيمته بلايين
الدولارات من المساعدات العسكرية ومثلها فعلت روسيا في أعقاب قيام الثورة
الشيوعية عام 1974 حينما تنكرت للأريتريين وانقلبت ضدهم طمعاً فيما حصلت
عليه فيما بعد من تسهيلات عسكرية في أرخبيل دهلك، ومن تغلغل في القارة
الأفريقية.
لمحة موجزة عن تاريخ أرتيريا الحديث:
تشغل أرتيريا مسافات طويلة من الساحل الغربي للبحر الأحمر، ويعتبر
ميناءا «مصوع» و «عصب» فيها من أهم الموانئ عليه، كما يعتبران المنفذ
البحري الوحيد لدولة أثيوبيا على البحر المذكور.
احتل الإيطاليون أريتريا عام 1890 م وأطلقوا عليها اسمها الذي تعرف به
اليوم، ومكثوا فيها حتى أخرجهم الإنكليز منها بعد انتصارهم عليهم في الحرب
العالمية الثانية عام 1941 م، ولقيت دولتا الاحتلال (إيطاليا وبريطانيا) من أهالي
أريتريا مقاومة شديدة منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه أقدامهم أرضها ولم يتمكنا
طيلة فترة تواجدهما هناك من إحكام السيطرة عليها.
وإبان فترة الاحتلال تلك نشأت بين الأريتريين عدة فئات سعت إلى إجلاء
القوات الغازية عن بلادهم وكان من بين تلك الفئات فئة أطلق عليها في حينها
الرابطة الإسلامية اتخذت من عرب أريتريا قاعدة انطلاق لها، ومما تجدر معرفته
أن هذه الفئة أو الجماعة كانت الوحيدة على الساحة التي انفردت دون غيرها عن
الفئات بمطلب استقلال أريتريا المطلق ولم تكن لها أية صلات مع سلطات الاحتلال
أو مع أثيوبيا على خلاف البقية.
وفي نهاية الأربعينيات شهدت أريتريا أحداثاً ساخنة فقد كانت مسألة مستقبلها
السياسي موضوع الساحة لدى الدول القوية الأربعة (فر نسا، بريطانيا، روسيا،
أمريكا) الذين منهم تشكلت لجنة لتسوية قضيتها. وبعد خلاف وجدل طويلين وافقت
الأمم المتحدة-تحت ضغوط اللجنة-على تبني حلى وسط يأخذ بالاعتبار مصالح
أثيوبيا الإقليمية والاقتصادية في المنطقة وينص على دخول أريتريا في اتحاد
كونفدرالي مع أثيوبيا على أن يكفل ذلك الاتحاد حقوق أريتريا كاملة بما في ذلك حق
إنشاء حكومة محلية تتولى الإشراف على إدارة كافة شؤون البلاد باستثناء شؤون
الدفاع التي نص القرار على إبقائها بيد حكومة أديس أبابا. إلا أنه ما أن دخل عام
1955 م حتى كان الدستور الأثيوبي قد شهد تغيرات جذرية لم تدع معها إلا جزءاً
ضئيلاً جداً من الحقوق التي نص عليها قرار الأمم المتحدة المذكور، فلم تعد
الحكومة الأريترية قادرة على اتخاذ أبسط القرارات المحلية إلا بإذن مسبق من
حكومة أديس أبابا. وفي شهر أيار من عام 1960 م صوت مجلس الشعب
الأريتيري وبالإجماع! ! على إعادة تسمية الحكومة الأريترية باسم الإدارة
الأريترية، ويعلم الأريتيريون جيداً أن قرارا كهذا ما كان ليتخذ لولا الضغوط
الشديدة التي مارستها الحكومة الأثيوبية. وجاء عام 1962 م ليشهد قطف ثمار تلك
الضغوط وذلك بضم أريتريا رسمياً إلى أثيوبيا وإعلانها الإقليم الرابع عشر فيها.
ولا تخلو ألاعيب سياسية واستهتار بحقوق الشعوب كهذا من دور بريطاني في
العادة، فقد كان المندوب السامي البريطاني في أريتريا - وكان يهودياً - في الفترة
التي سبقت قيام إسرائيل وراء إقناع هيلا سيلاسي إمبراطور الحبشة آنئذ بضم
أريتريا إلى ملكه وجعلها منفذاً مستقبلياً وحيداً للدولة اليهودية - التي كانت تهم
بريطانيا بإقامتها في فلسطين -على قارة أفريقيا، ومن هنا تتضح حوافز بريطانيا
في الأمم المتحدة وراء ضم أريتريا.
وفي مطلع الستينيات وفي ظروف كهذه التي شهدت نقضاً للعهود وسلباً
للحقوق انبثقت جبهة التحرير الأرتيرية وكان أبناء أريتريا المسلمون شعلتها الأولى، فعلى أكتافهم قامت وبأيديهم سطرت الملاحم الأولى، فقد أدركوا ومن الوهلة
الأولى أن هيمنة الفئة الصليبية الحاكمة في أديس أبابا [1] سيعنى في المستقبل
القريب اجتثاثهم من دينهم ولغتهم وتقاليدهم، ولم يخطئ المسلمون الأريتريون الظن
بأعدائهم، فمنذ ذلك الحين ومجازر الأثيوبيين في حق العزل منهم والاعتداء على
حرائرهم لا تعرف لها حدود.
لقد سلب المسلمون هناك من كل حقوقهم حتى لغتهم لم يعد لها وزن يذكر في
كثير من جوانب الحياة بما في ذلك التعليم، هذا على الرغم من أن الأريتريين
يشكلون نسبة لا يستهان بها من مجموع السكان البالغ حوالي 30 مليون. إلا أن
الحكومة تحاول إظهارهم أمام العالم بمظهر الأقليات الصغيرة زاعمة أنهم لا يشكلون
سوى نسبة بسيطة من المجموع العام للسكان، علماً أنه لم يعرف عن الحكومة
الأثيوبية قيامها في يوم ما بإجراء عملية إحصاء للسكان يتبين من خلالها نسب
الطوائف المختلفة في البلاد.
__________
(1) يشكل المسلمون ما يقرب من نصف سكان أثيوبيا.(12/92)
المسلمون في الاتحاد السوفييتي
منذ مدة ووسائل الإعلام على اختلافها تتناقل أنباء القلاقل وموجات الاحتجاج
العرقية التي تسود عدداً من جمهوريات ما يسمى بالاتحاد السوفييتي، ذلك «الاتحاد»
الذي يضم أكثر من مائة طائفة عرقية تتحدث بما لا يقل عن ثمانين لغة، وتكتب
بما يزيد على ثمانية عشر نوع من الحروف الأبجدية، وتدين بديانات شتى، بل إن
أتباع الدين الواحد متفرقون إلى عشرات الملل المختلفة، فملل النصارى- على
سبيل المثال لا الحصر -تربو على (152) ملة.
بنية غريبة تدفع للتساؤل حقاً؛ إذا كان هذا هو مدى التباين بين شعوب هذا
الاتحاد، فعلى أي من أسس الوحدة ينهض هذا الكيان إذاً؟ ! !
ولرب قاسم مشترك يجمع بين هذه الشعوب والنحل ألا وهو أمنية الفكاك من
هيمنة الماركسية الحمراء التي ابتليت بها منذ ما يربو على نصف قرن.
فمنذ ما يقارب العام ونصف العام وزعماء الكرملين يواجهون ظاهرة جديدة لم
يألفوها من قبل تمثلت في اندلاع أعمال الشغب ومظاهرات اتخذت من جمهوريات
لاتفيا، لتونيا، كازاخستان، أستونيا، أذربيجان، وأرمينيا مسرحاً لها، راوح فيها
المتظاهرون في مطالبهم بين مطالب بمنح مزيد من الحريات، إلى داع إلى حكم
ذاتي، إلى ثالث يطالب بانفصام تام عن هذا الاتحاد كما حصل في جمهورية
كازاخستان المسلمة في أواخر عام 1986م.
ولعل حديثاً عن شعوب غير مسلمة هناك لا يهمنا كثيراً - نحن المسلمين -
بقدر ما تهمنا أحوال إخواننا المسلمين في الجمهوريات المسلمة القابعة تحت نير
الشيوعية.
إلا أنه على الرغم من كل ما حدث في تلك الجمهوريات من خروج على
طاعة الكرملين؛ مما يمكن اعتباره نقطة انقلاب في منحنى هيمنة هذه
الإمبراطورية ونفوذها، غير أن الخطر الحقيقي في حسابات الرفاق في موسكو،
والذي قد يزعزع كيانهم؛ بل ويقوضه يوماً ما هو ذلك القادم من صوب جمهوريات
آسيا الوسطى المسلمة المبتلاة بحكمهم البغيض، ذلك الخطر المحدق المنبعث من
تشبث شعوب تلك الجمهوريات المستمر بدينها، على الرغم من محاولات حوالي
ثلاثة أرباع قرن من الزمن لثنيهم عن ذلك.
ولعل هذا هو السبب الذي دفع زعيم الكرملين الحالي إلى شن حملته الهوجاء
على المسلمين الملتزمين قبل ما يقرب من عام ونصف عند توقفه في جمهورية
كازاخستان وهو في طريقه إلى الهند، حينما شدد على ضرورة القضاء على كل
الظواهر الدينية (يقصد الإسلامية) والعمل جدياً على نشر الأفكار الإلحادية، كما
وجه اللوم إلى بعض الكبار من مسؤولي الحزب ممن وصفهم بالفشل في ترسيخ
مبادئ الحزب، والذين كانوا -على النقيض من ذلك - يساهمون في بعض
المناسبات الدينية، بل ويدعون إليها أحياناً. ولعل زعيم الكرملين يشير بخطابه
ذلك إلى ظاهرة اكتظاظ المساجد بالمصلين الآخذة بالاضطراد، لا سيما في المساجد
غير الرسمية، والتي غالباً ما يتخذها المسلمون في منازلهم وبشكل يصعب على
أجهزة الأمن مراقبتها.
وتسلك السلطات الشيوعية في محاربتها لهذه الظواهر مسلك الجد، فكثيراً ما
أُقصي مسؤولون كبار عن مناصبهم لأسباب بسيطة لا تتجاوز قيام بعضهم بإحياء
حفلات في مناسبات دينية، كمناسبة حلول شهر رمضان مثلاً! ولا تخفي السلطات
الشيوعية قلقها حيال تزايد معدل الولادات لدى المسلمين في هذه الجمهوريات والذي
قد يفوق مجموع معدل الولادات في باقي الجمهوريات مجتمعة - بما في ذلك روسيا - مع حلول نهاية هذا القرن، في الوقت الذي فشلت فيه كل الجهود التي بذلتها
الحكومة لإقناع الأمهات الروسيات - على وجه الخصوص - لزيادة الإنجاب إلى
أكثر من اثنين، علماً بأن معدل الإنجاب لدى الأمهات المسلمات تجاوز الخمسة،
وكثيراً ما تحوز أمهات مسلمات على جائزة الأمومة لإنجابهن عشرة أبناء. وتنبع
مخاوف الحكومة الروسية من كون أن كبريات مرافق الدولة وفي مقدمتها الجيش
والمؤسسات الاقتصادية آخذة في الاعتماد وبشكل مكثف على الشبان المسلمين في
إدارة شؤونها، هذا بالإضافة إلى أن نسبة بسيطة جداً من هؤلاء الشبان يحسنون
اللغة الروسية، في حين أن الغالبية العظمى منهم لا تأبه بتعلّمها على الإطلاق مما
يجعل أمر ولائهم للإمبراطورية الروسية موضع شك متزايد لدى الزعماء الروس،
في وقت تتناقص فيه نسبة الأغلبية الروسية في ما يسمى بالمجتمع السوفييتي بشكل
قد يهبط إلى مادون نسبة إلى 48% مع حلول عام 2000 م. في حين تشير
إحصائيات عام 1979 م أن عدد المسلمين في أنحاء الإمبراطورية قد جاوز الـ
43 مليوناً، وأنه مع حلول عام 2000 م سيشهد الاتحاد السوفييتي ولادة طفل مسلم
كل ثانية وهو ما يشكل نصف معدل المواليد لدى الطوائف الأخرى مجتمعة، وإذا
ما تذكرنا هذا الكم الهائل من المواليد لدى المسلمين وتذكرنا أن هؤلاء المسلمين
مازالوا - وبعد مرور أكثر من نصف قرن على احتلال روسيا لبلادهم - في معزل
شبه تام عن الجنس الروسي وباقي الطوائف، لاسيما في الجانب الاجتماعي من
حياتهم، وأن هؤلاء المسلمين مازالوا يكنون الود لإخوانهم في البلاد المسلمة
المجاورة كأفغانستان، ويتحمسون لظهورهم على أعدائهم، الأمر الذي يقلق موسكو
كثيراً؛ ارتسمت لدينا أبعاد القلق الذي يساور الشيوعيين حيال مستقبل
إمبراطوريتهم، كما تبين لنا خطورة الدور الذي يمكن أن يلعبه أولئك المسلمون -
لو اتحدوا - في تقويض صرح أكبر دولة استعمارية همجية عرفها العصر الحديث، والله غالب على أمره.(12/97)
أخبار حول العالم
الجهاد الأفغاني
تمكن المجاهدون الأفغان من حسم أهم معركة استراتيجية لصالحهم منذ بداية الغزو الشيوعي الروسي لبلادهم قبل ما يقرب من تسعة أعوام وذلك بتحريرهم
لحامية باركوت الواقعة في إقليم كونار بعد حصار مستمر لها دام ثمانية سنوات.
وقد جاء سقوط باركوت ليكون الرابع من نوعه خلال أسبوعين عقب سقوط
(معروف، أتاغار) وليسجل رقماً قياسياً في عدد سقوط المواقع ذات الأهمية
الاستراتيجية في فترة وجيزة كهذه، ويضع المراقبون العسكريون معنويات الجيش
الأفغاني المتداعية سبباً رئيسياً وراء سقوط الحاميات تلك.
وتمثل حامية باركوت الحصينة بوابة الدخول إلى إقليم نورستان، وكانت فيما
مضى تستخدم لقطع طرق إمداد المجاهدين القادمة من باكستان، وبناء على ما تقوله
مصادر موثوقة لدى المجاهدين فإن عشرين طائرة عمودية روسية قامت بعملية
إخلاء أعضاء الحزب الشيوعي من بين (700) رجل يقومون بالدفاع عن الحامية،
كما ذكر قائد عمليات المجاهدين هناك أن ما يزيد على (300) فرد من الجيش
الأفغاني لجأوا إلى صفوف المجاهدين خلال المعركة.
ومن جهة أخرى فإن حكومة كابول باتت تعيش شبح أجواء الفترة التي
ستعقب انسحاب الروس وتوقف مساعداتهم العسكرية لاسيما سلاح الطيران، ومع
أنه من المتوقع أن يترك الروس وراءهم العديد من الطائرات وآلات الحرب
الأخرى إلا أن النقص الشديد في عدد الطيارين الأفغان وطواقم الصيانة سيجعل
استخدام سلاح الطيران بشكل فعال خياراً مستحيلاً أمام كابول.
وتهم كابول - وفق خطة دفاعية استراتيجية رسمتها موسكو لها - بسحب
قواتها إلى داخل المدن الرئيسية ومحاولة الاحتماء فيها أمام ضربات المجاهدين. إلا
أن المتتبعين لتطورات الوضع هناك يرون أن تحول معنويات الجيش الأفغاني
المنهارة دون نجاح تلك الخطة.
ديلي تلغراف 25/4/1988
الأندبندنت 26/4/1988(12/101)
على الرغم من عداء السوفييت لكل الأديان..
لكن عداؤهم للإسلام أشد
يقول قسطنطين خارتشوف رئيس مجلس إدارة الشؤون الدينية التي تقدم
تقاريرها إلى الحكومة السوفييتية (وهو رجل معروف باعتداله) :
... إن قادة الحزب الشيوعي المحليين قد انساقوا وراء عاطفتهم أكثر من
اللازم أحياناً لإكراه الناس على الإلحاد، وبناء على الأرقام التي نشرت للمرة
الأولى في الاتحاد السوفييتي في شهر نوفمبر (1987) فإن عدد المؤسسات الدينية
المعترف بها قانونياً تقلص بنسبة 34% خلال ربع القرن الأخير، حيث إن عددها
الحالي يصل إلى حوالي 15 ألف.
ومن أكبر الأديان التي تضررت الإسلام مما أدى إلى انتشار الملالي سرياً في
آسيا الوسطى انتشاراً واسعاً، وهم يسببون مشاكل للحكومة! .
وتتعرض شعائر وطقوس العبتادة لتدى المسلمين إلى هجوم قوي في وسائل
الإعلام في جمهوريات آسيا الوسطى.(12/102)
احتدام شدة المعارك في أرتيريا
في الوقت الذي تستعد فيه أديس أبابا لاستضافة احتفالات الذكرى الخامسة
والعشرين لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية (23-26/5/1988) باتت على وشك
فقدان السيطرة التامة على إقليمي أرتيريا وتيجري الشماليين في خضم حربها مع
أهالي الإقليمين.
فقد فقدَ الجيش الأثيوبي السيطرة على الطريق الرئيسي الموصل بين أديس
أبابا والبحر الأحمر بالإضافة إلى تقهقره عن العديد من المدن الرئيسية خلال الفترة
الممتدة من شهر شباط المنصرم حتى الآن. وقد كانت الحكومة الأثيوبية قد أمرت
جميع الأثيوبيين في منتصف شهر أيار (مايو) بالتبرع بمرتب شهر واحد وذلك
مساهمة في دعم المجهود الحربي، كما أعلنت حالة الطوارئ في الإقليمين
المذكورين، ورفعت شعار: كل شيء من أجل الحرب. وتبدو حكومة أديس أبابا
المركزية - ولأول مرة منذ اندلاع الحرب هناك قبل 26 عاماً - وكأنها على عتبة
خسارة الجولة الأخيرة من القتال. ويقول المراقبون إن كل شيء مرتبط بإمكانية
الجيش الأثيوبي على شن هجوم معاكس لاستعادة الطرق والمدن الرئيسية التي فقدها.
هذا وكان الأثيوبيون قد انسحبوا من جميع المدن الواقعة إلى الشرق. من
مدينة (كرن) (انظر الخريطة) التي يقول الأرتيريون أنهم يستعدون لدخولها، ومن
المعلوم أن جميع الطرق المؤدية إلى مدينتي أسمرة (العاصمة) وكرن قد قطعت وأن
تموين المدينتين قد أصبح متعذراً إلا من طريق الجو.
وتأتي هذه الانتكاسات العسكرية في وقت أخذت فيه روسيا تفكر ملياً في الحد
من نفقاتها العسكرية الضخمة الناتجة عن تورطاتها في نزاعات داخلية كهذه. ولا
سيما في أعقاب الصفعات التي تلقتها على أيدي الأفغان.
الأندبندنت 21/5/1988(12/103)
ارتفاع هجرة اليهود
من الاتحاد السوفيتي
جنيف/رويتر
قالت اللجنة الدولية لشؤون الهجرة يوم 2/5/1988 م أن الهجرة اليهودية من
الاتحاد السوفييتي قد ارتفعت في شهر نيسان لتصل إلى (1077) مهاجر وهو أعلى
رقم تصله الهجرة في شهر واحد منذ شهر أيار من عام 1981 م عندما بلغ عدد
المهاجرين (1140) . وكان (944) يهودياً قد غادروا الاتحاد السوفييتي في شهر
نيسان من هذا العام في حين بلغ عدد اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفييتي ابتداءً
من هذا العام (3402) بالمقارنة مع (1431) غادروا خلال الأشهر الأربع الأولى
من عام 1987. كما بلغ عدد اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفييتي خلال العام
الماضي (8011) وهو يشكل ثمانية أضعاف العدد الذي غادر في عام 1986 م كما
يشكل أكبر عدد من اليهود سمح لهم بالمغادرة منذ عام 1981 م عندما بلغ عددهم
(9560) .
التايمز 3/5/1988 م.(12/104)
بأقلام القراء
التماس البركة في الوقت
صالح عبد الهذلول
كثير من أهل الخير والصلاح وخاصة من تكون الدعوة إلى الله هي شغلهم
ومعظم اهتمامهم يشكون من قلة الوقت وسرعة مروره دونما نتائج تستحق كل ذلك،
بل إن بعضهم يتحسر أحياناً بسبب فوات كثير من الفرص وترك كثير من الأعمال
بسبب ضيق الوقت.
ولكن مما ينبغي معرفته في هذا الشأن وملاحظته أن الرسول -صلى الله عليه
وسلم- حينما رغب في قيام الليل مثلاً وصلاة الوتر أو قراءة القرآن، لم يكن جاهلاً
بمشاغل الداعية أو أنه قال ذلك الكلام من فراغ، بل إنه -صلى الله عليه وسلم-
كبير الدعاة إلى الله ومع ذلك رغب فيما رغب فيه، هذه ناحية، وأخرى أن جهد
البشر قاصر وطاقتهم محدودة، فلهذا لابد من التزود من مثل هذه المحاطِّ التي
ذكرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعملها، وإلا فالمخالفة والضعف، وربما
غيرها كذلك.
ثم إنه لا يستبعد أن قلة البركة في الوقت والتي يشكو منها الدعاة ناتجة عن
الارتجالية في توزيعه، لا تلمس هدى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، نعم
قد يمر على الداعية وقت ينشغل فيه عن قراءة القرآن أو صلاة الوتر أو يعجز عن
قيام الليل أو ... بسبب انهماك في أعمال الدعوة لكن هذا لا يكون دائماً، وإنما هي
حالات تطرأ، كما ورد عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها كانت تؤخر
قضاء أيام من رمضان حتى يأتي عليها شعبان لانشغالها بأعمال الرسول -صلى الله
عليه وسلم-، ولكن ذلك أحياناً وليس غالباً.
ومرة ثانية أقول: إن توزيع الوقت لنا - نحن المسلمين - يجب أن يكون
أصيلاً مستلهماً من شريعتنا ومتبعاً فيه هدى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وسأذكر مثالاً على التخبط عندنا في توزيع الوقت: وهو ترك صلاة الوتر
وعدم قيام الليل وإن من أسباب ذلك وأقواها النوم متأخراً، وهذا لا شك خلاف هدي
الرسول -صلى الله عليه وسلم- - إلا ما استثني من ذلك - فتجد كثيراً من أهل
الصلاح لا ينام إلا متأخراً، وربما منعه شغل يسير أو تشاغل حتى منتصف الليل
أو بعده حتى لا يقال نام مبكراً أو يعرف عنه التبكير بالنوم! !
صحيح أن الداعية يجب أن يبذل نفسه ووقته في سبيل الله ولكن يراعي في
ذلك تلمس السنة ويراعي في ذلك أيضاً تفاضل الأعمال، ثم إذا جاءه عارض
وشغله عن التبكير أحياناً، فلا ينبغي أن يعتاد ذلك.
ثم لنعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عوتب في موقفه من عبد الله أم
مكتوم -رضي الله عنه- حينما جاءه ليعلمه الرسول مما علمه الله، وكان الرسول -
صلى الله عليه وسلم- مشغولاً مع صناديد قريش يطمع في إسلامهم، فعاتبه الله في
ذلك عندما ردَّ وعبس في وجه ابن أم مكتوم، فلنتذكر مثل هذا الموقف عندما يجيء
أحد ليسمع منك أيها الداعية كلام الله أو يشكو إليك أمراً في دينه فتمنعه أو تغلق
الباب دونه بحجة النوم مبكراً.
هذا والله أسأل أن يمن علي وعلى إخواني المسلمين بالهدى والسداد وصلى
الله على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.(12/107)
ذو الحجة - 1408هـ
أغسطس - 1988م
(السنة: 3)(13/)
الافتتاحية
عواقب التبذير
هل المسلمون فقراء؟ وهل صحيح أن الله حرمهم حيث وسَّع على غيرهم؟
سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
إن فضل الله على المسلمين لا حدود له، ولا يحيط به وصف، وإن ما حباهم
به من الخير تتحلب له نفوس غيرهم، وتتكالب على الظفر ببعضه القُوى من شرق
وغرب.
إذن، فما سر هذا الضنك الذي يعيش به المسلمون، وماذا وراء هذا الهوان
الذي يلفُّهم حينما تُطرح قضاياهم على موائد المساومات؟ !
إن هذا السؤال يقضّ مضجع كل مَن يحمل قلباً من المسلمين، ويؤرقه ليل
نهار بحثاً عن الجواب.
وعلى كثرة الأجوبة وتشعبها، ومن خلال تجميع الأسباب للخروج بنتيجة
يمكن إبرازها؛ فإن هناك ظاهرة تصب في أسباب الضعف والتراجع، ألا وهي
ظاهرة التبذير والإسراف.
وحينما نقول: ظاهرة؛ فإننا نعني أن الأمر خرج عن أن يكون مسلكاً فردياً
لقلة من الأفراد لا تأثير لهم في المجتمع الكبير. ولو كان الأمر كذلك لما استحق أن
يُنَوَّه به كسبب رئيسي من أسباب التخلف والانحطاط.
ونريد أن نتقدم خطوة أخرى فنقول: إن من شأن البعيدين عن هدْي الإسلام
والقرآن إذا اغتنوا أو ملكوا شيئاً من أسباب القوة أن يدفعهم ذلك إلى الإسراف
والبطر والتعالي على خلق الله، وعيش اللحظة الراهنة دون تفكير بالعواقب، ولا
وضْع النهايات في الاعتبار.
ولكن حديثنا لن يتجه إلى هؤلاء، وإنما يعنينا أن نتوجه إلى من يفترض فيهم
بُعد النظر، وعدم الاغترار باللحظة العابرة، وهم الذين يهمهم أمر المسلمين،
ويعيشون من أجل الفكرة الإسلامية، لها يعملون، وفي سبيلها يضحون.
يحسن بالمسلم أن يفرق بين الكرم - الذي هو خلق أصيل من الأخلاق
الإسلامية - وبين التهور في التبذير.
فكثير من فضلاء المسلمين يدفعهم الخوف من وصفهم بالبخل، وحرصهم
على أن يوصفوا بالكرم إلى أن يتكلفوا في المأكل والمشرب والملبس والمركب،
ويقلدوا من يطفون على صفحة المجتمع من محدثي النعمة، وعندما تتحول القيادة
الفكرية في مجتمع ما إلى مثل هؤلاء الذين يضربون أسوأ الأمثلة للآخرين، في
غيبة المبادىء التي تعمل على تماسك المجتمع في وجه الرياح التي تهب عليه من
كل جانب؛ فأي خير يبقى في الحياة، وأي أمل في تحسن الأحوال؟ !
إن المجتمع المسلم بحاجة إلى مثل أعلى في هذا المجال غير من تملأ أخبارهم
أعمدة الصحف والمجلات، مثل أعلى في الحكمة والتعقل في مجال الإنفاق، والبعد
عن تضييع الأموال في ما لا يُجدي.
وعلى عقلاء المسلمين الانتباه إلى حسن التدبير والنظر إلى مستقبل الدعوة
الإسلامية، فهذه الدعوة إذا تحسن حالها بما يبذله المحسنون في سبيلها عن طريق
التبرع والإحسان؛ فإن حالها سيكون أحسن إذا قامت مشاريع ومؤسسات صلبة
قادرة على الوقوف بذاتها دون الاعتماد المتواصل على الصدقات والهبات - وهذا
ليس تعريضاً أو تشهيراً بالصدقات - وأول خطوة في سبيل ذلك أن ينهض بهذا
الأمر أناس ينفرون من المظاهر، ويتحرون البعد عن التنطع الذي يمحق البركة.
فالبركة في المفهوم الإسلامي ليست أمراً خيالياً يصعب تعليله، وإنما هي
ثمرة الجهد الذي يصدر من أناس أخلصوا نيتهم لله، وتبرؤوا من كل حول وطوْل
إلا من الاعتماد عليه في كل شأن من شؤونهم، وبذلوا وسعهم، وحين يعلم الله -
سبحانه - صدق تجردهم، وبذلهم جهد طاقتهم يجعل الله لقليلهم ثمرة، ويبارك
جهدهم، كما قال تعالى: [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً] [الطلاق: 7] .
فما بالك بالكثير المثمَّر؟ ، في حين يمحق - سبحانه - جهود من يحادّونه
ويصدون عن سبيله ولو كان القناطير المقنطرة التي تُنفق من أجل ذلك؛ مصداقاً
لقوله - عز وجل -: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]
[الأنفال: 36] .
إننا لا نأتي بجديد إذا دعونا المسلمين إلى الاقتصاد في النفقة والبعد عن تبديد
نعمة الله فيما لا يعود بالفائدة؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن
الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به
شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة
السؤال، وإضاعة المال) [رواه مسلم 5: 130] .
وما لم يعلنها المسلمون - وأخص العرب منهم الذين أكرمهم الله بهذا الدين،
وامتنَّ عليهم بأن جعلهم في سرة العالم، وأتمنهم على تبليغ هذه الرسالة للعالمين -
أقول: ما لم يعلنها المسلمون حرباً على التبذير في كل مجال فإن اليوم الذي
ستغزوهم فيه منظمات الإغاثة قريب، والساعة التي ستجعلهم في عداد الدول التي
تتناوشها هذه المنظمات من كل جانب، والبنك الدولي من جانب آخر تلوح في
الأفق، ومن يدري عندها؟ فقد يحقق هؤلاء فتنة المسلمين عن دينهم، وهو ما
عجزوا عن تحقيقه قبلاً بقوة السلاح، وأمامنا أمثلة حية من بنغلاديش وموزمبيق
والحبشة وغيرها.(13/4)
مجددون معاصرون
رواد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الشيخ عبد الحميد بن باديس
في مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، ومن أسرة عريقة في المجد
والثراء والعلم وُلد الشيخ عبد الحميد بن باديس عام 1308 هـ/1889م، فهو ينتسب
إلى الأسرة الباديسية المشهورة في التاريخ. فالمعز بن باديس (406-453) هو
الذي أبعد النفوذ العُبيدي (الفاطمي) عن المغرب، وعمل على تنظيم انفصال
المغرب الإسلامي سياسياً ومذهبياً عن الحكم العبيدي، وحارب الشيعة الرافضة في
إفريقية، وحمل الناس على اعتناق المذهب السني، وكان الشيخ عبد الحميد يفتخر
بأعمال هذا الجد، أما والده محمد المصطفى فهو من كبار الموظفين والوجهاء في
قسنطينة، وعضو المجلس الجزائري الأعلى، وقد عرف دائماً بدفاعه عن مطالب
السكان المسلمين في قسنطينة، يقول عنه ابنه:
(إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة ووجهني وجهة
صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشرباً أرده، وقاتني وأعاشني وبراني
كالسهم وراشني وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً..) [1] .
فهذا الوالد لم يحاول ثني الشيخ عن أي عمل يقوم به في الدعوة كعادة الآباء
الذين في مثل وظيفته ووجاهته، كما أنه لم يُلحِقه بالمدارس الفرنسية كغيره من
أبناء العائلات الكبيرة.
نشأ ابن باديس في بيئة علمية، فقد حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة سنة،
ثم تتلمذ على الشيخ (أحمد أبو حمدان الونيسي) ، فكان من أوائل الشيوخ الذين لهم
أثر طيب في اتجاهه الديني، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له: (اقرأ
العلم للعلم لا للوظيفة) ، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا.
في جامع الزيتونة:
في عام 1908 قرر ابن باديس - وهو الشاب المتعطش للعلم - أن يبدأ
رحلته العلمية الأولى إلى تونس، وفى رحاب جامع الزيتونة الذي كان مقراً كبيراً
للعلم والعلماء يُشبه في ذلك الأزهر في مصر. وفي الزيتونة تفتحت آفاقه، وعبّ
من العلم عبًّا، والتقى بالعلماء الذين كان لهم تأثير كبير في شخصيته وتوجهاته،
مثل الشيخ محمد النخلي الذي غرس في عقل ابن باديس غرسة الإصلاح وعدم
تقليد الشيوخ، وأبان له عن المنهج الصحيح في فهم القرآن. كما أثار فيه الشيخ
محمد الطاهر بن عاشور حب العربية وتذوّق جمالها، ويرجع الفضل للشيخ البشير
صفر في الاهتمام بالتاريخ ومشكلات المسلمين المعاصرة وكيفية التخلص من
الاستعمار الغربي وآثاره.
تخرج الشيخ من الزيتونة عام 1912 وبقي عاماً آخر للتدريس حسب ما
تقتضيه تقاليد هذه الجامعة، وعندما رجع إلى الجزائر شرع على الفور بإلقاء
دروس في الجامع الكبير في قسنطينة، ولكن خصوم الإصلاح تحركوا لمنعه،
فقرر القيام برحلة ثانية لزيارة أقطار المشرق العربي.
في المدينة النبوية:
بعد أداء فريضة الحج مكث الشيخ ابن باديس في المدينة المنورة ثلاثة أشهر،ألقى خلالها دروساً في المسجد النبوي، والتقى بشيخه السابق (أبو حمدان الونيسي)
وتعرف على رفيق دربه ونضاله - فيما بعد - الشيخ البشير الإبراهيمي. وكان
هذا التعارف من أنعم اللقاءات وأبركها، فقد تحادثا طويلاً عن طرق الإصلاح في
الجزائر واتفقا على خطة واضحة في ذلك. وفي المدينة اقترح عليه شيخه (الونيسي) الإقامة والهجرة الدائمة، ولكن الشيخ (حسين أحمد الهندي) المقيم في
المدينة أشار عليه بالرجوع للجزائر لحاجتها إليه، فكانت خير نصيحة. زار ابن
باديس بعد مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصر واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام
الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من
الشيخ (الونيسي) .
العودة إلى الجزائر:
وصل ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع
في العمل التربوي الذي صمم عليه، وهو إنقاذ أطفال المسلمين وشبانهم من هوة
الجهل والتخلف، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار، والمسجد هو المركز الرئيسي
لنشاطه، ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين والتي تحدثنا عنها
في العدد السابق، ولكن نشاط الشيخ كان متعدداً، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو
يقنع بوجهة واحدة، فاتجه إلى الصحافة، وأصدر جريدة (المنتقد) عام 1925
وأُغلقت بعد العدد الثامن عشر؛ فأصدر جريدة (الشهاب) الأسبوعية، التي بث فيها
آراءه في الإصلاح، وخاصة إصلاح عقائد الناس من الخرافات والدجل وأساليب
الطُّرُقيين، واستمرت كجريدة حتى عام 1929 ثم تحولت إلى مجلة شهرية علمية،
وكان شعارها: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها) ، وتوقفت المجلة
في شهر شعبان 1328هـ / أيلول عام 1939م بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحتى لا يُكتب فيها أي شيء تريده الإدارة الفرنسية تأييداً لها، وفي سنة 1936
دعا إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية
الجزائر، وقد وجه دعوته من خلال جريدة (لاديفانس) التي تصدر بالفرنسية،
واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته وكذلك بعض الشخصيات المستقلة،
وأسفر المؤتمر عن المطالبة ببعض الحقوق للجزائر، وتشكيل وفد سافر إلى فرنسا
لعرض هذه المطالب وكان من ضمن هذا الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب
العقبي ممثلين لجمعية العلماء، ولكن فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة
الوفد.
إن هذه الدعوة للمؤتمر وحضوره، وذهاب وفد العلماء إلى فرنسا كانت
اجتهاداً من ابن باديس - رحمه الله - يرى فيه مصلحة الجزائر ولكن يجب
الاعتراف هنا بأن هذه الخطوة كانت خطأً وبشتى المقاييس التي تقوّمه سابقاً ولاحقاً، وتد أصاب الأستاذ مالك بن نبي عندما اعتبر هذا المؤتمر نقطة ضعف في
شخصية العلماء حين لجأوا إلى الأساليب غير المجدية؛ لأنها أساليب الضعفاء
للحصول على فتات الموائد.
واستغل السياسيون هذا المؤتمر ليصلوا إلى أهدافهم الهزيلة، وأما غير مالك
ابن نبي ممن يهاجم جمعية العلماء - فهم في الحقيقة لا يتقون الله في خصوماتهم،
ويتكلمون من منطق الحقد والخصومات السياسية الشخصية.
ومثل هذا الخطأ من ابن باديس لا ينبغي أن يحجب عنا العمل العظيم الذي قام
به وهو قيادة جمعية العلماء منذ تأسيسها عام 1931م وحتى وافاه الأجل عام 1940م وفقدت الجزائر بفقده عالماً مجدداً ومصلحاً مربياً، وضع كل جهده وإمكاناته
لرفع شأن المسلمين في الجزائر، ولم يشغله ذلك عن أوضاع المسلمين في كل مكان.
العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس:
لا شك أن البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، وفي بلد
كالجزائر عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا، وعن معاناته من الجهل
والاستسلام للبدع - فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي الإحساس
المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره واجباً عليه،
وكان ابن باديس من هذا النوع، وإن بروز شخصية كابن باديس من بيئة ثرية ذات
وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين، وكان بإمكانه أن يكون
موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار طريق المصلحين.
وتأتي البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود إلى الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث يعرف على المفكرين والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما دعا إليه ... من نقاء العقيدة وصفائها. وكان لمجلة (المنار) التي يصدرها الشيخ رشيد رضا أثر ... قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول المطروحة. ...
ومما شجع ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله، وقد
وصفهم هو بالأسود الكبار - من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي
والميلي ... وقد عملوا معه في انسجام قلّ أن يوجد مثله في الهيئات الأخرى.
آثار ابن باديس:
شخصية ابن باديس شخصية غنية ثرية ومن الصعوبة في حيز ضيق من
الكتابة الإلمام بكل أبعادها وآثارها؛ فهو مجدد ومصلح يدعو إلى نهضة المسلمين
ويعلم كيف تكون النهضة. يقول:
" إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة،
وإذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآثر، وتنهض لجلب المصلحة
ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة ".
وهو عالم مفسر، فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروسه
اليومية كما شرح موطأ مالك خلال هذه الفترة، وهو سياسي يكتب في المجلات
والجرائد التي أصدرها عن واقع المسلمين وخاصة في الجزائر ويهاجم فرنسا
وأساليبها الاستعمارية ويشرح أصول السياسة الإسلامية، وقبل كل هذا هو المربي
الذي أخذ على عاتقه تربية الأجيال في المدارس والمساجد، فأنشأ المدارس واهتم
بها، بل كانت من أهم أعماله، وهو الذي يتولى تسيير شؤون جمعية العلماء،
ويسهر على إدارة مجلة الشهاب ويتفقد القاعدة الشعبية باتصالاته المستمرة. إن آثار
ابن باديس آثار عملية قبل أن تكون نظرية في كتاب أو مؤلَّف، والأجيال التي
رباها كانت وقود معركة تحرير الجزائر، وقليل من المصلحين في العصر الحديث
من أتيحت لهم فرص التطبيق العملي لمبادئهم كما أتيحت لابن باديس؛ فرشيد رضا
كان يحلم بمدرسة للدعاة، ولكن حلمه لم يتحقق، ونظرية ابن باديس في التربية
أنها لا بد أن تبدأ من الفرد، فإصلاح الفرد هو الأساس.
وطريقته في التربية هي توعية هذا النشء بالفكرة الصحيحة كما ذكر
الإبراهيمي عن اتفاقهما في المدينة: (كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913
في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم وإنما نربيه على فكرة صحيحة) [2] .
وينتقد ابن باديس مناهج التعليم التي كانت سائدة حين تلقيه العلم والتي كانت
تهتم بالفروع والألفاظ - فيقول: (واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية، مجردة بلا
نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل
الوصول إليها) [3] .
أما إنتاجه العلمي فهو ما جمع بعد من مقالاته في (الشهاب) وغيرها ومن
دروسه في التفسير والحديث [4] .
__________
(1) د عمار الطالبي: ابن باديس حياته وآثاره 2/138، ط دار الغرب الإسلامي.
(2) د الخطيب: جمعية العلماء المسلمين، ص129.
(3) المصدر السابق ص141.
(4) مع الأسف لم يصلنا كل ما كتبه أو كل ما ألقاه من دروس في التفسير والحديث وقد جُمع ما نشر في (الشهاب) من افتتاحيات تحت عنوان " مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير " بإشراف محمد الصالح رمضان، وتوفيق شاهين وحاول الدكتور عمار الطالبي جمع آثاره كلها، ولكن لا يزال هناك أشياء لم تُجمع.(13/8)
الشيخ البشير الإبراهيمي
زميل ابن باديس في قيادة الحركة الإصلاحية، ونائبه في رئاسة جمعية
العلماء، ورفيق نضاله لتحرير عقل المسلم من الخرافات والبدع.
ولد عام 1889م في قرية (سيدي عبد الله) من نواحي (سطيف) التابعة لمدينة
قسنطينة. تلقى تعليمه الأوَّلي على والده وعمه؛ فحفظ القرآن ودرس بعض المتون
في الفقه واللغة.
غادر الجزائر عام 1911 ملتحقاً بوالده الذي كان قد سبقه إلى الحجاز، وتابع
تعليمه في المدينة، وتعرف على الشيخ ابن باديس عندما زار المدينة عام 1913،
غادر الحجاز عام 1916 قاصداً دمشق، حيث اشتغل بالتدريس، وشارك في
تأسيس المجمع العلمي الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية، وهناك
التقى بعلماء دمشق وأدبائها، ويتذكرهم بعد ثلاثين سنة من عودته إلى الجزائر
فيكتب في (البصائر) العدد 64 عام 1949: (ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام
أربع سنين إلا قليلاً، فأشهد صادقاً أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة،
وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر، ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي
العلمية بهذا الوطن (الجزائر) ولكن ... مَن لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك
الصحب؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها
ما وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف
الأحاديث العلمية ... ) .
فى عام 1920 غادر الإبراهيمي دمشق إلى الجزائر، وبدأ بدعوته إلى
الإصلاح ونشر العلم في مدينة (سطيف) ، حيث دعا إلى إقامة مسجد حر (غير تابع
للإدارة الحكومية) وفي عام 1924 زاره ابن باديس وعرض عليه فكرة إقامة جمعية
العلماء، وبعد تأسيس الجمعية اُختِير الإبراهيمي نائباً لرئيسها، وانتدب من قِبل
الجمعية لأصعب مهمة وهى نشر الإصلاح في غرب الجزائر وفى مدينة وهران
وهي المعقل الحصين للصوفية الطرقيين، فبادر إلى ذلك وبدأ ببناء المدارس الحرة، وكان يحاضر في كل مكان يصل إليه، وهو الأديب البارع والمتكلم المفوَّه،
وامتد نشاطه إلى تلمسان وهى واحة الثقافة العربية في غرب الجزائر وقامت قيامة
الفئات المعادية من السياسيين والصوفيين وقدموا العرائض للوالي الفرنسي؛
يلتمسون فيها إبعاد الشيخ الإبراهيمي، ولكن الشيخ استمر في نشاطه، وبرزت
المدارس العربية في وهران.
وفي عام 1939 كتب مقالاً في جريدة (الإصلاح) ؛ فنفته فرنسا إلى بلدة
(أفلو) الصحراوية، وبعد وفاة ابن باديس انتخب رئيساً لجمعية العلماء وهو لا يزال
في المنفى ولم يُفرج عنه إلا عام 1943، ثم اعتقل مرة ثانية عام 1945 وأفرج
عنه بعد سنة. وفى عام 1947 عادت مجلة (البصائر) للصدور، وكانت مقالات
الإبراهيمي فيها في الذروة العليا من البلاغة ومن الصراحة والنقد القاسي لفرنسا
وعملاء فرنسا. يقول عن زعماء الأحزاب السياسية:
(ومن خصومها (أي الجمعية) رجال الأحزاب السياسية من قومنا من أفراد
وأحزاب يضادّونها كلما جروا مع الأهواء فلم توافقهم، وكلما أرادوا احتكار الزعامة
في الأمة فلم تسمح لهم، وكلما طالبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر - كالانتخابات - فلم تستجب لهم، وكلما أرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم) [1] .
ودافع في (البصائر) عن اللغة العربية دفاعاً حاراً: (اللغة العربية في القطر
الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها،
وهي ممتدة الجذور مع الماضي مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في
المستقبل) [2] .
واهتمت (البصائر) بالدفاع عن قضية فلسطين؛ فكتب فيها الإبراهيمي مقالات
رائعة.
عاش الإبراهيمى حتى استقلت الجزائر، وأمّ المصلين في مسجد (كتشاوة)
الذي كان قد حُوّل إلى كنيسة، ولكنه لم يكن راضياً عن الاتجاه الذي بدأت تتجه
إليه الدولة بعد الاستقلال؛ فأصدر عام 1964 بياناً ذكر فيه: " إن الأسس النظرية
التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا
من مذاهب أجنبية ".
تُوفي - رحمه الله - يوم الخميس في العشرين من أيار (مايو) عام 1965.
بعد أن عاش حياة كلها كفاح لإعادة المسلمين إلى دينهم القويم؛ فجزاه الله خيراً عن
الإسلام والمسلمين.
__________
(1) د الخطيب: جمعية العلماء، ص155.
(2) المصدر السابق، ص156.(13/13)
الشيخ العربي التبسي
أحد أعمدة الإصلاح في الجزائر، وأمين عام جمعية العلماء والمجاهد البارز
الذي خطفته يد التعصب والغدر الفرنسية عام 1957 ولم يُسمع له ذِكر بعدها.
وُلد الشيخ العربي عام 1895 في بلدة (ايسطح) من أعمال (تبسة) التابعة
لقسنطينة. حفظ القرآن في قريته ثم انتقل إلى تونس لتلقي العلم في زاوية (الشيخ
مصطفى بن عزوز) ، انتقل بعدها إلى جامع الزيتونة؛ فنال منه شهادة الأهلية
وعزم على الانتقال إلى القاهرة لمتابعة التحصيل العلمى في الأزهر.
عاد إلى الجزائر عام 1927 واتخذ من تبسة مركزاً له وفى مسجد صغير في
قلب المدينة انطلق الشيخ في دروسه التعليمية وواصل الليل بالنهار لإنقاذ هذا
الشعب من الجهل وذل الاستعمار، وبدأت آثار هذا الجهد تظهر في التغيير
الاجتماعي والنفسي لأهل تبسة؛ حيث بدأت تختفي مظاهر التأثر بالفرنسيين وبدأ
الناس يلتفون حول رجال الإصلاح.
وكالعادة ضُيّق على الشيخ، فنصحه ابن باديس بالانتقال إلى غرب الجزائر،
فاستجاب لذلك، ولكن أنصاره في تبسة ألحوا عليه بالعودة وأسسوا مدرسة طلبوا
منه أن يكون أول مدير لها. وبعد وفاة ابن باديس ونفْي الإبراهيمي اتجهت الأنظار
إلى الشيخ العربي ليحمل المسؤولية ويتابع الرسالة الإسلامية وتوافد إليه طلاب العلم
من كل مكان، وفي عام 1947 تولى العربي إدارة معهد ابن باديس في قسنطينة
فقام بالمهمة خير قيام. يقول عنه الإبراهيمي: والأستاذ التبسي - كما شهد
الاختبار وصدق التجربة - مدير بارع ومربٍ كامل خرجته الكليتان الزيتونة
والأزهر في العلم وخرجه القرآن والسيرة النبوية، فجاءت هذه العوامل في رجل
يملأ جوامع الدين ومجامع العلم ومحافل الأدب.
وفي عام 1956 انتقل الشيخ إلى العاصمة لإدارة شؤون الجمعية فيها،
واستأنف دروسه في التفسير وكان شجاعاً لا يخاف فرنسا وبطشها، يتكلم بالحق،
ويدعو للجهاد ولم يأبه لتحذير الناصحين المحبين له الذين خافوا عليه من فرنسا
والتي كانت تعلم مكانته بين صفوف الجماهير، وأثره عندما يدعوها للجهاد، وهو
ليس من الناس الذين يتكلمون ولا يفعلون، بل يقول: لو كنت في صحتي
وشبابي ما زدت [1] يوماً واحداً في المدينة؛ أُسرع إلى الجبل، فأحمل السلاح،
فأقاتل مع المجاهدين.
وفي 17 من نيسان (أبريل) عام 1957 امتدت يد (الجيش السري) الذي شكَّله
غلاة الفرنسيين المتعصبين لتخطف الشيخ العربي من منزله، وليكون في عداد
الشهداء، رحمه الله رحمة واسعة.
هؤلاء أبرز فرسان جمعية العلماء التي كان لها الدور الأكبر في إبراز هوية
الجزائر العربية الإسلامية، بل لها دور بارز في الدعوة الإسلامية في العصر
الحديث، ولعلنا - ومن خلال (البيان) - نكون قد قمنا ببعض الواجب تجاه هذه
الجمعية وهؤلاء المصلحين.
__________
(1) زدت: أقمت أو بقيت بلغة أهل الجزائر.(13/15)
خواطر في الدعوة
المؤسسات القديمة
محمد العبدة
عندما نتحدث عن التجديد فإنما نأمل من المسلم أن يصوغ شخصيته لتكون
عندها القابلية للتجديد، فلا تخضع لمألوفات وعادات غير صحيحة، ولا تجمد عند
فكر معين لا تتجاوزه وقد تبين خطؤه أو أنه قيل في ظروف غير موجودة الآن. قد
يكون المسلم معجباً بأعلام التجديد في العصور الإسلامية المتعاقبة ويدعو إلى
التجديد في كل عصر، ولكنه لا ينتبه لنفسه أنه - وهو يمارس الدعوة - قد جمد
على أسلوب معين وأفكار طُرحت قبل سنوات كان قد قرأها في بدايات عهده
بالدعوة ولا يستطيع التحول عنها؛ فالنفس البشرية تميل للمحافظة على ما ألفت،
وكثير من الناس لا يتعبون أنفسهم بالتفكير المستمر والنمط الذي عرفوه أسهل عليهم، ولا ينتشل نفسه من هذه (السهولة) إلا مَن أُوتي عزماً أكيداً للتطلع إلى الأفضل ...
دائماً، وملاحظة التغيرات المستجدة، والظروف الطارئة، فهو في تجديد مستمر
بين كل فينة وأخرى.
إن بعض الناس قد يحيطون مؤسسة ما - وخاصة إذا عُمرت طويلاً - بهالة
من التقديس، وعندئذ فإن انتقادها أو التدخل في شؤونها يعتبر ضرباً من التطاول
على الحرمات والانتهاك للمقدسات! ، وفي مثل هذه الأحوال فإن صبّ تيار جديد
قوي لدفع التيار الأول يكون من الصعوبة بمكان، مع أن هذا يعطي الدعوة حيوية
وقوة، ولو عمر المؤسسون الأوائل لغيَّروا كثيراً من اجتهاداتهم لأنهم سيعاصرون
أحداثاً لم تكن في أوائل الدعوة، ولا يعارض التجديد في مثل هذه الظروف إلا غبي
مشغوف بعبادة الأشخاص، أو انتهازي يريد بقاء الوضع على ما كان ليستفيد هو
شخصياً من هذا البقاء، وقد تكون لهم مصلحة\ أكيدة في قيام بعض العادات
وترسيخها؛ لأنهم يستمدون من هذه العادات قوتهم وسلطتهم ولذلك كان من حظ
البشرية أن ينبغ فيهم بين الفينة والأخرى من يحملهم على التفكير حملاً.
إن تيار الحياة متدفق متجدد والذي لا يلاحظ التغيرات سيعيش بعيداً عن
عصره، بعيداً عن واقعه، يتقوقع على نفسه مردداً ما سمعه من عشرات السنين،
فالذين قرأوا ما كُتب عن جمال الدين الأفغاني قبل ثلاثين سنة ولم يقرأوا ما كُتب
عنه بعدئذ وما تكشّفت عنه الحقائق، هؤلاء يتعجبون عندما يذكره أحد بنقد أو تقويم، فهو - بنظرهم - مصلح الشرق وملهمه، والذين تردد على أسماعهم اسم محمد
علي جناح - كمؤسس لباكستان - كانوا يضعونه في مصاف العظماء الكبار، ثم
تبين أن الرجل غربى النزعة مدخول العقيدة، وهذا ما يفسر قيام باكستان كأرض
مستقلة للمسلمين ولكن لم تقم باكستان كدولة تحكم بالإسلام.
إن التحدي الذي يواجه المسلمين في هذا العصر ويحتاج إلى التجديد في
طرائق الفكر والعمل هو: كيف ننفذ منهج أهل السنة ونستفيد من منتجات هذا
العصر دون التنازل عن الفكرة والمبدأ؟ .
والمطلوب هو التنفيذ العملي، وليس الكلام في الكتب والمجلات عن (الأصالة
والمعاصرة) أو (كيف نجمع بين ثقافتنا وتقنية الغرب..) .
فهل يشعر المسلمون بخطر التسويف والجمود في حين أن القافلة تسير؟ !(13/18)
حكمة إرسال الرسل
الشيخ: محمد صالح العثيمين
لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله - تعالى - على الوجه الذي
يرضاه ويحبه، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف
طبقاتها؛ إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده؛ كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل
الرسل وأنزل الكتب لإصلاح الخلق وإقامة الحجة عليهم، قال - تعالى -:
[رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]
[النساء: 165] .
فحكمة إرسال الرسل تتلخص في:
الأول: إقامة الحجة على الخلق حتى لا يحتج أحد على الله فيقول [لَوْلا
أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى] [طه: 134] ، لقد قطع
الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على
صدقهم وصحة نبوتهم وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم؛ فإن الناس مهما أوتوا من الفهم والعقل والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفَرَاش - وهي الدواب التي تقع في النار -
يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون
فيها) رواه البخاري.
فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد، فإن انقياد الناس لما
يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكاً؛ فإنهم يجتمعون
عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح.
تأييد الرسل بالآيات وكوْنها من جنس ما شاع في عصرهم:
لو جاء رجل من بيننا وقال إنه نبي يُوحَى إليه، وأن طاعته فرض، وأن من
عصاه فله النار، ومن أطاعه فله الجنة، ثم نظم قوانين، وسن سنناً، وقال امشوا
على هذه النظم، وإلا فلكم النار؛ ما كان أحد ليقبل منه - مهما بلغ في الصدق
والأمانة - حتى يأتي ببرهان يدل على صدقه، فلو رد أحد دعوة هذا المدعي الذي
لم يأتِ ببرهان على صدقه ما كان ملوماً، فالقضية التي تسلم بها العقول أن المدعي
عليه البينة وإلا فلا يجب قبول مدَّعاه.
وإتماماً لإقامة الحجة بالرسل على الخلق أيد الله رسله بالآيات المبينات الدالة
على صدقهم، وأنهم رسل الله حقاً، فاصطفى الله للرسالة من الناس من يعلم أنه
أهل للرسالة وكفؤ لها ومستطيع للقيام بأعبائها والصبر على مكائد أعدائها [اللَّهُ
يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] [الحج: 75] ، [اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] [الأنعام: 124] ، فاصطفى الرجال الكُمَّل الأقوياء أهل
الحضارة واللين والفهم [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى] [يوسف: 109] (أي أهل المدن) ، فإن القرية هي المدينة كما سمى الله مكة قرية
[وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ] [محمد: 13] ، وسماها
أم القرى [لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا] [الأنعام: 92] .
وما بعث الله رسولاً إلا أيده بالآيات على صدق رسالته وصحة دعواه، قال
الله - تعالى -: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ] [الحديد: 25] ، أي بالآيات البينات
الواضحات التي لا تدع مجالاً للشك في صدق ما جاء به الرسول المرسل؛ قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من نبي من الأنبياء إلا قد أُعطي من ... كل الآيات ما آمن على مثله البشر) رواه البخاري ومسلم.
وهذا من حكمة الله العليا ورحمته بعباده أن أيد الرسل بالآيات لئلا يبقى أمرهم مشكلاً؛ فيقع الناس في الحيرة والشك ولا يطمئنون إلى ما جاءوا به، وهذه الآيات
التي جاء بها الرسل لابد أن تكون خارجة عن طوق البشر؛ إذ لو كانت في
استطاعتهم ما صح أن تكون آية لإمكان البشر أن يدَّعي الرسالة ويأتي بها إذا كانت
تحت قدرته، ولكن آيات الرسل لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها وقد جاءت كبريات
الآيات من جنس ما برز به أهل العصر الذي بعث فيه ذلك الرسول -صلى الله
عليه وسلم- كما قرر ذلك أهل العلم، واستشهدوا على ذلك بآيات موسى وعيسى
ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - فإن عهد موسى ترقَّى فيه السحر حتى بلغ
السحرة الغاية في المهارة والحذق؛ فكان من أكبر الآيات التي جاء بها موسى ما
يربو على فعل السحرة وهو يشبه في ظاهره السحر وإن كان يختلف اختلافاً كبيراً؛
لأن ما جاء به موسى حقيقة ما يراه الناظر، بخلاف السحر فإنه يخيَّل للناظر
وليست حقيقته كما يراه، فكان من الآيات التي جاء بها موسى عصاه التي يلقيها
فتكون حية ثعباناً، ويأخذها فتعود في يده عصاه الأولى، وقد ألقاها عند فرعون
حين دعاه إلى الإيمان بالله، وكذلك كان موسى يُدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء
من غير سوء، أي من غير عيب وبرص، وقد أخرجها كذلك عند فرعون حين
دعاه إلى الإيمان بالله، فلما رأى فرعون هاتين الآيتين كابر وقال للملأ حوله:
[إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) ]
[الأعراف] ، وقد ألقى موسى عصاه كذلك عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في
المجتمع العظيم الذي قرره موسى حسب طلب فرعون أن يجعل بينه وبينه موعدا
ليغالبه في سحره كما زعم فلما اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة
فرعون إنا لنحن الغالبون؛ فجاءوا بسحر عظيم حتى كانت تلك الحبال والعصي
يخيل إلى رائيها أنها تسعى؛ ألقى موسى عصاه بأمر الله - تعالى - فإذا هي تلقف
ما يأفكون فتلْتهم هذه الحبال والعصي عن آخرها، فعلم السحرة - وهم أهل السحر
وأعلم الناس به - أن ما جاء به موسى ليس بسحر وإنما هو من الأمور التي لا
يمكن للبشر معارضتها [فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ
مُوسَى وهَرُونَ] [الشعراء: 46-48] .
وكذلك كان لهذه العصا مجال آخر حينما كان موسى يستسقي لقومه فيضرب
بها الحجر فيتفجر منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائل بني إسرائيل.
وكان لها مجال آخر أيضاً حينما وصل موسى وقومه إلى البحر وخلفهم
فرعون بجنوده فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق اثني عشر طريقا
فسلكه موسى وقومه فنجوا.
وفي زمن عيسى - عليه الصلاة والسلام - كان علم الطب مترقياً إلى حد
كبير؛ فجاءت آياته بشكل ما كان مترقياً في عهده من الطب إلا أنه أتى بأمر لا
يستطيع الطب مثله، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيراً بإذن
الله، والناس يشاهدون ذلك، وكان أيضاً يبرىء الأكمه - وهو الذي خُلق أعمى -
ويبرىء الأبرص بإذن الله - تعالى - وهذان المرضان من الأمراض التي لا
يستطيع الأطباء في ذلك الوقت - وإلى هذا الوقت فيما أعلم - أن يبرئوهما، بل
قال بعض العلماء إنه إنما سمي المسيح؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برِىء وذكر
في القرآن أن عيسى يحيي الموتى بإذن الله، وفى آية أخرى يُخرج الموتى وهذان
عملان مختلفان؛ العمل الأول إحياء الموتى قبل دفنهم، والثاني إحياؤهم وإخراجهم
من قبورهم بعد الدفن، ولا ريب أن هذه الآيات التي أُعطيها عيسى - عليه الصلاة
والسلام - يعجز عن مثلها البشر؛ فتأييده بها دليل وبرهان على أنه رسول من الله
الخالق القادر عليها.
وقد يؤيد الله الرسل بآيات أخرى ولكن أبرز الآيات وأعظمها يكون من جنس
ما شاع في عصر الرسول؛ ولذا أيد الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم-
بآيات كثيرة أبرزها وأعظمها هذا القرآن الكريم، الذي هو كلام رب العالمين،
[لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [فُصلت: 42] ؛
لأنه شاع في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فن البلاغة والفصاحة وصار
البيان والفصاحة معترك الفخر والسيادة كما يعلم ذلك من تتبع التاريخ.
معجزات الأنبياء:
معجزات الأنبياء هي الآيات التي أعجزوا بها البشر أن يأتوا بمثلها، والله -
تعالى - يسميها آيات، أي علامات دالة على صدق الرسل - صلوات الله وسلامه
عليهم - فيما جاءوا به من الرسالة.
والمعجزة - في اصطلاح العلماء -: (أمر خارق للعادة (أي جارٍ على
خلاف العادة الكونية التي أجراها الله - تعالى - في الكون) ، سالم عن المعارضة،
يُظهره الله - تعالى - على يد الرسول تأييداً له) ، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء
من أصابع يد النبي -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك مما سيمر بك.
فالأمر الجاري على وفق العادة لا يسمى معجزة، كما لو قال قائل أريكم
معجزة أن لا يمضي ساعة حتى تطلع الشمس، وكان ذلك قبل طلوع الشمس بأقل
من ساعة، فإن الشمس إذا طلعت في زمن طلوعها لا يعد طلوعها معجزة لهذا
القائل؛ لأن طلوعها في وقته على وفق العادة وليس خارقاً للعادة.
وإذا كان الشيء الخارق للعادة غير سالم من المعارضة فلا يسمى معجزة،
مثل الأمور التي تقع من السحرة والمشعبذين ونحوهم؛ لأن الأمور التي يأتون بها
يمكن معارضتها بفعل ساحر أو مشعبذ آخر.
وإذا كان الشيء الخارق للعادة جارياً على يد ولي من الأولياء فلا يسمى
معجزة اصطلاحاً، وإنما يسمى كرامة، ولكن هذه الكرامة الحاصلة للولي هي في
الواقع معجزة للرسول الذي كان الولي متبعا له؛ إذ الكرامة دليل على صحة طريقة
ذلك الولي.
فوائد آيات الأنبياء ومعجزاتهم:
إن الآيات التي جاء بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ذات فوائد كثيرة
نلم منها بما يلي:
1- بيان قدرة الله - تعالى - فإن هذه الآيات لابد أن تكون أمورا خارقة للعادة
كشاهد دليل على صحة ما جاء به الرسل، وإذا كانت خارقة للعادة كانت دليلاً على
قدرة الخالق وأنه قادر على تغيير مجرى العادة التي كان الناس يألفونها، ولذا تجد
المرء يندهش عند هذه الآيات ولا يمكنه إلا أن يصدق برسالة الرسول الذي جاء بها
حيث جاء بما لا يقدر عليه أحد سوى الله - عز وجل -.
2 - بيان رحمة الله بعباده؛ فإن هذه الآيات التي يرونها مؤيدة للرسل تزيد
إيمانهم وطُمأنينتهم لصحة الرسالة ومن ثم يزداد يقينهم وثوابهم ولا يحصل لهم حيرة
ولا شك ولا ارتباك.
3 - بيان حكمة الله البالغة؛ حيث لم يرسل رسولاً فيدعه هملاً من غير أن
يؤيده بما يدل على صدقه وإن المرء لو أرسل شخصاً بأمر مهم من غير أن يصحبه
بدليل أو أَمارة على صحة إرساله إياه لعُدّ ذلك سفهاً وموقفاً سلبياً من هذا الرسول،
فكيف برسالة عظيمة من أحكم الحاكمين؟ ! ، إنها لابد أن تكون مؤيدة بالبراهين
والآيات البينات.
4 - رحمة الله بالرسول الذي أرسله الخالق؛ حيث ييسر قبول رسالته بما
يجريه على يديه من الآيات ليتسنى إقناع الخلق بطريقة لا يستطيعون معارضتها
ولا يمكنهم ردها إلا جحوداً وعناداً؛ قال الله - تعالى -[فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ] ، أي
لما يرون من الآيات الدالة على صدقك، [ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ]
[الأنعام: 33] .
5 - إقامة الحجة على الخلق؛ فإن الرسول لو أتى بدون آية دالة على صدقه
لكان للناس حجة في رد قوله وعدم الإيمان به، فإذا جاء بالآيات المقنعة الدالة على
رسالته لم يكن للناس أي حجة في رد قوله.
بيان أن هذا الكون خاضع لقدرة الله وتدبيره، ولو كان مدبراً لنفسه، أو
طبيعة تتفاعل مقوماتها وتظهر من ذلك نتائجها وآثارها - لما تغيرت فجأة واختلفت
عادة بمجرد دعوى شخص لتؤيده بما ادعاه.
فانظرْ إلى الأكوان الفلكية التي لا تتغير بعوامل الزمن إلا بإرادة الله، ولقد
أجراها الله - تعالى - كما قدر لها أن تجري منذ خلقها الله حتى يأذن بانتهائها.
آيات النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه (الجواب الصحيح لمن ...
بدَّل دين المسيح) : (والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد -صلى الله عليه
وسلم- كثيرة وهى أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ... ويسميها من يسميها من النظار (معجزات) ، وتسمى (دلائل النبوة) و (أعلام ...
النبوة) ونحو ذلك، وهذه الألفاظ التي سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على
المقصد من لفظ المعجزات؛ ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان) . قال - رحمه الله -: (والآيات نوعان منها ما مضى وصار معلوما بالخبر، ومنها ما هو باقٍ إلى اليوم كالقرآن والإيمان
والعلم اللذيْن في أتباعه، وكشريعته التي جاء بها..) .
ومن هذه الآيات:
1- القرآن الكريم وهو أعظم آيات النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه الآية
السابقة الباقية، فمنذ أوحى الله إليه به حتى اليوم وهو آية شاهدة على نبوة محمد -
صلى الله عليه وسلم-.
فالقرآن كلام الله - تعالى - لفظاً ومعنى، تكلم الله به نفسه كلاماً حقيقياً؛
فأوحاه إلى جبريل، ثم نزل به جبريل على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-،
فوعاه وحفظه، وتكفل الله له بحفظه؛ حيث قال: [إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ (17)
فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] [القيامة: 17-19] . وإذا كان الله
قد تكفل ببيانه؛ فمعناه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيحفظه ويعيه حتى
يبلغه للناس ويبينه لهم، قال تعالى: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
[الحجر: 9] .
والقرآن آية من آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- الدالة على صدقه من عدة
أوجه:
الأول: عجز الخلق كلهم أن يأتوا - مجتمعين أو منفردين - بمثل هذا القرآن؛ قال الله - تعالى -: [قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] [الإسراء: 88] ، يعني لا
يمكن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم معيناً لبعض؛ وذلك لأن القرآن كلام الله ولا
يمكن أن يماثله شيء من كلام المخلوقين، لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، ولا من حيث التأثير، ولا من حيث الثمرة والآثار الحميدة.
الثاني: من حيث اللفظ في قوته ورصانته وتركيبه وأسلوبه ونظمه وبيانه
ووضوحه وشموله للمعاني العديدة الواسعة التي لا تزال تظهر عند التأمل والتفكير،
حتى إنك لتسمع الآية التي ما تزال تقرؤها فينقدح لك منها معنى جديد كأنك لم تسمع
الآية من قبل وكأن الآية نزلت لتوّها من أجله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (نفس نظْم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس
من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأتِ أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس
من جنس الشعر ولا الرجز ولا الرسائل ولا الخطابة، ولا نظمه نظم شيء من كلام
الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة
ليس له نظير في كلام جميع الخلق) . وقال الشيخ محمد رشيد رضا - في كتابه
(الوحي المحمدي) : (إن القرآن لو أُنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها
لفقد بهذا الترتيب أخص مراتب إعجازه المقصود بالدرجة الثانية) . وقال: (لو
كان القرآن مرتباً مبوباً - كما ذكر - لكان خالياً من أعظم مزاياه شكلاً وموضوعاً،
يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذي أنزله به رب العالمين العليم
الحكيم الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلها بعضها ببعض، وتفريقها في سوره
الكثيرة الطويلة منها والقصيرة بالمناسبات المختلفة، وتكرارها بالعبارات البليغة
المؤثرة في القلوب المحركة للشعور المنافية للسآمة والمَلَل) ... إلى أن قال:
(والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابي في الترغيب والترهيب والتعجب
والتعجيب والتكريه والتحبيب والزجر والتأنيب واستفهام الإنكار والتقرير والتهكم
والتوبيخ بما لا نظير له في كلام البشر من خطابة ولا شعر ولا رجز ولا سجع،
فبهذا الأسلوب الرفيع في النظم البديع وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد
في معنى وصفه، لا تبلى جدته ولا تخلقه كثرة الترديد) . اهـ.
الوجه الثالث من إعجاز القرآن من حيث أهدافه العالمية وآدابه الكاملة
وتشريعاته المُصلحة، فقد جاء بإصلاح العقيدة من الإيمان بالله وبما له من الأسماء
والصفات والأفعال، والإيمان بجميع ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر
خيره وشره، وما يتعلق بذلك، وجاء بإخلاص العبادة لله وتحرير الفكر والعقل
والشعور من عبادة غير الله والتعلق به خوفاً ورجاءً ومحبة وتعظيماً.
وجاء بالآداب الكاملة - التي يشهد بكمالها وصلاحها وإصلاحها كل عقل سليم - أمر بالبر والصلة والصدق والعدل والرحمة والإحسان، ونهي عن كل ما يخالف ويناقض من الظلم والبغي والعدوان.. أما تشريعاته فناهيك بها من نظم مصلحة للعباد والبلاد في المعاش والمعاد، وإصلاحاً في العبادة، وإصلاحاً في المعاملة في الأحوال الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والفردية والكمالية، فيما لو اجتمع الخلق كلهم على سنّ نظم تماثلها أو تقاربها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
الوجه الرابع من إعجاز القرآن قوة تأثيره في النفوس والقلب؛ فإنه ينفذ إلى
القلب نفوذ السهم في الرمية، ويسيطر على العقول سيطرة الشمس على أفق الظلام، كما شهد بذلك المُوالي والمعادي، حتى إن الرجل العادي - فضلاً عن المتعلم -
لَيسمع القرآن فيجد من نفسه جاذبية عظيمة تجذبه إليه قسراً، يعرف أن ليس هذا
من كلام البشر، وقصة سماع الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة له معروفة في
السيرة. ولقد كان بعض الكبراء من قريش يأتون ليلاً خفية يستمعون إلى تلاوة
النبي -صلى الله عليه وسلم- للقرآن كما جرى ذلك لأبي جهل وأبي سفيان
وغيرهما. وهذه القصص وأمثالها تدل دلالة ظاهرة على تأثير القرآن في النفوس
وأخْذه بمجامع القلوب. ولكن هذا التأثير قد لا يظهر لكل أحد، إنما يظهر لمَن كان
له ذوق ومعرفة بأساليب الكلام وبلاغة اللسان.
ومن يكُ ذا فم مر مريض ... يجد مُراً به الماء الزُّلالا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد أن ذكر أنواعاً من إعجاز
القرآن: (وهذه الأمور مَن ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من
هذا الوجه ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز
جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وإخباره
بعجزهم فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد) .
الوجه الخامس من إعجاز القرآن تلك الآثار الجليلة التي حصلت لأمة القرآن
باتباعه والعمل بأهدافه السامية وتعاليمه الرشيدة، فقد ارتقى بأمة القرآن التي
اعتنت به لفظاً وفهماً وتطبيقاً، ارتقى بها إلى أوج العُلى في العبادة والآداب
والكرامة والعزة، لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة هذا القرآن الكريم فكانوا لا
يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل؛ فتعلموا القرآن
والعلم والعمل جميعاً، فسادوا جميع العالم، وصارت لهم العزة والغلبة والظهور
والتمكين في الأرض والعلوم النافعة، مع أنهم كانوا قبل ذلك متفرقين ضالين أُميين
مغلوبين بين الأمم، ولن يعود لأمة القرآن ذلك العز والظهور والغلبة حتى يرجعوا
إلى المَعين الذي روي به أسلافهم، فيأخذوا منه صافيا من غير كدر، لن يعود لهم
ذلك حتى يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
ويتفهموها ويطبقوها، اعتقاداً وقولاً وعملاً فعلاً وكيفاً، مؤمنين بذلك، معتقدين أن
هذا هو طريق الصلاح والإصلاح والسلامة.
وإن من المؤسف حقاً أن ترى الكثير من المسلمين اليوم لا يلتفتون إلى الكتاب
والسنة ولا يتفهمونها، بل أكثرهم لا يقرأ من القرآن في عامه كله إلا ما يقرؤه في
صلاته هذا مع قلة تفهم في اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وليس عندهم ذوق
لُغوي شرعي لكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنا لنرجو من
الله - تعالى - أن يهيئ لأمة القرآن من أمرها رشداً، وأن يبعث لها قادة فكر
وسياسة لما فيه الخير والصلاح والرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح؛ فلن
يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
2-ومن آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أظهره الله شاهداً على صدقه
من الآيات الأفقية؛ كما قال - تعالى -: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [فصلت:
53] ، ولذلك أمثلة:
المثال الأول: انشقاق القمر، فقد انشق القمر وصار فرقتين، وشاهد الناس
ذلك وقد أشار الله إلى ذلك في القرآن؛ قال الله - تعالى -: [اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وانشَقَّ القَمَرُ * وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ] [القمر: 1-3] وقد أجمع العلماء على وقوع ذلك في
عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة، وقد رآه الناس بمكة وقال النبي -
صلى الله عليه وسلم- حين رآه -: (اشهدوا اشهدوا) ، وقدِم المسافرون من كل ...
وجه فأخبروا أنهم رأوه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وجعل الآية في انشقاق
القمر دون الشمس وسائر الكواكب؛ لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم،
وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك؛ إذ هو للجسم المستنير الذي يظهر الانشقاق فيه لكل من يراه ظهوراً لا يُتمارى فيه وأنه إذا قبِل الانشقاق فقبول محله
أَوْلى بذلك وقد عاينه الناس وشاهدوه وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه
السورة في المجامع الكبار مثل صلاة العيدين، كل الناس يقر بذلك ولا ينكره ولو لم
يكن قد انشق لأسرع الناس إلى تكذيب ذلك) اهـ.
وقد استبعد أُناس وقوع انشقاق القمر وحاولوا تحريف معنى القرآن في ذلك
وقد أخطأوا خطأً كبيرا في هذا الإنكار؛ فالقرآن لا يتحمل المعنى الذي حرفوه إليه، والنصوص الثابتة الكثيرة من الأحاديث صريحة في انشقاقه انشقاقاً حسياً مشهوداً، ولا يقدح في ذلك ما زعمه بعضهم من كونه لم يُنقل في تاريخ غير التاريخ
الإسلامي، فإن نقله في التاريخ الإسلامي كافٍ في ذلك، وقد جاء به القرآن الكريم، ولعل الناس الذين لم ينقلوه لم يشاهدوه، لعله وقع وهم نيام أو كانوا في النهار ولم
يشعروا به، أو كان في تلك الساعة مانع من سحاب أو غيره، وقد أخبر المسافرون
الذين قدموا مكة بمشاهدته وهو لم يستمر فيما يظهر وإنما كان آية شاهدها الناس ثم
عاد إلى حاله الأولى.
المثال الثاني: المعراج: فإنه من أكبر الآيات؛ فلقد أُسري بالنبي -صلى الله
عليه وسلم- في ليلة واحدة إلى بيت المقدس، واجتمع هناك بالأنبياء، وصلى بهم، ثم عرج به جبريل حتى بلغ سدرة المنتهى فوق سبع سموات، وأوحى الله -
تعالى - إليه ما أوحى، وشاهد -صلى الله عليه وسلم- من آيات الله الكبرى ما
شاهد ومر بالأنبياء في كل سماء، ورجع إلى مكة، كل ذلك في ليلة واحدة، مع
بُعد المسافة الأرضية بين مكة وبين بيت المقدس، ثم البعد العظيم بين السماء
والأرض، وبين السماء الدنيا وما فوقها إلى سدرة المنتهى. وقد أخبر الله - تعالى - في القرآن عن الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في سورة النجم إذا
هوى.
المثال الثالث: نزول المطر باستسقائه مباشرة وإقلاع المطر باستصحائه
مباشرة، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أصابت سنة - أي جدب - على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَبَيْنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا
رسول الله! ، هلك المال وجاع العيال، فادعُ الله لنا؛ فرفع يديه وما نرى في
السماء قزعة - أي قطعة سحاب - فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب
أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحاور على لحيته،
فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك
الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله! ، تهدَّم البناء وغرق المال فادعُ الله لنا،
فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا
انفرجت فأقلع المطر وخرجنا نمشي في الشمس ".
ومن آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رواه البخاري وغيره عن جابر -
رضي الله عنه - قال: عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بين يديه ركوة (إناء للماء) فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: ليس
عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في الركوة التي عندك، فوضع النبي -صلى الله
عليه وسلم- يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال
: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم؟ ، قال: لو كنا مائة ألف لكفانا! ، كنا
ألفاً وخمسمائة! .
ومن آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- تكثير الطعام كما جرى ذلك يوم
الخندق وجرى ذلك لأبي هريرة مع أهل الصفة.
ومن آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- ما وقع مطابقاً لما أخبر به -صلى
الله عليه وسلم- من أمور الغيب التي وقعت في عهده وبعده ولذلك أمثلة أيضاً:
المثال الأول: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يرينا مصارع أهل بدر قبل ابتداء القتال، يقول هذا: مصرع فلان غداً إن شاء ... الله، هذا مصرع فلان، فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) .
المثال الثاني: إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن ظهور نار في أرض
الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببُصرَى، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تقوم الساعة حتى
تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، فقد خرجت هذه
النار في جُمادَى الآخرة سنة 654 شرق المدينة فأقامت نحواً من شهر، وملأت
الأودية وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى (وهى بلدة بالشام) ، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: " وهذه النار كانت تحرق الحجر! ".
ومن أمثلة ذلك ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما سيكون من الفتن
وتغير أحوال الناس وغير ذلك.
وآياته -صلى الله عليه وسلم- كثيرة جداً وقد ذكر أهل العلم من ذلك الشيء
الكثير ومن أوسع ما رأيت في ذلك تاريخ ابن كثير - رحمه الله - حيث كتب في
آيات النبي مجلداً كبيراً، وذكر أن جميع آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -
قد جرى مثلها للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو ما هو أعظم منها.
وهذه الآيات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه وأوليائه كلها شاهدة بما له -
تعالى - من كمال العلم والقدرة والرحمة، وأن الأمور كلها بيده يجريها كما يشاء،
لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
فلله الحمد والمنة، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه،
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(13/20)
في رحاب كتاب الله
شكوى النبي الكريم من هجر القرآن العظيم
للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله
[وقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً]
[الفرقان: 30]
المناسبة:
لما ذكر-تعالى- ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن والإعراض والصد عنه، وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة على ما ...
كان منهم من ذلك في الدنيا ذكر ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشكوى
لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره.
المفردات:
مهجوراً: متروكاً مُقاطَعاً مرغوباً عنه. الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
محمد.
وقومه: قريش.
التراكيب:
في قوله [يا رب] : إظهار لعظيم التجائه وشدة اعتماده وتمام تفويضه
لمالكه، ومدبر أمره ومُوالي الإنعام عليه. وفى التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه،
وفى التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب بيان لعظيم جرمهم، فتركهم للقرآن -
وهو قريب في متناولهم - وقد أتاهم به واحد منهم أقرب الناس إليهم؛ فصدوا
وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب. وهذا أقبح الصد وأظلمه. وفى
قوله [اتخذوا] .. الخ بيان أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم، وذلك أعظم من أن يقال هجروه، الذي يفيد وقوع الهجران منهم دون دلالة على
الثبوت والملازمة.
المعنى:
وقال الرسول شاكياً لربه إن قومي - الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم - قد صدوا عنه؛ فتركوه وثبتوا على تركه وهجره.
استنتاج وعبر:
في شكوى النبي -صلى الله عليه وسلم- من هجر القرآن دليل على أن ذلك
من أصعب الأمور عليه وأبغضها لديه، وفى حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير
للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه، ولما كان الهجر طبقات، أعلاها
عدم الإيمان به فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.
تنزيل:
ونحن - معشر المسلمين - قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان
الطويل وإن كنا به مؤمنين، بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة
القاطعة؛ فهجرناها، وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، وأخذنا في الطرائق
الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على
الطلبة فضلاً عن العامة، وبيّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال
والحرام ووجوه النظر والاعتبار، مع بيان حِكم الأحكام وفوائدها في الصالح
الخاص والعام؛ فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر،
جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل
الوصول إليها، وبيّن القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوىء الأخلاق ومضارها، وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس،
والسلامة من الخيبة بتدسيتها؛ فهجرنا ذلك كله، ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا،
واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو
والتنطع، وعن السنة البيضاء إلى الإحداث والتبدع، وأدخلنا فيها من النسك
الأعجمي، والتخيل الفلسفى ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقى بين
أهلها بذور الشقاق والخصام، وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها،
والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها.
وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه، ونبهنا على ما فيه من عجائب
الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل؛ فهجرنا ذلك كله إلى خريدة
العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وقرون الثور! ، ودعانا القرآن إلى
تدبره وتفهمه والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه؛ فأعرضنا عن
ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم
الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير - كتفسير الجلالين مثلاً
- بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك. وفي جامع الزيتونة - عمّره الله
تعالى - إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير فإنه - ويا
لَلمصيبة! - يقع في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد
التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل؛ فيقضي في خصومة من الخصومات أياماً
أو شهوراً، فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلاً دون أن
يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنها
تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يُقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية لا
لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية. فهذا هجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون
أنفسهم أنهم في خدمة القرآن.
وعلَّمنا القرآن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم
من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم وينهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته
العملية والقولية تالية للقرآن؛ فهجرناها كما هجرناه وعاملناها بما عاملناه، حتى إنه
ليقلّ في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد - مَن يكون قد ختم
كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم
من أهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة. وكم وكم وكم بيّن القرآن، وكم
وكم وكم قابلناه بالصد والهجران!
بيان واستشهاد:
شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به
ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه؛ لأنهم جمعوا بين صدهم
وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم؛ فكان شرهم متعدياً وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر
وأعظم البلاء ما كان كذلك، وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم -في كتاب
إعلام الموقعين - عن حماد بن سلمة ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد
بن أبي عميرة عن معاذ بن جبل قال:
تكون فتن؛ فيكثر المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير
والكبير والمنافق والمؤمن فيقرؤه الرجل فلا يتبع؛ فيقول والله لأقرأنَّه علانية فلا
يتبع فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة. قاله معاذ ثلاث مرات. اهـ.
فانظر في قطرنا وفى غير قطرنا، كم تجد ممن بنى موضعاً للصلاة ووضع
كتباً من عنده أو مما وضعه أسلافه من قبله وروجها بين أتباعه، فأقبلوا عليها
وهجروا القرآن وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه، إذ لا نفع
بما صرف عباد الله عن كتاب الله، وإنما يُدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمي صنيع
هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه وأكد في التحذير بالتكرير. وهذا
الحديث وإن كان موقوفاً على معاذ - فهو في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار بمغيب
مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم - إلا بتوقيف من
النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان، ولا
حول ولا قوة إلا بالله!
سبيل النجاة:
لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوع الذي نذوقه ونقاسيه إلا
بالرجوع إلى القرآن، إلى علمه وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه،
والتفقه فيه وفي السنة النبوية شرحه وبيانه، والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد
وصحة الفهم والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والاهتداء بهديهم في الفهم عن
رب العالمين، وهذا أمر قريب على من قرّبه الله عليه، يسير على من توكل على
الله فيه، وقد بدت طلائعه - والحمد لله - وهى آخذة في الزيادة - إن شاء الله -
وسبحان مَن يحيي العظام وهي رميم [1] .
__________
(1) د عمار الطالبي: ابن باديس حياته وآثاره، 1/406.(13/33)
الوحدة والائتلاف..
ونبذ الفرقة والاختلاف
د. محمد محمد بدري
في الوقت الحاضر بدأت الصحوة الإسلامية في شتى أنحاء البلاد الإسلامية..
وفي طريق عودة الأمة إلى الله لابد من معالم تبين لها طريق عودتها لتصبح بحق
أمة مسلمة تستحق نصر الله ورضوانه ...
ونحن نعتقد أن منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الصحيح الذي يجب أن
تسير عليه الأمة، ومنهج أهل السنة والجماعة هو الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والالتزام بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله ... عليه وسلم -، وشعارهم الحرص على جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم. ...
وإن من أعظم ما أصاب المسيرة الإسلامية الفرقة والتنازع والاختلاف؛
فساحة العمل الإسلامي تغص بجماعات كثيرة واحدة، دعواها واحدة وهي الإسلام
وإعادة مجد الإسلام وأمة الإسلام، ولكنها متنافرة فيما بينها، تتراشق الاتهام ... بل
يصل الأمر إلى الرمي بالمروق من الدين والاتهام بالضلال وهذا هو الخلاف
المذموم الناشئ عن الهوى والتعصب لرجل أو جماعة بدون تعرف على الحق وتبين
له.
والفرقة دائماً بلاء يفسد كل صالح من الأعمال ويقطع عنه أكثر نتائجه،
فكيف إذا تحولت الفرقة إلى تدابر؟ !
إننا جميعاً يجب أن نتعلم أن اختلافنا مع الآخرين لا يعني فقدانهم مقومات
العمل الإسلامي وخروجهم من دائرة المصلحة إلى دائرة المفسدة، كما أن هذا
الخلاف لا يجب أن يعمينا عن إيجابيات الآخرين.
بل يجب علينا الاستفادة من تجارب الآخرين وأن نتعلم كيف نمد معهم جسور
المودة والمحبة ونشاور منهم أهل العلم والخبرة فنكون وكأنما جمعنا علمهم إلى علمنا، وعقلهم إلى عقلنا.
ونحاول إيجاد صيغة للالتقاء والانسجام بين تجمعات أهل السنة والجماعة
العاملة في الساحة الإسلامية بحيث تمضي القافلة المسلمة في طريق واحد نحو
هدفها.
قد يقول البعض إن الاختلاف والتفرق أمر قدري كوني أخبر به النبي -صلى
الله عليه وسلم- في قوله: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين
وسبعين فرقة، والنصارى على مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة "
وإذن فلا فائدة من العمل على الائتلاف والوحدة! .. ونحن هنا نشير إلى أمر مهم
يجب أن يفهمه المسلم وهو التمييز بين الأمر الشرعي والأمر القدري الكوني، أو
بين ما هو مطلوب منا وما هو واقع بنا فالمطلوب منا هو العمل على الائتلاف وما
هو واقع بنا هو أن الفرقة والاختلاف واقعان لا محالة، فإذا قمنا بما هو مطلوب
منا فسيؤدي ذلك - بإذن الله - إلى تكثير الفرقة الناجية التي قال عنها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم
من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» .
وكما قال ابن تيمية - رحمه الله -:
لا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهى عنه؟ لأن الكتاب والسنة قد دلا على أنه لا يزال طائفة في هذه الأمة متمسكة بالحق
إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة
المنصورة، نسأل الله المجيب أن يجعلنا منها (اقتضاء الصراط المستقيم) . ...
ولابد أن نعلم أن هويتنا الحقيقية هي أننا عبيد مملوكون لله، بيده وحده تقلباتنا، وإليه وحده مصيرنا، وله حياتنا ومعادنا.
ونحن نظن أن حضور هذا البعد الإيماني هو الضمانة الحقيقية لشرعية
علاقتنا، والملاذ الأخير لتصفية خلافاتنا، ونزع أغلال قلوبنا. فلنحاول إذا اكتسبنا
معرفة وعلماً ألا نفتقد خلق هذه المعرفة، فلا يصح أن نمتلك الوسيلة ونضيع الهدف
والغاية.
فالعلم إنما يراد لتقع الأعمال في الواقع على وفقه، والعلم يقول لنا: عليكم
بالوحدة ونبذ الفرقة؛ قال - عز وجل -: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا
تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] وذكّرنا - عز وجل - بالحال التي كنا عليها قبل
الإسلام، حين كان الناس قبائل متناحرة يعادي بعضها بعضاً؛ فجاء الإسلام
فأصبحوا إخوة أحبة: [واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً وكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا] [آل عمران:
103] ، ونهانا - عز وجل - أن نسلك مسلك الأمم من قبلنا وهو التنازع
والاختلاف: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] ، وأخبر - سبحانه - أن التنازع والخلاف
يؤدي إلى الفشل وذهاب قوة الأمة: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]
[الأنفال: 46] .
وحينما تريد الحركة الإسلامية أن تقف على قدميها فلابد أن تكون فصائلها
متحالفة مترابطة، والوحدة التي نريدها هي وحدة الطاقات؛ فالبعض يملك القوة
العددية والبعض يملك الكوادر والطرف الثالث يملك المال وآخر يملك طاقة أخرى
وهكذا يمكن أن تتكامل هذه الطاقات وتتعاون في سبيل هدفنا الواحد.
إننا لا نرمي من وراء دعوتنا إلى الوحدة بين فصائل الحركة أن يتنازل
رؤوس الفصائل الإسلامية في الحركة عن أفكارهم الشخصية مادامت معتقدات يشهد
لها الشرع بالقبول، ولا نطلب منهم أن يتخلوا عن مواقفهم، بل نطلب منهم أن
يتقدموا بمجهوداتهم ويساهموا بطاقاتهم في الحركة الإسلامية بحيث ينتظم عمل
الجميع إطار واحد متكامل الأجزاء للانطلاق إلى الهدف المنشود من عودة هذه الأمة
وإحيائها بالتوحيد وبعثها لتقود هذه البشرية من جديد.
نقول للجميع إننا نعمل من أجل دعوة واحدة ونسعى إلى هدف واحد، ونرتبط
بمصير واحد؛ فعلينا أن نعمل في اتجاه واحد وفق منهاج واضح، وأن نتعاون على
البر والتقوى ولا نتنازع فيما بيننا فنفشل ونضعف وتضيع الأهداف التي ننشدها،
وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى.(13/38)
قضايا فقهية
-1-
مدى تدخل الدولة
في فرض الضرائب وتوظيف الأموال
عثمان جمعة ضميرية
مع اتساع سلطات الدولة في العصر الحديث، وتغير بعض الظروف، وتجدد
الحوادث والوقائع، نجد من الواجب دراسة بعض المسائل التي تتصل بحياة الناس
وواقعهم لبيان حكم الإسلام فيها، ومن ذلك ما نجده من تدخل الدولة في ملكيات
الأفراد الخاصة بفرض ضرائب متنوعة وتوظيف الأموال على القادرين من أفراد
المجتمع. فما هو حكم الإسلام في ذلك؟ وما مدى مشروعيته؟ .. هذا ما سنعالجه
في هذا المقال معالجة موجزة مركزة تتفق مع طبيعة المجلة - بإذن الله تعالى.
تعريف الضريبة:
الضريبة عند علماء المالية هي: فريضة إلزامية، يلتزم الفرد بأدائها إلى
الدولة تبعا لمقدرته على الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء
الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات ... العامة [1] .
حماية الملكية:
والأصل العام والقاعدة المقررة في الشريعة الإسلامية: أن المسلم إذا ما التزم
بدفع الواجبات المالية التي تتعلق بملكية المال الذي بيده، فإنه لا يجوز بعد ذلك
التعرض لما في يده من أموال دون حق، إلا إذا اقتضت ذلك الضرورة والمصلحة
ضمن القواعد الشرعية المقررة؛ لذلك رأينا كثيراً من النصوص الشرعية تتوارد
منددة بالمكوس وأخذ الأموال دون حق، ومن ذلك ما جاء عن عقبة بن عامر -
رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يدخل
الجنة صاحب مكس) [2] ، وعن عبد الله بن عمرو قال: (إن صاحب المكس لا
يُسأل عن شيء، يؤخذ كما هو، فيُرمى به في نار جهنم) [3] .
* وكتب عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى عدي بن أرطأة أن: (ضع
الفدية، وضعْ عن الناس المائدة، وضع عن الناس المكس، وليس بالمكس، ولكنه
البخس الذي قال الله - تعالى -: [ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ولا تَعْثَوْا فِي
الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] [هود: 85] ، فمن جاءك بصدقة فاقبلها منه، ومن لم يأتكِ بها
فالله حسيبه) .
* وكتب أيضاً إلى عبد الله بن عوف القاري أن: (اركبْ إلى البيت الذي
برفح، الذي يقال له: بيت المكس، فاهدمْه، ثم احملْه إلى البور فانسفْه فيه ... نسفاً! [4] .
* ولهذا قال الإمام أبو يوسف القاضي - رحمه الله -: (ليس للإمام أن
يُخرج شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف) [5] ، وقال: (وكل مَن أقطعه
الولاة المهديون أرضاً من أرض السواد وأرض العرب والجبال، من الأصناف التي
للإمام أن يقطع منها - فلا يحل لمَن يأتي بعدهم من الخلفاء أن يرد ذلك، ولا
يخرجه من يد مَن هو في يده، وارثاً أو مشترياً، فأما إن أخذ الوالي من يد واحد
وأقطعها آخر فهذا بمنزلة الغاصب؛ غصب واحداً وأعطى آخر، فلا يحل للإمام،
ولا يسعه أن يقطع من الناس حق مسلم ولا معاهد، ولا يخرج من يده من ذلك شيئاً
إلا بحق يجب له عليه، فيأخذه بذلك الذي وجب له عليه.. والأرض عندي بمنزلة
المال) [6] .
الآثار الاقتصادية للضرائب:
وعقد العلاَّمة الاجتماعي ابن خلدون فصلاً في مقدمته المشهورة بعنوان (في
ضرب المكوس أواخر الدولة) بيَّن فيه الأسباب التي تدعو الدولة لفرض المكوس
على الرعية، وآثار ذلك على النشاط الاقتصادي، وعلى الدولة، حيت تكسد
الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة - ولا
يزال يتزايد - إلى أن تضمحل [7] .
ثم عقد فصلاً آخر (في أن الظلم مُؤْذن بخراب العمران) ؛ فقال فيه:
ولا تحسبن الظلم إنما هو أخْذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض
ولا سبب - كما هو المشهور - بل هو أعم من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو
غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقاً لم يفرضه المشرع فقد
ظلمه.. فلما كان الظلم مؤْذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت
حكمة الحظر (المنع) فيه موجودة، فكان تحريمه مهماً، وأدلته من القرآن الكريم
والسنة النبوية كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر ... ) [8] .
الحكم يدور مع علته:
هذا الذي تقدم يبين لنا أنه من الظلم المحرم العدوان على ملكيات الناس
وأموالهم بغير حق ثابت؛ ولهذا جاءت النصوص الشرعية بتحريمه، وتبين أن هذا
الحكم بالتحريم معلَّل بأنه ظلم وعدوان، وهو ما دفع ابن خلدون وغيره إلى القول
بعدم جواز أخذ شيء من المال، وهو ما أقرته الشريعة الإسلامية، لكن إذا زالت
العلة، فلم يعد الأخذ بغير حق، وإنما هو أمر تستوجبه المصلحة العامة، وتضبطه
القواعد الشرعية المقررة - فهل يكون هذا الأخذ أو التوظيف للأموال حراماً؟
نصوص فقهية:
عرض فقهاء الشريعة الإسلامية توظيف الأموال على الأغنياء عند الحاجة وقرروا جواز ذلك، وفيما يلي نصوص عن بعض الأئمة الفقهاء: ... ...
* رأي الغزالي: قال الإمام الغزالي - رحمه الله -: " إذا خلت أيدي الجنود
من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق
العسكر واشتغلوا بالكسب لَخيف دخول العدو بلاد الإسلام، أو خِيف ثوران الفتنة
من أهل العرامة في بلاد الإسلام - فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار
كفاية الجند؛ لأنا نعلم أنه: إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد
الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر
به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام من ذي شوكة، يحفظ نظام الأمور ويقطع
مادة الشرور. ومما يشهد لهذا: أن لولي الطفل عمارة القنوات، وإخراج أجرة
الطبيب وثمن الأدوية، وكل ذلك تنجيز لتوقع ما هو أكثر منه) [9] .
* رأي الجويني: وقد نص على ذلك أيضاً إمام الحرمين الجويني، وهو
شيخ الغزالي، في كتابه " الغياثي "، فقال: " إذا صفرت يد راعي الرعية عن
الأموال، لحاجات ماسة، فلا يخلو الحال من ثلاثة أنحاء:
الأول: أن يطأ الكفار ديار الإسلام - والعياذ بالله - فقد اتفق حملة الشريعة
قاطعة على أنه يتعين على المسلمين أن يخفوا إلى مدافعتهم زرافات ووحداناً.. وإذا
كان هذا دين الأمة ومذهب الأئمة، فأي مقدار للأموال في هجوم أمثال هذه الأهوال، لو مست إليها الحاجة؟ ! وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعدلها، ولم توازنها، فيجب على الأغنياء في هذا القسم أن يبذلوا فضلات أموالهم، حتى تنجلي هذه
الداهية، وتنكف الفئة المارقة الطاغية.
والثاني: أن لا يطأ الكفار ديار الإسلام، ولكنا نحاذر ذلك ونستشعره،
لانقطاع موارد الأموال واختلال الأحوال، فلا يحل تأخير النظر للإسلام والمسلمين
إلى اتفاق استجراء الكافرين، والدفع أهون من الرفع، وأموال العالمين لا تقابل
غائلة وطأة الكفار قرية من قرى المسلمين، فليلحقْ هذا القسم بما تقدم.
وأما القسم الثالث: وهو أن لا نخاف من الكفار هجوماً، لا خصوصاً في
بعض الأقطار، ولا عموماً، لكن الانتهاض للغزو والجهاد يقتضي مزيد عتاد
واستعداد، فللإمام أن يكلف الأغنياء من فضلات الأموال ما تحصل به الكفاية
والغناء، فإن إقامة الجهاد فرض على العباد ".
ثم يضع إمام الحرمين ضوابط لهذا التدخل فيقول:
ليس للإمام في شيء من مجاري الأحكام أن يتهجم ويتحكم، فعل من
يتشهى ويتمنى، ولكنه يبني أموره كلها على وجه الرأي والصواب، في كل باب،
والأمر في أخذ الأموال يجري على هذه الأحوال. فليشر على أغنياء كل صقع بأن
يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال.
فإذا عسر التبليغ إلى الاستيعاب، ورأى في وجه الصواب أن يخصص أقواماً، ثم يجعل الناس في ذل كفئاتٍ، فيستأدي عند كل ملمة من فرقة أخرى وأمة - اتبع في ذلك كله أوامره - واجتنب زواجره. ثم ليكن في ذلك على أكمل نظر، وأسدّ فكر وعبر ... فإذا اقتضى الرأي تعيين أقوام على التنصيص تعرض لهم على التخصيص، ونظر إلى من كثر ماله وقل عياله، وقد يتخير من خيف عليه من كثرة ماله أن يطغى، ولو تُرك لفسد، ولو غض من غلوائه قليلاً لأوشك أن يقتصد [10] .
* رأي الشاطبي: وقال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في كتابه النفيس
(الاعتصام) : إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد حاجات الثغور ...
وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى مالا
يكفيهم، فللإمام - إذا كان عدلاً - أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في
الحال إلى أن يظهر مال بيت مال المسلمين، ثم إليه ينظر في توظيف ذلك على
الغلات والثمار وغير ذلك، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب،
وذلك يقع قليلاً من كثير- بحيث لا يجحف بأحد -ويحصل المقصود.
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم،
بخلاف زماننا (زمان الشاطبي) ؛ فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا
ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام لبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا
عرضة لاستيلاء الكفار.
وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام مع عدله، فالذين يحذرون من الدواهي لو
تنقطع عنهم الشوكة - يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها - فضلاً عن اليسير
منها، فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ بعض أموالهم،
فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول، وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل
النظر في الشواهد.
ثم قال: (والملاءمة الأخرى أن الأب في طفله أو الوصي في يتيمه، أو ...
الكافل فيمن يكفله مأمور برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله إلى وجوه من
النفقات أو المؤن المحتاج إليها، وكل ما يراه سبباً لزيادة ماله - مال الطفل أو
القاصر - أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله. ومصلحة الإسلام
عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد
من الآحاد في حق محجوره.
فهذه ملاءمة صحيحة، إلا أنها في محل ضرورة، فتقدر بقدرها، فلا يصح
هذا الحكم إلا مع وجودها ... وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها ابن العربي في أحكام القرآن. وشرط جواز ذلك كله عندهم
عدالة الإمام، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع) [11] .
* رأي ابن حزم: وممن عرض لهذه المسألة، وأيدها بالنصوص الشرعية
والحجج القوية الإمام ابن حزم في كتابه العظيم (المحلَّى) ، فقال: (وفرض على
الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم
تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين ما يقوم بهم، فيقام لهم بما يأكلون
من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم
من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.
برهان ذلك: قول الله - تعالى -: [وآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ
السَّبِيلِ] [الإسراء: 26] ، وقال - تعالى -: [وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً وبِذِي القُرْبَى
والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْجَارِ ذِي القُرْبَى والْجَارِ الجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ
السَّبِيلِ ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] [النساء: 36] ، فأوجب تعالى حق المساكين وابن
السبيل وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي
القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا،
ومنْعه إساءة بلا شك.
وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) [12] . قال أبو محمد (ابن حزم) : ومن كان على فضلة ورأى أخاه المسلم جائعاً عريان ضائعاً فلم يُغثه فما رحمه بلا شك.. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-:
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه..) [13] ، ومن تركه يجوع ويعرى - وهو قادر على إطعامه - فقد أسلمه.
والنصوص من القرآن، والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جداً [14] .
ويذهب ابن حزم إلى أن المسلم لا يعتبر مضطراً لأكل لحم الميتة أو الخنزير
وهو يجد طعاماً فاضلاً عن حاجة أخيه، وله أن يقاتل للحصول على هذا
الفضل، فيقول: (ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل لحم خنزير أو ميتة وهو يجد
طعاماً فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي؛ لأن فرضاً على صاحب الطعام إطعام
الجائع فإذا كان ذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى الخنزير) .
وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قُتل فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع فإلى
لعنة الله؛ لأنه منع حقاً، وهو طائفة باغية؛ قال - تعالى -: [فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا
عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ] [الحجرات: 9] ، وما
منع الحق باغٍ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق مانع الزكاة [15] . شبهة مردودة:
وعلى هذا لا يحتج على منع توظيف الأموال بما رواه ابن ماجه عن فاطمة
بنت قيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليس في المال حق سوى
الزكاة) [16] ؛ لأنه قد ثبت أن هناك حقوقاً أخرى في المال سوى الزكاة، منها:
النفقات على الأبوين المحتاجين، وعلى الزوجة وعلى الرقيق وعلى الحيوان،
ومنها الديون والأروش (ديات الأعضاء) ، وفكاك الأسير، وإطعام المضطر؛ فإن
هذا قام الإجماع على وجوبه.
والحديث أيضاً معارَض بما رواه الترمذي: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» ، ويمكن القول بأنه ليس في المال حق سوى الزكاة بطريق الأصالة، وقد ...
يعرض ما يوجب فيه حقاً كوجود مضطر، فلا تناقض بينه وبين الخبر السابق؛
لما تقرر من أن ذلك ناظر إلى الأصل، وهذا ناظر إلى ما قد يطرأ فيوجب حقاً
جديداً [17] .
بين الزكاة والضريبة:
وبناءاً على هذه النصوص أجاز الفقهاء المحدثون فرض ضرائب جديدة عند
الحاجة إلى ذلك، فقد سئل الشيخ أبو الأعلى المودودي - رحمه الله -: ما هي
وسائل الدخل للحكومة الإسلامية، والمعروف عامة أنه لا ضريبة في الإسلام إلا
الزكاة والجزية والخراج؟ .
فقال: (من الخطأ القول: إنه لا يجوز في الإسلام أن نفرض ضريبة لسد
نفقات الحكومة، وكذلك لا يصح أن يقال: إن الزكاة هي ضريبة توضع على
الناس لتسد بها نفقات الحكومة، إنما الزكاة مال من أموال التأمين الاجتماعي.
يؤخذ من الأغنياء ليرد إلى من يستحق من الفقراء.
أما حاجات الحكومة فما هي إلا حاجات الجمهور أنفسهم، فكل ما يطالبون به
الحكومة من واجبهم أن يكتتبوا لها من الأموال ما تحقق به مطالبهم) [18] .
(فلا بد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدي - ...
بحسب المال لا بحسب الربح- يعطى منها الفقراء طبعاً، وتجبى من الأغنياء
الموسرين، وتنفق في رفع مستوى المعيشة بكل الوسائل المستطاعة. ومن لطائف
عمر -رضي الله عنه- أنه كان يفرض الضرائب الثقيلة على العنب؛ لأنه ... فاكهة الأغنياء في ذلك الوقت، والضريبة التي لا تُذكر على التمر؛ لأنه طعام الفقراء، فكان أول من لاحظ هذا المعنى في الحكام والأمراء -رضي الله ... عنه -[19] .
الشروط والضوابط:
وبذلك تحدد لنا المجال الذي تعمل فيه هذه النصوص السابقة، ومدى
مشروعية هذه الفرائض أو الضرائب، إلا أن ذلك ليس موكولاً إلى هوى الحكام
وشهواتهم، ليفرضوا على الرعية ما تنوء به الكواهل من الواجبات التي تدخل إلى
خزائن المترفين منهم والمترهلين باسم المصلحة العامة، كما أنه لا يجوز فرض
هذه الضرائب والخزينة في غنى عنها؛ لذلك وضع العلماء شروطاً لابد من توافرها
حتى يصح القول بمشروعية هذه الضرائب، ومن هذه الشروط:
1- أن تكون هذه الضرائب أمراً استثنائياً تدعو إليه المصلحة العامة للمجتمع، وتدبيراً مؤقتاً، حسبما تدعو إليه الضرورة التي تقدر بقدرها، ينتهي ويزول بزوال العلة والحاجة.
2 - أن يكون الحاكم الذي يفرض هذه الضرائب عادلاً، تجب طاعته،
ليكون في هذا ضمان لعدم الظلم والعسف، ولتحقيق العدل.
3 - أن لا يكون هناك في بيت المال والخزينة العامة ما يكفي لسد هذه الحاجات، ولا ينتظر أو يرجى أن يكون شيء من ذلك، نظراً للظروف الطارئة،
وأن يرد الحاكم وحاشيته ما عندهم من أموال فائضة إلى بيت مال المسلمين.
4 - أن يقع التصرف في جباية المال وإنفاقه على الوجه المشروع
5 - كما يشترط أن تكون أحكام الشرع في تلك الحال نافذة كما يجب، وحدوده مقامة كما يرضى، وأن تكون الوظائف في جهاز الحكم بقدر الحاجة، لا تزيد عليها [20] .
هذا ما يسر الله -تعالى- كتابته في هذا الموضوع الذي يتساءل الناس
عن الحكم فيه وللتفصيل والوقائع مجال آخر قد لا يتحمله مقال عاجل أو مجلة ثقافية عامة. والله الموفق.
__________
(1) انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، د عبد السلام العبادي: 2/ 285، والمرجع المشار إليه هناك.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الإمارة، 4/197 (مختصر المنذري) ، والدارِمي في الزكاة: 1/393 وصححه الحاكم في المستدرك: 1/404 ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن خزيمة، 4/51 ? والإمام أحمد، 4/143 ? قال الخطابي: " صاحب المكس هو الذي يعشّر أموال المسلمين ويأخذ من التجار إذا مروا عليه وعبروا به مكساً باسم العشر، وليس هو بالساعي الذي يأخذ الصدقات وأصل المكس: النقص.
(3) أخرجه أبو عبيد في الأموال، 703-704.
(4) أخرجه أبو عبيد في الأموال، 703-704.
(5) الخراج لأبي يوسف، 71 ? وانظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم، 124.
(6) الخراج لأبي يوسف، 66.
(7) مقدمة ابن خلدون، 280-281.
(8) المصدر نفسه، وانظر الفصل بكامله، 286-290.
(9) انظر: المستصفى من علم الأصول للغزالي 2 /304-305، مطبوع مع مسلَّم الثبوت.
(10) انظر: الغياثي للجويني، 256-273 بتحقيق د عبد العظيم الديب، طبعة قطر.
(11) الاعتصام للإمام الشاطبي، 2 /121-123.
(12) أخرجه البخاري في التوحيد،13/385 (فتح الباري) ، ومسلم في الفضائل، 4/1808-1809.
(13) قطعة من حديث أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، 4/1986.
(14) المحلى لابن حزم، 6/224-227 وانظر بحث الدكتور إبراهيم اللبان في مجمع البحوث الإسلامية، 1/248 وما بعدها.
(15) المُحلى، 6/330.
(16) أخرجه ابن ماجه في الزكاة، 1/570 قال النووي: ضعيف جداً وقال ابن القطان: فيه أبو حمزة (ميمون الأعور) : ضعيف انظر: فيض القدير للمناوي، 5/375.
(17) انظر: الملكية في الشريعة ومدى تدخل الدولة في تقييدها لعثمان جمعة ضميرية، 218-220.
(18) نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون للمودودي، 312-313.
(19) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 405.
(20) انظر بالتفصيل هذه الشروط والوقائع التاريخية ونصوص العلماء في: الغياثي للجويني، (270) وما بعدها، والاعتصام للشاطبي، 2/123 واشتراكية الإسلام للدكتور مصطفى السباعي، 123-126 ونظرات في كتاب اشتراكية الإسلام للشيخ محمد الحامد 124-125، والملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد السلام العبادي، 2/294-299 وخطوط رئيسية في الاقتصاد للأستاذ محمود أبو السعود، 46 والثروة في ظل الإسلام للبهي الخولي / 224.(13/41)
دعاة من جِلدتنا
أحمد محمد الفضيل
أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى وفرقاناً ورحمة لقوم يوقنون، وأرسل
رسوله بالهدى ودين الحق؛ ففتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد
بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى
أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأضحت عبادة الأصنام في ميزان
المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم - فيما يعجب - من سخف المشركين من قولهم
في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك!) [1] . سبحان ربي! كيف سوغ الشيطان هذا السخف لأوليائه، وزين لهم ما كانوا يفترون؛ وصدق الله [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ ولِياً مُّرْشِداً] [الكهف: 17] .
غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين
الإنس والجن مشمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل حلة، وروجوا له
بكل لسان: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً] [الأنعام: 112] .
ومن الواجب كذلك أن نتتبع طرق الغي بالتحذير منها، وكشف مراميها
وأبعادها وسد السبل على دعاتها؛ حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم،
وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين، أو كيد الحاقدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين فلسفات وأنظمة؛ خدعت الكثير منا ببريقها،
وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت العقول، واستحوذت على الأفكار، ووراء
ذلك كله داء دوي، ونار - لو قُدر لها أن تنتشر - لم تأتِ على شيء إلا جعلته
كالرميم. وكان المسلمون قبلها يتلون كتاب الله، ويتدبرون آياته، ولا يخالج أحداً
منهم شك في حق التشريع ولا ريب؛ فالتشريع كله - الحلال والحرام والسياسة
ونظم المجتمع - كله لله، حقاً خالصاً من أخص خصائص الألوهية، كما أن
الإقرار به أول طريق العبودية، وكان المسلمون يعلمون كذلك أن كل سلطان أو
إمارة في دولتهم إنما يكتسب المشروعية، ويأخذ حق الطاعة من الله - سبحانه -
فلا سلطان ولا طاعة ولا ولاء إلا لله وأمر الله ودين الله، وكل سلطة من غير هذا
السبيل فإنما هي خروج عن التوحيد: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ
اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ] [التوبة: 31] .
وما كان اتخاذهم أرباباً، ولا كانت عبادتهم إلا طاعتهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا
أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً] [النساء: 60] .
وأعظم الناس منزلة عند الله أنبياؤه ورسله، إنما بلغوا هذه المنزلة السامية
بتمام عبوديتهم، وكمال خضوعهم لله: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي
إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] [الأنبياء: 25-27] .
والنبي بريء من كل دعوى تخالف عبوديته، كما في قول عيسى - روح الله
وكلمته - لربه:: [مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ]
[المائدة: 117] .
إذن فالأمة كلها - حاكماً ومحكوماً وأميراً ومأموراً، وبشتى طبقاتها -ليست
إلا مخلوقة لله، مربوبة مستعبَدة، والأمر كله لله: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] [البينة: 5] .
ثم تسرب إلينا الفكر الصليبي اللاديني [2] ، حاملاً معه خلفيات المعركة التي
استعرت في أوربا بين كنيسة ضالة خانت الأمانة، وسخرت تعاليم السماء لأحط
غرائز الأرض، وبين الشعب الذي لم يَرَ في هذه الكنيسة سوى عقبة تحول دون
انطلاقه وتحرره، وتسومه سوء العذاب، ودخل عالم المسلمين تعبيرات جديدة:
سيادة الأمة، حكم الشعب للشعب، الشعب مصدر السلطات، الدين لله والوطن
للجميع، وتضاربت الأقوال حول هذه المستجدات المصدّرة، وتباينت كذلك
المواقف، ووقف رجال لم تخنهم البصيرة، ولم ينقصهم الإخلاص وسط هذه
الزلزلة، وجهروا بالحق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بينما تحرك
الكثيرون ممن كانوا يحتلون مواقف القيادة الفكرية؛ لينخرطوا في اللعبة الجديدة،
ودون أن يتفوهوا بكلمة واحدة. ولم يكد رواد العلمانية (اللادينية) ودعاتها يطلقون
الطلقة الإعلامية الأولى ضد الدولة الدينية، والحكومة الدينية، والحرب الدينية؛
حتى تحمس الكثير من الكُتاب، لا ليدفعوا عن أنفسهم الصبغة الدينية، بل ليقرروا
للناس أن. الإسلام برىء من كل دولة دينية وحكومة دينية، ومن كل ما هاجمه
اللادينيون أو وصموه!
وخرج من صفوف المسلمين بعد ذلك أناس حملهم الإخلاص وحفزتهم الغيرة،
يدعون المسلمين للخروج من الأساليب التقليدية، والتحرر من القوقعة والجمود،
وطلب هؤلاء من المسلمين أن يحافظوا على النظام الديمقراطي العلماني مادام يكفل
لهم حرية الدعوة والحركة، بل رأوا أن من الواجب أن يساهم المسلمون في إقامة
هذا النظام إذا لم يكن قائماً، وكان ذلك من دعاة غيورين، يتألمون لتقصير
المسلمين، مع أنهم يعلمون أن حرية الأنظمة اللادينية إنما هي حرية مقنّنة مبرمجة، وأن الكل متفق على وجوب اتباع سياسة القهر والإذلال للدعاة، والوقوف في
سبيل الدعوة، ولكن في الوقت المناسب، والشكل المناسب! ! !
لقد ثارت أوربا لتدفع اضطهاد الذين حكموها باسم الله، وزعموا للشعب أنهم
ظل الله، وسلطانه على الأرض. وحمل الإنسان الأوربي في أعماق شعوره
حساسية مدمرة ضد كل ما هو ديني، أو يمُت للدين. ثم انتقلت عدوى هذه
الحساسية المدمرة إلى حس رواد وأتباع اللادين في عالمنا!
وإنما يهمنا في الدرجة الأولى أن يستيقظ المسلم المخدوع بهذه الشعارات،
والمنوم ببريقها، نريد أن يعلم المسلم حقيقة التناقض العقَدي بين التوحيد الذي
يحمله في قلبه - ثم لا يمنعه ذلك أن يسير خطوات بعيدة في سبيل غير سبيله -
وبين الفلسفة الكافرة التي أنشأها وصنعتها، ونحن مع الذين يستنكرون الاستغلال
بكل أنواعه في استنكارهم دون أن يكون هذا الاستنكار وسيلة تحمل المسلم على
التخلي عن إيمانه.
وأما الدساتير التي صُدّرت إلينا فهي نسخة عن دساتير أوربا التي تقول: (
دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) ، قد يضاف إلى بعض الدساتير عبارة تناسب
عواطف الشعوب المسلمة، حيث يقال لها إن الإسلام دين الدولة، أو أن الشريعة
مصدر القوانين.
وستجد مَن يوضح لك أن الشعب مصدر السلطات التي ليس فيها حكم شرعي، فسلطانه خارج دائرة سلطة الشريعة! ! ، ومع أن كلمة (الشعب) تتسع لتشمل كل النوعيات الهابطة والرفيعة، من ذوي الاختصاص والعلم، وأهل الرعونة والطيش؛ فإنك تجد في نص الدستور أن من حق الأغلبية تغيير مواد الدستور، من خلال القنوات الرسمية؛ باعتبار الأغلبية تمثل رأي الشعب، إذن فعندما يقرر الشعب نظرياً - أو الذين يحكمون باسم الشعب - أن يغيروا المظاهر الإسلامية في لدستور يكون هذا التغيير دستورياً وصحيحاً، ولا معنى للاعتراض عليه. وإذا لاحظنا أن عبارة (الإسلام دين الدولة) عبارة طارئة على النظام اللاديني (الديموقراطي) ودخيلة عليه، ومتناقضة معه، وأن المعاني التي تحملها هي أقل مواد الدستور قوة وتأثيراً ودواماً، بينما اعتبار الشعب مصدرا للسلطات، إنما هو جوهر الديموقراطية - علمنا من ذلك أن اعتبار الإسلام ديناً للدولة لم يأتِ استمداداً من أمر الله وسلطانه، بل هو مستند إلى سلطان الشعب ورأيه؛ وبذلك يجعلون سلطان الله - تعالى - محكوماً بسلطان الشعب ومستمداً منه، وبينما كانت تلبية الجاهلية تضع سلطة أصنامها - نظرياً - دون سلطة الله؛ إذا بالجاهلية الصليبية الحديثة تريد أن تخادعنا عن ديننا، وتقودنا إلى جاهلية أشد ضلالاً وانتكاساً من الجاهلية البائدة، فهل يتنبّه المسلمون لحقيقة الفتنة التي ذر قرنها في ديارهم، وهل يعيدون الوحدة المفقودة بين العقيدة الإسلامية، والأصول العلمية والسياسية، وبين المنهج الرباني في الحركة والتطبيق؛ ليعود الإيمان وحدة متكاملة في الاعتقاد والعلم والعمل؟ !
__________
(1) وردت هذه التلبية حكاية في حديث متفق عليه.
(2) وهو ما يُدعى بالفكر العلماني! .(13/51)
شذرات وقطوف
اختيار: مازن محمد راغب
ضرورة العلماء للأمة
الناس بلا علماء هم جُهال، تتخطفهم شياطين الإنس والجن من كل حدب
وصوب، وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب ومن هنا كان العلماء من
نعم الله - تعالى - على أهل الأرض فهم مصابيح الدُّجى، وأئمة الهدى، وحجة الله
في أرضه، بهم تُمحق الضلالة من الأفكار وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس، فهم غيظ الشيطان وركيزة الإيمان وقوام الأمة ... وهم ورثة الأنبياء؛ قال عليه
الصلاة والسلام: ( ... وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض
حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب،
إن العلماء ورثة الأنبياء) . كل هذا الفضل للعلماء العاملين، الجريئين في الحق،
المحبين للخير، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، المحاسبين للحكام،
الناصحين لهم، والساهرين على مصالح المسلمين، المهتمين بأمور الأمة،
المتحملين كل أذى ومشقة في هذا السبيل.
نعم، كل ذاك الإكرام للعلماء الذين يحرسون الإسلام الأمناء على دين الله
الداعين الحكام إلى تطبيقه بلسان صدق وجَنان ثابت.
(عبد العزيز البدري - رحمه الله - في الإسلام بين العلماء والحكام)
وحدها فقط
الحضارة الإسلامية وحدها تقوم على التوحيد والإيمان بالله وكتبه واليوم الآخر، وتتمثل الأخلاق وتنتهج الوضوح والصدق وهي أمور انسلخت منها الحضارات الأخرى فتعرّت من الفضائل التي لا تقوم بغير هاتيك المقومات وغدت منها مفلسة.
واستمداداً من ذلك فإن الحضارة الإسلامية تتحصن بالوحدة والتوحد، وتتسم
بالكمال والشمول والذوق والأناقة، وتستعلي بالألفة والمحبة والانسجام والوئام
والطهر والنظافة والصدق والقوة وتزهو بالتحرر والحركة والانطلاق الاجتماعي
الخيّر في وجهته يقودها إلى الله التزام بطاعته وأخذ بشريعته.
(الدكتور عبد الرحمن الحجي: " جوانب من الحضارة الإسلامية ")
الوجوه رسل القلوب
ولا تكثر على ذي الضعف عتباً ... ولا ذكر التجرم للذنوب
ولا تسأله عما سوف يبدي ... ولا عن عيبه لك بالمغيب
متى تكُ في صديق أو عدو ... تخبرك الوجوه عن القلوب
زهير بن أبي سُلمى(13/56)
حاجتنا إلى علم الإدارة
سامي سلمان
أصبحت الحاجة إلى الاستعانة بالجوانب الإدارية في كثير من جوانب الحياة
أمراً أساسياً ومهماً؛ إذ إن الأمور لم تعد من البساطة بحيث يستطيع الفرد أن
يعالجها بالطرق التقليدية المعتادة.
وقد أصبح الفرد يعيش في خلايا من العلاقات المتشابكة على كل صعيد،
والتي تشمل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، أو على مستوى العلاقات المحلية
والعالمية للهيئات والمنظمات، ويشتمل كل جانب من هذه الجوانب على جزئيات
من الخلايا تشكل - بحد ذاتها - دائرة من العلاقات المتشابكة بحيث أصبح جانب
معالجة الأمور وإدارتها، ومتابعتها متأثراً في غالب الأحيان بنسبة كبيرة من هذه
العلاقات، وهنا تظهر الحاجة إلى الجانب الإداري الذي يطرح طرق الحل بشكل
منظم ومبرمج ومتكامل، ويلفت الانتباه إلى مسلّمات من نتاج تجارب الآخرين
تختصر الوقت وتوفر الجهد، وتعطي نتائج مثمرة وتساعد على تحقيق الأهداف
بشكل أفضل.
ولكى يتضح هذا الأمر لابد من تحديد معنى الإدارة بمفهومها البسيط.
فالإدارة عبارة عن: عملية اجتماعية مستمرة، تعمل على استغلال الموارد
المتاحة استغلالاً أمثل عن طريق التخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة للوصول إلى
هدف محدد. وبهذا فإن الإدارة بمفهومها الشامل لسلوك الفرد تشمل جوانب
التصرف السلوكية له في بيته وعمله ودعوته وتجارته، مما يتيح له الاستفادة من
الإمكانيات المختلفة أفضل استفادة باستخدام أفضل وسيلة لتحقيق أفضل هدف. فإذا
اتضح لك هذا علمت مدى الخسارة التي يتحملها الفرد والجماعة والمؤسسات والدول
عند إدارتهم لأمورهم بالطرق التقليدية التي لا تأخذ باعتبارها مثل هذا المفهوم، أو
قد تأخذ بجوانب منه دون الجوانب الأخرى، وقد خسر المسلمون كثيراً من
مواردهم وطاقاتهم واستخدمت وسائل تقليدية سطحية في إدارة شؤونهم، وتبع ذلك
قصور واضح في تحقيق الأهداف المرجوة ... هذا إن كانوا قد وضعوا لأنفسهم
أهدافاً عند ممارستهم لأي عمل.
والمثل كفيل بجعل الأمر أكثر وضوحاً، ولك أن تقيس عليه أي واقع تشاء
على مستوى أسرتك ودعوتك وعملك. وليكن هذا المثل مأخوذاً من مجال الدعوة،
فإن استفادتك من تفهمك واستخدامك لمفاهيم الإدارة يعينك في أمور عدة، فإن من
مستلزمات الإدارة الناجحة ما يذكره أحدهم في سطور قليلة فيقول: " إن قدرة
المسؤولين وأرباب الأعمال على تأمين مناخ عمل ملائم لمساعديهم ومن يعمل تحت
إشرافهم للعمل بإخلاص وكفاية عالية - تعد من مؤشرات النجاح في الإدارة. فمناخ
العمل الملائم هو المناخ الذي يقود العاملين إلى جعل أهدافهم كأفراد متناسقة مع
هدف المجموعة بحيث تكون حصيلة تحقيق أهداف المجموعة أكبر من مجموع
الجهود الفردية لهؤلاء العاملين وبالتالي هذا يعني تحقيق أهداف المؤسسة أو الشركة
التي تعمل بها المجموعة ".
وعليه فإن من مستلزمات جعْل العاملين من الدعاة في الوسط الدعوي الواحد
أن يهيَّأ لهم المناخ المناسب للدعوة مما يجعلهم يوحدون جهودهم ويخلصون في
تحقيق الهدف، والعكس الصحيح، فإن عدم وجود مناخ صحي يثبط العاملين،
ويساعد على نمو الفردية في تحقيق الأهداف، مما يؤدي إلى عدم تضافر الجهود،
والتأخر في تحقيق الهدف، وقس على ذلك كثيراً من مفاهيم الإدارة التي تفيدك
وتعينك على السير في أمورك بصورة واضحة ومنظمة، فإنك لو عدت إلى تعريفنا
الذي ذكرناه آنفاً سوف تجد أننا اعتبرنا التخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة دعائم
الإدارة المتكاملة، وأستطيع أن أقرّب لك الصورة لو توسعت في الحديث عن كل
جانب وربطه بالأمثلة المختلفة من واقع حياة الأفراد، وسيظهر لك كم نحن بحاجة
إلى القيادات التي تخطط وتنظم مسبقاً لتحقيق أهداف مرسومة ثم تقود الجهود
بمهارة إدارية متقنة مع وجود الرقابة الدائمة للتأكد من صحة منهج السير رجاء
تحقيق الهدف.
وكم عانت الدعوة الإسلامية من إهمال هذا الأمر الذي يبدو بدهياً ولك أن
تسأل نفسك هذه الأسئلة:
ألم تعانِ الدعوة من عدم وضوح الهدف؟
ألم تعانِ الدعوة من عدم التخطيط والتنظيم؟
ألم تعانِ الدعوة من فقدان القيادة القادرة على الاستفادة من المصادر المتاحة،
ومن ضعف قدرتها على مراقبة نفسها ومحاسبتها عندما تحيد عن الطريق؟
لقد عكف الكثيرون من علماء الإدارة على رسم خطوط عريضة لجوانب
الإدارة المهمة كي يستفيد منها من يتحملون عبء المسؤولية في حياة الأمم،
واستطاعوا من خلال التجربة أن يضعوا نظماً دقيقة مبرمجة لها أثرها الكبير في
تسيير الأمور بحكمة وروية، وإدراك عميق للنتائج ونسوق مثلاً شائعاً في علم
الإدارة وهو " اتخاذ القرار " الذي يصفه أحد الكُتاب بقوله: " يعتبر اتخاذ القرار
بشكل عام من أهم العناصر وأكثرها أثراً في حياة الأفراد وحياة المنظمات الإدارية،
وحتى في حياة الدول، وتنبع أهمية هذا الموضوع من ارتباطه بعمل الإنسان
اليومي أو حياته العائلية أو أي مجال من مجالات النشاط الإنساني ".
فالأفراد هم محور هذا الموضوع الأساسي، سواء بالنسبة للقيادات الإدارية
التي تتخذ القرارات لتوجيه أعمالها ونشاطاتها، أو بالنسبة للمرؤوسين الذين
يشاركون في صنع القرارات، أو في تنفيذها، أو يكونون هدفاً لها، كما تنبع
أهمية هذا الموضوع من ناحية أخرى من ارتباطه بتحقيق الأهداف على اختلاف
أنواعها؛ إذ طالما هناك مجال للاختيار بين أكثر من بديل للوصول إلى هدف ما
كان هناك اتخاذ قرار وذلك باختيار البديل الأفضل، وهكذا تستمر عملية اتخاذ
القرارات طالما هناك عمل ونشاط لتحقيق أهداف مطلوبة (1) .
وتتضح لك أهمية هذا الجانب إذا نظرت إلى الطريقة المثلى في اتخاذ القرار
، وإن اختلفت المدارس الإدارية في عرضها، فإن من أساسياتها مراحل متتابعة
لضمان السلوك الأمثل في الوصول إلى القرار الأمثل كذلك، وهذه المراحل هي:
1- تشخيص الأمر محل القرار.
2- تحليله ودراسة الجوانب المتعلقة به.
3- طرح البدائل المتاحة لاتخاذ القرار.
4- تقويم البدائل بذكر سلبياتها وإيجابياتها ووزن كل منها على حدة.
5- اختيار القرار الملائم لهذا الأمر.
ولا تتوقف هذه العملية عند هذا الحد، بل لابد من متابعة تنفيذ القرار لمعرفة
مدى النجاح الذي حققه هذا القرار في تحقيق الهدف أو حل المشكلة المعنية، وقد
أوردنا هذا المثل في سياق الحديث عن الحاجة إلى الجانب الإداري في الحياة، فلو
عدنا إلى مثالنا السابق في (مجال الدعوة) لوجدنا أن اتخاذ القرار بعفوية وارتجالية
شائع اتخاذ القرار ويكاد يكون هو القاعدة وما عداه هو الشاذ، مع عظم شأن مثل
هذه القرارات في حياة ومسيرة الدعوة؛ مما قد يؤخر مسيرة الدعوة الإسلامية
مراحل ومراحل، مع أنه لو اُستُعين بالمدرسة الإدارية الآنفة الذكر لكان أجدر؛ فإن
مما يعيب قراراتنا أنها لا تنظر إلى الأمور بشمولية وسعة أفق، ولا تبحث عن
البدائل المطروحة قبل اتخاذ القرار، ولا ينظر إلى الآثار التي يتركها تنفيذ القرار
في الواقع.
وإن المتمعن في نصوص الكتاب والسنة ليلمس وبوضوح أمثلة عديدة لما
ندعو إليه، وإن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أمثلة كثيرة نرجو أن نوفق
إلى عرضها، والإشارة إليها في المستقبل القريب إن شاء الله.
__________
(1) اتخاذ القرارات الإدارية، د نواف كنعان، الطبعة الثانية، عام 1985 م، ص7.(13/58)
أدب وتاريخ
إلى أمي.. مع التحية
شعر: عبد الإله عبد الهادي
حماك الله يا أمي وعافاك
من الأوجاع والآلام
وعين الله ترعاك ... وترعانا مدى الأيام
عفا عنا وعنك الله يا أمي وطهرنا من الأخطاء والآثام
فيا أمي أنا الطفل الذي ربته كفاك
وكم سهرت طوال الليل كي ترعاه عيناك
غدا رجلاً بفضل الله يا أمي
وحين تصيح بالأعماق ذكراك
ويشتعل الحشا شوقاً
وهذا الوقت لا يمشي
وأصداءٌ من الأعماق تصرخ بي:
متى رباه تأذن لي؟
متى أماه ألقاك؟
يُرى يبكي … كطفل ضائع شاكِ
***
أجيء إليك يا أمي بأحلامي
عساكر سادتي الحكام حيث أسير من خلفي وقُدامي
وتفصلنا مسافات بها الأهوال أصنافاً
إذا ما سرت عن بلد رأيت بغيره الأهوال أضعافاً
ففي بلد
إذا جئت الحدود يقال يا أمي..
يُرى في شكله الدين
أعيدوه
فهذا الصنف رجعي وأفيون
وفي بلد تقول عساكر السلطان يا أمي
أتاكم من بلاد الشرك مرتداً فردوه
وإلا فهو مملوك أذلوه
وفي بلد إذا قدمت للسلطات ما طلبوا
يقال: ارجع إلينا بعد شهرين
سنبحث وضعك الأمني في كل الميادين
تزور بلادنا أهلاً ولكن ما هو السبب؟ !
لأي منظمات كنت أو ما زلت تنتسب؟ !
***
دروب كلها بالشوك والألغام مزروعة
على لوحاتها كتبوا:
هنا مولاي مسموعة
هنا القبلات للأقدام بالقانون مشروعة
قوانين البلاد تحذر الإخوان والأخوات
عليكم أن تراعوا حرمة القانون والعادات
يعاقب من يفكر دون ترخيص من السلطات
يكون مخالفاً من مارس الأحلام والآهات
لذلك فاتقوا الشبهات
دروب الكون مظلمة وتقطعها على الناس الشياطين
وكل الناس في الدنيا مساجين
قد اتفقت على هذا القوانين
إذا ما رحمة نزلت تصادرها القوانين
وإن ثار المساكين
على ظلم يحيق بهم
تسن لهم قوانين
فكيف أسير يا ربي إلى أمي؟ !
وتفصل بيننا هذه القوانين
أعوذ بنور وجهك يا إلهى إنها أمي
وهذا الكون أظلم كل ما فيه
دعاة الخير والإصلاح مغلوبون في شتى نواحيه
فأنزل يا إلهي رحمة لتعود للناس الأحاسيس
وينتشر الهدى في الكون ترفع راية الإسلام في كل الميادين
بلا خوف ولا شكوى ولا منةْ
نسير على كتاب الله والسنةْ
طريق واحد يهدي إلى الجنةْ
بلا خلط وترقيعِ
ولا نقص وتفريعِ
فهذا الدين تشريع من المولى
وما في الكون مخلوق له حق بتشريع
يعيش المرء في الإسلام إنساناً
فلا ظلم ولا بخس ولا يشكو الورى رَهَقاً
إذا الناس استقاموا خلف نهج المصطفى صُدُقاً
سقاهم ربهم ماءاً شراباً طيباً غَدَقاً
وعاشوا في نعيم الله في دنيا مثاليةْ
حياة كلها طهر وإيمان وإيثار وحريةْ
فلا عدوان فيها أو أنانيةْ
صباح مساء يا أمي أراك معي بأحلامي
دعاؤك دائم لله يرعاني
يثبتني على الإيمان يحميني
من الآلام والأحزان والهم
أنا منك.. أينسى نبعه الماء؟ !
وإن طال الرحيل بنا
وإن عجت بساح الدار أبناء
سأبقى طفلك المشتاق خلف تخوم آفاقي
أحن إليك كالعطشان ليس سواك لي ساقِ
سأبقى موثقاً بقيود أشواقي
إلى أن يأذن المولى بإطلاقي
إذا ما ظل من عمر لنا باقِ
بإذن الله يا أمي بهذا الصيف نلقاكم
ونسعد كلنا بنعيم مرآكم
فيا أحبابنا إنَّا نعيش حياتنا شوقاً للقياكم
إلى أن نلتقي ندعو إله العرش يرعانا
ويرعاكم ...(13/63)
مَن المسؤول
عن كراهية الأجيال الجديدة للغة العربية؟ !
منصور الأحمد
إذا كنت من محبي هذه اللغة، ومن الذين يجعلونها همهم في الليل والنهار؛
فلا شك في أن همك سيزداد، وشعورك بالقلق سيتضاعف وأنت ترى حال هذه
اللغة العظيمة وقد انحدرت على ألسنة أهلها وأقلامهم إلى مستوى لا يسر.
تُرى، ما الذي أدى بورثة هذه اللغة (ولا أقول: بهذه اللغة) إلى أن وصل
حالهم إلى أن لا تواجه طالباً ولا دارساً إلا شاكياً من تعلُّمها، ناعياً على مدرسيها،
مفتخراً بأنه كان لا يعيرها بالاً حينما كان على مقاعد الدراسة؟ !
وعندما تسترعي انتباهه إلى خطورة ما استهان به يواجهك بإحدى اثنتين، أو
بكليهما معاً:
* باعتذاره بصعوبتها، وتعقيد نحوها وصرفها، وجفاف أسلوب تدريسها.
*أو بهز كتفيه غير مبالٍ بما تقول، وبالتثقل من هذا الموضوع الذي تطرحه
معه!
ومع أن مناقشة مثل هذه القضية تحتاج إلى مدى أوسع، وعلم أغزر، ومجال
غير هذا المجال، ولكن لا بأس بأن نقول فيها وجهة نظر لعلها تبعث الغيرة
وتستنهض الحرص والنظر بجد إليها.
هناك مشكلة، وهى جهل الكثير من الأجيال الجديدة من المتعلمين بلغتهم،
وهذا ملاحظ لا يُنكر. ويتفرع عن هذه المشكلة أمر آخر - وهو الأشد خطراً -
وهو الكراهية لهذه اللغة بحجة أنها صعبة ومعقدة، ونكران ذلك تجاهل للمشكلة،
وهروب من مواجهتها.
وإذا حللنا المشكلة إلى عناصرها لمعرفة الحل فإننا يجب أن نبحث في ثلاثة
عناصر: المدرّس، والمنهج، والطالب، وكل عيب في واحد من هذه العناصر
يساهم بقدر من المشكلة.
* أما المدرس فإن إعداده إعداداً كافياً ومنتجاً يتطلب تغيير الأسس المعمول
بها في طول العالم العربي وعرضه في معاهد المعلمين وفي الجامعات من أجل
تخريج المعلم، وإقامة نظام تعليمى يشعر معلم اللغة العربية بقيمته وأثره، وذلك
باختياره وإعداده وتوجيهه لهذه المهمة في وقت مبكر، وعدم إشغاله بدراسة أو
تدريس معلومات تصرفه عن المهمة الرئيسية التي صرف إليها.
* وأما المنهج فإن النظر يتعلق بإعداده ثم تطبيقه، والمناهج الموجودة -وإن
لم تكن على مستوى عالٍ من التركيز - لو طُبقت ونُفذت بشكل جدي لكانت النتيجة
أفضل مما هي عليه الآن. ومن خلال التجربة يلاحَظ أن العمل الحالي في كثير من
البلدان العربية في تطبيق مناهج اللغة العربية - هو بعيد عن الجدية في التطبيق؛
حيث إن جهد المدرس المسكين يُستنفد في عمليات حسابية (جمع وضرب وتقسيم
درجات الامتحانات) هي أبعد ما تكون عن نفع الطالب أو إضافة أي مردود إلى
تكوينه العقلي.
وإن مهندسي هذه العمليات الحسابية هم من المهارة والحرفة بالقدر الذي يجعل
أبلد الطلبة وأبعدهم عن فهم العربية يقتنصون (أو تُقتنص لهم) درجة من هنا
ودرجتين من هناك بفضل هذه الحيل الحسابية مع أنهم غير قادرين على كتابة فقرة
صحيحة!
* وأما الطالب فإن مشكلته أعمق وأكثر تعقيداً، فالهوة متسعة بين اللغة التي
يتعلمها والمجتمع الذي يعيش فيه، فكل ما حوله ناطق بلغة غير صحيحة:
المدرسون (بمن فيهم مدرسو العربية) والبيت، والراديو، والتلفزيون، والشارع
فكيف يستطيع هذا الطالب أن يسبح ضد التيار ويتقن لغة تلقى مثل هذا الإهمال
والجحود والاستهانة؟ ! ، وكيف يقتنع بفائدة ما يتعلمه وهو لا يجد له تطبيقاً معقولاً
على ألسنة المتعلمين؟ !
لابد من النظرة الجادة التي تتفحص العوائق والأسباب التي تغرس الكراهية
لهذه اللغة والبعد عنها، وإلا فإن هذه الكراهية العملية (ودعْنا من الخطب والإنشاء
في الإشادة بهذه اللغة وعبقريتها) سوف تؤدي إلى دفنها، ويوم تُدفن هذه اللغة فاقرأ
على هذه الأمة السلام!(13/67)
قراءات تاريخية
العلماء والأمراء
الكامل لابن الأثير 10/151
وفيات الأعيان 5/28
كان أبو عبد الله المعتمِد محمد بن عبَّاد أعظم ملوك الأندلس من المسلمين
وكان يملك أكثر البلاد مثل قرطبة وإشبيلية، وكان يؤدي إلى (الأذفونش) ضريبة
كل سنة، فلما ملك الأذفونش طليطلة لم يقبل ضريبة المعتمد وأرسل إليه يتهدده
ويقول له: تنزل عن الحصون التي بيدك ويكون لك السهل، وكان رسول
الأذفونش في جمع كثير كانوا خمسمائة فارس وأحضر ابن عباد الرسول وصفعه
حتى خرجت عيناه وقتل كل مَن كان معه ولم يسلم منهم إلا ثلاثة نفر؛ فعادوا إلى
الأذفونش فأخبروه الخبر، فبدأ بالاستعداد للقتال.
وسمع مشايخ قرطبة وفقهاؤها بما جرى ورأوا قوة الفرنج وضعف المسلمين
واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد
غلب عليها الفرنج ولم يبقَ منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى
عادت نصرانية كما كانت. وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا
يأخذونها، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، قال: وما هو؟ ، قالوا: نكتب إلى عرب
إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في
سبيل الله، فقال: المرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا. قالوا له: فكاتبْ أمير
المسلمين وارغب إليه ليعبر إلينا. وقدِم عليهم المعتمد بن عباد وهم في ذلك فعرض
عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك.
فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون
من الخوف من الأذفونش.
وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففى الحال أمر بعبور العسكر إلى الأندلس
وأرسل إلى مَرَّاكُش في طلب مَن بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضاً،
فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وتسامع
المسلمون بذلك فخرجوا من كل البلاد طلباً للجهاد.
ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وكتب إلى
أمير المسلمين كتاباً يغلظ له القول ويصف ما عنده من القوة والعدد، فكتب يوسف
الجواب في ظهره: (الذي يكون ستراه!) وردّه إليه فلما وقف عليه ارتاع لذلك
وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم ثم سار الجيشان والتقيا في مكان يقال له
(الزلاَّقة) من بلد (بطليوس) وتصافّا، وانتصر المسلمون وهرب الأذفونش بعد
استئصال عساكره، ولم يسلم معه سوى نفر يسير وذلك يوم الجمعة في العشر الأُول
من شهر رمضان سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وأصاب المعتمد جراحات في وجهه
وظهرت ذلك اليوم شجاعته وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح وغير ذلك،
ورجع الأمير يوسف إلى بلاده، والمعتمد إلى بلاده.
الصيد الثمين عند الباطنية
في قلعة (آلموت) بالقرب من بحر قزوين كان رئيس الباطنية حسن الصباح
يرسل رجاله المجرمين الذين أغواهم بفردوسه وغفرانه - يرسلهم وفي يد كل واحد
منهم مُدية حادة لاغتيال شخصية سنية مهمة؛ لأن أقصى أمانيه هو القضاء على
أهل السنة، وقد ربى رجاله على الطاعة العمياء، فما إن يأمر بتنفيذ مهمة حتى
يبادر إليها من يظن أنه يقوم بعمل صالح. وأول صيد ثمين نفذ فيه حسن الصباح
إجرامه هو الوزير القدير نظام الملك الحسن بن علي وزير الملك السلجوقي ألب
أرسلان، وكان من عقلاء الرجال وأفاضلهم وهو الذي تنسب إليه المدرسة النظامية
في بغداد، وكان على علم بأباطيل الباطنية وخطرهم على الإسلام وقد بدأ بإعداد
العدة لمهاجمتهم والقضاء عليهم، وقد قتل أحد رؤساء حلقاتهم؛ ولذلك قرروا قتله
وهذه رواية كتبهم -لعنهم الله-:
(نصب سيدنا (حسن الصباح) فخاخه وأحابيله لتمسك في شباك الموت الفناء قبل كل شيء بصيد ثمين مثل نظام الملك وبهذا الصنيع أصبحت شهرته وسمعته
عظيمة وقال: مَن منكم سيخلص هذه الدولة من شر نظام الملك الطوسي، فوضع
رجل يدعى أبو طاهر الأراني يد القبول على صدره، وفي ليلة الجمعة في الثاني
عشر من رمضان لسنة 485هـ وفي منطقة نهاوند جاء بزي صوفي إلى نظام
الملك الذي كان محمولاً من مكان العامة إلى خيمة نسائه وضربه بسكين، ونظام
الملك هو أول رجل قتله الفدائيون.. وقال سيدنا: إن مقتل هذا الشيطان هو بداية
الغفران) [1] .
كانت هذه بداية سلسلة طويلة من الإجرام الباطني طال زعماء أهل السنة من
علماء وملوك حتى إنه ما من أمير أو قائد من قواد الدولة السنية إلا وخشي على
نفسه وأخذ الاحتياطيات اللازمة.
__________
(1) برنارد لويس: الحشيشية نقلاً عن المؤرخ رشيد الدين، 62.(13/69)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
باكستان وتحكيم الشريعة الإسلامية
إذا كانت الدعوة إلى تحكيم الشريعة قد أصبحت مطلباً ملحاً عند شعوبنا فى
جميع بلدان العالم الإسلامي؛ لا تستطيع وسائل الإعلام العالمية تجاهلها أو التقليل
من أهميتها ... فلهذه القضية شأن آخر في باكستان المسلمة، التي خاضت صراعاً
دامياً مع الهندوس، وقدمت قوافل الشهداء دفاعاً عن دين أمتنا وعقيدتها، وتوج هذا
الصراع المرير باستقلال معظم المسلمين في وطن لهم سمي (باكستان) أي:
الأرض الطيبة أو الطاهرة.
وكان جميع سكان باكستان من المسلمين، باستثناء أقلية ضئيلة جداً من
الهندوس والسيخ، وبينهم نسبة كبيرة من (المهاجرين) وهم الذين هاجروا من الهند
إلى باكستان فراراً بدينهم وبدهي في ظل الأوضاع الجديدة أن تطبق أحكام الشريعة
الإسلامية، وهذا الذي ينشده الشعب بأسره، ومن أجل ذلك استعذب الموت في
سبيل الله. غير أن الذي حدث في باكستان بعد إنشائها مستغرب أشد الاستغراب،
ومستنكر أبشع الاستنكار، فالمخضرمون من السياسيين - الذين صنعهم الاستعمار
الإنكليزي خلال احتلاله للهند من أمثال آغا خان، وجناح وغيرهما من أفراخ
القرامطة - سلكوا سبيل المراوغة والمكر والتضليل، وأخذوا يعدون ولا يوفون،
يكذبون ولا يخجلون، ووجدوا من يحسن الظن بهم، ويصفق لهم. وزعموا أن
خلافاتهم مع العلماء والجماعات الإسلامية سياسية شخصية، وهي هي النغمة التي
يرددها العلمانيون الظلمة هنا وهناك.
واستنفر الإنكليز وعملاؤهم داخل باكستان، وراحوا يعملون من أجل تربية
أجيال لا تؤمن بالإسلام. وفى ظل هذه الأجواء الموبوءة الملوثة وجد القاديانيون
الباب مفتوحاً أمامهم على مصراعيه، وتشكلت الأحزاب العلمانية القومية، وورث
معظم قادتها زعامة أقوامهم وقبائلهم كابراً عن كابر، وكانوا غاية في الخبث والدهاء
، فلا يصدرون تصريحات معادية للإسلام ولا يدعون إلى الإسلام، ويصرفون
جهدهم كله إلى تجنيد أهل إقليمهم في الحزب الذي يخطط من أجل الانفصال عن
باكستان، وهذا الذي فعله مجيب الرحمن في حزبه الذي لم يكن له وجود يُذكر في
باكستان الغربية، وهذا الذي لا يزال يخطَّط له عشرات السياسيين في أقاليم مختلفة
من باكستان.
وعندما عجز العلمانيون الديمقراطيون عن ضبط الأمور، وشعر أسيادهم
الإنكليز بأن المد الإسلامي يمتد ويقوى، وفى أجواء الحرية ينهزم دعاة الباطل مهما
أنفقوا من أموال، ومهما ملكوا من وسائل الإعلام، وينتصر دعاة الحق وإن كانت
إمكاناتهم ووسائلهم متواضعة. وكان لابد من خطوة أخرى فأصدر الاستعمار الإنكلو
أمريكي أوامر للعسكريين فتحركوا وكان أول انقلاب عسكري يقوده الجنرال أيوب
خان، وفترة الخمسينيات كانت غنية بمثل هذه الانقلابات في مصر والشام والعراق
والعقلية واحدة، والأهداف واحدة، وكما قلنا في المقال السابق - باكستان أمام
التحديات، الذي نُشر في العدد الرابع من مجلتنا (البيان) - فإن السفير الأمريكى (
كافري) عندما أنهى دوره مع عبد الناصر في مصر انتقل إلى باكستان ليبدأ دوره
مع أيوب خان ضد الدعاة والجماعات الإسلامية، وبعد أيوب جاء يحيى، وكلاهما
خان قضية أمته، وطبع الشعب الباكستاني أنه ينفر من الحكومات العسكرية،
ويعشق الحرية.
وخلال عقدين من الزمن ثبت فشل العسكريين، ولهذا فقد عادت الديمقراطية ونجح حزب بوتو - حزب الشعب - وكان قد زور الانتخابات، وأقدم على تدبير
محاولة اغتيال أحد زعماء المعارضة، واستغل السلطة أسوأ استغلال، فعرته
المعارضة، وكشفت فساد نظامه، وكان الإسلاميون أبرز قادة المعارضة، وكانوا
مع العلماء وغيرهم مرشحين لاستلام السلطة وإسقاط نظام بوتو، والقضية كانت
قضية وقت، لاسيما وأن الشعب - كل الشعب -كان ينادي بالإسلام، ويتساءل
باستمرار:
- لماذا انفصلنا عن الهند، وما الفرق بين غاندي وجناح، أو بين نهرو
وأيوب، أو بين بوتو وراجيف وأمه من قبل؟ !
- أين الخلافة الإسلامية التي طالما عملنا وجاهدنا وهاجرنا لقيامها؟ !
وأخيراً قام انقلاب عسكري جديد، وأسقط نظام بوتو، وقدمه إلى المحاكمة
بتهمة اغتيال أحد رموز المعارضة، ثم نُفذ فيه حكم الإعدام، ونجح النظام الجديد
في استقطاب المعارضة - التي كان معظمها من الإسلاميين - لأنه أعدم بوتو،
ودعا إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، وهو الشعار الذي يجد رواجاً منقطع النظير في
باكستان.
واشترك العلماء والجماعة الإسلامية في أول وزارة، وأسندت وزارة الإعلام
إلى عضو من أعضاء الجماعة الإسلامية، ووجد الوزير نفسه غريباً في الوزارة،
وكان عليه لإصلاح الوزارة أن يطرد كبار المسؤولين فيها ويلغي عدداً من أقسامها، والنظام العسكري لا يسمح بذلك؛ ولهذا فقد صدق في الوزير قول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء!
وبدأ النظام الجديد بإقامة شيء من الحدود، لكنه تجاهل المرتدين وقُطاع
الطرق، وقادة شبكات النصب والاحتيال - وما أكثرها في باكستان! -،
وعصابات تهريب المخدرات، وقام بتعزير الصحفيين الذين ينتقدون النظام، فكان
واضحاً أنه يريد أن يطبق من الإسلام ما يخدم النظام ويساعد على استمراره.
واشتراك المعارضة في الوزارة يعني أن الغالبية العظمى من الإسلاميين أيدوا
الانقلاب الجديد، ومن قادتهم مَن جاب الأمصار داعياً إلى تأييد الزعيم العسكري،
مشيداً بمناقبه الطيبة ومآثره الحميدة، وهناك قلة قليلة نوجز موقفهم في النقاط التالية:
1- لم يكن قادة الانقلابات العسكرية من الدعاة إلى الله، وليس لهم أسبقية في
الإصلاح وعمل الخير، ولا يؤهلهم لهذه المناصب علم شرعي. وفضلاً عن ذلك
فقد تربوا في مؤسسات ومعاهد منحرفة، وعاشوا جزءاً من حياتهم في ديار الغرب
يتتلمذون على أيدي أعدى أعداء الإسلام والمسلمين، ويعاشرون المفسدين من
الجنسين. ومن يسبر غورهم يعلم أن من أخص صفاتهم النفاق والغدر، فترى
أحدهم حارساً لطاغوت من الطواغيت، ينفذ أوامره الظالمة، ويزين له الإجرام،
ويظهر له الحب والإعجاب والتقدير.. وعندما تسنح الفرصة يبطش بسيده، ويقود
انقلاباً عسكرياً ضده ثم يقدم على إعدامه أو نفيه أو سجنه مدى الحياة، والإعدام هو
الأصل، ويشن حملة على النظام القديم في أجهزة الإعلام، ويشيع بين الناس روح
الخوف والإرهاب، ويزعم أنه لا يريد الحكم، وإنما يريد الإصلاح، وتمر الأيام
ويعلم الناس أنه أشد سوءاً من سلفه ثم يتقدم أحد رفاقه ليقود انقلابًا ضده.. وهكذا.
2 - هناك شبه كبير بين الانقلابات العسكرية والحركات الباطنية المسلحة في
تاريخنا الإسلامي، ومن أهم أوجه الشبه ما يلي:
- ليس لهم أسبقية في العمل الإسلامي ولا يعرف الناس عنهم شيئاً لا خيراً
ولا شراً.
- يتظاهرون بالورع والتقوى والرغبة في الإصلاح، حتى إذا وثق الناس
بهم بدأوا تدريجياً في تغيير شرائع الإسلام.
- سبيلهم إلى التغيير استخدام العنف والبطش والتنكيل، ويسهل عليهم إزهاق
الأرواح، وسجن الأبرياء، وإشعال نيران الفتن.
- لا يتحركون من خلال منهج، وليس عندهم ثوابت لا يخالفونها، فتارة
يبالغون في تمسكهم بالإسلام، وتارة يبالغون في الزندقة والإلحاد، ولا يقبلون أن
يحاسبهم أحد أو يسألهم: لِمَ فعلتم كذا وكذا؟ !
3 - لا يكون الدين كله لله في الأرض ولا تحكم الشريعة الإسلامية، إلا إذا
قامت نخبة مؤمنة تدعو إلى الله - سبحانه وتعالى - وتجاهد في سبيله، وتصبر
على الأذى.
ولا يكون الدين كله لله في الأرض أيضاً إلا إذا نهض بهذه الدعوة علماء
مجاهدون آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، يلتف الناس حولهم، ويسمعون لهم
ويطيعون.. أما أن لا يكون للعلماء والدعاة والجماعات الإسلامية أي دور في إشادة
هذا البناء الضخم في حين يتولاه عسكريون نكرات، يعجزون عن فهم النصوص
الشرعية، بله الاجتهاد في القضايا المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد، ثم يرفضون
إشراك العلماء، وإذا سألتهم قالوا: لا نعترف بقيادة غير قيادة الجيش. وفى هذه
الحال نقول لهم: عملكم هذا يخالف سنن الله في التغيير. ومع أن بعض الصفات
التي ذكرناها آنفاً متوفرة عند قادة الانقلاب الذي أطاح بنظام بوتو، ولو علم الأخير
أنهم سيغدرون به لما أبقاهم في الجيش يوماً واحداً، ومع ذلك فقد سارع الإسلاميون
إلى تأييد الانقلاب العسكري؛ لأن قائد هذا الانقلاب أعلن أنه سيحكِّم الإسلام! .
انقلاب جديد:
في 30/5/1988 ألقى الرئيس الباكستاني خطاباً في التلفاز، تحدث فيه عن
الأوضاع الداخلية في باكستان، وأعلن عن حل " البرلمان " ومجلس الوزراء؛ لأن
رئيس الوزراء فشل في وضع حد للفساد الذي استشرى في البلاد، وفشل في وضع
حد لأعمال العنف العرقية بين المواطنين. وقال: إنه وجد نفسه أمام خيارين: إما
أن يبقى صامتاً متفرجاً أو يضع الأمور في موضعها الصحيح، فاختار الحل الثاني
، لكن ذلك لا يعنى العودة إلى الأوضاع التي كانت قائمة عام 1977م؛ فالدستور لن
يعلق أو يلغى، ولن يعود قانون الطوارىء، ولن تفرض الأحكام العرفية، وستبقى
الأحزاب السياسية كما هي تزاول أنشطتها، ووعد بأن الانتخابات ستجرى خلال
ثلاثة أشهر - كما ينص الدستور على ذلك - وكان الحزن بادياً على وجه الرئيس
الباكستاني وهو يخطب، وقد ألغى
زيارة للصين كان من المفروض أن تتم في 30/5 وهو اليوم الذي أعلن فيه
انقلابه الجديد، ثم توالت خطبه في التلفاز:
* فمساء 25/6 خطب ودافع عن قراراته الجديدة وقال: إنه استخدم
الصلاحيات التي منحها الشعب والدستور له، واكد أن قوانين باكستان ونظامها
الاقتصادي سوف تتبدل.
* وفي 25/6 خطب خطبة مؤثرة، وكان يبكي، ويمسح وجهه وأنفه بمِنديل
أبيض كان يحمله في يده ويقول: إننى أخاف الله وأخشاه، وأعلم أنه سوف يسألني
غداً: لماذا لم تحكم الشريعة الإسلامية؟ ! ، والشعب سوف يسألني: لماذا لم تأخذ
على يد الظالم؟ ! .
وإنه لمنظر مؤثر حقاً أن يشاهد المواطنون رئيسهم على شاشة التلفاز وهو
يبكى من خشية الله ومخافة أن يحاسبه في قبره عن عدم تحكيم الشريعة وعن الظلم
والفساد - كما يقول - وقال ضياء الحق: إنه آتٍ بفجر جديد، ويناشد الناس
التمسك به، وذكر أمثلة عن لقاءات تمت بينه وبين فقراء الناس، واستمع إلى
مطالبهم، ووعد بتوفير مأوى لمن لا مأوى لهم، وتأسيس صندوق لمنح صَدَاق
للنساء الفقيرات اللواتى يرغبن في الزواج، وأنه سيصنع بالإسلام واقعاً في
باكستان لا مثيل له ... واتخذ ضياء الحق فور الإعلان عن انقلابه الجديد
الإجراءات التالية:
1- شكَّل وزارة جديدة في 9/6/1988 برئاسته، والوزراء مزيج من وزراء
حكمه العرفي السابق، ووزراء كانوا أعضاءً في حكومة محمد خان جونيجو التي
قاد ضياء الحق انقلاباً أبيض ضدها.
ومن الأسماء البارزة في الحكومة الجديدة:
- صاحب زاده يعقوب خان، عيّنه في منصبه السابق نفسه، وزيراً
للخارجية، وهو من أصدقاء ضياء الحق وكان ضابطاً في الجيش، كما كان
مسؤولاً عن مفاوضات جنيف لحل المشكلة الأفغانية.
- الدكتور حبيب الحق وزير المالية والتجارة وهي الوزارة التي كان مسؤولاً
عنها إبان الحكم العرفي في عام 1977.
- وضمت الوزارة زعيمين سابقين من زعماء حزب الشعب الذي كان
يتزعمه " بوتو "، الأول مير هزار خان بجراني والثاني مير أفضل خان كانا
عضوين في حكومة الوحدة الإسلامية التي كان يرأسها جونيجو.
وضمت الوزارة عضوين من أعضاء مجموعة معارضة مستقلة في الجمعية
الوطنية التي حُلت، أما بقية أعضاء الوزارة فهم أعضاء في الرابطة الإسلامية.
وكان قد أعلن عن تشكيل الوزارة مساء 9/6 بعد لقاء طويل بين ضياء
وحردان شاه الذي كان عضواً في مجلس الشيوخ وكان مستشاراً روحياً - صوفي -
لجونيجو، والشيخ حردان له نفوذ واسع في إقليم " السند "، وفسر السياسيون هذا
اللقاء بأنه عبارة عن صفقة عقدها الرجلان:
الرئيس سوف يستمر في دعم الرابطة الإسلامية، والشيخ حردان يتخلى عن
جونيجو ويقف بإمكاناته كافة مع الوضع الجديد.
2 - ظهرت آثار الانقلاب الجديد على برامج التلفاز التي تملكه الحكومة، فقد
مُنعت الدعايات التجارية التي تتضمن صوراً للنساء في حالات مشينة مثل الرقص
والغناء، وزاد عدد البرامج الإسلامية، وتم تعيين أشخاص جدد مؤيدين للوضع
الجديد؛ مهمتهم الإشراف على التلفاز ومراقبة تطبيق ما يأمر به القادة.
3 - كان العلماء قد صاغوا مسوَّدة تحكيم الشريعة الإسلامية - في عهد
حكومة جونيجو - وكان رئيس الوزراء السابق قد جمد تطبيق هذه المسودة، وجاء
ضياء الحق بعد 30/5/88 ليعلن عن التزامه بتطبيقها، وفعلاً طبق نظام الصلاة
والزكاة، ووعد بأنه قريباً سيطبق نظام القصاص والدية، وشكَّل لجاناً كثيرة مهمتها
(أسلمة) النظام الاقتصادي والتربوي وقال: إن المهمات الأولية للحكومة الجديدة
أسلمة القوانين، وأعلن في 16/6 أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأعلى
للقوانين في باكستان، وبموجب هذا القرار الجديد يجوز للمحاكم العليا إلغاء أي
قانون يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية باستثناء القوانين الدولية، والاتفاقيات
المالية الداخلية المعمول بها حالياً بالإضافة إلى سندات التأمين والصكوك.
4 - أعاد ضياء الحق إلى سدة المناصب العليا الجنرالات المتقاعدين الذين
كانوا مسؤولين إبان فترة الأحكام العرفية ما بين عام 1977 وعام 1985م،
وأصبح حكام الأقاليم من الجنرالات ومن أشدهم الفريق المتقاعد رحيم الدين الذي
عينه حاكماً لإقليم السند، ومن المتوقع أن يتخذ الحاكم الجديد إجراءات صارمة ضد
القوميين من سكان السند الذين يطالبون بالانفصال عن باكستان - كما حدث في
باكستان الشرقية - ويقومون باعتداءات متتالية ضد المهاجرين الذين يقطنون في
هذا الإقليم.
وعزل ضياء الحق الدبلوماسيين الذين اشتركوا في محادثات جنيف ووقَّعوا
الاتفاقية التي بموجبها تم انسحاب السوفييت من أفغانستان، وأقال كبار المسؤولين
في السلطة الذين كانوا مؤيدين للرئيس جونيجو.
المعارضون:
1- الشيعة: أعلن رئيس حركة تنفيذ الفقه الجعفري (عارف الحسيني) أن
أتباعه لا يقبلون بالقوانين الجديدة التي وصفها بأنها غير مستكملة وغير مقبولة لدى
الشيعة. ومن الجدير بالذكر أن الشيعة في باكستان لا يعارضون ضياء الحق،
وإنما يعارضون القوانين الإسلامية السنية، وإذا كانت هذه القوانين غربية - كما
هو الحال - فلا يعارضونها، ومن جهة أخرى فقد زعم عارف - فيما نقلته عنه
صحيفة " إندبندنت " 16/6/1988 - أن عدد الشيعة عشرون مليوناً، والحقيقة أن
عددهم لا يتجاوز ثمانية ملايين نسمة، ومن عادتهم تضخيم عددهم، وعلى الأقل
يضربون العدد الصحيح بضِعفه.
2- حزب الشعب الذي تقوده الآن (بي نظير) ابنة علي بوتو، ومع أن
الحزب ضعيف الآن - بعد فقدان رئيسه الذي أعدمه ضياء الحق، ولأن الرئيس
الباكستاني تمكن من شق الحزب واستمال عدداً من كبار زعمائه - مع ذلك فالحزب
من أقوى الأحزاب في باكستان ويعطف عليه الغربيون؛ لأنه علماني ديمقراطي
(هكذا يقولون مع أن علي بوتو كان مستبداً ويتلاعب بالديمقراطية) ، ويعطف عليه
الشيعة؛ لأن بوتو من عائلة شيعية، وهذا سبب تدخل إيران الخميني لدى باكستان
من أجل العفو عنه.
ومن المؤسف أن كثيراً من الأحزاب والشخصيات المعارضة اتصلت بالحزب
لتنسق معه ضد الإجراءات الجديدة.
3 - استنكرت التجمعات النسوية إجراءات تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية،
ونظمت مظاهرات في كثير من المدن الباكستانية، وهذا موقف خبيث كموقف
الرافضة؛ لأنهن بهذه التصرفات يعلنَّ رفضهن للإسلام الذي أباح تعدد الزوجات
كما أباح الطلاق، ولا يسمح الإسلام للمرأة أن تكون رئيسة دولة.
4 - الجماعة الإسلامية وجماعة العلماء رفضتا (حل البرلمان) ووصف
الدكتور خورشيد أحمد - نائب رئيس الجماعة الإسلامية - التحرك بأنه لعبة لتمييع
الانتخابات، وقال: إن قوانين الشريعة فُرضت لحظر الأحزاب السياسية (تايمز21
/6/1988) ، وذكرت بعض صحف باكستان أن أمير الجماعة الإسلامية القاضي
حسين أحمد التقى مع بي نظير بوتو مرتين لينسق الموقف معها ضد ضياء الحق،
ولكن أمير الجماعة نفى صحة هذا الخبر، وقوله عندنا هو الصحيح، ومما ينبغي
التأكيد عليه أن الجماعة الإسلامية وجماعة العلماء لا ترفضان تحكيم الشريعة،
وحاشا لله أن يفكروا بمثل هذه الأفكار، ولكنهم يرفضون أسلوب الرئيس الباكستاني
بعد أن لُدغوا من جحره مرات ومرات!
وجملة القول: لقد رفضت الأحزاب والهيئات والمنظمات كلها هذا الإجراء
اللهم إلا الجهات التالية:
1 - الصوفيون: وهؤلاء مع كل حاكم مهما كانت عقيدته والمهم أن يكون
حاكماً، وسيكونون أول من يؤيد النظام الذي يخلف ضياء الحق، وهذه حال الغالبية
العظمى منهم وليس حالهم جميعاً؛ ففيهم معتدلون زُهاد لا يبيعون دينهم بدنياهم،
ولكنهم قلة.
2 - العسكريون: أعضاء مجلس القيادة، وكبار ضباط الجيش، وطبيعي أن
يتظاهروا بتأييد ضياء الحق ولكن من المتعذر معرفة الصادق من الكاذب، لاسيما
وأن منهم رافضة، وهؤلاء يخططون منذ القديم من أجل السيطرة على جيوش بلدان
العالم الإسلامي، وفي جيش باكستان نسبة غير قليلة منهم - كما سمعنا - فكيف
نأتمن هؤلاء وأمثالهم على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية؟ ! بل كيف يركن
الرئيس الباكستاني إلى أمثال هؤلاء ويزهد بالعلماء والدعاة والجماعات الإسلامية؟
3 - معظم أهل الحديث - وليس جميعهم - كان لهم رأي طيب، قالوا لابد
من تأييد الإجراءات الجديدة، ولكنهم طالبوا بتشكيل مجلس من العلماء أهل الحل
والعقد في باكستان، وأن يكون هذا المجلس هو المرجع في كل ما يتعلق بتطبيق
أحكام الشريعة الإسلامية، وأصحاب هذا الرأي قلة قليلة وهذا لا يضيرهم ولا يقلل
من شأنهم.
4 - عامة الناس الذين لا ينتسبون إلى أحزاب أو جماعات، وهؤلاء تتجاذبهم
اتجاهات مختلفة، ولكنهم يتأثرون بما تقوله أجهزة الإعلام في باكستان، لاسيما
وأن أجهزة الإعلام تتبنى الإسلام الذي يدينون به.
أما المعارضة الخارجية فهي لا تقل شراسة عن المعارضة الداخلية،
والصحف الغربية تقدم لنا مثالاً واضحاً جلياً عن هذه المعارضة الظالمة، فليس فيها
إلا الهجوم السافر، وبيان المثالب، وتأليب المواطنين، والدعوة إلى مقاطعة
باكستان اقتصادياً؛ لأنها على وشك الإفلاس، والصحافة الغربية لا يمكن أن تكون
حيادية إذا كانت تتحدث عن الإسلام، وضياء الحق يبقى صديقاً للغرب مادام يطبق
قوانينهم وأنظمتهم، ويقدمون له الدعم والمساعدة، أما عندما يتحدث عن تحكيم
الشريعة الإسلامية فسيتحول إلى رجل مستبد ظالم، يعيش بعقلية القرون الوسطى!
ولو أراد الرئيس الباكستاني استمرار صداقته وتعاونه مع الغرب؛ فالغرب لا
يقبل التعاون، وأول دولة ستعيد تقويم علاقاتها مع باكستان الولايات المتحدة
الأمريكية وإن زعمت خلاف ذلك.
والدول المجاورة لباكستان أشد خطورة عليها وأكثر عداوة من الدول الغربية،
بل هي في حالة حرب - أو قريب من ذلك - مع الهند والاتحاد السوفييتي ونظامه
العميل في أفغانستان، وإيران التي تعد من أشد دول العالم كيداً لباكستان، ولكل
دولة من هذه الدول جيوب داخل باكستان، ولا نشعر أن النظام مدرِك لخطر هذه
الجيوب، ولو كان مدركاً لكان له موقف آخر من النوادي والجامعات ودور النشر
والمعاهد والمؤسسات التي تقيمها إيران وعملاء إيران داخل باكستان.
نظرات في تجربة ضياء الحق:
نحن نوافق الرئيس الباكستاني فيما اتهم به رئيس وزرائه، ولكن من حقنا أن
نتساءل: مَن المسؤول الأول عن هذا الفشل؟ !
1 - فالرئيس الباكستاني عسكري، والمطلعون على سياسة دول العالم الثالث
يعرفون كيف تتم انتخابات المجالس التشريعية، وكيف يتم اختيار رئيس الوزراء،
ولم يكن ضياء الحق خلال هذه الفترة بعيداً عن صنع القرار، وعندما حل الجمعية
الوطنية قالها صريحة: لقد استخدمت الصلاحيات التي منحني إياها الدستور
والشعب.. فلماذا سكت ثلاث سنين عن استخدام هذه الصلاحيات، ولماذا جاء
استخدامها في هذا الوقت؟ !
إذن فالقرار الأخير بيده وليس بيد رئيس الوزراء أو بيد الجمعية الوطنية!
2 - ومدة حكم رئيس الوزراء حوالي ثلاث سنين، أما ضياء الحق فمدة
حكمه إحدى عشرة سنة، وإذا سلمنا جدلاً أنه خلال الثلاث سنين الأخيرة لم يكن
لديه صلاحيات فماذا فعل خلال ثمانِ سنين؟ !
3 - عندما جاء إلى الحكم، وتحدث عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية هلل
الناس وكبروا داخل باكستان وخارجها، وجاب عدد كبير من علماء باكستان وقادة
الجماعة الإسلامية الأمصار ليطمئنوا إخوانهم المسلمين، وصنع هؤلاء دعاية
لضياء الحق لا تصنعها أمريكا ولا غيرها، ولو أنفقت بلايين الدولارات؛ لأن
المسلمين يثقون بعلمائهم وبقادة الجماعات الإسلامية، ولا يثقون بالعسكريين، لكن
الوضع الجديد خذل الناس الذين يدعون إلى تحكيم الشريعة؛ فبعض الأحكام التي
سارع في تطبيقها سارع في التراجع عنها. والمسودة التي وضعها العلماء جُمدت،
وانتعش تهريب المخدرات، وازداد الفقر، وعمت الرشوة، وعندئذ علم الذين كانوا
يعيشون في أحلام اليقظة أن قادة النظام الجديد يستغلون الإسلام ويتلاعبون بعواطف
المسلمين من أجل الوصول إلى الحكم، وإقامة شعبية لهم، أما العلمانيون على
مختلف أسمائهم ومسمياتهم - فراحوا يستغلون مواقف النظام استغلالاً مؤسفاً،
وكانوا يوجهون سهام نقدهم إلى الإسلام، وليس إلى الذين يستغلون الإسلام.
4 - إن موقف الجماعة الإسلامية وجماعة العلماء من الانقلاب الجديد له
أسباب مهمة؛ فرئيس الانقلاب كان بحاجة إليهم عندما أطاح بنظام بوتو، ولهذا
اشتركوا في أول وزارة، ووقفوا إلى جانبه، وكان يستقبلهم ويستمع إليهم وينفذ
معظم ما يطلبون، وبعد أن قوي نظام حكمه استغنى عن خدماتهم ولكن بقي بابه
مفتوحاً أمامهم، وكان يستمع إليهم لكن أصبح يقول لهم: لي شركاء في المجلس
العسكري، ولا أستطيع فرض المواقف والقرارات عليهم! ، وقبلت الجماعة منه
هذا الموقف على مرارته، والمرحلة الثالثة لم يعد الباب مفتوحا أمامهم، وزعم أن
الأمور بيد المجلس الوطني ومجلس الوزراء. وقنع قادة جماعة العلماء والجماعة
الإسلامية أن القضية قضية استغلال وتجارة بالإسلام، فاتخذوا موقفاً متشدداً.
5 - كيف يجمع الرئيس العسكري المسلم بين الولاء لله وبين خضوعه
للولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة حكمه كلها، وهو يعلم أن الولايات المتحدة
عدوة للإسلام والمسلمين، ويستحيل أن تدعم نظاماً إسلامياً؟ ! ويعرف ضياء الحق
أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي صنعت (إسرائيل) في عالمنا الإسلامي،
لقد دعمته وقدمت له السلاح، كما قدمت له المساعدات المادية، ولسنا هنا في صدد
الاسترسال في ذكر الأدلة والبراهين على تسخير الولايات المتحدة لباكستان، وهذا
الموقف مسؤول عنه ضياء الحق - بكل أسف! - وليس جونيجو.
6 - غريب أمر الرئيس العسكري، فعندما حل المجلس الوطني وأقال
الوزارة قال: إنني أستخدم الصلاحيات التي منحنى إياها الدستور، وعندما عاد إلى
الحديث عن تحكيم الشريعة الإسلامية قال: لقد التزمت بتطبيق أحكام الشريعة
الإسلامية عام 1977 وإن الشعب قد منحني ثقته في استفتاء عام 1984 ويعني أن
الشعب منحه صلاحية تحكيم الشريعة. فلماذا رضي طيلة أربع سنين أن يحتكم
الناس في بلده إلى قوانين جاهلية غربية؟ ! وماذا كان سيقول لربه لو توفاه الله
خلال تلك الفترة، والشعب قد أدى واجبه - كما يقول - وهو الذي لم ينفذ إرادة
الشعب؟ ! .
ولماذا كان يقول لقادة الجماعة الإسلامية وجماعة العلماء: إن لي زملاء
في القيادة ولا يجوز لي الانفراد باتخاذ القرار مع أن الشعب قد منحه وحده
الثقة؟ !
الأسباب الحقيقية للانقلاب الجديد:
إن الأسباب التي ذكرها ضياء الحق - والتي دفعته إلى حل الجمعية الوطنية
ومجلس الوزراء - ليست مقنعة، ويصعب الوصول إلى الحقيقة كلها في دول العالم
الثالث لاسيما إذا كان الحدث في مراحله الأولى، وفى باكستان قال ضياء الحق كل
ما يريد أن يقوله من خلال خطابه الذي ظهر فيه على " شاشة التلفاز " في 30/5 ?
أما جونيجو فلم يصدر عنه تصريح يدافع فيه عن موقفه، ويبين الأسباب الحقيقية
للانقلاب الجديد، والمعارضة مهتمة بالمكاسب التي تعمل على تحقيقها، وليست
مهتمة بكشف أسباب المشكلة.
ومن خلال تتبعنا للأحداث ترجح عندنا أن ضياء الحق اختار جونيجو كرئيس
للوزراء لأنه يعتقد أنه سينفذ كل قرار يقرره العسكريون، وربما كان الأمر كذلك
في البداية، ولكن الرجل بدأ يتحرر من هيمنة الجنرالات بعد الانتخابات، بل بدأ
يعمل على الإطاحة بضياء الحق وسنبين الأدلة على ذلك:
1- كانت محادثات جنيف المحطة الأولى في الصراع على السلطة بين
الرجلين، فرئيس الوزراء جونيجو كان يرى أن المجاهدين الأفغان عبء ثقيل على
باكستان، وربما أدى استمرار وجودهم إلى صراعات داخلية في باكستان، وكان
يرى أيضاً أن التفاهم مع السوفييت أهم من التعاون مع الأمريكان، وكانت
المعارضة ترى رأي جونيجو، وبعد التوقيع على معاهدة جنيف كان جونيجو
يخطط لطرد الأفغان من بيشاور وما حولها، ولم يكن ضياء الحق منتبهاً للمكيدة
التي يدبرها رئيس وزرائه، ولكن المجاهدين الأفغان والذين يؤيدونهم من كبار
علماء باكستان أقنعوا ضياء الحق أن طرد المجاهدين يعني هدم القلاع والحصون
التي تحُول بين الشيوعيين وباكستان، فغيَّر موقفه ووعدهم خيراً، ثم قام بعزل
الدبلوماسيين الذين اشتركوا في محادثات جنيف بعد إقالة وزارة جونيجو، أما
صاحب زاده يعقوب خان فلعله كان مغلوباً على أمره أو لعله اعتذر لضياء الحق
وعلى كل حال فهو صديق من أصدقائه القدامى، ولهذا أبقاه في وزارة الخارجية.
2 - والمحطة الثانية في الصراع على السلطة: الجيش، فضياء الحق هو
القائد العام للقوات المسلحة، وجونيجو كان رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع، وفي كل
مرة يطلب المدنيون التحقيق في قضية عسكرية كان ضياء الحق يقف إلى جانب
الجيش، وكانت صلاحيات الوزير تتعارض مع صلاحيات القائد الأعلى للجيش.
فالجيش كان واسطة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمجاهدين الأفغان،
وعندما وصلت صواريخ " ستينغر " إلى إيران طلبت الولايات المتحدة من حكومة
جونيجو التحقيق في القضية، وأصابع الاتهام كانت تشير إلى نفر من كبار الضباط
وكان أحدهم رافضياً، فرفض القائد العام ومساعدوه الاتهامات الموجهة للجيش
وأحيلت القضية للحفظ. وأثيرت القضية مرة ثانية عندما انفجرت الصواريخ في ... (روالبندي) و (فيصل آباد) ووقعت كارثة مات بسببها مئات الأبرياء وأحيلت القضية للحفظ.
والقشة التي قصمت ظهر البعير - كما يقولون - جرت في روالبندي في
الشهر الخامس أي قبل إقالة الوزارة بأيام، حيث اعتدى نفر من العسكريين على
فتاة فزجرهم المدنيون، ووقع شجار بين الطرفين، وحاول (بشير الحسن -
عضو المجلس الوطني عن روالبندي - حل المشكلة غير أن العسكريين اعتدوا
عليه في بيته، وثارت ثائرة أعضاء المجلس الوطني، واستغل جونيجو القضية
وكانت ستطرح في أول اجتماع للمجلس الوطني، وكانوا مقتنعين بأن رئيس
الجمهورية لا يجوز أن يكون قائداً للجيش، وهذا لو تم سيكون انقلاباً مدنياً ضد
العسكريين، وأصبح من المستحيل تعايش المدنيين مع العسكريين، وتجاوز
جونيجو الحدود المرسومة له، ولهذا سارع ضياء الحق إلى الإعلان عن انقلابه
الجديد.
أما الحديث عن الفساد، فالأنظمة الديمقراطية كلها فاسدة، وجونيجو ليس
معروفاً عنه الرشوة والفساد، أما عن تحكيم الشريعة، فالرجل علماني وضد تحكيم
الشريعة وضياء الحق هو الذي اختاره، ويعرف حقيقته ولو بقي ضمن الحدود
المرسومة له لبقي من أعز أصدقاء ضياء الحق.
3 - لا نشك أن ضياء الحق حريص على بقائه رئيساً لباكستان، فمنذ أن قام
بانقلابه الأول عام 1977م وهو صل بطريقة ديمقراطية ذكية من أجل القضاء على
كل من يعارض حكمه، وتفنن في شق كل حزب من الأحزاب، وفى ضرب
الأحزاب ببعضها، ونجح خلال فترة حكمه في إضعاف هذه الأحزاب، ومن تركيبة
الوزارة الجديدة نعلم ماذا يريد، لقد استقطب عناصر بارزة من حزب الشعب،
ومن الرابطة الإسلامية وعناصر مستقلة مؤثرة، وقد استنفر أجهزة الأمن
والاستخبارات لتشاركه في الإعداد للانتخابات القادمة، ومدة رئاسته تنتهي في عام
1990م، وقد صرح بأنه سيعلن عن استفتاء عام وصيغة هذا الاستفتاء الآتي:
(هل يرغب الشعب في نظام إسلامي وحكومة رئاسية مع بقاء ضياء الحق في الحكم
لمدة خمس سنين بعد انقضاء مدة رئاسته في عام 1990 "! ، وهكذا فبقاؤه وتطبيق
النظام الإسلامي شيء واحد.
(انظر أوبزرفر 3/7/1988) .
الموقف النهائي:
بعد هذا التحليل الشامل للأوضاع في باكستان نستطيع تحديد الموقف النهائي
في النقاط التالية:
1- عندما قاد ضياء الحق انقلابه الأول كان شخصية مجهولة ومع ذلك أيده
الإسلاميون، وفي عام 1988م لم يعد مجهولاً، وعلى الرغم من سلبياته الكثيرة
فلابد أن نعترف بأنه الرئيس الوحيد في باكستان الذي لم يبطش بالإسلاميين، ومع
أن جواً من الحرية يشمل العمل السياسى بشتى نواحيه منذ قيام باكستان، لكن مع
هذا فإن الإسلاميين يتمتعون بحرية خلال حكمه لا تتمتع بها أية جماعة إسلامية في
العالم الإسلامي، وموقف ضياء الحق من المجاهدين الأفغان لا بأس به، على
الرغم من وجود سلبيات لا يُستهان بها، والبديل لضياء الحق لن يكون إسلامياً ولن
يكون في مصلحة المسلمين.
2 - جماعة العلماء والجماعة الإسلامية تبالغان في تقديرهم لأهمية
الديمقراطية والانتخابات البرلمانية على الطريقة الغربية، وقد تحالفوا في السابق
مع أحزاب وهيئات علمانية، وهم في معارضتهم لضياء الحق عندهم أسباب
ومسوغات مهمة ولكن من هذه الأسباب أنه حل المجلس الوطني، وأنه يخطط
لإلغاء الأحزاب السياسية. ونحن نسأل ماذا يحدث لو ألغى الأحزاب والنظام
البرلماني الديمقراطي، والتزم تحكيم شرع الله؟ ! .
إن الأحزاب السياسية العلمانية الإلحادية يجب أن تلغى في ظل النظام
الإسلامي، والملحد لا حرية له - فرداً كان أو جماعة - فكم نتمنى أن يعيد إخواننا
النظر بقناعاتهم في النظام الديمقراطى، وكم أعجبنا اقتراح بعض الدعاة بضرورة
وجود مجلس لأهل الحل والعقد في جميع مناطق باكستان، وأن تتوفر في أعضاء
هذا المجلس الشروط الشرعية الواجب توفرها في أهل الحل والعقد.
3 - لابد من نقد الأسلوب الذي يتبعه ضياء الحق، والمخططات التي يرسمها، فهو عندما يتجاهل جماعة العلماء والجماعة الإسلامية، وأهل الحديث وبقية
الجماعات والهيئات الإسلامية يرتكب خطأً فادحاً، وهؤلاء أساس هذا البنيان ... الشامخ، وعندما يجند المرتزقة الذين كانوا مع بوتو وجونيجو -يرتكب خطأً أشد فداحة من الأول، فالذين خانوا بوتو سيخونون ضياء، وكذلك الذين خانوا ... جونيجو. ليقلب ضياء الحق صفحات التاريخ قليلاً لأننا لا نريد أن نزيده إرهاقاً فليس عنده وقت للقراءة ولذلك نقول ليقلب صفحات قليلة وليسأل نفسه أين الجموع التي كانت تهتف لجمال عبد الناصر من المحيط إلى الخليج؟ ! إن أعز أصدقائه - كالتهامي وغيره - هم الذين يتحدثون عن خيانته ... وأين مسيرة المليون التي حملت سيارة النميري في الخرطوم، هذا المليون خرج متظاهراً ضد النميري! .
إن المجموعات (الإنكشارية) التي يفاخر بها ضياء الحق من المدنيين
والعسكريين ستكون أول من ينقلب عليه؛ لأنها انقلبت على من سبقه وتمتهن
الانقلابات وليس أمام ضياء الحق إن كان جاداً هذه المرة - إلا التعاون مع العلماء
والدعاة الذين كانوا دائماً مع الإسلام، وفي سبيل الله سجنوا وزلزلوا زلزالاً شديداً،
وما زادهم ذلك إلا صبراً واستقامة وثباتاً.
إن أعداء الإسلام داخل باكستان وخارجها ينبلون عن قوس واحدة، وقد
جمعوا جموعهم، وبدأوا يتظاهرون ويصدرون التصريحات، وأسيادهم خارج
باكستان يمدونهم بالمال والسلاح وأنواع الدعم كافة، فماذا يفعل ضياء الحق عندما
يفاجَأ بأن الأحزاب والباطنيين والعلمانيين والمنظمات والنقابات ضده،
فى حين أن الإسلاميين لا يثقون به؟ !
ماذا يفعل عندما يفاجأ بأن أقرب الناس إليه من العسكريين هم الذين ورطوه
وهم الذين يعملون في الخفاء مع غيره؟ ! .
ماذا يفعل إذا قُطعت عنه المساعدات التي تقدَّم له من الدول الغربية التي
يسميها صديقة؟ !
لقد وصل العجز في ميزانية باكستان إلى (60 بليون روبية) ، وهو ما يعادل
1.7 بليون جنيه إسترليني وارتفعت بعض السلع الأساسية بنسبة 25%، وبدأت
الجهات الدائنة تطالب برفع الضرائب وأجور الخدمات العامة، وشعوبنا لا تصبر
على الجوع، فأين القاعدة العريضة التي تواجه هذه المشكلات الخطيرة؟ ! .
إننا في " البيان " نناشد الدعاة والعلماء والجماعات الإسلامية في باكستان أن
يتنادوا لاجتماع عاجل يناقشون فيه مصداقية الدعوة الجديدة، ويستنفروا طاقاتهم
كافة من أجل تحكيم شريعة الله، وأن لا يتحول هذا الشعار إلى تجارة ومزايدات،
ويأخذوا بعين الاعتبار الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدد وحدة المسلمين في
باكستان، نناشدهم أن يضعوا مصلحة الإسلام واٍلمسلمين فوق كل مصلحة،
نناشدهم أن يخلصوا نياتهم، ويتجردوا لله غاية التجرد، وينطلقوا من ثوابت لا
يجوز لأحد من المجتمعين مخالفتها.
ونناشد العلماء والدعاة والجماعات في العالم الإسلامي أن يقفوا مع إخوانهم في
باكستان ويمدوا إليهم يد العون والمساعدة قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم!(13/73)
دلائل انهيار النظام الأفغاني
كنا نتجول في شوارع كابول بسيارة في أعقاب واحدة من بين كثير من
سلاسل الانفجارات المدوية وتبادل إطلاق النار الذي يتخلل ساعات الظلام بشكل
منتظم ولا يُعطَى تفسير لوقوعه. أوقفت سيارتنا الدبلوماسية وطُوقت من قبل سبعة
من رجال (سَرَنْدوي) - الشرطة البرلمانية الأفغانية المكلفة بالدفاع عن العاصمة -، وتساءل السائق فيمَ إذا كان للمجاهدين دور فيما حصل، فأجاب قائد وحدة
(السرندوي) بالنفي وقال إن الحادث يتعلق بشؤون داخلية بحتة، وبعد تأكد القائد
ورجاله من عدم وجود أي أحد على مقربة منهم همسوا بصوت مرتفع بعض الشيء
قائلين: (مجاهدين مجاهدين!) ، مزيلين أي شك حول ولائهم لمن يكون. ...
لقد أدهشنا رؤية انعدام الولاء وبهذا الشكل الصارخ من قبل رجال يُفترض
كونهم في طليعة المدافعين عن كابول حال انسحاب آخر جندي سوفييتي بحلول
منتصف شهر شباط من عام 1989م.
يواجه نجيب الله تهديدات عدة ليس فقط من قبل المجاهدين ويواجه احتمال
قيام انقلاب ضده من جهة القوة الجوية وكذلك احتمال اغتياله.
" تايمز " 27/5/88م(13/91)
من نتائج الغزو الروسي
قال الجنرال ألكسي ليزيخوف رئيس الجيش ورئيس التوجيه السياسى في
البحرية يوم 25/5/1988م إن (13310) جندي سوفييتي قد قُتلوا و (35478) قد
جُرحوا و (311) آخرين اعتُبروا في عداد المفقودين خلال ثمان سنوات ونصف
من الحرب في أفغانستان.
ذكرت نشرة (سانتا راند) في تقرير لها نشر هذا الأسبوع (20-26/5/1988 م)
أنه من بين أهم العوامل التي ساهمت في اتخاذ قرار الانسحاب هو الانتشار
الواسع للمخدرات والإفراط في تناول الكحول من قبل أفراد الجيش، وتدهور
الأوضاع الصحية وكذلك الهروب من صفوف الجيش بالاضافة إلى ضراوة المعارك ... ويقول الجنرال ليزيخوف: لقد لعبت هذه العوامل وغيرها دوراً كبيراً في إقناع
المسؤولين العسكريين السوفييت بسحب قواتهم بعد جهود ثمان سنوات غير مجدية
لهزيمة المجاهدين. ويقول ليزيخوف: إن انخفاض المعنويات والحوافز كانا سببين
وراء انخفاض أداء الجيش السوفييتي، ويضيف قائلاً: إن السوفييت أدركوا أنه
ليس باستطاعتهم تحقيق نصر عسكري، وإنها المرة الأولى التي يقر فيها السوفييت
بالهزيمة! .
لقد لوحظ من خلال المقابلات التي أجريت أثناء إعداد هذا التقرير أن نسبة
50% من الجنود السوفييت يتعاطون المخدرات بشكل منتظم بما في ذلك الحشيش
والهيروين وأوبيام والمارجوانا. وقد نقل عن أحد الجنود السوفييت قوله: (إنهم
كانوا يشربون (مانع التجميد) المستعمل في سيارات الشحن والغراء وزيت الفرامل
وكانوا يأخذون صبغ الأحذية ويضعونه على قطعة من الخبز ويتركون القطعة في
أشعة الشمس حتى ينفصم الكحول عن صبغ الأحذية!) .
ومن الراجح أن يُحدث الانتشار الواسع للمخدرات، والإفراط في شرب
الكحول بين صفوف القوات السوفييتية آثاراً سلبية في المجتمع السوفييتي لفترات
طويلة تعقب عودة تلك القوات إلى الاتحاد السوفييتي كما جاء في ذلك التقرير الذي
أعد من خلال مقابلات أجريت مع قادة المجاهدين و (35) مكلفاً سوفييتياً سابقاً ممن
اشتركوا في القتال في أفغانستان، بما في ذلك أسرى وهاربين.
لقد أدى غياب المياه إلى أوضاع صحية موحشة وإلى انتشار الكثير من
الأوبئة كالتهاب الكبد والملاريا والتيفوئيد وبشكل واسع جداً. لقد أدت تلك الأحوال
إلى حالات فرار متكررة وعصيان علني بل ومنظم، وقد وقعت بعض حالات
انتحار كنتيجة لتدهور المعنويات.
بلغت خسائر أمريكا في فيتنام (58135) قتيلاً، و (153303) جريحاً،
و (2413) مفقوداً.
" تايمز " 26/5/1988م(13/92)
اندفاع جديد للمجاهدين الأفغان
منذ بداية انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان في 15 من أيار الماضي ... سقط في أيدي المجاهدين الافغان أكثر من (100) حامية سوفييتية وأفغانية و (24) مدينة إقليمية، ذكر ذلك دبلوماسيون في إسلام آباد. وذكر الدبلوماسيون في 21/6/ 1988م أن مدينة نورغول الواقعة في إقليم كونار الشرقي كانت آخر مدينة تسقط في أيدي المجاهدين. وفي نهاية الأسبوع الماضي (13-20/6/1988م) ادعى المجاهدون السيطرة على مدينة (كالات) عاصمة إقليم زابوك الجنوبي، وتمثل كالات أول عاصمة إقليمية تسقط في أيدي المجاهدين منذ بدء الانسحاب.
" تايمز " 22/6/1988م(13/93)
أخبار حول العالم
قال ميخائيل غورباتشوف:
إن المشكلة التي تواجه القوتين العظميين هي التشدد الإسلامي، وحذر بقوله: (يجب أن نعثر على وسيلة لضبط هذا الأمر، لأنه إذا انفجر المسلمون في المنطقة كلها فإننا سنحتاج إلى عشرين سنة لتهدئة الأمر) .
Wall Street Journal
الثلاثاء 5/7/1988
يوضح هذا التصريح وحدة النظر إلى الإسلام بين طرفين مختلفين، فالعالم
الغربى الصليبي الذي ترأسه أمريكا والعالم الشيوعي الذي ترأسه روسيا - على ما
بينهما من خلافات فإنهما - يجدان شيئاً مشتركاً وهو عداوتهم للإسلام والمسلمين
وسعيهم للتنسيق فيما بينهم في هذا المجال.
وكلمات: (التشدد) و (التطرف) و (التعصب) لها في لغاتهم ووعيهم
أضعاف الأثر السيئ الذي لهذه المصطلحات في لغتنا العربية، وتثير في أذهان
شعوبهم من الخوف والهلع أكثر مما تثيره في أذهان المضللين من شعوبنا.
والشيء الذي ينبغي أن يتنبه إليه هو نظرتهم الظالمة التي تدل على غباء
مختلط بإصرار على التعميم في كثير من الأحيان، وذلك حين ينظرون إلى العالم
الإسلامي من خلال إيران، ولا يعرفون أن تصرفات إيران لا تعكس بالضرورة
تصرفات ملايين المسلمين الذين إذا وافقتهم إيران بقول (لا إله إلا الله) ، فإنه يبقى
وراء هذه الكلمة من عوامل الخلاف - أصولاً وفروعاً - الشيء الكثير الذي تخالفهم
فيه.
فكل أعمال إيران التي يستهجنها الغرب والشرق ويتخذ منها أعداء الإسلام
حجة لدمغ الإسلام وشرائعه وأخلاقه بأقذع الأوصاف وأكذب التهم هي وليدة ظروفها
وحدها: ماضيها وحاضرها وأرضها وقوميتها وأحلامها.
ولكن متى كان أعداء الإسلام قديماً وحديثاً من صليبيين وشيوعيين وملاحدة
ومنافقين يتسمون بالإنصاف في الخصومة والعدل في إطلاق الأحكام؟ !
لسنا ندري - والله - ما الذي يضير أعداء الإسلام من التشدد الإسلامي؟ !
هل اقتحم هؤلاء المتشددون - الذين يتداعون إلى حربهم - مدنهم ودولهم؟ !
أليست جريمة المسلمين - بنظر هؤلاء - أنهم يرفضون أن يعيشوا في بلادهم
عبيداً، أو أن يروا بلادهم نهباً مشاعاً أو موطئاً لجنود هذه القوى المتجبرة، ولذلك
يصمونهم بهذه الأوصاف المنفرة، ويحرض بعضهم بعضاً على حربهم والتشهير
بهم؟ !(13/94)
غورباتشوف: لم يتحقق شيء!
في مؤتمر الحزب الشيوعي الذي عقد أخيراً في موسكو 28/6/1988م دعا
الأمين العام للحزب ميخائيل غورباتشوف إلى إصلاحات جذرية في الشؤون
السياسية والاقتصادية للاتحاد السوفييتي، فقد انتقد شركات الدولة التي تسببت في
شح المواد الاستهلاكية الضرورية، بينما تكدس إنتاج المواد التي لا يحتاجها الناس، وطالب بأن يكون الفلاح سيد أرضه وأن تتخلص الدولة من المزارع التعاونية.
كما انتقد سياسة ستالين وبريجينيف التي حجرت على الفكر في الاتحاد السوفييتي،
ودعا إلى تقليص سلطات الحزب وأن ينتخب رئيس الدولة بالطريقة المباشرة كما
في بعض دول الغرب، وأن تنتخب الحكومات المحلية باقتراع سري دون تدخل
اللجنة المركزية للحزب، وذكر أن المجلس الأعلى للسوفييت إنما هو مجلس شكلي
يؤمّن على القرارات دون مناقشة، ولابد أن يعطى من السلطات ما يمكّنه من دوره
ومن الحد من نفوذ الحزب واعترف الأمين العام أخيراً بأنه بعد ستة عقود من حكم
الحزب لم يتحقق شيء! .
تعليق:
هكذا يتراجع الفكر الماركسي بين كل فترة وأخرى، وتظهر عيوب النظريات
التي تحادّ الفطرة، وتُبنى على الحقد والنظريات الخيالية، وتصطدم مع حاجات
الناس ومعاشهم. يتراجع هذا الفكر ليجد نفسه مضطراً لتقليد الغرب الذي كان
يصفه بأبشع الأوصاف، وليعترف بعد عشرات السنين أنه فاشل وأنه دكتاتوري
مستبد ظالم، فهل يعي هذا الدرس المتمركسون المقلدون للدولة (الأم) ويكفون عن
الثرثرة حول الشيوعية والاشتراكية؟ ! وهل يعي هؤلاء المقلدون أنه بعد عشرات
السنين أصبحت الصين أقرب إلى أمريكا منها إلى روسيا، وأن الطوابير أمام
الجمعيات الاستهلاكية أصبحت شيئاً لا يطاق في الدولة (الأم) وأنه بعد عشرات
السنين لم تستطع الدولة والثورة إطفاء جذوة التدين عند مسلمي الجمهوريات
السوفييتية الذين عانوا من طغيان الشيوعية ما لم يعانِهِ غيرهم؛ لأن التدين مركوز
في فطرة الإنسان، فلماذا لا يتوب هؤلاء ويعودون إلى الإسلام، ويعلمون أنه لا
حل إلا بهذا الدين؟ !(13/96)