الكتاب: مجلة البيان (238 عددا)
المؤلف: تصدر عن المنتدى الإسلامي
[رقم الجزء، هو رقم العدد. ورقم الصفحة، هي الصفحة التي يبدأ عندها المقال في العدد المطبوع]
تنبيه: الأعداد بعد الـ 200 محملة من شبكة الإنترنت، فترقيمها غير موافق للمطبوع، وأيضا العدد 220 ناقص جدا(/)
مدخل:
البيان مجلة إسلامية عالمية تهتم بنشر العلم الشرعي وتأصيل منهج أهل السنة والجماعة لدى جمهور الصحوة والعاملين على الساحة الإسلامية بمختلف انتماءاتهم والباحثين عن الحقيقة من خلال ما تقدمه من زاد تربوي ودعوي، وتحليل صادق للأحداث التي تمر بالأمة برؤى شرعية راسخة.
كما تسعى جاهدة لتوحيد شتات الأمة على هذا المنهج السوي، بعيدا عن التحزب والتعصب، مستعينة على ذلك أولا بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ثم مسترشدة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح من خلال استكتابها لنخبة من العلماء وطلبة العلم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ومن ثم تعمل على نشر هذه المادة في شتى بقاع العالم من خلال طاقم إداري وفني على مستوى عالٍ من الكفاءة والتدريب مستفيدة بجميع وسائل التقنية الحديثة المتاحة
لمحة تاريخية
صدر العدد الأول من المجلة سنة 1406 هـ، 1986م
مرت المجلة بمراحل تطويرية، من حيث:
- الأسلوب الإعلامي والصياغة
- الشكل والإخراج الفني
- متابعة الأحداث
وكانت آخر مرحلة للتطوير الفني في إخراج المجلة، التطوير الذي بدأ من العدد (173) ، حيث أصبحت المجلة ملونة وكبيرة الحجم، أما تطوير التحرير فهو عملية دائمة متجددة قدر الطاقة نسأل الله العون والتوفيق.
رسالة المجلة
مجلة عالمية تخاطب نخبة المثقفين، وتسعى لمخاطبة العقول وإثارتها، وترشيد العمل وتوجيهه، وتحرك القلوب وترققها، وتستحث الهمم وتشحذها، وهي في ذلك كله تهدف إلى بناء المسلم:
- الصحيحة عقيدته
- الراسخ علمه
- الواعي واقعه
- المنطلق من التأصيل الشرعي في مواقفه
- المهتدي بهدي السلف الصالح في منهجه
أهداف المجلة
- نشر عقيدة أهل السنة والجماعة.
- نشر العلم الشرعي الذي يبنى على الدليل، والتأصيل العلمي.
- الاهتمام بالدراسات الدعوية والتربوية التي تعين في توجيه الأمة وتصحيح مسارها.
- التعريف بواقع المسلمين السياسي والاقتصادي والفكري والأدبي، والمساهمة في حل مشكلاتهم.
- الدعوة إلى تجميع جهود المسلمين وطاقاتهم، والبعد عن التعصب إلى إقليم، أو حزب، أو جماعة.
- تنبيه المسلمين عموما، والدعاة خصوصا، إلى المؤامرات التي تحاك ضدهم لأخذ الحيطة والحذر.
المنهج
مجلة البيان ... بيان يتضمن الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الدعاة المخلصون ويساعد في البحث عن الوسائل الصحيحة التي تخدم العمل الإسلامي بأسلوب يعتمد التحليل، والوضوح في العبارة والقصد.
مجلة البيان ... كما أنها تجعل من نفسها مجلة لكل مسلم مهما كان لونه أو جنسه، ولا تدعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا تدعي الوصاية على الدعوة، ولا تحتكر قول الحق، ولا تزدري الأصوات الأخرى في ساحة العمل الإسلامي، التي ترى أنها تتسع لكل الجهود الجادة.
مجلة البيان ... مجلة تنأى بنفسها عن الصراعات الحزبية والخلافات الشخصية التي تذهب، حلاوة الدعوة، مع حرصها على إيضاح الحقائق والأصول الشرعية.
مجلة البيان ... منبر لبيان الحقيقة وإحياء الوعي، وإذا لم تستطع قول الحق في كل مسألة، فلن تقول الباطل بإذن الله.
البناء العام
تقدم المجلة لقرائها الكرام مادتها في شكل منظم يتميز بالحيوية والتنوع، حيث تبدأ المجلة بـ (كلمة صغيرة) ثم تليها (الافتتاحية) ، وتنتهي بـ (الورقة الأخيرة) ،ثم ينتقل القارئ بعدها إلى عدد من الزوايا -ثابتة ومتغيرة- ليبدأ من حيث شاء ويتخير ما يشاء من موضوعات، تتنوع موضوعات المجلة بين مقال كبير وقصير، ودراسة شرعية مسهبة، وبحث مقتضب، وتحليل مطول وأخبار متنوعة، وتولى المجلة اهتماماً بالغاً بالجانب الفني والإخراج، حيث تقدم مادة المجلة في صورة ملائمة للمضمون، وإخراج يساعد القارئ على فهم المحتوى
مكانة المجلة
نرجو أن البيان بلغت بتوفيق الله - تعالى - ثم بتعاون العلماء والدعاة درجة عالية من القبول والثقة لدى أبناء الصحوة الإسلامية، ونحرص أن تكون:
- مرجعاً إسلامياً لدى كثير من رجال الصحافة والإعلام وغيرهم لما تمثله من منهج إسلامي متوازن وعميق.
- مصدراً ثرياً ونبعاً صافياً ينهل منه الدعاة والخطباء والمحاضرون والباحثون.
- مادة خصبة في بناء الوعي والتعريف بواقع الأمة.
- أحد الأعمدة الراسخة في البناء الإعلامي الإسلامي.
مواكبة الحدث
تسعى البيان دائماً (رغم كونها شهرية) إلى تحليل الأحداث التى تمر بالأمة الإسلامية وتمس حاضرها ومستقبلها؛ وذلك بشتى الوسائل والأساليب؛ بمثل:
- نقل الأحداث من مصادر موثوقة.
- استيعاب أبعاد الحدث الماضية والمستقبلية.
- محاورة أهم الشخصيات المرتبطة بالحدث ونقل رؤيتهم للقراء.
- عرض آراء العلماء والمفكرين والمختصين واجتهاداتهم حول الحدث.
- تحذيرها من المكر الإعلامي والتزييف العلماني.
- إبراز الرؤية الشرعية المؤصلة للأحداث.
نصح الأمة
تبذل البيان قصارى جهدها في توعية الأمة الإسلامية ونصحها حيث تخصص كثيراً من المقالات والملفات والدراسات لـ:
- تقويم الانحرافات وتصحيح الأخطاء
- الدعوة إلى تنمية عوامل القوة في الأمة
- بيان سبيل المفسدين وشبهاتهم والرد عليها
تزكيات
1- تزكية سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-.
2- تزكية فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك - حفظه الله-.
3- تزكية فضيلة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط -حفظه الله-.
4- تزكية فضيلة الدكتور ناصر عبد الكريم العقل -حفظه الله-.
5- تزكية فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان -حفظه الله-.(/)
ذو الحجة - 1406هـ
أغسطس - 1986م
(السنة: 1)(1/)
الافتتاحية
كلمة في المنهج
- التحرير -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم هي ...
مهمة أتباعهم عبر القرون، فما بعث الله نبياً قط إلى قومه إلا بادأهم بهذه الكلمة المدوية: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] ، ثم ينطلق في تغيير جميع الانحرافات السياسية أو الاقتصادية أو السلوكية أو غيرها، من منطلق العقيدة.
ومنذ وجدت البشرية على الأرض، والصراع بين الحق والباطل، والخير والشر قائم لا ينقطع، والصدام بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ... دائم لايزول، فريق نصب نفسه داعية للنوازع الأرضية، والشهوات النفسية والجسمية، ورهن حياته من أجل إرساء كل ما له علاقة بتقديس الذات، ... وبعث غرائز الأثرة والتسلط والقهر لغيره ممن يستضعفهم، وفريق - وهو ... ... القلة والصفوة - نصبوا أنفسهم للوقوف في وجه تيار المفاسد المندفعة التي تحط من قيمة الإنسان- كمخلوق كرمه الله- وأنفقوا حياتهم وما يملكون من أجل أن يصعدوا بهذا الإنسان إلى القمة، وينقذوه من الضلال عن منهج الله، ومن الشهوات وعواقبها التي تتمثل بالشقاء الناتج عن فقدان الطمأنينة والأمن عندما يعجب الإنسان بعلمه ورأيه ويكتفي بذلك منقطعاً عن توجيه الله وهدايته. ...
هذا الفريق هم الأنبياء والرسل والمصلحون الذين ساروا على طريقهم ...
واتخذوهم قدوة ومثلاً أعلى لهم.
وإن جوهر دعوة الرسل وأتباعهم واحد لا يتعدد، وكل ما أمروا به من صالح
العمل وما نهوا عنه من فاسده مرتبط بهذا الجوهر ارتباط النتيجة بالسبب، وجوهر
هذه الدعوة هو إثبات وجود الله عز وجل، وإفراده بالعبادة:
[ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ ومِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] . (النحل 36) .
[ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] . (الأنبياء 25) .
ولقد كانت الوظيفة الأساس للدعاة والمصلحين هي تبليغ الناس وإرشادهم ... إلى هذه الطريق التي سلكها أنبياء الله ورسله، وكانت هذه الوظيفة نتيجة تفاعل حي بين هذا الركب الكريم وبين المجتمعات التي عاشوا فيها، فقد برزت عناصر الدعوة متمثلة بنماذج واقعية للعمل الصالح.
ورسالة الإسلام ليست بدعاً بين الدعوات، بل هي الرسالة المتضمنة لكل ما في الرسالات السابقة من عناصر ليست مرتبطة بزمن معين وجماعة ... محددة، فجاءت رسالة الإسلام حينما بلغت البشرية سن الرشد، لتكون شاملة ... للنشاط البشري برمته من جميع زواياه، سواء من جهة العقيدة أو السلوك أو التشريع.
وإن الذي ينبغي أن يتنبه إليه الدعاة من المسلمين هو هذه الحقيقة البسيطة
الواضحة في معناها، والكبرى في دلالتها، وهي أن الإسلام هو الحق، وأن ... ما عداه هو الباطل وقد حسم الله في كتابه هذه الحقيقة فقال:
[ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين َ] (آل عمران 85) .
[وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوه ُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام 153) .
وقد أناط الله كلمة إنقاذ البشرية بهذه الأمة فقال:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُون َ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... ] (آل عمران110) .
وإذا لم تكن هذه الأمة على مستوى المسئولية التي أنيطت بها، والأمانة التي أسندت إليها، فإن هذا نذير لها بالضعف والاضمحلال.
غير أنه من فضل الله على هذه الأمة أنه لا يخليها من طائفة قائمة بالحق تدعو إليه لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى تقوم الساعة
وهم على ذلك.
هذه الطائفة هي الدعاة إلى الله، الذين امتلأ بهم تاريخ هذه الأمة،
وحفلت بأخبارهم صفحاته المجيدة، وهم ورثة الأنبياء الذين يحملون هذه الدعوة جيلاً بعد جيل، ويبلغونها بكل أمانة، لا يعبأون بالصعاب التي تعتضهم، ولا بالشياطين والطغاة الذين ينصبون لهم شتى أنواع العداوة والكيد والإرصاد.
وإن مهمة الدعاة الأولى هي التبليغ ودعوة الناس إلى هدي الله، وهذه المهمة العظيمة لا بد أن يرافقها وعي دائم ومتجدد بحاجات الناس ... وتغير أساليب مخاطبتهم.
وفي هذا العصر نجد أن الدعوات الهدامة قد استخدمت كل الوسائل المعروفة في مخاطبة الناس والتأثير على عقولهم، بل استحدثت وسائل ... ... جديدة هدفها الهيمنة على حرية التفكير والاختيار، في الوقت الذي تدعي فيه تَبَنِّي هذه الحرية والعمل من أجلها في الوقت الذي لا تزال فيه أساليب ... الدعاة مقتصرة على الوسائل التقليدية، ولا يزال الجهد الأكبر للدعاة منصباً ... على الخطب والمواعظ التي تستهلك الجهد، وتستنفذ الوقت بعيداً عن التخطيط والإعداد ودراسة حاجات كل مجتمع على حدة، وعناصر تكوينه ومحاولة ... الكشف عن أنجح الوسائل التي تفيد في جعله أكثر استجابة.
ونحن لا نريد التهوين من شأن الخطب والمواعظ، ولكننا نقصد التنبيه إلى
أن الاقتصار على هاتين الوسيلتين فيه هدر للطاقة، وتضييع للجهود وتخلف عن
ركب العصر وعدم تلاؤم القضايا المطروحة - مهما كانت مهمة ومصيرية - مع
تفكير الناس وشعورهم إذا ما اقتصر عرضها على مثل هذه الوسائل.
ونظرة فاحصة إلى حصاد الدعوة الإسلامية في العصر الحديث؛ ترينا كيف
أن تخلف الدعاة في استخدام الوسائل الفعالة نتج وينتج عنه تخلف في تحقيق
الأهداف.
وبينما نجد إعلام الكفر بشتى أشكاله إعلاماً منظماً مدروساً؛ يؤسفنا أن نرى
الإعلام الإسلامي إعلاماً قائماً على الفوضى، مستغلاً في بعض جوانبه من أجل
خدمة أهداف لا علاقة لها بجوهر الدعوة، وفي أحسن أحواله إعلام يصدر عن
نوايا حسنة ولكنه بعيد عن كل تخطيط أو دراسة.
في هذه الأجواء، ومن خلال هذه الظروف تصدر «البيان» :
1- لتكون صوتاً من أصوات الحق في الأرض، ولساناً معبراً عن الإسلام
كرسالة خاتمة تخاطب الناس - كل الناس - في الأرض - كل الأرض.
2- ولتكون بياناً يتضمن توضيح الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الدعاة
والمخلصون ويساعد في البحث عن الوسائل الصحيحة التي غرق في دوامتها كثير
من الكتابات الإسلامية في عصرنا هذا.
وهي إذ تعتمد هذا السبيل فإنها تسترشد بالبيان القرآني، وأدب التعبير النبوي
الذي وازن موازنة دقيقة بين دقة الخطاب وعمقه ووضوحه وبين سمو تعبيره وأخذه
بمجامع القلوب والعقول معاً.
3- ولتكون منبراً للمنهج الأصولي الذي مثله جيل السلف الأول، الذي كان
امتداداً لمنهج الأنبياء والمرسلين، وسار عليه التابعون لهم بإحسان، وتمسكوا به
حين ذر قرن الفتنة، ولم ينصرفوا عنه في ظلمة الفرقة، ولم يتيهوا عنه في ظلام
الفتن.
4- و «البيان» منبر من منابر أهل السنة والجماعة تعبر عن منهجهم،
وتدعو إلى أصولهم، وتذكر بطريقتهم السليمة من الغلو والانحلال، وهي - مع
هذا - ليست منبراً لحزب، ولا دعوة إلى طائفية، ولا إلى إقليمية تخاطب قطيعاً
من الناس حدد له أعداء الإسلام حدود حظيرته وقُضي عليه منهم أن لا يتجاوزها.
5- وهي مجلة كل مسلم، مهما كان لونه أو جنسه، وأياً كان موقعه، هي بهذا لا تدعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا تزدري الأصوات ... الأخرى التي تقف معها في ساحة العمل الإسلامي، ولا تنظر بمنظار ذي جهتين، يكبر لها نفسها، ويصغر لها الآخرين، كما أنها لا تدعي - ولن ... تدعي - الوصاية على الدعوة، ولا تحتكر -ولن تحتكر - معرفة الحق، بل تضم صوتها إلى جانب كل صوت يدافع عن القضايا الإسلامية بصدق وإخلاص، وسوف تبتعد -بإذن الله- عن كل ما يجعلها تتورط في مشادات عقيمة ومهاترات رخيصة تلهيها عما نصبت صفحاتها من أجله.
وهي مجلة تعتقد أن ساحة العمل الإسلامي تتسع لكل الجهود، وهي ساحة
مشرعة لا يضيق صدرها بعمل صادق، وجهد مشكور.
وسوف تتوسل المجلة - في سبيل أداء رسالتها - بقراء التاريخ قراءة متأنية
هادفة والاستفادة من دروسه وعبره، والاستفادة من رصيد التجارب التي مرت بها
الدعوة الإسلامية عبر مسيرتها الطويلة، والتعرف على سنن الله في الأنفس
والمجتمعات والتعامل مع القواعد الشرعية المستخلصة من المنهج القرآني.
وإننا عبر هذه المجلة نرى أن الخطأ غير المقصود صفة ملازمة للإنسان ولا
يتعارض ذلك مع التقوى التي هي الصفة الأساسية للمؤمنين، ولا نقول بعصمة أحد
ما خلا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولكن الذي يخل بالتقوى ويخلخل الصف
والمسيرة هو الإصرار على الخطأ، وعدم مراجعة النفس، والاستنكاف عن التوبة.
وإن من أعظم القواعد الإسلامية التي تركنا العمل بها، فوقعنا في براثن
الاعتداد بالرأي والإعجاب بالنفس، والاستبداد الذي يدمر عناصر الإبداع على كل
صعيد بينما وجدت لها تطبيقاً عريضاً في المجتمعات الغربية فآتت أحسن النتائج
والثمار القاعدة العمرية الإسلامية: «الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
الباطل» .
لقد تركنا العمل بهذه القاعدة العظيمة - مع الأسف الشديد - ونحن أحق بها
وأهلها، فتحكم بعضنا في بعض، وأسلسنا قيادنا لمن لا يصلح لذلك، ولم نستفد من
التجارب علي تكرارها وكثرتها.
وأخيراً فإن من أهم السمات التي نرجو أن تتسم بها هذه المجلة:
1- البعد عن الغلو فهماً وتطبيقاً، والالتزام بالوسطية، وقوفاً عند قوله تعالى: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً ... ] (البقرة 143) .
2- الالتزام بالدليل الشرعي فيما نذهب إليه، والبعد عن انتحال أهل الباطل
وتأويلات الجهلة التي لا تستند إلى دليل صحيح.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] .
والحمد لله رب العالمين.(1/4)
التجديد في الإسلام
- التحرير -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إن العالم الذي نعيش فيه تصطرع فيه العقائد والأفكار، وتتصادم المبادئ
والآراء، وقد اقتضت سنة الله في هذا الكون أن يكون الصراع بين الخير والشر
صراعاً مستمراً ما استمرت الحياة، وإن الإسلام الذي هو خير كله، ولذلك اختاره
الله ديناً للبشرية، لن يترك من قبل قوى الشر، ولا تزال شياطين الإنس والجن
تواجهه بشتى الأسلحة منذ أن بُعث محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إلى
يوم الناس هذا.
وإن أخطر الأخطار التي تهدد هذا الدين ما كان داخلياً نابعاً من صفوف
متبعيه، فالذي يتتبع حركة هذا الدين في التاريخ يجد مصداق ذلك، فكل أنواع
الإخفاق والانهزام التي مني بها أصحابه كانت أسبابها الرئيسية ترجع إلى تراخٍ في
التمسك بهذه العقيدة، أو عدم وضوح التصورات والأهداف يعتري الناس، أو غفلة
عن مبدئية هذا الدين في خضم تصارع القوى والأفكار حوله. وكل العلامات
المضيئة في مسيرته التاريخية ترجع إلى انتباه المسلمين إلى ما يملكون من رصيد
مادي ومعنوي حيث يعتزون بدينهم, ويشعرون بفداحة الأخطاء التي تهددهم من
خلال استهداف الأعداء دينَهم فيجتمعون على هدف موحد، ويسيرون إليه بخطاً
واثقة يستهدفون كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويستلهمون معاني
القوى والاعتزاز وكراهية الظلم بشتى أشكاله من ذلك الرصيد العظيم وقد اقتضت
حكمة الله أن يكون العلماء هم الرواد الذين يحملون النور في الظلمات الحالكة، وأن
يكون علمهم هو الهادي للمسلمين حين تطبق عليهم الخطوب وتفدحهم المصائب،
فيبثون بهذا العلم الثقة في النفوس المهزومة ويبعثون الأمل الضاحك في القلوب
المقهورة، ويشخصون الداء ويصفون الدواء بحكمة الطبيب النطاسي.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر المسيحي بدأ المسلمون بالتنبه لواقعهم الذي
آلوا إليه: تراجع في القوى، وتشتت وتفرق، وملوك وولاة أنهكوا شعوبهم بظلمهم
وعسفهم واستبدادهم، وأماتوا فيهم عوامل الوثوب والمقاومة، حتى غدوا جهلاء
فقراء إلى جانب أمم الغرب التي استعدت عليهم، وبدأت تهددهم، وأخيراً قضت
على آخر كيان سياسي كان يتكلم باسم هذا الدين وهو الدولة العثمانية، وتمكنت من
أن تسيطر على بلدانهم وثرواتهم، وتجعلهم وبلدانهم غذاءً لمصانعها وبطونها،
وسوقاً لمنتجاتها، وقبل كل ذلك وضعت الخطط والبرامج من أجل تغيير عقائد هذه
الشعوب، وقطع صلتها بتشريعها وقيمها وأخلاقها، وإحلال عقائد ومناهج الغرب
الكافر محلها، فتقترب العقول من العقول، وتردم الهوة السحيقة التي تفصل بين قيم
وقيم، وعادات وعادات، فيسلس لها قياد هذه الشعوب، ويسهل لها تحقيق مطامعها
في بسط الهيمنة ورفع الحضارة الغربية المسيحية الوثنية، وتدمير المعاني
الإسلامية الربانية.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن قامت دعوات ونهض أفراد، يرفعون رايات
الإصلاح ويبينون مكامن الأخطر كل حسب رأيه وقدراته ومنازعه الثقافية.
وكان دعاة الإصلاح - وما زالوا - كل له رأيه في الإسلام، فكان أن جعلته
طائفة أساساً لعملها، وطائفة تجاهلته، وطائفة اختارت منه أشياء ورفضت
واستبعدت أشياء يدفعها إلى ذلك التحكم المحض تارة، أو الانهزام أمام الأفكار
الوافدة تارة أخرى، أو الغرور مرات كثيرة.
على أن الأمر الذي آثار - ويثير - البلبلة في الأفكار، وخاصة أفكار الشباب
هو أن أغلب رواد الإصلاح كانوا يرفعون راية الدين، ويدعون أنهم على الجادة
التي ترك محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عليها، مع أن أغلب
أولئك الرواة قد شابت مسالكهم الشوائب، وخالطت منهاجهم أمور غريبة كانت
نتيجة تصور غير صافٍ للمنهج الإسلامي الأصيل.
وهذه الدراسة التي نقدم لها تتناول هذه القضية الخطيرة، قضية التجديد
والإصلاح، وتصب في صميم تحديد المنهج الذي يجب أن ينتهجه المسلمون، حتى
يخرجوا مما هم فيه من الضعف العقائدي، ويرتفعوا عن وهدة الذل والهوان التي
صاروا إليها.
وقد طرح هذا الموضوع الحساس على بساط البحث قديماً وحديثاً، وتناولته
طائفتان من الكتاب:
1- طائفة يمكن أن نطلق عليها اسم (هواة الكتابة) ، حيث وجدوا هذا
الموضوع مستطرفاً، فتناوله إشباعاً لهواية الكتابة عندهم لا انطلاقاً من شعور مُلِحَ، وإحساس تفاعلي بينهم وبين الواقع.
2- وطائفة من العلماء الأعلام تعرضت له تعرضاً خفيفاً حسب ما يقتضيه ما
هم بصدده من بيان المراد بالجملة لا بالتفصيل، وشرح لمضمون حديث (المجدِّد)
حينما يعرض في دواوين السنة.
وهذه أول دراسة علمية - فيما نعلم - لموضوع التجديد والمجددين،
مستوعبةً له، مقصورة عليه، دفع إليها الإحساس بالحاجة إليه في هذا الوقت الذي توالت فيه المحن والشدائد على حَمَلَةِ هذا الدين، وقلَّ العلم وكَثُرت الدعوة،
وتعددت اللافتات المرفوعة.
وسيجد القارئ أسباب اعتبارنا هذه الدراسة واعتدادنا بها مبثوثة في ثنايا
البحث الذي سننشره على حلقات في هذه المجلة - إن شاء الله -، ومن أبرز هذه
الأسباب: الحرص على الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله، مع بيان مبلغ
حديث من الصحة عند الاستشهاد ونقل أقوال العلماء المحققين، وتقديم دراسة
تاريخية لأبرز المجددين، مع ربط هذه الأمور بواقع عصرنا.
وسيكون من خطة المجلة أن تتبنى كتباً أو أبحاثاً مسلسلة ثم يصار إلى طبعها
في كتاب يكون موازياً للمجلة.(1/8)
التجديد في الإسلام
تمهيد:
الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله تبارك وتعالى الخلق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة -
ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكمته سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة
والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية، قال تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً] [1] .
وقال: [ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا] [2] .
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل: «كل مال نحلته [3] عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين، اجتالتهم [4] عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً ... » [5] الحديث.
وجعلهم -سبحانه- يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة ... ...
المستقيمة، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله ... عنه -:
«ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو
يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» ، ثم يقول
أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [6] .
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (والفطرة: الإسلام) [7] .
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: «ما من مولود إلا على هذه الملة،
حتى يبين عنه لسانه» [8] .
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقع الحياة ما علمه
عنهم بسابق علمه سبحانه؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الشر، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى، وفي مقدورهم الانحراف عنها
والميل إلى طريق الضلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه- في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- مبشرين ومنذرين بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكاً حقيقياً
يكشف عن توجه الإنسان ومقصده، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر
والمنكر أزاً.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لها
الأدلة الكونية والعقلية، وقوة الشر، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع
الرسل، عن المجرمين أتباع الشياطين.. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على
الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلين - عليهم الصلاة والسلام -، الذين
كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ
إلهيةٍ جديدةٍ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله، حتى ختم الله
الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانقطع بموته - عليه الصلاة
والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن، ويطرأ عليها بمرور الزمن
ما يكدر صفائها، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عوامل
الانحراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم
تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولقد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا
الاعتقاد - حتى في حياة رسلهم - عليهم الصلاة والسلام -، فكيف وقد ختمت
الرسالات، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟ ؟ وكيف بما دون تلك القضايا
من أمور التشريع؟
وإذا كان المنافقون والضالون يجدون من يستمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم
رغم وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل القيادة السليمة والقدوة
الصالحة، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات
المضللة، وخفت صوت الحق، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين
الأصوات، ولا بين الألوان؟ ؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة
أمر دينها، وتجلي الحقائق الملتبسة، وتحيي الفرائض المعطلة، وتزيل ما علق
بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين
وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قال الإمام أبو داود - رحمه الله تعالي - (في سننه) : حدثنا سليمان بن داود
المُهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا سعد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد
المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني، لم يجز به
شراحبيل) [9] .
وهذا الحديث أخرجه أيضاً: الحاكم في مستدركه عن طريق الربيع بن
سليمان بن كامل المرادي، عن ابن وهب به [10] .
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح، عن
ابن وهب [11] .
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بن سواد، وحرملة بن يحيى،
وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب [12] . ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) [13] .
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد [14] .
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) [15] . وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) [16] .
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم، والبزار، ولعله لا يقصد الحديث بلفظه
السابق، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريباً إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) 45/1، والهروي في ذم الكلام (ق/111/2) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل [17] .
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق
ابن عدي [18] .
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكاً في رفع الحديث، وإنما هو من قبيل
التحرز في الرواية، والتشدد في الأداء، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي
المجرد؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل) ، فهو
يعني أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطريق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها
من باب زيادة الثقة، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها، وهذا
الحاصل هنا، فيتعين قبولها، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
1- وسكت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير
واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي [19] ثم المناوي [20] .
2- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر، ففيه تقوية للسند
المذكور، مع أنه قوي لثقة رجاله) [21] .
3- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. «ثم قال:
وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث» [22] .
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) [23] .
4- وقال الزين العراقي: سنده صحيح [24] .
5- وقال السخاوي: سنده صحيح، ورجاله كلهم ثقات [25] .
6- وقال المناوي: بإسناد صحيح [26] .
7- وقال الألباني: والسند صحيح، ورجاله ثقات، رجال مسلم [27] .
وبالجملة فقد اعتمده العلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني،
والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن
الجزري، وابن كثير، وابن الأثير، والسيوطي، والسخاوي، والمناوي، ومئات
غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تحديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عمن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه، فالحمد لله رب
العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عن اللفظ المسوق من قبل.
فرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلغني أنه يخرج في كل مائة سنة
بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يقوي الله به الدين، وإن يحيى
بن آدم عندي منهم) [28] .
وبنحوه أجره البزار [29] .
وروى عنه بلفظ: «إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل
من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم» [30] .
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد، وهي روايات معلقة
لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا
الأجزاء الحديثية - كما قال السيوطي [31]- ولذا لا يعول على المعاني التي
انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضاً، وكونه من أهل بيت النبي -
صلى الله عليه وسلم-، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه
وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة - رحمه الله -.
3- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- فيها أمته، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة
والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين، ويمنحه - فوق هذا -
دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين. ... وسنقف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث:
1- فأ ول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يبعث
لهذه الأمة» إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش
«لهذه الأمة» وسواء كان المقصود أمة الدعوة -على ما رآه قوم- أو أمة الإجابة -
على ما رآه آخرون -؛ فإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر
في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة
الحياة، ومن ثم يحدث التوازن في مسيرة الحياة البشرية كلها، ويأخذ الإسلام ... دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمة الإسلامية بإيقاظها، وإعادة ثقتها بدينها، وردها إلى
المنهج الصحيح.
وهو مجرد للبشرية كلها، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة
إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير، ويرضون بالدون، فيكتفي أحدهم
بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس! ... بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد
والانحراف، وأقلق قلبه تسلط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون، فآلى على نفسه أن يزاحمهم ما استطاع، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا
دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفوسهم الآمال والتطلعات كثيرون، ولكنهم يتناقدون
ويتساقطون واحداً بعد الآخر كما تقدمت بهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت
المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون؛ لأنهم صابروا العقبات
وغالبوها حتى غلبوها؛ لأن همتهم كانت أعظم من تلك العقبات: كانت تجديد الدين
لهذه الأمة، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم، مع تحقيق معنى انتمائهم
للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي، ويمارسون
دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
2- أما «البعث» المذكور أنه يكون على رأس المائة، فإن البعث هو
الإثارة والإرسال، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة
مجدداً، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام، وينتصب لنشر
الأحكام) [32] .
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام
المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته
على رأس القرن أخذ لا بعث) [33] .
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المائة وهو حي، عالم
مشهور مشار إليه) [34] .
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك [35] .
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار
المجدِّدين) [36] :
والشرط في ذلك أن تمضي المائة ... وهو على حياته بين الفئة يشار بالعلم إلى مقامه ... وينصر السنة في كلامه [37]
وكذلك لا نعلم دليلاً في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده
بقليل، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين؛ حيث يستبعدون
بعض الأئمة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلاً أو الثلاثين بعد المائة ... مثلاً [38] .
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق، أو في بداية القرن اللاحق
فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة
مفصلاً بعد قليل - بإذن الله -.
3- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «على
رأس كل مائة سنة» ، قد قال بعضهم: يعني في أولها، وقال آخرون: بل في
آخرها [39] .
وأصل مادة «رأس» في اللغة تدل على التجمع والارتفاع [40] .
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره؛ فتقول: أعد
على كلامك من رأسٍ، وأنت على رئاس أمرك، بمعنى: أوله [41] .
ومثله: رأس المال، أي: أصله وأوله [42] .
وتقول: القافية رأس البيت، بمعنى: آخره [43] .
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام [44] ، بمعنى:
أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول [45] ، يعني:
في آخره.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة
سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ» [46] .
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً للوجهين، فهذا عمر بن
عبد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ، وتوفي - رحمه الله -
سنة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ، ولعل القضية
تقريبية لا تحتمل الحسم القاطع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم
مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجدداً! ..
ولعل ما يلتحق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده -صلى
الله عليه وسلم -؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟ .
ولا نحب أن ندخل في جدل حول هذه الأمور- وإن كان الترجيح بينها ممكناً - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله، ومما لا يتلاءم مع طريقة
الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطعة؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور
العبادية كالصلاة والصيام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة
لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلك ولا يدخل فيه تعبد؟
الظاهر- والله أعلم- أن عدم تحديد المقصود بالرأس، وعدم تحديد المبتدأ..
كل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفع
ما تقتضيه الأسباب - غالباً - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم
ودنياهم، والتي يفتقر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة
بأزمنة خاصة.
وفي تلك النكبات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث
ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما
يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد
انتهت.
وإن من شأن هذا التصور الذي عرضناه، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد
الأمور إلى نصابها فبحسب من أحيا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً
ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت
عن رأس القرن.
4- أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يجدِّد لها دينها» .
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل المقصود بذلك فرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن
الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟ .
فأما لفظ «مَنْ» فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة -
من حيث اللفظ -، ومن حيث المراد بها في الحديث قال بعضهم: المقصود بها
فردٌ، وحملوا «مَنْ» في هذه الرواية على لفظ (رجل) ، أو (عالم) في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها [47] .
واختار هذا الرأي عدد من العلماء، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث، والجمهور [48]
ونسبه غيره إلى (العلماء) [49] .
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والذهبي،
والمناوي، والعظيم آبادي، وغيرهم، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محاولة الترجيح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان
لهذه الأمة:
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على
الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» [50] .
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من
طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إياس، والمغيرة بن شعبة، وجابر
بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد
بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبو عتبة الخولاني، وعمر بن الخطاب، وأبو
أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي، وسلمة بن نفيل [*] السكوني،
وشرحبيل بن السَّمْط الكندي [*] .
قال الترمذي: (وفي الباب عن عبد الله حوالة، وابن عمر، وزيد بن ثابت،
وعبد الله بن عمرو) [51] .
فهؤلاء إحدى وعشرون نفساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والوهن والاختلاف
حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه، القاهرة لعدوها، الصابرة، فلا يضرّها من خذلها، ولا من ناوأها، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون
آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحديث: (باب قول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل ... العلم) [52] .
__________
(1) البقرة آية 213.
(2) يونس آية 19.
(3) نحلته: أعطيته.
(4) اجتالتهم: صرفتهم عن هداهم إلى ضلالتها وأخذتهم بأن يجولوا معها واختارتهم لأنفسها (أساس البلاغة) .
(5) رواه مسلم في: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 16 - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث رقم 63، الرقم العام 2865، ج4 ص2197، ط: عبد الباقي، رواه أحمد في (المسند) ج4، ص 162 ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -.
(6) الآية من سورة الروم، رقم الآية 30، والحديث رواه البخاري في: 23 - كتاب الجنائز، 92 - باب ما قيل في أولاد المشركين، حديث 1385، الفتح 3/ 245 - 246 ورواه أيضاً في: 65 - كتاب التفسير، باب لا تبديل لخلق الله، رقم: 4775، ج8، ص12، ورواه أيضاً في 82 - كتاب القدر، 3 - باب: الله أعلم بما كانوا عاملين، رقم 6599، ج11، ص 93 ورواه مسلم في: 46 - كتاب القدر، 6 - باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم 2658، ج4، ص 47، ورواه أحمد في مواضع: 2/315، 346 - 347، 275.
(7) في الموضع السابق من كتاب التفسير 8/512.
(8) هذا أحد ألفاظ مسلم.
(9) أبو داود: 31 - كتاب الملاحم، 1 - باب ما يذكر في قرن المائة، حديث 291، ج4،
ص480، ط3.
(10) المستدرك: كتاب الفقه والملاحم ج4، ص 522، دار الفكر.
(11) تاريخ بغداد ج2، ص 61، نشر دار الكتاب العربي.
(12) المقدمة ص 181 - 183، تحقيق: السامراني، ط: الأعظمي ببغداد، وج1، ص123،
ط: دار الفكر.
(13) ج1، ص 137، تحقيق: سيد أحمد صقر، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
(14) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس) ص 240 من المخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم 106 مجاميع، وتابعه على ذلك المصنفون من بعده كالسيوطي، والعظيم أبادي صاحب (عون المعبود) .
(15) ج1، ص 53، تحقيق: أحمد صقر، ط: دار التراث.
(16) السيوطي في رسالته المخطوطة: (التنبئة فيمن يبعث الله على رأس كل مائة) ص 2أ، والسخاوي في (المقاصد الحسنة) ص 122، حديث 238، ط: دار الكتب العلمية.
(17) سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2، ص 150، رقم 599، المكتب الإسلامي.
(18) ص 51، 52، ط: القدسي، عام 1399 هـ.
(19) السيوطي في (التنبئة) ص 2أ، وفي شرحه (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) ص 189ب (مخطوطتان) .
(20) فيض القدير ج2، ص 282.
(21) توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس (المخطوطة) ص 24 ب.
(22) التنبئة، ص 2أ، ونحوه في مرقاة الصعود، ص 189 ب.
(23) الجامع الصغير، ج1، ص 74.
(24) ذكره السيوطي في مرقاة الصعود، ص 189ب، وفي التنبئة: 2أ، والمناوي في فيض القدير ج2، ص 282، وصاحب عون المعبود ج4، ص 183، ط هندية وغيرهم.
(25) المقاصد الحسنة، ص 121، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث) .
(26) فيض القدير ج2 ص282.
(27) سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2، ص 150، رقم 599 وقال في صحيح الجامع: حديث ...
صحيح، ج2، ص 143، رقم 1870، ط: المكتب الإسلامي أما قوله: (رجال مسلم) فنعم، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج6، ص 71، ج4، ص7، ج4، ص 320، 323، 326، ج12، ص 173.
(28) الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، مخطوط ورق 85/ب، 86/أ.
(29) عن توالي التأسيس لابن حجر، مخطوطة، ورقة 24 / أ، والتنبئة، ورقة 2 أ - ب.
(30) أبو نعيم في الحلية 9/97، وأبو إسماعيل الهروي بواسطة التنبئة ورقة 2/ب، ولعله هو اللفظ الذي عناه الشيخ الألباني في إحالته السابقة إلى الهروي في ذم الكلام.
(31) التنبئة ورقة 5/ب.
(32) مقدمة فيض القدير للمناوي، ج1، ص10.
(33) أيضاً 1/12.
(34) جامع الأصول ج11، ص 324، تحقيق: الأرنؤوط، ط: الملاح.
(35) فيض القدير 1/12، وانظر: عون المعبود 4/178، 180.
(36) موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة) ، وموجودة في فيض القدير ج 2، ص282، وعون المعبود 4/81.
(37) التنبئة ص18/ب.
(38) ومن هؤلاء: ابن السبكي في: طبقات الشافعية، ج1، ص 202، حيث يرجح بعضهم لقرب وفاته من رأس المائة وبدر الدين الأهدل في رسالته: (الرسالة المرضية في نصر مذهب الأشعرية) على ما نقله السيوطي في التنبئة، ص 13/ب، وانظر مستدرك الحاكم ج4، ص 522، 523.
(39) انظر: عون المعبود ج4، ص 178 - 179، ط: الهندية.
(40) معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج2، ص471، دار الكتب العلمية - إيران - قم.
(41) الصحاح للجوهري ج3 ص933، دار العلم للملايين، ومعجم مقاييس اللغة.
(42) القاموس المحيط ج2، ص 226، ط2 الحلبي.
(43) لسان العرب ج6، ص 91، ط: دار صادر.
(44) حديث مرفوع رواه الترمذي في: 41 - كتاب الإيمان، 8 - باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم 2616 ج5 ص12، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(45) حديث مرفوع رواه مسلم في: 18 - كتاب الطلاق، 9- باب وجوب الإحداد، رقم 61 ج2 ص 126، وأبو داود في: 7 - الطلاق، 43 - باب إحداد المتوفى عنها زوجها، رقم 2299، ج2 ص722، والترمذي في: 11 - كتاب الطلاق، 18 - باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، رقم 1197، ج3 ص 492، والنسائي في الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها 6/188، وليس فيه لفظ (رأس الحول) .
(46) حديث: أرأيتكم ليلتكم، رواه البخاري في صحيحه في: أ - 3 كتاب العلم، 41 - باب السمر في العلم، حديث رقم 116، ج1، ص211 (مع الفتح) ب - 9 - مواقيت الصلاة، 20 - باب ذكر العشاء والعتمة، حديث 564، ج2، ص 45 ج - 9 - مواقيت الصلاة أيضاً، 40 - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء، حديث 601، ج2، ص 73 ورواه الإمام أحمد في (مسنده) ج2،
ص88، ص121، ص131.
(47) انظر: توالي التأسيس ص 24/ب، وفيض القدير ج1، ص10، وفتح الباري ج13، ص295.
(48) التنبئة ص 18/ب.
(49) بذل المجهود ج17، ص203.
(50) رواه البخاري في 96 كتاب الاعتصام، 10 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم 7311، ورقم 7312، ج13، ص293 ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان، 7- باب نزول عيسى عليه السلام، حديث رقم 156، ج1، ص137 وفي: 33 - كتاب الإمارة، 53 - باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة الخ، رقم 1920، 1921، 1922، 1923، وقطعة من حديث في الزكاة بعد هذا الموضع وهي برقم 1037، 1924، 1925، ج3، ص 1523 - 1525، وأبو داود في كتاب الجهاد 4 باب دوام الجهاد، رقم 2484، ج3، ص11، وفي: 29 - كتاب الفتن والملاحم، 1 - باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم 4252، ج4، ص 452، والترمذي في 34 كتاب الفتن، 37 - باب ما جاء في الشام، حديث 2192، ج4، ص485، وقال: حسن صحيح وفي: 51 - باب ما جاء في الأئمة المضلين حديث 2229، ج4، ص504، وقال أيضاً: حسن صحيح ورواه ابن ماجه في: المقدمة 1 - باب اتباع سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث 6 - 10 ج1، ص5، وفي 36 كتاب الفتن 9 - باب ما يكون من الفتن، حديث 3952، ج3، ص1304 ورواه الدارمي في 16 - كتاب الجهاد، 39 - باب لا يزال طائفة من هذه الأمة رقم 2437، 1438، ج2، ص2 ورواه أحمد في مسنده: 5/34، 239، 278، 279، ورواه الطبراني في مواضع هذه بعضها: ج2، ص 248، رقم 1922، ص250، رقم 1931، ص 265، رقم 1996، ص 269، رقم 2011، ج 5، ص 185، رقم 1967، ج8، ص 171، رقم 7643، ج17، ص314، رقم 869 - 870، ج20، ص 318، رقم 754، ص402، رقم 959 - 960.
(*) مر تخريج أحاديثهم في الصفحة السابقة، أما سلمة بن فضيل فأشار إلى حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ص 42، ط: مؤسسة الرسالة (مع الرد على الجهمية) ، ورواه في تاريخه الكبير ج4 ص 71، وحديث شرحبيل في، ج4، ص248.
(51) سنن الترمذي ج4، ص485.
(52) صحيح البخاري (مع الفتح) ج13، ص293.(1/10)
الخلاف بين العلماء
أسبابه.. وموقفنا منه
بقلم: الشيخ محمد صالح العثيمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله
عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
فقد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم
مُّسْلِمُونَ] . [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] . [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً] أما بعد:
فإنه قد يثير موضوع هذا البحث التساؤل من كثير من قارئيه لماذا كان
موضوع البحث هذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟ ولكن
هذا العنوان خاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة
بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين
الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير
من الناس، لا سميا من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت وبالله
أستعين أن يكون البحث هو هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين..
إن من نعم الله تبارك وتعالى على هذه الأمة أن الخلاف بينها لم يكن في
أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة
المسلمين الحقيقية وهو أمر لا بد أن يكون..
وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
من المعلوم عند جميع المسلمين ما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله -صلى
الله عليه وسلم- أن الله تعالى بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين
الحق، وهذا يتضمن أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين هذا الدين
بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل
معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل، ورسول
الله بُعث بالهدى ودين الحق، كان الناس في عهده صلوات الله وسلامه عليه
يرجعون عند التنازع إليه يحكم بينهم، ويبين لهم الحق، سواء فيما يختلفون فيه من
كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل
القرآن مبيناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: [يسألونك عن..] كذا،
فيجيب الله تعالى نبيه بالجواب الشافي، ويأمره أن يبلغه إلى الناس. قال الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ] ..
[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ] الآية.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ] الآية.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ] الآية.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] الآية.
إلى غير ذلك من الآيات التي يعلمها الكثير، ولكن بعد وفاة الرسول -صلى
الله عليه وسلم- اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول
الشريعة وأصول مصادرها، ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه..
ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم
ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن عمد
وقصد، لأن من اتصفوا بالعلم والديانة، فلا بد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان
رائده الحق فإن الله سييسره له، واستمعوا إلى قوله تعالى: [ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] . [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى * وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى] .
ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله تبارك
وتعالى، لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لا بد أن يكون
لأن الإنسان كما وصفه الله تعالى بقوله: [وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً] الإنسان ضعيف
في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لا بد أن يقع الخطأ
منه في بعض الأمور، ومع أن أسباب الخطأ كبيرة، وبحر لا ساحل له والإنسان
البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، إلا أننا سنجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ في الأسباب الآتية:
السبب الأول:
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه، أو بلغه على وجه
لا يطمئن به.
وهذا السبب ليس خاصاً فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن
بعدهم، ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:
الأول: هو كون الدليل لم يبلغ القائل. فإننا علمنا بما ثبت في صحيح
البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
إلى الشام وفي أثناء الطريق ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل
يستشير الصحابة - رضي الله عنهم -، فاستشار المهاجرين والأنصار، واختلفوا
في ذلك على رأيين.. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة
والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي
من ذلك علماً، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا سمعتم به
في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه» ، فصار
هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد
الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعبد الله بن عباس- رضي الله عنهما - يريان أن المعتدة الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول
الأجلين من أربعة أشهر وعشر.. أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة
أشهر وعشر لم تنقضي العدة عندهما وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا
انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع
الحمل؛ لأن الله تعالى يقول: [وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] الآية.
ويقول: [والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وعَشْراً] الآية. وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي. وطريق الجمع بين ما
بينهما عموم وخصوص وجهي أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى
ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس - رضي الله عنهما - ولكن السنة فوق ذلك فقد
ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في حديث سبيعة الأسلمية أنها
نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج» ، ومعنى ذلك أننا
نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: [وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] .. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا
الحديث لو بلغ علياً وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.
الثاني: ربما يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله ورأى أنه
مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أحرى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً ليس
فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس - رضي الله
عنها - طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فأرسل إليها وكيله شعيراً نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-
فأخبرها النبي أنه لا نفقة لها ولا سكنى وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا
سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى: [وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] الآية.
عمر - رضي الله عنه - ناهيك عنه فضلاً وعلماً، خفيت عليه هذه السنة،
رأى أن لها النفقة والسكنى ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك
قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه - لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من
الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا
إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل،
وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة
فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة فلا يأخذون بها نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجل من لا ينسى، كم من إنسان
ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «صلى ذات
يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً، وكان معه أبي بن كعب - رضي الله عنه -،
فلما انصرف من صلاته قال: هلا كنت ذكرتنيها» وهو الذي ينزل عليه الوحي،
وقد قال له ربه [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفَى] ،
ومن هذا - أي: مما يكون الحديث قد بلغ الإنسان ولكن نسيه - قصة عمر بن
الخطاب مع عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - حينما أرسلهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم- في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر، أما عمار فاجتهد ورأى أن
طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، لأجل أن يشمل
بدنه التراب كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر - رضي الله عنه - فلم يصل. ثم أتيا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرشدهما إلى الصواب،قال لعمار: إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا - وضرب بيديه الأرض مرة
واحدة ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه، وكان عمار - رضي الله
عنه - يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات
يوم ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله
في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا. ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله علي من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت - يعني فحدث به
الناس - فهذا عمر نسي أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن
مسعود - رضي الله عنه -، وحصل بينه وبين أبي موسى - رضي الله عنهما -
مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، قال ابن مسعود: ألم تر أن
عمر لم يقنع بقول عمار، فقال له أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في
هذه الآية - يعني آية المائدة -، فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن لا شك أن
الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجنب يتيمم كما أن المحدث حدثاً أصغر
يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي، فيقول قولاً
يكون به معذوراً لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.
والسبب الثالث:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد..
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب والثاني من السنة:
1 - من القرآن قوله تعالى: [وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً] الآية.
اختلف العلماء - رحمهم الله - في معنى [أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ] ، ففهم بعض
منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة،
وفهم آخرون أن المراد به الجماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس - رضي الله عنه -.
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله تبارك
وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر، ففي الأصغر
قوله: [فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلَى
الكَعْبَيْنِ] أما الأكبر فقوله: [وإن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا] الآية. وكان مقتضى
البلاغة والبيان أن يذكر أيضاً موجبي الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى:
[أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ] إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر.. وقوله:
[أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ] الآية.. إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.. ولو جعلنا
الملامسة هنا بمعنى اللمس لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث
الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر وهذا خلاف ما
تقضيه بلاغة القرآن، فالذين فهموا الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس
إنسان ذكر بشرة الأنثى بشهوة انتقض وضوؤه، ولغير شهوة لا ينتقض،
والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قبل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقد جاء من طريق
يقوي بعضها بعضاً.
كذلك مثال آخر: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة
الأحزاب، ووضع عنده الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج
إلى بني قريظة، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالخروج وقال:
«لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» الحديث، فقد اختلف الصحابة في
فهمه، فمنهم من فهم أن مراد الرسول: المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت
العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم
يؤخروها إلى أن يخرج وقتها.
ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا صلوا إلا
إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في
وجوب الصلاة في وقتها محكمة، هذا نص مشتبه، وطريق العلم أن يحمل
المتشابه على المحكم.. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله
ورسوله، وذلك هو السبب الثالث.
السبب الرابع:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ، فيكون الحديث
صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر
لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم بالناسخ.
من هذا رأي ابن مسعود - رضي الله عنه -.. ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا
ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ووضعهما بين
ركبتيه، هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك، وصار المشروع أن
يضع يديه على ركبتيه، وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن
مسعود - رضي الله عنه - لم يعلم بالنسخ فكان يطبق بين يديه، فصلى إلى جانب
علقمة والأسود؟ ! فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه - رضي الله عنه - نهاهما
عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.. لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ والإنسان لا يكلف إلا وسع
نفسه.. قال تعالى: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] الآية.
السبب الخامس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، بمعنى أنه يصل
الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع،
وهذا كثير في خلاف الأئمة، وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع ولكنه عند التأمل
لا يكون إجماعاً.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة
العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم،
لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص فيجتمع في ذهنه دليلان: النص والإجماع،
وربما يراه مقتضى القياس الصحيح والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا
مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل لذلك برأي ابن عباس - رضي الله عنهما - في ربا الفضل.
ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إنما الربا في النسيئة» ، وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: «إن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة» .
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة،
أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط، مثاله: لو بعت صاعاً
من القمح بصاعين يداً بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في
النسيئة فقط، وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد عنده أنه
ليس رباً، لكن إذا أخرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد
التفرق فهو رباً.. لكن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرى أن هذا الحصر مانع
من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر، فيدل على أن ما سواه
ليس برباً، لكن الحقيقة أن ادل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا
لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من زاد أو استزاد فقد أربى» .
إذاً ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله
على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في
الفضل: بأن نقول: إما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً] الآية. إنما هو
ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في
كتاب (إعلام الموقعين) إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس
من باب تحريم المقاصد.
والسبب السادس:
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف ويستدل استدلالاً ضعيفاً. وهو كثير جداً،
فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من
استحباب صلاة التسبيح، وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة،
ويسبح خمس عشرة تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم
أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع. ويرى آخرون أن صلاة التسبيح
بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك: الإمام أحمد - رحمه الله-، وقال: إنها لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية - رحمه الله -: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها
وجد أن بها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع؛ إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب،
ولا بد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا
تكون نافعة فلا تكون مشروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان
كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، هذا لا نظير له في الشرع،
فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن من قال أنها كذب كشيخ الإسلام فإنه مصيب،
ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.
وإنما مثلتُ بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون
هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس
لأننا نعتقد أن كل من دان لله سبحانه مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه
بدعة.
كذلك أيضاً من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال.
الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء
من حديث: «زكاة الجنين زكاة أمه» .. فمعروف عند أهل العلم من معنى
الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن زكاتها زكاةً له، أي لا يحتاج إلا زكاةً إذا أخرج
منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء من فهم أن المراد به - أي الحديث -: أن زكاة الجنين كزكاة
أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم، ولكن هذا بعيد، والذي يبعده أنه لا يحصل
إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله يقول: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» ، ومن المعلوم
أن لا يمكن إنهار الدم بعد الموت.
هذه في الحقيقة الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة وبحر لا
ساحل له.. ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟ .
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة
والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه المسائل صاروا
يتشككون ويقولون: من نتبع؟ .
تكاثرت الظباء على خراشٍ ... فما يدري خراشٌ ما يصيد
وحينئذ نقول: موقنا من هذا الخلاف، وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم
أنهم موثوقون علماً وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا
لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.. ولكننا
نعني به: العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم.
موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1 - كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا
يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره وهو
كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحراً في العلم.
2 - ما موقفنا من اتباعهم؟ من نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إماماً
لا يخرج عن قوله ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع
ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لمن ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب
هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من
الأئمة. إذ لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله يجب أن
يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله، ولكن يبقى في الأمر نظر
لأننا لا نزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من هذه الأدلة؟ هذه
مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، وأن
نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق الدليل وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول:
أنت مجتهد تقول ما شئت، فإن في ذلك فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع،
والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1- عالم رزقه الله علماً وفهماً.
2- طالب علم عنده من العلم لكن لم يبلغ درجة لذلك المتبحر.
3- عامي لا يدري شيئاً.
أما الأول: فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان
عليه مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس؛ لأنه مأمور بذلك. قال
تعالى: [لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] ، الآية. وهذا من أهل الاستنباط الذين
يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني: الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عليه
إذا أخذ بالعمومات، والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في
ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطئ وقد لا
يصل علمه إلا شيء خصص ما كان عاماً أو قيد ما كان مطلقاً أو نسخ ما يراه
محكماً، وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث: وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم؛
لقوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] ، وفي آية أخرى: [إن
كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ والزُّبُرِ] ، فوظيفة هذا أن يسأل ولكن من يسأل؟ في
البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه إنه عالم فمن الذي
يسأل، هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم
تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم، والمفضول قد
يوفق للعلم في مسألة معينة لا يوفق لها من هو أفضل منه وأعلم، اختلف في هذا
أهل العلم:
فمنهم من يرى أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من
علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه
من يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك
تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علماً إذ لا
فرق.
ومنهم من يرى أن ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علماً قد لا يكون أعلم
في كل مسألة بعينها، يرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل، والذي أرى في هذه المسألة أنه
يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد
يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو
على سبيل الأولوية والأرجح أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه
ودينه.
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت
بإنسان نازلة من مسائل العلم أن لا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول، لئلا
يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «العلماء ورثة الأنبياء» ، «وأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة، وهو من علم
الحق فحكم به» ، كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله
وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس، فقد ذكر لي بعض مشايخنا أنه ينبغي على من سأل عن مسألة أن يكثر
من الاستغفار مستنبطاً من قوله تعالى: [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً
رَّحِيماً] ، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في
نسيان العلم والجهل، كما قال تعالى: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] الآية.
وقد ذُكِر عن الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء..
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
وسلم.(1/17)
الإرجاء والمرجئة
طارق عبد الحليم
إن من الصفات اللصيقة ببني الإنسان: العجلة في الأمور، وكيف لا؛ وقد
قال فاطر الناس جل وعلا: [وكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً] ، ثم منَّ تعالى على المؤمنين
بأن وجّه تلك الفطرة العجولة لديهم إلى معنى قُدّ من العجلة، إلا أن جالب للبر
والخير، وهو (المسارعة) إلى الخيرات، وقد قدمت بهذه المقدمة لأستميح القارئ
عذراً لمسارعتي بالكتابة في موضوع هذه المقالة عن الإرجاء والمرجئة، رغم أنه
يدخل ضمن مجموعة الكتب التي اعتزمت - وأخ لي - أن نصدرها تباعاً - بعون
الله تعالى - عن الفرق الإسلامية، والتي صدر منها بالفعل مقدمتها عن أسباب
التفرق والاختلاف، وما فعلت ذلك إلا بعد أن قدرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار
تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين - بل وعجباً! بين صفوف الإسلاميين منهم - فتصيب ذلك الكيان
الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب، ومعرفة
المفسد من المصلح، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً
وسياسياً.
ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة
أصحابه فيما ذهبوا إليه، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها، إلا أننا سنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم، ثم نعرِّج
بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة، ثم نلقي
نظرة على الواقع الإسلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومة الإرجائية التي لازالت
تنتقل في الجسد الإسلامي، لتنخر فيه نخراً يفسد عليه قوته، ويجعله عرضة
للتفكك والانهيار. بعد أن يفسد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ
والانحراف.
الإرجاء: مصدر أرجأ بمعنى أخر، يقال: أرجأ الأمر أي أخره. وقد أطلق
هذا الاسم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان، أي فصله عنه
وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له،
وادعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان، إذا ذهب
أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان - عدا بعضهم ممن زعم أنه
تصديق القلب ولم يشترط أنه النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما - ولم يُدخلوا
العمل في مسمى الإيمان، فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدق بالرسالة
ونطق بالشهادتين، وإن لم يأتي بعمل من أعمال الطاعات!
وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان، وأنه واحد لا يتجزأ
ولا يتبعض: أي لا يزيد ولا ينقص.
وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة:
التصديق، كما في قوله تعالى: [ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا] ، أي: مصدق لنا.
كذلك بظواهر الأحاديث، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه
مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا
الله» ، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- له: «فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً
بها قلبه فبشره بالجنة» .
وقالوا: إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو: تصديق القلب والتلفظ
بالشهادتين، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل! .
وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال
الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان بل كذلك الأعمال اللازمة
لتحقيق التوحيد، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع - والذي هو من معاني الشهادتين
والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل - ولم لا؟ ! والإيمان محله القلب والتصديق
متحقق؟ ! وما يضر من يترك التحاكم بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق
البرتقالة، أو من يؤذي جاره؟ ! .
فأتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة، ومهدوا لما سنلقي
عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي.
ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين: أحدهما: عام، يتناول نقض مبادئهم
في النظر إلى الشريعة - وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء -،
والآخر: خاص، يتناول الرد على أقوالهم قولاً قولاً، وبيان فسادها بالأدلة
الشرعية.
وسنتناول كل طريق منهما بشكل موجز، يتناسب مع ما قدرناه لهذا المقال من
إيجاز.
أولاً - الرد العام:
سلك أهل البدع والأهواء طرقاً معينة في دراستهم للنصوص الشرعية، أدت
بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها، نجملها فيما يلي:
1- عدم الجمع بين أطراف الأدلة، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً - من
جهة معينة - على ما أرادوه، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول،
بل أولوه أو ضعفوه أو أخفوه! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على
أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة
عليها، وعامها المترتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها
المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها) .
2- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، مع ترك الأحاديث
الصحيحة وإغفالها، بينما مسلك أهل السنة هو في اتباع الحديث الصحيح وما يصح
الاحتجاج به في الأحكام الشرعية، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك.
3- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها
وتنتظمها.
4 - تحريف الأدلة عن مواضعها، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه
الذي ذمه الله تعالى في كتابه، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة
محددة لتطبيقه على مناط آخر - أو واقعة أخرى - وهي العملية التي تسمى عند
الأصوليين: (تحقيق المناط) ، ولا شك أن (من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلام
عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له وجهل يصده عن الحق،
مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) .
فإطلاق الدليل وتوهم أنه يعم كافة الحالات الداخلة تحته دون تقييد فهو من
جملة من حرف الكلم عن مواضعه وصار إلى الابتداع بدلاً من الاتباع.
[الاعتصام 1/223] .
ثانياً - النقض الخاص:
إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح، والحق
أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع، هي
مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما
ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد
بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال
أهل اللغة وغيرهم) .
[الإيمان لابن تيمية: 245]
هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا
صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال: آمن له، كما قال: [فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ] ، وقال: [فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ] «فإن تعدى باللام كقوله: آمن له، كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل.
[الإيمان: 248]
كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر، فيقال لمن لم يصدق: قد
كذب، ومن لم يؤمن: قد كفر.
ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب: يطلق على ما هو غائب أو مشاهد،
أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب [الإيمان: 249] .
والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا، وهو الاستسلام
لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً، لكنهما إن اجتمعا دل كل منهما على معنى
غير الآخر، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج، ودلّ
الإيمان على الأعمال الباطنة، كالخشية والمحبة والخوف، من أعمال القلوب.
وقد دلت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان - وعليه
أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة - فهو: قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد
بالطاعات، وينقص بالمعاصي، قال تعالى: [لِيَزْدَادُوا إيمَاناً مَّعَ إيمَانِهِمْ] .
وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -:» الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله
إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان «.
كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس، قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم
رمضان، وأن تؤدي خمساً من المغنم «.
فالإيمان - إذن - قول وعمل، قول القلب وهو: التصديق، وعمل القلب:
وهو: الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد، وقول اللسان: وهو: النطق
بالشهادتين، وعمل اللسان والجوارح، وهو العمل بالطاعات، وترك المحظورات
من الشريعة، وهو يزيد وينقص.
ثم ننظر إلى استدلال المرجئة - سلفاً وخلفاً - بأحاديث الشفاعة على أن قول
الشهادتين تلفظاً يُثبت لصاحبة الإسلام والإيمان، وإن أتى عملاً من أعمال الكفر،
كترك التحاكم إلى الشرع، فنرى أنها هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف
الأدلة، والنظر في الأحاديث.
قالوا: روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل: قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد
رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلاً «.
وأغفلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً،
وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان «.
كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن
أبيه، قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» بُني الإسلام على
خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان «.
وأغفلوا رواية مسلم الأخرى: في الباب نفسه عن ابن عمر عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال:» بُني الإسلام على خمسة: على أن يُوحَّد الله، وإقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج «.
وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسقطوا روايات، والتي تدل
على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعاً هو توحيد الله وعبادته، وترك الشرك،
وأن التلفظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولاً وعملاً؛
ما لم يأت بعمل ظاهر َيكْفُر به، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ، وهو المعنى الذي ذكره
ابن القيم في إعلام الموقعين من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من
اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ.
[مسلم بشرح النووي 1/157]
وبعد.. فما هي الدوافع التي أدت إلى ظهور المرجئة في التاريخ؟ وما هي
عوامل بقائهم واستمرارهم؟ لذلك الأمر تفصيل يضيق عنه نطاق هذا المقال ولكن
لا بد من كلمتين توفيان بالغرض في هذا المقال.
أما عن بداية الإرجاء فقد زعم بعض من تناول ذلك الأمر أنها ترجع إلى
موقف بعض الصحابة إبان إطلال الفتن برأسها عند إرهاصات قيام الدولة الأموية،
وهم الذين لم يشاركوا في تلك الفتن إلا أننا نرى أن ذلك تزيد معيب على تلك الفترة
يحمّلها أكثر مما تطيق، ويجعلها نواة كل فساد ظهر في تاريخ المسلمين بعدها، وما
اعتزل بعض الصحابة الفتنة إرجاءً بل إن منهم من لاح له وجه الصواب فاتبعه،
ومنهم من غمض عليه جلية الأمر فآثر السلامة وحسب..! وهو موقف معتاد في
مثل تلك الظروف أن يشارك البعض ويعتزل البعض الآخر! ، ولعل بعض
المفكرين يخرج علينا بأن هؤلاء - كذلك - هم نواة المعتزلة؛ لاعتزالهم ذلك الأمر!. [انظر إعلام الموقعين 3/105]
وما نرتضيه في هذا المقام إيجازاً أن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في
موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل، فإن من تلفظ بالشهادتين
مؤمن كإيمان جبريل! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر، وليس لنا
أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر، فمن ثم فهو
مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم - أو الحاكم الكافر حسب الحالة - فلن يثير أرباب هذا المذهب خلافاً مع الحاكم مهما أتى من أفعال، فهو مؤمن على كل حال، أليس
يتلفظ بالشهادتين؟ ! ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندعي معرفة مكنونات
صدورهم، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان، وأن اعتقاد القلب
هو المعوّل عليه في ذلك، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد
ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ ضلال حكمه،
وإن ظهرت منا في بعض الأحيان - أو كلها - معاتبة أو معارضة فإنما هي معاتبة
التصديق، ونصح الأخ المؤمن لأخيه، أو هي معارضة الخاضع، وتبرم السائر
تحت اللواء! .
ثم عامل آخر قد يكون له بعض الأثر في إطلال الإرجاء برأسه، بل هو إلى
عوامل استمراريته أقرب - وهو ظهور طوائف المنتسبين إلى مذهب الخوارج فكراً
وعقيدة - وإن لم يكن بالضرورة اسماً - مما يزين لمن لم يتعمق النظر في دراسة
العقائد وترجيح الصالح من الفاسد من الآراء - وغالبهم من الشباب على مر التاريخ
دون رءوس الفتنة الذين يعون ما هم عليه من البدعة، بل وبعضهم يقصد إليه
قصداً - أن ينتسب إلى فكر الإرجاء قولاً وعملاً - دون تسمية ودون وعي منهم
بذلك ولا إدراك لحقيقة مذهب السلف الصالح، وهذا التصرف كرد فعل غير
مدروس للأفكار التي تجنح للتطرف والغلو في فهم العقيدة في الجانب الآخر، وكلا
جناحي الإفراط والتفريط إن هي إلا ردود أفعال سلبية للحكم غير المشروع الذي
يسود المجتمعات الإسلامية في أي عصر من عصورها.
فالإرجاء إذن مذهب سياسي - أو قل: موقف سياسي - اتخذ طابع البحث
في أوليات العقائد مع استشراء تلك الموجة في بداية عصر الأمويين وظهور علم
الكلام - كما بينا عوامل ذلك في مقدمة أسباب الاختلاف - كان موقفاً سياسياً في
الحكام الظالمين، يوم أن كانوا لا يزالون يحكّمون شرع الله، وإن تجاوزوا الحد
وأفرطوا في الظلم، ثم استمر على ذلك النهج منهجاً للضعاف ممن يريدون مهادنة
الظالم وتبرير مواقف الضعف والخزي، حتى وإن تجاوز الظلم إلى الكفر، ومن
هنا نرى أن المرجئة لم يكونوا هدفاً للسلطة الغاشمة الظالمة في عصر من العصور، بل كان منهم شعراء وعمال للحكام، كثابت قطنة الذي كان والياً ليزيد بن المهلب
على بعض الثغور، بل إنه مذهب يصلح أن يدعيه الحاكم نفسه ليكون برداً وسلاماً
على كافة الطوائف المبتدعة.
فالمرجئة - إذن - في صلحٍ خفي ومهادنة غير مكتوبة مع الحاكم يتمتعون
بالحرية في الحركة والقول جميعاً، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة
والجماعة، كما حدث لأئمة الفقه والحديث، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية،
وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة.
وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجاء والمرجئة كما قدمت في أول
المقال، ولكنها نفثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدْرُ، فلم يكن بُدِّ من إظهارها! .
وقد اتبعت فيها مذهباً أراه يعين الباحث في مثل تلك الأمور، وهو التحليل
النفسي لفهم الدوافع وراء تلك العقائد المنحرفة، وهو مذهب ارتضيناه في أسباب
الاختلاف وسنجعله بعون الله تعالى أحد مصادرنا في دراسة أمثال تلك الفرق التي
تحمل معول الهدم والخراب لتهدم به صرح الإسلام من داخله، عارفةً بذلك أو
جاهلةً.
[واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ] .(1/24)
دعوة كريمة
لم تقولون ما لا تفعلون
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ
اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [سورة الصف: 2-3] .
أخرج الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لودِدنا أنَّ الله عز وجل دلَّنا
على أحبِّ الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه، -صلى الله عليه وسلم-
أن أحب الأعمال: إيمانٌ به، لا شك فيه، وجهادُ أهل معصيته، الذين خالفوا
الإيمان، ولم يُقِرّوا به.
فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمره، فأنزل الله
سبحانه وتعالى قوله: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ... ] [1] .
وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في علم
الأصول، فإن الآية الكريمة، تبقى أبعد مدى من الحادثة الفردية التي نزلت
لمواجهتها، وأشل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها، فهي تحيط بكل
حالة من الحالات التي يقع فيها الانفصام بين الإيمان والحركة به أو بين القول
والعمل، أو العلم والعمل.
والعلم لا يراد به أصلاً إلا العمل، وكل علم لا يفيد عملاً، ولا يتوقف عليه
حفظ مقاصد الشريعة، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، والعلم المعتبر
شرعاً، الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله، على الإطلاق، هو العلم الباعث على
العمل، الذي لا يخلِّي صاحبه جارياً مع هداه كيفما كان. بل هو المقيد صاحبه
بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً.
وعندئذ يصير العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة لصاحبه، يأبى للعالم أن
يخالفه؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا ينصرف صاحبه إلا على وفقه اعتياداً
وإن تخلّف فإنما يكون تخلّفه لعنادٍ أو غفلة [2] .
وليس عالماً ذاك الذي لم يعمل بعلمه، ولا يستحق وصف التكريم هذا، فعن
علي - رضي الله عنه - قال: (يا حملة العلم: اعملوا به، فإن العالم من علم ثم
عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم تخالف
سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حِلقاً، يباهي بعضهم بعضاً؛
حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد
أعمالهم إلى الله عز وجل) .
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: (العالم الذي وافق علمه عمله، ومن
خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله) .
وقال الثوري: (العلماء إذا علوا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا ... ) . وقال:
(العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل) [3] .
فالذين لا يعملون بعلمهم ولا يتسق سلوكهم مع عملهم، فضلاً عن أن يكونوا
من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة أخبار وحفظة أسفار، والفقه فيما رووه أمر
آخر وراء هذا. أو هم ممن غلب عليهم الهوى فغطّى على قلوبهم.
وهنا ينبغي أن يوجّه اللوم، والعتاب كلُ العتاب، لمن يفعل ذلك، وحسبك
أن الله تعالى سمّى ذلك الانفصام بين القول والعمل مقتاً، بل جعله أكبر المقت وأشدّ
البغض، فقال: [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] .
وما سمَّى الله تعالى شيئاً بهذا الاسم، ولا أطلقه عليه إلا في أمرين:
أولهما: الجدال في الله وآياته بغير سلطان وعلم، فقال سبحانه: [الَذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وعِندَ الَذِينَ آمَنُوا]
[غافر/35] .
وثانيهما: نكاح الرجل زوجة أبيه المتوفى عنها أو المطلقة، كما كان يفعله
الجاهليون، فقال سبحانه وتعالى: [ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ
سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ومَقْتاً وسَاءَ سَبِيلاً] [النساء/22] .
ومن هذا نعلم عظم الآفة الكبيرة والداء الخطير في الانفصام بين القول والعمل، أو بين الإيمان والسلوك.
إن الإيمان ليس مجرد كلمات يديرها الإنسان على لسانه، ويتحلى بها أمام
الناس ويتشدق بها في المناسبات دون أن يكون لها أثرها في سلوكه وواقعه، ودون
أن تترجم إلى واقع حي يراه الناس، فيكون هذا الواقع العملي الظاهر والالتزام
مؤشراً على الإيمان الصحيح وعمقه في نفس صاحبه.
يقول صاحب الظلال - رحمه الله تعالى -:
(إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك والإسلام
عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك
لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى حركة في عالم الواقع.
ومنهج الإسلام الواضع يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها
إلى حركة سلوكية لتبقى حية متصلّة بالينبوع الأصيل) [4] .
والمؤمن لا يخالف قوله فعله، وهو الذي يبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير
والبر، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن
يدعوهم، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم، بل إنه
ليس بحاجة إلى كثير عندئذ، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه، ليروا
فيهما الإسلام والإيمان حياً يمشي أمامهم على الأرض وليشعّ بنوره على من حوله،
فيضيء الطريق للسالكين، وتنفتح عليه العيون ويقع في القلوب، فيحمل الناس
بذلك على التأسي والاتباع.. فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة، فقد كان عليه الصلاة
والسلام إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به، وكان يحمل أهل بيته على
ذلك قبل أن يدعو غيرهم.
وعن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -
فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: أما تقرأ
القرآن؟ قلت: بلى، قالت: «كان خلقه القرآن» [5] ، فمهما أمره القرآن بشيء
امتثله، ومهما نهاه عنه تركه.
وهي إجابة دقيقة من عائشة - رضي الله عنها - وهي إجابة موجزة جامعة
أيضاً، تحمل في طياتها كل ما يخطر على بال المرء من أخلاق الكمال وصفات
العظمة، فحسبك أن يكون عليه الصلاة والسلام، ترجمة عملية حية لمبادئ القرآن
الكريم، فإذا أردت أن تعرف أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فانظر إلى
القرآن الكريم واقرأ ما فيه من آيات تحث على الأخلاق، وإذا أردت أن ترى
القرآن الكريم واقعاً عملياً في حياة الناس فانظر إلى خلق رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وادرس سيرته بكل وعي وعناية واهتمام وبقلب مفتوح على الخير،
وبعزيمة صادقة، تحمل على التأسي والمتابعة.. فكل واحد منهما يدل على الآخر ...
(لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أكبر قدوة للبشرية في تاريخها
الطويل وكان مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به
سواء في ذلك القرآن المنزل أو حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -) [6] .
وإنها لمصيبة كبيرة، وخسارة ما بعدها خسارة، أن يتحول الإيمان والإسلام
في سلوك أصحابه إلى كلمات ودعاوى، لا تتجاوز الحناجر، وأن ينطلق المسلم،
يدعو غيره إلى البر والهدى والخير، ولكنه يترك نفسه بمعزل عن ذلك، ويعطيها
إجازة تتمتع بها، ولا يحملها حملاً على أن تكون سبّاقة إلى هذه الدعوة والعمل
بمقتضاها.
ولقد نعى الله سبحانه وتعالى، على بني إسرائيل، وبخاصة أولئك الأحبار
فيهم، ووبَّخهم علي سلوكهم، فهم يأمرون الناس بالبر، الذي هو جماع الخير،
ولكنهم ينسون أنفسهم فلا يأتمرون بما يأمرون الناس به، مع علمهم بجزاء من
قصّر في أوامر الله سبحانه وتعالى [7] ، فقال: [وأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة /44] .
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يتحدث الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - عن
آثار الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في السلوك، فيقول:
(ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداءً حالة واقعة من بني إسرائيل
فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين [8] بصفة خاصة، دائم لا يخص
قوماً دون قوم، ولا يعني جيلاً دون جيل.
إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه ويحرفون الكلام عن مواضعه، ويؤلفون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات، قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود.
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي
تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم، ولكن في الدعوات ذاتها، وهي تبلبل
قلوب الناس وأفكارهم أنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً، فتتملكهم
الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ
في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين عدما فقدوا ثقتهم
في رجال الدين) [9] .
وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه والتمسك بأحكامه؛ لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول: انظروا إلى فلان.. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره، ولو كان ما دعونا إليه حقاً لاتبعه وتمسك به؟ فيتركون - عندئذ - الدين، بسبب سلوكه ذاك! !
وكم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك، إذ أنهم حملوهم على
المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية، ولولاهم ما وقعوا في ذلك، فهم الذين سنَّوا
هذه السنة السيئة فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم فقد: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: «من سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة يُعمل بها من بعده، كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» [10] .
وقبل أن يدعو الداعية غيره إلى الخير ينبغي أن يتمسك هو به، ولن يستطيع
المريض أن يعالج مرضاً مثله، وما أجمل الحكمة التي أجراها الله تعالى على لسان
أبي الأسود الدؤلي، عندما قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وإذا كان لعدم الموافقة بين القول والعمل تلك الآثار، فإنه ليس غريباً أن يشدد
الإسلام في عقوبة الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، فيجعلونه وراءهم ظهرياً،
وينهون عن المنكر ويفعلونه، وأولئك هم علماء السوء وصفوا الحق والعدل
بألسنتهم وخالفوه إلى غيره، فلم يعملوا به:
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: «إن أوَّل الناس يُقضى عليه يوم القيامة ... ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه،
وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ
العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلّمت العلم ليقال: إنك عالم
وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي
في النَّار ... » [11] .
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب
بطنه [12] فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون:
يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت
آمر بالمعروف ولا آتية، وأنهى عن المنكر وآتيه» [13] .
ودوران هذا الحمار بأقتاب بطنه يوم القيامة، يعيد إلى الأذهان تلك الصورة
المزرية البائسة لأولئك الذين حُمّلوا التوراة، وكُلِّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحملوها، ونكصوا على أعقابهم، فكانوا من الخاسرين، وأولئك هم اليهود ... كالحمار
يحمل أثقالاً من الكتب، ليس له منها نصيب إلا أن يشعر بثقلها على طهره، وينوء
بحملها:
[مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ
مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [الجمعة /5] .
ولا يغيبَّن عن ذهنك صورة ذاك الذي آتاه الله آياته، فلم يعمل بما آتاه الله من
العلم، فانسلخ منها كما تنسلخ الحَية من جلدها وتتركه على الأرض [14] :
[واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ
الغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ
إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: 175 - 176] .
وليس هذا شأن يهود فحسب، بل إن إخوانهم من المنافقين يلتقون معهم في
هذه السمة وينهلون من نفس المنهل:
[ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا
أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ] [النور 47 - 48] .
[ويَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَذِي تَقُولُ] [النساء 81] .
[ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ
وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ
واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ] [البقرة: 204 - 205] .
هذه صورة المنافقين، وتلك صورة يهود ... فليحذر المؤمنون أن يقعوا فيما
وقع فيه هؤلاء إذ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب
وصدّقته الأعمال، من قال حسناً وعمل غير صالح، ردّه الله على قوله، ونمن قال
حسناً وعمل صالحاً، رفعه العمل [15] ، وذلك بأن الله تعالى يقول: [إلَيْهِ يَصْعَدُ
الكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] [فاطر: 10] .
وما أروع كلمة شعيب، عليه الصلاة والسلام، وما أكثرها إنصافاً عندما قال
لقومه: [ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
ومَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ] [هود 88] .
وليت الدعاة، وليت الذين نصبوا أنفسهم للعمل الإسلامي يضعون هذا المبدأ
الذي أرشد إليه شعيب عليه الصلاة والسلام نصب أعينهم، فلا يخالفون إلى ما
ينهون عنه ليكون لكلامهم ذلك التأثير في نفوس المدعوين! .
وكم نجد أناساً يدعون إلى وحدة الكلمة وجمع صفوف المسلمين على الحق،
وهم أنفسهم في واقعهم دعاة فرقة وضلال؛ يدعون إلى التمسك بكتاب الله وسنة
نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهم أبعد الناس عن الكتاب والسنة، يقدمون آراءهم
وآراء من يقلدونهم ويتبعونهم علي الكتاب والسنة، صراحة أو تأويلاً يدعون إلى
الحفاظ على الإخوة الإيمانية وحقوق الأخوة، ولكنهم يزورّون عن إخوانهم ولا يفون
بحقوقهم لمجرد خلاف في الرأي أو الفهم ... يتحدثون عن وجوب التثبت في نقل
الأخبار ولكنهم يجرون وراء الشائعات ويرمون غيرهم فظائع التهم، ولا يكلّفون
أنفسهم الرجوع إلى مصدر صادق ليتثبتوا فيما ينقلونه، لئلا يظلموا إخوة لهم أو
يرمونهم بتهم باطلة! يتحدثون عن تحريم الغيبة وآثارها وضررها، ولكنهم لا
يتفكهون إلا بأعراض الآخرين ولا يتندرون إلا بما يتخيلونه من سيئ الخلال؛
ويتحدثون عن مفاصلة المشركين والعلمانيين والمرتدين والملحدين ولا يجدون بأساً
أو غضاضة في مجالستهم ومداهنتهم، بل قد يرتمون في أحضانهم ويؤمِّلون عندهم
ويرجون، ما لا يؤمِّلون عند الله ويرجون ... إلى غير ذلك من المفارقات العجيبة
الغريبة، فليحذر المسلمون ذلك كله وأشباهه، فإنها أمراض جد خطيرة، ولها
آثارها السيئة، في حياة الدعوة والدعاة، نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب في
القول والعمل، (ونسأل الله المبتدئ لنا بنعمة قبل استحقاقها المديمها علينا مع
تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من الشكر بها الجاعلنا في خير أمة أخرجت
للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه وقولاً وعملاً يؤدّي به عنا حقَّه
ويوجب بنا نافلة مزيدة) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي: 1/61 وما بعدها، بتحقيق دراز.
(2) الموافقات 1/75 - 76، وانظر: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغداي 46 - 63، فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب الحنبلي، مطبعة الحلبي.
(3) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب: 2525.
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (746) والترمذي في البر، والنسائي في قيام الليل، وابن ماجه في الأحكام، والدارمي: 2/345، وأحمد في المسند: 6/54، وانظر شمائل الرسول لابن كثير: 57 - 59.
(5) منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب: 1/183، دار الشروق.
(6) - انظر: تفسير ابن كثير: 1/86 0 87.
(7) استعمل هنا كلمة رجال الدين؛ لأنه يتحدث عن هذا الصنف الذي اتخذ الدين حرفة وصناعة، وإلا فهو رحمه الله يمقت هذا التعبير، إذ ليس في الإسلام طبقة كهنوت أو رجال دين كما عرفتها أوربا
مثلاً.
(8) في ظلال القرآن: 1/86، دار الشروق.
(9) قطعة من حديث جرير بن عبد الله البجلي، أخرجه مسلم في الزكاة برقم (1017) ، والنسائي:
5/75 - 77، وابن ماجه برقم (203) ، وأحمد في المسند: 4/357، والدارمي: 1/130 - 131، وفي المعنى أحاديث أخرى.
(10) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الإمارة برقم (1905) .
(11) أي تنصبّ أمعاؤه وتخرج من جوفه بسرعة خارجة من دبره.
(12) أخرجه البخاري في بدء الخلق: 6/331 فتح الباري، ومسلم في الزهد: 4/2990 - 2991 برقم (2989) واللفظ له، والإمام أحمد في المسند 5/ 205 - 206، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: 52 برقم (74) ، تحقيق الألباني، والبغوي في شرح السنة 14/352، وفي تفسيره أيضاً.
(13) انظر: تفسير الطبري: 9/119 - 124، تفسير ابن كثير: 2/ 265 - 268، تفسير المنار للشيخ رشيد رضا: 9/375 - 384.
(14) كلمة للحسن البصري - رحمه الله -، انظر: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي: 42 - 43.
(15) اقتباس من افتتاحية الإمام الشافعي - رحمه الله - في الأصول (الرسالة) ، تحقيق أحمد شاكر.(1/28)
خواطر في الدعوة
فقه الشافعي
بقلم: أبو أنس
(في حوار جرى بين الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني، قال
الشافعي: ناشدتك الله، صاحبنا (مالك بن أنس) أعلم بكتاب الله أم صاحبكم (أبو
حنيفة) ؟ قال: بل صاحبكم.
قال الشافعي: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم
صاحبكم؟ قال: بل صاحبكم.
الشافعي: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أم صاحبكم؟ قال: بل صاحبكم.
الشافعي: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس، ونحن نقول بالقياس، ولكن من
كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح) (ابن تيمية: الفتاوى 20/328) .
والذي نريد أن نخلص إليه من هذا الحوار بين هذين العالمين الجليلين أن
الشافعي - رضي الله عنه - رتب الأمور ترتيباً صحيحاً، كتاب الله، ثم سنة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقوال الصحابة، وهذا الترتيب الدقيق يغفل
عنه كثير من المسلمين في هذه الأيام، بل ربما عكسوا الآية، فيضطرب الأمر
عليهم وتضيع الموازين الحقيقية مع أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء
فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة
سواء فأقدمهم سناً» ، فقدم - صلى الله عليه وسلم -: العلم بالقرآن على العالم
بالسنة، وقدم العلم على العمل.
روى الزهري عن عروة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أراد أن
يكتب السنن ثم تردد، ثم قال: كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا
قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله
بشيء أبداً. (جامع بيان العلم 1/64) .
أراد عمر - رضي الله عنه - أن يحدد الأولويات وكأنه كان يخشى أن يهجر
القرآن ويضعف العلم به، ويكب الناس على الشروح والحواشي لتصبح هي
المصدر لفهم الإسلام دون القرآن، كما أن الذين أسلموا حديثاً في الشام والعراق لا
تقدم لهم كل العلوم الإسلامية دفعة واحدة، بل لا بد من تربيتهم تربية متأنية تبدأ
بالزصول ثم تندرج بهم إلى الفروع والتفصيلات.
وهذا المعنى يؤكده ابن مسعود - رضي الله عنه - بقوله: (إنما هلك أهل
الكتابين قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا كتاب ربهم) .
إن عدم ملاحظة هذا الفقه الدقيق يجعل المسلمين لا يفرقون بين المهم والأهم، بين الواجب والضروري، بل ربما قدم بعضهم الكمالي على الضروري، وبذلك
يكونون كمن يضع العربة أمام الحصان.(1/33)
مفهوم الحرية
عند الفقهاء والمحدثين في القرن الثاني
بقلم د. مصطفى السيد
ما هي الحرية؟
هل هي أن تفعل ما تريد بلا مانع أو تقول ما تشاء بلا رادع؟
تختلف النظرة إلى الحرية وإلى الأحرار من مجتمع إلى آخر، ومن مدرسة
فكرية إلى أخرى، وكثيراً ما تجدّ تطورات اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك لتمد
التعريف بأضواء كاشفة، أو بقيود جديدة.
وما من شك في أن للحرية مقوماتها القانونية ومكوناتها الفلسفية والتي بدونها
لا تعد شيئاً لدى المذاهب الفكرية المعاصرة.
وغني عن القول أن معرفة الحرية - ثقافياً أو نظرياً - غير ممارستها وإن
كانت الأولى أصلاً في تحقق الثانية.
وإذا ما تأصل مفهوم الحرية في مجتمع ما فسيكون تأصله مطابقاً ومساوياً
لمعنى الوجود والحياة، وبدونه تبقى الحياة الإيجابية معطلة، ووجود مثل هذا
المجتمع يكون متساوياً مع وجود سقط المتاع من الأشياء.
والمجتمع الذي يؤثر الحرية سيحرسها حراسة المحبة، بينما العبيد يحرسونها
حراسة الخوف، والمجتمع الحر هو الذي يختار ويشارك فيما يمس وجوده فرداً أو
جماعة.
وفي موضوع الحرية يحلو للكثيرين أن يجعلوا من النموذج الغربي -
أشخاصاً وأفكاراً - أساساً للانطلاق في أي بحث عن الحرية، ويرى هذا الفريق -
المأسور أو المبهور بحضارة الغرب - أن كل كلام في الحرية يعارض كلام الغرب
وكل تصرف لا يضارع تصرفه لا يؤذن له بالدخول إلى حلبة - الفكر السامي -.
وهذه الشنشنة نجد أشباهاً لها ونظائر في عالم الأدب - ولا سيما الشعر - فلن
يلج الشعر رتاج [1] العالمية ولن تسلّم للشاعر مفاتح الأدب الخالد إن لم يبلغ القلق - على المصير - منه الحلقوم، وتأخذ الحيرة بمجامع نفسه وأن يكون الرمز بل
(اللغز) هو أخص لوازم هذا الشعر فلا يفهمه إلا نفر قليل وحبذا لو استعجم فهمه
حتى على قائلة! ! ! ومن لم يرزق هذه النعم قذف ب (التقليد - والكلاسيكية -
والعمودية) إلى آخر ما هنالك من التسميات.
وإذا كان المفكر الملحد شرقياً كان أم غربياً يبحث عن إجابات للأسئلة التي
يفرضها عليه خواؤه الروحي وغروره المادي فإن المسلم - بفضل ما أنعم الله عليه
من رؤية سليمة - لا يعيش أزمة الوجود بل أزمة الوجودية.
فوجوده محدد المعالم والأهداف - بداية ووسطاً ونهاية - من أين وإلى أين،
أما وجوديته فهي مجال كفاحه، وكل تحد أياً كان مصدره ومهما كان هدفه يعد محكاً
لاختيار حرية المسلم.
ومن هنا فإن موضوع القدر لا يحتل المساحة الواسعة في الهموم الإسلامية
المعاصرة إذا ما قارنا ذلك بما يشغله هذا الموضوع من طاقات في الفكر الإلحادي.
* * *
بانتهاء الثلث الأول من القرن الثاني الهجري (132هـ) أطلت الدولة العباسية إلى الوجود، وقد قامت على أنقاض دولة بني أمية، وإذا كان الصراع العسكري قد حسم الأمور لبني العباس فإن الصراع الثقافي لم يتحقق فيه انتصار كبير للدولة الجديدة، وعلى سبيل المثال فإن موضوع خلق القرآن - الذي تبنَّته الدولة بكل قوة بالحوار ثم بالضغط المادي والمعنوي - كشف مكانة الدولة الثقافية وأفقدها ثقة العامة وتأييدهم وبالتالي فقدت جزءاً غير يسير من شعبيتها.
وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل المؤسسة - الجوامعية والمسجدية - التي باتت
تملك من الثبات والأصولية الراسخة ما جعلها نداً لمواجهة كل مُحدث يهدد سلامة
العقيدة الإسلامية كما جعلت الجوامعية والمسجدية الانتصارات العسكرية أقل صدى
وأضأل تأثيراً في فرض قيم سياسية على طائفة من الناس رأت في القرآن والسنة
قبلتها الفكرية وبوصلتها السياسية.
كما أخفقت الدولة - العباسية - في احتواء العلماء وإظهارهم بمظهر الذين
يمنح الدولة الشرعية الفقهية لما تأتي وتدع من أمور، لدفع احتمال التناقض بين
الفريقين ولمنع الاحتجاج والسخط.
لقد شعر المحدثون والفقهاء بأن بعض التحديث والتجديد في سياسية الدولة
سيتم جزء منه على حساب القيم التي يمثلونها والآراء التي يحملونها ولم يكن في
الأمر حلول وسط فإما ركوب الموجة ومنافسة الدولة في مسيرة التراجعات، أو
الاعتزال السلبي في الزوايا والدويرات، أو الوقوف قولاً وعملاً بجانب ما يمثلون
من قيم ويحملون من آراء، ولقد اختار المحدثون والفقهاء التوجه الثالث الذي يعد
امتداداً طبيعياً لتربيتهم، وموقفاً سلوكياً منسجماً مع رؤيتهم الفكرية ولقد رأوا أن
السلطة السياسية تشكل تحدياً للحرية في - أحايين كثيرة - يعد أعظم خطراً من
الخطر الكامن في عبودية الرق، لأن عبودية الرق تعني امتلاك يمين العبد من قبل
الجهة التي تملكه اقتصادياً، وقد تكون حرية عقيدته مصونة، أما السلطة السياسية
فقد تعمل جاهدة على استعباد الأحرار باستعباد الأفكار، ترغيباً أو ترهيباً، ومما لا
شك فيه أن الدولة للعلماء تعني إخضاعهم لا إخضاع جسومهم بل عقولهم وفكرهم
وسلوكهم.
قال الإمام الذهبي - رحمه الله -:
(لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان (الثوري) فلما دخل عليه خلع خاتمه
فرمى به إليه وقال: يا أبا عبد الله: هذا خاتمي، فاعمل بهذه الأمة في الكتاب
والسنة.
فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: أتكلم على أني آمن؟
قال: نعم.
قال: لا تبعث إلي حتى آتيك ولا تعطني حتى أسألك.
قال: فغضب، وهم به، فقال له كاتبه:
أليس قد أمنته؟
قال: بلى.
فلما خرج حفّ به أصحابه فقالوا:
ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟
فاستصغر عقولهم، وخرج هارباً إلى البصرة) [2] .
ولم تكن هذه أولى محاولات (الإحاطة) بسفيان بل قد حاول المنصور قبل
المهدي فلم يكن أسعد حظاً منه، فقد لقي المنصور سفيان (في الطواف - وسفيان لا
يعرفه - فضربه بيده على عاتقه وقال: أتعرفني؟ قال سفيان: لا، ولكنك قبضت
علي قبضة جبار! ! !
قال: عظني يا أبا عبد الله. قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟
قال: فما يمنعك أن تأتينا؟
قال: إن الله قد نهى عنكم، فقال تعالى:
[ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] .
ثم التفت أبو جعفر إلى أصحابه ثم قال:
ألقينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فراراً) [3] .
ولم تكن إجابة سفيان الخشنة هي الإجابة الوحيدة التي سمعها أبو جعفر من
العلماء.
قال الإمام أحمد:
دخل ابن أبي ذئب على المنصور فلم يمهله أن قال الحق وقال: (الظلم ببابك
فاش، وأبو جعفر أبو جعفر) [4] .
ولقد كانت الثقافة الجوامعية والمسجدية تثمر في مشرق الدولة ومغربها هذه
الثمار وتنجب أمثال هؤلاء الرجال، الذين يتميزوا بإيثار حرية الرأي وإشهار
وجهة نظرهم ولو دفعوا رؤوسهم ثمناً لذلك.
فعندما قُدم بعبد الرحمن بن أنعم - قاضي إفريقية - على المنصور سأله.
(ما رأيك في طريقك؟ قال: ما زلت في منكر وجور عظيم حتى قدمت
عليك!! فقال أبو جعفر: ما نعمل وما نصنع؟ لا يلي لنا مثلك.
قال له: أتدري ما قال عمر بن عبد العزيز، قال: الملك سوق، وإنما يجلب
إلى السوق ما ينفق فيها) [5] .
ولقد كان هؤلاء العلماء من فقهاء ومحدثين يعون جيداً أن كل أعطية مادية
كانت أو معنوية ليست إلا أغلالاً تقمح بها أفكارهم وتسلسل بها حريتهم، ولذا
تواترت نصائحهم في التحذير من ذلك.
قال الأوزاعي فقيه بيروت - جبر الله كسرها وأقال عثرتها -:
[لو قبلنا من الناس كل ما يعطوننا لهنا عليهم] [6] .
ويقول المحدّث مسعر بن كدام شيخ الإمام مسلم:
[من صبر على الخل والبقل لم يستعبد] [7] .
ويقول محمد بن مبارك الصوري (ت215هـ) :
[كذب مؤمن - ادعى المعرفة بالله - ويداه ترعى في قصاع المستكثرين، ومن وضع يده في قصعة غيره ذلت رقبته] [8] .
وهكذا تسترقهم مطالب دنيوية أو مقتنيات عرضية وكان ذلك - بفضل الله -
سبباً لحرية تفكيرهم وحرية تعبيرهم.
عرّج الرشيد على المدينة وهو في طريقه إلى الحج فبعث إلى الإمام مالك
بكيس فيه خمسمائة دينار، فلما قضى نسكه وقدم المدينة أرسل إلى مالك رسولاً
يقول له:
[إن أمير المؤمنين يحب أن تنتقل معه إلى مدينة السلام - بغداد - فقال مالك
للرسول، قل له: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله) ] [9] .
ولقد ربط الإمام الشافعي بين التعلق بالدنيا والمذلة فقال:
[من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها] [10] .
وفي هذا المعنى يقول بشر الحافي - رحمه الله -:
[من أحب الدنيا فليتهيأ للذل] [11] .
ولقد تعرض الفقهاء والمحدثون لسياسة الدولة الاقتصادية ونقدوا مظاهر
الإسراف والتبذير، فقد قال سفيان الثوري للمهدي بمنى:
[حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً وإني أرى هاهنا أموراً لا تطيقها الجبال] [12] .
* * *
هكذا فقد كان الفقهاء والمحدثون قادرين على اتخاذ موقف ما من القضايا التي
عايشوها والأحداث التي عاصروها، وكان الموت أحد الاحتمالات التي واجهوها،
وكان ذلك أحب إليهم من أن ينوؤا تحت عبء تبكيت نصوص الميثاق الذي أخذ
عليهم بتبليغ العلم وأن يجأروا بكلمة الحق أمام كل أحد.
وربما كان لبعضهم في العافية متسع، وفي التقية ملتجأ، ولكن أحسابهم
الكريمة وقدوتهم العظيمة أبت لهم إلا أن يتابعوا من قبلهم قولاً وعملاً والحمد لله
على عظمة هذا الدين منبع الفضائل، ومبعث العزائم، ومنبت الرجال، ومصدر
الكمال.
__________
(1) الرتاج: الباب العظيم، والباب مطلقاً والجمع رَتج، المعجم الوسيط 1/ 326.
(2) سير أعلام النبلاء 7/262.
(3) العقد الفريد: 3/165.
(4) سير أعلام النبلاء: 9/144.
(5) كتاب رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية: 1/165.
(6) - حلية الأولياء 6/143.
(7) حلية الأولياء 7/219.
(8) حلية الأولياء 9/298.
(9) جامع بيان العلم 1/228 وفيه آخر الحديث، وسير أعلام النبلاء 8/ 62-63.
(10) التيار الإسلامي في شعر العصر العباسي الأول ص: 612، د مجاهد مصطفى بهجت.
(11) البداية والنهاية 10/298.
(12) سير أعلام النبلاء 7/265.(1/34)
أبو بكر الطرطوشي
وكتابه: «الحوادث والبدع»
دراسة وتحليل بقلم:
أحمد عبد العزيز أبو عامر
لقد كان لعلماء الإسلام الأعلام موقف حازم من البدع والمبتدعة، في بيان
حقائقهم وأساليبهم في فهم الشريعة والتحذير منهم ومخالطتهم، مع الحث على اتباع
الوحيين، واعتبارهما منهجاً للحياة، ولما كان للطرطوشي جهدِ بارز في هذا الباب؛ ومع ذلك فهو مجهول الجهد مغمور الذكر لذى الكثير من القراء؛ ناسب التعريف
به وبأعماله وتراثه الفكري، مع عرض كتابه في البدع، ووقفات على ما بذل من
جهد في تحقيقه. وسيكون الموضوع على النحو التالي:
أولاً: حياته وأعماله وتراثه الفكري:
هو أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي
الفهري الطرطوشي، ولد سنة 450 هـ، وقيل بعدها بسنة في مدينة طرطوشة
بالأندلس، وفيها نشأ وتعلم في مسجدها الكبير على يد بعض العلماء، ثم أخذ عن
(أبو الوليد الباجي) في (سرفسطة) مسائل الخلاف، وسمع عنه وأجازه، والذي
يظهر أن والده كان عالماً أو من المشتغلين بالعلم، ولذا وجه ابنه هذه الوجهة،
وكانت أسرته على شيء من الثراء، ولذا عاش في وطنه حتى الخامسة والعشرين
من عمره، في كنف أهه يطلب العلم ويكفونه مؤنة السعي وراء الرزق، وفي سنة
474 غادر إلى الشرق وعمره آنذاك 25 سنة تقريباً، فأدى فريضة الحج ودرّس
بمكة ولم يقم بها طويلاً، فاتجه إلى بغداد حيث تلقى المزيد من العلم في المدرسة
النظامية وتجول بالبصرة، ولقي بها القاضي الجرجاني، وروى عنه شيئاً من
أشعاره الزهدية والتي ضمنها كتابه: (سراج الملوك) وغادر العراق وعمره آنذاك
حوالي الثلاثين سنة إلى بيت المقدس وفيه لبث وقتاً يعلم الناس، ثم غادرها إلى
جبل لبنان ومنه إلى أنطاكية وكانت آنذاك محاصرة من قبل الصليبيين مما دفعه إلى
ترك الشام ميمماً وجهه صوب مصر، فنزل في (رشيد) فجاءه وفد من أهل
الإسكندرية يحثونه على الانتقال إليهم قاضياً بعدما قتل (بدر الدين الجمالي) القائد
العبيدي عدداً من العلماء، فاستجاب لهم ومن ثم استقر بالإكسندرية وبها تزوج
وحفلت حياته بالنشاط والتدريس والتأليف مما جمع الناس حوله، وكان لا يغادر
الإسكندرية إلا للاتصال بوزراء الدولة لنصحهم وإرشادهم مما جعل له مكانة
أوغرت صدر القاضي (أبو طالب بن حديد) الذي كان منتظراً منه أن يكون من
حاشيته، لكن زهد الشيخ وجرأته التي تصل أحياناً إلى نقد أحكام القاضي، كما
فعل في تحريمه للمؤكولات الواردة من أوربا (كالجبن الرومي) .. كل ذلك حدا
بالقاضي إلى كتابة تقرير فيه ورفعه للحاكم (الأفضل) الذي ما يزال يتذكر موعظة
الطرطوشي له والتي تسمت بالقسوة فأمر الحاكم بتحديد إقامته الجبرية في (مسجد
جنوب الفسطاط) ولم يخرج من إقامته تلك إلا بعد قتل الأفضل، ولما تولى (الوزير
المأمون البطائحي) مكانه أكرمه وأخرجه فظل في الإسكندرية لامع النجم يفد إليه
طلبة العلم من الإسكندرية ومن غيرها، ومن أهم تلاميذه من الإسكندرية (سند بن
عون) العالم الفقيه الذي خلفه في التدريس إحدى عشرة سنة، وكذلك (ابن الطاهر
بن عوف) والذي قام بنفس المهمة في التدريس، ومن تلاميذه الآخرين (أبو بكر بن
العربي المعافري) (وهو غير ابن عربي الصوفي) وكذلك (المتمهدي بن تومرت
البربري) .
مؤلفات الطرطوشي:
كان خصب الإنتاج وقد أحصي له أكثر من عشرين مؤلفاً ومن أهمها:
1 - الكبير في مسائل الخلاف.
2 - شرح رسالة أبي زيد القيرواني.
3 - معارضة إحياء الغزالي.
4 - العدة عند الكرب والشدة.
5 - سراج الملوك.
وفاته:
توفي إلى رحمة الله سنة 525 ولعل حياته امتدت بعد هذا إن صح ما نقله ابن
خلكان في (وفيات الأعيان) [1] .
ثانياً: كتابه (الحوادث والبدع) [2] :
قال الطرطوشي في مقدمته: هذا كتاب أردنا أن نذكر فيه جملاً من بدع
الأمور ومحدثاتها التي ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع ولا
غيره فألفيت ذلك ينقسم إلى قسمين:
قسم يعرفه الخاصة والعامة أنه بدعة محدثة إما محرمة وإما مكروهة.
وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عبادات وقربات وطاعات وسنناً.
فأما القسم الأول: فلم نتعرض لذكره، إذ كفينا مؤنة الكلام فيه لاعتراف
فاعله أنه ليس من الدين.
أما القسم الثاني: فهو الذي قصدنا جمعه، وإيقاف المسلمين من هذه المنكرات
والبدع لا مطمع لأحد في حصرها لأنها خطأ وباطل، وذلك لا تنحصر سبله ولا
تتحصل طرقه، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه فهو الحق لأنه أمر
واحد مقصود يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه ... ثم بين أبواب الكتاب
الأربعة كما يلي:
1- الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها
سلم جرت إلى هلك، مورداً بعض الآيات ومنها: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا] [البقرة: 104] ، وذلك أن المسلمين كانوا يقولون للرسول:
(راعنا) و (ارعنا) سمعك، وهي بالعبرانية كلمة سب من الرعونة، فكانت اليهود
تقولها للنبي سباً، فمنع الله المسلمين أن يقولوها، وإن كانت جائزة، لئلا تتذرع
اليهود بذلك إلى ما لا يجوز، وهذا في الحقيقة منع جائز في الظاهر لما كان يتطرق
به إلى باطل ممنوع.
ومن ذلك قوله تعالى: [ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: 6/108] ، فمنع الله سائر المسلمين من سب آلهة الكفار، وهو مباح، لئلا يصير طريقاً لهم إلى سب الله تعالى عند ذلك.
ثم بين أن مما يدخل في هذا الباب والتحذير من الزيادة في دين الله تعالى
والنقصان منه، قوله تعالى: [وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً] إلى قوله تعالى: [فَبَدَّلَ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: 7/162] .. قال أهل التأويل: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فيدخلوا سجداً منحنين متواضعين ويقولوا حطة - معناه حط عنا خطايانا - فقالوا: (حنطة) استخفافاً بأمر الله فأرسل الله تعالى عليهم رجزاً من العذاب لقوا منه ما لقوا، لأنهم زادوا حرفاً في كلمة، فما بالك بالابتداع والتغيير مما لم يأذن به الله، ولم يرد في سنة رسوله.
2 - الباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من النهي عن محدثات الأمور
وأورد بعضاً من الأحاديث في التحذير من الأهواء والبدع، ومنها حديث ابن مسعود
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خط لهم خطاً ثم خط إلى جانبه خطوطاً، ثم
قال للخط الأول: «هذا سبيل الله يدعو إليه» وقال للخطوط: «هذه سبل
الشيطان علي كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] ، وما رواه الشيخان أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:» لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً
بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتوهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ «.
وحديث البخاري عن أبي واقد الليثي قال:» خرجنا مع النبي -صلى الله
عليه وسلم- قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها
وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: (ذات أنواط) فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله،
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
الله أكبر، إنها السنن، لقد قلتم كما قالت بنو إسرائيل [اجْعَل لَّنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ
قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] لتركبن سنن من كان قبلكم «رواه الترمذي وصححه.
قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها
الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير
والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها.
ثم عقد فصلاً في تعريف البدعة قال فيه: إن أصل الكلمة من الاختراع وهو
الشيء الذي يحدث من غير أصل سابق، ولا مثال احتذي ولا أُلف مثله ومنه قوله
تعالى: [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ] أي خالقها ابتداء.. وهذا الاسم يدخل فيما
تخترعه القلوب وما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح والدليل على هذا ما
سيذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة وكافة العلماء بدعاً للأقوال والأفعال.
3 - الباب الثالث: منهاج الصحابة في إنكار البدع وترك ما يؤدي إليها.
ساق فيها آثاراً عن بعض الصحابة توضح ذلك، ومنها: ما رواه البخاري في كتاب
الصلاة عن أم الدرداء قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضباً فقلت له: ما لك؟
فقال: والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً) .
وروى مالك في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: (ما أعرف
شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة) ، يعني الصحابة، وذلك أنه أنكر
أكثر أفعال أهل عصره، ورآها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة. وروي
البخاري عن أنس قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا
نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات) .
قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمان طمس للحق
وظهر الباطل حتى لا يعرف من الأمر القديم إلا القبلة فما ظنك بزمانك هذا، والله
المستعان. (قلت) : وما ظنك أخي القارئ بزماننا هذا! ..
ثم ساق صوراً لفقه الصحابة في العبادات ومنها: عدم قصر عثمان بن عفان
الصلاة في السفر، معللاً ذلك لئلا يعتقد الناس أن الفرض ركعتان، وقول أبي
مسعود البدري: إني لأترك الضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن يظن الجيران أنها
واجبة، ثم عقد باباً في صلاة التراويح وأحكامها، وكيف بدؤها ومستقرها، وبين
فيه أن الأصل في هذه الصلاة ما رواه الشيخان ومالك في موطئه وأبو داود في
سننه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يرغب في قيام رمضان
من غير أن يزمر بعزيمة.. قال ابن شهاب الزهري: فتوفي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر خلافة عمر.. ثم لما خرج
عمر يوماً إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي
بصلاته الرهط فقال عمر: (والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد
لكان أمثل) فجمعهم على أبي بن كعب، ولما رآهم يصلون بقارئهم قال: (نعمت
البدعة) ، ثم شرح المتون التي أوردها في هذا الباب ووجه الجمع بينها، موضحاً
فيها: هل الأفضل أن تصلى في البيوت أو في المساجد والجماعات، وعند القيام،
الفصل بين الترويحتين، وهل يؤمهم في المصحف والقنوت، خلص في ذلك إلى
أن هذه أحكام القيام مما روي في السنة ولم يرووا فيها بشيء مما أحدثه الناس من
هذه البدع من نصب المنابر عند ختم القرآن والقصص والدعاء وختم هذا الفصل
ببيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين، وبين أن سبيله الجهل
والأخذ عن العلماء الجهال لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:» إن الله لا
يقبض العلم انتزاعاً ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس
رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا «.
وقد صرف عمر هذا المعنى تصريفاً فقال: (ما خان أمين قط ولكنه أؤتمن
غير أمين فخان) قالا لطرطوشي: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من
ليس بعالم فضل وأضل، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال -
صلى الله عليه وسلم -:» قبل الساعة سنون خداعات يصدق فيهن الكاذب ويكذب
فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهم الرويبضة [وهو
التافه الخسيس] ينطق في أمور العامة «، وقال سفيان: (كانوا يتعوذون بالله من
شر فتنة العالم ومن شر فتنة العابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) .
4 - الباب الرابع: في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها، ومنها ما يلي:
1- القراءة بالألحان: وهو التطريب الذي ينقل القراءة إلى أوضاع لحون
الأغاني من مد المقصور، وقصر الممدود، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك..
لاقتفاء نغمات الأغاني المطربة.. فاشتقوا لها أسماء من شذر ونبر وتفريق وتعليق
وهز وخز ومزمر وزجر، فهذا مخرجه الأنف وهذا من الصدر وهذا من الشدق..
فهذا الألحان أحدثها في القرن الرابع رجال منهم (محمد بن سعيد) و (الكرماني)
و (الهيثم) وغيرهم ممن هم مهجورون عند العلماء.
2- ومنها القص في المساجد: لقصص الغابرين كبني إسرائيل، وغالبها لا
يصح، ولذا منع عمر بن الخطاب تميماً الداري عن القص في المسجد.
3- ثم عقد فصلاً عن آداب المساجد وما داخلها من البدع، ومنها الأكل في
المسجد وبناء السكن فوق المسجد والبصق به، والسؤال فيه وإنشاد الضالة ورفع
الصوت فيه.
4 - ما روي من فضائل الأعمال في منتصف شعبان، وبيان أنه لا يلتفت
إليه، وأورد قول ابن أبي مليكة رداً على ما قاله زياد البحترى: إن أجر هذه الليلة
كأجر ليلة القدر، قائلاً: لو سمعته وبيدي عصاً لضربته.
5- بيان عدم صحة صلاة الرغائب وأنها مبتدعة من قبل ابن أبي الحمراء
سنة 148 في بيت المقدس ولم يسمع بها قبله.
6-- تعظيم رجب بصوم أو عبادة: لا أساس له، بل الآثار ضده فعن أبي
بكر أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه
فقال: (أجعلتم رجباً كرمضان؟) ، وكره ابن عباس صيام رجب كله، وكان ابن
عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا فإنه شهر
تعظمه الجاهلية.
قال الطرطوشي: فهذه الآثار تدل على أن ما يعظمه الناس فيه إنما هي
نزعات من بقايا عهود الجاهلية.
وأنهى الكتاب بفصل في جوامع من البدع ومنها:
1 - دخول الحمام بغير مئزر مع أهل الكتاب.
2 - الإنذار للعرس والجنائز للمباهاة والفخر.
3 - البناء على القبور بالحجارة.
4 - التمسح بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
5 - إقامة المآتم للأموات والتصدي للعزاء.
6 - خروج النساء للمقابر واتباع الجنائز.
ثالثاً: تحقيق الكتاب:
1 - قام الأستاذ محمد الطالبي بتحقيق الكتاب على نسختين (نسخة مخطوطة
في أسبانيا محفوظة في المكتبة القومية، ومخطوطة في تونس بالمكتبة الأحمدية
بجامع الزيتونة) مع إيراد مختلف الروايات وأضاف أحياناً بين حاصرتين بعض
العناوين إيضاحاً وبالإضافة إلى المقارنة بين المخطوطتين عرف المحقق بعض
الأعلام والمواقع والكلمات، وأرجع الآيات إلى أماكنها في المصحف وبعض
الأحاديث إلى مصادرها، مع الرجوع إلى أقوال بعض المفسرين، وعند ذكر بعض
الفرق يحيل القارئ إلى الكتب المعرفة بها.
2 - عرف بإيجاز بالمؤلف وكتب تمهيداً عن التأليف في البدع موضحاً إنكار
السلف للبدع المحدثة، وتحرجهم في التأليف في ذمها والتحذير منها ما لم يكن
المؤلف ضابطاً عارفاً بما يقوم به ولئلا يكون ذلك سبباً في إظهار الجدل مما يؤدي
إلى ما يخاف عاقبته، وهذا هو موقف الإمام مالك من تلميذه (ابن فروخ) حينما
استأذنه في الرد على المبتدعة، ثم ظهرت المؤلفات في الرد على أهل البدع،
ومنها:
1 - (البدع والنهي عنها) لابن وضاح (197 - 286) .
2 - الرد على أهل البدع لابن سحنون (302 - 356) .
3 - الطرطوشي في كتابه هذا، ثم بين رأي العلماء في كتابه وثناءهم عليه
(كابن فرحون) و (أبو شامة) وابن الحاج، ثم بين المحقق محتويات الكتاب بإيجاز
وأسلوبه في النقل موضحاً أنه استفاد ممن سبقه ولم يذكر ذلك عنهم، ثم بين
(أسلوب المؤلف الجدلي) موضحاً أن كتابه هذا ليس موجهاً للعموم فحسب كي يقلعوا
عما هم فيه من منكرات الأمور، بل هو موجه أيضاً إلى الخصوص والمخالفين،
فهو كتاب إرشاد وتوجيه من ناحية، وكتاب جدل متحمس.. من ناحية أخرى،
ألفه مولع بمسائل الخلاف، عارف بالأساليب المنطقية، مناقش لكل رأي.. لا يدع
فرصة تمر إلا وأبرز تناقض المخالف ودحض حجة بحجة مردداً: فإن قال.. قلنا.
ثم يبين قيمة الكتاب قائلاً: إن الكتاب يتعدى قيمته التي ألف من أجلها إلى
وصفه المحيط الاجتماعي الذي قامت فيه هذه المآخذ ووصف للبيئة وأهلها بل لعدد
ممن أنكروها.. وهو كتاب متين الصلة بالشعب أي إنه شعبي في تبويبه،
واستطراده، وفي لهجته ومشاكله التي يريد لها حلاً، وإن الكتاب يهم المشتغل
بالتشريع الإسلامي كما يهم المؤرخ والباحث الاجتماعي ولا غنى لمن يؤرخ لحركة
الإصلاح الاجتماعي عنه، وختم الكتاب بعدة فهارس علمية هي:
1 - فهرس مراجع تحقيق النص.
2 - فهرس الأعلام.
3 - فهرس المصنفات الواردة في النص.
4 - فهرس المواضع والمواقع والفرق.
5 - فهرس الآيات وفهرس أخير للأحاديث.
رابعاً: ملاحظات وتصويبات على ما جاء في تمهيد المحقق:
1 - ما ذكره المحقق الأستاذ محمد الطالبي من عدم إشارة الطرطوشي في
كتابه هذا إلى البدع المستحسنة، والحقيقة أن العلماء المحققين لا يرون أن هناك
بدعاً مستحسنة مستدلين بقوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] الآية، وبقول
الرسول - صلى الله عليه وسلم -:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
«، مما جعل العلماء الأعلام يقولون بما يفهم من هذين الدليلين، فهذا الإمام مالك
يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) ،
وقال الإمام أحمد: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول -
صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة) ، والشافعي
يقول: (من استحسن فقد شرع) ، وعليه يتبين خطأ من جعل البدع على أحكام
الشريعة الخمسة ولم يجعلوها قسماً واحداً مذموماً، وقد ذهب لهذا الرأي الخاطئ
العراقي في (الفروق) عن شيخه العز بن عبد السلام، ولتعرف أخي القارئ رد هذا
الرأي انظر (الاعتصام) للشاطبي [3] ، و (البدع والنهي عنها) لابن وضاح [4] ،
وكذلك (البدعة وأثرها السيئ في الأمة) [5] لسليم الهلالي، وأيضاً (تحذير المسلمين
من الابتداع في الدين) [6] أحمد بن حجر القطري.
2 - إن أسلوب الطرطوشي في نقاشه ونضاله فيه تأثر بأسلوب المعتزلة،
وذلك في بيانه الحكم في التشريع وإن أقيسته فقهية، ولا يؤمن معها الزلل.
والحقيقة أنه من الخطأ أن يتصور كثير من الباحثين أن (أهل السنة وأعني
بهم أهل الحديث) لا يرون سبيل النقاش العقلي. وأن ذلك طريق أهل الكلام
فقط، وفي هذا تجن عليهم، فأسلوب فقهاء أهل السنة وعلمائهم لا يخلو من استدلالات عقلية فيما يكتبون ويرددون، لكنها أدلة وبراهين منطقية قائمة على تفسير القرآن والحديث، وهذا ما بينه باستفاضة واستدلال الدكتور مصطفى حلمي في كتابه القيم (منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) [7] ، وكذلك د/ زاهر الألمعي في كتابه (مناهج الجدل في القرآن) [8] .
3 - ما ذكره المحقق أنه لم يطلع على طبعة سابقة لهذا الكتاب في معرض
رده على محمد دهمان الذي ذكر أنه مطبوع في تحقيقه لكتاب البدع لابن وضاح،
وكون الأستاذ المحقق لم يعثر على ما يدل على أنه مطبوع من واقع رجوعه لبعض
المصادر لا يعني أنه غير مطبوع، فلقد رأيت طبعة قديمة لهذا الكتاب مطبوعة في
تونس وتحت نفقة أحد الأمراء السعوديين ممن لا يحضرني الآن ذكره.
4 - ما ذكره المحقق من أن كتاب الطرطوشي هذا تتجلى فيه فلسفة خاصة
تكشف عن بعض سر الماضي والحاضر، فلسفة عمادها خلط الزمني بالروحي،
وضع الأمور كلها على بساط واحد، وهذا عجيب جداً من حضرة المحقق ومتى
كان علماء الإسلام يفرقون بين الزمان والروح أو بمعنى أوضح بين الدين
والسياسة؟ إنها شطحة غريبة جداً لا سيما في عصر تبين فيه سخف هذه
المقالة المنقولة عن النصرانية التي تفرق بين الدين والسياسة، أما الإسلام فهو دين ودولة ولمزيد الضوء يرجع إلى (مؤامرة فصل الدين عن الدولة) للأستاذ محمد حبيب كاظم أو (فصل الدين عن الدولة ضلالة مستوردة) للأستاذ يوسف العظم، وقد طبعت ضمن كتاب (المنهزمون) .
5 - زعم المحقق أن حرص بعض العلماء على القتداء بالسلف ووزن كل
شيء في الحياة بميزان الإيمان والتقوى يمنع من التطور! والحقيقة أن هذه
التصورات غريبة جداً على كل مسلم يعرف دينه حق المعرفة ولا توجد هذه الأفكار
إلا لدى العلمانيين الذي يحكمون على الإسلام حكمهم على الدين المسيحي المعروف
بكهنوته ورهبانيته، ولا شك أن الحرص على القيم الروحية الخالدة في الإسلام
هدف سامٍ، لكن تصور اتباع السلف بهذا التصور يحتاج إلى تصحيح ومعرفة
للإسلام من جديد، ولبيان ذلك ودحض الشبه العلمانية في هذا الباب أنصح بالرجوع
إلى الرسالة العلمية القيمة للأستاذ / سفر الحوالي وهي بعنوان: (العلمانية نشأتها
وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة) .
والخلاصة أن هذا الكتاب قيم جداً في بابه، ولكن أفكار المحقق هداه الله كما
وضحت تحتم أن تعاد طباعة الكتاب بتحقيق أكثر استيفاء بالمؤلف في التعريف به
وبمؤلفاته وبتخريج الأحاديث والآثار تخريجاً علمياً على ضوء المصادر المعتمدة في
علم الجرح والتعديل، وبيان الحكم الشرعي لبعض البدع باستفاضة وتوضيح، مع
مدخل في التعريف بالبدع والمبتدعة ونهج من ألف فيها، خاصة وأن هذا الكتاب
نادر جداً.
__________
(1) بتصرف من كتاب (أبو بكر الطرطوشي) د/جمال الدين الشيال، سلسلة أعلام العرب، العدد 74.
(2) الحوادث والبدع للطرطوشي من منشورات كتابة الدولة للتربية بتونس، وطبع في المطبعة الرسمية عام 1959م.
(3) الاعتصام للشاطبي، نشر دار المعرفة ببيروت، تحقيق محمد رشيد رضا، وقد نال الأستاذ / عمر الكحل رسالة الماجستير من (أصول الدين بجامعة الإمام) في تخريج أحاديث وآثار الاعتصام للشاطبي.
(4) البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، تحقيق / محمد أحمد دهمان، نشر دار البصائر بدمشق 1400 هـ.
(5) (البدعة وأثرها السي في الأمة) للأستاذ سليم الهلالي، نشر المكتبة الإسلامية بعمان، الأردن ط: 1400هـ.
(6) تحذير المسلمين من الابتداع في الدين، لأحمد بن حجر القطري.
(7) (نهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) د/ مصطفى حلمي، نشر دار الدعوة بالإسكندرية 1982م.
(8) (نهج الجدل في القرآن الكريم) د/ زاهر عوض الألمعي، مطبعة الفرزدق بالرياض، وهو رسالة نال بها درجة دكتوراة من الأزهر.(1/37)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
رسالة مفتوحة إلى المجاهدين الأفغان
التحرير
أولاً - إن تنصروا الله ينصركم.
ثانياً - ولا تنازعوا فتفشلوا. ...
ثالثاً - قد خلت من قبلكم سنن. ...
رابعاً - الاستقلالية وحرية اتخاذ القرار. ...
خامساً - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا. ...
سادساً - الكرامة وليس الخرافة. ...
سابعاً - الخاتمة.
أيها الأخوة الأحبة:
نحمد الله إليكم جلت قدرته الذي من علينا بنعمة الإسلام، وجعلنا كالجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، ونصلي
ونسلم على خير خلقه محد بن عبد الله.. ونحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأله تعالى أن يرزقكم النصر على عدوكم ويردكم إلى دياركم ويختم بالصالحات أعمالنا وأعمالكم، وبعد:
عن أنس - رضي الله عنه -: «أن رجلاً كان عند النبي -صلى الله عليه
وسلم- فمر رجل فقال: يا رسول الله، إني لأحبُّ هذا، فقال له النبي - صلى الله
عليه وسلم -: أأعْلَمته؟ ! قال: لا، قال: أعلمه، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له» [1] .
واستجابة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقول:
نحن المسلمين العرب نحبكم في الله:
- نحب فيكم - ومنذ القديم - الشجاعة والبطولة، وقد حدثنا التاريخ كيف
قهرتم (جنكيز خان) وما أدراك من جنكيز خان؟ ! !
جنكيز خان الذي اجتاحت العالم جيوشه، وقهر الممالك، وأذعن له الجبابرة.. لقد انتصر عليه أجدادكم جنود الإسلام الأشاوس. وأسقوه كؤوس الذل والمهانة.
وحدثنا التاريخ الحديث عن جهاد آبائكم ضد الاستعمار البريطاني الذي جثم
على أرضكم طيلة (44) عاماً واستخدم المستعمرون مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة،
وأشرس أساليب العنف والإرهاب، وظنوا أنهم باقون بقاء الدهر.. ولكن جهاد
آبائكم في سبيل الله أرغم بريطانيا - التي كانت تسمى بريطانيا العظمى - على
الخروج من بلدكم وهي تجر أذيال الهزيمة والفشل.
- ونحب فيكم الإيمان الذي لا يخبو لهيبه، والزهد الذي يتجلى بأروع معانيه.. ونذكر جيداً أن بلادكم وقفت وقفة جبارة ضد الفساد والانحلال، وكانت حصونكم
آخر الحصون التي اجتاحها أعداء الإسلام.. ورغم ذلك فلم تنقطع مقاومتكم، ولم
يستسلم أبطالكم، وبقيت آثار الغزو الاستعماري في حدود العاصمة ولا تكاد
تتجاوزها.
- ونحب فيكم الفطرة الطيبة والبساطة في كل شيء: البساطة في الملبس
والمطعم، البساطة في المسكن والمشرب.. ونحب فيكم العزائم القوية والإرادة
الصلبة.
أجل إن شدة محبتنا لكم ليست سراً من الأسرار.. وإن نسيت لا أنسى أن أحد
الباطنيين الحاقدين قَدَّم نفسه على أنه أفغاني عندما وطأت قدماه أرض العرب لأنه
كان يعرف مدى محبة العرب للأفغان، ولهذا قد استُقبِل أحسن استقبال، والتف
حوله المثقفون وطلاب العلم، وفتحت أمامه أبواب كبار المسؤولين، وما كان يشعر
طوال إقامته بأنه غريب عن وطنه وعشيرته لا بل لقد نجح في تحقيق مكاسب لم
يستطع أن يحقق شيئاً منها في بلده.. ولو علم العرب موطنه الحقيقي لما استطاع
أن يبيض ويفرخ في بلادنا [2] .
أيها الأخوة الأحبة: إن الحديث عن تاريخكم عذب جميل.. كما أن الحديث
عن جهادكم ضد الغزاة الشيوعيين أكثر عذوبة وجمالاً فجزاكم الله كل خير، وثبتنا
وإياكم على الحق وجنبكم كيد الكائدين، مؤامرات المارقين.
إن تسابقكم على الموت في سبيل الله هز المشاعر التي تبلدت، وبعث الأمل
في النفوس التي كاد يسيطر عليها اليأس.
لقد عمرتم نفوسنا فرحاً ببطولاتكم التي تحدث عنها العالم أجمع عبر وسائل
إعلامه، وملأتم قلوبنا إيماناً بوعد الله لنا بالنصر والتمكين، وذكرتمونا بجهاد
رجال خير القرون ومن نحا نحوهم وسار على نهجهم.
أيها المجاهدون الأفاضل:
انطلاقاً من حرصنا على استمرار مسيرة الجهاد، والتزاماً بقوله صلى الله
عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلنا: لمَن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم» [3] .
وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» [4] .
ولأننا عشنا معكم منذ بداية محنتكم في آلامكم وآمالكم، ونخشى أن نسكت عن
حق نراه فتحل بنا عقوبة من الله سبحانه وتعالى.
لهذه الأسباب مجتمعة أحببنا أن نتقدم إليكم بهذه النصائح راجين أن تدرس
بعناية وروية، وسنحاول الإيجاز قدر الاستطاعة لأن أوقاتكم ثمينة، وفي الإشارة
ما يغني عن الكلم، وما كل ما يعلم يقال.
أولاً - إن تنصروا الله ينصركم:
قال سبحانه وتعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [5] .
وقال جل من قائل:
[ومَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] [6] .
[ومَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [7] .
فالنصر لا يتحقق بكثرة العدد، ولا بشجاعة الجند.. وإنما النصر من الله
وحده لا شريك له، ويمنُّ به على عباده المؤمنين إذا توفر في أعمالهم الشرطان
التاليان:
1 - أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، ليس فيها رياء ولا شرك.
2 - أن يكون بما شرع الله تعالى، قال تعالى:
[فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] [8] . ...
وعن أمير المؤمنين أبي حفص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة
ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» [9] .
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - قال: سئل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل
رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [10] .
بل وأول من تسعر بهم نار جهنم مجاهد مات في ساحة المعركة، وكان يحب
أن يذكر اسمه بعد موته مع أنه جاهد في سبيل الله.
ومن المعوقات في طريق النصر:
- أن لا يكون العمل با شرع الله وثبت بما صح من سنة المصطفى - صلى
الله عليه وسلم -.. فحذار يا أخوة من البدع والخرافة وتعظيم الرجال، والتعصب
المذهبي الذميم.
- أن لا تكون النية خالصة لوجه الله ومن ذلك:
استصغار شأن الآخرين، واتهامهم بما هم منه برآء، وحب الرئاسة والزعامة، والمبالغة فيما يذكر القائد عن عدد جنده وعدد العمليات والغنائم التي غنمها من
العدو.
ثانياً - ولا تنازعوا فتفشلوا:
هناك خلافات وصراعات بين المجاهدين الأفغان! ! هذه حقيقة لا ريب فيها،
ويعرفها أعداء الإسلام من الأمريكان، والسوفيات، وأجهزة المخابرات الغربية،
وتتحدث عنها الصحف والإذاعات شرقية كانت أو غربية.
ورغم ذلك فبعض الناس من الأفغان والعرب ينكرون أن تكون هناك خلافات
وإذا واجهتهم بالحقائق قالوا:
إن الحديث عن هذه الخلافات يترك اثاراً سلبية، ويقلل من أهمية المجاهدين
فلنتحدث عن الإيجابيات وحدها.
وبعض الناي يحاولون إيهام الآخرين بأن المجاهدين جميعاً يلتقون حول فلان
أو فلان، وهناك حفنة من المشاغبين خرجوا على الإجماع، وراحوا يصطادون في
الماء العكر، وعلى كل حال فأمر هؤلاء المشاغبين مكشوف عند الأفغان، وهم
أعداء للجهاد ودمى تحركها جهات أجنبية مشبوهة! !
وهناك أسئلة تفرض نفسها بإلحاح:
أليست هذه الردود من بعض الناس دليلاً أكيداً على وجود الخلافات؟ !
- لماذا الحرص على أن يكون الشباب الدعاة وحدهم غير عالمين بما يدور
حولهم؟ !
- وماذا لو زار هؤلاء الشباب مدينة (بيشاور) وشاهدوا بأعينهم وسمعوا
بآذانهم حقيقة هذه الخلافات؟ !
- لماذا لا نستفيد من تجارب إخواننا في بلاد أخرى، لقد كانوا يخبرون
شبابهم بأمور مغلوطة ويقولون لهم: إننا من النصر قاب قوسين أو أدنى ...
واستيقظ الشباب بعد خراب البصرة - كما يقولون - فوجدوا أنفسهم في موقف
محزن جداً وما عادوا يثقون بقيادتهم ولا بغيرها وبعضهم ارتد عن الإسلام من هول
الصدمة؟ !
وإذا كان أعداؤنا يضخمون هذه الخلافات، ويرون استحالة وحدة الصف
ورأب الصدع، ويفسرون الأمور تفسيراً ليس فيه حياد ولا موضوعية ... إذا كان
هذا حال أعدائنا فنحن نعتقد أن الأصل وحدة الصف، والاختلاف حالة شاذة،
ويجب أن لا تستمر، ونملك الجرأة التي تمكننا من مواجهة مشكلاتنا بكل صراحة
ووضوح.
ومن هذا المنطلق فإننا نذكر إخواننا المجاهدين بالحقائق التالية:
1 - لقد هب المسلمون الأفغان الذين لم تلوثهم الأفكار والمبادئ الشيوعية منذ
عام 1979م يدافعون عن دينهم وأعراضهم ضد البلاشفة الذين أهلكوا الحرث
والنسل وعاثوا في الأرض فساداً.. فكانت معركتهم:
معركة الإسلام ضد الجاهلية.
معركة الإسلام ضد الكفر.
معركة الإسلام ضد الباطل.
إنها معركة المسلمين جميعاً وليست معركة جماعة من الجماعات أو هيئة من
الهيئات.
2 - المسلمون العرب الذين يلتزمون بالإسلام سلوكاً وعقيدة وعبادة ومنهج
حياة.. هؤلاء على مختلف اتجاهاتهم وميولهم وجماعاتهم وقفوا مع المجاهدين
الأفغان في خندق واحد وحتى الدخلاء منهم جادوا بأموالهم.. ولا يجوز لجماعة من
الجماعات أو حزب من الأحزاب أن يزعموا بأنهم وحدهم الذين أيدوا المجاهدين
الأفغان أو أن المجاهدين جميعاً من المنتمين إليهم.
لا يجوز استغلال المساعدات التي تقدم للمجاهدين من أجل المتاجرة بشعارات
حزبية، كما أنه لا يجوز نقل صراعات هذه الجماعات إلى مخيمات الأفغان البائسة، وإقامة أحلاف ومحاور مع جماعات هناك.. وعلينا جميعاً أن نسعى لإصلاح ذات
البيت ورأب الصدع.
يستحيل اجتماع كلمة المجاهدين على حزب من الأحزاب أو جماعة من
الجماعات، وقد بذلوا محاولات من هذا القبيل ففشلوا لكنهم يؤكدون بأنهم يسيرون
على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة -
رضوان الله عليهم - ومن تبعهم من رجال خير القرون - أي منهج أهل السنة
والجماعة -.. وقد التقينا بمعظم قادة المجاهدين فقالوا لنا: إنهم يلتزمون منهج
أهل السنة والجماعة، ولا يؤمنون بالبدع والخرافات.. فلماذا لا تترجم هذه
القناعات إلى واقع عملي، ولماذا نتجاهل الأصول ونحاول عبثاً جمع الناس وتوحيد
كلمتهم على الفروع؟ !
4 - نذكر أنفسنا وإخواننا المجاهدين بوجوب الصدق في القول والعمل إذا
كان لا بد من اختلاف وجهات النظر، وعلينا أن نحذف من ألفاظنا: هذا عميل،
وذاك يتاجر بالجهاد.. لا سيما إذا كانت هذه الاتهامات توجه لأبرز قادة المجاهدين
الذين لا يكفرون أحداً من المسلمين ونعرف بأنهم ليسوا عملاء! ! .
5 - كان لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - موقف رائع في حرب التتار، فعندما طلب قائد التتار (قازان) وفداً من كبار علماء المسلمين، ذهب شيخ الإسلام
مع خصومه من المبتدعين الذين ذاق منهم الويلات وكذلك كان موقفه في معركة
(شقحب) ، أما الباطنيون فكان له معهم موقف آخر، لقد حاربهم بعد انتصاره على
التتار.
هذا - يا أيها الإخوة - وقت استنفار جميع الطاقات الإسلامية، وليس وقت
تفجير الخلافات وإثارة النعرات.
أيها الأخوة المجاهدون:
اعلموا أن إثارة الفرقة بين الدعاة إلى الله جلَّ وعلا أشد سلاح يستخدمه
أعداء الإسلام خطراً، وأشد الضربات التي يسددها العدو تلك الضربات الداخلية
التي تجعل الصف الواحد عدة صفوف متخاصمة متحاربة.
قال تعالى:
[إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [11] .
وقال جلَّ من قائل:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ] [12] .
إن عدونا يرقص طرباً ويتيه غروراً بسبب هذه الخلافات، ويحاول بذل كافة
طاقاته من أجل ديمومتها واستمرارها.
انزعوا من عقولكم - يا إخوة الإسلام - الأفكار الشاذة التي يزعم دعاتها بأنه
لا بد من القضاء على الجماعات كلها لأنها منحرفة وتوحيد الناس من خلال
جماعتهم التي يظنون أنها جماعة المسلمين.
حذار يا إخوة من الغرور، وتقديس الذات، وإعجاب كل ذي رأي برأيه،
واعلموا بأنكم لن تنتصروا بتصفيق المصفقين، وقوة إعلام المتحالفين من غير
الأفغان، فهذه التحالفات ليست ثابتة لأنها لا تقوم على أساس متين، وقد تبدلت
مرات ومرات في السنوات الماضية.
التزموا منهج أهل السنة والجماعة وأخلصوا النية لله وحده، ووحدوا صفوفكم
بنصركم الله على عدوكم:
[إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] .
ثالثاً - قد خلت من قبلكم سنن:
قال تعالى:
[قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
المُكَذِّبِينَ] [13] .
وقال سيد قطب - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
(والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى
الأصول التي تجري وفقها الأمور فهم ليسوا بدعاً في الحياة، فالنواميس التي تحكم
الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس،
فإذا هم درسوها وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت
لهم الأهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى
وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان
في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر
والتمكين، بدون الأخذ بأسباب النصر وفي أولها طاعة الله وطاعة
الرسول) . اهـ[14] .
لستم - يا إخوة الإسلام - بدعاً في هذه الحياة، وتاريخ أنبياء اله ومن سار
على نهجهم من الدعاة والمصلحين على مختلف الأجيال والأزمان ملك لنا جميعاً
ومن أوجب الواجبات علينا دراسة هذا التاريخ لنتعلم منه كيف نربط الحاضر
بالماضي، وكيف نضع الحلول الناجعة للمشكلات التي تواجهنا، والذين لا يدرسون
هذا التاريخ من المغفلين والسطحيين والمتسرعين ليسوا أهلاً لقيادة العمل الإسلامي.
ومن هؤلاء المكذبين الذين نحذر إخواننا المجاهدين من شرورهم ومكائدهم:
1 - المنافقون:
وهل بين المجاهدين منافقون؟ !
وجوابنا على ذلك: نعم، بين المجاهدين الأفغان منافقون.. وأمثال هؤلاء
المنافقين كانوا يخرجون في جيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في
أحد وتبوك.
س: ولكن نخشى أن يكون هذا القول اتهام من طرف ضد طرف آخر؟ !
ج: قلنا فيما مضى: لسنا مع طرف أو جماعة من جماعات المجاهدين وإنما
نحن مع المجاهدين جميعاً، ونكره ونحذر من الخوض في خلافاتهم إلا لمن أراد
الإصلاح.. ومع ذلك فالمجاهدون وأصدقائهم يعرفون أن هناك منافقين بين الأفغان، وقد باتوا يشكلون خطراً على مسيرة الجهاد.
س: هل نفاقهم اعتقادي أم عملي؟!
ج: هؤلاء مسلمون يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، وأكثر من
ذلك فهم يشاركون في الجهاد، ومع ذلك فقادتهم يوالون أعداء الله من الأمريكان
وغيرهم، ويناصبون الدعاة الصادقين العداء، ويقولون ما لا يفعلون ويحسبون كل
صيحة عليهم، ويعشقون البدع والخرافة.. هذه هي أحوالهم ولا نستطيع تعميم حكم
عليهم، لأن مشكلتهم تختلف من فرد لآخر.
أيها الأخوة المجاهدون:
لقد كثر الكلام عن هؤلاء المنافقين، ونسمع أن أعداء الله من الأمريكان ومن
نحا نحوهم يعلقون عليهم آمالاً عريضة، ويغدقون عليهم الأموال والهبات، ونسمع
أن خطرهم يزداد، وإذا ما اتفق الأمريكان والسوفيات على حل فسوف يستعينون
بهؤلاء العملاء.. فماذا أعددتم لهذا اليوم العصيب؟ !
تعلموا يا أخوة هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع المنافقين ومن ذلك
أنه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يختار منهم قادة لسراياه، ولا كان يبوح لهم بسر
من أسراره، وفوق هذا وذاك كان يعرفهم ويعرف مكائدهم.
ولا نظن أن أوضاعكم كذلك.. فتداركوا أمركم قبل فوات الأوان واعلموا أن
أشد المؤامرات التي ابتلينا بها مؤامرات المنافقين لأنها تفتت الصف الواحد،
وتبعثر الطاقات واقرأوا في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم- صفات المنافقين وأساليبهم في مواجهة الدعاة إلى الله.
2 - الباطنيون:
لا تنتظروا خيراً أو تعلقوا آمالاً على جند عبد الله بن سبأ اليهودي، إنهم
عون للطغاة المتجبرين، وعيون للغزاة المستعمرين.
قلبوا صفحات من تاريخهم الأسود ترون فيه العجب العجاب من موالاة أعداء
الله من التتار واليهود والصليبيين وعداوتهم لأولياء الله بدءاً بأم المؤمنين عائشة -
رضي الله عنها -، ومروراً بالشيخين - أبي بكر وعمر - وانتهاءً بسائر الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين -.
اسألوا إخوانكم الذين اكتووا بنيرانهم وشرورهم في بعض بلدان العالم
الإسلامي، ولا تصدقوا أقوالهم ووعودهم فمن صفاتهم الغدر والكذب ولن يتورع
هؤلاء الباطنيون عن التعاون مع الشيوعيين، كما أنهم لن يقصروا في استغلال
ظروف إخوانكم وبذل المحاولات من أجل زعزعة إيمانهم تشكيكهم بأصول دينهم.
رابعاً - الاستقلالية وحرية اتخاذ القرار:
- نحن نفهم جيداً الأسباب التي دعت المجاهدين خاصة، والأفغان عامة إلى
الالتجاء إلى بلد مجاور لبلدهم.
- ونفهم جيداً الأسباب التي دعت إلى وجود مخيمات للذين فروا بدينهم من
الفقراء والمعدمين، ومستشفيات ومستوصفات للجرحى والمشوهين من ضحايا
قصف البلاشفة الشيوعيين.
- ونفهم كذلك أن يقول قادة المجاهدين: ولماذا لا نستفيد من هذا الواقع الذي
فرض نفسه محلياً وعالمياً؟ ! ! .
نعم، نحن نفهم كل ما سبق ذكره، لكننا لم نستطع أن نفهم - ومن بداية
الجهاد -:
لماذا اتخذ المجاهدون الذين نثق بهم من هذا البلد أو ذاك مركزاً لانطلاقتهم،
وكنا نستغرب منهم هذا الموقف لأسباب كثيرة من أشهرها ما يلي:
1 - أنشأوا مراكز قياداتهم وسائر مؤسساتهم على أرض لا يملكونها وإنما
يملكها نظام يرى خلاف ما يرون.
وعندما يبرم الإرهابي المجرم (رونالد ريغان) الصفقة مع السوفيات سوف
يجد المجاهدون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: الاستسلام الذي يسمونه: السلام،
ولن يكون فيه خير للإسلام والمسلمين، أو الخروج من الأرض التي أقاموا فيها
دولة ظل لهم سيكون إخراجهم أو إخراج المتطرفين [15] فيهم خلال أيام وسوف
يجد المجاهدون أنفسهم محاطين بجيش لا قبل لهم به، وسوف تتغير الوجوه،
وتتبدل المواقف، وتغلق الأبواب التي كانت تفتح على مصاريعها عند قدوم زيد
وعمرو من قادة المجاهدين.
2 - بدأوا أنشطتهم بأموال كانوا يتلقونها من المحسنين المسلمين وغيرهم، ثم
راحوا يطورون مؤسساتهم ومكاتبهم بشكل يتناسب مع وفرة هذه الأموال، وأصبحنا
نسمع أن هذه الجماعة تملك جيشاً يربو عدد جنوده على مائة ألف، والثانية أكثر
عدداً والثالثة أقل قليلاً لكنها تملك مؤسسات توحي لمن يسمع أسماءها وكأن
المجاهدين لن يغادروا المنطقة التي التجأوا إليها.
ترى هل يفكر إخواننا المجاهدون بأن هذه الموال سوف تحجب عنهم؟ !
هل فكروا - غفر الله لهم - بمرتبات هذه الجيوش الجرارة، وهذه المؤسسات
التي لا يحصى عددها؟ ! .
وحتى الأموال التي يدفعها المحسنون سوف تتضاءل كثيراً، ويقل نفعها
بسبب تعدد الجماعات، لا سيما ونحن نرى أن كل جماعة تحالفت مع جماعة أخرى
في البلاد العربية وغيرها، وفوق هذا وذاك فهناك محسنون يكثرون في ظروف
معينة، ويفتقدون عندما تتغير هذه الظروف! !
3 - إذا كانت الأرقام التي تذكرونها عن عدد قواتكم دقيقة فهي تزيد على
نصف مليون مجاهد، ومثل هذا الرقم تعجز عن تمويله دولة كبرى، فكيف بمن لا
يملكون دولة ولا موارد اقتصادية ذاتية يعتمدون عليها.
ومن جهة أخرى فحربكم مع القوات الشيوعية حرب عصابات، ومن بدهيات
هذه الحرب:
الحذر الشديد من العملاء داخل الصف، والسرية في التحرك، والدقة في
مباغتة العدو، والاستقلالية التامة في اتخاذ القرار.
ولا تحتاج حرب العصابات إلى نصف مليون جندي، ولا إلى نصف هذا
العدد أو ربعه، ورنما يكفي في بلد كأفغانستان عشرون ألف مجاهد وكحد أعلى
ضعف هذا العدد.
ولن يعجز المحسنون المخلصون في العالم الإسلامي عن تمويل مثل هذا العدد.
ولن يستطيع أعداء الله الحيلولة بينكم وبين إخوانكم في جميع بلدان العالمي
الإسلامي، ومن ذا الذي يستطيع قهركم في جبالكم ووديانكم التي سوف تتحول بإذن
الله إلى نيران متأججة يحترق في لهيبها الشيوعيون وغيرهم من أعداء الله.
هؤلاء المقاتلون (إذا كان تدريبهم جيداً، وكانوا يتبعون قيادة واحدة) سوف
تتحدث عنهم أسلحتهم وعملياتهم الناجحة، ولا يحتاجون إلى تأييد الأمم المتحدة، أو
إلى فتح مكاتب في عواصم بلدان العالم.. وها هي الأمم المتحدة تتخذ القرار تلو
القرار ضد الاعتداءات الإسرائيلية فهل تراجع نظام العدو الصهيوني عن اعتداءاته؟
وسوف يفجر هؤلاء المجاهدون ببطولاتهم ثورة إسلامية في تركستان والقوقاز
وبخارى وسمرقند وأول الغيث قطرة، ولا يزال الخير في أمة محمد -صلى الله
عليه وسلم- حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
4 - اعتبروا - يا إخوة الإسلام - بأخطاء غيركم - والعاقل من اتعظ بغيره وآخر هذه الدروس ما حدث لمنظمة التحرير الفلسطينية - لقد بدأت منظمة
فتح عملياتها داخل الأرض المحتلة في أواسط الستينيات، وكانت إمكاناتها
متواضعة، ومع ذلك كانت عملياتها ناجحة.. ثم قامت منظمة التحرير الفلسطينية،
وبعد هزيمة حزيران 1967 تعددت المنظمات التي كانت فلسطينية في ظاهرها
حزبية في حقيقتها، وأُغدقت الأموال على منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت
ميزانيتها أقوى من ميزانية حكومة من الحكومات وصار للمنظمة مكاتب في معظم
العواصم العالمية بعد أن اعترفت بها معظم بلدان العالم، أما زعيم المنظمة فأصبح
بمثابة رئيس دولة، وصار له سفراء ومساعدون ومستشارون.. وبعد حين من
الزمن التفت قادة المنظمة فوجدوا أنفسهم يقفون على أرض لا يملكونها، وقد
أخرجوا منها غير مرة كما أنهم وجدوا أنفسهم يتحركون بأموال تأتيهم من هنا وهناك، وقد تمنع عنهم في أي وقت منا لأوقات، وقد بدأ هذا المنع فعلاً.
وأخيراً جاءت الضربة القاتلة، ولم تكن هذه المرة من إسرائيل أو من
الولايات المتحدة الأمريكية، أو من الرجعية، ولكنها جاءت من رفاق السلاح الذي
حركتهم جهات رسمية تقدمية اشتراكية بمباركة السوفيات.
وأخيراً ارتفعت أصوات معظم قادة المنظمة يطالبون منظمتهم العودة إلى
مرحلة البداية، والتحرر من دبلوماسية المكاتب والحلول السياسية، ولكن هذه
الأصوات جاءت بعد فوات الأوان فأصبحت كصيحة في واد أو كنفخة في رماد،
وأصحاب هذه الأصوات لم يعودوا يصلحون لمرحلة البداية بعد أن سلطت عليهم
الأضواء.
خامساً - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا:
يتباكى إعلام الدول الغربية، والولايات المتحدة الأميركية على الأفغان،
ويطالب قادة هذه الدول بوجوب خروج القوات السوفياتية من أفغانستان وضرورة
عودة اللاجئين إلى ديارهم.
أما السوفيات فيزعمون أن هناك مؤامرة، وأنهم كانوا مضطرين لاتخاذ هذا
الموقف العسكري، وهم حريصون على الوصول إلى حل للمشكلة الأفغانية؟ ! ،
فما مدى هذه الدعاءات من الصحة، ولماذا يجعجع الأمريكان وينادون بتحرير
أفغانستان؟ !
لنعلم حقيقة الدور الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان،
يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الثوابت التالية في السياسة الأميركية:
1 - ورثت الولايات المتحدة عن بريطانيا وفرنسا سياسة تفتيت العالم
الإسلامي إلى دويلات عرقية وطائفية صغيرة ومتناحرة.. وأقرب مثال على ذلك
اليمن الجنوبي في أواخر الستينات فعندما لم تجد فيه بريطانيا طوائف ولا قوميات
سلمته لحفنة متواطئة من الشيوعيين.
2 - لليهود دور مهم في صنع القرار الصادر عن الإدارة الأميركية سواء كان
هذا القرار صادراً عن إدارة البيت الأبيض أو وكالة المخابرات الأميركية أو
(الكونغرس) ، بل وما من رئيس من رؤساء الولايات المتحدة إلا ولليهود فضل
عليه.. وماذا ينتظر المسلمون من دولة يوجهها اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه؟ !
3 - يؤكد القادة الأمريكان بأنهم ضد التطرف الديني، ويعقدون المؤتمرات
ويحيكون المؤامرات من أجل مكافحة التطرف الديني ويصرحون بأنهم لن يمكنوا
هؤلاء المتطرفين من السيطرة على مقاليد الحكم في أي بلد من البلاد.
ومما لا شك فيه أن الأمريكان لا يحاربون المتدينين اليهود أو النصارى بل
على العكس من ذلك يستفيدون منهم في مقاومة التغلغل الشيوعي.. وكل الذي
يقصدونه بقولهم: (التطرف الديني) هو الدعاة المسلمون الذين يجاهدون من أجل أن
يكون الدين كله لله.. وإذن فالأمريكان ضد جهادكم.
4 - ليس في قاموس السياسة الأميركية شيء اسمه إنسانية، أو شفقة، أو
رحمة، أو خدمات بالمجان.
فعندما يقدمون المساعدات لجهة من الجهات فهذا يعني أن مصالحهم فرضت
عليهم اتخاذ مثل هذا الموقف.. ومصالحهم هنا تقتضي أن تكون أفغانستان مستعمرة
أميركية..
وبعد أن ينسحب الشيوعيون منها ويكون لهم الأمر فيها، سوف يستردون من
مواردها الاقتصادية أضعاف ما قدموه من مساعدات أو يبرمون صفقة مع الاتحاد
السوفياتي وفق سياسة الاتفاق على اقتسام مناطق النفوذ في العالم.
وعلى أي حال فالولايات المتحدة الأميركية ليست مستعدة للدخول في حرب
نووية مع الاتحاد السوفياتي من أجل أفغانستان.
أيها الأخوة المجاهدون: احذروا أشد الحذر من كيد الأمريكان ومكرهم،
واذكروا جرائمهم في فلسطين ولبنان ومصر وباكستان وغيرها وغيرها من بلدان
العالم الإسلامي.
إنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا تعرف الرحمة ولا النخوة والمروءة
سبيلاً إلى قلوبهم.
ومن أهم مخططات الأمريكان تفريغ الحركات الجهادية الإسلامية من
مضمونها الجاد، ولهم تجارب كثيرة ليس هذا موضع الحديث عنها.
إننا نعلم أن بعض قادتكم على علم بمخططات الأمريكان وأهدافهم، ويتابع
هؤلاء القادة بقلق المفاوضات التي تجري بين الأمريكان والسوفيات بشأن أفغانستان، ولكن المشكلة الأكثر خطورة تتجلى في دور المنافقين - أو إن شئتم فقولوا
(الطابور الخامس) في صفوفكم - وهؤلاء الذين يعتمد عليهم الأمريكان كما
يعتمدون على غيرهم ممن قبلتم - غفر الله لنا ولكم - أن يكون لهم دور وأثر فعال
على مسيرتكم.
لقد بدأت الهمسات تتحول إلى صيحات تنذر بالخطر، وبدأ المنافقون يمهدون
لدورهم المرتقب بقولهم:
من الخير لنا أن نعود إلى ديارنا وأرضنا، ومن هناك سوف نستأنف الجهاد
ضد الغزاة الشيوعيين.. ولو أرادوا الجهاد لأعدوا له عدته، ولكنهم أصحاب أهواء
ومصالح، بينهم من يعرف الحكم فيمن يوالون أعداء الله من الأمريكان والأفغان
وغيرهم.
أيها الإخوة المجاهدون: إنكم تعيشون ظروفاً عصيبة، فلا ينفعكم الصمت في
هذه المرحلة الحرجة ولا تفوتنكم فرصة جمع صفوف المخلصين الذين يرفضون
الاستسلام والهوان.
وإذا كانت هذه هي أحوال الأمريكان ومواقفهم في القديم والحديث فالبلاشفة
أكثر منهم إجراماً، وأشد كيداً وأطول باعاً.. سلوا إخوانكم في تركستان، وألبانيا،
ويوغسلافيا، وبلغاريا، واليمن الجنوبي، والعراق عام 1959م ماذا فعلوا بهم؟ !
لقد قتلوا الدعاة العلماء شر قتلة، وحولوا المساجد والمدارس الإسلامية إلى
مسارح واصطبلات ودور للسينما، وجمعوا نسخ القرآن وكتب الحديث، وأمهات
كتب التاريخ والفقه والتفسير وأضرموا فيها النيران، وهتكوا أعراض المسلمين،
واستخدموا أبشع أنواع التعذيب.. كانوا يدقون مسامير طويلة في الرأس حتى تصل
إلى المخ، كما كانوا يمشطون جسم المسجون بأمشاط حديدية حادة، ويصبون
البترول على الأحياء يم يشعلون فيهم النيران [16] .
ولم يدخل السوفيات أفغانستان ليخرجوا منها، ولذلك أسباب من أهمها: سعي
الشيوعيين الحثيث من أجل السيطرة على جميع بلدان العالم وتحقيق أحلام كارل
ماركس، وستالين، ولينين، ومن جهة أخرى فأفغانستان مجاورة ويخشون من قيام
نظام إسلامي فيها، وآثار هذا النظام سوف تنعكس على أحوال المسلمين
المضطهدين في الاتحاد السوفياتي، وسوف يكون هذا الحدث بمثابة إعصار يعصف
بالشيوعية والشيوعيين.. وقد بدأت أجهزة الإعلام العالمية منذ فترة تتحدث عن
تحرك المسلمين في تركستان حيث عجز أعداء الله خلال بضعة عقود عن اجتثاث
جذور الإيمان من قلوب المسلمين في هذا البلد الطيب المعطاء.
إن السيطرة على أفغانستان قضية حياة أو موت عند البلاشفة، وسوف
يستخدمون كافة الأسلحة التي يملكونها من أجل أن لا يسيطر المجاهدون على كابل
ويسقطون النظام الشيوعي الدخيل.. أما مفاوضات (جنيف) فليست أكثر من ذر
للرماد في العيون، بل وليس هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها شيوعيو الكرملين
إلى مثل هذه الوسائل.
لقد وافقوا على إقامة دولة للمسلمين في تركستان ثم نقضوا هذا الاتفاق عندما
قويت شوكتهم، وأرسل زعيمهم (لينين) رسالة مفتوحة إلى المسلمين في بخارى
وسمرقند يعدهم فيها بالاستقلال، ومنحهم حرية العبادة وعندما نجحت ثورته قلب
لهم ظهر المجن، وتنكر لوعوده ومواثيقه، وكذلك فعل (ستالين) عندما أعلن
النازيون الحرب على السوفيات وشعر أنه بحاجة إلى مساعدة المسلمين والنصارى
أو تحييدهم.
وهذه هي أخلاق الشيوعيين مع الناس جميعاً، وحتى مع رفاقهم، ويكفينا
مثالاً على ذلك ما فعلوه مع رفاقهم الأفغان في كابل:
في عام 1979م قاد السوفيات انقلاباً عسكرياً ضد نائب رئيس الجمهورية
حفيظ الله أمين، لكن أمين أحبط الانقلاب وأعدم رئيس الجمهورية نور محمد تراقي.. وفي العام نفسه حاصر السوفيات قصر الرئاسة في كابل ودارت معركة بينهم
وبين الحرس الجمهوري انتهت بمقتل رفيقهم حفيظ الله أمين، ونصبوا (بابراك
كارمل) بدلاً عنه، وهاهم اليوم أطاحوا بكارمل ونصبوا رئيس المخابرات الجنرال
محمد نجيب أميناً عاماً لحزب الشعب الديمقراطي، وإن كانوا لم يقتلوا حتى الآن
كارمل.
وجاء اختيارهم لرئيس المخابرات محمد نجيب الله متزامناً مع حديثهم عن
الانسحاب من أفغانستان، فلماذا هذا الرجل بالذات.
يعلم المجاهدون أنه ليس بين الشيوعيين الأفغان من هو أشد بطشاً وأحط
أخلاقاً من نجيب الله هذا.. لقد كان يدفن الأحياء، ويمزق المصاحف أمام المعتقلين، ويمارس عملية القتل الجماعي، ويعيد للأذهان الأساليب الوحشية التي مارسها
البلاشفة ضد المسلمين في تركستان.
وفي رسالة بعثها نجيب الله إلى الزعيم السوفياتي غورباتشيف رداً على برقية
تهنئة بعثها له بمناسبة تقلده منصبه الجديد، قال نجيب الله أنه سيعمل بكل ما لديه
من قوة وسيوفر كافة الإمكانات من أجل القضاء على (عصابات [17] اللصوص)
أي على المجاهدين. وإذن فأهداف السوفيات من مفاوضات جنيف واضحة وضوح
الشمس في رابعة النهار والمعلومات التي وصلتنا عن طريق المجاهدين وغيرهم
تؤكد بأن الأمريكان متفقون مع السوفيات على طبيعة المرحلة القادمة، وبعض هذه
المعلومات تقول: لقد كان الأمريكان على علم مسبق بالتغيير الذي حصل في كابول.
وقصارى القول فإن مهمة نجيب الله تتلخص فيما يلي:
1 - الضرب بيد من حديد وإعادة ترتيب أجهزة السلطة لتكون في مستوي
الأحداث القادمة.
2 - شراء ذمم زعماء القبائل داخل أفغانستان وعلى الحدود الأفغانية
الباكستانية، وبعض الإخوة يرون أن زعماء القبائل لن يستجيبوا لمثل هذه الأساليب، ونحن نخالفهم ونرى أن معظم زعماء الأعراب والقبائل كانوا نقطة ضعف في
تاريخنا الإسلامي.
3 - التسلل إلى صفوف المجاهدين عن طريق رجال المخابرات الذي
يلتحقون بصفوف المجاهدين ويزعمون أنهم فروا من الجيش الأفغاني الشيوعي،
ومهمة رجال المخابرات هؤلاء إثارة حوادث الشغب والاعتداء على المرافق العامة
في باكستان وتفجير الخلافات بين جماعات المجاهدين، ونقل كل ما يحصلون عليه
من معلومات إلى قيادة المخابرات في كابول.
وممن المؤسف أن للزعيم الشيوعي الجديد (نجيب الله) تجارب واسعة في هذا
المضمار، وقد حققت محاولاته السابقة بعض النجاح.
سادساً - الكرامة وليس الخرافة:
يتحدث معظم المجاهدين عن كرامات أجراها الله على أيديهم، وقد كثر
الحديث حول هذه المسألة، ولو جمعنا أهم هذه الكرامات لما اتسعت لها عشرات
المجلدات، ولو اعترض معترض على ما يذكرون لقالوا له:
أوتنكر الكرامات وأخبارها ثابتة بأدلة لا يرقى إليها شك؟ ! .
ونحب في البداية أن يطمئن إخواننا المجاهدون بأننا نؤمن بالكرامات التي
يجريها سبحانه وتعالى على أيدي أوليائه المتقين، ونحذر من أهل الاعتزال ومن
نحا نحوهم من أصحاب المدرسة العقلية الذين ينكرون الكرامات ويؤولون
المعجزات أو ينكرونها.. ولكن المشكلة عندنا تتعلق بالذين يخبرون عن هذه
الكرامات هل هم صادقون؟ !
والذي نراه أن بين المجاهدين كثيراً من الخرافيين وهؤلاء لا نثق بهم ولا
برواياتهم، نعلم أنه يختلقون مثل هذه القصص وينسبونها لأنفسهم أو لشيوخهم،
ومن جهة أخرى فليس كل من تجاوز حدود أفغانستان مع باكستان أصبح مجاهداً،
ومن جهة ثالثة فأولياء الله لا يتفاخرون في الحديث عن هذه الكرامات بل يخجلون
إذا تناقل الناس أخبارهم الطيبة ويخشون من الفتنة، ومن جهة رابعة كيف تكون
كرامات الأفغان مئات أضعاف معجزات الأنبياء عليهم السلام، وكرامات الصحابة- رضوان الله عليهم -.
مرة أخرى نقول: بين المجاهدين الأفغان كثير من الصالحين قد يجري الله
سبحانه وتعالى على أيديهم بعض الكرامات.
سابعاً - الخاتمة:
أيها الإخوة الأحبة: إن ما نشعر به من قلق على مستقبل مسيرتكم في ميدان
الجهاد وما نكنه لكم من حب عميق أوجب علينا أن نتقدم إليكم بهذه النصائح
والخواطر، فإن أصبنا فبفضل الله ومنته، وإن أخطأنا فمن أنفسنا.
واعذرونا إن كنا قد أخطأنا في التعبير، أو تجاوزنا الحدود، فما أردنا إلا
الخير، ولا يجوز لأحد أن ينصب نفسه أستاذاً عليكم أو وصياً على شؤونكم..
فأنتم المجاهدون الذين تبذلون أرواحكم رخيصة في سبيل الله، وتصبرون على
شظف العيش، ونعلم أن بعضكم يقتات أوراق الأشجار من شدة الجوع، ويحق لكم
إن شاء الله تقولوا للأتقياء:
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
يا أخوتنا الأحبة: لا تخشوا كيد الأمريكان والسوفيات، فإنهم لن يصنعوا
شيئاً إذا أراد الله لكم النصر والتمكين، قال تعالى: [إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ
لَكُمْ وإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] [18]
فتوكلوا على الله وحده لا شريك له ورصوا صفوفكم، وكونوا من الذين
وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله:
[الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ] [19] .
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، اهزم أعداءك الشيوعيين في
أفغانستان، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، وانصر اللهم
عبادك المجاهدين في سبيلك.. اللهم انصرهم ووحد صفهم ولا تجعل بأسهم بينهم
إنك سميع الدعاء.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(2) رغم ذلك كله فلقد كان صاحب مواهب، وكان ناجحاً في تأدية الدور الذي تم اختياره من أجله.
(3) رواه مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -.
(4) متفق عليه.
(5) سورة محمد، الآية: 7.
(6) - سورة آل عمران، الآية: 126.
(7) سورة الأنفال، الآية: 10.
(8) سورة الكهف، الآية: 110.
(9) متفق عليه.
(10) متفق عليه.
(11) سورة الأنعام، الآية: 159.
(12) سورة الأنفال، الآية: 45، 46.
(13) سورة آل عمران، الآية: 137 والآية وردت في صدر الحديث عن نتائج غزوة أحد.
(14) في ظلال القرآن، المجلد الأول / 456، دار الشروق، تفسير الآية 138 من سورة آل عمران.
(15) الدعاة الذين يرفضون الانقياد لغير الله سبحانه وتعالى وقد اعتادت الدوائر الاستعمارية إطلاق هذه التسمية على كل جماعة متميزة مستقلة.
(16) من شاء مزيداً من التفاصيل فليراجع كتاب (المسلمون وراء الستار الحديدي) لمؤلفه عيسى يوسف ألب تكين.
(17) عن صحيفة (دير شبيغل) الألمانية تاريخ 12/5/1986.
(18) سورة آل عمران، الآية: 160.
(19) سورة آل عمران، الآية: 173.(1/43)
مجاعة فأين ابن الخطاب؟ !
التحرير
ذكرت مصادر في برامج الإغاثة الدولية أن عدد الذين يواجهون خطر الموت
بسبب الجوع وسوء التغذية في السودان قد ارتفع هذا العام إلى حوالي مليونين عن
العام الماضي ليصل إلى (1.5) ملايين شخص.
وعزت المصادر الأسباب إلى اتساع رقعة المناطق المنكوبة والتي وصلت إلى
مرحلة الجفاف في جنوب السودان.
وتعاني بعثات الإغاثة من الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى من صعوبات
ومشاكل تحول دون إيصال قوافل الإغاثة التابعة لها والتي تحمل المواد الغذائية
اللازمة لسكان المناطق المنكوبة بسبب الحرب الأهلية الدائرة في الأقاليم السودانية
الجنوبية بالإضافة إلى التطورات التي حدثت في أوغندا مؤخراً والتي أحدثت شللاً
في حركة المواصلات من وإلى هذه الأقاليم.
وقد عزلت هذه الظروف أقاليم الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال عن
العالم الخارجي مما يهدد بارتفاع عدد ضحايا الجفاف في هذه الأقاليم التي يصل عدد
سكانها إلى مليوني نسمة.
ونشرت وكالة الأنباء السودانية في 9/10/1985 الخبر الآتي:
(عثر فريق من سائقي الشاحنات على 43 جثة لسودانيين يبدو أنهم ضلوا
الطريق في الصحراء الكبرى أثناء رحلة قصدوا فيها ليبيا بحثاً عن عمل.
ونسبت وكالة الأنباء السودانية إلى مصادر الشرطة في بلدة الفاشر الغربية
قولها: إن السودانيين هلكوا من الجوع والعطش.
وقالت مصادر الشرطة أيضاً: إن سائق الشاحنات عثروا على الجثث متناثرة
في الصحراء على بعد (712) كيلو متراً شمال غرب الخرطوم.
ولم توضح الوكالة السودانية ما إذا كانت الجثث لجماعة واحدة ضلت الطريق
أو لعدة جماعات أو أفراد سلكوا الطريق بحثاً عن العمل، لكنها ذكرت أن وثائق
السفر والجوازات التي كانت بحوزتهم تظهر أن غالبيتهم قدمت من إقليم كردفان
جنوب غربي السودان وهو من الأقاليم التي عانت أكثر من غيرها بسبب موجة
الجفاف والقحط الحالية) .
وقفت مشدوهاً أمام هذين الخبرين وكيف لا أكون مشدوهاً وينتابني الفزع
والقلق وربع سكان السودان المسلمة مهددون بالموت جوعاً؟ ! .
بل والله رحت أتصور منظر 43 جثة متناثرة في الصحراء ... متى بدأوا
رحلتهم، وماذا كانوا يحملون من زاد وماذا أفعل لو كان أخي أو ابني واحداً منهم؟ .
كنت أذكرهم إذا جلست مع أفراد عائلتي على مائدة الطعام، وأذكرهم إذا
أويت إلى فراشي ... وكنت أتساءل:
ماذا قدم المسلمون في كل مكان لإخوانهم في السودان ... بل ماذا قدم الزعماء
والأغنياء السودانيون لإخوانهم؟ ! .
أما الزعماء السودانيون فأمرهم يدعو إلى العجب، وسوف أذكر فيما يلي
نماذج من مواقفهم المؤسفة.
كان كبيرهم السابق - الذي زعم أنه أمير المؤمنين - من أهم أسباب المجاعة.
لقد نهب وسلب وأظهر في الأرض الفساد، ويعيش الآن في رومانيا حياة
المترفين المترهلين، وله في بنوك أوربا عشرات الملايين من الدولارات ...
وكذلك كان من حوله يسلبون وينهبون دون حياء ولا خجل، بل وكانوا يضعون
معظم ما يقدم للجياع في السودان من مساعدات في جيوبهم أو في أرصدة في سرية
في بنوك أوربا ... وقد تاجروا، عليهم من الله ما يستحقون، حتى بنقل يهود
(الفلاشا) إلى فلسطين المحتلة.
- أما الأحزاب السودانية التي يربو عددها على الثلاثين فمشغولون عن
المجاعة بالانتخابات وتبادل الاتهامات والشتائم ... وتتناقل الصحف العربية
والعالمية أخبار الانتخابات بشيء من المرارة والسخرية، ويؤكد المطلعون بأن
مجموع ما أنفقته هذه الأحزاب في المعركة الانتخابية يبلغ بضعة مئات الملايين من
الدولارات، ولمعظم هذه الأحزاب ممولون من خارج السودان، ولهؤلاء الممولين
أهداف لا تبشر بخير.
- وفي جنوب السودان حرب شرسة تهدد وحدة السودان، وتنذر بخطر عظيم، وتمول الحبشة، ومن ورائها الاتحاد السوفياتي الصليبيين الذي يقودهم (قرنق) في
جنوب السودان ... وينفقون على هذه الحرب مئات الملايين من الدولارات.
وقصارى القول: فإن الأموال التي سرقت، والأموال التي أهدرت في
المعركة الانتخابية، والأموال التي تنفق على القتال في جنوب السودان ... هذه
الأموال وحدها كافية لحل مشكلة المجاعة ... ولو كان زعماء هذه الأحزاب يعيشون
مشكلة المجاعة لجمعوا هذه الأموال وشكلوا حكومة هدفها إنقاذ ربع السودان من
موت يهددهم.
أما غير السودانيين، فمما لا شك فيه أن كثيراً من المحسنين في البلدان
العربية أنفقوا مما يحبون من المال وأرسلوا الوفود التي قدمت المساعدات إلى هذه
البلدان المنكوبة، ولكن حاجة المنكوبين أكبر من طاقة جمعيات البر الإسلامية..
فأين الذين يخسرون الملايين من الاسترليني في ليلة واحدة على موائد القمار؟ ! .
وأين الذين يشعلون الحروب هنا وهناك ويتحدثون عن تصدير ثورتهم ...
ماذا عليهم لو صدروا الخير والبر والإحسان؟ ! .
وهذه الدول التي تمول الأحزاب من أجل السيطرة على السودان ماذا يضيرها
لو دفعت هذه الأموال للمواطنين الجياع في السودان؟ ! .
لقد بات من المؤكد أن الاتحاد السوفياتي يمول الحزب الشيوعي كما يمول
بشكل غير مباشر التمرد في جنوب السودان، كما بات من المؤكد أن الولايات
المتحدة الأميركية تمول وتراهن علي حزب آخر، وهي التي كانت وراء مصالحة
(نميري) مع زعيم هذا الحزب ... وهناك أنظمة تمول أحزاباً أخرى، ولا نعتقد أن
نتائج المعركة الانتخابية سوف تكون في مصلحة السودان، مهما كانت هذه النتائج.
والمجاعة ليست قاصرة على السودان..
ذكرت دراسة أعدها البنك الدولي تحت عنوان: (الفقر والجوع ... مشكلات
واختيارات تتعلق بالأمن الغذائي في الدول النامية) .
ذكرت هذه الدراسة أن هناك أكثر من سبعمائة مليون شخص في العالم لا يجدون ما يقوم بأودهم، ومعظمهم يعانون من سوء التغذية، ومعظم هؤلاء
المنكوبين يعيشون في جنوبي آسيا والمنطقة الصحراوية من أفريقيا ... وهذا يعني
أن نسبة كبيرة منهم من المسلمين.
وجاء في هذه الدراسة أن العالم مليء بالطعام، ومع ذلك فالقمح يفسد في
مستودعات الولايات المتحدة ولا توزعه هذه الدولة المجرمة على الجياع البائسين
في العالم وكأنها - أي الولايات المتحدة - أخذت على عاتقها هلاك العالم ودماره إن
لم يكن بالأسلحة الفتاكة ففي منع قمحها وغيره من الأغذية عن الفقراء الذين
يتضورون جوعاً.
والاتحاد السوفياتي ليس أحسن حالاً من الولايات المتحدة ونحن لا نطالبه
بمساعدة المحتاجين البائسين، وإنما نطالبه أن يكف عن مساعدة المتمردين
الصليبيين في جنوب السودان ونطالبه السماح لجمعيات البر والخدمات الاجتماعية
بالقيام بدورها في الحبشة وإتيريا دون قيود من النظام الحاكم في أديس أبابا.
لقد فشل العالم من أدناه إلى أقصاه في وضع الحلول لمشكلة المجاعة، وها
نحن نسمع ونقرأ أخبار عدد كبير من الناس يموتون بسبب كثرة ما يأكلون وعدد
كبير يموتون لأنهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم! ! .
ألا ما أحوج عالمنا المعاصر إلى رجل كعمر بن الخطاب - رضي الله عنه
وأرضاه - كان يأكل مع الناس في عام الرمادة [وهو عام أصاب الناس فيه قحط
ومخمصة] فإن جاعوا ظل جائعاً معهم، وكان عليه رضوان الله لا يتميز عن عامة
رعيته بطعام ولا بشراب ولا بلباس، وسارع إلى حمل الدقيق على ظهره عندما
رأى امرأة وأولادها يسهرون من شدة الجوع، وراح - رضي الله عنه - يشعل
النار، وينفخ تحت القدر، وما نام أمير المؤمنين حتى شبع الصبية وناموا.
وقد أجاد حافظ إبراهيم عندما نظم هذه القصة في الأبيات التالية:
ومن رآه أمام القدر منبطحاً ... والنار تأخذ منه وهو يذكيها
وقد تخلل في أثناء لحيته ... منها الدخان وفوه غاب في فيها
رأى هناك أمير المؤمنين على ... حال تروع لعمر الله رائيها
يستقبل النار خوف النار في غده ... والعين من خشية سالت مآقيها
إن جاع في شدّة قوم شرِكتَهُم ... في الجوع أو تنجلى عنه غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته ... في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يساوي أبا حفص وسيرته ... أو من يحاول للفاروق تشبيهاً
لقد بدأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - بنفسه ثم بأهله، وهكذا
يكون التغيير.
أما الذين يقبعون خلف السجائف والسنور ويتربعون على أرائك وثيرة
ويتقلبون في رغد من العيش، ويملكون الملايين خارج بلادهم. هؤلاء لن يصنعوا
شيئاً للجياع والبائسين لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويخادعون الله والذين آمنوا.
قال تعالى:
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] .
والإسلام الذي صنع عمر بن الخطاب لا يزال كما أنزله الله سبحانه وتعالى
نقياً طاهراً، وهو الذي صنع عمر بن عبد العزيز، وعماد الدين زنكي، ونور
الدين الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم وغيرهم.(1/53)
كيف يحارب الإسلام من الداخل
التحرير
أنى ألتفت إلى بلد من بلدان العالم الإسلامي وجدت جهات كثيرة تحارب
الإسلام، وتحاول - بكل ما تملك من طاقات ووسائل - هدم أركانه وزعزعة بنيانه. ومن أشد هذه العداوات وأكثرها كيداً ودهائاً وخبثاً تحالف أعداء الإسلام مع
المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون ويحسبون كل صيحة عليهم.
ومن هؤلاء المنافقين كثير من زعماء الصوفية في عصرنا الحديث وسوف
نذكر في هذه الأسطر القليلة أبرز سماتهم وأهم تناقضاتهم.
- يلبسون لبوس الرهبان ويتظاهرون بالزهد والورع والتقوى ويزعمون أن
الدنيا لا تساوي عندهم جناح بعوضة، ويتباكون من خشية الله تعالى.
- يكرهون العلم والعلماء وينفرون من أمهات الكتب الإسلامية ويناصبون
الفقهاء والمحدثين العداوة والبغضاء ويسفهون كل من يطالبهم بذكر الأدلة الشرعية.
- يقدسون شيوخهم فيُقبّلونَ أيديهم وأرجلهم ويسجدون أمامهم ولا يردون لهم
أمراً، ويرون أن هؤلاء الشيوخ يعلمون الغيب، وكل ما يصدر عنهم من قول أو
فعل لا يجوز مخالفته أو التشكيك فيه.
- هم وحدهم الذين يفهمون القرآن والحديث والفقه؛ لأنهم تلقوا هذه العلوم
عن شيوخهم، وشيوخهم تلقوا هذه العلوم عن الأوتاد والأبدال والأقطاب الذين
يشتركون في تصريف أمر هذا الكون، ويعلمون الباطن في حين لا يفهم علماء
التفسير والحديث من هذه العلوم إلا الظاهر، والظاهر لا يغني من الحق شيئاً.
- يحبون الفلسفة، ويعشقون علماء الكلام من الملاحدة في القديم والحديث؛
لأنهم يتفقون معهم في كثير من أفكارهم الخطيرة كوحدة الوجود والحلول.
ولست في صدد الحديث في هذا التعليق عن أفكار غلاة الصوفية وتصوراتهم
وأخلاقهم، فلقد سبقني إلى هذا الفضل علماء كبار صدقوا ما عاهدوا الله عليه،
وتركوا لنا أسفاراً نفيسة بينوا فيها فساد اعتقاد غلاة الصوفية وكشفوا أسرارهم،
وهتكوا أستارهم.
وإن الذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر ما أراه من حرص كثير من أجهزة
الإعلام - التي تحارب الإسلام والمسلمين - على تلميع وجوه قادة غلاة الصوفية
وإحاطتهم بهالة من التقديس والتعظيم:
فأنت تقرأ في صحيفة علمانية أخبار أحد زعماء الصوفية وتصريحاته ومواقفه
المزعومة في خدمة الإسلام والمسلمين وتشاهد صورة الشيخ إلى جانب التصريح
الذي أدلى به ... وفضلاً عن هذا وذاك تحتل الصورة والتصريح أهم مكان في
الصحيفة، وتبحث عما وراء الأسطر فتعلم بأن الشيخ المزعوم يمد الصحيفة بأرقام
خيالية من المساعدات المادية، ولا ندري من أين يأتي بها؟ ! .
وفي صحيفة أخرى أو جهاز إعلام آخر نلاحظ أن الاختيار وقع على هذا
الزعيم الصوفي ليكون عوناً للعلمانيين في معركتهم مع دعاة الإسلام، ولهذا يتبوأ
الشيخ وتلامذته أعلى المناصب وأرفع الدرجات، وتغدق عليهم الأموال وتقدم لهم
المنح والأعطيات ...
وبعد حين من الزمن يصبح الشيخ وأعوانه من كبار أصحاب رؤوس الأموال، ويمتلكون المزارع والمتاجر والعقارات، ويعيشون حياة السلاطين والأباطرة،
وهم الذين يتحدثون في دروسهم ومواعظهم عن الزهد والورع وخشونة العيش.
ومن المؤسف أن هؤلاء الذين تم اختيارهم لأعلى المناصب الدينية ليسوا من
العلماء، بل إنهم من أجهل الناس فيفهم كتاب الله جلَّ وعلا، وفي معرفة الحديث
الصحيح من الضعيف أو الموضوع ... ولا غرابة في ذلك فأعداء الإسلام يخشون
من العلماء العاملين ويحرصون على شراء ذمم الجهلة المتقاعسين الذين يفتون عن
غير علم فيصلُّون ويُضلّون.
وقد سئل هؤلاء الجهلة الصوفيون عن أسباب تعاونهم مع أعداء الإسلام ولماذا
يبطش الملاحدة بالدعاة إلى الله ويوادون الصوفيين، فأجابوا:
نحن لا نتدخل بالسياسة، ونتودد إلى الناس جميعاً، ونخاطبهم بالحكمة
والموعظة الحسنة.
وقد كذبوا في هذه وتلك، فهم ينافقون لأعداء الإسلام، ويتذللون لهم في حين
يقفون من العلماء والمحدثين موقفاً آخر ليس فيه مودة ولا ليونة.
وفي معركة دعاة الإسلام مع الملاحدة والطغاة، انحاز غلاة الصوفية إلى
جانب الملاحدة من الشيوعيين والرأسماليين والعلمانيين، ولو أنهم وقفوا على الحياد
لالتمسنا لهم الأعذار وسكتنا عنهم.. لكنهم دخلوا السياسة من أوسع أبوابها، وشنوا
حملة ضد الدعاة إلى الله، وباعوا أنفسهم للشيطان لقاء دريهمات معدودات، كما
باعوا آخرتهم بدنياهم، وإذا هلك شيطانهم الأول استبدلوه بشيطان آخر قد تتناقض
مواقفه وأقواله مع سلفه، ولا يخجلون من تغيير المواقف والولاءات.
إن قادة الفرق الصوفية يفسدون داخل الصف الإسلامي، ولا يصلحون،
ويعرف أعداء الإسلام كيف يتعاملون معهم، وكيف يستخدمونهم في حربهم ضد
الإسلام والمسلمين، فبالأمس القريب استخدمهم الانكليز والفرنسيون عندما
استعمروا معظم بلدان العالم الإسلامي، وانتسب بعض زعمائهم إلى المحافل
الماسونية، وفي مقدمتهم ذلك المخرف الذي أمر بحرق كتب شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ان القيم كما أمر بنشر كتب ابن عربي وابن الفارض وغيرهما من أساطين
الصوفية.
إن شباب الإسلام مدعوون إلى رصد هذه الظاهرة وسبر غورها وتحذير
الناس من أخطارها.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] .(1/56)
أدب وتاريخ
موقع الأدب
في الثقافة الإسلامية المعاصرة
منصور الأحمد
لقد كان الأدب، وما زال، المرآة التي تعكس تفكير المجتمع، وتشير إلى
مكامن الضعف والقوة في ثقافته وحضارته، وكذلك كان الأدب هو المبشر
بإرهاصات النهضة لأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم.
ولقد تنبهت الشعوب - على ضوء تقدم الدراسات في مختلف المجالات - لما
للأدب من أثر فعال في صياغة وتوجيه الأفكار، وإحلال قيم وأفكار جديدة محل
أخرى قديمة، فاستخدم الأدب من أجل ذلك أكبر استخدام، وتوسل أصحاب الأفكار
والعقائد به، للوصول إلى عقول الجماهير من الناس من أقرب طريق وأسهله.
وإذا ألقينا نظرة عجلى على تاريخنا الأدبي، وجدنا أن الإسلام يوم جاء كان
للعرب حياتهم الاجتماعية الخاصة، وكانت لهم قيمهم الأدبية التي ترتكز على الفخر
بالأمجاد الشخصية أو القبلية، وإن كانت مجانبة للحق والعدل، وعلى الإشادة
ببعض العادات المرذولة كشرب الخمر ولعب الميسر، فلما دخل العرب في الدين
الجديد؛ حدث في حياتهم وأدبهم انقلاب شامل، وشعروا برحابة العالم، وبُعد
الأهداف التي قدمها الإسلام إليهم، وأدركوا أنهم أمناء على تقديم هذه الرسالة للناس
كافة، وأنهم خرجوا من جزيرتهم ليحرروا الناس جميعاً من العبودية لغير الله،
وليزيلوا العراقيل - أيا كانت - من طريق البشرية حتى تحس ببشريتها وتشعر
بتكريم الله لها حين خلقها:
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] .
ولسنا نريد من إشارتنا إلى بعض عادات العرب التي ذمها الإسلام، كاعتداء
القوي علي الضعيف، وشرب الخمر، ووأد البنات، أن نجردهم من كل فضيلة،
ونقع في ما وقع فيه الشعوبيون الذين دفعهم كرههم لعنصر العربي - لحاجات في
نفوسهم - أن نسبوا إليه كل مثلبة، وجردوه من كل منقبة، بل إننا نرى أن الله
ادخر فضله لهذه الأمة بأن جعلها أمينة على الرسالة الخاتمة، عندما لم يكن غيرها
من الأمم أهلاً لذلك.
وهكذا، اندفع العرب بالإسلام، وقدموا للعالم قيماً جديدة خالدة، تمثلت في
قيم العدل، والحرية، والسماحة، والبعد عن التكلف، والتواضع، الإنصاف من
أنفسهم، وحملوا معهم البيان الخالد الذي حفظ لهم لغتهم ووحدتهم، وأمدهم بعناصر
الحياة لهذه القيم العظيمة، فتأثر أدبهم من شعر ونثر وخطابة، بهذا البيان، واستمد
منه عناصر العظمة والخلود المتمثلة بنصاعة التعبير وقوة التأثير.
وإن المتأمل بإنتاج مشاهير الأدب العربي في عصوره الزاهرة من شعراء
وكتاب وخطباء، يتلمس بكل وضوح أثر القرآن الكريم وأثر الإسلام في أدبهم.
إن الأدب شأنه شأن الأمم، يقوى ويزدهر إذا قويت، ويضعف ويجمد إذا
انحطت وضعفت، وذلك لأنه انعكاس لذاكرة الأمة ينشط بنشاطها ويتراجع
بتراجعها.
وقد مرت الأمة الإسلامية - في تاريخها الطويل - بفترات ضعف خضعت
فيها للكثير من المؤثرات الغريبة عنها، وانعكس ذلك على أدبها، وكما كانت هذه
الأمة بما تدخر في كيانها من رصيد، وما تحمله من خميرة كامنة في ذاتها، تصد
اندفاع الهجمات الخارجية، وتتخلص من عدوان المغيرين، وتسلط الطغاة
والطامعين، فكذلك كان أدبها صورة معبرة عن آمالها وأهدافها.
وفي عصر النهضة الأدبية الحديثة، وجدنا أن الذين قامت على أكتافهم هذه
النهضة قد اتخذوا المصادر الإسلامية الأصيلة منطلقاً لهم، فجاء أدبهم امتداداً
للعصور الزاهرة للأدب، يبشر بعودة الأمة إلى تراثها وأصالتها بعد أن ابتعدت
عنها وجمدت نتيجة لمؤثرات كثيرة لا مجال لبسطها.
ولكن سيطرة المستعمرين الغربيين، وما أعقب ذلك من محاولاتهم الدؤوبة
للقضاء على عناصر القوة في كيان هذه الأمة والمتمثل في عقيدتها الإسلامية،
جعلهم يستنبتون عناصر تدين لهم بالولاء، وترتبط مصالحها بمصالحهم، بعيداً عن
آمال أمتها وتاريخها فدرس هؤلاء ثقافة الغرب الغازي، وأورثهم ذلك احتقار
تاريخهم، بالإضافة إلى كثير من نصارى العرب الذين يرتبطون مع هذا الغازي
برباط العقيدة، فوجدوا أن مما يقوي سيطرتهم على المسلمين أن يعملوا على
إضعاف الثقافة الإسلامية.
وهكذا لم يلبث جحافل المستعمرين أن تجلو عن أكثر ديار المسلمين، ولكنها
لم تخرج إلا بعد أن ائتمنت على تطبيق خططها وأفكارها هؤلاء الذين رعتهم
وربتهم وربطت مثيرها بهم، فأحلوا - بالقوة - أفكار الغرب وتقاليده وثقافته محل
الثقافة الإسلامية، فأهملوا النقاط المضيئة من التاريخ الإسلامي، وضخموا
الجوانب السلبية منه، وشوهوا حقائقه، ونسفوا التشريعات الإسلامية وأحلوا محلها
قوانين الغرب الكافر وتشريعاته الوثنية، وفصلوا الأدب عن العقيدة، وابتعدوا به
عن الأخلاق تحت شعارات براقة حيناً كمقولة الفن للفن.
وتحت أمثال هذه الذريعة وجدنا أن الذين أوكل إليهم وضع مناهج الأدب،
وأعيرت لهم منابر الكتابة يتعمدون طمس كثير من الآثار الأدبية الإسلامية،
ويتجاهلون كثيراً من الأسماء التي كانت تصدر في أدبها عن مبدئية إسلامية
واضحة، في الوقت الذي يبرزون فيه كل ما شذ من الأدب قديماً وحديثاً، فيلمّعون
أدب الشهوة والجنس باسم (الواقعية) ويشيدون بالتمرد والشذوذ عن العقائد والأخلاق
باسم التطور والتجديد، وإذا ما نبغ شاعر أو كاتب يسب عقيدة الأمة ويتطاول على
مقدساتها ويتبرأ من تاريخها ويقذف قيمها وتراثها، وينسلخ عن أهدافها، فهو
عندهم الذي تفتح له المغاليق، ويحوز قصب السبق فتفتح له صدور الصحف
والمجلات، وتتسابق فيما بينها للظفر منه بالتحليلات والمقابلات، وتنقل تنطعاته
وحذلقاته موجات الأثير عبر الإذاعات.
وهكذا أعقب خروج الاستعمار العسكري من البلاد الإسلامية انتكاسة في أدب
هذه الأقطار، وذوبان في ثقافة المستعمر وقيمه وتقاليده، وشيوع للبدع الأدبية التي
تتخبط فيها الحضارة الحديثة مثل: (الوجودية) و (الواقعية) ...
وفي هذا الوقت الذي تردت فيه أوضاعنا إلى ما نلاحظه من تفرق وتمزق،
وتعددت فيه مشاربنا من غبر ومن شرق، وكدنا ننسى ما يربطنا بتراثنا وعقيدتنا،
مطلوب من المسلمين - وقد لاحت بوادر رجوعهم إلى دينهم - أن يحلوا أدبهم ما
يليق به من مكانه وأن يسدوا الفراغ الهائل الذي نتج عن شيوع كل ما هو غير
إسلامي من صنوف التعبير والكتابة ومخاطبة الجماهير وذلك لأن الأدب الذي يعبر
عن ذاتية هذه الجماهير أدب فقير مجدب. وأن الأدب المجرد من العقيدة التي
اختلطت بدم معتنقيها، وتخللت ما بين مشاعرهم وعواطفهم لا يجد له استجابة،
ولا يحرك أحداً، بل هو أدب هجين لا تكتب له الحياة.
لقد آن الأوان أن يؤخذ زمام المبادرة من المفسدين في الأرض، ويطرح
للناس أدب يعبر عن تطلعات الشخصية الإسلامية، ويشبع شوقها إلى نماذج نظيفة
من الأدب الذي يقودها في الأوقات العصيبة.
إننا نطرح - عبر هذه المجلة - الدعوة لكل من يأنس من نفسه القدرة على
أن يضيف شيئاً في مجال الإبداع الأدبي، وسوف نعمل - بإذن الله - على تشجيع
كل المواهب الشابة التي تُزوى عنها صفحات المجلات والصحف العلمانية،
مرحبين بكل الأنواع الأدبية من شعر ونثر وقصة، رائدنا في ذلك أن يكون هؤلاء
الكتاب كما وصفهم الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: (مختارات من أدب العرب) :
(كتاباً مؤمنين.. ملكتهم فكرة أو عقيدة، أو يكتبون لأنفسهم أو إجابة لنداء
ضميرهم وعقيدتهم، مندفعين منبعثين، فتشمل مواهبهم ويفيض خاطرهم،
ويتحرق قلبهم، فتنثال عليهم المعاني، وتطاوعهم الألفاظ وتؤثر كتابتهم في نفوس
قرائها، لأنها خرجت من قبل فلا تستقر إلا في قلب) .(1/58)
البلاغة والبيان
التحرير
قال علي بن عيسى الرمَّاني:
البلاغة ما حط التكلف عنه، وبنى على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه
من القافية بأن جمع مع ذلك سهولة المخرج، مع قرب المتناول، وعذوبة اللفظ،
ومع رشاقة المعنى، وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء، وحسن الوصل
كحسن القطع، في المعنى والسمع وكانت كل كلمة قد وقعت في حقها، وإلى جنب
اختها، حتى لا يقال: لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى! وحتى لا يكون فيه
لفظ مختلف، ولا معنى مستكره، ثم ألبس بهاء الحكمة، ونور المعرفة، وشرف
المعنى، وجزالة اللفظ، وكانت حلاوته في الصدر، وجلالته في النفس، تفتق
الفهم، وتنثر دقائق الحكم، وكان ظاهر النفع، شريف القصد، معتدل الوزن،
جميل المذهب، كريم المطلب، فصيحاً في معناه، بيناً في فحواه، وكلُّ هذه
الشروط قد حواها القرآن، ولذلك عجز عن معارضته جميع الأنام.
ووصف العتابي رجلاً بليغاً فقال:
كان يظهر ما غمض من الحجة، ويصور الباطل في صورة الحق، ويفهمك
الحاجة من غير إعادة ولا استعانة.
قيل له: وما الاستعانة؟
قال: يقول عند مقاطع كلامه:
يا هناة، واسمع، وفهمت! وما أشبه ذلك. وهذا من أمارات العجز، ودلائل
الحصر! وإنما ينقطع عليه كلامه، فيحاول وصله بهذا فيكون أشد لانقطاعه.
وقال الجاحظ:
البيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون
الضمير، حتى يقضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائناً ما كان
ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها
يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت
عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
زهر الآداب: 100/106/107.(1/60)
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
بقلم: محمد الناصر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي
ونسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد:
فإن الشعر الجاهلي ... شعر قديم متصل الحلقات يصور حياة العرب قبل
الإسلام، فهو سجل العواطف والمفاخر، سجل العصبيات والحروب، فيه أيام
العرب ووقائعهم، وتدوين لأصولهم وأنسابهم، يقول أبو هلال العسكري [1] :
(لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارهم
فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها) .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه) [2] .
وللشعر منزلة عظيمة عند العرب وللشاعر مكانة لا تضاهى [3] ، فإذا نبغ في القبيلة شاعر هنأتها القبائل، وصنعت الأطعمة، وأعلنت الأفراح ... لأنه حماية لأعراضهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج [4] .
وما تكاد القصيدة تلقى حتى تسير بها الرواة، وتنشدها المجالس، قال
المسيب بن علس [5] :
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
فقصيدته تنشر بين القبائل ويرددها الناس مستمعين لها ومتمثلين بأبياتها.
والأمثلة كثيرة لشعراء حموا أعراض قبائلهم، ولشعراء تشفعوا لقبائلهم، أو
لأفراد منها فشفعوا، وشعراء رفعوا الوضيع ووضعوا الرفيع ...
فالأعشى يقدم مكة ويمدح المحلَّق ويذكر كرمه وشرفه وحسن صفاته بعد فقر
وخمول ذكر ... ثم تحدث عن بناته فقال:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذيم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق
فما إن أتم قصيدته حتى انسل الناس إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل
قبيلة يخطبون بناته العوانس فلم تمس منهن واحدة إلا عصمة رجل أفضل من أبيها
ألف ضعف [6] .
وكان بنو أنف الناقة يأنفون من هذا اللقب حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
صار اسمهم شرفاً لهم.
ولقد كانت القبيلة تحرص على رواية شعرها فتعلم صغارها الشعر وحفظ
أشعار القبية خاصة، كما كانت تفعل تغلب في تحفيظ أبنائها معلقة عمرو بن كلثوم، فهجاها شاعر بكر بقوله:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... يروونها أبداً مذ كان أولهم
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ... يا للرجال لشعر غير مسلوم [7]
وفي الإسلام يأذن الرسول عليه الصلاة والسلام لحسان بن ثابت أن يهجو
كفار قريش، وقال: «اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم
ثم اهجهم وجبريل معك» [8] .
وفي السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان - رضي
الله عنه -: «لشعرك أشد عليهم من وقع النبل» ، مما يبين لنا أهمية الشعر
في الذب عن الدعوة وأصحابها.
وبعد هذه الشواهد، والأمثلة في مصادر الشعر كثيرة، يتبين لنا مدى اهتمام
العرب بالشعر، فهو خير مصدر لتصوير حياتهم، وهو ديوان العرب كما عرفنا،
ولذلك يمكننا استخراج مفهوم الحياة الجاهلية، في مختلف مظاهرها من هذا الشعر، ثم من ردود القرآن الكريم على الانحراف حيناً لتقويمه وإنكار السلبيات المطلقة
حيناً آخر ...
ولقد حاولت الرجوع إلى المصادر الموثقة للشعر الجاهلي كالمفضليات
والأصمعيات والمعلقات وطبقات فحول الشعراء والشعر والشعراء ... وغيرها
لتكوين صورة واضحة لما كان عليه القوم في جاهليتهم من مصادر الشعر أولاً
وكتب السيرة والتاريخ التي وصفت لنا حياة أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم بنور
الإسلام.
وسترى بعونه تعالى أن كثيراً من مظاهر حياتنا الحديثة وما فيها من عادات
وتقاليد ما هي إلا امتداد لمفهوم الجاهلية العربية ... جاهلية ما قبل الإسلام ...
تحديد العصر الجاهلي:
قد يتبادر إلى الذهن أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب،
ولكن البحث يظهر أن الأدب الجاهلي يعود إلى قرن ونصف قبل البعثة النبوية،
يقول الجاحظ [9] :
(أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن ... فإذا استظهرنا الشعر
وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية
الاستظهار فمائتي عام) .
وما قبل هذا التاريخ قد يشوبه الغموض ولا يعطينا صورة واضحة عن الحياة
الجاهلية مثل إمارة الغساسنة ثم المناذرة، ومملكة كندة في شمالي نجد ...
ومعلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة [10] .
والسيد محمود شكري الألوسي يحدد فترة الجاهلية بقوله: (وهي الزمن بين
الرسولين، تطلق على زمن الكفر مطلقاً، وعلى ما قبل الفتح وعلى ما كان بين
مولد النبي والبعث) [11] .
وعلى العموم فإن الفترة الجاهلية التي تعنينا هي فترة ما قبل بعثة الرسول -
عليه الصلاة والسلام-، وهي لا تمتد أكثر من مائتي عام، لأن ما وراء ذلك من
الزمن يشوبه الغموض ولم يصل إلينا من الشعر الجاهلي قبل تلك الفترة شيء
نطمئن إليه.. وفترة ما قبل الإسلام مباشرة هي الفترة التي ورثنا عنها الشعر
الجاهلي ... وهذا العصر هو الذي بزغت عيه شمس الإسلام، وصور القرآن
الكريم وأحداث السيرة، كثيراً من معالمه وصراع الحق مع الباطل وزيفه.
معنى الجاهلية:
أ - في كتب اللغة والأدب:
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مادة: جهل تعني الجهل الذي هو خلاف
العلم ... وقد جهل فلان جهلاً وجهلة.
وتجاهل: أي أرى من نفسه ذلك وليس به.
واستجهله: عده جاهلاً واستخفه أيضاً.
والمجهلة: الأمر الذي يحملك على الجهل.
والمجهل: المفازة لا أعلام فيها [12] .
وفي المعجم الوسيط: جهلت القدر جهلاً: اشتد غليانها، وجهل على غيره
جهالة وجهلاً: قسا وتسافه، وجاهله: سافهه.
وفي القرآن: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] .
والجاهلية ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة.. والمجهلة:
ما يحمل الإنسان على الجهل وجاء في الحديث الشريف: «الولد مبخلة مجبنة
مجهلة» .
وهكذا (نتبين أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة الإسلام
التي تدل على الخضوع والطاعة لله عز وجل وما يطوى فيها من سلوك خلقي
كريم) [13] .
وقد تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم وليس ضد العلم إلا أن
العصر الجاهلي عرف كثيراً من الناس عرفوا بالحلم والتسامح مثل قيس بن عاصم، والأحنف بن قيس، وغيرهما حتى ضربت بحلمهما الأمثال [14] ....
وجاء في معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي لا يتسافه أحد علينا ... وقد يتضمن البيت معنى الظلم والطيش.
ب - وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بهذا المعنى، معنى
الحمية والطيش والغضب، ففي سورة البقرة: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] ، وفي سورة الأعراف: [خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] .
وفي الحديث الشريف: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال لأبي ذر،
وقد عير رجلاً بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . أي فيك روح الجاهلية وطيشها
تغضب فلا تحلم.
والذي يظهر لنا أن الجاهلية كانت تعني الجهل لمعنى تجاوز الحق وعدم
معرفته، وتعني أيضاً الحمية حمية الجاهلية بما فيها من ثأر وطيش وحمق وسفه
وكبر.
وأصبحت تطلق على العصر السابق للإسلام مباشرة، وكل ما فيه من وثنية
وأخلاق قوامها الحمية واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات [15] .
أما تعبير الجاهلية في كتاب الله فقد جاء في تفسير هذه العبارة في الآية: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] [16] .
(ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي
عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها
الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان من أهل الجاهلية يحكمون به من
الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم) .
وجاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله -:
(فالجاهلية كما يصفها الله ويحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي
عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في
مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله) .
ثم يقول - رحمه الله - أيضاً:
(إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع
يوجد بالأمس، ويجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام،
والمناقضة للإسلام ... فالعبودية لغير الله جرت أهل الجاهلية إلى كل الضلالات
السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد) [17] .
وهي بناء على ذلك تعني مفهوم الضلالات، والسفه، والطيش، وتحكيم
العادات والتقاليد، بعيداً عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة
الاجتماعية، وتتلون بشعارات براقة كثيرة، قد تخدع وتسيطر على العقول عندما
تضعف آصرة العقيدة، والتوحيد وتحكيم شرع الله.
وسنتابع هذا المفهوم، مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي يصور لنا حياة
العرب قبل الإسلام في حروبهم وثاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم وخرافاتهم،
مما سنجمله في الفصول التالية بإذنه تعالى:
1-الأول: الحياة السياسية أو الصراع القبلي.
2-الثاني: الحياة الاجتماعية، وما فيها من عادات وتقاليد.
3-الثالث: الحياة الدينية، وما فيها من عقائد وتصورات وخرافات.
4-الرابع: الحياة الاقتصادية وأمور حياتهم ومعاشهم.
الفصل الأول
الحياة السياسية عند العرب
أو: الصراع القبلي
أ - لمحة موجزة عن حياة العرب قبل الإسلام:
إن العرب ينحدرون من أصلين كبيرين: قحطان وعدنان [18] .
1 - عرب الجنوب:
وكان موطن قحطان باليمن ثم تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان، وكان منهم قبيلة حمير ومنها قضاعة، ومنهم كهلان وأشهرهم
طيء وهمدان وكندة ولخم والأزد، وأولاد جفنة ملوك صحراء الشام.
هاجرت هذه القبائل بعد انهيار مأرب عام (120ق. م) فسكنت الأزد المدينة، وكان منها الأوس والخزرج، ومنهم من نزل على ماء غسان في الشام وأسسوا
إمارة الغساسنة والموالية للروم، أما لخم فقد سكنت الحيرة، واصطفتهم فارس إلى
جوارها وبقي في اليمن كثير من قبائل حمير وكندة وغيرهم.
ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت غالباً جوار الأمم المتحضرة ويذكر
المؤرخون أن عرب الجنوب كانت لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل
وتشييد السدود وكانوا يؤلهون الكواكب والنجوم.
2- عرب الشمال:
وكان موطن عدنان مكة المكرمة وما جاورها من أرض الحجاز وتهامة، وقد
تشعبت بطون هذا الفرع من نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل - عليه
السلام -.
ثم هاجرت بعض هذه البطون إلى مواطن الخصب والكلأ.. فنزلت ربيعة
شرقاً، فأقامت عبد القيس في البحرين، وحذيفة في اليمامة، وأقامت سائر بكر بن
وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة
بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.
وأما فرع مضر بن معد بن عدنان: فقد نزلت سُليم بالقرب من المدينة
وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت ساذر هوازن شرقي مكة المكرمة، وسكنت
أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حورا [19] .
وبقيت معيشة هذه القبائل صحراوية بدوية، ولم تهيء لهم هذه الحياة
الاستقرار إلا في بعض الواحات في الحجاز.. ويظهر أن عرب الشمال لم ينجحوا
في وحدة سياسية قبل الميلاد، فطبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق [20] .
3- القبائل العربية:
النظام القبلي:
وهكذا (استقرت القبائل العربية في الجزيرة وتجاور العدنانيون والقحطانيون،
ولم يكن لهذه القبائل دولة تشمهم، ولا نظام موحد يسودهم بل كانت كل قبيلة تكون
وحدة اجتماعية وسياسية مستقلة) .
(وكانت هذه القبائل متشابهة في تكوينها ونظامها، فكل قبيلة تقوم على أساس
اشتراك أبنائها في الأصل الواحد والموطن الواحد. والرباط الأقوى في القبيلة هو
العصبية، والعصبية كما يعرفها ابن خلدون في مقدمته: «النصرة على ذوي
القربى وأهل الأرحام أن ينالهم أو تصيبهم هلكة) .
(وأفراد القبيلة متضامنون كلهم في المصائب والمسرات فقالوا: في الحرب
تشترك العشيرة) .
(ثم نشأ عن طبيعة الجزيرة العربية وحتمية انتقال العرب وراء الماء وطلباً
للكلأ، نشأ النظام القبلي كضرورة اجتماعية، وحيوية حتى يتنقلوا في جماعات
عشائر توفر لأفرادها الحماية والأمن.. ولم يقتصر وجودها على البادية بل تعداها
إلى الحواضر على قلتها وتناثرها في الصحراء المترامية) [21] .
ولقد كانت هيمنة القبيلة هي الأساس في البادية والحاضرة حيث أن (هذه
القبائل لم تفقد صورتها القبلية فقد ظل لكل منها منازلها الخاصة ومعاقلها الصغيرة،
وسيادتها وشئونها الخاصة، ومرد ذلك إلى أن رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة
المدينة حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها) [22] .
فوحدة القبيلة كانت أمراً مقدساً ترتب عليه طائفة من التقاليد يحدد علاقة
الأفراد مع بعضهم.. وعلاقة الأفراد بقبائلهم لأن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي
عرفها المجتمع الجاهلي في البادية والمدن.. وكان أفراد القبيلة يؤلفون أسرة واحدة
قائمة بذاتها لا اختلاط فيها، متجانسة لا تباين بين أفرادها.. يعمل الجميع في
سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها [23] .
العصبية:
وقد آمنت القبيلة بوحدتها وجعلت ذلك أمراً مقدساً، ترتب عليه طائفة من
التقاليد الاجتماعية، تحدد واجبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالماً أو مظلوماً.
ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون
الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل
اعتبار.
يقول دريد بن الصمة [24] :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فالشاعر يرى رأي قبيلته غزية، بل يتنازل عن رأيه من أجل رأيها، ولو
كان خطأً.. فغيه وضلاله، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها، وأمعن في ضلاله، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه.
والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله [25] :
حدبت علي بطون ضبة كلها ... إن ظالماً فيهم وإن مظلوماً
وعلى الفرد أن يحترم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سبباً في تمزيق
وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق، ولذلك اتخذت
القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفرادها إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض
أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم
للأخلاق آنذاك، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي [26] .
شيخ القبيلة:
فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة
ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به، وشيخ القبيلة
يكون عادة شيخاً مجرباً هو سيدها له حكمة وسداد رأي وسعة في الثروة.. وهو
الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخري، ويعقد
الصلح والمحالفات ويقيم الضيافات، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء
كليب التغلبي عندما بغى وطغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سبباً في
نشوب حرب البسوس المشهورة.
ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها، كالشجاعة والحسب والكرم
والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة
وما تدفعه من ديات، وغالباً يرث الشيخ سيادته عن آبائه [27] ، وإلى ذلك يشير
معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول [28] :
إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد، لهم مجد أشم تليد
ألفوا أباهم سيداً وأعانهم ... كرم وأعمام لهم وجدود
نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها، وتغفر ذنبها وتسود
وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به، وإذا تعود نعود
ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفاً لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سيد
بني شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته [29] :
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية، والصفايا جمع
صفية وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة، والنشيطة ما أصابه
الجيش في طريقه قبل الغارة من فرس أو ناقة، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو
الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام.
الاعتزاز بالأنساب والقوة:
ولقد آمنت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم
قبيلة أخرى، وهم يفضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات،
وهم أجدر الناس أن يكونوا خير الناس، ولعل هذا ما يفسر لنا تلك المنافرات التي
امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد
شعرائه [30] .
ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب، والفخر بالآباء،
والأجداد [31] حيث يقول:
1- ورثت مهلهلاً [32] والخير منه ... زهيراً نعم ذخر الذاخرينا
2- وعتاباً وكلثوماً جميعاً ... بهم نلنا تراث الأكرمينا
3- ومنا قبله الساعي كليب ... فأي المجد إلا قد ولينا
ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول:
4- ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العازمون إذا عُصينا
5- ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا
6- وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أتينا
7- وأنا الشاربون الماء صفواً ... ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون
بلا رادع حيث يقول:
8- لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حيث نبطش قادرينا
9- إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الخسف فينا
والمعلقة كلها ضجيج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها
الجاهلية المتغطرسة، انظر إليه حيث يقول:
10 - إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
11 - ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا
12- ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق
البحر بسفنهم؟ ! ، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجوداً ومذلة.
والشواهد كثيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن
جبروت الجاهلية وغطرستها.
فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول [33] :
هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ... ولنا فواضلها ومجدُ لوائها
ثم يفتخر بقوة قومه في الحروب، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال
أجود ذوو مروءة، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول [34] :
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآمية ... وخير ناد رآه الناس نادينا
فهم أصحاب حروب وقرى.
وطرفة بن العبد يفتخر بقبيلته بكر ويتحدث عن كرمها وقوتها وحسبها إذ
يقول [35] :
1- ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يُسُر
2- ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وُقر
3- ولقد تعلم بكر أننا ... صادقو البأس وفي المحفل غر
والشاعر لبيد بن ربيعة يفخر بأحساب قومه وشرفهم في معلقته، فالمجد فيهم
قد سنَّه آباؤهم وعلموهم إياه فتبعه صغارهم بعد كبارهم إذ يقول [36] :
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سُنَّة وإمامها
فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
وكانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى لذلك يحزن الشاعر
ذو الإصبع العدواني على تفرق قومه بني عدوان واختلافهم بعد ائتلافهم واتحادهم
فيقول [37] :
1- عذير الحي من هذوا ... من كانوا حية الأرض
2- بغى بعضهم بعضاً ... فلم يُرعُوا على بعض
3- ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض
وعدوان من قيس عيلان بن مضر بن نزار، كانوا من أعز العرب وأكثرهم
عدداً ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا.
إن الأنساب مهمة وأساسية في حياة العربي آمن بها إيماناً شديداً، وصارت
علماً عندهم إذا رأوا فيه ما يراه الناس في الوطن الآن.
والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية،
وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكاً شديداً، الرابط
الوحيد بين أفرادها هو العصبية، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن
إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه، ولا سلطة يتحاكم إليها، والعصبية قبلية ليس فيها
شعور واضح بالجنس العربي العام، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة
ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية.. ولم ينفذ هؤلاء جميعاً إلى فكرة الأمة
العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد، إنما كل ما
هنالك اتحاد قبلي له رئيس [38] ، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات.
وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد
القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيراً ما
تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب ... فكل قبيلة مستعدة دائماً
للحرب والإغارة وهلأ دائماً شاكية السلاح، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم
الأعلى.
هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية.
الإمارات العربية في شمال الجزيرة [39] :
أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق، في تخوم الشام حيث أسس
الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم
على أطراف بلاد فارس.. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا
درعاً واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية، وكثيراً ما وقعت
الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم، وبدوافع قبلية أخرى.
(1) لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة، وكان قد
تنصر ثم خلفه ابنه المنذر، ومن ملوكهم الحارث الأصغر، وكانت جيوش
الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد، وبني فزارة، وقع كثير من أسرى
القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر، فقصده النابغة الذبياني يمدحه
متوسلاً إليه في فكاكهم، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول [40] :
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وقد كان ينزل به
وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم [41] :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
(2) أما المناذرة: فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا، حيث رحلت
قبائل لخم وتنوخ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم،
ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (514 - 554م) ، وامتد سلطانه على عدد
من قبائل نجد وكان له يومان: يوم نعيم، ويوم بؤس، وممن قتل في يوم بؤسه:
الشاعر عبيد بن الأبرص، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ
عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه
الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج، ثم سار
الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها [42] ، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند،
وكان طاغية مستبداً، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول [43] :
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته [44] :
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً ... متى كنا لأمك مقتوينا [45]
ومن ملوكهم: النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس، وقد امتد سلطانه
إلى نجد والبحرين وعمان، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سبباً في حروب
شغلت قبائل قيس ردحاً من الزمن، ويقال: إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب
قتله عدي بن زيد العبادي.. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته
ومنها قوله [46] :
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار
بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب.
لقد أدت هاتان الإمارتان دورهما في خدمة سادتهما خير أداء، فقد بطش
ملوكهم بقبائل العرب بطشاً مريعاً ففي يوم أوارة الأول مثلاً يبطش المنذر بن ماء
السماء بقبيلة بكر؛ لأنها رفضت طاعته، ويقتل منها خلقاً كثيراً بعد حرب دامية،
ثم أسر منهم عدداً كبيراً وأمر بهم أن يذبحوا على جبل أوارة حتى جعل الدم يحمد
وأمر النساء أن يحرقن بالنار [47] .
وابنه عمرو بن هند وضع ابناً له عند سيد بني تميم زرارة بن عُدس، وكان
صغيراً، خرج يصطاد بعد أن أصبح رجلاً، ومر بإبل لزوج ابنة زرارة وأمر
ببكرة منها فنُحرت، وكان صاحب الإبل نائماً فلما انتبه ضربه بعصا ولم يعرفه
فمات.. فخرج سويد صهر زرارة هارباً إلى مكة المكرمة، وهرب زرارة أيضاً
إلى أن قيل له: ائت الملك واصدقه.. فجاء الملك وأخبره الخبر فقال: جئني
بسويد، قال: قد لحق بمكة، قال: فعلي ببنيه، فأتي ببنيه السبعة من ابنة زرارة
وهم غلمة بعضهم فوق بعض فأمر بقتلهم، تناولوا أحدهم فضربوا عنقه، فتعلق
الآخرون بزرارة، فقال زرارة: يا بعضي سرّح بعضاً، ثم قتلوا، وآلى عمرو
ليحرقن من بني درام مائة رجل.. فبعث بجيش على مقدمته عمرو بن ملقط الطائي
فأخذ ثمانية وتسعين منهم - من بني دارم - ولحقه عمرو بن هند في الناس حتى
انتهى إلى أوارة وهو جبل من ناحية البحرين.. وأمر الملك بأخدود فخد لهم ثم
أضرم ناراً ثم قذف بهم في النار، ومن هنا سمته العرب: محرقاً [48] .
وبقي أمر الحيرة مضطرباً بعد مقتل أبي قابوس، حتى فتحها المسلمون،
وأذعنت لخالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
- وهناك إمارة كندة: في شمال نجد في دومة الجندل، ومن أشهر ملوكهم
حجر الملقب بآكل المرار، وقد سيطر على القبائل الشمالية في نجد واليمامة، ثم
جاء بعده حفيده الحارث الذي عين أبناءه على قبائل نجد، منهم ابنه والد امرئ
القيس (حجر) الذي ساءت سيرته في بني أسد فقتلته بعد أن انهزمت كندة وغنمت
أسدٌ أموالهم وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص [49] :
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين! أينا
وأمضى امرؤ القيس بقية حياته مستعيناً بقبائل العرب من حمير وطيء يريد
أن يثأر من بني أسد، ويستعيد ملك آبائه، فلم يشتف، واتجه إلى قيصر الروم
ولقي حتفه بينما كان راجعاً.. ومن شعره في ذلك [50] :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
مكة المكرمة وغيرها من مدن الحجاز [51] :
تقوم مكة المكرمة في منتصف الطريق المعبد بين اليمن والشام حيث تمسك
بزمام القوافل التجارية وتعتبر أكبر مركز ديني للوثنية عند العرب.
لقد كانت مسكناً لجرهم وبقايا الأمم البائدة، ثم سكنها إسماعيل - عليه الصلاة
والسلام - وأصهر إلى قبيلة جرهم، ثم أجلت قبيلة خزاعة قبيلة جرهم عن مكة
المكرمة.
ثم نزلها قصي ومعه قبيلة قريش وأصهر إلى خزاعة، وأساءت هذه القبيلة
إلى البيت العتيق فأخرجها قصي ومن معه.
كان قصي بن كلاب مطاعاً في قومه، سيداً رئيساً معظماً، ولي البيت وأمر
مكة وجمّع قومه من منازلهم المتفرقة، وتملك على قومه فملكوه، وأقر العرب على
ما كانوا عليه من النسيء والإجازة من مزدلفة.. حتى جاء الإسلام فهدم به الله كل
ذلك.. وكانت إلى قصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فجاز شرف
مكة كله، وقطع مكة رباعاً بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.
قال قائلهم في مدح قصي وشرفه [52] :
قصي لعمري كان يُدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
همو ملأوا البطحاء مجداً وسؤدداً ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر
لم تدن مكة لأي ملك أجنبي، وفي ذلك يقول حرب بن أمية [53] :
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتنزل بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش
(ولم يؤد أهل مكة في الجاهلية إتاوة قط، وفرضوا على العرب قاطبة أن
يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وهم بعد أعز العرب فيتأمرون عليهم ... قاطبة) [54] .
وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، مما يؤكد زعامة قريش
ومكانتها عند العرب، فمكة بيت كعبتهم، وبيت تجارتهم، أقاموا حولها الأسواق
التجارية، كسوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وكان يعرض فيها الشعر والأدب
أيضاً، وفيها - في مكة - دار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها
الدينية والتجارية، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من
الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبلياً على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط
بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان
لعشيرة على عشيرة.
كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب
والعادة، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية [55] .
وكانت الطائف مصيفاً جميلاً يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة
والخمرة الصافية، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وكانت حياتهم لا تختلف عن
حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من
الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة.
أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني
الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا
العربية لغة لهم في حياتهم اليومية، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية،
وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف.
بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس
والخزرج من اليمن، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين، وكانوا وثنيين يحجون إلى
مكة وأصنامها، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون
على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة.
كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة
يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية ...
كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم
حاطب ويوم فارع، والبقيع، ويوم بُعاث وغيرها [56] .
وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم
برسوله، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء، ومازالوا بها
حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الجزيرة كلها
وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصراً لامرئ
القيس.
ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعاً
ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها [57] .
هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في
القبائل والمدن، لم نجد بينها فرقاً يذكر، حيث إن النظام القبلي، هو الذي كان
يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها.
وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب، والأحلاف وعادات الثأر
والأسر والسبي والصلح والسلم، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم.
الحروب في الجاهلية:
أ - أسبابها [58] :
إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية، أو على
المحالفة والنصرة.
ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها؟ لوجدنا
أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه
الأسباب، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء
يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها [59] .
وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم
في رماحهم، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم،
وديدنهم في السلب والغارة [60] :
وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على
غزوهم:
(البسوا جلود النمر، والثبات أفضل من القوة، أهنأ الظفر كثرة الأسرى،
وخير الغنيمة المال) [61] .
فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان
بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها.
يقول سلامة بن جندل: إن بقاؤه بعيداً عن الغزو، سيؤخره عن جمع الإبل
التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها [62] :
تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً ... إلى الرّوع يوماً تاركي لا أبا ليا
دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا ... من الحدثان والمنية واقيا
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ... ترى ساقييها يألان التراقيا
وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعياً وراء الشهرة والسيادة،
فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالاً، وإذا كان الحكم خبيراً بما سيجره
حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر
بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين.
وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالماً أو مظلوماً، على الحقيقة
وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته، وربما عير الشاعر قبيلته من
جراء تخليها عن نصرته، قال قريط بن أنيف، وكان بعض بني شيبان أغار على
إبله، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم ... فأنجدوه [63] :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لهبّ لنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرساناً وركبانا
وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما
حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج.
وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض، أو الأخذ بالثأر، أو بسبب
المنافسة على رئاسة وزعامة، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب
وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث
قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء، التي استمرت أربعين
سنة، بسبب سباق بين فرسين.
ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد
نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى.
ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول:
(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب
لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل
المتجاورة والعشائر المتناظرة، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم
الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا
أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم.. والثالث وهو المسمى في
الشريعة بالجهاد، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين ... لطاعتها..) [64] .
ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف:
لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية، أنها كانت حياة حربية تقوم على
سفك الدماء.. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم، فهم دائماً قاتلون
مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم.
وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها، بل
يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم [65] .
يقول زهير بن أبي سلمى [66] :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل [67]
فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم ... وكانوا قديماً من مناياهم القتل
فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب
فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم، يقول
دريد بن الصمة [68] :
وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيُشتفى ... بنا إن صبنا أو تُغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائماً واترون
موتورون.
وما كانوا يرهبون شيئاً مثل الموت حتف الأنف بعيداً عن ميادين القتال،
ميادين الشرف والبطولة، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول ... الشنفري [69] :
فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أمّ عامر
فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية.
إن طبيعة العربي في باديته، من حبه للحرية، وتعشقه للقوة، وتفضيله
الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم، جعلت حياته حرباً ضروساً لا
تهدأ، يقول الأفوه الأودي:
نقود ونأبى أن نقاد ولا نرى ... لقوم علينا في مكارمهم فضلاً
وكانت القبيلة تؤمن إيماناً كلياً بإخضاع القبائل الأخرى لمشيئتها سعياً وراء
المجد الرفيع مما يدفع القبائل إلى التناحر والتصادم [70] .
الفخر والحماسة:
ولقد وصفوا الحرب وصفاً مسهباً فيه فخر واعتزاز فهذا عنترة بن شداد
يصف وطأة الحرب وشدتها إذ يقول [71] :
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذا تقلّص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم [72]
يدعون عنترة والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم [73]
مازلت أرميهم بغرة وجهه ... ولبانه حتى تسربل بالدم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مُكلمي
نشوة عجيبة يحس بها عنترة وهو يخوض غمرات الموت، فيسطر لنا
مشاعر الفخر والحماسة في معلقته هذه.
وكان الشعراء يمدحون الشجاع ويفتخرون بالقوة والشجاعة والفروسية. يقول
طرفة بن العبد في معلقته [74] :
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعاً إذا بلت بقائمة يدي
فالقوة وصليل السيوف، والغارات المريعة، هي قوام حياة العربي في باديته
ومجال فخرة وعزه، حتى أصبحت حكمتهم المنشودة تدعو إلى الظلم حتى لا يُظلم، ولا يجرؤ العدو على انتقاص حقك، يقول زهير بن أبي سلمى [75] :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أي من لا يمنع عن عشيرته يذل، ويشرح الأصمعي البيت الأول بقول: من
ملأ حوضه ثم لم يمنع منه غُشي وهدم وهو تمثيل أي من لان للناس ظلموه.
وعمرو بن كلثوم يقول في معلقته [76] :
نسمّى ظالمين وما ظلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمِينا
ثم نراه يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المشهورة من مثل قوله [77] :
متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا
نطاعن ما تراضى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا
نجذ رؤوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا
كأن ثيابنا منا ومنهم ... خُضبن بأرجوان أو طُلينا
__________
(1) الصناعتين: ص138.
(2) طبقات فحول الشعراء 1/24.
(3) انظر: الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري، والحياة العربية للحوفي.
(4) العمدة.
(5) المفضليات: ص62.
(6) - العمدة 1/25، والسبح: الماء الجاري، والجابية: الحوض الضخم.
(7) الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري ص 136.
(8) الأغاني: 4.
(9) الحيوان للجاحظ: 1/74.
(10) انظر العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص 39.
(11) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 1/15.
(12) الصحاح للجوهري.
(13) العصر الجاهلي: دكتور شوقي ضيف ص39.
(14) انظر الشعر الجاهلي: د يحيى الجبوري.
(15) انظر المصدري السابقين: العصر الجاهلي، والشعر الجاهلي.
(16) المائدة: 50، وانظر تفسير ابن كثير.
(17) في ظلال القرآن ص 904، المجلد الثاني / الآية 50 من سورة المائدة.
(18) انظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 39، والطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال ص40 وانظر أنساب العرب في أيام العرب لجاد المولى ص 408 وما بعدها.
(19) الطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال.
(20) الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري ص 43 - 44.
(21) الطريق إلى المدائن ص 47.
(22) الطريق إلى المدائن ص 47.
(23) الشعراء الصعاليك: يوسف خليف ص 87.
(24) الأصمعيات: ص 107.
(25) أشعار الشعراء الستة الجاهليين، اختيارات الأعلم الشنتمري ص 236، وضية: قبيلة من عذرة ثم من قضاعة، وحديث عطفت وأشفقت.
(26) انظر أسباب الخلع: كتاب الشعراء الصعاليك ص 91 وما بعدها.
(27) العصر الجاهلي: د شوقي ضيف ص 59، 60 بتصرف.
(28) المفضليات رقم القصيدة (104) ص 354 /355، والحشد: الذين يحتشدون ويجتمعون للملمات الثقل: الغرم والدية وغيرهما يقول: نفعل ذلك كلما سللنا مربة بعد مرة.
(29) الأصمعيات: رقم القصيدة (8) ص37.
(30) شرح أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون ص37.
(31) الشعراء الصعالية ص102 - 103.
(32) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 276 وما بعدها.
(33) مهلهل: هو عدي بن ربيعة أخو كليب، وهو خال امرئ القيس وهو جد عمرو بن كلثوم من قبل أمه، وزهير جده من قبل أبيه.
(34) المفضليات، رقم القصيدة (51) .
(35) المفضليات، رقم القصيدة (128) .
(36) اختيارات الأعلم: ص 422، أ - يسر: الداخلون في الميسر، ب - تفضل آراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخاف عند الروح بل نثبت ونتوقر، ج - أي وجوهنا مشرقة ترتاح للكرم.
(37) المعلقات العشر شرح التبريزي ص 205 وما بعدها.
(38) الأصمعيات رقم القصيدة 18، أ - يقول: هات عذراً لحي عدوان فيما فعل بعضهم ببعض من القتل والتباعد بعدما ما كانوا حية الأرض التي يحذرها كل أحد، ب - الإرعاء: الإبقاء على أخيك،
ج - القرض: ما يتجازى به الناس من إحسان وإساءة.
(39) العصر الجاهلي: د/ شوقي ضيف، ص 57 وما بعدها.
(40) انظر المصدر السابق والشعر الجاهلي: د يحيى الجبوري.
(41) اختيارات الأعلم القصيدة رقم (3) ص 202.
(42) انظر الشعر والشعراء: 1/311 لابن قتيبة.
(43) انظر أيام العرب: يوم عين أباغ ص 51 محمد أحمد جاد المولى.
(44) الأغاني 21/126 ط ساسي، والشعر والشعراء 1/394 لابن قتيبة، والسدير قصر ازلملك، وأسد خفية: الخفية غيضة يتخذها الأسد عرينة أو اسم علم لمأسدة بعينها.
(45) انظر يوم أوارة الأول ص 99 أيام العرب.
(46) مقتوينا: أي خدماً (المعلقة ص 252 شرح التبريزي) .
(47) ديوان النابغة، والأعلم في اختياراته ص 196.
(48) أيام العرب، يوم أوارة الثاني ص 100.
(49) الشعر والشعراء 1/21 لابن قتيبة.
(50) انظر الديوان (66/76) واختيارات الأعلم.
(51) انظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 49 وما بعدها.
(52) البداية والنهاية لابن كثير 2/205 وما بعدها.
(53) الحيوان للجاحظ 3/141 وصلاح هنا مكة.
(54) كتاب البلدان لابن الفقيه، نقلاً عن كتاب العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(55) العصر الجاهلي.
(56) انظر آيام العرب: حروب الأوس والخزرج ص 62 - 85.
(57) وانظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(58) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 230 وما بعدها، والفروسية في الشعر الجاهلي الأول، د محمد أحمد الحوفي، والثاني د نوري القيسي.
(59) العقد الفريد: 5/201.
(60) شرح الحماسة للتبريزي: 1/181 نقلاً عن الحياة العربية للحوفي.
(61) الكامل لابن الأثير 1/261، وأيام العرب ص 126.
(62) ديوان سلامة بن جندل ص 21، نقلاً عن الفروسية في الشعر الجاهلي.
(63) شرح الحماسة للتبريزي 1/5.
(64) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: محمود شكري الألوسي 2/56.
(65) العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 62 وما بعدها.
(66) ديوان زهير ص 102، والأعزل مفرد عزل: وهو من لا سلاح له، فزعوا أغاثوا.
(67) المرزوقي 2/825 نقلاً عن العصر الجاهلي نلحمه: نطعمه اللحم الوتر: الثأر.
(68) المرزوقي 2/487 نقلاً عن العصر الجاهلي.
(69) الطرائف الأدبية، شعر الأفوه الأودي ص 22.
(70) الفروسية في الشعر الجاهلي ص 77 وما بعدها.
(71) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 245، وما بعدها يتذامرون: يحض بعضهم بعضاً.
(72) أشطان البئر: حباله (ويروى بثغرة نحره) .
(73) شرح القصائد العشر للتبريزي الضرب: الخفيف خشاش فيه قوة ومضاء بلت: ظفرت وتمكنت.
(74) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 151.
(75) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 288.
(76) المصدر السابق والثفال: خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن، اللهوة: القبضة من الحب، يبين: يظهر، الوتر: الثأر، نجذ: نقطع ويروى: نحز رؤوسهم في غير بر، الأرجوان: صبغ أحمر.
(77) العصر الجاهلي: شوقي ضيف.(1/61)
معالم
حول كتابة التاريخ الإسلامي
بقلم محمد العبدة
تزداد الحاجة يوماً بعد يوم إلى تنفيذ ما طرح من فترة غير قصيرة حول إعادة
كتابة التاريخ الإسلامي، بعد أن عاث به فساداً المستشرقون والمستغربون على حد
سواء، وهذا الشعور بالحاجة الملحة له أسباب نذكر بعضها:
1- إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها لهي
أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس
إعادة صياغة الحاضر، ومقولة (التاريخ يعيد نفسه) ليست خطأ من كل الوجوه،
وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للتأثير في نفوس الناس، أو للتأثير
في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال تعالى: [ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ
مِنْهَا قَائِمٌ وحَصِيدٌ] [هود: 100] ، وقال تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] [يوسف: 109] .
ولابد لأهل كل عصر من أن يواجهوا النوع ذاته من التعقيدات التي واجهها
أسلافهم، وإن سجل التاريخ ما هو إلا المنار الذي ينبئ الملاحين الجدد عن
الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمين في هذا
العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطأوا في كثير من الأمور، كما أن الدراسة
المتأملة للحاضر تساعدنا أيضاً على فهم الماضي، والذي جرب تقلبات الدول
والمجتمعات وشاهد المؤامرات السياسية، وعاين الركود الاقتصادي، يكون أقدر
على تفهم الحوادث الماضية التي ليست نسخة مطابقة للحاضر ولكن فيها شبه كبير
فيه.
يقول المؤرخ ابن الأثير: (وأنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره
فيزداد الإنسان بذلك عقلاً ويصبح لأن يقتدي به أهلاً) [1] .
والذي يشاهد ما تفعله بعض الدول الآن من استعانتها بعناصر أجنبية
وتفضيلهم على الأقرباء والدين واللغة يدرك طرفاً من نظرية ابن خلدون في أن
الدول إذا تمكنت تبعد عصبيتها الأولى وتعتمد على عصبيات مجلوبة، من الخارج، ويدرك المؤرخ عقم المحاولة التي قام بها الخليفة المعتصم العباسي لتقوية دولته
عندما جلب الأتراك فتحولوا إلى شوكة في حلق العباسيين، وأصبح المسلم العربي
كما قال المتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
2 - لئن كان التاريخ له أهميته ومنزلته عند المتقدمين من العلماء حيث قام به
أمثال ابن جرير الطبري والبخاري وابن الأثير والذهبي، وكتب السخاوي (الإعلان
بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) لئن كان هذا فهناك علماء لهم رأي آخر، فالغزالي يرى
أنه من العلوم المباحة التي ليس فيها نفع دنيوي ولا أخروي، وأنه كالعلم بالأشعار
التي لا سخف فيها [2] وتابعه النووي في ذلك فقال في (الروضة) : (الكتاب يحتاج
إليه لثلاثة أغراض: التعليم والتفرج بالمطالعة، والاستفادة، فالتفرج لا يعد حاجة
كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا) [3] .
وكان من نتائج هذه النظرة أن ضعف الحس التاريخي في العصور المتأخرة،
وفقدت خاصية التأمل والاستفادة من الحوادث، وأصبح التاريخ قصصاً وروايات
للتسلية وللتفريج عن الهم والغم ومرتبته في العلوم تأتي في الدرجة الثالثة أو الرابعة، ومجيء مؤرخ كبير كابن خلدون لم يغير هذه النظرة، لأن الأمة كانت في حالة
تدهور ثقافي، ولم يظفر كتابه المهم في النقد التاريخي بالأهمية والمكانة المناسبة له.
وفي العصر الحديث تنبه المسلمون لما للتاريخ من أهمية بالغة، وخاصة
عندما يكون الجهد منصباً على (استئناف حياة إسلامية) ولذلك لابد من إعادة كتابة
التاريخ الإسلامي.
3 - إن ما كتبه علماؤنا قديماً، وإن كان عملاً ضخماً، قد حفظوا لنا فيه كل
جزئيات وتفاصيل تاريخنا الإسلامي وجمعوا روايات كثيرة جداً، إلا أن هذه
الروايات تحتاج إلى غربلة وتمحيص لأن فيها الصحيح والضعيف بل والموضوع،
وقد ذكروا لنا مصادرهم حتى يعذروا ولا نحملهم المسؤولية، وما كتبه المحدثون
إنما نسجوا فيه على منوال المستشرقين الذين اهتموا اهتماماً زائداً بالتاريخ
الإسلامي لغاية في أنفسهم وكان لهم منهج خاص في البحث والتنقيب، ولهم منهج
في تفسير النصوص أكثره تهويل، يأتون فيه بالغرائب والعجائب، وذلك
بقصورهم عن فهم اللغة العربية وفهم حركة التاريخ الإسلامي، بالإضافة إلى النية
المبيتة لتشويه التاريخ الإسلامي، وأعجب بهم المستغربون وأصبحت المعادلة
عندهم: ما دام هؤلاء يتقصون هذا التقصي في تفسير النصوص ومدلولاتها فلا بد
أن يكونوا محايدين.
ووقع المسلمون بين قديم ينظر له باحترام وإنصاف ولكنه لم ينق من
الروايات المكذوبة وبين ما كتبه المستشرقون وتلامذتهم وفيه ما فيه من دس وافتراء
متعمد.
4- استغل أصحاب الاتجاهات المنحرفة بعض الروايات الضعيفة أو
الموضوعة في الموسوعات التاريخية القديمة أو تحليلات المستشرقين المشوهة،
استغلوا هذا في المدارس والجامعات وغرسوا في نفوس الشباب المتعلم أن تاريخنا
لا يعدو أن يكون أحداثاً دموية يتلو بعضها بعضاً وأنه إذا استثنينا الخلفاء الراشدين، بل إذا استثنينا فترة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فكل تاريخنا صراع
على الحكم وترف وفساد في القصور.. وعظمت المصيبة بأمثال هؤلاء، والمتعلم
الناشئ يتأثر بما يقال له، وأصبح الشباب في حيرة واضطراب، فعندما يسألون
عن كتب التاريخ لترشدهم إلى الحقيقة لا يجدون أمامهم إلا كتب الموسوعات الكبيرة
التي من الصعب على أمثالهم الرجوع إليها، أو الكتب المعاصرة وفيها من الجهل
والتشويه الشيء الكثير، وبذلك أيضاً عظمت التبعة على المسلمين وبدأ المخلصون
في التصدي لهذا التيار فكتبت دراسات حول هذا الموضوع [4] ، وصنفت كتب في
التاريخ الإسلامي، هي أفضل بكثير مما كتب في المرحلة السابقة [5] ، ولكن كتابة
التاريخ الإسلامي هي أكبر من هذه الجهود، ولا تزال بحاجة إلى توضيح وبيان،
وصياغة جديدة، والدخول في التفصيلات بعد التعميمات.
وهذا المقال محاولة من هذه المحاولات لعله يكون وغيره ارهاصاً بين يدي
كتابة التاريخ الإسلامي من جديد إن شاء الله.
التفسير الإسلامي للتاريخ:
يلح القرآن الكريم - لمن تدبره وعقله - على أهمية السنن التي وضعها الله
سبحانه وتعالى لهذا الكون، ولتسير فطرة الإنسان عليها، وهذه السنن صالحة،
صلاحاً شاملاً لأنها غير مقيدة بالزمان أو المكان، ويعتقد المسلمون أن تاريخ الأمم
وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ما هي إلا تفاصيل لجزئيات هذه السنن
وعرّفنا الله سبحانه من الأسباب الكلية للخير والشر [6] .
إن حوادث التاريخ هي من صنع الإنسان حقيقة، ولكنها تجري حسب حكمة
الله وعدله ومشيئته المطلقة في توجيه شؤون البشر [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: 140] ، كما أن الإنسان عندما يفعل الخير أو الشر له مشيئة
حقيقية بها يحاسب ويجازى والله خلقه وخلق مشيئته، قال تعالى: [ظَهَرَ الفَسَادُ
فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] [الروم: 41] .
[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ] [الأنعام: 44] .
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
والله سبحانه وتعالى يحب دفع الشر في الأرض وهو من سننه الكونية، كما
قال: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: 251] .
ولكن هذا الدفع يجب أن يقوم به أولياؤه المتقون، فيجاهدون في سبيله، فإذا
لم يقوموا به لم يندفع، وعندئذ تتحول الحياة البشرية إلى مستنقع آسن من الشرور.
وإذا كان الغرب ومؤرخوه قد تنقلوا بين نظريات كثيرة لتعليل أحداث التاريخ، ما بين التأكيد على الجانب الغيبي [7] ، وما بين بروز النزعات المادية كالتفسير
القومي [8] أو التفسير المادي [9] ، كما ظهر التفسير التشاؤمي عند (اشبنجار) [10] ونظرية التحدي عند (توينبي) [11] ، هذه النظريات وإن كان في بعضها
شيء من الحق [12] إلا أن التفسير الإسلامي للتاريخ يختلف ابتداءً عن النظرة
الغربية لأنه ينطلق في الأصل من تكريم الله للإنسان، وأن الله خلق هذا الإنسان
لعبادته، وسخر له كل ما يحتاجه لعمارة هذه الأرض، وأرسل الأنبياء وأنزل
الكتب ليكون أبلغ في العذر، وهذه الحياة الدنيا مؤقتة، والحياة الأخرى هي الباقية، وأوج الحضارة عند المسلم هو عندما يحقق ما يريده الله منه، وما خلق من أجله، وعندئذ يكرم بالاستخلاف في الأرض، وليست قمة الحضارة بقدر ما يمتلكه من
الأشياء وأدوات الترف والغنى والرفاهية والتدمير.
إن محور التفسير الإسلامي للتاريخ هو: إن ما يقع من الحوادث إنما يخضع
لسنن إلهية، كونية أو دينية، وإن ظاهر التدين أصيلة قوية في الإنسان بالفطرة
التي خلقه الله عليها، فهو يتجه إلى الدين ولكن شياطين الإنس والجن يجتالونه عن
هذه الفطرة فيغير ويبدل.
ومن هذه السنن:
1 - إن الدولة الكبرى أو الحضارات لا تقوم إلا بدين أو ببقايا دين.
2 - سنة دفع الله الناس بعضهم ببعض ومداولة الأيام بينهم ليتبين الحق
ويظهر الخير.
3 - زوال الأمم وهلاكها بالترف والفساد وعدم إقامة العدل.
4 - الناس مسؤولون عن رقيهم وانحطاطهم.
5 - استحقاق النصر للمؤمنين.
وسنتكلم عن كل واحدة من هذه السنن بشيء من التفصيل:
أولاً - من الملاحظ أن محل الدراسة التاريخية في القرآن الكريم ليس
المقصود بها شعباً معيناً أو دولة معينة بقدر ما هو مقصود: ما هو دين هذه الأمة
وما هي عقيدتها؟ وما موقفها من الرسل والأنبياء؟ فالتركيز على (الملة) باعتبار
أن ظاهرة التدين هي الأصل في الإنسان قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا
والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة/62] ، فالحديث هنا عن (ملل)
معينة وليس عن شعوب أو دول، وعندما يذكر القرآن الحوادث التي وقعت لبني
إسرائيل يسردها دون ترتيب زمني؛ لأن المقصود أن هذه الأمة (يهود) لها صفات
معينة، وهذا واضح من سيرتهم مع نبيهم موسى -عليه السلام-، وقد امتن الله
على اليهود المعاصرين لفجر الدعوة الإسلامية بنعمة أنعمها على آبائهم، وذلك
لأنهم أمة واحدة، وقصص الأنبياء في القرآن هي قصة الصراع بين التوحيد وبين
الوثنية والأمة الإسلامية يقابلها الأمم النصرانية أو المجوسية.. وقد فرح المسلمون
في مكة ببشارة القرآن لهم بانتصار الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب فهم
أقرب من المجوس.
وتركيز القرآن علي هذه الناحية يؤكد أن الدين هو العامل الفعال في تكوين
الحضارات والدول الكبرى سواء كان هذا الدين حقاً كما أنزله الله سبحانه وتعالى أو
قد حرف وبدل، المهم هو أن فكرة التدين أو التطلع الغيبي هي التي تعطي الحماس
والجد والعاطفة التي تحتاجها الدول في إبان تأسيسها، وقد خلق الإنسان متديناً
بفطرته، بالعهد الذي أخذ عليه [ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] بل لا يوجد شعب مهما
كان موغلاً في الهمجية إلا وتطلع إلى الغيبيات، (وإن الغريزة الدينية المشتركة بين
كل الأجناس البشرية لا تختفي بل لا تضعف إلا في فترات الإسراف في الحضارة
وعند عدد قليل جداً من الأفراد) .
يقول المفكر الجزائري مالك بن بني: (فالحضارة لا تنبعث - كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها
الديني، وكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى
ما وراء حياته الأرضية) [13] ، ويقول توينبي: (والتحول الديني كان حقيقة مبدأ
كل شيء في التاريخ الانكليزي) [14] .
وهنا يثار سؤال: كيف تقوم دول كبرى على الوثنية المحضة وليس فيها أي
أثر للدين، كالدول الشيوعية في هذا العصر، والجواب كما قال مالك بن نبي:
(هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولاً من تفسير أصول الشيوعية باعتبارها حضارة،
وثانياً إننا نعتبر الشيوعية (أزمة) للحضارة الغربية المسيحية) [15] . وهذا التفسير
ليس غريباً، فقد ذكرت قبل قليل أن نزعة التدين لا تخلو منها أمة من الأمم إلا في
فترات استثنائية، ولابن تيمية كلام يقرر فيه شيئاً من هذا، يقول - رحمه الله -
بعد كلام عن الأنبياء وفضلهم على البشرية: (ويقال هنا: إنه ليس في الأرض
مملكة قائمة إلا بنبوة أو آثار نبوة وأن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا
يستريبن العاقل في الأقوام الذين درست النبوة فيهم كالبراهمة والمجوس) [16] ،
كما يقرر ابن خلدون المعنى نفسه حيث يقول: (الدول العامة الاستيلاء، العظيمة
الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق) [17] .
ونحن يمكننا أن نضيف على كلام ابن خلدون: أو (بفكرة) تبلغ عند أصحابها
مبلغ التقديس للديانات ويتفانون في تطبيقها، وهذا من ناحية نفسية لا من ناحية
تاريخية، وهذه الحضارات والدول وإن قامت ابتداء على الدين إلا أنه مع تطاول
الزمن والإسراف في الحضارة يبدأ الفساد ينخر فيها ولابد إذن من مبدأ الدفع الذي
سنه الله سبحانه وتعالى.
ثانياً - إن مبدأ الصراع بين الأمم ليظهر الخير ويخفف من الشر هو من
أعظم السنن الكونية، قال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] [الحج: 40] ، وقال
تعالى: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251] .
فالأرض تفسد إذا طال فيها مكث الطواغيت وحكوماتهم الفاسدة، ولم يقم من
يجاهدهم ويدفع فسادهم ويريح العباد والبلاد منهم، والله ذو فضل على الناس أن
جعل هذه السنة من سننه الكونية حتى تتطهر الأرض بين كل فترة وأخرى، كما أن
هذا الصراع يرمي إلى تقوية المؤمنين، فيزداد نشاطهم ويحققوا ما يريده الله منهم،
يقول ابن تيمية شارحاً الآية السابقة:
(وقد بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها،
فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد، إذا هدمها المجوس والمشركون، وأما إذا
هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله فهذا خير وصلاح، فالله
سبحانه يدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم والنصارى ثم دفع
النصارى بالمؤمنين) [18] .
ويقول أحد المؤرخين الغربيين (هوايتهد) : (إن صراع العقائد والمذاهب ليس
كارثة بل فرصة) .
إن المنطقة العربية - وبلاد الشام خاصة التي بارك الله فيها - من مراكز
الصراع الكبرى في العالم حتى يتبين الحق والباطل ويتمحص أهلها ويأخذوا أجر
الدفع والجهاد في سبيل الله، قال تعالى ذاكراً بلاد الشام: [سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] [الإسراء: 1] ، وقال: [وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا] [الأعراف: 137] ، وبنوا إسرائيل أورثوا مشارق ومغارب بلاد
الشام، وقال تعالى ذاكراً إبراهيم - عليه السلام -: [ونَجَّيْنَاهُ ولُوطاً إلَى الأَرْضِ
الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 81] ، وإبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً إلى
أرض الشام.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يوم
الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها: الغوطة، وفيها مدينة يقال لها:
دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» [19] .
وعن خريم بن فاتك الأسدي قال: (أهل الشام سوط الله في الأرض ينتقم بهم
ممن يشاء، كيف يشاء) [20] .
كما ورد في الحديث الصحيح: «إذا أحب الله قوماً ابتلاهم» [21] .
وعلى أرض الشام ومصر قام الصراع بين المسلمين والصليبيين، فكان لهم
فضل رد هؤلاء الغزاة عن كل بلاد المسلمين، وعلى أرض الشام هُزم التتار لأول
مرة بعد زحفهم المدمر على بلاد الإسلام.
وفي العصر الحديث ابتليت باليهود وبكل الحاقدين على الإسلام، فهي في
صراع مستمر حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويتخذ منهم شهداء، والذي ينظر
بعين البصيرة إلى تجمع اليهود من كل أنحاء العالم، يشعر وكزنهم يساقون سوقاً
إلى هذه المنطقة، بل استطاعوا جرّ أمريكا وأوربا وراءهم لتصبح من المراكز
الحساسة جداً في السياسة العالمية. يقول الدكتور زين نور الدين زين: (ربما ليس
هناك بقعة أخرى في الدنيا كلها وقعت حروب على أرضها وعبرت شعوب ثم
عادت لتعبر ثانية فوق أرضها كمنطقة الشرق الأدنى، فهذه المنطقة كانت أبداً ساحة
معركة للجيوش، كما أنها كانت معتركاً للفكر) [22] ، ويقول أيضاً: (إن المشاكل
الحديثة التي جدت في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية تدفع بالمرء أحياناً إلى
الاستنتاج أن القدر ذاته كان منذ فجر التاريخ يلعب دوراً حاسماً في مصير الشرق
الأدنى وأنه مكتوب على شعوب هذه المنطقة أن تعيش في حالة مستمرة من التوتر
والتنازع، ومنذ سقوط الإمبراطورية العثمانية لم تحسم قط في هذه البقعة من الدنيا
قضية واحدة حسماً نهائياً) [23] .
ويقول الدكتور ج. س. بادو: (مادام هناك ثمرة شهية متدلية من شجرة فإن
قطافها سيغوي أحد الناس وهذا هو السر في تورط منطقة الشرق الأدنى في الشؤون
العالمية) [24] .
والمنطقة ليست ثمرة شهية للغرب والشرق من ناحية الثروات الطبيعية فقط
بل لأنها مركز الصراع الحضاري فالغرب يعتبر (إسرائيل) امتداداً حضارياً له،
وهو في صراع مع المسلمين فلابد إذن من مساعدة اليهود.
إن كثرة ذكر القرآن لليهود وتخصيصهم بالذكر هم والنصارى في سورة
الفاتحة ليدل على أن الصراع بين المسلمين وبين هاتين الفئتين سيكون صراعاً
طويلاً، كما يدل على أثر هاتين الفئتين في الأحداث العالمية، ومن يقرأ الكتب
التي تتحدث عن أثر اليهود في السيطرة على كثير من المؤسسات والدول
واستخدامهم - في سبيل ذلك - المال والنساء والصحافة والواجهات من جمعيات
وأحزاب ذات لافتات براقة، من يقرأ هذا يشعر بأنهم يتلاعبون بالشعوب والأمم
السادرة في غيها وضلالها، ومع أن هناك صيحات تحذير من هنا وهناك ممن
عرفوا حقيقة مكرهم وتخطيطهم من وراء الستار، وأنهم هم سبب الكثير من
الأزمات، الاقتصادية والسياسية، إلا أن هذه التحذيرات لم تعرقل أو تؤخر من
سيطرتهم.
وأما الدول التي تسمي نفسها بالاشتراكية فهي ليست إلا ثمرة من ثمار
اليهودي (ماركس) ومن ثمار المادية الأوروبية.
إن التفسير القرآني للتاريخ بمدافعة الأمم بعضها بعضاً هو أعم وأشمل من
نظرية (التحدي) عند المؤرخ الانكليزي (توينبي) التي هي صادقة في جانب من
جوانب التاريخ الإنساني، فإن تعرض أمة لخطر خارجي أو داخلي قد يظهر من
طاقات أبنائها ما كان خامداً، فإن وقت الأزمات والمصائب هو الوقت الذي يفكر
فيه الناس بالتغيير، ولكن أين هذه النظرية من تفسير القرآن الذي هو عملية
مستمرة وصراع دائم بين الخير والشر ليتغلب الخير أو يخفف من الشر.
ثالثاً - ومن سنته تعالى في البشر أن الأمم التي تبطر معيشتها، وتعيش في
الترف وتنهمك في الملذات، وتقارف الآثام والذنوب، لابد أن يصيبها العقاب إن
آجلاً أو عاجلاً وسواء كان عذاباً مادياً حسياً أو عذاباً معنوياً.
قال تعالى: [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] فهلاك القرى إنما يجيء بعد وجود طبقة
المترفين الذين يفسقون فيها، والأمر هنا هو أمر قدري كوني، ولا داعي لتأويلها
بأن الله سبحانه وتعالى أمر المترفين بأن يقيموا حدود الله فلم يقيموها فحق عليهم
القول؛ لأن المترفين في الاصطلاح القرآني قد فسدت فطرتهم فلا يستحقون هذا
التكريم [25] .
وقال تعالى: [ولَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ
ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً] ... ... [فاطر: 45] .
وقال: [وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
ولَتَعْلُنَّ عُلُواً كَبِيراً * فَإذَا جَاءَ وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْداً مَّفْعُولاً] [الإسراء: 4-5] .
وقال تعالى: [وكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ
خَبِيراً بَصِيراً] [الإسراء: 17] .
[ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِوالأَرْضِ]
[الأعراف: 96] .
وقد ثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ] قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بوجهك» [أَوْ
مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] قال: «أعوذ بوجهك» [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ
بَعْضٍ] قال: «هاتان أهون» [26] .
فعذاب التفرق والتحزب هو من العذاب الذي يصيب المسلمين كما يصيب
غيرهم، بل ربما كان في المسلمين أشد، لأن هذا من عذابهم في الدنيا، وقال -
صلى الله عليه وسلم -: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب ... الله» [27] .
وما هذه الأمراض الفتاكة التي تظهر بين الفينة والأخرى وتستعصي على
الطب والأطباء، إلا من عذاب الله لهذه الأمم التي انغمست في حمأة الرذيلة وما هذا
القتل المستمر بين الناس لا يدري القاتل والمقتول فيم يقتتلان، وما هذه الزلازل
المدمرة في لحظات وثوان، إلا من عقاب الله الظاهر والخفي.
يقول ابن تيمية مطبقاً هذه القاعدة على التاريخ الإسلامي: (وقد أصاب أهل
المدينة [28] من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد
الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالاً أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم
بإيمانهم وتقواهم) [29] .
وجاء في (سير أعلام النبلاء) تعليقاً على الأحداث التي جرت في مكة بين
جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير السكوني وبين جيش عبد الله بن الزبير:
(دخل عبد الله بن عمرو المسجد الحرام والكعبة تحترق حين أدبر جيش
حصين بن نمير، فوقف وبكى وقال: أيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم
أنكم قاتلوا ابن نبيكم (الحسين بن علي) ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من
أبي هريرة، فقد فعلتم فانتظروا نقمة الله فليلبسنكم شيعاً، ويذيق بعضكم بأس
بعض) [30] . وأما ما حل بالأمم السابقة بسبب فساد أخلاقها فهو معروف مشهور
وأكبر مثال على ذلك ما حل بالدولة الرومانية، فقد سقطت أمام جحافل الزاحفين
عليها وكأنها لم تكن والفساد والبطر الذي تمارسه أوربا في هذا العصر حدا بالعقلاء
منهم إلى إرسال صيحات الإنذار والخطر، ويقول ألكسس كاريل: (وهذا هو
السبب في أن الأسر والأمم والأجناس التي لم تعرف كيف تميز بين الحلال والحرام
تتحطم في الكوارث، فمرض الحضارة والحرب العالمية نتيجتان ضمنيتان لانتهاك
حرمة النواميس الكونية) [31] .
وكاريل يتحدث عن مرض الحضارة قبل الحرب الثانية وبعدها بقليل، فكيف
لو شاهد قمة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي الذي يعيشه الغرب الآن. وهذا ما حدا
أيضاً بمؤرخ كتوينبي أن يطلب من الغرب إعادة الدين إلى قوته الأولى وإيقاف
جبروت العلم [32] .
رابعاً - ومما هو قريب من السنة السابقة: أن الناس هم المسؤولون عن
رقيهم وانحطاطهم، قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، فالتغيير يجب أن يبدأ من الإنسان، والله سبحانه وتعالى ييسر له
السبل التي يريدها والأمة التي تعشش فيها الأفكار الميتة والأنانية والبغض والحسد، وقد ركنت إلى الكسل والخمول، هذه الأمة لا يمكن أن تنتج تقدماً أو شيئاً يذكر
بل إن حكماً علمانياً يمكن أن يستمر ويزدهر بالاتحاد والعدالة أكثر من حكم أدعياء
الإيمان إذا ما ركنوا إلى الأخلاق المنحلة وإلى الفوضى والعصيان [33] .
لقد نقل الإسلام العرب نقلة بعيدة غيرت ما بأنفسهم تغييراً شاملاً وجذرياً،
وكل الأفكار القاتلة من عصبيات وخرافات وعقائد ساذجة مضحكة، كل هذا تغير
بعقيدة التوحيد الواضحة الشاملة لكل مناحي النفس الإنسانية وعندئذ استطاعوا تغيير
ما بأنفس الأمم الأخرى، لقد بدأ التغيير بكلمة [اقرأ] ورجل الفطرة الذي لم
تفسده الفلسفات الباردة أو الترف المردي، إن تدبر القرآن الكريم والسنة النبوية
كفيلان بتغيير ما بالنفس من أمراض ليعود رجل الفطرة إلى دوره في السير على
هدى الله ويحقق ما خلق من أجله. وإن تغيير ما بالنفس ليس عملية صعبة فهذه أمم
في العصر الحديث استطاعت أن تنهض من كبوتها بسبب وجود الإنسان الذي
اكتملت فيه الشروط النفسية للتغيير، وليس بسبب وجود المادة وتراكمها، وأكبر
مثال على ذلك ما فعله الشعب الألماني الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف
عمر بلده بعد أن أصبح خراباً بسبب الحرب، ورجعت ألمانيا كأقوى الدول الغربية
اقتصادياً، وصدق فيهم ما قاله الصحابي عمرو بن العاص عن أجدادهم الروم:
(وأسرع الناس إفاقة بعد مصيبة) [34] ، وعندما يغير المسلمون ما بأنفسهم سيأخذ
الله سبحانه وتعالى بأيديهم، لأن هذا وعده ومن أصدق من الله قيلاً.
خامساً - في صرح الحق والباطل سينتصر الحق في النهاية وإن انتفش
الباطل وعربد في البداية، وهذه سنة نلاحظها في تفاصيل الحياة اليومية كما
نلاحظها في الأحداث الكبار، قال تعالى: [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ
مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
يقول ابن قتيبة شارحاً هذه الآيات: (هذا مثل ضربه الله للحق والباطل يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله،
ويجعل العافية للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود أسال الأودية بقدرها [35]
[فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً] أي عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق،
وكذلك المعادن إذا دخلت الكير يوقد عليها فيعلوها مثل زبد الماء ثم قال: [فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً] أي يلقيه الماء عنه فيتعلق بأصول الشجر وجنبات الوادي،
وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير، فهذا مثل الباطل [وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ] فهو مثل الحق) [36] .
والمسلمون هم أحق الناس بهذه السنة وإذا تأخر عنهم فلأمر ما في نفوسهم،
أو لأنه لم تتمحص صفوفهم وكيف لا ينصرهم الله سبحانه وهم أولياؤه، وهل
يستوي المجرمون والمسلمون، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«نصرت بالرعب مسيرة شهر» وهذا الكلام ليس من باب [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ] ، فهذه لا يفكر فيها المسلم ولكنها من باب وعد الله الصادق بنصر المؤمنين عندما
يكونون مؤمنين فعلاً، قولاً وعملاً، وليس من قبيل الأماني ويجب أن يعتقد من
تأخر عنه النصر والتمكين أنه ما تأخر إلا لسبب أو لأسباب، فلا يلومن إلا نفسه،
ولا يضع المعاذير لنفسه ويلقي بالتبعة على غيره.
للبحث صلة.
__________
(1) السخاوي: الإعلان والتوبيخ لمن ذم التاريخ /23.
(2) انظر السخاوي: الإعلان والتوبيخ /23.
(3) المصدر السابق /49.
(4) من الكتب الجيدة التي ألفت ما كتبه الدكتور محمد رشاد خليل في (المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره) .
(5) من رواد هذه المرحلة التي تأثرت بالمستشرقين: حسن إبراهيم حسن وأحمد أمين ومن تأثر بهم من تلامذتهم.
(6) - انظر: ابن القيم: الجواب الكافي /22، ودراسات في حضارة الإسلام لجب/152.
(7) يقول (نيبور) و (مارتيان) : إن هدف التاريخ يقع خارج التاريخ انظر: ادوار كان: ما هو التاريخ/82.
(8) الذي يقول بأن هناك مميزات خاصة لجماعات خاصة من البشر.
(9) الذي قال به ماركس، وقد أخذه عن هيغل الذي يقول بتناسخ الحضارات وأن كل حضارة تحمل في داخلها تناقضاً وهذا التناقض يصطدم مع ضده فينتج شيئاً ثالثاً، وهكذا فالعالم يتجه إلى الروح الكلي! ! حور ماركوس هذه النظرية وقال: إن طرق الإنتاج هي التي تعين طرائق التفكير، وهكذا يستمر صراع الطبقات حتى ينتهي الأمر أخيراً إلى حكم طبقة العمال، انظر لويس جودشك: كيف نفهم التاريخ /549.
(10) يرى هذا المؤرخ أن الحضارة كالإنسان تماماً، ولابد أن تمر بفترة النشوء والشباب ثم الهرم فالفناء محتم عليها.
(11) يفسر (توينبي) الحضارة بأنها: رد معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس في مواجهة (تحد) معين، والطبيعة بالخصوص - أي الجغرافيا - هي التي تقوم بهذا التحدي، وحسب مستوى التحدي وفعالية الرد تقوم حضارة هذا الشعب إما بالتقدم والوثوب إلى الأمام، أو الجمود ومن ثم الفناء، انظر: (شروط النهضة لمالك بن نبي/88) .
(12) محمد عبد الله دراز: الدين /84.
(13) شروط النهضة /67 - ط، مكتبة دار العروبة بالقاهرة.
(14) مختصر دراسة للتاريخ 1/5.
(15) شروط النهضة/73.
(16) الصارم المسلول /250.
(17) المقدمة 2/526، نشرة علي عبد الواحد واقي.
(18) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/271.
(19) أخرجه أبو داود 2/211، والحاكم وأحمد، انظر فضائل الشام للربعي /38 - بتحقيق الألباني.
(20) قال الألباني في تعليقه على مناقب الشام لابن تيمية: إسناده صحيح وهو موقوف.
(21) صحيح الجامع الصغير 1/139.
(22) الصراع الدولي في الشرق الأوسط /14.
(23) المصدر السابق /181 والمؤلف في تعبيراته (الشرق الأدنى) أو (الامبراطورية) متأثر بمسميات الغربيين لتاريخنا.
(24) المصدر السابق /20.
(25) وقد يوضح هذا الأمر الكوني تفسيران: 1 - أن (أمرنا) هنا بمعنى كثرنا من أمر المال، يأمر إذا كثر، يقال: خير المال سِكَّةِ مأبورة، أو مهرة مأمورة، فالمأمور: الكثير الولد، والسكة: السطر من النخل، والمأبورة: المُصلَحة 2 - ومن القراءات في الآية: أمرنا مترفيها، أي أصبحوا هم الأمراء حتى يحق عليها القول، فالله يريد أن يهلك هذه القرية لفسادها، فكانت كثرة المترفين أو وجودهم كأمراء هو السبب المباشر والتفسيران يرجعان إلى أن الأمر قدري كوني، وهو اختيار ابن تيمية -رحمه الله-، انظر الأمالي لأبي علي القاري 1/103 ط، دار الشعب.
(26) فتاوى ابن تيمية 3/285.
(27) صحيح الجامع الصغير 5/141، قال عنه الألباني: حسن.
(28) يعني بذلك: وقعة الحرة عندما ثار أهل المدينة على يزيد بن معاوية.
(29) الفتاوى 11/114.
(30) الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/94.
(31) تأملات في سلوم الأنسان /41 - نشرة جامعة الدول العربية.
(32) توينبي: الإنسان وأمه الأرض، انظر: زكي محمود - هذا العصر وثقافته / 27.
(33) انظر ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه: (دستور الأخلاق في القرآن) حول هذا الموضوع، وما كتبه الأستاذ جودت سعيد حول سنن تغير ما بالنفس في كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) .
(34) مختصر صحيح مسلم للمنذري، تحقيق الألباني/296.
(35) أي: الكبيرة على قدره، والصغيرة على قدره.
(36) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن /326 - تحقيق: سيد صقر.(1/75)
صفر - 1407هـ
أكتوبر - 1986م
(السنة: 1)(2/)
الافتتاحية
بين يدي عام هجري جديد
التحرير
ما أحوجنا ونحن نستقبل عاماً جديداً أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا
وواقعنا مع رسول -صلى الله عليه وسلم- في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة
المنورة وإذا كانت هذه الافتتاحية المتواضعة لا تتسع لجميع معاني الهجرة وما حوته
من دروس وعبر، فسوف نختار منها قيمة الزمن وأهميته.
لقد جاهد -صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله حق الجهاد، منذ أنزل الله
عليه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * ورَبَّكَ فَكَبِّرْ * وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ]
[المدثر: 1-4] ، فكان صلى الله عليه وسلم يواصل الليل مع النهار والسر مع
الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد
قريش ووعيدها.
واستجاب له منذ بداية الدعوة صديق الأمة أبو بكر من الرجال، ومن
الصبيان علي بن أبي طالب، ومن النساء زوجه خديجة بنت خويلد، واستجاب
لأبي بكر: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضى
الله عنهم جميعاً وأرضاهم.
وتعهد صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار
الأرقم فيحفظهم ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق،
ويحذرهم من الفسق والشرك والعصيان، وكان -صلى الله عليه وسلم- قدوة لهم في
جميع أقواله وأفعاله.
وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في الدعوة إلى الله
وفي التزود من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله، وكانت العقيدة في
نفوسهم أهم من المال والأهل والولد، وعندما خيروا بين الوطن والقبيلة ورغد
الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- والهجرة في سبيل الله.
لقد صدق الصحابة -رضوان الله عليهم- ما عاهدوا الله عليه، وعندما
ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية، وعندما نادى
منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم يقول
[وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] [طه: 84] .
وبعد ثلاثة عشر عاما من البذل والتضحية أكرم الله جل وعلا محمداً ... وأصحابه - صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم - بالنصر وجاءهم من جهة المدينة.
ثلاثة عشر عاماً كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها! ! .
ثلاثة عشر عاماً لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم
عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض.
ثلاثة عشر عاماً من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة.
فأين نحن اليوم من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلم؟ .
لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه..
فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت
وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله
شديد؟ ! .
ماذا قدمنا فيه كأفراد وكشعوب، ليوم كألف سنة مما تعدون؟ ! .
إن الجواب على هذا السؤال مخجل ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف
بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه
في عمل قلما تنتفع به الدعوة الإسلامية، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه
التعب فيتناول طعام الغداء مع أهله ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في
رعاية شؤون البيت والولد، ثم ينام، ثم يعود في الصباح إلى عمله وهكذا..إنها - والحق يقال - حياة كالتي وصفها الحطيئة في هجائه للزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لقد شغلتنا أموالنا وأولادنا عن طاعة الله والجهاد في سبيله، ونحن الذين
حذرنا الله -جل وعلا- من فتنة المال والولد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا
تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ *
وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المنافقون: 9-11] .
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح
وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك»
رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن
عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه،
وعن جسمه فيم أبلاه.
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال
الصالحة، وفي الجهاد في سبيل الله، أم أفنيناها في اللهو والتفاخر بالجاه والمال
والولد.
ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السان، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أم أبليناها في تناول ما لذ من الطعام والشراب؟ ! .
والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في
السماء.
قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ
مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ
إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]
[المجادلة: 7] .
وقد انتبهت الأمم الأخرى إلى قيمة الوقت وأهميته، فالناس في جميع بلدان
العالم كانوا يظنون أنه لن تقوم للألمان قائمة، بعد دمار بلدهم، وهلاك الحرث
والنسل فيه خلال الحرب العالمية الثانية.. ولكن أصحاب العقول من العلماء
والحكماء والسياسيين الألمان راحوا يعملون بهمم جبارة، ورفعوا شعار العمل
ساعتين مجاناً في كل يوم من أجل بناء بلدهم، واستجاب الشعب لهم، وهبوا جميعاً
يعملون على قلب رجل واحد، وخلال زمن يسير عادت ألمانيا دولة قوية مرهوبة
الجانب وكأنها لم تتعرض لدمار شامل.
فتصوروا لو عمل المسلمون ساعتين في اليوم مجاناً في سبيل الله.
لو كان عملهم في مجال الاقتصاد لكان دخل الدعوة الإسلامية لا يقل عن ألفي
مليون دولار في اليوم الواحد، وسيكون خلال شهر واحد ستين ألف مليون دولار،
ولو رصد مثل هذا المبلغ في سبيل الله لتغير وجه الأرض شريطة أن يصاحبه
تخطيط وصدق.
ولو كان عمل المسلمين في مجال تبليغ الدعوة لدخل الناس في دين الله أفواجاً
في كل مكان من المعمورة، وأصبح الإسلام دين البشرية كلها.
ولو كان عملهم في المجال العلمي بجميع جوانبه وفروعه، لقاد علماء أمتنا
العالم ولانتهت أسطورة اليهود وغير اليهود.
وفضلاً عن هذا كله، فنحن أحق من الألمان بمثل هذا العمل لأنهم يعملون من
أجل دنياهم، ونحن نعمل من أجل دنيانا وآخرتنا.
فهل نبدأ عامنا الجديد ونحن أكثر استعداداً لعمل الخير وطاعة الله سبحانه
وتعالى؟ ! .
وهل نتخلى عن السهرات والجلسات الفارغة وما يدور فيها من غيبة ونميمة
ومراء ونفاق؟ ! .
وهل نستفيد من أوقاتنا، ونحزن على كل يوم يمضي من أعمارنا دون أن
نعمل فيه عملاً طيباً خالصاً لوجه الله؟ ! .
وهل نجدد العهد مع الله، ونتأسى برسول الله وأصحابه الغر الميامين - صلى
الله على رسوله وعلى آله وصحبه وسلم - الذين عرفوا كيف يستفيدون من ... أوقاتهم؟! .
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعلنا من
الخاسرين الذين يؤثرون العاجل على الآجل والفاني على الباقي.(2/4)
التجديد في الإسلام
تحدث الباحث - في المقال السابق - عن حديث المجدّد، وتناوله من حيث
الثبوت. ثم من حيث المعاني المستخرجة منه، وعرض أقوال العلماء فيه
باستفاضة وقبل أن يدلف إلى الترجيح بين الآراء قدم لذلك بحديثين -كبُشْرَتَيْن لهذه
الأمة - مر أولهما في آخر المقال السابق، وهو حديث: لا تزال طائفة من أمتي
على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وفي هذا الجزء من البحث يتابع
الكاتب دراسته لحديث المجدد، وللتجديد بشكل عام.
وقال الإمام الترمذي: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي ابن
المديني يقول: هم أهل الحديث) [1] وروى الحاكم عن الإمام أحمد أنه قال: (إن
لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟) [2] .
قال الحافظ في الفتح (بسندٍ صحيح) [3] .
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة
بين أنواع المؤمنين؛ منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم
زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض) [4]
ونقل ابن حجر كلام النووي ثم زاد في آخره: (ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم
أولاً فأولاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر ... الله [5] .
وثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين
فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على
ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال:
من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) [6] وهذا الحديث وإن كان فيه بيان
تفرق الأمة الواحدة إلى شيع شتى، إلا أن فيه بيان حفظ الله لدينه بإقامة فرقة ناجية
تلتزم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتقادها وسلوكها وهذه الفرقة
الناجية هي الطائفة المنصورة، والله أعلم، ولا نظن حديث المجدّد بمعزل عن
مفهوم هذين الحديثين. فحين تستحكم الأهواء، وتعبث بهذه الأمة الآراء، فتفترقُ
إلى هذه الفرق الكثيرة، تكون الفرقة الناجية المنصورة هي القائمة بأمر الله في
خضم هذه النزاعات والاضطرابات، الملتزمة بمنهج الرسول -صلى الله عليه
وسلم- في جميع أمورها. ولا شك أن كل طائفة متحزبةٍ على شيءٍ من الدين سوف
تدَّعي -كما يدَّعي غيرها-أنها هي المقصودة في الأحاديث النبوية.
وكلُّ يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تُقِرُّ لهم بوصل!
وليس من حقّ أحدٍ أن يتحكم فيدخل من شاء ضمن هذه الطائفة، وينفي من
شاء وفق رغبته وهواه، بل يكون ذلك وفق ميزانٍ عدلٍ مقسط، وهو عرض حال
المدَّعي على الصفات النظرية والعملية التي وصف السلف الصالح بها هذه الفئة،
وهي:
1- موافقة اعتقاداتها لما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، في أبواب العقيدة كلها:
من أسماء الله وصفاته، والإيمان، والقدر، إلى غير ذلك من أصول الاعتقاد. وأسعد الناس بذلك هم الذين يؤمنون بالنصوص إيماناً صادقاً دون أن يسلطوا
عليها سهام التحريف والتأويل والإنكار والتضعيف. ومن أين يستطيع أحد أن يثبت
أن الصحابة اعتقدوا بالأصول والنتائج التي اعتقدها المخالفون ممن أشربوا حب
الكلام، وجعلوا العقل الفلسفي حاكماً على النصوص، ففسروا النصّ وفق ما
يقتضيه ذلك العقل - في نظرهم - وإن أدى ذلك إلى أن يفهم من النص نقيض
معناه.
وليس بنا الآن حاجةٌ إلى نقل نصوص الصحابة والتابعين ومن بعدهم من
الأئمة المهديين لأنها أكثر من أن يتسع لها المقام، ولكن نحيل إلى بعض مواطنها
لمن يريد [7] .
2- اعتمادها في التفقه والاستنباط على الوحي المنزل، أو على ما أحال عليه
الوحي المنزل من الأدلة كالإجماع الثابت، أو القياس الصحيح أو المصلحة
الراجحة التي لا تعارض نصاً من النصوص. وأين من ذلك الذين نبذوا مفهومات
النصوص، وتشبثوا بأقوال الأئمة وقدموها على الوحي المنزل حتى قال قائلهم:
(كل نص خالف ما قاله الأصحاب فهو إما منسوخ أو مؤول) . وليس يعنى هذا نبذ
أقوال أهل العلم المعتبرين ونشر الفوضى بين المسلمين، وفتح المجال للطلبة
الصغار الذين لا يحسنون التلاوة، فضلاً عن أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ والخاص
والعام، والمطلق والمقيد ليتولوا أمر الفُتيا فيَضِلّون ويُضلّون. كلا، فالتقليد في
بعض الحالات يصبح (ضرورة) ، وهكذا نريد أن يعامل على أنه جائز ضرورة،
فمتى استغنى عنه الإنسان في أي مسألة تركه إلى الدليل.
3- ومن الخصائص المهمة لأهل السنة -أهل الحديث كما يعبر البخاري
وابن المديني وأحمد -رحمهم الله-:
... الحرص على العمل بالشرع والتزام الأوامر والنواهي.
ولقد تسرب إلى أذهان كثير من الناس أن كلمة (أهل السنة) تعني المذهب
الاعتقادي فحسب، وذلك خطأ بيّن، إن المعرفة الصحيحة بالله التي يحرص عليها
أهل السنة ليست هي المعرفة الذهنية الباردة، بل هي المعرفة القلبية الحية التي
ينتج عنها الخوف والرجاء والمراقبة والامتثال.
ولذا كان الأئمة السابقون حين يذكرون أهل السنة يعتبرون من خصائصهم
المحافظة على المفروضات والسنن والمستحبات والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وصلة الرحم وحب المساكين والإحسان إلى الجيران.
قال الإمام المحدث الشيخ أبو عثمان الصابوني المتوفي سنة 449 هـ في
رسالة (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) : (.. ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات
وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات ويوجبون قراءة
الفاتحة خلف الإمام ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتماً واجباً، ويعدون إتمام
الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما، والارتفاع من الركوع والانتصاب منه
والطمأنينة فيه وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من
أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام وبصلة
الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام
والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح
والمصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع
ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه.. . الخ) [8] وإلى هذا وذاك فأهل الحديث
والسنة يحرصون على جمع الصف ووحدة الكلمة داخل هذا الإطار، فهم ليسوا
حزباً محدوداً ينفي من عداه بالهوى والتحكم، ولكنهم رايةٌ عقدية أثرية من انطبقت
عليه صفاتها وخصائصها فهو من هذه الفئة أقرّ له الآخرون بذلك أم لم يقرّوا.
استحالة أن يكون المجدّد من غير أهل السنة:
فهذه الفئة أو الطائفة الموعودة يستحيل أن يكون المجدّد من غيرها استحالةً
تامة. إذ هي القائمة بأمر الله، المتبعة لشرعه، السائرة على هدي نبيه حذو القذة
بالقذة، ومن ثم فهي المجدّدة لهذا الدين حين كاد يَخلَقُ بغبرة الأهواء وظلمتها وهي
الواقفة عند حدود الله حين تجارت الأهواء بأصحابها فلم يبق لهم من الدين إلا
الانتساب، فكيف يكون التجديد عمل غيرها؟ .
وقد يكون لهذه الطائفة رؤوس يمتازون بالموقف الصلب الثابت، والعلم
الواسع، والعمل الدؤوب في بلدٍ واحدٍ، أو في بلدان متعدِّدة، فرداً أو أفراداً وهؤلاء
من التجديد أوفى نصيب، ولكن يصحُّ أن يقال: إن لغيرهم من المجاهدين في هذا
السبيل من التجديد بحسبهم. وهذا ما تلتقي عنده آراء عددٍ من الأئمة المحققين،
وهو ما ينسجم مع ما قررناه في حديثي الافتراق والطائفة المنصورة -السابقين-.
وسيأتي في سياق العرض التاريخي لحركة التجديد في الإسلام ما يكشف عن
هذا، وأنه إن جاز أن يكون المجدّد في القرن الأول فرداً؛ فإن احتمال ذلك أقل فيما
بعد لأسباب منها: كثرة الشر والفساد، واتساع مجالات الانحراف وطرقه وأسبابه،
واتساع رقعة الأمة وانتشارها، وتناقص الخيرية في هذه الأمة حتى لم يعد يوجد
الأفراد المستجمعون لصفات المجدّد بحذافيرها، بل هي مفرقة في عددٍ من فضلاء
الأمة ونجبائها.
يقول الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بعد سياق الخلاف في المجدّد:
أفرد أم جماعة؟ -: (ولكنّ الذي يتعين فيمن تأخر المحملُ على أكثر من الواحد؛
لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عاماً في جميع أهل ذلك
العصر، وهذا ممكنٌ في حقّ عمر بن عبد العزيز جداً، ثم في حق الشافعي. أما
من جاء بعد ذلك، فلا يعدم من يشاركه في ذلك) [9] .
وقال: (لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط؛ بل يكون الأمر
فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجهٌ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا
ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص
واحد، إلا أن يدَّعي ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس
المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم
كانوا يحملون الحديث عليه.
وأما من جاء بعده؛ فالشافعي - وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة - إلا أنه لم
يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل. فلعل هذا كل من كان متصفاً بشيءٍ من
ذلك عند رأس المائة هو المراد؛ سواء تعدَّد أم لا) [10] .
وإن لحظت في كلام ابن حجر في هذا شيئاً من الاختلاف عن كلامه ذاك فهو
هنا أكثر قناعة بضرورة تعدد المجدّدين في القرن الواحد، حيث يعبر عن تسمية
عمر بن عبد العزيز مجدّداً فرداً بقوله: (.. إلاّ أن يدَّعى ذلك في عمر..) ، وأما
بالنسبة للشافعي فينفي ذلك عنه لعدم استجماعه للصفات كلها، في حين أنه قال قبلُ: (وهذا ممكن في حقّ عمر بن عبد العزيز جداً، ثم في حق الشافعي) ، فالأولى
بالأخذ كلامه الأخير المنقول من الفتح؛ لأن الفتح من أهم كتبه وأوثقها عنده وآثرها
لديه، ولتأخر الفراغ منه إلى سنة 842 هـ، وهذا الكلام المنقول هو في آخر
أبواب الكتاب، على حين فرغ من تأليف كتابه الآخر (توالي التأسيس بمعالي ابن
إدريس) سنة 835هـ[11] ويلحظ أنه ألفَّه للثناء على الإمام الشافعي - رحمه الله -
والإشادة به، فاختلف موقعا الكلام.
وقال الإمام الذهبي: (من - هنا - للجمع، لا للمفرد، فنقول مثلاً: على
رأس الثلاثمائة: ابن سُريجٍ في الفقه [12] والأشعري في الأصول، والنسائي في
الحديث.. . الخ) [13] .
وقال ابن الأثير: (لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلاً
واحداً وإنما قد يكون واحداً، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة (مَنْ) تقع على الواحد
والجمع. وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاءَ خاصة - كما ذهب
إليه بعض العلماء - فإن انتفاع الأمة بالفقهاء، وإن كان نفعاً عاماً في أمور الدين،
فإنّ انتفاعهم بغيرهم أيضاً كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء
والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فإن كل قومٍ ينفعون بفن لا ينفع به
الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي
به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك
أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون
بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم
التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر.. فإذا تحمل تأويل
الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة، وأثبه بالحكمة.. فالأحسن
والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعةٍ من الأكابر المشهورين على رأس
كل مائة سنة، يجددون للناس دينهم..) [14] .
وقال الحافظ ابن كثير: (وقد ذكر كل طائفة من العلماء: بل الصحيح أن
الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية
في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف كما جاء في الحديث
من طرق مرسلةٍ وغير مرسلة: يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه
تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا ... هذا..) [15] .
ثم أشار إلى الحديث المخرج سابقاً: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق. قال السهارنفوري نقلاً عن الشيخ محمد يحيى: (من يجدد لها دينها، أي:
نوعاً منهم وأشخاصاً، فلا يلزم أن يكون واحداً بالشخص، وإن ذهب العلماء في
معنى الحديث إلى الذي نفينا. ووجه ما ذهبنا إليه أنه لا ينطبق على كثير ممن لم
تشرّف بالتجديد أن يكون جدّد كل نوع من أنواع الدين، فكم من محدّث ليس له من
تجديد الفقه نصيب، وكم من باعثٍ على أعمال حسنةٍ هو في نشر أقسام العلوم
غريب. مع أنه لم يسمع أن أحداً من هؤلاء عمّ حديثُه وفقهه جملة الأقطار وتشرفت
بتجديده - بحسب الظاهر - جملة القرى والأمصار. وأما ما قلنا فالأمر سهل. مع
أن كلمة (مَنْ) ليست نصّاً في الشخص الواحد.. ولا يبعد أن يكون لكل مملكةٍ،
وبلدةٍ من معظم الممالك مجدّد على رأس مائة..) [16] .
وهكذا تلتقي أقوال هؤلاء الأئمة مع ما ذكرناه عن الإمام النووي من قبل في
شأن الطائفة المنصورة. وهذا من شأنه أن يجعل كل مؤمن صادق الإيمان حريصاً
على أن يقوم بدوره في عملية التجديد، فالقضية لم تعد شخصاً يُنتظر كما يُنتظر
المهدي أو عيسى بن مريم عليه السلام، بل عدت واجباً منوطاً في عنق كل داعية
مسلم.
معنى التجديد:
والتجديد يعني جعل الشيء جديداً، فتجديد الدين يعني إعادة نضارته ورونقه
وبهائه وإحياء ما اندرس من سننه ومعالمه، ونشره بين الناس. وهذا اللفظ
(التجديد) يؤكد أن التجديد الموعود لابد أن يكون على حين فترة من العلماء،
واضمحلال لشأن أهل الحق وحملة السنة، فيبعث الله هؤلاء المجدّدين ليعيدوا
للناس الثقة بدينهم، ويعلموهم ما جهلوا من شأنه. وهكذا يبدو جلياً أن التجديد لا
يعني بحال من الأحوال إضافة شيء جديدٍ إلى الدين، كما أنه لا يعني بحالٍ من
الأحوال اقتطاع شيء منه ونبذه. فهذا وذاك ليسا في الحقيقة تجديداً، وإنما هو
مسخٌ وتجريد.
ليس من التجديد:
1- فالطريق الذي سلكه الفيلسوف الهندي (محمد إقبال) والنتائج التي توصل
إليها في محاضراته: (تجديد الفكر الديني في الإسلام) ليست إلا تفسيراً كلياً للدين
بمجموع مكوناته: الألوهية - النبوة - البعث - الجزاء ... الخ.. هذا التفسير أو
التصور الذي يلتقي في معظمه مع مذهب الفلاسفة الاتحاديين الذين يرون الخلق
مظهراً يتجلى فيه الخالق ليس تجديداً للعقيدة (أو كما سمّاها: الفكر الإسلامي) ولكنه
تجريد له من حقيقته الإلهية، وإضفاء للفكرة الصوفية الفلسفية عليه.
والاتجاه العقلاني - عامة - الذي يحاول تفسير النصوص الشرعية وفق
مقتضيات الفلسفة البشرية، ويلوي عنق النص لياً ليتفق معها ليس تجديداً للدين،
لأن تجديد الدين يعنى تثبيت معالمه وعقائده وأحكامه ليظهر تميزها واختلافها عما
سواها من الأديان المحرفة المنسوخة أو من الآراء والفلسفات القاصرة، وليس يعني
إذابة تميزه وخلخلة بنائه لينسجم مع هذه أو تلك.
2 - والمنهج الإسلامي الذي اختطه بعض الدعاة استجابة للضغوط الواقعية
والمتغيرات الاجتماعية والدولية - كما زعموا - واقتنعوا بموجبه بضرورة استبعاد
بعض القضايا الشرعية والعقدية المسلَّمة لدى الأمة وعلمائها منذ عصر الصحابة
حتى اليوم.
ثم رأوا أنه لا يستقيم منهجهم إلا إذا هدموا الأسس التي بنيت عليها تلك
القضايا ليتسنى لهم أن يتحركوا بحرية فرفعوا عقيرتهم بالمطالبة بتجديد هذه الأسس
وتلك الأصول؛ فلابدّ - في نظرهم - من إعادة النظر في (أصول الفقه) و (أصول
الحديث) و (علم الجرح والتعديل) ، بل من إعادة النظر في العقائد الإسلامية.
وإخضاعها للنظرة العقلية المعاصرة! .
إنها المدرسة العقلية تطلُّ من جديد، وإن كانت لا تلتزم بذات الأصول التي
تواضع عليها العقلانيون الأوائل. وليس ثمة اعتراض منا على ضرورة صياغة
أصول الفقه مثلاً صياغة تلائم العصر، أو تنقيح مسائله وقواعده على ضوء الأدلة
من القرآن والسنة، ولا اعتراض لنا على ضرورة كتابة أصول الحديث كتابة
جديدة من حيث التوسُّع في موضوعاته، ودراستها، وترجيح بعضها على بعض
بالأدلة الصحيحة، مع مراعاة الأسلوب الجيد والإخراج الملائم.
ولا اعتراض لنا على ضرورة دراسة جوانب العقيدة -كما هي عند السلف-
وإخراجها للناس أو تغيير طريقة عرض بعض القضايا المتعلقة بها، وربط الدراسة
العلمية بالأوضاع المستجدة كقضية الحكم أو الولاء - مثلاً.
ولا اعتراض لنا على ضرورة الدراسة الشرعية المتعمقة للقضايا البشرية
الجديدة التي لم يتكلم فيها السلف -رحمهم الله-؛ لأنها لم توجد في زمانهم فلم تدع
الحاجة إلى الحديث عنها. كل هذا مما نطالب به ونعتبره من صميم عملنا في خدمة
هذا الدين. لكن أن يتحول الأمر إلى (تغيير) لشيء نعتقد أنه (جزء) من الدين فهذا
ما لا نرتضيه، بل نعتبره تعدياً لحدود الله، وخللاً خطيراً في (الاستسلام) الذي هو
روح الإسلام.
وقديماً قال بعض السلف: (إن قدم الإسلام لا تثبت إلى على قنطرة ... التسليم) [17] .
فالتجديد المقصود المنشود ليس تغييراً في حقائق الدين الثابتة القطعية لتلائم
أوضاع الناس وأهوائهم، ولكنه تغيير للمفهومات المترسبة في أذهان الناس عن
الدين، ورسم للصورة الصحيحة الواضحة، ثم هو بعد ذلك تعديل لأوضاع الناس
وسلوكهم حسبما يقتضيه هذا الدين.
إن أي حركة تستهدف تغيير معالم الدين تكون في حقيقتها هدماً له وقضاء
عليه، وإن بدا أنها تدعو إليه، أو تحقق له بعض المكاسب الآنية.
ونلحظ في كلمتي (الأمة) و (دينها) أن الأصل فيهما العموم والشمول، فهذه
الحركة التجديدية التي تقوم عبر التاريخ الإسلامي في كل وقت يضعف فيه الخير
وينكمش، تستهدف إصلاح الأمة بكاملها في جميع أقطارها على كافة مستوياتها،
فهي ليست حركة إقليمية محدودة تقف عند بلد معين لا تتعداه أهدافها وطموحاتها،
وليست مقصورة على فئة معينة من الفئات التي تكوّن المجتمع؛ بل تخاطب الشاب
والشيخ والعامل والموظف والقريب والبعيد والرجل والمرأة تخاطب كل فئة على
قدر ما تحتمله عقولها، وبالأسلوب الذي يناسبها، فالإسلام لم ينزل ليكون ديناً لفئة
خاصة من العقلاء الأذكياء مثلاً! كلا، بل الإسلام إنقاذ للبشرية - كلها - من
ظلمات الكفر بأنواعه في الدنيا، ومن ظلمات النار والسعير يوم القيامة. وقد آن
الأوان أن يعقل المسلمون والدعاة إلى الله خاصة - هذا المعنى فلا يحجبون الخير
عن سائر فئات الناس ممن يتطلعون إلى الهداية ويتقبلونها، ولو كانت استجابتهم
تقف عن حد معين.
إن مجرد هداية فرد إلى الله تعالى، ووصله بحبل الله المتين، وإنقاذه من
الكفر والشرك يعد هدفاً بذاته ومكسباً عظيماً للداعي والمدعو، حتى لو وقف الأمر
عند هذا القدر. فكيف إذا أصبح هذا المدعو يحمل الدين الصحيح لمن حوله بحماس
أو بغير حماس؟ ! وقد آن الأوان أن يتحرك الدعاة الصادقون إلى ميدان عملهم
الأصيل: (الأمة) الأمة التي عبثت بها أيدي المفسدين من: اليهود والنصارى
والشيوعيين والمخرفين من الصوفية والرافضة والمعتزلة وغيرهم. هذا على صعيد
(الأمة) الممتد الفسيح.
مجالات التجديد:
وحين نلحظ بجوار ذلك الكلمة الأخرى: (من يجدد لها دينها) نجدها تفتح أمام
الدعاة آفاقا جديدة في طبيعة التجديد ونوعه.
إن هذا التجديد (للأمة) لا ينحصر في مجال واحد فحسب، بل يمتد امتداداً
آخر ليشمل تجديد الدين كله: فيشمل:
أولاً: التجديد في مجال العقيدة:
وهيهات أن يكون التجديد يعنى إضافة شيء آخر إلى العقيدة الربانية، كلا بل
التجديد هو تخليص العقيدة من هذه الإضافات البشرية لتصبح نقية صافية ليس فيها
أثر لصنع البشر وآرائهم وفلسفاتهم. ولتفهم بالبساطة والوضوح التي فهمها سلف
هذه الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
فأول خطوة في مجال التجديد العقدي هو تنقية العقيدة الإسلامية من آثار علم
الكلام ومن جميع ما علق بها.
ومن التجديد في مجال العقيدة ربط آثارها الواقعية بها، فلا يكفى أن يؤمن
المرء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله على مقتضى ما يدين به أهل السنة إيماناً عقلانياً
جافاً، بل لابد من العمل على إحياء الآثار القلبية النابعة من صدق الإيمان.
لابد أن تطرق المعاني الباطنة التي هي جزء لا يتجزأ من العقيدة والإيمان:
عمل القلب، وعمل القلب هو الحب والبغض والخوف والرجاء والرغبة والرهبة
والإنابة والخشوع. ولقد غفل الناس عن هذه المعاني - حتى العلماء - إلا من رحم
الله - فطال الأمد، وقست القلوب، وصار الحديث عن صحة القلب ومرضه
وعلاجه، وعن المعاني الإيمانية القلبية وقفاً على الصوفية الذين أسرفوا وغلوا حتى
عبدوا ذواتهم ومشايخهم، فضلوا وأضلوا كثيراً عن سواء السبيل. ولقد كان أئمة
السلف نماذج حية في صدق اللجأ إلى الله، وعمق الصلة به، ويقظة الضمير
وحساسيته من جراء ذلك، وأوفى الناس حظاً من ذلك صحابة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ثم التابعون لهم بإحسان، ثم العلماء العاملون على مدار القرون.
ومن يتأمل سيرهم وأحوالهم يجد ذلك الشيء العجيب الغريب.
إن من واجب الحركة التجديدية أن تولي هذه القضية عناية كبيرة، فهي الأثر
العملي المباشر للتصديق بالعقيدة. ولذا نجد أن الله تعالى بعد ما أثنى على المؤمنين
بتصديقهم بيوم الدين، اتبع ذلك بذكر إشفاقهم من عذاب الله، فقال سبحانه:
[والَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * والَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ
غَيْرُ مَأْمُونٍ] ... [المعارج] .
وإن معالجة الانحراف الظاهر على كافة المستويات لا تستقيم إلا إذا صاحبها
معالجة الانحراف الباطني؛ فما من فساد ظاهر إلا وله رصيده من الفساد الباطني
ولا يحصل تغير الظاهر إلا بتغير الباطن.
وإن توجيه الناس لالتزام الأوامر واجتناب المناهي لا يستقيم إلا إذا صاحبه
تربية للضمير وإحياء للمشاعر القلبية الصادقة التي تقف كالحارس اليقظ الساهر
الذي يمنع تسلل الضعف أو التقصير. فهذا على ما وصفناه من أعظم أبواب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن طرح مثل هذه الموضوعات لا يحسنه كل أحد، ولا يفلح فيه ويثمر إلا من كان يتكلم عن وجدٍ وانفعال، أما عملية (التكلف) فلا
تجدي شيئاً.
إن على الداعية الصادق أن يتعاهد قلبه، ويحرك أشواقه ليكون لكلامه التأثير
المطلوب. ومن التجديد المطلوب في مجال العقيدة: عرض الانحرافات الجوهرية
التي تعيش اليوم بين المسلمين مما له تعلق بجوانب الاعتقاد، مع بيان خطرها
وتأثيرها، والتحذير منها.
فالحديث عن موالاة الكافرين وحكمها وتأثيرها على النفوس، والخطر
الزاحف بسببها سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع، والتركيز على
ضرورة استقلال الأمة المسلمة وتميزها، واستعلائها بإيمانها وشريعتها على
الأوضاع والعقائد والنظم الجاهلية.
هذا الحديث وربطه بقضية العقيدة أصبح مطلباً مُلِحاً مع لحوق كثير من
المنسوبين إلى هذا الدين بمعسكرات الكفر، ومع ربط كثير من الأمم المسلمة
مصيرها بالكافرين، ومع الولاء السافر المكشوف الذي يعطيه الحاكمون لأعداء الله، ومع الانفتاح الرهيب للمسلمين على المجتمعات والشعوب الوثنية والنصرانية
وغيرها.
والحديث عن قضية الحكم بغير ما أنزل الله، وحكمه، وضرورة رد الأمور
كلها إلى شرع الله لأن هذا هو مقتضى الإسلام والتسليم، وشرط الإيمان الذي لا
يكون إلا به. وتربية الأفراد والمجتمعات على الولاء لشريعة الإسلام، والحذر من
تنقصها أو اعتقاد أفضلية غيرها، أو مساواته لها، أو جواز الحكم بغيرها، بحيث
يصبح الإيمان المطلق بشريعة الله قناعة راسخة لدى كل مسلم، حتى لو فرضت
عليه النظم البشرية الجاهلية.
كل ذلك أصبح طرقه والتركيز عليه ضرورة مع سيطرة القانون الوضعي
على المسلمين من جهة، ومع انتشار الأفكار المشككة في الإسلام وصلاحيته للبقاء
والحكم من جهة ثانية.
ومثل هذا وذاك التركيز على توحيد العبادة خاصة في البلاد التي جهل الناس
فيها معنى الألوهية وصرفوا العبادة للشيوخ والأولياء وقدسوا الأضرحة أكثر من
تقديس المساجد! ، وبالجملة فالتأكيد على أمر من أمور العقيدة لا يعني أن هذا الأمر
أخطر من غيره من القضايا التي لم يعنَ بها بنفس القدر؛ لأن الدعوة إلى الله تهتم
بمعالجة جوانب الانحراف، وحيثما اتسعت دائرة الانحراف في مجال كانت الحكمة
في التركيز عليه - مع عدم إهمال ماعداه.
ويشمل التجديد (ثانياً) : التجديد في مجال النظر والاستدلال، وإحياء الحركة
العلمية التي تهدف إلى دراسة القضايا الشرعية كلها دراسة مبنية على الدليل
الشرعي الصحيح بعيداً عن عصبية المذاهب. فلسنا نعتقد أن الحق محصور في
مذهب بعينه لا يخرج عنه بحال، ولذا فالبحث عن الحق هو ضالة المسلم المنشودة، أنى وجده سَعِد به وقبله غير ناظر إلى هذه الحواجز المذهبية. ولضمان سير
منهج التفقه والاستنباط سيراً سليماً بعيداً عن الانحراف أو الفوضى التشريعية فلا بد
من صياغة المنهج السليم للتفقه من خلال استقراء طريقة السلف الصالح رضوان
الله عليهم أجمعين.
ويشمل التجديد (ثالثاً) : التجديد في السلوك الفردي والاجتماعي بالعمل على
صياغة حياة المسلمين بتفصيلاتها صياغة إسلامية شرعية، والإفادة من المعاني
الوجدانية التلبية التي يفترض أنها بدأت تستيقظ في النفوس، بربط الأحكام
التفصيلية بها.
إن الانحراف السلوكي في حياة المسلمين المؤمنين حقاً بهذا الدين يرجع إلى
أحد سببين:
1- إما الجهل بحكم الله ورسوله في هذه المسألة.
2- وإما ضعف الإيمان وضعف الإرادة بحيث تغلب الإنسان شهوته، أو
تغلبه ظروفه فيقع في المحظور. فمعالجة الجهل هي بالتعليم والتفهيم وربط الناس
بالنصوص الشرعية، ومعالجة الضعف الداخلي هي بمخاطبة القلوب والتأثير ... عليها.
ومما نلحظه في واقع المقصدين للوعظ والتعليم اليوم أن كثيراً منهم يعني
بذكر الله واليوم الآخر والجنة والنار وعذاب القبر والموت وسكراته. وبغض النظر
عن فشل الأسلوب الذي يستخدمه أكثر هؤلاء، وعدم قدرتهم على التسلل اللطيف
إلى قلوب السامعين؛ فإن الخطأ الذي نشير إليه هو أنهم لا يربطون المعاني التي
أثاروها بقضايا سلوكية واقعية يجب أن تعالج.
وفئة أخرى. من أهل الفقه تُعني ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام،
وبغض النظر عما يلاحظ عليها في منهجها ونتائجها ووسائلها؛ فإن الأمر الذي
نلحظه الآن هو عدم ربط هذه الأحكام بأصولها الإيمانية التي تدعو إلى العمل بها
وامتثالها.
وأنت حين تتأمل طريقة القرآن والسنة تجد أنه في الفترة المدنية حيث تتابع
نزول الأحكام التفصيلية المنظمة لحياة المسلمين، أصبح الحديث عن الحكم مرتبطاً
بإثارة العقيدة، وأصبح الكلام في العقيدة مستمراً في التحريض على امتثال الحكم،
ولذلك تذيل الآيات ببيان صفة من صفات الله كالعلم والحكمة والعفو والمغفرة
والانتقام وشدة العقاب.. أو تتبع آيات الأحكام بآيات أخر تُرغِّب في عفو الله
ورضوانه والجنة، وتحذر من سخطه والنار.
وإذا أحسن الداعية سلوك هذا الطريق فسيجد فيه خيراً كثيراً، وسيلمس آثاره
الواضحة عن قريب.
ويشمل التجديد (رابعاً) : فضح المناهج والاتجاهات والأوضاع والمبادئ
والسبل المخالفة للإسلام ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. ولقد
كان من مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه كشف طريق الضلال
لئلا يلتبس بطريق الحق. فكان النبي يقول: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ * ولا تُطِيعُوا
أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ] [الشعراء: 150 -
152] . واستبانة سبيل المجرمين هي من مقاصد القرآن: [وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: 55] . فمن مهمات الدعوة الإسلامية على
مدى الزمن أن تزيل أي التباس أو غموض قد يصيب الناس، فيلبسون المنافق
ثوب المؤمن الصادق، أو يلبسون المبتدع الضال ثوب المتبع المهتدي.
__________
(1) ذكره الترمذي في موضعين من سننه، الأول في 4/485 كتاب الفتن، والثاني في 4/504 نفس الكتاب.
(2) معرفة علوم الحديث ص2 نشرة: معظم حسين.
(3) فتح الباري: ج 13 ص 295.
(4) شرح النووي على مسلم في كتاب الإمارة ج 13 ص 66.
(5) فتح الباري ج 13 ص 295.
(6) الحديث ورد من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم أبو هريرة، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك، وأنس، وأبو معاوية، وأبو الدرداء وواثلة بن الأسقع، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وهذه مواضع أحاديثهم على الإجمال: أبو داود: 34 - كتاب السنة، 1 - باب شرح السنة، رقم 4596، 4597 ج 5ص 4، الترمذي: 41 - كتاب الإيمان، 18 - باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2640، 2641 ج 5 ص 25-26، ابن ماجة: 36 - كتاب الفتن، 17 - باب افتراق الأمم، رقم 3991 - 3993 ج 2 ص 1321، أحمد: ج 2 ص332، ج 4 ص 102، ج 3 ص 120، ص 145 الحاكم في المستدرك في كتاب العلم ج 1 ص 128، وقال: صحيح على شرط مسلم وج 2 ص480 وقال: صحيح الإسناد، وقال: هذه الأسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح الحديث، الدارمي: 17 - كتاب السير، 75 - باب في افتراق هذه الأمة، رقم 2521 ج 2 ص 158، الطبراني في الكبير: ج 8 ص 327 رقم 8051، و:
ص 178، رقم 7659، و: ص 321 رقم 8035، ج 10 ص 271 - 272، رقم 211 - 212، وفى الصغير ج 1، ص 224، الآجري في الشريعة ص 15 - 18، وابن أبي عاصم في شرح السنة ج 1 ص 32-35، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ج1 ص 101، 100 ? 102 ? والطبري ج 27 ص 239 ورواه ابن أبي حاتم والحارث بن أبي أسامة وغيرهم.
(7) انظر أقوالهم في: 1 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي ج 1 ص 151 - 186، ج 2 ص 227 - 230، 2 - العلو للعلي الغفار للأمام الذهبي، ومختصره للألباني، 3 - مجموع (عقائد السلف) جمع: على سامي النشار، عمار الطالبي، 4 - الشرح والإبانة لابن بطة، 5-البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، 6 - كتب: (السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وابن أبى
عاصم، والمروزي.
(8) ضمن الرسائل المنيرية ج 1 ص 131.
(9) توالي التأسيس ص 24 ب، 25 اً.
(10) الفتح ج 13 ص 295.
(11) انظر: توالي التأسيس، الصفحة الأولى، وكتاب: ابن حجر العسقلاني للدكتور شاكر محمود
ج1، ص 264 وص 306، وص 561.
(12) في الأصل: ابن شريح بالشبن المعجمة والحاء المهملة وكذلك: رد في مسقدرك الحاكم وفي الغيث المنسجم ج1، ص105، والصواب ما أثبتناه، انظر: وفيات الأعيان 66/1 - 67.
(13) فيض القدير ج1 ص11.
(14) جامع الأصول ج11 ص320 - 324.
(15) البداية والنهاية 6/89 مكتبة الفلاح بالرياض والحديث رواه ابن عدي في الكامل (المقدمة ص 190، 232-233) والعقيلي في الضعفاء في المقدمة ج1، ص9، وفى ترجمة معان بن رفاعة السلامي ج 4 ص256 رقم 1854 دار الكتب العلمية، والخطيب البغدادي في الجامع، ج 1 ص 128 - 129 ط مكتبة المعارف بالرياض، ونسبه الهيثمي في المجموع إلى البزار (ج1 ص140) ونسبه الخطيب التبريزي للبيهقي، (ج 1 ص 82) والإمام أحمد والعلائي، وضعفه الأكثرون من منهم العقيلي، والعراقي (التقييد والإيضاح ص 138 - 139) والهيثمي في المجمع وغيره، وانظر أيضاً التمهيد ج1 ص 59-60 والبداية والنهاية ج 10 ص 381.
(16) بذل المجهود ج 17 ص 202 - 204 ط دار الكتب العلمية.
(17) رسالة (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) للأمام الصابوني، ضمن مجموعة رسائل المنيرية ج1 ص 120.(2/8)
من مشكاة النبوة
منصور الأحمد
عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة زوج النبي - صلى الله
عليه وسلم - قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ ! جاء فجلس إلى جانب حجرتي،
يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسمِعني ذلك، وكنت أُسبِّح، فقام
قبل أن أقضي سُبْحَتي، ولو أدركته لرددت عليه، أن رسول - صلى الله عليه
وسلم - لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم) .
أبو داود، باب سرد الحديث.
من كتاب العلم من سننه 320/3.
لم يعرف تاريخ الدعوات شخصاً بعيد التأثير في أمته؛ كالرسول - صلى الله
عليه وسلم -، ولم نعرف أن أحداً استطاع أن يؤثر في كل جانب من جوانب حياة
أمة من الأمم كما أثر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته، فقد كان
المثل الأعلى في كل شيء، وكان القدوة الكاملة في كل سلوك سواء كان ذلك في
حياته العامة أو الخاصة.
ومع أن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلها تشكل القدوة للمسلمين،
لكن أكثر جوانبها أهمية هو ما يختص بالدعوة، وما يتعلق بالتبليغ.
ولقد حفظت لنا السيرة النبوية هذا الجانب من حياة نبينا ونشاطه أوضح ما
يكون الحفظ.
وإنني لا أستطيع - ولا أدعي - في هذه العجالة أن أرسم صورة كاملة
لشخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو الناس ويبين لهم، ويبلغهم ما
أوحى إليه، فهي صورة ممتدة متراحبة عبر السنة النبوية غنية، ممتلئة بالمعاني
السامية تظل أية صورة منقولة من عالم الواقع أو الخيال بعيدة عن أن تقارن بها،
فضلاً عن أن تقاربها.
ومن أبرز سمات الداعية في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - سمتان
رئيسيتان هما:
1- الحرص على إفادة الناس من أقرب طريق وأوضحه.
2 - والبعد عن التكلف والافتعال.
هذان اثنان من كبار الصحابة، ومن أكثرهم رواية عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أبو هريرة، وعائشة، رضي الله عنهما. فلننظر إلى واحد منهما، في تأثره بجانب الدعوة من شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم -. لقد لازم
أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام ملازمة تامة، منذ وفوده على النبي - صلى
الله عليه وسلم - مسلما، في السنة السابعة من الهجرة، وقد حرص - رضي الله
عنه - على الاستزادة من العلم، ولهذا لم يشغل نفسه خلال معاصرته لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ ماخلا العلم والحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فلم يشغله الصفق في الأسواق كما عبر هو مرة حين ليم على كثرة
تحديثه، لذلك فقد حفظ أبو هريرة عن رسول - صلى الله عليه وسلم - كثيراً وكان
أكثر الصحابة حديثاً عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وقد كان حريصاً - رضي الله عنه - أن يبلغ ما سمع من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إلى الناس، أداءً للأمانة، وقيامه بواجب الدعوة إلى الله، كما
فهمها من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«نضّر الله امرءاً سمع منا شيئاً، فبلّغه كما سمعه، فربُّ مبلَّغٍ أوعى من
سامع» (الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح) .
«من سئلَ عن علمٍ فكتمه أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار» (أبو داود
والترمذي، وقال: حديث حسن) .
وقوله: «من تعلم علماً مما يُبتغى به وجهُ الله عز وجل، لا يتعلمه إلا
ليصيب به عَرَضاً من الدنيا، لم يجد رائحة الجنة يوم القيامة» (رواه أبو داود
بإسناد صحيح) .
وأمام مسؤولية أداء الأمانة، وتبليغها بيضاء نقية، والحرص على وصل
الناس الذين لم يسعدوا برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
فقد كان ربما حدث بأكثر من حديث في مجلس واحد، وفي أحد هذه المجالس
سمعته أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- التي ذكرها هذا المجلس من أبي
هريرة بجانب من شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - الداعية. وأم
المؤمنين حرية أن تكون من أكثر الناس خبرة ودراية بذلك، كيف لا؛ وهي في
زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمطلعة على ما دقّ وجلّ من حياته ... وهديه.
لقد قارنت بين طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تبليغ الناس وتعليمهم؛ وبين طريقة أبي هريرة وبعض حَمَلَةِ السنة فوجدت أنه - صلى الله عليه وسلم -
كان يحرص على الإفهام لا على، حشد المعلومات، ويهتم بالكيف لا بالكم،
فحسب الناس جملة قصيرة ذات معنى جامع يفهمونها ويطبقونها ويكون فيها الغناء
عن سرد كلام طويل لا يُفرغ من آخره حتى ينسى أوله.
وكان هذا دأبه - صلى الله عليه وسلم - في شتى أموره سواء كان تبليغ
القرآن، أو حديثه للناس، وإن المتتبع لسيرته في ذلك يرى عجباً.
يرى درايته وعمق معرفته بنفوس المخاطبين، ومعرفته لمقتضى الحال التي
ينطلق منها في وصل الناس به، فربما سأله سائل فيكتفي برده بكلمات قصار وربما
سئل عن أمر فتلطف بالرد غاية اللطف بأن جعل الجواب في ثنايا موعظة مؤثرة.
وربما صرف ذهن السائل إلى قضية أو قضايا أكثر أهمية من القضية
المسؤول عنها، وربما أجاب السائل بسؤال جوابه معروف مستقر في البديهة في
صنوف من الأساليب الحكيمة التي تستهدف غرس الحقيقة في نفوس المخاطبين من
أقرب طريق وبقائها حية فاعلة بين حارسين من يقظة العقل وصحوة الوجدان.
ولئن غابت هذه الحقيقة عن بعض الصحابة - كأبي هريرة - وهذا لا ينقص
من أجر هذا الصحابي الجليل ولا من قدره - فلقد وعاها آخرون منهم - رضي الله
عنهم جميعاً - مثل عائشة- في هذا الحديث - وابن مسعود.
فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود، -رضي الله عنه-
يذكرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكّرتنا
اليوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك وأني أكره أن أمِلَّكم، وإني أتخَوَّلُكم بالموعظة
كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا بها مخافةَ السآمة علينا.
(متفق عليه) .
وفي تبليغه القرآن كان - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يعلم
أصحابه الآيات ذوات العدد ولم يكن يجاوز ذلك إلا بعد أن يطمئن إلى حفظهم لها،
والعمل بها.
ولقد غفل كثير من الدعاة المسلمين في العصور المتعاقبة عن هذه الحقيقة
وجاوز بعضهم حد الشطط في الحرص على الإطالة والإسهاب - من غير طائل -
سواء كان ذلك خطابة، أو كتابة.
فكم من خطيب نراه يهوي في خضم من الشرح والتفصيل والاستطراد حتى
يُمِلَّ الناس ويصرفهم عنه بتشقيقه الكلام، حتى لتحسبه يريد أن يشرح لهم تعاليم
الإسلام - التي مكث محمد ابن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وعشرين
سنة يبلغها للناس - كل ذلك في جلسة واحدة، غير عابئ بطاقات الناس، ولا
مراع التفاوت في الفهم والاستيعاب بين من يخاطب، لهذا لا نستغرب إذا ما وجدناه
يهيم في وادٍ، والمخاطبون في واد آخر! .
وكم من كاتب يسوِّد صفحات كثيرة، بكلام هو تحصيل حاصل، ويبدئ
ويعيد في قضايا قتلها العلماء بحثاً، ولو نُظِرَ إلى (إنتاجه العلمي الغزير!) بل إلى
(إنشائه) بعين الإنصاف، لسُلِك في سِلكِ (الورمَ الثقافي) الذي ينتاب ثقافة ما في
وقت من الأوقات.
لقد أصبحت قضية الإنشاء في مجال الكتابات الإسلامية مرضاً حَرِيّاً بالمعالجة، وقضية جديرة بأن تناقش على ضوء المنهج النبوي في الدعوة. ولو استعرضنا
خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب الصحابة وتابعيهم، لا تضح لنا كم
كانوا يحرصون على الإيجاز والوضوح، وأن يكون لكلامهم معنى ولأدركنا مدى
اهتمامهم بمعرفة نفوس الجماعة المخاطبة.
خطب قصيرة، وجمل مؤثرة، ممتلئة بالحكمة، مكتنزة بالخبرة في النفوس
والأزمنة، صادرة من قلوب مطمئنة عامرة بالإيمان، مفعمة باليقين الذين يدفعها
إلى العمل. بعيدة عن التكلف الذي ينبت في ظلال الفراغ، ويكثر في أجواء
الخمول. وهاهنا خطب طويلة مملة، وموضوعات مختلطة متشعبة يبدأ أحدها بأمر
وينتهي بأمر، وتحسب خطبة دخلت في شيء فإذا هي تخرج إلى اللا شيء. همّ
أصحابها الحرص على التباهي وتزجية الوقت، وقد يسأل صاحبها الناس: كيف
وجدتم الخطبة، لا: كيف تأثركم بما سمعتم، وصراخ في وقت يقتضي السكينة،
وجعجعة والناس نيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ! .
ترى ما الذي دفع بخطباء اليوم إلى انتهاج ذلك السمت المخالف لما كانت
عليه خطابة الأمس؟ هل هو الفراغ الثقافي الذي يعاني منه مسلمو اليوم؟ ؛ أم هي
الرغبة التي تعتري من قل علمه حين يعتلي منبر الخطابة فإذا هو يحسب نفسه
كقائد قد امتطى صهوة جواده وراح يضرب في الأعداء يمنة ويسرة وهو يزمجر
ويصيح بما تفزع منه النفوس.. ولا تحصل معنى من وراءه العقول! ؟ أم هي
مجرد محبة الكلام التي أولعت بها القلوب منذ عصر انحطاط العالم الإسلامي،
وإحلاله للشكل محل الموضوع، وتقديمه للنظري مقابل العملي، وما يستتبع ذلك
من تفضيل الإطالة على الإيجاز والتكرار على التجديد.
إن دلالات تلك الظواهر على ما يسود المجتمع الإسلامي اليوم من تأخر في
كافة نواحي الحياة هي دلالات مؤكدة تحتاج إلى من يقف عندها متفحصاً دارساً ...
ثم مداوياً. وهي تحتاج إلى عقل واعٍ قد فقه الكتاب والسنة، وتعمق في دراسة
النفس الإنسانية ودوافعها، وإلى عين تدربت على تمييز الباطل وإن حاط نفسه
بالكثير من الصواب، وإلى نفس قد احتسبها صاحبها لله فباشر العلاج بشجاعة
وهمة تلك هي نفس الداعية..
ما أحوج المسلمين - وأخص الدعاة منهم -إلى ترك الفضول من القول
والعمل، وتوفير الجهد والوقت، والانصراف إلى النافع من ذلك، والتأسي بهدي
النبوة، ودراسة الواقع الذي يتحركون فيه، والناس الذين يخاطبون، حتى يقع
كلامهم الموقع المرتجى، وتثمر جهودهم الثمر المرتقب، وعلى الله قصد السبيل،
وهو حسبنا ونعم الوكيل.(2/23)
الربا.. صوره - أقسام الناس فيه
... ... ... ... ... ... ... بقلم فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى
الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم
تسليماً، وبعد..
فإن الله تعالى إنما خلق الجن والإنس وأودع فيهم العقول والإدراك وبعث فيهم
الرسل وبث فيهم النذر ليقوموا بعبادته والتذلل له بالطاعة مقدمين أمره وأمر رسله
على ما تهواه أنفسهم، فإن ذلك هو حقيقة العبادة ومقتضى الإيمان، كما قال الله
تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ
الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً] [الأحزاب: 36] .
فلا خيار للمؤمن -إن كان مؤمناً حقاً - في أمر قضاه الله ورسوله، وليس
أمامه إلا الرضا به، والتسليم التام سواء وافق هواه أم خالفه، وإلا فليس بمؤمن،
كما قالي الله تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وقد أخبر الله تعالى أن العدول عن حكمه وعن اتباع رسوله أنه أضل الضلال
فقال تعالى: [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [القصص: 50] .
إذا تبين هذا فاعلم أن أوامر الله تعالى تنقسم إلى قسمين: قسم فيما يختص
بمعاملته سبحانه؛ كالطهارة والصلاة والصيام والحج، وهذه لا يستريب أحد في
التعبد لله تعالى بها. وقسم فيما يختص بمعاملة الخلق وهي المعاملات الجارية بينهم
من بيع وشراء وإجارة ورهن وهبة ووصية ووقف وغيرها، وكما أن تنفيذ أوامر
الله تعالى والتزام شريعته في القسم الثاني أمر واجب، إذ الكل من حكم الله تعالى
على عباده، فعلى المؤمن تنفيذ حكم الله والتزام شريعته في هذا وذاك.
ولقد شرع الله تعالى لعباده في معاملاتهم نظماً كاملة مبنية على العدل لا
تساويها أي نظم أخرى، بل كلما ابتعدت النظم أو ابتعد الناس عن العمل بنظم
الشريعة كان ذلك أكثر الظلم، وأوغل في الشر والفساد والفوضى.
وإن من الظلم في المعاملات واجتناب العدل والاستقامة فيها أن تكون مشتملة
على الربا الذي حذر الله تعالى منه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه
وسلم - وأجمع المسلمون على تحريمه.
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ
لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ * وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأَن تصدقُوا خَيْرٌ
لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ
وهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [البقرة: 278-281] .
وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وأَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ] [آل عمران: 130-132] .
وقال تعالى: [الَذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا
فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ
كُفَّارٍ أَثِيمٍ] [البقرة: 275-276] ، يعنى لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما
يقوم المُخَبَّل المجنون الذي يصرعه الشيطان. هكذا قال ابن عباس رضى الله
عنهما وغيره. وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. واللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى.
وفى صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه نهراً من دم، فيه رجل قائم، وعلى شط
النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج، رماه
الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج
رماه الذي على شط النهر بحجر فيرجع كما كان، فسأل النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن هذا الرجل الذي في نهر الدم فقيل آكل الربا.
ولقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته أين يكون الربا، وكيف
يكون، بياناً شافياً واضحاً، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب،
والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر - بالتمر، الملح بالملح.
مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء.
رواه مسلم. وفي لفظ: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد.
فهذه الأصناف الستة هي محل الربا بالنص [1] : الذهب والفضة والبر
والشعير والتمر والملح وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفية الربا فيها
فأوضح أن التبايع فيها يكون على وجهين:
الوجه الأول:
أن يباع منها بجنسه مثل أن يباع ذهب بذهب، فيشترط فيه شرطان اثنان:
أحدهما: أن يتساويا في الوزن.
والثاني: أن يكون يداً بيد بحيث يتقابض الطرفان قبل أن يتفرقا. فلو باع
ذهباً بذهب يزيد عليه في الوزن ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام، والبيع باطل ولو
باع ذهباً بذهب يساويه في الوزن وتفرقا قبل القبض فهر ربا حرام، والبيع باطل،
سواء تأخر القبض من الطرفين أو من طرف واحد.
الوجه الثاني:
أن يباع واحد من هذه الأصناف بغير جنسه، مثل أن يباع ذهب بفضة
فيشترط فيه شرط واحد، وهو أن يكون يداً بيد بحيث يتقايض الطرفان قبل أن
يتفرقا، فلو باع ذهباً بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام، والبيع باطل، سواء
تأخر القبض من الطرفين أو من طرف واحد.
ولقد كان الذهب والفضة منذ أزمنة بعيدة محل التعامل بين الناس قيماً للأعيان
والمنافع، فأصبح التعامل بالأوراق النقدية بدلاً عنها والبدل له حكم المبدل، فإذا
بيعت ورقة من النقود بورقة أخرى فلابد من التقايض قبل التفرق، سواء كانت من
جنسها أم من غير جنسها، وسواء كانت هذه الأوراق بدلاً عن ذهب أم بدلا عن
فضة فلو صرفت ورقة نقدية سعودية من ذوات المائة بورقتين من ذوات الخمسين
فلابد من التقابض من الطرفين قبل التفرق. ولو صرف دولاراً بأوراق نقد سعودية
فلابد في التقابض من الطرفين قبل التفرق أيضاً. ولو اشترى حلي ذهب أو فضة
بأوراق نقدية فلابد من التقابض من الطرفين قبل التفرق لأنه كبيع الذهب بالفضة
الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم إذا كان يداً بيد.
ولقد انقسم الناس في المعاملات الربوية إلى ثلاثة أقسام:
قسم: هداهم الله تعالى ونور بصائرهم ووقاهم شح أنفسهم وعرفوا حقيقة
المال، بل حقيقة الدنيا أنها عارية مسلوبة، وفيء زائل، وأن كمال العقل والدين
أن يجعل الرجل المال وسيلة لا غاية، وأن يجعله خادماً لا مخدوماً فتمشوا في
اكتساب أموالهم وصرفها على ما شرعه لهم خالقهم الذي هو أعلم
بما يصلحهم وأرحم بهم من أنفسهم، فأخذوا بما أحل الله واجتنبوا ما حرم الله، وهؤلاء هم الناجون المفلحون. قال الله تعالى: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] .
القسم الثاني: من تعاملوا بالربا على وجه صريح، إما جهلاً منهم أو تجاهلاً
أو عناداً ومكابرة، وهؤلاء مستحقون لما تقتضيه حالهم من الوعيد على أكل الربا،
على ما جاء في نصوص الكتاب والسنة.
القسم الثالث: من تعاملوا بالربا من وجه الحيلة والمكر والخداع، وهؤلاء شر
من القسم الثاني، لأنهم وقعوا في مفسدتين: الربا، ومفسدة الخداع، ولهذا قال
بعض السلف في أهل الحيل: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أنهم أتوا
الأمر على وجهه لكان أهون.
ونحن نذكر من فعل هذين القسمين ما كان شائعا بين الناس. فالشائع من فعل
القسم الأول ربا البنوك وهو على وجهين:
أحدهما: أن يأخذ البنك دراهم من شخص بربح نسبة مئوية يدفعها البنك كل
شهر أو كل سنة، أو عند انتهاء مدة الأجل إن كان مؤجلاً.
الثاني: أن يعطي البنك دراهم لشخص بربح نسبة مئوية يأخذها البنك كل
شهر أو كل سنة أو عند انتهاء مدة الأجل، إن كان مؤجلاً.
فأما إذا أخذ البنك الدراهم من شخص بدون ربح فله وجهان:
أحدهما: أن يأخذ هذه الدراهم على وجه الوديعة بأن يحفظ الدراهم بأعيانها
لصاحبها، ولا يدخلها في صندوق البنك، ولا يتصرف فيها، بل يبقيها في مكان
إيداعها حتى يأتي صاحبها فيأخذها، فهذا جائز، وهذا الوجه ليس للبنك فيه فائدة
اللهم إلا أن يكون بين القائمين عليه وبين صاحب صحبة. فيحسنوا إليه بحفظ
دراهمه في حرز البنك. ولذلك لو طلب البنك أجرة على حفظها لكل شهر أجرة
معلومة لكان ذلك جائزاً.
الوجه الثاني: أن يأخذ البنك هذه الدراهم على وجه القرض، بحيث يدخلها
في صندوق البنك، ويتصرف فيها كما يتصرف في ماله، فهذه قرض وليست
بإيداع وإن سماها الناس إيداعاً، فالعبرة بالحقائق لا بالألفاظ، وإذا كانت قرضاً
للبنك فهي إرفاق به ومساعدة وتنمية لربحه، فإذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا فلا
ريب أن إعطاءه الدراهم على هذا الوجه حرام لأنه عونٌ ظاهر على الربا، وإذا
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن كاتب الربا وشاهديه فكيف بمن يضم ماله
إلى مال المرابي فيزداد ربحه ومراباته.
أما إذا كان البنك له موارد أخرى غير ربوية مثل أن يكون له مساهمات في
شركات طيبة المكسب، وله مبايعات وتصرفات أخرى حلال فإن إعطاءه الدراهم
على هذا الوجه ليس بحرام، لأنه لا يتحقق صرفها في الوجه الربوي من تصرفات
البنك، لكن البعد عن ذلك أولى لأنه موضع شبهة، إلا أن يحتاج الإنسان إلى ذلك، فإن الحاجة تبيح المشتبه لقوة المقتضى وضعف المانع. هذا هو الشائع من فعل
القسم الأول من المتعاملين بالربا.
أما الشائع من فعل القسم الثاني من المتعاملين بالربا فهو أن يأتي الرجل
لشخص فيقول: إني أريد من الدراهم كذا وكذا فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر
أو ثلاثة عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه، ثم يذهب الطرفان إلى صاحب
دكان عنده بضائع مرصوصة قد يكون لها عدة سنوات إما خام أو سكر أو رز أو
هيل أو غيره مما يتفق عند صاحب الدكان، أظن أن لو وجدوا أكياس سماد يقضيان
بها غرضهما لحصل الاتفاق عليها فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراءً صورياً
غير حقيقي، نقول إنه صوري لا حقيقي لأنه لم يقصد السلعة بعينها بل لو وجد أي
سلعة يقض بها غرضه لاشتراها ولأنه لا يقلب السلعة ولا يمحصها ولا يماكس
(يكاسر) في الثمن وربما كانت السلعة معيبة من طول الزمن أو تسلط الحشرات
عليها، ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها ذلك القبض الصوري أيضاً،
فيعدها وهو بعيد عنها، وربما أدرج يده عليها تحقيقاً للقبض كما يزعمون،
والقبض في مدلوله اللغوي أن يكون الشتيء في قبضتك، وبعد هذا القبض
الصوري يبيعها على المستدين بالربح الذي اتفقا عليه من قبل، ولا ندري هل
يتصدى هو أيضاً لقبضها القبض الصوري كما قبضها الدائن أو يبيعها على صاحب
الدكان بدون ذلك، فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها. قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (إبطال التحليل ص 109) : بلغني
أن من الباعة من أعد بزاً لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا
بألف ومائتين ذهباً إلى ذلك المحلل فاشترى المعطى منه ذلك البز ثم يعيده الآخذ إلى
صاحبه، وقد عرف الرجل بذلك بحيث إن البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه
البيع البتات اهـ.
وقال في الفتاوى 29/ 430، جمع ابن قاسم: إذا اشترى له بضاعة وباعها
له فاشتراها منه أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه فهذا ربا. وفي
ص 436 - 437 من المجلد المذكور: فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ
دراهم بدراهم إلى أجل فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراماً وفى ص438 منه:
فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل
هي معاملة فاسدة ربوية، قال: وعلى ولى الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية
وعقوبة من يفعلها، وفي ص 441 منه: وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية، ثم
أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعاً بقدر المال فاشتراه المعطى ثم باعه على
الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب
الحانوت واسطة بينهما بجُعل؟ فهذا أيضاً من الربا الذي لاريب فيه. وفي ص
447 منه: وأصل هذا الباب أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فإن
كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس، وإن نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيلة فإن له
ما نوى. وقال في أبطال التحليل ص 108: فيا سبحان الله العظيم، أيعود الربا
الذي قد عظم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن أهل الكتاب
بأخذه، ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في
غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي
عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبياً من الأنبياء
فضلاً عن سيد المرسلين بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم
العظيمة ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يكن له حقيقة وليس
فيه مقصود المتعاقدين قط؟ ! .
وقال ابن القيم وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي لم نر
مثله في بابه: (إعلام الموقعين 3/148) تحقيق عبد الرحمن الوكيل: وهكذا الحيل
الربوية، فإن الربا لم يكن حراماً لصورته ولفظه، وإنما كان حراماً لحقيقته التي
امتاز بها عن حقيقة البيع، فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة
ركبت، وبأي لفظ عبر عنها، فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن
في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له. اهـ.
وهذه المعاملة الشائعة بين الناس في التحايل على الربا تتضمن محاذير منها:
أنها خداع ومكر وتحيل على محارم الله تعالى. والحيلة لا تحلل الحرام، ولا تسقط
الواجب، بل تزيد القبيح قبحاً إلى قبحه، حيث تحصل بها مفسدته مع مفسدة
الخداع والمكر، ولهذا قال بعض السلف في المتحايلين: يخادعون الله كما يخادعون
الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون. ومنها: أنها توجب التمادي في
الباطل، فإن المتحيّل يرى أن عمله صحيح فيتمادى فيه، ولا يشعر نفسه بأنه
مذنب، فلا يؤنبها على ذلك، ولا يحاول الإقلاع عنه، أما من أتى الباطل على
وجه صريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع
من ذنبه ويتوب إلى الله تعالى.
ومنها: أن السلعة تباع في محلها بدون قبض صحيح ولا نقل، وهذا معصية
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع - أي في المكان الذي
اشتريت فيه - حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. رواه أبو داود، ويشهد له حديث
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال: كان الناس يتبايعون الطعام
جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه البخاري.. وقد يتعلل بعض الناس فيقول: إن عد هذه الأكياس قبض لها
فنقول: القبض مدلول لفظي وهو أن يكون الشيء في قبضتك وهذا لا يتحقق
بمجرد العدّ، ثم لو قدرنا أن العد قبض، فهل حصل النقل والحيازة؛ والنبي -
صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى
رحالهم.
وقد يتعلل بعض الناس بأن هذه المعاملة من التورق، فنقول: ليست هذه من
التورق الذي اختلف في جوازه فإن التورق أن يشتري المحاج سلعة بثمن مؤجل
زائد عن ثمنها الحاضر من أجل أن يبيعها وينتفع بثمنها، فهو يشتري سلعة بعينها
مقصودة مملوكة للبائع، أما المعاملة الشائعة هذه فليست كذلك فان البائع والمشتري
يتفقان على الربح، وهى ليست في ملكه، ثم إن السلعة ليست معلومة لهما ولا
معلومة الثمن ولا مقصودة، ولذلك يأخذان أي سلعة تتفق عند صاحب الدكان بأي
ثمن كان، حتى إن بعضهم إذا لم يجد سلعة عند صاحب الدكان تكفي قيمتها للدراهم
التي يحتاجها المتدين رفع قيمتها حتى تبلغ الدراهم المطلوبة، وربما اشتراها الدائن
فباعها على المتدين ثم باعها المتدين على صاحب الدكان ثم عاد صاحب الدكان
فباعها على الدائن مرة ثانية ثم باعها الدائن على المتدين، وهكذا يكررون العقد
مرات حتى تبلغ الدراهم المطلوبة فأين هذه المعاملة من التورق الذي هو موضع
خلاف بين العلماء [2] ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي داود
على أنها -أي مسألة التورق- من العينة ذكره ابن القيم في تهذيب السنن 5/108،
وذكر في الإنصاف عن الإمام أحمد فيها ثلاث روايات: الإباحة والكراهة والتحريم، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية تحريم التورق وكان يراجع فيها كثيراً فيأبى إلا
تحريمها. وقد شاع في هذه المعاملة المتحيل بها على الربا. أن الناس يقولون فيها: (العشر أحد عشر) ، وهذا مكروه في البيع الذي ليس حيلة على الربا. وعن
الإمام أحمد -رحمه الله- أنه الربا، وقال أيضاً: كأنه دراهم بدراهم لا يصح.
وقد تدرج كثير من الناس بهذه المعاملة إلى الوقوع في الربا الصريح، ربا
الجاهلية الذي يأكلونه أضعافاً مضاعفة، فإذا حل الأجل ولم يوف المدين إما لعجزه
أو مماطلته قال له الدائن. خله يبقى بمعاشرته فيربى عليه كل سنة ذلك الربح الذي
اتفقا عليه وسمياه معاشرة، نسأل الله تعالى السلامة.
المخرج المشروع:
والموفق يستطيع التخلص من هذا الفخ الذي أوقعه فيه الشيطان والشح،
فيصرف تعامله إلى البيع والشراء على الوجه السليم، ويقضي حاجة المحتاج إما
بإقراضه، وإما بالسلم بأن يعطيه دراهم بعوض يسلمه له بعد سنة أو أكثر حسبما
يتفقان عليه، مثل أن يقول: هذه عشرة آلاف ريال اشتريت بها منك، مائة كيس
سكر تحل بعد سنة، وقيمة الكيس بدون أجل مائة وعشرة ريالات، فهنا حصل
للبائع الذي هو المستدين انتفاع بالدراهم، وحصل للمشتري الذي هو الدائن انتفاع
بربح عشرة ريالات في كل كيس، وربما يرتفع سعره عند الوفاء فيربح أكثر،
وربما ينزل فلا يحصل له إلا دراهمه أو أقل وبهذا يخرج عن الربا ويكون كالبيع
المعتاد الذي يربح فيه أحد المتعاقدين أو يخسر حسب اختلاف السعر. وهذه
المعاملة كانت شائعة بين الناس إلى عهد قريب وتسمى في لغة العامة (المكتب أو
الكتب) ينطقون الكاف بين السين والكاف ? فهاتان طريقتان لقضاء حاجة المحتاجين: القرض والمكتب. فإن لم يشأ المتعاقدان ذلك فثم طريقة ثالثة إذا كانت حاجة
المدين بشيء معين مثل أن يكون محتاجا لسيارة أو ماكينة وقيمتها كذا وكذا، فيبيعها
الدائن عليه بأكثر إلى أجل يتفقان عليه، لأن قصد المدين هنا نفس تلك العين لا
دراهم بدراهم.
[ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ] ... [الطلاق: 2-3] ، [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] [الطلاق: 4] ، هكذا قال الله تعالى. وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ويُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] [الأنفال: 29] .
وقال تعالى: [وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى
فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ... [البقرة: 275] .
فالتوبة إلى الله تعالى إذا كانت نصوحاً تمحو ما قبلها، وإذا كانت هذه
المعاملات المحرمة فعلها العبد تقليداً لمن يحسن الظن به أو تأويلاً اشتبه عليه به
وجه الصواب ثم رجع إليه بعد علمه به فإنه لا يؤاخذ به، فإنما المؤاخذة فيمن علم
الخطأ وتمادى فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
(1) وألحق جمهور العلماء بها ما يساويها في العلة والحكمة على خلاف بينهم في تحقيق العلة، وليس هذا محل بسطها.
(2) ولذا يحكى ابن تيمية الخلاف في التورق، ولكن يقول في هذه المعاملة: هو من الربا الذي لا ريب فيه.(2/28)
مفهوم السببية عند أهل السنة
طارق عبد الحليم
تعتمد الأمم الناهضة في بناء ذاتها، وشحذ قوتها، على ركيزتين أساسيتين
أولهما: صحة المفاهيم التي تبنى عليها تلك النهضة، والثانية: إخلاص ومصداقية
الفئة التي تحمل عبء النهوض بالأمة والسير بها في طريق الرقي والتقدم المادي
والسلوكي جميعاً.
وعلى أساس من صحة المفهوم، ووضوح الفكرة، تصح الوجهة وتتضح
معالم الطريق، وتكون الأمة على بينة من غايتها وأهدافها بلا زيغ ولا انحراف كما
أن زاد الإيمان والإخلاص لدى الرجال القائمين على النهضة يُعدّ الوقود الدافع
للحركة والاندفاع بها نحو الهدف، واجتياز العتبات والمحن التي تعرقل تلك
المسيرة.
وحين نسبر الواقع الإسلامي المعاصر بهذين المقياسين الموضوعيين نشعر -
برغم تباشير النهضة الإسلامية اللائحة في الأفق بفضل الله تعالى ومنّه - بألم
يعتصر الفؤاد اعتصاراً، لما نجده من اضطراب في المفاهيم، واختلاط في الفكر،
وتشتت في الجهد وتفرق عن الصف، ثم انهزامية منكرة في بعض النفوس، يقابلها
حماس متهور غير مدروس لدى البعض الآخر
أسباب عديدة أدت بالواقع الإسلامي إلى ما آل إليه من حال، منها ما يتعلق
بصحة المفهوم، ومنها ما يتعلق بعزائم الرجال.
ولسنا بصدد الحديث - في هذا المقال - عن الأمر الثاني المتعلق بالرجال،
فإنه أمر وعر المسالك، خفيّ الدروب، متعدد الشعاب، له ظاهر يفضح مكنون
الباطن، وله باطن يشرح جليّ الظاهر، وإن كانت لنا إليه رجعة في موضع
مستقل نطل فيه إطلالة قصيرة على ظواهر الأقوال، وواقع الأفعال، ودلالات
الأمرين على العزائم. وإنما سيقتصر بحثنا على بعض المفاهيم التي أصابها الخلط
والاضطراب في الفكر الإسلامي، وانعكاس ذلك انعكاسا مباشراً على الواقع
الإسلامي عموماً، وعلى مسار النهضة الإسلامية المرتقبة خصوصا، جاهدين في
تصحيح تلك المفاهيم، وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي تعين على بلوغ الهدف
وإدراك الغاية بعون الله تعالى.
ومن تلك المفاهيم - بل من أهمها وألصقها بالواقع الإسلامي على الإطلاق -
مفهوم السببية - أو العليِّة كما يطلق عليه باحثو الأصول - الذي ينتظم بشموله
السنن الطبيعية والاجتماعية للحياة والأحياء على السواء، والذي يبحث -بكلمات
موجزات - في ترتيب النتائج على أسبابها، وارتباط العلة بمعلولها، سواء في
مجال المادة الجامدة وحركاتها، أو أفعال الأحياء وتصرفاتهم، كما يتناول - بشكل
أساسي - فكرة التلازم بين العلة والمعلول عند اكتمال الأسباب، وعوامل تخلف
النتيجة في حالات معينة وما يتعلق بتصور مفهوم خصائص المادة وطبائعها، وقيام
الإرادة الإنسانية واستقلالها ومدى تدخلها في ترتب النتائج على الأسباب التي أدت
إليها. وقد اعتمد مفهوم السببية على عدد من القضايا والأفكار التي تعتبر روافد
لتطور ذلك المفهوم، كمسألة خلق الأفعال، ومفهوم القضاء والقدر، ومجال الإرادة
الإنسانية، وقضية التحسين والتقبيح كما أن ذلك المفهوم قد ارتبط بأمر يعتبر غاية
في الأهمية في فهم العقيدة ذاتها من جهة، وفى منهج استقاء الأحكام الشرعية من
النصوص من جهة أخرى، ألا وهو مبدأ تعليل الأحكام الإلهية، أو - بعبارة أخرى- وجود الحكمة في أفعال الله وأحكامه، وأنه سبحانه لا يفعل إلا لحكمة بالغة
يقتضيها علمه وعدله وحكمته، مما يضطرنا إلى أن نمسّ تلك القضايا مسّاً رقيقاً
موجزاً، متحاشين الدخول في التفصيلات والتفريعات التي كادت - بسبب علم
الكلام - أن لا تنتهي.
ولسنا في هذا المقال بمؤرخين لفترة معينة من الزمان، أو لفرقة محددة من
الفرق، إنما ستجدنا -كما هو الأنسب لغرضنا - قاصّين آثار الفكرة منذ نشأتها
وتطورها عبر مساحة من الزمان تمتد منذ نهاية القرن الأول الهجري، وحتى نهاية
القرن الرابع الهجري، من خلال آراء الفرق التي أطلت برأسها بعد انشعاب الآراء، وتفرق الأهواء، كالجبرية، والقدرية المعتزلة، ثم الصوفية التي حازت قصب
السبق في إهدار قيمة اتخاذ الأسباب تذرعاً بالتوكل، ومذاهب الأشاعرة الذين قابلوا
غلو المعتزلة بغلو مقابل في نفي العلة والسبب، ثم توسط أهل السنة في ذلك الأمر
كله.
القدرية وخلق الأفعال:
في بداية الربع الأخير من القرن الأول الهجري كان (معبد الجهنيّ) [1] يتنقل
بين العراق والحجاز مروّجاً لبدعته - التي كان أول من أحدثها في الإسلام - وهى
نفيه للقدر، وإنكاره للقضاء الإلهي بزعم أن الله سبحانه لا يقدّر على الناس ما
ينهاهم عنه، ولا يقضي عليهم بما يحاسبهم عليه. وعن معبدٍ هذا أخذ (غيلان
الدمشقي) [2] وراح ينشر تلك الآراء التي ذهب ضحيتها حين قتله هشام بن عبد
الملك عليها بدمشق.
وعن هذين انتقلت بدعة القول بنفي القدر إلى المعتزلة وظهرت كأصل من
أصولهم الخمسة [3] منذ زمن (واصل ابن عطاء) [4] (وعمرو بن عبيد) [5]
وحتى (القاضي عبد الجبار) [6] المعدود في الطبقة الحادية عشرة منهم - وقد
أطلقت المعتزلة على أصلهم ذاك (العدل) واتفقوا على أن: (العبد قادر خالق لأفعاله، خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثوابا أو عقاباً في الدار الآخرة، والرب
تعالى منزه عن أن يضاف إليه شر أو ظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق
الظلم كان ظالماً ولو خلق العدل كان عادلاً) [7] .
وقد تطور ذلك القول بعدم خلق الله سبحانه لأفعال العباد، وأنها لا تدخل تحت
المشيئة الإلهية، بل هي بمحض الإرادة والاختيار الإنساني، ومن خلق العبد نفسه، إلى القول بعدم قدرة الله تعالى على خلق الشر، أو الأفعال الموصوفة بالمعصية
والكفر من العباد كما ذهب إليه (النظام المعتزلي) [8] وفي مقابل تلك الآراء التي
بلغت الغاية في إنكار عموم المشيمة الإلهية، وقدرة الله سبحانه وخلقه لكافة
الموجودات، والتي جعلت العبد خالقا مستقلا لأفعاله تحت دعوى الحرية الإنسانية،
ومنطقية الثواب والعقاب، قام (الجهم بن صفوان) [9] في أوائل القرن الثاني
الهجري ينادي بآراء تقع منها على طرف النقيض، فزعم أن العبد لا دخل له في
أفعاله، ولا اختيار ولا استطاعة، بل هي فعل الله على الحقيقة والإنسان مجبور
عليها، كأفعال الجمادات سواء بسواء، قال: (إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا
يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، ولا قدرة ولا إرادة ولا اختيار.
وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما بخلق في سائر الجمادات، وتنسب
إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات، كما قال أثمرت الشجرة وجرى الماء،
وتحرك القِدْرُ، وطلعت الشمس، وغربت.. . والثواب والعقاب جبر، كما أن
الأفعال كلها جبر) [10] .
وفي منتصف القرن الثاني الهجري أطلق ضرار بن عمرو - وهو رأس
الضرارية المعدودة لدى كتاب الفرق من الجهمية المجبرة - القول بأن الله سبحانه
خالق لأفعال العباد حقيقة (وأنها مكتسبة لهمم) [11] ، وكان هذا القول إرهاصاً
بظهور مذهب ثالث - على يديّ أبي الحسن الأشعري في منتصف القرن الثالث
كان أوسع انتشاراَ وأعمق تأثيراً من سابقيه - الجبرية والمعتزلة.
الأشاعرة وخلق الأفعال:
رأى الأشعري ما ساد بين المعتزلة من آراء أدت إلى إهدار المشيئة الإلهية
في سبيل إثبات العدل الإلهي، بل إنه عاش ما يقرب من أربعين عاماً داعياً لذلك
المذهب الاعتزالي، وما ضاد ذلك لدى الجبرية من إهدار للعدل في سبيل المشيئة
الإلهية المطلقة، فاختار القول (بالكسب) الذي ردّده من قبله ضرار. ابن عمرو من
الجبرية، وأن الله سبحانه خالق لأفعال العباد، وهم (يكتسبونها) ! .
ولو أخذنا في استعراض آراء الأشاعرة في معنى (الكسب) لوجدنا اضطرابا
شديداً في تحديد معناه، مما ينبئ بأنه قد وضع أصلاً كمجرد اسم لا يحمل معنىً
معيناً مقصوداً، ثم حاول كلٌّ أن يحد له حدّاً وينحل له معنى، حسب ما يؤديه إليه
نظره، فقد ذهب الأشعري - كما رواه عنه الشهرستاني في الملل والنحل - إلى
التفرقة بين أفعال العبد الاضطرارية كالرعدة والرعشة، وبين أفعاله الاختيارية،
وبناء عليه فقد عرف (المكتسب) أي الفعل - بأنه هو (المقدور بالقدرة الحادثة) [12] أي: الفعل هو ما يفعله المرء بقدرته المخلوقة له. ثم عاد فنقض ما قرره مرة أخرى حيث قال: إنه لا تأثير للقدرة الحادثة -أي التي خلقها الله في العبد - في إحداث الفعل (والله سبحانه أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة- أي المخلوقة للعبد - أو تحتها أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، وسمى هذا الفعل كسباً) [13] .
وفى هذا النص ينقض الشهرستاني ما سبق نقله عن الأشعريّ إذ أنه يقرر أن
العبد لا أثر لقدرته - وإن أقر أن الله سبحانه يخلق له قدرة - على أي فعل وأن
الفعل إنما يخلقه الله عقب خلقه للقدرة في العبد وليس مسبباً عنها، ثم ننتقل إلى
آراء القاضي (أبي بكر الباقلاني) [14] ، فنرى أنه مع تقريره أن القدرة التي
يخلقها الله سبحانه للعبد لا دخل لها في إيجاد الفعل، إلا أن (كون الفعل حاصلاً
بالقدرة الحادثة أو تحتها، نسبة خاصة تسمى ذلك (كسبا) [15] ، ويحاول ابن القيم
أن ينفذ إلى معنى لذلك الأمر الذي هو (الكسب) عند الباقلاني فيقرر أن مقصد
القاضي هو (أن القدرة التي خلقها الله تعالى للعبد - وإن لم تؤثر في الفعل - إلا
أنها مؤثرة في صفة من صفاته، وتلك الصفة تسمى كسباً، وهي مُتعلّق الأمر
والنهي، والثواب والعقاب) [16] .
لكنه يفند ذلك الزعم ويبيّن تفاهته قوله: إن تلك الصفة التي يكون بها الثواب
والعقاب، إما أنها داخلة تحث القدرة الإنسانية، وهو ما نفاه القاضي؛ أن يكون
للقدرة الإنسانية أي دخل في الفعل أو أنها لا تدخل تحت القدرة، فكأنه (لم يعد للعبد
اختيار ولا فعل وكسب البتة) وهو عين القول بالجبر [17] .
والإمام (أبو المعالي الجويني) [18]- وهو من أكابر الأشاعرة - قد أنكر
نظرية (الكسب) قائلاً: إنه لا معنى له عند التحقيق بل إنه مجرد (اسم محض ولقب
مجرد من غير تحصيل معنى، وذلك أن قائلاً لو قال: العبد يكتسب وأثر قدرته
الاكتساب، والرب سبحانه خالق لما العبد مكتسبٌ له، قيل له: فما الكسب وما
معناه؟ !) [19] .
ثم يخرج الجويّني -في النظامية- بقول قد أصاب فيه وأجاد -كما علّق عليها
بن القيم- وهو أن الله سبحانه يخلق للعبد قدرة، وهذه القدرة مؤثرة في إيجاد الفعل
عند اختيار العبد بإقرار الله سبحانه -أي خلقه لتلك القدرة- كما سنرى في حديثنا
عن مذهب أهل السنة والجماعة في المسألة
والحق أن (الكسب) الذي ذهب إليه الأشاعرة، لا معنى له ولا حد، وصدق
من قال: إن محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعريّ، وأحوال أبي هاشم، وطفرة
النظام! .
مسألة التحسين والتقبيح:
ثم إنه كان من تفريعات مذهب المعتزلة - الذي يخرج بالعقل عن دوره
المرسوم وحدّه المعلوم - أن العقل يمكنه أن يدرك الحسن والقبح في الأشياء
والأفعال عامة مستقلاً عن الشرع، فهو يدرك - وحده - قبح الزنى وشرب الخمر، كما يدرك - وحده - حسن إنقاذ الغرقى وبذل الصدقة، ذلك أن تلك الصفات -
الحسنة والسيئة - صفات ذاتية لا تحتاج في تعريفها إلى وساطة رسل أو وحي من
السماء، حتى الإيمان بالله تعالى وشكره على نعمائه يدرك بالعقل قبل التكليف،
والإنسان محاسب عليه قبل ورود الشرائع [20] .
ولم يكن من الأشاعرة - إزاء الغلو الاعتزالي -إلا أن قالوا بالتحسين والتقبيح
الشرعيين، فأنكروا كل دور للعقل في إدراك الحسن والقبح في الأفعال والأشياء،
وذهبوا إلى أن الأفعال كلها مستوية في أصلها - أقبح القبائح وأحسن الحسنات -
ولا فرق بينها إلا بمجرد الأمر والنهي الإلهي - فلو أن الله تعالى أمرنا بقتل الأنبياء
وارتكاب الزنا لكان ذلك حسناً، ولو نهينا عن الخير والعدل لكان الخير والعدل سيئاً
إذ أن الأعمال لا تحمل في ذاتها خيراً ولا شراً، والعقل إذن -لا يستقل- بل لا
يدرك أصلاً - الخير أو الشر والحسن أو القبح [21] .
وكان مما حداهم إلى تأصيل ذلك الأصل الفاسد هو خلطهم بين الإرادة
والمحبة الإلهية، فقد اعتقدوا أن الله سبحانه إن أراد أمراً كان ذلك الأمر محبوباً له، مرضيّاً عنده، وإن كره أمراً لم يشأه، ولم يخلقه أصلاً؛ إذ كيف يخلق أمراً
ويشاؤه وهو يكرهه ويبغضه؟ ! أفيكون أمراً في كون الله مكروها لله مفعولا برغم
مشيئته؟ ! .
هكذا تصوروا المسألة حين خلطوا بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية -
كما سنرى في عرضنا لآراء أهل السنة - ومن هنا اضطروا إلى نفي القبح
والحسن في الأفعال والأشياء كلية إذ أن العقل العادي - الذي لم تغشاه غواشي
الشبهات - لو تأمل الأفعال والأشياء لأدرك فيها حسناً وقبحاً هو عين ما كلفته به
الشرائع، وأوجبته عليه الرسالات، وهي حقيقة لم يتمكنوا من المكابرة فيها، إنما- لمّا لم تضطرد على أصلهم في عدم التفرقة بين الإرادة الشرعية والكونية -
ذهبوا إلى ذلك الرأي الشاذ في نفي صفة الحسن والقبح في الأشياء والأفعال نفياً
مطلقاً، وجعلوا العقل عاجزاً عن إدراك الخير والشر فيها.
يقول ابن القيم في شرح ذلك الأمر:
(ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه
وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح، فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر
والكفر، ولذلك قالوا: لا يجب شكره على نعمه عقلاً، فعن هذا الأصل قالوا: إن
مشيئته هي عين محبته، وأن كل ما شاءه فهو محبوب له، ومرضي له ومصطفى
ومختار، فلم يمكنهم بعد تأصيل هذا الأصل أن يقولوا إنه يبغض الأعيان والأفعال
التي خلقها، ويحب بعضها، بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له، والمكروه
المبغوض لم يشأه، ولم يخلقه، وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر،
فحثوا به على الشرع والقدر، والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة
وكابروا لأجلها صريح العقل) [22] .
الخطأ -إذن- قد نشأ وتطور لدى الأشاعرة في هذا الأمر نتيجة خلطهم في
مفهوم الإرادة الإلهية من جهة، وفرارهم من غلو المعتزلة في مسألة الحسن والقبح
العقلي إلى غلو مقابل من جهة أخرى.
ثمة أمر آخر كان له أثر في توجيه النظرية، الأشعرية عن السببية، ذلك هو
ما ذهبت إليه المعتزلة - والمعتزلة مرة أخرى! - إلى أن الله تعالى لا يفعل إلاّ
الأصلح لعباده، بل إنه يجب عليه فعل الأصلح لهم، مراعاة لمصالحهم، وحفاظاً
عليهم من المفاسد بل إن منهم من تعدى ذلك إلى عدم قدرته -تعالى الله عما يقولون
علواً كبيراً- على فعل الشر أو المفاسد التي يتوهمونها كما ذهب إليه النظام
المعتزلي، فإن ذلك مقتضى عدله، ومسوِّغ ثوابه وعقابه، والعباد هم الفاعلون
الخالقون لتلك الشرور والمفاسد، وهى خارجة عن مشيئته سبحانه كما بيّنا، إذ أن
(الباري تعالى حكيم عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن
يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه) [23] .
وكما رأينا من قبل، فقد فرت الأشاعرة من النقيض إلى النقيض، فنفوا أن
يفعل الله سبحانه ما فيه مصلحة العباد والله سبحانه لا يسأل عما يفعل، إذ كيف
يتوهم العقل أن يفعل لمصلحة أو يترك لمفسدة، والله سبحانه يفعل من واقع المشيئة
المطلقة المجردة عن المصلحة، أو المفتقرة إلى علة في أفعالها، فهو (لا يفعل شيئاً
لشيء، ولا يأمر لحكمة، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره، وما ثم إلا مشيئة محضة،
وقدرة ترجح مثلاً على مثل بلا سبب ولا علة) [24] .
ثم لا نغفل الإشارة إلى أمر قد كان له أثره في ذلك المنهج الذي انتهجه
الأشاعرة في مناقضة المنهج الاعتزالي، ذلك أن الطبيعة البشرية تميل إلى التطرف
ما لم تدركها رحمة الله تعالى، والهروب من التطرف قد يلقى بصاحبه إلى التطرف
المقابل ما لم تضبط حركته بضوابط تهديه إلى الوسط الأعدل. وقد عاش إمام
الأشاعرة الأول (أبو الحسن الأشعري) معظم سنيّ حياته معتزلياً ينافح عن عقيدة
الاعتزال، ولاشك أن لهذا الأمر صلة مؤكدة بالاتجاه الفكري الذي سلكه فيما بعد،
إذ دفعه دفعاً إلى تطرف مقابل في مسألة خلق الأفعال ومفهوم السببية وما حولها كما
بينا، كما أنه -من جهة أخرى- قد صاحبه أثر اعتزالي في بعض آرائه الأخرى،
وإن لم تكن محلاً لدراستنا الحاضرة.
وحين نصل إلى تلك النقطة من البحث، فإننا نكون قد أشرفنا على لب الفكرة
الرئيسية التي نقصد إليها منه، وهي عرض لمفهوم السببية الذي كان لانحرافه عن
وجه الحق أثر بالغ في فكر المسلمين، وبالتالي في واقعهم الممتد عبر قرون
التخلف والتقليد، وحتى عصرنا الحاضر الذي هو -في الحقيقة - محط اهتمامنا،
ومحل دراستنا، ليرتبط تقويم الفكرة وتوجيهها بإصلاح الواقع وتغييره، وهو ما
سنوالي عرضه في البقية الباقية من صفحات المقال في العدد المقبل إن شاء الله
تعالى.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] [آل عمران: 8]
__________
(1) معبد بن خالد الجهنّي البصريّ: أول من ابتدع القول بالقدر وأخذه عن نصراني اسمه (سوسن) بالعراق حسب ما رواه الأوزاعي، اختلف فيمن قتله، فقيل الحجاج لخروجه مع ابن الأشعث وقيل عبد الملك بن مروان حوالي عام 80 هـ أو بعدها، تهذيب التهذيب 10/225.
(2) غيلان بن مسلم الدمشقي، أخذ عن معبد، وقتله هشام بن عبد الملك لبدعته الأعلام 5/124.
(3) وهي: التوحيد (نفي الصفات) ، العدل (نفي القدر) ، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) واصل بن عطاء الغزّال: ولد بالمدينة عام 80هـ، وكان رأس المعتزلة لمّا اعتزل حلقة الحسن البصرى ت 131 هـ، لسان الميزان 6/214، الأعلام للزركلي 8 /108.
(5) عمرو بن عبيد بن باب البصري: ولد بالمدينة عام 80 هـ وصحب واصلاً، واعتزل معه حلقة الحسن البصريّ، وعرف عنه الورع والعبادة، مع قوله ببدعة القدر وسب الصحابة وسائر أقوال الاعتزال، توفي في 142هـ الأعلام 5/81، وفيات الأعيان 1/384.
(6) عبد الجبار بن أحمد، القاضي الهمداني، ولد حوالي 320هـ، برع في الفقه والحديث، وانتحل مذهب الأشاعرة فترة ثم انتقل إلى الاعتزال، توفي بالريّ عام 415 هـ الأعلام 3/273، تاريخ بغداد 11/113.
(7) الملل والنحل للشهرستاني 1/45.
(8) إبراهيم بن سيّار النظام: شيخ الجاحظ: عرف عنه الذكاء، واطلع على كتب الفلاسفة والدهريين، وقد ابتدع في الاعتزال أقوال لم يسبق إليها كقوله بالطفرة، وعدم قدرة الله سبحانه على فعل الجور توفي بين 221 هـ، 223 هـ طبقات المعتزلة لابن المرتضى /49، الفرق بين الفرق للبغدادي /131.
(9) جهم بن صفوان الراسبي: كاتب الحارث بين سريج، تتلمذ للجعد بن درهم، وقال عنه الذهبي: الضال المبتدع، رأس الجهمية (تذكرة الحفاظ) ،أول من قال بالإجبار في الأعمال، (الفرق البغدادي) /211.
(10) الملل والنحل للشهرستاني 1/87.
(11) الشهرستاني 1/90، والفرق للبغدادي/213.
(12) الشهرستاني 1/96.
(13) الشهرستاني 1/97.
(14) محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر الباقلاني، القاضي، ولد بالبصرة، وسكن بغداد، وتوفي بها عام 403 هـ، وكان غزير الإنتاج، له من التصانيف المشهورة التمهيد، والتقريب والإرشاد، المقنع في أصول الفقه، وكان مالكّي المذهب، أشعريّ العقيدة، مقدماً عندهم فيها الأعلام 6/176، تاريخ بغداد 5/ 379.
(15) الشهرستاني 1/97.
(16) شفاء العليل لابن القيم /49.
(17) شفاء العليل/50.
(18) عبد الملك بن عبد الله الجويني، أبو معالي، ولد ببلدة نيسابور عام 413هـ وتلقى العلم على المذهب الشافعي من والده الملقب ركن الإسلام ونبغ وناظر العلماء، ثم توجه لمكة والمدينة حيث جاور بهما أربع سنوات وعاد بعدها إلى نيسابور حيث أقام له نظام الملك المدرسة النظامية ليدرس فيها، واستمر على ذلك عشرين عاماً حتى وفاته -رحمه الله تعالى - في 478 هـ، وكان عالماً جليلاً له مؤلفات شهيرة كالغياثي، والبرهان في أصول الفقه، لولا انتسابه إلى المذهب الأشعري في بعض مسائل الصفات وغيرها، مذاهب الإسلاميين /679 وبعدها.
(19) شفاء العليل لابن القيم /123 ينقل عن النظامية لإمام الحرمين.
(20) الشهرستاني / 45.
(21) الشهرستاني/ 42.
(22) شفاء العليل /127 الشهرستاني/101.
(23) الشهرستاني / 46، 47.
(24) البغدادي، الفرق بين الفرق.(2/37)
خواطر في الدعوة
هذه الشريعة عربية
أبو أنس
[إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]
معاذ الله أن نكتب من زاوية قومية، أو نتحدث بلوثة قومية، ولكن الحقيقة
التي قد تغيب عن بعض الأذهان هي أن هذا الدين لا يفهم حق الفهم، ولا تستوعب
مراميه القريبة والبعيدة، ولا يحاط بقواعده الكلية وتفصيلاته الجزئية إلا عن طريق
اللغة العربية فيها نزل القرآن الكريم، وبها بلّغ البشير النذير محمد -صلى الله عليه
وسلم- وبها كتبت أصول الإسلام في العقيدة والفقه والحديث والتفسير ... وهي من
الاتساع والشمول والدقة بحيث استوعبت مضامين الشريعة كلها، وتستطيع
استيعاب العلوم النافعة في أي عصر، وهي من أنقى اللغات عن الدخيل والهجين
وأفضلها تعبيراً عما يستكن في الضمير والشعور ولا سبيل إلى فهم هذا الدين من
غير هذه الجهة، لأن اللغة العربية وإن اشتركت مع اللغات الأخرى في أمور عامة
إلا أن لها أوضاعاً تختص بها، ليس هنا المجال لتفصيلها ولأنه مهما كانت الترجمة
إلى اللغات الأخرى صحيحة ودقيقة فلن تفي بالغرض ولن تؤدي المطلوب، هذا إذا
كانت هذه اللغات فيها من الحيوية ما يساعدها على استيعاب كثير من الأمور،
فكيف إذا ترجم إلى لغات محلية ضيقة هي مزيج من لغات شتى ليس بينها أي
ترابط.
والذي يرى في هذه الأيام ما تؤدي إليه الترجمة من أخطاء وأخطار في فكر
الذين يسلمون من أهل الغرب أو الشرق تتضح له صورة الماضي عندما دخل
الأعاجم في الإسلام ولكنهم لم يتقنوا العربية أو بقيت هي لغة العلم والثقافة وتمسكوا
بلغاتهم المحلية، ثم انتقل بهم الأمر فرجعوا إلى لغاتهم السابقة ونسوا العربية،
وجاءت نغمة الشعوبية القومية، وبدأ التفاخر بالفردوسى والشيرازي الذين كتبا
الشعر بالفارسية.
بل نستطيع القول: إنه لا يكفي في فهم الإسلام تعلم العربية في كتب النحو
بل لابد من معرفة معهود العرب يوم أنزل القرآن من هذا اللفظ أو من ذاك حتى لا
نحمّل اللفظ أكثر مما يحتمل، فإذا كانت الكلمات لا تزال هي هي في تركيبها إلا أن
بعضاً منها تغير مضمونها بسبب البعد عن الفصاحة، ولذلك فإن كثيراً من
الانحرافات في فهم الإسلام إنما جاءت من العجمة، والذي يتتبع تاريخ التفرق
سيرى مصداق ذلك.
نقول هذا ونحن نعلم الصعوبات التي تعترض انتشار العربية بين صفوف
المسلمين من غير العرب ولكن أليس حريّاً بالدعاة، وطلبة العلم والعلماء منهم أن
يتكلموا بالعربية ويقرؤوا تراثهم بالعربية؟ وهم يعلمون أن اعتياد التكلم بغير
العربية في قطر من الأقطار أو بلد من البلدان أمر كرهه العلماء، ذلك لأن العربية
هي شعار الإسلام ولغة القرآن وتعلمها من الدين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب.(2/46)
دعوة كريمة..
أجيبوا داعِيَ الله
عثمان جمعة ضميرية
قال الله سبحانه وتعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [الأنفال: 24] .
ما أعظم المِنة التي امتنها الله تعالى على عباده، عندما أكمل لهم الدين، وأتم
عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] .
* وما أكرم هذا الإنسان، عندما يفيء إلى الله تعالى، ويستجيب لدعوته
ويبصر أمامه الطريق المستقيم، ليقوم بدوره في هذه الحياة، ويدرك معنى وجوده
فيها! وعندئذ تتحقق له الحياة الحقيقية، الحياة الكريمة الطيبة.
فالذين يستجيبون لله وللرسول ظاهراً باطناً هم الأحياء وإن ماتوا، وهم
الأغنياء وإن قلَّت ذات أيديهم، وهم الأعزة وإن قلَّ الأهل والعشيرة.. غيرهم هم
الأموات حقيقةً وإن كانوا أحياء الأبدان، يَسْعَوْنَ بين الناس جيئةً وذُهوباً،
[أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ومَا يَشْعُرُونَ] [النحل: 21] ، وهم الفقراء، ولو كان الذهب
النُّضار يملأ خزائنهم، ويَعْمُر جيوبهم، وهم الذين تغشاهم الذلة، ولو كانوا يمتون
بالنسب، ويحتمون إلى أعرق القبائل.
* ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الله سبحانه وتعالى،
ودعوة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الذي يعاشرها ويبلّغها عن ربه تبارك
وتعالى، فإن كل ما دعا إليه فيه الحياة، ومن فاته جزء من الدعوة فاته جزء، من
الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب لله وللرسول -صلى الله عليه ... وسلم-[1] .
والله سبحانه وتعالى يوجِّه الدعوة الكريمة للمؤمنين، ويستجيش فيهم عاطفة
الإيمان، ويخاطبهم بهذه الصفة: صفة الإيمان، ويذكّرهم بمقتضى هذا الذي آمنوا
به، فيناديهم بصفتهم مؤمنين ليكون ذلك حاملاً لهم على المبادرة إلى إجابة الدعوة
بعناية واستعداد، وقوة وعزيمة. وهذا هو شأن المؤمن: إنه يتلقى أوامر الله
ودعوته بقوة: [يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ] [مريم: 12] ، [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ
واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ، [الاًعراف: 171] فإن لهذه الدعوة أعباءها، وإن
لهذه المهمة تكاليفها: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] [المزمل: 5] .
ولن يحمل هذه الدعوة ويصمد لها ويتغلب على عقبات طريقها، ويصبر
أجمل الصبر عليها، ولن يعيش لها ويتحرك في دائرتها حركة المؤمن بها الواعي
لتكاليفها، إلا الرجال الأقوياء الأشداء، وعندئذ تكون الأمة التي تنجب هؤلاء
المؤمنين الأفذاذ، والتي تأخذ هذا الكتاب بقوة، وتلتزم بالتكاليف.. أمةً ذات رسالة
سامية وهدف عالٍ، تكافح وتجاهد من أجلهما: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ
مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ... ... [الحج: 143] ، وتكون هي الأمة القائدة الرائدة، التي أناط الله تعالى بها مهمة الشهادة على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين الربانية والقيم الثابتة.. هي الأمة العدل الوسط، كما وصفها الله سبحانه وتعالى الذي حدد لها هذه الوظيفة فقال: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] .
* وهذه الدعوة، التي يوجهها الله تعالى لعباده المؤمنين، دعوة إلى الحياة
بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة ولكنها ليست أيَّ حياة، وإنما هي ... الحياة الكريمة العزيزة، الحياة الحقيقية الكاملة، التي يتميز بها الإنسان عن سائرالمخلوقات، فإن هذه المخلوقات تحيا حياة بهيمية، يتحرك فيها المخلوق بدافع من بطنه أو فرجه، فهو لا يعرف له غاية نبيلة يسعى إليها، ولا رسالة يحيا من أجلها، ويكافح في سبيلها، فحسبُه دريهمات يملأ بها جيبه، أو لقيمات تملأ معدته الفارغة، وثياب تكسو جسده العاري، وليكن بعد ذلك ما يكون، فهو لا يسعى لأكثر من هذا! ! .
إنها حياة القلب والعقل، بالعقيدة التي تعمر القلب، فتملأ كيان الإنسان نوراً
وهداية: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ
فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ... [الأنعام: 122] . [اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ... والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [البقرة 257] .
وهي العقيدة التي تهدي العقل، وتضبط حركته وعمله، فتحميه من التيه
والضياع، وتحفظ عليه جهده وطاقته من التبدد، عندما ترسم له منهج الفكر السليم، وتحدد المجال الذي يمكن أن يرتاده العقل ويستطيع أن يعمل فيه، ثم تحجب عنه
ما لا يستطيع أن يفكر فيه أو أن يدركه، وعندئذ نتجمع الطاقة العقلية لتعمل في
مجالها المحدد فتستطيع أن تحقق الكثير من الإنجازات العظيمة في نطاق السنن
الربانية في الكون والحياة الاجتماعية والحضارية وفي أحداث التاريخ وأيام الله [2] .
وإنها حياة للروح والجسد، دون انفصام بينهما ولا صراع، فما كان تعذيب
الجسد-في شريعة الله - سبيلاً لرقي الروح وتزكيتها، ما كانت العناية بالروح
عاملاً يدفع المؤمن إلى ترك ما أحل الله للإنسان وتحريمه، ولا حرمانه من حق
الحياة الطيبة والزينة التي أخرجها الله لعباده: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [الأعراف: 32] [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ] [القصص: 77] .
وهذا ما علمه النبي؛ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وقذفه في قلوبهم
وعقولهم، فكان درساً وتعليماً لا ينسى؛ فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال:
جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة
النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من
النبي -صلى الله عليه وسلم-، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؛ قال أحدهم:
أما أنا فإني أصلي الليل أبداً؛ وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر؛ وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.
فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؛
أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج
النساء؛ فمن رغب عن سُنتى فليس مني» [3] .
ولن تتحقق هذه الحياة إلا بوحي الله سبحانه وتعالى: [وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ
رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن
نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ] [الشورى: 52-53] .
فقد سمى الله تعالى ما أنزل على رسوله روحاً؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه،
كما سمّاه، أيضاً، نوراً، لتوقف الهداية عليه، فقال الله، سبحانه وتعالى [يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] [المؤمن: 151] ، كما سمّاه أيضاً شفاءً،
فقال: [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفَاءٌ] [فصلت: 44] .
وليس غريباً، بعد هذا، أن يجعل النبي، -صلى الله عليه وسلم- هذا
الإيمان والعقيدة التي جاء بها كالمطر الذي ينزل على الأرض الهامدة فيحييها:
عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبى -صلى الله عليه
وسلم- قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب
أرضاً، فكان منها نَقِيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجَادِبُ
أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصابت منها طائفة
أخرى، إنما هي قِيعَانٌ لا تُمسك ماء، ولا تُنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله
ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّمَ. ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله
الذي أرسلت به» [4] .
فهي إذن دعوة إلى العقيدة والإسلام والإيمان، فقد أحياهم الله تعالى بالإسلام
والإيمان بعد موتهم بالكفر.
وهي دعوة إلى الحق والقوة، الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، إذ
لم يخلقهما الله تعالى إلا بالحق: [ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ
بِالْحَقِّ] [إبراهيم: 85] ، والكتاب الذي أنزله الله تعالى على خاتم أنبيائه ورسله - صلى الله عليه وسلم- هو الحق: [والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الحَقُّ] ... [فاطر: 31] ، وقد أنزله الله تعالى بالحق: [نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ] [آل عمران: 3] .
والشريعة التي أنزلها الله تعالى على رسوله هي حق وعدل، أكملها الله تعالى
وبثها في كافة الخلق: [هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ] [الصف: 9] ، وما أرسل الله تعالى رسله ولا أنزل كتبه إلا ليقوم
الناس بالحق والقسط بين الناس: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ
والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] [الحديد: 25] .
* وإذا كان الحق لابد له من قوة تحميه وتزيح العقبات من طريق حمله للناس
وإبلاغه لهم، على حد قول الفاروق عمر، رضي الله عنه: إنه لا ينفع التكلم بحق
لا نفاذ له.. فإن هذه الدعوة إلى الحياة، هي دعوة إلى القوة والجهاد الذي أعزَّ الله
تعالى به هذه الأمة بعد ذُل، وقوّاها من بعد ضعف، فقد حُملت راية الجهاد في
سبيل الله، لتقرير ألوهية الله تعالى في الأرض، لينعم البشر بدين الله، سبحانه
وتعالى فيتحرروا في كل عبودية لغير الله، إذ هم عبيد لله تعالى وحده، وعندئذ
تكتب لهم الحرية الحقيقية، والعزة الكاملة، فالجهاد هو طريق العزة والكرامة للأمة، هو طريق الحياة الحقيقية.
وحتى عندما يموت المجاهدون ويستشهدون في سبيل هذه الدعوة، لن يكونوا
عند الله تعالى إلا في عداد الأحياء، ولو كانوا في قبورهم، ولهم من الرزق الطيب
عند الله ما لا يقاس به رزق الدنيا كلها، فهم الذين استجابوا لله والرسول: [ولا
تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ
بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ وأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
المُؤْمِنِينَ (171) الَذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ] ... [آل عمران: 169 - 172] .
ولقد كان المسلمون يعيشون هذه الحقيقة بحسبِّهم وشعورهم المرهف، فالجهاد
عندهم هو الحياة الحقيقية، والأمثلة علي ذلك من الواقع التاريخي للمسلمين تعزُّ
على الحصر؛ فهذا هو الفاروق عمر، رض الله عنه، يرى غزو الروم بالشام
ودعوة الصدِّيق رضي الله عنه، إلى الجهاد دعوة للحياة الحقيقية الكريمة:
فقد جمع أبو بكر، رضي الله عنه مستشاريه فاجتمعوا لديه، وكان مما قاله
لهم: وقد أردت أن أستنفركم إلى الروم بالشام، ليؤيَّد الله المسلمين، ويجعل الله
كلمته العليا، مع أن للمسلمين في ذلك الحظَّ الوافر، فمن هلك هلك شهيداً، وما
عند الله خير للأبرار، ومن عاش عاش مدافعاً عن الدين مستوجباً على الله، عز
وجل، ثواب المجاهدين..
فتكلم كل منهم؛ عمر وعبد الرحمن بن عوف.. وعثمان بن عفان وطلحة
والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد ابن زيد والحاضرون.. واتفقوا مع أبي بكر
رضي الله عنه على مبدأ فتح الشام.
وانفض الاجتماع، وتام أبو بكر رضي الله عنه إلى الناس، فحمد الله بما هو
أهله، ثم حثَّهم على الجهاد.. وسكت الناس، فما أجابه أحدٌ هيبة لغزو الروم لما
يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا معشر المسالمين مالكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟ .. أما
إنه لو كان عَرضاً قريباً وسفراً قاصداً لابتدرتموه! [6] .
وهكذا كانت كلمة ابن الخطاب تخرج من مشكاة قوله تعالي: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] .
* ثم هي الحياة الحقيقية في الجنة فالجنة هي دار الحيوان، هي الدار التي
تفيض بالحياة الحقيقية والحيوية، وفيها يتحدد مصير الإنسان الأبدي، بعد أن ينتقل
من هذه الحياة الدنيا، فالدار الآخرة هي المتاع الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء
ولا يرضى به بديلاً، ولا يبغي عنه حولاً، ولذلك ينبغي الاستعداد والتأهُّب لتلك
النهاية التي يصير إليها المرء، وعندئذ تنفتح أمامه آفاق سامية، وآماد بعيدة،
ويرتفع إلى مستوى لائق بكرامته وإيمانه:
[ومَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ] [العنكبوت: 64] .
وأما الذين يرفضون الاستجابة لله والرسول فإنهم يرفضون الحياة الكريمة
اللائقة بالإنسان، فليس لهم إلا الدُّون ومصيرهم الهلاك، ومآلهم الدمار والبوار:
[أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا
وبِئْسَ القَرَارُ] [إبراهيم: 28-29] .
وما أعظم خسارة أولئك الذين آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية الدائمة!
وما أعظم ضلال أولئك الذين حصروا الوجود في هذا الذي تقع عليه حواسُّهم قريباً
في الدنيا، ويحسبون أن وجودهم محصور فيها فلا يعملون لغيرها:
خُلِق النّاسُ للبقاءِ فضلِّت ... أمّةٌ يحسبونهم للنَّفاد
إنما يُنقلون من دار أعما ... ٍل إلى دار شقوة أو رشاد!
* وكل ما ألمحنا إليه من معاني الحياة في هذه الآية الكريمة من الإيمان أو
الحق أو الجهاد أو الجنة في الدار الآخرة.. كل هذه المعاني مرادة ومقصودة، ولا
اختلاف بينها، وكلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ظاهراً وباطناً، وما يظهر فيها من اختلاف إنما هو
اختلاف تنوع لا اختلاف تضادّ [7] .
يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله: (والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان
والإسلام والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة
والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة) [8] .
وبعد، يا أخي المسلم:
فهل تستجيب لهذه الدعوة الكريمة التي وجَّهها إليك رب العزة، جل جلاله؛
لتظفر بهذه الحياة الكريمة التي ألمحنا إلى شيء مما تعنيه، فتكون بسلوكك
واستجابتك هذه مَعْلَماً من معالم الطريق..؟
وإذا وُجِّهت إليك الدعوة ثانية، فهل تستجيب لها؟ .
إنك لست بالخيار.. إن أردت أن تكون مؤمناً.. فإما إيمان.. أو لا إيمان..
إما استجابة.. وإما إعراض..
ولن يكون مؤمناً ذاك الذي يُعرض عن دعوة الله، ولا يستجيب لها، أو
يجعلها دبر أذنيه، فإن الاستجابة لله وللرسول، -صلى الله عليه وسلم-، هي
المحكُّ الحقيقي والمظهر العملي للإيمان:
[إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا
سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 169] .
[لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ولا يَجِدْ لَهُ مِن
دُونِ اللَّهِ ولِياً ولا نَصِيراً (123) ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيراً] [النساء: 123 - 124] .
والمؤمن يستجيب لنداء الإيمان من فوره: [رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي
لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ
الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ
المِيعَادَ] [آل عمران: 192 - 193] .
ولذلك قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: (إذا سمعت الله تعالى يقول.
يا أيها الذين آمنوا! فأرْعِها سمعك، فإنه إما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌ تنهى عنه) .
__________
(1) انظر: الفوائد، لابن القيم الجوزية: 115 - 116، طبع دار النفائس، بيروت.
(2) انظر بالتفصيل: خصائص التصور الإسلامي لسيد قطب: 54 - 68، 228 - 231، مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب: 531 وما بعدها، التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان 102 -107، دار الأرقم بالكويت.
(3) أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري في كتاب النكاح انظر اللؤلؤ والمرجان: 1/324 - 325، طبع المكتبة الإسلامية بتركيا.
(4) أخرجه البخاري في كتاب العلم، واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل، انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي: 2/ 223، شرح السنة للبغوي: 1/287 - 288.
(5) انظر: منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان جمعة ضميرية ص 115 وما بعدها، دار الأرقم بالكويت (هامش غير مشار إليه) .
(6) الطريق إلى دمشق، أحمد عادل كمال ص 162 - 166، وقد أشار إلى فتوح الشام للأردي وتاريخ دمشق لابن عساكر.
(7) جاء عن السدي أن الحياة هي الإيمان، وعن مجاهد: الحق، وقال قتادة: القرآن، وعن عروة ابن الزبير وابن إسحاق، وعن الجرجاني: الدار الآخرة، انظر: تفسير الطبري: 9/213 - 214 طبعة الحلبي، ابن كثير: 2/298 مكتبة الرياض، الفوائد لابن القيم: 115 - 116، تفسير البغوي: 3/18 بهامش الخازن، وعن تفسير التنوع والتضاد، انظر: مجموع الفتاوي ابن تيمية: 13/ 333،337 مقدمة في أصول التفسير: 38 - 42.
(8) الفوائد لابن القيم: ص 116.(2/48)
شخصيات إسلامية
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
يقال: إن الولد سر أبيه.. ولعل أصدق مثال على ذلك ما كان من ذلك الفتى
القرشي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، ابن الخليفة الراشد الخامس الذي لا
تخفى أخباره على أحد من المسلمين، فهو العدل في حكمه، الورع في عدله، التقي
في نفسه، فنعم المرشد كان لأمته..
وعبد الملك كان - كأبيه - تقياً ورعاً، لا يخشى في الحق لومة لائم ولو كان
أباه الخليفة نفسه هو الجدير بالنصح والمعاتبة، فالحق عنده فوق القرابة وفوق
السلطة معاً، لما اجتمعا في أبيه الخليفة.
يرى عبد الملك أباه عمر مرة غاضباً غضباً لم يكظمه، فعمل فيه ما يعمل
الغضب في الناس - وكان عمر فيه حدة تعين الغضب عليه إن اشتد - فلم يَهَبْ
عبد الملك أن يرد أباه إلى القصد - بعد أن سكن غضبه - فقال له: يا أمير
المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك وموضعك الذي وضعك الله به وما ولاك من
أمر عباده يبلغ بك الغضب ما أرى؟ .
وكأنما كانت كلماته كماء بارد سكب على وعاء ساخن فردّه إلى اعتدال وإذا
بالخليفة عمر يستعيد كلماته مرة أخرى وكأنما عادت إليه رويته التي استلبها
الغضب منه حيناً، ولمّا سمعها مرة أخرى عجب لابنه ألا يأخذه الغضب؟ !
وطبيعة الناصح الأمين، الصادق في نصحه، أن يأتمر بما يدعو إليه الناس، وأن
تكون خلاله صورة عملية لما يلهج به من فضائل يبثها بلسانه بثاً، وينشرها بعمله
نشراً، وما كان عبد الملك إلا ذلك الناصح الصادق، إذ قال لأبيه:
(ما تغني سعة جوفي إن لم أردد فيه الغضب حتى ليظهر منه شيء أكرهه)
حق ذلك والله؛ فإن جوف الإنسان إن لم يسع غضبه المتأجج يردده فيه حتى يذهب
عنه، فقد أعان الشيطان على نفسه.
وقد سجل الإمام المروزي في كتابه (السنة) حواراً فريداً بين الخليفة عمر
وبين ابنه عبد الملك يمثل روح تلك الأمة من الناس، أمة خير القرون، كيف كانت
في أخذها للدين بقوة، وفي إخلاصها لكتابها وسنة نبيها، لا تهاب فيهما العذاب ولا
الموت، ولكن مالنا نكثر الحدث عن الحوار وما فيه، فنخلِ بين القارئ وبينه
ليشهد ما تحمله الكلمات من معان:
(أنبأنا خارجة بن عبيد الله بن عمر العمري قال: كان عبد الملك بن عمر بن
عبد العزيز عندنا فكنا نؤذه، فلما استخلف أبوه قدم علينا وهو ابن تسع عشرة سنة، وأبوه يروض الناس على الكتاب والسنة وقد قطع بذلك ... فهو يداريهم كيف
يصنع. فقال له عبد الملك حين قدم عليه: يا أمير المؤمنين ألا تمضي كتاب الله
وسنة نبيه، ثم والله ما أبالي أن تغلي بي وبك القدور؟ فقال له: يا بني إني
أروض الناس رياضة الصعب أخرج الباب من السنة، فأضع الباب من الطمع،
فإن نفروا للسنة سكنوا للطمع، ولو عمرت خمسين سنة لظننت أني لا أبلغ فيهم كل
الذين أريد فإن أعش أبلغ حاجتي، وإن مت فالله أعلم بنيتي) .
إخلاص الشباب واندفاعه في تطبيق ما يراه حقاً، وما يؤمن به صدقاً وحكمة
الرجال التي تفهم طبائع النفس الإنسانية ومواطن الضعف فيها، فتعالجها رفيقة بها
حريصة عليها، حتى تصل بها إلى ما تريد، ولرب دواء متعجل يورث داءً
متمكناً:
داويت متئداً وداووا طفرة ... وأخف من بعض الدواء الداء
وهذا عبد الملك يقدر قيمة سويعات الحياة وكأنما يستشعر قصر عمره فيحسب
للحظة حسابها، ويحث أباه على الصبر مع الرعية في متابعة شؤونها دون كلل أو
ملل.. (عن ابن أبي عبلة قال: جلس عمر يوماً للناس فلما انتصف النهار ضجر
وملّ فقال للناس: مكانكم حتى انصرف إليكم. ودخل ليستريح ساعة فجاء إليه ابنه
عبد الملك فسأل عنه فقالوا: دخل. فاستأذن عليه فأذن له فلما دخل قال: يا أمير
المؤمنين ما أدخلك؟ قال: أردت أن أستريح ساعة. قال: أو أمنت الموت أن
يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرون وأنت محتجب عنهم؟ فقام عمر فخرج إلى
الناس) .
وقد أبت حكمة الله سبحانه إلا أن ترتفع تلك الروح الطاهرة والنفس الشريفة
إلى باريها في حياة أبيها، وعلى حين شام منها حسن الشمائل وصدق الدين وعلو
الهمة، فكان في ذلك الكثير من الخير خير للوالد الذي انضاف فقده لابنه إلى ثقل
حسناته في ميزان الله بإذنه، وخير للولد إذ لم تصبه رذاذات السوء التي تتناثر
على الأحياء طوعاً وكرهاً وإن جهدوا في الطاعة.
وهاهو الخليفة عمر يعبّر عن ذلك حين دفن ابنه عبد الملك - الذي كان في
العشرين من عمره فيقول: (والله يا بني لقد كنت برّاً بأبيك، والله ما زلت منذ
وهبك الله لي مسروراً بك ولا والله ما كنت قط أشد سروراً ولا أرجى لحظي من الله
فيك منذ وضعتك في المنزل الذي صيّرك الله إليه) .
رحم الله عبد الملك ورضي عن أبيه عمر بن عبد العزيز.(2/56)
معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي
(2)
محمد العبدة
على ضوء هذا التفسير الإسلامي للتاريخ [1] يجب أن نفهم تاريخنا، فهو في
جانب من جوانبه جزء من التاريخ العام للبشرية، ينطلق عليه ما ينطلق على الأمم
الأخرى من سنن نشوء المجتمعات وارتقائها، أو انحطاطها وتخلفها، ويخضع
للعقوبات الإلهية التي تحل بأهل المعاصي والذنوب وأهل البطر والترف.
وفي الجانب الآخر له مميزاته وخصائصه، فهو مثلاً أقرب للصحة من غيرة، وذلك لارتباط نشأته بتدوين سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته وهذا
مرتبط بدين هذه الأمة، فكانت العناية بصحة الأخبار ودقتها قد وقع فيه التشويه
والروايات وهذا التشويه من السهولة بمكان كشف زيفها، ثم إن ظروف نشأة الأمة
وعوامل تكونها، والرسالة التي تحملها وترى أن من أوجب الواجبات نشرها
وتبليغها للأمم الأخرى، كل هذا يجعل لكل أمة خلفيات معينة تساعد على فهم
تاريخها، فالدارس لتاريخ أوربا الحديث لابد أن يستحضر الحروب الصليبية
وأثرها على الغرب النصراني عندما احتك لأول مرة بالحضارة الإسلامية.
إن ذكر مميزات تاريخ أمة أو خصائص هذه الأمة لا يعني بحال النظرة
الفوقية المرضية كما وصف القرآن الكريم الأمم السابقة عندما قالوا: [نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ] [المائدة 18] [وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى]
[البقرة 111] ، ولكننا نصف واقعاً قد وجد، ونتكلم عن تاريخ أمة مسلمة مؤمنة قد
نشأت، والذي ينكر هذا، ويريد أن يبدأ من الشك والهدم أو ينظر إلى هذه الأمة من
خلال نظرياته التاريخية، أو ينظر إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- كرجل
عبقري وحدّ أمة وأقام دولة، ويسمي هذا (نظرة حيادية) إلى أمثال هؤلاء لا نملك
إلا أن نقول: [ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا] [البقرة 148] وهل تريدون باسم
الحيادية أو الموضوعية أن تهدموا تاريخنا أم تريدون أن نهضم حقوقنا! ونحن إنما
نكتب لدارس يحب الحقيقة أو لمسلم يريد التعرف على تاريخه.
بعض خصائص هذه الأمة:
أولاً: إن أولى هذه الخصائص أنها أمة انبثقت فجأة ومن خلال (كتاب) وهو
القرآن الكريم، الذي شكلها وصاغها أثناء تنزله لمدة ثلاثة وعشرين سنة، ومن
خلال القدوة محمد صلى الله عليه وسلم وجيل الصحابة الذي رباه في كنفه، هذه
الأمة لم تمر بأدوار وأحقاب متطاولة حتى استقرت على ما هي عليه وأنتجت
حضارة هي الحضارة الإسلامية وإنما نشأت في بيئة عذراء، ومن قبائل هي أقرب
للفطرة من الشعوب المجاورة ثم صاغها الوحي فخرجت زرعاً [يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] [الفتح 29] هذه النبتة الأصيلة قد استعصت على مؤرخ ك
(توينبي) أن يجد لها حلاً أو تفسيراً فحاول متعسفاً أن يرجعها إلى ما أسماه بـ
(المجتمع السوري) أو العنصر الآرامي الذي بلغ أوجه في عهد سليمان (عليه
السلام) واعتبر أن المجتمع الإسلامي هو وليد هذا المجتمع (السوري) هذا التحليل
العجيب قد يعذر فيه توينبي لأنه لا يريد أن يفهم كيف تتكون أمة وتنشأ من خلال
(كتاب) ، بينما نرى نحن أن هذا النشوء السريع والقوي الذي تشكل بالوحي ورجل
الفطرة هو الذي يفسر لنا أسباب الصراع الطويل بين مفهوم الدين كما فهمه العربي
في الحجاز والجزيرة العربية يومها، وكما فهمه العلماء المحدّثون بعد ذلك، وبين
الذين التقطوا مخلفات الفرس واليونان حين دخلت على هيئة (علم الكلام)
و (الصوفية) و (أبهة الملك) وزاحمت بساطة الإسلام وصفائه، وهو الذي يفسر لنا
تلك المحاولات الماكرة والمستمرة من أعداء الإسلام للانحراف به يمنة أو يسرة مرة
باسم التطور والحداثة، ومرة باسم التعقل، وأخرى باسم التأويل، لأنهم يريدون أن
يتلاعبوا بالقرآن كما تلاعب النصارى بأناجيلهم ويغيظهم كثيراً أن يبقى الإسلام
حتى اليوم واضحاً كما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- كما بغيظهم أنه لا
توجد أمة من أمم الأرض اليوم تستطيع أن تكون مستقلة في عقائدها وتشريعاتها
وكل أنماط حياتها مثل الأمة الإسلامية، فهي تملك شخصية مستقلة في كل شؤون
حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا ما لا يريده الغرب والشرق
المتسلط على الشعوب، المغرور بقوته وعلمه.
هذه الحقيقة جعلت (توينبي) يذكرها مادحاً - وقلما يمدح الإسلام - يقول
ذاكراً التحدي الشيوعي الذي يواجه المجتمع الغربي:
(وبفرض انتصار الشيوعية على الرأسمالية انتصاراً عالمي الطابع، لا يعني
هذا انتصار ثقافة أجنبية، طالما أن الشيوعية - عكس الإسلام - تستمد أصولها من
مصادر غربية - باعتبارها - يقيناً - رد فعل ضد الرأسمالية الغربية التي ... تحاربها) [2] .
والذين يزعمون أنهم يملكون شخصية مستقلة مثل الهنادكة الذين يقدسون
غاندي، هم في الحقيقة أسرى الحضارة الغربية، يقول توينبي: (ومن ثم نجد
غاندي ينشئ حركة سياسية ذات برنامج غربي مداره تحويل الهند إلى دولة مستقلة
برلمانية ذات سيادة) [3] والحقيقة أن الثقافة الغربية تهيمن على أكثر شعوب
الأرض ولا ينجو منها إلا من يملك مقومات الثقافة المتكاملة والتصور الشامل
المخالف لثقافة الغرب والذي لا يتحقق وجوده إلا في الإسلام.
ثانياً: وهي أمة غير متقطعة ومستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، فهي لا تضعف في جانب إلا وتقوى في آخر ولا تهزم في ناحية إلا
وتنتصر في ناحية أخرى. واستقراء التاريخ الإسلامي يؤيد هذا، فعندما ضعفت
الدولة العباسية ظهر السلاجقة في خراسان وأنقذوا الخلافة من سيطرة الباطنيين،
وكان من آثارهم بعدئذ السلطان العادل نور الدين محمود الذي تصدى للهجمة
الصليبية على بلاد الشام، كما ظهر الغزنويون في الأفغان والهند، وكان مؤسس
الدولة محمود الغزنوي من السلاطين الذين يحبون العلم والجهاد في سبيل الله،
وعندما ضعف الإسلام في المغرب وفي مصر ظهر صلاح الدين الأيوبي
واستعصت القسطنطينية على الأمويين ولكنها استسلمت للعثمانيين الذين حققوا
بشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتحها، وعندما أخرج المسلمون من
الأندلس كان الإسلام قد انتشر بواسطة الدعاة في وسط أفريقيا وفي جزائر إندونيسيا.
وإذا كانت قوى الشر قد تكالبت على المسلمين في العصر الحديث، وكالت
لهم ضربات شرسة، فإننا نرى كيف يظهر الإسلام ويقوى في أماكن لم يكن
أحد يتوقع أن يظهر فيها، كل هذا تحقيقاً لدعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت عنه أنه قال: «سألت الله فيها ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» [4] .
ثالثاً: وهي أمة متجددة موعودة بأن يقيض الله لها دائماً علماء أو أمراء
يجددون لها أمر دينها، يقيمون العدل وينشرون العلم ويبعثون السنن كما جاء في
الحديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها ... دينها» [5] .
وفى الحديث الآخر: «مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله» [6] وقد ظهر من العلماء والأفراد في كل عصر ما يحقق هذه البشارة كالأئمة
الأربعة، وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأبي داود وأمثالهم من أئمة الفقه والاجتهاد
في كل عصر كما ظهر فيها من الخلفاء والملوك من يجاهد في سبيل الله ويحب
العلم ويقيم العدل، ومن يراجع كتب التاريخ والتراجم فسيجد هذه النماذج دالة على
ما ذكرنا، وإذا كان العلم قد ضعف في القرون المتأخرة فقد وجد من السلاطين من
كان همه الدفاع عن العالم الإسلامي وحمايته من الأخطار الخارجية، وإن كنا ... لا نبرر تقصيرهم في نشر العلم، ومع ذلك فإن هذا الضعف العلمي تلاه في العصر الحديث نهضة علمية إسلامية طيبة، ووجد من العلماء ما يذكرنا بعصر ازدهار العلم في القرون الأولى، ومن عجائب القرآن أننا نجد في كل عصر من يستخرج منه فوائد جديدة لم تخطر علي بال السابقين، وهذا من بركة هذه الامة.
ومن هذه الزاوية فإننا نخالف الأستاذ مالك بن نبي عندما قسمّ التاريخ
الإسلامي تقسيماً حاداً وكأننا في معمل كيمياء أو في غرفة رسم هندسي، إذ قسمّ هذا
التاريخ إلى ثلاث مراحل: المرحلة الروحية وتنتهي عند معركة صفين، والمرحلة
العقلية وتنتهي في عصر دولة الموحدين في المغرب، ومرحلة الغرائز وهي ما بعد
الموحدين وحتى العصر الحديث، إن هذا التقسيم وبهذا التعميم، يلقي ظلالاً سوداء
حول الفترة التي يسميها (ما بعد الموحدين) كما يغفل عن فكرة التجديد الدائم،
فينطبع في ذهن القارئ أن فترة طويلة جداً من التاريخ الإسلامي هي فترة انحطاط
وتخلف، لا تحمل ماءاً ولا تنبت كلأ ونحن نقول إن عوامل الضعف بدأت تنخر
في الأمة الإسلامية من قبل عصر الموحدين إلى أن وصلت إلى ذروتها في نهاية
الدولة العثمانية، فالخط العام يسير نحو الضعف وإن كانت الدولة العثمانية في
مراحلها الأولى كانت دولة إدارية عسكرية من الطراز الأول، والبعث العلمي الذي
بدأ في بعض الأقطار الإسلامية وكذلك الحركات المجددة - مثل دعوة الشيخ محمد
بن عبد الوهاب - إنما ظهرا إبان ضعف الدولة العثمانية، فالخير مستمر، بإذن الله، والطائفة التي معها الحق هي في الأمة الإسلامية، وليس هناك طائفة في أمة من
الأمم اليوم تحمل ميراث الحق، ميراث النبوة غير هذه الطائفة.
رابعاً: وهي أمة منتخبة لا تجتمع على ضلالة، كما جاء عند عبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لا
يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار» [7] .
أما الأمم الأخرى فقد تجتمع على ضلالة كإجماع الأمم النصرانية على
تحريف الكتاب وتبديله واختراع البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان والأمة
الإسلامية إذا وقع فيها شيء من هذا الانحراف فسنجد عشرات بل مئات من العلماء
من يتصدون له، منافحين عن نقاء الشريعة، فهي من هذا الجانب - ورغم ما وقع
فيها من الضعف والتفرق - من أعقل الأمم وأسلمها إذا ما قورنت بما تفعله الأمم
الأخرى من سخافات وضلالات في حياتهم الخاصة والعامة، والتقدم العلمي الذي
أحرزه الغربيون لم يحصنهم من الوقوع في تخبط وصراع في حياتهم الاجتماعية
والفكرية، وما تفعله الأمم الوثنية أعجب وأعجب، وإذا كان النقص قد وقع في
القرون المتأخرة فلا شك أن القرون الأولى هي من خير الأمم كما ثبت عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم
الذين يلونهم» [8] .
وهذا الفضل في الدنيا له مثيل في الآخرة فإن أجر الأمة الإسلامية ضعفا أجر
الأمم الأخرى كما جاء عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم على المنبر يقول: «إنما بقاؤكم فيمن
سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة
التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي
أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم
أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل
الكتابين: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً،
ونحن كنا أكثر عملاً قال الله عز وجل:» هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء « [9] .
هذه الخصائص لابد من ذكرها، حتى لا نبخس الناس أشياءهم، ففي غمرة
السرد التاريخي قد يغمط أصحاب الفضل فضلهم، وربما بدعوى عدم التحيز، أو
التظاهر بالحياد.
وإذا كانت هذه الخصائص تعطي بعض الضوء لفهم التاريخ الإسلامي ضمن
الأطر العامة، فإن المتأمل لهذا التاريخ سيجد أمامه أحداثاً هامة وظواهر خاصة هي
معالم في طريق الباحث والدارس تساعد على فهم أعمق ووضوح أكثر وهو ما يأمله
كل مسلم يبحث عن الماضي ليبني الحاضر والمستقبل، وهذا ما سنتكلم عنه في
العدد القادم إن شاء الله تعالى.
*يتبع*
__________
(1) انظر ما كتب في العدد الأول عن هذا الموضوع.
(2) توينبي: مختصر دراسة للتاريخ 1/341 ط 2 نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر.
(3) المصدر السابق 1/343.
(4) سنن الترمذي 3/319 ط دار الفكر 1983 أبواب الفتن.
(5) أبو داود: كتاب الملاحم 4/480.
(6) جامع الأصول 9/201 قال عنه الترمذي حديث حسن.
(7) جامع الأصول 9/196 أخرجه الترمذي وقال محقق الجامع: هو حديث مشهور المتن ذو شواهد متعددة.
(8) صحيح البخاري 5/62 باب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(9) صحيح البخاري 1/232 كتاب مواقيت الصلاة ط 4 / عالم الكتب.(2/59)
من أقوالهم
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى
وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات إلى عبودية واحدة لله تحرر بها النفس من كل
عبودية وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد،
ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه.
سيد قطب
إذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، ولهي عن
الفضائل فلا يسعى في اكتسابها، فعاش ولا أخلاق له، مصدراً لكل شر، بعيداً عن
كل خير.
ابن باديس
... إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع
وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البيانُّي فلا تنتظر
الأدب.
مصطفى صادق الرافعي(2/65)
ركن الأدب
عزة نفس
للقاضي: علي بن عبد العزيز الجرجاني
1- يقولونَ لِي: فيكَ انقباضٌ [1] ، وإنَّما ... رَأوْا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحجما
2- أرى الناسَ مَنْ داناهُم [2] هانَ عندَهُمْ ... وَمَنْ أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أكْرِما
3- وَلَمْ أقْضِ حَقَّ العِلْمِ إنْ كانَ كُلَّما ... بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ [3] لِيَ سُلَّما
4- إذا قيلَ: هذا مَوْرِدٌ، قُلْتُ: قَدْ أرِى ... وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما
5- وَلَمْ أبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العلمِ مُهجَتِي ... لأخْدِمَ مَنْ لاقيتُ، لكنْ لأُخْدَما
6- أأشقَى بِهِ غَرْساً، وَأجنيهِ ذِلَّةً؟ ! ... إذاً، فاتِّباعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أحْزَما
7- وَلوْ أنَّ أهْلَ العِلمِ صانُوهُ صانهُمْ ... وَلَوْ عظَّموه في النفوس لَعُظِّما
8- ولكن أهانوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاه [4] ُ بالأطماعِ حتى تَجَهَّما
معنى الأبيات:
1- يتعجب الشاعر من اتهام الناس له بالعزلة والبعد عن الناس وعدم
الانخراط فيما بينهم، مع أن ابتعاده لم يكن إلا عما يورث نفسه الذل.
2- اتخذت هذا الموقف لأنني رأيت أن كل من رضي بكل ما عليه الناس
فدخل معهم ووافقهم على كثير مما هم عليه تهون نفسه عندهم، ومن كان عنده عزة
نفس تبعده عن مواطن الشبهة أكرمه الناس.
3- والذي يدفع كثير من العلماء إلى مجاراة الناس هو المطامع المادية، وهي
لا تنتهي ولا أستطيع قضاء حق العلم إذا كنت كلما لاح مطمع من هذه المطامع
جعلته سلّماً لنفسي.
4- لذلك، تجاهلت هذه المطامع المُذلِّة التي تتنافى مع شرف العلم، فإذا
أشار لي مشير إلى أحد هذه الموارد قلت له: إنني أرى ما ترى، ولكن يمنعني من
الورود نفس حرة تصبر على العطش وتتحمله.
5- إن كثيراً من هذه المطامع تؤدي إلى خدمة من لا يستحق الخدمة، وإلى
مداراة أصحاب الدنيا وتسخير العلم لمصالحهم، مع أني لم أتعلم إلا من أجل إكرام
نفسي لا إهانتها بذلك.
6- هل أشقي نفسي في طلب العلم، لأجني لنفسي الذل؟ مادام الأمر كذلك
فالبقاء على الجهل كان أفضل من العلم الذي يكون سبباً في هوان صاحبه.
7- لو أن العلماء حفظوا علمهم، وترفعوا به عما لا يليق لحفظهم، ولكان
ذلك سبباً في صيانتهم ومعرفة الناس حقهم، ولو نظروا إلى العلم نظرة إعظام
وإكبار لكان عظيماً وكبيراً في أعين الناس.
8- ولكن الواقع أن كثيراً من العلماء أهان العلم بتصرفاته، فهان العلم في
نظر الناس وحسبوا أن العلماء كلهم على هذه الشاكلة، وأصبح العلم وبالاً على
العلماء ومصدر شقاء لهم، حتى ليكاد كثير منهم أن يتمنى لو لم يتعلم.
في جو الأبيات:
هذه أبيات تقف شامخة -بعددها القليل- على امتداد الشعر العربى كله، بل
إنها لتكاد تكون كذلك في الأدب العالمي، من حيث بساطة التعبير وصدقه، ومن
حيث جمال الأسلوب وترفعه.
وقائلها هو القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني، قاضي الريَّ
المتوفى سنة 392 هـ، وكان عالماً، أقرَّ له الناس بالتفرد، وكان إلى ذلك شاعراً
محسناً، وناقداً دقيقاً، وكتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه) من أشهر كتب النقد
في الأدب العربى، وهو مطبوع.
وهي أبيات تظل جديدة، لأنها لصيقة بموضوع حيّ، وقضية مصيرية،
وهي علاقة العالم بغيره من الناس، سواءً ارتفعوا أو سَفلوا.
وسبب آخر يجعلها جديدة دائماً، وهو ما يراه الإنسان في كل عصر من
تهاون بعض العلماء وتهالكهم على أقدام أصحاب الدنيا أو السلطة، ودوسهم المعاني
الشريفة التي يقتضيها العلم.
إن الشاعر -هنا- صاحب قضية، ذو شخصية واضحة قوية، رسم حدودها
بهذه الأبيات القليلة، التي تقارب غرض (الفخر) ، ولكنها ما تلبث أن تنأى عما
تواطأ عليه أصحاب الفخر التقليدي من الشعراء، من موضوعات يغلب عليها
الادعاء والتطاول.
وبروز شخصية القاضي في هذه الأبيات لم يؤثر على شاعريتها القوية،
فالحِجاج بالدليل والبرهان أضاف إلى جمالها قوة، وأعطانا حقيقة مفادها: أنه ليس
صحيحاً بإطلاق أن شعر العلماء يكون متكلفاً يفتقر إلى الشاعرية الأصيلة.
إن الشاعر يقدم في أبياته (مرافعة) جامعة عن نفسه، ويدافع دفاعاً فذاً عن
قدسية العلم التي وضع تحت وطأة المطامع والزلفى ممن لا يستحق.
هاهم بعض الناس يضيقون ذرعاً بعدم خوضه في غمار الناس، فيلصقون به
تهمة الانقباض والانعزال، وهى تهمة قاسية، قد تلقى ظلالاً على شخصية العالم
في نظرهم فيسارع إلى تخطئة من اتهمه بذلك، وتوجيه مابدا من انقباضه التوجيه
الصحيح، فما حسبه هؤلاء انقباضاً ليس على إطلاقه، وإنما هو بعد عن مواقف
الذل، ومواطن الهوان.
والذي دعا الشاعر إلى هذا الموقف هو رصيد التجارب المتراكمة، التي
علمته أن الناس يستهينون بمن يخوض معهم كل مخاض، في جدهم وهزلهم،
ويوقرون من يقترب منهم بقَدَر، ويخاطبهم بحساب.
ولعلنا نلحظ أن هؤلاء المنتقدين يعيبون على الرجل نوعاً من الابتعاد بعينه،
وهو الانكماش عن صاحب السلطان وعدم الانضمام إلى حاشيته، فيرد عليهم قائلاً:
إن للعلم حقوقاً، ومن أظهر هذه الحقوق صيانته عن المطامع، والبعد عن
التزلف والترفع به عما لا يليق بحملته، وإذا ما تورطتُ مع من دَلَفَ إلى أبواب
السلاطين، أو أهل الدنيا، ابتغاء ما يتساقط من موائدهم من فتات؛ أكون قد
أهدرت حق العلم وخنت الأمانة.
ويبدو أن الشاعر لم ينأ بنفسه عن هذه المواطن لأنه ليس بحاجة إليها؛ بل
هو محتاج إلى ذلك، ولكنها نفس حرة، ترى الموارد مُشْرَعَةً، ولكنها تلمح من
وراء هذه الموارد هواناً ومِنَّة، وضعة وصغاراً، وإنفاقاً لشيء ثمين في سوق
رخيصة، فتتسلح بالصبر على الظمأ، يدفها إلى ذلك إرادة قوية، وشخصية
متماسكة، وهذا معنى يُنْظَرُ فيه إلى بيتّي عنترة السائِرَين:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ ... بل فاسقني بالعز كأسَ الحنظلِ
ماءُ الحياةِ بذلةٍ، كجهَنمٍ ... وجهنمٌ بالعز أطيبُ منزلِ
وما أبلغ كلمة الفضيل بن عياض في هذا المجال: (إذا رأيت العالم يتردد
على أبواب السلاطين فاعلم أنه لص) .
ثم يلفت الشاعر نظر الذين ينكرون عليه موقفه، من دهماء الناس، أو من
أدعياء العلم، الذين يغرهم بريق المناصب عن الحق، ويغرقون أنفسهم في حمأة
التَّرَخُّص والتأويل فيقول:
لم أتعب عقلي، وأجهد نفسي في طلب العلم من أجل أن أذلها في خدمة من لا
يستحق الخدمة طلباً لمال، أو حرصاً على جاه أو منصب؛ وإنما جهدت في طلب
العلم ليخدمني هؤلاء الذين يراهم كثير من الناس فن مقام من يستحق الخدمة بينما
أرى أن مرتبة العلم لا تدانيها مرتبة أبداً. وهذا إبراهيم بن أدهم يقول في ذلك:
(لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) ، يعني: العلم والتلذذ به.
ثم يجسد الشاعر القضية تجسيداً بدهياً واضحاً فيقول:
أأجهد نفسي وأتعبها في تحصيل العلم -كمن يتعب في إنفاق الجهد الجهيد على
غراس، حتى إذا حان إثمار هذه الغراس اجتنى منها ثمر الذل؟ ! لاشك أن من
يعمل لتكون نتيجة عمله هذه النتيجة إنسان أخرق، وإن عيشاً في ظلال الجهل خير
من علم يورث الذل ويكون وبالاً على صاحبه.
وإن ما نرى من هوان العلم والعلماء، (وهذه القضية بدأت من قديم، ثم
زادها الزمن ترسخاً ووضوحاً إلى يومنا هذا) ونظرِ الآخرين إليهم نظرة ازدراء،
سببه نابع من نفوس هؤلاء العلماء الذين لم يصونوا العلم، ولم يحفظوه عن أن
يهان ويتمرغ على أعتاب أصحاب الدنيا، فلو اعتقد هؤلاء العلماء شرفَ العلم،
وعظمَتَهُ في نفوسهم؛ لعظّموه في واقع حياتهم، ولكنهم وضعوه في غير موضعه،
واستهدفوا به ما رخص من الأغراض، وما قرب من الغايات، وسخّروه من أجل
الدنيا، فهان في نظهر الناس، ممن لا يعرف للعلم حقيقة؛ فأهانوا حَمَلَتَهُ،
وعدّوهم من سَقَطِ المتاع.
وبعد، فهذه أبيات القاضي الجرجاني، تقف معْلَمَةً بارزة في أدبنا العربي،
بصدقها وجلالها وعظمة موضوعها، وما أجدر طلبة العلم، بُلْهَ العلماء، أن
يتخذوها دليلاً لهم في حياتهم، وخلال علاقتهم بالناس، لأنها نفحة من الأدب الخالد
الذي استظل بظل مفاهيم الإسلام العظيمة.
منصور الأحمد
__________
(1) انقباض: انزواء، وابتعاد عن الناس، أحجم: توقف ولم يتورط.
(2) داناهم: اقترب منهم وخالطهم دون تحفظ.
(3) صيرته: جعلته.
(4) محياه: وجهه، تجَهَّم: أصبح مشوهاً عبوساً غير جميل.(2/66)
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره:
انتهت المقالة الأولى إلى الكلام عن الحروب في الجاهلية، فتحدث
الكاتب عن أسباب الحروب، وعن أثرها على موضوعات الشعر المختلفة، فبيّن أن الحرب وما يكتنفها من موضوعات كانت من أهم دواعي الشعر، فالفخر نما في ظل الحروب والمعارك، وآخر ما استشهد به على ذلك، أبيات من معلقة عمرو ابن كلثوم وهاهو يستأنف بحثه حول ذلك.
(فالمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذي يرفع قبيلته تغلب على
كل قبائل نجد شرقيّها وغربيّها، فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره
الهلاك والدمار، ويقول: إن حياتهم سلسلة من الحروب.. واعترف لأعدائه
بشجاعتهم، فهم يقتُلون ويقتل منهم من قومه، فثيابهم جميعاً ملطخة بالدماء..) [1] .
وهناك كثير من الشعراء وصفوا خصومهم بالشجاعة وتسمى قصائدهم
بالمنصفة.
المُنْصِفات من القصائد:
من ذلك قول المفَضَّل النُّكْري يصف موقعة بين عشيرته من بني نُكْرة ابن
عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف يقول: [2]
وكم من سيد منا ومنهم ... بذي الطَرْفاء منطقه شهيق
فأشبعنا السباع وأشبعوها ... فراحت كلها تِئِقٌ يفوقُ
فأبكينا نساءهم وأبكوْا ... نساءً ما يسوغ لهن ريقُ
وصف مثير للمعركة، فيه إنصاف للخصوم، ورجولة تبتعد عن الادعاء
الفارغ، تعجز عن هذه الرجولة جعجعة الجاهلية الحديثة، وفي كل شرٌ.
ومن المنصفات أيضاً قصيدة للعباس ابن مرداس يصف فيها حرباً شديدة
وقعت بين قومه بني سليم وبين قبيلة مراد، وكان الشاعر رئيسهم عندما غزا مراداً
بقيادة عمرو بن معد يكرب ... وفيها إنصاف للخصوم وشجاعتهم منها: [3]
فلم أرَ مثل الحيِّ حياً مصبِّحاً ... ولا مِثْلَنا -لما التقينا- فوارسا
فإنْ يقتلوا منا كريماً فإننا ... أبأنا به قتلى تُذِل المعاطسا
وهذا الشعر الذي يشيد بالأمجاد والانتصارات، جعل شعر الحماسة من أروع
الموضوعات، ولعله استغرق كثيراً من القصائد الجاهلية، فهم يتغنون ببطولتهم
وأنهم لا يرهبون الموت (ويرتفع هذا الغناء بل هذا الصياح في كل مكان بحيث
يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمي
مجموعته من أشعارهم وأشعار من خلفوهم باسم الحماسة.. فهي ديوانهم الذي
يسطر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم ومن قرأ الأصمعيات والمفضليات يجد هذا الفخر
وما يطوي فيه من حماسة يدور على كل لسان) [4] .
ونختم حديثنا عن المنصفات من خلال شعر الحماسة والفخر بقول الحصين
بن الحمام المري عندما يندد بخصمه، ويصفه بالجبن، ويحاول أن ينصفه،
ويصور لنا المعركة، وشدة البأس فيها، وأنهم مع خصومهم كانوا يعزون بعضهم،
وتسود بينهم المودة والوئام: [5]
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأنْ كان يوماً ذا كواكب مظلماً
يُفَلِّقْنَ هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
وجوه عدو والصدور حديثة ... بودٍ فأودى كل ود فأنعما
نطاردهم نستنقذ الجرد كالقنا ... ويستَنقذون السمهري القوّما
لقد كان هذا الشعر من فخر وحماسة، يصور الذكريات الدامية،
والانتصارات الغاضبة للعرب في جاهليتهم، وكانت لذة النصر تحرك المشاعر،
وشدة الغيظ والحقد تلهب النفوس.
الهجاء يشارك في المعارك:
ولقد حاول الشعراء أن يهاجموا خصومهم، وأن يتهموهم بالجبن والفرار
والهزيمة، ولم يسلم الأشراف ولا السادة من اتهامهم بالعار والخزي، وكان تأثير
الهجاء عنيفاً على النفوس قوياً على المهجوّين، وكثيراً ما بكى بعض السادة من ألم
الهجاء، فقد بكى علقمة بن عُلاثة وعبد الله بن جدعان، ومخارق بن شهاب وهم
من أشراف قومهم وسادة قبائلهم [6] .
وكان اللسان ينكأ بهجائه في الأعداء نكأ السيوف والرماح، وكان المتحاربون
وكذلك الشعراء يتبارون في أيهم يكون أنفذ سهماً، حتى لا تقوم للشريف وقبيلته
قائمة. ومن هنا اقترن الهجاء عند عبد قيس بن خُفَاف البُّرحُمِيِّ بالسيف والرمح إذ
يقول: [7]
فأصبحتُ أعددت للنائبا ... تِ عِرضاً بريئاً وعضباً صقيلاً
ووقع لسانٍ كحد السنان ... ورمحاً طويل القناة عسولا
وكأنما أصبح همّ الهاجي أن يضرب عدوه الضربة القاضية. بل لكأن مناقبه
كانت تؤذيهم فكانوا يلطخونه بالعارٍ، ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا شاعراً يهجو
النعمان بن المنذر، ويتهمه أنه لم يولد لِرِشدة، وأنه ليس سليل المناذرة إنما هو
سليل صائغ بالحيرة، يقول عبد قيس بن خفاف البرجمي أيضاً: [8]
لعن الله ثم ثنى بلعن اب ... ن الصائغ الظلوم الجهولا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا
الرثاء:
ولقد بكى الشعراء صرعى المعارك بكاء مراً، وندبت النساء الثكلى، وكن
مازلن ينحن على القتيل حتى يُثأر له، والخنساء كانت تخرج إلى عكاظ تندب
أخويها، وهند بنت عتبة كانت تنوح على أبيها. وكانت النسوة يشققن جيوبهن،
ويلطمن الوجوه، ويقرعن صدورهن، ويعقدن مأتماً من العويل والبكاء، ومن أكثر
النساء بكاءً ونشيجاً الخنساء حيث تبكي أخاها صخراً، ومن رائع ما ندبته به وقد
قتل في إحدى المعارك: [9]
قدىً بعينك أم بالعين عُوّارُ ... أم ذرَّفَتْ أنْ خلت من أهلها الدارُ
كأن عيني لذكراه إذا خطرتْ ... فيضٌ يسيل على الخدين مِدْرار
تبكي خُناسُ وما تنفك ما عمرت ... لها عليه رنينٌ وهي مقتار
وإنَّ صخراً لتأتم الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
ويرثي أبو دؤاد الإيادي من أودى من شباب قبيلته وكهولهم فيقول في ... قصيدته: [10]
لا أُعِذُّ الإقتار عُدْماً ولكن ... فَقْدُ من قد رزئتهُ الإعدام
ويستمر يبكي فيهم الرؤوس العظام وخلالهم وصفاتهم ... ويقول: إنهم
أصبحوا هاماً وصدى ...
سلط الدهرُ والمنونُ عليهمْ ... فلهم في صدى المقابر هامُ
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سَقام
وأروع الرثاء ما ندب به الأبطال في حومات القتال، لأن الشعراء في بكائهم
وفي تعداد مناقب الموتى يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم ويهيجون القبيلة للحرب
ويدعون إلى الأخذ بالثأر. [11]
فهذه أم ندبة ترثى ابنها وتلوم زوجها حذيفة على قبول الدية: [12]
حذيفة لا سلمت من الأعادي ... ولا وفيت شر النائبات
أتقتلُ نُدبةً قيسٌ وترضى ... بأنعام ونوق سارحات
أما تخشى إذا قال الأعادي: ... حذيفة قلبه قلب البنات
فخذ ثأراً بأطراف العوالي ... وبالبيض الحداد المرهفات
وإلا خلني أبكي نهاري ... وليلي بالدموع الجاريات
لعلّ منيتي تأتي سريعاً ... وترقبني سهام الحادثات
أحبّ إلى من بعل جبان ... تكون حياته أردا الحياة
والمهلهل بن ربيعة الذي عرف بمراثيه لكليب يعدد مناقب أخيه ويذكر عزته
وعزمه.. يندبه كقائد للخيل يوم المعركة: [13]
أضحت منازل بالسلان قد درست ... تبكي كليباً ولم تفزعْ أقاصيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهواً إذا الخيل لَجَّتْ في تعاديها
وشعر الرثاء الباكي كثير، كثرة القتلى والمعارك الدامية. هذه هي الجاهلية
قتال، وغزو وحرب، وبكاء وحماس ومفاخر ومنافرة.
المنافرات:
مفردها منافرة، وسميت هكذا لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: إنا أعز نفراً.. ونافر معناه حاكم في النسب [14] . وقد كثرت المفاخرات والمنافرات في
الجاهلية، إذ يزعم كل فريق أنهم أكثر عدداً وأعز نفيراً، وكان غالب مفاخراتهم
منافراتهم بالشجاعة والكرم والوفاء وذكر سادتهم وشجعانهم وأشرافهم، وقد ذكر
صاحب بلوغ الأرب نماذج كثيرة من هذه المنافرات كمنافرة يمن ومضر، ومنافرة
الأوس والخزرج، ومنافرة عامر ابن الطفيل مع علقمة بن عُلاثة، ومنافرة هاشم
وأمية [15] .
ومن أشهر المنافرات منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة تنافرا على
رئاسة قومهما وذهبا إلى هرم بن قطبة الفزاري فقال لهما هرم:
إنكما قد تحاكمتا عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم [16] الفحل تقعان
الأرض وليس منكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم. ولم
يفضل واحداً منهما على صاحبه كيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين ونحر الجزر
وفرق على الناس.
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه فقال: يا هرم أى
الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت؟ قال: لو قلت ذلك اليوم عادت جذعة ولبلغت
شَعَفات هجر. فقال أمير المؤمنين: نعم مستودَع السر أنت يا هرم مثلك فليستودع
العشيرة أسرارهم، وقال فيه الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر [17]
وهكذا تجد أن هذه المنافرات تجسد لنا تلك العقلية التي تعتز بالعدد والكثرة،
والشجاعة والكرم، وأن المنافر وقبيلته أفضل القبائل. ومن هنا عاب القرآن هذا
الشأن فقال تعالى:
[أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ] والله لا يحب كل مختال فخور.
طريقة المقاتلة وأدوات القتال:
لقد أسهب الشعر الجاهلي في وصف دقائق الحرب، طرقها وأدواتها
وأوقاتها [18] .
وقد كان قتالهم بالكر والفر أحياناً، وقد يتخذون وراءهم حواجز من الظعائن
أو الإبل يرجعون إليها، وعرفرا أحياناً الحروب المنظمة. وكانت المبارزة تسبق
الحرب في بعض الحالات قال عنترة: [19]
سأخرج للبراز خَلَّي بالٍ ... بقلب قُدً من زُبَرِ الحديد
وفى غزوة أحد تقدم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالراية متحدياً
المشركين وخرج إليه أبو سعيد بن أبي طلحة ليبارزه فضربه علي وصرعه [20] .
وقد أغاروا بالليل والنهار، وربما كان أكثر الغارات ليلاً والقوم رقود وكانوا
يمتنعون عن القتال في الأشهر الحرم وفي ذلك حكمة بالغة في أمة اعتادت شنَّ
الغارات، واعتادت السطو والسلب، حيث يتمكن العقلاء من محاولات الصلح حتى
لا يسترسلون في التفاني وليتمكن الإنسان من قضاء حاجاته وأمور معاشه.
كان العرب في جاهليتهم يحرصون على أدوات القتال، يحملونها لا تفارقهم
وافتخروا بأنواعها، وجودتها، فبها يغيرون، ويثأرون ويغنمون، لقد تحدثوا في
شعرهم عن السيوف والرماح والدروع بأنواعها، وعن السهام والقسي بأشكالها،
وفاخروا بالخيول الأصيلة، فهذا عنترة يفتخر بأن وسادَه درعه وسيفه، وبأن مقيله
ظهر حصانه: [21]
أيا عبل ما كنت لولا هواك ... قليل الصديق كثير الأعادي
وحقك لازال ظهر الجواد ... مقيلي وسيفي ودرعي وسادي
ومن أهم وسائلهم الخيول إذ أعزوها إعزازاً عجيباً، وافتخروا بها لأنها
وسيلة الكر والفر، وعرف العرب بالمحافظة على أنسابها [22] ، وعدم الخلط بين سلالاتها، وكان إطلاق الأسماء على الخيل عادة معروفة؛ ليميزوا بين الأصيل والهجين، وقد ذكر صاحب أنساب الخبل [23] أكثر من مائة فرس من أفراس الجاهلية والإسلام مع نسبتها إلى أصحابها من ذلك أعوج، كان سيد الخيل المشهورة، كان لملك من ملوك كندة، والغرب والوجيه ولاحق والمذهب وكتوم.
قال طفيل الغنوي:
بنات الغرب والوجيه ولاحق ... وأعوج تنمي نسبة المتنسب
ومنها داحس والغبراء، والسلس فرس لمهلهل بن ربيعة التغلبي.
وقد ذكرت المفضليات [24] عدداً منها مثل: العرادة للكلحبة والرحالة
فرس عامر بن الطفيل. والكلام يطول في إعزاز العرب للخيل والشعر فيها كثير وكان أشراف العرب يخدمونها بأنفسهم، ويفتخرون بكثرة العناية بها فالأعرج المعنّى يعجب لأن زوجته تعيب عليه إيثار فرسه الورد عليها باللبن ويقول: إن فرسه أفضل من زوجته ساعة الفزع ووقت الغارة: [25]
أرى أم سهل ما تزال تَفَجَّعُ ... تلوم ولا أدري علامَ تَوَجَّعُ
تلوم على أن أعطِي الورد لِقْحةً [26] ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
ويلوم عنترة امرأته لاعتراضها على سقائه اللبن وإطعامه الطعام:
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتأوهي ما شئت ثم تحوبي [27]
أنذر عنترة زوجته أن يهجرها كأنها جرباء وأصر أن يكون اللبن شراب
فرسه في كل مساء وإن حزنت وتألمت.
لقد أكثر الشعراء من وصف الخيل وما ذلك إلا لأنهم أمة جلاد وكفاح فهي
أول عدتهم وهي حصونهم المنيعة [28] .
وقد ورد الثناء عليها في القرآن الكريم والحديث الشريف قال تعالى: [ومِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ] وفي الحديث: «الخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
إن الحياة الحربية، والغارات، جعلت عرب الجاهلية يمجدون الأبطال
الشجعان، والفرسان الكماة، حتى كثر الفرسان المشهورون وضربت بهم الأمثال
وقد ترجم صاحب بلوغ الأرب لعدد كبير منهم [29] .
فربيعة بن مكدم فارس كنانة، وكان بنو فراس بن كنانة أنجد العرب وفيهم
يقول علي - رضى الله عنه - لأهل الكوفة: «مَنْ فاز بكم فقد فاز بالسهم ... الأخيب.. ووددت -والله- أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم» .
وعنترة بن شداد العبسي، وقد شُهد له في حروب داحس والغبراء وأخباره
مشهورة أضحت تشبه الأساطير.
وزيد الخيل وهو زيد بن مهلهل الطائي الذي أسلم وسماه رسول الله صلى الله
عليه وسلم زيد الخير، وعامر بن الطفيل فارس بني عامر وكان عامر من أشهر
العرب بأساً ونجدة وأبعدها اسماً كما يذكر ابن الأنباري في شرح المفضليات.
ومنهم عمرو بن معد يكرب ينتهي نسبه إلى كهلان بن سبأ، ودريد بن الصمة
من بني جشم، وعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة التغلبي وهو أحد فُتّاك
العرب وهو الذي قتل عمرو ابن هند الملك.
والحارث بن عُباد من فرسان ربيعة المشهورين، ومهلهل بن ربيعة التغلبي
وهو عدي بن ربيعة صاحب حرب البسوس الشهيرة.
ومن طرائف أخبار الحارث بن عُباد والمهلهل أن الأول كان قد اعتزل حرب
البسوس حتى قتل المهلهلُ ولدَه (وقيل ابن أخيه) واسمه بجير، وقال عندما طعنه
بالرمح وقتله: (بؤ بشسع نعل كليب) .
وعندما علم الحارث بذلك غضب ودعا بفرسه النعامة فجزّ ناصيتها وقال [30] : ...
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حربُ وائل عن حيال
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحَرِّها اليوم صال
وقاد قبائل بكر وقاتل تغلب حتى هرَب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب.
وكان أول يوم شهده الحارث بن عباد هو يوم تحلاق اللمم، وفيه أَسر الحارثُ
مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك فقال له:
عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم، قال: فأنا عدي فجز ناصيته وتركه
وقال فيه:
لهف نفسي على عدىّ ولم أعِ ... رف عدياً إذ أمكنتني اليدان [31]
وهذا وفاء نادر، ورجولة تستحق الإكبار، وتتضاءل أمامها مواقف الرجال
من أتباع الجاهلية الحديثة.
ولم يتركوا وسيلة إلا حاربوا بها حتى الحجارة وكثيراً ما ساعدتهم نساؤهم بها
قال بعضهم:
فإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يُشترى بالدراهم
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجال حُلقت بالمواسم [32]
د- الأسرى والسبايا: [33]
للحروب نتائجها المريرة قديماً وحديثاً، وطالما فخر شعراء الجاهلية بأخذ
الأسرى لأنه برهان على النصر، وسوْق النساء والأطفال سبايا حرب، فالمهلهل
يفتخر بأنهم أسروا أعداءهم وشفوا من ذلك الصدور: [34]
فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف
وافتخر عمرو بن كلثوم بعودتهم ظافرين معهم الأسلاب والسبايا والأسرى:
فآبوا بالنِّهاب وبالسبايا ... وأبْنا بالملوك مُصَفّدينا [35]
وقد يسخرون الأسرى عبيداً، أو يوردونهم حتفهم، وفى يوم أوارة الأول
أسر المنذر بن ماء السماء من بني كنانة أسرى كثيرة ثم أمر بهم فذبحوا على جبل أوارة وأمر بالنساء أن يحرقن [36] .
وقد يطلقون الأسير ويمنون عليه بذلك بَعد أن يجزوا ناصيته، وكان حرصهم
على جز ناصية الشريف شديداً ذلةً له، واعتزازاً بالعفو عنه بعد المقدرة ومن
أخبارهم أن زيد الخيل أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته ثم خلى سبيله [37] .
كان شعراء الجاهلية يفتخرون بجز الناصية بعد الاحتفاظ بها لإظهارها عند
اللزوم مباهاة وافتخاراً، تقول الخنساء:
جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لن تُجَزَّا
وقالت في أخيها صخر:
رداد عادية في فكاك عانية ... كضيغم باسل للقَرن هصّار [38]
وقد يطلق الآسر أسيره جزاء مدحة يسمعها، ويؤثرها على الفداء فقد أسر
صعصعة بن محمود أحمرَ بن جندل فبعث إليه سلامة بن جندل أبياتاً منها:
فإن شئت أهدينا ثناء ومدحةً ... وإن شئت عدّينا لكم مائة معاً
فأطلقه آسره وقال: المدحة والثناء أحب إلينا [39] .
وكان العرب أحياناً يفدون الأسرى وأكبر قيمة دفعت في الفداء ثلاثمائة بعير
دفعتها أم بسطام بن عبد الله فداء لابنها [40] .
وقيل إن الأشعث بن قيس الكندي غزا مذحجاً فأُسِر وفدى نفسه بألفي ... بعبر [41] .
وقد يستولدون السبايا، ولكنّ العربية السبية ما كانت لتنسى قومها وإن طال
العهد، ويروى أن عروة بن الورد كان قد أصاب في بعض غاراته امرأة من كنانة، واتخذها لنفسه فأولدها وحج بها، ولقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا فإنا نكره
أن تكون سبية عندك قال: على شريطة أن نخيرها بعد الفداء.. وكان يرى أنها لا
تختار عليه، فرضوا بذاك، وفادوا بها، فلما خيروها اختارت قومها ثم قالت: أمَا
إني لا أعلم امرأة ألقت ستراً على خير منك.. ولقد أقمت معك وما يوم يمضي إلا
والموت أحب إلي من الحياة فيه، وذلك أني كنت أسمع المرأة من قومك تقول:
قالت أمَةُ عروة كذا، وقالت أمته كذا والله لا نظرت في وجه غطفانية فأرجع راشداً
وأحسن إلى ولدك [42] .
وقال فيها قصيدة طويلة يتحسر عليها منها:
ولو كاليوم كان عليّ أمري ... ومَنْ لك بالتدبر في الأمور
إذن لملكتُ عصمة أم عمرو ... على ما كان من حَسَكِ الصدور [43]
وكثير من سادات العرب في الجاهلية كانوا أبناء سبايا مثل دريد بن الصمة
فأمه ريحانة بنت معد يكرب أسرها الصمة ثم تزوجها فأنجبت دريداً وإخوته وهي
التي يقول أخوها عمرو في حديث إسارها:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوعُ
سباها الصمة الجُشَمِيُّ غصباً ... كأن بياض غرتها صديع
وحالت دونها فرسان قيس ... تَكَشُّفُ عن سواعدها الدروع [44]
وقد تلقي المرأة السبية بنفسها من على ظهر هودجها كما فعلت فاطمة بنت
الخرشب أم الربيع بن زياد العبسي.. عندما أسرت رمت بنفسها على رأسها من
البعير فماتت خوفاً من أن يلحق بنيها عار.
هـ - الدعوة إلى نبذ الحرب [45] :
إن القتال في الجاهلية يكاد لا يهدأ، فالأرواح تُزهق والنساء ترمل، والبيوت
تخرب، والثأر يزيد الحروب اشتعالاً، في أرض لا تعرف الهدوء ووسط صحراء
لا ترحم.
والشعر الجاهلي خير مصدر لتصوير هذه المعارك، وتلك المخاوف ... والويلات، فعامر بن الطفيل يفتخر ببطولته وبطولة قومه ثم يعدد ... انتصاراتهم [46] :
ونحن صبحنا حي أسماء بالقنا ... ونحن تركنا حيّ مُرة مأتما
بقرنا الحبالى من شنوءة بعدما ... خبطن بِعِنفِ الريح نهداً وخثعما
ونحن صبحنا حي نجران غارة ... تبيل حبالاها مخافتنا دما
كانت رعونة الجاهلية تجبر إليها من اعتزل القتال قسراً، كما حصل في
موقف الحارث بن عُباده عندما اعتزل حرب البسوس وقد مرت قصته فيما سبق.
على أن هذا الصخب وذلك الضجيج الذي شمل الحياة بكل مظاهرها لم يمنع
الأصوات القليلة من المناداة بالرجوع إلى حياة الأمن والاستقرار، ومن المعلوم أن
العرب يقبلون الصلح ويرضون بالديات إلا بعد تفاقم الأمر، وبعد أن تأتي الحرب
على الحرث والنسل، أما قبل ذلك فقد كانت سبة وعاراً عندهم.
من المواقف النادرة في مساعي الصلح، ما قام به هرم بن سنان بن عوف من
بني مرة، لأنهما تحملا القتلى من عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء التي
دامت أربعين سنة، وكانت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاثة أعوام.. فمدحهما
زهير بن أبي سُلمى، وخلد ذكرهما في معلقته: [47]
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
يميناً لنعم السيدان وُجِدْتُما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر مَنْشِم ...
وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم
هذه الحروب أتاحت لزهير أن يتأمل الحرب وويلاتها وأن يعظ وينصح،
يقول في معلقته: [48]
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرَ إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كِشافاً ثم تحمل فتُتْئِم
فتنتج لكم غلمانَ أشأم كلّهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
هذه الأبيات أجاد فيها زهير للتنفير من الحرب، فيقول: لقد جربتم الحرب
وذقتم ويلاتها، والحرب لا تلد إلا الحرب لأن العداء تتوارثه الأجيال بعد الأجيال،
والحرب تلد توأمين، أي أن شرها يتضاعف، ولن يكون المولود إلا موتوراً ناقماً
ولن تكون الأجيال المولودة إلا مشائيم، كأن كلاً منهم أحمر عاد الذي عقر الناقة
فأهلك القوم.. فالإنتاج لن يكون إلا ما تكرهون، لا كإنتاج وغَلة قرى العراق من
الحبوب والدراهم.
ولقد أنصف عنترة العبسي عندما قيل له صف لنا الحرب فقال: أولها شكوى
وأوسطها نجوى، وأخرها بلوى.
كان الأشراف يتوسطون في الصلح كما عرفنا، ويحتسبون دماء القتلى من
الطرفين ومن زاد قتلاهم أخذوا ديتهم: للصريح ديته وللحليف ديته وهي نصف دية
الصريح، كما حدث عندما حكمت الأوس والخزرج (في حروب سُمير) ثابت بن
المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت -رضي الله عنه-[49] .
وكان تقسيمها ألفاً للملوك ومائة للصريح وخمسين للحليف، وكانت تقدر
بالإبل.
للبحث صلة
__________
(1) العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(2) الأصمعيات: ص 199 (والظرفاء: موضع المعركة) - التئق: الممتلئ - يفوق: أي أخذه البهر.
(3) الأصمعيات رقم القصيدة (70) ص 204 - أباءه به: قتله به والبواء: الكفء - المعاطس: الأنوف.
(4) العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 202.
(5) المفضل الضبي ص 64 رقم القصيدة (12) .
(6) الحيوان للجاحظ وانظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(7) المفضليات ص 386 رقم (117) - العضب: السيف القاطع - الصقيل: المصقول الحاد - العسول: اللين المضطرب للينه.
(8) الحيوان: 4 / 379.
(9) ديوان الخنساء - (العوار: الرمد - مدرار: كثير - خناس: الخنساء - مقتار: ضعيفة - العلم: الجبل) .
(10) الأصمعيات: ص 185 رقم (65) - الإقتار: قلة المال وضيق العيش، العدم والإعدام: الفقر- الهام: ج هامة وكانوا يزعمون أن عظام الميت أو روحه تعيدها هامة فتطير فحرم ذلك الإسلام ونفاه.
(11) الفروسية في الشعر الجاهلي: 265 وما بعدها.
(12) لويس شيخو: شعراء النصرانية 1/166.
(13) المصدر السابق.
(14) بلوغ الأرب للالوسي 1/288.
(15) انظر بلوغ الأرب للألوسي 1/278 - 307.
(16) والجمل الأدرم: الذي سقطت أسنانه.
(17) بلوغ الأرب للألوسي: 1/278 - 307.
(18) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي من 232 حتى ص 264.
(19) الديوان ص 54 - قدّ: قطع - زبر الحديد: قطع الحديد.
(20) السيرة النبوية لابن هشام 3/19.
(21) ديوان عنترة: ص 53.
(22) الفروسية في الشعر الجاهلي: ص 139 وما بعدها وانظر بلوغ الأرب: خيل العرب المشهورة ص 104 وما بعدها.
(23) ابن الكلبي: أنساب الخيل.
(24) المفضليات ص 32-33، 37.
(25) شرح ديوان الحماسة للمرزقي 1/349 نقلاً عن الحياة العربية.
(26) لقحة: لبن الناقة.
(27) ديوان عنترة: 19 - وانظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي، والتحوب: التوجع.
(28) انظر معلقة امرئ القيس في وصف الحصان والأصمعيات رقم 39.
(29) بلوغ الأرب: الألوسي من ص 124 - 160 الجزء الثاني.
(30) الأصمعيات رقم 17 - ولقحت الحرب أي هاجت بعد سكون.
(31) بلوغ الأرب: 2/147، 156.
(32) شرح الحماسة للمرزوقي: 1/118 والمواسم: مواسم الحج.
(33) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي: الحوفي من (264 - 272) .
(34) شعراء النصرانية 2/180.
(35) معلقته: تبريزي ص 280.
(36) أيام العرب: 99 يوم أوارة الأول.
(37) الأغاني 16/51.
(38) الديوان: 145، 136.
(39) ديوان سلامة بن جندل: ص 22 نقلاً عن الحياة العربية.
(40) أيام العرب: ص 200.
(41) الميداني في مجمع الأمثال 2/11.
(42) عن الشعر والشعراء 2/680.
(43) المراد بمسك الصدور: الغل والعداوة.
(44) الأغاني: 9/2 ساسي.
(45) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 272 وما بعدها، الفروسية للقيسي ص 106 وما بعدها.
(46) ديوان عامر بن الطفيل: 117 عن الفروسية في الشعر الجاهلي (وحي أسماء: يعني فزارة - وشنوءة ونهد وخيثم من القبائل اليمينة، وتبيل: أي ترمي أولادها من مخافتنا) .
(47) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 135، 1- تبزل: تشقق، 2- أي نعم السيدان وجدتما لأمر أبرمتماه أو لم تبرماه ولم تحكماه أي على كل حال من شدة الأمر وسهولته، 3- منشم: امرأة عطارة تحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها ليتحرموا به ثم خرجوا إلى الحرب فقتلوا جميعاً فتشاءمت العرب بها) ،.
(48) المصدر السابق ص 140 - 142.
(49) أيام العرب: يوم سمير: ص 66.(2/71)
الحضارة المعاصرة ... الوجه الآخر
[ ... والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح
والحياة والنور؟ ! والدنيا مظلمة ملعونة، إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة] .
ابن تيمية
نعرض في هذا القسم من المجلة لأحداث وأخبار هي من إفرازات هذه
الحضارة المادية التي يراد لها أن تهيمن على العالم وتسخره لمفاهيمها ومعطياتها
وذلك كي يعرف المخدوعون بهذه الحضارة، والذين يدعوننا إلى تقليدها والأخذ بها
(خيرها وشرها وحلوها ومرها! !) أن لها جوانب مأساوية، وتكاليف قاسية.
إننا لسنا ضد العلم، أو التقدم الذي يسخر لراحة الإنسانية، فالعلم هو نتاج
البشرية كلها، وكل الأفكار والاكتشافات والاختراعات هي نتيجة جهود متراكمة
شارك فيها البشر جميعاً، على اختلاف مللهم وألوانهم وأجناسهم، ونحن - من جهة
أخرى - لسنا ضد ما قدمت الحضارة المعاصرة من خدمات للبشرية، ولا نبخس
الناس أشيائهم فنزري عليهم بما تفوقوا به علينا من معرفتهم للنظام والتخطيط،
ومن تقديرهم لقيمة الوقت، ومن صبرهم ودأبهم على طلب المعرفة.. ولكننا نبرز
هنا كيف أن أي حضارة إذا ابتعدت عن المنهج الإلهي تكون بمثابة المركبة التي
تسير دون كوابح - فهي وإن بدت مسرعة - إلا أن النهاية الحتمية سوف تدركها.
وكذلك فإن الغرض من هذا الباب هو الإشارة إلى أن الحضارة التي تجعل كل
همها الانصراف إلى الجانب المادي وتهمل الجوانب الأخرى التي استحق بها
الإنسان صفة «الإنسانية» تكون بمثابة الطائر الذكي يطير بجناح واحد.
إن الحضارة المعاصرة في جذورها تمتد إلى فكر اليونان والرومان الوثني
فترضع منه تصورها للحياة، وطريقة تناولها للواقع والتعامل معه، وإن المسيحية
المحرفة لم تغير من النظرة الوثنية إلى الكون والأشياء، التي تصبغ فكر هذه
الحضارة، بل إن الفكر الوثني هو الذي هيمن على المسيحية التي اعتنقتها أوربا
وبسط ظله عليها ودخل بتفسيراته وتأويلاته، وتحريفاته إلى أخص خصائصها حتى
مسخها وجعلها تتعايش معه.
وكل ما نراه من نتاج هذه الحضارة على المستوى الأخلاقي والفلسفي - مثل
التمييز العنصري، واستعمار الشعوب واستغلالها، وإهدار كرامة الإنسان،
والنظرة الاستعلائية التي تحكم نظرة الإنسان الأوربي إلى غيره والتخبط النفسي
الذي يعيشه الذين ارتضوا أن توجههم هذه الحضارة - هو نتيجة طبيعية للنظرة
المادية الفظة التي قدمتها هذه الحضارة إلى العالم والتي يراد منا أن نخضع لها.
في الغرب: البلايين تصرف على الكلاب والقطط ... والملايين تعيش تحت
مستوى الفقر! ! .
يقول خبراء اجتماعيون من جامعة بنسلفانيا إن محبي الحيوانات في الولايات
المتحدة وحدها ينفقون أكثر من ثمانية بلايين دولار للاعتناء بحيواناتهم من القطط
والكلاب ...
(أي أكثر من الدخل الوطني في أكثر من دولة من دول العالم النامي! !)
جريدة الرياض 30/12/1406هـ
هذا ما ينفقه الشعب الأمريكي المتحضر على الكلاب والقطط سنوياً.. يتم هذا
في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من الجوع والأمراض الناتجة عن سوء التغذية في
كثير من الدول الأفريقية والآسيوية وغيرها.. بل إن هذه البلايين من
الدولارات تصرف على الكلاب في أمريكا رائدة الحضارة الغربية في الوقت الذي
يعيش فيه الملايين من الشعب الأمريكى نفسه في فقر مدقع ... فلو قدر لك أن تدخل
حياً من الأحياء الفقيرة في مدينة نيويورك أو غيرها من كبريات المدن الأمريكية -
وخصوصاً الأحياء التي تقطنها أغلبية سوداء - لحدثتك نفسك أنك في بلدٍ من أفقر
بلدان العالم الثالث وما الدول الغربية الأخرى عن هذا ببعيدة إن لم تكن أسوأ حالاً
منها.. .
ففي بريطانيا العظمى! ! مثلاً: نشرت صحيفة الجارديان بتاريخ 26/6/86 م تقريراً أعدته مجموعتان من مجموعات ممارسة الضغط على الحكومة: (إن أحد
عشر مليون شخص يعيشون حالياً على-أو دون - مستوى الفقر.. وهذا العدد كما
لا يخفى يشكل حوالي 20% من العدد الإجمالي للسكان ... وليس الشعب البريطانى
بأقل شغفاً بالقطط والكلاب من نظيره الأمريكي، ولا هو بأقل صرفاً وإنفاقاً عليها
.. فهذه تناقضات الحضارة الغربية وهكذا:
تموت الناس في الصحراء جوعاً ... ولحم الضأن يرمى للكلاب! ! !
وإذا تركنا القطط والكلاب جانباً بهذه البلايين من الدولارات التي تصرف
عليها، ونظرنا إلى ما يصرفه الشعب البريطاني من الملايين على الخمور (هذا
الشعب الذي يحتضن بين جنبيه أحد عشر مليون فقير) .. إذا نظرنا إلى ذلك فإننا
نزداد ثقة بتناقضات هذا المجتمع الغربي المتحضر! ! .
ففي تقرير أعده خبراء الصحة ونشرته صحيفة التايمز بتاريخ 25/3/86 م
جاء فيه:
(إن البريطانيين ينفقون 35 مليون جنيه استرليني يومياً! ! على المشروبات
الكحولية - ويدخل خزانة الدولة سنوياً 6 بلايين جنيه كضرائب على هذه
المشروبات ... لكن الفاتورة السنوية التي تصرفها البلد من جراء مفاسد هذه
المشروبات قدرت بـ مليار و680 مليون جنيه، وذلك نتيجة التغيب عن العمل
الناجم عن الأمراض التي تسببها الخمور، وأجور العلاج في المستشفيات والموت
السابق لأوانه.. فماذا بقي من حضارة مجتمع ينفق أكثر من 12 مليار جنيه سنوياً
على الخمور فقط ... في وقت يعيش فيه 11 مليون من أبنائه تحت مستوى الفقر؟!. [وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا]
في التقرير سابق الذكر والذي أعدته منظمة الحد من مفاسد الكحول،
المدعومة من قبل الجمعية الطبية البريطانية ومجلس التعليم الصحي ومنظمات
أخرى ونشرته صحيفة التايمز بتاريخ 25/3/86م في هذا التقرير جاء ما نصه:
(إن أكثر من 25 ألف شخص يموتون سنوياً في بريطانيا كنتيجة مباشرة
لسوء استعمال الكحول) .
(إن الشعب البريطاني يستهلك من الخمور الآن ضعف ما كان يستهلكه في
الخمسينات من هذا القرن، ولقد انخفضت أسعار الخمور بمعدل 50% عنها في عام
1950م) .
(إن واحداً من كل ثلاثة سائقين يتسببون في وقوع حوادث السيارات والتي
ينتج عنها آلاف القتلى والجرحى كل سنة ... قد تعدى الحد القانوني في تناول
الشراب) .
(إن نصف المتهمين بجرائم القتل كانوا اثناءها مفرطين في السكر) .
(ويرتبط الشراب أيضا بـ 52% من الوفيات بسبب الحرائق وبـ 30%
من حوادث الغرق) .
(إن الحالة الهستيرية التى يعيشها المجتمع هلعاً من مخاطر المخدرات قد
صرفت الانتباه بعيداً عن القاتل الحقيقي - يعني الخمور - ففي عام 1984 قتل
2500 على الأقل بسبب الإفراط في تناول الخمور.. بينها 235 حالة وفاة فقط
تسببت بها المخدرات) .
إن السراب الذي يتطلع إليه المخدوعون بهذه الحضارة لتعكسه هذه الأرقام
والإحصائيات فيظهر جلياً على حقيقته..
وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] [البقرة: 219] ..
نعم، قد تجني الدولة الملايين كضرائب على الخمور، وهذا في ظاهره نفع
وغنيمة، لكنها تنفق أضعافها نتيجة الحوادث والجرائم الناجمة عن تعاطي هذه
الخمور ... والشعب يدفع عصارة جيبه وكد جبينه كى يطرب ويلهو ويسكر.. فإذا
أفاق دفع فاتورة هذا الطرب والسكر مرة أخرى - لا بالمال هذه المرة - لكن بما
يعانيه من ازدياد في الجرائم والحوادث والأمراض.. فأي نفع يقارن بكل هذه
المفاسد والآثام.. فعلام إذاً تشرئب الأعناق إلى هذه الحضارة، وينادي بالسير على
خطاها المنادون ... وهل ينادي بها بعد ذلك إلا السذج والبلهاء ... ولهؤلاء نقول:
هذه حقيقة هذه الحضارة ... فهل أنتم منتهون؟ .
[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ]
يقول تقرير صادر عن مؤتمر الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسبة) بتاريخ
25/6/86 ونشرته صحيفة الجارديان بتاريخ 26/6/86 م.
(إن 300 ألف حالة إصابة بمرض الإيدز ستقع في عام 1991م وحده إذا
انتشر (فيروس) المرض في بقية أنحاء العالم كانتشاره الآن في الولايات المتحدة) .
وصرح الدكتور (جيمس كَرَنْ Dr James Curran رئيس برنامج الإيدز
في مركز مكافحة المرض في أتلانتا Atlanta) إن 74 ألف حالة جديدة ستهدد
الولايات المتحدة في عام 1991 نفسه) .
وختم الدكتور (كَرَنْ) المؤتمر الذي دام ثلاثة أيام بتنبؤٍ خطير جاء فيه: (إنه
مع مطلع عام 1991م سيكون أكثر من ربع مليون أمريكي قد أصيبوا بالمرض وإن
179 ألف آخرون قد أدى بهم المرض إلى الوفاة) .
وأضافت الصحيفة تقول: (ومن المعلوم أن أوربا تأتي بالمرتبة الثانية بعد
الولايات المتحدة من حيث عدد الإصابات بالمرض وبتخلف زمني قدره أربع
سنوات، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية بتاريخ 25/6/1986م أن فرنسا هي
أسوأ الدول الأوربية تأثراً بمرض الإيدز، فقد بلغت عدد الإصابات فيها وحتى شهر
آذار (مارس) الماضي (707) حالة إصابة ... وتأتي ألمانيا الغربية في المرتبة
الثانية بعد فرنسا حيث بلغت حالات الإصابة بالمرض (457) حالة وتأتي بريطانيا
في المرتبة الثالثة بـ (340) حالة إصابة، وتحتل إيطاليا المرتبة الرابعة بما
مقداره (219) حالة..)
لعل هذه الإحصائيات التي صدرت عن مؤتمر الإيدز في باريس أحدث ما
نشر عن انتشار هذا المرض الفتاك.. وإلا فالإحصائيات كثيرة، ولا تكاد تطالع
صحيفة يومية أو أسبوعية إلا وتجد حديثاً عن مرض العصر ... ولا نريد في هذه
المقالة الدخول في دراسات علمية تفصيلية عن أعراض هذا المرض وأسبابه وآثاره
فنحسب أن القارئ الكريم لا تخفى عنه مثل هذه الأمور عن مثل هذا المرض لكن
لا يفوتنا أن نذكر أن 95% ممن يصابون به هم ممن يمارسون الشذوذ الجنسي،
وأن الباقين ممن يتعاطون المخدرات أو ينقل لهم دم مصاب بهذا المرض، كما لا
يفوتنا أن نذكر أيضاً أن أكثر من 90% ممن يصابون به يؤدي بهم أخيراً إلى الوفاة.. ولنقف قليلاً عند حقيقة أن أكثر من يصابون به هم من اللوطيين..
فإذا كانت القوانين والحكومات الغربية قد أعطت للوطيين ما يطالبون به من
حقوق، فسمحت لهم بإقامة الجمعيات للشذوذ الجنسي، وافتتاح النوادي التي
يمارسون بها هوايتهم الشاذة، كما سمحت لهم بترويج المجلات وأشرطة الفيديو
التي تدعو إلى مثل هذا السلوك المنحرف. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فصرنا نقرأ
ونسمع بعض أعضاء البرلمان في أكثر من دولة من دول الغرب ينادون باعتبار
الشذوذ الجنسي ظاهرة طبيعية بحتة.. ومنهم من يطالب بإدخال الشذوذ الجنسي
كمادة تدريس في المدارس الثانوية! ! .
وهل بقي للشاذين جنسياً في هذه البلدان من حقوق يطالبون بها بعد أن سمحت
الكنيسة بزواج الرجل من الرجل رسمياً! ! .
أقول: إذا كان هذا هو وضع اللوطيين في الحضارة الغربية.. فنحن -
المسلمين - قد نبأنا الله بما حل بقوم لوط (عليه السلام) .. بل وأرادوا إخراج نبيهم
لوط وأتباعه من قريتهم ... أتدرون ما جريمتهم؟ ! لأنهم أناس يتطهرون! ! ...
تماماً كما تصنع الجاهلية المعاصرة حيث تسمي من يتطهر من هذه الأوحال
بالرجعيين والمتطرفين.. لقد أنزل الله بهم عقابه الذي لا يرد فجعل عالي قريتهم
سافلها وأمطر عليهم حجارة من السماء. قال تعالى: [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا
سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ] [هود: 82] ، ولما كان قوم لوط
في دول الحضارة الغربية قد أمنوا مكر الله وأمنوا عقاب القانون الذي أصبح يحميهم
ويكفل حقوقهم المزعومة ... فقد أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فلم يخسف بهم
الأرض، كما فعل بأسلافهم بل سلط عليهم جنداً من جنوده، سلط عليهم جرثومة
هذا المرض المرعب الذي تنفطر له القلوب هلعاً.. . فالله سبحانه بالمرصاد ولا
يهمل الظالمين ولا يغفل عنهم.. . وإنا لنجد في انتشار هذا المرض بالذات وغيره
من الأمراض الجنسية في بلاد الغرب، والتي تؤدي بأصحابها أخيراً إلى الموت
مصداقاً لحدث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه بريدة (رضى الله عنه)
إذ يقول: «ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا
سلط الله عليهم الموت، ولا منع قوم قط الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر» (رواه
البزار ورجاله رجال الصحيح غير رجاء بن محمد، وهو ثقة) .
وهل شيء في بلاد الغرب أظهر من الفاحشة، وهل يحظى شيء، بقدر من
الإعلان والإعلام كما تحظى به الفاحشة؟ ! أليست تعلن في أجهزة التلفاز بأشرطة
الفيديو وعلى المسارح وعلى شواطئ العراة؟ ... أليس الملايين من البشر يقصدون
هذه البلدان سنوياً بحثاً عن هذه البضاعة المزجاة؟ ..
إذاً؛ هذه سنة الله التي لا تتخلف في القوم المجرمين، فلم يكن مرض الإيدز
القاتل معروفاً قبل بضع سنين، وما ظهر إلا بعد أن أصبح للشذوذ قنواته الرسمية
والقانونية التي يُمارس من خلالها.
ولعل أكثر ما يرعب علماء الغرب وأطباءه بصفة خاصة هو ذلك المرض
الذي يكتنف (فيروس) هذا المرض، حيث فشلت كل الوسائل المتقدمة التي
استخدمت حتى الآن للكشف عن ماهية هذا الفيروس وسبل مكافحته ... بل ويزيد
الأمر خطورة انتقاله حتى لغير الشاذين ومدمني المخدرات ... وإلى أن يتوصل
العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة إلى اختراق هذا الغموض وحل هذه الرموز
وإيجاد العقار الواقي ... إلى أن يحدث ذلك سيبقى الفزع والرعب جاثماً على قلوب
الغربيين وهذا في حد ذاته عقاب من الله القائل عن حجارة قوم لوط [ومَا هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] [هود: 83] .
ونحن على يقين من أنه ما لم يقلع الغرب -ولن يقلع - عن هذه الفواحش فإن
الإيدز لن يكون آخر وباء ينتشر بين صفوفهم.. بل إن سنة الله ماضية إلى قيام
الساعة [ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى]
[طه: 124] وصدق الله العظيم إذ يقول: [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ] ... [الأنعام: 44] .
نعم أبواب كل شيء من الخيرات والأرزاق استدراجاً لهم ومن الأمراض
الفتاكة والخمور المهلكة والمخدرات القاتلة، ومن القلق النفسي والاضطراب
العصبي والرعب والجرائم ... الخ.
وهذا بخلاف فيما لو آمنوا واتقوا لأصبحت هذه الخيرات والأرزاق بركات
عليهم، كما قال الله تعالى: [ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ] [الأعراف: 96] .
فليقف دعاة الأخذ بهذه الحضارة مع أنفسهم وقفة تأمل وتفكر، وليعلموا أنهم
إنما يدعون إلى مثل هذه الأمراض والإفرازات.. وإلا فنقل محاسن الحضارة
الغربية من تقدم صناعي وقتني لا غبار عليه ... لكن دعاة هذا النوع من الحضارة- اليوم - قليل بين أبناء المسلمين ...(2/84)
مشاهداتي في بريطانيا
د. عبد الله مبارك الخاطر
عشت في لندن حوالي ثلاث سنين، كنت خلالها أتابع دراستي في الطب
النفسي وكان لي نشاط إسلامي في مسجد من مساجدها، مسجد (بيكام
Peckham) وكان هذا المسجد يضم نخبة خيرة من الشباب من مختلف البلدان
العربية. وقد شاهدت في العاصمة البريطانية أموراً تستحق أن يكتب عنها.
وسوف أعرض ما شاهدته على شكل حلقات متوخياً في عرضي البساطة
والعبرة.. والله الموفق.
خريج كامبردج
كنت مضطراً في البداية إلى دراسة اللغة الإنجليزية - رغم أني كنت قد
درست الطب باللغة الإنجليزية - من أجل اختبار (الزمالة) ذلك لأن الإنجليز
يريدون من الجميع أن يكتبوا ويقرأوا كما يكتب المواطن الإنجليزي ويقرأ، ولما
كنت أعمل في المستشفى في الصباح، فليس أمامي إلا أن أطلب مدرساً يعلمني فن
كتابة المقالات، والعادة المتبعة عندهم أنك إذا أردت شيئاً ما فما عليك إلا أن تعلن
إعلاناً صغيراً على واجهة محل تجاري أو على لوحة إعلانات لإحدى الكليات،
ويأتيك الجواب سريعاً عن طريق الهاتف.
جاءني مدرس إنجليزي متخرج من جامعة كامبردج في الأدب الإنجليزي
وأخذ يدرس لي مرتين في الأسبوع.. وبعد أن تردد على بيتي خمس مرات سألني
على استحياء فقال:
إن زميلاتي يسألنني كيف ترددت على بيت صاحبك خمس مرات ولم يقدم
إليك زوجته لتتعرف عليها.
وكان سؤاله نقطة بداية في الحديث عن أمور أخرى غير الدراسة وكنت
أنتظر مثل هذه الفرصة لأنني أعرف بأن الإنجليز لا يحبون أن تبادرهم بالحديث
عن أمور لم يسألوا عنها وعليك أن تنتهز الفرصة فتجيبهم على تساؤلاتهم إذا سألوا.
قلت له ما موجزه: إن ديننا يأمرنا بحفظ المرأة وسترها، ولا يجوز أن
تخالط أو تجالس غير محارمها ... ثم سألته عن الاختلاط والخلوة ولو كانت بين
رجال ونساء متزوجين ألا يكون هناك مجال للخيانة الزوجية ولو بنسبة 5%؟ ! .
فأجاب: نعم بل وأكثر من هذه النسبة فسألته مرة أخرى:
أليست هذه العلاقات غير المشروعة من أهم أسباب الفساد وتفكك المجتمع؟ ! .
قال: بلى.
قلت ما خلاصته: هذه حكمة واحدة من أحكام ديننا الذي يأمرنا بحرمة
الاختلاط.. ومن ثم فالمرأة مكرمة عندنا ولها حقوق كثيرة سواء كانت بنتاً أو
زوجة أو أماً، فولي أمرها ينفق عليها ويعمل من أجل سعادتها، وبين الأسرة في
ديننا من المحبة والتعاون والتكافل مالا يتصوره مجتمعكم.
قال: هذا جميل ومنطقي ... وقد لمست الصدق فيما يقول.
وعدت أسأله: ماذا تعرف عن الإسلام؟ !
فأجاب: خميني وقذافي! ! .
فظننته يمزح ولكن تبين لى أن هذا كل ما يعرفه عن الإسلام، ولا يعرف
خريجٍ جامعة كامبردج [! !] أن هناك كتاباً اسمه القرآن الكريم، ولا نبياً اسمه
محمد - صلى الله عليه وسلم-.. كان الرجل يتحدث أمامي وكأنه طفل صغير،
ومعذرة منه الأطفال في بلادنا فهم أكثر منه علماً بدين الله.
قلت: لا أدري من المسؤول عن كونك لا تعرف عن الإسلام شيئاً؟ ! . هل
هي جامعاتكم ومناهجكم، أم أنت الذي ارتضيت لنفسك هذا الحال.. كيف لا
يدرسون لكم ديناً يدين به ألف مليون من البشر في مختلف بلدان العالم، ولبلدكم
علاقات تاريخية ومصالح مع بلدان العالم الإسلامي.
وقبل أن يغادر الأستاذ [! !] منزلي قدمت له مجموعة من الكتب عن الإسلام.. ثم اتصل بي فيما بعد وأخبرني بأنه قد قرأ هذه الكتب وسوف يقرأ كتباً أخرى عن الإسلام.
قارئي الكريم: كم تمنيت أن يكون عندي متسع من الوقت لأتابع مثل هذا
الرجل، ولكن ماذا أفعل وأنا مرتبط بعمل شاق يستغرق معظم وقتي، ونشاطي في
الدعوة الإسلامية أقدم فيه الأهم على المهم. ولكن هل يعرف (الببغاوات) في دول
العالم الثالث حقيقة الغربيين؟ !
لو كان خريج جامعة كمبردج مهندساً أو طبيباً لالتمسنا العذر له، ولكنه تخرج
من كلية تدرس علوم اللغة الإنجليزية وآدابها، ويفترض أن يدرس شيئاً يسيراً عن
الإسلام..
أما الذين يكثرون في مؤلفاتهم الأدبية والتاريخية من الاستدلال بأقوال
المستشرقين فلينظروا ماذا يدرس المستشرقون مثل هذا الخريج عن الإسلام.
اللهم إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.(2/91)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
التغلغل اليهودي في القارة الأفريقية
أدانت معظم دول العالم إسرائيل بعد عدوانها على الدول العربية عام 1967
وقطعت معظم هذه الدول علاقاتها مع إسرائيل، أو جمدتها، ومن هذه الدول الدول
الأفريقية - ماعدا جنوب أفريقيا العنصرية - وخسر اليهود مواقعهم التي أقاموها في
هذه القارة، ولكن ذلك لم يدفعهم إلى اليأس، وإنما إلى زيادة في بذل الجهد للعودة
ثانية إلى هذه القارة التي تتمتع بمميزات مهمة.
فهي - من جهة - قارة غنية بالموارد الطبيعية، كالمعادن، والغابات، وهي- من جهة ثانية - ذات موقع نموذجي بالنسبة لإسرائيل في قربها وسهولة الوصول
إليه، بحراً وجواً - بل وبراً الآن! .
وهي - من جهة ثالثة - سوق مفتوحة، لأنها بحاجة إلى كل شيء: للخبرات
الطبية، والزراعية، والبحوث العلمية، وقبل كل ذلك وبعده، فإن حكوماتها
الدكتاتورية القمعية التي قامت، وتقوم، على إنهاك شعوبها، بحاجة إلى من يقدم
لها المشورات الاستخبارية، والمعونات العسكرية، التي تستطيع - عن طريقها
وبواسطتها - تدجين شعوبها، وسوقها وتوجيهها الوجهة التي تريد، وكذلك فإن
الواقع الأفريقي وما يمتلئ به من مناحرات ومشاحنات بين دولها يشكل أفضل مناخ
بالنسبة لإسرائيل لتستفيد منه أعظم استفادة، فأي جو يناسب اليهود أفضل من هذا
الجو؟ ! .
ولاشك أن من أكبر العوامل المساعدة لإسرائيل على عودتها إلى أفريقيا كان
الظروف التي أعقبت حرب 1973.
فمع أن هذه الحرب قدمت للعالم الدليل على أسطورة (الجيش الإسرائيلي الذي
لا يقهر) الا أن ما أعقبها من تطورات جعل إسرائيل تستفيد منها فوائد عظيمة ومن
هذه الفوائد عودتها إلى أفريقيا.
فقد قدم تصالح بعض العرب مع اليهود، والتردد والفوضى والاضطراب
الذي ما زال مستمراً إلى الآن عند البعض الآخر، الحجة القوية للدول الأفريقية
التي أعادت علاقاتها مع إسرائيل، حتى إن اليهود وأصدقائهم من الأفارقة ليرفعون
أصواتهم في المحافل الدولية فيُسمَع لهم، بينما تذهب الاعتراضات والاستنكارات
التي لا تستند إلى شيء عملي أدراج الرياح، كصرخة في واد أو نفخةٍ في رماد.
عادت العلاقات أولاً مع ليبريا، وزائير، وساحل العاج، وأخيراً،
الكاميرون.
* ففي ليبريا، يبدو الاستغلال اليهودي واضحاً، فمثلاً: شركة (أيونا
الدولية) الإسرائيلية فازت بحق استغلال مساحات. شاسعة من غابات البلاد لفترة
37 سنة! ! وأسهمها الآن في بورصة نيويورك.
* وفي زائير، حيث (موبوتو) أشد المتحمسين لليهود، تقدم له إسرائيل
خدمات عسكرية متنوعة، بالإضافة إلى مشاريع خاصة له، حيث تولى اليهود
إنشاء مزرعة خاصة له في (نسيليه) ويتولون أيضاً مسؤولية مزرعة أخرى
(أغريدين) .
ومن جهة أخرى، التزم رجل أعمال يهودي (من أصل يمني) توظيف
(400) مليون دولار في مجال تربية المواشي والنقل، ولازالت هناك مشاريع
كثيرة ربما ستتم بعد زيارة الرئيس الزائيري (موبوتو) لإسرائيل.
* وفي ساحل العاج، حيث لا يخفي رئيسها عداءه للعرب، يعمل اليهود بجد
خصوصاً بعد عودة العلاقات مع إسرائيل قبل تسعة أشهر. فمثلاً: قام مشروع
لبناء مستشفى في قرية الرئيس كلف نصف موازنة وزارة الصحة في ساحل العاج، ونفذته شركة (سوليل نونيه) الإسرائيلية، وكذلك فندق (إيغوار) في العاصمة
أبيدجان.
* وفي الكاميرون، سبق إعادة العلاقات بينها وبين إسرائيل اتصالات بين
الجانبين، فبعد محاولة انقلاب ضد الرئيس (بول بيا) عام 1984، أقام غرفة
عمليات أمنية لحمايته، يقوم عليها خبراء من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية
(الموساد) .
وقد شكلت كارثة (نيوس) ، التي نتج عنها ضحايا بالمئات من جراء الغازات
السامة المنبعثة من بحيرة (نيوس) البركانية، فرصة ذهبية أخرى لإسرائيل، ففي
أثناء ذلك توجه رئيس وزراء العدو إلى (ياوندي) عاصمة الكاميرون مصطحباً معه
فريقاً طبياً لمعالجة المصابين، وقد أعد الرئيس الكاميروني استقبالاً حافلاً لبيريز.
هذا على رغم ما كان يعلنه وزير خارجية الكاميرون (وليم ايتيكي مبومرا) من
أن: (لا بحث في إعادة العلاقات مع إسرائيل، طالما أن علاقات إسرائيل مع
بريتوريا على ما هي عليه) ! .
وانفرطت المسبحة..
لا يقتصر الأمر على الدول المذكورة، وانما هناك دول تتهيأ لإعادة العلاقات
مع اليهود رسمياً، وإن كانت علاقة إسرائيل! مع هذه الدول على المستوى
الاقتصادي لم تنقطع.
ومن هذه الدول:
* نيجيريا، ففي هذه الدولة - ذات الأغلبية المسلمة - تقوم مؤسسات
اقتصادية إسرائيلية عديدة، فهذه مجموعة (أليسون) تفوز بعقود عديدة مع نيجيريا
قبل الانقلاب الأخير، وشركة أخرى لليهودي (غاوون) تفوز بعقد آخر في
(لاغوس) بمبلغ (60) مليون دولار، ومؤسسات أخرى تعمل هناك مثل مؤسسة
(عايدا) للتجارة الدولية، و (ديزنغوف) للنقل البحري، و (فيريد) لتمديدات المياه.
وتعامل وتعاون إسرائيل مع الحبشة (أثيوبيا) يعرفه القاصي والداني، فقد
أقامت هناك مزارع لتربية المواشي، وتستطيع توفير كميات ضخمة من اللحوم
المذبوحة على الطريقة اليهودية (كوشر) ، وهي أيضاً تبيع البن الأثيوبي والأخشاب
الاستوائية والعديد من المواد الأولية، والمنتجات الزراعية.
وقصة يهود (الفلاشا) وحدها تضع أثيوبيا في رأس قائمة الدول التي عرفت
بالعداء للعرب والحق على المسلمين.
وهناك أربع دول أخرى يتوقع أن تنضم إلى ركب الدول التي أعادت علاقاتها
مع إسرائيل، وهي: توغو والغابون، وغينيا، وأفريقيا الوسطى، وكينيا.
وفي الوقت الذي تفك إسرائيل فيه عزلتها عن طريق عودتها إلى أفريقيا،
تعمل على محور آخر فتعيد علاقاتها مع أصدقاء العرب الخلَّص! ! دول المعسكر
الشرقي فهاهي بولندة تعيد علاقاتها معها، وهناك اتصالات سرية وعلنية مع الاتحاد
السوفييتي من أجل ذلك أيضاً، وإذا ما عادت العلاقة مع السوفيت - وهي عائدة
حتماً، رغم تعثر المحادثات نتيجة للشروط الفوقية التي تمليها إسرائيل وليس
الاتحاد السوفييتي - نقول: إذا ما عادت العلاقات مع السوفييت، فما الذي يمنع
دول (المنظومة الاشتراكية الصديقة!) من الاقتداء برئيستهم روسيا؟ ! .
نكتب هذا الكلام لا لبثّ اليأس في النفوس، وليس لإظهار مميزات من
يسمون أنفسهم - كذباً وزوراً - بشعب الله المختار؛ وإنما رجاء أن نتعلم من
الزمان، ونعتبر بأحداثه، ولا مانع أن يتعلم الإنسان من عدوه، واليهود هم اليهود، [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ] [آل عمران 112] .
وحالنا معهم في استضعافنا، والاستهانة بنا، ودوس حقوقنا، والتنكيل
المتواصل بنا على كل صعيد، - عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً - وتشويه صورتنا
على مرأى منا، ومرأى من العالم ومسمع - لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا
بتخبطنا وفرقتنا، وبأسنا الشديد بيننا، ومحاولة الأقوياء الذين سُلِّطوا علينا -
بظلمنا ومعاصينا - طمسَ ذاتنا وعنوانِ وجودنا الحسي والمعنوي.
فهل نعي نحن - عرباً ومسلمين - الدرس من ذلك، وهل نلتقي على الحد
الأدنى من حقنا ونعي دورنا في العالم، ورسالتنا فيه مقابل التقاء أعدائنا بشتى
ألوانهم وأشكالهم على الباطل؟ .(2/93)
إندونيسيا تضطهد المسلمين
لازالت حكومة (سوهارتو) تضطهد المسلمين، وتكيل لهم الإهانة تلو ... الأخرى، في الوقت الذي فتحت فيه الأبواب على مصاريعها لكافة المنظمات التنصيرية، لتعمل على ردة المسلمين في البلد الذي يضم أكبر عدد من المسلمين في العالم.
وقد جاءت الأخبار في الآونة الأخيرة تبين وجهاً آخر لحرب الحكومة ضد
الإسلام، حيث صرح المسؤولون عن نية الحكومة في إلغاء التعليم الديني الأمر
الذي أثار سخط المسلمين ونقمتهم، وسرت موجة احتجاجات عامة، وهاجمت نقابة
المعلمين الإندونيسية هذه التصريحات، ودعت إلى ترسيخ التعليم الديني الذي هو
أهم مادة بدلاً من إلغائه. كما أنكر ذلك أيضاً رئيس مجلس العلماء المسلمين الشيخ
حسن بصري.
ولازالت الحكومة تعمل بدأب لاستئصال الإسلام واستبداله بالدين الذي وضعه
نظام سوهارتو والذي لا يبعد عن الماسونية. حيث ينص هذا الدين الجديد المسمى
(باكسيلا) على خمسة مبادئ هي الإيمان برب واحد، الإنسانية، الوحدة الوطنية،
الديموقراطية، والعدل الاجتماعي، وكان المسلمون المعارضون لهذا الدين الجديد
قد قاموا بمظاهرات في سبتمبر عام 1984، وكان 30 شخصاً قد قتلوا عندما فتح
جنود الحكومة النيران على تجمع أكثر من 1500 من المسلمين واعتقل عدد كبير
منهم، تعرضوا لألوان شتى من التعذيب الوحشي الأمر الذي دعا منظمة (أمنستي)
Amnesty لحقوق الإنسان والتي مقرها لندن توصية نداء استغاثة إلى حكومة
إندونيسيا، تناشدها فيه رفع الإهانات والتعذيب الوحشي عن المعتقلين المسلمين
والذين يمنعون أيضاً من أداء الصلاة أو أي مظهر تعبدي، وقد أجبروا على حلق
رؤوسهم، وناشدت المنظمة الحكومة الاستجابة لمطالبهم الإنسانية البسيطة كزيارة
أقاربهم أو مقابلة أي أحد.(2/97)
مجاعة وخيراتنا نهب لغيرنا
كلما تناقلت وسائل الإعلام أخبار المئات بل والآلاف من الذين يموتون جوعاً
في السودان أو الحالة الاقتصادية المنهارة في أكثر الدول العربية تذكرت مقالة ذلك
اليهودي الحاقد: (جوناثان هيلغي) حيث يقول: (هل أوصانا الله بأن نقود هذا العالم
أم نأكله) إن رائحة الحقد والكراهية على بني البشر تفوح من مقالة هذا اليهودي،
وقد كان اليهود يطبقون هذه المقالة عمليا ولسان حالهم يقول: فلتسحق البشرية،
وليعيش شعب الله المختار، ويطلق هذا الساخر مقالة أخرى حيث يقول: (تصوروا
لو أن عدد اليهود يساوي عدد سكان الصين؟) ويترك هذا التساؤل بدون إجابة
ونترك للقارئ تصور ما سيحدث للعالم لو أن عدد اليهود يساوى عدد سكان الصين!.
أعود مرة أخرى إلى اقتصاد الدول العربية، التي حباها الله بالموارد
الاقتصادية الضخمة من نفط، ومعادن وأرض خصبة، ومصادر للحياة، وأيدى
عاملة رخيصة، وقد تتوفر كلها في بلد واحد والنتيجة: ديون خارجية تبلغ (100)
مليار دولار. (نقلاً عن جريدة القبس 21 - 7 - 86) .
وسواء أكانت هذه الديون لبنوك غربية أو للبنك الدولي، ففي نهاية المطاف
تصب في جعبة اليهود، وحين تعجز أي دولة عن تسديد الديون في الزمن المتفق
عليه تبدأ عملية ما يسمى جدولة الديون وتأجيل التسديد مع زيادة الفائدة على الدين،
وحين تتأزم الأمور وتعجز الدولة عن تسديد الدين يتدخل صاحب الدين ويرسم خطة
اقتصادية للدولة يكون أهم بنودها تخفيض العملة وزيادة الضرائب ورفع الدعم عن
السلع المدعومة، وبالذات الغذائية منها، وتتكرر هذه الصورة مع كل دولة من دول
العالم الثالث المدينة. ومع كل هذا تعد أية جهة تنجح في الحصول على قرض من
بنك غربي أو من البنك الدولي، أو تنجح في إعادة جدولة الديون القديمة تعد ذلك
انتصاراً ونجاحاً مع أنه - والله - قيد جديد يضاف إلى القيود التي سبقته ليبقى
الاقتصاد مكبلاً بأغلال ثِقال، مفاتيحها في جنيف ولندن وفرانكفورت وواشنطن
وسواها من عواصم ومدن المال في العالم الغربي وتبقى هذه السياسة سنين طويلة
وتطبق بحذافيرها، بحيث يصبح الناس ويمسون على هاجس: هل يجدون خبزاً أم
لا؟ .
فأنى قلبت البصر في العالم من حولك وجدت كل بلدٍ يشكو من ضائقة
اقتصادية معينة مع وجود هذه الثروات والإمكانات التي سبق ذكرها آنفاً وأصبح
يصدق فينا قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وقبل هذا صدق فينا قول الله سبحانه وتعالى: [وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ
الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] [سورة النحل: 112] ما ذاك إلا لانسلاخنا
من ديننا الذي هو عصمة أمرنا وهو ما صنعته أيدينا، واليهود يخططون لمثل هذا
الوضع الاقتصادي المزري لإحكام السيطرة على الشعوب وإذلالها، حيث يعود
هيلغي مرة ثالثة فيقول: (الجوع هو أفضل وسيلة لقيام الصلح بين العرب
وإسرائيل) .
وبعد ما تقدم هل صحيح أن اقتصادنا بأيدينا؟ ! ! .(2/98)
جرح في الجنوب
حسب اتفاقيات وسياسات الشرق والغرب، فإنه من مصلحتهم جميعاً أن تبقى
نقاط ساخنة في العالم وتكاد تكون كل قارة من القارات النامية (النائمة) آسيا،
أفريقيا، أمريكا الجنوبية تعاني من حروب أهلية أو حروب على الحدود بين دولتين، تستنزف خيرات هذه القارات إلى مصانع السلاح في الشرق والغرب، وتحتكر
القرار السياسي في عواصم السلاح نفسها.
ولعل من هذه النقاط التي يُراد لها أن تُصبح ساخنة في القارة الإفريقية هي
جنوب السودان.
فبعد أن أُغلق مجلس الشعب الإقليمي بجوبا عام 1980 تأسست بمدينة
طرابلس الليبية في سبتمبر 1981 جبهة تحرير السودان بقيادة عثمان إبراهيم
طويل، واتخذت منطقة جنوب السودان ميداناً للصراع المسلح ضد النظام السابق،
ثم انقسمت هذه الجبهة وانفصل عنها عقيد نصراني اسمه جون قرنق بما يسمى
الحركة الشعبية لتحرير السودان، واتخذ من الأراضي الحبشية مقراً له، انفصل
عن رفاقه الذين اتفق معهم في أول الأمر على تحرير السودان من نميري وتسلطه
والرقي بالمجتمع والاقتصاد السوداني قُدماً، وعارض كذلك تطبيق أحكام الشريعة
الإسلامية ولو كانت حسب عقلية النظام السابق، مدفوعاً من كونه نصرانياً، ولكن
بعد زوال نميري، وقيام حكومة مدنية أخرى لم يرجع قرنق، وأعلن أن الجنوب
السوداني نصراني على الرغم من أن النصارى لا يشكلون الغالبية في الجنوب،.
ويريد تخليصه من الشماليين المتسلطين عليه بل ذهب أبعد من ذلك حيث أباد قبيلة
(منداري) إبادة كاملة لأنها كانت موالية للحكومة المركزية في الخرطوم، وكشر عن
أنيابه الحاقدة كيف لا! والهيئات الكنسية العالمية عاونته على انشاء إذاعة في
الأراضي الحبشية، والاتحاد السوفيتي بدوره كالعادة مده بالسلاح عن طريق النظام
الحبشي ذي الميول اليسارية.
ونقلت إلينا الأخبار نبأ إسقاط طائرة مدنية بعد إقلاعها من مطار ملكال الواقعة
في الجنوب على بعد 400 كيلو متر من الخرطوم، وقد أسفر هذا الحادث الذي
تعرضت له طائرة من طراز فوكر من طائرات الخطوط الجوية السودانية عن مقتل
45 - 60 شخصاً وعُلم أن من بين ضحايا الحادث عدداً من رجال الإغاثة الدولية
(القبس الكويتية 28/8/86، والعرب 18/8/86) وكانت حجة قرنق أن الحكومة
السودانية تستغل الطائرات المدنية لنقل الجنود والسلاح إلى الجنوب وتُعد هجوماً
للقضاء عليه، وازداد الأمر سوءاً حيث حذر جيمس انفرام مدير برنامج الغذاء
العالمي في روما (27/8/86) بأن ما يقرب من مليوني شخص مهددون بالموت
جوعاً في جنوب السودان، وأضاف: إن جسراً جوياً أنشئ في 15 أغسطس
الحالي قد توقف بعد ثلاث رحلات جوية بسبب إسقاط الطائرة المدنية بالقرب من
ملكال. وذكر أن المتمردين الجنوبيين في السودان قد أغلقوا معظم المعابر في
جنوب السودان التي كانت تستخدمها وكالات الإغاثة لنقل الأغذية والمؤن، وحذر
المتمردون بأنهم سيسقطون أية طائرة تحلق فوق المناطق التي يسيطرون عليها،
وذكرت جريدة القبس قول العاملين في مراكز الإغاثة في كينيا إن أوغندا أوقفت
إرساليات ومعونات الإغاثة إلى مناطق المجاعة في جنوب السودان، لاتهام أوغندا
السودان بمساعدة المتمردين الأوغنديين في شمال أوغندا، فيبقى الجنوب السوداني
بين سندان الورع ومطرقة الحرب.
لعله مما تقدم نستطيع تفسير مدى اهتمام حملات التنصير - على اختلاف
كنائسها - بجنوب السودان منذ زمن بعيد حيث إنهم يقومون بنشاط واسع بين
القبائل الوثنية والمسلمة في الجنوب ويقيمون المدارس والمستشفيات ومراكز لتجميع
أطفال الفقراء وبالتالي تنصيرهم لإعداد كوادر نصرانية للدولة المزمع إقامتها في
جنوب السودان على يد جون قرنق، أو غيره.
ولعلنا تتاح لنا فرصة في المستقبل القريب للحديث عن حملات التنصير
المحمومة في جنوب السودان.(2/100)
رجل فقدناه
انتقل الدكتور يوسف زين العابدين إلى جوار ربه الساعة الثالثة بعد ظهر يوم
الأحد 26 ذي الحجة الموافق 31 آب إثر عملية جراحية أجراها في أحد مستشفيات
برلين بعد إصابته بجلطة في قلبه، وبقي رحمه الله أكثر من أسبوعين قبل وفاته
وهو في حالة غيبوبة كاملة.
ودفن الفقيد -رحمه الله- في برلين، في مقبرة الأتراك يوم الأربعاء 29 ذي
الحجة الموافق 3 سبتمبر بعد صلاة العصر، وبعد أن صلى عليه جمع غفير من
المسلمين يربو عددهم على 500 شخص حضروا من مناطق مختلفة من ألمانيا
وتركيا.
والدكتور يوسف زين العابدين تركي الأصل عراقي النشأة والولادة، ولد عام
1937 في مدينة كركوك، ودرس الطب في تركيا، وبعد تخرجه من كلية الطب
انتقل إلى ألمانيا ليتابع دراسته العليا، وقد تخصص في الجراحة العامة، ثم في
جراحة الأوعية الدموية، ومكث في ألمانيا خمسة وعشرين عاماً.
كان فقيدنا -رحمه الله- دمث الأخلاق طيب القلب، محباً للخير.. كما كان
من الدعاة إلى الله، وكان ينفق وقته. وماله في سبيل دعوته وفضلاً عن هذا وذاك
كان همزة الوصل بين الدعاة إلى الله من العرب والأتراك والألمان.
وأسرة تحرير البيان تتقدم بأحر التعازي لأرملة الفقيد وابنتيه، وتسأل الله أن
يلهمهم الصبر والسلوان.
اللهم اغفر لفقيدنا وأحسنْ مثواه اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده وإنا لله
وإنا إليه راجعون.(2/102)
ربيع الآخر - 1407هـ
ديسمبر - 1986م
(السنة: 1)(3/)
كلمة في المنهج
عود على بدء
التحرير
اتصل بنا بعض القراء، طالبين أن نعيد نشر افتتاحية العدد الأول (كلمة في
المنهج) .
ونحن إذ نقدر لهم هذه الثقة، ونشكر منهم هذا الظن الحسن، ولكن لما كان
المنهج من أكثر الأمور التي يحتاجها المسلمون في هذه الأيام أهمية، فهو يحتاج
إلى مزيد من التفصيل والتوضيح، هذا مع توفر العدد الأول، وإمكانية الرجوع
إليه.
وأول ما يحسن بنا أن نقف عنده طويلاً هو حال الدعوة الإسلامية في هذه
الآونة، ويجب أن لا نغفل عن أن هناك نقاط قوة، ونقاط ضعف في هذا المجال.
فأول نقاط القوة أن الله قد كفل البقاء والخلود لهذا الدين، وضمنه القدرة
الكامنة التي تجعله يقارع الخطوب، ويتصدى للقوى الظاهرة والخفية التي تقف
بالمرصاد، وتحاربه بشتى الوسائل.
ومن نقاط القوة أيضاً أن هذا الدين لا يزال يبعث الخوف والرعب في قلوب
أعدائه - على قوتهم، وضعف حال أتباعه وتفرقهم - مصداقاً لقول الرسول -
صلى الله عليه وسلم -: (.. ونصرت بالرعب مسيرة شهر..) (متفق عليه) .
وهذا ما يفسر لنا " الهيستيريا " الإعلامية التي يصاب بها أعداء الإسلام كلما
أحسوا نبأة تدل على تباشير عودة صادقة إلى حظيرة الدين في أي بلد من بلاد
المسلمين.
ومن نقاط القوة أن الأجيال الإسلامية تتكشف لها عيوب الحضارة الأوربية
وعوراتها يوماً بعد يوم، وأن فترة الانبهار بها قد ولَّت بعد أن كاد يصمنا صراخ
دعاتها، ونقيق عبيدها:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت! !
وهناك نقطة قد تكون نقطة من نقاط القوة، مع أنها نقطة من نقاط الضعف
تصيب الدعوة الإسلامية في هذا العصر، وفي كل عصر، ألا وهي النفاق.
فنحن نعلم أن النفاق - كظاهرة - لم يعرف إلا إبان فترة صعود المسلمين
نحو القوة، في مجتمع المدينة، ولم يكن له وجود - فيما نعلم - في فترة
الاستضعاف.
وفي هذا الوقت الذي نرى فيه ازدياد الوعي بين صفوف المسلمين - وخاصة
الأجيال الفتية، والتي يفترض أنها لاتعرف شيئاً من قيم الإسلام وخصائصه،
نتيجة للتربية التي تلقتها، والأجواء التي عاشت فيها - والعمل الدائب في سبيل
الدعوة، سواء داخل بلدان العالم الإسلامي، أو خارجها، نرى - مع الأسف الشديد- إلى جانب ذلك ملامح هذه الظاهرة بادية من خلال محاربة بعض العاملين للإسلام
لبعضهم الآخر، من غير دليل أو برهان، يجيز لهم هذه الحروب، متنكبين أدلة
الكتاب والسنة التي لا تكاد تحصى في الحض على وحدة الصف، والتنفير من
التفرق وأسبابه، ومستمسكين برأي الرجال الذى قد لا يكون بريئاً من الجهل، إن
برئ من الهوى وسوء القصد.
وليس من المفترض، ولا من الممكن، أن يتجمع العاملون في مجال الدعوة
تحت قيادة رجل واحد، يصدرون عن أمره في شتى أعمالهم، فلكل أناس ظروفهم
ومشاكلهم التي تحدد نشاطهم، ولا من المعقول أن يتبنى قوم رفع راية الإسلام في
بلد، فإذا ما سمعوا بأناس آخرين يدعون للإسلام في مكان ما هرعوا إليهم
وطالبوهم بالانضواء تحت رايتهم، وإلا فهم مخربون! !
ولكن المعقول أن يتعاون المسلمون فيما بينهم على تذليل الصعاب، على قدر
ما يمكنهم التعاون، وأن يرتضوا لأنفسهم ما رضيه لهم الله ورسوله في مجال
الأصول: كتاب الله والسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع
الصحابة، فإذا اختلفوا بعد ذلك، تصل بهم الحال إلى حد التشهير والكيد، بل
والاستعانة بأهل الكفر والابتداع على بعضهم أحياناً.
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء: 59] .
فمن نقاط الضعف الرئيسية في الدعوة الإسلامية المعاصرة الاختلافات
المنهجية التي تحتاج إلى دراسة ومناقشه بعمق وصبر. ففي ظل الظروف العاصفة
التي عاشتها الدعوة في العصر الحديث، تسربت أمراض كثيرة إلى الفهم الإسلامي، بعضها يمت بصلة إلى ما ورثه المسلمون من عصور توالى عليهم فيها حكم
العسف والجور، وبعضها كان نتيجة لمؤثرات غريبة تأثر بها المسلمون بأصناف
من الثقافات والمناهج الوافدة، بعيداً عن القرآن والسنة، وبعضها كان ردة فعل
لصنوف من الضغط والقهر والوحشية، عومل بها من يرفع كلمة لا إله إلا الله في
الأرض، فدفعهم ذلك أن يخرجوا على الناس بآراء غريبة غلوا فيها، وحادوا عن
جادة الاعتدال، وأفسدوا من حيث أرادوا أن يصلحوا، مع أن المسلم شأنه التوسط
والقصد في الرضا والغضب، وله في هذا الشأن من كتاب ربه عاصم ومرشد، فقد
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]
[سورة المائدة: 8] .
وقد ذم الله الغلو في غير موضع من كتابه الكريم، فقال تعالى:
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ] [سورة المائدة: 77] .
وفي تاريخنا أمثلة واضحة شاهدة على عواقب (الغلو) الوبيلة، فإن أثر
الخوارج والرافضة وأمثالهم - في بث البلبلة وتفريق الكلمة، وإضاعة الجهود،
وتحطيم قوة المسلمين، وذهاب ريحهم، وإعطاء أسوأ الصور عن تاريخ المسلمين - أثر معروف ومشهور.
وفي هذا العدد ألمحنا إلى ألوان من الحرب المعلنة التي يتعرض لها أهل
السنة في مناطق مختلفة من العالم، وهذا من الأسباب التي تفرض عليهم - الآن،
أكثر من أى وقت مضى - التعاون، والألفة، ووحدة الكلمة، ومعرفة ما يراد بهم، وتبيّن طريقهم من خلال الأخطار المحدقة. وهذا الأمر ينبغي أن يؤخذ بجدية
بالغة، وأن يكون العمل على تحقيقه من خلال منهج محدد لا يخضع للعواطف
والأهواء.
ونحن - بدورنا - نلتزم بجماعة أهل السنة، لأنها الجماعة الأم، التي لا
يسع أحداً من المسلمين الخروج عليها، أو مناصبتها العداء. ومن أباح لنفسه ذلك
كان مرتداً، أو مبتدعاً.
فالذي ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ويجحد أمراً ثابتاً في الشرع،
ويتنقص الإسلام وأحكامه الثابتة، يكون مرتداً، والذي يزعم - مثلاً - أن العقل
مقدم على النقل، يكون مبتدعاً، مع أنه من أهل القبلة.
والتزامنا بمنهج أهل السنة يعصمنا من التخبط والترنح ذات اليمين وذات
الشمال، لأنه المنهج القائم على أصول، لها من كتاب الله، وسنة رسوله أساس
راسخ، ولها من استقراء حوادث تاريخ المسلمين، وعلاقاتهم ببعضهم، وعلاقاتهم
بأعدائهم - قديماً وحديثاً - أدلة تنير لهم مسلكهم عندما تشتبه السبل وتتشابك الموارد
والمصادر.
وإننا نورد مثالاً، هو ثمرة لتطبيق منهج أهل السنة في النظر إلى ... الأمور، فمعلوم أن لأهل السنة موقفاً من الدعوات التي ترفع اللافتات الإسلامية، للوصول إلى أهداف لا علاقة لها بالإسلام، هذه (اللافتات) التي ينطبق عليها قو ل ... علي -رضي الله عنه-: (كلمة حق يراد بها باطل) ، مثل موقفهم من الرافضة وأشباههم من أصحاب الدعوات الباطنية.
فعندما خدع الكثير من البسطاء بشعارات طرحها فريق من هؤلاء،
واستطاعوا أن يزيحوا بشعاراتهم وثورتهم طاغية من طغاة هذا القرن، كان للعقلاء
- وقليل ما هم - موقفهم النابع من فهمهم لمنهج أهل السنة، وعندما كانوا ينبهون
كثيراً من هؤلاء الذين غلو في المضي وراء هذا السراب، وانطقوا - دون تحفظ -
يهللون ويكبرون لشمس الإسلام التي بزغت من خلف هضاب وجبال فارس!
ظانين أنهم قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بسط ظل الإسلام على ديار
المسلمين من جديد بفضل (آيات الله) !
عندما كان يقال لهؤلاء: يا قوم! اربعوا على أنفسكم، وتريثوا، فالعجلة
مهلكة، وإن كنتم تجهلون موقف علمائنا من أمثال هؤلاء ودعواتهم، وتجهلون، أو
تتجاهلون مواقفهم المشينة من المسلمين على مدار التاريخ، وتظنون أن هؤلاء قد
تبرؤوا من مواقف أجدادهم - وهم والله، لا يزالون عاكفين عليها، يفتخرون بها.
وإذا كانت بعض المواقف الاستعراضية لهؤلاء، مثل ذكر فلسطين، وما يشبه ذلك
من ذكر (الصهيونية) و (قوى الاستكبار العالمي) قد جعل على أعينكم غشاوة،
فلم تعد تبصر الحقائق، فاعلموا أن هؤلاء سوف يشتمون اليهود في النهار،
ويتآمرون معهم في الليل، وسوف يبتسمون في أوجه الفلسطينيين، في الوقت الذي
يعدون العدة ليطعنوهم من الخلف، وإذا كنتم لا تمتلكون الرؤية التي ينبغي أن
يتسلح بها المسلم، فيقيس ما لم يقع على ما وقع، ويقارن الأشباه بنظائرها،
ويعرف المجهول بالمعلوم، ويهتدي بتجارب الماضي لتحديد خطواته في المستقبل،
حتى لا يكون سيره فيه خبط عشواء، أو قفزاً في الهواء ... إذا كنتم في شغل عن
كل ذلك، فلا أقل من التريث والصبر قليلاً، فإن المستقبل القريب، فيه مصداق ما
نقول، ونحن لا ندعي علم الغيب، ولكن المنهج الصحيح يعطي الإنسان الرؤية
التي تساعده على معرفة ما لم يكن بما قد كان.
ها نحن الآن بعد سنوات قليلة من عمر الإسلام الراجع من خلف هضاب
خراسان! فماذا نرى؟ ! صورة كالحة يحجم القلم عن رسم خطوطها، فالشيطان
الأكبر يمد (الثورة الرسالية) بالأسلحة، واليهود الذين يتصدى لهم (المحرومون)
في جنوب لبنان يعملون على نقل هذه الأسلحة إلى من يتاجرون بسبابهم (والردح)
عليهم، ثم، ويالهول الاكتشاف! ! يكتشف سَدَنة (الثورة الرسالية) فجأة! أن
الفلسطينيين الموجودين في لبنان هم الذين قتلوا الحسين في كربلاء، ولابد من الثأر
منهم! ومن يدري؟! فربما لم يكن هذا اكتشافاً مفاجئاً، بل وحياً تلقوه عن (صاحب الزمان) عجل الله فرجه وقرب مخرجه! وأن الفلسطينيين، لذلك يستحقون القصف، والتقتيل، والمحاصرة، والتجويع، والموت صبراً، ثم التشريد من جديد.
وكل ذلك يرتكب حتى تكون الطريق ممهدة نحو فلسطين! ... ... ... لا نريد أن نسترسل وراء هذه الصورة المرعبة من الصور التي تحيط بنا،
بل نريد أن نرفع عقيرتنا بالبحث عن مخرج، وكفانا لهاث وراء السراب اللامع
تارة من هنا، وتارة من هناك.
ونعتقد أن الطريق الصحيح لمواجهة الأوضاع الحرجة، التي تحيط بنا من
كل جانب، هو منهج أهل السنة المتمثل بالكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة.
وليس أحد من الناس، أياً كان، جديراً بأن يؤخذ كلامه مأخذ التسليم، ماعدا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - والصدق مع الله في حمل دعوته، وتبليغ منهجه، ثم
الصدق مع الناس، في إخلاص النصح ووضوح المقصد من أسباب السعادة في
الدنيا والآخرة.
ربنا اجعلنا من الذين هُدوا إلى الطيب من القول، وهُدوا إلى صراط الحميد.
[ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً] [الطلاق: 3](3/4)
التجديد في الإسلام
(3)
شروط المجدِّد:
نستطيع أن نصف المجدِّد بأنه يعيش في قمة عالية، وأمته تعيش في سفحٍ هابط وهو يعمل لانتشال هذه الأمة من سفحها لتحاول الصعود إلى القمة.
فهو مثل أعلى في صحة العلم ووفرته واتساعه، وفي صدق العمل وإخلاصه،رجل كهذا أقل ما يوصف فيه أنه (سالمٌ) من علل الأمة وأمراضها، ناج من الآفات والانحرافات التي تنخر فيها، (متحلِّ) بالصفات التي يدعو إليها. ولقد تحدثنا قبل قليل عن مجالات التجديد، ومنها يمكن معرفة صفة المجدِّد
وشرطه. ولكن بعض الذين كتبوا في تعيين المجددين من المصنفين دأبوا على ذكر
أسماء بعض العلماء الذين لا يُسَلَّم لهم كونهم من المجددين.
بل بلغ الحال أن عد بعضهم أحد الخلفاء من المجددين، في حين عده البعض
الآخر من البلايا التي ابتليت بها الأمة على رأس المائتين والتي يبعث المجددون
لمحو آثارها ومقاومتها!
ودأب آخرون على سرد أسماء علماء مذهبهم عبر القرون من المشتغلين
بفروع الفقه وعدهم - هم - المجددون.
وما ذلك إلا لعدم وجود الضابط الواضح الذي يوزن به الرجال فيطيش أقوام،
ويرجح آخرون.
لذلك فنحن بحاجة إلى وضع بعض الضوابط والاحترازات المفيدة في هذا
الباب.
ونحن بحاجة إليها -أيضاً - من ناحية علمية بحيث نستطيع - في واقعنا -
تمييز الأصوات المحقة من الأصوات المبطلة، ولا يلتبس علينا هذا بذاك.
ولذا فسوف نقتصر على ما نرى أنه ضروري في هذا المجال غير متعرضين
للصفات الأخرى التي يسهل عدُّها والحديث عنها:
أ- فالتجديد مهمة (الفرقة الناجية) ، وهم (أهل السنة والجماعة) :
والفرقة الناجية هي السائرة على نهج الرسل - عليهم الصلاة والسلام - في
الاعتقاد وفي غيره، وهي فرقة من ثلاث وسبعين فرقة، وقد سبق بيان بعض
خصائصها وصفاتها قبل صفحات، ومن هذا المنطلق نقول: ليس للفرق التي
تشايعت على الباطل، وتآلفت علي الهوى، من التجديد نصيب، وكيف وهي تهدم
الدين وتشوِّه حقيقته وتلبسه ثوباً غير ثوبه؟ .
إن التجديد لابدّ أن ينطلق من وضوح في الاعتقاد: في الإيمان، والأسماء
والصفات، والولاء والبراء، والعبادة، والتشريع، بحيث يكون مذهب أهل السنة
والجماعة في جميع ذلك هو المنطلق الأساسي للتجديد.
والدين عندنا ليس عاطفة هوجاء غامضة تقول: لا تفرقوا الصف، ولا
تكفروا المسلمين!
الدين عندنا ليس تصفيقاً لكل من هتف باسم الإسلام، ولو كان يرفع راية
الإسلام بيد، ويسعى للإجهاز عليه باليد الأخرى.
الدين عندنا وحي منزل مضبوط محفوظ يحتكم إليه في تقويم الناس، ومن
اضطرب في يده هذا الميزان ضاع في التيه البعيد!
ومن الغريب أن أقواماً في زماننا عدّوا الشيعة الرافضة مجددين للإسلام، ولا
ندرى ما هذا الإسلام الذي جدَّدوا؟ !
وأغرب من ذلك أن يُدخلهم عالم مشهور كابن الأثير في عداد المجددين، فيعدُّ
أصحاب المذاهب الأربعة والإمامية! [1]
وما أجمل ما ردّ عليه صاحب عون المعبود حيث قال:
ولا شبهة في أن عدهما من المجددين خطأ فاحش، وغلط بيّن، لأن علماء الشيعة وإن وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، وبلغوا أقصى المراتب من أنواع العلوم، واشتهروا غاية الاشتهار، لكنهم لا يستأهلون المجددية! كيف وهم يخربون الدين فكيف يجددونه؟ ويميتون السنن فكيف يحيونها؟ ويروجون البدع فكيف يمحونها؟ وليسوا إلا من الضالين المبطلين الجاهلين، وجلّ صناعتهم التحريف والانتحال والتأويل لا تجديد الدين، ولا احياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة " [2]
وليست المسألة مقصورة على الرافضة فحسب، فالصوفية الذين اعتنقوا الفلسفات اليونانية، ومارسوا الطقوس الهندية الوثنية، وقتلوا روح الجهاد، لا يقلّون خطراً عنهم.
وأصحاب المدرسة الكلامية في أبواب الاعتقاد ممن عارضوا نصوص الكتاب
والسنة بخيالات وشبهات عقلية فاسدة هم حجر عثرة في طريق التجديد.
وهذا المجدِّد الأول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يقول: (من جعل
دينه غرضاً للخصومات أكثر التحول " [3] .
وهذا مجدد آخر وهو الشافعي -رحمه الله- يقول: (لأن يبتلى الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه - ماعدا الشرك - خير له من الكلام) [4] .
وأقوال الأئمة المجددين في ذلك مأثورة مشهورة.
وهكذا يبقى التجديد محصوراً في أفراد الطائفة المنصورة والفرقة الناجية
التي سلمت من البدع المحدثة في الدين وخاصة البدع الاعتقادية.
ب - ولابدّ من العلم الشرعي الصحيح، بل اشترط بعضهم " الاجتهاد "
كشرط أساسي للمجدد [5] . قال السيوطي:
بأنه في رأس كل مائة ... يبعث ربنا لهذي الأمة
مناً عليها -عالم يجددُ ... دين الهدى لأنه مجتهدُ
وقال ضمن الشروط:
يشار بالعلم إلي مقامه ... وينصر السنة في كلامه
وأن يكون جامعاً لكل فن ... وأن يعم علمهُ أهل الزمن [6]
واشتراط الاجتهاد ليس عليه دليل.
أما كونه طويل الباع في العلوم، واسع الخطو في جميعها فهذا ضرورة
للتجديد، لأن من مهمات التجديد إحياء العلم الشرعي، ونشر العمل بالسنة، وتعليم
الناس دينهم، والذين يتصدون لذلك لابد أن يكونوا على جانب من العلم متين، إلى
جانب معرفة أوضاع الحياة المدنية وما يناسبها.
ج - ومن لفظ " التجديد " يظهر جلياً أن المجدِّد صاحب إرادة في التغيير
فاعلة وثابة، فهو ينطلق بالأمة من واقعها المرفوض المنحرف صُعُداً في طريق
الصلاح والنجاح، أما أولئك الذين يرتضون الواقع السيء ويباركونه، ويرون أنه
من أزهى عصور الأمة فهيهات أن يكونوا من التجديد في شيء.
ولذلك سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفئة المتمسكة بـ (الطائفة المنصورة) ، وفي هذا إشارة إلى أنها تجاهد في سبيل الله، وتناضل عن السنن، وتقارع المبتدعة الضالين فيعينها الله وينصرها، ولذلك فهي (منصورة) . وأشار الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى هذا المعنى بقوله (ظاهرين) ، ...
وفي بعض الألفاظ:
" لعدوهم قاهرين " فهو ظاهر غلبة بالحجة والبرهان، وظهور قهرٍ للأعداء
ومكابدة لهم.
وفي رواية ثالثة: (لا يضرهم من خالفهم ولامن خذلهم إلا ما يصيبهم من اللأواء) .
ومن مجموع هذه الروايات ندرك أن التجديد:
أولاً: إدراك واعٍ لحال هذه الأمة وما تعانيه.
وثانياً: إرادة مصممة على التغيير.
وثالثاً: إمضاء لهذه الإرادة وتحقيق عملي لها.
إن اللأواء والجهد لا يصيب إلا من جاهد، وطريق التجديد والإحياء ليس
مفروشاً بالورود بل هو طريق البذل والمحاولة والتصميم.
[والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت آية: 69] .
إلمامة تاريخية بالحركة التجديدية:
حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الدنيا كانت الحياة قد
أصابها الفساد والانحراف في جميع مجالاتها، وكانت الدعوات السماوية السابقة في
حالة احتضار وكرب شديد على أيدي أتباعها الذين لعبوا بها وشوهوها، وأساؤوا
إليها أكثر من إساءة أعدائها المعلنين.
فكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - انتصاراً للرسالات السماوية، وإنقاذاً
للجماعة البشرية، وحرباً على جميع ألوان الشرك والجاهلية.
وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فرداً واحداً غريباً في عالم مظلم
مضطرب يسوده قانون الغاب وتتعاوى فيه الذئاب، ويفترس القوي فيه الضعيف،
فكيف يتحرك فردٌ أعزل في مثل هذه الحال؟ كيف يتحرك وهو يقف ضد هذا العالم
كله؟ في عقيدته وشريعته ومنهجه؟ والمبعوث برسالة السماء لا يمكن أن يقف
مهما كانت العقبات.. ومن هنا بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك البداية
المحرقة، وليتصور كلٌ منا.. تلك اللحظات التي شعر الرسول - صلى الله عليه
وسلم - فيها بأنه النبي المختار من عند الله لإنقاذ البشرية.. أي مشاعر كانت
تتحرك في قلبه العظيم -عليه الصلاة والسلام-؟ !
رجل واحد في مكة في وسط هذه الصحراء الملتهبة الممتدة يحمل هم تغيير
العالم كله من أقصاه إلى أقصاه! يا للهمم القعساء!
وبدأت تلك الرحلة الطويلة المضنية بخطوة واحدة، فأسلم أبو بكر وعلي
وخديجة وبلال وزيد بن حارثة فكان الواحد منهم يعد أحياناً ربع الإسلام أو خمس
الإسلام!
ولم تمض فترة وجيزة حتى أُمر - صلى الله عليه وسلم - بمخاطبة قريش
علناً بالدعوة، وخاصة عشيرته الأقربين وهنا تأخذ الدعوة خطاً جديداً لا يصبر
عليه إلا أشداء الرجال، فيجهر - صلى الله عليه وسلم - بدعوته أمام الملأ، ومن
هذا الموقف بدأت الحرب الضارية تشن ضده وضد أتباعه: حربٌ سلاحها كل
سلاح، سلاح الدعاية، سلاح التهديد، سلاح الضرب سلاح التجويع، سلاح
المقاطعة، سلاح السخرية اللاذعة، وبدأت هذه القلة تمارس الصبر الجميل أمام
حرب شعواء لا يهدأ لها أوار ولا يقرُّ لها قرار.
ولكن الحق لابد أن يجد آذاناً صاغية حتى في أحط البيئات وأفسد المجتمعات فها هي دعوة الإسلام المحصورة في بعض بيوتات مكة تستقطب فرداً من هنا
وفرداً من هناك ممن لم تصرفهم الدعايات المضللة المغرضة حتى تكاثر الأتباع
وتجاوزت الدعوة نطاق مكة بصورةٍ فردية.
ومع تكاثر الأتباع كان القرشيون يشعرون بالخطر الحقيقي من وراء هذه
الدعوة فيزدادون في عدوانهم وطغيانهم ويصممون على محاولة إيقاف هذا المد
وحصره في أضيق نطاق.
حتى كان إسلام الأنصار وبيعة العقبة الأولى ثم الثانية، فكان هذا أول
انطلاق حقيقي خارج مكة، وبه أخذت الدعوة مدى أوسع وانعتقت من سلطة مكة
فلم يعد بإمكانها القضاء عليها.
ولكنها كانت تعمل للحيلولة دون قائد هذه الدعوة - عليه صلوات الله وسلامه
أبداً أبداً - وبين أن يلحق بهؤلاء المدنيين بحيث يشكل القوة التي تخافها قريش
وتخشاها، إذا انطلق ليمارس دعوته بدون قيود ولا معوقاتٍ تذكر.
ولذلك ائتمرت عليه لتمنع هجرته حتى خططت لقتله والخلاص منه، وهذا
يدل على حدة شعور القرشيين بالخطر المحدق، وإلا فلم يكن قتله -عليه السلام-
بالأمر اليسير، وربما كان يؤدي إلى حرب أهلية طاحنة.
ولكن الله تعالى كان يحفظه - صلى الله عليه وسلم - وقد كتب له أن يؤدي
دوره في المدينة المنورة الزهراء، فيسبق -عليه الصلاة والسلام- تخطيطهم -
ويخرج ومعه بعض أتباعه.. وبهذا يفلت الزمام من قريش وتصبح معركتها معه -
صلى الله عليه وسلم - في ميادين القتال فحسب.
وفي المدينة ينشط المسلمون في نشر الإسلام بين أهلها نشاطاً كبيراً، ويشيع
وجوده بينهم - صلى الله عليه وسلم - جواً قوياً من الثقة والاطمئنان والحماس،
حتى يدخل في الإسلام عدد كبير من الأوس والخزرج بعضهم من علية القوم
وكبرائهم.
وتبدأ المؤسسات اللازمة تتكون شيئاً فشيئاً: المسجد وهو مدرسة للتوجيه
والتربية ثم الجيش.. وهكذا.. خطوات جبارة حقاً.. وكيف لاتكون كذلك وهي
نقلة نوعية بل قفزة من مرحلة التضييق والاضطهاد في مكة والتي كان المسلمون
غير مأذونين فيها برد العدوان ولا قادرين، إلى مرحلة بناء الدولة بأجهزتها الكبيرة
مع الاستعداد للجهاد ومنازلة الأعداء المعتدين.
وظلت الدولة الفتية تنازل أعداءها بجندها العقائديين فتجهز عليهم واحداً بعد
الآخر وتختط لنفسها طريقاً سالكة عبر المصاعب والمحن والآلام الجسام.
ولم يقبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى أقر عينه بقيام دولة
الإسلام، وإعزاز أهله، فكمل الدين، وتمت النعمة، وتفيأ الناس ظل الإيمان
الوريف.
وحين نزلت هذه الآية: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [سورة المائدة: 3] بكى عمر بن الخطاب! فقال له
النبى - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ قال: أبكانى أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيءٍ إلا نقص! فقال: صدقت [7] .
ولقد كان الصحابة يعلمون أن من سنة الله أن هذا الوضع الذي يعيشونه في
حياته - صلى الله عليه وسلم - لن يدوم، فكانوا يتطلعون إلى معرفة ما يكون بعد، وإلى الموقف السليم الذى يواجهون به التغيرات المخوفة المرتقبة، حتى قال
حذيفة -رضى الله عنه -: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا
في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال -صلى
الله عليه وسلم-: نعم.. . الحديث [8] .
ولا تظن أن ثمت شكاً في أن لوفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- الأثر
العظيم فى حياة المسلمين فقد كان أول خلاف خطير حصل بين المسلمين في قضية
كبرى هو اختلافهم بعد وفاته بقليل على الخليفة من بعده يوم السقيفة.
هذا - وكان موته - عليه صلوات الله وسلامه بعد نزول آية المائدة بإحدى
وثمانين يوماً! وقد كان لوفاة الخليفتين من بعده أثر آخر يدل عليه حديث حذيفة -
رضي الله عنه- حين سأله عمر عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال له: مالك
ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها باباً مغلقا! ً قال: فيكسر الباب أو يفتح؟
قال: بل يكسر. قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً! قال قائل لحذيفة: هل كان عمر
يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غدٍ الليلة؛ إني حدثته حديثاً ليس
بالأغاليط قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب، فقلنا لمسروق: سله، فسأله،
فقال: عمر [9] .
ثم كان لانتهاء فترة الراشدين الأربعة أثر ثالث يدل عليه قوله - صلى الله
عليه وسلم: (الخلافة في أمتي ثلاثون عاماً، ثم يكون بعد ذلك الملك) .
قال سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك خلافة أبي
بكر -رضي الله تعالى عنه- سنتين، وخلافة عمر -رضيَّ الله عنه- عشر سنين،
وخلافة عثمان -رضي الله عنه- اثني عشر سنة، وخلافة على -رضي الله- عنه
ست سنين) [10] .
وكان لانخرام جيل الصحابة، ثم لانخرام جيل التابعين، ثم لانخرام جيل
تابعي التابعين آثاراً أخرى يدل عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس
قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. . الحديث) [11] .
وإلى هنا تنتهي القرون المفضلة التي شهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
بخيريتها وفضلها، وصار ما سارت عليه من العقائد والخلائق بل والاحكام هو
الهدي الصحيح الذي لا يسع مؤمناً من المؤمنين أن يخالف عنه، وصار لزاماً على
كل مؤمن أن يحبهم بحب الله ورسوله ويحب ما كانوا عليه من أمر الدين، ولا
يرى الصلاح إلا في الرجوع إلى ما كانوا عليه، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا
ما أصلح أولها - كما قال الإمام مالك -رحمه الله-.
ثم يظل الخط العام للأمة يسير تدريجياً باتجاه الضعف والنقص والبعد عما
كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال أنس -رضى الله عنه-:
(لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شرٌ منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته عن نبيكم - صلى
الله عليه وسلم-) [12] .
فلا تزال الأمة كلما بعد عهدها بنبيها في استئخار عن منهجه.
هذا من حيث الجملة والعموم، ولكنه لا يعني الاطّراد الحتمى في كل عصرٍ
بالنسبة للذي قبله، بل من الثابت شرعاً وواقعاً أن ثمة عصوراً تكون خيراً من التي
قبلها وأفضل وأصدق مثلٍ لذلك زمان المهدي ثم عيسى بن مريم -عليه الصلاة
والسلام-، ومثله عهد عمر بن العزيز -رحمه الله-.
ولذلك لا يزال الله يمن على هذه الأمة بتصديق موعود نبيه - صلى الله عليه
وسلم - فيها ببعثة المجددين الذين يحيون ما اندرس من أمر الدين، ويعيدون إلى
الأمة حياتها الحقيقية بإعادتها إلى نهج الإسلام الصحيح.
فحين تمر فرقة على الأمة يصيبها في دينها ما يصيبها فيخرج المجدِّد ليعيدها
إلى حالٍ قريب من الحال الأول، ثم تبدأ آثار المجدِّد في الزوال والتلاشي حتى لا
يأتي القرن الآخر إلا والأمة قد بلغت من الضَعة والضعف أشد مما بلغت قبل حركة
التجديد الأولى، فيأتي المجدِّد فيعيد الأمة إلى حال قريب من حالها في عهد المجدِّد
الأول.. وهكذا يتلاءم خط سير الأمة المنحدر مع خط التجديد والإحياء التصاعدي.
ولا يكاد المجدِّد التالي يكون خيراً من سابقه إلا في حالات نادرة، كما في
ظهور المهدي ونزول عيسى - عليهما السلام -، فإنهما يجددان الدين أي تجديد.
مع أن الأمة كلما امتد بها الزمن وزاد انحرافها كانت حاجتها إلى المجدِّد
الأقوى أشدُّ وآكد، ولهذا رجحنا فيما مضى أن التجديد مهمة الطائفة الناجية
المنصورة، وليس مهمة فرد بعينه، وأنه إن جاز أن يقال في مجدد القرن الأول أنه
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، فإن ذلك لا يجوز في غيره، مع قناعتنا التامة
بظهور آحادٍ من الناس يختصهم الله بمزيد فضل من عنده، فيكون لهم من التجديد
أوفي نصيب.
وفي الصفحات التالية نعرض لحركات التجديد التاريخية البارزة لتكون
أنموذجاً يحتذى للدعاة الصادقين المتطلعين إلى تجديد الدين لهذه الأمة.
أ- الحركة التجديدية الأولى..
[في عهد عمر بن عبد العزيز] 99-101هـ
يشهد المتتبع لكلام عامة العلماء في شأن المجددين أن هناك ما يشبه الإجماع
على اعتبار عمر بن عبد العزيز هو مجدد القرن الأول.
وكان أول من أطلق ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه الإمام أحمد
حتى لم يكد أحدٌ يخالف في ذلك.
ونحن نسلم بذلك، ولكننا نقول: ما كان لعمر بن عبد العزيز أن يقوم بهذه
الحركة الواسعة المتعددة الجوانب لولا وجود عددٍ كبير من أجلاء التابعين وساداتهم
وهم كانوا ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة.
ولكي ندرك قدر الإصلاح والتجديد الذي أحدثه عمر نرسم الخطوط العريضة
للانحراف الذي عانته الأمة، والذي كانت حركة عمر الإصلاحية تغييراً له، ... فنقول:
إن قيام الدولة الإسلامية الأموية على يد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما- جاء في وقت كان المسلمون أحوج ما يكونون فيه إلى وحدة الصف وجمع الكلمة، فجمعهم الله على معاوية بعد تنازل الحسن في (عام ... الجماعة) وكان ذلك سنة 40 هـ.
وليس يعنينا الآن " تقويم " الدولة من حيث الجملة، بل الذي نقصده هو الإشارة إلى أن مجيئها بعد عصر الخلفاء الراشدين له أثر كبير في نظرة المسلمين آنذاك إليها حيث كان الخطأ الذي نراه نحن اليوم عادياً، يعد عندهم شيئاً كبيراً.. وهذا ملحوظ لديهم حتى في تقويمهم للأفراد، وكلامهم فيه مأثور مشهور.
عمر بن عبد العزيز يرشح للخلافة:
لما عزم سليمان على كتابة كتاب بولاية العهد من بعده استشار بعض كبار
التابعين فأشاروا عليه بعمر بن عبد العزيز، فسماه، ثم سمى بعده يزيد بن عبد
الملك.
وكان عمر بن عبد العزيز رجلاً عاقلاً ديناً صيناً ولم يعرف قبل ذلك بمزيد
فضل عن نظرائه وأشباهه ولذلك اختاره هؤلاء التابعون ورشحوه، فلما قرىء
كتاب سليمان بعد موته كان عمر في آخر الناس فلما سمع اسمه اسف واسترجع -
في حين استرجع غيره لفوات الخلافة - وتباطأ في القيام، فقام إليه ناس فأخذوا
بعضديه وذهبوا به إلى المنبر، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس!
إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورةٍ من
المسلمين، وإني قد خلعت ما قي أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم! " فصاح
الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فلِ أمرنا باليمن
والبركة [13] .
فكان هذا أول عمل تجديدي قام به عمر حيث أعفي الناس من الملك العضوض وأعاد الأمر شورى، وحين اختاره الناس وألزموه ... بتولي الخلافة ناء به ثقل المسؤولية حتى " عُقِرَ به " [14] وضاق بها ذرعاً، وبان الهم على محياه، فقال له أهل مواليه:
يا أمير المؤمنين! كأنك مهتم؟ فقال: لمثل الأمر الذي نزل بي اهتممت،
إنه ليس أحدُ من أمة محمد في مشرق ولا مغرب إلا له قِبَلي حقٌ علي أداؤه إليه،
غير كاتب إليَّ فيه، ولا طالبه مني [15] .
ثم بدأ عمر في عمل الاصلاحات بجدٍ يتناسب مع هذا الشعور بالمسؤولية،
فتنحى عن المواكب الفخمة التي كانت تعمل للخلفاء من قبل، واسترد الامتيازات
التي وصلت إلى أيدي بعض قرابته، وقد بدأ بزوجته فاطمة فخيرها بين نفسه وبين
حليّها ومتاعها فاختارته هو، فأخذ الحلي ووضعه في بيت المال.
ثم بدأ حركة تغيير واسعة في المسؤوليات والولايات فولى الفقهاء والمشهود
لهم بالصلاح وأبعد من يٌزَنُّ بأدنى شبهة، ثم تعاهد هؤلاء الولاة بالنصح والتوجيه
والرقابة والمتابعة، ووسع على الناس بإلغاء الضرائب، وتوزيع الثروة بالعدل
وتنظيم إيراد الزكاة وصرفها حتى لم يوجد من يأخذ الزكاة، غنىً وورعاً.
ثم عمل على تزكية نفوس الناس وأخلاقهم وبيئاتهم من الأمراض والنقائص
الاجتماعية والخلقية، وإعانتهم على السمّو والارتفاع بشتى الوسائل، فكانت
مجالسه عامرة بالعلم والتربية وذكر الموت، ومن ثم - تفشى ذلك في الناس، ولم
يأل العلماء جهداً في نشر العلم وإحياء السنة، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
وحارب عمر المفاسد الموروثة عمن قبله، فقضى على العصبية المقيتة،
ومنع سبّ أحدٍ من السالفين أو لعنه كائناً من كان، وحارب البدع المحدثة والآراء
الضالة كبدعة القدرية والخوارج والمرجئة والمعتزلة.
وأنصف أهل الذمة وردّ إليهم حقوقهم، ووضع الجزية عمن أسلم منهم.
وعمل على تدوين السنة، فكلف بعض العلماء بكتابة حديث الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، وآثار الصحابة من بعده، فكانت أول حركة تدوين منظمة ترعاها
الدولة.. وكان لهذه الإصلاحات آثار عميقة في المجتمع الإسلامي، بل وفي غيره
من المجتمعات، حتى ليصح أن يكون عمر هو رجل الدنيا وسيدها وأعظم مصلحٍ
جاء إليها بعد الخلفاء الراشدين.
وقد كان عمر يخطط لجعل الخلافة شوريةً من بعده، أو الوصية بها إلى كفئها
المستحق لها، ولذلك قال عند موته: " لو كان لي من الأمر شيءٌ ما عدوت به لقاسم ابن محمد وصاحب الأعوص اسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص "
(وكان عابداً منقطعأ قد اعتزل فنزل الأعوص!) فبلغ ذلك القاسم فترحم عليه ثم
قال: إن القاسم ليضعف عن أهيله فكيف يقوم بأمة محمد - صلى الله عليه ... وسلم -؟ ! [16] .
وبمثل هذا الدور الجبار الضخم استحق عمر مجددية القرن الأول، وإن كان
بعضهم يضيف إليه آخرين من التابعين كالقاسم من محمد، وسالم بن عبد الله بن
عمر، والحسن البصري، والزهري، وغيرهم [17] .
* يتبع *
__________
(1) جامع الأصول 11 /324.
(2) عون المعبود 4/ 180.
(3) شرح أصول الاعتقاد للالكائي 1/128.
(4) شرح أصول الاعتقاد 1/146.
(5) التنبئة 17 ب، 18 أ.
(6) التنبئة 18 ب.
(7) تفسير الطبري، ج 9، ص 519، رقم الأثر 11083، تحقيق: شاكر.
(8) أخرجه البخاري في: 61 كتاب المناقب، 15 باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3606، ج 6 ص 615 وفي 92 كتاب الفقه، 11 باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ رقم 7084 ج 13 ص 35، ومسلم في 33 كتاب الامارة، 13 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، رقم 51، 52 (1847) ج 3، ص 75، وأحمد في المسند ج5، ص 404 مع اختلاف يسير،.
(9) رواه البخاري في: 9 كتاب المواقيت، 4 باب الصلاة كفارة، رقم 525، ج 2 ص 8، 24، ورواه مسلم في: 1 كتاب الإيمان، 65 باب إن الإسلام بدأ غريباً، رقم 231، ج 1، ص 28 1، 52 كتاب الفتن، 7 باب الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم 26، ج 4، ص2218، رواه الترمذي في: 34 كتاب الفتن، 71 باب رقم 2258، ج4 ص 524، ورواه ابن ماجه في: 36 كتاب الفتن، 9 باب ما يكون من الفتن، رقم 3955، ج2، ص1305 ورواه أحمد 5/386، 401، 405،.
(10) رواه الإمام أحمد في مسنده، ج 5، ص220، 221، وبنحوه أبو داود في: 34 كتاب السنة 9 باب في الخلفاء، رقم 4646، 4647، ج 5، ص 36، والترمذي في: 34 كتاب الفتن 48 باب ما جاء في الخلافة، رقم 2226، ج 4، ص 503،.
(11) رواه البخارى في 81، كتاب الرقاق، 7 باب ما يحذر من زهرة الدنيا رقم 6428، 6429، ج 11، ص 4، ورواه مسلم في: 44 فضائل الصحابة، 52 باب فضل الصحابة ثم الذين يولونهم رقم 210 - 216 (2533) ج 4، ص 1962 ورواه أبو داود في: 34 كتاب السنة، 10 باب في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم 4657 ج5، ص 44، ورواه الترمذي في: 34 كتاب الفتن، 45 باب ما جاء في القرن الثالث، رقم 2221، 2222، ج 4، ص 500، ورواه النسائي في المجتبى، كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، ج 7، ص 17 ورواه ابن ماجه في: 13 كتاب الأحكام، 27 باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد، رقم 2362 ج 2، ص 791، وهو عنده أيضاً برقم 2363، بلفظ: " احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم "، ورواه أحمد في المسند: 378/1، 417، 434، 438، 442 2/228، 410، 479 4/267، 276، 277، 278، 426، 427، 436، 440، 5/350، وجاء في مواضع عن عدد من الصحابة هم: عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وعائشة وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب، والنعمان بن بشير، وبريدة الأسلمي، رضي الله عنهم أجمعين،.
(12) رواه البخاري في: 92 كتاب الفتن، 6 باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شرٌ منه، رقم 7068 ج 13، ص 20.
(13) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 65، دار الكتب العلمية.
(14) أي عجز عن القيام، وانظر: سيرة عمر لابن الجوزي، ص 64.
(15) سيرة عمر، ص 65.
(16) طبقات ابن سعد، ج 7، ص 344، دار صادر.
(17) جامع الأصول، ج 11، 322، وانظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (المخطوط) ص.
(18) سبق تخريج الحديث من حيث أصله، وهذه الرواية عند ابن ماجه.
(19) فتح الباري، ج 7، ص 6.
(20) ابن سماعة هذا كان صلى مرة بالإمام أحمد في السجن والدم يسبل من جسده! فقال له: صليت والدم يسيل في ثوبك! فقال أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً! .
(21) مقدمة المسند، ج1، ص98 (هامش) .
(22) حلية الأولياء لأبي نعيم، ج 9، ص 166، دار الكتاب العربي.
(23) الحلية، ج 9، ص 170.
(24) أيضاً، ص 171.
(25) ترجمة الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام (مقدمة المسند) ج1، ص65.
(26) تقدمة الجرح والتعديل، ج 1، ص 308، دار الكتب العلمية.
(27) البداية والنهاية، ج 10، ص387، ط مكتبة الأصمعى بالرياض.
(28) انظر ترجمة الإمام أحمد في: تقدمة الجرح والتعديل، ج 1، ص 292 - 314، وحلية الأولياء ج 9، ص 161 - 234، ومقدمة المسند، ج 1، ص 58 - 133، وفي آخره ذكر مصادر أخرى للترجمة، وهي مهمة فلتراجع.(3/9)
كتاب في مقال
منصور الأحمد
لاشك أن كل موضوع يكتبه الكاتب، وكل مقالة يخطها قلمه، يكون وراءهما
أسباب ودوافع تدفعه إلى اختيار ما اختار.
فما الذي دعاني إلى اختيار هذا الموضوع، وما الشيء الذي يحسن التنويه به، والذي ألحّ عليّ لأقدم هذه الكلمة حول كتاب: (النبأ العظيم) ؟ .
هناك سببان رئيسيان:
1- شخصية الكاتب.
2- وموضوع الكتاب.
أما الكاتب، فهو الدكتور محمد عبد الله دراز، رحمه الله، وهو عالم غني
عن التعريف، من حملة لواء الثقافة الإسلامية المعاصرة.
وفي حياة هذا العالم مواطن للعبرة، يحسن بنا أن نقف عندها ونقدمها للشباب
المسلم في كل مكان.
فأول ما يفجؤك في هذه الشخصية هذا التزاوج الفذ، والتلاقح الغني بين
ثقافتين متباينتين، عادت نتيجته بالخير العميم على الثقافة الإسلامية.
وفي مجال الصراع الفكري والثقافي الذى خاضه المسلمون في العصر
الحديث، وجدنا ألواناً متعددة من التأثر.
_ فهناك طائفة خضعت خضوعاً كاملاً وذليلاً للثقافات الغازية.
- وطائفة شعرت بشراسة الهجمة الفكرية ووطأتها، فاستعصمت بخطط
دفاعية، إن نفعت في رد عادية الغازي الواغل (الذي يدخل في القوم وليس منهم)
مؤقتاً، فهي لن تنفع أمام فكر لا يزال يستخدم كل أساليب الحيلة والمكر، وينصب
كل أحابيل الشيطان الكرة بعد الكرة ليستأنف هجومه عوداً على بدء.
- وطائفة ثالثة أغمضت عيونها، وأصمت آذانها عن كل ما هو غريب عن
الإسلام والمسلمين، متجاهلة أن هذه الأرض يعيش عليها المؤمن والكافر،
ويتجاور فيها البر والفاجر، وأنها -بفضل المكتشفات العلمية الحديثة، والسرعة
الخيالية التي تطورت فيها وسائل الاتصال- قد ضاقت رقعتها، وتضامَّت أطرافها،
فكان من شأن هذه الطائفة - مع توفر النيات الطيبة- أن عزلت نفسها في عالم
خاص اصطنعته لنفسها، ورضيه لها من يفرضون على أمتنا فكرهم وطريقة
حياتهم، فصار يُنظر إلى هذه الفئة نظرة منكرة، وكأنها خارجة للتوِّ من تحت
أطباق القرون، مع أنها تعيش في هذا العصر، ولكن بجسمها، بينما فكرها ملتفت
إلى الوراء فحسب، وقد خلقه الله ليلتفت إلى الجهات الست.
- وهناك طائفة رابعة، تشبعت بالثقافة الإسلامية الأصيلة، ولم يشفها ذلك،
حيث رأت نفسها تعيش في عالم تمور فيه الأفكار من كل لون، والثقافة التي
تشبعت بها قد زوحمت وحوصرت وأُقصيت من مجالاتها الحيوية، فلم يفتَّ ذلك في
عضدها، بل رأت أن الأمر جد، وأنه لابد من معرفة كنه هذه الثقافة الغازية،
ولابد من سبر غورها، وذلك لا يكون إلا بأخذ العدة لها، وخوض غمارها، فأقبلوا
على ذلك، غير مدخرين جهداً، بنفوس واثقة لا تعيقها عن غايتها عقدة نقص، ولا
يفتنها عن دينها بهرج الحضارة الغربية.
ومن هذه الفئة الأخيرة مؤلف هذا الكتاب محمد عبد الله دراز، فبعد أن حاز
أعلى الدرجات العلمية من الأزهر سافر إلى فرنسا، فقضى هناك حوالي أحد عشر
عاماً درس فيها مناهج البحث عند الغربيين، حتى هضمها وتَمَثَّلها أحسن تمثُّل،
وليس هذا القول من قبيل الدعاوى العريضة، فنظرة إلى ما ترك من آثار علمية
تجعلنا نستيقن ذلك.
وإن ما يستوقف النظر في شخصية هذا العالم أنه حينما يتناول ثقافة الغرب
تراه ناظراً إليها من عَلٍ، مشرفاً عليها من قمة الفكر الإسلامي، واضعاً لها في
الموضع الذي يجب أن تكون فيه، ثقافةً أرضيةً مبتوتةَ الصلة عن وحي السماء،
قامت على مبادئ الهيمنة، وبلغت أشدها في ظل الظلم والغرور، قصارى أهلها
والمفتونين بها أنهم [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ]
[الروم: 7] .
والثقافة (الموسوعية) لهذا الرجل تغري الإنسان أن يلتفت حوله في أرجاء
العالم الإسلامي ليرى كثيراً من علماء المسلمين من يقف نفسه على كتب سلفنا
الصالح - ونعمت - لا يغادرها إلى غيرها، وينقضي عمره بالبحث عن دقائق
ما اختلفوا فيه من المشكلات، لا ليستخلص من ذلك منهجاً يعالج به مشكلات الحاضر، بل ليقنع نفسه ومن حوله بأن العلم هو هذا، وأن ما وراءه لا يعدل شيئاً.
نعم، إن هذا من العلم، ولكن بمقدار أن لا يشغلنا الماضي عن الحاضر
وبمقدار ما يفيدنا في حل المعضلات التي تأخذ منا بالنواصي والأقدام، وبمقدار ما
نتسلح منه بما نناضل به في ساحة صراع شرس، وحرب معلنة شُنت علينا
مستهدفة عقيدتنا وفكرنا وثقافتنا ووجودنا كله، وأي بقاء لأمة تذوب في غيرها؟ ! .
ومن أعجب العجب أنك تجد العالم في علم النحو والبلاغة والتفسير والفقه
والحديث لا يشق له غبار، إلا أنه قد يجهل أين تقع قدمه من خريطة العالم، ومن
الذى يتحكم بمصيره ومصير أمته ومن يتصرف بالنيابة عنه في أخص
خصوصياته، بل قد يجهل من الذى ضيّق مجال علمه، وأبعده من واقع الحياة، حتى جعله مقصوراً على حلقات بحث - إن وجدت - أشبه بمراجعة آثار بائدة، ومن أعجب العجب كذلك من تراه يريد تطبيق ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع وفد نصارى نجران على الغرب الصليبي وعلى أمريكا! .
إنه قد يكون استظهر حادثة وفادة وفد نصارى نجران على الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وقارن بين الروايات، ووازن بين أقوال العلماء فيها ورجَّحَ..
ولكنه يجهل حال الغرب الصليبي العقائدية، ولا يعرف عن التطورات التي انتابت
المسيحية عبر تاريخها، لا من حيث بدايات التأثير الوثني، ولا من حيث تلاعب
الأهواء البشرية، بل وتلاعب اليهود بها حتى وقتنا الحاضر، فأين حال من حال،
وأين نصارى من نصارى؟ ! .
وهذا مثال ضربته لأشير من خلاله إلى أن تغيير حال المسلمين لا يكون إلا
بحسن فهم لثقافتهم، واعتزاز عميق بها مع معرفة عميقة ونظر وتحليل للظروف
الداخلية والخارجية التي تؤثر فيهم، أو يمكن أن تؤثر فيهم في المستقبل القريب أو
البعيد.
منهج المؤلف في التأليف:
نستطيع أن نتبين منهج المؤلف في التأليف من كلمة أحد العلماء
(شمس الدين البابلي، ت 1077 هـ) ، وصدر بها كتابه: (دستور الأخلاق في القرآن) ، وهي:
(لا يؤلف أحد كتاباً إلا في أحد أقسام سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، ...
وهي:
- إما أن يؤلف من شيء لم يسبق إليه يخترعه،
- أو شيء ناقص يتممه،
- أو شيء مستغلق يشرحه،
- أو طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه،
- أو في شيء مختلط يرتبه،
- أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه،
- أو شيء مفرق يجمعه ".
ومن هنا فإنه يتحدد مقصده من موضوعه هذا، وليس أكثر من الكتب
المؤلفة حول القرآن الكريم، تفسيراً، وأسباب نزول، وبيان إعجاز، ولكن كتاب "
النبأ العظيم " على صغر حجمه يظل معلمة بارزة تقف شامخة بين كل الدراسات القرآنية، وسر ذلك يكمن في:
1 - الوحدة الموضوعية:
فالقضية الأساسية التي يدور عليها الكتاب، والمحور الذي أدير عليه البحث
هو بيان مصدر القرآن هل هو الوحي الإلهي، أم أن محمداً صلى الله عليه وسلم
ابتدعه وألفه؟ .
حول هذه القضية تحتشد الأدلة المنطقية من أول البحث إلى منتهاه سواء ما
تعلق بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ما تعلق بظاهرة الوحي، أو
ما تعلق منها بنص القرآن الكريم نفسه.
ففيما يتعلق بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرض شواهد من
سيرته تجاه القرآن " لها شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد
إليه وأنه لم يفض من قلبه بل أُفيض عليه " ص32.
وكذلك يستنبط من سيرته العامة مجموعة من الأخلاق العظيمة، كأمثلة
تصور لنا هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنساناً الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين: تواضع هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء " ص 32.
ويفنِّد الاحتمالات التي يثيرها الملحدون والمعاندون خلال محاولاتهم
القديمة والحديثة للتشكيك في مصدر القرآن، ماراً خلال تفنيده بالفروق الجوهرية بين القرآن والحديث، واستحالة أن تكون المعلومات التي تضمنها القرآن الكريم مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور.
ثم يخلص إلى شبهة أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تلقى
هذا القرآن من معلم وبعد مناقشة مستفيضة لهذه الشبهة ودحضها بالبراهين الدامغة
يقول لمن يزعم أن محمداً كان يعلمه بشر: " قل لنا ما اسم هذا المعلم؟ ومن الذي
رآه وسمعه، وماذا سمع منه، ومتى كان ذلك، وأين كان؟ ... " ص 63.
وبعد أن أثبت استحالة أن يكون للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، انتقل إلى المرحلة الثالثة ليبحث عن ذلك المصدر في
أفق خارج عن هذا الأفق الإنساني جملة، وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان
يظهر فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -،
فاستعرض الكيفيات التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستقبل فيها الوحي
، وأنها لم يكن فيها شىء متكلفاً مصنوعاً، وأنها " " مباينة للأعراض المرضية،
والنوبات العصبية التي تصفرُّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتصطك الأسنان،
وتتكشف العورات، ويحتجب نور العقل، ويخيم ظلام الجهل " ص72.
وبعد أن درس الطريق التي جاء منها القرآن، ولم يجد " في
اعترافات صاحبه، ولا في حياته الخلقية، ولا في وسائله وصلاته العلمية، ولا في سائر الظروف العامة والخاصة، ولا في وسائله وصلاته العلمية التي ظهر فيها القرآن إلا شواهد ناطقة بأن هذا القرآن ليس له على وجه الأرض أب ننسبه إليه من دون الله " ص 76، تقدم مع الذين لا يعلمون عن تلك الحياة النبوية إلا قليلاً، ويريدون أن يأخذوا حجة القرآن لنفسه من نفسه، تقدم معهم خطوة أخرى، فبين لهم أن هذا الكتاب يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، فدرس نواحي الإعجاز القرآني الثلاثة:
الإعجاز اللغوي، والإعجاز العلمي والإعجاز الإصلاحي.
فمن ناحية الإعجاز اللغوي فند الشبهة الممكنة حول هذه القضية، وهي:
- شبهة القدرة على محاكاة القرآن.
- وشبهة من ينسب هذه القدرة إلى غيره.
- وشبهة أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تكن بسبب عجزهم بل بسبب
انصراف هممهم.
- وشبهة من يظن أن إعجاز القرآن لم يكن من الناحية اللغوية.
- وشبهة من يقول: إن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليست
بسبب خصوصية القرآن، بل لأن أسلوب كل قائل أو كاتب صورة لنفسه لا
يستطيع أحد غيره أن يجاريه فيه. وهنا يصل إلى إبراز بعض أسرار الإعجاز
القرآني، فينظر أولاً في القشرة السطحية للفظ القرآن، ثم يقدم نظرات في لب
البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام، سواء في الفقرة التي
تتناول شأنا واحداً، أو في السورة التي تتناول شؤوناً شتى، أو فيما بين سورة
وسورة، أو في القرآن جملة.
ويطبق هذه النظرات على آية يختارها من عرض القرآن، فيبلغ القمة ويحلق
إلى أجواء لم يسبق إليها. ثم يختم الكلام على الوحدة الموضوعية لسور القرآن،
ممثلاً لذلك بأطول سورة منه: " سورة البقرة ".
2 - امتلاك المؤلف أدوات البحث والهيمنة عليها:
ويظهر هذا الأمر- بادىء ذي بدىء - من تحديده للموضوع الذي يطرحه،
فيحرر محل النقاش -شأنه شأن علمائنا القدامى - ويستبعد مالا يدخل تحت التساؤل، انظر إليه كيف يدخل إلى المشكلة:
" لقد علم الناس أجمعون علمأ لا يخالطه شك، أن هذا الي الكتاب العزيز جاء
على لسان رجل عربي أمي ولد بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن
عبد الله بن عبد المطلب - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - هذا القدر لا
خلاف فيه بين مؤمن وملحد، لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها
شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض.
أما بعد، فمن أين جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أمن عند نفسه،
ومن وحي ضميره، أم من عند معلم؟ ومن هو ذلك المعلم؟ ص20.
وأنت، إذا قرأت الكتاب بروية، وجدت فصوله وفقراته، كلاً منها يسلمك
إلى ما بعده، ويأخذ بعضها بأكناف بعض، وقد انتظمت حججه وأدلته، فبعضها
يستنبط من البديهيات العقلية، وبعضها متضمن للقواعد المنطقية، وبعضها مأخوذ
من المعلومات التاريخية والأدبية، ويغذي كل ذلك خلفية علمية بادية في أسلوبه
واستحضار مدهش لآيات القرآن الكريم والمسائل المطروحة حوله يقول بعد أن
أنهى الكلام على 91 من سورة البقرة (ص 119 وما بعدها) :
ولو ذهبنا نتتبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد
التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه. فلنكتف بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق، لا
نراه في كلام الناس، ذلك أن المرء إذا أهمه أمر من الدفاع أو الاقناع أو غيرهما
بدت على كلامه، مسحة الانفعال بأغراضه، وكان تأثيره بها في نفسك على قدر
تأثره هو، طبعاً وتطبعاً، فتكاد تحس بما يخالجه من المسرة في ظفره ومن
الامتعاض في إخفاقه، بل تراه يكاد يهلك أسفًا لو أعرض الناس عن هداه إذا كان
مؤمنًا بقضيته، مخلصاً في دعوته، كما هو شأن الأنبياء -عليهم السلام-. أما هنا
فإنك تلمح وراء هذا الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض؟ قوة تؤثر ولا
تتأثر، تصف لك الحقائق خيرها وشرها، في عزة من لا ينفعه خير، واقتدار من
لا يضره شر.
هذا الطابع من الكبرياء والعظمة تراه جليًا من خلال هذا الأسلوب المقتصد
في حجاجه أخذاً وردًا، المقتصد في وصفه مدحاً وقدحاً ص127.
3- التوفيق بين الدقة العلمية وإشراق الأسلوب:
إنها معادلة صعبة، أن يوفق الكاتب بين هذين الأمرين: دقة علمية بالغة،
وأسلوب يملك عليك فكرك ويأسرك بإشراقه وحيويته.
وكثيرا ما ضحى علماء كبار بجمال الأسلوب ونصاعته في سبيل تحديد الفكرة
التي يعالجونها وإيضاحها، وعلى النقيض من أولئك جاءت أساليب بعض العلماء
فارغة جوفاء حينما ولوّا وجوههم شطر التجويد في الأسلوب، والتنميق في الشكل، فسوّدوا صحائف يحسبها الظمآن ماءً، وما هي إلا سراب.
أما هنا، فتجد هذه الميزة - ميزة عدم طغيان أحد طرفي هذه المعادلة على
الآخر - واضحة جلية، وكأنما ذاك نتيجة للميزة الثانية للكتاب: (امتلاك المؤلف
لأدوات البحث) .
ومما عزز ذلك -والله أعلم - تشبعه بأسلوب القرآن الكريم ومنهجه، فلا تكاد
تجد فقرة من فقرات الكتاب لا يظهر فيها انعكاس الأسلوب القرآني على أسلوب
الرجل، واستخدام الجملة القرآنية استخداماً أخاذاً في مطابقته للفكرة، ومناسبته
وامتلاكه لشعور القارىء.
وإنه ليصعب على الدارس أن يختار مثالاً على هذه الميزة من الكتاب، وذلك
لأنه كله دليل على ذلك، وأية فقرة اخترتها فأنت واجد في غيرها ما قد يكون أدل
على ذلك. ولكن خروجاً من هذه الحيرة فإننا نثبت هنا تعقيبه على موضوع الآيات
(135 - 162) من سورة البقرة:
(أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل، كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة؟ فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين متنائيين، فهي في جملتها مناجاة من الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في خاصة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل هذه النجوى طرفين، لوّن كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان على أمر قد قدر.
ألم تر كيف بدأها بأن قصّ على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق
الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها فجعل يمسح غبار الشبهة عن
وجهها، حتى جلاها بيضاء للناظرين، فكانت هذه البداية - كما ترى- نهاية لتلك
المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان ثم رأيت كيف ساق الحديث
فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية، ويحرضهم على
الاستمساك بها في غير ما آية..
أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يراد به هداية المؤمنين إلى
تعاليم الإسلام مفصلة؟ .
بلى.. إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة، التي مدت في
خطاب المؤمنين مداً، وحولت مجرى الحديث معهم رويداً رويداً، حتى صار كل
من ألقى سمعه إليها ملياً، يسمع في طيها نداء خفياً: أن قد فرغنا اليوم من الأعداء
جهاداً وأقبلنا على الأولياء تعليماً وإرشاداً، وأن قد طوينا كتاب الفجار، وجئنا نفتح
كتاب الأبرار، وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تكن إلا طليعة
من كتائب الحق، تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار، أو شعاعة من فجر الهدى
سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار. ألا ترى الميدان قد أصبح
خالياً من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها
وتهاجمك، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟) ص 189.
وبعد؛ فإن لم أكن قد وفيت هذا الكتاب حقه من التعريف، فلا أقل من أن
أكون قد أغريت القارئ بقراءته، وذلك حسبي.(3/21)
مفهوم السببية عند أهل السنّة
(2)
طارق عبد الحليم
كان من أهم وأبرز النتائج التي ترتبت على ردة فعل الأشاعرة تجاه التطرف الاعتزالي في مسائل خلق الأفعال، والتحسين والتقبيح، وحدود الإرادة والقدرة الإنسانية إلى جانب المشيئة والإرادة الإلهية، ما سبق أن ذكرناه في الجزء الأول من المقال عن نفي الأشاعرة للحكمة الإلهية التي تصدر عنها أفعال الله سبحانه.
فالله سبحانه - كما قالت الأشاعرة - (لا يفعل شيئاً لشيء، ولا يأمر لحكمة، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره، وما ثم إلا مشيئة محضة، وقدرة ترجح مثلاً على مثل، بلا سبب ولا علة. كان ذلك ردًّا على الآراء الاعتزالية التي أكدت على الحكمة الإلهية و (أوجبت) على الله -سبحانه- فعل الأصلح لعباده، فأهدرت عموم المشيئة لصالح الحكمة، وأهدرت الأشاعرة الحكمة الإلهية لأجل عموم المشيئة، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [1] .
وقد ترتب على ذلك النظر الأشعري في الحكمة والتعليل، أمران هامان كان
لهما أكبر الأثر في صياغة العقلية الإسلامية خلال القرون اللاحقة.
أولهما: الفصل بين العلة الشرعية والعلة العقلية [2] :
ذلك أن الكثير من أحكام الشرع قد ورد معللاً بعلل منصوص عليها، كما
في قوله تعالى: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً] [المائدة 32] ، وقوله تعالى: [فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً] [الحاقة10] وفي الحديث عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من ضحى منكم فلا
يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء، فلما كان في العام المقبل قالوا: يارسول الله
نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: " كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام
كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " متفق عليه [3] .
(ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف
موضع) [4] .
ولذلك، كان من الصعب على الأشاعرة - بل على الظاهرية - إنكار العلة
بإطلاق، فساروا في ذلك كل حسب ما أدته إليه مقدماته:
- فالظاهرية: أقروا بالعلل المنصوصة وأنكروا العلل المستنبطة بطرق
استنباط العلة المعتمدة في مناهج أهل السنة - والتي تنبنى على مفاهيم شرعية -
إعمالاً لمبدئهم في الأخذ بظواهر النصوص.
- والمعتزلة: قبلوا التعليل في الشرع والعقل جميعاً، وأطلقوه إطلاقاً عاماً
ليس منه فكان إعمالاً لمبدئهم في عموم الحكمة الإلهية، وإهدارهم لمبدأ عموم
المشيئة الإلهية.
- والأشاعرة: أقروا بالعلة الشرعية المنصوصة والمستنبطة، على أنها
ليست سبباً أو علة للفعل، بل على أنها " باعث " على الفعل، وأمارة دالة عليه
وإن لم يكن سبب له [5] ، وأنكروا العلل العقلية مطلقاً إعمالاً لمبدئهم في عموم
الفعل مطلقاً - إلا بذلك الكسب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع - من جهة ولعموم
الحكمة الإلهية من جهة أخرى.
وتد تصور بعض الكتاب المحدثين أن الأشاعرة قد انطلقوا في تصورهم ذاك
من الموقف القرآني الذي توهموه أنه " في مواضع عديدة منه ينكر العلة ويتحدى
الأسباب، وينكر الصعود إليها) [6] (كذا) ! إلا أننا نرى أن ذلك التصور لا يتوافق ...
مع ما رأيناه من نشأة تلك المباحث أصلاً، وما أثر في الفكر الأشعري حتى وصل
به الى تلك النتائج المؤسفة.. إذ إن القرآن كله - على عكس قول القائل - دال
على إثبات الحكمة والسبب إثباتاً لا ينكره أحد من المنصفين.
الثاني: تفسير العلل والأسباب بحكم " العادة ":
ذلك أن التلازم الذي لا تنكره الفطر السوية بين السبب ونتيجته لا يمكن
جحده جحداً ظاهراً إلا من أخرق أو سوفسطائي مشكك.. أما الأشاعرة فقد ذهبوا في إنكار تلك العلاقة بين السبب ونتيجته - أو العلة ومعلولها - إلى أن ذلك التتابع بينهما إنما هو من تصورنا لاغير، فهو " تلازم في الحدوث " وليس تلازماً ناشئاً عن الارتباط بينهما وبمعنى آخر هو إلف العادة التي نشأنا عليها أن نرى النار تشتعل في الورق ثم نرى الورق يحترق، فالاحتراق ليس ناشئاً عن النار، بل هو حادث عند حدوثها فقط (كذا) ! ! . والنار لا دخل لها بالإحراق إنما الله -سبحانه- يخلق الاشتعال، ويخلق عنده الاحتراق كلٌ منفصل عن الآخر، لا الاحتراق ناشيء عن النار، ولا النار تسبب الاحتراق! وهكذا في سائر الظواهر الطبيعية كتلازم الشرب والري، والأكل والشبع.
وقد كانت أدلة الأشاعرة على ذلك الأمر، أغرب من أقوالهم ذاتها، إذ قالوا:
أليس الله -سبحانه- يقدر على خلق الشبع في الإنسان، دون أن يأكل وأن يحرق
إنساناً دون أن تشتعل فيه نار، أو أن يشعل ناراً دون أن يحرق بها الناس.. ألم
يحدث ذلك مع إبراهيم -عليه السلام-! ؟ فهذا يعني - بالضرورة عندهم - أنه
لاسبب ولا علة للحوادث بل هو مجرد التلازم وإلف العادة، وإثبات المشيئة الإلهية
والقدرة الربانية العامة المرافقة للخلق في كل صغيرة وكبيرة على حساب الحكمة
الإلهية التي شاءت فعل الأحكم والأصلح، لكمال الذات الإلهية التي يناسبها فعل
الأحكم والأصلح عن عدم فعله أو عن الفعل غير المعلل ابتداء.
وقد نقل علي النشار قول الغزالي في تهافت الفلاسفة - مؤيداً له - حيث
قال: (واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى ترسخ في أذهاننا جريانها على ... وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه) .
(إن من المسلم به أن النار خلقت بحيث إذا تلاقت مع قطنتين متماثلتين
أحرقتهما ولم تفرق بينهما، طالما كانتا متماثلتين من جميع الوجوه، ولكن مع هذا
يجوز أن يلقى شخص في النار فلا يحترق، فقد تتغير صفة النار أو تتغير صفة
الشخص) .
والملاحظ أنه قوله، فقد تتغير صفة النار أو صفة الشخص، رجوع عن
مبدئه كلية، إذ في هذا إقرار بأن صفة الشخص الأساسية هي أن يحترق بالنار وأن
صفة النار الأساسية أنها تحرق الشخص، ولا يعني هذا إطلاقاً أن النار أساساً لم
تخلق لتحرق، أو الناس لا يحترقون ابتداءً بالنار، كما أنه لا يعني أن الله -
سبحانه- لم يخلق فعل الاحتراق في الشخص، أو فعل الإحراق في النار رغم أن
ذلك ممكن عند إرادة الله -سبحانه- أن يحدث معجزة أو كرامة ولكن ذلك يكون
خرقاً مقصوداً مؤقتاً للنواميس العادية التي جبلت عليها المخلوقات.. ونحن نرى أن
النشار قد اندفع وراء أشعريته بعيداً عن النهج القويم في النظر والاستدلال الذي
تناوله بالبحث والدرس في " مناهج بحثه " التي استقصاها عند مفكري المسلمين! !
ومما لاشك فيه أن إهدار مفهوم النتائج عن أسبابها أدى إلى أبشع النتائج
وأخطرها على العقلية الإسلامية خلال القرون الماضية، لما في ذلك من إهدار عام
لقيمة العلم التجريبي بل والنظري معاً، كما سنرى في حديثنا عن الآثار التي
ترتبت على انتشار مثل تلك المفاهيم.
الصوفية والأسباب:
لم يكن الأشاعرة أو المعتزلة وحدهما الذين خاضوا معترك الحديث في
الأسباب والعلل، أو الكلام في القدر وحدود الإرادة الإنسانية وحريتها وما
ترتب على ذلك من قضايا، بل شاركت في ذلك فرقة واكب ظهور أوائل روادها حوالي منتصف القرن الأول الهجري، ثم تطورت مفاهيمها بعد ذلك -من منتصف القرن الثاني -إلى أن وصلت حد الغلو والتطرف - بل في بعض آرائها التي دعا إليها نفر من كبار مشايخها - إلى حد الكفر والمروق ونعني بها فرقة الصوفية، التي أدلت بدلوها في موضوع العلة والسبب بما يتناسب مع الخط العام لفكرها ومنهاجها، فكانت تلك الآراء من أهم العوامل التي أدت إلى إهدار قيمة الأخذ بالأسباب في المجتمع الإسلامي، وبالتالي من عوامل الهدم التي عملت في ... جنبات الحياة الإسلامية حتى أدت بها إلى الانحطاط والركود والتخلف.
تناولت الصوفية مفهوم السبب من منطلق تصوراتها لثلاثة أمور:
أولاً: مفهوم القدر.
ثانياً: مفهوم التوكل.
ثالثاً: مفهوم الركود والولاية.
أولاً: القضاء والقدر عند الصوفية:
استغرق الصوفية في معاني توحيد الربوبية، والتأمل في الأسماء والصفات
حتى شذوا في تلك المعاني، وخرجوا بها عن المقصود منها كتعبير عن كمال الله
سبحانه وجوانب عظمته وقدرته وسائر صفاته، وما تضفيه تلك المعاني على المسلم
من مشاعر المحبة والتوكل والخضوع وتمام الاطمئنان لحكمة الله وقدرته -سبحانه-
وهو ما يستلزمه توحيد الألوهية والقيام بحق العبادة على وجهها الأكمل في كافة
جنبات الحياة الإنسانية.
كان لذلك الاستغراق في معانى توحيد الربوبية والشطط والغلو في مفاهيمها
ومراميها، أن خلطت الصوفية في مسألة القدر الإلهي وحدود الإرادة الإنسانية التي
أتاحها الله للإنسان ليجعله بها مكلفاً، ومعرضاً للثواب والعقاب، ولم يميزوا بين
إرادة الله النافذة التي لا يقع شيء في الكون مخالفاً لها، وبين إرادته التي بيّنها في
أمره ونهيه، حسب ما يحبه ويرضاه، أو يكرهه ويأباه، فأخذوا بقول الجبرية في
أن الإنسان كالريشة في مهب الريح، مسيّر بإرادة الله تعالى دون إرادة منه أو
استطاعة، والمؤمن الحق - عندهم - هو من يشهد هذه الحقيقة، ويرى قدر الله
النافذ فيه وفي الناس حين يفعلون الخير أو يأتون الشر، بل تطرف بعضهم فذهب
إلى أن الكافر حين يكفر فهو يسير علي القدر الإلهي السابق، وهو مطيع لله بكفره! والكوارث والمجاعات والمصائب والمظالم التي تصيب الناس، لا داعي
للتخلص منها أو إزالتها، والاستسلام لها هو عين الاستسلام لقدر الله النافذ
والخضوع لمشيئته، وهو قمة الإيمان والتوحيد، ولا يخفي ما في هذا التصور من
ابتعاد عن الله، وتهديد للوجود الإسلامي أصلاً.
ثانياً: الصوفية ومفهوم الكرامة:
كان لإلغاء دور العقل في الحياة الإنسانية- بما زعموه من أن تربية الروح
هي مقصودهم الأول والأوحد - أثر واسع في التعلق بالكثير من الخرافات
والخروج بالعديد من الظواهر الدنيوية أو الشرعية عن حدودها المعلومة
والصحيحة، استنامة للأحلام التي يهيم فيها (العاشقون) المتدرجون في مراتب الشوق والدهشة والانبهار وما إلى ذلك من مسالك لا يدركها إلا السالك! ومن تلك ال ظواهر ظاهرة الكرامة التي يختص الله - سبحانه - بها بعضاً من عباده الأتقياء الأولياء على الحقيقة، فيجري على أيديهم ما يخرق العادة الجارية والعلل السائرة إكراماً لهم، وتثبيتاً لإيمان بعض من يحتاج إيمانه إلى ذلك التثبيت،
وإظهاراً لعموم القدرة الإلهية التي خلقت النواميس، والتي تقدر على خرقها في أي وقت شاءت.
والصوفية -ولله الحمد من قبل ومن بعد - أولياؤهم عديدون، ودرجة الولاية
تنال عندهم بلبس الخرق والمرقعات، والسلاسل والرقص في الحضرات، وحفظ
الأوراد المبتدعة والإتيان بالأفعال الشاذة.. والكرامة متاحة للعديد منهم بمناسبة
وبدون مناسبة، بحق أو بباطل، لوليّ أو دعيّ طالما هو سائر على دربهم ذاك.
هذا يخطو خطوة فينتقل من الشام إلى الكعبة فيزور البيت ويعود إلى مجلسه
من ساعته، وذاك يخرج إلى الصحراء دون عدة أو عتاد فيلاقي الوحش فينفخ فيه
فيكون كالقط الأليف وذاك يخرج للحج فإذا به يرى الكعبة قادمة في الطريق فيسألها
إلى أين هي ذاهبة (أي الكعبة؟) فتقول (الكعبة كذلك!) إلى فلانة العابدة لتطوف
بي ثم أعود! ! وهناك إحدى الروايات التي يرددها أهل بعض القرى في صعيد
مصر عن عائلة من العائلات التي يتوارث أولادها الولاية عن آبائهم، وكيف أن
أحد أطفال هذه العائلة أوقف قطاراً مندفعاً بيده ليركب فيه! ! أي والله يحكيها الكبير
المتعلم قبل الغر الجاهل! وليرجع القارىء - إن شاء- إلى رسالة للقشيري أو
إحياء علوم الدين للغزالي أو غير ذلك من الكتب المملوءة بمثل تلك الروايات.
إذن فما حاجتنا للسيارات والطائرات؟ ! وما الداعي لاقتناء آلات الحرب أو
الدفاع؟ ! وما الدافع إلى الخروج بحثاً عن الرزق والزاد وعمارة الدنيا، والبحث
عن مكنونات الطبيعة وأسرارها المودعة فيها لصالح المسلمين وإعلاء كلمة الدين..
الأمر أهون من ذلك، فإنما هي صفقة باليد فإذا التخت ممدودة والموائد معمورة
والمسافات قد قصرت، والأفكار قد اندفعت.. فحسبك أن تلبس الخرقة، وترقص
بالحضرة! ! ! قل لي بالله عليك - أيها القارىء العزيز - أي إهدار لقيمة اتخاذ
الأسباب أكبر من ذلك؟ وأي محاولة للقضاء على الكيان الإسلامي أبعد أثراً من تلك
المحاولة.
ثالثاً: الصوفية والتوكل:
كان من نتيجة ما رأينا من الأفكار الصوفية عن مسائل القدر والكرامات
والاستغراق في توحيد الربوبية بجهل وابتداع دون النظر إلى ما يستلزمه من حق
العبادة، أن اضطرب لدى الصوفية مفهوم التوكل على الله.. واستحال إلى التواكل
والاستنامة والبعد عن العمل واتخاذ السبب، فصحة التوكل - عندهم - لا تكتمل
إلا بالنظر إلى مسبب الأسباب -سبحانه-، وقطعوا النظر إلى الأسباب ذاتها
والانفضاض عنها.. وكلما ترقى المسلم الصوفي في مدارج الطريق كلما ازداد بعداً
عن الأخذ بالسبب مطلقاً، بل إن النظر إلى الأسباب هو تلبيس من الشيطان على
أهل التفرقة، فيجعلهم يعدّدون في المصدر والسبب، ويرون أن للأفعال أسباباً
ظاهرة ناشئة عنها فالري لا يحدث إلا بالشرب مثلاً.. وهو وهم من أهل التفرقة،
وتلبيس عليهم فالري يحدث بالشرب أو بدونه كما في الكرامة، أو إذا صح التوكل - دون اكتساب لذلك - كما أن فعل الطاعات أو الإقامة عليها ليس نتيجة عمل
الشخص بل هي منسوبة لله تعالى، سواء فعله أو الإثابة والعقاب عليه، وإضافة
فعل الطاعة للعبد تلبيس على أهل التفرقة! وغير ذلك كثير من الخلط والاضطراب
والابتداع الذي كان له ولاشك أكبر الأثر في صياغة تلك العقلية الإسلامية التي
يعاني منها الوجود الإسلامي في العصر الحاضر، والتي كانت سبباً مباشراً- ولو
كره نفاة الأسباب! - في تلك الأمراض، والعلل التي يعاني منها المسلمون في هذا
العصر.
__________
(1) العلة الشرعية - كما عرفها علماء الأصول في مبحث القياس - هي التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، أى يوجد عند وجودها، وينعدم عند عدمها، ومثال ذلك: الإسكار علة لتحريم المشروب، فإذا وجد الإسكار عند تناول المشروب (قليله أو كثيره) حرم المشروب، وإن لم يوجد الإسكار لم يكن المشروب محرماً، والعلة إما منصوص عليها، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لأجل الدافة " فبيّن علّة تحريم أكل لحوم الأضاحي في ذلك العام لسبب ورود الدافة حول المدينة، أو مستنبط بطرق الاستنباط التي عدّدها الشوكاني أحد عشر مسلكاّ، كما أن لها أوصافاً يجب أن تتحقق فيها لكي تكون علة مستنبطة للحكم، وقد عددها الشوكاني كذلك أربعة وعشرين وصفاً إرشاد الفحول 207 - 222، أما العلة العقلية فالمقصود بها السبب الذي تنشأ عنه النتيجة في حكم العادة سواء في المجال النظري، كما يقال: إن جمع المتفرقات علة في حدوث المركب، أو المجال التجريبي كما في الظواهر الطبيعية عامة كما يقال النار علة الاحراق أو الأكل علة الشبع، وكلاهما يطلق عليه علة عقلية.
(2) شفاء العليل لابن القيم /189.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني /207.
(4) مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار /124.
(5) تهافت الفلاسفة للغزالي /67.
(6) الذين هم أهل السنة! والحق أن بعضهم كصاحب منازل السائرين يزعم أن التلبيس من فعل الله -سبحانه وتعالى- ليضل به أهل التفرقة، على أصلهم أن الإضلال من الله وليس للعبد به شأن.(3/29)
خواطر في الدعوة
بين القوة والضعف
أبو أنس
من السهولة على كثير من الناس معرفة الخير والشر، فإن الفرق بينهما
واضح لكل ذي فطرة سليمة، بل إن اتباع الخير أيسر على النفس من تعمد الشر،
ولكن معرفة خير الخيرين واتباع أعلاهما، ومعرفة شر الشرين والسكوت أو
الاضطرار لفعل أدناهما دفعاً لأعلاهما فهذا هو الفقه الدقيق الذي يحتاجه المسلم،
خاصة إذا كثر الدَّخَن، واضطربت المفاهيم، وكثرت الاجتهادات دون علم ينير
الطريق ويوضح المحجة..
والمسلم مضطر للعيش في هذه الأجواء، التي يختلط فيها الحق والباطل
ويكثر فيها الشر مع وجود الخير، فكيف يكون منسجماً مع نفسه ومع مبادئه التي
يحملها ولا يقع في التناقض والحيرة، ويصبح ممزق الشخصية بين الواقع والمثال.
هنا يظهر مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به
خيراً يفقهه في الدين " فالفقيه حقاً هو من يجنب نفسه والمسلمين الالتفاف حول النصوص والأخذ بالرخص الملفقة، كما يجنب نفسه والمسلمين العنت والحرج المتعارض مع الحنيفية السمحاء.
إن سهولة انتشار كتب العلم في هذا العصر، جعل بعض الناس يقرأ الكتاب
والكتابين، ثم يستنبط ويستخرج الأحكام من غير أن يكون على دراية تامة ومعرفة
بأسرار الشريعة وحكمتها في التدرج بالناس ومراعاة المصالح ومعرفة أسباب
اختلاف العلماء، ومن غير أن ينظر بعين البصيرة إلى تطور مراحل الدعوة
والدولة، وكيف كانت تتنزل الأحكام. والذي يطالب المسلمين بتطبيق تفاصيل
الشريعة، كالتميز عن الكفار في كل شيء أو تطبيق ما جاء في سورة براءة من
قتال المشركين كافة والمسلمون في حالة ضعف، فهذا لم يفقه الإسلام الفقه الصحيح.
ومن الأدلة على أن بعض الأحكام تختلف بين حال القوة والضعف:
1- ما جاء في قصة صبيغ بن عِسل أنه كان يسأل عن تفسير [وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وقْراً ... ] الآيات، يفتش بذلك عن المعضلات ويتتبع المتشابه، وسمع به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فدعا الله أن يمكنه منه، فلما حضر بين
يديه وتأكد له أنه يسأل عن هذه الأشياء أمره بوضع عمامته فإذا له وفرة، فقال له:
(لو رأيتك محلوقاً لضربت عنقك) ، لقد خشيَ عمر أن يكون هذا الرجل من ...
الخوارج الذين وردت الأحاديث بذمهم وأن من علاماتهم التحليق، وكان عمر
سيقتله لو تأكد له أنه من هذه الفئة مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل
ذي الخويصرة التميمي عندما انتقد قسمته لغنائم حنين وقال له: (إنك لم تعدل) فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ويلك من يعدل إذا أنا لم أعدل!) ، فيُعلم أن العفو
عن الخوارج كان في حالة الضعف والاستئلاف [1] ..
2- إن الحال التي أخبر الله -سبحانه- أن المسلمين يسمعون أذىً من الذين
أوتوا الكتاب والمشركين نسخت عند بعض العلماء بحال القوة والأمر بقتالهم،
وبعض الناس يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال، ولاخلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفروضاً عليه لما قوي أن يترك
ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى
قتالهم وإقامة الحدود عليهم سواءً سميّ هذا نسخاً أو لم يُسَمَّ) [2] .
3- احتمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين أذاهم قبل نزول
براءة ما لم يحتمل من أذى الكفار وهو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة
والنصرة [3] .
4- إن الآيات مثل [وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً] [الفرقان: 63] ،
[وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [البقرة: 237] ، [وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ]
[القصص: 55] ، إن هذه الآيات لا دليل على نسخها بالآيات التي تدعو إلى قتال
المشركين والغلظة عليهم، وأمثال ذلك مما وردت به السنة النبوية، ولا يقول
بالنسخ إلا من يتوهم التعارض في ذلك، ممن خفي عليه حسن اختلاف الأمرين عند
اختلاف الحالين، ولذلك أنزل الله الكتاب والحديد وكان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - نبي الرحمة والملحمة [4] .
ولا يظن ظان أن اختلاف الأمرين عند اختلاف الحالين هو تغيير لأحكام الله
أو انحراف بها عما وضعت له، فالأحكام الثابتة المفروضة لا تتغير إلى يوم القيامة، ويبقى هناك أمور يراعى فيها حال المسلمين من الضعف أو القوة في كل عصر،
ولا يعقلها إلا العالمون..
__________
(1) انظر ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في (الصارم المسلول) ص 189 -239 /224.
(2) انظر ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في (الصارم المسلول) ص 189 -239 /224.
(3) : انظر ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في (الصارم المسلول) ص 189 -239 /224.
(4) محمد بن إبراهيم الوزير: العواصم والقواصم 1 / 172.(3/36)
الخصائص الأخلاقية والسلوكية لأهل السنة والجماعة
اختيار: محمد المصري
تمهيد:
هذه مختارات مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، توضح بعض خصائص أهل السنة والجماعة، والمميزات الاعتقادية، والأخلاقية، والسلوكية لهم، اختيرت بعناية، وعلّق عليها بتعليقات ربطت بين فقراتها، وألقت بعض الضوء على مناسباتها ومواطن الاستشهاد بها.
وسنعرض للمواصفات العامة لأهل السنة والجماعة في حلقة قادمة إن شاء الله.
التحرير
أهل السنة والجماعة هم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولا
شك أن أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي، ولذلك فإن
أخلاق النبوة - من الرحمة ومحبة الخير للناس واحتمال أذاهم، والصبر على
دعوتهم إلى آخر ذلك.. - هي المنبع الذي يستقي منه أهل السنة خصائصهم
السلوكية والأخلاقية، والتي لا تقل أهمية - في منظور الحق - عن ميراث العلم
والهدي الذي اختص به الله هذه الفرقة الناجية بفضله ورحمته.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله تعالى هدىً ورحمةً للعالمين،
فإنه كما أرسله بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية.، فإنه أرسله بالإحسان
إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم واحتماله فبعثه بالعلم
والكرم والحلم: عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح.
فهو يعلم ويهدي ويصلح القلوب، ويدلّها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا
عوض، وهذا نعت الرسل كلهم وهذه سبيل من اتبعه، وكذلك نعت أمته بقوله:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس: تأتون
بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة، فيجاهدون - يبذلون أنفسهم وأموالهم -
لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون
من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى،
ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد
هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! .. إلى آخر كلامه.
وهو -سبحانه وتعالى- يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها، وهو يحب
البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، وقد
قيل أيضاً: وقد يحب الشجاعة ولو على قتل الحيات، ويحب السماحة ولو بكف
من التمرات) ج 16 ص 313-317.
وأهل السنة والجماعة في أخلاقهم وسلوكهم يأتمون بالكتاب والسنة، سواء في
علاقتهم مع بعضهم، أو مع غيرهم.
(يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه
وسلم: " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا "، ويندبون إلى أن تصل من قطعك،
وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام،
وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك،
وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق،
ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه من هذا أو غيره، فإنّما هم فيه متَّبعون للكتاب والسنة) ج 3، ص 158.
وأهل السنة لذلك هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا هو
الأصل الأول والقاعدة العظيمة التي جعلتهم خير أمة أخرجت للناس، ولكنهم
يقومون بذلك على ما توجبه الشريعة، فيلتزمون في الوقت نفسه أملاً آخر وقاعدة
أخرى عظيمة، هي الحفاظ على الجماعة، وتأليف القلوب واجتماع الكلمة، ونبذ
التفرق والاختلاف.
(يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، على ما توجبه الشريعة، ويرون
إقامة الحجج والجهاد، والجمع والأعياد مع الأمراء - أبرارًا كانوا أم فجارًا -
ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمّة، ويعتقدون معنى قوله -
صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبّك بين
أصابعه - صلى الله عليه وسلم - وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر) ج3، ص158.
(ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا
على عامتهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فيأمرونهم بما أمر الله به
ورسوله، وينهونهم عمّا نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -) ج 3،
ص 423.
(ويزن جميع ما خاض الناس فيه، من أقوال وأعمال، في الأصول والفروع
الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنّة رسوله غير متبعين لهوى: من عادة أو مذهب أو
طريقة أو رئاسة أو سلف، ولا متبعين لظن: من حديث ضعيف أو قياس فاسد -
سواء كان قياس شمول، أو قياس تمثيل - أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله،
فإنّ الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ويتركون اتباع ما
جاءهم من ربهم من الهدى) ج 12 ص476.
فأهل السنة والجماعة، إذن، ولاؤهم الأول للحق وحده، ومن هذا المنطلق
فإنهم ينظرون إلى كل فرد، أو طائفة، أو تجمع، على هذا الأساس وحده، وليس
على أساس من التعصب الجاهلي للقبيلة، أو المدينة، أو المذهب، أو الطريقة،
أو التجمع، أو الزعامة.
(وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض، والموالاة والمعاداة،
والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علّق الله بها ذلك، مثل: أسماء القبائل،
والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما
يراد به التعريف، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته، من أي صنف كان. ومن كان
كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان. ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من
الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية
بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء،
والصديقون، والشهداء، والصالحون، بمنزلة الفساق في الإيمان والدين، والحب
والبغض، والموالاة والمعاداة) ج 28، ص 227- 229.
وأهل السنة والجماعة لذلك يوالي بعضهم بعضًا، ولاءً عامًا -بغض
النظر عن انتماءاتهم المختلفة لحزب، أو جماعة، أو اتجاه، أو اجتهاد معين- بل الأصل أن يكونوا جميعًا، يدًا واحدةً، ويعذر بعضهم بعضًا، ولا يسارعون إلى اتهام أو تضليل بعضهم بعضًا.
(الواجب أن يقدّم من قدّمه الله ورسوله، ويؤخّر من أخّره الله ورسوله ويحب
ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه
ورسوله، وأن يرضى بما رضي به الله ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدةً،
فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب
معه، وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من
أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافرًا، ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة
الخطأ والنسيان) ج 3، ص420.
وأهل السنة والجماعة لا يمتحنون الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان ولا
يتعصبون لأسماء، أو شعارات، أو تجمعات، أو زعامات، بل يوالون ويعادون
على أساس الدين والتقوى، ولا يتعصبون إلا لجماعة المسلمين، بمعناها الحقيقي،
وهي الجماعة التي ترفع راية القرآن والسنة، وهدي السلف الصالح -رضي الله
عنهم-.
( ... بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها - مثل انتساب الناس إلى إمام،
كالحنفيِّ، والمالكيِّ، والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخٍ، كالقادريِّ والعدويِّ
ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل، كالقيسيِّ، واليمانيِّ، وإلى الأمصار،
كالشاميِّ، والعراقيِّ، والمصريِّ- فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي
بهذه الأسماء، ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم، من أىِّ طائفةٍ
كان) ج 3، ص 416.
(فكيف يجوز - مع هذا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تفترق
وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفةً ويعادي أخرى، بالظن والهوى، بلا برهانٍ من
الله تعالى وقد برّأ الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ممّن كان هكذا فهذا فعل أهل
البدع كالخوارج، الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء من خالفهم. وأمّا
أهل السنة والجماعة، فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل
من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه! ... وكيف يجوز التفريق بين
الأمة بأسماء مبتدعة، لا أصل لها في كتاب الله، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم -؟ ! وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها، ومشايخها، وأمرائها،
وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله
ورسوله. فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب) ج 3، ص 419 -421.
وأهل السنة والجماعة يعملون دائمًا في إطار من الاجتماع والتآلف ومحبة
الخير لكل المسلمين، والعفو والتجاوز عن إساءة المسيء، وخطأ المخطيء،
ودعوته إلى الصواب، والدعاء له بالهداية والرشاد والمغفرة.
(تعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: [فَاتَّقُوا اللَّهَ
وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف،
وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن
الخارجين عنه هم أهل الفرقة. وجماع السنة، طاعة الرسول.
وإني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين -فضلاً عن أصحابنا- بشيءٍ
أصلاً؛ لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً،
بل لهم عندي من الكرامة والإجلال، والمحبة والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان،
كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل، إمّا أن يكون مجتهدًا مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً.
فالأول؛ مأجور مشكور، والثاني؛ مع أجره على الاجتهاد، فمعفوٌ عنه، مغفورٌ له، والثالث؛ فالله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين ...
وتعلمون أنّا جميعاً متعاونون على البر والتقوى، واجبٌ علينا نصر بعضنا
البعض، أعظم مما كان وأشد..
وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم، وأهل العمل الصالح يشكرون على
عملهم، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم) ج 28، ص 55-57.(3/39)
مواقف " الملأ " من الدعوة إلى الله
عثمان جمعة ضميرية
عندما تأذّنت إرادة الله تعالى أن يجعل هذا الإنسان خليفة في هذه الأرض،
وأهبط آدم إليها، زوّده الله تعالى بكل ما يحتاجه لعمارة هذه الأرض للقيام بأعباء
الوظيفة التي خلقه الله تعالى من أجلها، ورسم له منهج حياته ليحقق له السعادة
الكاملة، وليقوم بالقسط والعدل: [وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ] [الحديد: 25] .
وبذلك رسم الله تعالى لهذا الإنسان طريق الهداية المستقيم، فقد خلقه الله تعالى
في أحسن تقويم: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] [التين: 4] وفطره على
التوحيد والإسلام، وأخذ عليه العهد والميثاق ليؤمننَّ بالله ربه: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْق اللهِ] [الروم: 30] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما
تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تُحسّون فيها من جدعاء؟) ، ثم يقول أبو هريرة
رضى الله عنه [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ] [1] ..
وألهمه - سبحانه - طريق الخير ليسلكه، وعرّفه طريق الشر ليجتنبه:
[ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا] [الشمس: 7-10] .
وبذلك جعل الله تعالى للإنسان هاديًا في داخل نفسه يميز فيه بالإلهام الإلهي
بين الأفكار الصالحة والسيئة، والأعمال الصحيحة والباطلة، ويهدي الإنسان إلى
الطريق السوي في الأفكار والأعمال. ولكن لما كانت هداية الفطرة غير كافية،
وكانت - لاقترانها بكثير من القوى الفكرية والخارجية التي تعمل على ترغيب
الإنسان في أعمال الشر والمعصية، وتزينها في نظره، وتجذبه إليها جذباً عنيفاً -
غير كافية في جعل الإنسان يميّز بين صراط الحق المستقيم وبين الطرق المعوجّة
المتعددة ويسلكه آمنا مطمئنًا، فإن الحق - سبحانه وتعالى - أراد الرحمة بالإنسان
وتدارك فيه هذا النقص من الخارج، بأن أرسل إليه رسله ليساعدوا هاديه الباطني
بنور العلم والمعرفة، ويوضحوا له بالآيات البينات ذلك الإلهام الفطري المبهم الذي
يتضاءل نوره في ظلمات الجهل وهجمات القوى الضالة في داخل النفس البشرية
وخارجها [2] .
ومن رحمة الله - سبحانه - بعباده أنه لا يحاسبهم بمقتضى هذه الفطرة العامة
وإنما يحاسبهم بعد إرسال الرسل:
[رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]
[النساء: 165] . [ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] [الإسراء: 15] وبذلك
تنقطع حجة أولئك الذين يريدون الاعتذار عن شركهم أو عدم التزامهم بدين الله
تعالى ومنهجه: [أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا
إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ (173)
وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الأعراف: 172-174] .
أعلام الدعوة إلى الله:
وتتابعت رسل الله تعالى إلى البشرية تدعوها إلى دين الله ومنهجه، وتجعلها
على الجادة من الطريق: [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ
فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ] [المؤمنون: 44]
وتضافرت جهود الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، على الدعوة إلى دين الله الذي
لا يقبل من الناس سواه، وحملوا كلهم راية التوحيد، وهتفوا جميعاً بقومهم: [يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: الآيات 59، 65، 73، 85] .
وقد قرر الله هذه الحقيقة قاعدة عامة في دعوة كل الرسل -عليهم الصلاة
والسلام-، بعد أن ذكرها على لسان كل منهم [3] ، فقال: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 25] [ولَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] [النحل: 36]
طبيعة دعوة الرسل وآثارها:
وهذه الدعوة التي جاء بها رسل الله تعالى هي دعوة إلى توحيد الله تعالى،
وإخلاص العبادة بكل أنواعها، لله الواحد الأحد، وهي تنديد بالكفر والشرك وأهلهما، ودعوة إلى اجتناب الأوثان والطواغيت، مهما تعددت أشكالها وألوانها وصورها،
ودعوة إلى إسقاط الأقنعة الزائفة التي يتستر وراءها أولئك الذين يتسلطون على
رقاب العباد وأموالهم، ويزعمون لأنفسهم حق السيادة عليهم، وحق التشريع لهم
والطاعة والاتباع.
وإن هذه العقيدة، وهذا الإيمان بالله -سبحانه- وبأنه هو وحده الإله الحق
الذي ينبغي أن يعبد وأن يطاع وأن يكون له الأمر والنهي، لأنه وحده هو الخالق:
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] [أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ] [الأعراف: 54] .
وأن كل ما عداه، من الآلهة التي يعلق الناس عليها آمالهم ويعكفون حولها،
إنما هو زيف وباطل، وأن الله -سبحانه وتعالى- هو مالك الملك المتصرف بكل
شيء: [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ
مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 26] .
وأنه هو وحده القادر الرازق المحيي المميت، مقدّر الآجال، وإليه المرجع
والمصير، وأن ما عداه، مما يدعو الناس من آلهة وما يخافون في الأرض من
دون الله إنما هو زيف وضلال وغثاء [4] : [لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِن ظَهِيرٍ] [سبأ: 22] .
هذه العقيدة الواضحة الناصعة، تكشف الحقيقة، وتزيل الغشاوة عن العيون،
وتهتك الأقنعة التي يختبئ وراءها الطغاة، وتقوّض عقائدهم، وتزلزل عروشهم،
وتكشف زيفهم، فهي خطر عظيم يهدد سيادتهم، ويقلق أمنهم وراحتهم، ويقلب
الأوضاع التي تعارفوا عليها، والقيم والتقاليد التي توارثوها عن آبائهم وأسلافهم
جيلاً بعد جيل، وتنزع منهم السلطان الذي يتسلطون به على رقاب العباد فيذلونهم
ويحتقرونهم، ويتسلطون به على أرزاقهم وأموالهم، فيأكلون بالباطل والإثم
والعدوان.
هذه العقيدة تجعل الناس كلهم سواسية أمام الله تعالى، لا يتمايزون بالأنساب
ولا يتخايلون بالألقاب.. السادة والعبيد سواء.. لا يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى
ولا يتمايزون إلا بالسبق والبلاء، فالكل خلقوا من أصل واحد ويعبدون رباً واحدًا:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً] [النساء: 1] .
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
من الواقع التاريخي:
ولقد عبر عن تلك المعاني كلها ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن،
والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم، وظهر في كلامهم لرستم قائد الفرس أثر هذه
الدعوة في النفوس:
قال رستم لربعي بن عامر رضي الله عنه: ما جاء بكم؟ .
قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه
إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه
يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً، حتى نُفْضي إلى موعود الله.
قال: وما موعود الله؟
قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال مَنْ أبى، والظفر لمن بقي.
ولما سأله رستم، بعد نقاش: هل أنت سيد قومك؟ .
قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على
أعلاهم.
وفي اليوم الثاني بعثوا اليهم حذيفة بن محصن -رضي الله عنه-، فجاء
حتى وقف على بساط رستم، فقال له: ما جاء بكم؟ .
قال: إن الله -عز وجل- منّ علينا بدينه وأرانا آياته، حتى عرفناه، وكنا له
منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها:
الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (الجزية) ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو
المنابذة..
فلما كان من الغد أرسل رستم إلى المسلمين: ابعثوا لنا رجلاً، فبعثوا إليه
المغيرة بن شعبة، فأقبل المغيرة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة
بالذهب، وبُسُطُهم على غلوة (قدر رجعة السهم) لا يصل إلى صاحبهم، حتى يمشي
غلوة.، وأقبل المغيرة حتى جلس على سريره ووسادته فوثبوا عليه وأنزلوه
وضربوه ضرباً ليس شديداً، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أَسْفَه
منكم! إنّا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً
لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم
أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه،
ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن
مُلكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقال السِّفْلَة [5] : صدق والله العربي، وقال الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا
يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغِّرون أمر
هذه الأمة.
ثم تكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه، ورد على رستم كلامه.. ثم ذكر مثل
الكلام الأول [6] .
تلكم هي كلمات ربعي وإخوانه، رضي الله عنهم، صدى على طريق الدعوة
إلى الله، تنير الطريق أمام الناس وتفتح عقولهم وقلوبهم، فلا عجب أن ينزع إليها
العبيد وعامة الناس في فارس من بطانة رستم، وأن يخافها دهاقين فارس، أي
الرؤوساء فيها المتسلطون على أولئك العبيد!
الناس أمام الدعوة أصناف:
ولو رحت تستقرىء أخبار الرسل ودعواتهم، وتتقص تاريخ حركات
الإصلاح، لوجدت أن مواقف الناس من الدعوة لا تخرج عن ثلاثة مواقف لثلاثة
أصناف من الناس:
أ- الصنف الأول: وهم أولئك الذين طهّر الله تعالى نفوسهم من الكبر
والغرور، وفتح قلوبهم للهدى والخير فعقلوا ذلك عن الله ورسوله، وأبصروا أمام
الطريق، وآمنوا بالحق المبين وعاشوا من أجله، وضحوا في سبيله بالنفس
والنفيس، فإن الحق قد ملك عليهم نفوسهم، فهم لا يتحركون إلا بدافع الحق الذي
آمنوا به وعاشوا به وله وهذا الإيمان هو النور الذي يضيء لهم الطريق في الحياة
فيسلكونه آمنين مطمئنين، [الَذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 182] .
وهؤلاء هم الذين تولاهم الله برعايته وبصرهم الطريق، فأخرجهم من ظلمات
الكفر إلى نور الإيمان:
[اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ] [البقرة: 257] .
فلا عجب بعد هذه العناية والرعاية من الله تعالى لما رأى منهم الاستعداد للإيمان أن
يكونوا من السابقين الذين يسارعون إلى الإيمان بدعوات الرسل ويناصرونها،
وأولئك هم المقربون، فضلاً من الله ونعمة: [والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ
المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] [الواقعة: 10-12] .
وقد نوه الله تعالى بمواقف أولئك المصدقين المسارعين إلى الإيمان السابقين
إليه، فقال عن الذين آمنوا بصالح -عليه الصلاة والسلام-:
[قَالَ الملأ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ
أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ] [الأعراف: 75] .
وقال عن لوط عندما سارع إلى تصديق أبي الأنبياء والإيمان به، عليهما
السلام:
[فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي إنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
[العنكبوت: 26] .
وقال عن الحواريين الذين آمنوا بعيسى -عليه السلام-، وأسلموا معه لله رب
العالمين:
[وإذْ أَوْحَيْتُ إلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا
مُسْلِمُونَ] [المائدة: 111] ، [كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي
إلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَت
طَّائِفَةٌ] [الصف: 14] ، وقد امتدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - مواقف
السابقين إلى دعوته، المسارعين إلى الإيمان به، فقال مثلاً عن أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه-: (يا أيها الناس إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت،
وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي
صاحبي) [7] .
وعن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سابق
العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش " [8] .
ب -الصنف الثاني: أولئك الذين امتلأت نفوسهم كبراً وغروراً، ومردوا
على الشقاق، واستعلوا في الأرض بغير الحق.. أولئك هم الذين ماتت ضمائرهم،
وقست قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فأشربوا الكفر والعناد بطغيانهم،
فوقفوا بكل عناد يعارضون دعوات الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام،
ويحاربونها بكل وسيلة يمكن أن تتفتق عنها عقولهم الشيطانية الماكرة، ولن
تستطيع نفوسهم هذه أن تصغي إلى كلمة الحق المجردة، ولن يسمحوا لها أن تطرق
آذانهم، وقوم نوح مثلٌ صارخ على ذلك:
[وإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ
وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] [نوح: 7]
بل إنهم يصرفون الآخرين عن الدعوة، وعن الحق، لئلا ينعموا به: [وقَالَ
الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت: 26] .
إنهم يتآمرون ويمكرون ويكيدون:
[ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وداً ولا سُوَاعاً ولا
يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً] [نوح: 22 - 23] ، [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وأَكِيدُ كَيْداً]
[الطارق: 15-16] .
أولئك هم الملأ الذين يتصدون لدعوات الرسل، عليهم الصلاة والسلام
بالإعراض والتكذيب والحرب المشبوبة المتنوعة الوسائل والأهداف، هم ومن
يتبعهم من الرعاع: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ] [الصف: 8] .
ج - الصنف الثالث:
وهم الذين لم يكن لهم إيمان الصنف الأول وأخلاقه العالية ونفسه الطيبة
التي تدفع إلى الإيمان، ولم يكن لهم جرأة الصنف الثاني المكذبين للدعوات، ولكنهم شر منه، يشتركون معهم في خبث النفس وفساد الفطرة والطوية والحنق على الرسل، ويمتازون عنهم بالجبن والخور وضعف القلب، فلا يستطيعون أن يصارحوا بأنهم العدو اللدود، ولا أن يظهروا أمام المؤمنين بذلك المظهر فيضطرهم ض عف عقيدتهم وفقدانهم للجرأة أن يداروا ويواربوا، فيكونون بين الصديق والعدو والمناصر والمحارب، إذا رأوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان، وإذا لقوا الكافرين قالوا لهم: إنّا معكم [9] .
وأولئك هم المنافقون الذين قال الله تعالى عنهم:
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ
اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ
اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ
قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ
يَعْلَمُونَ * وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا
نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] [البقرة: 8 - 16]
الصنف الثاني فريقان:
وإذا عدنا إلى الصنف الثاني الذي يكذب بدعوة الرسل، عليهم الصلاة
والسلام، ويناصبها العداء نجد أنه ينقسم إلى فريقين:
اً - السادة والأشراف أو الملأ من القوم.
ب -الأتباع أو الضعفاء الذين يتبعون الملأ المستكبرين.
كلاهما يكذب بدعوة الرسول، ويصد عنها ويعرض، ولكن الذي يأخذ زمام
المبادرة ويحمل راية التكذيب والعصيان ويلوحون بها للناس لينضموا إليهم، هم
الملأ والسادة. أما الأتباع والضعفاء، فإنهم ينقادون لهم ويسيرون في القطيع،
يهتفون باسم السادة ويصفقون لهم، ويؤمنون على كلماتهم، ويطيعونهم فيما يأمرون، ويصدقونهم فيما يخبرون ويفترون، ويؤمنون بما يزيفون لهم ويزورون، فإنهم
اعتادوا على الذل والخنوع، فلن يجرؤوا على رفع رؤوسهم عالية أمام السادة
والكبراء، ولن يرتفعوا بنفوسهم إلى آفاق عالية لأنهم اعتادوا العيش في السفح،
واستمرؤوا الذل والعبودية الخانعة، وكرهوا الحرية.
ولكنهم لا يلبثون طال الوقت أم قصر أن يتحسسوا الحقيقة، ويتعرفوا السبيل، ويشعروا بأنهم غارقون في عبودية ذليلة، ينبغي أن يرتفعوا عنها، ليكونوا عبيداً
لله تعالي وحده، وهذه العبودية الكريمة لله وحده تبعث في نفوسهم العزة والكرامة
وعندئذ يتحررون من جديد، بل يولدون من جديد، ويشعرون بإنسانيتهم من جديد،
فإن دعوة الإسلام تحررهم من كل عبودية لغير الله عندما تجعلهم عبيداً لله تعالى
وحده.
وبذلك يستعلون على أولئك الملأ والطواغيت، ويهزؤون بكل جبروتهم
ومتاعهم المادي وسلطانهم ووعيدهم وتهديدهم [10] .
وإن موقفاً رائعاً كهذا الموقف، وقفه السحرة من فرعون وملئه عندما لامس
الإيمان شغاف قلوبهم، وصاغهم صياغة جديدة، لما رأوا البينات من ربهم، وهم
أنفسهم الذين كانوا قبل قليل يطلبون من فرعون - بكل ذلة وطمع - أن يجعل لهم
شيئاً من الأجر والمال إن كانوا هم الغالبين لموسى وهارون! وفرعون يمتنُّ عليهم
فيعدهم بذلك، ويزيد تفضلاً عليهم ومنة، فيعدهم أيضاً بالقرب منه، كأن يجعلهم
من حاشيته وبطانته ومستشاريه الخاصين! ! ولو كان عنده إذاعة وتلفزيون
وصحف ومجلات، كما يمتلك ذلك طغاة العصر، لكانوا أول من يظهر على شاشة
التلفزيون بجانب فرعون وهامان، أما الإذاعة فتخصص الساعات الطوال لتبث
عنهم ولهم الأحاديث من زخرف القول، ولظهرت الصحف والمجلات محلاة
بصورهم الملونة، ولتسابق الصحفيون لإجراء المقابلات والأحاديث الصحفية مع
أولئك الأبطال، الذين غدوا من أركان الدولة، ولهم الفضل في تثبيت كرسي الحكم
لفرعون.... .!
ولكن ذلك كله لم يحدث، فإرادة الله تعالى وقدره شاءت غير ذلك، فتغيرت
الصورة كلها، وتغيرت النفوس، واختلف الموقف ووقع ما لم يكن بالحسبان،
وانقضت كلمات المؤمنين -لما آمنوا- كالصاعقة على رأس فرعون. ويحكي الله
تعالى لنا الموقف في كتابه الكريم، فيقول:
[وجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إنَّ لَنَا لأَجْراً إن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ
وإنَّكُمْ لَمِنَ المُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إمَّا أَن تُلْقِيَ وإمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ * قَالَ
أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وأَوْحَيْنَا إلَى
مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون
* فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا
لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * ومَا تَنقِمُ مِنَّا
إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]
[الأعراف: 113 -126]
[قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ
قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقَى * إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ
فِيهَا ولا يَحْيَى * ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى]
[طه: 72 -75] .
ذاك هو شأن العامة، والأتباع أو الضعفاء.. ولكن ما هو شأن الملأ؟ هذا ...
ما نريد أن نقف عنده وقفة متأنية متأملة، نعود فيها إلى كتاب الله الكريم وسنة نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وسيرته العطرة، وسيرة الأنبياء
السابقين، لنتبين معالم شخصية هؤلاء (الملأ) الذين أكثر القرآن الكريم من ذكرهم وبين مواقفهم وأساليبهم المتنوعة التي يحاربون بها كلمة الحق ودعوة
السماء على مدار التاريخ، ثم نلتفت إلى الحاضر لنرى هل كانت مواقف الملأ تلك فلتة عابرة أو أمراً طارئاً، أم أن الأمر سنة إلهية ومنهج ثابت في الدعوات؟ وعندئذ ينبغي للعاملين في حقل الدعوة ألا يغيب ذلك عن بالهم، وأن يعرفوا: أن الملأ هم الملأ.. في كل زمان وفي كل مكان وأمام كل دعوة.. يقفون الموقف ذاته.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، فتح الباري3/219، 246، مسلم في القدر4/2047 برقم
(2658) ، والحديث أخرجه أيضاً أبو داود في السنة، والترمذي في القدر، ومالك في الجنائز وأحمد في المسند 2/315، 346، وانظر شرح السنة للبغوي: 1/154 - 162، درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، وما كتبه المحقق حول الحديث: 8/361-366.
(2) الحضارة الإسلامية لأبي الأعلى المودودي ص167-168، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 4 - 13، في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله 6/806 - 812، دار الشروق.
(3) انظر بالتفصيل بحثاً لنا بعنوان " إن الدين عند الله الإسلام "، في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 15، تصدر عن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالرياض.
(4) اقرأ - إن شئت - طريق الدعوة في ظلال القرآن، لأحمد فايز 2/79 وما بعدها.
(5) السِّفلَة من الناس - بالكسر والسكون وفتح الأول وكسر الثاني: أسافلهم وغوغائهم " المعجم الوسيط 1 / 434.
(6) انظر تاريخ الطبري 3/ 520 - 525 بتحقيق محمد بن الفضل إبراهيم، البداية والنهاية لابن كثير 7/39 - 40.
(7) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة1/240، برقم 297، تحقيق وصي الله عباس والبخاري في كتاب فضائل الصحابة6/18 برقم 3661 من فتح الباري.
(8) فضائل الصحابة2/909، برقم1737 للإمام أحمد بن حنبل، والطبراني عن أنس وأبي أمامة وإسناده حسن، مجمع الزوائد للهيثمي9/305.
(9) انظر دعوة الرسل إلى الله تعالى، لمحمد أحمد العدوي، ص 25.
(10) انظر ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا المعنى في العبودية مع مقدمة المحقق الفاضل الأستاذ عبد الرحمن الباني، واقرأ فصل: نقلة بعيدة، استعلاء الإيمان في معالم في الطريق لسيد قطب -رحمه الله-.(3/44)
أدب وتاريخ
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
(3)
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره:
في الحلقة السابقة عرض لنا الكاتب طرفاً من حياة العرب في الجاهلية، من
خلال استعراض شعرهم الذي حفل بدقيق حياتهم وجليلها، فذكر المصنفات من
القصائد ومشاركة الهجاء والرثاء في إذكاء نيران الحروب المشبوبة، وكذلك ما
حفل به الشعر الجاهلي من وصف تفصيلي لطرق القتال وأدواته كالسيوف والرماح
والخيل، وهو غالب أغراض شعر الشعراء الفرسان، وفي هذا الجو كانت تكثر الأسرى والسبايا، وكذلك وجد من الشعراء من يغلب عليه جانب الحكمة والأناة،
فيضمن شعره الدعوة إلى نبذ الحروب ووصفها الوصف الذي ينفر الناس منها
ويجعلهم يطيلون التفكير قبل خوض غمارها.
4 - الأحلاف:
وفي هذه البيئة الحربية التي كان يشيع فيها الفزع والهول، ويعم
فيها الاضطراب، كان الفرد يبحث عن الأمن في ظل القبيلة، وكانت هذه القبيلة تلجأ إلى التحالف مع القبائل الأخرى، إذ تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد عنها العدوان.
وربما آثرت القبيلة بدافع المصلحة أو الجوار أو الضعف هذا الحلف، بمجرد
أن تدخل القبيلة في حلف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق فهم ينصرونها على
أعدائها، ويردون كيدهم عنها، وكثيراً ما كنا نجد أحلافاً تضعف لتحل محلها
أحلاف أخرى، وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف لقوتها وسميت لذلك باسم جمرات
العرب، منها: بنو عامر بن صعصعة، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبة،
وبنو عبس، فإذا تحالفت أطفئت [1] .
وكانت هذه القبائل تتفاخر بنفسها لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها لقوتها
وكثرة عددها.
وكانت بعض القبائل تشرك مواليها معها في حروبها كما فعلت مذحج في يوم
الكلاب، وإلى ذلك يشير ربيعة بن مقروم في حرب مذحج مع تميم: [2]
وساقت لنا مذحج بالكُلاب ... مواليها كلها والصّميما
وكذلك فعلت قريش عندما فُتحت مكة المكرمة إذ استعانوا بالأحابيش لمعاونتها.
والأحلاف مأخوذة من الحلِف وهو اليمين، إذا كانوا يوثقون هذا الحلف بالدم
أحياناً ليحل محل النسب، ومن هؤلاء حلف لعقة الدم [3] .
وأحياناً كانوا يوثقون بالماء كما حصل في حلف الفضول [4] ، وسببه أن
رجلاً من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل ولم يعطه الثمن
فوقف على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس ونادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نأئي الدار والنفر
ومحرِمٌ أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجر
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان وتحالفوا
وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه، ثم مشوا
إلى العاص بن وائل وانتزعوا منه سلعه الزبيدي فدفعوها إليه.
وفي السيرة النبوية لابن هشام: أن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لقد شهدت في دار عبد الله
بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت)
ويعتبر هذا الحلف من خير أحلاف الجاهلية لأنه كان نصرة للمظلوم وردعاً
للظالم.
أما حلف المطيبين فقد غمسوا أيديهم بجفنة فيها طيب، وهم القبائل
التي ناصرت بني عبد مناف ضد بني عبد الدار ومن حالفهم، إلا أنهم اصطلحوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف، وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الأمر على ذلك واستمر [5] .
وكانوا أحياناً يتحالفون على النار، ولعل ذلك سرى إليهم من المجوسية
الفارسية، ومن هؤلاء حلف المحاش، كما فعلت قبائل مرة بن عوف الذبيانيين
حينما تحالفوا عند نار ودنوا منها حتى محشتهم فسموا بذلك [6] .
ونجد الشعر الجاهلي عند كبار الشعراء، مخلداً هذه الأحلاف مبيناً أهميتها.
فالنابغة الذبياني يدافع عن حلف قومه ذبيان مع بني أسد، إذ حاول عيينة ابن
حصن زعيم ذبيان أن ينقض هذا الحلف ويتعاون مع خصومهم من عبس فقال
النابغة قصيدة طويلة يخاطب فيها عيينة منها [7] :
إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لستُ منك ولستَ مني
ثم يمدح بني أسد ويعدد مآثرهم ويكون وفياً لحلفائه إذ يقول:
فهم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي
وهم ساروا لحِجرٍ في خميس ... وكانوا يوم ذلك عند ظني
إلى أن يقول:
ولو أني أطعتك في أمور ... قرعت ندامة من ذاك سنّي
وبشامة بن الغدير يحرض قومه بني سهم بن مرة على ألا يخذلوا حلفاءهم
الحْرقة وألا يتركوهم وحدهم أمام غطفان.. وأكد الحلف وشده الحصين بن الحمام
المري.. وذكر بشامة هذا الحلف في قصيدة منها [8] :
فإمّا هلكتُ ولم آتهم ... فأبلغ أماثلَ سهم رسولا
بأن قومكم خيروا خصلتين ... كلتاهما جعلوها عدولا
خزي الحياة وحرب الصديق ... وكلٌ أراه طعاماً وبيلا
ويعتبر الحصين بن الحمام المري من أوفياء العرب وكان سيد قومه وذا رأي
وقيادة.. وفي نصرته لحلفائه وجيرانه يقول [9] :
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأن كان يوماً ذا كواكبَ مظلما
صبرنا وكان الصبر فينا سجية ... بأسيافنا تَقطَعن كفاً ومِعصَما
يفلِّقن هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
لقد أعز العرب حلفاءهم، إذ كان الحليف يعتبر من العشيرة حتى أن قريشاً
كانت تترفع عن تزويج بناتها من غيرها إلا إذا كان من حلفائها.
وافتخروا بحماية الجار حتى قالوا: فلان منيع الجار حامي الذمار [10] لأنها
دليل على القوة والرهبة. قال عبيد ابن الأبرص [11] :
نحمي حقيقتنا ونمنع جارنا ... ونلف بين أرامل الأيتام
ولم يكن من السهل أن ينقض حامٍ ذمة عقدها لجاره فإنهم كانوا إذا غدر فيهم
أحد رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به، وفي ذلك يقول قطبة بن أوس بن
محصن (الحادرة) :
أسُمَيُّ ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع
إنا نعف فلا نُريب حليفنا ... ونكف شح نفوسنا في المطمع [12]
ويذكر الميداني أنهم كانوا يقولون: الدم الدم والهدم الهدم، يعني أبايعك على
أن دمي دمك وهدمي هدمك [13] .
وهكذا كانت أحلافهم مظهراً من مظاهر الدفاع عن النفس، في بيئة الحرب
والقتال، وسط صحراء ملتهبة وقبائل متناحرة، ونادراً ما كانت الأحلاف دفاعاً عن
المظلوم، كما هي الحال في حلف الفضول.
5 - أيام العرب:
كان العرب يسمون حروبهم أياماً، لأنهم يتحاربون نهاراً، فإذا حل اليوم
الثاني عادوا إلى القتال، وتسمى هذه الحروب والأيام غالباً بأسماء الأماكن التي
وقعت فيها مثل يوم الكلاب، وعين أباغ، وذي قار، وبأسماء الأشخاص أو
الحوادث البارزة فيها، كيوم البسوس، ويوم حليمة، وأيام داحس والغبراء، أو
باسم الصفة التي تميزت فيها كيوم تحلاق اللمم، ويوم الفجار.
وأيام العرب كثيرة بحيث يقال [14] : إن أبا عبيدة معمر بن المثنى
(توفي 211 هـ) ألف كتاباً جاء فيه ذكر مائتين وألف يوم، ولم يصل إلينا هذا الكتاب، ولكن كتابه شرح النقائض حفظ طائفة كبيرة من تلك الأيام، وفي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الأول طائفة كثيرة منها وكذلك كتاب الأغاني والعقد الفريد.
(تعتبر هذه الأيام في الجاهلية مصدراً خصيباً من مصادر التاريخ، وينبوعاً
صافياً من ينابيع الأدب، ونوعاً طريفاً من أنواع القصص بما اشتملت عليه من
الوقائع والأحداث وما روي في أثنائها من نثر وشعر) .
(وهي مرآة صافية لأحوال العرب وعاداتهم، وأسلوب الحياة الدائرة بينهم..
في الحرب والسلم، والاجتماع والفرقة والفداء والأسر) [15] .
لقد امتلأت كتب الأدب، ودواوين الشعر، بشعراء ندبوا الصرعى والقتلى
من أشرافهم، وذبوا عن أحسابهم، أو هجوا خصومهم، كعنترة بن شداد، وعامر
بن الطفيل، والمهلهل بن ربيعة وغيرهم.
إن الحروب الدامية كانت سمة العصر الجاهلي، وهي كثيرة، وسوف نشير
إلى الأيام المشهورة بين قبائل العرب المختلفة، كنماذج توضح لنا القصد، وتجلو
لنا العبرة.
1 - فمن أيام العرب والفرس:
أ - يوم الصفقة [16] : (ويسمى أيضاً يوم المشقّر) .
وكان لكسرى على تميم، حيث إن كسرى أصفق على بني تميم الباب في
حصن المشقّر، وهو حصن في البحرين إذ خُدع الناس بالميرة وصاروا يدخلون
رجلاً رجلاً إلى عامل كسرى على البحرين (المكعبر) وهو فارسي ... حتى انتبه
أحد بني تميم وقال: يا قوم أين عقولكم فوالله ما بعد السلب إلا القتل وضرب بسيفه
سلسلة كانت على باب الحصن فقطعها وانفتح الباب، وإذا الناس يُقتلون فثارت بنو
تميم وفي ذلك يقول الأعشى يمدح هوذة وهو رجل من بني حنيفة أشار على كسرى
بفكرة الميرة وحيلة الحصن [17] :
سائل تميماً به أيام صَفقَتهم ... لمّا أتوهُ أَسارى كلهم ضَرعَا
وسطَ المشَقَّر في عيطاءَ مظلمةٍ ... لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتَنَعا
أصابهم من عقاب الملك طائفةٌ ... [18] كل تميم بما في نفسه جُدِعا
وهي قصيدة طويلة يمدح فيها هوذة ابن علي الحنفي، ويعتبر أنه خلص مائة
من خيارهم ... وذلك عندما علم هوذة بدخول بني تميم الحصن.
ب- يوم ذي قار [19] :
وهو من أهم الأيام بين العرب والفرس، وذو قار ماء لبني بكر بن وائل
قريب من الكوفة، ومن أسبابها: أن كسرى كان قد غضب على النعمان بن المنذر، أمير الحيرة، بسبب عدي بن زيد الذي قتله النعمان، في قصة طويلة ثم فر
بعدها النعمان وحاول أن يلتجيء إلى قبائل العرب، إلى أن استودع ودائع عند
العرب، ووضع أهله وسلاحه ودروعه عند هانيء بن قبيصة بن هانيء بن
مسعود الشيباني، ثم جاء رسول كسرى بالأمان على النعمان، فخرج الأمير حتى
أتى كسرى في المدائن فأمر به فحبس فمات في حبسه، أو قتل تحت أرجل الفيلة،
وعين بدلاً منه على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي.
بعث كسرى إلى هانيء الشيباني: إن أموال عبدي النعمان عندك فابعث بها
إلى، فاعتذر هانيء بأنها أمانة ولن يسلمها.
جهز كسرى عندها جيشاً عقد فيه للنعمان بن زرعة التغلبي على تغلب والنمر، ولخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة الطائي على
بقية العرب، فكانت العرب ثلاثة آلاف، وعقد للهافَرز على ألف من
الأساورة [20] .
وبعث كسرى معهم اللطيمة [21] ، وكانت تخرج بالبضائع، وأمرهم إذا
شارفوا بلاد بكر ودنوا منها أن يبعثوا النعمان التغلبي يخيرهم بين ثلاث: إما أن
يعطوا السلاح وما بأيديهم ويحكم فيهم الملك بما شاء، وإما أن يتركوا الديار، أو أن
يأذنوا بحرب.
وكان كسرى قد أوقع ببني تميم يوم الصفقة والعرب خائفة منه وجلة.
اجتمعت قبائل بكر في بطحاء ذي قار، وعينوا حنظلة بن ثعلبة العجلي قائداً على
حربهم، وأخرجت الدروع وفرقت في القوم المحاربين.
ولما تقارب الزحفان قام حنظلة وقطع وضن الهوادج [22] فسقطن على
الأرض.. . وقال: ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته، ثم ضرب على نفسه قبة في
بطحاء ذي قار، وآلى لا يفر حتى تفر القبة.
ثم احتدم القتال بين العجم ومن معهم من العرب وبين قبائل بكر بن وائل
ومنهم بنو شيبان وبنو عجل وغيرهم. وقتل الحوفزانُ الهامرزَ مبارزة، ثم أرسلت
قبيلة إياد إلى بكر تخيرها إما أن تهرب وتترك جيوش كسرى، أو تفر حين ملاقاة
القوم، فعندما التقى الناس انهزموا وفتوا في عضد الأعاجم ومن والاهم، وانهزمت
الفرس وأحلافهم.
واتبعتهم بكر يقتلون بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا
السواد ثم دخلوه في طلب القوم.
وقد ذُكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه نبأ انتصار ربيعة
قال: (اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا) [23] .
وفي هذا اليوم يقول أعشى قيس مفتخراً [24] :
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكرٌ، فينصرفوا
وجند كسرى غداةَ الحِنْو [25] صبحهم ... منا كتائبُ تزجي الموت فانصَرفُوا
لو أنّ كل مَعَدٍ كان شاركنا في يوم ذي قار ما أخطاهمُ الشرفُ
فالحرب إذن كانت قبلية، لا عربية فارسية، بكر بن ربيعة وليست قبائل معدّ
كلها التي ساهمت في هذا القتال وفي جانب الفرس كانت قبائل عربية كبيرة كتغلب
وطيء قد شاركت في هذا اليوم، متزلفة لكسرى، ومنتقمة من بكر العربية.
وقال الأعشى أيضاً يمدح بني شيبان لأنهم كانوا من أحسن الناس بلاء قصيدة
طويلة منها [26] :
فدى لبني ذهل بن شيبانَ ناقتي ... وراكُبها يومَ اللقاء وقَلّتِ [27]
همُ ضربوا بالحنو، حنوِ قُراقر ... مقدمةَ الهامَرْز حتى تولّتِ [28]
تناهتْ بنو الأحرار إذ صبرتْ لهم ... فوارسُ من شيبانَ غُلبٌ فولَّتِ [29]
وفي الأصمعيات قصيدة طويلة قالها عمرو بن الأسود تحدث فيها عن ذي قار، ووصف حومة الحرب وتساقط الفرسان ثم سرد أسماء القبائل المشتركة في هذه
الحرب [30] .
2- أيام القحطانيين فيما بينهم [31] :
أ- ما بين المناذرة والغساسنة:
كانت أيامهم كثيرة لأنهم صنائع للفرس والروم من جهة، ولأنهم قبائل
متناحرة من جهة أخرى، حسب النظام القبلي السائد بينهم آنذاك، ومن أهمها:
يوم عين أُباغ:
وهي واد وراء الأنبار، التقى فيه الحارث الأعرج بن جبلة ملك الغساسنة
بالمنذر بن ماء السماء ملك المناذرة في الحيرة، حيث أن المنذر كان قد سار في
قبائل معدّ كلها، إلى الحارث، بعد أن أرسل إليه يطلب منه الفدية لينصرف بجنوده، أو أن يأذن بحرب، ثم التقى الجيشان، وبدأت الحرب بالمبارزة إذ أخرج المنذر
وقدم علم الحارث بالخدعة، وانهزم جيش المناذرة بعد أن قتل المنذر في هذا اليوم، ثم سار الحارث وجيوشه إلى الحيرة فنهبها وأحرقها.
وقد وصف هذه الحرب عدىُّ بن رعْلاءَ الغساني إذ يقول: [32]
ربما ضربةٍ بسيفٍ صقيل ... دونَ بصرى وطعنة نجلاء [33]
وغموسٍ تضل فيها يدُ الآ ... سيِ ويعيا طبيبها بالدواء [34]
فصبرْن النفوس للطعن حتى ... جرتِ الخيلُ بيننا في الدّماء
إلى أن يقول في شأن من تركته الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل فحياته
ليست إلا موتاً، وسار البيتان مسير الحكمة لكل حياة ذليلة رخيصة:
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء
إنما المَيْتُ من يعيشُ ذليلاً ... سيئاً بالهُ قليلَ الرجاءِ
حاول المنذر بن المنذر أن يثأر لأبيه فكان يوم حليمة، وفي هذا اليوم ضرب
المثل: ما يوم حليمةَ بسرّ والتقى الجيشان في مرج حليمة، ومكثت الحرب أياماً
ينتصف بعضهم من بعض إلى أن دعا الحارث ابنته واسمها حليمة وكانت من أجمل
النساء، وأعطاها طيباً لتطيب مَنْ يمر بها من جنده ثم نادى: يا فتيان غسان من
قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي.. وانهزمت لخْم وجيش المنذر، وقتل المنذر على يد
لبيد بن عمرو الغساني ثم قُتل هو أيضاً، وانصرفت غسان بأحسن الظفر بعد أن
أسروا كثيراً ممن كانوا مع المنذر من العرب، وكان منهم مائة من بني تميم فيهم
شأس بن عبدة، ولما سمع أخوه علقمة الفحل وفد إلى الحارث الغساني مستشفعاً
وأنشده قصيدة. طويلة مطلعها [35] :
طحا بك [36] قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيْدَ الشبابِ عصر حان مشيبُ
ثم يمدح النعمان ويُنَوِّه بمواقفه في الحرب، وذكر الشؤم الذي أصاب أعداءه
بسبب التقتيل والهزيمة ومن ثم طلب إنقاذ أخيه من الأسر يقول منها: فوالله لولا فارسَ الجَوْن منهم ... لآبوا خزايا، والإياب حبيبُ [37] فقاتلتَهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروبُ [38] وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة ... فحُقَّ لشأس من نداك ذَنوبُ [39]
ولما بلغ قَولَه: فحق لشأس من نداك ذنوب.. . أمر الملك بإطلاق شأس
وسائر أسرى بن تميم.
ب- الحروب ما بين الأوس الخزرج:
كانت الحروب كثيرة بين هاتين القبيلتين ومن أهمها:
حرب سُمَيْر:
وسببها أن رجلاً من ذبيان اسمه كعب من بني ثعلبة نزل على مالك بن
العجلان الخزرجي وحالفه وأقام معه. ثم خرج كعب إلى سوق بني قينقاع فرأى
رجلاً من غطفان معه فرس وهو يقول: ليأخذ هذه الفرس أعز أهل يثرب. فقال
الناس فلان أو فلان حتى قال كعب: مالك بن العجلان أعز أهل يثرب، وكثر
الكلام، ثم قبل الرسول قول كعب الثعلبي ودفع الفرس إلى مالك بن العجلان
الخزرجي.. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي أفضلكم؟ فغضب رجل من الأوس
يقال له: سمير بن يزيد وشتمه ثم افترقا:
قصد كعب سوقاً لهم بقباء فقصده سمير وقتله..
طالب مالك بن العجلان بقتل سمير أو بدية حليفه.. رفضت الأوس أن تدفع
إلا دية الحليف وهي النصف.. حكموا بينهم عمرو بن امرئ القيس جد عبد الله بن
رواحة -رضي الله عنه- وهو خزرجي فقضى بنصف الدية.. رفض مالك
واستنصر قبائل الخزرج.. وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة
والنضير والتقوا قرب قباء واقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا ثم التقوا ثانية واقتتلوا
حتى حجز الليل بينهم وكان الظفر للأوس على الخزرج.
واستمرت الأوس والخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون
القتال، وكثرت أيامهم ومواطنهم.. كيوم حاطب [40] ، ويوم كعب، ويوم بعاث،
وغيرها.
وأخيراً حكموا بينهم ثابت بن المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت - رضي
الله عنه- وحكم بأن يؤدي حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنُّة فيهم بعده ما
كانت عليه؛ الصريح على ديته، والحليف على ديته، وأن تعد القتلى وتعطى
الديات لمن زاد قتلاهم فرضى مالك وسلمت الأوس وتفرقوا.
ومن أواخر أيامهم المشهورة:
يوم بُعاث:
وسببه أن سيد الخزرج وهو عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه: إن أباكم
أنزلكم منزلة سوء والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير،
وأقتل رهنهم [41] وأرسل إلى يهود في ذلك، وهموا بالخروج من ديارهم حتى
نهاهم كعب بن أسيد القرظي، واعترض عبد الله بن أبي بن سلول على هذا الأمر
ثم التقت الأوس ومعها حلفاؤها من اليهود، مع الخزرج ومعها حلفاؤها من أشجع
وجهينة، وكان القتال شديداً دارت الدائرة فيه على الخزرج وأُحرقت دورهم
ونخيلهم من قبل الأوس وأجار سعد بن معاذ أموال بني سلمة جزاء معروف سابق
لهم يوم الرعل.
وفي هذا اليوم يقول أبو قيس بن الأسلت (وهو من شعراء الجاهلية المجيدين
وسيد الأوس وصاحب حربها في يوم بعاث) ، وقد عاد إلى امرأته بعد أن مكث في
الحرب أشهراً حتى شحب لونه وتغير فدق الباب، ولما فتحت له زوجته أنكرته
وقال: أنا أبو قيس، فقالت: والله ما عرفتك حتى تكلمت. قال قصيدة طويلة
منها [42] :
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت إسماعي [43]
أنكرته حين توسمِته ... والحربُ غولٌ ذاتُ أرجاعى [44]
لا نألمُ القتل ونجزي به ... الأعداء كيل الصاعِ بالصاعِ
ولقد سطر لنا الشعر حروب الأوس والخزرج، ونظرة في جمهرة أشعار
العرب نجد أن المُذْهبات السبع لشعراء هاتين القبيليتين كلها قيل في هذه الحروب.
وفي حرب سُمَيْر قال مالك بن العجلان يعتب على قومه من بني الحارث
لأنهم رفضوا نصرته غضباً لرده قضاء عمرو بن امرئ القيس ويحرض بني
النجار على نصرته [46] :
إنّ سمُيراً أرى عشيرته ... قد جدبوا دونه وقد أنِفُوا
لكنّ موالَّي قد بدا لهمُ ... رأيٌ سوى ما لديّ أو ضعُفوا
ثم يفتخر بقوتهم في الحرب وبعزتهم إذ يقول:
نحن بنو الحرب حين تشتجرُ ال ... حربُ، إذا ما يهابُها الكشُفُ [47]
ما قصرّ المجدُ دون محتدنا ... بل لم يزل في بيوتنا يكفُ [48]
إنّ سميراً عبدٌ بغى بطراً ... وأدركتهُ المنية التُّلَفُ [49]
ويشير قيس بن الخطيم شاعر الأوس إلى حرب حاطب، وكذلك حرب بعاث
في قصيدة طويلة منها [50] :
دعوت بني عوف لحقْن دمائهم [51] ... فلما أبَوْا سامحتُ في حرب حاطب
ضربناكم بالبيض حتى لأنتمُ ... أذلُّ من السُّقبان بين الحلائب [52]
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفُنا [53] ... إلى حسبٍ في جذْمِ غسانَ ثاقب
رضينا لعوفٍ أن تقول نساؤهم ... ويهزأنَ منهم: ليتنا لم نحارب
ومما قاله حسان بن ثابت الخزرجي -رضي الله عنه- في هذه الحروب،
ويرد على شاعر الأوس قيس بن الخطيم [54] :
فلا تعجلن يا قيسُ واربَعْ فإنما ... قصاراك أنْ تُلقى بكل مهندِ [55]
فقد لاقت الأوس القتالَ وطُرِّدتْ ... وأنتَ لدى الكنّاتِ في كل مَطْردِ [56]
فغنِّ لدى الأبيات حُوراً كواعباً ... وحجّرْ مآقيكَ الحسان بإثمِدِ [57]
ويقول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-، وهو من الخزرج مفتخراً
وذاكراً حرب قومه مع الأوس (في قصيدة من المذهبات وهي الثانية) :
إذا ندعى لسيب أو لجارٍ ... فنحن الأكثرون بها عديدا
زعمتم أنما نلتم ملوكاً ... ونزعم أنما نلنا عبيدا
أي أن الأسرى من الأوس هم كالعبيد الأذلة بخلاف الأسرى من الخزرج.
هذه حالة الأوس والخزرج قبل الإسلام، حروب وتناحر وانقسام، وتفاخر
ومباهاة، وضغائن يشترك في إشعالها اليهود، تتحول بعد الهجرة إلى مدينة طيبة،
ودار الهجرة، إنه الإيمان الذي يصنع في النفوس الأعاجيب، هو الذي جعل حسان
بن ثابت -رضي الله عنه- يقول قبل فتح مكة [58] :
وقال الله: قد أرسلتُ عبداً ... يقول الحقّ إن نفعَ البلاء
شهدتُ به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقومُ ولانشاء
فإن أبي ووالدَه وعرضي ... لعِرض محمدٍ منكم وقاءُ
وقوله:
هجوت محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاكَ الجزاء
يخاطب أبا سفيان بن الحارث وبقية قريش، ويفدي الرسول -عليه أفضل
الصلاة والسلام- بنفسه وأهله وعرضه، لقد ذابت العصبيات التي رأينا نماذج منها
في القصائد السابقة، عند شعراء الأوس والخزرج قبل الإسلام.. ووقف حسان في
صف الإسلام والإيمان مع الأوس وقريش وبقية المؤمنين ضد معسكر الشرك وأهله.
__________
(1) العصر الجاهلي: د / شوقي ضيف 58، والفروسية في الشعر الجاهلي: د/ محمود القيسي 79.
(2) المفضليات ص 184.
(3) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 286 للحوفي.
(4) البداية والنهاية لابن كثير 2/291-293، والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 133.
(5) البداية والنهاية لابن كثير 2/209، وانظر بلوغ الأرب 1/277.
(6) الشعر الجاهلي ص 46 د / يحيى الجبوري.
(7) اختبارات الأعلم ص 246، والفجور: الفساد، المجن: الترس، الخميس: الجيش، النسار: يوم كانت فيه وقعة، حجر: والله امرئ القيس.
(8) المفضليات رقم 10 ص 55 - 59، أماثلهم: خيارهم، عدولاً: جوراً لأنهم عدلوا عن الحق، خزي الحياة: ما يلحقهم من العار إذا خذلوا حلفاءهم، الطعام الوبيل: غير المستمرأ.
(9) المفضليات رقم 12 ص 65، كان يوماً مظلماً: بسبب غبار الحرب حتى استبانت الكواكب،
الهام: ج هامة الرأس، أظلما: بدأونا بالظلم على اعزازنا إياهم.
(10) الحياة العربية للحوفي ص 290 وما بعدها.
(11) ديوان عبيد بن الأبرص ص 4.
(12) المفضليات ص 45 رقم 8، لا نريب حليفنا: لا نغدر به ولا تأتيه منا ريبة.
(13) مجمع الأمثال: 1/243.
(14) الفهرست لابن النديم.
(15) أيام العرب في الجاهلية، محمد أحمد جاد المولى وصاحباه (المقدمة) .
(16) أيام العرب ص 2 - 5، والكامل لابن الأثير 1/275.
(17) ديوان الأعشى ص 105 - 110.
(18) وفي رواية أخرى: غبراء مظلمة.
(19) الكامل في التاريخ 1/285 - 293، وأيام العرب في الجاهلية ص 6 - 39.
(20) الهامَرْز: كان على مسلحة كسرى بالسواد، وهو لقب للقائد عند الفرس، والأساورة: جمع أسوار وهو الجيد الرمي بالسهام.
(21) قافلة كانت تخرج من العراق محملة، فيها البز والعطر والألطاف، توصل إلى باذان عامل كسرى في اليمن.
(22) الوضين: نطاق عريض منسوج من سيور أو شعر، وقيل لا يكون إلا من الجلد.
(23) ذكره الطبري في الجزء الثاني من تاريخه بصيغة وفد ذُكر بلا سند ولم نعثر على الحديث في كتب الحديث المشهورة.
(24) ديوان الأعشى ص 112، والأعشى من قيس بن ثعلبة وهم بطن من بطون بكر بن وائل بن ربيعة.
(25) الحنو: منعرج الوادي.
(26) ديوان الأعشى ص 33 - 34.
(27) قلت: قل الشيء أي غلا.
(28) حنو قراقر: موضع قرب الكوفة، والهامرز: القائد عند الفرس.
(29) بنو الأحرار: أي الفرس، غلب: ج أغلب وهو غليظ العنق كناية عن القوة.
(30) الأصمعيات رقم 21 ص 79.
(31) انظر الكامل في التاريخ 1/325 وما بعدها، وأيام العرب في الجاهلية ص 51 حتى 84.
(32) الأصمعيات ص 152.
(33) بصرى: من أعمال دمشق وهي قصبة حوران.
(34) الغموس: الطعنة الواسعة، الآسي: الطبيب.
(35) المفضليات رقم 119.
(36) طحا بك: اتسع بك وذهب كل مذهب.
(37) الجون: فرس الحارث بن أبي شمر الغساني.
(38) كبشهم: أي ملكهم ورأسهم بعني المنذر.
(39) يقال: خبطه بخير أعطاه من غير معرفة بينهما، الذنوب: الدلو ويقصد الحظ والنصيب.
(40) كانت الدائرة على الأوس.
(41) أربعون غلاماً من اليهود كانوا رهائن عند الخزرج بسبب الحروب السابقة ولمساعدة يهود الأوس ضد الخزرج.
(42) جمهرة أشعار العرب 2/665، تحقيق د محمد على الهاشمي.
(43) الخنا: الكلام الفاسد.
(44) أي شكت فيه، حين توسمته: أي تثبتت من معرفته، والغول ما اغتال الأشياء فذب بها.
(45) المعنى: أنه يطيل لبس السلاح ويقل النوم، والبيضة: خوذة من الحديد، حصنه: أذهبت شعره، التهجاع: النوم الخفيف (الهامش غير مشار إليه في المقال - ماس -) .
(46) جمهرة أشعار العرب 2/637 وهي الثالثة من المذهبات.
(47) تشتجر: تستوقد، الكشف: الذين لا ترس معهم.
(48) المحتد: الأصل والطبع، يكف: يسيل ويتقاطر (أي أن المجد ثابت مستهو لا ينقطع) .
(49) سمير: قاتل جار مالك.
(50) جمهرة أشعار العرب 2/645، وهي الرابعة من المذهبات.
(51) بنو عوف: من الخزرج، سامحت: تابعت.
(52) السقبان: ج سقب وهو ولد الناقة.
(53) مضيء: غير خامل.
(54) المصدر السابق 2/621، وهي الأولى من المذهبات.
(55) اربع: أقم وكف نفسك.
(56) الكنات: ج كنّة وهي امرأة الابن أو الأخ.
(57) أي دعك مع النساء لاهياً وخذ زينتهن فأنت بهن أشبه.
(58) ديوان حسان ص 8 - 9.(3/55)
معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي
(3)
محمد العبدة
تمهيد:
كان الحديث في المقال الأول عن أهمية التاريخ، والحاجة الملحة
لكتابة تاريخنا من جديد تحقيقاً وصياغة بعيداً عن التعصب أو الحقد، ونظرة الإسلام - من خلال القرآن والسنة - إلى أحداث التاريخ نشوءاً وتعليلاً، والسنن التي تسير عليها هذه الأحداث. وتحدثنا في المقال الثاني عن الأمة الإسلامية وخضوعها لهذه السنن كما هي حال الأمم الأخرى، ولكن هناك مميزات خاصة بها. وفي هذه العدد نتكلم عن بعض النقاط التي نريد توضيحها من خلال الأحداث العامة لتاريخنا.
نقلة أخرى:
دأب أكثر الذين يكتبون في التاريخ الإسلامي أو الذين يكتبون عن الإسلام
بشكل عام، دأبوا على إظهار حالة العرب قبل الإسلام بصورة مظلمة قاتمة، وأنهم
شعب همجي متناحر لا أهمية له بين الأمم، وله عادات سيئة في كذا وكذا،
وأخلاق سيئة في كذا وكذا ونية هؤلاء الكتاب في الغالب حسنة لأنهم يريدون إظهار
محاسن الإسلام وكيف انتقل بهذه الأمة إلى عز بعد ذل وعلم وتقدم بعد جهل وتخلف، ولكن هذا التصوير غير صحيح في بعض جوانبه، والإسلام لا يحتاج إلى مثل
هذا الدفاع للأسباب - التالية:
أولاً: لم يكن العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام على ما يصوره هؤلاء
الكتاب، ولا نريد أن نتكلم عن عادات العرب الجاهلية وعبادتهم للأوثان، فهذا
شيء معروف مشهور، ولكن نريد أن نبرز بعضاً من صفاتهم وعاداتهم التي هي
من خصال الخير، وأحرى أن تكون من الأخلاق التي تنهض بها الأمم أو ما يسمى
(الأخلاق الأساسية) مثل:
أ- صدق اللهجة والبعد عن خلق الكذب والمراوغة، أو الغش والخداع، تلك
الأخلاق التي تتصف بها الشعوب التي عاشت ردحاً من الزمن تحت الذل والقهر،
فهي ترضى بالدون وتلجأ إلى المكر والخضوع للحصول على مطالبها، بينما نجد
رجلاً مثل أبي جهل وهو في أشد المواقف حاجة للكذب يُسأل عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فيتكلم صادقاً معبراً عما في نفسه وذلك قبيل معركة بدر،
ويُسأل أبو سفيان صخر بن حرب قبل إسلامه عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فيصدق في حديثه ويربأ بنفسه عن الكذب. فإذا كان هذا وهم في جاهلية
فكيف بعد إسلامهم، ولذلك يحق للإمام الزهري أن يغضب بعد أن اتهم في مجلس
من المجالس بالكذب فقال: والله لو أن نازلاً من السماء نزل بِحِلِّ الكذب ما كذبت!
ب- الوفاء والإقامة على العهد: وقد قاموا بهذه الصفة أحسن قيام، فما
نقضوا عهداً لمن حافظ عليه ويرون الغدر والإخلاف من أقبح العيوب، ولا ينسون
فضل من أحسن إليهم، والأمة التي لا تكون فيها هذه الصفات كيف تأمل في
النهوض؟ والأمة التي تعودت على اللؤم والغش والخداع لا تفلح أبداً، والرجل
الذي لا يعطي للكلمة حقها ولا يفي بعهوده ووعوده هو معول هدم وإن صلى وصام.
ج- الغيرة: وهي صفة محمودة جعلها الله في الإنسان سبباً لحفظ الأنساب،
وقد مدحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: «أتعجبون من
غيرة سعد أنا أغير منه والله أغير مني» [1] .
وقد قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها، وقد
بلغ العرب من الغيرة شيئاً جاوز الحد وبالغوا في ذلك [2] .
ومن طباعهم الحميدة الكرم وهي صفة تدل على جودة معدن ونبل نفس،
والبخل والشح من أسوأ صفات الإنسان ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع» [3] والذي يضحي بماله قد
يضحي بنفسه، وقصص العرب في الكرم أشهر من أن تذكر ويكفي أن نعلم أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطلق سفانة بنت حاتم الطائي من الأسر لأن
أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وأما جودهم بعد الإسلام فهو أتم وأعظم، ومن
يتصفح أخبارهم من أمثال عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص
وقيس بن سعد فسيجد العجب العجاب.
كما اشتهروا بالحلم الذي يدل على وفرة العقل، وأما حبهم للشجاعة وتمدحهم
بها فشيء يفوق الوصف حيث أغنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
تعليمهم وتدريبهم على هذه الصفات، بل وجدها مطبوعة فيهم فلما جاء الإسلام
كانت (نور على نور) .
وشىء آخر: فقد كانت لهم عادات وأعراف أقرها الإسلام أو هي من الفطرة
السليمة لأنها من بقايا إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، وقد لا يتفطن لهذا
الأمر بل لا يظن أن هذه العادات والأعراف كانت فيهم، ومنها:
كانوا يفعلون أشياء من طهارات الفطرة كالاغتسال من الجنابة والختان وتقديم
الأيمن في الشرب، بل عاداتهم في المأكل والمشرب من أوسط العادات ولم يكونوا
يتكلفون تكلف الأعاجم.
كانت قريش تقوم على سدانة الكعبة كما تقوم بالسقاية والرفادة فأقرها الإسلام.
كانوا يعتبرون " القسامة " وهي أيْمان معينة عند التهمة بالقتل على الإثبات
أو النفي وقد أقرها الإسلام.
كانوا يعظمون الأشهر الحرم حتى يمر الرجل بقاتل أبيه فلا يحرك له ساكناً. ... ثانياً- إن السنن التي وضعها الله في الكون تأبى أن يكلف شعب خسيس في
أخلاقه، وضيع في تصرفاته، بمهمة تبليغ الدعوة وقيادة الأمم بعدئذ وأن يكونوا
أصحاباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الطالب الغبي الكسول لا يستطيع
المدرس الناجح أن يصنع منه عالماً كبيراً أو قائداً فذاً، والناس معادن كمعادن
الذهب والفضة ومن العبث وضياع الوقت أن يُفكّر بتحويل أردأ المعادن إلى أعلاها
وأنفسها، ولكن رغم وجود هذه الاستعدادات لدى العرب فإنهم لولا الإسلام لم يكونوا
شيئاً مذكوراً، فالإسلام نقلهم نقلة أخرى، نقلة بعيدة المدى، لقد تحولوا إلى أمة
تحمل رسالة وتنقل حضارة، والصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يعلمون هذه
النعمة ويشكرونها وقد قاموا بواجبها.
تجمع القوى في تناسق داخلي:
انساح المسلمون في الأرض يبلغون دعوة نبيهم، سواء كان هذا التبليغ
بالكتاب أو الكتائب، وفتح المشرق والمغرب بسرعة مذهلة لا تزال تحير المؤرخين
الغربيين فيعللونها بالعلل الواهية، ولكننا نحن نعلم الأسباب التي جعلت هؤلاء
الفاتحين يصلون إلى جنوب فرنسا بعد قرن من وفاة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. نعلم أن سبب ذلك وحدة الوجهة ووحدة الهدف والفطرة السليمة لهذا الشعب الذي
لم يكن بحاجة كبيرة لتعليمه الشجاعة وفنون القتال أو تعليمه الصبر والصدق
والوفاء، والمسلمون اليوم كثير يصلون ويصومون ويحجون ولكنهم يفتقدون هذه
الصفات الأصيلة.
ولكن بعد هذه الفتوحات العظيمة كيف يصهر هذا المجتمع الجديد، ويتكيف
مع قواعد الإسلام وعادات هؤلاء الفاتحين، أم يكون التأثير عكسياً فتنتقل عادات
البلاد المفتوحة وبعض عقائدهم إلى المجتمع الجديد، وأظن أن هذا ما كان يتخوف
منه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد روي عنه أنه قال: «يا
ليت بيني وبين فارس جبل من نار» لقد كان بعبقريته الفذة يحمل هموم اندماج هذه
الشعوب في الإسلام، وهذا أمر لاشك في صعوبته كما تفطن لهذا عمر بن عبد
العزيز -رضي الله عنه- حين أمر جيش مسلمة بن عبد الملك بالقفول وترك حصار
القسطنطينية لأن الحصار قد طال وخشي عمر من فناء الجيش، وحفظ المسلمين
أولى من جلب أتباع جدد، وعلى ضوء نظرات العمرين هذه نستطيع فهم حديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما
تركوكم» [4] .
وعلى حسب فهمي للحديث - والله أعلم - إما أن يكون المقصود ترك الترك
ابتداءً حتى يهضم المجتمع الإسلامي العناصر الجديدة قبل الانتشار إلى بلاد الترك،
أو كان تركهم بعدئذ والمقصود عدم التحرش بهم وكأنه إشارة إلى الغزو المغولي
المدمر لأن الخوارزميين هم الذين تحرشوا بهم وحصل بعدئذ ما حصل من قدر الله
الغالب.
فرض اللغة العربية:
فرض الفاتحون الأوائل اللغة العربية في كل مكان وصلوا إليه، سواء كانت
لغة للعلم الثقافة أو لغة للتخاطب اليومي، وسواء كان حباً بها لأنها لغة الدين الجديد
الذي اعتنقوه ولغة الذين كانوا وسيلة لهدايتهم، أو مجاملة لهؤلاء الفاتحين الذين كان
عندهم من الاعتزاز بدينهم وشخصيتهم ما يمنعهم من قبول رطانة الأعاجم، بل
يجب على هؤلاء الاعاجم أن يتعربوا كي يفهموا دينهم، وأقبل المسلمون الجدد على
تعلمها فعلاً وبشغف ونهم، ولم تمض سنوات حتى كان منهم أكابر العلماء في شتى
فنون المعرفة الإسلامية، ولكن الدول التي جاءت بعدئذ تساهلت في هذا الموضوع، بل إن مسؤولية هذا التساهل تقع على العلماء والمسلمين بشكل عام، وعادت
الأقاليم البعيدة إلى لغتها الأولى ونسيت اللغة العربية شيئاً فشيئاً، وهذا شيء خطير
لأنه من أقوى الأسباب في ضعف الروابط بين المسلمين، بل إن وجهة الثقافة
ستبتعد أيضاً لأنه لا يفهم الإسلام فهماً صحيحاً بغير العربية.
إن اكبر خطأ ارتكبته الدولة العثمانية هو عدم تبنيها اللغة العربية كلغة ثقافة
وعلم وتخاطب يومي، بل إن هذا الخطأ يعبر من مقاتل هذه الدولة. ونتيجة لذلك
ضعف العلم والإبداع، بل وصلت الأمور في أواخر عهدها إلى حالة مزرية من
الجهل والتخلف وهذا الأمر وإن كان قد تنبه له بعض العلماء والمؤرخين أو ممن
كتب عن الدولة العثمانية ولكنه لم يعط الأهمية المناسبة عند من يكتبون في التاريخ
الإسلامي، فنراهم يبرزون حسنات هذه الدول ولا يحبون ذكر أخطائها لما قامت به
من جهود للدفاع عن العالم الإسلامي، ولكن هذا شيء لابد من ذكره.
حضارة إسلامية:
انقسم الناس بعد الاستقرار والهدوء اللذين أعقبا الفتوحات إلى الأقسام التالية:
1- الفاتحون وأكثريتهم من العرب وهم قسمان:
أ- قسم يعتزون بإسلامهم ولغتهم ويعتبرون أنفسهم رسل هداية وليس عندهم
نظرة قومية للشعوب الأخرى مع احتفاظهم بأنسابهم وقبائلهم واعتزازهم بها لأن ذلك
لا يتعارض مع دينهم.
ب- قسم ضيق الأفق رجعت إليهم بعض نعرات الجاهلية فهم لا يعتزون
بأنسابهم وقبائلهم فقط بل يحتقرون الآخرين لمجرد أنهم غير عرب ولو كانوا من
أصحاب الفضل والدين.
2- الشعوب الأخرى من الفرس والترك والبربر ... وهؤلاء ثلاثة أقسام:
أ- أناس أسلموا عن طواعية واختيار وأصبح الإسلام هو نسبهم وهو الشرعة
والمنهاج، وهم مع ذلك لا ينكرون فضل العرب الذين بلغوهم الدعوة، وهم أنفسهم
تعربوا باللسان حباً في هذا الدين وأهله وطمعاً في فهم الشريعة.
ب- أناس أسلموا ولكن نعرة الاعتزاز بتراثهم القديم والفخر بحضارتهم
السابقة لا تزال فيهم.
ج- والبعض منهم تظاهر بالإسلام وهو يبطن الزندقة والمجوسية ويكره
الإسلام والعرب ولذلك بدأ يبث سمومه بخبث ومكر ودهاء.
ولاشك أن أكثرية المجتمع كانت من الأقسام المعتدلة التي انصهرت بالإسلام
وعاشت به ومن أجله سواء كانوا من العرب أو العجم ولكن البعض عندما يتكلم عن
الدولة الأموية يضخم مشكلة (الموالي) وأنهم كانوا مضطهدين وينظر لهم بازدراء،
نعم هناك بعض العبارات من الأمراء والكبراء تدل على هذا أو تصرفات خاطئة
ظالمة مثل تصرفات الحجّاج، ولكنني أعتقد أن الدولة الأموية ما كانت لتستطيع في
ظروفها تلك إلا أن يكون كبار الأمراء وقواد الجيوش من العرب، وعندما رفعت
الدولة العباسية شعار المساواة استغل الفرس الشعوبيون هذا الشعار أحسن استغلال
وأرادوا الهدم من الداخل، وقد تنبه الخليفة الرشيد لهذا فكانت ضربته المشهورة
للبرامكة، فإذا كانت هناك مشكلة الموالي ففي المقابل هناك شيء أخطر وهو ما
سمي بمشكلة (الشعوبية) ، وهم الذين تنغل صدورهم بالحقد على الإسلام ومن أتى
بهذا الإسلام ويعنون بذلك العرب واستعملوا شتى الأساليب والوسائل من فكرية
وأخلاقية فألفوا الكتب والرسائل [5] وحاولوا إفساد الشخصية الإسلامية بإشاعة
الفاحشة والمجون [6] وأخيراً استعملوا الإرهاب فلجأوا إلى الاغتيال، فهل خطورة
مشكلة الموالي كخطورة الشعوبية التي جُنّد العلماء والجيوش للرد عليها [7] ،
واضطر المعتصم العباسي لتجييش العساكر لمقاومة حركة بابك الخرمي.
ولكن النظرة الإسلامية الواسعة التي تقبل الحق من أي مصدر كان، هي التي
انتصرت أخيراً على النغمة الشعوبية الحاقدة الضيقة، وغلب تيار الفقهاء والمحدثين
وأخذوا بالنظرة الواقعية رغم أنهم مقتنعون بأن (الأئمة من قريش) كما جاء في
الحديث الصحيح، فتولى قيادة المسلمين رجال من أمثال نور الدين وصلاح الدين
والظاهر بيبرس الذين تصدوا للهجمات الصليبية والمغولية، ورجال قادوا الفتوحات
لنشر الإسلام من أمثال محمود الغزنوي ومحمد الفاتح وهؤلاء كلهم يمثلون الحضارة
الإسلامية بأوسع معانيها دون تعصب وانغلاق، ومثلهم الأعلى الصحابة الذين
خرجوا من الجزيرة العربية يبشرون بالإسلام.
* يتبع *
__________
(1) سنن الدارمي، كتاب النكاح 2/149.
(2) انظر ما كتبه محمود شكري الآلوسي عن صفات العرب ومآثرهم في كتابه: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
(3) أخرجه أبو داود في باب الجهاد وهو صحيح.
(4) صحيح الجامع الصغير 3/145، وهو حديث حسن.
(5) مثل كتب أبو عبيدة معمر بن المثنى عن مثالب العرب أو ترجمة ابن المقفع لكتب الفرس التي تشيد بحضارتهم وحكمتهم ومحاولتهم لإحياء المزدكية والمانوية.
(6) مثل أشعار بشار بن برد ومجون أبي نواس وحماد عجرد ومطبع بن إياس.
(7) تصدى أمثال ابن قتيبة والجاحظ والبلاذري للرد عليهم أما الفقهاء والمحدثون فوجودهم أكبر رد عملي عليهم بل هم شوكة في حلوقهم.(3/67)
علماء معاصرون
الشيخ محمد الخضر حسين
(1293-1373) هـ
أحمد عبد العزيز أبو عامر
يحفل تاريخنا الإسلامي في القديم والحديث بنماذج مشرفة للعلماء الذين
ضربوا المثل الأعلى في الفضل والعلم والجهاد، وكثير من هؤلاء مغمورون،
وقليل من الناس من يعرفهم.
وسأحاول في هذه المقالة عرض حياة علم من هؤلاء العلماء الأعلام، وسترى
فيه أخي القارئ، نموذجاً للصبر على العلم والتحصيل والتبليغ والجهاد والمواقف
الجريئة. فما أحوجنا لأمثاله من العلماء العاملين الذين هم بحق ورثة الأنبياء.
هو: محمد الخضر حسين الذي ينتسب إلى أسرة عريقة في العلم والشرف،
حيث تعود أسرته إلى البيت العمري في بلدة (طولقة) جنوب الجزائر، وقد رحل
والده إلى (نفطة) من بلاد الجريد بتونس بصحبة صهره (مصطفى بن عزوز) حينما
دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر، ومما يدل على عراقة أسرته في العلم أن منها جده (مصطفى بن عزوز) وأبو جده لأمه (محمد بن عزوز) ، من أفاضل علماء
تونس، وخاله (محمد المكي) من كبار العلماء وكان موضع الإجلال في الخلافة
العثمانية.
وسنتتبع حياة عالمنا في مراحل ثلاث:
الأولى: في تونس: حيث ولد الشيخ بنفطة عام 1293، وعلى أرضها درج
ونشأ، وهو - كأي عالم مسلم - تبدأ حياته في أجواء البيت المسلم، والأسرة
المسلمة، ثم أخذ العلم في نفطة وكان لا يتعدى مبادئ علوم الدين ووسائلها، وقد
ذكر أن والدته قد لقنته مع إخوانه (الكفراوي) في النحو و (السفطي) في الفقه
المالكي، وفي عام 1306 انتقل مع أسرته إلى العاصمة، فتعلم بالابتدائي، وحفظ
القرآن مما خوله الانتظام بجامع الزيتونة فجد واجتهد وثابر على مواصلة العلم،
حتى صار مثار إعجاب أساتذته وعارفيه، حيث درس على أستاذه (سالم أبو
حاجب) صحيح البخاري، وعنه أخذ ميوله الإصلاحية وأخذ التفسير عن أستاذيه
(عمر بن الشيخ) و (محمد النجار) ، وفي عام 1316 نال شهادة (التطويع) التي
تخول حاملها إلقاء الدروس في الزيتونة تطوعاً وكانت هذه الطريقة درباً للظفر
بالمناصب العلمية وميداناً للخبرة والتدريب على مهنة التعليم، فعظمت مكانته في
نفوس زملائه، وذاع صيته في البلاد حتى صار من قادة الفكر وذوي النفوذ،
وأعجب به طلبة الزيتونة وكانت الحركة الفكرية هناك في حاجة لإبراز نشرة
دورية تنطق بلسانها، ولم يكن يوجد آنذاك بتونس سوى الصحف. فقام بإنشاء مجلته (السعادة العظمى) فنالت إعجاب العلماء والأدباء وساء بعضهم صدورها لما
اتسمت به من نزعة الحرية في النقد واحترام التفكير السليم، ولتأييدها فتح باب
الاجتهاد حيث قال الشيخ عنه في مقدمة العدد الأول:
(.. إن دعوى أن باب الاجتهاد قد أغلق دعوى لا تسمع إلا إذا أيدها دليل
يوازن في قوته الدليل الذي فتح به باب الاجتهاد) .
وكان منهج المجلة كما جاء في المقدمة أيضاً يتمثل في:
1- افتتاحية لكل عدد تحث على المحافظة على مجدنا وتاريخنا.
2- تعرض لعيون المباحث العلمية.
3- ما يكون مرقاة لصناعة الشعر والنثر.
4- الأخلاق كيف تنحرف وبم تستقيم.
5- الأسئلة والمقترحات.
6- الخاتمة ومسائل شتى.
وهكذا صدرت هذه المجلة فملأت فراغاً كبيراً في ميدان الثقافة
الإسلامية وتسابق العلماء والكتاب للمشاركة فيها حتى أغلقها المستعمر الفرنسي
حينما تعرض لهجومها عام 1322 هـ أي بعد مضي عام واحد فقط على صدورها، فاتجهت إلى الشيخ الجمعيات الرسمية وغيرها للاشتراك في أعمالها، ثم تولى قضاء (بنزرت) عام 1323 مع الخطابة والتدريس بجامعها، وحدثت اشتباكات بين المواطنين المستعمر، فتطور الأمر، وأعلنت الأحكام العرفية وعطلت الصحف، وسجن أو نفي معظم ذوي الشأن من القادة والمفكرين فأصبحت كل حركة تبدو من الطلاب محمولة عليه. فنظر إليه المسؤولون شذراً، خصوصاً بعد إضراب الطلاب عن التعليم. وفي هذا الجو المكهرب والمحبوك بالمؤامرات دفع به الضيق إلى طلب حياته الفكرية والعملية في خارج تونس، خصوصاً وأنه من أنصار (الجامعة الإسلامية) الذين يؤمنون بخدمة الإسلام خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان.
فقام بعدة سفرات متوالية بادئاً بالجزائر عام 1327 لإلقاء المحاضرات
والدروس فلقي ترحيباً من علمائها، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في
إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية. ثم عاد إلى تونس لمزاولة التدريس. واشترك في
مناظرة للتدريس من الدرجة الأولى، فحرم من النجاح فحز ذلك في نفسه لسيطرة
روح المحاباة على الحياة العلمية في بلده.
وفي عام 1329 وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب، ولاسيما فرنسا، فيمم
وجهه صوب الشرق، وزار كثيراً من بلدانه، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه
الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال. ثم عاد لتونس فلم يطب له
المقام والمستعمر من ورائه.
المرحلة الثانية: عدم الاستقرار:
وصل دمشق عام 1330 مع أسرته ومن ضمنها أخواه العالمان المكي وزين
العابدين، فعين الشيخ (محمد الخضر حسين) مدرساً بالمدرسة السلطانية، وألقى في
جامع بني أمية دروساً قدّره العلماء عليها، وتوثقت بينه وبين علماء الشام الصلة
وبخاصة الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، ولما كانت آنذاك سكة الحديد الحجازية
سالكة إلى المدينة المنورة زار المسجد النبوي عام 1331 وله في هذه الرحلة قصيدة
مطلعها:
أحييك والآماق ترسل مدمعاً ... كأني أحدو بالسلام مودعاً
وفي هذه الفترة شده الحنين إلى تونس الخضراء، فزارها وله في ديوانه
ذكريات في الصفحات 26، 134.
وكان الشيخ دائماً ما يدعو للإخاء بين العرب وإخوانهم الأتراك حينما بدأت
النعرة القومية تفرقهم. وقد ذهب إلى الآستانة، ولقي وزير الحربية (أنور باشا)
فاختير محرراً للقلم العربي هناك فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع
المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة
الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع) :
... أدمى فؤادي أن أرى ال ... أقلام ترسف في قيود
وأرى سياسة أمتي ... في قبضة الخصم العنيد
وفي عام 1333 هـ أرسله (أنور باشا) إلى برلين في مهمة رسمية، ولعلها
للمشاركة في بث الدعاية في صفوف المغاربة والتونسيين داخل الجيش الفرنسي
والأسرى في ألمانيا لحملهم على النضال ضد فرنسا، أو التطوع في الحركات
الجهادية. وظل هناك تسعة أشهر أتقن فيها اللغة الألمانية وقام بمهمته أحسن قيام،
وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه، لما فيه من الحث على
العلم والجد والسمو. نجدها مفرقة في كتبه ففي كتاب (الهداية الإسلامية)
ص155، 164، 175، وفي كتابه (دراسات في الشريعة) ص 135، ولما عاد للآستانة وجد خاله قد مات فضاقت به البلد، وعاد إلى دمشق، فاعتقله (جمال باشا) عام 1334 بتهمة علمه بالحركات السرية المعادية للأتراك، ومكث في السجن سنة وأربعة أشهر برئت بعدها ساحته، وأطلق سراحه فعاد للآستانة فأرسل في مهمة أخرى لألمانيا. ثم عاد إلى دمشق، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي: (المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية) ثم نزح عن دمشق التي أحبها حينما أصدر ضده حكم غيابي بالإعدام - لما قام به ضد فرنسا من نشاطات في رحلاته لأوربا - وذلك بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى سورية، وكان أمله أن يعود إلى تونس، ولكن إرادة الله شاءت أن تكون مصر هي مطافه الأخير، وبهذا تتم المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة: مصر:
وقد وصلها عام 1339 فوجد بها صفوة من أصدقائه الذين تعرف عليهم
بدمشق ومنهم: (محب الدين الخطيب) ونظراً لمكانته العلمية والأدبية اشتغل بالكتابة
والتحرير، وكان العلامة (أحمد تيمور) من أول من قدر الشيخ في علمه وأدبه.
فساعده وتوطدت العلاقة بينهما. ثم كسبته دار الكتب المصرية. مع نشاطه في
الدروس والمحاضرات وقدم للأزهر ممتحناً أمام لجنة من العلماء اكتشفت آفاق علمه، فاعجبت به أيما إعجاب فنال على أثر ذلك (العالمية) فأصبح من كبار الأساتذة في
كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة، وفي عام 1344 أصدر كتاب
(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) رد فيه على الشيخ (علي عبد الرزاق) فيما
افتراه على الإسلام من دعوته المشبوهة للفصل بين الدين والدولة، وفي عام
1345 أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) رداً على طه حسين فيما
زعمه في قضية انتحال الشعر الجاهلي وما ضمنه من افتراءات ضد القرآن الكريم. وفي عام 1346 هـ شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وفي السنة نفسها
أسس جمعية (الهداية الإسلامية) والتي كانت تهدف للقيام بما يرشد إليه الدين
الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق
الإسلام ومقاومة مفتريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها،
وفي عام 1349 هـ صدرت مجلة (نور الإسلام - الأزهر حالياً) وتولى رئاسة
تحريرها فترة طويلة. وفي عام 1351 منح الجنسية المصرية ثم صار عضواً
بالمجمع اللغوي. ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (لواء الإسلام) مدة. وفي عام 1370
تقدم بطلب عضوية جمعية كبار العلماء فنالها ببحثه (القياس في اللغة) وفي 21/12
/1371 هـ تولى مشيخة الأزهر وفي ذهنه رسالة طالما تمنى قيام الأزهر بها،
وتحمل هذا العبء بصبر وجد وفي عهده أرسل وعاظ من الأزهر إلى السودان
ولاسيما جنوبه، وكان يصدر رأي الإسلام في المواقف الحاسمة، وعمل على
اتصال الأزهر بالمجتمع واستمر على هذا المنوال، ولما لم يكن للأزهر ما أراد
أبى إلا الاستقالة.
ولابد من ختم هذا المقالة بذكر بعض من المواقف الجريئة التي تدل على
شجاعته، وأنه لا يخشى في قول الحق لومة لائم شأنه شأن غيره من علماء السلف
الذين صدعوا بالحق في وجه الطغيان في كل زمان ومكان.
1- حينما كان في تونس لم تمنعه وظيفته من القيام بواجبه في الدعوة
والإصلاح بالرغم من أن الاستعمار ينيخ بكلكله على البلاد، فقد ألقى في نادي
(قدماء مدرسة الصادقية) عام 1324 محاضرته (الحرية في الإسلام) والتي قال فيها:
(إن الأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها
بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد وننفي عنها لقب الحرية) .
ثم بيّن حقيقتي الشورى والمساواة، ثم تحدث عن حق الناس في حفظ الأموال
والأعراض والدماء والدين وخطاب الأمراء. ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد وهذه
المحاضرة من دراساته التي تدل على شجاعته وعلى نزعته المبكرة للحرية
المسؤولة وفهمه لمنهج الإسلام فهماً راقياً سليماً.
2- وفي عام 1326 عرضت عليه السلطة المستعمرة الاشتراك في المحكمة
المختلطة التي يكون أحد طرفيها أجنبياً. فرفض أن يكون قاضياً أو مستشاراً في
ظل الاستعمار. ولخدمة مصالحه وتحت إمرة قانون لا يحكم بما أنزل الله.
3- ولا أزال أذكر ما قصه علينا أستاذ أزهري كان آنذاك طالباً في أصول
الدين إبان رئاسة الشيخ للأزهر، حين دعا أحد أعضاء مجلس الثورة إلى مساواة
الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن
ما قيل فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الشعب لزلزلة الحكومة لاعتدائها على حكم من
أحكام الله، فكان له ما أراد.
أواخر حياته:
واستمر الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- في أواخر حياته يلقي
المحاضرات ويمد المجلات والصحف بمقالاته ودراساته القيمة، بالرغم مما اعتراه
من كبر السن والحاجة إلى الراحة وهذا ليس غريباً عمن عرفنا مشوار حياته المليء
بالجد والاجتهاد والجهاد.
وكان أمله أن يرى الأمة متحدة ومتضامنة لتكون كما أراد الله خير أمة
أخرجت للناس، وحسبه أنه قدم الكثير مما لانجده عند الكثير من علماء هذا الزمان.
وفي عام 1377 هـ انتقل إلي رحاب الله، ودفن في مقبرة أصدقائه آل
تيمور جزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ورحمه رحمة واسعة، وعفا الله عنا
وعنه، وأرجو أن يكون لنا لقاء آخر مع وقفات عند علم الشيخ وما طرحه من
أفكار في الدعوة والإصلاح.(3/73)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
لبنان.. والإرهاب
حقائق يجب أن تعرف عن الحرب اللبنانية
المسلمون السُنَّة هدف للإرهاب في لبنان وغيره
عجيبة هي الأخبار المتلاحقة التي تشهدها الساحة اللبنانية، وأعجب منها
القلوب الجامدة التي يمتلكها أباطرة الطوائف في هذا البلد المنكوب ...
فأنت تقرأ في الصحف أخبار المجاعة التي يئن من وطأتها جميع اللبنانيين
وأن قيمة الدولار تزيد على 70 ليرة لبنانية، وأن أكثر من رب أسرة في الجنوب
حاول بيع أولاده لأنه لا يجد من القوت ما يسد به رمقهم.. كما تقرأ في هذه
الصحف أخبار تجارة المخدرات التي تدر " المليارات من الدولارات " على قادة
الطوائف، وتشبه هذه الأخبار الأساطير، لكنها بكل أسف حقيقة ليس فيها شك
ولاريب. وإذا كانت الحرب قد ضاعفت استيراد المخدرات وزراعتها، فهي
موجودة قبل الحرب، وتعرف الحكومات المتعاقبة منذ القديم مَنْ من زعماء
الطوائف يزرع المخدرات وفي أي أرض يزرعها، ولكنها (أى الحكومات) أعجز
من أن تتخذ موقفاً بل هي ليست أحسن حالاً منهم.
ورغم الفقر والمجاعة والبؤس فلا تزال الحرب في لبنان تلتهم الأخضر
واليابس، وبينما كنا نعد مادة هذا العدد كانت أجهزة الإعلام العالمية تتابع أخبار
الحرب الضروس التي تدور رحاها حول المخيمات في بيروت وجنوب لبنان. إن
ما يجري في هذا البلد يهم كل المسلمين لأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وقد رافق هذه الحرب الآثمة اختراق تشكيل من المقاتلات الإسرائيلية حاجز
الصوت في العاصمة اللبنانية على ارتفاعات شاهقة، كما حلقت هذه الطائرات في
طلعات استطلاعية فوق منطقتي الجبل والبقاع وجنوب لبنان، أي فوق أرض
المعركة لمراقبة القتال، بل وشاركت الزوارق الإسرائيلية المسلحة في قصف
مساكن الفلسطينيين في مخيمات صيدا وصور! كما رافق هذه الحرب العدوانية
أيضاً اعتداءات من جيش لبنان الجنوبي الموالي لإسرائيل على المخيمات
الفلسطينية.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن هذه الحرب ليست حدثاً عابراً نتج عن أخطاء
عادية، وقد تسوى هذه الأخطاء وتطوى هذه الصفحة، وتتصافى القلوب، ويلتقي
الطرفان على قتال العدو الصهيوني.. لا، ليس الأمر هكذا ولا يستطيع القارئ فهم
طبيعة هذه الحرب إلا إذا علم الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى:
هناك مؤامرة عالمية رهيبة ضد لبنان وقد شاركت الدول الكبرى وإسرائيل في
رسم خيوط هذه المؤامرة، والحديث عن المؤامرة قبل الحرب كان يتطلب أدلة
وبراهين، وبعد أكثر من إحدى عشرة عاماً أصبحت الأدلة واضحة لكل ذي بصيرة
لقد كشفت وثائق ومخططات، ونشرت مذكرات واستطلاعات صحفية كافية
لفضح أهداف الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد السوفييتي وغيرها من الدول
الكبرى.
لقد قرأنا فيما قرأنا أن (بن غوريون) رئيس وزراء العدو الصهيوني السابق، و (موسى شاريت) وزير خارجيته، كانا قد تحدثا فيما كتباه من مذكرات عن ضرورة تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية، وتحدث العالم أجمع عبر وسائل إعلامية عن جولات (هنرى كيسنجر) وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية السابق بين عدد من عواصم دول الشرق الأوسط، وقل مثل ذلك عن لقاءات قادة العدو الصهيوني أمثال: بيغن، وبيريز، وشارون مع معظم زعماء الطوائف في لبنان.
ونتيجة لهذه المؤامرة انفجرت الحرب في لبنان، وكانت إسرائيل طرفاً فيها
ضد المسلمين السنة وحدهم، وعندما اجتاحت لبنان عام 1982 م استمرت في
حصار بيروت حتى اضطرت منظمة التحرير إلى مغادرة لبنان.. ودبر اليهود
وحلفاءهم مذابح صبرا وشاتيلا، ومما يجدر ذكره أن إسرائيل أصرت على مغادرة
(الميليشيات) السنية في بيروت الغربية مع أنهم لبنانيون.. وجملة القول فإسرائيل
والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وجميع الدول الكبرى لا يزالون يحركون هذه
الحرب عبر عملائهم من الطوائف اللبنانية.
الحقيقة الثانية:
منذ بداية هذه الحرب وحتى كتابة هذه الأسطر هناك خطوط حمراء لا
تستطيع أية جهة تجاوزها، ومن الأمثلة على ذلك أن لإسرائيل خطاً أحمر في
الجنوب لا تسمح بتجاوزه، وبيروت الشرقية خط أحمر، وكذلك زغرتا،
والضاحية الجنوبية، والشوف وبعلبك، والبقاع، والجبل.. أما مناطق أهل
السنة، فهي هدف لكل من يتدرب على استعمال الأسلحة، ونذكر من الأمثلة على
ذلك: طرابلس، مخيم البداوي، ونهر البارد، وتل الزعتر، وصبرا، وشاتيلا،
وبرج البراجنة، والكرنتينا، ومخيم عين الحلوة، والرشيدية، والمية ومية،
وبيروت الغربية، وأحياء السنة في صيدا والجنوب.. وكانت الطوائف مع
إسرائيل تتناوب الاعتداء على مدن ومخيمات أهل السنة، وكان غير اليهود أكثر
يهودية [إن صح هذا التعبير] من اليهود.
قد يحصل خلل ويقع اعتداء على منطقة لغير أهل السنة.. والذي يحدث أن
الاعتداء يتوقف فوراً، ويجلس الطرفان على مائدة المفاوضات، أما مناطق أهل
السنة فلا يتوقف القتال إلا بعد الإبادة والتشريد أو الاستسلام التام.
وتفسير هذه الظاهرة لا يحتاج إلى تفكير طويل.. فالدول الكبرى التى اتفقت
على دمار لبنان وتقسيمه حددت خطوطاً حمراء، والذين ينفذون المؤامرة ملتزمون
بالأوامر الصادرة إليهم.
الحقيقة الثالثة:
الدويلات الطائفية حقيقة قائمة في لبنان، لكنها غير معلنة بشكل رسمي ومنذ
بضعة سنين والدول الكبرى تتعامل مع زعماء الطوائف كما لو كانوا رؤوساء دول، وفي طليعة هذه الدول الاتحاد السوفييتي الذي يمد بعض الطوائف كما يمد
المليشيات الشيوعية واليسارية بأحدث الأسلحة سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير
مباشر.. ونقول: الاتحاد السوفييتي شريك في المؤامرة لأن من بني جلدتنا من لا
يفهم الأمور إلا بعد فوات الأوان، وربما لا يفهمها لا قبل الأوان ولا بعده، أما دور
الولايات المتحدة وإسرائيل فمعروف عند الجميع..
ويتعامل أباطرة الطوائف مع بعضهم على هذا الأساس، وكل امبراطور
يعرف حدود دولته، وإذا حدث خلاف ذلك تنشب حرب بين الدولتين ثم يتدخل
الوسطاء.
وسبب الاعتداءات على المخيمات الفلسطينية هو حرص زعماء الطوائف
على تنفيذ آخر بنود الاتفاقية، وآخر هذه البنود يقتضي أن لا يقوم لأهل السنة
قائمة، وأن لا تكون لهم دولة.
الحقيقة الرابعة:
الأحزاب والحركات والهيئات العلمانية واليسارية التي يتزعمها قادة العلمانية
واليسارية التي يتزعمها قادة ولدوا من أسر سنية. هؤلاء لا يثق بهم أباطرة
الطوائف ولا يطمئنون إليهم رغم توددهم لأعداء الإسلام، وهذه عقوبة من الله لهم
في الدنيا، فالذين سلموا من إسرائيل بَطَشَ بهم عملاُء إسرائيل عند احتلال بيروت
الغربية، ومن سلم منهم من القتل أو السجن خرج هائماً على وجهه في بلاد الله
الواسعة.
وكذلك حال الفلسطينيين الذين تآمروا على قومهم في ساعات المحنة.. إنهم
يعيشون حياة لا يحسدون عليها، لكنهم فقدوا المروءة والنخوة، وقبلوا حياة الذل
والخيانة.
إن أعداء الإسلام يعرفون بأن السني، قد يتوب إلى الله من العلمانية والإلحاد
ويقف في الصف المعادي لهم، ولهذا فهم لا يثقون به مهما نافق وداهن لهم.
الحقيقة الخامسة:
إن هؤلاء الأباطرة يحاربون أهل السنة بالأصالة عن أنفسهم، ونيابة عن
إسرائيل والولايات المتحدة، وبقية الدول الكبرى، ولهذا فهم يتقاضون راتباً لكل
جندي من جنودهم، كما يتقاضون مساعدات وأسلحة ثقيلة وخفيفة، فضلاً عن
تجارة المخدرات وممارسة سياسة السلب والنهب.. ومن يعتقد غير ذلك كيف
يتصور أن تستمر هذه الطوائف أكثر من أحد عشر عاماً مع أن دولة من الدول
تعجز عن الاستمرار في القتال والاستنفار طيلة هذه المدة. وكيف يتصور إنسان
يحترم عقله استمرار حصولهم على السلاح والذخيرة إذا كانوا مستقلين ولا يتلقون
مساعدات من حكومات وأنظمة خارج لبنان.. وعلى كل حال فكل شيء في لبنان
واضح بالأدلة والأرقام، والأباطرة فقدوا الحياء والخجل وأصبحوا لا يخجلون مما
كانوا يتسترون عليه.
الحقيقة السادسة:
إن أباطرة الطوائف يتكتلون ضد أهل السنة رغم ما بينهم من تناقضات
وخلافات، ويستطيع المنصف أن يتبين صحة ما نقول إذا استعرض الأحداث منذ
بداية الحرب، وإذا كان لا يريد أن يتعب نفسه، فليقراً وليسمع ما نشرته وكالات
الأنباء وأجهزة الإعلام عن موقف الأباطرة في الأحداث الأخيرة، وعن موقف العدو
الصهيوني من هذه الأحداث.
الحقيقة السابعة:
إن أهل السنة يدافعون عن أنفسهم في ظروف لا يحسدون عليها.. إنهم
يلتفتون حولهم فيجدون العدو يحيط بهم من كل جانب داخل لبنان وخارجه وفي
معظم الحالات يحققون انتصارات مهمة، ولكن مساعدات الآخرين ووقوفهم إلى
جانب العدو يغير مسيرة المعركة.. وبعد أيام أو أشهر تنتهي الذخيرة، ولا يجدون
من يمدهم بها.. أو قد يُمْنَع عنهم التموين، أو الماء، أو المساعدات البشرية، نعم
قد تمنع هذه الأمور كلها لأنه لا طريق للوصول لأهل السنة المحاصرين إلا عبر
اجتياز دولة طائفية، وهذه الدولة ترفض الحياد إذا كان أهل السنة طرفاً في معركة
من المعارك، وتسارع إلى الانضمام لخصومهم، ولهذا السبب سقط تل الزعتر،
والكرنتينا، والمسلخ، ومحيت هذه المناطق من الوجود، كما سقطت طرابلس
وبيروت الغربية، وبرج البراجنة، وصبرا وشاتيلا، ومخيم نهر البارد، ومخيم
البداوي، وسجل المجاهدون صفحات من البطولة لا تنسى، كانوا يقاومون جيشاً
غازياً، كما يقاومون المليشيات الطائفية التي انضمت للغزاة، ومنعت عنهم الماء
والكهرباء والعلاج والغذاء، ويقاومون أيضاً الخونة وضعاف النفوس الذين جندهم
الغزاة منهم.. وقد حدث هذا في بيروت الغربية عند حصار الجيش الصهيوني لها،
كما حدث في طرابلس والمخيمات عموماً.
* * *
وبعد:
هذه هي الحقائق التي نستطيع على ضوئها فهم طبيعة الحرب اللبنانية قديماً
وحديثاً، حاضراً ومستقبلاً.
ومن هنا نستطيع أن نفهم أسباب الاعتداءات المتلاحقة ضد أهل السنة،
وآخر الذين تم اغتيالهم الشيخ صبحي الصالح -رحمه الله-، وما كان يملك
(ميليشيا) ، ولا كان زعيماً سياسياً، وعلى نقيض ذلك كان يمثل الاعتدال بين أهل
السنة، وكانت له علاقات جيدة مع النصارى وغيرهم، ومع ذلك لم يسلم، وجاء
اغتياله بعد محاضرة ألقاها خلال زيارة له في المغرب العربي تحدث فيها عن
الإرهاب والإرهابيين، وأنكر تبني الإسلام لمثل هذه الأساليب، والذين قتلوه مشوا
بجنازته وكتبوا في صحفهم يشيدون بمآثره، وينددون بالقتلة المجرمين، وكم في
لبنان من المضحكات المبكيات! ! .
ونقرأ في الصحف، ونسمع في نشرات الأخبار من يتهم المسلمين بالإرهاب، والحقيقة نحن هدف للإرهاب الذي تمارسه إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، ومن يدور في فلكهم من الدول والطوائف، وهذه هي حالنا في: لبنان، وفلسطين المحتلة، والحبشة، وأرتيريا، وتشاد، وأوغندا، وفي الهند وأفغانستان، وداخل الاتحاد السوفييتي والفلبين، وفي مناطق أخرى كثيرة من العالم الإسلامي.
نحن الذين من حقنا أن نطالب بوضع حد للإرهاب ومكافحة الإرهاب حقاً،
ويجب أن تسمى الأمور بمسمياتها الصحيحة فالخائن لا يمكن أن يكون بطلاً،
والسارق ليس شجاعاً والمعتدى عليه الآمن ليس إرهابياً.
ولا يزال بيننا بكل أسف من يخجل من قول الحقيقة لأنه -كما يزعم - لا
يريد تقسيم الإسلام إلى سني وغيره، ولا يريد أن نتهم بالطائفية، أو لأنه لا يزال
يحسن الظن بالذين يقولون له بكل خبث: ماذا تريد فالعلمانيون يقاتلون علمانيين..
كذبوا والله فالبائسون الآمنون من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب في طرابلس
وبيروت الغربية والمخيمات ليسوا علمانيين، وهؤلاء الذين يرددون هذه الشعارات
ليسوا حياديين، ومن جهة أخرى فعدونا يقاتلنا لأننا من أهل السنة، وبعض
الأغبياء من أهل السنة يريدون منا أن نموت ونحن صامتون حتى لا نتهم بالطائفية.(3/81)
أوقاف المسلمين..آخر الحصون
هذا مثل آت من فلسطين، وهو في سياقه هكذا - ليس مفاجئاً لأحد، لا
لخصوم الإسلام، ولا لأنصاره، يوضح باختصار ودون تعقيد - كيف يجهد اليهود، ويحرصون على القضاء على كل المقومات التي تمثل أدلة على هوية فلسطين
الأصلية، ويضعون الخطط التي تمحو كل البصمات التي تدل على انتماء سكان
البلاد الشرعيين.
فقد زار مفتي فلسطين مصر أواخر شهر 10/1986 ليعرض على علماء
الأزهر، ويتدارس معهم أوضاع المسلمين في فلسطين المحتلة، والصعوبات
والمشاكل الناجمة عن سيطرة اليهود المباشرة على أوقافهم، وكثير من مساجدهم،
والتدخل السافر في كل أمر مما يخص إدارة شؤونهم الدينية، حتى البسيط منها،
وإمكانية عرض هذه القضايا في المؤتمرات الدولية، وفي الهيئات الإسلامية
العالمية.
وقد ذكر مفتي فلسطين أن المسلمين لم يتمكنوا إلى الآن من استعادة أوقافهم
الإسلامية، ومساجدهم المصادرة منذ عام 1948، والتي حولت إلى متاحف! !
وذكر، كذلك، أن كثيراً من مقابر المسلمين لا تزال تنبش وتقام عليها الملاهي
الليلية، والمستوطنات، وأن المسلمين -وحدهم من بين جميع الطوائف الموجودة
في فلسطين - هم الذين تخضع شؤونهم الدينية للإدارة اليهودية، ما جل منها، وما
صغر؛ حتى لو كان تعيين " مؤذن " أو " فراش "، في حين أن للطوائف اليهود ية
مجلساً مستقلاً عن الدولة هو " المجلس الرباني " وللطوائف المسيحية المختلفة
مجالسها التي تتولى الإشراف على أنشطتها، دون تدخل، أو رقابة من أحد.
وذكر من المساجد التي هدمت في فلسطين مساجد: المزيدل، ومعلومة
وصفورية، ولوبيا، وحطين، وتمرين وشجرة، وعين حوض، والطيرة، وجبع، والطنطورة، وكفر لام.
وكذلك أغلقت المدارس الإسلامية في حيفا، والنصارية، وعكا، ويافا.
وألغيت أيضاً جميع الوظائف الحيوية للمسلمين، مثل: مفتش المحاكم العام ومراقبة
الدعوة والإرشاد.
وبيّن أن أساليب المماطلة والتواطؤ التي تسلكها المحكمة العليا فيما يخص
الدعاوي التي يقيمها المسلمون، مطالبة بحقوقهم، وكيف تدفع هذه الدعاوي وترد
بحجة عدم الاختصاص..
وهناك دلالات لابد من الإشارة إليها وردت في هذه الشهادة لمفتي فلسطين:
1- أول هذه الدلالات:
التدخل السافر في شؤون المسلمين، مهما صغرت، وعدم إتاحة الفرصة
لهم، ليقوموا بأي نوع من التجمع، وعلى أي أساس كان والحرص على ضرب كل
ما يجعلهم يشعرون بكيان عقائدي يربطهم، ويستمدون منه الأمل في مستقبل أفضل.
ولا يصرفنك عن هذه الحقيقة ما يتشدق به أعداء الإسلام من كلمات مثل:
حقوق الإنسان، وحرية العقيدة والديموقراطية.. فكأن هذه المصطلحات وضعت
ليفهم منها أن الإنسان المسلم مستثنى منها بداهة.
فالإنسان المسلم - عند أغلب الناس غير المسلمين - لم يصل - ولن يصل،
مادام مسلماً - إلى مرتبة الإنسانية أبداً!
والإنسان المسلم ليس حراً، لا في فهم عقيدته، ولا في تطبيقها، وإذا ما
حاول ذلك، فإنه يُرمى عن قوس واحدة، من كل الجهات، حتى ولو كان بين هذه
الجهات ما بينها من الخلافات والعداء، فإنها تتفق على حربه والكيد له، يرمى
بشتى أنواع التهم من تخلف، وتطرف، وتعصب وسير بالناس إلى الوراء،
ومحاولة فرض أفكاره على الناس، وإرهابهم فكرياً - مع أنه هو الذي تطبق عليه
هذه المفهومات، ويرهب فكرياً، ويغتال جسدياً، ويسلب أبسط حقوقه ألا وهو حق
الدفاع عن النفس.. ماذا أقول؟ ! بل حق الهمس بالشكوى والتوجع والأنين من
هول ما يلاقي في سبيل قوله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وقد طلب كاتب مسلم من بعض الناس أن يعرف له الديموقراطية، فأجاب هذا:
إن الديموقراطية هي: حكم الشعب بالشعب. فأجابه الكاتب المسلم: لقد
نسيت استثناءً مكملاً لهذا التعريف، اتفق عليه الشرق والغرب، ولعله محذوف
للعلم به - حتى صار ذكره أو حذفه سواء - وهو أن الديموقراطية حكم الشعب
بالشعب، إلا أن يكون هذا الشعب مسلماً!
فحتى هذه الديموقراطية، التي هي وليدة مجتمعات وبيئات لها خلفيات ثقافية
مغايرة للإسلام في أهدافه ووسائله؛ أصبحت حقاً مشاعاً لكل بني البشر، واستثني
المسلمون بقسوة من حق المشاركة فيها، لا لشيء، إلا لأنها تعطيهم الحق في أن
يقولوا: هذا نريده، وهذا نرفضه.
2- الدلالة الثانية:
مأساة الأوقاف الإسلامية، ي أغلب بقاع العالم الإسلامي، فقد سلُطِّ على هذه
الأوقاف سيفان ماضيان، بل ذئبان جائعان، يفتكان فتكاً ذريعاً في هذه الأوقاف
المكشوفة!
أول هذين الذئبين:
كثير من متولِّي شؤون الأوقاف، والقائمين على تدبيرها في القديم والحديث،
ممن فسدت ذممهم، وخربت نفوسهم، وباعوا دينهم بِعَرَضٍ من الدنيا قليل، فكم
من مال نهب، وكم من بيوت موقوفة أخفيت أو أتلفت صكوكها وحججها، ليستولي
عليها من يسكنها، أو تباع بثمن بخس لمن لا يستحق، وكم من مدارس تحولت إلى
بيوت، ومساجد تحولت إلى متاجر وأربطة تحولت إلى أملاك شخصية وإلى ما
شاء المسؤولون عنها، وكم من فقراء معدمين أثروا من أموال الأوقاف، واختالوا،
واستطالوا على الناس، ففسدوا وأفسدوا.. وكم.. وكم.. مما يطول ذكره، ويؤلم
تعداده
أما الذئب الثاني:
فهو ذئب قديم حديث أيضاً، ولكنه كان في القديم يعدو على هذه
الأوقاف بين الفينة والفينة، ولا يعدم من يصرخ به أحياناً، أو ينهره، فيرجع متخفياً موتوراً يتحين غفلة من الحراس لينزو ثانية، لعله ينشب أظفاره بصيد
جديد.
أما الآن.. فقد أمن الهجوم متخفياً بعد أن آلت إليه وراثة حقوق المسلمين
المعنوية والعينية، وأصبح هو الذي يبت في أمر تدبير شؤون هذه الأوقاف،
وصرفها، وتعيين من يحق له أن يطلع على أسرارها، ويكون له حق القوامة
عليها.
وهكذا، بعد أن أصبح للأوقاف وزارات، صار طبيعياً أن يكون من بين
المسؤولين عنها أناس لادين لهم أصلاً فالمسلم الذي خربت ذمته، وانهارت نفسه
لمطمع مادي، قد يشعر في حين من الأحيان - بذنبه، فيتوب، ويكفّر أو يعمل
على إصلاح هذا العيب بالعمل الصحيح في مجال آخر.
أما من لادين له فالأمر عنده لا يتعلق بنهمة يسدها بمطمع مادي، ولا بنفس
شرهة يحرص على تلبية رغباتها، وإنما المشكلة عنده انحراف عقائدي يريه الأمر
أمر أموال لو صرفت إلى مصارفها المحددة لها بأمانة، ووجهت حسب رغبة
واقفيها المسلمين باستقلالية وتجرد، لجعلت المسلمين أعزة في ديارهم، يتمتعون
باستقلالية في اتخاذ قراراتهم، وجعلت علماءهم لا يتكففون من يذلونهم ويسومونهم
ويسومون دينهم الخسف والهوان، ولجعلت المسلمين يعرفون مواطئ أقدامهم على
خريطة العالم، وذلك بتعليم أولادهم دينهم وعقيدتهم، وتنشئهم التنشئة التي تتفق
وإرثهم الثقافي والحضاري، بدل تلقينهم ما يقطعهم عن جذورهم، ويجعلهم مشوَّهي
الفكر، فاقدي أهم واكرم ما يمتاز به الإنسان.
ولهذا، فإن هذا وأمثاله، ممن وسدت إليهم هذه الأمانة التي ليسوا أهلاً
لها، يجهدون في أن يسيروا في أموال الأوقاف سيرة سلفهم " محمد علي باشا " في أوقاف مصر، «الذي أخذ ما كان للمساجد من الرزق، وأبدلها بشيء من النقد يسمى [فائض رزنامة] لا يساوي جزءاً من الألف من إيرادها، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو 4 آلاف جنيه في السنة.. وقصارى أمره (أي: محمد علي) في الدين، أنه كان يستميل بعض العلماء
بالخلع (الملابس) أو إجلاسهم على الموائد لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك، وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط ماتوا عليه» [1] .
3- الدلالة الثالثة:
ظاهرة تحويل مساجد المسلمين إلى متاحف، فقد كان المعتاد أن تتحول
المساجد إلى كنائس في ظل السيطرة النصرانية على كثير من بلاد المسلمين وكانت
الرموز الإسلامية في هذه المساجد تقتلع أو تطمس، كما حصل في الأندلس، أما
في ظل الظروف الحالية، عندما عزف أهل الكنائس عن ارتياد كنائسهم، وعندما
وقع كثير من المسلمين تحت الملاحدة وعندما لا يوجد الجمهور الذي يملأ فراغ هذه
المساجد، فيما إذا حولت إلى كُنُسٍ ومعابد لليهود - كما في حالة فلسطين - يُلجأ
إلى تحويل هذه المساجد إلى متاحف، لئلا يتعرض العاملون على ذلك لاستنكار
بعض الجهات الدولية، مثل " اليونيسكو " وغيرها، فيما لو هدوا هذه المساجد.
وليجتذبوا بواسطتها السائحين، بعد أن يكونوا قد عطلوا دورها الذي قامت من أجله، وجعلوها مثابة للمتبطلين والفارغين الذين يقصدون هذه الأماكن بقصد الترويح
والفرجة.
4- الظاهرة الرابعة:
وهي ذات معنى يؤسف له، فكم من الجهات - في أرجاء العالم الإسلامي
الواسعة - نستطيع أن نشير إلى ما يصنع بأوقاف المسلين فيها - غير فلسطين
المحتلة -؟
فإذا كنا نستطيع أن نرفع أصواتنا مستنكرين منددين بما يفعل بحقوق الإنسان
على أيدي اليهود في فلسطين؛ فهل نستطيع أن نفضح الممارسات المشابهة في بقاع
وبلاد أخرى؟ مع أن هذه الممارسات إن لم تكن أشد خبثاً وأكثر التواءً فهي لا تقل
بحال عما يفعله اليهود من اغتصاب، ومماطلة، وتخطيط دائب من أجل تجريد
المسلمين من كل شيء له فاعلية..
ـــــــــــــــــــــ
(1) من المقال الشهير الذي كتبه الشيخ محمد عبده عام 1905، بمناسبة مرور مائة سنة على تولي محمد علي وأسرته حكم مصر.(3/87)
زيارة غورباتشوف للهند
الخبر:
قام الرئيس السوفيتي (ميخائيل غورباتشوف) بزيارة للهند استغرقت أربعة
أيام [من 25/11 إلى 28/11] وأعلن الجانبان عن إجراء محادثات بينهما حول
الأمن الآسيوى، ونزع الأسلحة، والسلام العالمي، وقال غاندي [رئيس وزراء
الهند] في حفل الاستقبال مخاطباً غورباتشوف:
إنك تحترم حيادنا، ونحن نحترم التزامك بالسلام.
وعقد الزعيمان اجتماعين منفردين.
التعليق:
أي حياد هذا الذي يتحدث عنه الزعيم الهندي؟ ! .
وأي سلام هذا الذي التزم أو سيلتزم به غورباتشوف؟ ! .
وماذا دار في الاجتماعين المغلقين الذين عقدهما الزعيمان السوفيياتي
والهندي؟! .
وللإجابة على هذه الأسئلة علينا أن نستحضر بأذهاننا تهديدات غاندي
لباكستان قبل الزيارة بأيام، وأما حياد الهند ودعوتها إلى السلام فالأدلة على بطلان
هذا الادعاء واضحة في موقف الحكومة الهندية من فصل باكستان الشرقية عن
الغربية، وفي احتلالها لمعظم أرض كشمير، وفي اضطهادها المسلمين في الهند.
أما السلام الذي يدعو إليه الزعيم السوفيياتي فآثاره جلية لكل ذي بصيرة في
أفغانستان المسلمة التي احتل الشيوعيون السوفيت أرضها منذ بضع سنين مما
اضطر خمسة ملايين من الأفغان إلى الالتجاء إلى باكستان، ومن أراد دليلاً على
هذا السلام المزعوم فليقم بزيارة مخيمات المسلمين الأفغان في منطقة (بيشاور)
الباكستانية.
أما الأحاديث التي دارت في الاجتماعين المغلقين الذين عقدهما الزعيمان
السوفيياتي والهندي فيجب أن يتنبه إليها المسلمون في باكستان، وعلى العلماء
والدعاة أن يحذروا من الخطط التي يرسمها قادة السوفييات والهند.. وقد كانوا في
جميع المؤامرات السابقة يداً واحدة ضد المسلمين في باكستان.(3/91)
زيارة البابا لبنغلاديش
الخبر:
زار بابا روما بنغلادش بتاريخ 19/11/1986 واستمرت زيارته يوماً واحداً، ورافق البابا في زيارته وفد من الفاتيكان يتألف من 35 عضواً، ويضم كاردينالين
بينهم وزير خارجية الفاتيكان " كاساريلي ".
وتوجه البابا فور وصوله إلى " دكا " مباشرة من المطار لإقامة قداس في استاد
تريب اكتظ بنحو 50 ألف شخص، ودعا في موعظته إلى الحرية والعدل واحترام
معتقدات الغير.
التعليق:
بنغلادش أو باكستان الشرقية من أفقر بلدان العالم، وطالما استصرخ
المسلمون فيها مشاعر إخوانهم في مختلف بلدان العالم الإسلامي فما وجدوا استجابة
تستحق الذكر، وفي المقابل نشطت المؤسسات التبشيرية في بنغلادش فشيدوا
المدارس والمستشفيات والشركات والمؤسسات الاقتصادية التي عرف القائمون عليها
كيف يستغلون حاجة المعدومين ويتلاعبون بعواطفهم، ومن الأمثلة على ذلك أن
هناك شركات اقتصادية تبتاع السمك من الصيادين بثمن بخس ولكن البائعين لا
يعرفون لولا هذه الشركات كيف يبيعون السمك، وهذه الشركات تعلب السمك ثم
تصدره فتربح أضعاف التكلفة، وهذه الأرباح ترصد لتنصير المسلمين، وبالفعل
يتزايد عدد الذين يتنصرون في بنغلادش، كما يحدث في معظم دول أفريقيا وجنوب
آسيا وشرقها، ولعل الله ييسر لنا تقديم دراسة عن أنشطة المبشرين في بنغلادش في
أعداد قادمة إن شاء الله.
فمتى ينهض الدعاة والعلماء والمحسنون من سبات نومهم، ويؤدون دورهم
المطلوب؟ ولن يؤدوا دورهم إلا إذا وحدوا صفوفهم، وصدقوا مع ربهم ونبذوا
الأهواء والأطماع والشقاق والنفاق.
وأما احترام معتقدات الغير والحرية والعدل، فلا وجود لهذه الشعارات في
الدول التي يتمكن فيها النصارى، والتاريخ خير شاهد على ذلك.(3/92)
اليهود.. حقد موروث
نقلت وكالات الأنباء بتاريخ 6/11/1986 خبراً من القدس مفاده أن المجندين
اليهود يتدربون في أحد مراكز الجيش الإسرائيلي على إطلاق النار على أهداف
يعلوها غطاء الرأس (الكوفية) وهو الغطاء التقليدي العربي ويصدر إليهم الأمر
على هذا النحو:
(صوب النار على محمد) أو (أطلق النار على محمد) .
عندما يقراً المسلم هذا الخبر يتذكر قوله تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً
لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا] [سورة المائدة 82] .
ولو تأملنا في ما يشير إليه هذا العمل - بعيداً عن التأثر بالعواطف - بشقيه: البَصَري، وذلك بوضع " الكوفية " على الهدف أو العقلي المتمثل بصيغة الأمر المعُطَى: (أطلق النار على محمد) ، لعرفنا أن هذا العمل بشقيه؛ ... يذكي روح الحقد والكراهية التي يكنها اليهود للعرب خاصة، وللمسلمين
عامة، ويزيدهم فاعلية في تحديهم وخططهم، وهم يكرهون العرب لأن أغلبيتهم مسلمة تدين بهذا الدين الذي له رأيه ورؤيته المحددة باليهود، ولهم من وحي ربهم غنية وبلاغ عن كل التحليلات والاكتشافات لخصائص العقلية اليهودية، ومميزات المكر والالتواء التي عرف بها.
ويكرهون المسلمين ونبي المسلمين ويجعلونه هدفاً يشحذون [1] به غيظهم
وكراهيتهم، وينفسون بذلك عن أحقادهم الدفينة، وذلك لأنهم يعلمون من التاريخ أن
الجماعة الإسلامية الفتية، القليلة العدد، بقيادة هذا الرسول العظيم، محمد بن عبد
الله صلى الله عليه وسلم، لم يخدعها ظاهر اليهود عن باطنهم، ولم تنحن لخطط
اليهود وأحابيلهم، ولم تقع تحت إغرائهم، ولم يَسِلْ لعابها لما يملكون من وسائل،
وما يبذلونه من مطامع، واستعصت هذه الجماعة على خطط اليهود وكيدهم، في
الوقت الذي نرى فيه أعتى أمم الأرض، وأملكها لأسباب القوة المادية، - من
أسلحة فتاكة، واقتصاد قوي، وأعداد بشرية كبيرة، وعقول خبيثة، مَرَنت على
رسم خصص الشر، ودربت على الإفساد في الأرض؛ نرى هذه الأمم العاتية وقد
وقعت في شباك اليهود، وسقطت تستجدي نفوذهم، وتتملقهم بشتى صنوف
الاسترضاء.
لذلك كله يكره اليهود المسلمين، ومع أنهم يكرهون البشر جميعاً، ويؤمنون
أن كل البشرية يجب أن تكون بهائم لليهود، وأنهم شعب الله المختار، لكن
كراهيتهم تزداد طرداً حسب تنبه الناس لهم، ومعرفتهم لأساليبهم، وتتناقص عكسياً
بقدر استنامة الأمة لهم، والغفلة عما هم بصدده، أو موافقتهم ابتغاء عَرَض من
الدنيا قليل تملكه أيديهم.
وتبقى كلمة نوجهها لبني قومنا من العرب ممن لا يزالون يفرقون بين
الصهيونية واليهودية، وتنطلي عليهم هذه الخرافة التي يروِّجها الملاحدة وأشباههم
من أصدقاء اليهود وأوليائهم فنقول:
إن الذي مكن لليهود في فلسطين هو امتلاء نفوسهم - قيادة وجماهير - بهذه
العقيدة التي يؤمنون بها، والتي وحدت هدفهم وجددت طريقهم، في الوقت الذى
واجهوا فيه قيادات ترفع مئات الرايات، وقلوباً خفتت فيها أصوات العقيدة بل
وجدوا قيادات في جانب وشعوباً في جانب آخر، فأي خذلان أكبر من هذا الخذلان، وأي فرصة مناسبة للأعداء أفضل من هذه الفرصة؟ !
ومع أن الحقائق تثبت يوماً بعد يوم، أن لاخيار للعرب في رجوعهم إلى ما
فيه عزهم ومنعتهم وهيبتهم - ألا وهو الإسلام - وأن أحوالهم المؤسفة، وأمراضهم
المستعصية لا علاج لها إلا بذلك؛ إلا أننا لانزال نرى من تفرق الكلمة، وكثرة
الرايات وتوجيه الأسلحة إلى صدور وظهور المسلمين من قبل أبناء المسلمين،
ورفع كل راية، ماعدا الراية الإسلامية، ما يدمي القلب، ويستمطر الدمع.
إن اليهود يعلمون حق العلم أن الإسلام هو المحتوى العقائدي والفكري للعرب، وبهذا المحتوى فتحوا فلسطين وغيرها وأرسوا فيها معالم حضارته، وبه أيضاً
طردوا الصليبيين الذين هجموا هجمتهم على فلسطين وغيرها من بلاد الشام في
ظرف هو أشبه بهذا الظرف البائس، ولم يُردوا على أعقابهم خائبين إلا حين
جوبهوا بقوة يقودها مثل عماد الدين، ونور الدين [2] ، وصلاح الدين، بعد فترة
من التمزق تسلط فيها أصناف من الملاحدة والزنادقة وأصحاب الأهواء والمبتدعة
على رقاب المسلمين، وعاثوا في بلاد الإسلام فساداً.
__________
(1) شَحَذَ السيف: صقله وجعله حاداً.
(2) عماد الدين زنكي وابنه نور الدين الشهيد.(3/93)
مشاهداتي في بريطانيا
من طلب رضا الناس بسخط الله
د. عبد الله مبارك الخاطر
عرفته في بريطانيا شاباً طموحاً يتدفق حيوية وحركة.. جل همه أن يحصل
على شهادة (دكتوراه) ثم يعود إلى بلده ليكون مدير جامعة أو وكيل وزارة أو
وزيراً.
كان يحدثنا عن ثقته بنفسه وقدرته على استمالة الناس إليه.. فهذا المسؤول
أقنعه بوجهة نظره، وذاك المدير أقام معه أطيب العلاقات وأمتنها.. وخلال إقامته
في بريطانيا نهج طريقه المعروف، فأخذ يتقرب إلى مشرفه ويتملق له، ويحاول
إرضاءه بمختلف الوسائل والأساليب ولم يقصر " دكتور المستقبل " في إقناع أستاذه
بأنه ليس رجعياً، ولا متديناً، وفضلاً عن هذا وذاك فهو معجب أشد الإعجاب
بالإنكليز وجامعاتهم وتقدمهم العلمي.
وذات يوم أراد الأستاذ أن يمتحن مصداقية أقوال تلميذه، فدعاه إلى وكر من
أوكار الخمور، وسارع (دكتور المستقبل) إلى تلبية الدعوة.. وظن الأحمق أن
استجابته لطلب المشرف سوف تساعد على اختصار الوقت.
شرب (دكتور المستقبل) حتى الثمالة، وفقد توازنه، ولم يعد قادراً على
ضبط أقواله وأفعاله.. أما المشرف فكان يشرب قليلاً ويتمتع برؤية تلميذه وهو
يشرب لأول مرة. وهب أنه شرب كثيراً فلا فرق عنده بين الماء والخمرة، لقد
اعتاد شرب الخمر.
أما " دكتور المستقبل " فقد أخذ يعبر عن مشاعره الحقيقية نحو الإنجليز،
وراح يلصق بهم أبشع النعوت وأحطها، والمشرف ينظر إليه ويؤمن على كلامه
ويبتسم له ويخفي في نفسه ما لا يبديه.
ومضت الأيام، وكلما قدم (دكتور المستقبل) فصلاً أخّره المشرف مدة طويلة
ومملة، ثم يعيده لتلميذه طالباً حذف بعض الأمور وإضافة أمور أخرى وإعادة
الصياغة لأن لغة الكاتب ركيكة.. وكان المشرف يغلّف حقده بقوله:
أريدك أن تكون دكتوراً ناجحاً، وسوف تستفيد كثيراً من هذه الفترة الطويلة
التي تمكثها بيننا، ولا يتخرج من جامعاتنا إلا الأفذاذ من الرجال.
وأخيراً بقي الطالب الطموح ضعفي المدة المحددة، وذاق الويلات، وأصبح
يشك بمواهبه وقدراته.. وبعد التي واللتية نال شهادة الدكتوراه، وقبل سفره جلس
مع أستاذه المشرف يحدثه عن إعجابه بالإنكليز وجامعاتهم وتقديره لكل ما رآه
عندهم، فأجابه المشرف بكل خبث ودهاء: إن حقيقة رأيك بالإنكليز وأخلاقهم
وعاداتهم سمعته منك في الخمارة قبل ثلاث سنين، فحاول (الدكتور الجديد) أن
يعتذر ولكنه أخذ يتكلم ويهذر ولكنه يعرف أن كلامه ليس مقنعاً ومن كان عاجزاً عن
إقناع نفسه فكيف يقنع غيره.
أدرك الدكتور الجديد ورجل المستقبل في بلده لماذا غيّر المشرف أسلوبه
ولماذا تضاعفت مدة الدراسة لكنه بكل أسف لم يدرك الأمور التالية:
من طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ولم يدرك أنه [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ] .
ولم يفهم - وهو المسلم - أن التنافس يكون على الأعمال الصالحة وليس
على حطام الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
وليت هذه العقوبة الدنيوية تكون سبباً في هداية الدكتور وتوبته.. وليت أمثاله
يتعظون.(3/96)
أطفال الحضارة المعاصرة ... نحو الهاوية
إن ظاهرة الاعتداءات التي يتعرض لها الأطفال في دول الحضارة المعاصرة
تكاد تملأ سمع العالم وبصره منذ سنوات، وخصوصاً من يقدر له أن يعيش في مثل
هذه الدول المتحضرة! ! .. هذه الاعتداءات تشمل الضرب الجسمي الوحشي،
التعذيب بالآلات الحادة، إطفاء السجائر بأجسام الأطفال الرقيقة، السجن في أماكن
مظلمة، ربط الطفل في زاوية من زوايا البيت لفترات قد تتجاوز الأشهر، بل
أحياناً السنوات! ! هذا عدا الترك والإهمال بكل معانيه [الصحية-التغذية - التعليم
والتربية.. الخ] ، والإهانات العاطفية، بيع الأطفال مقابل مبلغٍ من المال، الطرد
والإبعاد عن المنزل في سن مبكرة جداً.. إلى آخر هذه الأساليب الوحشية المفزعة..
وقد يدهش المرء عند سماع مثل هذه الحالات المذهلة من التعذيب، وقد
يصف هذه المجتمعات بالوحشية والبهيمية.. لكنه سرعان ما يتضح له خطأ هذا
الوصف والتشبيه إذا علم أن ما يتعرض له أطفال الحضارة المعاصرة من أساليب
التعذيب والتفنن فيها إنما يحدث من أقرب المقربين منهم، ممن يقوم على رعايتهم
وتربيتهم، بل - وفي كثير من الحالات -من آبائهم وأمهاتهم.. نعم إن الوحوش
الكاسرة لتعطف على صغارها بدافع الفطرة التي فطرها الله عليها، والرحمة التي
أودعها في قلوبها تجاه صغارها.. بل وأحياناً تجاه أبناء جنسها.
فليس الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضاً عياناً
إن هذه الوحوش لتدفع عن صغارها كل سوء، وتكدح من أجل تأمين الرزق
لها، وتوفر لها المكان الآمن، وهي مع ذلك مستعدة للتضحية بحياتها من أجل أن
يبقى صغارها، وهذا الأمر لا يحتاج إلى دليل ولا إلى كثير من الإيضاح.. ولكن
ما لا تتقبله العقول السليمة، ولا الفطر القويمة أن يقوم من كرمه الله بالعقل والفهم
والإدراك بمثل هذه الأساليب الوحشية - مع التحفظ على هذه الكلمة - ويصب
صنوف العذاب على من؟ على أطفاله وفلذات كبده.. ولو كان الأمر متعلقاً بأطفال
غيره أو بأطفال من دول العالم الثالث لهان الأمر، خصوصاً إذا تذكرنا العقلية
الاستعمارية التي يتمتع بها كل من الغرب الرأسمالي، والشرق الملحد، والتي لا
تزال كثير من الشعوب تعاني منها أو من آثارها.
ولنأخذ أعرق هذه المجتمعات مدنية وتحضراً، كشريحة من شرائح المجتمع
الغربي المتحضر نجري عليها هذا البحث - أعني المجتمع الإنجليزي - فالحكومة
البريطانية تستعد الآن لإصدار (كتاب أبيض) يتعلق بمشروع قانون حماية الطفولة
المزمع طرحه على مجلس العموم، وقد وعدت الحكومة بأن تأخذ في الاعتبار
اقتراحات وصفت بأنها (دراماتيكية مثيرة) لأنها تعطي الطفل الحق في أن يطلب
قضائياً الانفصال عن أبويه إذا تعرض للإساءة من جانبهما [الشرق الأوسط
4/11/ 1986] .
ولا تظن - أخي القارئ - أن حضارة القرن العشرين المبدعة عجزت أن
تبتكر أساليب جديدة أكثر تقدماً - نحو الهاوية - في هذا المجال.. ويحق لك أن
تسأل: وأي جريمة بقيت لم ترتكب في حق هؤلاء الأطفال الأبرياء؟ . لكن إن
كنت ممن تابع الصحافة الغربية، والبريطانية منها على وجه أخص، في الآونة
الأخيرة فإنك لابد أن تكون أدركت ما أرمي إليه.. هذا الأسلوب الجديد هو ما
يسمى (بالاعتداء الجنسي على الأطفال) .. فلقد أنشئ خط هاتفي جديد في مدينة
ليدز البريطانية لمساعدة الأطفال الذين تعرضوا لمثل هذا النوع من الاعتداء، ولقد
تلقت محطة تلفزيون B. B. C البريطانية ما يتراوح بين 30 - 50 ألف مكالمة
هاتفية خلال الاثنتي عشرة ساعة الأولى التي فُتحت فيها الخطوط الهاتفية للأطفال.. لكن ألفي مكالمة فقط تمكنت المحطة من الإجابة عليها.. ورغم أن أكثرهم كانوا
من البالغين الذين أبدوا استعدادهم للمساعدة في هذا المجال إلا أن 306 ممن خابروا
المحطة كانوا من الأطفال الذين يشكون من وقوعهم تحت هذه المأساة، وقد أحيل
عشرة منهم إلى أقسام الرعاية الاجتماعية، أو المكاتب المدعومة من المتطوعين أو
الشرطة [الأوبزيرفر 2/11/1986] .
ويتبين حجم هذه المشكلة، والتي أثيرت بمناسبة إنشاء هذا الخط الهاتفي من
خلال تصريح الدكتورة جلاسر Dr Glaser والتي تعمل في إحدى مستشفيات
لندن حيث تقول:
إن الوحدة التابعة لها والمختصة بالأطفال المعتدى عليهم، والتي تخدم إدارة
صحية واحدة فقط.. إن هذه الوحدة تتلقى الآن 80 حالة جديدة سنوياً والتي قد
تكون مؤشراً لوجود 16 ألف حالة جديدة سنوياً في إنجلترا أو مقاطعة ويلز.
إن أقسام الرعاية الاجتماعية غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من الأطفال المعتدى عليهم، وإن بيوت رعاية الأطفال والتي كان مقرراً إغلاقها ستبقى ...
مفتوحة الآن، في مدينة ليدز.. لقد اكتشف الأطباء مثل هذه الاعتداءات منذ أربع
سنوات، فلقد زاد عدد هذه الحالات من عشر حالات في عام 83 م إلى 400 حالة
في هذه السنة 86) [الاندبندنت البريطانية 3/11/86] .
يقول الدكتور (كوستوفر هوبز) والذي يقود مجموعة مختصة بهذا النوع من
الاعتداء على الأطفال في المستشفي التابع لجامعة ليدز:
لقد دربنا أساتذة المدارس والحضانات ورجال الشرطة والزائرين الصحيين
للتعرف على مؤشرات الاعتداء عند الأطفال، ولقد أنشأنا أعداداً كبيرة من بيوت
الحضانة، وسنبحث عن عدد كبير من العوائل كي تأخذ هؤلاء الأطفال.. ولكن
المشكلة التي تواجهنا أن هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى عوائل ذات خبرات في
التعامل مع مثل هذه الحالات لأن لديهم كثيراً من المشاكل الاجتماعية والنفسية،
حيث يتصرفون تصرفاتٍ غير ملائمة) [الاندبندنت 3/11/ 86] .
كما ذكر ناطق باسم المنظمة المذكورة بتاريخ 13/7/86 (إن أكثر من 300
طفل في مدينة ليدز يتلقون علاجاً نفسياً بعد أن تعرضوا لاعتداءات من بعض أفراد
عوائلهم أو من بالغين آخرين.
ولنر الآن ما موقف القانون البريطاني من هذه المشكلة، وما مدى مساهمته
في حلها، والقضاء عليها؟
يقول «ميرسي هوكر Maurice Hawker» مدير الخدمات الاجتماعية
في مجلس مقاطعة اسكس:
إن المشكلة تكمن في أن القانون لا يحمي هؤلاء الأطفال.. حيث إننا نخسر كثيراً من الحالات عندما نحاول أخذ هؤلاء الأطفال للعناية بهم، وذلك بسبب عبء الإثباتات الهرقلية (القاسية) .. وعلى عموم المجتمع أن يأخذ حقوق الأطفال في حساباته [الأوبزيرفر 12/11/86] .
ويقول الدكتور هوبز: «إنه من الصعوبة بمكان اتخاذ أي إجراء ضد
الشخص المغتصب؛ إلا إذا اعترف بذلك.. حتى لو كان التشخيص الطبي يثبت
هذا الشيء، إن القانون أصبح حصانة للمغتصب.. والشرطة تعرف ذلك وقليل
جداً من الحالات ترسل إلى المحكمة» [الأندبندنت 3/11/86] .
هذا هو إسهام القانون في حل المشكلة.. حماية المجرم.. ووضع العراقيل
أمام المصلحين والعقلاء.. والنتيجة زيادة الجريمة والانحطاط الخلقي والاجتماعي،
وتفشي الأمراض، والمزيد من النفقات الاقتصادية لعلاج ذلك كله..
وهذه المشكلة لم تنشاً من فراغ، بل إنها جاءت نتيجة انحراف موجه في
مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، وثالثة الأثافي تساهل القانون في القضاء على
الجريمة.
وإن لوسائل الإعلام حصة الأسد من إشاعة مثل هذه الجرائم فما يُعرض في
قنوات التلفاز من أفلام ولقطات تحرض على الجريمة الجنسية، وما يعرض في
أشرطة الفيديو والمسارح والمجلات التي تعرض وتباع على مسمع ومرأى بل
وبحماية من القانون والسلطات.. كل هذا مما يزيد معدل هذه الجريمة.. وليست
الخمور والمخدرات من الساحة ببعيدة في مثل هذه الجرائم.. إذاً، كل شيء في
بلدان الحضارة المعاصرة يحرض على الجريمة وبصفة قانونية رسمية يحارب
القانون نفسه من يحارب الجريمة أو يحاول أن يقف في طريقها.. إنه القانون
الوضعي القائم على مثل نظرية فرويد الحيوانية.. إنه البعد عن منهج الله.. إنه
الضياع..
وإلى أبناء أمتنا نسوق هذه الأمثلة التي تعكس الوجه المظلم للحضارة
المعاصرة مستهدفين أن يزداد أبناء هذه الأمة تمسكاً بما لديهم من منهج حكيم ومن
شرع إلهي - أنزله الله الحكيم الخبير بما يُصلح عباده - فهو الملجأ والعاصم من
أمثال هذه الجرائم. وصدق الله القائل: [ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ]
[سورة الأنبياء 107] .
إن القوانين الوضعية الجاهلية قد ثبت فشلها وعجزها عن محاربة الجريمة
بأنواعها، فهي - كالصانع الأخرق - كلما عالجت أمراً أفسدت أموراً كثيرة بل إن
هذه القوانين مهما بلغت من الحكمة في التقنين والحدة والشدة في التنفيذ والعقوبة
فالجريمة باقية في النفوس.
انه الإسلام.. والإسلام وحده الذي يعالج النفوس قبل أن يحد الحدود
والعقوبات.. إنه المنهج الرباني.
فيامن وليتَ أمراً من أمور التعليم والتربية أو وسيلة من وسائل التوجيه في
عالمنا الإسلامي: اتق الله فيما وليت، ولتكن هذه الأمثلة ماثلة أمامك، وأنت تضع
الخطط والبرامج، ولا يغرنّك خبراء التعليم والإعلام في العالم الغربي أو الشرقي،
فالنتيجة كما ترى مزعجة مفزعة ولو كان عندهم خبرة شاملة كاملة لاستفادت منها
بلادهم.
ولقد خاطبنا ربنا قائلاً: [وسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وتَبَيَّنَ لَكُمْ
كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ] [سورة إبراهيم 45] والعاقل من اتعظ بغيره.(3/98)
مسمار جديد في نعش الشيوعية
جاء في تقرير قدمه (اليكسي شكولنيكوف) رئيس لجنة الرقابة الشعبية أنه
بعد 20 شهراً من تولي (ميخائيل جورباتشوف) سلطات الحكم لا يزال الاقتصاد
المحلي عرضة لانعدام الانضباط، وأنه تم طرد (13) ألف مسؤول اقتصادي في غضون عام واحد بتهمة استغلال النفوذ.
وقال (شكولينكوف) في كلمة أمام مجلس السوفييت الأعلى أنه تمت إدانة
(100) ألف مسؤول آخر خلال الفترة نفسها بتهمة عدم الانضباط وتزوير الأوراق
الرسمية والاختلاس.
وتضم لجنة الرقابة (4600) خلية تضم بدورها مليونين من العاملين. وأنشئ
هذا الجهاز في إبريل عام 1984.
وقال شكولينكوف: إنه تفقد في العام الماضي نشاط 7 محطات إقليمية للسكك
الحديدية حيث اكتشف تزويراً في الأوراق الرسمية تتعلق بحوالي 7 ملايين طن من
البضائع. وأضاف: إن عدداً كبيراً من موظفي هذا الفرع قد عزلوا من مناصبهم.
وأنتجت المصانع 350 ألف طن من المعادن من بينها (38) ألف كيلومتر من
الكابلات بيد أنها لم تسجلها في الدفاتر مما شجع على حدوث سرقات على نطاق
واسع.
وندد واضع التقرير باستغلال النفوذ في توزيع المساكن ونوعية البناء التي
تدعو إلى الأسف فقال: إنه في مدينة الماتا [كازاخستان] استغلت إحدى لجان
البلدية 26 عمارة سكنية، بينما كانت تنقصها تركيبات الغاز والكهرباء.
وأشار شكولينكوف الى أن إنتاج ملابس الأطفال انخفض خلال الخطة الثانية
عشرة [1981 - 1985] بعد أن رأى الصناع أن هذا النشاط لا يدر أربحاً وفيرة،
وفيما يتعلق بأدوات المنزل فإن انتاجها انخفض في العام الماضي بنسبة 37 مليون
وحدة عنه منذ عشرة أعوام.
نشرت الصحف هذا التقرير في 20/11/1986 نقلاً عن وكالة الأنباء:
ا. ف. ب.
ونشرت الصحف [عن وكالات الأنباء] في 23/11/1986 الخبر التالي:
أعلن مسؤولون سوفييت أن ما يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين عامل
سيفتتحون مشروعات عمل خاصة بهم العام القادم بعد الموافقة على قانون جديد
يسمح للعامل السوفييتي بالعمل لحسابه الخاص.. وختم المسؤولون السوفييت
حديثهم بقولهم:
ليست هناك قيود على العمل الخاص في وقت الفراغ.
تعليق:
المسؤول الذي لا يؤمن بالله ولا يخشاه سوف يسرق، ويغش، وينهب، ولن
يخشى صرامة القانون لأن الذين يشرفون على تنفيذ هذا القانون مثله، لصوص،
وقطاع طرق، والأرقام التي ذكرها " اليكسي شكولينكوف " متواضعة وغير
صحيحة ومع ذلك فإنها تدل على أن النظام السوفييتي يعاني مشكلات مزمنة،
وتتفاقم هذه المشكلات يوماً بعد آخر، ورغم السرية والكبت والإرهاب فقد اضطر
المسؤول السوفيتي إلى الاعتراف بتراجع الإنتاج وكثرة الاختلاس.
والسماح لملايين العمال بالعمل في القطاع الخاص فيه دليل آخر على هزيمة
النظام السوفييتي أمام الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. ولا نقول: إن النظام
الشيوعي قد فشل، لا نقول هذا لأن الشيوعية التي تحدث عنها كارل ماركس لم
تطبق في الاتحاد السوفييتي، رغم الأخاديد التي حفرت والمجازر التي ارتكبت،
وملايين الأرواح التي أزهقت.
فالملكية الخاصة والبنوك والادخار وما إلى ذلك موجود في السوفييت منذ
القديم، وهذا الذي ذكرناه دليل جديد نتمسك به ونواجه به الشيوعيين الملاحدة في
عالمنا الإسلامي، الذين لا يفكرون إلا بعقول قادة الكرملين ... ومثل هذه الهزائم
تأتي بعد تراجع الصين عن النظام الشيوعي، وبعد فشل نبؤات ماركس وتروتسكي
ولينين ويضاف إلى هذا كله ازدياد نشاط المسلمين في الاتحاد السوفييتي رغم
سياسة الكبت والاضطهاد التي تمارس ضدهم.(3/102)
جمادى الآخرة - 1407هـ
فبراير - 1987م
(السنة: 1)(4/)
الافتتاحية
مهمة العلماء
إن المكانة التي ينالها العلماء بين صفوف المسلمين لا تعدلها مكانة أبداً، وإن
عناية المسلمين بتسجيل دقائق حياة علمائهم مشهورة ومشهودة، تشهد بها آلاف كتب
التراجم والطبقات التي حفظت هذا المقدار الهائل من أسماء العلماء على مدار
العصور، وعلى اختلاف مناحي المعرفة.
وسبب ذلك أن النظرة إلى العلم والعلماء قضية داخلة في صلب العقيدة الدينية، فقد ترسخت هذه المكانة للعلماء من يوم أن اعتبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء،
ومنذ تفرق الصحابة - رضي الله عنهم - في البلدان، ينشرون الدين، ويعلمون
الناس ما جاء به محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - من العلم والنور
والهدى.
وقد كان المنصب العلمي غير منفصل عن منصب القيادة السياسية في حياة
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي حياة خلفائه الراشدين، بل وفي حياة
بعض الخلفاء الذين تحول الأمر على أيديهم إلى ملك عَضوض.
وبعد ذلك بدأت العلاقة بين المكانة العلمية والمنصب السياسي تتراخى، حتى
أصبحت طبقة العلماء متمايزة تقريباً عن طبقة الحكام، إلا في استثناءات يسيرة.
ومع هذا، فإن عامة الناس ازداد التفافها حول علمائها، فبينما كانت العلاقة
بينهم وبين القادة السياسيين - في الغالب - تحكمها الأمور الرسمية، وتحيط بها
مشاعر الرهبة والخوف لأنها كانت ناتجة عن استخدام القوة والإكراه، كانت
علاقتهم بالعلماء علاقة قلبية تقوم على مشاعر الولاء الداخلي الصادق النابع من
عقيدتهم، وذلك لأنهم كانوا يجدون في هؤلاء العلماء الملاذ من قسوة الظروف،
وكانوا يلتمسون عندهم الحلول لمشاكلهم، والنور الذي يهتدون به حينما كانت تشتد
عليهم الأحوال الداخلية أو الخارجية.
وحينما حصل الانفصال بين العلم وبين القيادة، وتسلط على الناس مَن لا
يبالي ولا يقيم وزناً لمثل هذه المؤهلات - أصبحت هيبة العالِم تزداد، وأثره
يترسخ بقدر بُعده عن أبواب هؤلاء السلاطين، وكان هذا نوعاً من المقاومة السلبية
لهذه الحال غير الطبيعية.
ولو أننا أردنا أن نستخلص مميزات للعلماء الذين بقوا في ذاكرة الأمة،
واستمر أثرهم حياً بعد موتهم، من خلال استعراضنا لتاريخ العلم والعلماء لأمكننا
أن نعثر على كثير من الصفات التي كفلت لهؤلاء العلماء جميل الذكر وعميق الأثر
في حياتهم وبعد مماتهم، ومن ذلك:
1- العلم الصحيح النابع من توجيهات القرآن الكريم، وما صح من سنة
المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
2- الإخلاص في طلب هذا العلم، وفي تبليغه، وعدم الحرص على فضول
الدنيا وحطامها الزائل.
وإننا لنجد العجب العجاب في سيرة علمائنا حول هذا المعنى، ولقد سن هؤلاء
لمن بعدهم نهجاً واضحاً في التقلل والصبر والبعد عن إذلال النفس وإهانتها في
سبيل تحصيل فضول العيش، وضربوا أروع الأمثلة في ذلك، بل إنهم كانوا لا
يستنكفون عن القيام بأي عمل يدوي مهما كان؛ ليعيشوا في غناء عن الحاجة لأحد، أعزة يقولون كلمة الحق في وجه من يحيد عنها، لا يخشون قطع جراية أو مرتب، فكان منهم الفرَّاء والعطار والزجَّاج والإسكاف و ...
3 - الالتصاق بالجماهير، فالعلماء الذين أحدثوا أثراً مدوياً هم الذين لم
ينعزلوا في بيوتهم، أو في حلقات ضيقة حصروا أنفسهم فيها ولم يدروا ما يموج به
المجتمع من مشاكل، وإنما تناولوا قضايا الناس الملحة، ونظروا فيما له أثره
وانعكاساته على حاضر الناس ومستقبلهم.
وإنني سأكتفي بضرب مثالين من أمثلة كثيرة على هذا الأمر من حياة إمامين
جليلين هما: الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
ففيما يتعلق بالإمام أحمد فإنه وقف موقفاً جريئاً وثابتاً من قضية شغلت الناس
في عصره، وبدعة استظهر على القول بها جماعة من أهل الأهواء بقوة السلطان،
وامتحنوا الناس بها، وأرادوا أن يحملوهم عليها قسراً، ألا وهي بدعة القول
(بخلق القرآن) .
وقد يظن بعض الناس - لأول وهلة - أن موقف الإمام أحمد ليس له ما يبرره، وأن القضية التي تصدى لها ليس لها ذلك الخطر الذي نصب نفسه لمجابهته، ولكن هذا الظن قد تدفع إليه العجلة أو الجهل بالحقائق، فقد وجد الإمام أحمد في هذه المقالة - من حيث المبدأ - أمراً لا أصل له، ولا دليل عليه، ومن
جهة ثانية كانت هذه المقالة بتأثير من الأفكار الوافدة والفلسفات الدخيلة التي تسربت من خلال الترجمة لبعض آثار الأمم غير الإسلامية، بتصوراتها الوثنية، ولوثاتها التي تصادم ما عليه المسلمون من عقيدة ومنهج.
وليس هذا مقام تحليل ظروف المحنة، وما كانت ستؤدي إليه النظريات
الاعتزالية والعقلية، فيما لو هيمنت على أسس النظر والاستدلال عند المسلمين،
ولكن نقول:
إن بقاء الإمام أحمد صابراً محتسباً، يسام العذاب في سبيل عقيدته، لا
يزلزله الترهيب، ولا يستخفه الترغيب - أمر لا يدعو إلى الإعجاب فقط، بل
يدعو للتساؤل عن سبب هذا الثبات على الرأي، على الرغم من أن كثيراً من
علماء عصره آثروا السلامة، ووافقوا ما يريده الخليفة وبطانته تقيَّة.
وقد يقال: أَمَا كان أحمد بن حنبل مندوحة فيما سلكه علماء عصره من لتَّقِيَّة؛ وأن يداري الخليفة وبطانته بقول وقلبه مطمئن بخلافه، ويجني من وراء ذلك الموقف رضا السلطة عنه واستمرار دروسه وانتفاع الناس بعلمه؟
ولكن مع أن التقية في دار الإسلام - حيث تستقر الأحكام - تناقض مبدأ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف بمن هو مثل الإمام أحمد أن يقف هذا
الموقف المتخاذل الذي يمكن أن ينتج عنه افتتان كثير من العامة به، وقد كان هذا
المعنى حاضراً في ذهن الإمام أحمد حينما دخل عليه بعض الناس، وهو محبوس
بالرقة، فجعلوا يذاكرونه ما يُروى في التقية من الأحاديث، فقال:
كيف تصنعون بحديث خباب: «إن من كان قبلكم كان ينشر بالمناشير ثم لا
يصده ذلك عن دينه» ؟ وقال له المروزي لما أرادوا أن يقدموه للضرب: يا أستاذ! قال الله - تعالى -: «ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ» [النساء: 29] ، فقال: يا مروزي! اخرج انظر أي شيء ترى؟ ؛ قال: فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً
من الناس لا يحصي عددهم إلا اللهُ - عز وجل -، والصحف بأيديهم، والأقلام
والمحابر في أذرعتهم. فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ ، فقالوا: ننظر ما
يقول أحمد فنكتبه. فقال المروزي: مكانكم، فدخل إلى أحمد وقال له: رأيت قوماً
بأيديهم الصحف والأقلام، ينتظرون ما تقول فيكتبونه. فقال: يا مروزي! أُضل
هؤلاء كلهم؟ ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم.
قلت: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله - عز وجل - فبذلها [1] .
وهنا يتضح معنى شهادة علي بن المديني التي قال فيها: (إن الله - عز
وجل - أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة،
وأحمد بن حنبل يوم المحنة) [2] .
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد عاش مشاكل عصره بعمق ومعاناة جعلاه مميزاً
من بين العلماء في تفاعله مع القضايا المصيرية التي كانت راهنة يومذاك.
ولقد كان يسعه ما وسع كثيراً من غيره من العلماء، فيقنع بالرتابة التي لفت
وتلف الكثيرين، وتمضي حياته بين وظيفة رسمية يتقلدها فتستعبده، وإن آثر
الابتعاد عن ذلك فحسبه أن يكتفي بدروس يلقيها على طلبة العلم، وغوص في غمار
المسائل الدقيقة خلال جماعة معدودة، اختصت به، ورضي بها، ولكن - مع أن
التبحر في العلم، والتعمق به من لوازم صفات العالم - إلا أنه أدرك أن العلم الذي
لا يحرك الجماهير، ولا يبصرها بواقعها ويستحضر لها المخاطر التي تتهدد كِيانها
من جذوره علم ساكن، يعيش صاحبه ويموت ويزول أثره كحلم لذيذ بين أجفان
متعب وسْنان، سرعان ما يُنسى تحت وطأة اليقظة وتكاليفها الثقيلة.
فاختار الطريق الشاق، ورمى بنفسه في أتون قضايا عاصفة، فها هو قد فتح
عينيه على الحياة وقد قوض التتار الخلافة العباسية، وزحفوا كالطاعون فأزالوا
مدناً وممالك من الوجود، وعاثوا فساداً في كل أرض وطئوها، ووجدوا في طريق
زحفهم قوى إسلامية مبعثرة، تفتك فيها الفرقة، ويعيش في ظلالها أهل الأهواء،
على اختلاف منازعهم ومللهم، وفرقاً باطنية تنخر كالسوس في هذا الكيان الذي كان
يوماً تحت سلطة مهيبة الجانب، وعلماء ركنوا إلى الدنيا، وجمدوا على التقليد،
ولقنوا أتباعهم التعصب، وبدل أن ينفقوا جهودهم في إحياء الأمة من رقادها،
أنفقوها في الكيد لبعضهم، وفي التسابق في طريق الوشاية عند السلطان، وأعداءً
قدامى لهذا الدين انتهزوا هذه الفرص ليرصوا صفوفهم من جديد، ويجهزوا على
مكامن القوة فيه ... وشيئاً كثيراً من السلبيات تضيق هذه المقالة عن ذكره.
فخاض - رحمه الله - في كل اتجاه، حتى تألب عليه بسبب ذلك من لا
يسامونه في همته، ولا يساوونه في غيرته، فحارب التتار، وبين حكم الله فيهم،
بعد أن نكل عن ذلك كبار علماء عصره، وحرض الناس على التصدي لهم، حتى
سرت فيهم نفحة جهادية كفت عنهم هذا الوباء الأصفر، وتصدى للعاملين على
إشاعة الجمود والخرافة والتحلل من ربقة الشريعة، فلم يبالِ بما لهم من كلمة نافذة
في صفوف العلماء والأمراء والعامة، وعمل على إرساء أصول النظر الصحيح من
خلال إعادة الناس إلى فهم الكتاب والسنة، ونبذ الأفكار الدخيلة التي فرقت الأمة،
وكادت تعصف بما يميزها من عقيدة صحيحة، ولم يجمجم - بينه وبين نفسه -
برأي يقوله في أصحاب الفرق الضالة، والمذاهب المنحرفة، بل قالها صريحة
واضحة في وجوههم، وبين حكم الإسلام وما استقر عليه رأي العلماء الذين يعتد
بهم في الفرق الباطنية وجذورها وأساليبها الملتوية في خديعة المسلمين والمكر بهم،
وبطلان أدلتها القائمة على الشُّبه والهوى والظلم.
ولم تهن له عزيمة، ولم تلن له قناة وهو يواجه هذا الجم الغفير من أعداء
الداخل والخارج، وتحمل من أجل ذلك ما تحمل من الكيد والوشاية التي أودت به
إلى السجن ثلاث مرات.. حتى مات في السجن صابراً محتسباً - رحمه الله -.
ونحن حين نقول هذا في ابن تيمية لا ندعي له ولا لغيره من العلماء العصمة، ولا ننزههم عن الخطأ في السلوك أو الاجتهاد، ولكن نود أن نستخلص فكرة
محددة من خلال كل هذا ألا وهي أن العالم الذي يبقى صداه مدوياً مجلجلاً هو ذاك
الذي يدفعه التحرق والتألم على واقع أمته إلى المشاركة الفعلية في مشكلاتها
والاكتواء بنار هذه المشكلات، فهذه هي وظيفة القادة الذين يمثلون روح الأمة،
والرواد الذين يسيرون بها نحو الغاية، حين تشتبه السبل، وتعم الفتن، وتكثر
الدعوى، ويعجب كل ذي رأيه برأيه.
__________
(1) جلاء العينين لنعمان الآلوسي 236.
(2) المصدر السابق.(4/4)
التجديد في الإسلام
(4)
الإمام الشافعي
لا خلاف بين من يعتد برأيه من المسلمين أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي
هو معلمة بارزة من معالم ثقافتنا الإسلامية، وإذا جاز لنا أن نباهي الثقافات والأمم
الأخرى بعالم نعتز به، هو نتاج خالص لديننا وحضارتنا، وهو نبت أصيل للفكر
الإسلامي وللعبقرية الإسلامية في الفقه والتشريع، وفي وضوح الفكرة وسمو
التعبير عنها؛ فليس ثَم إلا الإمام الشافعي.
وُلد الشافعي بغزة سنة 150هـ، وغزة ليست موطن آبائه، وإنما خرج أبوه
إدريس إليها في حاجة، فمات هناك، وولد له ابنه محمد، وبعد سنتين من ميلاده
حملته أمه إلى موطن آبائه (مكة) ، وبها نشأ يتيماً في حجر أمه، فحفظ القرآن
صغيراً، ثم خرج إلى هذيل بالبادية فحفظ كثيراً من شعرهم، ثم عاد ولزم مسلم بن
خالد الزنجي، وهو شيخ الحرم ومفتيه، وقد قال له شيخه - وهو ابن خمس عشرة
سنة -: (أفتِ يا أبا عبد الله، فقد - والله - آن لك أن تفتي) .
ثم طلب الشافعيّ من شيخه أن يكتب له إلى مالك بن أنس - إمام دار الهجرة
ومحدثها - فكتب له، فرحل إلى المدينة، حتى أتى مالكاً، وكان قد حفظ الموطأ،
فقرأه عليه، وكان مالك يعجب بقراءته.
اكتسب الشافعي خلال هذه الفترة فقه مسلم بن خالد، وحديث إمامين عظيمين، إليهما انتهى حديث أهل الحجاز وهما:
سفيان بن عيينة في مكة، ومالك بن أنس في المدينة.
قدم الشافعي العراق ثلاث مرات:
* المرة الأولى عام 184 هـ، حيث حمل - بأمر الرشيد - إلى العراق
بتهمة التشيع، وفي هذه القَدْمة اختلط الشافعي بفقهاء العراق، واطلع على طرائقهم، والتقى بمحمد بن الحسن الشيباني (صاحب أبي حنيفة - رحمه الله -) ، وله
مناظرات معه، اطلع الرشيد على بعضها فسُر بها وأعجب بها وأكثر هذه
المناظرات موجود في كتب الشافعي.
* ثم عاد إلى الحجاز، وبقي بمكة مدة، ثم عنَّ له أن يقدم العراق
ثانية، وكان ذلك عام 195هـ، بعد أن مات الرشيد، وفي هذه المرة كان ... صيته قد ذاع وانتشر، ولُقب (بناصر السنة) وعظمت منزلته حتى انضم إليه جماعة من العلماء، وصاروا يأخذون عنه، وتركوا ما كانوا عليه من طرائق سابقة، وهناك أملى عليهم كتبه التي كتبها في مذهبه القديم، وأقام سنتين، ثم عاد إلى الحجاز.
* وفي عام 198هـ قدم العراق للمرة الثالثة، ولم يلبث إلا أشهراً ومن هناك
سافر إلى مصر، فدخلها سنة 199هـ، " فأقام بها إلى أن مات، يعلم الناس السنة
وفقه السنة والكتاب، ويناظر مخالفيه ويحاجهم، وأكثرهم من أتباع شيخه مالك بن
أنس، وكانوا متعصبين لمذهبه، فبهرهم الشافعي بعلمه وهديه وعقله، رأوا رجلاً
لم تر الأعين مثله، فلزموا مجلسه، يفيدون منه علم الكتاب، وعلم الحديث،
ويأخذون عنه اللغة والأنساب والشعر، ويفيدهم في بعض وقته في الطب، ثم
يتعلمون منه أدب الجدل والمناظرة، ويؤلف الكتب بخطه، فيقرؤون عليه ما
ينسخونه منها، أو يملي عليهم بعضها إملاءً، فرجع أكثرهم عما كانوا يتعصبون
له، وتعلموا منه الاجتهاد ونبذ التقليد، فملأ الشافعي طباق الأرض علماً) . ... (مقدمة تحقيق الرسالة للشيخ أحمد محمد شاكر ص7) .
وخطوات حياة الشافعي، وتفصيلات سيرته ودقائقها قيدها العلماء الذين
أفردوا مؤلفات في سيرته ومناقبه - رحمه الله - ومن أشهرهم:
البيهقي، والفخر الرازي، وابن حجر العسقلاني. ومن أفضل من ترجم له
ترجمة مختصرة وافية كافية بعيدة عن الفضول النووي في كتابه: تهذيب الأسماء
واللغات.
على أن الذي يعنينا الآن هو أثر الشافعي في التشريع الإسلامي، والإضافة
التي أضافها، فاعتبر - بحق - مجدد المائة الثانية وخير ما يمثل الأساس الذي بنى
عليه الشافعيّ فقهه هو رسالته الأصولية، التي تعتبر أول مؤلف في أصول الفقه،
واعتبر الإمام الشافعيّ بسببها الواضع الأول لهذا العلم.
قال تلميذه المزني في الرسالة: (قرأت الرسالة خمسمائة مرة، ما من مرة إلا ...
واستفدت منها فائدة جديدة) .
وقال أيضاً: (أنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت
فيها مرة إلا استفدت منها شيئاً لم أكن عرفته) .
سبب كلام الشافعي في أصول الفقه:
بيّن ذلك العلامة شاه ولي الله الدهلوي - رحمه الله - في رسالته (الإنصاف
في بيان سبب الاختلاف) (ص52) - فقال:
(.. إن الأوائل كان يجتمع عند كل واحد منهم أحاديث بلده وآثاره، ولا تجتمع أحاديث البلاد، فإذا تعارضت عليه الأدلة في أحاديث بلده حكم في ذ لك التعارض بنوع من الفراسة بحسب ما تيسر له. ثم اجتمعت في عصر الشافعي أحاديث البلاد جميعها فوقع التعارض في أحاديث البلاد ومختارات فقهائها مرتين:
* مرة فيما بين أحاديث بلد وآخر.
* ومرة في أحاديث بلد واحد فيما بينها.
واقتصر كل رجل بشيخه فيما رأى من الفراسة، فاتسع الخرق، وكثر
الشغب، وهجم على الناس - من كل جانب - من الاختلافات ما لم يكن بحساب،
فبقوا متحيرين مدهوشين، لا يستطيعون سبيلاً، حتى جاء تأييد من ربهم، فألهم
الشافعي قواعد جمع هذه المختلفات، وفتح لمن بعده باباً، وأي باب) اهـ.
وهكذا كتب الشافعي (رسالته) التي تعتبر من أعظم الآثار الإسلامية، ولو لم
يكن للشافعي إلا هذا الأثر لكفاه لكي يوضع في سجل الخالدين، ويكفي دليلاً على
ذلك اهتمام العلماء " بالرسالة " وحرصهم على اقتنائها ودرسها قديماً وحديثاً.
أسس فقه الشافعي:
الشافعي يحتج بظواهر القرآن حتى يقوم دليل على أن المراد بها غير ظاهرها، ثم السنة، وقد دافع دفاعاً شديداً عن العمل بخبر الآحاد، ما دام راويه ثقة ضابطاً، وما دام متصلاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نال بنصره السنة
المكانة العظيمة عند أهل الحديث حتى أطلقوا عليه لقب (ناصر السنة) ، وهو يرى
أن السنة الصحيحة كالقرآن في وجوب اتباعها، وعبارته في ذلك مشهورة: (وأن
من قَبِلَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قبِل) .
ويقول بالإجماع، ومعناه عنده عدم العلم بوجود خلاف، فإذا لم يكن هناك
دليل منصوص عمد إلى القياس.
وقد أبطل الاستحسان، وردّ على من قال به بشدة، وما أحسن قولة الشيخ
أحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيق الرسالة (ص55) :
(إن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام، في فقه الكتاب ... والسنة، ونفوذ النظر فيهما، ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور
البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة، وإفحام مُناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده. نبغ في الحجاز، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القرآن، ولم يكن الكثير منهم أهل لَسَنٍ وجدل، وكانوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع السنة، وكيف يثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف يفصّل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما، أو في أحدهما. حتى سماه أهل مكة (ناصر الحديث) ، وتواترت أخباره إلى علماء الإسلام في عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه) .
ومن الأمور التي يمتاز بها الشافعيّ عن غيره من العلماء أنه هو الذي
أصّل أصول مذهبه، وكتب الكتب التي تعتبر متناً لفقهه.
(وأما مذهب الشافعي فأكثر المذاهب مجتهداً مطلقاً، ومجتهداً في المذهب،
وأكثر المذاهب أصولياً ومتكلماً، وأوفرها مفسراً للقرآن وشارحاً للحديث، وأشدها
إسناداً ورواية، وأقواها ضبطاً لنصوص الإمام، وأشدها تميزاً بين أقوال الإمام
ووجوه الأصحاب، وأكثرها اعتناءً بترجيح بعض الأقوال والوجوه على بعض،
وكل ذلك لا يخفى على من مارس المذاهب واشتغل بها) (رسالة الإنصاف للدهلوي، ص85) .
وقد غلب في عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسانيين على متبعي مذهبه
لقب (أصحاب الحديث) في القديم والحديث، كما قال النووي، لكنه اعترف -
أعني النووي - بأن أكثر متأخري الشافعية لم يلتزموا طريق الشافعي في التزامه
بالأحاديث الصحيحة، وتركه الضعيفة والواهية. (تهذيب الأسماء واللغات 1/51) .
تجديد الشافعي:
* إن المأثرة الكبرى للشافعي هي رد الناس إلى السنة بعد أن اختلط الأمرعلى كثير من العلماء، وتمايزوا إلى طبقتين متنافرتين متباعدتين، ... على ما في كل منهما من الحاجة إلى الأخرى، وهم أصحاب الحديث، وأهل الفقه والنظر.
* والمأثرة الثانية: التزامه بالدليل، ودورانه معه حيث دار، ونبذه
للتقليد، فقد قال لأحمد بن حنبل: (أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه؛ كوفياً، أو بصرياً، أو شامياً) (حجة الله
البالغة، 1/ 148) . وقال أيضاً: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) .
وقال أيضاً: (إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث،
واضربوا بكلامي الحائط) .
وقال تلميذه المزني: (اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراد، مع إعلامه نهيه عن تقليده، وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه) (مختصر المزني على هامش الأم، 1/2) . ...
وقد كانت آراء الشافعي وفقهه تطبيقاً عملياً لهذه الميزة، قال ابن تيمية
في الفتاوى (20/332) :
(.. ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - لما كان مجتهداً في العلم، ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه - ...
وإن خالف قول أصحاب المدنيين - قام بما رآه واجباً عليه، وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم، وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه، وقد أحسن الشافعي فيما فعل، وقام بما يجب عليه، وإن قد كره ذلك من كرهه وآذوه، وجرت محنة مصرية
معروفة) .
الميزة الثالثة: أنه لما رأى أن أصول الآراء ليست مضبوطة عند الفقهاء قبله، وكان يتطرق إليها الخلل بسبب ذلك؛ وضع أصول الفقه، ودوّن ... (الرسالة) .
الميزة الرابعة: تفريقه بين الرأي والقياس:
فقد (رأى قوماً من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوّغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان - وأعني بالرأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة لحكم، وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص ويدار عليها الحكم - فأبطل هذا
النوع أتم إبطال وقال:
(من استحسن فإنه أراد أن يكون شارعاً) .
وبالجملة، فلما رأى الشافعيّ في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور أخذ الفقه من
الرأس فأسّس الأصول، وفرع الفروع، وصنف الكتب، وأفاد وأجاد، واجتمع
عليها الفقهاء، وتصرفوا اختصاراً وشرحاً واستدلالاً وتخريجاً، ثم تفرقوا في
البلدان (حجة الله البالغة للدهلوي، 1/147) .
الميزة الخامسة: أن الشافعي لم يحصر نفسه في دائرة علم الحديث وحده، أو الفقه وحده، بل كان محدثاً فقيهاً وفقيهاً محدثاً، بل تعداهما إلى أن يكون حجة في
غيرهما، كاللغة، والشعر، والأنساب، قال الإمام أحمد بن حنبل:
(الشافعيّ فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، المعاني والفقه) (مناقب الشافعيّ للبيهقي، 2/42) .
وهذا ما أكسبه سعة الأفق، وعمق البحث، وقوة العارضة والذي نحب أن
نشير إليه هنا هو عدم اكتفائه بفصاحته الموروثة، فهو (عربي الأصل، عربي
اللسان) ، بل نراه أقام على العربية وأيام الناس عشرين سنة، وقال: ما أردت
بهذا إلا الاستعانة على الفقه (مناقب الشافعيّ، 2/42) .
وفصاحة الشافعي في مناظراته وكتبه مما لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها،
ولكننا نشير إلى هذه الميزة وننوه بها؛ لما نراه من تقصير - من الدعاة وطلبة العلم
وورثته في هذا العصر - في تعلم العربية، وزهدهم بها، وعدم إحلالها المحل
الذي تستحق من اهتماماتهم، بل وإشاحتهم عن التزود بما لا يحسن جهله منها شأن
علمائنا السابقين الذين كانوا يرون تعلم لغة القرآن ديناً، وما لا يتم الواجب به فهو
واجب.
فعندما نقرأ قول الشافعي: (أروي لثلاثمائة شاعر مجنون) وأنه أخذ عنه
كبار علماء العربية شعر هذيل لا نطالب حَمَلَة الدعوة الإسلامية اليوم بما يشبه ذلك، ولا بعشر معشاره، ولكن نطالبهم أن يحبوا لغة قرآنهم، ولغة نبيهم - صلى الله
عليه وسلم -، وحاوية ثقافتهم، وعنوان هويتهم. وأن يبتعدوا عن كل ما من شأنه
تنقص هذه اللغة، وأن ينبذوا الأفكار الشعوبية التي أطلت برأسها من جديد، مسلحة
بإعلام قوي تنفق عليه مئات الملايين، فألقت بظلالها على فكر كثير من المسلمين،
الذين أصبحوا ينشدون الإسلام من المصادر الأعجمية، غير مبالين بما لذلك من
مردود مرذول، سيعلمون نبأه بعد حين.
بعض أقوال العلماء في الإمام الشافعي:
إن أقوال العلماء في بيان فضل الشافعي، وشهاداتهم له تعز عن الحصر،
وقد اخترنا بعضها إشارة بالجزء على الكل، واكتفاءً بالقليل عن الكثير.
قال الزعفراني: (كان أصحاب الحديث رقوداً، فأيقظهم الشافعي فتيقظوا) .
وقال الإمام أحمد: (ما أحد مس بيده محبرة ولا قلماً، إلا وللشافعي في رقبته منّة) ، وبعث إليه أبو يوسف (صاحب أبي حنيفة) يقرئه السلام ويقول: (صَنف الكتب، فإنك أولى من يصنف في هذا الزمان) .
وقال أبو حسان الرازي: (ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحداً من أهل العلم تعظيمه للشافعي - رحمه الله -) .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلاَّم: (ما رأيت أحداً أعقل ولا أورع ولا ... ... أفصح ولا أنبل رأياً من الشافعي) .
وقال الكرابيسي: (ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي، كان ... يحضره أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل الشعر، وكان يأتيه كبار أهل ... اللغة والشعر، فكلٌّ يتكلم فيه) رضي الله عنه.(4/10)
نصيحتي لأهل السنة
مقبل بن هادي الوادعي
قال البخاري - رحمه الله - (ج13، ص193) حدثنا يعقوب بن إبراهيم،
حدثنا هشيم، أخبرنا سيار، عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فلقنني ما استطعت،
والنصح لكل مسلم) .
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1، ص74) : حدثنا محمد بن عباد المكي،
حدثنا سفيان، قال: قلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع عن أبيك، قال: -
ورجوت أن يسقط عني رجلاً - قال: فقلت: سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان
صديقاً له بالشام. ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم
الداري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال:
لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
نصيحتي لأهل السنة أن يتباعدوا عن أسباب الفُرقة والاختلاف؛ فعقيدة أهل
السنة واحدة، واتجاههم واحد، وليس هناك مسوغ للفرقة والاختلاف إلا الجهل
والبغي والشيطان، وفي صحيح مسلم أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في
جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم.
والخلاف شر، كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عندما صلى
عثمان، رضي الله عنه، بمِنى بالناس أربعاً فاسترجع عبد الله، رضي الله عنه،
ثم قال: صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمنى ركعتين، وصليت مع
أبي بكر - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بمنى ركعتين،
فليت حظي ركعتان متقبلتان (رواه البخاري) زاد أبو داود - كما في الفتح - فقيل
لعبد الله: عبت عثمان ثم صليت أربعاً! فقال: الخلاف شر. ورب العزة يقول في
كتابه الكريم [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] . وفي
الصحيح عن جندب، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:
(اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)
وفي مسند الإمام أحمد - ما معناه - عن عبد الله بن عمرو بن العاص -
رضي الله عنهما - أن جماعة من الصحابة جلسوا عند حجرة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فجعلوا يتنازعون، هذا يستدل بآية، وهذا يستدل بأخرى،
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مغضباً وقال: ما بهذا بُعثتم، لا تضربوا
القرآن بعضه ببعض، ألا تكونوا كهذين الرجلين؛ يعني عبد الله بن عمرو وصاحباً
له، وكانا قد جلسا بعيدين عن الجالسين.
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه سمع رجلاً يقرأ آية سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ خلافها، قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلاكما محسن، فاقرآ - أكبر علمي قال - فإن من كان قبلكم اختلفوا.
وأما حديث: اختلاف أمتي رحمة، فهو حديث باطل، لا سند ولا متن،
فالسند معضل، والمتن يدفعه ما تقدم من الأدلة، وقوله تعالى: [ولا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] [هود: 118، 119] . فمفهوم الآية الكريمة أن
المختلفين ليسوا ممن رحمهم الله، والله أعلم.
ولست أستدل عليكم - يا أهل السنة! - بقول الله - عز وجل -: «إنَّ
الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» [الأنعام: 159] ؛ فأنتم -
بحمد الله - ما فرقتم دينكم، وإنما اختلفتم في بعض المسائل التي اختلف فيها
سلفنا - رحمهم الله - في أكبر منها، وما كان ذلك سبباً لهجر ولا قطيعة.
إن مَن يقرأ في المحلَّى لأبي محمد بن حزم - رحمه الله -، أو في كتاب
اختلاف العلماء لمحمد بن نصر المروزي - رحمه الله -، أو في كتاب الأوسط في
السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر - رحمه الله -، أو في فتح الباري، أو في
تفسير الحافظ ابن كثير - يرى أن سلفنا - رحمهم الله - قد اختلفوا في كثير من
مسائل العبادات والمعاملات، وما أدى ذلك إلى هجران بين العلماء، وأما الأتباع
فربما حصل بينهم بسبب الجهل والتعصب.
إن أهل السنة - بحمد الله - ليسوا كغيرهم، يختلفون في العقيدة؛ فالخوارج
يكفر بعضهم بعضاً، وهكذا رؤوس الاعتزال يكفر بعضهم بعضاً، كما في المِلل
والنِّحل، أما أهل السنة فالحمد لله غالب اختلافهم في مفهوم حديث أو في
عبادات وردت عن الشارع متنوعة، أو في حديث اختلفت أنظارهم في تصحيحه وتضعيفه، إلى غير ذلك من أسباب الاختلاف التي ذكرها شيخ الإسلام ابن
تيمية - رحمه الله -.
أنتم تعلمون - يا أهل السنة! - أن أعداءكم يشمتون بكم، وأن أعداء الإسلام
لا يهابون إلا إياكم فهم يحرصون على تشتيت شملكم بأي وسيلة.
إن الواجب على أهل السنة أن يكونوا مهيَّئين لحل مشاكل العالم كله، فهم
أهل لذلك وأحق به، فهم الذين أعطاهم الله فهم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على الوجه الصحيح.
إن أهل السنة يعتبرون أكثر العالم الإسلامي، ولكن تفرقهم واختلافهم وجهل
أهل كل شعب بأحوال الآخرين جعلهم يذوبون في المجتمعات، وإنا لنرجو أن يوفق
الله (مجلة البيان) لتفقُّد أحوال أهل السنة، والنشر عنهم وعن أحوالهم وعسى الله
أن يجمع شملهم.
أو لستم أحق الناس - يا أهل السنة! - بجمع الشمل، ووحدة الكلمة؟
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول -كما في
الصحيحين من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: (المؤمن للمؤمن كالبنيان
يشد بعضه بعضاً) .
ويقول، كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -: (مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالحمى والسهر) .
فالرافضة شغلت العالم بإعلامها، وأضلت كثيراً من الناس، بل شغلتهم عن
أداء مناسك الحج، فالناس يأتون من كل فج عميق، ليؤدوا مناسكهم، وليذكروا الله
في تلك الشعائر المباركة، فما يشعرون إلا بخروج الرافضة بالمظاهرات الجاهلية
يهتفون: (خميني.. خميني) ، فمن الذين يستطيع أن يفرق هذه الجموع التي عتت
عن أمر ربها، وجعلت الحج شعاراً للفوضى والصخب والدعوات الجاهلية، لا
يستطيع - بإذن الله - إلا أهل السنة إن اجتمعت كلمتهم وكانوا أهل سنة حقاً.
إن هذه اليقظة الإسلامية التي أرادها الله تحتاج إلى رعاية، ومن يقوم
برعايتها إلا أهل السنة؟ ! .
علاج الاختلاف الناشئ بين أهل السنة المعاصرين:
إن الاختلاف الناشئ بين أهل السنة يزول بإذن الله بأمور:
* منها: تحكيم الكتاب والسنة، قال الله سبحانه وتعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ] ... [النساء: 59] ، وقال تعالى: [ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ]
[الشورى: 10] ، وقال سبحانه وتعالى: [وإذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ
الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً]
[النساء: 83] .
* ومنها: سؤال أهل العلم من أهل السنة، قال الله سبحانه وتعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُون] [النحل: 43] ، ولكن بعض طلبة العلم رضي بما عنده من العلم، وأصبح يجادل به كل من يخالفه، وهذا سبب من أسباب
الفرقة والاختلاف. روى الإمام الترمذي في جامعه عن أبي أمامة قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ...
ثم قراً: [مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] [الزخرف58] .
* ومنها: الإقبال على طلب العلم، فإذا نظرت إلى قصورك بل إلى أنك
لست بشيء إلى جانب العلماء المتقدمين، - كالحافظ ابن كثير، ومن تقدمه من
الحفاظ المبرزين في فنون شتى - إذا نظرت إلى هؤلاء الحفاظ شُغلت بنفسك عن
الانتقاد على الآخرين.
* ومنها: النظر في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من العلماء
المبرزين إذا نظرت إلى اختلافهم حملت مخالفك على السلامة، ولم
تطالبه بالخضوع لرأيك، وعلمت أنك بمطالبته بالخضوع لرأيك تدعوه إلى تعطيل فهمه وعقله، وتدعوه إلى تقليدك، والتقليد في الدين حرام، قال الله سبحانه
وتعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] [الإسراء: 36] إلى غير ذلك
من الأدلة المبسوطة في كتاب الشوكاني " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) .
* ومنها: النظر إلى أحوال المجتمع الإسلامي، وما تحيط به من الأخطار
أعظمها جهل كثير من أهله به، وإنك إذا نظرت إلى المجتمع الإسلامي شغلت عن
أخيك الذي يخالفك في فهمك، وقدمت الأهم فالأهم، فإن النبي - صلى الله عليه
وسلم - عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (أول ما تدعوهم إلى شهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . متفق عليه من حديث
ابن عباس.
وبعد.. فإنا قد نظرنا في المسائل التي يختلف فيها أهل السنة المعاصرون
الذين لا يختلفون عن هوى فوجدناها تقارب ثلاثين مسألة، وزعناها على إخواننا
أهل السنة، يذكرون إن شاء الله الأحاديث بأسانيدها، وينظرون في أقوال الشراح
في فهم هذه الأحاديث، وإن اُحتِيج إلى نظر في كتب الفقهاء رحمهم الله نظر فيها،
فإن كان إخواننا أهل مجلة البيان - بارك الله فيهم - سيفتحون صدورهم لهذا فقد
بلغني أن أهل السنة الذين يهمهم أمر المسلمين في غاية من الشوق إلى هذا، فإن
شاء الله سيرسل كل موضوع ولا مانع من أن يجزئوه وبعدها إن شاء الله يخرج
كتاباً، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى والاهتمام بأمر المسلمين وقطع
ألسنة الحاقدين على أهل السنة الذين يسخرون منهم، ويقولون: إنهم يختلفون في
الشيء التافه، وينفرون عنهم، ويلمزونهم بما ليس فيهم، شأن المبتدعة وذوي
الأهواء في كل مكان وزمان أنهم ينفرون عن أهل السنة، وقد ساق عنهم
ابن قتيبة - رحمه الله - في كتابه (تأويل مختلف الحديث) الشيء الكثير من السخرية بأهل السنة، وقد مات النظام، وأبو الهذيل، وغيرهما من أعداء
السنة، وبقيت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيضاء صافية لم يضرها سخريتهم، وسيموت أعداء السنة المعاصرون وتبقى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله تضمن بحفظها فقال: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ ... لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] والذكر يشمل الكتاب والسنة؛ إذ كلاهما (وحي) من عند
الله سبحانه وتعالى: [ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى] [النجم: 3، 4] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) .
هذا، ولسنا نطالب أهل السنة المعاصرين ألا يختلفوا في صحة الحديث
وتضعيفه، وألا يختلفوا في فهم الأدلة، فإن هذا أمر قد اختلف فيه سلفهم، رحمهم
الله، كما هو معروف من سيرتهم.
فهذه نصيحتى لإخوانى في الله - أهل السنة - وأسأل الله لهم النصر والتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(4/17)
تعريف الملأ
في الفكر الإسلامي
عثمان جمعة ضميرية
كانت الحلقة السابقة من هذا البحث تمهيداً عاماً ومدخلاً لدراسة موقف الملأ
والزعماء من دعوات الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، حيث تعرفنا على
طبيعة دعوتهم التي بعثهم الله تعالى بها إلى الناس، وأثر هذه الدعوة في النفوس،
ثم أصناف الناس أمام هذه الدعوة ومواقفها.
وفي هذه الحلقة وما يتلوها، إن شاء الله تعالى، نعرض لتعريف الملأ
وصفاتهم ونتتبع أساليبهم ووسائلهم في التصدي للدعوة، ومن ثم نعرض لموقف
القرآن الكريم من هؤلاء الملأ، والرد عليهم في كل ما استعملوه من وسائل وتسويغ
لمواقفهم العدائية، ونوازن بين مواقف الملأ في تاريخ الدعوات قديماً، ومواقف
الملأ من الدعوة الإسلامية المعاصرة، مما يظهر أن هذا الموقف سنة طبيعية في
الدعوات، وبالله التوفيق.
تعريف الملأ:
نعرض فيما يلي طائفة من أقوال أهل اللغة وعلماء التفسير عن معنى الملأ،
نتبين من خلالها الصفات البارزة لهؤلاء الملأ ومعالم شخصيتهم، ونرتب هذه
التعريفات بحسب الترتيب التاريخي لحياة من نعرض أقوالهم، مما يساعد على
معرفة تأثر كلٌ منهم بمن سبقه، وتطور استعمال هذا المصطلح.
1- أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 201هـ) :
في تفسير قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة:246] .
قال: الملأ من بني إسرائيل، وجوههم وأشرافهم، ذكر أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لما رجع من بدر سمع رجلٌ من الأنصار يقول: (إنما قتلنا عجائز
صلعاً) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولئك الملأ من قريش، لو احتضرت فعالهم - أي حضرت - احتقرت فعالك مع فعالهم) [1] .
2- الأزهري (ت 370هـ) :
قال الإمام أبو منصور محمد ابن أحمد الأزهري في كتابه " تهذيب
اللغة " [2] :
الملأ: أشراف الناس ووجوههم؛ قال الله - عز وجل -: [أَلَمْ تَرَ إلَى
المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة: 246] ، وقال: [قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ]
[الأعراف: 60] .
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رجلاً من الأنصار -
مرجعه من غزوة بدر- يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعاً، فقال النبي - صلى الله
عليه وسلم-: (أولئك الملأ من قريش، لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك) .
والملأ أيضاً: الخُلُق: يقال: أحسنْ مَلأك أيها الرجل، وأحسنوا أملاءكم،
وفي حديث أبي قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تكابُّوا على الماء في
تلك الغزاة - خيبر - لعطش نالهم، قال: (أحسنوا أملاءكم فكلكم سيروى) [3]
أي أحسنوا أخلاقكم.
ومنها قول الشاعر:
تنادَوا يالَ بُهثة إذ رأَوْنا ... فقلنا أحسِني مَلأً جُهيِنا
ويقال: أراد: أحسني ممالأة، أي معاونة، من قولك: مالأتُ فلاناً، أي
عاونته وظاهرته.
وفي حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قتل سبعة نفر بصبي قتلوه غيلة،
وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به [4] .
والملأ: الرؤساء، سُمُّوا بذلك لأنهم مِلاء بما يحتاج إليه.
قال أبو إسحاق: الملأ: الخَلْق.
قال أبو عبيد: يقال للقوم إذا تتابعوا برأيهم على أمر: قد تمالؤوا عليه.
وقال شَمِر: يقال: فلان أملأ لعيني من فلان، أي: أتم في كل شيء،
منظراً وحسناً.
وهو مالىء للعين، إذا أعجبك حسنه وبهجته.
وقال ابن الأعرابي: (مالأه، إذا عاونه) .
3 - وقال الإمام الخطابي (ت 388هـ) :
الملأ: الرؤساء والأشراف.
يقال: هؤلاء ملأ بني فلان: أي ساداتهم، ومن هذا قول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (اللهم عليك الملأ من قريش) [5] يريد الرؤساء منهم، وهم الملأ ...
بالقصر والهمز. فأما الملأ مقصوراً غير مهموز فالمتسع من الأرض، قال الشاعر:
ألا غنِّياني وارفَعا الصوتَ بالمَلا ... فإن الملا عندي يَزيدُ المدى بُعدا [6] .
وقال أيضاً، في شرح قول عمر - رضي الله عنه -: (لو تمالأت عليه أهل
صنعاء..) .
تمالأ: مهموز من الملأ: أي لو صاروا كلهم ملأً واحداً في قتله، ويقال:
مالأتُ الرجل على الشيء إذا واطأتُه عليه [7] .
مامالأت: معناه طابقت وساعدت، وأصله مالأتُ - مهموزاً - من ملأ القوم، يريد أنه لم يدخل في مِلأئهم، ولم يطابقهم على رأيهم.
ويقال: ما كان هذا الأمر عن ملاء منا: أي تشاور واجتماع عليه [8] .
4 - وقال العلامة اللُّغوي ابن فارس (ت 395هـ) :
الملأ: الميم واللام، يدل على المساواة والكمال في الشىء.. ومنه: الملأ:
الأشراف من الناس؛، لأنهم مُلِئُوا كرماً.
فأما قول الشاعر:
تنادوا يال بهثة إذ لقونا ... فقلنا أحسني ملأ جهينا
فقال قوم: أراد به الخُلُق، وجاء في الحديث: (أحسنوا أملاءكم) والمعنى
فيه: أن حسن الخلق من سجايا الملأ، وهم الشِّراف الكرام [9] .
5 - وقال الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) :
الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواءً ومنظراً، والنفوس
بهاءً وجلالاً، قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة: 246] وقال: [وقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ] [المؤمنون: 33] ، [إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ] [القصص: 20] ، [قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ] [النمل: 29] .. إلخ.
يقال: فلان مِلء العيون: أي مُعظَّم عند من رآه، كأنه ملأ عينه من رؤيته،
ومنه قيل: شاب مالىء العين. والملأ: الخَلق المملوء جمالاً، قال الشاعر: فقلنا
أحسني ملأ جهينا..
ومالأته: عاونته وصرت من ملئه: أي جمعه، نحو شايعته: أي صرت من
شيعته [10] .
6- وقال الإمام محيي السنة البغوي، ت (516هـ) :
الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ: الجماعة من الناس، ولا
واحد له من لفظه، كالقوم والرهط.. وجمعه أملاء [11] .
7 - وقال الإمام مجد الدين بن الأثير (ت 656هـ) :
تكرر ذكر الملأ في الحديث. والملأ: أشراف الناس ورؤساؤهم، ومُقدَّموهم
الذين يرجع إلى قولهم، وجمعه أملاء.. ومنه حديث عمر عندما طُعن: (أكان هذا
عن ملأ منكم؟) ، أي: تشاور من أشرافكم وجماعتكم [12] .
8 - وقال القرطبي (ت 671هـ) :
الملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفاً. وقال الزجاج: سُمُّوا بذلك
لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى
المَلأِ] [البقرة: 246] القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم
والرهط. والملأ أيضاً: حسن الخلق [13] .
9 - وقال العلامة اللُّغوي ابن منظور (ت: 711هـ) :
الملأ: الرؤساء، سموا بذلك لأنهم مِلاء بما يُحتاج إليه. والملأ مهموز
ومقصور: الجماعة. وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم، ومقدموهم الذين
يرجع إلى قولهم.. والجمع: أملاء. وحكى أحمد بن يحيى قال: رجل مالىء:
جليل العين بجُهرته، وشابّ مالىء العين: إذا كان فخماً حسناً، ويقال: فلان أملأ
لعيني من فلان: أي أتمُّ في كل شيء، منظراً وحسناً. وهو رجل مالىء العين:
إذا أعجبك حسنه وبهجته.
وحكى: ملأه على الأمر يملؤه ومالأه.
وكذلك الملأ: إنما هم القوم ذوو الشأن والتجمع للإدارة. والملأ على هذا
صفة غالبة.
وقد مالأته على الأمر ممالأة: ساعدته عليه وشايعته، وتمالأنا: اجتمعنا،
والملأ في كلام العرب: الخُلُق.
والملأ: العِلْيَة. وما كان هذا الأمر عن ملاً منا: أي عن تشاور
واجتماع [14] .
10- وقال أبو حيّان الغِرناطي الجيّاني النحوي المفسر (ت 754هـ) :
الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم جمع، ويُجمع على أملاء.
قال الشاعر:
وقال لها الأملاءُ من كل معشر ... وخير أقاويل الرجال سديدها
وسموا بذلك؛ لأنهم يملؤون العيون هيبة، أو المكان إذا حضروا، أو لأنهم
مليؤون بما يُحتاج إليه.
وقال الفرّاء: الملأ من الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة، وكذلك
القوم والنفر والرهط.
وقال الزجاج: هم الوجوه وذوو الرأي [15] .
11- وقال الفيروز آبادي (ت 817هـ) :
الملأ: التشاور. والأشراف والعلية والجماعة والطمع والظن. والقوم ذوو
الشارة والتجمع والخُلُق [16] .
12 - وقال العلاَّمة الآلوسي (ت 1270هـ) :
الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه،
وأصل الباب: الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد.
وإنما سمي الأشراف بذلك؛ لأن هيبتهم تملأ الصدور، أو لأنهم يتمالؤون:
أي يتعاونون بما لا مزيد عليه [17] .
13 - ومن الكُتاب المعاصرين:
وممن عرض لمعنى الملأ وموقفهم من الدعوات عدد من الكُتاب المعاصرين،
نذكر فيما يلي نماذج لما يمكن استخلاصه من آرائهم في ذلك. قال الشيخ محمد
أحمد العدوي: عن الملأ:
الأشراف والسادة الذين امتلأت نفوسهم بحب الجاه والسمعة والرياسة
والاستئثار، وهم المترفون الذين قال الله - تعالى - فيهم: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [سبأ: 34] [18] ،
وهم الذين تحدث عنهم الكاتب والمؤرخ محمد عزة دروزة - رحمه الله - في بحثه
عن معركة النبوة مع الزعامة في مكة والذين سماهم بجمهورية زعماء الأسر
العريقة، حيث كان يتولى هؤلاء الزعماء شؤون مكة العامة على اختلافها في نطاق
ما يسمى بدار الندوة، فوصفهم بأنهم: الزعماء والأغنياء في مكة - بصورة عامة - يتمتعون بالنفوذ والسيادة، يأمرون فيُطاعون، ويُدعون فيُستجابون، ويسنّون
فيُتبعون، وتكون لهم الكلمة الفاصلة في المشاكل والقضايا العامة الداخلية والخارجية
والدينية والسياسية والاجتماعية [19] .
وقال الشيخ محمد سرور زين العابدين في كتابه (نهج الأنبياء في الدعوة إلى
الله) [20] :
الملأ: هم بطانة الحكام الظالمين وأعوانهم، وأصحاب المصالح والأغنياء
المترفون، وزعماء المناطق والقبائل.. ومن سنن الله الثابتة في خلقه أن يكون
هؤلاء جميعاً في طليعة مَن يتصدى لأنبياء الله؛ لأن نفوسهم امتلأت بحب المال
والجاه، وقلوبهم قد أُشربت كُره كل من يدعو إلى دين الله.. وهؤلاء هم الذين قال
الله فيهم: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [سبأ: 34] .
والخلاصة:
أننا نريد من (الملأ) الذين ورد ذكرهم في كتاب الله - تعالى - لبيان موقفهم
من الدعوة إلى الله - تعالى -: أولئك العلية من القوم، وجوههم وأشرافهم،
ساداتهم وزعمائهم المستكبرين في الأرض بغير الحق، يريدون عُلوًا في الأرض
وفسادًا، يجتمعون على رأي واحد، هو الصد عن دين الله - تعالى - والتصدي
للأنبياء والرسل، وحرب الدعاة إلى الله - تعالى - فيتمالأون على ذلك ويجتمعون
ويتعاونون مع بطانة سوء لهم.
امتلأت نفوسهم بما يحتاجون إليه، إلى درجة لا مزيد عليها، فقد
أُبْشِمُوا [21] بالمال والترف، والجاه والشرف، والزعامة والسيادة والمكانة بين قومهم، فأصبحوا يملؤون العيون رواءً ومنظرًا، والنفوس بهاءً وجلالاً، ونادي القوم أو المجلس - إذا حضروه وتصدروه - هيبةً ومكانة، ويعظمون في عيون من يرونهم، إليهم ترجع العامة في القول والرأي، وعليهم تعقد الخناصر، وتشير الأصابع إليهم، فأصبحت كلمتهم كلمة الفصل المسموعة، ورأيهم رأيًا سديدًا مطاعاً، وإشارتهم أمراً نافذاً. يقولون فلا معقب على قولهم، ويتكلمون فتلجم أفواه غيرهم وتنعقد الألسنة. يرون الرأي فليس لأحد وراء رأيهم رأي في قضيةٍ ما صغيرةٍ أو كبيرة، داخلية أو خارجية.
يظلمون غيرهم فيكون ظلمهم عدلاً، ويتسلطون على أرواح الناس وعقولهم
وأجسادهم وأموالهم، فيكون هذا كله حقاً لهم، وديناً في أعناق غيرهم، تحقيقاً
لمصالحهم الشخصية ودوافعهم الذاتية وأهوائهم الجامحة ومطامعهم الكثيرة.. أولئك
هم الملأ من كل قوم، الذين ينبغي أن نتعرف على سمات شخصياتهم ومعالمها
وعلى أساليبهم في الصد عن الدعوة ومحاربتها، والدوافع التي تدفعهم لذلك، ثم
نتبين موقف القرآن الكريم وموقف الرسل - عامةً - منهم؛ لنكون على بينة من
الأمر في موقفنا منهم.
والله الموفق.
__________
(1) مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى: 1/77، 280، تحقيق د محمد فؤاد سزكين، والحديث ذكره ابن هشام في السيرة: 2/77 من الروض الأُنُف، بلفظ: (أي ابن أخي أولئك الملأ) ، قال ابن هشام: يعنى الأشراف والرؤساء، وعنه نقله ابن كثير في البداية والنهاية: 3/305، وليس فيه قوله: (احتضرت أفعالهم) إلخ.
(2) تهذيب اللغة للأزهري: 15/ 404-406.
(3) أخرجه مسلم في كتابه المساجد: 1/472-474، وأبو داود وأحمد في المسند: 5/298، 302، 307.
(4) أخرجه مالك في الموطأ، المنتقى للباجي: 7/115، وأخرجه الشافعي والبيهقي والدارقطني، انظر بالتفصيل: إرواء الغليل للشيخ ناصر الدين الألباني: 7/259، 261.
(5) أخرجه البخاري في الجزية، فتح الباري: 6/382-383، ومسلم في الجهاد: 3/229، وأحمد في المسند: 1/393 7، 417.
(6) غريب الحديث للخطابي: 1/668.
(7) المصدر السابق: 3/229.
(8) المصدر السابق: 2/151.
(9) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 5/346.
(10) مفردات القرآن، للراغب الأصفهاني: 473.
(11) تفسير البغوي بهامش الخازن: 1/213.
(12) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 4/351، وفيه عرض للمعاني التي سبقت عن الملأ مع شواهدها من الحديث والشعر، تركناها لأنها سلفت فيما نقلناه عمن سبقه (رحمهم الله) .
(13) الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي: 3/243، 7/234.
(14) لسان العرب لابن منظور: 1/ 153 - 155، طبع الدار المصرية للتأليف.
(15) البحر المحيط، لأبي حيان: 2/248.
(16) ترتيب القاموس المحيط، للأستاذ الطاهر أحمد الزاوى: 4/474.
(17) روح المعاني للآلوسي: 2/164.
(18) دعوة الرسل إلى الله تعالى، لمحمد أحمد العدوي، ص1، 2.
(19) معركة النبوة مع الزعامة، للأستاذ محمد عزة دروزة، في المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية في الدوحة بقطر عام 1400 هـ، مجموعة البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر:
6/407، وما بعدها.
(20) منهج الأنبياء، ص59-60، دار الأرقم بالكويت.
(21) بَشِمَ من الطعام بَشَماً: أكثر منه حتى اتَّخَمَ وسئمه، فهو بشيم المعجم الوسيط: 1/59.(4/22)
خواطر في الدعوة
قرار صائب ثم يأتي النصر
محمد العبدة
لا نكون مغالين أو مجرحين إذا قلنا إن المسلمين في الأعصر الأخيرة يفتقدون
القرار الصائب والحاسم في اللحظات الحرجة أو اللحظات التاريخية. القرار الذي
يُتخذ دون تردد أو خوف من النقد ولوم الشباب أو الشيوخ، ودون إرضاء لطرف
على آخر. وهو القرار المناسب وليس القرار التلفيقي الذي يظن أنه يرضي الجميع
وهو في الحقيقة لا يرضي أحدًا، وقبل هذا كله لا بد أن يحسب حساب الشورى
وتقليب وجهات النظر، وملاحظة واقع المسلمين والمصلحة الشرعية وما يراه
العلماء في القديم والحديث، عند ذلك يأتي الفرج بعد الشدة، ويفرح المؤمنون
بنصر الله، وفي القرآن والسنة وواقع المسلمين أمثلة لذلك:
1- جاء في سورة البقرة أن بني إسرائيل - وفي يقظة من يقظات الإيمان -
[إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] [البقرة:246] وأراد هذا ... النبي التأكد من صدق عزيمتهم ربما لأنه يعلم ما هم عليه من الخور والتردد: [قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا] [البقرة:246] ؛ فأظهروا تصميمهم على القتال، فاستجاب الله لنبيه وبعث لهم طالوت ملكاً يقودهم لقتال أعدائهم، وقد ذكر لنا القرآن عن هذا القائد الحكيم أنه لم يستخفه حماس هذا الشعب، فراح يختبرهم المرة تلو المرة، ولم يصمد معه أخيراً إلا فئة قليلة. واتخذ القرار الصعب وقاتل بهذه الفئة وجاء النصر: [وقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ والْحِكْمَةَ]
[البقرة: 251] .
2- بعد تكالب الأحزاب على المسلمين في غزوة الخندق رأى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- أن يخفف عن المسلمين هذا الضيق رحمة ورأفة بهم،
فاستدعى زعماء البدو من غطفان وغيرها وطلب منهم الرجوع عن المدينة وترك
حصارها ويعطيهم ثلث ثمارها، وقبل تنفيذ هذا الرأي استشار السعدين: سعد بن
معاذ وسعد بن عبادة، قالا: يا رسول الله! ، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله
به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ ، قال: بل شيء أصنعه لكم؛ لأن العرب رمتكم عن
قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! ، قد كنا وهؤلاء على الشرك
وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرًى أو بيعاً، أحين أكرمنا الله
بالإسلام وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ! ، والله لا نعطيهم إلا السيف، فقال النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنت وذاك. وكان وفد غطفان يسمع هذا الكلام فتزلزلت
أركانه، ورجعوا إلى معسكرهم ثم جاء النصر ريحاً وجنوداً لم يروها وانهزم
الأحزاب خائبين.
3- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعد جيشًا بقيادة أسامة بن
زيد ووجهته شمالي الجزيرة والروم، ولكن الجيش لم يمضِ بعد سماع أنباء مرض
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر - رضي الله عنه -، ورأى الصحابة إرجاع جيش أسامة بعد
أن ارتدت العرب، ولكن أبا بكر قال كلمته الحاسمة الجازمة: " لا أحل عقدة عقدها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنفذ جيش أسامة. فقالت العرب: لو لم
يكن بهم قوة وطاقة لقتال الروم لما أرسلوا لهم هذا الجيش وأصابهم الوهن والرعب
بسبب ذلك، وجاء النصر من عند الله على يد قامع المرتدين خالد بن الوليد -
رضي الله عنه.
4- عندما بلغت المدن الأندلسية في منتصف القرن الخامس الهجري - الغاية
من الضعف والتفرق، واستعان بعض ملوكهم بالنصارى على بعض، اجتمع علماء
أشبيلية وقرروا أنه لابد من الاستعانة بالمسلمين في المغرب، وبخاصة المرابطون
وعلى رأسهم يوسف بن تاشفين وعلم ملك أشبيلية المعتمد بن عباد بذلك فوافق على
هذا الرأي، ولكن بعض الناس حذروه مخوفين له من أن ابن تاشفين إذا جاء
لمساعدته فسيأخذ الأندلس أيضاً، ولكن ابن عباد اتخذ القرار الصعب وقال قولته
المشهورة: (لأن أكون راعي إبل خير لي من أكون راعي خنازير) ، ويقصد -
رحمه الله - أنه يفضل أن يرعى الإبل عند ابن تاشفين ولا يؤسر عند ملك
النصارى، فقدم مصلحة المسلمين وبلاد المسلمين على مصالحه الشخصية، وجاء
ابن تاشفين، وكانت معركة " الزلاَّقة " مع نصارى أسبانيا وانتصر المسلمون
انتصاراً ساحقاً، وتملك ابن تاشفين الأندلس فعلاً، وأُقصى ابن عباد - رحمه الله -
وعاش بعيداً عن أشبيلية، ولكن مأثرته هذه لا تُنسى.(4/29)
مفهوم السببية عند أهل السنة
(3)
طارق عبد الحليم
ينطلق أهل السنة في تصوراتهم كافة من أصول ثابتة في النظر والاستدلال، مبنية على وحدة المصدر والوسيلة، فالمصدر هو كتاب الله - تعالى - وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما الوسيلة فهي المنهج المستقى منهما، والذي
نهجه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون، سلف الأمة الصالح
في القرون الثلاثة الفضلى، حيث يُنزلون كل دليل صحيح منزله، ويفهمون منه
مقصوده، ويجمعون بينه وبين غيره، ولا يعارضون عاماً بخاص، ولا مطلقاً
بمقيد، ولا كلياً بجزئي، بل يعرضون هذا على ذاك، كما لا يَدَعون مبيناً لمجمل،
ولا محكماً لمتشابه، ولا شرعياً لعقلي، ولا يغالون في اتباع الظاهر حتى يذهلهم
عن المقاصد والنيات، كما لا يسيرون وراء البواطن حتى يعميهم ذلك عن الحق
الجلي الظاهر.
وهم لا ينكرون على العقل مكانته التى بها كرمه الله - سبحانه - على سائر
مخلوقاته، إلا أنهم يدركون مواضع قوته، ومواطن ضعفه، فلا يقدمون بين يدي
الله ورسوله بحكم عقلي مظنون.
وليس هذا موضع الاسترسال في الحديث عن ذلك المنهج السوي السديد،
نسأل الله - تعالى - أن يلهم المسلمين كافة اتباعه والعدول عن غيره من المناهج
التي لم تورث ذلك الكيان الإسلامي - على مر العصور- إلا الضعف والوهن
والبلاء.
من ذلك المنهج - إذن - استقى أهل السنة آراءهم في المسائل التي ذكرنا فيها
اختلاف المُفْرِطين والمفَرِّطين، وسنبين في هذا المقام - بإيجاز لا يخل بالقصد -
مفهوم أهل السنة عن تلك المسائل التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة السببية.
أهل السنة والقدر:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين
ألف سنة وعرشه على الماء " رواه مسلم.
كما جاء في حديث جبريل - الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - قال:
( ... وأن تؤمن بالقدر كله) .
يؤمن أهل السنة إيماناً راسخاً بالقدر خيره وشره وأن (ما شاء الله كان
وما لم يشأ لم يكن) ؛ ذلك أن الله - سبحانه - قد (جبل) الناس على صفات ... وِفطَر - كما خلق الأشياء على طبائع وقوى - لحكمة بالغة له في ذلك كما
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: (إن فيك خُلُقين يحبهما
الله ال حِلم والحياء، قال: جبلاً جُبلت عليهما أم خُلقا فيَّ؟ ، قال: بل جبلاً
جبلت عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين أحبهما الله) [خلق ... أفعال العباد للبخاري/39] .
ولفظ (الجِبِلّ) غير لفظ (الجبر) الذي لم يرد به كتاب أو سنة، فالجبل:
هو أصل الخلق على صفة من الصفات، أما الجبر فهو الإكراه على الفعل، كما
يجبر الأب ابنته على النكاح، والله - سبحانه - لا يجبر عباده على فعل من
الأفعال بل كل عبد يأتي ما يفعل - حسب جبلته الأصلية - مختاراً مريداً، لهذا فقد
تشدد الأئمة في المنع من إطلاق لفظ الجبر لما فيه من إجمال وإشكال، فان أراد
أحد أن يقول أن في الجبل معنى للجبر، قلنا إن ذلك صحيح في أصل الخلقة لحكمة
الله - تعالى - فيما اختاره من جبلة كل عبد حين خلقه، أما أن يجبره على الفعل
حين الفعل فهذا المعنى غير صحيح.
ثم إن الله - سبحانه - قد علم - بواسع علمه وشموله - ما سيكون من أفعال
العباد على وجه التفصيل والإحاطة، [لا يعزب عنه من ذلك مثقال ذرة في
السموات ولا في الأرض أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك:14] ... وكتب ذلك في اللوح المحفوظ من قبل أن يخلق الخلق، فما من شيء إلا
وهو مدون في أم الكتاب: [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ
وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُّبِينٍ] [يس: 12] ، كما أنه لا يقع من تلك
الأفعال - التي قد علم (سبحانه) بوقوعها وكتبها في أم الكتاب - إلا حسب
مشيئته وإرادته؛ فإنه - سبحانه - (تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة
أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه وأنه لو شاء ما عُصي، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع لعدم مشيئته) [شفاء العليل ابن القيم، 44] .
ولابد في هذا المقام من التمييز بين أمرين على غاية الأهمية، لم يلحظهما
المخالفون لأهل السنة، فكان ما كان من زللهم الذي بيناه.
ذلك أن الإرادة الإلهية نوعان:
1- الإرادة الكونية:
وهي الإرادة الشاملة لله - سبحانه - والتي لا يكون أمر من الأمور على
خلافها، فالطاعة والمعصية، والخير والشر يقع كلاهما على مقتضى تلك الإرادة،
وهو إن شاء منع المعصية والكفر، إلا أنه - سبحانه - أراد وقوعها إرادة كونية،
ولم يرد وقوع خلافها، وإلا لكان خلافها هو الواقع فعلاً، ولا مدخل لمحبته -
سبحانه - ورضاه في تلك المشيئة.
2- الإرادة الشرعية:
وهي محل أمره ونهيه - سبحانه - والتي بها نزلت الشرائع وفصلتها
الرسالات، فإنه سبحانه أراد من العبد أن يفعل ما أمر بفعله وأحبه منه ورضي عنه
به، كما أنه لم يرد من العبد فعل ما نهاه عنه وكرهه عليه إلا أنه يقع من العبد على
خلاف الإرادة الشرعية، والله -سبحانه - لا يجبر عبداً على فعلها أو على إتيانها،
إنما الإرادة هنا مقرونة بالمحبة والرضى كما في قوله - تعالى -: [يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ] [البقرة: 185] وقوله: [واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ] [البقرة:205] فعدم محبة الله للفساد لا تستلزم عدم وقوعه، كما أنها لا تعني أنه يقع في الكون ما يخالف الإرادة الإلهية، فعدم المحبة هنا يعني المحبة الشرعية وليس
الإرادة الكونية التي بها يقع الفساد وغير الفساد.
بالتمييز بين الإرادتين يتضح خطأ قول مَن قال: إن الطاعة والمعصية تقعان
حسب إرادة الله ومشيئته، لعموم قدرته التامة، ولجأ إلى نفي الحكمة. كذلك فإن
الله - سبحانه - قد خلق الأشياء في عالم المادة - ومنها الأفعال غير الاختيارية
لبني آدم - وأودع فيها قوى وطبائع وصفات [شفاء العليل، 188] وسيَّرها حسب
قوانين وسنن عامة تتلاءم مع تلك الطبائع بحيث لا تتخلف، إلا أن يشاء الله
(سبحانه) أمراً - كما في حالة المعجزة أو الكرامة - وذلك بإيقاف عمل السنن أو
القوى الجارية، أو أن يخلق مانعاً يمنعها من العمل حسب تلك السنن، كما في
حادثة إحراق الخليل إبراهيم - عليه السلام - وتلك السنن والطبائع والصفات في
الأشياء هي من قدر الله - سبحانه -: [إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر: 49] وإنكارها إنكار لقدر من قدر الله - سبحانه - وواجب العبد إزاء القدر أن يكون على حالين: " حال قبل القدر، وحال بعده، فعليه قبل المقدور أن يستعين
بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه
ويرضى به، وإن كان بفعله - وهو نعمة - حمد الله على ذلك، وإن كان
ذنبًا استغفر إليه من ذلك " [الفتاوى لابن تيمية، 8/76، شفاء العليل، 34] .
أهل السنة وخلق الأفعال:
وقاعدة أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه " خالق كل شيء "؛ فهو خالق للعبد، وخالق لفعله، وخالق لقدرته التي يفعل بها الفعل، والعبد لا يتصف بالخلق
بشكل من الأشكال إنما هو فاعل بتلك القدرة المخلوقة له.
وخلْق الله للفعل لا يعني أن الله - سبحانه - هو الذي فعله أو أنه ينسب إليه
فعله، أو أن قدرة العبد ليس لها عمل أو تأثير في إيجاد الفعل، وإلا فكيف يعاقب
الله - سبحانه - العبد على ما فعله هو - سبحانه -، أو أن يثيبه على ما لم يفعله؟! والجواب على ذلك أن العبد فاعل مختار بقدرته المخلوقة [شفاء العليل: 52] ،
وأما عن أثر قدرته فإن كلمة " التأثير " فيها اشتراك، أي تحمل عدة معانٍ:
1- إما أن يكون أثر القدرة الإنسانية هو الانفراد بالفعل، دون القدرة أو
الإرادة الإلهية، وهو باطل متفق على بطلانه.
2 - أو أن يكون أثر القدرة الإنسانية هو في معاونة القدرة الإلهية على
إخراج الفعل للوجود، وهو كسابقه من أقوال أهل البدع.
3- أن يكون التأثير في إخراج الفعل من العدم إلى الوجود بواسطة القدرة
الإنسانية المحدثة، بمعنى أن القدرة الإنسانية التي خلقها الله - تعالى - للعبد هي
سبب وواسطة في خلق الله - سبحانه - للفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء،
والغيث بالسحاب. وقد قال تعالى: [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ] [التوبة:14] فبيَّن أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب ووسائط لهذا التعذيب [عن الفتاوى لابن
تيمية: 8/389] . ومن هنا يتضح أنه لا تعارض بين أن الله - سبحانه - خالق
لأفعال العباد، وأن العباد فاعلون لها مختارون بقدرتهم المخلوقة لهم، والتي
وجهوها كما أرادوا لذلك الفعل. ومن هنا كذلك تنسب الأفعال للعباد؛ فيقال: إنهم
(مصلّون) أو (سائرون) أو (عاصون) أو غير ذلك من أفعال، وأن أفعالهم ...
قائمة بهم لا بالله، وأنها فعل لهم لا لله، كما في القرآن من قوله تعالى:
«يعملون» ، «يؤمنون» ، «يكفرون» .
وهنا ينبغي التفطن إلى أمر آخر، وهو أن الله - سبحانه - إذا أحب عبداً هيأ
له أسباب الخير وعاونه عليه منة منه وفضلاً، فهو يوفقه إلى ما فيه الطاعة،
ويبعده عما فيه العصيان بفتح أبواب تلك وإغلاق أبواب ذاك، كما أنه إذا أبغض
عبداً منع عنه أسباب الهداية ولم يوفقه إليها حكمة منه وعدلاً، فهو يمد له في
أسباب العصيان والكفر مداً، ويمهله رويداً؛ حتى يأتيه وعده بغتة وهو لا يشعر،
كل ذلك والعبد نفسه هو الفاعل لأفعاله المختار لها، وإنما الهداية من الله بمقتضى
الفضل والرحمة، والإضلال منه بمقتضى العدل والحكمة [شفاء العليل: 31] .
أهل السنة والتحسين والتقبيح:
رأينا فيما سبق كيف اشتط القدرية المعتزلة في إثبات الحسن والقبح العقليين
(اللذيْن يدركان بالعقل) فأثبتوا للأفعال صفات لازمة لها، وليس للشرع من دور إلا
الكشف عنها، كما أن الشرائع لا تأتي إلا وفقاً لتلك الصفات، تابعة لها، فما
يحسّنه العقل يأتي الشرع بحسنه والعكس.
كما أننا رأينا كيف أفرط مناقضوهم في إنكار أن يكون للفعل صفات أصلاً! ؛
حتى يدركها العقل، والأفعال متعادلة في الحسن والقبح حتى يأتي الشرع فيحسن
ذلك ويقبح تلك بمطلق الإرادة الإلهية، ولو قبح الحسن لقُبح، ولو حسن القبيح
لحسن! .
والحق - الذي عليه أهل السنة - هو أن الله - سبحانه - قد خلق الأفعال،
وخلق لها صفات، كما خلق الأشياء وخلق فيها طبائع وقوى، والأفعال تحسن
وتقبح بتلك الصفات المخلوقة لها، وقد يعلم هذا الحسن أو القبح بالعقل أو بالشرع،
وكثير من الأمم الضالة التي لم تهتدِ بهدْي النبوة قد وجد فيها تقبيح الظلم وكراهته،
وتحسين العدل ومحبته، وما سن القوانين التي عُرفت منذ القديم إلا دليل على ذلك، بما اشتملت عليه من مبادئ تتوافق مع مبادئ الشرع في بعض ما تأخذ به من
أحكام.
إلا أن مدار الأمر في هذه المسألة هو أن الثواب والعقاب لا يترتبان على
الفعل إلا بعد ورود الأمر الشرعي، وهو ما غلطت فيه القدرية الذين جعلوا الثواب
والعقاب والتكليف بحسب العقل، كذلك فإن الله - سبحانه - قد يأمر بشيء ليمتحن
به العبد، ولا يكون مراده هو الفعل بذاته، ولكن امتثال الأمر هو المطلوب لمعرفة
طاعة العبد لله، كما أمر إبراهيم الخليل بذبح ابنه، وهنا يتضح قسم آخر ورد فيه
الأمر الشرعي بما هو قبيح في أصله لحكمة إلهية تقتضي ذلك، فذبح الولد ليس
حسناً وإنما كان لحكمة الابتلاء، وأصل الأحكام الشرعية ليست من هذا القبيل،
وإنما هذا يبين خطأ المعتزلة الذين أنكروا أن يأمر الله بخلاف ما هو حسن عقلاً،
وخطأ الأشاعرة الذين اعتقدوا أن الأحكام الشرعية كافة من هذا الباب للامتحان
والابتلاء دون أن تحتوي بذاتها على حسن أو قبح أو مصلحة أو مفسدة للعباد [انظر: الفتاوى، 8/428 وبعدها] .
أهل السنة والحكمة والتعليل:
ينطق كتاب الله المقروء، وكون الله المشهود، كلٌّ بآياته وأسلوب دلالاته -
بتلك الحِكم البالغة التي لأجلها شرع ما شرع للناس من أحكام، وبنى ما بنى في
الوجود من عوالم وأكوان، ففي كتاب الله ما يكاد يخرج عن الحصر من أدلة تثبت
حكمة الله - سبحانه - في أفعاله، وأنها كلها معللة بعلل تتلاقى في أنها لصالح
العباد والبلاد، ولإقامة حال الدنيا وما فيها ومَن فيها على أحسن ما يكون لهم، فما
يظهر فيها من خير فهو من رحمة الله وفضله، وما يبدو من شر- ليس إليه سبحانه
- فهو من عدله وحكمته. وإليك بعض ما اجتزأنا من أدلة سردها ابن القيم فيما يبلغ
ثلاثة وعشرين وجهًا:
الأول: التصريح بلفظ الحكمة، كقوله - تعالى -: [حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ]
[القمر: 5] ، [وإنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ] [النمل: 6] .
ثانياً: إخباره عن فعل كذا لكذا، كقوله - تعالى -: [ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ] [المائدة: 97] .
ثالثًا: لام التعليل، كقوله - تعالى -: [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ]
[الأنفال: 42] .
رابعًا: كي التعليلية، كقوله - تعالى -: [كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ] [الحشر: 7] .
خامساً: (أنْ) والفعل المستقبل بعدها، كقوله - تعالى -: [أَن تَقُولُوا
إنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا] [الأنعام: 156] .
سادساً: ما هو من صريح التعليل، كقوله - تعالى -: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ] [المائدة: 32] .
سابعاً: التعليل بلعلّ، وهى تفيد العِلّية في كلام الله - تعالى - كقوله:
«لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
ثامناً: إنكاره - سبحانه - التسوية بين المختلفين والتفرقة بين المتساويين
كقوله تعالى: [أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ] [القلم: 35] .
تاسعاً: أمره - سبحانه - بتدبر كلامه والتفكر في مغزى أوامره ونواهيه،
وهو يدل دلالة صريحة على ما تتضمنه تلك الأوامر والنواهي من حكم بالغة
ومصالح وغايات مطلوبة. وإلا ما كان هناك داعٍ للتفكر والتدبر بها [شفاء العليل
لابن القيم، ص190 وما بعدها] .
ويا سبحان الله العظيم! أن تحتاج مثل هذه القضية إلى أدلة وبراهين للمحاجة
عنها: ألم يسمِّ الله نفسه حكيماً؟ ! وكيف يليق بالرب - سبحانه - أن يقال: إن
أفعاله ليست لدواعٍ أو أسباب أو حكم، إنما هي محض مشيئة ترجح مثلاً على مثل
بلا داعٍ لذلك! في حين أن مجرد وصف أحد الناس بمثل تلك الصفة هو سمة عار
ومظهر نقص في قواه العقلية التي تدفعه للعمل دون مبرر إلا أنه أراده هكذا لا غير!!
أما إذا ذهبنا نتتبع كون الله المشهود لنرى مواطن حكمته في خلقه؛ لخرجت
الآيات الدالة على ذلك عن الحصر بلا جدال.
أهل السنة والسببية:
كان نفي الحكمة وادعاء عدم عِلّية الأحكام الشرعية، وانتفاء مقصد المصلحة
فيها باباً لنفي الأسباب جملة في حياة الناس وتصرفاتهم، وفي ظواهر الحياة المادية
وحركاتها، وادعاء أن الله لم يجعل شيئاً في الدنيا سبباً لشيء ولا رتب شيئاً على
شيء، بل كل ذلك من أوهام العقل الذي لم يصل إلى منتهى التوحيد ليشهد أن الله
هو الفاعل وحده، فما ثمة سبب إلا الله -سبحانه -! وكان ذلك التقرير إهداراً
للعقل والفطرة معاً، بل هو أكبر من ذلك؛ إذ إن الشرع قد ربط الأسباب بمسبباتها
في الأحكام والقدر وأفعال العباد، بل كل ما في الكون هو مبني على التسلسل
السببي شرعاً وقدراً، فالإنسان سبب في أفعاله، إذ هو الذي يسببها، وعليها يثاب
أو يعاقب، وهو ينال ما قُدر له بالسبب الذي أُقدر عليه ومُكّن منه وهُيئ له، فإذا
أقر بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب [شفاء العليل
لابن القيم، 25] وكلما ازداد اجتهاداً في تحصيل الأسباب ازداد قرباً من الله، ومما هو مقدور في الكتاب، وقد كان من حسن فقه الصحابة أنهم قد ازدادوا عملاً لما فهموا القدرحق الفهم، وعرفوا أن مصالح الدنيا والآخرة ترتبط ارتباطاً تاماً بما يكتسبونه في حياتهم.
فالصلاة أخذ بالسبب الموصل إلى رضا الله - سبحانه - وهو قد جعلها سبباً
لرضاه، كما أن السعي للرزق سبب للحصول عليه، والقعود في الدار وانتظار أن
تمطر السماء غذاءً وكساءً لن يُنتج إلا الحسرة والفاقة.
ومن هنا فحق التوحيد أن تسعى عن طريق الأسباب التي خلقها الله - سبحانه - لتصل إلى النتائج التي أرادها الله - سبحانه -، لا أن تُعْرض عن أسبابه مدعياً
الوصول إلى النتائج دونها.
وما سبق أن ذكرناه في باب إثبات الحكمة والتعليل هو بذاته دليل على أن الله - سبحانه -بنى الدنيا على قاعدة ربط الأسباب بمسبباتها في الظواهر المادية أو
التصرفات الإنسانية أو الأحكام الشرعية.
ففي التصرفات الإنسانية قال - تعالى -: [فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً
رَّابِيَةً] [الحاقة: 10] . وفي الظواهر المادية قال - تعالى -: [ونَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ] [ق: 9] . وفي الأحكام
الشرعية قال - تعالى: [والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ] [المائدة: 38] وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية
الشرط والجزاء كما في قوله -تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ
يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً] [الأنفال: 29] .
ولا فرق في ذلك بين الأحكام الشرعية - التي هي حكم الله تعالى في خلقه
الإنسانى - وبين السنن الكونية الطبيعية - التي هي حكم الله تعالى في خلقه المادي
ولعل ما كتبه ابن القيم في (مدارج السالكين) - عن منزلة (الأسباب) في الدين -
فيه غناء عن كثير مما قد يقوله غيره، فلنثبتْه هنا كموقف لأهل السنة في هذه
المسألة:
(ونحن نقول: إن الدين هو إثبات الأسباب، والوقوف معها، والنظر إليها
والالتفات إليها، وإنه لا دين إلا بذلك، كما لا حقيقة إلا به ... فإن الوقوف معها
فرض على كل مسلم، لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك ... وهل يمكن حيواناً أن
يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب؛ فينتجع مساقط غيثها ومواقع قطرها.
ويرعى في خصبها دون جدبها، ويسالمها ولا يحاربها فكيف وتنفسه في الهواء بها، وسعادته وفلاحه بها، وضلاله وشقاؤه بالإعراض عنها وإلغائها، فأسعد الناس في
الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى مصالحها. وأشقاهم في الدارين أشدهم
تعطيلاً لأسبابهما؛ فالأسباب محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والنجاح
والخسران " [مدارج السالكين لابن القيم، 407 وما بعدها] . ... ... ...
ذلك هو فقه أهل السنة في الأخذ بالسبب وفي مرتبته التي بُنيت عليها الدنيا،
ولعل فيما نقلناه غناءً عن الإطالة.
وماذا عن واقع المسلمين:
لو اقتصر أمر ما عرضنا آنفاً من آراء منحرفة - على الجانب النظري
البحت في الكتب والمناظرات، وفي النطاق العلمي المحدود - لهان الخطب، ولما
تجشمنا عناء الرد عليها إلا إعذاراً إلى الله - تعالى - ببيان وجه الحق فيها، ولكن
شأن تلك الأفكار المنحرفة عن جادة الصواب أن تتسرب شيئاً فشيئاً إلى واقع الناس
وحياتهم، خاصة إن كُتب لها أن تنتشر بواسطة انتشار مذاهب من يحملونها في
المكان والزمان، فتعمل عملها في تشكيك العقلية الإسلامية، ومن ثم التأثير في
مجريات الحياة الإسلامية، حتى تصبح جزءاً من النسيج العقلي الذي ينسج الناس
على منواله دون معرفة لمصدره أو تحديد أسبابه.
وإننا حين استعرضنا ما ذكرناه من آراء يأخذ بعضها برقاب بعض، ما
قصدنا أن نروي تاريخاً فات، أو أن نثير في النفوس حزازات، ولا أن يكون
بحثنا متاعاً عقلياً لمن يفتنه ذلك النوع من المتعة العقلية، بل إلى النظر في الواقع
الحالي للمسلمين، وكيف أثرت فيه تلك الأقوال حتى أسلمته إلى ما هو عليه من
وهن وضعف، ومن تخلف وانحطاط.
كيف نريد لعلم أن ينشأ؟ أو لأمة أن تتقدم وتترقى؟ أو لقوة أن تنمو وتزداد،
بينما تلك الأفكار الخبيثة تعمل عملها في الفرد والمجتمع فتثبط الهمة، وتفل العزم،
وتهدر الجهد.
لقد عملت تلك المفاهيم - عن القدر والسببية - عملها في الأمة الإسلامية
خلال قرون متطاولة، فكان من جرائها - إلى جانب أسباب أخرى عديدة - أن
أهمل المسلمون العلوم التجريبية بلا شعور أو وعي، وكان هذا هو المعول الأول
الذي جر بهم إلى حضيض التخلف والضعف، في عالم عرف قيمة العلم التجريبي
الذي يبني أول ما يُبنى على قاعدة ربط الأسباب بنتائجها، وأن السنن الكونية عاملة
في الوجود بحسب ما أجراها الله - سبحانه - في حكم العادة الجارية.
وكيف يندفع المسلم إلى محاولة اكتشاف علاقة بين أمرين، وهو أصلاً يؤمن
بأنه لا رابطة بينهما، وأن أحدهما لا ينشاً عن الآخر، بل - في أحسن الأحوال -
ينشأ عند حدوث الآخر لا غير؟ !
لقد سن الله - سبحانه - سنناً كونية، أجرى عليها أمر الناس والأشياء والمادة، هذه السنن تعمل بشكل دائم منتظم سواء في حياة الناس الاجتماعية، أو الفردية، وسواء في مبناهم الجسدي أو عالمهم المادي، وسواء في الأمم التي اهتدت بهدي
النبوة، أو التى كفرت بها.
والآخذ بالأسباب الصحيحة التامة، والمراعى لتلك السنن الكونية الإلهية هو
الموفق إلى العلو والارتقاء في هذه الدنيا، وإن من رحمة الله وفضله على المسلمين
أن أتاح لهم الأسباب التي توصلهم لخير الدارين بأن هداهم للإيمان ووفقهم لاتباع
الهدي النبوي، ودلهم على ما لم يدل عليه الكافرين من أسباب خاصة تعاونهم على
النجاح والظفر في الدنيا والآخرة كالدعاء والعبادة وإفراد التوحيد، كذلك الأسباب
التامة التي تقيم حياتهم المادية على خير نسق سواء في معاملاتهم المادية أو علاقاتهم
الاجتماعية. وبقدر ما يحصل الفرد المسلم، والمجتمع المسلم من الأخذ بالأسباب،
ومراعاة تلك السنن، بقدر ما يتقدمون في الدنيا على أعدائهم، فإن تخلوا عن
الأسباب الموصلة لخير الدنيا أو الآخرة، فهم وغيرهم سواء، والظفر لمن نال
أسباب القوة والغلبة.
كيف يأمل المسلمون أن يتغلبوا على تلك القوى الهائلة التي تحيط بهم إحاطة
السوار بالمعصم، وتترصد بهم في كل لحظة لتقضي عليهم قضاءً مبرماً، وهم لا
يملكون - بل ولا يحاولون - وسائل التقدم والغلبة سواء منها الحربية أو الاقتصادية
أو غيرها؟ !
كيف يأمل المسلمون أن تتحرر إرادتهم في أوطانهم، وأن يكون لهم أمر
أنفسهم في ديارهم دون أن يتخذوا بالأسباب الكفيلة بأن يسيطروا على العالم الاقتصادي والسياسي والعسكري؟ !
ولقائل أن يقول: إننا نحاول جهدنا باتخاذ بعض الأسباب دون بعض، أو
جزء من الأسباب الناقصة دون التامة، إلا أننا ننبه إلى نفيسة من النفائس التي
ذكرها الشاطبي وابن القيم من أن الإتيان بالسبب على كماله، وانتفاء أي مانع
يمنعه، تنشأ النتيجة عنه لا محالة، كما أن الفاعل إن قصد أن لا تقع النتيجة بعد
الأخذ بالسبب التام فهو عابث، كذلك فإن أخذ بجزء السبب أو بسبب ناقص لم
يوصله إلى النتيجة المرجوة وإن أراد ذلك [الموافقات، 1/218] .
فالسبب يجب أن يؤخذ على الوجه الأكمل حتى يتم المقصود منه، وتترتب
عليه نتائجه حتى يتخطى المسلمون تلك العقبات، وحتى يتخلصوا من المأزق
التاريخي الذي وقعوا فيه - بما كسبت أيديهم - فإن عليهم الأخذ بالأسباب التامة
كافة في جميع المجالات دون استثناء، في الجانب الاقتصادي والاجتماعي
والعسكري والسياسي، وأن يكون همهم تدارس كيفية تقدم الأمم الأخرى، ووسائل
اللحاق بها والأخذ عنها بما لا يتعارض مع شرعنا الحنيف، فإنه ليس كل ما عند
الكافرين كفر، بل فيه حق وباطل، ونحن أحق بالحق الذي عندهم منهم.
إن من سنن الله الجارية في الأمم كافة:
أن تقوى الله سبب العلو، والمعصية والبدعة سبب للذلة.
وأن الاجتماع سبب للنصر، والتفرق سبب للهزيمة.
وأن العلم سبب للتفوق، والجهل سبب للتخلف.
وأن المال سبب للقوة، والفقر سبب للهوان.
وأن الوعي سبب النجاة، والذهول عن الحقائق سبب للهلاك.
وأنه بالعمل تتقدم الأمم، وليس بالشعوذة، وبالصناعة تترقى المجتمعات،
وليس بالتواكل وترك الأسباب.
إن البشرية قد قطعت شوطاً طويلاً سبقت فيه المسلمين سبقاً كبيراً ولابد
للمسلمين من أن يسرعوا الخطى في الطريق السديد.. ليلحقوا بالركب أولاً.. ثم
يقودونه للهدى ثانياً.
وإن العودة لمنهج السلف الصالح هو سبب الاجتماع فالنصر، والإصرار على
التحزب والمكابرة هو سبب التفرقة فالهزيمة. والحرص على النفع الشخصى
والسعى وراءه - حتى وإن كان في الإطار الإسلامي - لا يُغني غناءً كثيراً؛ إذ إن
السبب يجب أن يؤخذ على كماله وبوجهه الصحيح وإن تقديم النفع الجماعي
والمصلحة العامة - وعدم الحرص على التوفيق المعتسف بينهما وبين الاعتبارات
الشخصية - هو سبب الاندفاع للأمام، ونمو القوة الإسلامية من جديد.
وإن اعتقد المسلمون أنه يمكنهم النصر، والخروج من المأزق وهم على تلك
الحال فيما بينهم وبين أنفسهم، أو بينهم وبين أعدائهم، فهم واهمون فالأسباب لابد
منها، وليدرك من يقصر عن اتخاذ الأسباب أنه يفت في عضد ذلك الكيان
الإسلامي.. مهما اتخذ من أعذار أو قدم من مبررات لنفسه أو لمن حوله..
إنه لابد من النهضة العلمية، والتخصص في مجالات العلوم كافة لأعلى
درجات التخصص، حتى ينبغ من المسلمين من يهيئ لهم أسباب استخدام تلك
الطاقات الهائلة المتاحة لأعدائهم، والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسبابها.
ولابد من النهضة الاقتصادية، وبناء اقتصاد إسلامي مستقل متكامل يلجأ إليه
المسلمون دون خوف من القوى المعادية، التي ستمنع عنهم ثرواتهم إن عاجلاً أو
آجلاً.. والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسبابها. ولابد من الوعي السياسي،
والوعى الإعلامي، حتى يفهم المسلمون حقيقة ما يدور حولهم، وما يراد بهم من
شتى الجبهات العدائية.. والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسباب ذلك.
ولابد من الدراسات الاجتماعية المتخصصة، التي تتناول تلك التركيبة
الإسلامية الحالية، أفراداً ومجتمعات، وما يؤثر فيها؛ حتى يكون الدواء مناسباً
للداء، فالبشر لهم سمات مشتركة خلقها الله - تعالى - فيهم ولابد من الالتفات إلى
تلك العوامل النفسية والاجتماعية التي تعمل عملها وتسّبب الكثير من المشاكل في
الواقع الإسلامي المعاصر ... والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسباب تلك
الدراسات.
وأخيرا.. هي دعوة ليستفيق المسلمون (المخلصون) مما هم فيه من غفلة
عن الداء، ومن إعراض عن الدواء، قبل فوات الأوان.
وهي أمانة في عنق كل مسلم واعٍ يحملها إلى أخيه؛ أن أدرك مَن حولك
بالتربية والتوعية، واسعَ للائتلاف ونبذ الخلاف والأخذ بالأسباب التامة لنصل إلى
النتائج المرجوة ...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(4/31)
الأعياد والمناسبات
المعتبرة في الإسلام
محمد عثمان
الأعياد جمع عيد. والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد،
عائد: إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع أو بعود الشهور، أو نحو ذلك. فالعيد
يجمع أموراً، منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة.
ومنها: اجتماع فيه.
ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات وقد يختص ذلك بمكان
بعينه.
وقد يكون مطلقاً وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً [1] .
فالزمان كقوله - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة: (إن هذا يوم جعله الله
للمسلمين عيداً) (رواه ابن ماجه) .
والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس: (شهدت العيد مع رسول الله - صلى ...
الله عليه وسلم -.. (متفق عليه) . والمكان كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ...
تتخذوا قبري عيداً) .
وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع العيد والعمل فيه وهو الغالب كقوله -
صلى الله عليه وسلم-: (دعهما يا أبا بكر! ؛ فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا) (متفق عليه) .
لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها، ووقع
فيها الإفراط والتفريط، وإذا نظرت إلى شريعة الإسلام وأحداثه عامة وخاصة؛
تجد المناسبات أو الأعياد على قسمين:
مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام
والأجيال وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها.
ومناسبة لم تعتبر، إما لاقتصارها في ذاتها، أو عدم استطاعة الأفراد
مسايرتها.
فمن الأول يوم الجمعة، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه
عنها في صلاة الفجر، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب
وتبكير إليها، ولكن من غير غلو ولا إفراط. فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده
دون أن يسبق بصوم قبله أو يلحق بصوم بعده. كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام،
والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة معلومة.
فكان يوم الجمعة مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله بدون إفراط أو
تفريط. وذلك أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام، فيه خلق، وفيه خلقت فيه
الروح، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تِيبَ عليه، وفيه تقوم
الساعة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - تعالى - بهذه المناسبة:
(إن قراءة سورة السجدة وسورة الإنسان معاً في يوم الجمعة لمناسبة خلق آدم
في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه
آدم، ومبدأ خلق عموم الإنسان، ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول وهل هو شاكر أو كفور؟) [أضواء البيان] .
وكما قيل يوم الجمعة يوم آدم، قيل في يوم الاثنين يوم محمد عليه أفضل
الصلاة والتسليم - أي فيه وُلد، وفيه أنزل عليه، فقد جاء عنه، صلى الله عليه
وسلم، أنه سئل عن صيام يوم الاثنين. فقال: (هذا يوم ولدت فيه وعليَّ فيه أنزل) [2] وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة.
أما ما يفعله كثير من الناس في هذه الأزمنة من احتفالات ومظاهر فقد حدث
ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ولا الثالث وهي القرون المشهود
لها بالخير كما جاء الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خير الناس قرني
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) . والذين أحدثوا هذه البدعة هم الفاطميون في القرن الرابع. يقول الشيخ محمد أمين الشنقيطي - رحمة الله عليه -: (وقد افترق الناس في هذا الأمر إلى فريقين: فريق ينكره وينكر على من يفعله،
لعدم فعل السلف إياه ولا مجيء أثر في ذلك. وفريق يراه جائزاً لعدم النهي
عنه، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة ولشيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) كلام وسط في غاية الإنصاف. نورد موجزه ... لجزالته والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال - رحمه الله - في فصل قد عقده للأعياد المحدثة فذكر أول جمعة من
رجب، وعيد غدير خم في الثامن عشر من ذي الحجة حيث خطب النبي - صلى
الله عليه وسلم - وحث على اتباع السنة وأهل بيته ثم أتى إلى عمل المولد.
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد المسيح،
وإما محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً له، والله قد يثيبهم على هذه
المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولده -صلى الله عليه وسلم- عيداً مع
اختلاف الناس في مولده أي في ربيع أو في رمضان فإن هذا لم يفعله السلف مع
قيام المقتضى له وعدم المانع له.
يضيف شيخ الإسلام: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف -
رضي الله عنهم - أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وتعظيماً له منا وهم على الخير أحرص.
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سننه باطناً
وظاهراً، ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه هي
طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع - مع ما لهم فيها من
حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة - تجدهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي
المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه،
أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة وأمثال
هذه الزخارف الظاهرة - التي لم تشرع - ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها) اهـ (اقتضاء، ص295) .
وليس بصحيح ما يزعمه بعض المبتدعة من تسمية المولد إحياءً لذكر
الرسول - صلى الله عليه وسلم-؛ فالله أحيا ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قرن ذكره مع ذكره - تعالى - في الشهادتين ومع كل أذان وكل إقامة لأداء صلاة وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة.
ومن المناسبات المعتبرة شهر رمضان المبارك بكامله لكونه أنزل فيه القرآن:
[شَهْرُ رَمَضَانَ الَذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًًى لِّلنَّاسِ] [البقرة: 185] .
ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها لقوله - تعالى -:
[إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ (1) ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ (2) ] [القدر: 1-2] ، ثم بين مقدارها [لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) ] وبين خواصها [تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) ] ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتفي بها ويلتمسها في العشر الأواخر وفي الوتر من العشر الأواخر، فكان- صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشرة كلها التماساً لتلك الليلة. روى ...
البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (كان رسول ...
الله - صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر) .
ومن المناسبات يوم عاشوراء، فلقد كان لهذا اليوم تاريخ قديم، وكانت العرب
تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة، ولما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-
المدينة وجد اليهود يصومونه؛ فقال لهم: لِمَ تصومونه؟ فقالوا: يوماً نجى الله فيه
موسى من فرعون فصامه شكراً له، فصمناه. فقال -صلى الله عليه وسلم-: نحن
أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه) .
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس - رضي
الله عنهما - قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود
يصومون يوم عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه نبي
الله موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيماً له. فقال النبي -صلى
الله عليه وسلم-: نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصومه.
إن نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون مناسبة عظيمة، نصرة الحق
على الباطل وانتصار جند الله وإهلاك جند الشيطان. وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل
مسلم؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بموسى منكم؛ نحن - معشر
الأنبياء - أبناء علاّت، ديننا واحد) .
وقد كان صيام عاشوراء فرضاً حتى نُسخ بفرض رمضان وهكذا مع عظيم
مناسبته من إعلان كلمة الله ونصرة رسوله كان ابتهاج موسى عليه السلام به في
صيامه شكراً لله.
ومن هذه المناسبات المعتبرة عيد الفطر وعيد الأضحى وهما مناسبتان ...
عظيمتان لحديث أنس بن مالك الذي رواه أبو داود في سننه: (قدم النبي -صلى
الله عليه وسلم- ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم
الفطر ويوم الأضحى) (رواه أبو داود والحديث على شرط مسلم) .
ومما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله الإمام ابن كثير في تفسيره
عند قوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ
الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3]- قال عندها:
(روى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر
ابن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم
لو علينا - معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال:
قوله: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ؛ فقال عمر: والله إنى لأعلم اليوم الذين نزلت
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والساعة التي نزلت فيها عشية عرفة في
يوم الجمعة) (رواه البخاري ومسلم) .
وروي عن كعب قوله: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا
اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه.
الأعياد غير المعتبرة في الإسلام:
عيد الميلاد:
يحتفل النصارى بيوم ولادة عيسى ويظهرون الأفراح والسرور ويعطلون
الدوائر والأعمال، ويهنئ بعضهم بعضاً، ويتزاورون ويظهرون شعار دينهم، وقد
قلدهم وشابههم كثير من جهال المسلمين وذوي الرئاسة والسياسة. ففي أعمال كثير
من المسلمين في هذا العيد أنهم يعطلون الدوائر الحكومية والشركات وبعض التجار
الكبار تعظيماً لهذا اليوم، احتراماً له ويزورون أصدقاءهم النصارى ويرسلون لمن
كان منهم بعيداً بطاقات تهنئة. والرؤساء والملوك يرسلون برقيات تهنئة للدول التي
تزعم أنها تدين بالمسيحية.
وهذا العيد وغيره من الأعياد التي ابتلي بها كثير من البلاد الإسلامية - كعيد
الوطن، وكعيد العلم، وعيد الأم وعيد الشجرة وعيد النظافة، وعيد الولادة، وعيد
الأسرة، وعيد الأولياء -كلها محرمة في دين الإسلام؛ لمشابهتها الكفار في أعيادهم
ولا شك أن في هذا إحياءً لسنن الجاهلية، وإماتة الشرائع الاسلامية في قلوب
المسلمين، وإن كان أكثر الناس لا يشعرون بذلك لشدة استحكام ظلمة الجاهلية في
قلوبهم، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذراً بل هو الجريمة التي تولّد عنها كل الجرائم من
الكفر والفسوق والعصيان.
قال شيخ الإسلام: إن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين:
1- أحدهما: أن فيها مشابهة للكفار.
2- والثانى: أنها من البدع.
فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر؛ وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل
الكتاب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات؛ فيدخل فيما رواه مسلم
في صحيحه عن جابر قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب
احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم
ومسَّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى
ويقول: أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد. وشر
الأمور محدثاتها. وكل بدعة ضلالة) (اقتضاء الصراط المستقيم ص266) .
وحديث أبي سعيد في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا
جحر ضب لتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال: فمَن؟!)
بدع الشهور:
هناك بدع كثيرة يصعب حصرها في هذه العجالة ولكني أذكر نبذة منها:
1- استقبال الرافضة شهر محرّم بالحزن والهم والخرافات والأباطيل،
فيصنعون ضريحاً من الخشب مزيناً بالأوراق الملونة يسمونه ضريح الحسين أو
كربلاء. وخلال هذا الشهر تمنع الزينة فتضع النسوة زينتهن ولا يأكل الناس
اللحوم وتشعل النيران ويتواثب الناس عليها والأطفال يطوفون الطرقات يصيحون:
يا حسين! .. يا حسين! .
2- بدع صفر: كان بعض الناس يمتنعون فيه عن السفر أو إقامة أي حفل،
ويظهرون التشاؤم والتطير.
3- ربيع الأول: بدعة المولد، أي إقامة احتفالات لمولد النبي -صلى الله
عليه وسلم- وكذلك ما يسمونه بليلة الإسراء والمعراج فتقام الولائم وتضاء الشموع
وتصلَّى النوافل.
4- وفي شعبان: ما يسمونه ليلة النصف من ليلة البراءة؛ حيث يعتقدون
غفران الذنوب وإطالة الأعمار وزيادة الأرزاق.
5- بدع شهر رمضان: اهتمام الناس بالجمعة الأخيرة منه فيصلي مَن كان لا
يصلي بقية أيامه.
والصواب - الذي عليه المحققون من أهل العلم - النهي عن إفراد هذا اليوم
بالصوم، وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل تعظيم لهذا اليوم من صنع الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزيَّة أصلاً.
الخلاصة:
خلاصة القول أننا نستفيد من هذه العجالة أموراً:
* منها أن الإسلام لم يشرع الاحتفال بولادة أو بموت أحد.
* ومنها: أن هذه المناسبات قد تعددت حتى غدا الإسلام احتفالات وأعياداً.
فقد يقول قائل: أنا أحتفل بيوم ولادة النبي - عليه الصلاة والسلام - وقد يقول آخر: أحتفل بيوم الهجرة؛ لأنه بالهجرة فرَّق الله بين الحق والباطل واعتز المسلمون
وصارت لهم دولة؛ فتستحق الاحتفال بها، وإظهار التعظيم لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم -.
وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم بدر؛ لأنه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان،
يوم أن نصر الله المسلمين على المشركين. وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم فتح
مكة يوم دخل الناس في دين الله أفواجاً. وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم وفاته يوم
انتقل إلى الرفيق الأعلى ...
وهكذا تتعدد الآراء ويتفرق الناس على غير هدى، ومن غير دليل شرعى
يحسم النزاع، ويوفر الجهد.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص189، ط دار المعرفة.
(2) مسند الإمام أحمد، ج5، ص279-299، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام.(4/42)
أوصاف المفارقين لأهل
السنة والجماعة
اختيار: محمد المصري
المفارقون للسنة يدفعهم إلى ذلك أمران رئيسيان:
الأول: هو الجهل بالحق فيحكمون بالظن بلا علم. والثاني: الهوى فيحكمون
بالظلم بلا عدل.
(وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى قسمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد خبت وخسرت إن لم أعدل. فقال له بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه يخرج من ضِئضىء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم) الحديث.
فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر
ربه برأيه وهواه [ج3، ص350] ، والمفارقون للسنة يدفعهم الجهل والهوى إلى ...
كثرة الآراء وتضاربها واختلافها من جهة، وإلى التفرق والشقاق والمعاداة من جهة
أخرى.
إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-،
لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما،
ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها، وناتج المقاييس وعقيمها. مع ما ينضم
إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول
العداوة والشقاق.
فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب (قوة الجهل والظلم) اللذين نعت الله بهما
الإنسان في قوله: [وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] [الأحزاب: 72] .
فإذا منَّ الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال [ج3، ص378] .
والمفارقون للسنة قد يدفعهم إلى ذلك الغلو الذى ذمه الله ورسوله -صلى الله
عليه وسلم-.
" فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر النبي -صلى الله
عليه وسلم- بقتالهم فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق
أيضاً من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة مَن ليس من أهلها، بل قد مرق منها
وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله - تعالى - في كتابه حيث قال: [يَا أَهْلَ
الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ..] الآية [النساء: 171]
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من
كان قبلكم الغلو في الدين) وهو حديث صحيح.
ومنها التفرق والاختلاف الذي ذكره الله - تعالى - في كتابه العزيز. ومنها
أحاديث تُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي كذب عليه باتفاق أهل
المعرفة، يسمعها الجاهل بالحديث فيصدق بها لموافقة ظنه وهواه.
(وأضل الضلال) اتباع الظن والهوى، كما قال - تعالى - في حق من ذمهم: [إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى]
[النجم: 23] وقال في حق نبيه -صلى الله عليه وسلم-: [وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى (2) ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى] فنزهه عن الضلال والغواية اللذين هما الجهل والظلم: فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذى يتبع هواه، وأخبر أنه ما ينطق عن هوى نفسه، بل هو وحي أوحاه الله إياه، فوصفه بالعلم، ونزهه عن الهوى) [ج3، ص 383] .
والمفارقون للسنة: منهم قوم جهال بالدين ومنهم قوم منافقون، ومنهم قوم
سماعون للمنافقين يقبلون منهم، وكل من هذه الأصناف قد يكون فتنة للصنف
الآخر.
(قد يقع التنازع في تفصيل الكتاب فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في (مسائل الاجتهاد) ، وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين، أو منافقون، أو ... سماعون للمنافقين. فقد أخبر الله - سبحانه - أن فينا قوماً سماعين للمنافقين يقبلون منهم.. وكثيراً ما يضيع الحق بين الجهال الأميين وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة نفاق.. فإما أن تضل الطائفتان، ويصير كلام هؤلاء فتنة على أولئك حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين، ويصيروا على طرفي نقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم. وهذا من أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ) [ج25، ص128-131] .
والمفارقون للسنة مغالون في التعصب للأشخاص بلا علم ولا عدل، ومغالون
في التعصب في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد مع البغي والعدوان على المخالف
لهم.
(فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق " [ج3، ص347] .
(ومن والى موافِقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسق
مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون
موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلاف " [ج3، ص349] .
(إن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا في كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا
إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل. ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقاً أو
اعتقاداً زعم أن الإيمان لا يتم إلا به. مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف
النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين.. ويروى عن مالك - رحمه الله - أنه قال:
(إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء) .
ولهذا تجد قوماً كثيرين يحبون قوماً ويبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون
معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً
صحيحاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم
يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها. وسبب هذا إطلاق أقوال ليست
منصوصة، وجعلها مذاهب يدعى إليها، ويوالى ويعادى عليها، وقد ثبت في
الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام
كلام الله.. إلخ (فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول. وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة. بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. والخوارج إنما تأولوا آيات القرآن على ما
اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافراً؛ لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالاً ليس لها أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافراً كان قوله شراً من قول الخوارج) [ج 20، ص163-164] .
فالمفارقون للسنة إذن يقدمون بين يدي الله ورسوله: فيخرجون عن السنة أولاً، ثم يبادرون أهل السنة بالبغي والظلم والعدوان، فيخرجون عن الجماعة ...
ثانياً، وهذا هو الأصل الذي تدور حوله وتتولد منه البدع والأهواء! ... ...
(أول البدع ظهوراً في الإسلام وأظهرها ذماً في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة.. ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم:
- إحداهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس
بحسنة حسنة، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت
ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسّن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنته
السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأً في بعض
المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على
الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما
صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف - بزعمهم -
ظاهر القرآن، وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا،
فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه..
- الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات،
ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام
دار حرب ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور
المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبين إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم
فهل أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفراً.
فينبغي للمسلم أن يحذر هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض
المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف
السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن
السنة، ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباً، سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً، وعاملهم
معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة. وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين
الأصلين.
أما الأول فشبه التأويل الفاسد أو القياس الفاسد: إما حديث بلغه عن الرسول
لا يكون صحيحاً، أو أثر عن غير الرسول قلده فيه ولم يكن ذلك القائل مصيباً، أو
تأويل تأوله من آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
صحيح أو ضعيف، أو أثر مقبول أو مردود، ولم يكن التأويل صحيحاً، وإما
قياس فاسد أو رأي رآه اعتقده صواباً وهو خطأ.
فالقياس والرأي والذوق هو عادة خطأ المتكلمة والمتصوفة وطائفة من المتفقهة وتأويل النصوص الصحيحة أو الضعيفة عامة خطأ طوائف المتكلمة والمحدثة
والمقلدة والمتصوفة والمتفقهة. وأما التكفير بذنب أو اعتقاد سني فهو مذهب
الخوارج. والتكفير باعتقاد سنى مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم. وأما
التكفير باعتقاد بدعي فقد بينته في غير هذا الموضع [ج12، ص464 وبعدها] .
ودون التكفير قد يقع من البغض والذم والعقوبة - وهو العدوان - أو من ترك
المحبة والدعاء والإحسان - وهو التفريط - ببعض هذه التأويلات مما لا يسوغ،
وجماع ذلك ظلم في حق الله - تعالى - أو في حق المخلوق. كما بينته في غير هذا
الموضع، ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه: أكثر ما يخطئ الناس من جهة
التأويل والقياس) [ج19، ص71-75] .
والمفارقون للسنة منهم المغالون المعتدون ومنهم المفرطون الجاهلون:
صار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية
والممثلة - يعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في
ذلك، فيصير منهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق.
ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر (بالمقالة) التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف
حجتها.
وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة
كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس
بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع
ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذماً مطلقاً، لا يفرقون
فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو
يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي
يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المفارقين للسنة الذين
سقطوا في هذه البدع وفي غيرها لأنهم يقرنون بين الخطأ والإثم.
(فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب
المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا ما اجتهدوا
فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم
مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم،
ويقولون إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ.
وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون. ومن هذا الباب تولد كثير من فرق
أهل البدع والضلال) [ج35، ص69-70] .(4/48)
الدعوة إلى الله بين
الأسلوب والمضمون
د. صلاح عبد الفتاح الخالدي
وجوب الدعوة إلى الله:
يتفق المسلمون على أهمية الدعوة إلى الله، ويتحدث كثيرون عن وجوبها
على المسلمين، ونحن مع هؤلاء في وجوب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتذكير الناس ووعظهم
ونصحهم ... إن هذا واجب على جميع المسلمين، على اختلاف مستوياتهم، ولكن
هذا الواجب يتفاوت بتفاوت المسلمين علماً وفطنة وأسلوباً ومركزاً وعملاً ووقتاً..
وهذا الوجوب مستفاد من آيات كثيرة صريحة في القرآن.. كما في قول
الله - سبحانه -: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] ، وقوله سبحانه -: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ] [آل عمران: 110] وقوله - سبحانه -: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي] [يوسف: 108] وقوله - سبحانه -[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: ... 125] ، وقوله - سبحانه -: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ] [لقمان: 17] .
من أصناف المدعوين واستقبالهم للدعوة:
استقبال المدعوين للدعوة إلى الله ليس على صورة واحدة مطردة، ولكنهم
ينقسمون إلى أصناف عديدة: فمنهم من يرضى بها ويُقبل عليها ويتفاعل معها،
ويستجيب لأصحابها، ويثني عليهم ويتقبل كلامهم، ويدعو لهم، وهذا الصنف
الطيب الخيِّر موجود بكثرة بين جماهير المسلمين.
ومنهم من يغلق قلبه أمامها، ويصمّ أذنيه عن سماعها، ويعرض ويدبر
ويتولى، ويرفض أن يتفاعل معها.
ومنهم من يرفضها ويتوجه إلى الداعين بالاتهام والسخرية والاستهزاء
والانتقاد، ويجعلهم هم السبب في رفض الدعوة، ويتهمهم في أسلوبهم ومنطقهم
وتعاملهم مع المدعوين.. يتهمهم بالتزمت والتعصب والعنف والقسوة والإيذاء.
ومنهم - وبخاصة إذا كان صاحب مركز أو سلطان - مَن يرفض الدعوة
ويتهم أصحابها، ثم يوقع بهم من الإيذاء والتعذيب والاضطهاد ما يوقع، ويصدر
في حقهم من الاتهامات والانتقادات والإشاعات ما يصدر.. إنهم متعصبون..
متطرفون.. يصدون الناس عن الدين..
نصائح في عرض الدعوة:
يقوم بعض المسلمين -وبخاصة ممن يشغلون مراكز إسلامية رسمية - بتقديم
نصائح للدعاة بخصوص عرض الدعوة، ومخاطبة المدعوين بها، ويظهرون فيها
حرصهم على توصيلها وحسن تقديمها.. ويستشهدون في هذه النصائح بآيات من
القرآن تدل على أسلوب الدعوة، وبعض هؤلاء الناصحين لا ينقصه حسن النية
ونبل الباعث، ولكنه قد ينقصه حسن الاستدلال والاستشهاد والفهم لمعانى الآيات..
الآيات التي يستشهدون بها:
يعتمد هؤلاء الناصحون على آية صريحة في أساليب الدعوة إلى الله، وهي
قول الله - سبحانه: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] ويستخرجون منها أساليب عرض الدعوة على
المدعوين، ويقولون إنها ثلاثة أساليب: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال
بالتي هي أحسن.. ويطالبون الدعاة بالتزامها في مخاطبة المدعوين.. وهذا حق
وواجب، لا مرية فيه..
فهم بعضهم للمقصود بالحكمة والموعظة الحسنة:
والعجيب أن بعضهم يفهم المقصود بالحكمة والموعظة الحسنة فهماً خاطئاً
يفرغ به الدعوة من جوهرها ومضمونها وغايتها، ويخلطون فيه خلطاً شديداً بين
أساليب عرض الدعوة وبين جوهرها ومضمونها، فيعممون الأسلوب على
المضمون والجوهر.
يستخدم بعضهم هذه الآية في أساليب الدعوة في اتهام دعاة صريحين جريئين
في دعوتهم، ويعتبرون هذه الصراحة والجرأة منافية للحكمة والموعظة الحسنة،
ويصنفون هذه الفضائل ضمن المعوقات، ويجعلون صاحبها متصفاً بالتطرف
والتزمت والتشدد والعنف والحدة والقسوة والانفعال والإساءة.. أما المتصف ...
بالحكمة والموعظة الحسنة - عند هؤلاء - فهو الذي يقبل بالانحرافات، ويرضى
بتصرفات أصحابها، ويرتاد الأماكن والمجالس والمحافل التي تجري فيها مخالفات
شرعية، ويتباسط مع المخالفين فيها، ويسكت عن البيان والدعوة والنصح..
أما إذا قام بالنصح في هذه المجالس والمحافل، والتذكير والوعظ لأصحابها،
فإنه مجانب لأساليب الدعوة الحكيمة، متصف بالغلظة والشدة والقسوة..
أما إذا قام بالإنكار وغادر المجلس، أو لم يحضره أصلاً، فإنه متصف
بالتزمت والتعصب والتطرف.. والإسلام بريء من كل هذا والدعاة لا يتصفون
بهذا! ! .
الدعوة بين الأسلوب والمضمون:
إن هؤلاء - كما قلنا - يخلطون بين أسلوب عرض الدعوة وطريقة الاتصال
بالمدعوين، وبين جوهر الدعوة ومضمونها وما يقال للمدعوين عنها. وإن الخلط
بين هذين الأمرين، وعدم التمييز والتفريق بينهما يوقع بعض المسلمين في خطأ في
فهم الآيات، وخطأ في التعامل مع الآخرين، وخطأ في توصيل الدعوة لهم، وخطأ
في تقديم الدعوة لهم، وخطأ في النتائج التي قد يحققونها من خلال ذلك. وهي -
كما قلنا - مبنية على خطأ أساسي وهو المتعلق بفهم آيات الدعوة وإدراك معانيها
واستخراج دلالاتها..
الفرق بين الأسلوب والمضمون:
هناك فرق واضح بين الأمرين، بين الأسلوب والمضمون. بين المنهج
والطريقة، بين جوهر الفكرة وأسلوب تقديمها، بين الموضوع وكيفية تقديمه..
فرق بين ماذا نقول للناس وبين كيفية هذا القول للناس، وآداب تقديمه للناس..
وأي خلط بين هذه الأمور في موضوع الدعوة يوقع الدعاة والمدعوين،
والناصحين الموجهين، والناقدين المنظِّرين في نتائج خاطئة.
الأسلوب أو الطريقة أو الكيفية إنما في آداب الدعوة وعرضها وتقديمها للناس. في الصورة التي نقدم الدعوة من خلالها. والإطار الذي نضعها فيه، والآداب
التي نراعيها فيها.. في شكل الداعية الخارجى في مظهره وهندامه وتصرفاته
وحركاته.. في طريقته في العرض والكلام.. في نبرة صوته وقسمات وجهه
وحركات يديه وانفعالات كيانه.. في طريقة اتصاله بالمدعوين وتعامله معهم وتقديم
نفسه ودعوته لهم..
أما المضمون والجوهر فهو في نفس الكلام الذي يقوله وليس طريقة قوله..
في الحقيقة التي يقررها وليس في طريقة تقريرها.. في الموضوع الذي بينه وليس
في طريقة بيانه والتعبير عنه..
وبعض الناس يجعل المضمون والجوهر والحقيقة والفكرة من الأسلوب ...
والطريقة، فيقع في تحريف وتمييع في هذا المضمون والجوهر، ولا يقدم
الحقيقة كما يريد الله، فيخطئ في تقديم الدعوة، ويقصر في تبليغها.. ... هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا:
كل من أمعن في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقته في
تبليغ الدعوة ومخاطبة الآخرين، يرى الفرق واضحاً بين أسلوبه في عرض الدعوة
ومضمونها الذي بلّغه للناس، يرى الفرق واضحاً بين طريقته في مخاطبة الناس في
الدعوة وكيفية هذه المخاطبة، وبين الموضوع الذي خاطبهم فيه..
أساس دعوته ومضمونها وجوهرها: أن يوحدوا الله، ويؤمنوا برسوله -
عليه الصلاة والسلام -، هذا لم يتغير في أي ظرف أو زمان أو مكان. هناك
حقائق وقواعد وأسس لم يتنازل عنها أو يتراجع، ولم يفاوض حولها أو يهادن أو
يساوم: إن المؤمنين هم أهل الجنة، وإن الكافرين هم أصحاب النار، إن الكافرين
ليسوا على دين، وإن الحق حق والباطل باطل، وإن المعروف مطلوب والمنكر
مذموم متروك.. إلى غير ذلك من الحقائق الثابتة والقواعد الراسخة..
أما أسلوبه في تقديم هذه الحقائق، والصدع بهذه الأوامر، فقد كان متصفاً
بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن..
ودوا لو تدهن فيدهنون:
لقد أزعج الكافرين ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم- على مضمون
الدعوة وجوهرها. وعدم تراجعه عنها ومساومته عليها، ونجاحه في سلوك
الأسلوب الناجح في عرض هذه الحقائق وتقديمها للناس.. أزعجهم تفريقه بين
الأسلوب والمضمون، وفصله بين ما يجب أن يقال وكيفية وطريقة أن يقال..
ولهذا أرادوا أن يساوموه ويداهنوه، أرادوا منه أن يتراجع عن موقفه،
ويتنازل عن خصائصه..
[ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] [القلم: 9] أرادوا أن يضيعوا المضمون ويميعوا
الحق، فعرضوا عليه الالتقاء في منتصف الطريق: نعبد إلهك يوماً وتعبد آلهتنا
يوماً! ؛ فجاء الحسم من الله في عدم المساومة على الحقائق [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ
(1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)
ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ (6) ] [سورة الكافرون] .
أرادوا أن يحرفوه عن الحق الذي معه، وأن يفتنوه عن الذي أوحاه الله إليه:
[وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
* ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ
وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً] [الإسراء: 73-75] .
نماذج من الحقائق التي بلّغها:
أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ كل ما أمره به، وأن لا يخفي
من جوهره ومضمونه شيئاً، وأن لا يخشى في الحق لومة لائم؛ فقال تعالى: [يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ] [المائدة: 67] .
ولاحظ التعبير باسم الموصول [مَا أُنزِلَ إلَيْكَ] واسم الموصول يفيد العموم
والشمول والاستغراق.. يعني بلغ الناس كل الذي أنزل إليك من ربك، وإن أخفيت
بعضه فما بلغت رسالته.. [واحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ]
[المائدة: 49] .
وقد كلف الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتبليغ حقائق دينه وموضوع
دعوته بكلمة (قل) ، وهي (قل التكليفية التلقينية) وقد وردت هذه الكلمة التكليفية ...
ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة في القرآن الكريم (انظر المعجم المفهرس لألفاظ
القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي: 57-575) وكثرة ورودها دليل على أهمية
تبليغ مضمون الدعوة وكثرة الحقائق التي يجب تقديمها للناس..
ونختار فيما يلى بعض هذه الحقائق التي كلف الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ببيانها، والتي يظن بعض الناس أنها مما تخضع للإخفاء والمداهنة ... ... ... ...
والمساومة، والتي قد يكلف تبليغها جهداً ومشقة وعنتاً وإرهاقاً، والتي قد يصيب
المبلّغ فيها أذى وضراً.. والتي قد يعتبر تبليغها نوعاً من الغلظة والعنف والقسوة
مما لا يتفق مع الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة:
[قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهَادُ]
[آل عمران: 12] .
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ
مِن قَبْلُ وأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 59] .
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ
إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وكُفْراً]
[المائدة: 68] .
[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ
لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ
إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ] [الأنعام: 19] .
[قُلْ إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهُوَاءكُمْ]
[الأنعام: 56] .
[فَإن رَّجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ
أَبَداً ولَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُواً إنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ]
[التوبة: 83] .
[وقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ
نَاراً] [الكهف: 29] .
[قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] [الكهف: 103-104] .
[قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]
[سورة الكافرون: 1-3] .
موسى أمام فرعون والقول اللين:
وكما نجد التفريق واضحاً في طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
تبليغ الدعوة، بين الأسلوب والمضمون، نجد هذا واضحاً في هدي الأنبياء
السابقين - عليهم السلام - ونختار منهم موسى - عليه الصلاة والسلام -؛ فقد كلفه
الله بالذهاب إلى فرعون: [اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن
تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] [النازعات: 17-19] .
وكلفه في سورة طه مع أخيه هارون عليهما السلام: [اذْهَبْ أَنتَ وأَخُوكَ
بِآيَاتِي ولا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] [طه: 42-44] .
ونفهم من هذه الآيات أنها تدل على أسلوب تقديم الدعوة إلى فرعون،
وطريقة توصيلها له ولقومه، واستخدام أسلوب الترغيب والحث والتحضيض:
[هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] .. هل لك؟ بهذا اللطف
والترغيب وحسن العرض والإقناع.
[فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً] ، القول اللين إنما هو في طريقة القول وكيفيته
ودرجته وحالته.. إن هذه الآيات لا تتحدث عن جوهر الدعوة، ولا مضمونها،
وإنما عن طريقة عرضها وأسلوب تقديمها..
ماذا قال موسى لفرعون؟ ، ما هي الحقائق التي قدمها له بالأسلوب اللين
الهادئ؟
[قَالَ فِرْعَوْنُ ومَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا إن
كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ ورَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ
إنَّ رَسُولَكُمُ الَذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ومَا بَيْنَهُمَا إن
كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَ لَوْ
جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] [الشعراء: 23-31] .
هل تنازل موسى في هذه الآيات عن الأسلوب الهادئ والقول اللين في عرض
الدعوة؟ كلا. وهل خلط بين الأسلوب والمضمون، بين ما قال وكيف قال؟ كلا.
عندما اتهم فرعون موسى بأنه مسحور، وهاجمه في دعوته، هل سكت
موسى - عليه السلام - من باب القول اللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؟
نستمع إلى آيات الاسراء..
[ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ
فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ
السَّمَوَاتِ والأَرْضِ بَصَائِرَ وإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً] [الإسراء:101- 102] .
بماذا نصف موسى - عليه السلام - عندما قال ذلك لو لم يكن موسى نبياً؟
ولو كان داعية يعيش في هذا الزمان، وقال هذا الكلام نفسه، ماذا يقولون عنه؟
وبماذا يصفونه؟ ومع من يصنفونه؟ مع المتزمتين المتشددين المتطرفين ...
المتعصبين أصحاب الغلظة والشدة والقسوة والعنف؟ ! ! .
مضمون الدعوة لا يتغير:
مضمون الدعوة وجوهرها لا يتغير، وحقائق الدعوة ومبادئها لا تتبدل، بل
تبقى ثابتة على اختلاف الزمان والمكان والظروف والأشخاص.. إن هذه الأمور
غير خاضعة للتغيير أو التبديل أو الاجتهاد أو النسخ، لأننا لسنا نحن الذين فردناها
أو اخترناها، بل إن الله رب العالمين - سبحانه - هو الذي تكفل بأفرادها
واختيارها وبيانها لنا، وطالبنا أن نلتزم بها وأن لا نخرج عنها.
والداعية مطالَب أن يبلغها كلها للناس، وإن لم يفعل فما قام بالمطلوب ولا بلّغ
الرسالة.. ويحرم عليه أن يخفي منها واحدة، أو يجبن عن بيان واحدة، أو
يفاوض ويداهن على واحدة، ويساوم على حساب واحدة، أو يؤجل أو يعطل
واحدة، أو يحرف في معنى واحدة، أو يستحي من الجهر بواحدة.. إن الداعية
مطالب بالصدع بالأمر، والجهر بالحق، والقيام بالواجب..
مضمون الدعوة ثابت، وحقائقها راسخة.. وكل من اعتدى عليها لينال
رضاء الناس والقبول لديهم فقد خان الأمانة ونقض العهد وباء بسخط من الله
[فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً
فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ] [البقرة: 79] .
من حقائق الدعوة الثابتة التي لا تغيير فيها ولا تبديل: بيان الحق والباطل،
وبيان الطريق إلى الله، وبيان الدين عند الله، وبيان أوصاف الذين يحبهم الله،
وأوصاف الذين يبغضهم الله، وبيان الوظيفة والغاية وبيان الحلال والحرام،
والمعروف والمنكر، وبيان ما يقرره الإسلام، وما يبطله في حياة الأفراد والأمة
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والسلوكية والإيمانية، وبيان أوصاف
الكافرين والظالمين والمعتدين..
والداعية في هذه الموضوعات وغيرها ليس مجتهداً ولا مبتدعاً، وإنما هو
ملتزم بما ورد منها في الكتاب والسنة، فواجبه هو أن يتدبرهما ويستخرج منهما
بيان هذه الحقائق وتحديدها وتفصيلها.. [وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
المُجْرِمِينَ] [الأنعام: 55] .
وجوب تحسين الأسلوب ومراعاة آداب الدعوة:
الداعية الناجح - الذي يريد أن يوصل الدعوة إلى قلوب الآخرين، ويوجد
عندهم القناعة بها والقبول لها - يعمل باستمرار على تحسين أسلوبه في عرضها
وتقديمها، وطريقته في التعامل مع الآخرين، ويستخدم أفضل الأساليب وأجودها
وأجملها، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، ويقدم
مضمون الدعوة وحقائقها في غاية اللطف والرقة واللين، بحيث يكون أسلوبه سبباً
في قبولها، لو كانت مُرَّة شديدة!
والداعية يجدد في الأساليب، ويلون في وجوه البيان، وينوع في طرق
الخطاب والأداء، ويضيف إلى ذلك كل نافع وجديد وناجح ومؤثر..
وعلى الداعية أن يراعي آداب الدعوة، وهدي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في تبليغ الدعوة للناس، وطريقة الصحابة والعلماء في تقديمها للناس.
ويلتزم بهذه الآداب من مثل التواضع والحِلم والأناة واللين والرفق والصبر
والسماحة والبشاشة والرقة والمحبة والصدق..
ويتجنب أضداد هذه الأمور، فلا يكون فظاً غليظ القلب، ولا يكون متكبراً
متعالياً، ولا قاسياً ولا عنيفاً ولا غَضوباً ولا متهوراً ولا نزقاً ولا نكداً ولا معسراً.
وخلاصة هذه المسألة أن على الداعية أن يفرق بين الأسلوب والمضمون
فيطور في الأول وينوع ويجتهد، أما الثاني فإنه ملتزم فيه بالأصول وَقَّاف عند
النصوص.(4/53)
أدب وتاريخ
معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي
محمد العبدة
مصادر أساسية لفهم التاريخ الإسلامي:
أولاً: القرآن الكريم:
تكلمنا في المقال الأول عن السنن العامة التي وضعها الله - سبحانه وتعالى -
والتي تحكم سير التاريخ، وأنها سنن لا تتخلف إلا أن يشاء الله. وأن القرآن فيه
منهج واضح ومستقل لتفسير أحداث التاريخ، بل هو يحرض ويدعو الناس إلى
السير في الأرض وملاحظة هذه السنة، وما يفعل الله بأهل طاعته وأهل معصيته،
واكتشاف القوانين العامة التي تؤثر في سير المجتمعات والأمم، ونضيف هنا أن
القرآن من المصادر الأساسية في فهم وتعليل بعض أحداث السيرة النبوية كالغزوات
الكبار مثل أحد وبدر والخندق وحنين وتبوك، فقد شغلت غزوة أحد حيزاً كبيراً من
سورة آل عمران، وكذلك غزوة تبوك في سورة (براءة) .
كما يحدثنا القرآن وبصورة مفصلة عن نفسيات وأخلاق المشركين وأهل
الكتاب وخاصة اليهود، ولا يخفى ما لليهود والنصارى من دور في الأحداث
العالمية، ولا شك أن الذي يُخدع بهؤلاء لم يتمكن من فهم القرآن من قلبه، ولم
يستوعب دروسه، كما يحدثنا بشكل مفصل عن فئة قد توجد في كل عصر ويكون
لها دورها في المجتمعات الإسلامية وهم المنافقون، الذين يخربون من الداخل. هذه
الفئة وصفها القرآن حتى كأن صورة كل منافق ترتسم أمامنا شاخصة تلوح، وإن
دراسة هذه الأصناف من البشر لهي جديرة أن تعطي للمؤرخ نظرة دقيقة ورحبة
عما جرى ويجري من حوادث التاريخ.
ثانياً: السنة:
ورد في السنة أحاديث صحيحة تذكر أحداثاً ستقع أو تحذر المسلمين من أمور
يجب عليهم ألا يفعلوها، أو تصف عصراً بصفة معينة، كل هذا يلقي أضواءً
تعيننا على تحليل وفهم أحداث التاريخ الإسلامي.
1- روى أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (هلكة
أمتى على يدي غلمة من قريش) [1] ، وكان أبو هريرة إذا روى هذا الحديث يتعوذ من سنة ستين فيقول: (اللهم لا تدركني سنة ستين) [2] والذي حكم سنة ... ...
ستين هو يزيد بن معاوية، وقد توفي أبو هريرة - رضي الله عنه - سنة تسع
وخمسين، والمراد بالأمة هنا أهل ذلك العصر ومَن قاربهم لا جميع الأمة إلى يوم
القيامة [3] .
وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر أمته رأفة بهم ورحمة
فيصف بعض الأسر أو الأشخاص بما هم فيه فهذا لا يعني أن يوصف العصر كله
أو الدولة بشكل عام بصفات سلبية، ولكن نستطيع القول إن الحديث يصف واقعاً
يساعد المؤرخ على الحكم الصحيح المعتدل فلا يغالي في المدح أو الذم والمنقصة.
2 - وصفت العصور الإسلامية الأولى بالإيجابية، ولكن بشكل عام وليس
تفصيلياً كما جاء في الحديث: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر
خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، كلهم من قريش، ثم يكون الهرج) [4] .
وقد قال بعض العلماء: إن هذا العدد ليس من الضروري أن يكون متتابعاً،
بل الأغلب أنه يكون مفرقاً بين أكثر من دولة. وتد ذكر منهم ابن كثير: الخلفاء
الأربعة وبعض ملوك بني أمية، وبعض بني العباس، ثم قال: والظاهر أن منهم
المهدي المبشر به في الأحاديث [5] .
وناحية أخرى وهى أن كلمة (دين) قد ترد بمعنى الملك والسلطان، أي أن
سلطان المسلمين وقوتهم وملكهم لا يزال قوياً. كما جاء في حديث آخر: (تدور
رحى الإسلام في خمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا
فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً. قلت: يا رسول الله! ، مما
مضى أو مما بقي؟ ، قال: مما بقي) [6] .
قال الخطيب البغدادي - في شرح هذا الحديث -: (تدور رحى الإسلام)
يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف لذلك على أهله
الهلاك - كأنه إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة - قوله: يقم لهم دينهم: أي ملكهم
وسلطانهم، ومنه قوله - تعالى -[مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ] ... [يوسف: 76] [7] .
3- حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين من الفتن، ودلهم على
الطريق الأسلم فقال: «يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ قال:
لو أن الناس اعتزلوهم» [8] . فإذا كان المقصود بالحي من قريش بعض ملوك
الدولتين الأموية والعباسية الذين كانوا من الضعف أو السفاهة ما ينطبق عليه أنهم
ضيعوا المسلمين في عصرهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ينصح المسلمين
باعتزال الفتن؛ لأن هاتين الدولتين إسلاميتان رغم ما حصل فيهما من تقصير أو
ظلم أو تشجيع لبعض البدع.
ثالثاً: العلماء:
هناك علماء لم يصرفوا جُل عنايتهم للتاريخ، ولكن لهم آراء وتعليقات على
بعض الأحداث، أو نظرات عامة لبعض العصور والدول، وآراؤهم هذه لها قيمة
كبيرة، لأنهم أشد الناس إنصافاً وتحرياً للحق. وليس لهم غرض عند الحكام أو
المحكومين يقول الإمام أحمد بن حنبل - عن الذي يتوقف في خلافة علي (رضي
الله عنه) ويقول: لا أدري هل كان الحق معه أو مع غيره؟ ، ويظن أن هذا من
شدة تحرّيه، يقول عنه: (هو أضل من حمار أهله) ! .
ويقول ابن تيمية - موضحاً رأي أهل السنة في ملوك الدولتين الأموية
والعباسية -: (ما قال أهل السنة أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته
وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون تولى هؤلاء وكان لهم سلطان
وقدرة؛ فانتظم لهم الأمر، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج والجُمَع
والأعياد وأمن السبل ولكن لا طاعة في معصية الله) [9] .
وعندما طعن العلماء في نسب العُبيديين الذين كانوا بمصر والذين تسموا
(بالفاطميين) . وقالوا: ليس لهم أي صلة بنسب علي بن أبي طالب، وأنهم مجوس
ملحدون، فهذا الطعن له أهمية كبيرة، ويساعدنا على فهم تصرفات هذه الدولة.
فهؤلاء العلماء من أمثال أبي حامد الإسفراييني وأبو الحسن القدوري والبيضاوي
وابن الأكفاني وغيرهم لا يمكن أن يشهدوا هذه الشهادة تقرباً وتملقاً للخليفة العباسي
ببغداد، كما يريد أن يصورهم البعض، وهؤلاء أجلّ من أن يشهدوا زوراً من أجل
الخليفة [10] .
ويبدي ابن تيمية رأيه في خلفاء بني العباس من ناحية إقامتهم للصلوات
فيقول: (وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهداً للصلوات في أوقاتها من بني
أمية) [11] . ويقول أيضاً ذاكراً بعض سلبيات الدولة العباسية: (وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (الفتنة ها هنا) وظهر حينئذ كثير من البدع وعرّبت أيضاً إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم، وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيماناً؛ فصار يتتبع المنافقين الزنادقة) [12] .
ويقول أحد علماء المغرب المعاصرين - موضحاً حرص العباسيين الأوائل
على نشر السنة: (ولما أراد بنو العباس نقل عاصمة الملك إلى بغداد لم يجدوا في
العراق ما يكفي لنشر السنة إلا بأن أتوا من المدينة بعلماء مهدوا السبيل كربيعة بن
أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد وارتحل إليهم هشام بن عروة وعبد العزيز بن
أبي سلمة الماجشون ومحمد بن إسحاق، ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك) [13] .
رابعاً: علماء مؤرخون:
من أمثال الطبري وابن كثير والذهبي وابن الأثير والسخاوي؛ فهؤلاء
يجمعون بين علم الحديث والفقه من جهة والتاريخ والكتابة التاريخية من جهة أخرى. ولا شك أنهم مقدمون في توثيقهم للحدث التاريخي أو فهمهم له على المتخصصين
في التاريخ الذين لا يهتمون إلا بجمع المادة التاريخية سواء كانت صحيحة أو غير
صحيحة. فعندما يبدي ابن كثير رأيه في الحجاج بن يوسف ويقول عنه: (وقد
كان ناصبياً يبغض علياً في هوى آل مروان، وكان جباراً عنيداً، مقداماً على سفك
الدماء بأدنى شبهة) [14] .
عندما نسمع هذا لا نلتفت إلى ما يحاوله بعض المعاصرين من الدفاع عن
الحجاج دفاعاً بارداً؛ فهو ظالم لا شك في ذلك، وكلام ابن كثير هو الحق.
ويقول الذهبي عن أمير مصر - زمن الوليد بن عبد الملك -
(قرة بن شريك) : (ظالم جبار، عاتٍ فاسق، مات بمصر بعد أن وليها سبعة أعوام) [15] .
وكيف يكون عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، مجدداً إذا لم يكن هذا
الظلم قبله؟ ! ، ويقول الذهبي أيضاً عن أبي مسلم الخراساني: (كان بلاءً عظيماً
على عرب خراسان فإنه أبادهم بحد السيف) [16] .
وهؤلاء العلماء المؤرخون معتدلون منصفون يرجعون بالحق إلى نصابه إذا
طاشت الكفة هنا أو هناك، فغُلُوّ الروافض يقابله أحياناً غلو من جهلة أهل السنة،
وتأتي أقوال هؤلاء العلماء هي الحَكَم الفصل، خاصة عندما يغلب على الناس قلة
الإنصاف، يقول ابن كثير - معلقاً على حديث (خلافة النبوة ثلاثون عاماً ثم يؤتي
الله ملكه من يشاء) -: (هذا الحديث فيه رد صريح على الروافض المنكرين
لخلافة الثلاثة، وعلى النواصب الذين ينكرون خلافة علي بن أبي طالب [17] ) .
ويقول الذهبى عن معاوية - رضي الله عنه -: (حسبك بمَن يؤمّره عمر،
ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر - فيضبطه ويقوم به أتم قيام، فيرضي الناس
بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره
من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيراً منه وأفضل، فهذا الرجل ساد
وساس العالم بكمال عقله وقوة دهائه وله هنات وأمور والله الموعد) [18] .
خامساً: دارسو التاريخ:
وعلى رأسهم مؤسس علم الاجتماع وعالم نقد التاريخ عبد الرحمن بن خلدون
الذي حاول في مقدمته المشهورة أن يضع الأسس التي تساعد المؤرخ على تفهم
أحوال الدول وتقلباتها وأسباب اضمحلالها، والمجتمعات وأسباب رقيها وانخفاضها، وليس هذا موضع تفصيل نظريات ابن خلدون في مقدمته ولكن نضرب مثالاً
واحداً للأسس التي وضعها لفهم حقائق التاريخ.
نبه ابن خلدون في مقدمته إلى ناحية مهمة جداً يذهل عنها أكثر الناس وهي
تبدل أحوال الناس وتطورهم من حالة إلى حالة، في كثير من العادات والتقاليد أو
طريقة التفكير وتناولهم للأمور، أي يجب أن نفهم طبيعة العصر الذي عاش فيه
فلان أو قامت فيه الدولة الفلانية، ولا نقيسه على عصرنا تماماً، فالبيئة العلمية
التي تكون في عصرٍ ما هي التي تساعد على ظهور علماء مجتهدين، والذي يظن
أنه يجب أن يكون بيننا الآن من أمثال هؤلاء العلماء دون أن يكون هناك بيئة علمية
فهو واهم، وقس على ذلك البيئة الجهادية التي بدأها عماد الدين زنكي وابنه نور
الدين والتي كان من نتائجها صلاح الدين الأيوبي.
الذي لا يتفطن لهذا يظن أن الأمور متشابهة من كل الوجوه. وقد يرى ما
عليه الصحابة والتابعون من قيامهم بالأعمال الجليلة، سواء في قيادة الجيوش أو
التعليم، فيظن أنه يمكن أن يتأتى له هذا دون تدريب وتعلم، ولا يعلم أن العرب -
لأول عهدهم بالرسالة - كانوا من صفاء الذهن والذكاء والفصاحة ما جعل هذه
الأمور سهلة عليهم. فهم يعلمون طبيعة الناس والمجتمعات دون أن يدرسوا علم
النفس وعلم الاجتماع مثلاً، وقد يرى ما عليه بعض العلماء في العصور المتأخرة
من التصنع في اللباس والهيئة فيظن أن العلماء السابقين كانوا هكذا.
يقول ابن خلدون: (من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال
في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، فلا
يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. ومن هذا الباب ما يتوهمه المتصفحون
لكتب التاريخ، إذ سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرياسة في الحروب،
فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب، يحسبون أن الشأن في خطة
القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل..) [المقدمة 1/320-323] ، كما أن
الذي لا يتفطن إلى موضوع التطور البطيء يظن أن الأمور تنتقل فجأة من حال إلى
حال؛ لأنه يدرس المجتمعات كأنها (ساكنة) ، وهذا عكس طبائع العمران كما يسميه
ابن خلدون، فهناك بين الخلافة الراشدة والملك مرحلة وسط هي مزيج من هذا
وذاك.
وللمؤرخين من غير المسلمين - وخاصة الغربيين - نظريات في التحليل
التاريخي يجب أن لا تُهمل، بل نستفيد منها مع الحذر لما فيها من تعميم أو
نظريات مادية أو غير صحيحة. فالمؤرخون الغربيون لهم جهود كبيرة في علم
التاريخ، بل نستطيع القول إن اهتمامهم بهذا الفن قد بلغ مبلغاً عظيماً، وذلك لما
رأوه من أثر دراسة التاريخ في معرفة الحاضر والتخطيط للمستقبل.
كما أن الدراسات النفسية والاجتماعية التي تقدمت وتطورت كثيراً في هذا
العصر - هي من المصادر التي يُعتمد عليها مع التنبه إلى عدم المغالاة فيها وفي
حشرها في كل شيء.
__________
(1) انظر: فتح الباري 13/9، كتاب الفتن.
(2) قال عنه الذهبي: رجاله ثقات سير أعلام النبلاء 2/626.
(3) فتح الباري، 13/10.
(4) صحيح الجامع الصغير، 6/233.
(5) تفسير ابن كثير، 2/32 في تفسير سورة المائدة آية رقم (12) .
(6) سنن أبي داود 4/98، كتاب الفتن والملاحم.
(7) الفقيه والمتفقه، 106.
(8) صحيح مسلم، 4/2236، وانظر: صحيح دلائل النبوة للشيخ مقبل الوادعي، 363.
(9) المنتقى من منهاج الاعتدال، 61.
(10) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، 11/369.
(11) الفتاوي، 4/21.
(12) الفتاوى، 4/20.
(13) محمد بن الحسن الحجوي: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 1 /315، تحقيق الدكتور عبد العزيز القارئ.
(14) البداية والنهاية، 9/112.
(15) سير أعلام النبلاء، 4/49.
(16) سير أعلام النبلاء، 6/53.
(17) البداية والنهاية، 6/205.
(18) سير أعلام النبلاء، 3/133.(4/62)
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
(4)
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره:
ساق لنا الكاتب في الحلقة السابقة نبذة عن التحالفات القبلية التي كان عرب
الجاهلية يعقدونها فيما بينهم، وضرب أمثلة، من تلك الأحلاف، ثم ذكر المعارك المشهورة التي وقعت بين العرب وغيرهم كالفرس، وبين العرب أنفسهم والتي تسمى عندهم أياماً، واستشهد على ذلك بأمثلة من شعر شعرائهم، وها هو ذا في
هذه الحلقة يتابع الحديث عن بقية أيام العرب المشهورة.
3 - حرب البَسوس: [1]
وكانت بين قبائل ربيعة إذ اشتعلت الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب في أواخر
القرن الخامس الميلادي.
وكان سببها اعتداء كليب سيد تغلب على ناقة للبسوس، اسمها سراب،
وكانت البسوس خالة جساس بن مرة سيد بني بكر وكانت خالته من تميم نزلت
بجواره.
واسم كليب: وائل بن ربيعة، لُقِّب بكليب لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو
كلب، فإذا مر بروضة أو بموضع يعجبه ضرب الكلب ثم ألقاه وهو يصيح في ذلك
المكان ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنب ذلك الموضع، وكان يقال له كليب
وائل ثم اختصروا فقالوا: كليب، فغلب عليه.
وكان كليب قائد معدّ يوم خزازى، ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد
قسم الملك وتاجه وطاعته، وبقي زمان ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه، حتى
أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ولا يورد أحد مع إبله.
وعندما رأى كليب ناقة البسوس رمى ضلعها بسهم فاختلط لبنها بدمها، ولما
علم جساس بالأمر وسمع صياح البسوس وهي تصيح: واذلاه! ، انتقم من كليب
وطعنه بالرمح وقتله على حين غِرَّة.
واشتدت الحرب بين الطرفين، وقاد عدي بن ربيعة - الملقب بالمهلهل -
جموع تغلب ضد بني بكر بعد أن رفضت المساعي، واستمرت رحى الحرب
أربعين سنة وكثرت أيامها مثل: يوم عنيزة ويوم واردات، ويوم الحنو ويوم
القصيبات ويوم تحلاق اللمم الذي حضره الحارث بن عباد.
وقُتل في هذه الحروب جساس بن مرة وأخوه همام، وبجير ولد الحارث بن
عباد، وخلق كثير، وملّ الناس الحرب، ثم عرض المهلهل على قومه أن يغادرهم، ونزل في حي من اليمن اسمه جنب ثم أجبره القوم على زواج ابنته وساقوا إليه
صداقها جلوداً من أدم فقال في ذلك [2] :
أنكحها فقدُها الأراقمَ في ... جنبٍ وكان الحباء من أَدَمِ [3]
لو بأبانَينِ جاء يخطبُها ... رُمِّلَ ما أنفُ خاطبٍ يدمِ [4]
ثم انحدر إلى قومه، فلقيه عوف بن مالك - وهو أبو أسماء صاحبة المرقِّش
الأكبر - فأسره ومات في أسره.
قال المهلهل كثيراً من الشعر في هذه الحرب منها هذه القصيدة التي قالها بعد
أن أدرك بثأر أخيه [5] :
فإن يكُ بالذنائبِ طال ليلي ... فقد يُبكى من الليل القصيرِ [6]
فلو نُبشَ المقابرُ عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زيرِ [7]
فلولا الريحُ أسمعَ أهلَ حَجرٍ ... صليلَ البَيْضِ يُقرعُ بالذكورِ [8]
ومن جيد شعر المهلهل - بطل هذه المعارك - قصيدة ذكرها صاحب جمهرة
أشعار العرب واعتبرها من المنتقيات [9] .
وقد قالها يهدد بني بكر، ويتوعدهم بالثأر لأخيه، ويتحدث عن ظلم بني بكر
وجساس بن مرة، وما كان من قتله لكليب (سيد العرب من معدّ) وقائدها يوم
خَزازى ضد جموع اليمن، إذ قَهرتْ ربيعة ومضر أعداءها، ثم يهددهم بالذبح،
ذبح الشياه ومن هذه القصيدة:
جارت بنو بكر، ولم يعدلوا ... والمرءُ قد يعرف قصد الطريقْ [10]
حطتْ ركابُ البغي من وائلٍ ... في رهطِ جساسٍ ثقال الوسوقْ [11]
يا أيها الجاني على قومه ... ما لم يكن كان له بالخليقْ [12]
جنايةً لم يدرِ ما كُنهها ... جانٍ ولم يصبح لها بالمطيقْ [13]
من عرفتْ يوم خزازى له ... عَلْيَا معدٍّ عند جذب الرتوق [14]
إن امرءاً ضرَّجتم ثوبه ... من عاتكٍ، من دمِهِ كالخَلوقْ [15]
لم يكُ كالسيد في قومه ... بل ملكٌ، دِينَ له بالحقوقْ [16]
إن نحن لم نثأرْ به فاشحذوا ... شفاركم منا لحزّ الحلوقْ [17]
ذبحاً كذبح الشاةِ لا تتقي ... ذابحَها إلا بشخْب العروقْ [18]
هذه الحروب بين بكر بن وائل وتغلب - وكلها قبائل من ربيعة - استمرت
عداوتها، وطالما ذكرها شعراء القبيلتين في شعرهم وهو كثير. نذكر على سبيل
المثال عمرو بن كلثوم في معلقته - وهو من سادات تغلب -: [19]
إليكم يا بني بكر إليكم ... ألما تعرفوا منا اليقينا
ألما تعلموا منا ومنكم ... كتائب يطّعِنّ ويرتمينا
ومعلقة الحارث بن حلزة اليشكري التي يرد فيها على عمرو بن كلثوم وهى
طويلة وذلك أمام عمرو بن هند ملك الحيرة: [20]
أيها الناطق المرقشُ عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاءُ
ما أصابوا من تغلبي فمطلو ... لٌ عليه إذا تولى العفاءُ
4 - حرب داحس والغبراء: [21]
وهي من أيام قيس فيما بينها، كانت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي
عبس وذبيان، وسببها رهان على الخيل، منها فرسان اسمهما داحس والغبراء،
سميت الحرب باسمهما، كان سيد بني عبس: قيس بن زهير قد اشتراهما من أهل
مكة.. بعد خلاف مع الربيع بن زياد (وهو من سادة عبس أيضاً) على درع
موصوفة لقيس اشتراها من المدينة المنورة ليحارب بني عامر ويثأر لأبيه.
نزل قيس بن زهير في جوار حذيفة بن بدر، وأخيه حَمَل بن بدر من سادة
ذبيان.. وكان حذيفة يحسد قيساً على خيوله ويكتم ذلك في نفسه. استغل حذيفة بن
بدر غياب قيس للعمرة، فراهن أحد بني عبس على السباق بين فرسين لقيس:
داحس والغبراء، مقابل فرسين لحذيفة: الخطَّار والحنفاء.
ولما رجع قيس أراد فك الرهان فرفض حذيفة، وكان على مائة من الإبل،
ثم أجريا السباق، وكمن رجل من بني أسد في الطريق ليرد داحساً إن جاء سابقاً..
وفعلاً نفذ الأسدي خطة حذيفة ولطم وجه داحس فألقاه وفارسه في الماء ثم جاءت
الغبراء سابقة وتبعها الخطار ثم الحنفاء ثم داحس، وندم الأسدي لما كان منه
واعترف بما صنع، وأنكر حذيفة ذلك وطلب الرهان المضروب.. حاول الناس أن
يتوسطوا بالأمر، ورضي بنو عبس بجزور واحدة يطعمونها أهل الماء ومَن حضر
وقالوا: إنا نكره القالة في العرب، فأبى بنو فزارة (من ذبيان) وقال أحدهم: مائة
جزور وجزور واحدة سواء.
لجّ حذيفة في ظلمه وأرسل ابنه ندبة يطالب بالسبق، هنا تناول قيس الرمح
وطعنه فقتله، ورحل بمن معه من عبس، وأرسل لأخيه مالك ليلحق به، إلا أن
حذيفة بعث من يقتل مالك بن زهير، وعلم الربيع بن زياد بذلك فجزع على مقتل
مالك وقال قصيدة منها: [22]
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأتِ نسوتنا بوجه نهارِ [23]
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطِمْن أوجهَهن بالأسمارِ [24]
يضربن حُرّ وجوههن على فتًى ... عفِّ الشمائلِ طيبِ الأخبارْ
واجتمعت عبس كلها على حرب ذبيان، وأحلافها من أسد وتميم وكان قد
انضم إلى عبس بنو عامر. واستمرت الحرب - فيما يقال - أربعين عاماً. وكان
من أهمها وأشهرها: يوم المريقب وفيه قتل عنترة بن شداد ضمضماً والحارث بن
بدر وإلى هذا يشير في معلقته: [25]
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدرْ ... للحرب دائرة على ابني ضمضم [26]
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزَراً لخامعة ونسر قشعم [27]
ومنها يوم جفر الهباءة، وفيه قُتّل حذيفة وحمل ابنا بدر ورثاهما قيس بن
زهير رثاءً حاراً، وكنا قد أشرنا إلى ذلك خلال حديثنا عن الثأر.
وكانت عبس قد تعرضت لترحال كثير، وحروب شديدة مع العديد من قبائل
العرب أمثال شيبان وأهل هَجَر، وكلب، وبني ضبة وتيم الرباب، ومع بني عامر
حلفائهم السابقين. وكان عنترة العبسي من أبطال هذه الحروب وقد سجلها في
ديوانه [28] .
وكان قيس بن زهير قد قال لقومه بعد أن ملّ الحرب وأُنهكت عبس: ارجعوا
إلى قومكم فهم خير لكم.. فأما أنا فلا والله لا أجاور بيتاً غطفانياً أبداً، فلحق بعُمان
وهلك بها.
ورجع الربيع وبنو عبس وقال في ذلك: [29]
حرّقَ قيس عليَّ البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما
جنيةُ حرب جناها فما ... تُفِرِّجُ عنه وما أُسْلِمَا
ولما تفانى الحيان عندها رغبت عبس في الصلح واستجاب لذلك سيدان من بيان هما الحارث بن عوف المري، وهرم بن سنان، وتحمل السيدان المذكوران
الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين. وفي هذه الحرب ووصفها،تصوير شدتها وبشاعتها قال زهير بن أبى سُلمى معلقته الشهيرة، وفيها يمدح
هذين السيدين ومن قوله: [30]
سعى ساعياً غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
عظيمين في عُليا معدّ هديتما ... ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم
هذه صورة موجزة عن حرب داحس والغبراء، وقد عرفنا سببها وملابساتها،
وقد تتكرر أمثال هذه الخلافات على رهان آخر على سباقات متنوعة، وألعاب
تتلون بلون العصر الحاضر، وظروفه من سباق السيارات، ومباريات رياضية،
تُشد إليها الأعصاب، ويتحزب من أجلها الفرقاء.
5 - حروب الفجار: [31]
الفجار (بالكسر) معناه المفاجرة، كالقتال والمقاتلة، وذلك لأنها وقعت في
الأشهر الحرم، وهي الشهور التي كان العرب يحرمون القتال فيها، إلا أنهم فجروا
فيها بسبب هذه الحرب.
وهي فجاران: الفجار الأول ثلاثة أيام، والفجار الثاني خمسة أيام في أربع
سنين، وقد حضر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عكاظ مع أعمامه، كان
يناولهم النبل، وانتهت هذه الحروب سنة (589م) .
أيام الفجار الأول:
اليوم الأول: كان سببه أن بدر بن معشر الغفاري (ينتهي نسبه إلى كنانة) كان
رجلاً منيعاً يستطيل على مَن يرد سوق عكاظ، وفي أحد المواسم جلس ومد رجله،
وقال: أنا أعز العرب فمَن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف! ، وثب رجل من
بني نصر من هوازن، وضربه على ركبته بالسيف فخدشها خدشاً يسيراً، واختصم
الناس ثم اصطلحوا.
وسبب اليوم الثاني: يقال: إن شباباً من قريش وكنانة قعدوا إلى امرأة من
بني عامر، وكانت وضيئة عليها برقع، وذلك في سوق عكاظ، وقالوا لها:
أسفري عن وجهك! ، فرفضت، ثم قام غلام منهم وربط ذيل درعها إلى ظهرها
وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت درعها عن ظهرها فضحكوا وقالوا: منعتِنا
النظر إلى وجهك، وجدتِ لنا بالنظر إلى ظهرك؟ ! ، نادت المرأة: يا بني عامر
فُضحت، فساروا إليها وحملوا السلاح، وحملته كنانة وقريش، واقتتلوا، ووقعت
بينهم دماء يسيرة، ثم توسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر
عن مُثلة صاحبتهم [32] .
أما اليوم الثالث: فسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دَين لرجل من بني نصر
(من هوازن) ، جاء النصري سوق عكاظ بقرد وقال: من يبيعني مثل هذا بمالي
على فلان، فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه، ولما مر به رجل من كنانة ضرب
القرد بالسيف وقتله أنفة مما قال النصري، عندها صرخ كل من الرجلين يا آل
كنانة، يا آل هوازن تجمع الحيان ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم قتلى، وأصلح
عبد الله بن جُدعان بين الناس.
أيام الفجار الثاني: [33]
هاجت الحرب بين قريش ومن معهم من كنانة، وبين قيس عيلان وسببها:
أن عروة الرجال وهو من بني عامر كان قد أجار لطيمة للنعمان بن المنذر، ولما قال له البرّاض بن قيس الكنانى [34] : أتجيرها على كنانة، قال: نعم وعلى
الخلق كلهم.
خرج في اللطيمة عروة الرجال، وتبعه البراض يطلب غفلته، وفي تيْمُن من أرض نجد، غفل عروة، فوثب عليه البراض وقتله في الشهر الحرام، علمت
قريش بالخبر وهم في عكاظ، وانسلت، وهوازن لا تشعر بها، ولما علمت هوازن تبعتهم وأدركتهم قبل أن يدخلوا الحرم واقتتل الفريقان حتى جاء الليل ودخلت قريش
الحرم وأمسكت عنها هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً عدة، منها يوم شمطة،
ويوم العبلاء، ويوم عكاظ وهو أشدها. ويذكر ابن هشام أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان قد شهد بعض أيامهم؛ إذ أخرجه أعمامه معهم وقال - عليه الصلاة والسلام -: (كنت أنبل على أعمامي) . أي أرد عليهم نبل عدوهم إذ رموهم بها. ...
كان حرب بن أمية قائد قريش وكنانة وكان الظفر في أول النهار لقيس على
كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة.
قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ابن عشرين سنة.
ويروي ابن الأثير: أن الحيين بعد يوم عكاظ تداعوا إلى الصلح، واصطلحوا على أن يعدوا القتلى وتدفع الديات، ورهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان يومئذ في
ديات القوم حتى يؤديها، ورهن غيره من الرؤساء، ثم وضعت الحرب أوزارها. وقد ذكر الشعراء هذه الحروب مثل ضرار بن الخطاب الفهري: [35]
ألم تسأل الناس عن شأننا ... ولم يُثْبِتِ الأمر كالخابرِ
غداةَ عكاظ إذ استكملت ... هوازن في كفها الحاضرِ
ففرت سُليم ولم يصبروا ... وطارت شَعاعاً بنو عامرِ [36]
وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسرِ [37]
وفي يوم العبلاء يقول خداش بن زهير:
ألم يبلغك ما قالت قريش ... وحي بني كنانة إذ أُثيروا
دهمناهم بأرعن مكفهر ... فظل لنا بعقوتهم زئيرُ [38]
هذه الحروب كانت بين قريش وأحلافها ضد قبائل قيس عيلان من هوازن
وثقيف، ومن قريش كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمهاجرون من
أصحابه، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، حملوا مشعل الهداية والنور، إلى العالم
كافة.
__________
(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 1، ص 312-324 وانظر أيام العرب في الجاهلية، ص 142 - 167.
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/305.
(3) الأراقم: أحياء من قومه.
(4) أبانان: جبلان، رمل: لطخ بدم.
(5) الأصمعيات رقم 53، ص 154.
(6) الذنائب: موضع به قبر كليب.
(7) أيْ: أيُّ زير أنا؟ ، وهو الذي يخالط النساء ويريد حديثهن لغير شر.
(8) حَجر: مدينة باليمامة - الذكور: جود السيوف، ويقرع: يضرب وفي البيت مبالغة: إذ لولا الريح لسمع أهل اليمامة صليل السيوف.
(9) جمهرة أشعار العرب 2/587 - 594.
(10) قصد الطريق: استقامة الطريق.
(11) الوسوق: الأحمال.
(12) الخليق: الجدير بالشيء.
(13) كنهها: غايتها ونهايتها.
(14) (رواية أخرى أخذ الحقوق بدلاً من جذب الرتوق) وجذب الرتوق: أي عند تصدع الكلمة وانشقاق العصا ووقوع الحرب.
(15) عاتك: شديد الحمرة والخلوق: ضرب من الطيب.
(16) أي كان كليب ملكاً دان له الناس بالطاعة.
(17) شفرات السيوف: حدّها.
(18) شخب العروق: قطعها وسيلان الدم منها.
(19) شرح القصائد العشر للتبريزي.
(20) المصدر السابق، ص299، والمرقش الذي يزين القول بالباطل ليقبل الملك منه باطله، مطلوب عليه: أي لا يُدرك بثأره.
(21) الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج1، 343-355، وأيام العرب في الجاهلية، جاد المولى، ص246-277.
(22) القصيدة (348) من ديوان الحماسة لأبي تمام، تحقيق العسيلان.
(23) أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياءً، والآن ظهرن لا يعقلن من الحزن! .
(24) أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياءً، والآن ظهرن لا يعقلن من الحزن! .
(25) المعلقة، ص475 اختيارات الأعلم.
(26) ابنا ضمضم: كان عنترة قتل أباهما وهما يتواعدانه.
(27) الخامعة: الضبع، والقشعم: من النسور الكبيرة، وفي رواية التبريزي (جزر السباع، وكل نسر قشعم، ص251) .
(28) انظر اختيارات الأعلم الشنتمري (من ص482 حتى ص517) .
(29) ديوان الحماسة لأبي تمام، رقم القصيدة (165) ، العسيلان.
(30) معلقة زهير (شرح القصائد العشر للتبريزي، ص125 وما بعدها) ، والأبيات قد مرت وشرحت في مناسبة سابقة.
(31) الكامل في التاريخ 1/359، وانظر أيام العرب في الجاهلية (ص 322) وما بعدها.
(32) (يروي ابن الأثير أنه لم يحصل قتال ورأوا أن الأمر يسير واصطلحوا) .
(33) السيرة النبوية لابن هشام 1/184، وانظر الكامل في التاريخ.
(34) وكان رجلاً خليعاً فاتكاً.
(35) عن أيام العرب في الجاهلية، ص335.
(36) - شعاعاً: متفرقين.
(37) لاتها: أى صنمها: (اللات) .
(38) المصدر السابق، ويقصد بالعقوة: الساحة والمحلة، وبالأرعن الأنف العظيم من الجبل شبّه به الجيش.(4/68)
شكوى ونجوى
صالح بن علي بن الكناني
هذا زمان سفاهة الأحلام ... وسيادة الغلمان والأقزام
هذا زمان الذل دِيست عنده ... حرية الأحرار بالأقدام
ما عاد فينا نخوة عربية ... ما عاد فينا عزة الإسلام
كم راكع كم ساجد متألِّه ... لحثالة البلدان والأقوام
علماؤنا في غفلة عن أمرنا ... شغلوا بأوهام تُرى وحطام
باسم السلام يسوقنا جزَّارنا ... باسم السلام نسام كالأنعام
حذفوا " البراء " وكل لفظ مثله ... ما عاد ثَمَّ عبادة الأصنام
يا رب قد ضاقت علينا أرضنا ... وسماؤنا من شدة الإظلام
فأذنْ بغارتك التى تمحو بها ... عن جبهة الإسلام كل قتام
وتعيد للإسلام عزته التي ... طُمست معالمها مع الأيام(4/76)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
باكستان أمام التحديات
إعداد: محمد أحمد عبد الله
شهدت باكستان أحداثاً دامية خلال شهر ربيع الثانى من هذا العام،
وذلك عندما قامت قوات الأمن بتفتيش منطقة (سوهراب جوت) في مدينة كراتشي (كبرى المدن الباكستانية، والتي يزيد عدد سكانها على سبعة ملايين نسمة) وقد شاركت قوات الجيش في حملة التفتيش التي أسفرت عن ضبط 300 كيلو غرام هيروين، و6 أطنان من الماريجوانا، وكميات أخرى كبيرة من الحشيش والأفيون، قُدرت قيمتها بنصف مليار دولار - كما ذكرت وكالات
الأنباء - وهذا الرقم لا يساوي شيئاً أمام الأرقام التي يملكها تجار المخدرات
من البضائع والأموال.
وتعد منطقة (سوهراب جوت) من أكبر مراكز تهريب المخدرات في العالم، ...
ومنها يجري تصدير المخدرات إلى آسيا، ودول أوربا الغربية، والولايات المتحدة
الأميركية، ودول أميركا اللاتينية.
وعندما عجز تجار المخدرات عن مقاومة السلطة - كما كانوا يفعلون كل
مرة - صبوا جام غضبهم على (المهاجرين) ، (والمهاجرون هم الذين قدِموا من
الهند عند تقسيمها عام 1974 يتكلمون لغة (الأردو) ؛ لأنهم يتهمون المهاجرين ... بأنهم وراء تحريش السلطة ضدهم، وأخذت المعركة شكلاً آخر. لقد كانت بين السلطة وطائفة (الباشتون) (وطائفة الباشتون قدموا كراتشي من الإقليم الشمالى ... الغربي للبلاد ومن أفغانستان، وأصلهم واحد، ويتكلمون لغة تسمى (بالبوشتو)) . فأصبحت المعركة بين الباشتون والمهاجرين، وتدخلت السلطة، وفرضت ...
حظر التجول على بعض أحياء المدينة، ورغم ذلك فقد أسفرت هذه المعارك عن قتل حوالي 180 شخصاً، وجرح ما يزيد على 700 آخرين، واعتقال ما يقارب ضِعف هذا العدد.
ووقفت وكالات الأنباء العالمية والصحف الشرقية والغربية من الأحداث موقفاً عدائياً ليس فيه عدل ولا موضوعية. لقد صورت الأحداث وكأنها ثورة شعبية
سياسية تتزعمها (بي نظير بوتو) ابنة (علي بوتو) ، وحاولت (بي نظير)
استغلال الأحداث وراحت تصْدر التصريحات والبيانات، وتراهن على قطاع
الطرق وتجار المخدرات ...
وأخيراً تمكنت السلطة بعد عدة أيام من وقف نزيف الدم، وتم ترحيل 25 ألفاً
من اللاجئين الأفغان عن كراتشي إلى مخيم قريب منها؛ لأن قوات الأمن اتهمتهم
بتزويد المقاتلين بالأسلحة، وخذل الشعب المسلم في باكستان (بي نظير) فيما دعت
إليه من مظاهرات، وعلم الغرب والشرق أن باكستان ليست كالفلبين، وليست (بي
نظير) مثل (أكينو) ، ولو كانت بي نظير مخلصة لوطنها لوقفت مع السلطة ضد
تجار المخدرات وقطاع الطرق، ولكنها مثل أبيها و (الولد سر أبيه) - كما
يقولون -، ولقد كان أبوها أحد الأسباب المهمة في انفصال (بنغلاديش) عن باكستان.
ومع هذا فقد تمكنت السلطة من السيطرة على الموقف خلال بضعة أيام، وها
قد مضى شهر على الأحداث.. ومع ذلك فإننا نعتقد بأن المؤامرات التي يدبرها
أعداء الإسلام ضد باكستان المسلمة - لم تنتهِ.
ومن منطلق المحبة والخوف على مستقبل إخواننا المسلمين في باكستان أحببنا أن نضع النقاط على حروفها، ونميط اللثام عن المتآمرين في الداخل ... والخارج، ونحذر إخواننا العلماء والدعاة من نقاط الضعف التي يتسلل من خلالها العدو إلى صفوفنا، ومما لا شك فيه أن فهم المشكلة جزء مهم من حلها، وعدم فهمها كارثة وخيمة العواقب.
وهناك جهات كثيرة تتآمر على باكستان أهمها وأخطرها:
1 - الاتحاد السوفياتي:
الذي احتلت جيوشه أفغانستان المسلمة منذ سبعة أعوام، وظن أن احتلال أفغانستان سوف يكون كاحتلال بُخارى وطشقند وغيرهما من بلاد المسلمين،
وفوجئ الشيوعيون الحمر بمقاومة لم يكونوا يتصورونها، ولقد تحولت سهول
أفغانستان وهضابها ووديانها إلى مقبرة للشيوعيين الروس، وحرك جهاد المسلمين
همم إخوانهم المسلمين في المناطق الواقعة جنوب الاتحاد السوفياتي فانطلقوا
يقاومون ومنهم من سارع إلى الانضمام إلى قوات المسلمين المجاهدين الأفغان،
ومنهم من يعمل ويدعو إلى الله بصورة سرية، ومنهم من أخذ يشارك في مظاهرات
ضد السلطة ... ويخشى السوفييت أن يعم الجهاد الإسلامي فيشمل أفغانستان
والبلدان الإسلامية التي ترزح تحت الاحتلال الشيوعى، وإذا عمت الثورة ووقف
المسلمون في مختلف بلدان العالم إلى جانبها، فلسوف تسقط أسطورة الدولة
الشيوعية العظمى، وتقوم دولة إسلامية عظمى تشمل باكستان وأفغانستان والبلدان
الإسلامية الواقعة جنوب الاتحاد السوفييتى، كما تشمل بنغلاديش والهند.
ومن جهة أخرى يعلم الاتحاد السوفييتى أن باكستان سبب مهم من أسباب
استمرار الجهاد الإسلامي الأفغاني؛ لأنها استقبلت اللاجئين الأفغان، وسمحت
للمجاهدين منهم أن ينطلقوا من أرضها ... ولهذا فهي تحاول إقناع باكستان بالتخلي
عن دعم المجاهدين الأفغان، وتسعى - عن طريق الامم المتحدة - إلى الوصول
إلى حل مع باكستان حول المشكلة الأفغانية، ولن يكون هذا الحل في مصلحة
المجاهدين، ومن شاء مزيداً من التفاصيل فليراجع (رسالة مفتوحة إلى المجاهدين
الأفغان) في العدد الأول من مجلتنا (البيان) .
ومن جهة ثالثة يعمل قادة موسكو من أجل تفجير معارك داخلية في باكستان
مستغلين التناقضات الإقليمية، والمشكلات الاقتصادية، والأحزاب العلمانية
الجاهلية، ولهذا الغرض فهم يوزعون الأموال والسلاح على عملائهم داخل
باكستان، وعلى حدودها الشمالية والشمالية الغربية، ومن المؤسف أن الاتحاد ... السوفياتي ضم بعض أجزاء أفغانستان إليه وأصبح من الدول المجاورة لباكستان
في حدودها القريبة من الصين.
2 - الهند:
منذ عام 1947 والهند تتآمر على باكستان، وتحاول تمزيق وحدتها،
وإضعاف كيانها، والسيطرة على أجزاء من أرضها بالقوة.
ومن الأمثلة على ذلك: كشمير التي تسيطر الهند على معظمها في حين يتبع جزء منها باكستان، والمثال الثاني المؤامرة التي انتهت بفصل بنغلاديش عن
باكستان، ولقد خاض الجيش الهندي معركة طاحنة ضد الجيش الباكستانى من أجل
تنفيذ هذه المؤامرة.
وفي كل مرة تعتدي فيها الهند على باكستان تتذرع بأعذار واهية، ومن ذلك
قولها: إن باكستان تدعم طائفة السيخ، وتدربهم على السلاح.. وقولها: إن
المفاعل النووي الباكستانى يشكل خطراً على الهند.
والحقيقة أن باكستان لا تتآمر على الهند، وليست المشكلة في المفاعل الذري
الباكستاني ولا في تدريب السيخ وغيرهم وإنما المشكلة أن الهند تخشى من أن
تصبح باكستان دولة كبرى، كما تخشى من مجىء حكم إسلامي صحيح، ينجح في
جمع شتات المسلمين في جنوب الهند ومشرقها، ويعجز عُبَّاد البقر عن مواجهة
الرجال الذين يعبدون الواحد القهار.. ومن أجل هذا يضطهد عباد البقر إخواننا
المسلمين في الهند، ويحرصون على استمرار سيطرتهم على كشمير.. ومن أجل
هذا أيضاً خاضت الهند حرباً ضروساً مع باكستان من أجل سلخ (بنغلاديش)
عنها.. ومن أجل هذا تتعاون الهند مع الاتحاد السوفياتي وغيره، ويجري جيشها مناورات على حدود باكستان.
3 - الولايات المتحدة الأميركية:
من الخطوط العريضة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية في دول العالم
الإسلامي أن لا يجتمع المسلمون في دولة كبرى، حتى ولو كانت هذه الدولة لا
تُحكِّم شرع الله.. ومن أجل هذا تحرص الولايات المتحدة على تحجيم دور
باكستان، وعندما وقف الاتحاد السوفياتي إلى جانب الهند في حربها مع باكستان
التي انتهت بانفصال بنغلاديش عنها - لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، رغم أن
هذه الحرب تجري داخل مناطق لها سيطرة عليها.. لكنها كانت تعلم أن نتائج هذه
الحرب تخدم سياسة الدول الكبرى كلها.
ومن أجل تحجيم دور باكستان كانت الولايات المتحدة تفرض على هذا البلد
أنظمة عسكرية همها البطش بالجماعات الإسلامية، والتنكيل بها، ومن الأمثلة
على ذلك حكم أيوب خان، ويحيى خان.. وإن نسينا فلا ننسى أن السفير الأميركي (جيفرسون كافري) - الذي لعب دوراً مهماً في مصر ضد الإسلاميين - نقلته الولايات المتحدة إلى باكستان بعد انتهاء دوره في مصر (التي تحتل أهمية كبرى في البلدان العربية، ويشكل الإسلاميون فيها قوة لا ينكرها أحد) ، وبعد وصوله إلى باكستان بزمن يسير قام أيوب خان باعتقال الإسلاميين في باكستان (وباكستان تمثل - كما قلنا قبل قليل - دوراً مهماً في أواسط آسيا وجنوبها الشرقي) .
وقد يقول القائل ولكن الولايات المتحدة تساعد باكستان وتمدها بالمال والسلاح، وجوابنا على ذلك: إن للولايات المتحدة الأميركية مصالح من استمرار القتال في
أفغانستان، ولن تقبل - إن استطاعت - بحال من الأحوال أن يكون الحكم في
باكستان وأفغانستان للإسلاميين، وها هي تتآمر من خلال مفاوضات جنيف على
الجماعات الأفغانية الطيبة التي تنادي باستمرار الجهاد.. وبعد رضوخ الاتحاد
السوفياتي لمطالبها، سوف تعمل على إنهاء القتال، وتقطع المساعدات التي تقدمها
لأتباعها، وقد تغير موقفها من النظام القائم في باكستان، فقبل احتلال السوفييت
لأفغانستان كانت العلاقات متوترة بين الرئيس الباكستاني، والولايات المتحدة
الأميركية، وكان الرئيس الأمريكي السابق كارتر يتهم الرئيس الباكستانى بانتهاك
حقوق الإنسان مع أنه إذا كان الأخير ينتهك حقوق الإنسان في باكستان فزعماء
البيت الأبيض يضطهدون الأفراد والأمم في العالم كله.. وعلى كل حال فقد قلنا ما
فيه الكفاية عن الولايات المتحدة في رسالتنا (رسالة مفتوحة إلى المجاهدين الأفغان) .
4- (إسرائيل) :
رغم تعدد الانقلابات العسكرية وتباين سياسة الحكومات، فقد كان للحكومات
الباكستانية المتعاقبة موقف ثابت من العدو الصهيونى في فلسطين المحتلة، وهذا
الموقف نابع من مشاعر المسلمين في باكستان، وكانت أية حكومة لا تجرؤ على
الاصطدام مع مشاعر المسلمين الذين لا يقبلون إقامة علاقات دبلوماسية مع نظام
العدو الصهيونى.. ومن المؤسف أن بعض الأنظمة العربية كانت تقف إلى جانب
الهند في نزاعها مع باكستان، أو مع الاتحاد السوفياتي في احتلاله لأفغانستان..
ولهذا كانت (إسرائيل) تدعم كل عدو لباكستان، وقد تحدث وزير خارجية العدو
الصهيوني السابق (موشي دايان) في مذكراته عن التعاون السري بين الهند
و (إسرائيل) كما تحدث غيره.. وتحاول (إسرائيل) ضرب المفاعل النووي في باكستان.
أيها الإخوة المسلمون في باكستان - من علماء ودعاة، وشيب وشباب -:
إننا نتوجه إليكم بهذا النداء - لأنكم أملنا بعد الله سبحانه وتعالى - فصمودكم
نصر مبين، ووعيكم صخرة تتحطم عليها المؤامرات والمتآمرين.
أيها الإخوة! نحن لا نثق بزعماء الانقلابات العسكرية، ولا نعلق عليهم آمالاً
مهما زعموا ووعدوا، فحكمهم ابتداءً يقوم على الغدر، ولا يعرف الاستقرار وإن
طال أمده وكثر أنصاره.. ونحن - يا إخوة! - الذين نكتوي بنار المؤامرات، أما
زعماء الانقلابات فيهربون ويهرِّبون معهم الأموال.
اسمعوها منا - أيها الإخوة! - صريحة واضحة: إن الزلازل والبراكين
تكثر في الأرض التي تكثر فيها الشقوق، والشقوق في أرضكم كثيرة ومن أهمها ما
يلي:
1- أليس من المخجل أن تكون باكستان من أكثر بلدان العالم اهتماما بتجارة
المخدرات، وماذا نقول عن نظام زعم أن مهمته تحكيم شرع الله، وها قد مضى
على استلامه السلطة بضع سنين، وهو يعرف حجم تجارة المخدرات، ومن الذين
يعملون بهذه التجارة، كما يعرف الأوكار التي يجري تخزين المخدرات فيها، فلماذا
لم يضع حداً لهذه المأساة؟ !
هذا عن المخدرات، أما السرقة والتزوير والنصب فلا تقل أهمية المخدرات.
2 - مَن المسؤول عن تغلغل الشيوعية وعملائها في بلدكم؟ !
لقد أهمل العلماء والدعاة منطقة (بلوشستان) التي تحدها أفغانستان من
الشمال، وإيران من الغرب، وعاصمتها (كويتا) ، واهتم الشيوعيون بهذه المنطقة، فاستقبلت موسكو أعداداً كبيرة من الطلبة من أبناء (بلوشستان)
يدرسون مجاناً في معاهد وجامعات الاتحاد السوفييتي، ولهذا صار مَن يمشي
في مدينة (جمن) يشاهد بضع مئات من أعلام الحزب الشيوعى في حين ... يشاهد بضعة أعلام للدولة، وبضعة أعلام لجماعات العلماء المسلمين.. كما يسمع من يسير في هذه المنطقة الأطفال وهم ينشدون أناشيد تشيد بدولة (بشتونستان) المزعومة وهذا يعني أنه حتى الأطفال في هذه المنطقة يعلمون ويتطلعون ويتغنون بذلك اليوم الذي تنفصل فيه (بلوشستان) عن ... ...
باكستان، وفضلاً عن ذلك، فالمنطقة تزخر بالجواسيس الذين يتجسسون
للاتحاد السوفياتي ضد المجاهدين الأفغان.. فماذا صنعت السلطة في باكستان
ضد هذه المؤامرة؟ !
هنالك (بنغلاديش) ثانية فماذا فعلتم يا إخواننا في باكستان؟! ...
وليس ما ذكرناه عن (بلوشستان) كل ما عند الشيوعيين السوفييت من
نشاط، فهناك نشاط للشيوعيين في جميع أنحاء باكستان، ويمدهم السوفييت
بكل دعم مادياً كان أو معنوياً، وهناك أحزاب علمانية تتعامل مع الاتحاد ... السوفييتي أمثال الحزب الوطنى الديموقراطي الذي يتزعمه خان عبد الولي خان، ويدعو هذا الحزب إلى إقامة وطن خاص يشمل الذين يتكلمون لغة
(البشتو) . والحزب الوطني الاشتراكى، ويتزعمه (غوث بخش بزنجو) ويدعو ... كذلك إلى إقامة وطن خاص بالذين يتكلمون لغة (البشتو) ، وله صلات قديمة مع الاتحاد السوفييتي، غير أن الذي يميزه عن الشيوعيين إيمانه بالقومية البلوشية، ولكن من منطلق اشتراكى علمانى.
وهناك أحزاب علمانية مستعدة للتحالف مع أي عدو خارجي يساعدهم في
الوصول إلى السلطة، لا فرق في ذلك عندهم بين الاتحاد السوفييتي أو الولايات
المتحدة الأميركية أو غيرهما، ومن أبرز هذه الأحزاب، حزب الشعب الذي
تتزعمه (بي نظير بوتو) .
وهذه الأحزاب تشن دعاية سيئة ضد المجاهدين الأفغان، وتضغط على
السلطة من أجل إخراجهم من باكستان.. وتستغل النزعات الإقليمية ضد إخواننا
الأفغان الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل الله - تعالى -، ولا يجوز
أن نستهين بخطر هذه الأحزاب وآثارها.. ولا ندري لماذا تتركهم السلطة ... يسرحون ويمرحون، وبشكل أخص في مثل هذه الأجواء الخطيرة؟ !
فإذا قيل لنا هكذا يكون الحكم في البلاد الديمقراطية! ! قلنا: ليس للخائن حق في التآمر على بلده، ولا يعطيه القانون حرية الاتصال والتعاون مع
دولة أجنبية عدوة، ولا تسمح أية دولة في العالم بمثل هذه الحرية المزعومة. ...
3 - أما الحديث عن أنشطة الباطنيين المريبة في باكستان فيثير في نفوسنا الأشجان، ويحرك في قلوبنا وجوارحنا الأحزان.
هل من قبيل المصادفة أن يصل إلى أعلى المراتب في باكستان - ومنذ بداية تأسيسها عام 1947م - ثلاثة من الباطنيين؟ !
وهل من قبيل المصادفة أن يتعاقب هؤلاء الثلاثة على الحكم، وأن يتصرفوا في شؤون البلاد كما يشاءون طيلة عهد الاستقلال؟ !
وهل من قبيل المصادفة أن يكون أحدهم رمزاً كبيراً جداً من رموز الاستقلال، وهو الذي رفض تحكيم شرع الله في هذا البلد المسلم الطيب الذي انفصل عن الهند [1] ليتسنى له ممارسة حرية العبادة والاعتقاد والتشريع كما أمر الله - سبحانه وتعالى -، وكما نصت عليه سنة المصطفى-صلى الله عليه
وسلم -؟!
وهل من قبيل المصادفة أن تضطهد هذه الأنظمة الباطنية قادة الجماعات
الإسلامية، الذين يكرهون العنف والإرهاب، ويدعون إلى الله - تعالى - بالحكمة
والموعظة الحسنة؟!
وقد يقول قائل ما لنا والعصور السوالف، وهل عندكم شيء تقدمونه عن
واقعنا المعاصر؟ !
نقول: إن الحاضر يرتبط بالماضي أشد الارتباط وأوثقه، والذين لعبوا دوراً
في العصور السوالف - كما تقولون - لا يزال أبناؤهم وأحفادهم يعملون، وآثارهم
الظاهرة تدل عليهم، ونؤكد أن لهم أهدافاً يسعون بمختلف الوسائل والأساليب من
أجل تحقيقها، ودعونا نسألكم بعض الأسئلة:
من الذين يحركون دفة الاقتصاد في كراتشي وعدد آخر من المدن الباكستانية وهذا التخطيط هل جاء مصادفة أم أن هناك عقولاً باطنية بل ومن غلاة الباطنية
تخطط في باكستان كما خطط الموارنة في لبنان، وكما خطط اليهود في فلسطين
المحتلة؟ !
أنشأ الباطنيون جامعات حديثة في بلدكم، فيها مختلف الاختصاصات العلمية،
ولديها إمكانات مادية كبيرة، وتجذب إليها عدداً غير قليل من أبناء المسلمين من
باكستان وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، ودول الشرق الأقصى، ويبثون
سمومهم في هذه الجامعات وكأنهم في عالم آخر لا يمتّ إلى بلدكم بصلة، وتعلمون
أن الذين ينتسبون إلى هذه المعاهد والجامعات مستعدون لتقبل كل ما يقال لهم من
أكاذيب وأباطيل الباطنيين، فهل اطَّلعتم على حقيقة هذه المعاهد والجامعات وأهداف
القائمين عليها؟ !
ومن الذين احتجوا على قانون الأحوال الشخصية الإسلامي عند صدوره؟ !
من الذين قادوا مظاهرات الاحتجاج، وعقدوا ندوات الاستنكار، وقالوا بكل
وقاحة: إن شريعتنا تختلف عن شريعتكم، وكانت الأوامر تصدر إليهم من العاصمة
إياها المتخصصة بخلق الفتن والاضطرابات في مختلف بلدان العالم الإسلامي؟ !
إن للباطنيين - يا إخوة! - على مختلف فرقهم وانتماءاتهم أوكاراً كثيرة
وكثيرة جداً في باكستان، ومن هذه الأوكار:
المكتبات، والنوادي، والمراكز الثقافية، والبعثات الدبلوماسية، ودور النشر، والشركات، والمؤسسات التجارية.. وابحثوا إن شئتم عن كتبهم التي تطبع في لاهور، وما تحويه من شتم مقذع للشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله
عنهما -، ولأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، ولذي النورين الخليفة
الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ولعدد كبير من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أليس في نشر مثل هذه الكتب تحدٍ لمشاعر مائة مليون مسلم؟ ! ولا ندري من
الذي أجاز نشر هذه الكتب، ولو كان الحكم لشريعة الله حقاً لأقيم الحد على هؤلاء
الجناة المجرمين!!
ابحثوا عن دسائس وخطط الباطنيين، واكشفوا أوكارهم، واهتكوا أستارهم،
قبل أن يأتي وقت لا ينفع فيه الندم.
4 - لقد اعتدنا عندما نتعرض لهزيمة أن نقول: تآمر علينا الأعداء،
واجتمعت علينا قوى الكفر شرقية كانت أو غربية.. وقلما ننتبه لأخطائنا التي أدت
إلى هذه الهزيمة.
إننا - والحق يقال - أمة تكره النقد، ولهذا تتكرر الهزائم، ونلدغ من جحر
واحد مرات ومرات. فعندما انفصلت (بنغلاديش) عن باكستان قلنا: جاء هذا
الانفصال نتيجة مؤامرة رسم خيوطها الطابور الخامس في بنغلاديش (مجيب
الرحمن وحزبه) ، والهند، والاتحاد السوفييتي، وغيرهما من الدول الاستعمارية..
ونحن لا ننكر مثل هذه المؤامرة لاسيما وجيش الهند خاض معركة شرسة من أجل
تحقيق هذا الانفصال.. ولكن لماذا لا نبحث عن نقاط الضعف التي تسلل من خلالها
العدو؟!
لم تكن هناك مساواة بين المواطنين في باكستان الغربية، وإخوانهم في
باكستان الشرقية، وكانت صيحات الاستنكار ترتفع وتصم الآذان في كل مدينة
وقرية من قرى باكستان الشرقية، وحزب (عوامي) - الذي كان يتزعمه مجيب
الرحمن - كان ينادي بإقامة دولة خاصة بالبنغاليين، ولم تكن مثل هذه الدعوة سراً
من الأسرار، لقد خاض الانتخابات وحاز على الأغلبية في باكستان الشرقية، وكان
جمهور البنغاليين ينظرون إليه كمنقذ لهم مما يعانون من حرمان وجهل وفقر،
وساعده على تحقيق أهدافه أمور كثيرة، أهمها:
1 - الظلم وعدم المساواة.
2 - فقدان الحكومة الإسلامية التي تحقق العدل، وتحاكم مجيب الرحمن
بتهمة الخيانة العظمى بسبب تعاونه مع النظام الهندوسي في دلهي، والنظام
الشيوعي في موسكو.
3- لم يكن العلماء والجماعات الإسلامية في مستوى حاجة المسلمين في قسمي
باكستان، ولم يكن بينهم حد أدنى من التعاون الذي يمكّنهم من مواجهة المؤامرة
والمتآمرين.
ولهذه الأسباب مجتمعة نجح الخونة المتآمرون، وانفصلت باكستان الشرقية
عن الغربية، ولم تتغير الأحوال بعد الانفصال؛ فالمسلمون في (بنغلاديش) -
وكل الشعب فيها من المسلمين - يعدون من أفقر شعوب العالم، وقتل مجيب
الرحمن - غير مأسوف عليه - ولم ينعم بزمن طويل من الحكم، ولم ينقذ بلده من
الفقر والجهل والتخلف.
وإن ما حدث في باكستان الشرقية قد يتكرر في (بلوشسشان) وغير
بلوثسستان، فالمشكلة لا تزال قائمة وتحتاج إلى حل سريع.
ففي بلوشستان -وكما ذكرنا قبل قليل-: فقر وجهل وتخلف، وفيها أحزاب
علمانية جاهلية تنادي بإقامة دولة خاصة بالذين يتكلمون لغة (البوشتو) .. وليس
في هذه المنطقة قوة إسلامية -تستحق الذكر- تكبح جماح المتآمرين، بل وليس
هناك حد أدنى من التعاون بين العلماء والجماعات الإسلامية، والنظام ليس متهماً
بما يجري، ولعله واثق بقوته لأن الجيش بيده، والتغيير يبدأ من الجيش، وربما
كان هذا هو السبب الذي جعل الأغلبية العظمى من الجيش من (البنجاب) ، وبشكل
أخص كبار الضباط الذين لا تقل نسبتهم عن 80 %.
وكذلك كبار المسؤولين في السلطة فمعظمهم من أهل البنجاب، ومما لا شك
فيه أن الناس يعرفون مثل هذه الأمور، وهي مثار نقد عندهم، ويشعرون أن
غيرهم مقدم عليهم، ويستغل أعداء الإسلام مثل هذا الظلم أسواً استغلال.. ومن
المؤسف أن تقديم وتفضيل أهل منطقة على بقية المناطق ظاهرة لها وجود في كثير
من بلدان العالم الإسلامي، مع أن أبسط المعانى الإسلامية تؤكد وجوب المساواة بين
المسلمين، فلا فضل لأسود على أبيض ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى أو
العمل الصالح.
ومن جهة أخرى فليس الجيش كل شيء، وانفصال (بنغلاديش) دليل على
خطأ حسابات الذين يعتقدون بأن أي تغيير لا يكون إلا عن طريق الجيش.
وقصارى القول فإن الأسباب التي تسلل من خلالها العدو إلى (بنغلاديش) لا
تزال موجودة في معظم مناطق باكستان وتحتاج إلى إعادة نظر من قبل المصلحين.
5 - لا ندري لماذا لا تكون هناك لغة واحدة لجميع المواطنين في باكستان؟ !
فلغة الأوردو لا ينطق بها جميع الناس في باكستان، ومن جهة اخرى
فالحكومات المتعاقبة ليست جادة في فرض هذه اللغة، ودليلنا على ذلك أن اللغة
الإنكليزية أكثر منها أهمية في معظم مؤسسات الدولة ومعاهدها وجامعاتها، ويبدو
أن هذه اللغة - أي الأوردو - ليست البديل المناسب، ولهذا فلكل منطقة لغة خاصة
بها، ومثل هذه اللغات تعمق الانقسامات بين أبناء البلد الواحد.
وإذا كانت اللغة عاملاً مهماً من عوامل وحدة الأمة وتآلفها، فاللغة العربية هي
اللغة الوحيدة التي يجب أن يجتمع عليها المسلمون في باكستان، لأنها لغة القرآن
الكريم، ولأن كل مسلم في باكستان يصلي باللغة العربية، ويؤذن بها، وبها يقراً
القرآن، بل وهناك استعداد جيد عند الناس لتعلمها. وقد أحسنت الحكومة صنعاً
عندما جعلت اللغة العربية مادة إجبارية في جميع المعاهد والثانويات الرسمية،
وحال دون تنفيذ هذا القرار بشكل فعال - عجز الدولة عن التعاقد مع عدد كبير جداً
من المدرسين العرب لأسباب اقتصادية، ووقوف البلدان العربية من هذا القرار
موقفاً سلبياً، إذ لم تمد لباكستان يد المساعدة والعون.. لهذا لجأت الدولة إلى تعيين
مدرسين باكستانيين لتعليم العربية، وهم - أنفسهم - بحاجة إلى من يعلمهم العربية، ومن بدهيات الأمور أن فاقد الشيء لا يعطيه.
إن الولايات المتحدة الأميركية لم تسمح بتعدد اللغات فيها، مع أن المواطنين
فيها وافدون إليها من مختلف البلدان الأوربية وغيرها، ولهم لغاتهم الخاصة بهم،
ومع ذلك نجحت الحكومة في فرض اللغة الإنكليزية، والحال في باكستان يختلف
تماماً؛ لأن تعلم العربية أمر مرغوب فيه عند كل مسلم، وحاجة دينية ملحة،
يضاف إلى هذا وجوب توحيد اللغة، وأن لغة (الأوردو) ضعيفة، وعمرها قصير
ومن اللغات المستحدثة.
وليعلم إخواننا في باكستان أننا لا ننطلق في هذا الاقتراح من نزعة قومية
وإنما من منطلق إسلامي بحت لأننا أمة واحدة، وما يقلق إخواننا يقلقنا ويقض
مضاجعنا.
6- سيذكر المسلمون في كل مكان لإخوانهم في باكستان حسن ضيافتهم
للمجاهدين الأفغان، ووقوفهم إلى جانبهم، ومثل هذا الفضل يجب أن يستمر بعزيمة
وثابة، ووعي يقف كالسد المنيع أمام المتآمرين والخائنين مهما كان عدد هم، واشتد
بأسهم.. وهناك أصوات ترتفع كأنها فحيح الأفاعي تزعم أن إيواء اللاجئين الأفغان
خطر يجب أن تتخلص منه باكستان، ويوماً بعد يوم يكثر عدد الذين يرددون هذه
الأقاويل، وهؤلاء إما أن يكونوا جهلة أو خونة، ولو كانوا يملكون الحد الأدنى من
الوعي والغيرة الإسلامية لما رددوا مثل هذه الأباطيل؛ لأن احتلال الاتحاد
السوفياتي لأفغانستان خطر يهدد كل مسلم في أي مكان كان من المعمورة، وإذا
توقف القتال، ونجح البلاشفة الشيوعيون في السيطرة على أفغانستان فلن يتوقفوا
عند الحدود الأفغانية الباكستانية، وإنما سيحاولون احتلال باكستان، ودليلنا على
ذلك أنهم احتلوا أفغانستان بعد بضعة عقود من احتلالهم لبخارى وطشقند وغيرهما
من البلدان الإسلامية وأصبحت جزءاً من الاتحاد السوفياتي. وإذن فالمجاهدون
الأفغان يقاتلون نيابة عن المسلمين عامة، وبشكل أخص نيابة عن جميع المسلمين
في باكستان.
ومن جهة ثانية، فهناك مؤامرة بدأت تتكشف خيوطها، وسوف تتضح أبعادها
خلال الأيام القليلة القادمة. نعم بدأت تتكشف خيوط هذه المؤامرة عندما أعلن عدو
الله الذي سماه أبوه نجيب الله أنه أمر بوقف القتال، ودعا المجاهدين الأفغان إلى
العودة إلى بلدهم، وزعم أنه سيشكل حكومة وطنية مشتركة، ولن يكون هناك
حزب واحد بل أحزاب متعددة، ومما لا شك فيه أن عدو الله وسادته في الكرملين
ليسوا صادقين فيما يرددون، وإنما يريدون من وراء ذلك أمرين:
الأول: الوصول إلى حل سياسي مع باكستان يتبعه إخراج المجاهدين من
باكستان.
والثاني: إذا صدق بعض المنسوبين للجهاد دعاوى الشيوعيين، وعادوا إلى
أفغانستان، وتعاونوا مع عدو الله؛ فسوف ينجح الشيوعيون في إحداث فتنة بين
المسلمين الأفغان، وسيبقى الجيش بأيديهم، وسوف يعود السوفييت - إذا خرجوا -
إذا اقتضى الحال وفي هذا كله خسارة كبيرة للمسلمين جميعاً، سواء كانوا من
الأفغان أو من الباكستانيين أو من غيرهم..
ولعلكم - يا إخوة! - تشعرون معنا بالخجل والإحراج عندما نتحدث عن
الباكستانيين والأفغان، فعدونا لا يكيد لنا ويحاربنا لأننا من هذا البلد أو من ذاك..
وإنما يحاربنا لأننا مسلمون، فلماذا لا نتحرر من الولاء للقوم أو القبيلة أو الوطن،
ونكون كما وصفنا - تعالى - في قوله: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] .
وبعد..
فإن الذي دفعنا إلى تسجيل هذه الخواطر ما يلي:
1- أهمية هذا البلد المسلم الذي يحتل حبه مكاناً مهماً في قلوبنا، فعدد
المسلمين في باكستان يزيد عن مائة مليون مسلم، وهو مرشح لجمع شمل المسلمين
في الهند وبنغلاديش وأفغانستان، وعندئذ سيصبح سكان هذه الدولة أكثر من 400
مليون مسلم، أي ضعف سكان الولايات المتحدة الأمريكية، ولن يسمح الشرق ولا
الغرب - إن استطاعوا - بقيام مثل هذه الدولة.
2- شعورنا بأن باكستان مهددة، وتتآمر عليها دول كبرى من أهمها: الاتحاد
السوفياتي، والهند، والولايات المتحدة الأميركية وغيرها.. ولهذه الدول جيوب
خطيرة داخل باكستان تعمل في وضح النهار، ويتعاون هؤلاء الأعداء فيما بينهم.
3 - نريد من العلماء وقادة الجماعات الإسلامية وسائر الدعاة إلى الله -
سبحانه وتعالى - أن ينتبهوا إلى هذه المخاطر، ويحذروا أشد الحذر من الباطنيين
الذين يفعلون الأفاعيل داخل الصف الإسلامي، ولا يخدعوا أنفسهم بقول بعضهم:
لقد فشل حزب الشعب ولم يعد قادراً على تضليل الجماهير، أو قول بعضهم: ليس
للباطنيين ثقل في باكستان..
نريد من إخواننا أن يعلموا أن الهدم غير البناء، وأهل الشر ينبلون عن قوس
واحدة، ولا يستطيع إخواننا أن يؤدوا دورهم إلا إذا كان بينهم تعاون وتنسيق وثقة.
ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
__________
(1) لسنا في صدد الحديث عن أسباب انفصال باكستان عن الهند، وتحليل مواقف كبار رجال الدعوة الإسلامية، والظروف التي رافقت هذا الانفصال.(4/78)
هدم المسجد الجامع
بوسط أكرا
كتب إلينا الدعاة والعلماء في " أكرا " عاصمة غانا يشكون موقف السلطة
الظالم، وكيف أقدمت على هدم المسجد الجامع في (أكرا) ، من أجل تحويل أرضه
إلى مواقف للسيارات.
والشيء الجدير بالذكر أن خطة هدم المسجد لم تكن ضمن خطة بناء مواقف
للسيارات، وأن هذا الأمر قد حصل بشكل مفاجئ.
وقالت أطراف مقربة من السلطة إن الحكومة اتخذت هذا الموقف بعد أن
أصبح المسجد مركزاً يعج بالنشاط الإسلامي، وكثر الشباب الذين يترددون عليه
وخشيت السلطة من تطور هذه الظاهرة وازدياد قوة المسلمين، ورؤوس النظام
الغاني يعلمون علم اليقين أن العقائد الأخرى التي يَدينون بها أضعف من أن تواجه
المد الإسلامي إذا كانت هناك حرية، وإذا سمح للمسلمين بما أوجبه الله عليهم من
حرية تبليغ الدعوة إلى الله.
وزعمت السلطة - فيما زعمته - أن جهات أجنبية تتدخل في شؤون المسلمين
في غانا عن طريق القائمين على المسجد، ويعنون بذلك جهات باطنية معروف
عنها الشغب والفتنة ونحن المسلمون نشكو من هذه الجهات المشبوهة ونتهمها بأنها
تفتعل مشكلات لا أصل لها لتجر فتناً وويلات على المسلمين في غانا وغيرها..
ولو كانت حكومة غانا جادة لمنعت هذه الجهات ولوضعت حداً لها لأنها جهات
أجنبية ليس لها صلات عقائدية مع المسلمين في المسجد أو غيره.
وإقدام السلطة على هذه الجريمة النكراء أثار المسلمين فاحتلوا المسجد في 14
من أكتوبر من عام 1986 وأقاموا فيه يومين.. وأخيرًا تعاون مع السلطة ضعاف
النفوس من زبانية السلطة الذين يتاجرون بالإسلام ويزعمون بأنهم ممثلون له.. وتم
أخيراً هدم المسجد الذي كان يحتل مكاناً مرموقاً في مدينة أكرا.
إن الحرب المعلنة على الإسلام تتخذ أشكالاً متعددة، وتبرز في مظاهر
متنوعة، فبالإضافة إلى حمى التبشير القائمة في بقاع كثيرة من آسيا وإفريقية،
وتنصير كثير من المسلمين استغلالاً لظروف الفقر والمرض والجهل التي تحيط بهم هناك أيضاً العمل الدؤوب على محو معالم الإسلام بشتى الحجج مهما كانت واهية، وهذا مثال على ذلك.
وإزالة معالم الإسلام، وتجريد المسلمين من كل ما يميزهم ومن كل ما
يساعدهم على جمع شملهم وشعورهم أنهم جماعة - هدف تلتقي عليه الحكومات
المدعومة من التبشير أو الحكومات العلمانية اللادينية، فسواءً كانت هذه الحكومات
ديموقراطية أو عسكرية - تستمد سلطانها من الغرب أو من الشرق - فكلها تجد في
الإسلام حجر عثرة، وترى في المسلمين طائفة مستباحة مهدورة الحقوق! .
فلو أن كنيسة كانت تحتل وسط أكرا فهل كان في حكومة غانا من يجرؤ على
الكلام حول نشاطها بكلمة، فضلاً عن أن يقرر إزالتها من الوجود، لو أن أحداً فعل
ذلك لكان الفاتيكان استنكر ذلك أشد الاستنكار ولكان -مجلس الكنائس العالمي - بما
له من نفوذ - وصح من يصدر عنه ذلك بانتهاك حقوق الإنسان وبمصادرة حق
الناس في الحفاظ على مقدساتهم والقيام بحقهم في العبادة وهو حق ضمنته لهم كل
الشرائع والدساتير.
إن هناك ممالك كبيرة كانت تحكم بالإسلام وتدين به وتتخذه منهاجاً لها تمتد من غرب إفريقية إلى شرقها إلى وسطها، كلها تقريباً أزيل من الوجود، وحل محلها حكومات علمانية همها إضعاف المسلمين والتمكين للنصارى وغيرهم، وأصبح المسلمون أقليات في بلاد كانوا فيها أكثرية، وذلك كله بسبب شدة الوطأة الاستعمارية التي شملت هذه البلاد وجعلتها ترزح تحت نير الغرب وظلمه ونهبه ونشره مبادئه التيتربط هذه الشعوب برباط التبعية للغرب المسيطر.
إخواننا العلماء والدعاة في غانا:
نحن معكم بقلوبنا ومشاعرنا نغضب لما يغضبكم، ونسر لما يسركم، وقد
آلمنا هدم المسجد وضاعف من ألمنا أن مثل هذه الكارثة لم يتفاعل معها المسلمون -
بكل أسف -مع أننا نعلم أن صرخاتكم وصيحات استنكاركم وصلت الجميع..
وعزاؤنا الوحيد أن الله سيحفظ دينه، ونحن بهذا الإسلام أقوى من الدنيا وما عليها.
فوحدوا صفوفكم واصدقوا مع ربكم، وأبشروا بنصر الله - سبحانه وتعالى -
وسوف تعود إفريقية كما كانت حصناً من حصون الإسلام الراسخة [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .(4/91)
عندما يبيع الآباء أبناءهم! !
منذ ما يزيد عن أحد عشر عاماً ولبنان يعاني من ويلات الحرب والدمار بل
أصبح لبنان حقلاً خصباً تُجرى فيه التجارب على ما تنتجه مصانع الغرب والشرق
من أسلحة جديدة فتاكة، ويستفيد هؤلاء وهؤلاء فائدتين:
الأولى: تجربة سلاحهم الجديد.
والثانية: الربح المادي من بيع هذه الأسلحة، ويجني لبنان خراب البيوت
وإزهاق الأنفس ونساء رملت وأطفالاً يتامى وجوعاً وغلاءً ومرضاً، فبعد أن كان
الدولار في بداية الحرب عام 1975 يعادل 35 ر 2 ليرة، أصبح في نهاية عام
1986 يعادل (70) ليرة، وارتفع معدل التضخم إلى 100%، ففي هذه الظروف
المعيشية الصعبة انتشر بيع الدم للمستشفيات، وهذا يدل على كثرة الجرحى من
جهة، ومن جهة أخرى يدل على ضيق العيش الذي دفع المحتاجين إلى أن يبيعوا
دماءهم ويعيشوا على ثمنها، بل ذهب الأمر أبعد من ذلك حيث نقلت إلينا الصحافة
خبراً مفاده أن لبنانياً من قرية عربصاليم بجنوب لبنان عرض أبناءه الثمانية للبيع
وقال إنه يريد عناية لأولاده أفضل مما يقدمه لهم! ، وأضاف: لو أردنا أن نطعم
الأولاد أكلة (مجدَّرة) فإنها تكلف 200 ليرة، وتتراوح أعمار الثمانية - وهم 7
بنات وصبى - بين 4 أشهر و 14 سنة وهذا ثاني لبنانى يعرض أولاده للبيع خلال
أسبوع! (جريدة القبس 25/11/1986) .
أي لوعة وأي حسرة وأي ندامة ستحل بهذا الأب حين يفارقه أبناءه الثمانية! لا شك أنه فكر في ذلك كثيراً، فعاطفة الأبوة التي جعلها الله -حتى في الحيوان- موجودة عنده، لكن ما يعانيه من ويلات الحرب ونتائجها طغت على عاطفة
الأبوة ولثمانية أبناء، فيعيش هو بثمنهم ويذهبوا هم إلى مكان أفضل كما يتصور
هو! .
قد نقول في هذه الحادثة هذا رجل، وقد تغلب على عاطفة الأبوة برجولته،
أما أن يحدث ذلك من الأم فهذا مما يزيد الأمر هلعاً، فقد ذكرت (جريدة الشرق
الأوسط) - بتاريخ 17/1/1987 -: أن قوات الأمن اللبنانية ألقت القبض على امرأة بتهمة بيع أطفالها الأربعة لعدد من الأجانب، واعترفت المتهمة بأنها حملت أربع مرات وباعت أولادها تباعاً للأجانب وكانت آخر مرة عندما باعت طفلتها لموظفة في السفارة البريطانية في بيروت مقابل ألفي جنيه
إسترليني! .
بقي أن نعرف أن أكثر مَن تدور عليهم رحى الحرب في لبنان هم من
المسلمين السنة دون غيرهم سواء كانوا فلسطينيين في المخيمات، أو من سكان
لبنان الأصليين.(4/93)
مختارات من كلام الشافعي
ليس العلم ما حُفظ، العلم ما نفع.
تفقه قبل أن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل إلى الفقه.
لا عيب بالعلماء أقبح من رغبتهم فيما زهَّدهم الله فيه، وزهدهم فيما رغّبهم
الله فيه.
فقر العلماء فقر اختيار، وفقر الجهال فقر اضطرار.
طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد.
مَن غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها.
لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته، ولو كنت اليوم
ممن يقول الشعر لرثيت المروءة!
ما أكرمتُ أحداً فوق مقداره إلا اتضع من قدري عنده بمقدار ما زدت في
إكرامه.
ليس بأخيك مَن احتجت إلى مداراته.
لو أن رجلاً سوّى نفسه حتى صار مثل القِدْح لكان له في الناس مَن يعانده.
من سام نفسه فوق ما يساوي رده الله - تعالى - إلى قيمته.
من استُغضِب فلم يغضب فهو حمار، ومن استُرضَي فلم يرضَ فهو شيطان.(4/94)
الحضارة المعاصرة.. الوجه الآخر
مشاهداتي في بريطانيا
«إنها ملكة! !»
د. عبد الله مبارك الخاطر
كانت جارتنا عجوزاً يزيد عمرها على سبعين عاماً.. وكانت تستثير الشفقة
حين تشاهَد وهي تدخل وتخرج وليس معها من يساعدها من أهلها وذويها.. كانت
تبتاع طعامها ولباسها بنفسها.. كان منزلها هادئاً ليس فيه أحد غيرها ولا يقرع بابها
أحد.
وذات يوم قمت نحوها بواجب من الواجبات التي أوجبها الإسلام علينا نحو
جيراننا، فدهشت أشد الدهشة لما رأت، مع أننى لم أصنع شيئاً ذا بال، ولكنها
تعيش في مجتمع ليس فيه عمل خير ولا يعرف الرحمة والشفقة، وعلاقة الجار
بجاره لا تعدو - في أحسن الحالات - تحية الصباح والمساء! .
جاءت في اليوم الثاني إلى منزلنا بشيء من الحلوى للأطفال، وأحضرت
معها بطاقة من البطاقات التي يقدمونها في المناسبات، وكتبت على البطاقة عبارات
الشكر والتقدير لما قدمناه نحوها.
وشجعتها على زيارة زوجتي، فكانت تزورها بين الحين والآخر، وخلال
تردادها على بيتنا علمت بأن الرجل في بلادنا مسؤول عن بيته وأهله، يعمل من
أجلهم، ويبتاع لهم الطعام واللباس، كما علمت مدى احترام المسلمين للمرأة -
سواء كانت بنتاً أو زوجة أو أماً، وبشكل أخص عندما يتقدم سنها حيث يتسابق
ويتنافس أولادها وأبناء أولادها على خدمتها وتقديرها.. ومن أعرض عن خدمة
والديه وتقديم العون لهما كان منبوذاً عند الناس.
كانت المرأة المسنة تلاحظ عن كثب تماسك العائلة المسلمة. كيف يعامل
الوالد أبناءه، وكيف يلتفون حوله إذا دخل البيت، وكيف تتفانى المرأة في خدمة
زوجها. وكانت المسكينة تقارن بما هي عليه وما نحن عليه.. كانت تذكر أن لها
أولاداً وأحفاداً لا تعرف أين هم، ولا يزورها منهم أحد، قد تموت وتدفن أو تحرق
وهم لا يعلمون، ولا قيمة لهذا الأمر عندهم! ، أما منزلها فهو حصيلة عملها
وكدحها طوال عمرها.. وكانت تذكر لزوجتي الصعوبات التي تواجه المرأة الغربية
في العمل وابتياع حاجيات المنزل ثم أنهت حديثها قائلة:
إن المرأة في بلادكم (ملكة) ولولا أن الوقت متأخر جداً لتزوجت رجلاً مثل
زوجك، ولعشت كما تعيشون!
ومثل هذه الظاهرة يدركها كل من يدرس أو يعمل في ديار الغرب، ومع ذلك
فلا يزال في بلادنا من لا يخجل من تقليد الغربيين في كل أمر من أمور حياته، ولا
تزال في بلدان العالم الإسلامي صحف ومجلات تتحدث بإعجاب عن لباس المرأة
الغربية، وعمل المرأة الغربية والأزياء الغربية، والحرية التي تعيش في ظلها
المرأة الغربية!
اللهم لك الحمد أن أنعمت علينا بنعمة الإسلام.
قال - تعالى -: [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ
يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [الحجرات: 17] .(4/96)
عندما تصبح الأعياد مآتم …!
سنتعرض في هذه الدراسة لبعض ما يحدث في أعياد الغرب المسيحي من
غرائب، وللأصول الوثنية التي تستند إليها هذه الأعياد، وليكن مجال بحثنا ما
يسمى بعيد ميلاد المسيح (عليه السلام) [1] ، وعيد رأس السنة الميلادية كأكبر
مناسبة في الغرب النصراني.
فالاحتفالات بهذا العيد تقام في يوم وليلة الخامس والعشرين من شهر ديسمبر
(كانون الأول) في المجتمعات النصرانية الغربية، وبعد ذلك بحوالي أسبوعين عند
النصارى الشرقيين.. حيث تغلق جميع الدوائر الرسمية وغير الرسمية أبوابها،
وكذلك المستشفيات والمحلات التجارية وتتوقف كثير من وسائل المواصلات
كالحافلات والقطارات عن العمل. وفي العموم فإن حركة الحياة تتوقف في ذلك
اليوم كما لو كان الناس قد نزلوا إلى ملاجئهم إثر غارة جوية معادية!
لكن لعل المقيم في تلك البلاد أو الزائر في ذلك اليوم والليلة يرى أن نوعين
من المحلات لا تغلق أبوابها، بل يزدهر سوقها ويكثر روادها، وهما: حانات
الخمور والبارات التي يشرب فيها الخمر والمسكرات؛ حيث يفرط الناس بشربها
إلى حد فقدان العقل وفقدان السيطرة على السلوك مما حدا بالشرطة البريطانية إلى
إصدار قرار بتخفيض النسبة المسموح بها من الشراب لمن يقود السيارة إلى خمسين
بالمائة [2] وذلك قبيل عيد الميلاد السابق.
ومن عجائب المفارقات أن أحد رجال الشرطة المكلفين بحفظ الأمن في تلك
الليلة قاد سيارته وهو في حالة سُكر، بعد أن خرج من حفلة شراب للشرطة
بمناسبة عيد الميلاد! ؛ مما تسبب في اصطدامه بسيارة أخرى، وذلك بعد ساعات
من إصدار قرار التخفيض السابق! ! ؛ مما جعل مدير الشرطة يصدر أمراً لجميع
أفراد الشرطة يحرم فيه عليهم الشرب قبل قيادة السيارة!
(صحيفة (ستار) The Star 27/12/86 وصحيفة (صن) The Sun
27/12/86م) .
ورغم تفاؤل الشرطة البريطانية بقانون التخفيض الجديد والذي قد يكون قلل
من عدد الوفيات نتيجة حوادث السير في عيد الميلاد السابق مقارنة بأعياد الأعوام
السابقة.. إلا أنه من لم يمت بالسيف مات بغيره.، فمن الحوادث الطريفة في ليلة
العيد السابق أن شاباً سقط من ارتفاع أربعين قدماً على شابة تبلغ العشرين من العمر؛ مما أدى إلى إصابتها بالشلل المزمن.. الشاب المخمور قال لأصدقائه: لقد كنت
في غيبوبة تامة ولا أستطيع أن أتذكر كيف سقطتُّ كل هذه المسافة! ! (صحيفة
(صن) The Sun 27/12/86) .
وإذا كان المعنى اللغوي للعيد أنه الذي يعود بالفرح والمرح والسرور فإن
العقلية البناءة (! !) للحضارة المعاصرة أبت إلا أن تجعل منه شيئاً آخر.. ونحن
وإن كان بين أيدينا عدد من حالات الخطف والقتل والاغتصاب التى حدثت في ليلة
العيد السعيد! إلا أننا لسنا بحاجة إلى سردها - وليس هذا موضعها - ويكفي
القارئ العزيز أن يعلم أن الخمر أم الخبائث.. وأن يعرف أنه كما أغلقت الدوائر
والمحال التجارية أبوابها في ذلك اليوم والليلة فإن من تربوا منذ نعومة أظفارهم
على أفلام العنف والجريمة وأفلام المجون والخلاعة قد استنفروا طاقاتهم القصوى
في سبيل تحقيق تلك الشهوات وإشباع تلك الغرائز.. ولك أن تتصور أي سعادة
وسرور يعيشها طفلان لم يتجاوزا الخامسة من عمرهما، وأى معانٍ من معاني ميلاد
المسيح تبقى في ذهنيهما بعد أن شاهدا وحشاً كاسراً يهجم - تلك الليلة -على أمهما
وجدتهما ويحيلهما إلى جثتين هامدتين تسبحان في بركة من الدماء؟ ! ويولي هارباً.. بقي أن تعرف - أخي القارئ - أن هذا الوحش هو (والدهما الحنون) !
(صحيفة (صن) 27/12/86) .
وإذا كان كثير من الناس في ليلة عيد الميلاد ويومه يمكثون في بيوتهم أو في
خماراتهم يعربدون.. إلا أنهم وفي ليلة رأس السنة الجديدة يخرجون إلى الاحتفالات
بسكرهم وعربدتهم، فقد أعلنت الشرطة البريطانية أنه قد تم إلقاء القبض على ما
يزيد على (150) شخصاً في منطقة ميدان (الطرف الأغرّ) بوسط لندن والتي
تتركز فيها عادة الاحتفالات بحلول العام الجديد.. وكانت معظم الحوادث التي
وقعت قد جاءت نتيجة للسكر والإخلال بالنظام العام والتعدي على الناس.. وقد
عالجت سيارات الإسعاف (195) شخصاً من بين المحتفلين بالمناسبة بسبب
إصابتهم بجروح نتيجة تهشم زجاجات الشراب! وقد نُقل نحو خمسين آخرين إلى
المستشفيات للعلاج، وقد قُدر عدد رجال الشرطة الذين أصيبوا في هذه الحوادث
بنحو أربعين رجلاً (جريدة الشرق الأوسط، 29/12/86) .
وها هنا نوع آخر مما ابتُلي به أهل هذه الحضارة:
ففي روما أعلنت وزارة الداخلية الإيطالية عن الحصيلة النهائية لضحايا
استخدام المفرقعات والألعاب النارية الملونة في احتفالات رأس السنة الجديدة،
وقالت مصادر الوزارة: إن مواطناً كهلاً قُتل في مدينة نوشيرا في الجنوب الإيطالي
بفعل دخان مفرقعة، وجرح (600) شخص آخرون في روما ونابولي وغيرهما من
المدن الإيطالية، ومعظم المصابين يعانون من حروق في اليدين والوجه بسبب
انفجار المفرقعات بأيديهم، أو بسبب عدم احترام الشروط القانونية أثناء تصنيع هذه
المفرقعات.. وتعتقد أوساط الداخلية أن عدد الجرحى أكبر من الرقم المعلن؛ لأن
العديد ممن أصيبوا بجروح لم يلجأوا إلى المستشفيات العامة وفضَّلوا الصمت.
وكانت صحيفة (كورييري ديلاسيرا) الإيطالية قد ذكرت أن ثلاثة أشخاص
قتلوا وأصيب أكثر من (500) في هذه الاحتفالات (الشرق الأوسط 3/1/86) .
ومصائب أعياد رأس السنة الميلادية لا تقتصر على أوربا وأمريكا بل
تنسحب على كل الذين يحيون تلك الاحتفالات.. ففي مانيلا (عاصمة الفلبين) لقي
اثنان وعشرون شخصاً حتفهم وأصيب المئات من جراء الألعاب النارية وإطلاق
النار في أجواء العاصمة، وذكرت مصادر الشرطة الفلبينية أنه رغم الحظر
الحكومي على استخدام الألعاب والقذائف النارية إلا أن هؤلاء لم يبالوا به، وأن
المستشفيات تستقبل مئات المصابين من جراء هذه الألعاب والطلقات الطائشة، ومن
بين الضحايا خمسة من أعضاء أسرة واحدة كانوا نائمين داخل منزلهم الخشبي الذي
احترق من جراء الألعاب النارية (الشرق الأوسط 3/1/86) .
تكاليف عيد الميلاد من منظور آخر:
اطلعنا حتى الآن على شيء من التكاليف البشرية والصحية والاجتماعية
والأخلاقية لأعياد الميلاد في بلدان الحضارة المعاصرة.. فلننظر إليها الآن من
زاوية أخرى.. زاوية التكاليف المادية.. فكما أسلفنا القول إن المجتمعات الغربية
تتناول من الخمور في تلك الأيام ما لا تتناوله في غيرها ... فمصانع الخمور
والمشروبات الكحولية تعمل بطاقاتها القصوى قبل حلول العيد.. ومحلات بيعها
تظل مشرعة أبوابها حتى ساعات الصباح المتأخرة.. ويقتنيها الناس على هيئة
خزانات صغيرة في البيوت انتظاراً لتلك الليلة حيث يجتمع فيها الأقارب المقربون
ذلك الاجتماع اليتيم! ! وكأن هذه العربدة المفرطة هي الاحتفال اللائق بذكرى ميلاد
المسيح (عليه السلام) ! !
إن كل هذه الحشود الكحولية تكلف ميزانية الفرد ومن ثم المجتمع الغربى ما لا
يحصى من الأموال.. وهى في نفس الوقت تكلف ميزانية الدولة في المحافظة على
الأمن ومواجهة حوادث السير والشغب ومعالجة المرضى والمصابين والبحث عن
الجناة القاتلين أو عن الخاطفين والمخطوفين! !
* ومن مظاهر البذخ في احتفالات أعياد الميلاد لدى المجتمعات المتحضرة ما
أسلفنا ذكره من الألعاب النارية والمفرقعات وهى بلا شك تكلف الكثير.. الكثير..
ولها من الآثار - غير المادية - ما أسلفنا الحديث عنها.
* ومن تلك المظاهر أيضاً ما يسمى بشجرة الميلاد وهى من الأشجار
المخروطية دائمة الخضرة، تزرع خصيصاً لهذا الغرض.. حيث يقتنيها أغلب
الناس في الغرب، ويضعونها في منازلهم أو متاجرهم، ويزينونها بالأضواء
الملونة والتماثيل واللعب الصغيرة.. كما يضعون تحتها الهدايا التي أهداها بعضهم
لبعض.. ثم يفتحونها ليلة عيد الميلاد! ! وقد بِيع منها في أمريكا في عيد الميلاد
السابق حوالى (32) مليون شجرة (جريدة الأهرام 3/1/87) ولا يزيد هذا العدد
بكثير عن مثيله في البلدان الأوربية.
* ومظهر آخر من مظاهر هذا الإنفاق ما يسمى ببطاقات عيد الميلاد.. حيث
يرسل كل فرد عشرات البطاقات إلى أهله وأصدقائه أو زملائه في العمل يتمنى فيها
لهم عيداً مرحاً بهيجاً وسنة جديدة سعيدة.. وهذه البطاقات تعتبر معيار ومحك
الصداقة بين الناس.. فيكفي الابن العاق - وما أكثر العقوق في تلك المجتمعات! [3] الذي لم يَرَ والديه منذ سنوات وهو يعيش معهم إن لم يكن في نفس البلدة ففي
نفس القطر - يكفيه أن يرسل بطاقة تهنئة لوالديه بهذه المناسبة كى يصبح ابناً باراً
واصلاً لرحمه! !
وهكذا تنهال قبيل حلول العيد بأيام ملايين البطاقات على مصلحة البريد، مما
يحدوها إلى توجيه طاقاتها لتوزيع هذه البطاقات كى تصل قبل حلول العيد وتأجيل
الرسائل العادية مهما تكن أهميتها..
* ومن المظاهر التي يشاهدها رجل الشارع في احتفالات أعياد الميلاد الأنوار
والأقواس التي تتزين بها واجهات المحلات والشوارع الرئيسية العامة والتي ينفق
عليها الكثير من الأموال التي لو وُجهت لمصلحة الفقراء الذين يعيشون تحت
مستوى الفقر (راجع البيان عدد (2)) أو للذين ينامون في العراء تحت درجة
التجمد في الشتاء القارس فيفترشون ويلتحفون ما ترميه المحلات التجارية من
أوراق ونفايات - لا أقول في إفريقية الجائعة ولا في بعض المناطق الفقيرة من
القارة الآسيوية - وإنما في أكثر عواصم العالم تمدناً وتقدماً، في لندن وباريس
وواشنطن ونيو يورك وغيرها من كبريات المدن الأوربية والأمريكية.. إن هذه
الأموال - التي تنفق في مثل هذه المظاهر التي أسلفنا ذكرها وغيرها الكثير - لو
وُجهت في مثل هذه المصالح لحفظت حياة الكثيرين بل وأخلاقهم وشرفهم الذي
كثيراً ما تجري المساومة عليه بسبب الفاقة والحاجة!! لكنها الرأسمالية الظالمة! !
هذا غيض من فيض مما تنفقه الدول والشعوب في عواصم الإسراف
والفوضوية.. ولعل هذه الشعوب قد أسرفت في فهم قصيدة الشاعر الإنجليزي)
توماس تاسِّرTusser " عام حيث يقول:
(خذ في عيد الميلاد بأسباب المرح والابتهاج؛ فعيد الميلاد لا يجىء إلا مرة في العام) .
على أننا لم نتعرض بالذكر لما ينفق على الهدايا عشية الميلاد وغيرها مما
ليس له آثار سلبية واضحة على المجتمع.. وهكذا تنتهى مواسم الأعياد
والاحتفالات فيفتقد كل فرد رصيده فإذا هو قد أفلس أو كاد! ! هذا إن كان ممن
حالفهم الحظ فلم يقضِ أيام العيد على الأسرَّة البيضاء، أو خلف أستار الحزن على
ابن أو بنت اختطفت أو قريب أو صديق وقع ضحية للعنف أو لحوادث السير..
وإني لأجد التشابه جلياً واضحاً بين هذه الشعوب في أعيادها وبين قوم إبراهيم -
عليه السلام - حين رجعوا من عيدهم فرحين مبتهجين فوجدوا آلهتهم قد حُطمت..
فأصيبوا بخيبة أمل وعادت عليهم أعيادهم وبالاً وخزياً.. إلا أن الفارق الوحيد هو
أن ما حُطم هو الكفر والضلال بيد إمام الموحدين الخليل - عليه السلام - أما هؤلاء
فقد حطموا أنفسهم وأموالهم بأنفسهم وصدق الله العظيم إذ يقول في إخوانهم اليهود:
[يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] [الحشر: 2] .
حقاً، إنها لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. ألا فليعتبر أبناء
المسلمين الذين يريدون أن ينحوا بأعيادنا هذا المنحى الخطير بحجة التطور والرقى! وها قد تبين آثار البذخ والإسراف بكل أنواعه على الأفراد والمجتمعات فهل
ترضي هذه الآثار والنتائج رجلاً مخلصاً لأمته ومجتمعه؟ ! وهل يرضى عاقل أن
يرى هذا السموم تفتك بأهله وقومه؟ ! .. ألا فلنلتزم حدود ما أبيح لنا في أعيادنا
من لهو ولعب يسير فإن فيه الكفاية لما نتطلع إليه من مرح وفيه الملجأ مما
نخشاه من آثار وعواقب وخيمة.
خرافة سانتا كلوز أو ما يسمى بابا نويل:
ويتمثل في رجل عجوز سمين مرح ذي لحية بيضاء طويلة وملابس حمراء
زاهية.. يقولون إن أصله يرجع إلى القديس (نيكولاس) الذي عاش في أوربا في
القرن الرابع الميلادي وكان يعطف على الأطفال ويوزع عليهم الهدايا.. وقد تحول
الآن إلى أسطورة كبيرة يصدقها كثير من الأطفال (بل في استفتاء أجرته إحدى
شبكات التلفاز الأمريكية في عيد الميلاد السابق - قال 90% من الكبار أيضاً إنهم
يؤمنون بوجود سانتا كلوز) .
وتقول الأسطورة الحالية: (إن سانتا كلوز يعيش في القطب الشمالي مع زوجته وأعوانه يديرون مصنعاً كبيراً للُعب الأطفال، وفي ليلة الميلاد يسافران معاً على زحافة ثلجية يجرها ثمانية غزلان، وتمر الزحافة على سطح كل منزل لينزل منها سانتا كلوز من خلال المدخنة إلى غرفة الطعام ليضع الهدايا في جوارب خاصة يتركها للأطفال معلقة بجوار المدفأة.. وعادة ما يضع الأهل تلك الهدايا بدلاً من سانتا كلوز وقت نوم الأطفال، فإذا ما استيقظوا تيقنوا أن سانتا كلوز حقيقة لامراء فيها) (الأهرام 3/1/1987م) .
هكذا يتربى أطفال الحضارة المعاصرة على الخرافة والكذب! ! والأعجب
من ذلك أن تظل هذه الخرافة في عقول مَن تجاوزوا سن الطفولة! ! .
هل حقاً يحتفل النصارى بعيد ميلاد المسيح؟ !
يقول المؤرخون: إن المسيح - عليه السلام - لم يولد في هذا الموعد الذي
يحتفل به اليوم في البلاد النصرانية.. حيث يؤكد آباء الكنيسة في القرنين الثاني
والثالث الميلاديين أن ما يسمى بعيد ميلاد المسيح ما هو إلا صورة طبق الأصل لما
كان يحتفل به الوثنيون في أوربا قبل ميلاد المسيح بوقت طويل (دائرة المعارف
البريطانية ج16، ص364 Britannica Encyclopedia) .
وتقويم الأعياد المسيحية مأخوذ من (تقويم يوليوس الشمسي) وهو التقويم الذي
أدخله يوليوس قيصر إلى روما عام 46 قبل الميلاد.. والذي جعل أيام السنة 365
يوماً (المرجع السابق) .. حيث كان الوثنيون يحتفلون (يوم 25 من ديسمبر) بما
يسمونه " عيد ميلاد الشمس التي لا تقهر " أو ما يسمى " بيوم الانقل ابالشتوي
الصيفي الروماني" (المرجع السابق) ، ولقد أقيم أول احتفال بعيد ميلاد المسيح -
كما يزعمون - سنة 336 ميلادية في روما وذلك في اليوم السادس من شهر يناير.. ثم ثبَّتت الكنائس الغربية في نهاية القرن الرابع الميلادي الاحتفال بميلاد المسيح
في يوم (25 من ديسمبر) إلا أن الكنيسة في أرمينيا لم تعترف بهذا التغيير واستمر
الاحتفال به في السادس من شهر يناير (دائرة المعارف البريطانية ج4 ص283) ..
كما هو الحال الآن في معظم الدول الشرقية.. إلا أن المؤرخين يؤكدون أن المسيح - عليه السلام - لم يولد في أي من هذين الموعدين! ! .
أصل شجرة الميلاد:
أول من استخدم الشجرة هم الفراعنة والصينيون والعبرانيون كرمز للحياة
السرمدية، ثم إن عبادتها قد شاعت بين الوثنيين الأوربيين وظلوا على احترامها
وتقديسها حتى بعد دخولهم في المسيحية فأصبحوا يضعونها في البيوت ويزينونها
كي تطرد الشيطان أثناء عيد الميلاد (دائرة المعارف البريطانية، ج3، ص284) .
ولم يطلق عليها شجرة الميلاد إلا في القرن السادس عشر الميلادي - في ألمانيا الغربية - حيث تحولت مما يسمى (بشجرة الجنة) في الاحتفال الدينى
بذكرى آدم وحواء في 24 من ديسمبر إلى شجرة الميلاد، حيث أصبح الناس
يعلقون عليها الشموع التي ترمز إلى المسيح - بزعمهم - ولم تدخل فكرة الشجرة
إلى إنجلترا إلا في القرن التاسع عشر (المرجع السابق) .
هذه هي الجذور الوثنية لهذه الأعياد التي يحتفل بها النصارى اليوم
ويعتبرونها أكبر مظاهر دينهم، وينفقون فيها ملايين الدولارات.. وما مثلهم إلا
كمثل من وصفهم القرآن بقوله: [إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ
يُهْرَعُونَ] [الصافات: 69-70] . على أنك لو سألت كثيراً ممن يحتفلون بهذه
المناسبة عن سبب احتفاله بها فإنه لن يعرف أكثر من كونه لا يذهب يومها إلى
العمل، ويشرب فيها الخمر بشراهة، ويتناول ليلتها الديك الرومى!
وإنه لمما يؤسف له أن ينخدع بعض من أبناء المسلمين بمظاهر هذه الأعياد
الزائفة، فصاروا يحتفلون بها في بلدانهم الإسلامية، ويتبادلون بطاقات التهاني أو
يتبادلونها مع النصارى ويهنئونهم بهذه المناسبة.. وكأنهم يقرونهم على دينهم!!
بل الأدهى من ذلك أنها أصبحت عطلة رسمية في كثير من بلدان المسلمين!
بل الأعجب من ذلك أن تبتدع بعض العواصم الإسلامية بدعة لم تسبق إليها،
وليس لهذه البدعة ما يقرها من شرع أو عقل أو قانون أو عرف، ألا وهي خروج
السفهاء في منتصف الليلة - التي سيتمخض عنها العام الميلادي الجديد - بأسلحتهم
النارية وما إن تقترب الساعة من الثانية عشرة ليلاً حتى تنطلق عاصفة من إطلاق
الرصاص الذي يقوم به موظفون رسميون من جنود وميليشيا، على مسمع الدولة
التي سلحتهم وبصرها، وهكذا تستمر هذه المظاهر النارية التي ليس لها ما يبررها، فكم من حوادث مؤسفة في هذه الليلة، وكم رصاص يهدر ونفوس ترعب،
وحوامل تسقط، بلا رادع يردع هؤلاء عن هذا الفعل الشائن الذي يتحدى - بلا
حياء -مشاعر المجتمع وعقائده وآدابه العامة.
وعلى غرار هذا الاحتفال بعيد ميلاد المسيح - على زيفه كما بينا سابقاً -
انتشرت بدعة عيد مولد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- هذه البدعة التي
يحتفل بها الصوفية وغيرهم في أغلب بلدان العالم الإسلامي حيث تقام الاحتفالات
وتزين المساجد والزوايا وتتلى القصائد والأشعار في المدح والعشق ثم الرقص
والغناء وما قد يصاحب ذلك من اختلاط الرجال بالنساء.. ثم تناول عشاء المولد
الذي يقدم فيه الدجاج والديك الرومي! ! تماماً كعشاء ميلاد المسيح - عند النصارى - وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (لتتبعن سنن من كان قبلكم
حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود
والنصارى؟! قال: فمن؟ ! أي: فمَن غيرهم؟ (متفق عليه) .
وليس المقام هنا مقام الرد على أهل هذه البدعة، وإنما يكفينا هنا أن نعلم أن
هذه البدعة لم تظهر إلا في القرون المتأخرة.. فلم يحتفل بها جيل الصحابة ولا
القرون المفضلة بعدهم ولسنا بأكثر حباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - منهم
ولا شك. ولو كان هؤلاء يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يزعمون
لوقفوا عند قوله عن أعياد الجاهلية: " قد أبدلكم الله - تعالى - بهما خيراً منهما يوم
الفطروالأضحى " (رواه النسائي وابن حبان بإسناد صحيح) لم يقل عيد مولدي..
ولا عيد الاستقلال.. ولا عيد العمال.. ولا عيد الثورة.. ولا عيد الشجرة.. ولا.. ولا.. الخ.
إنها دعوة لأبناء المسلمين أن يرفضوا كل ما هو دخيل على دينهم وعقيدتهم
الصحيحة.. وأن يعلموا أن للبدع شؤماً تنعكس آثاره على الأفراد والمجتمعات كما
هو واقع في مجتمعات الحضارة المعاصرة.. والسعيد مَن اتعظ بغيره.
__________
(1) تحفظ على هذه التسمية سنشير إليه فيما بعد.
(2) راجع (البيان) ، عدد [2] ؛ للاطلاع على إحصائيات بهذا الخصوص.
(3) العقوق المذكور هنا لا يعني إعراض الابن عن خدمة والديه - فهذا من معطيات الحياة الاجتماعية في الغرب - بل المقصود ترك زيارتهما أو مكاتبتهما ولو مرة كل سنة.(4/98)
بأقلام القراء
مرحباً بهذا البيان
نقل إليَّ أخ كريم العدد الأول من مجلة (البيان) وكم كان سروري بها عظيماً، وفرحتي بها غالية، فنحمد الله - تعالى - على أن وفق ال قائمين عليها إلى إصدارها، ونسأله أن يهب لهم التوفيق والنجاح، وإن العدد الأول من ... (البيان) يبشر بخير كثير، ففيه الرصانة والجدية والموضوعية في معالجة ... الأحداث، والدراسات التأصيلية التي حفلت بها.
ونريد من (البيان) وهي في بداية الطريق:
1- أن تكون - كما قالت عن نفسها -: (مجلة كل مسلم، مهما كان لونه أو جنسه، وأياً كان موقعه) ، بلسان أهل السنة تنطق وإلى طريقهم تدعو، ... تطرح الحزبية البغيضة، التي جعلت المسلمين محاور متنافرة، وكتلاً متناحرة، همَّ أحدهم أن يضع العواثير والعوائق في طريق الآخر، فلاحول ولا قوة إلا ... بالله.
2- أن تتجنب ذكر الأشخاص بأعيانهم، ما لم تدعُ إلى ذلك ضرورة، وفيما
عدا ذلك أن تبتعد عن أسلوب التجريح الذي لا يزيد نار الفرقة إلا اشتعالاً، ولهيب
العداوة إلا استعاراً.
3- نريد منها أن تجمع المسلمين حول راية السنة، وحول منهج أهل السنة،
وذلك بعرض هذا المنهج في صورته الصحيحة، ونبذ ما سواه من المناهج
المنحرفة، وكشف عوارها، وبيان زيفها وبطلانها، وهذا يقتضي ألا يكون بين
كُتابها إلا من يحمل هذا المنهج عن قناعة، ويذب عنه، ويحسن عرضه، وهي مع
هذا مطالَبة بأن تسمع الرأي الآخر، مهما كان مخالفاً، وتناقشه، فإن كان حقاً
قبلته، وإن كان غير ذلك بينته.
4 - نريد منها - في حدود قدرتها - أن تكشف عن أوضاع المسلمين كل
المسلمين، في بلادهم، وتستقصي أخبارهم، وتنصر قضاياهم بالحق لا بالباطل.
5- نريد منها أن تقدم حسن الظن بالمسلمين، حتى يظهر منهم ما لا يُستراب
فيه، وفيما عدا ذلك فالتماس العذر للمسلم حق، في غير مداهنة ولاتحيز. ...
6- وأخيراً نريد منها إخلاص القصد لله - تعالى - وصدق المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وفق الله القائمين عليها إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة.. آمين.
أبو عبد الرحمن صالح بن علي بن الكناني
(البيان)
نشكر الأخ أبا عبد الرحمن صالح بن علي بن الكناني على عواطفه الطيبة
نحو (البيان) ، ونرحب به كاتباً من كُتاب المجلة؛ فأسلوبه في الرسالة يدل على
أن لديه قدرات ومواهب، وهذا موضعها المناسب إن شاء الله.
ونسأل الله - يا أخي! - أن يساعدنا على الالتزام بما قلناه في العدد الأول
(كلمة في المنهج) ، وبما يريده الأخ ويطلبه منا في رسالته القيمة.(4/109)
الأخ الكريم مدير تحرير مجلة " البيان "
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كم سررت عندما اطلعت على العدد الأول من هذه المجلة الغراء.. وكم
طربت لمقدمتها التي تبين فيها منهاجها، وخاتمتها التي تطالب فيها جميع المسلمين
- بلا تفريق بينهم - بالمشاركة في المجلة، وتفتح أبوابها للجميع، وهي نغمة
جديدة لم نتعود سماعها، ولذلك فكلنا أمل أن تستمر هذه المجلة على هذا الطريق،
وأن تلقى من المسلمين المحل الذي تستحقه..
كان خير مقالات المجلة - في نظري - الرسالة المفتوحة إلى المجاهدين
الأفغان، وآمل أن تكثر هذه النوعية من المقالات..
هنالك ملاحظات لابد منها - وإن كان ذلك لا يقلل من قيمة المجلة - خاصة
وأن المجلة في بدايتها الأولى، فالأولى والأحرى أن نشدد عليها الآن؛ كي يستقيم
عودها وتشق طريقها على أحسن وجه:
1- المجلة - فيما يظهر - مترددة بين أن تكون مجلة مقالية، يطالع فيها
القارئ وجهات نظر شخصية لكاتبيها، أو أبحاثاً متخصصة تتميز بالطابع العلمي،
ولا تمس الواقع المعاصر - أعني الأحداث السياسية الجارية - هذه وجهة..
والأخرى أن تكون مجلة خفيفة تعالج مشاكل المسلمين دون أن تتوجه نحو البحث
العميق، وتنشر الأبحاث القصيرة.. من مثل: الرسالة المفتوحة أو موضوع
المجاعة.. والذي أراه أن كلا الجانبين مهم، لكن لكل النوعين قراؤه الراغبون فيه، والذي أخشاه أن يعرض عنها الأكاديميون العلميون؛ لأنها صحيفة المقالة الخفيفة، وأن يعرض عنها كذلك عامة الناس؛ لأنها جافة تتحدث بمنطق علمي لا صلة له
بالواقع.
2 - ذكر أن المجلة تصدر كل شهرين مؤقتاً، والذي نرجوه أن تصدر كل
أسبوع في أقرب فرصة - بإذن الله - فإن حاجة الساحة الإسلامية لمثل هذا العمل
شديدة جداً.
3 - إخراج المجلة لم يعطَ من العناية ما يستحق.. فإن في الساحة مجلات
سياسية لها طابعها في الإخراج، وفيها أيضاً مجلات علمية لها أيضاً طابعها المميز.. والمجلة لم تسلك هذا الطريق أو ذاك بل ظهرت أشبه بكتاب دوري! !
4 - من مظاهر عدم العناية بالإخراج نوعية الحرف المستخدم في الطباعة..
فقد استخدم حرف كبير، بحيث يستهلك المقال القصير العديد من الصفحات.. وذلك - في نظري - عيب لا شك فيه، فالذي أراه أن يعاد النظر تماماً في الإخراج وأن تخرج بطريقة تشبه - مثلاً - الكثير من المجلات الثقافية المشهورة (العربي أو غيرها) ، كما أرى أن يزداد من عدد صفحات المجلة وأبوابها، ويزداد من تنوع المواضيع وطريقة صياغتها.. مع استخدام العناوين الجانبية، والتنسيق بالكلمات ذات البنط العريض.. إلخ، ويستعان في ذلك بالأشكال والزخارف التي تزيد من وضوح الفكرة، وتزيل السأم عن القارئ، مع عدم مخالفتها للشرع حسب اجتهادكم.
5 - عنوان المقال في كثير من الأحوال يدفع الناس لقراءته أو لعدم قراءته..
ولقد كانت عناوين مقالات العدد الأول ذات طابع تقليدي غير مشوق، وأرجو
أن لا يغضبكم هذا، فإنما هي النصيحة، فعناوين مثل: الإرجاء، مفهوم الحرية،
والبلاغة والبيان ... إلخ، ليس لها وقع في النفوس، مثل وقع: قضايا معاصرة،
مع القراء، المنتدى الأدبي، لكل مشكلة حل.. إلخ.. ثم وضع هذه العناوين على
شكل (فهرس) في صفحة كاملة في مدخل المجلة، كل ذلك من الأشياء التي لا
تعطي انطباعاً بالتشويق والتجديد..
وختاماً - إخوتي الأحبة! - ليست هذه الكلمات تثبيطاً لكم، ولا هي استهانة
بجهودكم، ولا استخفافاً بقيمة عملكم.. كلا.. كلا، لكنها كلمات المحب المخلص
الغيور، الذي يطمع أن يرتقي بالجهود إلى القمة المنشودة.
ومَن يتهيب صعود الجبال ... يَعِشْ أبد الدهر بين الحُفَر!
أخوكم عبد العزيز الخليفة
البيان:
جزى الله الأخ عبد العزيز الخليفة كل خير على ما جاء في رسالته الكريمة،
ونؤكد للأخ بأن المجلة ليست مترددة بين نوعين من المقالات، وقد درست هذه
الأمور بعناية قبل إصدار المجلة، والحرف الذي استُخدم في الكتابة ليس كبيراً كما
وصفه الأخ.. وبقية نصائحك وملاحظاتك سوف تكون موضع اهتمامنا، ونحن لا
نستغني عن مشاركتك ومشاركة كل مخلص قادر على الكتابة، والمجلة مجلتك -
ياأخى! - لأن أهدافنا واحدة والحمد لله.(4/110)
أليس عجيباً؟ !
أليس عجيباً: أن نهدر الساعات الكثيرة في الثرثرة غير المجدية، وأحياناً في
الغيبة المحرمة ثم نمنّ بعد ذلك على الله - تعالى - بسُويعات ندعو فيها الله - تعالى - نعوذ بالله أن نكون ممن قال فيهم: [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ
إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [الحجرات: 17] .
أليس عجيباً: أن نهدر الأموال الكثيرة في سفاسف لا نحتاج إليها، أو أن
حاجتنا إليه قليلة، حتى إذا جاء الإنفاق في سبيل الله بَخِلْنا [هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ]
[محمد: 38] .
أليس عجيباً: أن يدَّعي المرء حب الله ورسوله ثم يتردد كثيراً في التضحية
في سبيله وإن فعل ذلك فعله وهو متذمر متألم، يود لو يتخلى عن ذلك فوراً! [قُلْ
إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] [آل عمران: 31] .
أليس عجيباً: أن يدَّعي المرء الخوف من الله - تعالى -، وهو يوافيه
بالمعاصي ليل نهار، ولا يتردد لحظة واحدة في التكاسل عن القيام بحق الله تعالى
في كل مجالات الحياة! .
أليس عجيباً: أن تقلِّب أشرطة الشباب المسلم فلا ترى إلا أشرطة رديئة أو
رتيبة، وأشرطة العلماء تئن تحت طبقات الغبار لا تجد من يشتريها!
أليس عجيباً: أن تقلب كتب الشباب المسلم - الدعاة! ! -فلا تجد فيها إلا
حكم التدخين؟ ! وأدعية الصباح والمساء؟ ! ومواعظ من النوع الذي يوزع مجاناً!!، ... والمطابع تقذف باستمرار بآلاف الكتب وفيها الكثير الطيب الذي يستحق
القراءة.
عبد العزيز محمد الحويطان(4/112)
رحلة طويلة
لم يخفَ على رموز الجاهلية ما انطوت عليه الدعوة الجديدة التي قام بها محمد
ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا فقد جندت كل قواها لصد هذه الدعوة واتخذت
كل الطرق للنيل منها ومن صاحبها.
وأصبح الانضمام إلى معسكر الإيمان جد الجد، لا يتقدم إليه إلا مَن هانت
عليه نفسه في سبيل هذه الدعوة. وأقبل فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب
ولا تستهويهم الجِدة، أقبلوا على هذا الدين، وآمنوا برب واحد، وكفروا بغيره
وارتضوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلماً وهادياً. ونالوا من الأذى ما
تعجز عنه الأبدان، وصبروا على ما أصابهم وكيف لا يصبرون وقدوتهم -صلى
الله عليه وسلم- يدلق على ظهره سلا الجَزور، ويسمع من طواغيت قريش أفحش
الكلام.
وهو - في أثناء ذلك - يربي أصحابه التربية الإيمانية التي تؤسس العقيدة
على أرض صلبة لا تجرفها السيول، ولا تحتملها الرياح والأنواء. كان - عليه
الصلاة والسلام - يربى فيهم الحماسة لهذه العقيدة، والتضحية لهذا الدين، ولما
أكثروا عليه قال: (قد كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على ... مفرق رأسه فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما يرده ذلك عن دينه) .. أو كما قال.
لقد رضعوا حب الحرب والقتال وكأنهم وُلدوا مع السيف، ولعبوا مع الرماح، وكان من أيامهم داحس والغبراء والبسوس، وما يوم الفجار ... منهم ببعيد. فكيف يصبرون على الأذى والظلم وهم على الحق؟ ! وكلما شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة، ولم نؤمر بقتال، كان ينمي فيهم روح التلقي من الله - عز وجل - وحده،
فلا قتال؛ لأن الله لم يأمرنا بالقتال ولكن أمرنا بالصلاة التي هي تربية
روحية تعمق العلاقة بين العبد وخالقه.
حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم
ولم يبق في قلوبهم إلا الامتثال التام لأوامر الله - عز وجل - أمرهم الرسول -
صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة، واستكمل بناء التربية الإيمانية،
وتمثلت الأخوة على أساس العقيدة في أروع صورها بين المهاجرين والأنصار،
وأصبح للمسلمين دولة، وللإسلام صولة واستطاع هؤلاء الفتية - الذين رباهم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عينه - أن يدمروا في غضون 30 سنة
طواغيت الكفر، لا في مكة أو الجزيرة العربية فحسب وإنما في كل بقعة وصلتها
أقدامهم وهم يرددون القولة الخالدة: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله
وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا
والآخرة.
إنها حقًا رحلة طويلة تلك التي خاضها فتية مكة من الجاهلية إلى الإسلام،
طويلة كبعد الجاهلية عن الإسلام.
إبراهيم الهزاع - مانشستر(4/113)
شعبان - 1407هـ
أبريل - 1987م
(السنة: 1)(5/)
الافتتاحية
انجُ سعد، فقد هلك سُعَيْد..!
الذل: الهوان الذي يلحق الفرد أو الجماعة، ونقيضه العز. وإذا أردنا أن
نحلل هذا ونبحث عن أسبابه وطبيعته، نجد - أولاً - أنه حالة نفسية تعتري الفرد
نتيجة لعوامل متعددة تحيط به.
فمن طبع النفس الإنسانية حب الحياة، والتشبث بها، والإخلاد إلى نعيمها،
والركون إلى شهواتها.
ومن طبعها أيضاً أن تعيش لهدفٍ سامٍ، تعمل على تحقيقه، ولا تبالي
المصاعب التي تعترضها من أجل ذلك. وعند هذا المفترق يتمايز الناس، فمنهم
من يفضل أن يهين جسمه، ويتحمل المصاعب، ولو أدى به ذلك إلى الحرمان من
الحياة أو الحرية، في سبيل أن تبقى القضية - التي نذر لها نفسه - حية، ومنهم
من يؤثر السلامة، وتغلبه ضرورات الحياة، ولو أدى به ذلك أن تداس كرامته،
وتسحق تطلعاته، في سبيل أن يبقى على قيد الحياة، متمتعاً بمستوى معيشي معين.
فهاهنا موقفان، كل منهما يعبر عن فهم خاص للحياة، ويتخذ الموقف الملائم
الذي يتفق وهذا الفهم، وقد عبر المتنبي عن هذا المعنى بقوله:
أرى كلَّنا يبغي الحياةَ لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
فحبُّ الجبانِ النفس أورثه التقى [1] ... وحب الشجاع النفسَ أورثه الحربا
وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة: هل الذل موروث أم مكتسب؟
والذي نميل إليه هو أن هذا الخلق - كغيره من الأخلاق - مكتسب عن طريق
التربية التي تأتي انعكاساً للظروف الخارجية المحيطة بالإنسان. فإذا استمر هذا
الخلق، يلقنه جيل سابق لجيل لاحق أصبح وكأنه طبع موروث لا حيلة للفكاك منه.
فالذل الاجتماعي - ونعني به: الذل الذي يصيب جماعات وشعوباً، ويصبح
ظاهرة مرئية محسوسة - ينتج عن تراكم حالات فردية تنتهج نهجاً ذليلاً في حياتها، ومن خلال اعتيادها لهذا النمط من العيش؛ يصبح الذل وكأنه سمة بارزة تشتهر
بها، وذلك عندما تفتقد المثل الأعلى، والفكرة السامية، والعقيدة الدافعة، التي
تتجمع حولها، ويشعرها ذلك التجمع بسوء الحال الذي تردت فيه، فيبعث فيها
روح التمرد على هذه الحال، لتنشط من عقالها، وتنتفض من الموت الذي خُيِّل
إليها - في فترة - أنه حياة، وما هو -عند التحقيق - إلا حياة خالية من المعنى،
ونعني به: الحياة في ظل الذل والاستكانة.
إن لله سنناً لا تتخلف، تجري على الأفراد كما تجري على المجتمعات،
وعلى ضوء هذه السنن يمكننا فهم كثير من الحقائق التاريخية التي تكتنف الشعوب
والأمم في مسيرتها [2] ، ومن هذه السنن أن الله تعالى - أحياناً كثيرة - يعاقب
الناس ويبتليهم مقابل ذنوبهم جزاء ما فرَّطوا، فيضرب عليهم الذل والسكينة،
ويسلط عليهم ما لم يكونوا يتوقعون، كل ذلك من أجل أن يرجعوا عن غِّيهم ويثوبوا
إلى رشدهم، ويتخلوا عن التقصير، بعد أن ركنوا إلى الأرض واستحبوا القريب
العاجل على الخير الآجل.
عوامل الذل:
ما الذي يجعل شخصاً ما، أو شعباً من الشعوب، ذليلاً؛ خاضعاً، مكسور
الشوكة، مهيض الجناح؟ لا شك أن وراء ذلك سبباً، أو أسباباً أدت إليه.
أما الأسباب الذاتية: فهي قابلية وأهلية للخضوع، تكبر مع الزمن، في ظل غلبة الشهوات والانقياد إلى حب الدنيا وما بها من متاع زائل.
إن الأمة عندما تصبح الشهوات فيها هي المتحكمة، وتجعل هدفاً رئيسياً لها:
(تحقيق الرفاه المادي) ، بأي شكل تحقق هذا الرفاه؛ تكون قد دخلت طور الانهيار
والاضمحلال من بابه الواسع. قد تعيش سنوات - تطول أو تقصر - في ظل هذا
العبث، وقد يزدهر اقتصادها ويتضخم إنتاجها، ويخدعها كل ذلك عن النهاية
المحتومة التي ستصير إليها يوماً ما، ولكن ريحها ستذهب، ودولتها ستدول لا
محالة، بل إن الأمة التي تفشو فيها مثل هذه المفاهيم تصبح ألعوبة لفئة قليلة تميل
بها ذات اليمين وذات الشمال، وقد وصف الله تعالى في كتابه العزيز هذه الحالة،
ممثلة في قوم فرعون فقال، عز وجل: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
فَاسِقِينَ] [سورة الزخرف 54] .
فأي طاغية لا يبسط سيطرته على الجماهير إلا بعد أن تسقط هذه الجماهير
صرعى الشهوات والمطامع، وتتمرغ في أوحال الفسق والبعد عن الحق، وعدم
الالتفات إلى هدي الله والتمسك بحبله، وتستبدل ميزان الهوى بميزان الإيمان، أما
المؤمنون الذين يبصرون الحقائق بنور الهداية، ويَزِنون لأمور بميزان الإيمان،
فمن الصعب -إن لم يكن من المستحيل - الاستخفاف بهم، وتوجيههم الوجهة التي
تجعلهم (غشاء كغشاء السيل) .
وأما الأسباب الخارجية: فلها ارتباط قوي بالأسباب الذاتية، ارتباط النتيجة،
بالسبب.
فعندما تغفل الأمة عن مقومات وجودها، يسطو على قيادتها نفر لا يحملون
إلا الأهلية التي يتمتع بها الغاصب المتغلب، ولا يمتازون إلا بما يمتاز به قطاع
الطرق، من الجرأة على سفك الدماء، وعند ذلك تكمل الدائرة، وتتواصل حلقات
السلسلة التي يجد الأفراد والأمة أنفسهم محاطين بها، وبعد أن كانت حالة الذل
الأولى مجرد قابلية، يصبح الواقع الجديد للأمة مدرسة منظمة لهذا الخلق الذميم،
فكل الجهود الجماعية للأمة تصبح موجهة لتغرس مفهوم الذل في النفوس.
فالقوانين، التي تشرع، والعادات التي تشجع، والثقافة التي تسود،
والأجهزة والقنوات الإعلامية التي ينفق عليها من كدح الأمة وعرقها، كل ذلك
يسير في اتجاه واحد هو تثبيت معاني الذل والخنوع، وتجريد الأفراد من كل معاني
عزة النفس والعفة، وضرب وتشويه كل خلق يشير إلى تماسك الشخصية، والبعد
بها عن كل مواطن الطهارة النفسية والجسدية، والعمل، ليل نهار، من أجل اقتلاع
أخلاق راسخة حفظت للأمة كيانها، وأمسكت عليها وجودها مميزاً، وذلك بالتشكيك
تارة، وبالسخرية من هذه الأخلاق تارة أخرى، وبالجرأة الوقحة التي يُغالي في
الإنفاق عليها، وإغداق المال والجوائز والألقاب على من يتولون كِبْرَها، في الوقت
الذي تهدر فيه الكرامات، وتداس فيه الحريات، وتكمُّ فيه أفواه الحق، وتطلق فيه
ألسنة الباطل، وتنقبض فيه الأيدي عن البذل في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
وإذا بقيت - بعد كل هذا - بقية لم يؤثر فيها هذا الإلحاح المتواصل على
(غسل مخها) والتخلي عما تعتقده وتراه، ووقفت - ما أمكنها ذلك - صابرة مرابطة
محتسبة؛ فهناك علاج من نوع آخر لمن لا تؤثر فيه هذه المؤثرات، حيث يؤخذ
بالشدة والعنف، ويحارب في رزقه، وحريته، وسمعته.
فمن الأمور التي عملت على تعميق الذل و (تسويقه) وانتشاره على أوسع
مساحة من الناس، ما يرونه من البطش والجبروت في استخدام الأسلحة المتطورة، إن كل من تسوِّل له نفسه أن يفكر - ولو بصمت - بطريقة تخالف منطق
الاستبداد والقهر، فضلاً عن استخدام حقه في التفكير عالياً؛ والتعبير عما يبدو له
بشكل يتعارض ونية قاهريه، سيجد أمامه - أنّى التفت، وحيثما توجه -لافتة
مكتوباً عليها: (انج سعد، فقد هلك سُعيد) [3] .
إن ذل الأمم مقدمة لظهور الفساد بشتى صنوفه وألوانه، وإن ما يصيبها من
الظلم، وما تُرمى به من صنوف البلاء: كالفقر، وانعدام الأمن، وهدر الحقوق،
وتسلط الرعاع والسِّفْلة، و ... كل ذلك ليس إلا ابتلاء من الله، وعقوبة منه على
التفريط، وحب الدنيا، ونسيان الآخرة، وصدق الله العظيم إذ يقول: [ظَهَرَ
الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ] (الروم 41) .
وكم بين واقع الأمة الإسلامية اليوم، والواقع الذي أوصى فيه أبو بكر -
رضي الله عنه - خالد بن الوليد، غداة مسيره لمحاربة المرتدين: (احرص على
الموت توهب لك الحياة) ، فكانت حياة خالد وجنده من الصحابة الكرام ترجمة عملية لهذه الوصية، مما جعله يقول لهرقل، قبيل معركة اليرموك: (.. لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحب -أنت - الحياة) .
لقد مرت على المسلمين فترات مظلمة - كهذه الفترة أو أشد - مستهم فيها
البأساء والضراء وزلزلوا، فحينما اجتاح التتار العالم الإسلامي، ضج السهل
والجبل من كثرة ما أريق من دماء المسلمين، وأشفق المؤرخون من هول ذكره،
وبلغ الذل بالناس إلى الحد الذي جعل الجندي الأعزل، من المغول، يأمر الرجل،
فيضع خده وعنقه على الأرض، ثم يأمره أن يظل على هذه الحال، بلا حراك،
ومن غير ما حارس يحرسه، حتى يذهب هذا ويحضر سلاحاً يحتز به رقبته! ! .
وفي كل مرة زحف - ويزحف - فيها التتار والمغول وأشباههم؛ يعملون
على قذف الرعب، واستلال روح المقاومة من النفوس، ولم يوقف زحف المغول
الأصفر إلا هتاف: (وا إسلاماه) ، الذي تردد مرة في بطاح عين جالوت.
ولن يوقف المغول والتتار، ومن في حكمهم، إلا مثل هذا الهتاف: ... (واإسلاماه) .
__________
(1) التقى هنا: الخوف مطلقاً.
(2) راجع سلسلة مقالات: معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي في هذه المجلة: (البيان) للأستاذ محمد العبدة.
(3) هذا مثل، يقال في معرض التحذير والتخويف، وقد استشهد به زياد بن أبيه في خطبته المشهورة التي تدعى: (البتراء) ، انظر لذلك البيان والتبيين للجاحظ 2/61.(5/4)
التجديد في الإسلام
(5)
الإمام أحمد بن حنبل
(ناصر السنة)
كان آخر القرن الثاني وأول القرن الثالث من فترات الاضطراب الفكري،
التي تركت آثاراً ضخمة في الحياة الإسلامية.
فقد كان لنشوء البدع - المتقدم على هذه المرحلة - ثم ترجمة الكتب الفلسفية
واشتغال المسلمين بها وحث الخلفاء الناس على تعريبها، حيث وجد أهل البدع فيها
سنداً لهم، فأصّلوا مذاهبهم على ضوئها، وتوسعوا بشكل سافر في إدخال النظريات
الفلسفية إلى صميم العقيدة الإسلامية، أن صار ذلك العصر هو عصر النضج
واكتمال بناء المذهب بالنسبة للمعتزلة، وفيه برز عدد كبير من فلاسفتهم ومنظري
مذهبهم كأبي الهذيل العلاّف - شيخ المأمون وأستاذه -، وإبراهيم بن سيّار النظام،
ومعمر بن عباد السلمي، وبشر بن المعتمر وغيرهم.
وقد علا شأن الرافضة - لما بينهم وبين المعتزلة من الأواصر العقدية -
وبدءوا يجهرون بآرائهم في الإمامة والولاية والرجعة وغيرها.
وفي وسط هذا المناخ المضطرب نشأت كثير من الحركات السرية الإلحادية
والتي عرفت بحركات الزنادقة، وكان يقف خلفها الباطنيون المتربصون بالإسلام.
وبالجملة فلقد كان ذلك العصر هو الذي وصفه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- بقوله في الحديث: (ثم ينشد الكذب) [1] .
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في وصف ذلك العصر: (وفي هذا الوقت
ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها،
وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً، ولم يزل
الأمر في نقصٍ إلى الآن، وظهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ثم ينشد الكذب)
ظهورا بيناً، حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان) [2] .
وكان الخلفاء أنفسهم - ولأول مرة في الإسلام - يعتقدون البدع ويعلنونها
فكان المأمون موافقاً للمعتزلة في معظم عقائدهم، وكان إلى ذلك مرجئاً، وجاء من
بعده: المعتصم، فالواثق، فكانا على نهجه.
وقد عمل المأمون بعد ولايته على نصر مذهب المعتزلة، فقرب رؤوسه
كأحمد بن أبي دؤاد، وعقد مجال المناظرة بين المعتزلة وخصومهم من أهل السنة،
فلما لم تجد شيئاً بدأ بالتضييق على الناس وإلزامهم بالقول بخلق القرآن ونفي الرؤية، حتى أصبح القول بذلك شرطاً عنده لتولي المناصب بما فيها القضاء!
وحين كان بالرقة استطاع وزراؤه المعتزلة أن يقنعوه بحمل الناس على
المذهب بالقوة، فكتب إلى واليه على بغداد بجمع العلماء وامتحانهم في مسألة خلق
القرآن وحمل من يرفض هذه العقيدة مقيداً مصفداً إلى المأمون.
فأجاب العلماء أجوبة تتراوح بين التقية وحسن التخلص إلا أربعة أصّروا
على عقيدة أهل السنة والمجاهرة بها، وهم: القواريري، وسجادة، ومحمد بن
نوح، والإمام أحمد.
ثم أجاب الأوّلان تحت ضغط التعذيب والإرهاب، وحمل الآخران إلى
المأمون مكبَّلين بالقيود، فتوفي محمد بن نوح في الطريق، وبقي الإمام أحمد وحده
في الطريق!
ثم مات المأمون، فرد أحمد إلى بغداد، وأخذت الفتنة مدى أوسع في عهد
المعتصم، حيث سجن الإمام أحمد مقيداً نحواً من ثلاثين شهراً، وكان يصلي وينام
والقيد في رجله!
وفي كل يوم كان ينفذ إليه المعتصم من يناظره ويهدده إن لم يجب بأشد مما
هو عليه، ثم يزاد في قيوده، وقد جهد المعتصم في التأثير على موقف الإمام
بالملاينة والعطف وإظهار الفضل، والترغيب والوعد.. فكانت كلمة الإمام واحدة
لا تتغير. حتى إذا استفرغوا وسعهم أضمروا الشدة والقسوة، وشعر الإمام بذلك
فكان يشد عليه سراويله وينتظر الضرب، فيأتي المعتصم يناظره ويناظرونه، حتى
يثور غضبه فيشتم الإمام ويأمر بسحبه وتخليعه، وظلوا على هذه الحال يأتي
الجلادون بالسياط الغليظة فيردها المعتصم. ليطلب أغلظ منها ويأخذ الجلادون
دورهم فيضربه كل واحد منهم سوطين، والمعتصم يحرضهم وهو واقف على
رؤوسهم حتى أغمي على الإمام أحمد، فلما أفاق جاؤوا إليه بسويق، فقال: لا
أفطر! وصلى - رحمه الله - والدماء تسيل في ثوبه.
قال الإمام أحمد: ذهب عقلي مراراً، فكان إذا رفع عني الضرب رجعت إليَّ
نفسي، وإن استرخيت وسقطت رفع عني الضرب.
وقال أحد الجلادين: لقد ضربت أحمد ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهدته.
وكان الإمام أحمد ينتظر الشهادة في سبيل الله، فحين نخسه أحد الحراس
بسيفه فرح وقال: جاء الفرج، يضرب عنقي وأستريح، فقال ابن سماعة [3] : يا
أمير المؤمنين: اضرب عنقه ودمه في رقبتي، فقال ابن أبي دؤاد: لا يا أمير
المؤمنين، إن قتل أو مات في دارك قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذوه إماماً،
وثبتوا على ما هم عليه ولكن أطلقه الساعة فإن مات خارجاً عن منزلك شكّ الناس
في أمره.
فأخرج الإمام أحمد وفي كل موضع منه جراحة حتى إن أحداً لمّا هم بمساعدته
على النزول من الدّابة وقعت يده على بعض تلك الجراحة وهو لا يشعر فصاح
الإمام أحمد فنحى يده عنه. وجاءه بالطبيب فكان يدخل الميل في بعض الجراحات، وكان يأتي بالحديدة فيعلق بها بعض لحمه ليقطعه بالسكين وأحمد صابر يحمد الله.
ولما مات المعتصم وولي الواثق فرض الإقامة الجبرية على الإمام أحمد، فلا
يخرج حتى للصلاة، ولا يجتمع إليه أحد، حتى هلك الواثق، ثم جاء بعده المتوكل، فرفع المحنة، ونصر السنة، وقرّب أهلها.
لقد كان انتصار الإمام في تلك المحنة الرهيبة القاسية انتصاراً للتيار الأثري
الملتزم بما كان عليه سلف هذه الأمة في جميع نواحي الاعتقاد، وليس في مسألة
القرآن فحسب، فثبت الناس على ما هم عليه بفضل الله، ثم بفضل وجود القيادة
التي تتحطم عندها أمواج البدعة، وهذا كان رد الإمام أحمد على المروزي حين
طلب منه التقية فقال له: اخرج فانظر! قال: فخرجت فرأيت خلقاً لا يحصيهم إلا
الله تعالى، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، فقال لهم: أي شيءٍ تعملون؟
قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه!
يقول الشيخ أحمد شاكر تعليقاً على موقف الإمام أحمد:
(أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى
ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة
لضل الناس من ورائهم؛ يقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية، وقد أُتي المسلمون
من ضعف علمائهم في مواقف الحق.. لا يجاملون الملوك والحكام فقط! بل
يجاملون كل من طلبوا منه نفعاً أو خافوا ضرّاً في الحقير والجليل من أمر الدنيا..، ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين: (كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية
كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: [إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ، ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك..) [4] .
لقد صار الإمام أحمد علماً شامخاً يقتدى به ويقتفى أثره، وارتبط به مذهب
أهل السنة أيما ارتباط حتى ليقال: عقيدة الإمام أبي عبد الله، ولا شك أن جماهير
العلماء والأئمة في زمنه كانوا على ذات العقيدة، ولكنها عرفت به لما بذل في
سبيلها وتحمّل من أجل إقرارها. قال بعض العلماء عشية دفن أحمد: (دفنا اليوم
سادس خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد
بن حنبل [5] ) .
وقيل لآخر: لو تكلمت يوم ضُرب أحمد؟ ! قال: أتأمروني أن أقوم مقام
الأنبياء؟ [6] . وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد وبذل نفسه لما بذلها له لذهب
الإسلام [7] . وقال الحارث بن عباس: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحداً يحفظ
على هذه الأمة أمر دينها؟ قال: لا أعلمه إلا شابٌ في ناحية المشرق، يعني أحمد
بن حنبل [8] . وقال علي بن المديني: إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق
يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال أبو حاتم: إذا رأيت الرجل يحبُ
أحمد فاعلم أنه صاحب سنة [9] .
ولقد مر زمان والإمام أحمد أعزل من كل شيء، وحيد فريد، لا يجلس إليه
أحد، ولا يعضده في موقفه أحد.. وكان لأعدائه الجاه والسلطان والدولة، فكان
يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز! . فلم تمض أويقات قليلة حتى علا
شأنه، رحمه الله، وذاع صيته، وانتشر مذهبه، وعظم قدره، حتى تضايق هو
من ذلك، وتمنى الموت لكراهيته للشهرة وحبِّه للخمول. أما في الموت فإن أقل ما
حرزت به جنازته سبعمائة ألف إنسان! .
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (وقد صدق الله قول أحمد في هذا؛ فإنه
كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه، أحمد بن أبي دؤاد وهو قاض من قضاة
الدنيا لم يحتفل أحدٌ بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان
السلطان، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته
نفسه في خطواته وحركاته لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس، وكذلك بشر
بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جداً، فلله الأمر من قبل ومن
بعد) [10] .
ولم يكن هذا هو الجانب الوحيد الذي قاد فيه الإمام أحمد معسكر أهل السنة
فخرج ظافراً منصوراً، بل إن ثمة جوانب أخرى كثيرة نشير إشارة سريعة إلى
واحدٍ منها ألا وهو وقوفه - رحمه الله - في وجه طغيان المادة، وسريان روح
الترف القاتل في أوساط المسلمين.
فقد كان في نفسه - رحمه الله - مثلاً أعلى في الزهد والورع والتعفف
والإعراض عن زخارف الدنيا ومباهجها، ولقد رفض أموال السلاطين، ولم يقبل
عطايا المتوكل، كما فرض على بنيه وقرابته عدم أخذ شيءٍ من ذلك، فكان
المتوكل يصلهم سراً! وله في الزهد والورع حكايات عجيبة عجيبة، ولا ندري
والله ما نأخذ منها وما ندع، فليراجعها من شاء في مظانّها؛ فهي مما يحرك في
النفس عزيمة الاقتداء.
ولقد صنف - رحمه الله -في ذلك كتابي: (الزهد) و (الورع) .
وإن كنّا من وراء هذه المفاوز البعيدة نقراً سيرته فنتطلع إلى الإقتداء والاتباع
والاهتداء، فما بالك بالناس في عصره وهم يرون بأعينهم - على الدوام - ما
نسمعه نحن سماعاً، فلا يكاد يستقر في الأفهام؛ بل ما بالك بتلاميذه وأقرانه وأبنائه
وجيرانه..
أيّ روحٍ يشيعه وجود مثل هذا الصديق بينهم؟ [11] .
(يتبع)
__________
(1) سبق تخريج الحديث من حيث أصله، وهذه الرواية عند ابن ماجه.
(2) فتح الباري، ج 7، ص 6.
(3) ابن سماعة هذا كان صلى مرة بالإمام أحمد في السجن والدم يسيل من جسده! فقال له: صليت والدم يسيل من ثوبك! فقال أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً! .
(4) مقدمة المسند، ج 1، ص 98 (هامش) .
(5) حلية الأولياء لأبي نعيم، ج 9، ص 166، دار الكتاب العربي.
(6) الحلية، ج 9، ص 170.
(7) أيضاً، ص 171.
(8) ترجمه الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام (مقدمة المسند) ج 1، ص 65.
(9) تقدمة الجرح والتعديل، ج 1، ص 308، دار الكتب العلمية.
(10) البداية والنهاية، ج 10، ص387، ط مكتبة الأصمعي بالرياض.
(11) انظر ترجمة الإمام أحمد في: تقدمة الجرح والتعديل، ج1، ص 292 314، وحلية الأولياء
ج9، ص 161 234، ومقدمة المسند، ج1، ص 58 133، وفى آخره ذكر مصادر أخرى
للترجمة، وهى مهمة فلنراجع.(5/9)
القضاء والقدر ومسئولية الإنسان
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله
الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ
الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: في هذه المقالة سنبحث في أمر مهم، يهم جميع المسلمين، ألا وهو: قضاء الله وقدره، الذي ما زال النزاع فيه بين الأمة قديماً وحديثاً، فقد روي: أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر
فنهاهم عن ذلك وأخبر أنه إنما أهلك من كان قبلهم هذا الجدال.
ولكن فتح الله تعالى على عباده المؤمنين - السلف الصالح - الذين سلكوا
طريق العدل فيما علموا وفيما قالوا، وذلك أن قضاء الله وقدره هو من مقتضى
ربوبيته تبارك وتعالى التي هي أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم ألا
وهى:
توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
وتوحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
وتوحيد الأسماء والصفات: وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته.
فالإيمان بالقدر من مقتضى ربوبية الله عز وجل، ولهذا قال الإمام أحمد:
القدر قدرة الله، لأنه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضاً سر الله تعالى
المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وبحمده؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في
الكتاب المكنون الذي لا يطلع عليه أحد، ونحن لا نعلم بما قدره الله تعالى لنا أو
علينا، أو بما قدره في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه.
إن فرق الأمة - هذه الأمة الإسلامية - انقسموا في القدر إلى ثلاثة أقسام:
فقسم غالوا في إثباته وسلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إن العبد ليس له قدرة ولا اختيار، إنما هو مسير لا مخير، ولا فرق بين فعل العبد الواقع
باختياره، وبين فعله الواقع بغير اختياره، ولا شك أن هؤلاء ضالون، لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين فعل الاختيار وبين فعل الإجبار.
قسم آخر غالوا في إثبات قدرة العبد واختياره، حتى نفوا أن يكون لله تعالى
مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد، وزعموا أن العبد مستقل بعمله، حتى
غلا طائفة منهم وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم
وهؤلاء أيضاً غلوا وتطرفوا تطرفاً عظيماً في إثبات قدرة العبد واختياره، فهدى الله
الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، وسلك القسم الثالث أهل السنة والجماعة في
ذلك مسلكاً وسطاً قائماً على الدليل الشرعي والدليل العقلي، وقالوا: إن الأفعال التي
يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
ما يجريه الله تبارك وتعالى من فعله في مخلوقاته لهذا لا اختيار لأحد فيه،
كإنزال المطر وإنبات الزرع وكالإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من
الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله، فإن هذه بلا شك ليس لأحد فيها اختيار
وليس لأحد فيها مشيئة، وإنما المشيئة فيها لله الواحد القهار.
والقسم الثاني:
ما يفعله الناس بل ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فإن هذه - أعني
هذه الأفعال - تكون باختيار فاعليها وإرادتهم؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل ذلك
إليهم، قال الله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ] وقال تعالى: [مِنكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] . والإنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختيار،
وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار، الإنسان ينزل من السطح في السلم نزولاً
اختيارياً يعرف أنه مختار، ولكنه يسقط هاوياً من السطح ويعرف أنه ليس مختاراً
لذلك، ويعرف الفرق بين الفعلين، وأن الثاني إجبار والأول اختيار، وكل إنسان
يعرف ذلك، كذلك الإنسان يعرف أنه إذا أصيب بمرض سلس البول فكان البول
يخرج منه بغير اختيار، وإذا كان سليماً من هذا المرض فإن البول يخرج منه
باختياره، ويعرف الفرق بين هذا وبين هذا،، ولا أحد ينكر الفرق بينهما، وهكذا
جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختيارياً وبين ما يقع اضطراراً
وإجباراً، بل إن من رحمة الله عز وجل أن من الأفعال ما هو من جنس ما يقع
باختيار العبد ولكنه يكتب بغير اختياره، أي أنه لا يلحقه منه شيء كما في فعل
الناسي والنائم، يقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف: [ونُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ
وذَاتَ الشِّمَالِ] وهم الذين يتقلبون ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه؛ لأن النائم لا
فعل له ولا اختيار له، فنسب فعله إلى الله عز وجل، ويقول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله ...
وسقاه) ، فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل؛ لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره.
كلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من ألم بغير اختياره، وما يجده من
خفة في نفسه أحياناً بغير اختياره، ولا يدري ما سببه، وبين أن يكون الألم هذا
ناشئاً من فعل هو الذي اكتسبه أو هذا الفرح ناشئاً من فعل هو الذي اكتسبه، وهذا
الأمر ولله الحمد أمر واضح لا غبار عليه.
إننا لو قلنا بقول الفريق الأول - الذين غالوا في اثبات القدر - لبطلت
الشريعة من أصلها، لأنه في الحقيقة إذا قلنا: إن فعل العبد ليس فيه اختيار صار
لا يحمد على فعل محمود، ولا يلام على فعل مذموم؛ لأنه في الحقيقة بغير اختياره
وبغير إرادة منه، وعلى هذا فالنتيجة إذاً أن الله تبارك وتعالى يكون ظالماً لمن
عصاه إذا عاقبه وعذبه على معصيته؛ لأنه عاقبه على أمر لا اختيار له فيه ولا
إرادة، وهذا بلا شك مخالف للقرآن صريحاً. يقول الله تبارك وتعالى: [وقَالَ
قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ
مُّرِيبٍ (25) الَذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ
رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ولَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وقَدْ قَدَّمْتُ
إلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ ومَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ] ، فيبين سبحانه أن
هذا العقاب منه ليس ظلماً بل هو كمال العدل؛ لأنه قدم إليهم بالوعيد، وبين لهم
الطرق، فبين لهم الحق وبين لهم الباطل، ولكنهم اختاروا لأنفسهم أن يسلكوا
طريق الباطل، فلم يبق لهم حجة عند الله عز وجل. لو قلنا بهذا القول الباطل
لبطل قول الله تعالى. [رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ] ، فإن الله تبارك وتعالى نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل،
لأنهم قامت عليهم الحجة بذلك، ولو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية
حتى بعد بعث الرسل؛ لأن قدر الله لم يزل ولا يزال موجوداً قبل إرسال الرسل
وبعد إرسال الرسل: إذن فهذا القول تبطله النصوص ويبطله الواقع، كما فصلنا
في الأمثلة السابقة.
أما من غالوا في إثبات فعل العبد وأنه مستقل به فإن هؤلاء أيضاً ترد عليهم
النصوص والواقع، ذلك لأن النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة
الله عز وجل [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ
العَالَمِينَ (29) ] ، [ورَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَخْتَارُ] ، [واللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ
السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] ، والذين يقولون بهذا القول هم في
الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية، وهم أيضاً مدعون بأن في ملك الله
تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه، والله تبارك وتعالى شاء لكل شيء، خالق لكل شيء،
مقدر لكل شيء، وهم أيضاً مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله
عز وجل، ذواته وصفاته لا فرق بين الصفة وبين الذات، ولا بين المعنى وبين
الجسد، إذن فالكل لله عز وجل، ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريده تبارك
وتعالى، ولكن يبقى علينا إذا كان الأمر راجعاً إلى مشيئة الله تبارك وتعالى وأن
الأمر كله بيده. فما طريق الإنسان إذن وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر
عليه أن يضل ولايهتدي؟ نقول - الجواب عن ذلك -: إن الله تبارك وتعالى إنما
يهدي من كان أهلاً للهداية، ويضل من كان أهلاً للضلالة؛ يقول الله تبارك وتعالى: [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ] ، ويقول تعالى: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] .
فبين الله تبارك وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد
نفسه، والعبد كما أسلفنا قريباً لا يدري ما قدر الله له؛ لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد
وقوع المقدور فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالاً، أم أن يكون مهتدياً، فما
باله يسلك طريق الضلال، ثم يحتج بأن الله قدر له ذلك، أفلا يجدر به أن يسلك
طريق الهداية ثم يقول: إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم، أيحق له أو
أيجدر به أن يكون جبرياً عند الضلالة، وأن يكون قدرياً عند الطاعة؟ ! كلا لا
يليق بالإنسان أن يكون جبرياً عند الضلالة والمعصية، فإذا ضل أو عصى الله قال: هذا أمر كتب عليّ، وقدر عليّ، ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله وقدر، وإذا
كان في جانب الطاعة ووفقه الله تعالى للطاعة والهداية زعم أن ذلك منه، ثم منَّ به
على الله وقال: أنا أتيت به من عند نفسي فيكون قدرياً في جانب الطاعة ويكون
جبرياً في جانب المعصية. هذا لا يمكن أبداً؛ فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله
اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق وبأخفى من أبواب طلب العلم،
والإنسان نحن نعرف جميعاً أنه قد قدر له ما قدر من الرزق ومع ذلك هو يسعى
بأسباب الرزق، يسعى بها في بلده وخارج بلده ويميناً وشمالاً، ليس يجلس في بيته
ويقول: إن قدر لي رزق فإنه يأتيني، تجده يسعى بأسباب الرزق مع أن الرزق
نفسه مقرون بالعمل، كما ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن
مسعود - رضي الله عنه -: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين
يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد) .
هذا الرزق أيضاً مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب، فكذلك
الرزق فما بالك أنت تذهب يميناً وشمالاً وتجوب الأرض والفيافي لطلب الرزق ولا
تعمل عملاً صالحاً لطلب رزق الآخرة بدار النعيم، إن البابين واحد وليس بينهما
فرق، فكما أنك تسعى لرزقك، وتسعى لحياتك وامتداد أجلك، إذا مرضت بمرض
ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الذي يداوي مرضك ومع ذلك فإن لك ما قدر
من الأجل لا يزيد ولا ينقص، لست تصمت على هذا وتقول: سأبقى في بيتي
مريضاً طريحًا، وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد، نجدك تسعى بكل ما تستطيع
من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس إلى أن يقدر الله
الشفاء على يديه، إذاً لماذا لا يكون طريقك في عمل الآخرة وفي العمل الصالح
كطريقك فيما تعمل للدنيا، وقد سبق أن قلنا: إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم
عنه، فأنت الآن بين طريقين: طريق يؤدي بك إلى الفوز والسلامة، وطريق
يؤدي بك إلى الهلاك والعطب، وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من
يمنعك من هذا الطريق اليمين، ولا من هذا الطريق الشمال، وإذا شئت ذهبت إلى
هذا، وإذا شئت ذهبت إلى هذا، فما بالك تسلك الطريق الشمال ثم تقول: إنه قد
قدر عليّ، أفلا يليق بك أن تسلك طريق اليمين وتقول: إنه قد قدّر لي، لو أنك
أردت السفر إلى الرياض، وكان أمامك طريقان، أحدهما معبد قصير، والثاني
غير معبد وطويل لوجدنا أنك تختار المعبد القصير المستقيم، ولا تذهب إلى
الطريق الذي ليس بمعبد وليس بمستقيم، هذا الطريق الحسي إذن، فالطريق
المعنوي موازن له ولا يختلف عنه أبداً، ولكن النفوس وأهواءها هي التي تتحكم
في العقل وتغلب على العقل، والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالباً على هواه، وهو
إذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه
ويسره.
بعد هذه المقدمة التي تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيراً
اختيارياً ليس إجبارياً ولا اضطرارياً، وأنه كما يسير لعمل دنياه سيراً اختيارياً،
وهو إن شاء جعل هذه السلعة تجارته أو السلعة الأخرى أو الثالثة أو الرابعة،
فكذلك أيضاً هو في سيره إلى الآخرة يسير سيراً اختيارياً، بل إن طريق الآخرة
أبين بكثير من طريق الدنيا، لأن الذي بيّن طريق الآخرة هو الله تعالى في كتابه
وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد أن تكون طرق الآخرة أكثر
بياناً وأجلى وضوحاً من طرق الدنيا، ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا
التي ليس ضامناً لنتائجها.. ويدع طريق الآخرة التي نتائجها مضمونة؛ لأنها ثابتة
بوعد الله، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد.
بعد هذه المقدمة نقول:
إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوه عقيدتهم ومذهبهم. إن الإنسان
يفعل باختيار وإنه يسير كما يريد، ولكن إرادته واختياره تابعة لإرادة الله ومشيئته،
ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بأن مشيئته تعالى تابعة لحكمته، وأنه سبحانه وتعالى
ليست مشيئته مشيئة مطلقة مجردة، ولكنها مشيئة تابعة لحكمته؛ لأن من أسماء الله
تعالى: [الحكيم] ، والحكيم هو: الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كوناً وشرعاً
ويحكمها عملاً وصنعاً، والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها، لمن يعلم
سبحانه وتعالى أنه يريد الحق وأن قلبه يريد الاستقامة، ويقدر الضلالة لمن لم يكن
كذلك، لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصعد في السماء، فإن
حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين، إلا أن يجدد الله له عزماً
ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى، فالله تعالى على كل شيء قدير، ولكن حكمة الله
تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها.
يقول أهل السنة والجماعة: إن قضاء الله وقدره أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة العلم:
وهى أن يؤمن الإنسان إيماناً جازماً بأن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم،
وأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض جملة وتفصيلاً، سواء كان ذلك من فعله
أو من فعل المخلوقات، وأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
وأما المرتبة الثانية: فهي مرتبة الكتابة:
وهي أن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء،
وقد جمع الله بين هاتين المرتبتين في قوله: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] . فبداً بالعلم وقال: إن ذلك في
كتاب، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء في الحديث عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: ربي،
ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم
القيامة) . ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم -: عما نعمله، أشيء مستقبل أم
شيء قد قضي وفرغ منه. فقال: (إنه قد قضي) قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع
العمل ونتكل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . فقال لهم الرسول - صلى
الله عليه وسلم -: (اعملوا) . فأنت يا أخي اعمل؛ فأنت ميسر لما خلقت له. ثم
تلا قوله تعالى. [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى (5) وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى (7) وأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى (8) وكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى] .
هاتان المرتبتان: العلم والكتابة.
أما المرتبة الثالثة: فهى مرتبة المشيئة:
بمعنى: أن الله تبارك وتعالى شاء لكل موجود أو معدوم في السموات أو في
الأرض، فما وجد موجود إلا بمشيئة الله، ولا عدم معدوم إلا بمشيئة الله، وهذا
ظاهر في القرآن الكريم، وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله، ومشيئته في فعل
العباد؛ فقال الله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ] . وقال تعالى: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ] [ولَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
فَعَلُوهُ] أية أخرى، وقال تعالى: [ولَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] ، فبين تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته، وأما فعله تعالى فتعليقه بالمشيئة كثير، قال الله تعالى: [ولَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا] ، [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً] . إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى، فإذن لا
يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله عامة وشاملة لكل موجود أو معدوم فما
من معدوم إلا وقد شاء الله عدمه، وما من موجود إلا قد شاء الله تعالى وجوده ولا
يمكن أن يقع شيء في السموات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق:
أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء فما من موجود في السموات
والارض إلا الله خلقه، حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى، وإن كان هو عدم
الحياة، يقول تعالى: [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ، فكل
شيء في السموات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه، ولا خالق إلا الله، وكلنا
يعلم أن ما يقع من فعله تعالى فإنه مخلوق له، فالسموات والأرض والجبال والأنهار
والشمس والقمر والنجوم والرياح كلها نعرف أنها مخلوقة من مخلوقات الله، وكذلك
ما يحدث لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات، أحوال كلها مخلوقة لله عز وجل،
ولكن قد يشكل على المرء كيف يصح أن نقول في فعلنا وقولنا الاختياري: إنه
مخلوق لله عز وجل، نقول: نعم، يصح أن نقول ذلك؛ لأن فعلنا وقولنا ناتج عن
أمرين، أحدهما: القدرة، والثاني: الإرادة، فإذا كان فعل العبد ناتجاً عن إرادته
وقدرته فإن الذي خلق هذه الإرادة، وجعل قلب الإنسان قابلاً لهذه الإرادة هو الله
عز وجل، وكذلك أيضاً الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل، ويخلق السبب التام
الذي يتولد عنه المسبب، نقول: إن خالق السبب التام خالق للمسبب. أي أن خالق
المؤثر خالق للأثر، خالق السبب خالق للمسبب، فوجه كونه تعالى خالقاً لفعل العبد
نقول: إن فعل العبد وقوله ناتج عن أمرين هما: الإرادة، والقدرة؛ لولا الإرادة لم
يفعل، ولولا القدرة لم يفعل؛ لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل، وإذا كان قادراً ولم
يرد لم يكن الفعل، فإذا كان الفعل ناتجاً عن إرادة جازمة وقدرة كاملة، فالذي خلق
الإرادة الجازمة والقدرة الكاملة هو الله، وبهذا الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول:
إن الله تعالى خالق لفعل العبد، وإلا فالعبد هو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر،
وهو المصلي، وهو الصائم، وهو المزكي، وهو الحاج، وهو المعتمر، وهو
العاصي، وهو المطيع، ولكن هذه الأفعال كلها كانت وجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين
لله عز وجل، وبهذا علم كيف يكون الإنسان، وكيف يكون فعل الإنسان مخلوقاً لله
عز وجل. والأمر - ولله الحمد - واضح، ولولا أن التساؤلات كثرت، ولولا أن
الأمر اشتبه على كثير من الناس لكنا نقول: إن الخوض في هذا، نوع من فضول
القول، ولكن نظراً إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت، وصار الفاسق يريد أن يبرر
فسقه بشيء يقدره في ذهنه، ولو تدبر الأمر لوجد أنه على خلاف ما قدره في ذهنه، لولا هذا ما تكلمنا في هذا الأمر.
إذن القدر والإيمان بالقدر يكون له مراتب أربع، المرتبة الأولى: العلم،
والثانية: الكتابة، والثالثة: المشيئة، والرابعة: الخلق، كل هذا يجب أن يثبت لله
عز وجل، وهذا لا ينافى أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوي الإرادة، كما أننا
نقول: النار تحرق، والذي خلق الإحراق فيها هو الله بلا شك، ليست محرقة
بطبيعتها، بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة، ولهذا النار التي أُلقي فيها
إبراهيم لم تكن محرقة؛ لأن الله تعالى قال لها: [كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ] ، فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم، فالنار لذاتها لا تحرق، ولكن لأن الله خلق
فيها قوة الإحراق، قوة الإحراق هي مقابل فعل العبد، كإرادة العبد وقدرته،
فبالإرادة والقدرة يكون الفعل، وبالمادة المحرقة في النار يكون الإحراق فلا فرق
بين هذا وهذا، ولكن العبد لما كان له إرادة وشعور واختيار وعقل صار الفعل
ينسب إليه حقيقة وحكماً، وصار مؤاخذاً بالمخالفة، معاقباً عليها؛ لأنه يفعل
باختيار ويدع باختيار، وأخيراً نقول: إن على المؤمن أن يرضى بالله تعالى رباً،
ومن تمام رضاه بالربوبية أن يؤمن بقضائه وقدره، ويعلم أنه لا فرق في هذا بين
الأعمال التي يعملها وبين الأرزاق التي يسعى لها، وبين الآجال التي يدافعها، الكل
بابه سواء، والكل مكتوب، والكل مقدر، والإنسان ميسر لما خلق له..
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأن
يكتب لنا ولكم الصلاح في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..(5/14)
أعلام الإسلام
الإمام البغوي
إعداد: سليمان الحرش
الإمام الحافظ، الفقيه، المجتهد، محي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود
بن محمد الفراء البغوي، ويلقب أيضاً بركن الدين. أحد العلماء الذين خدموا الكتاب
العزيز، والسنة النبوية، دراسة وتدريساً، وتأليفاً.
والفراء: نسبة إلى عمل الفراء وبيعها.
والبغوي: نسبة إلى بلدة يقال لها: (بغ) وبَغْشو، وهي بلدة بخراسان بين
مرو وهراة.
شيوخه:
من شيوخه: القاضي حسين بن محمد المروزي الشافعي، وعبد الواحد
الهروي، وأبو السن الجويني، وحسان بن سعيد المنيعي، وأبو بكر المروزي،
وأبو القاسم القشيري، وأبو بكر الصيرفي , وأبو صالح أحمد بن عبد الملك
النيسابوري، وعبد الباقي بن يوسف المراغي الغريزي الشافعي، وأبو الحسن
البوشنجي، وعمر بن عبد العزيز القاشاني، وأبو الحسن الشيرزي، وأبو جعفر
محمد بن عبد الله الطوسي، وأبو طاهر الزرّار، ومحمد بن عبد الملك السرخسي،
وغيرهم.
صفاته وثناء العلماء عليه:
كان البغوي شافعي المذهب - بحكم البيئة التي نشأ فيها، والعلماء الذين أخذ
عنهم - إلا أنه لم يتعصب لإمامه، بل كان يتتبع الدليل، وينظر في أقوال العلماء
وأدلتهم، وأخذ يدعو إلى الاعتصام بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه
وسلم-.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (كان البغوي سيداً، إماماً عالماً، علامة،
زاهداً، قانعاً باليسير) .
وقال السيوطي في طبقات الحفاظ: (وبورك له في تصانيفه، لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك، وقناعة باليسير) .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: (وكان علامة زمانه، ديِّناً، ورعاً،
زاهداً، عابداً، صالحاً) .
آثاره:
ترك الإمام البغوي مؤلفات كثيرة مفيدة في التفسير والحديث، والفقه كان لها
الأثر النافع والعظيم فيمن جاء بعده، وتتصف بموضوعاتها القيمة، وبكلماتها
السهلة، وبطريقتها المفيدة.
ومن أهم كتبه:
1- معالم التنزيل، في التفسير، وهو كتاب متوسط، نقل فيه عن مفسري
الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قال عنه ابن تيمية: (والبغوي تفسيره مختصر من
تفسير الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة)
[الفتاوى 3/ 354، 386] .
2- شرح السنة، جمع البغوي فيه بين الرواية والدراية.
3- مصابيح السنة، جمع فيه المؤلف طائفة من الأحاديث، محذوفة الأسانيد، معتمداً على نقل الأئمة، وقسم الأحاديث إلى صحاح وحسان، وعنى بالصحاح ما
أخرجه الشيخان، وبالحسان ما أورده أبو داود والترمذي، وما كان فيه من ضعيف
أو غريب أشار إليه، وأعرض عما كان منكراً أو موضوعاً. وهو كتاب مشهور،
اعتنى به العلماء. ومن أهم شروحه: (مشكاة المصابيح للشيخ ولى الدين محمد ... بن عبد الله الخطيب) فقد أكمل (المصابيح) وذيّل أبوابه؛ فذكر اسم الصحابي الذي روى عنه الحديث، وذكر الكتاب الذي أخرجه، وهو كتاب مخدوم مطبوع بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني.
وفاته:
توفي - رحمه الله - بـ (مرو الرّوذ) في خراسان، في شوال سنة 516 هـ، ودفن جانب شيخه. القاضي حسين، وعاش بضعاً وسبعين سنة، رحمه الله.(5/22)
خواطر في الدعوة
بين الدفاع والأصالة
محمد العبدة
لا يزال بين المسلمين اليوم من يعيش بعقلية الأربعينات والخمسينات، حين
كانت الهجمة على الإسلام والمسلمين على أشدها, وكان الذي يتولى كبرها
المستشرقون والمبشرون والأحزاب العلمانية، وكان موقف كثير من المسلمين هو
موقف المدافع عن نفسه دفاع المتهم الذي بداخله شيء من الانهزامية، أو عنده عقدة
نقص تجاه كل ما يأتى من الغرب أو الشرق أو من الأحزاب التي تسمي نفسها:
(تقدمية) .
يومها قالوا عن الإسلام: إنه استبدادي النزعة، فرد عليهم البعض بأنه
(ديمقراطي) فيه كل مبادئ الديموقراطية، وقالوا: إن بلاد الإسلام فتحت بالسيف
والقوة، وأن المسلمين كانوا أصحاب ولوغ في الدماء، فقيل لهم: لا.. إننا لا
نهاجم أحداً ولا نفتح البلدان، بل ندافع عن أنفسنا فقط إذا ما هوجمنا من الخارج،
وها هي بلاد أندونيسيا وماليزيا، ودول وسط أفريقيا قد دخلها الإسلام بواسطة
التجارة أو الدعاة.
وقيل عن تعدد الزوجات والطلاق ومشاكل المرأة الكثير الكثير.. وكتبت
المجلدات، وحررت المقالات في الرد على هذه الاتهامات ولكن بمنطق المنهزم أمام
هذا الهجوم الماكر، وكان الرد أن التعدد فقط للضرورة، وأن الإسلام أعطى كل
شيء للمرأة وأنها نصف المجتمع.. الخ. هذا الكلام الذي بعضه صحيح وبعضه
خطل.
ولا يزال المسلمون - ممن يعيشون بيننا - إذا عرضوا الإسلام على الآخرين
يعرضونه على استحياء. وقد يتكلم أحدهم عن تقارب الأديان إذا ما دخل في مناقشة
مع نصراني مثلاً، أو أن الإسلام لا يكره أو يحرم بعض الأشياء المكروهة أو
المحرمة فعلاً.. إذا ما دخل في جدال مع أصحاب الترخص والتساهل.
هذا الموقف الضعيف، كنا نعتقد أنه انتهى أو يجب أن ينتهي ولا حاجة
لإعادة الردود واجترار هذه الأشياء، لقد انتقل المسلمون إلى الشعور بالثقة
وبالأصالة وبموقف المهاجم وليس المدافع، وقد كان للعلماء والدعاة في هذا العصر
أثر في توليد هذه الثقة، ومن أبرزهم: الداعية الشهيد سيد قطب - رحمه الله -،
ولكن سمعت وقرأت أخيراً لبعض الإسلاميين في موضوع الأسرة والمرأة ما يعود
بنا القهقري إلى الوراء، وكأننا متهمون بظلمها، ومتهمون بأننا لا نعطيها الحرية
التي يريدها أعداء الإسلام، فيقدم طيبوا القلب ليعطوها أكثر مما جبلت عليه
وخلقت له، ونحن ليس عندنا مشكلة اسمها مشكلة المرأة، فالله سبحانه خلق الخلق
لعبادته وكل ميسر لما خلق له، وكل له مهمة في هذه الحياة ورحم الله امرأً عرف
قدر نفسه، أما معاكسة الفطرة التي خلق الله الخلق عليها فسيكون من بعدها الدمار.
أما الموضوع الآخر الذي يخجلون منه فهو الجهاد، وينسون أنه ذروة سنام
الإسلام، وقد شرعه الله لنا وحضنا عليه، وهو من خصائص هذه الأمة، وهو
جزء من الدعوة، وبالجهاد والفتح يتعرف الناس على الإسلام عملياً ونظرياً. فهو
رحمة وليس قسراً، وأكثر البلاد الإسلامية اليوم فتحت بالجهاد، فهل نخجل من
شرع شرعه الله لنا، والناس يفتخرون بزبالة أفكار ماركس وأمثاله.
إن القرآن الكريم علمنا كيف نرد على الكفار اتهاماتهم وكيف نهاجمهم بدل أن
نضع أنفسنا في قفص الاتهام. قال تعالى راداً على قريش قولها: إن المسلمين
انتهكوا حرمة الشهر الحرام وقتلوا وأسروا - وقد وقع هذا في سرية عبد الله بن
جحش عندما أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مهمة استطلاعية للتعرف
على أحوال مكة وما حولها - قال تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِندَ اللَّهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ... ] الآية [البقرة: 217] .
ومعنى الآية: إذا كان القتال في الشهر الحرام كبيراً فعلاً ولا يجوز فأنتم فعلتم
أكبر من هذا، أخرجتم المسلمين من البلد الحرام، بل فعلتم ما هو أشنع وهو الكفر
بالله، والصد عن سبيله، وفتنة المؤمنين عن دينهم، هذا هو أدب القرآن في
مناقشة الخصوم، ولكن بعض الناس يحرفون النصوص الواضحة كي لا يغضب
غير المسلمين وحتى نظهر أننا في غاية التهذب والرقة والمسكنة! ! .
سبحانك هذا بهتان عظيم.(5/24)
وإذا قلتم فاعدلوا
بقلم: عبد العزيز بن ناصر السعد
أهمية الموضوع:
إن أهمية هذا الموضوع تأتي من أنه مفتاح الحق وجامع الكلمة، والمؤلف
بين القلوب، لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد هو الظلم والاعتداء وفقدان
العدل والإنصاف. ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل على نفسه ومع الناس
فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية
ستزول وتحل بإذن الله.
وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الأخطاء إما الجهل وإما
الظلم، فالجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط. ولقد كان
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كثيراً ما يرجع أسباب الفرقة والتعدي
والتعصب إلى الأمرين المذكورين سابقاً، فتراه يقول:
(الإنسان خلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه
من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه،
ورضاه وغضبه، وفعله وتركه، وإعطائه ومنعه، وأكله وشربه، ونومه ويقظته،
وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم
يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل؛ وإلا كان منه من الجهل والظلم ما
يخرج به من الصراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد
صلح الحديبية وبيعة الرضوان: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] إلى قوله تعالى
[ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] ، فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريباً منها فكيف
حال غيره) أهـ[1] .
ويقول رحمه الله:
(والعدل هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها، فصلاح القلب بالعدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم والمظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل، وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر، قال تعالى: [لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] .
إلى أن قال في نفس الجزء ص 99:
(مع أن الاعتدال المحض السالم من الإخلاص لا سبيل إليه، لكن الأمثل
فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم
والإعراض والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل. ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريق السلفية: الطريقة المثلى.
وقال تعالى: [ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ] [الأنعام
152] وقال تعالى: [وأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] ،
والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط. وأعظم القسط عبادة
الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على ...
النفس. اهـ[2] .
وهنا نرى أن شيخ الإسلام قد بين أهمية العدل، وأنه أساس النجاة في الدنيا
والآخرة، وقد قسمه حسب الأهمية إلى أعظم العدل وهو عبادة الله وحده لا شريك
له، ثم العدل على الناس، ثم العدل على النفس وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في
ثنايا هذا البحث.
وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أيضاً أهمية العدل مع الخصوم
والمفارقين لأهل السنة حيث يقول:
(وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأً يعذره فيه
الرسول -صلى الله عليه وسلم- عذروه.. إلى أن قال: والله يحب الكلام بعلم
وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (القضاة ثلاثة. قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى للناس على جهل
فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار، ورجل علم الحق
وقضى به فهو في الجنة) ، وقد حرم سبحانه وتعالى الكلام بلا علم مطلقاً، وخص
القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال تعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ
والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] وقال تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] وأمر بالعدل على أعداء
المسلمين فقال تعالى: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [3] .
إذن مما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أهمية العدل في القول
والعمل وأن الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها
لا يستطيع أن يحملها الإنسان إلا بأن يتغلب على صفة الجهل بالعلم والتفقه في دين
الله عز وجل، وبأن يتغلب على صفة الظلم بالعدل والإنصاف، ومع ذلك - كما
أشار شيخ الإسلام - فلن يستطيع أن يكمل العدل كله ولا أن ينفك عن الجهل كله،
وكذلك فهو في حاجة لأن يتوب الله عليه ويغفر له تقصيره وضعفه، وهذا هو ما
يفهم من آية الأمانة في سورة الأحزاب حيث ذكر الله عز وجل لنا صنفين من
الناس:
الصنف الأول: المؤمنون الذين بذلوا جهدهم في طلب العلم المنافي للجهل،
والعدل المنافي للظلم، فاستحقوا من الله عز وجل أن يتوب عليهم ما لم يستطيعوا
تحقيقه من العلم والعدل.
الصنف الثانى: أولئك المشركون المنافقون الذين أعرضوا عن دين الله
عز وجل فلم يتعلموه، وأعرضوا عن العدل والقسط فأركسوا في ظلمات الجهل والظلم، ووقعوا في الشرك والنفاق فاستحقوا العذاب الأليم. يقول الله تعالى: [إنَّاعَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ والْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً] [سورة الأحزاب: 72 - 73] .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين أعانهم على حمل الأمانة وغفر لهم
تقصيرهم.
تعريف العدل ومنزلته في الكتاب والسنة:
قال في لسان العرب: العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد
الجور. عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً، وهو عادل من قوم عدول.. وفي أسماء
الله الحسنى (العدل) وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم. والعدل: الحكم
بالحق. وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه: إن العدل
على أربع أنحاء: العدل في الحكم، قال الله تعالى: [وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ] ، والعدل في القول؛ قال تعالى: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] ، والعدل في
الفدية؛ قال تعالى: [لا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ] ، والعدل في الإشراك؛ قال تعالى:
[ثُمَّ الَذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ] ، أي: يشركون. وفلان يعدل فلاناً: أي يساويه،
وعدّل الموازين والمكاييل: ساواها، وتعديل الشيء: تقويمه، والاعتدال:
توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم: جسم معتدل، من الطول والقصر، وجو معتدل، من الحر والبرد.. الخ، والمعادلة. الشك في أمرين، يقال: أنا في عدال في هذا الأمر، أي: في شك منه أأمضي عليه أم أتركه. أهـ
(باختصار) .
والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل والحث عليه والتحذير من ضده كثيرة جداً لكننا نقتصر على بعضها مع نقل أقوال علماء التفسير والحديث حولها.
الآيات الواردة في ذلك:
الآية الأولى:
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ
والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [ال عمران 18] .
* يعلق شيخ الإسلام على قوله تعالى [قَائِماً بِالْقِسْطِ] ج 14 ص 179بقوله:
(فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان ...
مستقيماً، ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، ... فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل) [4] . ... * ويعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية في ظلال القرآن المجلد
الأول ص 55 بقوله:
(وتدبير الله عز وجل لهذا الكون والحياة متلبس دائماً بالقسط وهو العدل،
فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون التي
يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر.. لا يتحقق هذا
إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس وبينه في كتابه وإلا فلا عدل ولا قسط
ولا استقامة ولا تناسق ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان، وهو الظلم إذن
والتصادم والتشتت والصراع) .
إلى أن قال - رحمه الله - في الصفحة نفسها (وأنه حيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر، كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور. ظلم الفرد للجماعة، أو ظلم الجماعة للفرد، أو ظلم طبقة لطبقة أو ظلم أمة لأمة أو جيل لجيل. وعدل الله عز وجل وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ] . اهـ[5] .
الآية الثانية:
قوله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ
عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا
الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] [سورة
النساء: 135] .
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن
يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم
في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين
متعاضدين متناصرين، يقول: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) كما قال تعالى: [وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ] ، أي: أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من
التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال: [ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ] ، أي: اشهد بالحق
ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله: [أَوِ
الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] ، أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم
فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.
وقوله: [إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا] ، أي: لا ترعاه لغناه، ولا
تشفق عليه لفقره، فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله: [فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا] ، أي: لا يحملنكم الهوى والمعصية
وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على
أي حال كان كما قال تعالى: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ، ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه الرسول -صلى الله
عليه وسلم- على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه
ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم
من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم،
فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض) اهـ[6] .
ويعلق سيد قطب (549/2) على الآية نفسها بقوله: (إنها أمانة القيام بالقسط
على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم في
الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه، من
المسلمين وغير المسلمين، وفى هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون
وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأعداء والأصدقاء،
والأغنياء والفقراء..
والمنهج الرباني يجند النفس في وجه ذاتها وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً
[ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ] وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً، وهي محاولة شاقة أشق بكثير
من نطقها باللسان ... ) إلى أن قال: (ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها
الفطرية.. أو الاجتماعية حين يكون المقصود له أو عليه فقيراً تشفق النفس من
شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه. أو من يكون فقره مدعاة
للشهادة ضده بحكم الرواسب الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية،
وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته أو قد
يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده..
الآية الثالثة:
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ] [سورة المائدة: 8] .
يعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية بقوله:
(لقد نهى الله عز وجل الذين آمنوا قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن
المسجد الحرام على الاعتداء، وكانت هذه قمة ضبط النفس والسماحة، يرفعهم الله
إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم، وهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن
يميلوا عن العدل، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق، فهي مرحلة
وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوز إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره
والبغض..) إلى أن قال - رحمه الله تعالى -: (إن النفس البشرية لا ترتقي هذا
المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله عز وجل حين تقوم لله
متجردة عن كل ما عداه، وحين تستشعر تقواه وتحسُّ أن عينه على خفايا الضمير
وذات الصدور) اهـ باختصار [7] .
الآية الرابعة:
قوله تعالى: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] [الأنعام: 152] .
يعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية فيقول:
(وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداءً - إلى مستوى
سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته.. فهنا مزلة من مزلات الضعف
البشري، الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل
والامتداد، بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل وفى قوة القرابة سند لضعفه وفى
سعة رقعتها كمال لوجوده، وإن امتدادها جيلاً بعد جيل حماية لامتداده، ومن ثم
يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم
وبين الناس، وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة
الحق والعدل على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، إكتفاءً به من
مناجزة ذوي القربى وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه وهو سبحانه أقرب
إلى المرء من حبل الوريد) اهـ[8] .
أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جداً
نقتصر على بعضها:
الحديث الأول:
ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أنه قال:
(نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك
نحلت مثله؟ فقال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، وقال: إني لا أشهد
على جور. قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة [9]
الحديث الثاني:
روى البخاري عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: (كل سُلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع
فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة) [10] .
الحديث الثالث:
ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: (بايعنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في: العسر واليسر،
والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن
نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم) وزاد النسائى: (وعلى أن نقول
بالعدل أين كنا) [11] .
الحديث الرابع:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على ... يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما
ولوا) [12] .
الحديث الخامس:
روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -
قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك
الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت
الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق
والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا
ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد
الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضراء
مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) [13] .
أقسام العدل:
ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية:
1-أعظم العدل:
وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له، وهو الحق الذي قامت به السموات
والأرض، ومن أجله خلق الله الخلق، قال الله عز وجل: [ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ
والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ]
[الدخان: 38 - 39] . وقال تعالى: [مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ
بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ] [الأحقاف: 3] .
ويقابل هذا القسم من العدل: أعظم الظلم، وهو الإشراك بالله عز وجل،
والكفر به، حيث قال الله عز وجل: [وإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا
تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] . ومثله قول الله تعالى: [الَذِينَ
آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .
وقوله تعالى: [والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [سورة البقرة: 254] .
2 -العدل مع النفس:
ويدخل في هذا العدل: قيامه بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها، وذلك فيما
بين العبد وربه من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من غير إفراط ولا تفريط،
ويقابل هذا القسم من العدل: ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما حرم الله عز وجل - مما
هو دون الشرك -، أو تركه ما أمر الله عز وجل مما يتعلق به نفسه، ولا يتعدى
إلى غيره، وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم؛ حيث إن صاحبه قد يتوب
منه فيتوب الله عليه، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة، بينما الظلم
العظيم - وهو الشرك بالله - لو مات عليه فلن يغفر الله له، كما قال تعالى: [إنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ] [النساء: 48] . وهو
أخف من ظلم العباد؛ لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها
واستباحتهم منها.
3-العدل مع العباد:
وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا البحث، والقسمان السابقان ليس
هنا موضع تفصيلهما، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على
بعض، سواء في القول أو الفعل، وسنذكر في هذا القسم - إن شاء الله - بعض
مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة
التي تنافي العدل والإنصاف، مع ذكر المنهج الشرعيّ الذي ينبغي سلوكه حيال هذه
المواقف.
ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم -
رحمه الله - في مدارج السالكين حول (منزلة الخلق) . يقول - رحمه الله -:
(وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها:
الصبر، العفة، الشجاعة، العدل.
فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على
الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من: الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة،
والنميمة.
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى
البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته،
وتحمله على كظم الغيظ والحلم. فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها
بلجامها عن النزع والبطش. كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس الشديد
بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وهو حقيقة الشجاعة،
وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط
والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة،
وعلى خلق الشجاعة، الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي
هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من
هذه الأربعة.
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم،
والشهوة، والغضب.
فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن. والكمال
نقصاً والنقص كمالاً.
والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع
الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في
موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في
موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة. تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والنَّهمة والجشع،
والذل والدناءات كلها.
والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد، والعدوان والسَفَه.
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة. وملاك هذه
الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة فيتولد في إفراطها
في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف
الأمور والأخلاق.
ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة، والفحش والطيش.
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غيَّة كثيرون. فإن النفس قد تجمع
قوة وضعفاً. فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر، ظالم عنوف
جبار، فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القويّ، جريء على الضعيف.
فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضاً، كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضاً.
وكل خلق محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان
ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا: البخل والتبذير. التواضع: الذي يكتنفه خلقا: الذل والمهانة والكبر والعلو [14] .
*يتبع *
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 14/38.
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميه 10/98.
(3) المصدر السابق، 16/96.
(4) مجموع الفتاوى 55/1، 4 ا/ 179.
(5) في ظلال القرآن 1/55 ط دار المعرفة اللبنانية.
(6) - تفسير ابن كثير 2/214 ط دار الفكر.
(7) في ظلال القرآن 6 / 667.
(8) في ظلال القرآن 8/426.
(9) فتح الباري ج هـ، رقم الحديث 2587، ط السلفية.
(10) المصدر السابق، رقم الحديث 2707.
(11) صحيح البخاري 13/167 باب كيف يبايع الناس، النسائي 7/37 في البيعة على السمع والطاعة.
(12) مسلم 2827 (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل.
(13) سنن النسائي، شرح السيوطي وحاشية السندي 3/55 باب الدعاء بعد الذكر، ط دار إحياء التراث.
(14) ج 2، ص 308 من مدارج السالكين تحقيق محمد حامد الفقي، ط دار الكتاب العربي.(5/26)
تعريف الملأ في الفكر الإسلامي
(من صفات الملأ)
عثمان جمعة ضميرية
لو عدنا إلى القرآن الكريم، وتتبعنا الآيات الكريمة، التي يتحدث الله تعالى
فيها عن أولئك الملأ ومواقفهم من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لوضعنا أيدينا
على مفتاح شخصية أولئك الملأ وتعرفنا على صفاتهم، وسنشير فيما يلي إلى
أهم هذه الصفات، ولعلّ الحديث - فيما يأتي - عن وسائل الملأ في محاربتهم لدعوة الرسل والصَّد عنها، يعطينا ملامح أخرى لشخصية الملأ وصفاتهم أيضاً.
أولاً - الملأ يستكبرون في الأرض بغير الحق:
وتلك شنشنة قديمة نعرفها من الملأ، الذين نصبوا أنفسهم دعاة للضلال
والصد عن الدعوة ولمعاداة الأنبياء والكفر بهم، فقد أخذتهم، العزة بالإثم عندما
بعث الله تعالى لهم رسلاً من البشر، يدعونهم إلى الله تعالى وتوحيده وعبادته،
فاستنكفوا عن ذلك، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويكذبون، ويصدون عن سبيل الله
من آمن ويبغونها عوجاً، فاستحقوا - بذلك - الخلود فى النار:
[إنَّ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا واسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ولا
يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ] ... [الأعراف: 40] .
وقد وصف الله تعالى أولئك الملأ بالاستكبار، حتى أصبح ذلك وصفاً لازماً
لهم، وها هي الآيات القرآنية الكريمة تحدِّثنا عن موقف أولئك الملأ من أنبيائهم،
عليهم الصلاة والسلام، واستكبارهم عن اتباع الهدى:
أ - فالأشراف والسادة المستكبرون من قوم نوحٍ - عليه السلام -، يكذِّبون
نوحاً؟ لأن أتباعه من البشر، بل هم من فقراء البشر وأراذل القوم - بزعمهم -
من أصحاب المهن البسيطة، كالباعة والحاكة، وغيرهم، ولذلك فالسادة
المستكبرون يأنفون أن يكونوا معهم فى دعوة واحدة، وفي صف واحد يجمعهم:
[ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ
إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلاَّ
بَشَراً مِّثْلَنَا ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ومَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] [هود: 26 - 27] ، [قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ]
[الشعراء: 111] .
وكأنهم طلبوا من نوح - عليه السلام - أن يطرد المؤمنين عنه؛ احتشاماً
ونفاسة منهم وأنفة أن يجلسوا معهم -تماماً كما طلب سفهاء قريش من النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن يطرد عنه جماعة من الضعفاء، ويجلس معهم مجلساً خاصاً -
ولكن نوحاً - عليه السلام - أجابهم بما حكاه الله تعالى عنه، فقال:
[ومَا أَنَا بِطَارِدِ الَذِينَ آمَنُوا إنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ...
(29) ويَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] [هود: 29-30] .
[ومَا أَنَا بِطَارِدِ المُؤْمِنِينَ (114) إنْ أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] [الشعراء: 114- 115] .
ب -وبعث الله تعالى هوداً - عليه السلام - إلى عاد، وكانوا ذوي شدة وبأس
وقوة، وكأنهم قد وصلوا إلى قمة الإبداع المادي والحضارة الصناعية والرفاه -
وقتذاك - إلى حد الترف والإسراف، فاتخذوا من البناء على جوادِّ الطرق المشهورة
ما يبهر العقول، ومن البروج المشيدة والبنيان المخلد ومآخذ الماء ما يثير الإعجاب، وكل ذلك لا لحاجةٍ لهم، بل هو يفيض عن حاجتهم، فيتخذونه عبثاً وتكاثراً ولهواً
ومفاخرة:
[أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ] ...
[الشعراء: 127-128] .
فكان ذلك الثراء العريض والتقدم الصناعي، الذي أُتخموا فيه، سبباً من
أسباب استكبارهم وغرورهم واستعلائهم.. فوقفوا ضد هود - عليه السلام -،
وانطلق الملأ الكافر منهم -إذ كان فيهم من قد آمن بهود - عليه السلام - يكذِّب
ويصد عن الدعوة، وينشر الأراجيف والشائعات الكاذبة، بحجة أن هوداً - عليه
السلام - من البشر، وكيف يؤمنون لبشر مثلهم؟ :
[وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ
(65) قَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ] ، [الأعراف: 65-66] .
[وقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ الَذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ويَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) ولَئِنْ
أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذاً لَّخَاسِرُونَ] ، [المؤمنون: 32-34] .
[فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] ، ... ... [فًصِّلت: 15] .
ج - وهاهم أولاء الملأ من قوم صالح - عليه السلام - يدفعهم الكبر إلى
الاستعلاء والتكذيب والكفر: [قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
(75) قَالَ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ] ، [الأعراف: 76] .
فهم كفروا بما آمن به هؤلاء المؤمنون المستضعفون، استكباراً أن يكونوا
مثلهم مؤمنين، وكأنها نكاية بهم أو مشاكسة ومعاكسة لأولئك المؤمنين المستضعفين! وكيف يرضون لأنفسهم أن يطيعوا رجلاً من البشر؛ ويصيروا مرءوسين له؟
وهم أصحاب الزعامة والسيادة والمال والثراء:
[كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًاً مِّنَّا واحِدًاً نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذًاً لَّفِي ضَلالٍ
وسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] ، [القمر: 23 - 25]
وكما كانت عاد في قمة التقدم الصناعي والرفاه والوفرة حتى أهلكهم الله تعالى
بسبب تكذيبهم، كذلك كانت ثمود، فقد جاءت بعدها تخلُفُها في هذا المتاع الذي أنعم
الله تعالى به عليهم وكان سبباً لاستكبارهم وكفرهم:
[واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن
سُهُولِهَا قُصُوراً وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ
مُفْسِدِينَ] [الأعراف: 67] .
[كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ (141) إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142)
إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (144) ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي
جَنَّاتٍ وعُيُونٍ (147) وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ
بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (150) ولا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ (151)
الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ
(153) مَا أَنتَ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] ، [الشعراء:
141-154] .
د -وكذلك وصف الله تعالى الملأ من قوم شعيب - عليه السلام - بالكبر،
فقال:
[قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ
مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً
إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ومَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّنَا وسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ (89) وقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إنَّكُمْ إذاً
لَّخَاسِرُونَ] [الاعراف: 88-90] .
هـ - وهي الصفة بعينها، يصف الله تعالى بها الملأ من قوم فرعون:
[ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا
وكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] ، [يونس: 75] .
[ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إلَى فِرْعَوْنَ
ومَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وقَوْمُهُمَا لَنَا
عَابِدُونَ] ، [المؤمنون: 46-47] .
[فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والْجَرَادَ والْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ والدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ ...
فَاسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] [الأعراف: 133] .
[ولَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ومَا كَانُوا سَابِقِينَ] ، ...
[العنكبوت: 39] .
و والملأ من العرب، زعماء قريش وصناديدها، كانوا يستكبرون عن
آيات الله، وقد وصفهم الله تعالى بذلك فقال:
[اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنتُمْ عَنْ
آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] ، [الأنعام: 93] .
وفي المدينة كان المنافقون يأنفون أن يؤمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه
وسلم -؛ لأن المؤمنين حوله هم من السفهاء بزعمهم:
[وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ] ، [البقرة: 13] .
وقد كانوا إذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله صدوا وأعرضوا عما
قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم، وكان يمثل ذلك الطاغية رأس
المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول [1] ، قال الله تعالى عنهم:
[وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ
وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ] ، [المنافقين: 5] .
* ونجد في السيرة النبوية نماذج لاستكبار الملأ من قريش، فيما كانوا
يطلبونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم مجلساً خاصاً،
يجلس فيه معهم وحدهم، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار، وصهيب
وخباب، وابن مسعود، رضي الله عنهم، وليُفْرِد أولئك بمجلس على حده، فهم
يأنفون أن يجلسوا مع هؤلاء الضعفاء، ويتكبرون عليهم، فحذَّر الله تعالى نبيه -
صلى الله عليه وسلم - أن يميل إلى ذلك ونهاه عنه وأمره أن يصبر نفسه في
الجلوس مع هؤلاء المؤمنين الأتقياء [2] .
[واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ
وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] ، [الكهف: 28] .
وعن سعيد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - ستة نفر، فقال المشركون للنبي: اطرد هؤلاء، لايجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما. فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدّث
نفسه. فأنزل الله عز وجل: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وجْهَهُ] [الأنعام: 52] [3] .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار. فقالوا: يا محمد
أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى
رَبِّهِمْ] إلى قوله: [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] [الأنعام: 51 -53] [4] .
وأخرج الإمام ابن جرير الطبري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:
مرَّ الملأ من قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وعمار وبلال
وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؛ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؛ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؛ اطردهم عنك!
فلعلك - إن طردتهم - أن نتبعك! فنزلت هذه الآية: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ] إلى قوله تعالى: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ] إلى آخر الآية [5] .
وأخرج أيضاً عن خباب - رضى الله عنه- في قوله تعالى:! ولا تطرد
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إلى قوله: معم فتكون من
الظالمين،، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ،
فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعداً مع بلال وصهيب وخباب، في أناس
من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حَقَروهم، فأتوه فقالوا: إنا نحب أن
تجعل لنا منك مجلساً تعرف العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن
ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد. فإذا نحن جئناك فاقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد
معهم إن شئت! قال. نعم!
قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ
حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ] ، ثم قال: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] ،
ثم قال: [وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ] ، فالقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة من يده، ثم دعانا، فأتيناه وهو يقول: [سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ! فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: [واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا]
[الكهف: 28] . قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقعد معنا بعد،
فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم [6] .
وعن عكرمة، رحمه الله، في قوله تعالى: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن
يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ] الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم
بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من
بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب قالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك
يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا [7] ، كان أعظم في
صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتًّباعنا إياه، وتصديقنا به! قال: فأتى أبو
طالب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن
الخطاب: لو فعلتَ ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلامَ يصيرون من قولهم؟
فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى
رَبِّهِمْ …] إلى قوله [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] ، قال: وكانوا: بلال، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد. ومن الحلفاء: ابن مسعود،
والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاريّ، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن
عبد عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد، وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في
أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا
أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا] الآية. فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر
من مقالته، فأنزل الله تعالى ذكره: [وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ] الآية [8] .
.. تعليل وتحذير
وفي تعليل موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتهاده في دعوة أولئك
الملأ وما أعقب ذلك من توجيهات ربانية يقول الباحث محمد عزة دروزة -رحمه
الله-:
ولقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن موقف الزعماء هو المؤثر في
الجمهور، وأن نطاق دعوته سوف يبقى ضيقاً، وأنها سوف تتعثر، وأن الأذى
سوف يشتدُّ على المؤمنين مادام الزعماء في هذا الموقف. وكان بعضهم معتدلاً، أو
أقل اندفاعاً في المناوأة والكيد والصدّ من بعض، فأدَّاه اجتهاده إلى بذل الجهد في
تألُّفِهم وإقامة الصِّلات معهم، بل ومسايرتهم شيئاً ما، ولو كان في ذلك بعض
الغضِّ أو الإهمال لأصحابه، على أمل كسبهم للدعوة وكسر الطوق المضروب
حولها.
وكان هذا الاجتهاد خلاف الأولى في علم الله عزَّ وجل، فاقتضت حكمة الله
تنبيهه إلى ذلك، وإلى أن مهمته هي: الإنذار والتبشير والدعوة، والاهتمام بالذين
آمنوا به وانضووا إليه، وعدم المبالاة بالزعماء الذين امتنعوا عن الاسستجابة أو
وقفوا موقف الصدِّ والأذى؛ بسبب استكبارهم، وخبث نياتهم، وسوء أخلاقهم،
واعتباراتهم الشخصية والأسرية. وأن كل ما عليه هو أن يتلو القرآن ويدعو إلى
الله ومكارم الأخلاق. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضل عليها،
وأنه ليس هو وكيلاً عليهم ولا مسؤولاً، ولا جبَّاراً ولا مسيطراً، وإنما هو منذر،
على ما جاء في آيات عديدة في سُوَرٍ عديدة، منها هذه الآيات كمثال:
1 -[قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أنَا
عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] [الأنعام: 104] .
2-[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ
ومَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) واتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ
واصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] [يونس: 107 - 109] .
3 -[إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَذِي حَرَّمَهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (91) وأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن
ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أَنَا مِنَ المُنذِرِينَ (92) وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ومَا رَبُّكَ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] [النمل: 91-93] .
4 -[نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ
وعِيدِ] [ق: 45] .
5 -[فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (22) إلاَّ مَن تَوَلَّى
وكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ] [الغاشية: 21 - 26] [9] .
هؤلاء أتباع الأنبياء ... سنة ثابتة:
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -[10] :
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان غالب من اتبعه في أول بعثته
ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوحٍ لنوح: [ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ]
الآية (هود: 27) ، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، حين سأله عن تلك
المسائل، فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؛ فقال: بل ضعفاؤهم.
فقال: هم أتباع الرسل [11] .
والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذِّبون
من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؛ أي: ما
كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير، لو كان ما صاروا إليه خيراً، ويدعنا، كقولهم:
[لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إلَيْهِ] [الأحقاف: 11] ، وكقوله: [وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وأَحْسَنُ نَدِياً]
[مريم: 73] .
قال الله تعالى في جواب ذلك: [وكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً
ورِءْياً] [مريم: 74] . وقال في جوابهم، حين قالوا: [أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ
بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] [الأنعام: 53] أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له
بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات
إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: [جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] .
وفي الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر
إلى قلوبكم وأعمالكم» [12] .
فتاريخ الرسالات السماوية وسنة الله في الدعوات، يدلان على أن الذين
يبادرون قبل غيرهم، ويسارعون إلى تصديق الرسل، عليهم الصلاة والسلام، فى
غالبيتهم من أولئك الفقراء والعبيد والمستضعفين، وهؤلاء هم الفئات المهضومة
حقوقهم، أو الذين حرموا من الامتيازات الاجتماعية أو السياسية، التي احتكرها
لأنفسهم الملأ المستكبرون الطاغون، الذين أوقعوا عليهم الظلم والاضطهاد بفعل
النظام السائد الذي يهدر آدمية الفقراء ويجعل الملأ الكبراء سادة بالفطرة، لهم على
العبيد حق السمع والطاعة والخضوع.
ويقول صاحب المنار: مضت سنة الله تعالى أن يسبق الفقراء المستضعفون
من الناس إلى إجابة دعوة الرسل واتباعهم وإلى كل دعوة إصلاح، لأنه لا يثقل
عليهم أن يكونوا تبعاً لغيرهم، وأن يكفر بهم أكابر القوم المتكبرون، والأغنياء
المترفون، لأنه يشق عليهم أن يكونوا مرؤوسين، وأن يخضعوا للأوامر والنواهى
التي تحرم عليهم الإسراف الضار، وتوقف شهواتهم عند حدود الحق ... والاعتدال [13] .
ومن الواقع التاريخي:
وإذا كانت هذه قاعدة عامة في الدعوات السماوية، كما حكاها الله تعالى في
القرآن الكريم، فإننا نجد لها أمثلة أخرى فى تاريخ البشر وواقعهم:
فقد كان في مقدمة الذين سارعوا في الدولة الرومانية إلى اعتناق المسيحية،
هم الأرقاء، لأنها وعدتهم بملكوت السماء، وأعلنت أنه ليس مقصوراً على السادة،
بل إنها أخبرتهم أن دخول الأغنياء الجنة هو أصعب من أن يلج الجمل في سم
الخياط، والمفروض أنه الغني الباغي الظالم المستكبر..
وفي التاريخ الجاهلي الحديث، كان من أكبر المؤيدين للثورة الفرنسية:
الفلاحون؛ كي تخلصهم من القيود الاقتصادية والاجتماعية التي فرضها عليهم
المُلاَّك الإقطاعيون، وأرباب الحرف والصنائع؛ لتحررهم من سيطرة نقابات
الطوائف، والعامة كي يكون لهم نصيب من الحكم الذي كان مقصوراً على الملوك
والنبلاء والفئات العليا ورجال الكنيسة [14] ، ولعل هذا يفسر شعار تلك الثورة
المعروف، وهو: (الحرية والإخاء والمساواة) الذي أطلقوه ليخدعوا به الناس
وليكسبوا الجماهير إلى صفهم.
.. جاهلية قديمة جديدة..
ورغم الدعوات التي يطلقها كثير من الناس في الشرق والغرب، يزعمون
فيها أنهم دعاة تحرر الإنسان وأنهم جاؤوا لينقذوا الضعفاء والمهضومة حقوقهم،
وأنهم أنصار حقوق الإنسان، وأنهم سند لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن
أجل ذلك أنشئت المنظمات الدولية وما تفرع عنها من مجالس ومنظمات.. رغم هذا
فإنهم هم الذين يكرسون الظلم والعدوان ويزدرون الضعفاء حتى ولو كانوا يجلسون
بجانبهم في مقعد من مقاعد منظماتهم التي اصطنعوها لتكون أداة سيطرة على
الآخرين.
يقول صاحب: (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله) :
ومازال لهذه الطبقية الشاذة الهمجية جذور راسخة في عصرنا الذي يسمى
بعصر التقدم والمدنية:
-فبعض المنسوبين إلى أهل العلم يتطاولون على الذين لا علم عندهم! .
- والأغنياء المترفون - الرأسماليون والإقطاعيون - يحتقرون العمال
الكادحين والفقراء المدقعين، ولو كانوا أصحاب مواهب فذة! ! .
- وأرباب الوظائف الكبيرة يزدرون عامة الناس، ويتخذون من أنفسهم أرباباً
من دون الله! ! .
وهذه كلها مقاييس جاهلية، مهما نعق دعاتها بالمساواة والعدل.. ولله سبحانه
وتعالى مقياس ثابت لا يتزعزع: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
إن المتقين أعزُّ خلق الله، وأرفعهم شأناً، ولو كانوا شعثاً غبراً لا يملكون مالاً
أو جاهاً.. فهم مؤمنون أتقياء وكفاهم ذلك نسباً وشرفاً ...
درس للدعاة..
وإذا كان الاستكبار في الأرض بغير الحق، والاستعلاء على الناس، عقبة
أمام كل دعوة وإصلاح، وجسراً إلى النار، وسبباً للهلاك والبوار، فينبغي على
المؤمنين عامة، والدعاة خاصة، أن يكونوا على حذر من الكبر والغرور، وأن
يرتقوا إلى أفق مشرقٍ وضيء، فيكونوا من الموطئين أكنافاً الذين يَأْلَفُون ويُؤْلفون،
وأن يطامنوا من كبريائهم، وأن يخفضوا جناحهم لإخوانهم المؤمنين، فيدخلون في
زمرة عباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً، وعندئذ يمدون أبصارهم للدار
الآخرة التي جعلها الله تعالى للمؤمنين المتواضعين: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ ولا فَسَاداً والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] .
وما أعظم ما أدبَّنا الله تعالى به، عندما اقتلع من نفوسنا كل بذرة تنبت الكبر
في نفس صاحبها! وما أعظم أدب الإسلام عندما جعل في نفس كل إنسان وازعاً
ونوراً يستضيء به، وحكماً عدلاً لا يخطئ الصواب يقضي بأن الكبر تزوير
للحقيقة وتعالٍ على الناس بدون حقٍ.. إذ لا شيء، مما يتيه به الإنسان فخراً على
الآخرين، ويتكبر عليهم بسببه، يسوِّغ له ذلك ويبرره.
* أرأيت العلم الذي تُفاخِر به وتتكبر؟ إنه من عند الله سبحانه، ومهما أوتيت
منه فلن تبلغه كله:
[وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] [البقرة: 31] .
[وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] [يوسف: 76] .
[ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً] [الإسراء: 85] .
* أرأيت إلى الملك والسيادة والزعامة؟ إنها بقدر من الله تعالى، وهو
ينزعها منك متى شاء:
[قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [ال عمران: 26] .
* أرأيت إلى الرزق والمال والمتاع المادي كله؟ إنك لم تخلق منه شيئاً، فهو
كله من عند الله، وليس لك فيه إلا الكسب:
[أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ (69) لَوْ
نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ] [الواقعة: 63 - 70] .
* وحتى الطاقة التي تستخدمها وتُسَخّرها لتيسير سبل الحياة لديك.. إنها هبة
من الله تعالى ومنحة للبشر:
[أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ
(72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ] [الواقعة: 71 - 73] .
* وماذا بقي لديك؟ الحسب والنسب؟ فهل لك في ذلك إرادة واختيار؟ هل
كنت بمحض إرادتك من
بني فلان أو من بنى فلان آخر ... ؟ وما الذي يميزك عن غيرك، والكل
يمتون بالنسب إلى أصل واحد.. إلى آدم - عليه السلام -:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] ، «والناس كلهم لآدم وآدم من تراب» [15] .
فماذا بقي بعد هذا كله؟ ماذا بقي لك تتكبر به على الآخرين إلا العجز
والضعف ومعرفة الأصل الذي كنتَ والنهاية التي إليها تصير؟ .
فلتعد إلى نفسك، ولتضعها في مكانها، ولا ترفعها إلى ما لا تستحق، وليكن
لك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 372 - 377، 4/370 - 373، دار الفكر، بيروت.
(2) انظر: تفسير ابن كثير 2/81.
(3) أخرجه الإمام مسلم في فضائل الصحابة برقم (46) ، وابن ماجه في الزهد برقم (4128) ، وقال الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري: 11/ 379: خرجه السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته لأحمد وابن أبي حاتم وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم والحاكم والفريابي وعبد ابن حميد والنسائي وابن المنذر.
(4) مسند الإمام أحمد: 1/420.
(5) أخرجه الطبري في التفسير: 11/574 - 575، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/20: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير كردوس، وهو ثقة، ونسبه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية، انظر: تفسير الطبري بتحقيق وتعليق محمود شاكر، في الموضع نفسه.
(6) الطبري 11/376 - 377، وابن ماجه برقم (4127) في الزهد، قال المحقق: في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات وقد روى مسلم والنسائي والمصنف بعضاً من حديث سعد بن أبي وقاص وقال ابن كثير في التفسير 2/ 136: (وهذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر) ونسبه السيوطي أيضاً لابن أبي شيبة وأبي يعلى وأبي نعيم في الحلية وابن المنذر وأبي الشيخ، وابن مردويه والبيهفي في الدلائل انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري (11/377) .
(7) العسفاء: جمع (عسيف) ، وهو العبد، والأجير المستهان به.
(8) أخرجه الطبري بإسناده عن عكرمة في التفسير: 11/379 - 380.
(9) انظر بحثه القيم عن: (معركة النبوة مع الزعامة) ص 246 - 248، وهو البحث المقدم للمؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية عام 1400 هـ بالدوحة، ومنشور في البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر 6/407 وما بعدها، الطبعة الأولى 1401 هـ.
(10) تفسير ابن كثير 2/136.
(11) القصة بكاملها في البخاري، كتاب بدء الوحي رقم (7) ، فتح البارى 1/31 - 33 وفي مواضع أخرى منه، ومسلم في الجهاد والسير، برقم (74) 3/ 1393 - 1397، والإمام أحمد في المسند: 1/262.
(12) أخرجه الإمام مسلم في البر والصلة برقم (2564) ، والإمام أحمد في المسند 2/285 و 539، وابن ماجه في السنن، كتاب الزهد برقم (4143) ، والبغوي في شرح السنة برقم (4150) 14/34.
(13) تفسير المنار للسيد رشيد رضا: 8/504.
(14) انظر: التفسير القرآني للتاريخ، د راشد البراوي: ص 158.
(15) أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده حسن، مشكاة المصابيح بتحقيق الشيخ الألباني: 3/1373.(5/36)
الإسلام
قول وعمل واعتقاد
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه مشتمل على أقوال
وأعمال واعتقادات، بالإسلام بعث الله جميع النبيين، قال تعالى: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] . وقال: [إنَّ الدِّينَ عِندَ
اللَّهِ الإسْلامُ] . وقال نوح: [يَا قَوْمِ إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إلَيَّ ولا تُنظِرُونِ (71) فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ وأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ] .
وأخبر الله عن إبراهيم عليه السلام أن دينه الإسلام فقال تعالى: [ومَن
يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ولَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وإنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ (131) ووَصَّى
بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم
مُّسْلِمُونَ] . وقال تعالى: [ومَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ
مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً واتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً] وبمجموع هذين الوصفين: إسلام
الوجه لله والإحسان في العمل علق السعادة فقال تعالى: [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ
وهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] ، كما علقها
بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح فقال -: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا
والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] ، وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو
إخلاص الدين لله مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر الله به هو والإيمان
المقرون بالعمل الصالح متلازمان.
فالإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين، وهذا دين الله الذي
لا يقبل من أحد ديناً سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا تكون عبادته مع
إرسال الرسل إلينا، إلا بما أمرت به رسله، لا بما يضاده، فإن ضد ذلك معصيته، وقد ختم الله الرسل بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون مسلماً إلا من شهد
أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في
الإسلام.
ثم لابد من التزام ما أمره به الرسول من الأعمال الظاهرة كالمباني الخمس:
الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، ومن ترك من ذلك شيئاً نقص إسلامه
بقدر ما نقص من ذلك كما في الحديث: «من انتقص منهن شيئاً فهو سهم من
الإسلام تركه» .
والدين: مصدر دان يدين ديناً، إذا خضع وذل، ودين الإسلام الذي ارتضاه
الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، وهو الخضوع له والعبودية له، قال
أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم. فمن استكبر عن عبادة الله، أو عبده وعبد معه
إلهاً آخر لم يكن مسلماً، وجميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام.
ويدخل في مسمى الدين أيضاً عند الإطلاق الاعمال الباطنة وهي أعمال
القلوب؛ كالحب والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والإنابة والتوكل
والمعرفة واليقين والصدق، وعلم القلب وتصديقه؛ كالإيمان بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
كما يدخل فيه جميع الأعمال الظاهرة، كالنطق بالشهادتين والصلاة وأداء
الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام وبر الوالدين والإحسان إلى الأقارب
والجيران والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيه أيضاً: إفشاء السلام
وإطعام الطعام والجهاد في سبيل الله وطاعة أولي الأمر في طاعة الله ونصح
المسلمين وتعليمهم وإرشادهم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر حديث
جبريل الطويل: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» بعد أن شرح درجة الإسلام
ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كله ديناً.
وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام ومسمى الدين كالزنا والرياء
والسرقة وشرب الخمر وأكل مال اليتيم وإيذاء الجار بقول أو فعل.
فالخلاصة أنه يدخل في مسمى الدين ومسمى الإسلام عند الإطلاق: فعل
جميع الواجبات القولية والفعلية، وترك جميع المحرمات القولية والفعلية.
والأدلة على ارتباط أعمال الدين بالقلب واللسان والجوارح كثيرة منها حديث
جبريل المشهور فإنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان
والإحسان، فأما الإسلام فقد فسره النبى - صلى الله عليه وسلم - بأعمال الجوارح
الظاهرة من القول والعمل، وأول ذلك شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله، وهو عمل اللسان، ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت
من استطاع إليه سبيلاً، وهي منقسمة إلى عمل بدني، كالصلاة والصوم، وإلى
عمل مالي وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما كالحج، ومن الأدلة أيضاً
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول:
لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق» فدل هذا الحديث على أن
الإيمان أصل له شعب، وشعبه هي أعمال القلوب وأعمال الجوارح، قال - صلى
الله عليه وسلم -: «الحياء شعبة من الإيمان» وكذلك التوكل والخشية والإنابة
من شعبه، وكذلك الصلاة من الإيمان والزكاة والصوم والحج، حتى تنتهي هذه
الشعب إلى: إماطة الأذى عن الطريق، وبين شعبة الشهادة وشعبة الإماطة للاذى
عن الطريق شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من
شعبة الإماطة، ومن الأدلة أيضاً قوله - عليه السلام -: «من أحب لله وأبغض لله
وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيما» ن، فأدخل أعمال القلوب - وهو:
الحب والبغض - في الإيمان، كما أدخل أعمال البدن في الإيمان - وهو: الإعطاء
والمنع - ومن الأدلة أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده» ، فسمى المسلم من ترك أذية الناس بلسانه ويده، ومن
ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ،
ويدل على هذا أيضاً ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض
بن سارية - رضي الله عنه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضرب
الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى
الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا
الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحد أن يفتح
شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط:
الإسلام، والسوران: حدود الله عز وجل، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك
الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من جوف الصراط: واعظ الله
في قلب كل مسلم» ، زاد الترمذي: «والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم» ، ففي هذا المثل الذي ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم -:
أن الإسلام هو: الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه، ونهى عن
مجاوزة حدوده، وإن ارتكب شيئاً من المحرمات فقد تعدى حدوده، ومن الأدلة ما
في الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل النبى -
صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؛ قال: «أن تطعم الطعام وتقراً السلام
على من عرفت ومن لم تعرف» ، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الدالة على أن
أعمال الدين مرتبطة بالقلب واللسان والجوارح، ومن نطق بالشهادتين ولم يصدق
بقلبه ولم يعمل بجوارحه فمن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشارع -
صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل الإيمان حاصلاً بمجرد قول اللسان؛ فإن
المنافقين يقولون: لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل
من النار، وقد نفى الله الإيمان عنهم في القرآن الكريم كما قال تعالى: [وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ] ، وقال: [إذَا جَاءَكَ
المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ] ، وقال عن المنافقين: [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] ، وقال
عن المشركين: [يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] ، فلا يكون
الإنسان مؤمناً مسلماً حتى يتواطأ قلبه ولسانه على النطق بالشهادتين، ويعمل
بجوارحه وقلبه بمقتضاهما من المحبة والطاعة والانقياد وخوف الله ورجائه
والصلاة والصيام وغير ذلك، فإنه من المعلوم بالضرورة أن الشارع الحكيم رتب
الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما، كما قال -
صلى الله عليه وسلم - في حديث عتبان: «إن الله حرم على النار من قال: لا إله
إلا الله، يبتغي بذلك وجهه الله» ، ولما سأل أبو هريرة النبي - صلى الله عليه
وسلم -: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال: لا إله إلا الله
خالصاً من قلبه» ، وفي رواية: «مخلصاً من قلبه» ، وفي رواية: «صادقاً من
قلبه دخل الجنة» ، وفي حديث آخر: «من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من
دون الله» ، إذن فلابدّ من قول: لا إله إلا الله مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة
أهلها وبغض من خالفها ومعاداته، فإن هذه الكلمة هي كلمة التقوى وهى العروة
الوثقى وهي التي جعلها إبراهيم - عليه السلام - باقية في عقبه لعلهم يرجعون،
وهو - عليه السلام - يتبرأ من الشرك وأهله، كما قال تعالى: [وجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] .
ومن امتنع عن العمل بجوارحه وقال: الدين في القلب محتجاً بقوله - عليه
السلام -: «التقوى ههنا» وأشار إلى صدره، فيقال له: إن الإيمان الذي في
القلب لابد أن تصدقه الجوارح بأعمالها، فإن التصديق يكون بالأفعال كما يكون
بالأقوال، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ...
«العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني
وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» ، وقال الحسن البصري - رحمه الله - ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما ... وقر في الصدر وصدقته الأعمال) ، وأما قوله - عليه السلام-: «التقوى ههنا - ... ويشير إلى صدره ثلاث مرات» ، ففيه إشارة إلى أن كرم الخلق عند الله بالتقوى، فرب من يحقّره الناس لضعفه وقلة حظه من الدنيا وهو أعظم قدراً عند الله ممن له ... قدر في الدنيا، كما قال بعد هذه العبارة: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه
المسلم» وقال قبلها: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا
يحقره» ، فإن الناس إنما يتعاونون بحسب التقوى، كما قال تعالى: [إنَّ ... أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم لله تعالى» ، وفي حديث آخر: «الكرم التقوى» ، والتقوى أصلها في القلب، كما قال تعالى: [وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى
القُلُوبِ] ، وكما قال الله في الحديث القدسي، حديث أبي ذرّ الطويل. «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً» . وفي هذا دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا برّ القلب واتقى برّت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح، ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً.
ومن امتنع عن النطق بالشهادتين مع قدرته على ذلك، فلا شك أن الإسلام
يزول بفقد الشهادتين إذ المراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله، والشهادتان عَلَم
الإسلام، وبهما يصير الإنسان مسلماً إذ من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً، فإذا
دخل الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، وقد ضرب العلماء مثل الإيمان
بمثل شجرة لها أصل وفروع وشعب، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله، ولو زال
شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنها اسم الشجرة، وإنما يقال هي شجرة ناقصة
وغيرها أتم منها، وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] ، والمراد بالكلمة
كلمة التوحيد، وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب، وأُكُلها هو: الأعمال الصالحة
الناشئة فيها، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل المؤمن والمسلم بالنخلة، ولو زال شيء من فروع النخلة ومن ثمرها لم يزل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية.
وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر، فمن ترك الشهادتين خرج من الإسلام، إذ يعلم
من مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - علماً ضرورياً أن من لم يتكلم بلسانه
بالإيمان مع قدرته على ذلك ولا صلى ولا صام ولا أحب الله ولا رسوله ولا خاف
الله أن هذا ليس بمؤمن وإن ادعى أنه عارف بقلبه صدق رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فإن معرفته بقلبه لا تنفعه والحالة هذه؛ إذ أن الشارع رتب الفلاح
والفوز على النطق بالشهادتين مع العمل بمقتضاهما، والأدلة على ذلك كثيرة
مشهورة عند العلماء، من ذلك: حديث جبريل المشهور الطويل في سؤاله للنبى -
صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأجابه بأن الإسلام: أن
تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،
وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. ومن ذلك: حديث عبد الله
بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» ، رواه البخاري
ومسلم، وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: «آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده، وهل
تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم
رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» ، وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» .
ومن أجل هذه الكلمة خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق
الجنة والنار، قال تعالى: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ، وقال تعالى:
[ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] ، وقال
تعالى: [ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] وقال
تعالى: [واذْكُرْ أَخَا عَادٍ إذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ
خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ] وهذا معنى كلمة الإخلاص الذي اجتمعت عليه الرسل.
فمن نطق بهذه الكلمة عارفاً لمعناها صادقاً من قلبه عاملاً بمقتضاها فهو المسلم، ومن امتنع عن النطق مع قدرته ولم يعمل بمقتضاها فليس بمسلم وإن ادعى
الإسلام.
وفق الله المسلمين لتحقيق إسلامهم وإيمانهم، إنه سمع مجيب.(5/48)
الحرية العرجاء
طارق عبد الحليم
في إحدى قاعات الدراسات.. العليا بجامعة بريطانية عريقة، ثار نقاش بين
جمع من الطلاب الإنجليز حول التركيبة الاجتماعية الحالية للمجتمع في هذه البلاد،
وعلاقتها بالنظم السياسية والاقتصادية. وقد اشترك في بداية النقاش بعض الطلبة
العرب، ثم آثروا ترك المجال لأبناء البلد ليدلي كل منهم بدلوه في ذلك الأمر.
وقد آثرت أن أثبت - بإيجاز - ذلك الحوار لما فيه من صدق وتلقائية.. وكما
قيل «من فمه ندينه» .
أبدى أستاذ القسم ملاحظة حول تكوين النقابات العمالية ونشأتها، وما يتعلق
بنظام الأجور القومي الذي اتفق عليه بين أرباب العمل، وبين النقابات، وارتباطه
بنوعية العمل، وبيّن أن ذلك يرتبط بعدة أمور - عدا كمية العمل ونوعيته - كعمر
العامل وجنسه! أي رجل أم امرأة..
وعند تلك النقطة تدخّل أحد الطلبة قائلاً: إن ذلك الأمر لمن غرائب هذا
المجتمع، إذ لا يوجد أي سبب يبرر ذلك التمييز في الأجر؟ ! فالمرأة التي تعمل
في وظيفة ما، تتقاضى أقل من الرجل الذي يشغل الوظيفة نفسها، ويؤدي الجهد
نفسه، ويقضي ساعات العمل نفسها [حوالى 75% من أجر الرجل] .
وأبدى أن ذلك يتناقض مع ما يدعيه المجتمع الإنجليزي من حرية ومساواة،
خاصة في مجال المرأة وحقوقها..
وكان ردّ أحد الطلبة البريطانيين - والذي تجاوز الخمسين من العمر - قائلاً:
إن ذلك يرجع إلى أصل ما كان عليه المجتمع الغربي قبل عدة عقود من تقاليد
ومبادئ تتخذ العائلة كوحدة اجتماعية للبناء الاجتماعي، فالرجل كان هو المسؤول
عن العائلة، بما فيها المرأة والولد، وهو الذي عليه أن يوفر ما يحتاجه البيت،
والأسرة، والمرأة محلها داخل البيت كزوجة، وأم للأولاد، فيحتفظ المجتمع
بتوازنه لاحتفاظ الخلية العائلية بتوازنها، أما من بعد الثورة الصناعية، والتطورات
الأخيرة في العقلية الأوربية من اختلال للمعايير والموازين، وبزوغ فكرة الحرية
الفردية وعلو شأنها حوالي منتصف القرن الماضي - بما تحمله تلك الكلمة من حق
وباطل - فإن الوحدة الرئيسية للمجتمع لم تعد العائلة، بل صارت «الفرد» رجلاً
كان أم امرأة.. ومن ثم.. وبعد أن تبدلت القيم والمفاهيم، وشاعت الحرية -
صارت المرأة لا تعني الزوجة أو الأم للرجل، بل زميلة العمل أو الصديقة والخليلة، ولم يعد الرجل بحاجة إلى الزواج وإقامة العائلة كوحدة اجتماعية-في غالب
الأحيان - فحاجاته الطبيعية ملباة دون مسؤوليات تلقى على عاتقه، وهو حر في
التنقل بين امرأة وامرأة، كما أن المرأة حرة في التنقل بين رجل ورجل، كما
تقتضيه دفعة الجسد العمياء ولقد كان من المنطقي، وليتناسق النظام، أن تتساوى
الأجور، إلا أن ذلك لم يحدث، وظل القانون يحتفظ بتلك الصورة القديمة الكامنة
في الفطرة الإنسانية، والتي تجعل من الرجل المسؤول عن تأمين احتياجات العائلة، ومن المرأة زوجة وأماً..
وساد صمت على القاعة لعدة دقائق راح فيه كل طرف يقلب الأمر على
جوانبه بين مؤيد ومعارض. وكنت أعجب من ذلك الحوار الذي أنطق الله فيه أحد
عقلاء الإنجليز بالحق، وأظهر فيه ذلك التعارض القائم بين ادعاء الحرية والمساواة
- خاصة في مجال المرأة - وبين ما هو واقع الحال من تفرقة عجيبة لا أساس لها
من المنطق العادل بحال - إن حاكمناهم على أصولهم في الحكم على الأمور -
تجعل المرأة في الصف الثاني مهما بذلت من جهد وعرق، مثلما يبذل الرجل..
وإن كان عجبي كبيراً من ذلك المنطق الأعوج، وانحراف الفطرة عن
طبيعتها لمّا تركت الهدي الإلهي، وزاغت في طريق الضلال.. فإن عجبي لأكبر
ممن هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ويدعون إلى تلك الفوضى الاجتماعية
التي يلبسونها ثوب الحرية زوراً وبهتاناً، وينادون في كل ناد أن: اعطوا المرأة
المسلمة حقها أسوة بالمرأة الأوربية! ! بل ويقف بعض المسلمين الطيبين موقف
الدفاع على أساس أن المرأة المسلمة لها حقوق كذلك في الإسلام أسوة بالمرأة ... الغربية؟! .
ونحن نرد عليهم دعواهم، وندعي خلافها: أن المرأة الغربية لم تنل حريتها
حقاً وصدقاً.. ويالها من حرية تلك التي تشقى بها المرأة في الكد والعمل خارج
البيت، وبالوحدة واحتمال الولد - غير الشرعي - ومسؤولياته، ومواجهة الحياة
دون رفيق يعين على ذلك العناء.. ثم تتقاضى أجراً أقل من مثيلها من الرجال..
والقانون الإنجليزي لم يحتفظ بتلك الصورة ورعاً وتقوى! إنما احتفظ بها
لأنها تخدم أصحاب رؤوس الأموال، في مجتمع رأسمالي يؤمن بالنفعية كأساس
للتعامل، فالمرأة تحتاج إلى العمل بعد أن تخلق عن دورها الطبيعي، وبعد أن
تخلى عنها الرجل، ولا بأس إذن من تحقيق فائض من الربح عن طريقها.
ونحن - وإن كنا لا ندعي أن حضارة الغرب شر كلها لا يشوبه خير؛ قط إذ
أن ذلك لا يكون في أمر من أمور الدنيا التي خلقها الله سبحانه على امتزاج الأمرين
معاً، فخير غالب يشوبه بعض الأذى، أو شر غالب يسري فيه بعض الخير - قد
قصدنا إلى بيان أحد أوجه النقص وأكثرها أهمية في المجتمعات الغربية وغيرها،
التي ارتضت طريقة عيشها ليعلم المسلمون أي خير هم عليه، وأي حق هيأ لهم..
ويا ليتهم يعلمون فيعملون.(5/54)
أدب وتاريخ
معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي
(5)
النقد التاريخي
عند ابن تيمية وابن خلدون
محمد العبدة
لا شك أن من المهمات الرئيسية للمؤرخ بعد الاطلاع على المرويات
التاريخية، تمحيص الخبر وبيان صحته أو زيفه، وذلك بعد عرضه على منهج واضح محدد المعالم يرتضيه هو لنفسه، ذلك أن الخبر بطبيعته يتطرق إليه الوهم والغلط أو الكذب أحياناً، وقد تكلم ابن خلدون في مقدمته عن الأسباب التي تقتضي الكذب في الأخبار فذكر منها:
1- التشيعات للآراء والمذاهب، لأن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في
قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه.
2 - الثقة بالناقلين. وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.
3 - الجهل بالقوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية.
4 - الجهل بطباع العمران [1] .
والمقصود بالظواهر ظواهر علم الفلك والكيمياء والطبيعة والحيوان والنبات.. وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين الذين ليس عندهم إلمام بهذه العلوم، فيقبلون
الأخبار التي تتناقض تناقضاً تاماً مع القوانين العلمية كالخبر الذي ذكره المسعودي
عن بناء الإسكندرية [2] .
والمقصود بطبائع العمران الظواهر الاجتماعية، كالعادات، والتقاليد،
والغنى، والفقر، والعلم، والجهل، وكثرة السكان، أو قلتهم، وطبيعة الدول ...
إلخ، ضمن كل هذه العوامل هل من الممكن وقوع الحادثة أم لا؟ وسنرى كيف
يطبق ابن خلدون هذا المنهج في نقده لبعض الأخبار، وكيف يعتبر أن العلم بطبيعة
العمران هو أهم سلاح يوجه للخبر التاريخي: وهو أحسن الوجوه وأوثقها في
تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم
أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في
التعديل والتجريح) [3] .
وهذا الكلام وإن كان مقبولاً بشكل عام، ولكنه يحتاج إلى شيء من التحفظ؛
فهناك روايات صحيحة ينقلها ثقاة عدول يعلمون ما ينقلون عن أمور خارقة للعادة،
وبالشروط المطلوبة لوقوع الكرامة فنحن نصدقها، ولا نقبل من أحد أن يقول: هذه
لا يمكن وقوعها، كحادثة العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - في فتح إقليم
فارس زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإن كان الأصل هو الأخذ
بالأسباب وجريان الأمور على سنن كونية لا تتخلف مع أن الخبر التاريخي يختلف
من بعض الوجوه عن نقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يبقى
أن منهج الجرح والتعديل الذي قام به أهل الحديث هو من أعظم العلوم التي برز
فيها المسلمون، ونقدوا فيها الروايات التي تتعلق بحديث رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - واتخذوا في ذلك منهجاً صارماً للغاية، ذباً عن السنة أن يدخل فيها ما
ليس منها، وإن تطبيق هذا المنهج على الروايات التاريخية - إن أمكن ذلك - لهو
في غاية الأهمية، ولكن هناك صعوبات تعترض هذا التطبيق، منها:
1 - لم تؤلف الكتب في جرح وتعديل رواة التاريخ كما وقع لرواة حديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن الاهتمام بالسنة هو الأولى
والمقدم، والمقصود: معظم الروايات التاريخية، وإلا فهناك رواة للتاريخ يمكن
معرفة حالهم من كتب الجرح والتعديل.
2 -إن البحث والتفتيش عن الرواة انتهى في القرون الأولى بعد أن اطمأن
علماء الحديث إلى حفظ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن التاريخ
حركة دائبة، فكيف العمل في الأحداث التي جاءت من بعد؟
3 - تتدخل عوامل كثيرة في الحدث التاريخي غير الرواية، مما يساعد على
التأكد أو الشك في الخبر، كالآثار التاريخية والعوامل الجغرافية.. إلخ.
لهذه الأسباب ولغيرها لابد من الجمع بين منهج أهل الحديث، وما ذكره ابن
خلدون من عدم مخالفة الخبر لسنن الاجتماع، أو عدم مخالفته للعقل الصريح، مع
الاستفادة أيضاً من مناهج النقد الحديثة عند دارسي التاريخ، مما يتفق والأصول
العامة للإسلام.
وسنعرض لنموذجين من تحليل الحديث التاريخي، ونقد الخبر، وعرضه
على منهج قواعد علم الاجتماع.
أولا: ناقش ابن تيميه الذين يطعنون في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان -
رضى الله عنهم - ويقولون: إن المسلمين خالفوا الوصية التي يزعمون أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بها لعلي بن أبي طالب -رضى الله عنه-.
قال:
(نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم تكن، فنرجع إلى ما هو معلوم بالتواتر،
أو بالعقل والعادات، أو ما دلت عليه النصوص المتفق عليها فنقول:
من المتواتر أن أبا بكر لم يطلب الخلافة برغبة ولا برهبة، فلا بذل فيها مالاً
ولا شهر عليها سيفاً، ولا كانت له عشيرة ضخمة، بل ولا قال: بايعوني، ومن
تخلف عن بيعته لم يؤذه، ولا أكرهه عليها، كسعد بن عبادة، فلما جاءه اليقين
خرج منها أزهد مما دخل فيها، لم يستأثر منها بشيء ولا آثر بها قرابة، بل نظر
إلى أفضلهم في نفسه (عمر بن الخطاب) فولاه عليهم فأطاعوه ففتح الأمصار، وقهر
الكفار، وبسط العدل، حتى خرج منها شهيداً لم يتلوث لهم بمال، ولا ولى أحداً من
أقاربه ولاية، هذا أمر يعرفه من يعرف وينصف، ثم بايعوا عثمان كلهم طوعاً
منهم، فسار وبنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وكرم ولين، ولكن لم تكن
فيه قوة عمر، ولا سياسته التي بهرت العقول، فطمع فيه الناس بعض الطمع،
وتوسعوا في الدنيا، وكثرت عليهم الأموال، وتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا
وضعف خوفهم من الله تعالى، ومن ضعفه هو بالنسبة إلى كمال الذين سبقوه، ما
استحكم به الشر، وحرك الفتنة، حتى قتل مظلوماً. فتولى عليٌّ -رضى الله عنه-
والفتنة قائمة ولم تصف قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا
اقتضى رأيه الكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه أمره، كما أشار عليه ولده
الحسن، ثم افترقت عليه الخوارج، وقاتلوه - قاتلهم الله -فكان آخر الخلفاء
الراشدين الذين ولايتهم خلافة النبوة.
طريق آخر: وهو أن يقال: دواعي المسلمين بعد موت نبيهم كانت
متوجهة إلى اتباع الحق قطعاً، وليس لهم ما يصرفهم عن الحق، وهم قادرون
على ذلك، وإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل. فعلم أن المسلمين خير القرون بايعوا أبا بكر تديناً لا لرغبة ولا لرهبة، فلو فعلوا بموجب الطبع لقدموا علياً أو العباس، لشرف بني هاشم، ولما قيل لأبي قحافة: إن ابنك ولي الخلافة، قال: ورضيت بنو أمية وبنو هاشم وبنو مخزوم؛ قالوا: نعم، فعجب، وقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» .
طريق آخر: تواتر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير هذه
الأمة قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» فخير الأمم، بلا نزاع، القرن
الأول، ومن تأمل حال المسلمين في القرن الثاني بالنسبة إلى الأول، علم تباين ما
بينهما، فإن كان القرن الأول جحد حق الإمام المنصوص عليه، ومنعوا عادلاً عالماً
عناداً ودفعاً للحق، فهؤلاء شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم أخرجت للناس.
طريق آخر: عرف بالتواتر الذي لا يخفى أن أبا بكر وعمر وعثمان كان لهم
بالنبي اختصاص عظيم وخلطة وصحبة ومصاهرة، وما عرف عنه أنه كان يذمهم، فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهراً وباطناً معه وبعده، أو لا. فالأول هو
المطلوب، والثاني إما أنه علم وداهنهم، أو لم يعلم، وأيهما قدر فهو من أعظم
القدح في الرسول -عليه السلام-. وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من
الله لنبيه في خواص أمته، ومن وُعد أنه يظهر دينه على الأديان كيف يكون أكابر
خواصه مرتدة؟ ! هذا من أعظم القدح في الرسول والطعن فيه) [4]
وبنفس هذه الروح من مناقشة الروايات يرد ابن تيميه على من يقول: إن
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان سيولي بعده سالماً مولى أبي حذيفة لو كان
حياً، ويترك تولية أحد من أهل الشورى يقول:
(فكيف يظن بعمر أنه يولي مولى، بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية
جزئية، أو يستشيره فيمن يولي ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى
أبي حذيفة، فإن سالماً كان من خيار الصحابة) [5] .
ثانياً - طبق ابن خلدون منهجه في نقد الخبر وهو: هل يثبت هذا الخبر أولاً
إذا عرض على قواعد علم الاجتماع، أو أنه يتناقض مع طبيعة العصر وطبيعة
العلاقات الاجتماعية يومها؛ وذكر أمثلة على منافاة الأخبار لطبيعة قواعد علم
الاجتماع نذكر منها:
أ- قصة العباسة أخت الرشيد قال: (ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما
ينقلونه كافة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن
يحيى بن خالد مولاه، وأنه لِكَلَفه [6] بمكانهما أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة
حرصاً على اجتماعهما في مجلسه، وأن العباسة تحيلت على التماس الخلوة،
فحملت من جعفر ووشي بذلك للرشيد فاستغضب ...
ويتابع ابن خلدون نقده لهذا الخبر: (وهيهات ذلك من منصب العباسة في
دينها، وأبويها، وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربع
رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده، والعباسة بنت محمد المهدي بن
أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ترجمان القرآن، ابنة
خليفة، أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز، قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة [7] ... الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش، وكيف يسوغ من الرشيد أن
يصهر إلى موالي الأعاجم على همته وعظم آبائه؛ وإنما نكب البرامكة ما كان من
استبدادهم على الدولة، واستنكاف الرشيد عن الحَجْر والأنفة..) [8] .
ب-كثيراً ما يقع المؤرخون في الوهم والغلط عندما يكون الخبر متعلقاً بالأرقام
والإحصائيات، كإحصاء الجيوش، أو أموال الخراج، وبعض الناس عندهم ولع
بتضخيم الأرقام، فيذكرون أشياء تصادم العقل والبديهيات، وتصادم قانون النمو
السكاني، وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين قبله لوقوعهم في هذه الأغلاط، واعتمد
في نقده، على علم الإحصاء، وتكاثر السكان ضمن البيئة الجغرافية التي يعيشون
فيها. يقول:
(وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل،
وأن موسى -عليه السلام- أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح
خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون) .
يعلق ابن خلدون على هذه الرواية: (ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام
واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من
ملك بني إسرائيل، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريباً منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفاً كلهم متبوع، وكانوا في
أتباعهم أكثر من مائتي ألف، وعن عائشة والزهري أن جموع رستم التي زحف بها
لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا.
وأيضاً، فالذي بين موسى وإسرائيل (يعقوب عليه السلام) إنما هو أربعة آباء
على ما ذكره المحققون، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى -عليه
السلام- إلى التيه مائتين وعشرين سنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال
إلى مثل هذا العدد « [9] .
لا شك أنها نظرة متقدمة جداً من ابن خلدون وهي اكتشافه لقانون التكاثر
والنمو السكاني.
لقد كان الهدف الرئيسي عند ابن خلدون من كتابة المقدمة هو تخليص
الروايات التاريخية من الخطأ والكذب، ووضع القوانين التي تساعد المؤرخ على
عدم الوقوع في الأخطاء، ولذلك تكلم عن العمران البشري والقوانين التي تحكم
سكونه وحركته. ولكنه فوجئ بأنه أتى بعلم جديد هو بحد ذاته هدف ثمين.
ولكن رغم أهمية ما جاء به ابن خلدون لابد من التأكيد على أن منهج أهل
الحديث في نقد الخبر هو من أعظم المناهج، وإذا استطعنا الجمع بين هذا المنهج
ومنهج النقد الاجتماعي والعقلي عند ابن خلدون وغيره من دارسي التاريخ -مع
بعض التحفظات على هذه المناهج- فسوف نؤدي بعملنا هذا خدمة جليلة للتاريخ
الإسلامي.
__________
(1) المقدمة 1/328، ط 3 دار النهضة، نشر د علي عبد الواحد وافي.
(2) المقدمة 1/329.
(3) المقدمة 1/330.
(4) المنتقى من منهاج الاعتدال482، 485.
(5) المصدر السابق368.
(6) كلفتُ به: أحببته وأولعت به.
(7) بقصد بها الفطرة السليمة والوضع الطبيعي الذي لم تشبه شائبة، والساذج: الصافى لم يختلط بغيره، انظر: المقدمة 1/301.
(8) المقدمة 1/300.
(9) المقدمة 1/292.(5/58)
أدب وتاريخ
الحلم
للشاعر: معن بن أوس المزني [*]
1- وذي رَحِم قلَّمتُ أظفار ضِغْنِه ... بحلمىَ عنه، وهو ليس له حِلم
2- يحاول رَغْمي لا يُحاولُ غيره ... وكالموت عندي أن يَحُلَ به الرَّغْمُ
3- فإن أعفُ عنه أُغض عيناً على قَذىً ... وليس له بالصَّفْح عن ذنبه علمُ
4- وإن أنتصر منه أكُن مثل رائشٍ ... سهامَ عدوٍّ يُستهاضُ بها العظمُ
5- صبرتُ على ما كان بيني وبينه ... وما تستوي حرب الأقاربِ والسِّلمُ
6- وبادرتُ منه النأيَ والمرءُ قادرٌ ... على سهمه ما كان في كفه السهم
7- ويشتم عِرضي في المغيب جاهداً ... وليسَ له عندي هَوَانٌ ولا شتم
8- إذا سُمتُه وَصلَ القرابة سامنى ... قطيعتَها، تلك السفاهةُ والإثمُ
9- وإن أدعه للنِّصف يَأبَ إجابتي ... ويَدعو لحكم جائرٍ غيرهُ الحُكم
شرح الأبيات [**]
1 - رب صاحب قرابة كان ذا ضغينة وحقد عليً، أزلت أضغانه بحلمي
وصبري، مع أنه ليس عنده حلم وإنما هو غضوب نفور.
2 - ومن صفاته أنه يحب قهري وإنزال الأذى بي، وقد وقف جهده على هذا، في حين أنني أكره مساءته ونزول أي أذى به كراهيتي للموت.
3 - وأنا في حيرة من أمري معه، فإنني إن أصبر على أذاه وأعف عنه،
أتحمل مشقة عظيمة بذلك، وهو لا يدري المعاناة التي أعانيها بالصفح عن ذنبه،
وليس يدري حتى بالصفح نفسه.
4 - ويؤلمني أن أقابل إساءته بمثلها أشد الألم، إذ أنني سأكون كمن يجهز
السهام لعدوه ليرمي بها من جهزها.
5 - لكن فضلت الأولى وهي الصبر على ما بدر منه تجاهي، لأنني وجدت
أن حرب الأقارب مر الأثر، ففضلت مسالمتهم.
6 - ووصلته بعد أن نأى وتباعد عني، مع أنني قادر على قطيعته.
7 - وفعلت ذلك مع جده واجتهاده في شتم عرض وأنا غائب، في حين لم
يخب مني ما يسوءه من شتم ولا إهانة.
8 - وإذا ما عرضت عليه التواصل وترك التقاطع والتدابر بحق القرابة
والرحم كان جوابه القطيعة، فياللسفاهة، وياما أشد جراءته وحرصه على كسب
الإثم.
9 - وإن دعوته للإنصاف، وأن يحل كل منا صاحبه يرفض هذه الدعوة،
ويختار الاستمرار في الغي والجور عن القصد.
10- فلولا اتقاءُ الله والرَّحم التي ... رعايتها حقٌّ وتعطيلها ظلم
11- إذاً لعلاه بارقي وخَطَمتُهُ ... بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابهه وسم
12- ويسعى إذا أبني ليهدمَ صَالِحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
13- يودُّ لو أتِّي مُعدِمٌ ذو خصاصة ... وأكرهُ-جهدي-أن يخالطه العدم
14-ويعتدُّ غنماً في الحوادث نكبتي ... وما إن له فيها سَناءٌ ولا غُنم
15- فما زلتُ في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الوَلَدِ الأمُّ
16- وخفضي له مني الجناح تألفاً ... لتدنيهُ مني القرابةُ والرَّحمُ
17- وصبري على أشياء منه تريبني ... وكظمي على غيظي، وقد ينفع الكظمُ
18- لأستلَّ منه الضِّغنَ حتى استللتُه ... وقد كان ذا ضِغن يضيق به الحزم
19- رأيتُ انثلاماً بيننا فرقَعتُه ... برفقي أحياناً، وقد يرقع الثَّلمُ
20- وأبرأت غِلَّ الصدر منه توسُّعاً ... بحلمي كما يشفى بالأدوية الكلمُ
21- فأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلمُ
10-11- فلولا تقوى الله، والخوف من قطع الرحم التي أوجب الله وصلها،
وعدَّه - سبحانه - ظلماً وأي ظلم؛ لناجزته العداوة، ولعلوته بالسيف، وللحقه مني
عار دائم لا يفارقه.
12 - إنه يصر على هدم ما أبنيه، وإفساد ما أصلحه، وشتان ما بين بان
وهادم ومصلح ومفسد.
13 -وأنا وإياه على خطتين مختلفتين: فبينما هو يتمنى لي الخصاصة
ويحب لي الفقر، فإنني أكره له ذلك وأعمل جهدي على تجنيبه ما يضر به.
14 - لقد أعمى الحقد بصيرته، وقلب بغضه لي الموازين في نظره، حتى
أصبح يعد ما يصيبني من نكبات ومصائب مغنماً له، وزيادة في ربحه، مع أنه في
الحقيقة لا تعود مصائبي عليه برفعة قدر، أو بمنفعة مادية.
15 - ولم أمل من مداراته وملاينته، كما تفعل الأم الرؤوم في حنوها على
ولدها.
16 - ولقد بلغت معه الغاية في التواضع وخفض الجناح، أتألف قلبه ليتذكر
القرابة التي تربط بيننا والرحم التي تجمعنا.
17 - وصبرت على أفعاله المريبة، وكظمت غيظي على ما يثيرني من
تصرفاته الغريبة، لاعتقادي أن نتيجة كظم الغيظ محمودة في النهاية.
18 - كل هذا فعلته من أجل أن أداوي مرضه، وأستل منه حقده، وأروض
نفسه الشموس التي امتلأت حتى ضاقت بهذا الضِّغن.
19 - وكانت علاقتنا مثلومة معيبة، فعالجت هذا الثلم بترفقي وحكمتي،
والفساد قد يصلح، والخرق قد يرقع.
20 - وكان مريض الصدر بالغل فداويت هذا الغل بحلمي كما يداوى الجرح
بالأدوية فيشفى.
21 - لقد كان بيني وبينه حرب مشتعلة، فما زلت أداريه، وأترفق به،
حتى حولته عن تلك العداوة، وأطفأت تلك النار، وصار لنا سلماً بعد أن كان حرباً.
حول القصيدة
هل عانيت العناء من جراء سلوك أحد أقربائك، وهل آلمك أن يقابل معروفك
بالتجاهل، وإحسانك بالإساءة، وهل صبرت على علاج من هذه حاله، ومنيت
نفسك بتغيره حيث كل الدلائل تشير إلى العكس، وهل جوبهت بالصد والسَّفهِ
وصنوف الجحود وأنت كاظم صامت، تعتمل في داخلك براكين الغضب المكتوم،
تجللها بسمة رضيَّة، ومرةً إثر مرة تواترت الإساءات، وتتابعت الإثارات، وأنت
في كل ذلك كأنك محتبس في زنزانة ضيقة، وأفعى ذات فحيح ليس لك منها فكاك،
ولا عنها مهرب، ومازلت تداورها في حسن تأتٍ وصبرٍ حتى استللت سُمُّها،
وخضدت شوكتها، فأسلست قيادها بعد طول نفار.
إذا كان لك عهد بهذه التجربة، أو سمعت من اشتكى مما يشبهها؛ فإن الشاعر
«معن بن أوس المزني» خلّد لنا ذلك في هذه القصيدة.
وقد امتازت هذه القصيدة بثلاث ميزات.
1 - سهولة وبساطة، في جزالة وقوة أسر:
وهذه معادلة صعبة المرتقى، إذا تحققت في أسلوب شخص فقد حقق البقاء له، وأن تتسع مساحة الإعجاب به إلى مدى لا يرام.
فقد يظن بعض الناس أن السهولة تعني الضحالة، وأن الجزالة تعني الجفاء
والوعورة، وهذا ظن خاطئ تدحضه هذه القصيدة، فعلى الرغم من أنها من عصر
متقدم، (إذ أن قائلها شاعر مخضرم) إلا إنها -فى سهولتها وانسياب ألفاظها - تدخل
العقل والنفس دونما عناء، وتثبت لنا أن في أدبنا القديم نصوصاً خالدة محجوبة عنا
بغبار ما يثيره أعداء هذا الأدب، وخصوم هذه اللغة من أضاليل ودعاوى الصعوبة
والخشونة، ويكفي دليلاً على هذا أن تقراً هذه القصيدة بهدوء وروية، فتجد أنها
تتسلل إلى الوجدان رويداً رويداً، وتتابع ألفاظها وجملها رخية ندية، راسمة بدقة
حدود شخصيتين مختلفتين أشد الاختلاف، متباينتي السلوك والطبع أبعد التباين،
دون إسفاف وهبوط حين تصف الشخصية السيئة، ودون إسراف في الفخر،
وإمعان في الخيلاء، حين تصف قائلها.
2 - صدق في التعبير، وسمو في المقصد:
فالشاعر مر بتجربة شخصية، صورها أصدق تصوير، واستهدف من وراء
ذلك إبراز محاسن الحلم وكظم الغيظ ومداراة ذوي الأرحام والرفق بهم، والتنفير
من الحمق والقطيعة، والرد على الإساءة بمثلها، والانتصار للنفس، كل ذلك
بعبارة نظيفة عالية، تتناسب مع هذا المقصد النبيل، بعيداً عن أسلوب الوعظ
المباشر الذي تستثقله النفوس، وتمله القلوب.
3- حكمة وعمق في تصوير النفس الإنسانية:
ها هو ذا الشاعر يبدو وكأنه يبوح لأحد جلسائه بتجربته، مضطجعاً في كِسر [1] بيته، هادئ النفس، مطمئن السريرة، لم يحجب الغضب بصيرته ط لباً للثأر، مقدماً بكلمة (ذي رحم) لتكون بمثابة «الحيثية» التي بنى عليها سلوكه الآتي، حتى لا يقال له - وقد أكثر من تصبره وتذلله إزاء هذا الذي لا يستحق كل ذلك -:
لقد أتعبت نفسك، وألزمتها ما لا يلزم؛ فإن الرحم تستحق ذلك وأكثر منه، (ويبدو أن الشاعر قد قال قصيدته في الإسلام، وهذا ظاهر من تأثره بقوله تعالى: [واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ] في قوله: ولولا اتقاء ... الرحم ... ) .
ويستمر في تصوير الأخلاق المتقابلة في هاتين النفسين المتباعدتين. حلم
وطيش، وحرص على الإغاظة وبعد عنها، ومعاناة عند العفو وتجاهل له،
واقتراب من هذا، وابتعاد من ذاك، وشتم مقذع بظهر الغيب وتنزه عنه في كل
حال، وصلة للرحم وقطيعة لها، وهدم يقابله بناء، وحرص على نزول المكروه
بشخص يحرص على حب الخير ... الخ، في عمق وحكمة تتوالى إلى آخر
القصيدة، في موجات متساوية متراخية، يذوب في خلال حروف المد فيها،
وفى ثنايا «أسباب وأوتاد البحر الطويل» توتر نفس الشاعر وغيظه المكبوت، إلا موجة واحدة تعلو عن أخواتها، حاملة لنا قدراً وافراً من شحنة الغضب والضيق والتبرم التي لا يمنعها من الانفجار إلا تقوى الله الذي حض على صلة الأرحام والصبر على أذاهم، وحذر من قطيعتهم، وهي هذان البيتان:
10- فلولا اتقاءُ الله والرَّحم التي رعايتها حقٌّ وتعطيلها ظلم
11- إذاً لعلاه بارقي وخَطَمتُهُ بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابهه وسم ثم تعود الموجات إلى هدوئها واستقرارها.
وبين البداية:
وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
والخاتمة:
فأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم
تنتظم روح شعرية واحدة، استلهمت البساطة والبعد عن التعقيد للتعبير عن
نوازع النفس الإنسانية وأهوائها المتناقضة في بناء شامخ وصلب، فالتحم البدء
والختام.
لكل هذا لا نستغرب إعجاب عبد الملك بن مروان بمعن بن أوس، حيث عدّه
- بهذه القصيدة - أشعر الناس، عندما سأل في ليلة كان يسمر فيها مع ولده وأهله
وخاصته، عن أحسن ما قيل من الشعر، فأنشدوا وفضلوا، وقال بعضهم: امرؤ
القيس، وقال بعضهم: النابغة، وقال بعضهم: الأعشى، فلما فرغوا قال: أشعر
الناس - والله - من هؤلاء جميعاً الذي قال: ... (وأنشد هذه القصيدة) [2] .
__________
(*) معن بن أوس المزني: شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وهو شاعر مجيد محسن، متين الكلام، حسن الديباجة، فخم المعاني كان معاوية يفضل مزينة (قبيلة الشاعر) في الشعر، ويقول: كان أشعر أهل الجاهلية منهم زهير، وكان أشعر أهل الإسلام - منهم ابنه كعب ومعن بن أوس.
(**) الغرض من هذا الشرح فهم القصيدة من أقرب طريق، والدخول إلى معانيها بعيداً عن الاصطلاحات، وهو لم يكتب للمختصين، ولا من في حكمهم، وإنما كتب لمن لا يعرفون عن الأدب العربي إلا القليل، نظراً لظروفهم الدراسية أو المعيشية، وخاصة من هم في ديار الغربة.
(1) جانب بيته.
(2) الأمالي 2/99، زهر الآداب، 817.(5/64)
أدب وتاريخ
مفهوم الجاهلية في
الشعر الجاهلي
(5)
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة:
في الحلقة السابقة تحدث الكاتب عن بعض أيام العرب المشهورة كحرب
البسوس، وحرب داحس والغبراء، وحرب الفجار، وما جرى في هذه الحروب
من ثارات وما قيل فيها من شعر، وفي هذه الحلقة يدخل الفترة الإسلامية، أثر
الإسلام في تلك البيئة.
التمهيد:
من خلال دراستنا للحياة السياسية في الشعر الجاهلي لا حظنا أن لهذه الحياة
مقومات أساسية نوجزها فيما يأتي:
1- القبيلة: هي البنية الاجتماعية والسياسية لتلك المجتمعات، ففيها يجد
العربي الحماية والطمأنينة، ولها يتعصب، والرباط الأقوى فيها هو العصبية التي
تنسي أصحابها كل تعقل وتوازن، فلا رأي ولا حرية للفرد أمام عادات القبيلة
وتقاليدها، وإلا تعرض للخلع والطرد.
ولقد نفخت العصبية في أفرادها نيراناً لاهبة من اعتزاز بالنسب، فهم أفضل
الناس، وآباؤهم أشرف آباء، حتى أن الشاعر كان ينسى نفسه ويتصور أنه وقومه
ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون بلا رادع، وقد افتخروا بكثرة العدد والعدة،
فكثرت المنافرات بينهم، وبالقوة والشجاعة، بل بالجبروت والغطرسة وهي من
أهم خصائص تلك الجاهلية..
ولقد وجدنا خلال دراستنا للشعر الجاهلي شواهد كثيرة في هذا الشأن.
2- العادات والتقاليد: وكان للتقليد عندهم سطوة الدين والمعتقد، فلا يستطيع
الفرد مهما أوتي من مكانة أن يخرج عليها، لقد تاهوا في ضلالات الجهالة والتقليد، وعطلوا فكرهم وعقولهم، ولذلك سفه الإسلام أحلامهم وحاول تحرير عقولهم،
حتى تمكن من تخليصهم من رواسبها.
3- التفرق والشتات: لم يعرف العرب وحدة سياسية في تاريخهم الجاهلي،
حتى أن الإمارات التي تشكلت كانت لا تزيد عن كونها قبائل متصارعة مع أمثالها،
ولم تنفذ إلى فكرة الأمة أو الجنس، بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد، إنما
اتخذت صورة اتحاد قبلي له رئيس ليس غير.
لقد كوَّن المناذرة والغساسنة إمارتين اصطنعتهما فارس والروم لضرب القبائل
العربية الأخرى في الجزيرة، وكثيراً ما وقعت الحروب الطاحنة بين هاتين
الإمارتين. ولقد أدتا دورهما في خدمة سادتهما خير أداء من بطش بالقبائل ... العربية، وقتل وتخريب..
وفى مؤتة حارب مع الروم من قبائل العرب مثل: لخم وجذام وبلي وغيرهم
ما يزيد عن مائة ألف بالإضافة إلى مثلهم من الروم [1] .
أما إمارة كندة، ومدن الحجاز، فما كانت إلا تجمعات قبلية سكنت الحاضرة
ولم تخرج على عادات القبائل وصراعاتها.
4- الحروب والأيام: إن العربى في البادية شجاع، يفضل الموت تحت
ظلال السيوف، على حياة الذل والضيم، فحياته حرب ضروس لا تهداً، وقد
زخرت موضوعات الشعر في تصويرها كما مر معنا في الأعداد السابقة، إذ مدح
الشعراء الشجاعة والشجعان، والفروسية والفرسان، والحياة للقوي، وهذا ما عبر
عنه زهير إذ يقول:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وكثر الهجاء وشارك في المعارك مصوراً الفرار والهزيمة، وبكى الشعراء
قتلاهم، وندبت النساء الموتى، وعرف الشعر العربى عدداً من أصحاب ... المراثي..
آثار الحرب: وكان من آثارها كثرة الأسرى والسبايا، وما رافق ذلك من
تأريث للعداوة، ومحاولات مستمرة لتخليص الأسرى والسبايا.
أما عادة الثأر فقد كانت متأصلة في نفس العربي وكثيراً ما سببت حروباً لا
تنطفئ، ولم تمنع القرابة من الثأر بين أفراد القبيلة الواحدة.
وقد تلجاً القبائل في هذه البيئة الحربية، التي يشع فيها الفزع والهول، إلى
التحالف مع القبائل الأخرى لترد عن نفسها العدوان.
ولقد صورت لنا أيام العرب هذه الحياة الحربية، وذلك الصراع الدامي، وإذا
تصفحت الجزء الأول من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير مثلاً يهولك هذا الجو
الصاخب من الحروب والضغائن.
إنها الجاهلية بكل مقوماتها، انطلقت صاخبة لا تقف عند حد، مادامت لا
تحتكم إلى دين، وإنما تتبع ما وجدت عليه الآباء والأجداد..
لقد كان العربي فيً وثنيته مستعبداً لعدد من الأرباب والمعبودات، فبالإضافة
إلى عبادة الأصنام والكواكب كان الفرد ينصاع إلى استعباد القبيلة والعرف، ... والعادة، ثم إلى الهوى والشهوات..
كلمة في المنهج:
فى القسم الأول من هذه الدراسة، كنت قد اعتمدت على الشعر الجاهلي؛ لأنه
خير مصدر لتصوير حياة العرب في تلك الفترة، إذ قد اهتم به علماء اللغة تدويناً
ودراسة، أكثر من اهتمام المؤرخين، فدراستهم كانت ظنية تعتمد على الحدس
والتخمين، أو دراسة الآثار..
وفى هذا القسم كان اعتمادي على القرآن الكريم؛ لأنه صور حياة الجاهلية
تصويراً دقيقاً، حياً معبراً بالأحداث، والسنة النبوية المطهرة -وصراع النخبة
المؤمنة مع ذويهم ومعاصريهم - حيث صورت هذا الصراع كتب السيرة والتراجم، ثم شعراء الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام.
إننا نعيش الآن في غربة، غربة جديدة للإسلام، تجعل محاولة العودة صعبة
وشاقة، وفيها عنصر الجدة.. لابد من عودة جادة إلى المنابع الأولى الصافية،
منابع العقيدة، ودراسة السنة وكيف ربى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
أصحابه.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «بداً الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بداً،
فطوبى للغرباء» أخرجه مسلم.
«لقد دار الزمن دورته وعاد الإسلام كما بداً، كما أخبر بذلك الرسول -
صلى الله عليه وسلم -، هذه الغربة تجعل محاولة العودة كأنها جولة جديدة ...
وسيتوفر لها عنصر الجدة ... فيكون حافزاً لها على بلوغ القمة» [2] .
وفي سبيل هذه العودة نتلمس المنهج في طريقة تربية الجماعة الأولى،
جماعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت من الاستعلاء بإيمانها على
حياة التمزق والتيه والضياع ... إن حياة الإلف والعادة للمسلم قد تجعله ينقض عرى
الدين، يروى أن عمر - رضي الله عنه - قال: «ينقضُ الإسلام عروة عروة؛
إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية» .
ومن أجل خطوة في طريق التربية الإيمانية، ومن أجل العبرة، ومقارنة
الواقع بما فيه، مع ماضي هذه الأمة الناصع، بعد جاهلية مظلمة، نقدم هذه
الدراسة..
وسوف أركز الحديث حول المباحث التالية:
1 - التربية العقدية: ودورها في تربية الجماعة الأولى.
2- العصبية القبلية: وكيف عمل الإسلام على تذويبها.
3- وحدة الأمة: بعد التفرق والشتات.
4 - اتباع التقاليد وتحكيم الأهواء.
5- الجهاد في سبيل الله: بعد الحروب الدامية.
أولاً - التربية العقدية:
كيف واجه الإسلام الجاهلية؟ كيف انتشل العرب من أوضارها؛ كيف رباهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينخلصوا من القيم التي كانوا يقدسونها
والعادات التي كانوا يخضعون إليها؟ .
للإجابة على هذه الاستفسارات لابد من العودة إلى منهج التربية الذي ربى
عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فهو قدوتنا، وواجب
علينا أن نتبع منهجه [لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] .
أ- طريقة الإسلام في التربية: (التوحيد الخالص) .
كانت البداية الأولى في التربية هي تصحيح العقيدة في الله، ومنذ اللحظة
الأولى، منذ أن يعلن المسلم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يصبح انتماء المسلم
لدينه، ويتبرأ بعدها من كل معبود أو متبوع أو مطاع سوى الله [3] .
[فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى] [البقرة:256] .
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها
بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال
فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان
التي تدفع بأنفها النتن» [4] .
بهذا التصوير والتنفير، بداً الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفر أصحابه
من رواسب الجاهلية ومفاخرها وعصبياتها
«لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته ماضيه في
الجاهلية، كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام، أنه بداً عهداً جديداً،
منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية.. كان يقف منها موقف
المستريب الشاك الحذر المتخوف الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام،
وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام..» [5] .
نعم هكذا كان مفهوم التوحيد يسيطر على مشاعر المسلم فيتحول إلى واقع حي
متحرك، يملأ عليه شغاف قلبه، بعيداً عن المفاهيم الذهنية المجردة، والمعرفة
العقلية البحتة، كما يحلو لبعض الناس أن يفهموا التوحيد في عصور التقهقر
والتبعية.
إنّ «المعرفة النظرية الذهنية الباردة الميتة شيء، والمعرفة الحية التي تنبع
من الوجدان فتنفعل بها النفس كلها، وتعطي تأثيراً معيناً في السلوك الواقعي شيء
آخر، هي ما يطلبه الإسلام بالذات ويستنبته في قلوب المسلمين ليصبحوا ... مسلمين» .
«والحادث الآن في الأجيال القائمة هو هذه الجهالة بالمعنى الحقيقي للا إله
إلا الله.. وصلتها الوثيقة التي لا تنفصم بالحكم بما أنزل الله» .
«وعندما تستقر هذه الحقيقة في الأذهان ينبغي أن تعمل على تحويل حياتنا
كلها لتستقيم على منهج الله في كل شيء: في سياسة الحكم، في سياسة المال، في
سياسة المجتمع..» [6] .
إن المسلم إذا تمكنت عقيدة التوحيد وحقيقة لا إله إلا الله من نفسه لابد أن
يتبرأ من المشركين وما هم عليه.
«إنه لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة
المشركين والتصريح لهم بالعداوة [7] ، كما قال تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ] [المجادلة 22] .
وفي الصحيحين:» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت
أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا لحق
الإسلام وحسابهم على الله» .
قال أبو بكر - رضى الله عنه-: «إن الزكاة من حقها، والله لو منعوني
عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه» [8] .
(إن بني حنيفة من أشهر أهل الردة وأعظمهم كفراً وهم مع هذا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤذنون ويصلون …) [9] .
«ولو كانت كلمة لا إله إلا الله مجرد كلمة لقالتها قريش في الجاهلية، إلا
أنها تعلم أن لها مقتضياتها.. فكفار مكة قد علموا مراد النبي - صلى الله عليه ... وسلم - من هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فأبوا واستكبروا ولم ينفعهم إيمانهم بأن الله واحد رازق محي مميت (توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية) ولما قال لهم النبي: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] ... [ص: 5] [10] .
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمل على اجتثاث نخوة الجاهلية وتعلق
قلوب العرب بها، في أحاديثه الشريفة، وخطبه الكريمة.. فها هو يضع بعد فتح
مكة كل مآثر الجاهلية تحت قدميه:» ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت ... قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. « [11] .
وفي فصل لا إله إلا الله منهج حياة يتحدث المرحوم سيد قطب عن هذا
المفهوم إذ يقول:» ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها فلا تقوم هذه الحياة قبل
أن تقوم هذه القاعدة، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه ... القاعدة « [12] .
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [يوسف: 40] .
إن الإصرار على صفاء التوحيد، ونقاء العقيدة، مع انتزاع رواسب الجاهلية، كان من أهم مقومات التربية المحمدية في دار الأرقم، ومدينة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وما تزال هي الطريق الوحيدة، لكل تربية جادة لا تريد العبث
واللهو والتسول على فتات الشرق والغرب، باسم الإسلام، وضغوط العصر
الحاضر ومدنيته المادية..
ب - الحب في الله والبغض في الله:
لقد تشكل المجتمع الوليد في مكة المكرمة، على أنقاض مجتمع الجاهلية،
واكتملت صورة هذا المجتمع الإسلامي بعد الهجرة إلى المدينة المنورة ...
تشكل مجتمع العقيدة، على الحب بين المؤمنين والأخوة بين المسلمين إن
الحب بين المؤمنين هو الذي كان» يحرك حياة المؤمن كلها.. هو مفتاح التربية
الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق «» والأخوة هنا.. حيث لم تكن
هناك - أي في الجاهلية -.. إنها الأخوة.. إنه الترابط الصادق.. كانت الخطوة
الأولى في التربية هي حب الله ورسوله، والخطوة الثانية هي الالتقاء على حب الله
ورسوله «» يلتقي الناس على العقيدة في الله.. لأن كلاً منهم يحب الله ورسوله
فلا تكون ذواتهم بارزة.. إنما يكون الجانب البارز هو الحب.. بل إن الإنسان
المؤمن يحب أن يؤثر أخاه على نفسه.. وذلك من معجزات العقيدة ومعجزات
التربية على العقيدة [ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] [الحشر 9] .
«وكان يغيظ قريشاً ويثير عجبها محبة أصحاب محمد لمحمد حتى قال أبو
سفيان:» ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً « [13] .
إن هذه المحبة بين المؤمنين من لوازم لا إله إلا الله، والبراء من المشركين
من لوازمها أيضاً [14] .
يقول تعالى: [لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ] [ال عمران: 28] .
وقال - عليه الصلاة والسلام-:» أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله
المعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله « [15] .
وما رواه الإمام إحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله بايعه على
أن:» تنصح للمسلم وتبرأ من الكافر « [16] .
وفي صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:» المرء
مع من أحب « [17] .
» إن أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض؛ وينشاً عنهما من أعمال
القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة.. كالنصرة والأنس
والمعاونة والجهاد والهجرة ونحو ذلك « [18] .
» ويتضح مما سبق أن الولاء في الله هو محبة الله ونصرة دينه، ومحبة
أوليائه ونصرتهم، والبراء هو البغض لأعداء الله ومجاهدتهم.. « [19] .
إن موالاة المشركين خطيرة، ما كان الجيل الأول يقترب منها، وإن موالاة
المؤمنين ومحبتهم من علامات الإيمان، ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» إن الله يقول يوم القيامة: أين
المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي « [20] .
دعوة الأنبياء:
وهذه هي دعوة الرسل جميعاً، توحيد خالص، كلمة واحدة يرددها كل ... رسول:» لا إله إلا الله اعبدوا الله ما لكم من إله غيره «.
وبراءة خالصة من الشرك في جميع أشكاله. وهذا أبو الأنبياء إبراهيم -
عليه الصلاة والسلام - يتبرأ من عبادة قومه:
[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ] [سورة الممتحنة: 4] .
ولابد أن نتأسى بخاتم الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -: ... [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] [الأحزاب: 21] ، فرسول الله وإخوانه
الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - كانوا نماذج الهدى لجميع الناس في كل
أمر من أمور حياتهم ومماتهم، وأوجب الله طاعتهم واتباع أوامرهم، قال تعالى: ... [ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ] [النساء: 64] [21] .
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير: 4/243.
(2) منهج التربية الإسلامية: 2/19 للأستاذ محمد قطب.
(3) انظر كتاب الولاء والبراء ط: أولى د محمد سعيد القحطاني، ص 104.
(4) سنن أبي داود كتاب الأدب هـ /340، 5116، وأخرجه الترمذي في المناقب، وقال: حدبث حسن.
(5) معالم في الطريق: سيد قطب، ص 19 - 20.
(6) منهج التربية الإسلامية: محمد قطب 2/28، 83.
(7) انظر مجموعة التوحيد، وستة مواضع من مقدمة مختصر السيرة النبوية للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(8) انظر مختصر السيرة النبوبة للشيخ محمد عبد الوهاب ص 30، 32.
(9) انظر مختصر السيرة النبوبة للشيخ محمد عبد الوهاب ص 30، 32.
(10) المرجع السابق.
(11) المرجع السابق، ص 146.
(12) معالم في الطريق، ص 92.
(13) منهج التربية الإسلامية، ج 2، ص 37، 38، 41، 42.
(14) انظر الولاء والبراء: د القحطاني ص40، 60.
(15) انظر الجامع الصغير 2/343 ح 2536، وقال الألباني: حديث حسن.
(16) المسند للإمام أحمد ج4/ 357.
(17) فتح الباري، كتاب الأدب، 10/557، ح 6168.
(18) الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ نقلاً عن الولاء والبراء للدكتور محمد سعيد القحطاني، ص 40.
(19) انظر الولاء والبراء، ص 43 وهو كتاب جيد في هذا الموضوع، يحسن الرجوع إليه.
(20) صحيح مسلم، كتاب البر، ج 4، ح2566.
(21) انظر: منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، ج1.(5/71)
أدب وتاريخ
وكسرت رمحي ...
شعر: علي محمد
بكت الديار لفرقة الأحباب ... ومصائبي أوهت عصيَّ شبابي
وغدا التشرد خبزنا وطعامنا ... يا طيب خبز الفارس الجواب
هذا يدرس في الخليج وغيره ... يسعى ويطرق أبعد الأبواب
حتى إلى الأفغان شرق نجمنا ... وأضيء ليل الغرب بالأغراب
وبقيت وحدي لا أباً لك حائراً ... بين " الخليل " وبدعة "السياب "
أغدو إلى النسمات أسأل بعضها ... علّ النسائم قابلت أحبابي
وأسائل الركبان علَّ مسافراً ... يشفي الغليل بجملة وجواب
بي رغبة في أن أعيش همومكم ... وأبثكم همي وسر عذابي
فلقد خرجت من الكنانة ضائعاً ... بعد الهوان وعيشة السرداب
وأضعت في أرض الشام قضيتي ... وكسرت رمحي في ربيع شبابي
وغراس دعوتي الحبيبة أودعت ... سجناً غليظاً مُوصَدُ الأبواب
وعلى ذُرى لبنان ثمة شاهد ... أني فريسة أكلب وذئاب
ويدوسني علج وأزعم أنه شهم ... يخفف لوعتي ومصابي
أمشي ويتبعني الهوان ودمعتي ... والذل والبلوى وصوت غراب
ولقد تركت العز عز محمد ... أملاً ببارق خلب كذاب
وغرقت في لبس الأنيق وغرني ... حسن الحضور بمجلس النواب
أنسى عداء المجرمين سياسة ... وأغيظ أهلي من بذيء سبابي
للظالمين تحيتي ومودتي ... ولأهل ديني طعنتي وحرابي
هذا جحيم لا يطاق ومنطق ... يأباه وحش قابع في الغاب
إن الذين تذوقوا طعم الهدى ... ويسوؤهم حال الهوى الغلاب
سيوحدون صفوفهم لينوروا ... درب الحياة بسنة وكتاب(5/79)
نصيحة من عالم لخليفة
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي [*]
يا أمير المؤمنين، إن الله - وله الحمد - قد قلدك أمراً عظيماً؛ ثوابه أعظم
الثواب، وعقابه أشد العقاب. قلدك أمر هذه الأمة، فأصبحت وأمسيت وأنت تبني
لخلق كثير قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم،
وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد، فيهدمه
على من بناه، وأعان عليه. فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية،
فإن القوة في العمل بإذن الله.
* لا تؤخر عمل اليوم إلى غد، فإنك إذا فعلت ذلك أضعت.
* إن الأجل دون الأمل، فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل.
* إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه. فأقم الحق فيما ولاك
الله وقلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به
رعيته.
* ولا تزغ؛ فتزيغ رعيتك.
* وإياك والأمر بالهوى، والأخذ بالغضب.
* وإذا نظرت إلى أمرين أحدهما للآخرة والآخر للدنيا، فاختر أمر الآخرة
على أمر الدنيا، فإن الآخرة تبقى، والدنيا تفنى.
* وكن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء
القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم. واحذر فإن الحذر بالقلب، وليس
باللسان، واتق الله فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقيه.
* واعمل لأجَلٍ مفضوض وسبيل مسلوك، وطريق مأخوذ، وعمل محفوظ،
ومنهل مورود، فإن ذلك المورد الحق، والموقف الأعظم الذي تطير فيه القلوب،
وتنقطع فيه الحجج لعزة ملك قهرهم جبروته، والخلق له داخرون بين يديه،
ينتظرون قضاءه، ويخافون عقوبته، وكأن ذلك قد كان. فكفى بالحسرة والندامة
يومئذ في ذلك الموقف العظيم لمن علم ولم يعمل، يوم تزل فيه الأقدام، وتتغير فيه
الألوان، ويطول فيه القيام، ويشتد فيه الحساب. يقول الله تبارك وتعالى في ... كتابه: [وَإنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ] ، وقال تعالى: [هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأَوَّلِينَ] وقال تعالى: [إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ] ، وقال تعالى: [كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ] ، وقال: [كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا] . فيالها من عثرة لا تقال، ويالها من ندامة لا تنفع، إنما هو اختلاف الليل والنهار: يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، ويجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب.
* فالله الله، فإن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار. فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان
يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم، ولا يدينهم بمنازلهم.
وقد حذرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سدى. وإن الله سائلك
عما أنت فيه وعما عملت به، فانظر ما الجواب.
واعلم أنه لن تزول غداً قدما عبد بين يدي الله تبارك وتعالى إلا من بعد
المسئلة؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
«لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه، وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسده فيم
أبلاه» ، فأعدد - يا أمير المؤمنين - للمسئلة جوابها، فإن ما عملت فأثبتَّ فهو
عليك غداً يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد.
وإنى أوصيك - يا أمير المؤمنين - بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما
استرعاك الله، وأن لا تنظر في ذلك إلا إليه وله. فإنك إن لا تفعل تتوعر عليك
سهول الهدى، وتعمى في عينك وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه
ما تعرف، وتعرف منه ما تنكر، فخاصم نفسك خصومة من يريد الفلج [1] لها لا
عليها، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك على يديه مما لو شاء رده عن أماكن
الهلكة بإذن الله، وأورده أماكن الحياة والنجاة.، فإذا ترك ذلك أضاعه، وإن
تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع، وبه أضر، وإذا أصلح كان أسعد من هنالك
بذلك، ووفاه الله أضعاف ما وفى له.
فاحذر أن تضيع رعيتك، فيستوفي ربها حقها منك، ويضيعك - بما أضعت - أجرك، وإنما يدعم البنيان قبل أن ينهدم. وإنما لك من عملك ما عملت فيمن
ولاك الله أمره، وعليك ما ضيعت منه، فلاتنس القيام بأمر من ولاك الله أمره،
فلست تُنسى، ولا تغفل عنهم وعما يصلحهم، فليس يُغفل عنك. ولا يضيع حظك
من هذه الدنيا في هذه الأيام والليالي كثرة تحريك لسانك في نفسك بذكر الله تسبيحاً
وتهليلاً وتحميداً، والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، نبي الرحمة،
وإمام الهدى - صلى الله عليه وسلم -.
وإن الله بمنه ورحمته جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نوراً
يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم، ويبين ما اشتبه من الحقوق
عليهم. وإضاءة نور ولاة الأمر إقامة الحدود، ورد الحقوق إلى أهلها بالتثبت
والأمر البين.
وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون أعظم موقعاً، فإن إحياء السنن من
الخير الذي يحيا ولا يموت.
وجور الراعي هلاك للرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة.
فاستتم ما أتاك الله - يا أمير المؤمنين - من النعم بحسن مجاورتها، والتمس الزيادة
فيها بالشكر عليها، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: [لَئِن شَكَرْتُمْ
لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] .
وليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من الفساد، والعمل
بالمعاصي كفر بالنعم، وقلّ من كفر من قوم قط النعمة ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا
سلبوا عزهم، وسلط الله عليهم عدوهم. وإنى أسأل الله - يا أمير المؤمنين - الذي
منَّ عليك بمعرفته فيما أولاك، أن لا يكلك في شيء من أمرك إلى نفسك، وأن
يتولى منك ما تولى من أوليائه وأحبائه، فإنه ولي ذلك والمرغوب إليه فيه.
وقد كتبت لك ما أمرت به، وشرحته لك، وبينته، فتفقهه، وتدبره، وردد
قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحاً،
ابتغاء وجه الله وثوابه وخوف عقابه.
وإني لأرجو - إن عملت بما فيه من البيان - أن يوفر الله خراجك من غير
ظلم مسلم ولا معاهد، ويصلح لك رعيتك، فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم،
ورفع الظلم عنهم، والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم. وكتبت لك أحاديث
حسنة، فيها ترغيب وتحضيض على ما سألت عنه، مما تريد العمل به إن شاء الله. فوفقك الله لما يرضيه عنك، وأصلح بك، وعلى يديك.
__________
(*) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، الكوفي، البغدادي صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيهاً علآمة، من حفاظ الحديث، واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، ولي القضاء أيام المهدي والهادي والرشيد ومات في خلافته ببغداد وهو على القضاء ومن كتبه المطبوعة: الخراج، والآثار (وهو مسند أبي حنيفة) .
(1) الفَلَج: الانتصار.(5/80)
أين بواكيكم يا أهل المخيمات؟ !
إعداد. محمد أحمد عبد الله
نقلت جريدة التايمز البريطانية في عددها الصادر في 11/2/1987 تقريراً -
كان قد مضى عليه أكثر من أسبوع - لأحد مراسليها عن الوضع في المخيمات
الفلسطينية المحاصرة في لبنان، تقول فيه:
(على بعد أقل من 200 ياردة من الخط الأمامي الذي يفصل بين الفلسطينيين
الذين يموتون جوعاً وبين أتباع حركة أمل الذين يتمتعون بمستوى مرض للمعيشة
في برج البراجنة، كان يقف بائع متجول عارضاً انبرتقال والبطاطس وأنواعاً
أخرى من الفواكه والخضار للبيع.
ومن المحتمل أن يكون الفلسطينيون قد سمعوا صوت البائع وهو ينادي على
سلعه على وتيرة واحدة، وإذا كان زعماؤهم المسلمون قد أفتوهم بجواز أكل اللحوم
االبشرية كملجأ أخير، فإن المواد الغذائية اللازمة لسد رمقهم لم تكن أبعد من مكان
تلك العربة القديمة. وباستثناء إطلاق النار المتقطع، فإن الحياة في المحيط المجاور
للمخيم الفلسطيني المحاصر طبيعية تماماً) .
وجاء في تقرير وقع من جانب فريق طبي أجنبي يعمل في داخل المخيم: ... (الوضع حرج وغير إنساني. فلا يوجد هنا دقيق ولا طعام طازج، ولذلك فإن
النساء الحوامل والأطفال يعانون من سوء التغذية. ويتناول الناس هنا أطعمة قديمة
مما يجعلهم يتقيأون ويصابون بالإسهال.. والمياه يتم الحصول عليها من خلال
حنفيات في الشوارع مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر بسبب تبادل إطلاق النار،
والعديد من النساء أصبن بالرصاص على أيدي القناصة أثناء محاولتهن الحصول
على الماء لأفراد أسرهن) .
ونذكِّر هنا كل مسلم بأن إسرائيل والولايات المتحدة هما وراء حرب لبنان منذ
البداية، وأن حزب الكتائب كان أحد عملاء إسرائيل في تنفيذ المؤامرة، وأن
المسلمين السنة بشكل عام، والفلسطينين منهم بشكل خاص هم المستهدفون في هذه
المؤامرة.
وقد خرجت إسرائيل بعد اجتياح لبنان عام 1982، وأخذت أطراف طائفية
محسوبة على الإسلام تنفذ ما تريده إسرائيل في لبنان. ومنذ ذلك التاريخ، وحتى
الآن والاعتداءات الوحشية على المخيمات لم تنقطع.
ولا شك أنك - أخي المسلم - على ذكر من المذابح التي ارتكبت في: تل
الزعتر، وصبرا، وشاتيلا، والبداوي، ونهر البارد، وطرابلس.. غير أن هذه
المذابح تجددت قبل أربعة أشهر في مخيمات شاتيلا، وبرج البراجنة، والرشيدية
التي يقطنها حوالي 40 ألف فلسطيني بحصار أصبح فيه سكان المخيمات معزولين
تماماً عن الحياة وعن العالم الخارجي وبلا مأوى أو كهرباء أو ماء أو أدوية أو مواد
غذائية.
وبذلك أصبح الوضع في المخيمات الفلسطينية المحاصرة مأساوياً بكل معنى
الكلمة. وأخذت أنباء الرعب تصل إلى دول العالم، التي لا تكاد تصدق ما يحدث
للمدنيين العزل من نساء وأطفال وشيوخ.
وطبقاً لتقديرات المصادر الرسمية اللبنانية فإن حرب المخيمات الفلسطينية في
لبنان أسفرت حتى نهاية الأسبوع الثاني من فبراير عن مقتل أكثر من 850 شخصاً
وإصابة حوالي 1800 آخرين بجروح.
وكما تقول التايمز (11/2/1987) : (فقد تسربت تقارير تبعث على الرعب،
عن الحياة داخل المخيمات المحاصرة، سواء عن طريق اللاسلكي، أو قصاصات
الورق التي جرى تهريبها عبر خطوط الميليشيات المحاصرة. ولم يدخل أي
مراسل صحفي أجنبي أو لبناني المخيمات من أجل التحقق من التقارير الخاصة
بالأطفال الذين يتضورون جوعاً) .
وهكذا امتد الحصار إلى التعقيم الإعلامي وعدم السماح بدخول المراسلين
الصحفيين، وبرغم قلة ما تسرب من أخبار عن هول الفاجعة التي نقلها بعض
المراسلين الأجانب؛ فإنها أذهلت العالم مما يحدث من تجويع الآلاف وإهلاك العزل
من الأطفال والنساء والشيوخ. وهؤلاء الذين كتبوا التقارير من المراسلين الأجانب - كتقرير جريدة التايمز- ليسوا متعاطفين مع الفلسطينيين لكنها فضولية صحفي أو
إنسانية، كما يقولون.
وقد أدت الأعمال الوحشية التي حدثت لسكان المخيمات الفلسطينية إلى
استنكار عالمي؛ حيث قام الكثير من الهيئات الدولية الإنسانية والحكومية من
جميع أنحاء العالم تطالب بإنهاء هذه المأساة بأي شكل من الأشكال.
ففي نيويورك دعا مجلس الأمن الدولي إلى وقف حرب المخيمات فوراً وإنهاء
الحصار والسماح لشاحنات الأمم المتحدة المحملة بالأغذية بدخول المخيمات فوراً
[فرانكفورتر الجماينة 14/2/1987] .
وفي باريس طلب الرئيس الفرنسي من حكومته إرسال مساعدات غذائية
وطبية فورية للمخيمات. وفي بون قدمت الحكومة الألمانية الغربية مذكرة احتجاج
ضد مذبحة المخيمات في لبنان إلى سفير إحدى الدول العربية التي تجمع حول
سفارتها 50 نائباً برلمانياً ومسؤولاً من أحد الأحزاب الألمانية مطالبين بفك الحصار
عن المخيمات الفلسطينية في لبنان [القبس الدولي 12/2/1987] .
كما استنكرت بريطانيا استمرار محاصرة المخيمات الفلسطينية ودعت كافة
الأطراف إلى وقف القتال الدائر حول المخيمات.
وأعلن المستشار النمساوي أن بلاده سترسل معونة غذائية وطبية عاجلة إلى
مخيمات لبنان.
ومن المضحك المبكي أن إسرائيل التي تدعم الأطراف المحاصرة للمخيمات
الفلسطينية أعربت عن استعدادها لإرسال مساعدات لسكان المخيمات المحاصرة!
وطالب أحد أعضاء المعارضة في الكنيست الإسرائيلي بإرسال مواد إغاثة فورية
إلى المخيمات الفلسطينية [فرانكفورتر الجماينة 14/2/1987] .
ومن المحزن أننا لا نجد مواقف جادة في بلادنا العربية والإسلامية لإنقاذ
إخواننا في المخيمات. وما يطلق من تصريحات لا يقصد بها سوى مواقف سياسية!
ولكي نقف على الجحيم والكابوس المتصل لإخواننا في المخيمات -كما تقول
[لبراسيون الفرنسية 10/2/1987] : ننقل فيما يلي روايات الناجين من هذه المذبحة:
امرأة تقول: أتمنى أن لا يعيش أي إنسان الأيام التي عشناها؛ كنا نموت
ببطء، هل تعلم ما معنى الحصار؟ الجوع والقصف اليومي والموت والجثث
والروائح المميتة؟ [القبس الدولي 19/2/1987] .
فارس علي الخطيب طفل في العاشرة من عمره قال وهو يتحدث بلهجة
حزينة وبريئة ومؤلمة: «لم أعد أحتمل الجوع ولم أعد أحتمل صراخ وبكاء
إخوتي الصغار الذين أصبحوا أشبه بهياكل عظمية، ولم أعد أحتمل أصوات
انفجارات القنابل والقذائف التي تتساقط علينا كالمطر» وأضاف قائلاً: «لقد
حاولت مع بعض الأطفال الآخرين الهرب من الحصار، ولكن اثنين من الجنود
أوقفونا ومنعونا من الخروج، وقالا لنا: (كلوا أصابعكم فلن نسمح لكم بالخروج) .
وفي اليوم التالي سمح لقلة من الأطفال وأنا من بينهم بمغادرة المخيم المحاصر حيث
رافقنا عدد من رجال الميليشيات المدججين بالسلاح، وأيدينا مرفوعة إلى أعلى،
وتوجهنا إلى أحد المستشفيات في منطقة مار إلياس في بيروت الغربية.
ويبدو أن أحد رجال الميليشسيات تعرف عليّ لأنه كان أحد المسلحين اللذين
حالا دون هروبنا من المخيم في اليوم السابق، ولهذا اقترب مني وأخذ يمعن النظر
كما لو أنه تذكر هو الآخر شخصيتي، ولكن بحركة عفوية اختبأت وراء أحد
الجدران وأنا أرتعد من الخوف ومن شدة البرد ومن الجوع والألم، وتنفست
الصعداء حين اضطر هذا المسلح إلى التوجه إلى مكان آخر لمراقبة عملية إيصال
بعض العائلات الفلسطينية إلى مار إلياس.
ويقول الطفل محمد قصاب البالغ من العمر 9 سنوات، والذي نجح مع زميله
فارس في الهرب من الحصار المفروض على المخيم:» لقد اضطرنا الحال إلى
قتل الكلاب والقطط، وقمنا بطبخها كما لو أنها لحوم البقر أو الغنم لسد جوعنا.
وأضاف: إن الجوع جعلنا لا نفرق بين البقر ولحم الكلاب باستثناء أن طعم لحم
الكلاب والقطط كان مالحاً بعض الشيء « [القبس الدولي 23/2/1987عن دير
شبيغل] .
وتقول زينة المغربي (19 عاماً) وهى ترقد على سرير بأحد المستشفيات:
» أصابتني رصاصة في معدتي ولولا ضرورة إجراء جراحة لما كنت تركت ...
المخيم «.
وقالت كاملة عبد السيد (20 عاماً) :» إن رصاصة قنص أصابتها أثناء
قيامها بنقل مياه من أحد الآبار إلى المخبأ الذي تقيم فيه داخل برج البراجنة.
وأضافت قولها: لم أستطع أن أخرج سوى واحدة فقط من بناتي الصغيرات الثلاث
من المخيم. والاثنتان الأخريان لا تزالان هناك «.
وقال الطفل بسام البالغ من العمر سبع سنوات وقد اغرورقت عيناه بالدموع:
» لا أريد أن ألعب. إنني جائع لم يكن في المخيم ما نأكله سوى الحشائش «.
ويصف محمد نصار (15 عاماً) محنة إخوانه في مخيم برج البراجنة فيقول:
» كنت جائعاً ورأيت بعض الأشخص يأكلون كلباً. لم أستسغ الفكرة ولكن لم يكن
أمامي خيار يذكر «ويمضي قائلاً: غلينا الكلب ثم ألقينا بالمياه بعيداً وشوينا
الحيوان في العراء. كان مذاقه مراً للغاية ولكن..» [القبس الدولي 16/2/1987] .
وقال كريم عوني وهو في العاشرة من العمر: «بينما كانت عناصر
الميليشيات المحاصرة لنا يوزعون عليهم فطائر بالزعتر، كنا نقتات بالحشائش من
الأحواض الصغيرة» وأبلغت والدته الصحفيين: «الكلام عن أن بعضنا أكل لحم
القطط والكلاب صحيح. لقد شاهدنا رؤوس هذه الحيوانات وسط النفايات» .
وكان فريق طبي أجنبي يعمل في مخيم برج البراجنة قد ذكر أن الفلسطينيين
اضطروا لأكل الجرذان والقطط والكلاب للبقاء على قيد الحياة بسبب الحصار
الطويل. وقالت حسنة الخليل وهي أم لثمانية أطفال: «عندما ينتهي مخزون عائلة
من الحليب فإنها تشارك جارتها ما لديها من حليب حتى لا يبقى عند العائلتين أي
شيء» [القبس الدولي 14/2/1987] .
ويقول أحد الأطباء الكنديين العاملين في مخيم شاتيلا: إن وسط المخيم أصبح
أشبه ما يكون بمزبلة هائلة. واللجان المسؤولة عن إدارة شؤون المخيم أرغمت
الجميع على قص شعورهم ورش أنفسهم بمادة (د. د. ت) من أجل قتل البراغيث. ...
ولا يوجد هناك أي غذاء. ومياه الشرب ملوثة بمياه المجاري مما أدى إلى
ظهور حالات من مرض «التيفوئيد» .
وقال أحد الفلسطينيين: «هناك مجاعة كاملة في مخيم الرشيدية فالسكان لا
يجدون أي شيء داخل المخيم. وحتى الأعشاب قد نفدت، فقد أكلوها. وهم
يحاولون الآن التسلل إلى خارج المخيم من أجل التقاط بعض النباتات الخضراء.
ولكن الثمن الذي يدفع في هذه الحالة يكون دم الصبية الصغار الذين يحاولون التسلل
بين الأشجار» [الغارديان 7/2/1987] .
نحن نستنكر الإرهاب وخطف أساتذة الجامعات ورجال الدين وغيرهم
وغيرهم من أي جهة كانت، ولكن لماذا يهتم العالم وتقوم الدول لإنقاذ هؤلاء
الرهائن ولا يتحركون من أجل الفلسطينيين المسلمين، وربما تكشف لنا الأيام بعد
فترة على أن هذه الدول التي تزعم محاربة الإرهاب وهي ضالعة فيه أنها
والمتأمرون كانوا يفتعلون قضايا من أجل إبادة الفلسطينيين المسلمين. إن الذين
سيبوءون بجريمة قتل الفلسطينيين وحصارهم حتى الموت صنفان من الناس:
صنف يشارك في هذه الجريمة فعلياً بجسمه وعقله وماله وسلاحه، تخطيطاً
وتنفيذاً.
وصنف واقف متفرج يراقب كل ذلك، وهو قادر على أن يفعل شيئاً، ولا
يفعل، إما تخاذلاً وإما تجاهلاً وتآمراً. والذي يخامر على المجرم شريك له في
الجريمة، هكذا قررت هذا المبدأ البسيط جميع الشرائع، سماوية كانت أم أرضية.
وليس ما يحدث إلا محنة للمسلمين، ودروس لهم، ليستخلصوا منها العبرة،
فيثوبون إلى رشدهم، وتنكشف الغشاوة عن عيون كثير منهم، ويستطيعون بعدها
تمييز الصديق من العدو.
وبعد ذلك فالظلم مرتعه وخيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.(5/84)
تركيا المسلمة تتحدى أتاتورك
إعداد. محمد أحمد عبد الله
أراد كمال أتاتورك قبل ستين عاماً أن تكون تركيا دولة علمانية، لا تدين
بدين من الأديان.. وكان بعمله هذا ينفذ مؤامرة يهودية صليبية خطط لها قبل عدة
قرون، وتحطمت مخططاتهم طوال تلك المدة حتى جاء اليهودي «أتاتورك»
وتستر وراء شعارات كاذبة، كالتقدمية، والقومية، والتحضر، وفي غيبة الوعي
الإسلامي، وغيبة الرجال الأفذاذ الذين يتجمعون على الحق، ويعرفون كيف
يحبطون مؤامرات ومكائد العدو.. أقول في غيبة هؤلاء الرجال أقدم أتاتورك
وزبانيته على هدم الخلافة الإسلامية، واستبدال الحروف العربية بحروف لاتينية،
وأمر الناس بحلق لحاهم، كما أمر النساء بخلع الحجاب، ونكل بالعلماء والدعاة إلى
الله، ومنع الأذان بالعربية، وبعد هلاك الطاغية كمال أتاتورك سار إخوانه
وتلامذته من الاتحاديين وقادة الجيش وصنائع الغرب على نهجه..
وظن الطغاة أنه لن تقوم للإسلام قائمة في تركيا المسلمة بعد الآن، ولكن الله
سبحانه وتعالى أبطل كيدهم وأضل سعيهم.
ويحدثنا القادمون من تركيا عن مظاهر طيبة يرونها تثلج صدور المؤمنين
وتبعث الأمل في النفوس.. يحدثنا القادمون عن تمسك الشباب بدينهم ومحافظتهم
على صلاة الجماعة في المساجد، وعن التزام الفتيات بالحجاب الإسلامي في
الجامعات والمعاهد، كما يحدثنا القادمون عن عواطف الأتراك الجياشة نحو إخوانهم
العرب الذين يزورون تركيا، وبشكل أخص الملتحين منهم الذين يترددون على
المساجد.
وباتت اللحية والحجاب من أشد المخاطر التي تهدد زبانية أتاتورك، وقد
صدرت الأوامر بمنع الحجاب في الجامعات التركية، بل ومن شروط الالتحاق
بالجامعة حلق اللحى بالنسبة إلى الرجال، ووجوب سفور الفتيات، وقد واجه
المسلمون هذه الظواهر الخطيرة بحزم وقوة، ولنترك المجال لصحيفة «ديرشبيجل
الألمانية» الصادرة في أوائل شهر فبراير الماضي تتحدث عن الصحوة الإسلامية
في تركيا تحت عنوان «إنهم يتحدون أتاتورك» .
«إن موجة التجديد الإسلامي باتت تتحدى تراث أتاتورك، وقالت سعاد مير
الطالبة في الاستشراق التركي، بجامعة اسطنبول: (إن الله أمرنا بتغطية الرأس،
ولا يجوز أن يظهر غير الوجه والقدمان وكفا اليد، ولهذا السبب من واجبنا الديني
أن نضع غطاء الرأس، وفي حال حظره علينا سوف أغادر الجامعة) . وانبرت
صديقتها حنيفة أوجلو، الطالبة في الفلسفة لتأييدها بالقول: إني أحب الدراسة لكن
إذا منع غطاء الرأس يجب أن أمضي في سبيلي.
إن الشابات التركيات ساخطات على مرسوم منع الحجاب وغطاء الرأس في
حرم 28 جامعة تركية، وابتداء من أول هذا العام، ولا يسمح للطلبة الذكور
بولوجها بلحية؛ لأن هذه علامة ظاهرة على التزمت الديني الإسلامي.
وكل من يخالف هذا المنع يتلقى إنذاراً في البداية، ثم يحظر عليه حضور
المحاضرات الجامعية، ويفصل من الجامعة.
ويستند المرسوم الجديد لقرار من المحكمة الإدارية العليا مفاده أن التحجب
بكل أنواعه مخالف للدستور؛ لأنه موجه ضد النظام الاجتماعي العلماني للجمهورية
التركية.
وقد اعترف الرئيس التركي كنعان إفرين بانتشار الحجاب واللحية في
الجامعات يقول:» توجد أصولية في تركيا هي خطرة على جمهوريتنا العلمانية
مثل الشيوعية والفاشية «..
وقد اتضحت عودة الروح الدينية إلى تركيا المسلمة بمعدل 99 بالمائة من
سكانها عندما تظاهر خمسة آلاف شخص بعد صلاة الجمعة في جامع بايزيد في
اسطنبول في منتصف الشهر الماضي، وهتفوا من أجل (تركيا إسلامية) وحملوا
على أكتافهم نجم الدين أربكان رئيس حزب الخلاص الوطني. إن المطالبة بإعادة
الدولة الدينية تستهدف صرح تركيا الحديثة التي أسسها كمال أتاتورك عندما فصل
بلاده عن الماضي العثماني لكي تلحق بركاب العالم (الحديث) ، فألغى الخلافة،
وفصل الدولة عن الدين، واستعاض عن الخط العربي بالحروف اللاتينية، وقام
بثورة ثقافية، وفرض تحديثاً متطرفاً قضى على الحجاب واللحية والطربوش الذي
كان إلزامياً لكل موظفي الدولة. ومنذ ذلك الحين يعتبر الجيش نفسه حارساً لتراث
الرفيق العسكري أتاتورك، وكلما ساوره الظن بأن الدولة والدستور في خطر
استولى على الحكم، وأعاد النظام إلى النصاب الذي يفهمه هو.
لكن العسكريين بالذات ساعدوا التجديد الإسلامي هذه المرة على الظهور
الحاسم عندما وافقوا عام1982 على بند دستوري أوكل إلى الدولة الإشراف على
تعليم الدين للمرة الأولى منذ أتاتورك، وسرعان ما شقت الروح الدينية المكبوتة
طريقها وزاد عدد المعاهد الدينية من اثنين عام 1980، إلى ثمانية معاهد. وتريد
حكومة تورجوت أوزال المحافظة إنفاق 80 مليون دولار هذا العام على تدريس
القرآن الكريم، وينبغي منذ بداية الشهر القادم أن يرتاد الأطفال المسيحيون أيضاً
دروس الدين الإسلامي، وبعد أتاتورك بستة عقود زمنية يتبين الآن أن مؤسس
تركيا الحديثة استخف بمتطلبات شعبه الدينية، وقد حقق المثقفون الأتراك اللحاق
الفكري بأوربا لكن جماهير الشعب لم تستطع اللحاق بهم، وقامت العلمانية في تركيا
فوق فراغ أدى في السنوات الأولى للجمهورية إلى أزمة في الهوية، بسبب رفض
الفكر الإسلامي المتراكم؛ لأن الإسلام كان جزءاً جوهرياً من تفهم الذات التركية،
فالشعر والفولكلور متطبعين ببيئة إسلامية، والموسيقى ظلت شرقية، وقوانين
الآداب والأعراف بقيت إسلامية، ولاسيما في الأرياف.
إن دور رئيس الحكومة في الخلاف حول تراث أتاتورك العلماني هو على
الأقل موضع شك، فهو ينكر وجود رجعية إسلامية على الرغم من أنها ملموسة في
كل مكان من البلاد. وهو نفسه مسلم متعبد وكان المعلمون في دروس القرآن يلقنون
الأطفال بأن الصداقة بين الفتيات والفتيان من الموبقات التي تسد باب الجنة.
ويرفض موظفو الوزارات الصعود في مصعد كهربائي واحد مع نساء داخل
مباني حكومية، فهذا أيضاً خطيئة في نظر الأصوليين. وفى غضون شهر رمضان
لا يوجد في الوزارات والدوائر طعام وشاي وقهوة، وقد وافقت الحكومة على مبلغ
من المال لبناء جامع في الحديقة أمام البرلمان ليقوم من يريد من النواب بتأدية
الصلاة فيه، وكان النواب المتدينون في زمن أتاتورك يتسللون إلى غرف منزوية
للصلاة. إن عدد الجوامع في البلاد ازداد بأكثر من من ثلاثة أضعاف في العقود
الأخيرة وارتفع إلى 72 ألف جامع وهناك أكثر من 600 قرية بدون مدارس لكن
في كل واحدة منها جامع خاص بها. وقد أصبح تعلم مهنة إمام أو خطيب في
الجامع مرغوباً فيه بشكل لا مثيل له. وكان 4200 طالب فقط يتعلمون هذه المهنة
في 19 مدرسة عام 1961، فقفز عددهم إلى229 ألف طالب في 716 مدرسة عام
1985. ولم يعد الجيش نفسه في مأمن من العدوى الإسلامية، ففي جامعة أضنة
كشف الرئيس إفرين النقاب مؤخراً أمام الطلبة عن تسريح 96 طالباً من معهد
الضباط بسبب ميول دينية متطرفة كانوا بين 813 طالباً من أفقر فئات الشعب في
المعهد، وفسر إفرين هذا التشريب الديني بأبعاده المتفشية على نطاق واسع بين
العوائل الفقيرة التي ترسل الأبناء الأذكياء إلى مدارس ومعاهد دينية حيث يتلقون
العلم والمأوى مجاناً، وحذر إفرين بقوله: إذا لم تطفأ النار في وقت مبكر فإن من
الممكن أن يلتهم الحريق الدار كلها.
وهذا هو رأي عسكريين قياديين منذ أمد قصير، وقد اجتمع الجنرالات
الأعضاء في مجلس الأمن القومي لتركيا مؤخراً في نادي الجيش بأنقرة، وكانوا
يرتدون ملابس مدنية، وحرروا برئاسة رئيس هيئة الأركان العام (نجدات أورك)
رسالة تحذير موجهة إلى قيادة الدولة جاء فيها:
إن القوات المسلحة قلقة للغاية من زحف الأصوليين المسلمين وتتوقع أن يتم
بسرعة وقف الرجعية الدينية المتنامية. ووجه أورك تحذيراً لا التباس فيه إلى
الشعب بقوله: (توجد في هذه البلاد قوانين وحكومة ودستور وجيش يعرف ما
ينبغي القيام به) .
إن ما يفهمه الجنرالات الأتراك كواجب عليهم قد أظهروه عام 1960 و1971
و1980؛ فقد تسلموا السلطة المدنية بأيديهم وعطلوا الدستور، وفعلاً، تتهامس
الأوساط السياسية في تركيا حول تكهنات بانقلاب عسكري قريب، ويتناقل الناس
في كل مكان بهمس (إن الجزمات العسكرية تمسح الآن ثانية في الثكنات لكي يتم
الزحف على الحكم دون عوائق) .
وإذا كان القادة العسكريون يهددون بانقلاب جديد يقتلع البرلمان، ويحكمون
البلاد من خلال قانون الطوارئ.. فهذه الأساليب لا تخيف الدعاة الصادقين ولا
ترهبهم.. ومنذ ستين عاماً والانقلابات العسكرية مستمرة، والهيمنة لقانون
الطوارئ، ومع ذلك فقد عاد الناس إلى كنف ربهم، وأعرضوا أشد الإعراض عن
أتاتورك ودينه ودستوره، والجيش الذي يستخدمه الطغاة هو من هذا الشعب المسلم، وسوف يختار أخيراً الإسلام وينهض من سبات نومه، ولن ينسلخ الابن عن أبيه
وأمه وإخوانه وأساتذته.
أما قول الرئيس التركي: [اذا لم تطفأ النار في وقت مبكر، فإن من الممكن
أن يلتهم الحريق الدار كلها] وقوله أيضاً: [توجد أصولية في تركيا هي خطرة على
جمهوريتنا مثل الشيوعية والفاشية] . فالخطر كل الخطر في بعد تركيا عن الإسلام
واستبداله بدين جديد اسمه العلمانية، وفي ظل هذا الدين الجديد أصبحت تركيا
محمية من محميات الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانت أكبر دولة في العالم،
وكان الغرب والشرق يرتعد خوفاً وهلعاً من السلاطين الأتراك الذين كانوا يفتحون
البلدان، وينشرون الإسلام، ويحطمون الطغيان.
والذي ننصح به إخواننا في تركيا أن يستفيدوا من أخطاء إخوانهم في بقية
البلدان الإسلامية، وأن لا يستدرجوا إلى معارك جانبية تستنزف طاقاتهم..
وليحذروا أشد الحذر من الباطنية ودعاتها وأجهزة إعلامها، ويبدو أن مجلة (دير ...
شبيجل) قد اعتمدت على مصادر باطنية أو على مصادر متعاونة مع ... الباطنيين، وليستعرضوا تاريخنا القديم والحديث أو على الأقل تاريخ تركيا منذ عدة قرون، وسوف يعلمون أن هؤلاء الباطنيين كانوا يتحالفون مع كل عدو كافر ضد تركيا المسلمة، والتاريخ يعيد نفسه، والباطنيون لا يقبلون أن تعود تركيا كما كانت دولة مسلمة قوية تدافع عن الإسلام والمسلمين.. وكل الذي يبحثون عنه أن يبثوا سمومهم في هذا البلد الطيب، ويجندوا ضعاف النفوس ليقيموا حلفاً بينهم وبين غلاة الباطنية في تركيا، ويكون هذا الحلف المشبوه ستاراً لنشر أفكارهم وتفريق الصف الإسلامي..
ونعتقد أن المحاولات التي بذلوها، والفتن التي روجوها خلال عدة سنين
كافية للاقتناع لمواجهة هذا الأخطبوط الباطني، فليراجع إخواننا الدعاة في تركيا
حساباتهم، وعندئذ سيعلمون صدق وأهمية ما ننصحهم به.(5/89)
الظلم مرتعه وخيم
إعداد. محمد أحمد عبد الله
نشرت صحيفة الشرق الأوسط اليومية في عددها الصادر بتاريخ 22 جمادة
الآخرة عام 1407 هـ الخبر التالي:
«فرغت لجنة حصر منزل [رئيس عربي أفريقي سابق] بمقر القيادة العامة
للقوات المسلحة من أعمالها، وأدلى مصدر موثوق بمعلومات خاصة لـ[الشرق
الأوسط] تنشر لأول مرة عن محتويات المنزل، فأوضح أنها قد وضعت في ثمانية
عشر صندوقاً، يبلغ طول الواحد حوالي ستة أمتار، وحمولته تحتاج إلى رافعة،
وقال: إن فساتين زوجه قد بلغت 400 فستان، عدا الفساتين التي لم تستعمل بعد،
إضافة إلى 382 ثوباً و 200 ثوب جديد آخر لم يستعمل، وأكثر من 300 حذاء،
وكميات كبيرة من العطور. وأشار المصدر إلى أن في المنزل محطة أقمار صناعية، وجهاز التقاط لقنوات التلفزيونات الأجنبية، وقبانية خاصة، ومخبأ للطوارئ
وسلماً كهربائياً، ومهبطاً لطائرة هليوكبتر، بالإضافة إلى جهاز تصوير يعمل على
التقاط صور الأشخاص الذين يقتربون من المنزل.
وأضاف المصدر بان هناك كميات كبيرة من المسابح، والحصر، والأباريق، مشيراً إلى أن هناك غرفة طبية مجهزة بأحدث الأدوات الطبية، وكميات كبيرة
من الأسلحة والبطاطين والسجاجيد التي لم تستعمل. وقال: بأن هناك كميات من
الوثائق الأمنية، والدبلوماسية، موضحاً أن هناك أيضاً عشرين سيفاً من الذهب
الخالص، بالإضافة إلى الدروع، والأواني الذهبية.
وأضاف: إن مفاتيح المنزل أشبه بمفاتيح قارون -على حد وصف المصدر-
من كثرتها، كما توجد التلفزيونات والفيديوهات بعدد الغرف والصالات» .
ولنا على هذا الخبر الملحوظات التالية:
1- ذكرت صحيفة الشرق الأوسط اسم الرئيس السابق واسم زوجه.. وآثرنا
عدم ذكر الاسمين، تقديراً لمشاعر أهل وأقرباء العائلتين، ومن جهة ثانية، فليس
المقصود عندنا الاسم، وإنما المقصود معالجة هذه الظواهر المرضية التي يكثر
تكرارها في أماكن متعددة، مع أننا لم نكن في يوم من الأيام من المعجبين أو
المؤيدين لهذا الرئيس.
2- مما ينبغي التأكيد عليه أن الشعب الذي كان يحكمه هذا الرئيس كان - ولا
يزال - يعاني مجاعة مات بسببها عدد كبير جداً من الأطفال والشيوخ والنساء، وقد
امتدت يد المحسنين لهذا الشعب من جميع أنحاء العالم.. وبكل أسف لم يكن هذا
الرئيس وبطانته أمناء في توصيل المساعدات للمنكوبين الجائعين، وكان قد زعم،
عندما قام بانقلابه العسكري الذي جاء به إلى الحكم، أنه جاء ليحقق العدالة
الاجتماعية والمساواة بين أفراد شعبه، ولكن الذي حققه لشعبه: مجاعة وفقراً
وظلماً واحتكاراً.
وبداً الحكم فقيراً لا يملك غير مرتبه، وخرج من الحكم بعدد كبير من ملايين
الدولارات، كما تحدثت وكالات الأنباء والصحف العالمية والعربية، وهذه الملايين
مودعة في بنوك أوربا الغربية، وهذا يعني أن محتوى منزله لا يساوي شيئاً أمام
رصيده النقدي في البنوك الغربية، ومع ذلك فقد كان يتظاهر بالزهد والعفة والورع
والتقوى.
3- مصيبة المصائب أن آخر ورقة كان يتاجر بها الرئيس المخلوع هي
«تحكيم الشريعة الإسلامية» ، ونصب نفسه خليفة للمسلمين، وأول القوانين التي
وضعها تضمنت عقوبات صارمة ضد الذين يعارضون نظامه ويحاولون
الإطاحة به.
وخلال الفترة «الإسلامية المزعومة» كان الرئيس السابق دمية تحركها
الولايات المتحدة كما تشاء، وقد أمرته في أواخر عهده بالحكم أن يخفف من إصدار
القوانين الإسلامية فاستجاب، وأمرته بالبطش بالدعاة الذين كانوا يتعاونون معه
ففعل ... وأمرته بتدبير هجرة «يهود الفلاشا» إلى فلسطين المحتلة ففعل ...
وهناك فضائح أخرى ليس هذا موضع الحديث عنها.
4- وهناك سؤال يفرض نفسه بإلحاح: كيف نجمع بين المسابح والحصر
والأباريق - وهذا يعني أن الصلاة كانت تقام في قصره - وبين الترف والإسراف
اللذين جاوزا كل حد، لدرجة أن المصدر الذي نقلت عنه الشرق الأوسط قال:
«إن مفاتيح المنزل أشبه بمفاتيح قارون.. كيف نجمع بين هذا وذاك؟ ! ...
وجوابنا على ذلك:
إن الرئيس السابق كان لا ينكر إعجابه وإيمانه بالصوفية، وكانت الصحف
التي تجري معه مقابلات تنقل عنه مثل هذه التصريحات، وأكثر من هذا، فقد كان
الرئيس السابق شديد الإيمان بالخرافيين والسحرة والمشعوذين، وجاء في المذكرات
التي كتبها أحد بطانته -من الذين كان يستعين بهم - أموراً في غاية الغرابة.
ومن جهة أخرى فقد أقنعه مساعدوه ومستشاروه بأن للاتجاه الصوفي ثقلاً في
بلده، ويستطيع أن يستعين بهم ضد الدعاة الذين كان يتوجس منهم خيفة.
ومن جهة ثالثة فالصوفيون - عبر شيوخهم - مستعدون لخدمة أمثال هذا
الرئيس، بل وخدمة من هم أشد سوءاً منه، وتاريخهم الأسود في القديم والحديث
يشهد على ذلك، ومطالبهم بسيطة لا تتجاوز المال والمصالح المحدودة، وحلقات
الرقص والغناء التي يسمونها ذكراً.
وفوق هذا وذاك فقد كان الرئيس المخلوع متناقضاً، مزاجياً، محدود المدارك
العقلية، وغير مستبعد أنه ما كان يرى تعارضاً بين التحف التي يملكها، والمسابح
التي يوزعها على شيوخ الصوفية الذين يرتادون قصره.
5- لا أدري كيف يتمادى الظالمون في غيهم وظلمهم.. ولا يفكرون بأوراقهم
التي ستكشف، وأستارهم التي سوف تهتك، وأسرارهم التي سوف تفتضح؟ !
وكان هذا الرئيس المخلوع قد نجا من الموت أكثر من مرة، وتآمر عليه شركاؤه في
الحكم، ومن طبيعة هؤلاء الناس أنهم لا يثقون بمن حولهم من المساعدين
والمستشارين والأعوان، ومن الأدلة على خوفه من سوء المصير وجود مخبأ
للطوارىء في قصره..
ومن جهة أخرى فقد ابتلاه الله بعدة أمراض، والمرض يذكر الإنسان بقرب
أجله، وقصر عمره.. فكيف كان هذا الرجل غير مبال لا يفكر بيوم لا ينفعه فيه
قصره ولا ماله ولا حكمه؟ ! .
لقد نُحي هذا الرئيس عن الحكم، ومضى إلى حيث يمضي كل ظالم. وإذا
كان لابد من نصيحة للدعاة في هذا الموضع فنقول:
لن يشيد أركان هذا الدين إلا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وصبروا
على الأذى والابتلاء، وجاهدوا في سبيل الله، وزهدوا في نعيم الدنيا وشهواتها ...
أما النكرات، وأصحاب الأمزجة، والأهواء والمصالح فنرجوا لهم الهداية، ونسأل
الله أن يرزقهم التوبة وحسن الخاتمة.. وإذا تبدلت أحوالهم فجأة فلا نكذبهم بدون
دليل، ولكن لا نثق بهم، ولا نصفق لهم، ونسارع في التجمع حولهم والاستجابة
لأمرهم، إذا طلبوا البيعة لأنفسهم، وزعموا أنهم أصبحوا أئمة وخلفاء في هذه
الأرض.
لقد تركت تجربة هذا الرئيس آثارا سلبية استغلها أعداء الإسلام أبشع ... ... استغلال، وبكل أسف لم تكن التجربة الأولى في هذا العصر، ولكن نرجو أن تكون التجربة الأخيرة، ولا يسمح العاملون للإسلام للانتهازين مرة أخرى استغلال الإسلام والمتاجرة به.(5/94)
بأقلام القراء
إبراهيم الهزاع
من الأخ إبراهيم الهزاع.. جاءت هذه الخاطرة:
إن ما نرى من فرقة واختلاف بين المسلمين من أسبابه انعدام الثقة بينهم،
تعيش مع الرجل السنين الطوال، ويعرف عنك دقائق أمورك، فيأتيه ناعق من
غربان الفساد فيوحي له بكلمات لا أصل لها ولا منبت، فيعرض له الشك، وبدلاً
من أن يأتيك ويسألك عن الأمر تأكيداً أو نفياً؛ فإنه يعرض عنك، ويصرم حبلك،
ولا يكلف نفسه - بما لك من حق عليه - بالنصح والإرشاد، بل قد يكون هو ممن
ينقلون هذه الفرية وينشرها بين الناس.
فليكن لنا مقياساً نقيس به هذه الأمور قوله تعالى: [لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ] [النور 12] .
فلنحسن الظن بالناس، ولا نجعل الإشاعات وأحاديث الإفك تدور بيننا،
ولنكن مقبرة لكل إشاعة، ولا نبني أحكامنا إلا على حقائق نعلمها؛ فإن مقام الشهادة
على الناس مقام عظيم. ولنذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «وهل
يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» .
وصلى الله على نبينا محمد.(5/100)
شوال - 1407هـ
يونيو - 1987م
(السنة: 1)(6/)
الافتتاحية
رمضان.. موسم المراجعة
بحلول شهر رمضان المبارك من هذا العام؛ تكون مجلة (البيان) قد أشرفت
على نهاية عامها الأول، وفي هذه المناسبة الكريمة - مناسبة حلول هذا الشهر
الكريم - يستطيب للمسلم أن يجعل من رمضان علامة يقف عندها في مسيرته،
فيحاسب نفسه، ويضع خطة العمل للمستقبل.
وإنها لعادة حسنة، وعرف طيب للمسلمين، أن يتخذوا من رمضان
مغلاقاً لفترة مضت، ومفتاحاً لفترة أقبلت، فعلى حين يختم غير المسلم سنة من عمره ويفتتح سنة أخرى بالعربدة، والاستغراق في الشهوات والمعاصي، ومحاربة الله تعالى، وتعدي حدوده ومحارمه فإن المسلم شأنه شأن آخر: خشوع وإخبات، وقيام بحق الله من العبادة والشكر، وتضرع إليه تعالى ليتقبل الطاعات، ويتجاوز عن السيئات، ويسدد الخطا، وينير السبيل لعباده فيما يستقبلون من أيام.
وقد كان رمضان - ومازال - موسماً من مواسم الخير يغتنمه الأتقياء
للاستزادة من صالح العمل، ويلقي بظله الظليل على العصاة والغافلين، فيتوبون،
ويعاهدون ربهم على الإقلاع عما هم فيه، وقد يصدقون العهد، وقد يفشلون ويقعون
في مهاوي الغفلة والنسيان، فالسعيد السعيد من جعل رمضان مجدداً للعزم والطاعة، وحافزاً للتمسك بحبل الله، وفرصة يتزود فيها بزاد التقوى، والشقي الخاسر من
مرَّ به رمضان كغيره من الشهور، لم يُعِرْهُ التفاتاً، ولم يتعرض لنفحات الله -عز
وجل- فيه.
وكما وعدنا قراءنا الكرام، عند صدور العدد الأول من هذه المجلة، فإننا
نريد أن نشركهم في تجربتنا، ونطلعهم على طرف من معاناتنا.
وانطلاقاً من ذلك فإننا سنبوح لهم ببعض الصعوبات التي واجهتنا،
وتواجهنا.
1- أول هذه الصعوبات أننا نعمل في ظروف غير طبيعية، حيث لم
نستكمل بعد كثيراً مما يتطلبه مثل هذا العمل.
2- إن مخاطبة القارىء العربي من وراء الحدود، تربو في صعوبتها
على مخاطبته من داخل الحدود في مثل هذه الظروف الشاقة التي تحيط بنا، حيث قد وضعنا نصب أعيننا هدفاً، هو الحرص على أن تصل (البيان) إلى كل عربي، وتخاطب كل معنِيٍّ بالدعوة الإسلامية أينما وجد.
وقد حاولت تحقيق الغاية المرجوة قلباً وقالباً، شكلاً ومضموناً، ولذلك فقد
مارسنا رقابة ذاتية مضنية لتجنب مواقع الخلل ومواطن الضعف، حتى تصل
الكلمة المخلصة النظيفة التي تكون لبنة بناء لا معول هدم.
3-إن حمى الفرقة والانشطار قد ضربت كل شيء في العالم الإسلامي، ولم
ينج منها [إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] ، وانعكس هذا الداء الخطير على العاملين في حقل
الدعوة الإسلامية، وذلك بسبب غياب المنهج الصارم، والنظرة الواضحة المحددة
التي تقوّم بها الأمور، فما يكاد صوت يرتفع بهذه الدعوة حتى تتعالى الصيحات
والاستفسارات مشككة أو مشاغبة دون دليل أو برهان.
قد وجدنا - وسنجد - صعوبة واضحة وبسيطة، وهي: أننا لسنا دعاة
تعصب وتحزب، وليس من همنا مهاجمة هذه الجهة، أو تلك، ولا نعتقد أن
إضاعة الجهود في مثل ذلك مما يعود على المسلمين بالعزة والمنعة، وأن مجال
عملنا هو الدعوة إلى الله على بصيرة متمثلة بمنهج أهل السنة والجماعة الذي نعتقده
أنه هو المنهج الوسط الذي لا إفراط فيه، ولا تفريط، لا تطرف، ولا تهاون،
وكل دعوة أو منهج - بخلاف ذلك - فهو حائد إلى إحدى الجهتين: غلو، أو تحلل.
وإننا - على الرغم من كل الصعاب والمشكلات التي تواجهنا - ماضون
بعون الله في طريقنا، تحدونا آمال كبيرة، ويدفعنا التفاؤل إلى الأفضل، ولعل
القارئ الكريم يلحظ أن هناك تطوراً ملموساً في المجلة شكلاً ومضموناً، ونسأل
الله أن يأخذ بيدنا كي تصدر المجلة كل شهر، فالساحة الإسلامية تدعو إلى ذلك، وعلى الرغم من سوء الواقع، وكثرة المشاكل التي يرزح تحتها الجسم الإسلامي؛ فإن هناك ما يدعو إلى مضاعفة الجهد من أجل بث الوعي الإسلامي
والتعريف بالإسلام.
فالحضارة الغربية بشقيها -الرأسمالي والشيوعي- تبدو مفلسة لا معنى لها،
والمؤمن الذي يبصر بنور الله يرى ذلك ماثلاً للعيان، فشبح الزوال يحيط بهذه
الحضارة التي تفننت في ابتكار وسائل الرخاء المادي تفننها في ابتكار وسائل
التدمير، ولكنها لم تكتف أن عجزت عن تقديم شيء يداوي الروح المريضة،
ويبعث في النفس القلقة السكينة والراحة؛ بل قتلت هذه الروح، وعاشت جسماً
ضخماً يبعث الرهبة والفزع، ويحيط به العبث والخواء.
ومن جهة أخرى، فالعالم الإسلامي يتطلع إلى البديل الذي ينقذه مما عانى -
ويعاني- في ظل الأفكار غير الإسلامية، فقد مل الكبت والقهر الذي فرض عليه
من قِبل القوى الغاشمة ورموزها، وأدرك أن الأمم التي تستورد الأفكار مصيرها أن
تستجدي الغذاء والكساء وأسباب البقاء ممن لا يجود به لله، بل ابتغاء مطامع
ومكاسب، وإلا فمصيرها الاندثار والزوال، وأنه لا عاصم لهذه الأمم من هذه
النهاية البائسة، إلا أن ترجع إلى ربها، تطلب منه العون والسداد، وتثوب إلى
عقيدتها المهجورة، تستمد منها دليل العمل.
وإننا لنرى أصداء العودة تتردد في كل الجهات: على لسان الأصدقاء،
مشجعين مستبشرين، وعلى لسان الأعداء، محذرين ومتذمرين. [وإن تَصْبِرُوا
وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [ال عمران: 120] .(6/4)
التجديد في الإسلام
صحوة الجهاد
(6)
التجديد الجماعي:
كانت النتيجة التي خلص إليها الأخ الباحث الذي كتب الحلقات الأولى من هذا
الموضوع: أن التجديد بعد عمر بن عبد العزيز هو في الغالب تجديد جماعي،
فالذي يقوم به ليس رجلاً واحداً بل أكثر من واحد في كل عصر، ونقل ترجيح
الإمام ابن حجر لذلك، وهو ما رجحه الذهبي أيضاً وابن الأثير، كما نقل كلام ابن
الأثير بأن التجديد لا يلزم أن يكون من جانب الفقهاء خاصة، بل إن الأُمة تنتفع
أيضاً بأولي الأمر وأصحاب الحديث والقرّاء ...
وهذا الرأي هو الصواب -إن شاء الله- وخاصة في العصور المتأخرة التي
يصعب أن يقوم رجل واحد بأمر التجديد فيها، والعجيب أن الذين تكلموا في التجديد
لم يذكروا الولاة بعد عمر بن عبد العزيز، بل اقتصروا على العلماء، بل اقتصر
بعضهم على علماء مذهبه، وإذا كان التجديد جماعياً فما المانع أن يقوم ولاة
بالتجديد في ناحية ويقوم علماء بالتجديد في ناحية أخرى، فقد يكون تجديد الولاة
ببعث روح الجهاد في الأمة وإعادتها إلى عز بعد ذل، وهيبة وكرامة بعد إهانة،
مع أن الجهاد لابد يستتبع العلم ودراسة سيرة السلف من الصحابة والعلماء
والمجاهدين، فتعود للأمة روحها.
ما قبل الإفاقة:
ومن الأمثلة البارزة على التجديد الذي يكون ببعث روح الجهاد في الأمة
وإعادة الثقة إلى نفسها: ما قام به الملك الصالح المجاهد نور الدين محمود بن عماد
الدين زنكي، وما قام به بعده الملك المجاهد صلاح الدين الأيوبي في أواخر القرن
السادس الهجري.
وحتى نعلم قيمة ما أتى به هذان الرجلان لا بأس من أن نطل إطلالة على
العصر السابق لهما.
في أواخر القرن الخامس الهجري كان قد انتهى دور السلاجقة الكبار الذين
كان لهم دور كبير في إعادة القوة للمسلمين ومعركة (ملاذ كرد) التي انتصر فيها
(ألب أرسلان) على الروم انتصاراً ساحقاً جعلت الروم يفكرون طويلاً قبل محاولة
الاستيلاء على أي بلد من بلاد المسلمين. وجاء بعد هؤلاء أولادهم وأحفادهم
وتمزقت الدولة شرّ ممزق، وتحولت كل مدينة، بل كل حصن أو قلعة إلى دولة،
وكلٌ يحاول امتلاك أكبر عدد ممكن من الحصون، ويستنجدون بالبعيد والقريب
والعدو والصديق لحماية أنفسهم وزيادة ملكهم، فلا حصلوا دنيا ولا أقاموا ديناً،
وجاءت الحملات الصليبية إلى بلاد الشام، ولكنها لم تحرك فيهم ساكناً، بل استنجد
ملك دمشق بالصليبيين خوفاً من عماد الدين زنكي، وكذلك فعل (شاور) وزير
العبيديين في مصر، طلب الحماية من الصليبيين خوفاً من نور الدين محمود، وأما
الخلافة العباسية في بغداد فقد كانت من الضعف بمكان، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً
في هذا السبيل.
هذه هي الحالة المؤسفة التي آلت إليها بلاد المسلمين في مطلع القرن السادس، وهي حالة تمر بها الشعوب أحياناً، فتصبح أسيرة الذل والأوهام والنظر القاصر
والأنانية المفرطة التي تؤدي إلى التكالب على الدنيا دون النظر إلى العواقب.
بعد هذا التفرق وهذا الضعف؛ جاء نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين، فأعادا الثقة إلى الأمة بجهادهما وإخلاصهما.
التجديد الجهادي:
إن العلامة البارزة في شخصية هذين الملكين هي الجهاد، وإن كانت لهما
مميزات أخرى من حب العلم وإقامة العدل وفتح المدارس، ومن صفات شخصية
مثل: التواضع والحلم والشجاعة، ولكن استئناف الجهاد في حياة الأمة، الذي
أصبح همهما وديدنهما هو موضع التجديد.
قال المؤرخ أبو شامة عن نور الدين: «وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة
فلم أدركها، فقال له قطب الدين النيسابوري الفقيه الشافعي: بالله لا تخاطر بنفسك
وبالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم، فقال: يا قطب الدين، ومن محمود حتى يقال
له هذا؟» [1] . ومن حبه للجهاد أنه طلب من أمراء الجزيرة النجدة للوقوف في
وجه الفرنج، فأجابه البعض وتلكأ أحدهم ثم عزم، وعندما سئل عن السبب قال:
«لقد كاتب نور الدين الصلحاء والعلماء في الدعاء له ودعوة الناس للجهاد،
فإن لم أساعده أخذ ملكي مني» [2] .
وقال لصاحب الروم (قلج أرسلان) : «أنت مجاور الروم ولا تغزوهم وبلادك
قطعة كبيرة من بلاد المسلمين، ولابد من الغزاة معي» [3] . وأما تفاصيل غزواته
وجهاده للصليبيين وانتصاره عليهم في أكثر المعارك، واستعادة كثير من البلدان
والحصون منهم، فهو مثبت في كتب التاريخ لمن أراد الرجوع لذلك، وكان رحمه
الله يقدّرُ في نفسه أن يفتح القدس، وقد طلب تهيئة المنبر لليوم الذي يستعاد فيه
المسجد الأقصى، ولكن فاته الأجل وقدر الله ذلك للسلطان صلاح الدين. وأما
أعماله الأخرى العظيمة: فهو الذي أمر صلاح الدين بإنهاء الدولة العبيدية في مصر
وقطع الخطبة للعاضد، وأن يخطب للخلافة العباسية، وألح عليه في ذلك حتى
استجاب له [4] .
«وهو الذي جدّد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف وترك المحرمات،
فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية، همة أحدهم بطنه وفرجه، حتى جاء الله بدولته
فوقف مع أوامر الشرع، وبنى داراً للعدل، وخاف الأمراء من إحضارهم لهذه الدار
فأنصفوا من أنفسهم، وأنصفوا الناس خوفاً من أن يعلم بهم نور الدين» [5] .
وإذا كان صلاح الدين هو الذي أكمل هذا الاتجاه وقام به على أكمل وجه،
فإن الذي بنى هذا ومهّد له، وولّى أمثال صلاح الدين على مصر وغيرها، هو
نور الدين محمود -رحمه الله-.
التجديد الجهادي عند صلاح الدين:
كان أول عمل عظيم قام به هذا السلطان هو إنهاء الدولة العبيدية بمصر،
وعَزَل قضاتهم، وحوَّل سجونهم إلى مدارس لطلبة العلم، وبعد وفاة السلطان نور
الدين محمود لم يخلفه رجل قوي، مع أن المرحلة حرجة وتحتاج إلى مثل هذا
الرجل لمواجهة الصليبيين، فتصدى صلاح الدين لهذه المسؤولية، وكانت الخطوة
الرئيسية هي توحيد بلاد الشام ومصر وضم أكبر عدد ممكن من الأقاليم إلى هذه
الوحدة، فضمت اليمن والحجاز وبعض أقاليم الجزيرة، حتى يتسنى حشد الطاقات
لمقارعة الفرنجة، وجاءت سريعة نتائج هذه الوحدة مع إضافة النوايا الصادقة،
فانتصر المسلمون في (حطين) انتصاراً ساحقاً، وكان الهم الأكبر لدى السلطان هو
تخليص المسجد الأقصى من الكفرة، ففتح كل المدن الداخلية في فلسطين، وتم بعد
ذلك فتح القدس بعد أن بقيت أسيرة ما يقارب تسعين سنة. وبعد هذه الانتصارات
استولى حب الجهاد على قلبه، فأصبح شغله الشاغل وهمه القائم القاعد، فلا حديث
له إلا الجهاد، وفنون الحرب، وكيفية استصلاح القلاع، وصناعة أدوات القتال،
وألف العلماء في الجهاد وأصبح هو حدث الساعة.
وصف المؤرخ عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الملقب بأبي شامة، وصف
صلاح الدين فقال: «كان -رحمه الله- شديد المواظبة على الجهاد، عظيم
الاهتمام به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً
إلا في الجهاد وفي الإرفاد لصدق وبرَّ في يمينه، ولقد هجرَ في محبة الجهاد في
سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة
تهب بها الرياح يمنة ويسرة» [6] .
وقال عنه القاضي الفاضل: «وأما صبره في الجهاد، فقد رأيته بمرج عكا
وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دمامل كانت ظهرت عليه من وسطه
إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس، ومع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى
صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى المغرب، وهو صابر على
شدة الألم، وكان يقول: إذا ركبتُ يزول عنِّي ألمها حتى أنزل» [7] .
وكان السلطان قد عانى الأهوال في حصار عكا الذي استمر أكثر من سنتين،
ومع ذلك صابر الكفار كل هذه المدة (ويكون هو أول راكب وآخر نازل. ومرض
وأشرف على التلف ثم عوفي) . ويضيف الذهبي: (ولعله وجبت له الجنة برباطه ...
هذين العامين) [8] . وكان في حصار القدس يحمل الحجارة بنفسه حتى اضطر
من حوله من الأمراء والوزراء إلى القيام بنفس العمل. بل تطلعت نفسه إلى أبعد
من هذا، تطلعت إلى مهاجمة هؤلاء الصليبيين في عقر دارهم، يقول لصديقه
الحميم القاضي الفاضل: «متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد
وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي
على وجه الأرض من يكفر بالله، أو أموت» [9] .
بهذه النية الصالحة يسر الله استرجاع القدس، وفتح كل المدن الداخلية، ولم
يبق للصليبيين سوى بعض المدن الساحلية. وبعد الحصار الدامي حول عكا، رجع
إلى دمشق مستريحاً بعض الوقت، فوافاه الأجل صبيحة يوم الأربعاء من شهر
صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وبوفاته -رحمه الله- انتهت هذه الفترة من
الزخم الجهادي وتجميع قوى المسلمين وصهرهم في بوتقة عمل موحد، ولم يأت
بعده من استطاع إكمال المهمة، رغم مدافعة أولاد أخيه العادل للصليبيين، وخاصة
في مصر. ولم يتحرر بقية الساحل من الأعداء إلا في عهد المماليك.
العلماء مع صلاح الدين:
إذا كان الشغف بالجهاد وحمل هموم المسلمين وتحرير أرضهم من الكفرة هي
أبرز صفات صلاح الدين، إلا أنه حُبَي بصفات أخرى جعلته موضع احترام ومحبة
المسلمين، بل موضع احترام أعدائه من الصليبيين، وجعلت أهل دمشق يحزنون
على فراقه ما لم يحزنوا على ملك قبله.
قال كاتبه العماد الأصفهاني: «ومحافله آهلة بالفضلاء، ويؤثر سماع
الحديث بالأسانيد، حليماً، مقيلاً للعثرة، نقياً تقياً، ما ردّ سائلاً، ولا خجّل ... قائلاً» [10] .
وقد ارتحل هو وأخوته وأمراؤُه إلى المحدث أبو طاهر السَّلفي المقيم
بالإسكندرية، وسمع منه الحديث. وقد اقترح عليه أن يسمع الحديث وهو في
المعركة بين الصفين فاستجاب لذلك.
وقد هيأ الله له بطانة صالحة من العلماء ينصحونه ويستمع لهم، منهم الشيخ
علي ابن إبراهيم بن نجا الأنصاري الحنبلي، قال أبو شامة عنه: «كان كبير
القدر معظماً عند صلاح الدين، وكان واعظاً مفسراً» [11] ..
ومنهم الحافظ القاسم بن علي بن الحسن بن عساكر، جمع كتاباً كبيراً في
الجهاد، وسمعه منه كله السلطان في سنة ست وسبعين [12] .
ومن العلماء المجاهدين مع السلطان، الفقيه عيسى الهكاري، قاتل يوم
(الرملة) قتالاً شديداً وأُسر، ثم افتداه صلاح الدين بستين ألف دينار.
ومنهم الشيخ أبو عمر المقدسي، وهو من العلماء الصالحين المجاهدين،
وكان لا يترك موقعة إلا حضرها، والشيخ عبد الله اليونيني الملقب بأسد الشام.
وكان أمّاراً بالمعروف، لا يهاب الملوك، وما فاتته غزاة.
ومن العلماء الكبار الذين عاصروا صلاح الدين ثم أخاه العادل بعدئذ والذين
يمثلون التيار العلمي المكمل للتيار الجهادي الحافظ الكبير عبد الغني المقدسي،
والعالم المجتهد الرباني ابن قدامة المقدسي صاحب كتاب (المغني) ، كما هيأ الله لهذا
السلطان وزير صدق، وكاتباً بليغاً مجدداً في الكتابة، وناصحاً مشفقاً على الأمة
الإسلامية، ألا وهو: عبد الرحيم بن علي البيساني الملقب بالقاضي الفاضل، قال
العماد الأصفهاني: «والسلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه،
ومقاليد غناه وغَنائه، وكانت كتابته كتائب النصر ... » [13] . وقال العماد يصفه: «وكان قليل اللذات، كثير الحسنات، دائم التهجد، يشتغل بالتفسير والأدب» [14] وقال الذهبي عنه: «وقد انتهت إليه براعة الترسل، وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك اليد البيضاء والمعاني المبتكرة والباع الأطول» [15] .
وكان ناصحاً للسلطان، وإذا رأى شيئاً من المنكرات في جيشه بيَّن له ذلك
وطلب منه إزالتها، كما فعل في حصار عكا.
ومع حب صلاح الدين للعلماء وتقريبه للفضلاء، لابد أن نذكر مأثرة أخرى
له وهى: زهده وعدم اشتغاله بتثمير الأموال والضياع. قال ابن شداد كاتب سيرته: «لم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً، ولم يخلف ملكاً لا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا مزرعة» [16] .
رحم الله صلاح الدين ونور الدين، وجزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خير
الجزاء.
__________
(1) الروضتين بأخبار الدولتين / 8.
(2) ابن الأثير: الكامل 11 / 302.
(3) المصدر السابق 11 /392.
(4) الكامل 11/369.
(5) الروضتين / 7 - 8.
(6) الروضتين /221.
(7) المصدر السابق /222.
(8) سير أعلام النبلاء 22 / 210.
(9) الروضتين/222.
(10) سير أعلام النبلاء21/287.
(11) المصدر السابق 21 /394.
(12) المصدر السابق21/411.
(13) سير أعلام 21 / 340.
(14) المصدر السابق 21/343.
(15) المصدر السابق 21/339.
(16) الروضتين/217.(6/8)
دعوة كريمة
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
عثمان جمعة ضميرية
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [سورة البقرة، الآية 208] .
* عجيب أمر هذا الإنسان! إن الله تعالى قد وهبه ما يبصر به الأمور كاملة
على حقيقتها، ولكن بعض الناس يأبون ذلك، ويعطلون مواهبهم كلها أو بعضها،
فينظر أحدهم بإحدى عينيه، ويغمض الأخرى، فيرى الأشياء أجزاء وتفاريق،
ويحكم عليها حكماً جزئياً قاصراً.
* ومن ذلك: ما روي: أن ثلاثة ممن فقدوا نعمة البصر، جمعهم مجلس
واحد، وأرادوا أن يتعرفوا على فيلٍ بجانبهم، ولما كانوا لا يبصرون؛ فقد
استعملوا أيديهم ليتحسسوا الفيل ويتعرفوا عليه، وعلى شكله وهيئته؛ فأما الأول
منهم، فقد وقعت يده على إحدى قوائم الفيل، فقال: إنه يشبه الاسطوانة، وأما
الثاني فقد وقعت يده على أذن الفيل، فاعترض على الأول قائلا: إنه يشبه القربة،
وسخر الثالث من أخويه قائلاً: إنه يشبه الرمح، لأنه مسّ نابه. وبالتأكيد: لم يكن
الفيل شيئاً مما ذكروا، ولكنهم ما استطاعوا أن يعطوا حكماً صحيحاً، لأنهم ما
استطاعوا أن يحكموا إلا على جزءٍ منه.
* وبعض الناس يريد أن يعيد قصة هؤلاء النفر، ولكن مع الدين.. فترى
بعض الناس يأخذ جانباً واحداً من جوانب هذا الدين، ويظن أنه قد أخذ الدين كله
من جميع جوانبه: فهذا تستغرقه آيات الأخلاق في القرآن الكريم وأحاديثها في سنة
النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، والثاني تستغرقه بعض الجوانب السياسية،
فلا يجاهد إلا في سبيلها، والثالث لا يعرف الدين إلا عبادات خاشعة يتقرب بها إلى
الله تعالى، ورابع يضع نصب عينيه بدعة من البدع، لا يحارب من مظاهر
الانحراف سواها، وخامس يقف عند جانب العقيدة لا يتعداه إلى شيء سواه ...
ومرة أخرى - بكل تأكيد - ليس الإسلام واحداً من ذاك كله فقط، ولكنه ذلك
كله بأجمعه، بل هو أكثر من هذا كله.
* إن الإسلام عقيدة في القلب، عقيدة حية متحركة دافعة، وينبثق عن هذه
العقيدة عبادة تتحدد فيها صلة الإنسان بربه- تبارك وتعالى-، ويقوم عليها منهج
متكامل للحياة، ينظِّم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون من حوله،
ويضع معالم العلاقة بين الأمة المسلمة وغيرها من الأمم الأخرى، هو هذا الدين
الذي أنزله الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم-، فأكمله وأتم به النعمة
ورضيه لنا ديناً:
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً]
[المائدة: 30] .
* ولذلك أمر الله -سبحانه وتعالى- بالدخول في الإسلام كله، فقال: [يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] .
إنها دعوة للمؤمنين كافة أن يدخلوا في «السلم» كافة، «والسلم هو السلام، وهو هنا: الإسلام، لأنه هو الذي يتمثل فيه السلام الكامل في داخل النفس،
حيث تصطلح كلها، بعضها مع بعض، وتنتظم كلها في طريق واحد وغاية ... واحدة.. هو الطريق إلى الله» [1] .
ويتحقق هذا عندما يأخذ المسلمون بجميع عُرى الإسلام وشرائعه، والعمل
بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك [2] .
* وأول مفاهيم هذه الدعوة: أن يستسلم المؤمنون بكليّاتهم لله، في ذوات
أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم، أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى
بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة،
لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضائه، استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة،
الاستسلام لليد التي تقود خطاهم، وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد، وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير في الدنيا والآخرة سواء..
والمسلم حين يستجيب لله هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلام، عالم كله
ثقة واطمئنان، وكله رضىً واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا تردد، ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء،
سلام مع الوجود كله، ومع كل موجود، سلام يرفّ في حنايا السريرة، وسلام
يُظِلُّ الحياة والمجتمع ... سلام في الأرض، وسلام في السماء [3] .
وهذه قاعدة عظيمة، وكلمة جامعة، تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته، بأن
ينظر في جميع ما جاء به الشارع في كل مسالة من نص قولي وسنة متَّبعة، ونفهم
ذلك كله ونعمل به، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر،
وإن أدت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن وحملها على النسخ أو المسخ،
بالتأويل، أو تحكيم الاحتمال بلا حجة ولا دليل! !
ومن آيات العبرة في هذا المقام: أننا نجد في كلام كثير من علمائنا هدى
ونوراً، لو اتبعته الأمة في أزمنتهم لاستقامت على الطريقة، ووصلت إلى الحقيقة، بعد الخروج من مضيق الخلاف والشقاق إلى بحبوحة الوحدة والاتفاق.
ولذلك نعى الله تعالى ووبَّخ أولئك الذين جعلوا القرآن عضين، فجزّؤوا كتبهم
المنزلة عليهم، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعض:
[الَذِينَ جَعَلُوا القرآن عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الحجر: 91-93] . [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن
يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] . [البقرة: 85] .
وإنه لإنكار شديد على أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض،
أي: يعملون ببعض منه على أنه الدين، ويتركون بعضاً منه، بتأويل أو غير
تأويل، كشأن من لم يصدِّق بأنه من الله.
فوجوب أخذ القرآن والدين بجملته وفهمُ هدايته من مجموع ما ثبت عمن جاء
به أمر مقرر في ذاته، سواء فُسِّرت به الآية أم لا، لأن الآيتين اللتين تقدمتا آنفاً
في جعل القرآن عضين، وفي الإيمان ببعض، والكفر ببعض، وما في معناهما
من النصوص، تثبت ذلك وتوضحه وتؤكده [4] .
* ولا يدرك معنى هذا السِّلم حق إدراكه مَنْ لا يعلم كيف تنطلق الحيرة؟
وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان؟ ، في المجتمعات التي لا
تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكّرت له، وارتدَّت إلى الجاهلية، تحت عنوان
من شتى العنوانات في جميع الأزمان ... هذه المجتمعات الشقية الحائرة، على
الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر
مقومات الرقي في عُرف الجاهلية الضّالةِ التصورات، المختلة الموازين.
وحسبُنا مثلٌ واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله مادياً، وهو
(السويد) ، حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في
العام، وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي، وإعانات المرضى التي
تُصْرَف نقداً، والعلاج المجاني في المستشفيات، وحيث التعليم المجاني في جميع
مراحله، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين، وحيث تقدم الدولة
حوالي ثلاثماثة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث.. وحيث من ذلك الرخاء
المادي العجيب. [5]
ولكن ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلوِّ القلوب من الإيمان بالله؟ والطلاق بمعدل واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبُّرج الفتن
وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المخدرات والمسكرات،
ليعوِّض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة، والأمراض النفسية
والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح
والأعصاب.. ثم الانتحار.. والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في
روسيا..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة
العقيدة، فلا يذوق طعم السِّلْم الذي يُدْعَى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه
بالأمن والظل والراحة والقرار. [6]
وبعد هذا الاستطراد، نعود لنرى كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
يدعو الناس لأخذ هذا الدين بجملته؛ لأنه «لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من
جميع جوانبه» [7] .
فقد جاء وفد ثقيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكثوا أياماً يفدون على
النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعوهم إلى الإسلام.. فقال له عبد ياليل: هل
أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ [8] فقال: إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم،
وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم. فقال عبد ياليل: أفرأيت الزنا؟ فإنّا قوم
نغترب ولأبُدَّ لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام، فإن الله تعالى يقول: [ولا تَقْرَبُوا
الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً] [الإسراء: 32] . قالوا: أفرأيتَ الربا؟ قال:
هو عليكم حرام. قالوا: فإن أموالنا كلها ربا؟ قال: لكم رؤوس أموالكم، إن الله
تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [البقرة: 278] . قالوا: أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، ولابد لنا منها!
قال: إن الله قد حرمها، وقراً: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ
والأَنصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ... [المائدة: 90] [9] .
وبعد إسلامهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدع لهم الطاغية، وهي
الّلات، لا يهدمها، ثلاث سنين، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعها
لهم شيئاً مسمَّىً، وإنما كانوا يريدون بذلك -فيما يظهرون -أن يسلموا بتركها من
سفهائهم ونسائهم وزراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها، حتى يدخلها
الإسلام - وما زالوا يسألونه أن يتركها لهم سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا:
شهراً واحداً، بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، فسألوه أن يعفيهم من
هدمها بأيديهم، فأعطاهم ذلك. وقد كانوا سألوه، مع ترك الطاغية، أن يعفيهم من
الصلاة، فقال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا خير في دين لا صلاة ... فيه» [10] .
وهكذا كان هذا الموقف صورة تطبيقية عملية للأمر بالدخول في السلم كافة،
فالإسلام كُلٌّ لا يتجزأ ينبغي أن يؤخذ جملة، وإلا فما هو بدين الله الذي أراده الله
ورضيه للبشر ديناً.
* يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «إن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين
إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كليّاتها
وجزئياتها المرتَّبِة عليها، وعامّها المرتَّب على خاصِّها، ومطلقها المحمول على
مُقَيَّدها، ومجملها المفسَّر، إلى ما سوى ذلك من مناحيها.
فإذا حصل للناظر من جملتها حكمٌ من الأحكام، فذلك الذي نظمت به حين
استنبطت، وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون
إنساناً حتى يستنطق، فلا ينطق باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس
وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمّي بها إنساناً، كذلك الشريعة: لا
يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها أيَّ دليل كان،
وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل» .
* ولكن شياطين الإنس والجن، هم الذين يزينون لبعض الناس أن يأخذوا جانباً واحداً من هذا الدين، وأن ينصرفوا عن سائر الجوانب، فيزعمون أن نظم الحياة كلها.. من تعليم وجهاد وعقوبات ومعاملات.. لا ينبغي أن تكون من الدين.. العلم كذلك لا علاقة له بالدين.. فالدين صلة روحية بين العبد وربه، ومن يحاول أن يحكِّم دين الله في أي جانب من تلك الجوانب السالفة فهو - بزعمهم - متطرف متعصب، بل جاهل بأحكام الدين ومفسد في الأرض! ! .. وعندئذ يجب أن تُوَجَّه إليه كل التهم، وأن تستعمل ضده كل الأسلحة التي تفتّق عنها العقل البشري في العصر الحديث.. فقد تبدلت القيم والموازين، إذ صار الدعاة إلى الله فاسدين ومفسدين، عابثين لاهين! ! وأصبح الطغاة والمنحرفون دعاة للدين ومفتين، وغدا الذين يحاربون الدين ويقعدون للمؤمنين كل مقعد، غدوا حُماةَ الإسلام المدافعين عنه وعن أهله! !
ولكن، لا عجب في ذلك، ألم يسبق فرعون الذي عاصره موسى-عليه
السلام- إلى ذلك عندما قال: [ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] [غافر: 26] ..؟
ونعود إلى ما أسلفنا الإشارة إليه عن خطوات شياطين الإنس والجن الذين
يحرفون المرء عن دينه، ويزينون له تجزئة بعض الأحكام ليؤمن ببعضها ويكفر
ببعض، إن الإنسان لن يصل إلى ذلك دفعة واحدة، وإنما يسير مع الشيطان في
ذلك خطوة خطوة، فإذا سار معه الخطوة الأولى فقد تهيأت له الأسباب والبواعث
النفسية للمسيرة كاملة، ليصل إلى نهاية الطريق بالانخلاع من هذا الدين والخروج
عنه بالكلية، بل هو قد انخلع عنه حقيقةً عندما ترك جانباً من جوانبه.
ولذلك جاء التحذير من اتباع خطوات الشيطان، لأنه يسير مع الإنسان خطوة
خطوة، وينقله على طريقه نقلة نقلة، ويدخل عليه من مداخل شتى؛ لأنه لو أراده
على الخروج من دينه والانسلاخ منه دفعة واحدة، أبى عليه ما في قلبه من إيمان
وما في نفسه من حمية للدين، ومعرفة للعداوة الأبدية بين الشيطان والإنسان..
[ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [البقرة: 168] .
وحذرنا الله سبحانه وتعالى، من الزلل في طريق الإسلام، وبيَّن عاقبة ذلك
ومآله فقال: [فَإن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
[البقرة: 209] .
__________
(1) انظر: دراسات قرآنية، للأستاذ محمد قطب، ص 303-304.
(2) تفسير ابن كثير 1 /248، مكتبة الرياض الحديثة.
(3) في ظلال القرآن للأستاذ سيد تطب: 1/206-207، وانظر: منهج الإسلام في الحرب والسلم: ص35 ومابعدها.
(4) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا: 2 / 257، ابن كثير: 2 / 558.
(5) انظر في ذلك تقريراً لمجلة أخبار اليوم نقله المرحوم سيد قطب في الظلال، وفي: الإسلام ومشكلات الحضارة: ص 60 وما بعدها، وتقريراً آخر لرئيس تحرير مجلة روز اليوسف، نقله الدكتور القرضاوي في كتابه الإيمان والحياة، ص 74 وما بعدها وهذه الأرقام كانت ثروة كبيرة في نهاية الأربعينات.
(6) الظلال: 2/211، وانظر أيضاً: من روائع حضارتنا، د مصطفى السباعي: 3 -15، جاهلية القرن العشرين لمحمد قطب: ص 115 وما بعدها، إنسانية الإنسان، ترجمة د نبيل صبحي الطويل.
(7) نص جواب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من شيبان بعد أن عرض عليهم الإسلام وسمع منهم مقالتهم، والقصة طويلة أخرجها الحاكم وأبو نعيم والبيهقي، وذكرها ابن كثير في البداية والنهاية: 3 / 143-145، وقال: هذا حديث غريب جداً وقد ورد من طريق أخرى.
(8) قاضاه مقاضاة: جعل بينه وبينه قضاء محكماً، وحكماً فاصلاً، وذلك هو القضية، ويريدون قضية الصلح، يكتبون بذلك بينهم كتاباً، فذلك هو المقاضاة.
(9) انظر: زاد المعاد في هدى خير العباد، لابن القيم الجوزية: 3 / 56 - 57 بتحقيق محمد حامد الفقي، إمتاع الأسماع للمقريزي: 1/492، بتحقيق أحمد محمد شاكر.
(10) انظر: سيرة ابن هشام، بهامش الروض الأنف: 2 /326، مسند الإمام أحمد: 3/341، زاد المعاد لابن القيم، المرجع السابق، وقارن بفقه السيرة للغزالي مع تخريج الألباني: ص 450.(6/14)
وإذا قلتم فاعدلوا
(2)
بقلم: عبد العزيز بن ناصر السعد
من لوازم العدل ومقتضياته:
هذا الباب هو بيت القصيد من هذا البحث، لأن المقصود من إثارة هذا
الموضوع هو التعرض للجوانب العملية التي يفرضها العدل على المسلم، وخاصة
في واقعنا المعاصر، وما نشأ فيه من تفريط في هذه الجوانب، ونقتصر فيها على
ما يلي:
1- التثبت من الأمر قبل الحكم عليه:
إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة، قبل الحكم
عليها، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام، وقبل
التثبت التام منه، ولقد بيّن الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الإسراء، وفي آية
واحدة، المنهج الصحيح الذي ينبغي سلوكه في مثل هذه الأمور، يقول -عز
وجل-: [ولا تقف مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء 36] .
وحول تفسير هذه الآية يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «قال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس يقول: لا تقل. وقال العوفي: لا ترم أحداً بما ليس لك
به علم. وقال محمد ابن الحنفية: يعني: شهادة الزور. وقال قتادة: لا تقل:
رأيت، ولم ترَ، وسمعتُ، ولم تسمع، وعلمتُ، ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك
عن ذلك كله» ، ومضمون ما ذكروه: أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل
بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: [اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] اهـ[1] .
وحول ظلال هذه الآية يقول سيد قطب -رحمه الله تعالى-:
«والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء
فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة، [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ
والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] ، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً
كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً، ويضيف
إليه استقامة القلب، ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة.
والتثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة، قبل الحكم عليها؛
هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على
هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن
والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية
والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
الأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث، ليست سوى طرف
من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعيتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً
عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد. إنها أمانة الجوارح
والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والعقل
والقلب جميعاً، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة،
وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة.
[ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] .. ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم
تتثبت من صحته؛ من قول يقال ورواية تروى، ومن ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي، أو قضية اعتقادية.
في الحديث:» إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث « [فتح الباري 9/ 5143] ، وفي سنن أبي داود (بئس مطية الرجل: (زعموا) » [عون المعبود 13 / 4591] ، وفي الحديث الآخر: «إن أفرى الفرى أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا» [مسند أحمد 8 / 66] . وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل، الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثّبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها، [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] حقاً وصدقاً اهـ[2] .
2-العدل في النقد ومعالجة الخطأ:
هذا الجانب من جوانب العدل يحتاج إليه في كل حال من أحوالنا الفردية
والجماعية، وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها
روح المحبة والإخلاص. ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية
لمعالجة الخطأ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله -عز وجل-، بأن تكون لنا
أسوة حسنة فيه-صلى الله عليه وسلم-، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته -
صلى الله عليه وسلم-، بل إن سيرته -صلى الله عليه وسلم- كلها عدل، ونكتفي
هنا بمثال واحد: ألا وهو موقفه -صلى الله عليه وسلم- من صنيع حاطب بن أبي
بلتعة -رضي الله عنه- في فتح مكة، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها، ليتضح لنا
ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في معالجة هذا
الخطأ، رغم شناعته وخطورته:
روى الإمام البخاري - رحمه الله - في (صحيحه) ، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - قال: «بعثني رسول الله - صلى الله عليه ... وسلم - وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس-، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة ... خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا
فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها - وهى محتجزة بكساء - فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: يا رسول الله؛ قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: صدق، ولا تقولوا
إلا خيراً. فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو: فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم» اهـ[3] .
من هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما
كانت ضخامته
1-المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ، وفي هذه الحادثة قد تم
التثبت عن طريق أوثق المصادر، ألا وهو الوحي، حيث أوحى الله -عز وجل-
إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة،
وأين هي المرأة.
2-المرحلة الثانية: مرحلة التثبت وتبُّين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب
الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله في -صلى الله عليه وسلم- لحاطب: (ما حملك
على ما صنعت؟) ، وهذه المرحلة مهمة، لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن
هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد، فإذ لم تنته
عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم- لم يكن مقنعاً، ولكنه طمأن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على صدق حاطب وأنه لازال مسلماً، نقول: إذا لم يكن العذر مقنعاً من
الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:
3-المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ، وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته،
وهذا هو الذي سلكه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب -رضي الله عنه-، حيث قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: «أليس
من أهل بدر؟ فقال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد
وجبت لكم الجنة-أو: غفرت لكم -» .
وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- كلاماً جيداً حول هذا الموضوع، حيث
قال في رده على من قال: إن الله يعافي الجهال مالا يعافي العلماء؟ ...
(فالجواب: أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريبة فيه، ولكن من قواعد الشرع
والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر،
فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن
المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه
يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر: (وما يدريك
لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وارتكب مثل
ذلك الذنب العظيم، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه شهد بدراً، فدل على أن
مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم،
فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات. ولما حض النبي
-صلى الله عليه وسلم- على الصدقة، فأخرج عثمان -رضي الله عنه- تلك
الصدقة العظيمة، قال: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعدها) ، وقال لطلحة لما تطأطأ
للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد على ظهره إلى الصخرة: (أوجب طلحة) . وهذا موسى كليم الرحمن -عز وجل- ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه
له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه
ليلة الإسراء في النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وقال: شاب بعث بعدي يدخل
الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي؟ وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي
الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن
الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى
الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه، ولا
تخفي منزلته، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من
الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته
على إساءته وداعي شكره على إحسانه فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان
التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي
طبعهم أحياناً من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم) اهـ[4] . خلاصة ما سبق حول هذا اللازم:
أن العدل في القول والفعل، ومعالجة الأخطاء لو سلكنا فيها ذلك المسلك
النبوي السابق تفصيله لما وقع كثير من المسلمين فيما وقعوا فيه اليوم من كيل التهم، والتشهير، وتتبع العثرات، والذي لا يستفيد منه إلا الشيطان وأولياؤه، ولا يفرح
الشيطان بشيء كفرحه بالفرقة والاختلاف بين المسلمين، فقد روى الإمام مسلم-
رحمه الله- في (صحيحه) عن جابر -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه،
فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا؟ فيقول:
ما صنعتَ شيئاً، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين
امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت) ، قال الأعمش: أراه قال:
يلتزمه [5] . فإذا كان فرح الشيطان بالفرقة بين الزوجين بهذه الدرجة فكيف يكون فرحه بالفرقة بين دعاة المسلمين؟ ولو أن أحدنا إذا سمع شائعة عن مسلم أو طائفة ما قام بالتثبت منها، فإنه يصبح أمام أحد أمرين: إما أن تكون الشائعة لا أصل لها، وأنها مجرد ظنون وأوهام كاذبة، فيقضى عليها في مهدها؛ وإما أن يكون الأمر صحيحاً بعد التثبت، فيصار إلى المرحلة الأخرى، ألا وهي: البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى وجود هذا الخطأ، إما من صاحب الشأن، إن كان ذلك ممكناً، أو سؤال من يعرفه، أو من التمعن فيما كتبه، إن كان ذلك ... مكتوباً ... الخ.
وهذا هو مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما قال لحاطب: (ما حملك
على ما صنعت؟) ، وإذا اتضح الدافع المؤدي إلى وجود هذا الخطأ وكان مقنعاً من
الناحية الشرعية، فإن الأمر ينتهي عند ذلك.. وإن لم يكن مقنعاً فإنه يصار إلى
المرحلة الثالثة، ألا وهي النظر إلى حسنات هذا الشخص وبلائه وجهاده، لعل له
حسنات عظيمة ينغمر فيها هذا الخطأ ويصبح ضئيلاً في الوقت الذي يسعى لتعديل
الخطأ والمناصحة فيه بمحبة وإخلاص وحكمة.
ولعله قد تبين لنا الآن من الحديث حول هذا اللازم المهم من لوازم العدل،
وتبين لنا الفرق بين العدل في القول والعمل، وأثر ذلك في النصيحة والإصلاح
والائتلاف، وبين الاعتداء في القول والعمل، وما ينتج عنه من تشهير وفرقة
واختلاف، وذلك في وقت نحن معاشر أهل السنة والجماعة بحاجة شديدة إلى
الوحدة والائتلاف لا إلى الفرقة والاختلاف.
3- الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له:
ولعل هذا اللازم من أصعب لوازم العدل تحقيقاً، لأنه يمثل -في نظري- قمة
العدل والتقوى والورع، حيث نرى الكثير من دعاة المسلمين اليوم فضلاً عن
عامتهم إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك، حتى يحسبونه غلبة، بل إنك
ترى الكثير منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم وهمهم الوحيد هو تتبع
العثرات، والفرح باصطيادها، في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك (من إصابة
غيرهم للحق) فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا -والعياذ بالله- هو الظلم والحقد
والحسد والذي لا يلتقي مع العدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي
ذكرها ابن رجب -رحمه الله- حول هذا الأمر حيث قال: (وقد استحسن الإمام
أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما
ناظرك أحد إلا قطعته؛ فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث، أفرح إذا أصاب
خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه أو معنى هذا، فقال أحمد: ما أعقله من رجل) [6] .
4- الشهادة للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته:
ومن المواقف المؤسفة التي تنافي هذا اللازم: أننا نرى اليوم كثيراً من الناس
يفرطون في محبتهم أو كرههم، فإذا أحبوا شخصاً أو طائفةً ما، فإنهم يفرطون في
هذا الحب، ولا يعدلون فيه، حيث إنهم لا يرون إلا الحسنات، ويغمضون أعينهم
عن الأخطاء والسيئات ويبررونها ويؤولونها، وكأن من أحبوه لا يجوز عليه الخطأ، وهذا غلو واعتداء في الحب، قد يؤدي إلى الغلو في الرجال وتقديسهم، وفرق
بين التقدير والتقديس.
وفي مقابل ذلك إذا أبغضوا شخصاً أو هيئة ما فإن هذا الكره ينسيهم كل
الحسنات والإيجابيات، أو أنهم يشككون في نوايا فاعليها، في الوقت الذي لا
يذكرون إلا الأخطاء مع التضخيم والتهويل لها، ومعلوم ما في ذلك من ظلم واعتداء
ومجانبة للعدل والإنصاف، وما أظن أحداً من المسلمين يوافق على هذا المنهج
الجائر، لكن القناعات النظرية شيء والتزامها في الواقع شيء آخر! !
بقي أن نعرف المنهج الشرعي في مثل هذه المواقف، ألا وهو: الشهادة
للمحسن أنه محسن، ويذكر له ذلك بتجرد وإنصاف، والشهادة للمسيء بأنه مسيء، والنصح له في ذلك، وتلمس العذر، إن كان ثمة عذر شرعي لإساءته (كما سبق
في المنهج الشرعي لمعالجة الخطأ) والانتباه إلى أن كل بني آدم خطاء، وكل يؤخذ
من قوله ويرد إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وأن الاعتدال في الحب
والكره من لوازم قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] الآية [النساء 135] .
ويا ليتنا نرجع إلى سيرة سلفنا الصالح -رضي الله عنهم-، وكيف كانوا في
مواقفهم مع المخالفين؟ ، وكيف كانوا يقوِّمون الرجال؟ . فلقد روى الإمام مسلم في
(صحيحه) عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، ... ... فقالت: من أنت؟ فقال رجل من أهل مصر، فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم؟ فقال: ما نقمنا منه شيء، إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أن أخبرك: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وفي بيتي هذا:» اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به «.
ويعلق الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث بقوله: (وفيه أنه ينبغي أن يذكر ...
فضل أهل الفضل، ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها) [7] .
وهذا الإمام ابن كثير -رحمه الله- يقول في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية
بعد كلام طويل: (وبالجملة كان - رحمه الله- من كبار العلماء، وممن ... يخطىء ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه ... أيضاً مغفور له، كما في (صحيح البخاري) : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهو مأجور، وقال الإمام مالك بن أنس: (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-) اهـ[8] . ...
ويقول الإمام ابن رجب -رحمه الله - في كتابه (الفرق بين النصيحة ... والتعيير) :
(ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني
عليه، ويقول: وإن كان يخالف في أشياء فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضاً. وكما قال وكان كثيراً ما يعرض عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ومأخذهم من
أقوالهم، فلا يوافقهم في قولهم، ولا ينكر عليهم أقوالهم ولا استدلالهم، وإن لم يكن
هو موافقاً على ذلك كله) اهـ[9] .
ويذكر ابن الجوزي -رحمه الله -في كتابه (سيرة عمر) (202) قول عمر -
رضي الله عنه -: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظن
بكلمة خرجت من أخيك المسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وما كافأت من
عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه) اهـ[10] .
ونختتم هذا اللازم من لوازم العدل ببعض آراء مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- من مخالفيه سواء في الفروع أو الأصول:
يقول -رحمه الله- في ج 3 ص 348 في جوابه عن قوله -صلى الله عليه
وسلم-: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) ما الفرق؟ ، وما تعتقده كل فرقة
من هذه الصنوف؟ ، فقال في معرض جوابه:
( ... ومما ينبغي أيضاً أن يعرف: أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في
أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول
عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على
غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من
الباطل وقال من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق، وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد باطلاً
بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل
هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه
ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل
ذلك.
ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها؛ بخلاف من والى
موافقه وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون
موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من
أهل التفرق والاختلافات) اهـ[11] .
5- الابتعاد عن النجوى:
إن مما يفرضه العدل على المسلم أن يبتعد عن النجوى التي من شأنها إحزان
المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم، وهى عامل مهم في ترويج الشائعات.
يقول الله عز وجل: [إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَذِينَ آمنوا ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ
شَيْئاً إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] [المجادلة 10] والنجوى لا تأتي
بخير إلا في أحوال ثلاثة ذكرها الله عز وجل في سورة النساء حيث قال سبحانه:
[لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ ... النَّاسِ] ؟ وما سوى ذلك فهو شر وتفريق بين المؤمنين.
والناس إزاء الشائعات التي تثار حول شخص أو هيئة ما، ينقسمون، حسب
تعاملهم مع هذه الشائعات إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يقبل هذه الشائعات على علاتها، ويكتمها في نفسه،
ويرتب عليها أموراً ومواقف من غير تثبت ولا تبين.
الصنف الثاني: من يقوم بالتناجي بها، بعيداً عن صاحب الشأن فيها،
ومعلوم ما في ذلك من الوقوع في الغيبة، وإذكاء الشائعة وانتشارها.
الصنف الثالث: من يسارع إلى التثبت من الشائعة ممن أثيرت حوله مباشرة، ولا يذهب مع الظنون والوساوس النفسية أو المناجاة التي تحزن المسلم.
ولو حاكمنا معاملة هذه الأصناف الثلاثة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -
صلى الله عليه وسلم- لاتضح لنا أن الصنف الأول والثاني مخالفون للشرع، وأن
طريقة الصنف الثالث هي الطريقة الشرعية التي تقوم على التثبت وحب الخير
للمسلمين ورعاية حقوقهم وأعراضهم والتماس الأعذار لهم. وهذه الطريقة هي
الطريقة الشرعية في عتاب المسلم لأخيه المسلم، إذا وصله من أخيه ما يسوءه.
6-سلامة القلب:
يقول الله عز وجل: [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء 88 - 89] ، وقد ورد في تفسير ابن كثير حول هذه الآية أن
القلب السليم هو السالم من الشرك، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما،
وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن. اهـ[12] .
وعلق القرطبي في تفسيره 15 / 91 عن عوف الأعرابي قال: سألت محمد
بن سيرين ما القلب السليم؟ قال: الناصح لله عز وجل في خلقه. اهـ.
وروى البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل ... مسلم) [13] . وعلق ابن حجر رحمه الله بقوله: ورواه ابن حبان في صحيحه وزاد: (فكان جرير إذا اشترى أو باع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر) .
من ذلك يتبين أثر سلامة القلب في العدل مع الناس، حيث أن صاحب هذا
القلب مطمئن البال هادئ النفس يحب الخير للناس ويبذل النصح لهم وهذه هي
صفات أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين مدحهم الله عز وجل بقوله:
[والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
ومثل هذا يلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات
فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير، لا مجرد الرد والخصومة
والجدال، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه، حيث إن
الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف
فضلاً عن الأصول لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
وخلاصة القول في (سلامة القلب) أنه أصل للوازم السابقة كلها، فبسلامة
القلب، والنصح لله عز وجل في الخلق، يتم العدل في جميع الأمور السابقة،
وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينقم لنفسه. وقد ذكر الإمام
ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهداً فيما يصيب المسلم من أذى
الخلق وجنايتهم عليه، نكتفي بمشهد واحد حيث يقول -رحمه الله-:
(المشهد السادس: مشهد (السلامة وبرد القلب) وهذا مشهد شريف جداً لمن
عرفه، وذاق حلاوته. وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب
الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه. بل يفرغ قلبه من ذلك. ويرى أن سلامته
وبرده وخلوه منه أنفع له. وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا
اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده، وخير له منه. يكون بذلك مغبوناً والرشيد لا
يرضى بذلك. ويرى أنه من تصرفات السفيه. فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل
والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام) اهـ[14] .
ولقد اطلعت على رسالة كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى
تلامذته بدمشق، وفيها تبرز هذه الصفة بجلاء، ولولا خشية الإطالة لنقلتها بتمامها، ولكن نكتفي بمقاطع منها، يقول -رحمه الله- بعد السلام والأشواق إلى تلامذته:
» وتعلمون من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين تأليف القلوب،
واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] ويقول: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر
بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف وأهل هذا الأصل: هم أهل
الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة «إلى أن قال في نفس الرسالة:
» وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون -رضي الله عنكم- إني لا
أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين -فضلاً عن أصحابنا- بشيء أصلاً، لا
باطناً، ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي
من الكرامة والإجلال والمحبة، والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه ولا
يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مشكور،
والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله، ولسائر المؤمنين فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان
قصر، فلان ما عمل، فلان أُوذى الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية،
فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله بل مثل هذا يعود
على قائله بالملام، إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء الله. وقد
عفا الله عما سلف «إلى أن قال -رحمه الله- في نفس الرسالة:» فلا أخب أن
ينتصر من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم. وأنا
أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي. والذين
كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي «اهـ[15] .
7- الصدق والوضوح:
إن هذا اللازم يعتبر أيضاً سبباً من أسباب حصول العدل فهو نتيجة وسبب في
نفس الوقت، لأن الصدق يؤدي إلى العدل، والعدل يستلزم الصدق والوضوح في
الأقوال والأفعال. وأردت من إيراد هذا اللازم الإشارة إلى ما يقع في زماننا هذا
من الأساليب الغامضة في تعامل المسلمين بعضهم مع بعض، وعدم الوضوح في
المقاصد والوسائل، وهذا كله يؤدي -شئنا أم أبينا- إلى مجانبة الصدق والوقوع في
الكذب الصريح.
وهذا الغموض وعدم الوضوح وسوء الظن بالمسلمين من الأمراض الخطيرة
التي تؤدى إلى إذكاء العداوة والفرقة بين المسلمين، وعدم اطمئنان بعضهم إلى
بعض في الوقت الذي يفترض الصدق في المسلم، وأن لا يُساء الظن به، أو أن
مراده من كلامه كذا وكذا.. الخ. ولقد مرَّ بنا في الطريقة التي عالج بها الرسول -
صلى الله عليه وسلم- خطأ حاطب -رضي الله عنه-، كيف أنه -صلى الله عليه
وسلم- عندما سمع من حاطب عذره قال: صدق لا تقولوا إلا خيراً. ولم يذهب إلى
سوء الظن به، واتهامه بالكذب، أو باللف والدوران كما يقولون. وإن الصدق
منجاة وخير كله في الدنيا والآخرة. والصدق في الحديث أمر لازم لاطمئنان القلوب
بعضها ببعض، وطريق إلى التآلف وحصول البركة، فلقد روى البخاري ومسلم
وغيرهما عن حكيم بن حزام -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال:» البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا
بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما « [16] .
فإذا كان الصدق سبباً لحصول البركة للمتبايعين على سلعة، والكذب والكتمان
يمحق بركة بيعهما، أقول: إذا كان الأمر كذلك في أمر من أمور الدنيا فكيف يكون
الحال إذا كان الصدق أو الكذب على أمر من أمور الآخرة لأن الدعوة عبادة يراد بها
الدار الآخرة، فلأن يصدق هذا الحديث على ذلك من باب أولى والتجربة أكبر شاهد، حيث أن الصدق والوضوح بين أصحاب الدعوة وحسن الظن فيما بينهم ينتج عنه
نتائج طيبة، ويبارك الله عز وجل في جهودهم وتعاونهم، والعكس بالعكس فإن
الكذب والأساليب الملتوية لم ينتج عنها إلا الفرقة وسوء الظن وتشتيت الشمل.
وهنا يجب إيضاح أن لا تعارض بين وجود الصدق والوضوح وبين الكتمان فإن
كان لابد متحدثاً فليكن صادقاً وواضحاً وإلا فليصمت. ثم إننا نقصد بكل ما سبق
أهمية هذا اللازم بين المسلمين بعضهم مع بعض، أما الكافرون والمنافقون فإن
التعامل معهم يجب أن يكون بحذر، وتقدير ما ينبغي أن يقال، وأن لا يطلعوا على
أسرار المسلمين بحجة الصدق.
الخاتمة:
ولعلنا في هذه الخاتمة نجمل ما تم تفصيله في ثنايا هذا البحث حيث طرحت
فيه النقاط التالية:
1- إن الإنسان في طبيعته كان ظلوماً جهولاً.
2- إن الأمانة العظيمة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض لن يستطيع
أن يحملها الإنسان إلا بالعلم والعدل.
3- إن العدل كلمة يراد بها التوسط في الأمور وذلك بين الإفراط والتفريط،
فالجافي والغالي كلاهما قد جانب العدل.
4- للعدل صور كثيرة مردها إلى ثلاثة أقسام: العدل الأعظم وهو توحيد الله
عز وجل، والعدل مع النفس، والعدل مع العباد.
5- كان التركيز في هذا البحث على العدل مع العباد وذلك للحاجة الماسة إليه، خاصة في هذا العصر الذي بغى بعض الناس فيه على بعض.
6- للعدل مقتضيات ولوازم كثيرة لا يمكن استيعابها في مثل هذا البحث، وقد
ركزت على أهمها وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الناس من إقالة العثرات،
وإحسان الظن، وقطع الطريق على الشيطان الذي يسعى إلى إيجاد الإحن والأحقاد
والظلم بين المسلمين.
7- إن سبب الاختلاف والتفرق بين المسلمين يرجع إلى أمرين مهمين:
أ- لجهل الناشئ من فقدان أو قلة العلم بدين الله والذي يؤدي بدوره إلى الأخذ
بالباطل محسوباً أنه هو الحق.
ب- الظلم الناشئ من الهوى وعدم العدل والإنصاف، ومثل هذا قد يعلم
صاحبه أن الحق مع مخالفه، ولكن التعصب والهوى ومجانبة العدل يجعله يصر
على الباطل، ولو علم أنه باطل.
8- إن وسائل رفع الجهل عن النفس يتم بتعلم دين الله عز وجل وحدوده،
كما بلغها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وسار عليها سلف الأمة من
التابعين وتابعيهم من أئمة هذا الدين وأعلامه.
أما وسائل رفع الظلم والتحلي بالعدل والإنصاف فإنه لا يتم بالتعلم فقط، فقد
يعلم الإنسان بتلك الوسائل ولا يعمل بها، وللعدل مفاتيح وعلامات وتباشير أجملها
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- بقوله:
» وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، ... وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسر لكل باب مفتاحاً،
فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد. والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات
والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد: أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأدية
الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً «اهـ[17] .
خلاصة القول في مفتاح العدل أنه تقوى الله عز وجل، والتجافي عن دار
الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، حيث يقول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] حيث إنه لا مفتاح للعدل إلا
بالتقوى، والتقوى فقط.
وتبقى كلمة أخيرة في هذه الخاتمة أنصح نفسي وإخواني الدعاة من أهل السنة، بأن نتقي الله عز وجل، ونصلح ذات بيننا، وان نلزم أنفسنا بالعدل في أقوالنا
وأعمالنا، وأن نحذر من نزغات الشيطان، فكما أسلفنا في ثنايا البحث إن أعظم
فرحة للشيطان يوم أن يفرق بين المسلمين، ويخالف بين كلمتهم، فهو ما يألو
يسعى للتحريش بين المسلمين كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن جابر -رضي الله
عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» إن الشيطان يأس أن يعبده
المصلون في جزيرة العرب ولكن رضي بالتحريش بينهم « [18] .
وإن الواجبات الملقاة على أهل السنة اليوم أكبر وأضخم مما تستطيعه طائفة
واحدة من طوائف أهل السنة، فإن لم يسعَ المصلحون والمتقون من أهل السنة
لجمع الكلمة وتأليف القلوب فإن فساداً كبيراً لاشك نازل كما قال عز وجل:
[والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ]
[الأنفال 73] أي إلا يوالى المسلمون ويعادي الكافرون تكن فتنة للناس. [19] .
أسأل الله عز وجل أن يجمع دعاة الإسلام على الحق، وأن يؤلف بين قلوبهم
ويسدد آراءهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 307 ط دار الفكر.
(2) في ظلال القرآن، ج هـ، ص326 ط، دار المعرفة اللبنانية.
(3) فتح الباري ج 7 ص 307، باب فضل من شهد بدراً، ط السلفية.
(4) مفتاح دار السعادة، ص 192، ط 2: المصرية.
(5) شرح مسلم للنووي ج 17 ص 157، ط المطبعة المصرية ومكتبتها.
(6) الفرق بين النصيحة والتعيير لابن رجب تحقيق نجم خلف، ص 32، دار ابن القيم.
(7) شرح مسلم للنووي ج 21 ص 212، ط دار الكتب العلمية.
(8) البداية والنهاية ج 14 ص 139، ط دار المعارف.
(9) الفرق ين النصيحة والتعبير ص 31، 32؟ دار ابن القيم.
(10) خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووصاياه، جمع محمد أحمد عاشور ص 123، دار الاعتصام.
(11) مجموع الفتاوى، ج 3، ص 348.
(12) تفسير ابن كثير ج 5/191 ط دار الفكر.
(13) فتح الباري (57) ص 137 ج 1-السلفية.
(14) مدارج السالكين، ج 2، ص 320، تحقيق محمد الفقي - دار الكتاب العربي.
(15) مجموع الفتاوى ج 28 ن ص 51-57.
(16) البخاري 5 / 219 البيوع، مسلم رقم (1607) في المساقاة.
(17) خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووصاياه، جمع د/ محمد أحمد عاشور، ص 62 دار الاعتصام.
(18) شرح مسلم للنووي، ج 17، ص 157، ط المطبعة المصرية ومكتبتها.
(19) تفسير ابن كير، ج 3، ص 354، ط دار الفكر.(6/21)
خواطر في الدعوة
خطأ الواحد ... وصواب الجماعة
محمد العبدة
«خطأ الواحد في تدبير الأمور، خير من صواب الجماعة التي لا يجمعها
واحد، لأن الواحد في ذلك يستدرك، وصواب الجماعة يضرّي على استدامة
الإهمال، وفي ذلك الهلاك» .
هذا الكلام النفيس للإمام ابن حزم الأندلسي، وقد ذكرني ببعض أحداث
تاريخنا الإسلامي، لأرى مصداق ما ذكره: فئة معها الحق، أو هي أقرب إلى
الحق، ومعها كل مقومات النجاح سواء في القيادة أو التضحية، والحماس والثقة
بالنفس وبالحق التي هي عليه، ومع ذلك فقد فشلت، فمن أين جاء الخلل؟ .
لم يكن قائد هذه الفئة يطلب الطاعة العمياء من رعيته، ولكن بعضهم لا
يستحق هذا التكريم، فتمادوا في إساءة استعمال هذه الحرية المتاحة لهم، وأصبحوا
كلهم فقهاء وساسة وقادة، فلم يرضوا برأي قائدهم في أول الأمر، ولا في آخره،
جاء الخطأ من حيث يجب أن يكون هو الصواب، وأعنى احترام الآخرين
وإعطاءهم حرية الشورى والكلام.
ولكنهم استخدموا هذا الحق في غير محله، بل أن بعضهم لا يستأهل هذا
الحق.
إن شبكة الترابط والالتفاف حول القيادة في صف كهذا تكون ضعيفة ولذلك
يخسر الذي معه الحق، فهل نستفيد من هذه التجربة أم يتكرر الخطأ، ولا يقوى
المسلمون ولا يتمكنون، وذلك لاستدامة الإهمال كما عبر ابن حزم، هذا الإهمال
الذي يكون أحياناً بسبب عدم المعرفة بشبكة العلاقات بين الناس، وتداخل الأمور
الشخصية مع ما يتعلق بالمصلحة العامة، وما يترتب على ذلك من نظرات صائبة
أو خاطئة لأن هذا التداخل يكون طبيعياً أحياناً، وشاذاً أحياناً أخرى
والمجتمع المسلم سواء كان صغيراً أو كبيراً ليس هو مجتمع الأطهار الأبرار، الذي ليس فيه أي خطأ، أو ضعف بشري، أو تطلعات يختلط فيها الإخلاص
التام ببعض الهوى، وليس هو بالطبع المجتمع المادي المتكالب على الدنيا وشهواتها
ولكنه المجتمع الذي يتطلع دائماً إلى الأفضل، إلى تطهير النفس من أدران الجاهلية، فالذي يحاسب الناس على أنهم يجب أن يكونوا ملائكة تمشي على الأرض
سيخسر الجولة، لأنه لا يعلم كيف تكون العلاقات الاجتماعية.
وسبب آخر للفشل هو الفوضى التي درج عليها البعض بسبب التكريم الذي
أعطوه، فظنوا أنهم فقهاء ساسة ولأنهم تعودوا على الأوامر والخضوع، فإذا أريد
منهم أن يرتفعوا عن هذا المستوى دبت الفوضى في أوصالهم، وظنوا أنهم لم
يكرموا إلا لأنهم على مستوى عال من التمرس بالدعوة.
بهذه العقليات، وبهذه النفسيات تتشتت الجهود، ولو كانت النوايا صادقة،
ويشعر المسلم بالأسى كما شعر أمير المؤمنين علي -رضى الله عنه- عندما وصف
أتباعه من أهل الكوفة الذين يدعون محبته فقال:
«فيا عجباً من جِدِّ هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم، ولوددتُ أن
الله أخرجني من بين ظهرانيكم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، والله لوددتُ أني
لم أركم ولم أعرفكم. معرفةً والله جرّت ندماً. قد ورّيتم صدري غيظاً،
وجرعتموني الموت أنفاساً، وأفسدتم علىّ رأيي بالعصيان والخذلان» [1] .
__________
(1) الجاحظ: البيان والتبيين 2 / 54.(6/36)
مجال العقل البشري
وحاجة البشر إلى الرسالة
د. سليمان العايد
غالت البشرية في نظرتها للعقل، ولاسيما بعد أن فتح الله للعقل مجالات
رحبة في علوم الفضاء والذرة، واكتشفوا سراً من أسرار الكون التي كان يجهلها
وظنت أن بإمكانها أن تستغني عما جاء به الأنبياء، فطرحوا الشرائع السماوية
جانباً، وسنوا لأنفسهم الأنظمة، وشرعوا لحياتهم القوانين، وأحلوا ما اشتهته
أنفسهم، وحرموا ما اشمأزت منه نفوسهم، استناداً على ما تمليه عقولهم القاصرة
وخيالاتهم الممرورة، فحاربوا الدين السماوي بحجة تحرير العقل من قيوده وإفساح
المجال له ليقوم بواجبه، من وضع الأنظمة وسن القوانين، ولم يسبق هؤلاء في
مقالتهم إلا طائفة وثنية في بلاد الهند تدعى البراهمة، وهم من عُبّاد البقر.
والعقل في التصور الإسلامي له وضع يليق به، لا يرتفع ليكون إلهاً، ولا
يمتهن ليكون صاحبه كسائر الحيوانات، إذ من المسلم أن العقل له قدرة في معرفة
ما يصلحه وما يضره، وقدرة في معرفة الحسن من القبيح معرفة فطرية، ولكن
هذه المعرفة وهذا الإدراك من العقل أمامه إشارات تجعله لا يقدر على تسيير الحياة
وحده دون وحي، ومن هذه:
1- معرفة الغيب الذي أخفاه الله عن خلقه على حقيقته، كمعرفة صفات الله،
والملائكة والجن والنار والجنة، وما أعده الله لعباده من الثواب والعقاب، ونحو
ذلك من الأمور التي لا تقع تحت الحس.
2- إدراكات العقل مجملة لا مفصلة، فقد يدرك أن هذا الفعل حسن مثل
العدل، ويدرك أن هذا الفعل قبيح مثل الجور، وقد يعجز عن تحديد عمل من
الأعمال: هل هو عدل أو جور؟
3- أن العقول قد لا تقدر على معرفة الحسن من القبح، وخاصة إذا تَضّمْن
الفعل مصلحة ومفسدة، أو كان ظاهره الفساد وباطنه المصلحة.
قال ابن تيمية: «الأنبياء جاءوا بما تعجز العقول عن معرفته ولم يجيئوا بما
تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول» [مجموع
فتاوى شيخ الإسلام 2/312] .
4- اختلاف العقول الإنسانية ومستوى إدراكها، فقد يستحسن عقل مالا
يستحسنه آخر، ويستقبح عقل مالا يستقبحه آخر، مما يوقعها في متناقض الآراء،
ويحيل هذه الآراء فرضيات لا حقائق مقطوعاً بها.
5- العوامل التي تؤثر في إدراك العقل البشري تبذر بذور الشك في صحة ما
تنتهي إليه العقول.
دور العقل البشري:
ولنا بعد هذا أن نتساءل عن عمل العقل، وعما يمكن أن يقدمه للبشر؟
إن عمل العقل هو التفكر في مخلوقات الله. واستخراج كنوز الأرض
وخيراتها، بما يتوصل إليه من علوم في الطبيعة، وأما الأمور التي لا تقع تحته
فليس له أن يبحثها، كالأمور التي وراء الطبيعة، كما أن ليس له أن يستعبد العقول
الإنسانية الأخرى، وعليه أن يذعن للوحي ويخضع له، ويجتهد في فهمه وتدبره،
واستنباط ما لم يصرح الوحي به، ويخفى على بعض العقول، مع التواضع لله،
والتسليم لوحيه، وعدم إنكار ما يستوعبه العقل، أو تكذيبه.
وقد آن الأوان لنشرع في تفصيل أوجه حاجة البشرية إلى الرسالة السماوية
فنقول:
لا يمكن إنكار فضل العقل في إدراك الحسن والقبح، ولكن هل يكفي إدراكه
لتحمل تبعة التكليف والمسؤولية، وهل يكفي لاستحقاق الثواب أو العقاب، وهل
يغني العقل عن الرسالات السماوية؟
هذه أسئلة دار حولها جدل قديم يحسن بنا أن نلم بخلاصة وافية عنه، فنقول:
قد ثبت في الصحيح عن عياض ابن حمار، عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا
بقايا من أهل الكتاب» والمقت هو البغض بل هو أشد البغض.
وبجانب هذا المقت نجد أن الله لا يعذب إلا ببعث رسول، قال تعالى: [ومَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] وقال: [ولَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا
رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى] [طه 134] ،
[ومَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ومَا كُنَّا
مُهْلِكِي القُرَى إلاَّ وأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] [القصص 159] ، وقال قبلها: [ولَوْلا أَن
تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ
ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] [القصص 147] ، وقال: [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ] .
فالعذاب مرتب في الآيات على بعث الرسل، وقيام الحجة بهذا البعث، وإن
كان مقتضى تعذيب الأمم موجوداً، لأن الله مقتهم، وبين استحقاقهم للعذاب، ولكن
الله سبحانه رؤوف بعباده يحب العذر منهم، ويقبله، لما ورد في الصحيحين عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل، من أجل ذاك أرسل الرسل، وأنزل الكتب» ، وفي رواية: «من أجل ذلك بعث
الرسل مبشرين ومنذرين، وما من أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح
نفسه، وما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن» .
وقد اختلف الناس هل يعلم حسن الأقوال والأفعال وقبحها بالعقل أم لا؟ وهل
يرتب على ذلك ثواب وعقاب أم لا؟
ويمكن حصر هذه الأقوال في ثلاثة مذاهب:
أولها: مذهب القائلين بأن ذلك لا يعرف إلا بالشرع وحده دون العقل، وهذا
قول الجهم بن صفوان وإخوانه، وقول أبي الحسن الأشعري واتباعه كالقاضي أبي
بكر بن الطيب، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبى يعلى، وأبى المعالي وأبي
الوفاء بن عقيل، وغيرهم.
وثانيها: أن العقل قد يعلم حسن الأقوال والأفعال وقبحها، والذي يخالف ما
يتوصل إليه العقل يستحق عذاب الآخرة بمجرد مخالفته للعقل، وإليه ذهب المعتزلة
والحنفية، وأبو الخطاب محفوظ بن أحمد.
وثالثها: أن العقل قد يعلم حسن الأقوال والأفعال وقبحها، ولا تقوم به الحجة
وحده، ولا يستحق العذاب من خالفه إلا بعد إقامة الحجة عليه بإرسال الرسل -
صلى الله عليهم وسلم-، ويقول هؤلاء: لا يعذبون حتى يبعث إليهم رسول كما دل
عليه الكتاب والسنة. لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوتة يذمها الله ويبغضها،
ويوصفون بالكفر الذي يذمه الله ويبغضه، وإن كان لا يعذبهم حتى يبعث إليهم
رسولاً، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح كما تقدم:
«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وإن
ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم. قلت: إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة،
قال: إني مبتليك ومبتلٍ بك، ومنزل عليك في كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً
ويقظان، فابعث جنداً أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأَنفق أُنفق
عليك»
وقال: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما
أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي
رواية: «على هذه الملة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة
بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة -رضي الله
عنه -: (اقرأوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] قيل: يا رسول ...
الله أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) .
ومع مقت الله لهم، فقد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولاً،
وهذا يدل على إبطال قول من قال: إنهم لم يكونوا مسيئين، ولا مرتكبين لقبيح،
حتى جاء السمع. وقول من قال: إنهم كانوا معذبين بدون السمع، إما لقيام الحجة
بالعقل كما يقوله من يقوله من القدرية، وإما لمحض المشيئة كما يقوله الجبرية.
والأصول التي جاء بها الأنبياء - ولا سبيل للعقل وحده إلى إدراكها حق
الإدراك- هي:
1- ما جاءوا به من إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أخبار الرسل مع
الأمم وغيرها.
2- الشرائع المفصلة بالأمر والنهي وبالإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
3- الثواب والعقاب، ويوم القيامة، وحياة الدار الأخرى.
وليس المقصود أن يميز الإنسان بين ما ينفعه وما يضره بالحس، فإنه واقع
للحيوانات، إذ يستطيع الحمار والجمل التمييز بين التراب والشعير، فيأكل الثاني
ويدع الأول، وإنما المقصود التمييز بين النتائج المترتبة على الفعل في المعاش
والمعاد، وما يحصل بسببها من ثواب وعقاب، وهذا لا يهتدي إليه إلا بالرسالة، (ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن
أعظم نعم الله على عباده وأشرف مننه عليهم: أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم
كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل
أشر حالاً منها) .
وخلق الله البشرية ودينها دين الفطرة، دين التوحيد، الدين الذي ارتضاه الله
لها، [ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] ، [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] ، وقال: [وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ] [الأعراف172-173] ، وقال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
المُشْرِكِينَ * مِنَ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]
[الروم 30-32] .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله: «إني خلقت عبادي
فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم» .
فكانت البشرية أول أمرها مؤمنة بربها، موحدة له، ثم طرأ الشرك عليها،
فأرسل الله الرسل يعيدونهم إلى الفطرة، ويردونهم إلى جادة الصواب، ويذودونهم
عن حياض الشرك، قال تعالى: [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] .
وكانت الرسل تقوم بالبشارة والنذارة، وتقيم الحجة على الخلق، وتبين لهم
منهج الله وشرعته، ذلك أن الله خلق البشر وطلب عبادتهم له، وشرع لهم ديناً
أبلغه إليهم بواسطة رسله من الملائكة والناس، [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً
وَمِنَ النَّاسِ] ، واختارهم من أفضل البشر، [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] ،
وطلب منهم دعوة الناس إلى دين الله، ولم يدع البشر لأنفسهم يضعون المناهج،
ويشرعون الشرائع، ويقررون المعتقدات، ويفسرون العوالم، لأن هذا من التكليف
بما لا يطاق، [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] ، [لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا] ،
ودعا المؤمنون ربهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم، [رَبَّنَا ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا ... بِهِ] فقال الله: (قد فعلتُ) .
وأنَّى للإنسان أن يضع لنفسه تصورات صحيحة عن الله وما يجب له، وعن
الكون، والملائكة والجن والحياة الآخرة.. ولو ترك البشر وشأنهم يجتهدون في
وضع هذه التصورات لسمعنا بالمضحكات، وقد سمعنا بعض تصورات الفلاسفة
الساذجة التي تدل على ضحالة في الفكر، وقلة في الإدراك، وكيف لعقل لم يؤت
من العلم إلا قليلاً كيف له أن يحيط بكل شيء علماً؟ ، وكيف لعقل قد خلق لأمر أن
يبدع في مجال ليس له؟ .
ومن ناحية الشرائع: لو وكَّل البشر إلى أنفسهم يضعون المناهج، ويشرعون
الشرائع، ويسنون القوانين والأنظمة، فإن عملهم هذا لا يمكن أن يسلم من الهوى
البشري، والضعف الإنساني، وقصور العلم والإدراك، علاوة على ما يقوم عليه
من الشرك، وتعدد الآلهة، وخضوع الإنسان لأخيه الإنسان، وتشريع بعض البشر
لبعض، وما يقوم عليه من تصورات قاصرة عن الإنسان ذاته، وعما حوله من
عوالم، وما يكتنفه من أسرار، وما يلحقه من حياة، قد لا تراعى في وضع مثل
هذه الأنظمة والشرائع والتصورات.
لهذه الأسباب جميعاً وجب على البشر اتباع منهج يضعه رب العالمين يتعبدهم
به، ويحققون بلزومه رضاه، وينجون من عذابه ومقته، ويفوزون بجناته الوارفة، مع ما يتحقق لهم في الحياة الدنيا من عودة بهم إلى دين الفطرة التي فطر الله
الناس عليها، دين الإسلام، إسلام الوجه لله وإفراده بالألوهية، وتحقيق العبادة له
دون سواه وبذلك يتحدد اتجاه الإنسان، ويسلك طريقه الذي أريد له، فالإنسان حين
يخضع لغير الله، ويتعبد بغير دينه ومنهج غير منهجه إنما يمزق نفسه بهذا العمل،
قال تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ] [الزمر 29] .
فالإنسان حين يبعد عن الله يمزق نفسه التي تخضع لله في جوانب كثيرة ليس
للإنسان فيها أدنى تحكم، إذ لا يستطيع أن يحدد أجله وحياته، وأبويه وجيله،
وصورته الخلقية، ومواهبه الفردية، ولا يستطيع أن يتحكم بالدورة الدموية وسائر
وظائف الأعضاء.
ويلقى الأمرين حين يخرج عن فطرته، ويقهر نفسه على أشياء ليست مجبولة
عليها، فيعيش حياته باضطراب وقلق، قال تعالى: [وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ
مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ] .
وقال تعالى: [كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ *
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]
[الزمر: 25، 26] .
فتتصارع الدوافع والجواذب داخل النفس البشرية، تحاول أن توفق بين
الفطرة والنزعات الطارئة، وتحاول أن توفق بين الرغبات المختلفة، رغبات
الآلهة والأهواء والنفس، [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ
القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ] [يوسف39، 40] .
ويعيش الإنسان نتيجة هذا الصراع في اضطراب وقلق، ولا تكاد قدمه تثبت
معه على حال، ولا يكاد بصره يستقر على نظر، ولا تطمئن نفسه إلى قرار، ولا
تسكن روحه إلى شيء، ولا يرفع هذا كله إلا العودة إلى منهج الله ليصلح هذه
النفس، ويربيها على أقوم منهج [أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي
سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [الملك: 22] .
[فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى * ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وقَدْ كُنتُ
بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ
أَسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وأَبْقَى] [طه 123-127] .(6/38)
أدب وتاريخ
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
(6)
الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة:
في الحلقة السابقة خلص الكاتب إلى العصر الإسلامي، بعد أن أوجز القول
مرة أخرى في مقومات الحياة السياسية من خلال الشعر الجاهلي، وبدأ في الحديث
عن ملامح ومقومات تلك الفترة الفضلى مبتدئاً بمنهج التربية الإسلامية.
ج- آثار هذه التربية:
وكان من فضائل هذه التربية العقدية، أن تخرج عليها جيل فريد من الصحابة، ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية، وأصبح ولاؤهم لمجتمع العقيدة، سواء في مكة
المكرمة حيث التعذيب والابتلاء والصبر، وتعميق أسس البنيان المبارك، أم في
المدينة المنورة حيث الأخوة والإيثار والجهاد في سبيل الله.
إنها تربية واقعية، طبقت، وتحقق بسببها ميلاد جيل جديد من البشر، ترى
ماذا لو فكر الدعاة في عصرنا الحاضر في تطبيقها، وغرسها من جديد في نفوس
الناشئة، أفلا يتخلصون مما هم فيه من خلل واضطراب؟ ألا يعيدون للمسلمين
واقعاً حياً نظيفاً؟
وحتى لا نتكلم في فراغ فلنستعرض بعض النماذج من سيرة السلف الصالح،
وكتب السيرة ممتلئة بعطرها الفواح، عسى أن تكون لأجيال اليوم نبراساً يضيء
لها ظلمة الطريق.
كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من السابقين الأولين للإسلام،
وكان باراً بأمه حمنة بنت أبي سفيان، قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟
والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد
الدهر، يقال: يا قاتل أمه! ، وبعد يومين وليلتين من امتناعها عن الطعام
والشراب جاء إليها سعد وقال: يا أماه: لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً،
ما تركت ديني، فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت،
فأنزل الله هذه الآية: [وإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] [سورة لقمان: 15] .
وأمر بعدم طاعتهما في الشرك: «لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية ... الخالق» [1] .
لقد ارتفع سعد - رضي الله عنه - بإيمانه رغم بره بأمه، وضحى بها لو
ماتت جوعاً وعطشاً على أن يساوم على عقيدته..
وأبو بكر -رضي الله عنه- خير نموذج لتربية دار الأرقم، يرد جوارَ ابن
الدغنة ليبقى في جوار ربه، ويكاد يشرف على الموت، إذ ضرب ضرباً شديداً
وتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ ورفض الطعام والشراب حتى يطمئن
على رسول الله، وعندما رآه -عليه الصلاة والسلام- صحيحاً معافى في دار الأرقم
اطمأنت نفسه [2] .
رجل يشرف على الموت مثخناً بالجراح، يرفض الطعام والشراب حتى
يطمئن على حياة رسول الله..
وأبو سفيان زعيم قريش وسيدها: (قدم على ابنته أم حبيبة، أم المؤمنين،
رضي الله عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال:
يابنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت: بل هو
فراش رسول الله، عليه الصلاة والسلام وأنت رجل مشرك نجس، فقال: والله لقد
أصابك يا بنية بعدي شر) [3] .
هكذا تتبرأ أم المؤمنين من أبيها، وتقول له بكل صراحة: إنك مشرك نجس..!
ما أجدر بنات اليوم، وأمهات الأجيال المعاصرة، بالقدوة ومفاصلة الشرك
وأهله. وقصة الصحابي الجليل عبد الله ابن حذافة السهمي وموقفه من ملك الروم
حيث أغراه بمشاطرة ملكه فرفض، وهدده بالقتل والحرق، فأبى أن يتنصر وهو
الأسير المجاهد.. كل ذلك بسبب عزة الإيمان، في تلك النفوس العظيمة [4] .
ما الذي جعل هذا الصحابي الجليل يتعالى على ملك الروم، وقد كان
(بالأمس) كل عربي يتمنى أن يحظى بالدخول إليه؟
وموقف أبي عبيدة أعجب وأعظم، لقد قتل أباه في بدر، كان كافراً محارباً لله
ورسوله، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه من ولائه ونصرته لله ورسوله والمؤمنين،
وفيه نزلت الآية الكريمة: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ ورَسُولَهُ] [5]
إن الصبر والابتلاء كان سمة الفترة المكية، وما التعذيب الذي لقيه خباب،
وصهيب، وبلال، وآل ياسر (رضي الله عنهم جميعاً) عن أذهاننا ببعيد..
والمقاطعة في الشِّعب وحصار المسلمين ومَنْ ناصرهم من بني هاشم.. عبر آلام
وتضحيات لحمتها التربية القرآنية، وحب الله ورسوله..
هذا الجيل كان منهجه التلقي من الكتاب والسنة للتنفيذ والعمل، أما منهج
التلقي للدراسة والمتاع فهو الذي خرج الأجيال اللاهية المتخاذلة.
بهذه الصورة تكونت قاعدة صلبة من المؤمنين، حتى استطاعت أن تقاوم
الجاهلية بكل أوضارها وتفاهاتها ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة، وهذه الدروس
(في العقيدة) لحمة التربية فيها..
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: [6]
وفي المدينة المنورة، استقبل الأنصار المهاجرين وشاطروهم الديار
والأموال، وبذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله، وقد أصبح حب الأنصار ... من عقيدة الإسلام وبغضهم نفاق؛ ففي الحديث الصحيح: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» . قال تعالى: [والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر9] .
لقد تكون المجتمع الإسلامي في العهد المدني، فمن الهجرة إلى المؤاخاة، إلى
قيام الدولة المسلمة، إلى الجهاد في سبيل الله وهيمنة الشرعية الإسلامية.
بهذه الأخوة تكون المجتمع المسلم، وضرب مثلاً رائعاً في التكافل الاجتماعي، وبناء الجماعة المسلمة.
(ولقد أبدى الأنصار كرماً وسخاء في معاملتهم للمهاجرين، وكانت المؤاخاة ...
رباطاً قوياً متيناً جمع المهاجرين والأنصار بما يترتب على ذلك من حقوق ... وصلت بل تساوت مع حقوق الأخوة في النسب) [7] .
(هكذا نلاحظ أن الإسلام صنع من العرب نماذج فريدة، أنكر الفرد نفسه، ...
وقطع صلته بأبيه وبابنه، وهجر المال والمتاع، وأصبح له طريق جديد ووجهة
جديدة، أصبح يسعى لتوه بالافتراق عن مجتمعه الجاهلي، أو أنه يسير في طريقه
المحدد والمجتمع يهيم في غير طريق، وتنقطع الأواصر بينه وبين ذاك المجتمع
ولو كانت أواصر القربى، ويتجه قلبه لتوه إلى كيان آخر يلتصق به ويحس أنه
أصبح قطعة منه، ذلك هو رسول الله والقلة المؤمنة « [8] .
د- شعر الدعوة الإسلامية:
وقد ساهم الشعراء في هذا العصر في شعرهم بمعانٍ وقيم مستمدة من التصور
الجديد، ولتعاليم الدعوة الإسلامية، مسخرين مواهبهم للدفاع عن قيم هذا المجتمع
الوليد..
إن أغراض الشعر من فخر وهجاء ورثاء وحماسة، تغير مفهومها، وسمت
قيمها..
فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفتخر بالسبق إلى الإسلام [9] :
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيراً ما بلغت أوان حِلمي
ويفتخر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بأنه أول من رمى بسهم في
الإسلام [10] :
ألا هل أتى رسولَ الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذياداً ... بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رامٍ في عدوٍٍ ... بسهم يا رسول الله قبلي
ويصبح فخر حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بالإسلام ونبيه ووحيه،
وبكتيبة المؤمنين من المهاجرين والأنصار، يقول قبل فتح مكة [11] :
عدمنا خيلنا إنْ لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح ... القدس ليس له كفاء [12]
والهجاء يتحول نحو المشركين، دفاعاً عن رسول الإسلام وصحابته الكرام،
فيقول حسان -رضي الله عنه- يهجو أبا سفيان بن الحارث وهو من قريش.. من
بني هاشم، لأنه من الشعراء المشركين، وقد اشترك في هجاء الرسول -صلى الله
عليه وسلم-:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخِبٌ هواء [13]
بأن سيوفنا تركتك عبداً ... وعبد الدار سادتها الإماء [14]
هجوتَ محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مباركاً براً حنيفاً ... أمين الله شيمته الوفاء [15]
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعِرض محمد منكم وقاء
رضي الله عن حسان، لقد كان شاعر الخزرج في الجاهلية يدافع عن أحساب
قومه، وهاهو يفدي نبيه بالنفس والعرض والأهل..
أبو سفيان هذا أسلم، وحسن إسلامه، ثم ندم على ما فرط في جاهليته، ... فقال [16] :
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلبَ خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي
إن الإسلام يجبُّ ما قبله، إلا أنه الشعور بثقل الماضي، ورهافة حس
الشعراء..
والرثاء: بكى فيه شعراءُ الدعوة الإسلامية شهداءَ المجتمع الجديد، مجتمع
العقيدة، ولنستمع إلى أبيات من قصيدة كعب بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه-
يرثي فيها شهداء مؤتة، إذ يقول [17] :
نام العيون ودمع عينك يهمل سحا ... ً كما وكفَ الطِّبابُ المخْضَلُ [18]
في ليلة وردتْ عليّ همومها ... طوراً أخِنُّ وساعة أتململُ [19]
واعتادني حزْنٌ فبتُّ كأنني ... ببنات نعشٍ والسّمال موكلُ
وجداً على النفر الذين تتابعوا ... يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صبروا بمؤتةَ للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
الرثاء للقادة، للشهداء جميعاً وبألم وحزن، لأن المصاب واحد، والمشاعر
واحدة، لقد أصبح» المثل الأعلى للرجل المسلم في عصر صدر الإسلام هو السبق
إلى الإسلام والهجرة، وملازمة المصطفى وصحبته والتقوى والورع.. ثم الشجاعة
والذياد عن حياض الإسلام « [20] .
وأخيراً: تبين لنا أن التربية الإيمانية أساس كل تغيير، ولابد من تطبيقها،
وليس لدينا خيار في هذا الأمر، لابد من العودة العميقة، والمعايشة الحية مع إخوة
الإيمان.. إن هذه التجربة، صنعت المعجزات، صنعت الجيل الأول، الذي
تخلص من جاهلية جائرة، واستعلى على ضغوط المجتمع وأعراف الآباء والأجداد.
ما أجدر الدعاة اليوم أن يتعالَوْا على أعراف فرقت ومزقت وليس لهم فيها سَنْدُ
شرعي!
ما أجدرهم أن يهتموا بتربية دار الأرقم، ومدينة الرسول الكريم -عليه
الصلاة والسلام -، وأن يعلموا ثقل المسؤولية، وعظم الأمانة في هذا العصر.
إن مسلم اليوم (مهمته خطيرة؛ لأنه لا يطلب منه أن يكون مجرد مسلم عادي، إنما يطلب منه أن يكون نموذجاً يحتذى.. يلزمه تدريب من نوع خاص، يتعود
فيه على التخفف من جواذب الأرض.. والمطلوب لدور البناء والتأسيس: أن
يكون المسلم على الدرجة العليا من الإيمان.. المطلوب نماذج فائقة من البشر..
تستطيع أن تتجرد لله، وأن تحتمل المشقة في سبيل الله) [21] .
إن هذه التربية، وهذا الإيمان، هو الذي خلص العرب من الشرك واستعباد
القبيلة، وحرر عقولهم من الهوى والخرافة، وجعل منهم خير أمة أخرجت للناس،
وقد غيرت مجرى التاريخ.
__________
(1) حديث صحيح: مشكاة المصابيح ح 3696/2: 1092، والقصة وردت في تفسير البغوي:
5/188.
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثبر 3 / 30.
(3) السيرة النبوية لابن هشام 2/396.
(4) انظر الإصابة لابن حجر 2/288.
(5) المصدر السابق 2 /244.
(6) انظر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في سيرة ابن هشام 1/ 501 وما بعدها، والولاء والبراء ص 193 د: محمد سعيد القحطاني.
(7) تطور الفكر السياسي في الإسلام 2 /76-77 د فتحية البزاوي ود محمد نصر مهنا.
(8) منهج التربية الإسلامية 2 / 46 -بتصرف يسير.
(9) شعر الدعوة الإسلامية: جمع وتحقيق عبد الله الحامد.
(10) الإصابة 2 / 32.
(11) ديوان حسان بن ثابت: ص 209.
(12) نظير.
(13) مجوف، نخب هواء: أي: جبان لا قلب له.
(14) عبد الدار: بطن من قريش.
(15) الحنيف: الذي يدين بالحق.
(16) ابن سلام ص 206، طبقات الشعراء.
(17) انظر العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام، الجزء الثاني ص385، وشعراء الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين: عبد الله الحامد، ويحسن الرجوع إليه؛ ففيه شواهد كثيرة (مطبوعة الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية 1971م) .
(18) الطباب: سير بين خرزتين في المزادة، والمخضل: الرطب المبتل.
(19) الخنين: حنين ببكاء، وهنالك رواية (أَحِنُّ) .
(20) الشعر الجاهلي في صدر الإسلام، د/ عبد الله الحامد.
(21) منهج التربية الإسلامية 2 /65، 67، بتصرف يسير.(6/46)
نافذة للأمل
علي بن الجهم
عرض وتعليق: د. مصطفى السيد
1- قالت: حُبِسْتَ، فقلت ليس بضائرٍ ... حبسي، وأي مُهَندٍ لا يغمدُ
2- أوَ ما رأيتِ الليثَ يألفُ غِيلَه ... كِبراً وأوباشُ السباعِ تَرَدَّدُ
3- والشمسُ لولا أنها محجوبةٌ ... عن ناظريك لما أضاءَ الفرقدُ
4- والبدرُ يُدرِكُهُ السِّرار ُفتنجلي ... أيامُهُ وكأنهُ متجدِّدُ
5- والنارُ في أحجارها مخبوءةٌ ... لا تُصْطَلَى إن لم تُثرها الأزنُدُ
6- والزاعبيةُ لا يقيم كُعوبَها ... إلا الثقافُ وجَذوةٌ تتوقَّدُ
7- غِيَرُ الليالي بادئات عُوَّدٌ ... والمال عاريةٌ يعادُ وينفَدُ
8- ولكل حالٍ مُعْقِبٌ ولربما ... أجلى لك المكروه عما يُحْمَد
9- كم من عليلٍ قد تخطاهُ الردى ... فَنَجَا ومات طبيبُه والعوَّدُ
10- والحبسُ ما لم تغشَهُ لدنيةٍ ... شنعاءَ نعم المنزلُ المتَوَرَّدُ
11- بيتٌ يُجَددُ للكريم كرامةً ... ويُزارُ فيه ولا يزورُ ويُحْفَدُ
12- لو لم يكن في السجن إلا أنَّها ... يستذلُّك بالحجابِ الأعبُدُ
شرح الأبيات:
1- عيرتني أن أصبحت رهين الحبس، ولكن كما أن السيف لا عار عليه إذا
أدخل في غمده؛ فكذلك أنا لا يضيرني أن دخلت السجن.
2- ولئن صرت نزيل السجن فلا تعجبين من ذلك، فالأسد قد يأوي إلى غيله، بينما ضعاف السباع وأوباشها تروح وتغدو حرة طليقة.
3- وحتى يرى الناس ضوء الفرقد (وهو نجم صغير) لابد من غياب الشمس، وإلا لما عُرف ضوء هذا النجم. (يشبِّه نفسه بالشمس المحجوبة، وأعداءه
بالفرقد) .
4- وعندما يعود البدر هلالاً آخر الشهر، فليس معنى هذا أنه سيستمر إلى
آخر الدهر هكذا، وإنما سيرجع ليكون بدراً من جديد.
5- والنار، وهى عنصر ضروري للحياة، لا تنبعث شرارتها من الحجر إلا
بعد استثارتها وضربها بالزند.
6- والرماح المستوية لا تصبح هكذا، إلا بعد عملية شاقة، حيث يقوِّم
اعوجاجها الثقاف، وتزال عقدُها بالحك والقطع، ويشحذ نصلها بإحمائه في النار
المتوقدة.
7- ومصائب الأيام ليست مقصورة على أحد، بل تبدأ بواحد وتثني بآخر،
والمال الذي يتباهى به كثير من الناس إن هو إلا عارية مستردة، (وقد أخذ الشاعر
وصف المال من كلمة أبي طالب حين خطب السيدة خديجة -رضي الله عنها- للنبي
-صلى الله عليه وسلم- حيث قال: وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل،
وعارية مسترجعة) .
8- إن مجيء الليالي بالسراء مرة وبالضراء مرة أخرى سنة ثابتة، وربما
كان الخير فيما تكرهه من الملمات والمصائب.
9- كم من مريض أشرف على الهلاك، ولكنه أبَّل من مرضه، وعوفي من
علته، بينما مات قبله الطبيب الذي عالجه، ومن عاده أثناء مرضه.
10- والحبس منزل كريم، وعنوان فخر لنازله، إن كان دخوله بسبب رأي
أو عقيدة، لا بسبب فعلة شنيعة.
11- فهو بيت يحفز الكريم على التمسك برأيه ويجدد له صبره وصموده،
ويزوره فيه أصحابه ويكرم فيه. (وهذا كان عندنا في العصور الوسطى -التي
يسميها الجهلة: عندنا عصور الظلام-، حيث يكرم سجين الرأي ويزار، أما في
سجوننا التي شيدت في القرن العشرين، هل بنا حاجة إلى وصف إكرام نزلائها؟ !
وهل يجرؤ أهلهم وذووهم على السؤال عنهم فضلاً عن طلب زيارتهم؟ !) .
12- وللسجن ميزات كثيرة عند الشاعر، ولو لم يكن للسجن من فائدة إلا أنه
يكفيك شر الحجاب وسفاهتهم وغلظتهم حيث يدفعون الناس عن الوصول إلى أولي
الأمر، لكانت فائدة عظيمة.
حول الأبيات:
تفردت بالألم العبقري ... وأنبغ ما في الحياة الألم
التحدي مستنبط كوامن العبقرية، ومنبع خبء [1] الذكاء، وكم نازلة حلت
بأمة فكانت نقطة تحول في تاريخها، ومبعث رقدتها من مجثمها [2] ، وكثيرة هي
الروائع الأدبية التي كان الباعث عليها السجن أو المرض، أو ما سواها من
مكدرات العيش ومنغصات الحياة.
والقصيدة التي نقدمها اليوم تسايلت معانيها من ذلكم الوادي، وسُقِيَتْ ... صوب [3] ذاك الغمام.
فمن وراء القضبان أرسل الشاعر علي بن الجهم هذه التأملات المعمقة عن
السجن، وإذا ما سُجنت الأُسْد فهي مخوفة، لا خائفة، وكم من طليق سجين، وكم
من سجين طليق! .
وعلي بن الجهم من فحول شعراء العصر العباسي الأول، تميز عن شعراء
ذلك العصر بعقيدة سليمة، على ندرة ذلك في أقرانه الذين تقاسمت أكثرهم ساحة
الاعتزال مع حلبات اللهو والمجون والانحلال.
وهو أحد رجال الطبقة الأولى من طبقات الحنابلة، وعلى الرغم من أن
المعتزلة والروافض قد انخفض صوتهم في عهد المتوكل، ولم تعد لهم تلك الصولة
التي كانت لهم زمن المأمون والمعتصم والواثق، إلا أن بقاياهم ظلت في دوائر
الحكم بعد ذلك، واستمر تأثيرهم من وراء حجاب، وكانوا لا يفتأون يدبرون المكائد
لخصومهم من أهل السنة، وما حصل لعلي بن الجهم مثال على ذلك، فقد ائتمر به
«بعض ندماء المتوكل وبعض المعتزلة وأصحاب البدع، واجتمعوا على الإغراء
بقتله» [4] .
واختلاب الفرص من قِبَل أهل البدع خُلقٌ ثابت لهم، شأنهم في كل عصر
ومَصر، ولهم أسلوبهم المميز في التخلص من كل حاجز من الحواجز التي تحول
بينهم وبين بدعهم.
وبسبب من هذا الحقد البدعي الأعمى وجد علي بن الجهم نفسه نزيل السجن،
فلم يتضعضع لهذه الصدمة القاسية، بل نجده يضيء السجن بمصابيح عبقريته،
ويمتعنا -على بعد الشقة- بنبل هذا الموقف.
وبالرغم من انحسار المد الاعتزالي، وعودة الأمور إلى نصابها في خلافة
المتوكل، إلا أن ذلك لايعني أن دوائر الحكم العباسي قد كنست كلها، أو صفيت
جلها من عقابيل هذا الفكر التفتيتي التقزيمي، بل بقيت زمرٌ تعمل وراء الكواليس
لتصفية الحساب مع بعض رموز أهل السنة.
ولعل في ذلك إيماءةً تاريخية، وإشارة فقهية لمن يتصدون للبحث التاريخي،
وهي: أن سقوط هيكلية أي فكر لا تعني زواله تماماً.
وفي ضوء هذه المقولة نفهم كيف تمكن أعداء الاتجاه السني من الزج بابن
الجهم في غياهب السِّجن.
وبسبب من شعلة الإيمان التي لم تخبُ جذوتها في فؤاده، وعدالة موقفه،
وشعوره بالظلم الفادح النازل به، اجتمعت هذه الأمور لتكون مصهراً لشاعريته.
إن سجنه كشخص، لم يحبس عواطفه شاعراً، بل أطلق لهذه الأخيرة العنان، لتصوغ لنا هذه الدرة اليتيمة التي تعد من أدب المقاومة للظلم، ومن أدب
الدفاع عن حقوق الإنسان، كما في سطورها من (الحداثة) الحقيقية -وليست الوهمية الغائبة أو المغيبة كما في شعر مُدَّعى الحداثة في هذا الزمن-، فيها
من الحداثة الدائمة التأثير والصادقة التعبير ما يضمن لها حضوراً متجدداً ... وتأثيراً متصلاً.
كما تقول لنا -القصيدة- بوضوح: إن السجن -على ضيقه- بوابة إلى عالم
أوسع، ومرقاة إلى مرتبة أرفع، فقد يكون إحدى مراحل اختبار الإيمان، وتوضيح
الرؤية، وجزى الله الشدائد كل خير ففيها تعرضٌ لثواب الصبر، وإيقاظٌ للقلب من
الغفلة، وادِّكارٌ للنعمة في حال الصحة واستدعاء للتوبة، وفي قضاء الله وقدره بَعْدُ
الخيار.
__________
(1) خبء: مدّخر: مخبوء.
(2) المجثم: أسم للمكان الذي يُجْثَم فيه.
(3) الصوب: المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي.
(4) الأغاني: 1/230.(6/52)
سأحزن ما بقيتُ مع الزمان
شعر: مالك فيصل الضيغمي
سأحزن ما بقيتُ مع الزمان ... لما ألقاه من كُرَبٍ وآنِ [1]
فشعري كله مرآةُ شعبٍ ... كسيرِ العظم محزونِ الجنَانِ
فلا تعجب إذا أرسلتُ شعراً ... يصور ما أعاني أو يعاني
فإني أمة كانت بخير ... فأسلمها الطغاة إلى الهوان
وإني أمة نشرت فأحيت ... وحررت العوالم بالقُران
وكان الناس في زمن تعيس ... يذوقون المذلة بالسنان
فصار الناس عُبَّاداً لرب ... يعامِلُ بالسماحةِ والحنان
فما أرضى أخا الشيطان دينٌ ... يقوم على الأمانةِ والأماني
ويزرع في النفوس بذور خير ... لتعلو في المكان وفي الزمان
فلا تعجب إذا أكثرت شعراً ... وقولاً غيرَ مقرونٍ بقان [2]
فعذري أمةٌ نامت طويلاً ... وغالت بالفصاحة والبيان
معاذَ الله أن أهوى حياةً ... يدغدغها الأراذلُ بالقيان [3]
وتوحيدُ الصفوف رأيت فيه ... دواءً للتنازع والشَنان [4]
وجدٌ في الأمور، وليتَ جمعاً ... دَرَوْا من قبلُ هاتيك المعاني
__________
(1) آن: حار.
(2) أي: أحمر وهو الدم.
(3) المغنيات.
(4) لغة في الشنآن: البغض.(6/58)
مشاهداتي في بريطانيا
المرأة الغربية والزواج
د. عبد الله مبارك الخاطر
قارئي الكريم: قلت لك منذ البداية: إنني طبيب في الأمراض النفسية، وهذا
العمل يتيح لي مشاهدة الوجه الآخر لمجتمعاتنا، والاتصال بأصناف متعددة من
الناس رجالاً كانوا أو نساءً، ومن طبيعة الذين يعملون في مثل هذه الاختصاصات
الاهتمام بمشكلات الناس، وقد يسير أحدهم في الشارع فتلفت انتباهه أمور لا يهتم
بها المارة.. وكم أتمنى أن يهتم العلماء الدعاة بمثل هذه القضايا ويقدمون لها الحلول
الناجعة، وسيكون دورهم أهم من دور الأطباء ورجال الأمن؛ لأن مخالفة تعاليم
الإسلام من أهم العوامل التي أدت إلى نشوء مثل هذه الأمراض.
وقد حرصت على ذكر هذه المقدمة حتى لا يستغرب القارئ ما أذكره له من
أحداث، وبشكل أخص زيارة النساء لنا في العيادة، والاستماع إلى مشكلاتهن، ولا
علاج بدون الاستماع إلى هذه المشكلات ومناقشتها.
وبعد هذه المقدمة أعود إلى الحديث عن المرأة الغربية والزواج، فأقول:
كنت أستغرب عند بداية إقامتي في بريطانيا أن المرأة هي التي تنفق على
الرجل، وكنت أشاهد هذه الظاهرة عندما أركب القطار أو أدخل المطعم، إذ ليس
في قاموس الغربيين شيء اسمه (كرم) ..
وبعد حين زال هذا الاستغراب، وأخبرني المرضى عن أسباب هذه الظاهرة، وفهمت منهم بأن الرجل لا يحب الارتباط بعقد زواج، ويفضل ما أسموه [صديقة] ، والمرأة تسميه [صديقاً] ، وليس هو أو هي من الصدق في شيء، وكم أساءوا
لهذه الكلمة النبيلة، فالصديق يعني: الصدق، والمحبة، والمروءة، والنخوة،
والكرم، والوفاء، وما إلى ذلك من معان طيبة كريمة.
والصديق عندهم يعيش مع امرأة شهوراً أو سنين، ولا ينفق عليها، بل هي
تنفق عليه في معظم الحالات، وقد يغادر البيت متى شاء، أو قد يطلب منها مغادرة
بيته، إن كانت تعيش معه في بيته، ولهذا فالمرأة عندهم تعيش في قلق وخوف
شديدين، وتخشى أن يرتبط صديقها (! !) بامرأة ثانية ويطردها، ثم لا تجد
صديقاً آخر.
وكما يقولون «بالمثل يتضح المقال» ، فسوف أختار مثالاً واحداً من أمثلة
كثيرة تبين وضع المرأة عندهم:
رأيت في عيادة الأمراض النفسية امرأة في العشرينات من عمرها، وكانت
حالتها النفسية منهارة، وبعد حين من الزمن شَعَرتْ بشيء من التحسن، وأصبحت
تتحدث عن وعيٍ، فسألتها عن حياتها، فأجابت والدموع تنهمر من عينيها، قالت:
مشكلتي الوحيدة أنني أعيش بقلق واضطراب، ولا أدري متى سينفصل عني
صديقي، ولا أستطيع مطالبته بالزواج منى، لأنني أخشى من موقف يتخذه،
ونُصِحتُ بالعمل على إنجاب طفل منه، لعل هذا الطفل يرغبه في الزواج، وها
أنت ترى الطفل، كما أنك تراني ولا ينقصني جمال، ومع هذا وذاك فأبذل كل
السبل؛ من تقديم خدمات، وإنفاق مال، ولم أنجح في إقناعه بالزواج، وهذا سر
مرضي، وسبب قهري إنني أشعر بأنني وحدي في هذا المجتمع، فليس لي زوج
يساعدني على أعباء الحياة، ولي أهل ولكن وجودهم وعدمه سواء، وليتني بقيت
بدون طفل؛ لأنني لا أريد أن يتعذب ويشقى في هذه الحياة كما تعذبت وشقيت.
وهذه المرأة المريضة ليست من شواذ المجتمع الغربي، بل الشواذ هم الذين
يعيشون حياة هادئة.. ومع ذلك ينقد الغربيون مجتمعاتنا الإسلامية، ويزعمون بأن
المرأة تعيش في بلادنا حياة بائسة محزنة، ونحن لا يهمنا رأي الغرب بنا، ولا
نطلب منه حسن سلوك، ولكن نريد من نسائنا أن يحمدن الله سبحانه وتعالى على
نعمة الإسلام، فلقد كانت في الجاهلية ذليلة مهينة، وجاء الإسلام ليرفع مكانتها،
وبفضل من الله سبحانه وتعالى أصبح الرجل يبحث عن المرأة، ويطلب الزواج
منها، وهي قد تقبل وقد ترفض، ولأهلها دور كبير في أمر زواجها، وسواء كانت
عند زوجها أو في بيت أبيها فهي عزيزة كريمة، والرجال هم الذين ينفقون عليها،
بل والذي نشكو منه في بلادنا الغلو في المهور، والتكاليف الباهظة التي تفرض
على الرجل حتى يحصل على زوجة، [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ
إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [الحجرات/17] .(6/59)
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
جهاد المسلمين الأفغان
يمر بأخطر مراحله
إعداد. محمد أحمد عبد الله
مقدمة:
سيلاحظ القارئ أن هذه الدراسة عن أفغانستان جاءت طويلة بعض الشيء،
ومع أننا -من حيث المبدأ- لا نحب إملال القارىء، ولسنا من هواة الإسهاب في
غير ما طائل؛ لكن موضوعاً بأهمية موضوع أفغانستان يحتم علينا أن نعالجه بعيداً
عن التسرع، وعن أسلوب الاستنكار والشجب.
فقضية أفغانستان أكثر من قضية دولة صغيرة تجتاحها دولة كبرى، وأكثر
من نموذج لنظام يستمد الوقوف على قدميه من قوة من وراء الحدود، بل هي قضية
الحرية عندما يضيق بها أعداء الحرية، وقضية الإسلام حينما يقع بين فكَّي القوى
الكبرى، قوة تحاول سحقه، وقوة تساوم عليه، وليست القوة التي تساوم عليه بأقل
خبثاً وأخف عداءً من تلك التي تحاول سحقه!
لذلك لابد من معالجة تكشف طرفاً من المناورات والمساومات، وتحلل جانباً
من الدوافع التي قد تكون خافية وراء التصريحات والتحقيقات.
مما لا شك فيه: أن المعارك التي يخوضها المجاهدون المسلمون الأفغان ضد
الغزاة الشيوعيين من أخطر معارك المسلمين في عصرنا الحديث وأعمقها أثراً،
فانتصار المجاهدين يعني قيام الخلافة الإسلامية في شبه القارة الهندية، وتحرير
الجمهوريات الإسلامية المجاورة لأفغانستان في جنوب الاتحاد السوفييتي، ويعني
أخيراً: انهيار النظام الشيوعي وسقوط الإمبراطورية السوفييتية، وعلى نقيض ذلك
فهزيمة المجاهدين -لا سمح الله- تعني سقوط آخر سد منيع أمام الشيوعيين في شبه
القارة الهندية، بل وفي العالم الإسلامي أجمع، ولهذا فقد قلنا غير مرَّة: إن
المجاهدين الأفغان يقاتلون نيابة عن المسلمين عامة، والمعركة معركة كل مسلم
يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وفي العدد الأول من مجلتنا (البيان) الصادر في غرة ذي الحجة من عام
1406هـ: وجهنا رسالة مفتوحة إلى المجاهدين الأفغان، أعربنا فيها عن عواطفنا
نحو إخواننا الأفغان ومحبتنا لهم، وتحدثنا عن أهمية جهادهم، وعن وجوب الأخذ
بأسباب النصر المادية منها والمعنوية، وحذرناهم من التفرق والاختلاف، كما
حذرناهم من المخربين الذين يحيكون المؤامرات ويفسدون داخل الصف، ولا
يصلحون، وبيّنا ضرورة الاستقلالية في اتخاذ القرار، وعدم الاعتماد في الجهاد
على الغرب الصليبي أو الشرق الشيوعي، وأشرنا في نهاية الرسالة إلى الأسباب
التي دعت حكام موسكو إلى الاعتماد على عدو الله -الذي أسماه أبوه: نجيب الله-
ليكون رجل المرحلة القادمة في أفغانستان.
وبعد صدور العدد الأول علمنا أن بعض القادة الأفغان أبدوا ارتياحهم من
الرسالة، ووصلتنا رسائل من كثير من القراء يقولون فيها: إن الرسالة جاءت في
وقتها المناسب، ويؤكدون على وجوب التناصح بين الدعاة إلى الله، ويطالبون
بتكرار كتابة مثل هذه الرسالة، ومع ذلك كنا ننتظر أن بعض الناس -غفر الله لنا
ولهم، ورزقنا وإياهم الاستقامة- سوف يحمِّلون أقوالنا ما لا تحتمل، ويفسرون
كلماتنا تفسيراً ظالماً، وصدق ما توقعناه، ولكنهم كانوا قلة والحمد الله، ونصيحتنا
لكل مسلم، أن يحسن الظن بأخيه، ويتقي الله فيما يقوله ويحدِّث به الآخرين،
وليفكر بعقله وليس بعقل صديقه أو أستاذه.
ومما ينبغي التأكيد عليه: أن معظم المسلمين يفكرون -عندما تمر بهم أحداث
غير عادية- بعواطفهم وليس بعقولهم، ويمارس شيئاً غير قليل من الإرهاب
الفكري، بحيث لا يجرؤ المفكرون وأصحاب العقول على إبداء ما عندهم من آراء
خوفاً من الاصطدام بمشاعر الجماهير، ولهذا فبعض المفكرين يلجأون إلى الصمت، وبعضهم يقول ما يُرضي الجماهير، ويخالف قناعاته، بل قد يعتلي المنابر
ويشحن العواطف المتأججة بأمور لا يعتقدها ولا يؤمن بها.. وكم جرّت هذه
الأساليب والممارسات من كوارث ومحن على أمتنا الإسلامية! ورحم الله من قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا بنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان
والأصل في هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي
رواه مسلم في (صحيحه) : «الدين النصيحة، قلنا: لَمْن؟ قال: لله، ولكتابه،
ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» .
والنقد البناء الهادف صورة من صور التناصح، ويأثم من قصّر في نصح
إخوانه المسلمين رغبة أو رهبة، ومن كان هدفه إرضاء الله لا يخشى الناس، لأن
إرضاءهم غاية لا تدرك.
ومن هذا المنطلق نؤكد بأننا سوف نمضي في طريقنا لا نخشى ظلم الظالمين، ولا سطحية الساذجين، أو مزايدات المراوغين، وسيعلم المنصفون غداً الصادق مِن غيره، والناصح مِن المتلاعب.
وسوف نتحدث في هذا البحث عن أخطر المراحل التي يمر بها الجهاد
الإسلامي في أفغانستان:
أعلن الزعيم السوفياتي غورباتشوف مبادرته القاضية بسحب القوات السوفيتية
المسلحة من أفغانستان خلال أقل من ثلاث سنوات، في إطار برنامج سياسي لحل
النزاع الأفغاني.
وبعد زيارة قام بها (نجيب الله) إلى موسكو أعلن عن مبادرة سلمية، وعن
وقف لإطلاق النار من جانب واحد يمتد لستة أشهر، وتتألف مبادرته من الفقرات
التالية:
1- وقف إطلاق النار لمدة ستة أشهر، لوقف سفك الدماء في أفغانستان.
2- مشاركة جميع الأطراف في الشؤون السياسية والحياة الاقتصادية في
البلاد.
3- عدم ملاحقة أي شخص بسبب نشاطه السابق، وإصدار عفو عام عن
الجميع، بما في ذلك الجنود والضباط الفارون من الجيش.
4- عودة الوحدات العسكرية السوفييتية (المحدودة) إلى بلادها خلال مدة
ثلاث سنوات، ويمكن أن يغادر القسم الأكبر منها أراضي أفغانستان خلال ستة
أشهر إذا ما سارت الأمور على ما يرام.
5- إجراء مفاوضات مع أطراف النزاع، وتشكيل حكومة ائتلافية تضم
شخصيات معارضة، وتشكيل لجنة للمصالحة الوطنية يتمثل فيها قادة الثوار بشكل
متساوٍ مع الأطراف الآخرين.
كان ذلك في أوائل شهر يناير من عام1987، ووقف إطلاق النار يكون
ساري المفعول ابتداء من 15/1/1987.
وكان نجيب الله ينظم جولات، ويعقد الندوات قبل هذه المبادرة وبعدها،
ويخاطب الجماهير قائلاً:
(أنا مسلم، وكل عائلتي مسلمون، وأنتم كذاك مسلمون، وأنا عضو في
الحزب لأنني أفغاني ثوري، وكلنا نريد القرآن الكريم ونقرؤه، ونراعي أحكام
الشريعة، ونعمل من أجل عقيدة الدين، ولا يوجد إله غير الله، ومحمد رسوله..
وقال: إننا نعمّر المساجد والأماكن المقدسة التي يحاول الأعداء هدمها، وكان
يحمل القرآن الكريم ويتلو آيات منه.. ورحب عدو الله بعودة ظاهر شاه) .
وسوف نعرض فيما يلي ردنا على هذه المبادرة، وموقف المجاهدين منها،
وما هي الآثار والنتائج المتوقعة. والله أعلم.
أولاً: المبادرة سوفيتية وليست أفغانية:
جاءت مبادرة (نجيب الله) بعد المبادرة التي أعلنها غورباتشوف، ومن يتأمل
المبادرتين يعلم أن نجيب ليس أكثر من ببغاء يردد الأقوال والتصريحات التي
وردت على لسان غورباتشوف، وهو لم ينكر ذلك، فقد جاء في تصريحاته بعد
زيارة الكرملين أنه اتفق مع الزعيم السوفياتي على طرح هذه المبادرة، والرئيس
الأفغاني موظف ذليل في المؤسسة الشيوعية، وهو يعرف مصير من سبقه من
الرؤساء الأفغان ابتداء ب: نور محمد طراقي، وانتهاء ب: براك كارمل.
ثانياً: هل يرغب السوفييت في الانسحاب من أفغانستان؟!
نعم، إن إدارة الكرملين تحرص على الخروج من أفغانستان وذلك للأسباب
التالية:
1- إن الاتحاد السوفييتي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة لا يستطيع معها
الاستمرار في تحمل تكاليف الحرب التي بلغت حوالي [70 مليون دولار يومياً] .
2- تكبد الجيش السوفييتي خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وقد تمكن
المجاهدون من الحصول على تقرير رسمي صادر عن الحكومة الأفغانية في كابل،
جاء فيه ما موجزه بأن المجاهدين أسقطوا [206] طائرة خلال عام 1986م، مما
أدى إلى انهيار معنويات العسكريين، وفي شهر نوفمبر من عام 1986 سجلت
حالات عصيان لبعض الطيارين لأوامر التحليق أو الفعاليات الجوية فوق خط جلال
آباد، أو من جلال آباد، حيث أن هذه الأراضي كان الطيارون يخشونها جداً،
وتقول المصادر المجاهدين: أنه تم قتل أكثر من 50000 جندي روسي.
3- انتشرت المخدرات بين العسكريين السوفييت الغزاة، وانتشرت أيضاً
الأمراض والأوبئة المحلية الخطيرة.
4- الذين يحكمون أفغانستان بشكل فعلي هم المستشارون السوفييت،
وهؤلاء أصبحوا يتلقون هدايا من المسؤولين الأفغان، فمستشار (كارمل) يسمى (سوسولوف) وقد تلقى هدية من وزير الدفاع عبد القادر أثناء سفر الأول قيمتها [600] ألف روبية من المنسوجات الحريرية، وقدم له الدكتور نجيب هدية قيمتها [200] ألف روبية، ويقاوم الزعماء السوفييت بشدة نمو الروح الاستهلاكية المترفة بين المسؤولين وعموم أفراد الشعب لأن ذلك سيزيد من المطالب الاستهلاكية، ولهذا فلقد تم عزل عدد من كبار المسؤولين الذين عملوا في أفغانستان رغم أن بعضهم كان مقرباً عند (بريجنيف) .
5- الحدود المفتوحة حالياً بين الاتحاد السوفييتي وأفغانستان تسمح بانتقال
الكتب والرسائل والأخبار إلى جنوب روسيا، وكان هذا من الأسباب التى أدت إلى
نمو الوعي الإسلامي عند المسلمين في هذه المناطق، وما أخبار مظاهرات
(كازخستان) عنا ببعيدة، لقد نشرت وكالات الأنباء معلومات كثيرة عن
الأنشطة الإسلامية السرية في تركستان، وطاجكستان، وأزبكستان، وبخارى، وسمرقند وغيرها من مناطق المسلمين في الاتحاد السوفييتي.. وأصبحت هذه الأنشطة تقلق قادة الكرملين أشد القلق، فكم من مسؤول شيوعي عزل لأنه فشل في مهمته، وكم من مؤتمر كان له أثر مضاد في بلدان المسلمين.. واستمرار احتلال أفغانستان سوف يضاعف اتصال المسلمين في الشمال والجنوب وتعاونهم ضد الشيوعيين.
6 - خسر السوفييت نفوذهم في الأمم المتحدة، فبعد أن كان السوفييت
يربحون كل قضية يجري التصويت عليها داخل المنظمة الدولية، وتلجأ الولايات
المتحدة إلى استخدام حق (الفيتو) لإلغاء القرار، انقلبت الأمور بعد احتلالهم
لأفغانستان، وصاروا لا يطمحون إلى أكثر من 18 صوتاً عند أي اقتراع،
وأصبحوا يلجأون إلى حق النقض وهذا يعني خسارتهم في مجال الدبلوماسية
العالمية.. وخسر السوفييت أيضاً نفوذهم في دول عدم الانحياز التي زاد عددها من 77 دولة لكي يصبح بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان 94 دولة.
7- إن غورباتشوف يقود تياراً جديداً في الحزب الشيوعي ينادي
بإصلاح الأوضاع ومحاربة الفساد المستشري، وينظر إلى ما جرى في
أفغانستان على أنه من أخطاء القيادة السابقة، ويحاول إنقاذ جيشه ونظامه
من هذه الورطة.
ثالثاً: وهل يقبل السوفييت الانسحاب دون قيد أو شرط؟ !
يقول بعض الطيبين: هذه المبادرة تعني أن السوفييت قد أفلسوا وفشلوا، وهم
عازمون على الرحيل دون قيد أو شرط! !
ونحن نتمنى أن يكون الأمر كما يقول إخواننا، ولا ننكر أن السوفييت دفعوا
ثمن الاحتلال باهظاً، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من هذا البحث، ولكن من خلال
متابعتنا للأحداث، ومن خلال قراءة تصريحات السوفييت وعملائهم في كابل، نجد
أن هذه المبادرة تعني أسلوباً آخر يسلكه الشيوعيون، والخطأ في التقدير قد يقود
إلى كوارث ومحن جديدة لاقبل للإسلاميين بها.
وللإجابة على هذا السؤال لابد من عرض سريع لأطماع السوفييت في
أفغانستان.
- في 28 شباط 1921 م وقع الزعماء السوفييت والأفغان معاهدة ألزمت
الطرفين بتحرير شعوب الشرق، ووعد الروس فيها بمساعدة تقنية واقتصادية
لأفغانستان.
- في عام 1933م اغتال الموالون للسوفييت الملك نادر شاه، وجرى تعيين
ابنه ظاهر شاه الذي حكم البلاد مدة أربعين عاماً، وفي عام 1933 وقع السوفييت
مع الأفغان معاهدة تقضي بعدم السماح لقوة أجنبية بالتمركز في أراضيها، وعدم
انتهاج سياسة معادية للسوفييت.
- وفي عام 1955 زار بولغانين وخروتشوف كابل في كانون أول في طريق
عودتهما من الهند، وجددا مع رئيس الوزراء محمد داود معاهدة 1933، ووقعا
قرضاً لأفغانستان مقداره مائة مليون دولار.
- في أواخر الأربعينات برزت حركة يسارية معارضة في المدن تتستر تحت
عباءة الديمقراطية، وتسمى (يقظة الشباب) واستمرت الحركة بين (1949-
1952) وكانت إرهاصاً لمولد الحزب الشيوعي، وكان طرقي وكارمل - عضوين
في الحركة.
وطرقي كان أكبر الشيوعيين في السن، فلقد ولد عام 1917 أي في أيام
الثورة الروسية، وعرف في الأربعينات ككاتب للقصة القصيرة، وعندما أوقف
نشاط الحركة الديمقراطية 1952 أرسل طرقي كملحق ثقافي في سفارة أفغانستان
في واشنطن، وعاد إلى أفغانستان بعد ثورة داود، وأصبح مديراً لإذاعة كابل.. ثم
استقال ليتفرغ للكتابة، ونشر حتى عام 1978 م ما ينوف على الثلاثين كتاباً،
احتلت القصة معظمها، وتحدث في ثلاثة منها عن الفلسفة الشيوعية.
وكان كارمل أصغر من طرقي بعشرين سنة، وهو ابن ضابط بوشتوني،
وكان من قادة طلاب الحركة الديمقراطية.
- تأسس حزب (خلق) الشيوعي سنة 1951، وبعد ظهور بعض الحرية
السياسية سنة 1964م، عقد الحزب مؤتمره العلني الأول في كابل في كانون الثاني
سنة 1965م، وذلك استعداداً للانتخابات المتوقعة بعد فترة، ولم يكن تعداد أعضاء
الحزب في ذلك الوقت يتجاوز عدة مئات، وكان محصوراً في كابل، وقد انتخب
مؤتمره الأول والوحيد لجنة مركزية من تسعة يرأسها (طرقي) كأمين عام.
وأصدر الحزب جريدته (خلق) عام 1966م، وظهر منها ستة أعداد بين
11 نيسان و 16 أيار، ثم أغلقتها الحكومة.
- انقسم الحزب على نفسه بعد إغلاق صحيفته (خلق) بعد وقوع خلاف شديد، هل تصدر الجريدة سراً، وهو الأمر الذي كان يدعو إليه كارمل،
أو إيقافها، الأمر الذي تبناه طرقي. وعند ذلك أصدر كارمل صحيفته الخاصة (بارشام) أي الراية، وكانت سرية في البداية، ثم علنية في جو الحرية النسبية قبيل انتخابات 1969 م، ثم عادت للسرية، وكانت (بارشام) تتبنى خطاً شيوعيا ً اكثر تصلباً من (خلق) .
- وفي انتخابات 1969 نجح عضوان من الشيوعيين، وهما حفيظ الله أمين، وبابراك كارمل، وكان زمام المبادرة بيد (بارشام) وكان لهذه الحركة نشاط
واسع في القوات المسلحة، وكان هناك تعاون بينهم وبين رئيس الوزراء
محمد داود.
- وفي 17/7/1973 قام محمد داود بانقلاب عسكري أطاح بابن عمه محمد
ظاهر شاه، وقد نفذ الحركة الانقلابية (300 ضابط) لم يكن بينهم سوى (10
ضباط) محايدين، وما تبقى كانوا شيوعيين، وشكل داود حكومة ضمت عدداً من
الشيوعيين وأنصارهم.. ومنذ بداية انقلاب داود بدأ الاستعمار السوفييتي لأفغانستان
بشكل غير مباشر.
- وفي عام 1977م شعر محمد داود بخطر الشيوعيين وخشي أن ينقلبوا عليه
فالتفت نحو إيران الشاه، ونحو الولايات المتحدة، وحصل على مساعدات كان من
آثارها إقصاء الوزراء الشيوعيين عن الحكم، وحاول التعاون مع خصومهم
التقليديين.
- شعر الشيوعيون بالخطر وتوحدت كلمتهم، وقاموا بانقلاب عسكري في
30/4/1978م وأطاحوا بحليفهم التاريخي محمد داود، وأعلنوا عن تشكيل مجلس
لقيادة الثورة برئاسة نور محمد طرقي، وأصبح نائبه بابراك كارمل، وتم الإعلان
عن جمهورية أفغانستان الديمقراطية.
- وبدأت فيما بعد صراعات أجنحة الحزب الشيوعي الأفغاني، فقام حفيظ الله
أمين بإقصاء محمد نور طرقي، وفي أواخر عام 1979 تدخلت القوات الروسية
وأعدموا حفيظ الله أمين، ونصبوا بابراك كارمل رئيساً.
- وفي 4/5/ 1986 عين السوفييت رئيس المخابرات الأفغانية (خاد) أميناً
عاماً لحزب الشعب الديمقراطي.
وبلغت المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفييتي لأفغانستان (750 مليون)
دولار حتى عام 1975، وإذن كان السوفييت قبل احتلالهم لأفغانستان يحكمون البلد
بشكل غير مباشر، وأثناء حكم ظاهر شاه وابن عمه محمد داود قام السوفييت
بتشييد طرقات وجسور تربط أفغانستان بالاتحاد السوفييتي، كما قاموا بمسح جوي
لأراضي أفغانستان الشمالية، ودربوا ضباط الجيش، وبلغ عدد الضباط الأفغان
الذين تدربوا في الاتحاد السوفييتي [7000 ضابطاً] وكان عدد الذين تدربوا في
الولايات المتحدة لا يزيد على [100] ، وكانت اللغة التقنية المعمول بها في وحدات
الجيش الأفغاني هي اللغة الروسية بسبب اعتماده الكلي على موسكو.
وقصارى القول: فأطماع الشيوعيين السوفييت في أفغانستان لم تبدأ في عام
1979م كما يظن البعض، وإنما بدأت محاولاتهم منذ بداية قيام الثورة البلشفية في
روسيا، وأول معاهدة بين البلدين كانت في عام 1921م، وكانت هذه المعاهدة أول
ثمرة لمحاولاتهم التي لم تنقطع.
ومن جهة أخرى: فهذا أول غزو للجيش السوفييتي خارج حلف وارسو [1] ...
ومن أجل إنجاح مهمتهم رصدوا أرقاماً مذهلة من المال والعتاد، وخسروا
أكثر من [50000] عسكرياً ... والذي نعتقده: بأن السوفييت يحبون أن يخرجوا
من أفغانستان، ولكنهم لا يوافقون على تسليم أفغانستان للمجاهدين المسلمين، كما
أنهم لا يقبلون التخلي عن هيمنة الحزب الشيوعي الأفغاني، وتقديم كل عون
ومساعدة عند الضرورة. إنهم لا يقبلون هذا ولا ذاك للأسباب التالية:
1- إذا خسر الاتحاد السوفييتي معركة أفغانستان فإن سمعته في العالم
الشيوعي سوف تنهار، لاسيما وأن أفغانستان دولة مجاورة للسوفييت.
2- هزيمة السوفييت، وقيام نظام إسلامي في أفغانستان يعني أن ثورة
أخرى سوف تبدأ في الجمهوريات الإسلامية جنوب الاتحاد السوفييتي، وهذا يعني - كما قلنا سابقاً- انهيار الإمبراطورية السوفييتية كلها.
3- هزيمة السوفييت تعني خسارة القاعدة العسكرية (شاندان) القريبة من
إيران، وهي قاعدة استراتيجية ضخمة يمكنها أن تغطي منطقة إيران والخليج،
والسوفييت يحاولون الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج، ولهم قواعد جوية
وبحرية كثيرة حول العالم في: أثيوبيا، وموزمبيق، وفيتنام، واليمن الجنوبي،
وسورية، ولهم أعداد كبيرة من السفن والطائرات في المحيط الهندي وقريباً من
الخليج، حيث يحتفظون قرب الخليج بحوالي 83 سفينة حاملة طائرات لكل منها
70 طائرة، والاحتفاظ بقاعدة (شاندان) العسكرية يجعل خطوط الإمدادات داخلية
وليست خارجية، وليس من العسير تدميرها.
4- الحرب المتوقعة في المستقبل ستكون بين السوفييت والصين -والله ... أعلم -، وكلاهما يستعد لها، ولقد أكمل السوفييت حصارهم للصين من جميع الجهات في كمبوديا ولاوس وفيتنام. وأسطولهم قادر على قطع أي إمداد بحري للصين، الممر الوحيد المتبقي لإمداد الصين هو طريق (كاراكم) الذي يربط الصين عبر باكستان إلى بحر العرب والمحيط الهندي، ومنه تأتي إمدادات النفط وغيرها.
واحتلال السوفييت لممر (واخان) يضع هذا الطريق تحت تهديدهم المباشر.
ومن جهة أخرى: فإن الاستيلاء على ممر (واخان) يجعل حدود الاتحاد
السوفييتي مشتركة مع حدود باكستان، وبالتالي يضع باكستان تحت التهديد
السوفييتي إذا حاولت التدخل ضد كابل أو مساعدة خصوم النظام.
ومن جهة ثالثة: ففي حالة وقوع حرب مع الصين تندفع القوات السوفييتية
عبر ممر (واخان) لتصل إلى أراضي حلفائها في الهند، فتنفصل باكستان عن
الصين، وتنقطع الإمدادات عبر طريق (كاراكوم) ، ولهذه الأسباب فإن السوفييت
يرغبون في الانسحاب من أفغانستان، مع الإبقاء على قاعدة عسكرية في (شاندان)
وعلى ممر (واخان) إلى الأبد، ويحرصون على وجود حكومة تدور في فلكهم
تماماً، ولا يشترطون أن تكون عناصر تلك الحكومة ماركسية، بل إنهم لا يمانعون
في انضمام عناصر قومية إلى الحكومة، وكذلك لا مانع لديهم من عودة الملك
السابق ظاهر شاه، أو مشاركة عناصر ذات صبغة إسلامية، ولكنهم يعارضون أشد
المعارضة تمثيل المجاهدين، لاسيما إن كان لهم شأن في صنع القرار، وقد
أفصحوا عن معظم أهدافهم وغاياتهم من خلال التصريحات الرسمية التي صدرت
عنهم.
رابعاً: أهدافهم من وراء هذه المبادرة:
1- إن غورباتشوف رجل مخابرات، فهو الذي كان مسؤولاً عن جهاز
المخابرات السوفياتية (كي. جي. بي) فأساليبه تختلف عن أساليب العسكريين ...
وطريقة تفكيرهم، ولهذا فقد اختار زعيماً جديداً للنظام الأفغاني وهو المدعو (نجيب
الله) الذي تدرب على أيدي [كي. جي. بي] وتولى مسؤولية ما يسمى بإصلاح
جهاز مخابرات أمن الدولة (خاد) ، وخلال توليه مسؤولية هذا الجهاز أثبت كفاءة
- من وجهة نظر السوفييت - حتى أنه اكتسب لقب (دكتور الموت) أو (دكتور
الرعب) وهو الاسم الذي يطلقه عليه المجاهدون الأفغان.
وطبيعة هذه المرحلة لا تعتمد على القوة وحدها، وإنما تعتمد على الدهاء،
والغدر، والمناورات، والتجسس.
2- ينتمي (دكتور الرعب) إلى إقليم (بوشتانستان) وهو من قبائل (البشتو) - بكتيا - المجاورة لباكستان والذي يمر من خلاله 70% من قوافل المجاهدين، وبعد توليه الحكم زار (بكتيا) وعقد لقاء قبلياً في معقل (الباشتون) ضم حوالي [5000] شخصاً، وأعلن خلال اللقاء عن تمسكه بالإسلام، كما أعلن عن عزم الحكومة على تطوير المنطقة، وهذا يعني أن الاختيار قد وقع عليه ليقود معركة وطنية ضد باكستان بقصد توحيد (البوشتون) [2] .
3- تكثيف جهاز المخابرات الأفغاني (خاد) لعمليات التخريب داخل باكستان
وإثارة الفتن والقلاقل بين المهاجرين الأفغان والمواطنين الباكستانيين، وتحريك
المعارضة ضد النظام الباكستاني.
وقد تحركت المعارضة، ففي باكستان (14) حزباً سياسياً، منها (11) حزباً
ضد المجاهدين الأفغان، ونجح النظام الأفغاني في تنظيم عدة انفجارات داخل
باكستان، من أهمها الانفجار الذي حدث في مخيم للاجئين الأفغان الذي وقع بالقرب من مدرسة باكستانية، وأدى هذا الانفجار إلى انهيار المدرسة ومقتل حوالي (50) طالباً، وأثر هذا الانفجار نظم الشيوعيون وعملاؤهم مظاهرات استمرت ثلاثة أيام، وقد تم خلالها منع المهاجرين الأفغان من النزول إلى مدينة (بيشاور) والتجول بالشوارع، وقام المتظاهرون بحرق ثلاث
سيارات للأفغان.. وبعد أيام أطلق على مطار (بيشاور) أربعة صواريخ أرضية صغيرة لم ينتج عنها خسائر.
4- ومع الحديث عن المبادرة السلمية، فلقد كانت القرى الباكستانية
والمخيمات الأفغانية هدفاً لغارات جوية قامت بها الطائرات السوفييتية، ومن أعنف
هذه الغارات: ما نفذته الطائرات السوفييتية في النصف الأول من الشهر الثالث من
هذا العام، حيث شاركت فيها ولأول مرة حوالي تسع عشرة طائرة وعلى دفعتين
متلاحقتين، وأدت هذه الغارات إلى تدمير عشرات المنازل والمتاجر، وتقول
السلطات الباكستانية: إنها سجلت أكثر من [900] انتهاكاً للأجواء الباكستانية،
وكان ضحايا هذه الغارات أكثر من [150] قتيلاً، والغريب أن هذه الغارات جرت
بينما كان الوفدان الباكستاني والأفغاني في جنيف لمناقشة ما يسمى بالمبادرة ... السلمية [3] .
5- وقع الاختيار على [الحاج محمد تشمكني] ، ليكون رئيساً للدولة، وهو
من مواليد قرية [تشمكني] في محافظة [بكتيا] ، ووالده زعيم قبلي في المنطقة،
ويكررون في إذاعة كابل لفظ (الحاج) لجذب عواطف (العامة) وإشعارهم بأن ...
الرئيس الأفغاني ليس شيوعياً، وحقيقة الأمر أن الحاج محمد انتهازي وصديق لهم، والحكم كله بيد نجيب الله، وأمثال هذه العناصر أشد خطراً على المسلمين من قادة
الحزب الشيوعي الأفغاني.
6- يسعى نجيب الله كما يسعى غورباتشوف لامتصاص النقمة العالمية على
الشيوعيين بسبب غزوهم لأفغانستان، وبشكل أخص يحاولون امتصاص النقمة
العالمية لدى دول عدم الانحياز، ولدى الدول التي تدين شعوبها بالإسلام.
7- يعمل الشيوعيون من أجل قيام حكومة ائتلافية تضم شخصيات معارضة،
وهذه الحكومة إذا قامت لا تتعارض مع مخططاتهم المرسومة، لأن الجيش يبقى
مؤسسة شيوعية، وتبقى الخطوط مفتوحة بينهم وبين قيادتهم في موسكو.
وهدفهم من طرح هذه الفكرة: ضرب ما تبقى من وحدة المجاهدين،
والمتمرسون في المخابرات يعرفون كيف يتسللون إلى ضعاف النفوس
من المحسوبين على الجهاد، ويعلمون بأن هناك ثلاث منظمات سوف تقبل
المبادرة إذا قبلها الملك وقبلتها الولايات المتحدة الأميركية وحكومة باكستان.. وستحاط هذه الحكومة بضجيج إعلامي عالمي، وسوف يحاولون عزل
المجاهدين الذين لا يقبلون الاشتراك بهذه الحكومة التي سيكون من أخطر
أهدافها القضاء على جهادهم، ومصير هذه الحكومة لن يكون أفضل من مصير الحكومات التي شكلها حليفهم الهالك محمد داود.
8- يحرص السوفييت على تطوير المفاوضات مع باكستان والولايات المتحدة
الأميركية، والوصول إلى حل متفق عليه للمشكلة الأفغانية، وإذا كانت المبادرة
مرفوضة عند باكستان وحلفائها، فإن المفاوضات تحرز شيئاً من التقدم، وما تقبله
باكستان لإنهاء الحرب لا تقبله بالتأكيد المنظمات الجهادية التي نثق بها ... ويقول
الشيوعيون: إذا وصلنا إلى اتفاق مع باكستان وحلفائها فلن نخشى المنظمات
الجهادية إذا تخلت عنها باكستان.
9- لن يتخلى الشيوعيون عن العمل العسكري في أفغانستان، ولهذا فهم
يحرصون على بقاء الجيش بأيديهم، كما يحرصون على بقاء القاعدة العسكرية في
(شاندان) .
ومن جهة أخرى: فقد كثف الشيوعيون هجماتهم على مخيمات الأفغان،
واستخدموا كافة الأسلحة، وكان هذا الهجوم بعد المبادرة، بل وأثناء مفاوضات
جنيف.
خامساً: موقف المجاهدين من المبادرة:
أدرك المجاهدون الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الشيوعيون من وراء
طرحهم لهذه المبادرة، وتنادى قادة الائتلاف إلى اجتماع حاشد حضره أكثر من
[150000 مجاهداً] من كافة الاتجاهات، تحدث فيه كل من: محمد يونس خالص، عبد رب الرسول سياف، صبغة الله مجددي، برهان الدين رباني، محمد نبي
محمدي، أحمد الجيلاني، حكمت يار.. وفي نهاية الحفل ألقى محمد نبي محمدي
رئيس الائتلاف بياناً باسم كافة أطراف الائتلاف جاء فيه:
«إن شعبنا المجاهد لن ينخدع، وسوف يواصل جهاده المقدس السامي بكل
يقظة حتى الوصول إلى غايتنا النبيلة، ولو وجد من يقبل وقف إطلاق النار المعلن
من قبل نجيب العميل، وصفق لما يسمى بالمصالحة الوطنية، وسقط في شراك
العدو الغادر، والتحق بالحكومة العميلة، فإنه ليس إلا من العناصر المتصلة
بمخابرات روسيا [كي. جي. بي] وفرعها منظمة الخاد في الحقيقة، وكان قد
تسرب إلى صفوف الجهاد متغطياً بغطاء الإسلام والجهاد» [4] .
«.. إن الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان الممثل الوحيد لغايات ومرامي
شعبنا المجاهد المسلم، يعلن بصراحة ما فوقها صراحة: أن نغمة وقف إطلاق النار
والمصالحة الوطنية وإقامة حكومة ائتلافية تضم الشيوعيين والمجاهدين، التي
يعزف الشياطين الروس على أوتارها وعلى لسان عميلهم نجيب؛ ليست إلا واحدة
من احتيالات العدو التي لا تعد ولا تحصى، ولن تخدع مجاهدينا الأبطال إن شاء
الله» .
واستطرد البيان في الرد على أكاذيب الشيوعيين، وفي فضح مقاصدهم،
وفي الختام أصدروا القرارات التالية:
1- إننا في حين نطالب بالانسحاب الفوري وغير المشروط والكامل للقوات
الروسية، لا نعرف طريقاً آخر لاسترجاع الحرية وطرد القوات الروسية من بلادنا
وإقامة حكومة إسلامية فيها غير استمرار المقاومة المسلحة.
2- سوف تتقلد حكومة المجاهدين المؤقتة زمام الأمور في البلاد بعد انسحاب
القوات الروسية وسقوط النظام العميل.
3- سوف تقام انتخابات حرة تحت إشراف هذه الحكومة المؤقتة، وتنجم
الانتخابات عن تشكيل شورى وحكومة إسلامية منتخبة.
4- تم الاتفاق على تشكيل لجنة لوضع دستور الحكومة المؤقتة وكيفية
تأسيسها وتجديد قدراتها ووظائفها، وسوف ترفع هذه اللجنة خطواتها العملية في
غرة فبراير من هذا العام، وتكمل اقتراحاتها خلال شهر واحد، وتقدم إلى مجلس
الشورى الحالي للاتحاد للمناقشة والإقرار.
5- تم الاتفاق على تشكيل لجنة قضائية ذات قدرة وصلاحية لتناقش
المنازعات الموجودة في صفوف المجاهدين، وتضع خططاً عملية لإزالتها،
وتصدر فتاوى شرعية بهذا الخصوص. ويجب تطبيق قرارات هذه اللجنة على كل
الأفراد والمجاهدين.
6- سوف يتلو تشكيل الشورى المنتخبة وضع دستور البلاد والمصادقة عليه، والدستور هذا يكفل تطبيق الشريعة الإسلامية في كل مجالات حياة شعبنا
الفردية منها والاجتماعية تطبيقاً كاملاً. ومن الله التوفيق.
وفي تجمع كبير قال الأستاذ سياف:
«واسمعوا: إننا لن نجلس على طاولة المفاوضات مع الذين خدموا الروس
وساعدوهم في عدوانهم السافر على أفغانستان، وقتل إخوانهم وإراقة دمائهم ... وإن
الائتلاف مع الشيوعيين أو المتغربين [يعني: محمد ظاهر شاه، وبطانته، ومن
سار على نهجهم] بمنزلة بيع دماء الشهداء وإضاعتها.. وإن المتغربين من الأفغان
الذين يستوطنون في الدول الغربية يحلمون بحكم أفغانستان، لكن -وبمشيئة الله-
سوف يأخذون أحلامهم هذه إلى قبورهم» [5] .
وقال الأستاذ حكمتيار [6] :
«إن الجهاد الإسلامي هو الآن في أخطر مراحل أقداره، ويقتضي منا كل
الاحتياط والكياسة في خطوات عملنا وسياستنا، علينا أن ننتبه إلى مؤامرات العدو
الماكر في بداية الطريق، وأن نتصدى للآمال الكاذبة والتوقعات الخادعة المضلة
التي ليست أكثر من سراب والتي يزرعها العدو. وعلينا أن نلفت الشعب إلى
خطورة هذه المناورات السياسية حتى لا تتطرق عقلية الانعطاف والمداهنة إلى
صفوف الشعب.. حتى لا نخسر المعركة التي كسبناها خلال حرب [152 شهراً] ،
وقدمنا فيها تضحيات ليس لها نظير في التاريخ.
وانطلاقاً من تلك الدروس والتجارب التاريخية فإننا سنصر على مواصلة
الحرب حتى اللحظة التي تترك فيها قوات العدوان بلدنا وترفرف راية الإسلام على
ربوع البلاد» .
وقال في نهاية محاضرته:
«إن حربنا ستستمر وسنواصل دون توقف أو تأخير حتى يخرج آخر جندي
روسي من بلدنا.. وإننا لنثق بأن استمرار الجهاد المسلح سيرغم في نهاية الأمر
قوات العدوان على ترك بلادنا دون قيد أو شرط» .
سادساً: أين مواطن الخلل؟
لقد صدرت تصريحات عن جميع قادة المجاهدين تبشر بالخير، سواء منهم
الذين يعملون داخل الائتلاف أو خارجه، ولا غرابة في ذلك فلقد عرفوا الشيوعية
والشيوعيين عن كثب، والمثل العربي القديم يقول: «أهل مكة أدرى بشعابها» ،
ورغم التصريحات والمواقف الجيدة التي وقفوها، هناك ثغرات يعرفها العدو تمام
المعرفة، ويحاول التسلل لنسف ما تبقى من وحدة المجاهدين من خلالها، وسوف
نشير فيما يلي إلى أهم مواطن الخلل:
1- الباطنيون الرافضة:
يعلم المجاهدون جميعا أن دور الباطنيين من الجهاد ومنذ البداية كان سلبياً،
ويعلمون أيضاً أن هناك بعض التفاهم بين طهران وموسكو، ويقال: إن رئيس
الوزراء الأفغاني منهم، ويحدثنا القادمون من الجبهات أن المرور من مناطقهم
مغامرة يحسب لها المجاهدون ألف حساب ... ومع أن المجاهدين يعلمون هذه
الأمور كلها فقد عرض عليهم أربعة عناصر في مجلس الشورى، ورفضوا هذا
العرض لأنهم يريدون نصف عدد المجلس ونصف عدد أعضاء الوزارة مع أن
عددهم في أفغانستان لا يتجاوز [1. 5مليون] ، وكعادتهم ينكرون ذلك ويزعمون
أن عددهم سبعة ملايين ونسبتهم 35%! ! وبدأت طهران تناور من جهتها،
واتصلت بالسوفييت وطرحت عليهم مبادرتها، وهذه المناورة هدفها تحقيق مكاسب
مهمة لهم في أفغانستان بعد انسحاب الروس.
ومع تقديرنا لوجهة نظر إخواننا المجاهدين نقول:
لا تظنوا أن اشتراكهم معكم في مجلس الشورى ومجلس الوزراء سوف يساعد
على وجود هدنة بينكم وبينهم، إنهم إن قبلوا بهذا الاشتراك فسيكون -أي الاشتراك
بحد ذاته- ميداناً جديداً من ميادين صراعهم معكم، فأنتم في نظرهم كفار ناصبة،
وليس بينهم من يعتقد بأننا مسلمون عصاة على الأقل، وسوف يتعاونون مع
السوفييت والأمريكان واليهود ضدكم، وسوف يستخدمون تقيتهم لذر الرماد في
العيون، وسوف يجعلون من أفغانستان (لبناناً) آخر بل أشد من لبنان لأن
أفغانستان مجاورة للبلد الذي تحكمه قيادتهم في العالم.. ومن المؤسف أن الذين
يعرضون مثل هذا الرأي هم الذين يستبعدون منظمات وهيئات طيبة ولا يقبلون أن
يكون لها دور في مجلس الشورى وغيره من المجالس الأخرى ... فخذوا حذركم يا
أخوة، وصراعكم مع هؤلاء الغلاة لن يكون أقل من صراعكم المرير مع الشيوعيين، ونحن نعلم أن كثيراً منكم سوف يستغربون ما نقوله عنهم، ولمثل هؤلاء نقول:
لا تحكموا عليهم من خلال ظاهر أحوال من تعرفون منهم، ولكن احكموا عليهم من
خلال عقائدهم، وتاريخهم، ومواقفهم من أهل السنة.. واعلموا حق العلم أنهم لم
ولن يقبلوا أن يقوم للمسلمين السنة دولة في أفغانستان، ولا نشك أنكم سوف
تخوضون معركة معهم، وسوف يفرضون عليكم هذه المعركة فرضاً والله أعلم،
وسوف يجدون من يتعاون معهم من ضعاف النفوس وطلاب الزعامات وبعض
أصحاب الاتجاهات الباطنية فانظروا ماذا تفعلون.
2- مجددي وجيلاني:
قال الإخوة المجاهدون الذين نثق بهم:
لهذين الرجلين صلات وثيقة مع الدوائر الغربية، ولهما صلات قوية مع
ظاهر شاه وينسقان معه.. وقالوا أيضاً: لا نقبل بحال من الأحوال أن يضمنا
وإياهم اتحاد واحد للأسباب السابقة ولأسباب أخرى ليس هذا هو موضع الحديث
عنها، ومن خلال متابعة سيرة الرجلين تأكد عندنا صحة ما يقوله إخواننا قادة
المجاهدين.. وبعد حين من الزمن تغير شكل الاتحاد فخرج منه ناس ودخله آخرون
وأصبح إخواننا الذين نثق بهم، ومجددي وجيلاني في اتحاد واحد، وقالوا في
تبرير موقفهم لقد أُرغمنا على اتخاذ هذا الموقف! ! .
وإذاً فلقد أصبح المستحيل ممكناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
ونسأل الله أن لا يتكرر مثل هذا الإرغام في مواقف أشد خطورة من هذا الموقف!.
وقبل بضعة أشهر قام مجددي وجيلاني ورباني ومحمد نبي بزيارة الولايات
المتحدة الأميركية، وعقدوا لقاءً مع الرئيس الأمريكي ريغان، وقاموا بزيارة عدد
من العواصم الغربية، وعقد [مجددي] مؤتمراً صحفياً، كما ألقى كلمة في احتفال
عقده أنصاره مما قاله:
«والتقينا أيضاً برئيس بلدية باريس نيابة عن رئيس الجمهورية، وجلسنا
معاً في غرفة واحدة حيث ألقى كلمة وألقيت كلمة، ثم قال بعد انتهاء الكلمتين: إن
هذه الغرفة مخصصة للقاء المسؤولين الحكوميين، وهانحن نلتقي بكم هنا للارتقاء
بجهادكم.. وإن الحكومة الفرنسية تساندكم في جهادكم كما قلنا سابقاً» .
وقال: «وفي أمريكا فقد استقبلنا هناك بحفاوة بالغة حيث رافقتنا الحماية من
الشرطة المزودين بأجهزة اللاسلكي للاتصال فيما بينهم، وأحضروا لنا سيارتين
كبيرتين يستقبل بهما رؤساء الحكومات، وبدأنا المفاوضات وطرحنا مشاكلنا
وشرحنا حقيقة مأساتنا وأبعادها السياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية،
وأبدينا ملاحظاتنا حول حاجة جهادنا إلى المعونة، وأعلن الأمريكيون استعدادهم
لدعم جهادنا وإسناده.. وأؤكد أن هذه الزيارة ليست ضد الشرع ... والمساعدات
المالية التي نطلبها ليس فيها أو في طلبها ما يخالف الشرع، وقد أجيز لنا شرعاً أن
نطلب ذلك» .
وعن السوفييت قال: «إن الروس عندهم الآن من القوة والعتاد مالا نستطيع
مقاومته وحدنا إلا بالاستعانة بالغير، وقد طلبنا الاستعانة بالكفرة وهذا أمر جائز
شرعاً حسب المذهب الحنفي» .
وأوضح قناعته بالحل السياسي فقال: يقول الله تبارك وتعالى: [وإن جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ونحن أمامنا عدو قوي فلماذا لا نكف عن سفك
الدماء ونرضى بالصلح إذا كان فيه صالحنا وتحرير أرضنا. والمحادثات في جنيف
هي من أجل الصلح ووضع حد للقتال بين المجاهدين وعدوهم «.
هذه أقوال مجددي كما جاءت في مؤتمره الذي عقده بتاريخ 8/7/1986
ونتركها دون تعليق؛ لأن أقواله كانت صريحة ... وندد الأستاذ سياف والمهندس
حكمتيار بهذه الزيارة في تصريحات صدرت عنهما، وتوترت الأجواء بين الطرفين ... ومرت أيام أُخر، ويعلن عدو الله وسادته في الكرملين عن مبادرتهم، ... ويتنادى قادة الائتلاف إلى اجتماع حاشد، ويتفقون على موقف موحد، وكان من بينهم مجددي وجيلاني، ويتقدم محمد نبي ليتلو البيان الموحد على المجتمعين، وتتحسن الأحوال بين الطرفين.. وأصبحنا نسمع من يقول: لقد كنا نجهل حقيقة مجددي، وعندما عرفناه عن كثب عرفنا فيه الصدق والخير وأكد لنا أنه ليس صوفياً، وليس له علاقات مشبوهة! ! .
وتمر الأيام مرة أخرى ويصرح جيلاني بأنه يرحب بعودة محمد ظاهر شاه،
وجاء بعده محمد نبي ليدلي بتصريح مماثل ... أما مجددي فقال: أنا أريد حكومة
يرأسها رجل اسمه (محمد ظاهر شاه) ، وقال محمد نبي محمدي: إن ظاهر شاه
رجل كبير ويعرف كيف تدار الأمور، وفضلاً عن هذا فهو من أهل الخبرة ومقبول
عند الأفغان ويرحبون بعودته، وقيل لجيلاني: ما تقوله يتناقض مع بيانكم الذي
ألقاه السياف في مؤتمر القمة الإسلامي؟ ، فأجاب: ما قاله سياف في المؤتمر يمثله
شخصياً ولا يمثلنا ... ومما يجدر ذكره أن مثل هذه التصريحات نشرتها الصحف،
وبعضها نشر في لندن، وتنادى قادة الائتلاف إلى اجتماع واتفقوا على موقف موحد
من أجل وضع حد للإشاعات التي بدأت تنتشر في صفوف المجاهدين.
إن جيلاني ومجددي وحلفاءهم كانوا ومنذ البداية يرون التعاون مع الولايات
المتحدة الأميركية وبقية دول أوروبا الغربية، كما أنهم يرون وجوب التعاون مع
محمد ظاهر شاه وأعوانه ... وكانت الولايات المتحدة مهتمة بالمقاومة المسلحة ضد
السوفييت والشيوعيين الأفغان، وكانت تنطلق في موقفها هذا من مصالحها الخاصة
التي تتعارض في النهاية مع أهداف المجاهدين الأفغان، وكان طريق المقاومة
المسلحة يمر بالتحديد من [سياف وحكمتيار] ، ولهذا طرحوا -أي: مجددي
وجيلاني- وجوب ائتلاف المجاهدين وفرض سادتهم الائتلاف فرضاً، كما أخبرنا
بذلك إخواننا المجاهدون.
وعندما طرح الشيوعيون مبادرتهم كان موقف الولايات المتحدة منها سلبياً،
وكانوا يشككون بنوايات السوفييت، ومن جهة أخرى كانوا يريدون مزيداً من
الضغط على السوفييت، وهذا يقتضي التهديد باستمرار المقاومة، وعندما يتنازل
الشيوعيون عن بعض شروطهم القاسية، ويتفقون مع الأمريكان سيخرج علينا
مجددي ليذكرنا، بقوله تعالى: [وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ،
وليقول أيضاً:» فلماذا لا نكف عن سفك الدماء ونرضى بالصلح إذا كان فيه
صالحنا وتحرير أرضنا «.
وقد قال هذا وذاك بعد زيارته للولايات المتحدة، وأعداء الله في كابل وموسكو
يعرفون هذه المسألة، ولهذا فقد قالت إذاعة كابل بعد طرح المبادرة بأيام:» إن
أربعة من زعماء المعارضة قبلوا مبادرة نجيب الله، وكانوا على وشك التوجه إلى
كابل قبل أن تتدخل باكستان وتطلب منهم التريث «.
أرأيتم -إخواننا- الخطأ الفادح الذي يرتكبه الدعاة والقادة في تقويم الرجال؟ !
أرأيتم كيف تمر بنا حالات فتطغى العواطف على العقول فننسى الماضي،
ونسوغ لأنفسنا الأعذار ولو كانت مضطربة متناقضة؟ !
أرأيتم كيف لا نستفيد من أخطاء إخوان لنا، ونتصرف من حيث بدأ غيرنا؟!
قد تضطرون إلى مهادنة مجددي وجيلاني وغيرهما، ولكم أن تتخذوا مثل هذا
الموقف، ولكن ادرسوا الأمر من كافة جوانبه، وإياكم والمبالغة في حسن الظن،
وانظروا ماذا تفعلون عندما ينضم مجددي وجيلاني لركب محمد ظاهر شاه
والولايات المتحدة الأميركية؟ .
3- الموقف الدولي:
بعد يومين من إعلان نجيب عن مبادرته، قام وزير الخارجية السوفييتية [
ادوارد شيفارد نادزة] ، ومستشار الكرملين للشؤون السياسية الخارجية [اناتولي
دوبرينين] بزيارة كابل، وكررت وكالة [نوفستي] السوفييتية القول:» إن
الهدف الحالي الذي تسعى له الحكومة السوفييتية هو: تحقيق مصالحة وطنية «.
وفي 20/1/1987: قام النائب الأول لوزير الخارجية السوفييتية [اناتولي
كوفاليف] بزيارة إسلام آباد وسلم الرئيس الباكستاني رسالة من نظيره السوفييتي،
وتزامنت زيارة [كوفاليف] مع زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية [مايكل
أورماكوست] لإسلام آباد، وعقد اجتماعاً مع رئيس الوزراء محمد خان جونيجو
ووزير الخارجية يعقوب خان ... ووصف [ارماكوست] المحادثات التي أجراها
مع الزعماء الباكستانيين بشأن أفغانستان بأنها (ممتازة) ، وأكد مساندة واشنطن
للأفغان من أجل انسحاب القوات السوفييتية من بلادهم، وأشار أرماكوست في
تصريح أدلى به قبل مغادرته إسلام آباد في ختام زيارة لباكستان استغرقت يومين
إلى أنه يشعر بالارتياح التام للمشاورات التي أجراها مع المسؤولين الباكستانيين
والمتعلقة بصفة خاصة بالاقتراحات الأخيرة لموسكو ونظام كابل، من أجل وضع
حد للنزاع الأفغاني، وأشار أرماكوست إلى أن ما يهم هو انسحاب القوات
السوفييتية من أفغانستان.
وقال أرماكوست: لقد ساندنا دائماً كفاح الشعب الأفغاني العادل من أجل
رحيل القوات الأجنبية، وذكر أن الولايات المتحدة تأمل في التوصل إلى تسوية
سلمية تلبي رغبة الشعب الأفغاني.
واستؤنفت مفاوضات جنيف بعد المبادرة، وهذه المفاوضات بدأت منذ عام
1982 بين باكستان والحكومة الأفغانية، وتتم بشكل غير مباشر تحت إشراف الأمم
المتحدة، وكان هناك ثلاثة اقتراحات بعد المبادرة:
-اقتراح قدمه الشيوعيون ويقتضي قيام حكومة ائتلافية بين المجاهدين
والحزب الشيوعي، وتكون هذه الحكومة تحت سيطرة نجيب، وإذا قامت مثل هذه
الحكومة فإن الروس ينسحبون بسرعة، وقد رفض الوفد الباكستاني هذا الاقتراح.
-واقتراح الوفد الباكستاني: أن ينسحب الروس حسب جدول زمني محدد،
وتشكل حكومة غير منحازة وتكون مقبولة من قبل المجاهدين والشيوعيين، وبعد
انسحاب الروس تسقط هذه الحكومة، وتجرى انتخابات..
-وطرح مندوب الأمم المتحدة اقتراحاً يجمع بين الاقتراحين السابقين، وبقيت
المدة الزمنية المختلف عليها سنة واحدة، يطلبها السوفييت زيادة على المدة التي
حددها الوفد الباكستاني.
ثم تكرر الحديث على وجوب تشكيل حكومة غير منحازة يرضاها الشعب
الأفغاني [انظر تصريحات رئيس الوزراء الباكستاني في زيارته للندن في 5/4/
1987] ، أما الولايات المتحدة الأميركية والدوائر الغربية: فيصرحون أحياناً
بوجوب اشتراك محمد ظاهر شاه، أو رئيس الوزراء السابق [محمد يوسف الذي
يقيم في ألمانيا] .
ومن أجل الوصول إلى مزيد من الوضوح، فقد سأل أحد قادة المجاهدين
الأفغان مسؤولاً كبيراً في الحكومة الباكستانية قائلاً له: هل تكون مساعدتكم لنا حتى
يخرج الروس من أفغانستان، أم حتى يقوم نظام إسلامي في أفغانستان؟ فأجاب
المسؤول: نحن معكم إلى أن يخرج الروس من بلدكم ... وعلق الأخ المجاهد قائلاً: لا يريدون أن يقوم نظام إسلامي صحيح في أفغانستان، لأنهم يخشون أن يقوم
مثل هذا النظام في بلدهم ... أما مطالبتهم بحكومة غير منحازة فأمر يدعو إلى
العجب، وهل هناك مسؤول غير منحاز؟ ! . لا نعتقد ذلك، فقد يكون منحازاً إلى
الإسلام، أو إلى الشيوعية، أو إلى الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا علمنا بأن الولايات المتحدة الأميركية أخبث دول العالم، ولمخابراتها دور
واسع في حرب الإسلام والمسلمين منذ أكثر من نصف قرن، وهي التي صنعت
زعامات كثير من الطواغيت الذين وجهوا أشرس الضربات لطلائع البعث الإسلامي.. إذا علمنا هذا فقد أصبح واضحاً عندنا: لماذا يطالبون بحكومة غير منحازة، أو على حد قولهم: محايدة. وأصبح واضحاً عندنا الأخبار المشوهة التي تنشرها أجهزة الإعلام الغربية عن المجاهدين.
وليست هذه المرة الأولى التي يتفق فيها الروس مع الأمريكان ضد الدعاة
المجاهدين الذين يقاتلون من أجل أن يكون الدين كله لله في الأرض.
4- التكتيك الشيوعي:
يتحالف الشيوعيون والعلمانيون -من دعاة التغريب- في معظم بلدان العالم
الإسلامي ضد العلماء والدعاة والجماعات الإسلامية، ويستغرب السذج قولنا هذا،
واستغراب هؤلاء الناس ليس شيئاً مهماً، فهناك رابط يجمع الطرفين ويوحد بينهما
إلى حين من الزمن.. هذا الرابط هو العلمانية وعداوة الدين الإسلامي، وشعور كل
طرف بأنه عاجز عن المضي في هذه المعركة إن لم يكن له حليف قوي، ويظهر
هذا التحالف داخل البلد على أنه تحالف بين حزبين أو أحزاب تقدميه وطنية،
ويرفعون شعارات براقة: كالحرية، والوحدة، والاستقلال، ومكافحة الجهل
والتخلف ... أما في حقيقته فهو تحالف بين الغرب الصليبي والشرق الشيوعي
ويمثله نيابة عنهم شخصيات وأحزاب مناضلة -على حد قولهم-، وينشط الطرفان
في جذب ضعاف النفوس من المنسوبين إلى العلم والدين، ومن طبيعة هؤلاء
التقرب إلى الحكام والتزلف إليهم، وربما كان بينهم من يجهل حقيقة هؤلاء الزعماء
ويسقط في شراكهم بسبب جهله وغفلته، وإذا كانت النوايا لا يعرفها إلا علام
الغيوب فنستطيع التأكيد بأن ضعاف النفوس من هؤلاء العلماء يطعنون العمل
الإسلامي طعنات موجعة، سواء كانوا يدرون أو لا يدرون ... وننتقل فيما يلي من
التعميم إلى التخصيص وضرب الأمثلة والشواهد:
ففي أفغانستان: قدم محمد ظاهر شاه خدمات للشيوعيين لا تنسى، ولعب
دوراً مأساوياً في حرب الإسلام والمسلمين، أما حليفهم التاريخي فكان محمد داود
ابن عم محمد ظاهر شاه ورئيس وزرائه، وقائد الانقلاب العسكري الذي أطاح بابن
عمه ونظامه الملكي، وكانت العلمانية وعداوة الإسلام الأساس الذي قام عليه تحالف
محمد ظاهر شاه أو رئيس وزرائه مع الشيوعيين، ومع ذلك فلكل طرف منهما
أهداف وغايات تختلف عن أهداف وغايات الطرف الآخر، فمحمد ظاهر شاه كان
بحاجة إلى مساعدات وقروض من الدولة العظمى -الجارة-، كما أنه بحاجة إلى
تنظيم قوي يتعاون معه في معركته ضد العلماء والدعاة، ومحمد داود كذلك يشترك
مع الملك في أهدافه، وكان له هدف آخر ألا وهو: التعاون مع الشيوعيين والروس
ضد خصومه السياسيين في البلاط الملكي، ولولا الشيوعيون ما استطاع أن ينفذ
الانقلاب العسكري الذي شارك فيه 300 ضابطاً ليس بينهم من غير الشيوعيين
سوى عشرة، وصحيح أنه أصبح رئيس دولة لكنه كان ورقة بيد الشيوعيين،
وعندما أراد أن يتحرر من هيمنتهم أطاحوا به وقتلوه شر قتلة.
أما الشيوعيون (فتكتيكهم) من أجل الوصول إلى الحكم معروف، لقد كان
تعاونهم مع محمد ظاهر شاه يمثل مرحلة في هذا الطريق، وتعاونهم مع داود يمثل
مرحلة أخرى لكنها أفضل عندهم من الانفراد في الحكم، ولولا أن محمد داود شعر
بخطرهم وأراد الإطاحة بهم لما انقلبوا عليه، لأنهم يعرفون طبيعة الشعب الأفغاني
المسلم، وأنه لن يقبل أن يكونوا حكاماً له بشكل مباشر..
وعلى كل حال كان خبث محمد داود لا يقارن بخبث الشيوعيين، وكانت
حساباته معهم خاطئة، وسهل عليهم تنحيته وقتله، والشيوعيون ليس في قاموسهم
شيء اسمه وفاء ومروءة وخلق! !
وهناك أمثلة كثيرة في البلاد العربية تشبه إلى حد كبير تحالف الشيوعيين
ومحمد ظاهر شاه وداود في أفغانستان، ففي السودان: تحالف الشيوعيون مع
الأحزاب الوطنية والإسلامية عند الإطاحة (بعبود) ، لأنهم كما يزعمون ضد
الانقلابات العسكرية، ودعاة إلى الديمقراطية [مع أنهم ألد أعدائها] ، وبعد زمن
يسير تعاونوا مع عدد من العسكريين، وأطاحوا بالنظام الديمقراطي، وبعد زمن
يسير من قيام الانقلاب العسكري دبروا انقلاباً آخر ضد شركائهم في الحكم [جعفر
نميري وبضعة من قطاع الطرق] ، ولأمرٍ أراده الله فشل انقلابهم، وبطش بهم
نميري وأعوانه.
وهناك أمثلة أخرى في العراق ومصر واليمن الجنوبي وسورية، وتفضح هذه
الأمثلة أساليب الشيوعيين ومخططاتهم، ونعرض عن سردها والتعليق عليها لضيق
المجال، ولكن الصور تتكرر مع اختلاف في التطبيق والنتائج، فيقابل داود عند
الأفغان: عفلق، وأكرم الحوراني، ونميري، وعبد الكريم قاسم، وقحطان الشعبي، وغيرهم وغيرهم عند العرب.
والشاهد من حديثنا عن (التكتيك الشيوعي) ، أنه لا يجوز أن نكرر أخطاء
الماضي، ويجب أن ننشط إعلامياً ودعوياً في كشف حقيقة الذين تحالفوا مع
الشيوعيين، وأنهم أخطر علينا من الشيوعيين، فمحمد ظاهر شاه أخطر من
الشيوعيين؛ لأن أوراق الشيوعيين مكشوفة، أما هو فلا يزال بين المسلمين من
يحسن الظن به، ويطالب بعودته، ومن شروط هذه العودة إقامة جبهة وطنية مع
الشيوعيين وغيرهم من العلمانيين دعاة التغريب، وإذا كان هناك نفر من العلماء
يزعمون أنهم كانوا يجهلون هذه الحقائق، ولهذا كانوا يتعاونون مع محمد ظاهر شاه
عندما كان على رأس الحكم، فلماذا يطالبون بعودته الآن؟ ! .
فإن أصر هؤلاء على موقفهم الظالم، فمن الواجب علينا بيان حقيقتهم وتحذير
المسلمين من نفاقهم.
5- العالمية:
هناك صراع عالمي على أفغانستان:
فالجانب الأول في هذا الصراع يتزعمه السوفييت، ويقف الشيوعيون: دولاً
وأحزاباً وهيئات مع السوفييت، والبداية كانت عندما رمى الاتحاد السوفييتي بثقله،
وأرسل جيشه ليقاتل مع الشيوعيين الأفغان في خندق واحد، وبغض النظر عن
أهداف السوفييت وأطماعهم، وحسبنا أن نعلم بأن الشيوعيين السوفييت والأفغان
يقاتلون سوية، ولم يترك الشيوعيون في العالم إخوانهم وحدهم في الساحة، مع أن
السوفييت دولة عظمى، فبلغاريا تزود الغزاة بالطعام، وخبراء ألمانيا الشرقية
يدربون الشرطة والمخابرات الأفغانية [خاد] ، وتشارك قوات رمزية من كوبا،
وخمسة آلاف جندي من دول حلف وارسو، وقوات محدودة من فصائل منظمة
التحرير الفلسطينية اليسارية، وتساهم الدول الشيوعية بـ 50% من نفقات الحرب
والسوفييت بـ 50%.
وتتعاون الشيوعية العالمية وفق خطة جهنمية تستهدف عقائد المسلمين الأفغان
وتصوراتهم، فعدد الشيوعيين الأفغان عند بداية انقلابهم كان [5000] ، وخلال
السنوات الست أصبح العدد [40000] ، وسبب تزايد العدد قوة برامجهم التعليمية
للشباب داخل موسكو، وتدرب خلال السنوات الأربع الماضية [100000] شاباً
داخل الاتحاد السوفييتي ليكونوا الكوادر الشيوعية وإدارات الحكم.
وفي التاسع من نوفمبر لعام 1984 توجه [860] طفلاً أفغانياً من كابل إلى
موسكو مباشرة بالطائرات، وتتراوح أعمارهم ما بين [12 إلى 16 عاما] ، والهدف
من وراء ذلك تخريج جيل جديد لا يعرف عن الإسلام شيئاً.
أما عن نشر الفساد فتقول مصادر المجاهدين بأن [كى. جي. بي] تدفع
نصف ثمن حقن (الهيروين) لكي تجعلها في متناول أيدي الشباب في أفغانستان
ويعيد الشيوعيون للأذهان موقفهم عند احتلالهم للولايات الإسلامية الواقعة جنوبي
الاتحاد السوفييتي، لقد وقفت هذه الولايات تحت قيادة [الإمام شامل] وقفة رجل
واحد للذود عن دينها؛ مما أكد للروس أن هزيمة هذا الجيل مستحيلة، فأطالوا فترة
الحرب، واستخدموا الحرب النفسية، وعندما كانت تعقد المعاهدات بين المسلمين
والروس، وكانوا يتبادلون الرهائن لضمان عدم اندلاع الحرب، فكان المسلمون
يطالبون بضباط الجيش كرهائن في حين كان الروس يطالبون بالأطفال، وتعجب
المسلمون فماذا يريد الروس من الأطفال، ولكن تعجبهم لم يدم طويلاً لأن الأطفال
كبروا وعادوا ضباطاً يقاتلون آباءهم، وكان أحد هؤلاء الضباط [جمال بن الإمام
شامل] ابن القائد المسلم الذي فعل الأفاعيل في الروس، عاد جمال وأمثاله ليقاتلوا
آباءهم، ولهذا تحطمت معنويات المسلمين ودب بينهم اليأس، فانهزموا وانتصر
الشيوعيون. [اعتمدت في هذا على دراسات ودوريات للمجاهدين] .
والجانب الآخر تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الدول الغربية
والهيئات والمؤسسات الصليبية، ولهم مخططات قد تكون أضعف من مخططات
الشيوعيين في جوانب، وأخبث منها في جوانب أخرى، ويستغلون أعمال الخير
كالطب والتعليم وغيرهما من أجل إفساد المسلمين، وتنصيرهم، أو تجنيدهم
لمصلحة الغرب.
وإذا كانت هذه مخططات الأعداء، فماذا أعددنا لها؟ !
- منذ بداية الجهاد وحتى يومنا هذا لم ينجح المجاهدون في توحيد صفوفهم،
وجميع المحاولات التي بذلت باءت بالفشل، وهذا ليس سراً من الأسرار.
والغريب أننا نقرأ تصريحات لهم جميعاً يقولون فيها: ليس بيننا خلافات منهجية،
وقوتنا في وحدتنا. ومع ذلك لا تقوم هذه الوحدة.
- بعضهم يحرص على أن تكون الحكومة المؤقتة قاصرة على المنظمات
السبع وجهات أخرى، وهذا يحتاج إلى إعادة نظر، فهناك منظمات وأفراد وهيئات
أحسن من بعض المنظمات المشتركة في الائتلاف، وهى خارجه الآن، ونرجو أن
لا يكون الائتلاف شكلاً من أشكال الاستبداد المعروفة، ويستغل بعض القائمين عليه
اعتراف الدول بهم، وعدم اعترافها بإخوانهم.
- سرَّنا البيان الذي صدر عن علماء باكستان، والذي ينص على أهمية جهاد
المسلمين الأفغان، وضرورة دعمهم، ولكن المطلوب من العلماء والدعاة
والجماعات الإسلامية في باكستان أكبر من هذا بكثير، فالجهاد جهادنا جميعاً،
والواجب يقتضي أن ينتظم شبابهم في صفوف المجاهدين، وأن ينشطوا في تعبئة
الرأي العام ضد الملاحدة والعلمانيين الذين يطالبون بإخراج الأفغان من باكستان.
- بدأت مشاركة الرأي العام الإسلامي قوية عند بداية الجهاد، وتقاطر
المسلمون من جميع بلدان العالم الإسلامي إلى باكستان، فبعضهم شارك بماله،
وآخرون بمالهم وبجهادهم ... ومع مرور الزمن خفت الحماسة، وضعفت الهمم،
وتثاقل الناس إلى الأرض، ولا نريد الاسترسال في عرض أسباب هذه المشكلة،
وكيفية علاجها، ومن المسؤول عنها؟ .. فهذه مهمة العلماء الدعاة الذين يجب
عليهم أن يتنادوا لمؤتمر إسلامي عالمي مستقل ليس لأية جهة سلطان عليه،
ويدرسوا هذه الظاهرة المؤسفة، ويضعوا قرارات جادة تساعد على استمرار مسيرة
الجهاد عسكرياً، ومالياً، وسياسياً، وإعلامياً. وعليهم أن ينطلقوا من حقيقتين:
الأولى: المسلمون الأفغان يقاتلون نيابة عن المسلمين في كل مكان ضد
الطوفان الشيوعي.
الثانية: لا يستطيعون الاستمرار في جهادهم إذا تخلى إخوانهم المسلمون عنهم
.. وهاتان الحقيقتان يجب أن تكونا واضحتين عند المجاهدين الأفغان وعند غيرهم.
سابعاً: وما النصر إلا من عند الله:
عندما يُفوّتُ المجاهدون المخلصون الفرصة على الأعداء، ويحصنون صفهم، ويأخذون بأسباب النصر الشرعية سينصرهم الله -جلَّ وعلا- كما نصر الفئة
المؤمنة على جالوت وجنوده، قال تعالى: [قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم
مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] [البقرة: 249] .
وكما نصر الفئة القليلة المؤمنة على جموع المشركين في بدر والأحزاب. قال
جل من قائل: [إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ * ومَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ومَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ
إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [الأنفال: 9 -10] .
وقال: [واذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [الأنفال: 26] .
وقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحاً وجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً] [الأحزاب: 9] .
هذه نماذج من تاريخنا الزاخر بالأمجاد والبطولات، أما تاريخ غير المسلمين
المعاصر: فهناك نماذج تدل على أن القلة القليلة المعتدى عليها قد حققت انتصارات
باهرة، فالجنرال [جريفاس] في قبرص استطاع بقوة متواضعة لا تتجاوز مائتي
مقاتل مواجهة جيش بريطانيا يوم أن كانت عظمى، وكان تعداد جيشها في قبرص
وحدها خمسين ألف جندياً، ونجح في كسب تأييد المواطنين له، ولم يحرص على
زيادة عدد المقاتلين لأنه ما كان قادراً على تجهيز أكثر من هذا العدد، وكان حريصاً
على استقلالية القرار، والاستقلالية تحتم عدم الاعتماد على تمويل جهات أجنبية.
وفي فيتنام: كان تعداد الجيش الأمريكي نصف مليون جندياً، وقد ذاقوا
الويلات، وكان تعداد الجيش الذي يقاتلهم [1500] جندياً، ولكنهم كانوا في مستوى
جيد من التنظيم والإعداد والتخطيط.
أما إخواننا المجاهدون الأفغان فهم مسلمون يريدون إحدى الحسنيين: النصر
أو الشهادة، ولهذا فهم خير خلف لخير سلف، وأثبتوا كفاءة عالية خلال جهاد دام
أكثر من سبع سنين، وبينهم رجال يحظون باحترام عامة المسلمين وخاصتهم في
بلدهم، وعندما تظهر بوادر غير مشجعة من العناصر التي تدور حولها الشبهات
سوف يتخلى عنهم عدد غير قليل من العاملين معهم، وينضمون إلى صفوف
المنظمات التي يحظى قادتها باحترام الأفغان.
وفضلاً عن هذا وذاك، فطبيعة أفغانستان الجغرافية تجعل مهمة الشيوعيين
السوفييت شاقة جداً، وإذا كانت مهمة المجاهدين الأفغان شاقة في بداية الأمر، فقد
اكتسبوا والحمد لله خبرة قتالية نادرة، وسبروا غور القوات الشيوعية، وعرفوا
مواطن الضعف عندهم ... وهذه الخبرة التي دفعنا ثمنها أكثر من مليون شهيداً، لا
يجوز بحال كل من الأحوال أن نخسرها باسم ما يسمى بالحل السلمي.
إن الجيش الأفغاني المجاهد الجديد يجب أن يوقظ المسلمين في شبه القارة
الهندية الذين يزيد عددهم كثيراً عن عدد سكان الاتحاد السوفييتي ... وقد آن الأوان
لتحرر المسلمين في أواسط آسيا وما ذلك على الله بعزيز.
اللهم وحّد المجاهدين الأفغان على المنهج الذي أنزلته على خير خلقك محمد
بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وانصرهم اللهم على أعداء دينك الشيوعيين
والأمريكان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين [7] .
__________
(1) أهم المصادر التي اعتمدنا عليها: أفغانستان حرب أم ثورة للكاتب فريد هاليداي، ترجمة سامي الجندي، والنشرات الصادرة عن المجاهدين الأفغان.
(2) تحدثنا في العدد الرابع من مجلة البيان عن دور الشيوعيين في هذه المنطقة، كما تحدثنا في رسالتنا السابقة عن الأهداف التي جاء نجيب الله لتحقيقه.
(3) انظر الصحف الصادرة بتاريخ 13/3/1987، الصحف الصادرة بتاريخ 26/3/1987.
(4) غضب بعض الناس عندما قلنا في رسالتنا: هناك منافقون عملاء في صفوف المجاهدين ترى هل يغضب هؤلاء المزايدون من بيان الائتلاف الذي يضم كافة الأحزاب والمنظمات الأفغانية؟ ! .
(5) البنيان المرصوص، العدد الحادي عشر، يناير /1987م.
(6) هذه مقاطع من محاضرة ألقاها الأستاذ حكمتيار أمير الحزب الإسلامي في مخيم [ورسك] في احتفال كبير عقده الحزب.
(7) (تنويه) : اعتمدنا في قسم جيد من معلومات وأرقام هذا البحث على نشرات ودوريات المجاهدين الأفغان، ونحتفظ بالأصول كلها التي اعتمدنا عليها، وقد يكون غيرنا اعتمد عليها دون الإشارة لذلك.(6/62)