النفوس البشرية بالحرب خلال 107 سنين (1793 - 1900) يبلغ خمسة ملايين على حين هلك في المجاعة في الهند خلال عشر سنين فقط تسعة عشر مليوناً من البشر وتقول الإحصائيات الإنكليزية أنه كان في الهند الإنكليزية أوائل القرن التاسع عشر تسعون مليوناً ما كلنوا يتناولون طعامهم عندما تحتاج إليه معدهم.
ومثل هذه الشهادات تدل على سوء حالة البلاد التي دخلتها انكلترا في أشد أوقات ضيقها فحرمت من أسباب نجاحها المادي والعقلي ومضى عليها قرن وهي في حالة وقوف وعاش الشعب فيها بعيداً عن كل بهجة يوسف في الجهل والشقاء ويعامل بالخشونة التي لاتقل من خشونة روسيا في معاملة رعاياها.
وقد عمدت إنكلترا في استعمال الهند إلا ثلاث طرق الأولى فتحها بالتجارة فبعد أن اضمحلت تجارة الهند وصناعتها افتقرت البلاد فقبضت عليها بريطانيا العظمى بيدها الاقتصادية وبما استنزفته انكلترا من أموال الهند أحرزت التفوق الصناعي الذي أخذت تدل به على العالم. والطريقة الثانية افتتاح البلاد بالضغط فكل مطلب عال قمع بشدة وكل رجل مستقل الفكر اضطهد بدون شفقة وكا ارتقاء عقلي جعلت أمامه السدود والحواجز والطريقة الثالثة طريقة الفتح بالتوحيش فإن انكلترا عمدت إلى خديعة الهنديين بأحاييل وأكاذيب حتى يكونوا خاضعين صابرين وبذلت جهدها في إفساد أخلاقهم وإذلالها وإبقائهم في جاهلية جهلاء وقضت فيه على كل عاطفة عنصرية ومابرحت تلقنه عظمة انكلترا وتطري له أعمالها. هذه هي الأساليب التي عمد إليها الإنكليز لحكم الهند فكان من نتيجتها أن جعلت سكانها حطابين وسقائين.
لم يقتد الإنكليز بالرومان في استعمارهم وكان هؤلاء يجتهدون في التمثل بالشعب المغلوب وفي إدخال المناحي الرومانية عليه أما الطريقة التي اختارتها إنكلترا فهي استثمار المغلوبين وإذلال نفوس عنصرهم لإحلال عنصر آخر مكانه أليست هذه الطريقة من مرجيات الخجل للمدنية ومن الجنايات الإنسانية فلكي تغتني انكلترا تبيد في الهند كل صناعة وتأتي على الحياة العقلية وتفلج كل مشروع يراد منه نهضة شعب مؤلف من ثلاثمائة مليون نهضة تحسن أخلاقه وتطيب أعراقه. هذا ما قالته الصحيفة الألمانية عربناه ليطلع عليه القارئ ويتأمل فيه فإنه حوى مادة تاريخية لابأس بها.(95/89)
انتفاع أميركا
بلغت قيمة صادرات الولايات المتحدة من 30 حزيران 1914 إلى 30 حزيران سنة 1916 مقدار سبعة مليارات وبلغت قيمة وارداتها 3 مليارات و9 ملايين ريال فكان مقدار صادراتها على وارداتها 3 مليارات ومليون ريال.
فلكي تستطيع أوربا ودول الإئتلاف تسديد هذه المبالغ الطائلة البالغة ستمائة مليون ريال إنكليزية وربع مليون عمدت إلى ثلاث طرق اقتصادية مختلفة تصون الذهب الموجود في خزائنها بعض الصيانة وهي (1) دفع قيمة البضائع ذهباً (2) وضع القيمة المذكورة أسهماً مالية أميركية (3) دفعها من المال المأخوذ من قروض تعقدها دول الإئتلاف في الولايات المتحدة نفسها.
أما سلوك الطريق الأولى فقد أكره دول الإئتلاف على إخراج قسم عظيم من الذهب المودع في خزائنها وتستطيع تحقيق ذلك من الذهب الذي يرد إلى الولايات المتحدة ويصدر منها فقد بلغت قيمة الوارد من أول آب سنة 1914 إلى آخر كانون أول من السنة نفسها 23250000 ريال والصادر 14970000 ريال فزيادة الصادر على الوارد 81720000 ريال. أما في سنة 1915 أي بعد ما أسست أميركا المعامل العديدة المتنوعة للمتاجرة بدماء الأوربيين وأرواحهم فقد بلغت قيمة ما وردها من الذهب 452 مليون ريال وما أصدرته 418410000 على أن دول الإئتلاف شرعت أثناء هذه الحركة الهائلة التي تهددها بجرف جميع ما في بلادها من الذهب إلى العالم الجديد بتأسيس معامل حربية جديدة متنوعة في بلادها ولكنها مع ذلك لم تستطع الاستغناء عن المعامل الأميركية إلا قليلاً فقد كانت قيمة الوارد من الذهب إلى الولايات المتحدة من أول كانون الثانة سنة 1916 إلى 15 تشرين الأول من السنة نفسها 390010000 والصادر 95960000 ريال فزيادة الوارد على الصادر 249050000 فيؤخذ من خلاصة هذا الإحصاء الموثوق به أن قيمة ما ورد إلى الولايات المتحدة من الذهب منذ ابتداء الحرب العمومية حتى 15 تشرين الأول الماضي 865260000 ريال وماصدر منها 231820000 ريال فالزيادة 631 مليون و 640 ألف ريال زادت على موجودات الذهب في تلك البلاد بسبب الحرب.
أما الأسهم المالية المشتراة قبل الحرب من الولايات المتحدة والتي أعيدت إليها في مدد(95/90)
مختلفة بعد الحرب مدفوعة ثمن مواد حربية فيؤخذ من أقوال أعظم الإحصائيين الأميركيين أنه قد بلغت قيمة أسهم السكك الحديدية الأميركية التي عادت إلى الولايات المتحدة بين 31 كانون الثاني سنة 1915 و 31 تموز سنة 1916 نحو 13000 مليون ريال وفضلاً عن ذلك فقد عاد من أسهم شركة الحديد الأميركية 748547 سهماً اعتيادياً و 141736 سهماً ممتازاً أو هذه الأسهم انتقلت من أيد أوريبة إلى أيد أميركية أما قيمتها فإنها بموجب السوق المالية في 30 حزيران سنة 1914 تساوي 60 مليون ريال وبموجب سوق 30 أيلول سنة 1916 تتجاوز قيمتها مئة مليون ريال.
وأما القروض التي عقدتها الولايات المتحدة للدول الأوربية المتحاربة وأخصمها بالذكر دول الإئتلاف فقد بلغت 1778600000 ريال حسب تقدير بنك إنكلترا يضاف إليها قروض عقدتها ولايات ومدن من كندا الإنكليزية تبلغ قيمتها 185 مليون ريال وقرض آخر عقدته مدينة دوبلين الإرلندية فيمته 8 ملايين 200 ألف ريال فالمجموع 198180000 ريال دفع منها في أوقات مختلفة 156 مليون و40 ألف ريال فالباقي للولايات المتحدة الأميريكة على دول الإئتلاف في الأكثر 1325400000 ريال و11 مليار و 375 مليون فرنك مقسمة على الدول الآتية كما يأتي:
إنكلترا858400000 ريال فرنسا 656200000 ريال
روسيا 117200000إيطاليا 25040000
كندا 120000000 ريالولايات ومدن كندية 185000000 ريال
ألمانيا 20000000 ريالالمجموع 1981800000 ريال
المدفوع 156400000الباقي 1825400000
ويجب أن يضاف إلى هذه المبالغ مقدار 110 ملايين ريال اقترضته مدن فرنسوية من الولايات المتحدة ولن تسدد هذه المبالغ قبل نهاية سنة 1925 وأنت ترى من هذا الإحصاء مبلغ ما ربحت الولايات المتحدة من أوربا فكأن هذه الحرب العامة نشبت لتستنزف أميركا من خزائن أوربا ما طالما استنزفته أبناء هذه مدة قرنين من الذهب.
قصر فرعون
نجحت البعثة العلمية التي يرأسها الدكتور فيشر الألماني المرسلة من كلية بنسلفانيا(95/91)
الأميركية في المهمة التي أخذت على نفسها القيام بها للبحث عن آثار الفراعنة في وادي النيل وكان للبناء الذي تطالت البعثة إلى الحفر عنه هو قصر مرنفتاح الثاني ملك مصر المعروف لورود ذكره في سفر الخروج فكان هذا القصر كبيراً للغاية مزيناً أحسن زينة وقد كان خرب في حريق أصابه فتهدم كثير من أجزائه وإذ عثروا فيه على آثار يونانية فقد استنتجوا أن الحريق لم يحدث إلا في القرن الخامس قبل الميلاد وربما بعد ذلك ولم يثبت إذا كان فرعون هذا قد أنشأ القصر في أيامه ولعله كان ذلك ولكن الثابت أن سكنه على نحو ما كانت عادة الفراعنة في مصر وأنه وسعه وأكمله فإذا كان هو الذي بنى هذا القصر فيرد تاريخه إلى القرن الثالث عشر قبل المسيح ويقول الدكتور فيشر أن طول القصر كان 34 متراً وعمقه فيه 30 غرفة مختلفة الحجم وأعظم قاعاته قاعة العرش طولها 30 متراً بعرض 12 يدعم سقفها ست دعائم وتتصل بدهليز فيه 12 سارية بديعة وكان منقوشاً أجمل نقش كما تبين ذلك الآن.
والبارز من صوره على غاية من اللطف مموه بالذهب والعرش مع الدرجات التي تؤدي إليه ما زالت بحالها ومن غريب ما وجد فيه أمتعته ومما يدهش له الزائر مجموعة من العاديات قبل التاريخ مثل مدى وسكاكين مختلفة الأجناس ورمايا سهام من الحجر وقدور ومواقد مما استدل منه أن ذلك كان شائعاً في الاستعمال عند المصريين وهذه العاديات تنير تاريخ وادي النيل ويستغرب وجودها في هذا القصر الفرعوني وقد استنتج مكتشف هذا القصر أن فرعون هذا كان جماعة للآثار وأقام في قصره متحفاً تاريخياً حقيقياً.(95/92)
مخطوطات ومطبوعات
حلية البشر
في تاريخ القرن الثالث عشر
للشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي
هو مخطوط في تاريخ رجال هذا القرن وقد ورد فيه ذكر بعض الوقائع بالعرض مثل وقعة سليم باشا والي دمشق ووقائع إبراهيم باشا المصري ووقائع احمد باشا الجزار وحادثة الستين وغير ذلك رتبه مؤلفه رحمه الله على حروف المعجم وتعرض لترجمة المشهورين من المسلمين في الشام ومصر والحجاز واليمن والعراق والجزيرة وبعض من لهم شهرة في الطريقة أو الإدارة ومن المشاهير الذين ترجمهم السيد محمد عابدين وإبراهيم باشا ومحمد علي باشا وتوفيق باشا والأمير عبد القادر الحسني والسيد أبو الهدى الرفاعي وعارف حكمت بك ومحمد بن عبد الوهاب وداود باشا وجودت باشا والشهاب المنبي وجمال الدين الأفغاني والشيخ حسن العطار والشهاب محمود الألوسي ومحمود أفندي حمزة والسيد مرتضى الزبيدي وإضرابهم من النابهين وغيرهم كثير من الحاملين.
وقد كان المؤلف رحمه الله عهد إلى حفيده الشيخ محمد بهجت البيطار بأن يبيض ما سوده ويحذف جملاً منه لا يرى لها علاقة بالتاريخ ولا تفيد إلا تكبير حجمه على غير طائل وهو اليوم آخذ النفس بذلك ورجاؤنا أن يتم له ما يريد ويريد الحريصون على تتمة سلسلة تاريخ الرجال في هذه البلاد من طبع هذا السفر إحياء لذكر جده وإفادة للعلم والآداب.
وفي هذا الكتاب وهو على طريقة خليل أفندي المرادي مؤرخ رجال القرن الثاني عشر في الأسجاع إلا قليلاً شيء من شعر المترجمين ونثرهم نموذج من انحطاط الآداب العربية في هذه الحقبة من الزمن وآداب لغتنا من منظومها ومنثورها لم تأخذ بالرقي في الحقيقة إلا في هذا القرن الرابع عشر وقد نبغ فيه ولاسيما في مصر كتاب وشعراء لم ينبغ أمثالهم إلا في القرون الثلاثة التي سلفت أعادوا اللغة إلى نضارتها في القرون الأولى إذ جمعوا في آثارهم بين رونق المتقدمين وعلم المتأخرين.
إيضاحات
من المسائل السياسية التي جرى تدقيقها بديوان الحرب العرفي المتشكل بعاليه نشره القائد(95/93)
العام بالجيش الرابع طبع بمطبعة طنين في دار السلطنة سنة 1334 ص125.
هو سفر جمع أنباء جمهور من اشتركوا في مسائل سياسية تتعلق بقلب حالة البلاد السورية وحوكموا محكم بإعدام زعمائهم وقد صورت خطوط بعضهم وذكر السبب الداعي إلى عقوبتهم مع صور ما نشره من المناشير السرية والجهرية وقد طبع الكتاب باللغات الثلاث العربية والتركية والإفرنسية ليكون عبرة الحاضر والغابر.
جدول التشكيلات الملكية
هو كراس في 166صفحة صدر بالتركية من المطبعة العامرة في الأستانة وفيه أسماء الولايات والألوية والاقضية والنواحي العثمانية نع جدول في آخره رتب على حروف الهجاء. وفي هذه الجداول أغلاط مطبعية كثيرة عسى أن تصلح في الطبعة الثانية وأن تزاد معلومات كافية عن كل بلد وقصبة تكون بمثابة معجم معتمد لبلاد السلطنة يعهد إلى جمعه إلى أناس أخصائيين بالجغرافية والتاريخ ممن يكونون درسوا وساحوا وطبقوا العلم على العمل.
إيقاظ الأخوان
لدسائس الأعداء وما يقتضيه حال الزمان
تأليف الشيخ إسماعيل الصفايحي
طبع في المطبعة العسكرية في الأستانة سنة 1333 ص104
مؤلف هذا الكتاب من قضاة تونس سابقاً وقد أجاد في تأليفه هذا فذكر شروط الخلافة واحكمها وخدمة الدولة العلية للإسلام والمسلمين وحملات أعدائها عليها في العصور المتأخرة مستنداً في ذلك إلى التاريخ الصحيح فاستحق الثناء لأريحيته ولبعد نظره وصحة أحكامه وصدق روايته.(95/94)
العدد 96 - بتاريخ: 1 - 1 - 1915(/)
نفحة الريحانة
محمد أمين المحيي من علماء دمشق في القرن الحادي عشر ومؤرخيه اشتهر بكتابه في تراجم أهل عصره وهو مطبوع في أربعة مجلدات وقد ترجمه المرادي في كتاب سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر فقال أنه يتمية الدهر المفنن المؤرخ الذي بهر العقول بإنشائه البديع ومهر وتفوق في فنون العلم وفاق في صناعة الإنشاء ونظم الشعر وكان يكتب الخط الحسن العجيب وألف مؤلفات حسنة بعد أن جاوز العشرين منها الذيل على ريحانة الشهاب الخفاجي سماه نفحة الريحانة ورشحه طلاء ألحانه والتاريخ لأهل القرن الحادي عشر سماه خلاصة الأثر في تراجم أهل القرن الحادي عشر ترجم فيه زهاء ستة آلاف وهو مشهور والمعول عليه وقصد السبيل فيما في لغة العرب من الدخيل والدر المرصوف في الصنعة والموصوف وكتب حصة على ديوان المتنبي وحاشية على القاموس سماها بالناموس صادفته المنية قبل أن تكتمل وكتاب مالي وديوان شعر وغيرها من درره وغرره وكانت وفاته سنة أحد عسر ومائة وألف قال المرادي وله شعر لطيف وهو مشهور أودع غالبه في نفحته وتاريخه وساق نبذة منه.
وأمامنا الآن نسخة نفيسة من كتاب نفحة الريحانة وهو على نسق ريحانة الخفاجي بسجعها وشعرها توخى فيها المحبي مجاراة الخفاجي والتذيل على ريحانته فجاراه وباراه ولم يقصر عن مداه قال المحبي: وكانت كتاب الريحانة للشهاب الذي أغنى عن الشمس والقمر وأطلع الكلام ألذ من طيب المدام والسمر وناهيك بمن استخدم الألفاظ حتى قيل أنها له ملك ونظمها في أجياد الطروس كأنها جواهر لها كل سطر من سطوره سلك لم أزل من عهد صباي قبل نوم سيادة شبرلي وصباي وهو أمنية رجائي الحائم وبغية قلبي الهائم وشمامتي التي أشتم ومسلاتي متى أهتم وزمزمة لساني وعقيلة استحساني حتى أود لو كانت أعضائي كلها نواظر تبصره بحيث لا تقل لحظاً وخواطر تتذكره على أنه لا تسأم حفظاً والسنة تكرره بشرط أن لا تقنع لفظاً فخطر لي أن أقل في تذيله ذندي وآتي لمحاكاتي بما أجتمع من تلك الأشعار عندي وقصدي بذلك اشغال الفكر لا الانضمام إلى من فاز بأولى الذكر وإلا فمن أنا حتى يقال وإذا عثرت عثرة تقال سيما إذا قرنت بما جاريته في ميدان الكلام أو ضممت إلى من باريته وأنا لست له باري أقلام وإني لو تطاولت إلى الفلك وتناولت عن الملك واتخذت الدراري عقوداً وزهرة المجرة لفظاً معقوداً ما بلغت مكانه لا مكنت من أمر(96/1)
البراعة إمكانه فأقدمت سائلاً من الله أن يجعله سهلاً وأن أستغفره لتطلعي لما لم أكن له أهلاً وسودت أعياناً بيضت بهم وجه الطروس وأحييت لهم أبيات أشعار كادت تشارف الدروس من كل لفظ أرقى من نفحة الزهر في الروض من للناشق وأحسن موقفاً من تبسم المعشوق في وجه العاشق واثبت فيهم بفصول تشهد لهم بالتفضيل وتقضي بأن كل وصف فيهم فضول بالإجمال والتفصيل وإني أحاسب لقلبي إذا مال وللساني إذا قال لا أمدح إلا ممدوحاً ولا أقدح إلا مقدحاً ولا يستفذني وعد كل سحابة ولا يستخفني طنين كل ذبابة ورقمت من الكلام المصرع والإنشاء السلس المرصع ما استنبطته من ذوات الصدر والمعت به كالقمر ليلة البدر فقر ابتدعتها وسجعتها معاني آداب اخترعتها والمعتها تطرزها الأقلام وترقم بها أردية الكلام ولم أودع إلا ما حسن إيداعه ولطف مساغه وإبداعه وأقنع من القول بطرفه واستجلب من بدائع طرفه إذ لا فخر للأقط تناول كل ساقط. . . . .
وقد رتب كتابه على ثمانية أبواب الباب الأول في محاسن شعراء دمشق ونواحيها الباب الثاني في نوادر أدباء حلب الباب الثالث في نوابغ بلغاء الروم الباب الرابع في ظرائف ظرفاء العراق والجزيرة الباب الخامس في لطائف لطفاء اليمن الباب السادس في عجائب نبغاء الحجاز الباب السابع في غرائب نبهاء مصر الباب الثامن في تحائف أذكياء المغرب وترجم من أدباء دمشق أبا بكر العمري وابراهيم ابن الأكرمي الصالحي ويوسف أبي الفتح والأمير منجك بن محمد المنجكي وعبد اللطيف المنقاري ومحمد الكريمي ومحمد الحريري الحرفوشي ويوسف البديعي ومحمداً الدرا وعبد الباقي السمان وعبد الحي طرز الريحان وابراهيم السؤالاتي وأبا بكر العصفوري ومحمداً المقدسي وتاج الدين المحاسني وعبد اللطيف الجابي ومحمد الزهري ومحمد بن زين العابدين الجوهري ومحمد بن حسين الصالحي وعمر الدويكي وعمر بن محمد الصغير وأحمد الصفدي وزين الدين البصراوي وعبد الرحمن الموصلي ومحمداً الحصري وعبد الرحمن التاجي وشاهين بن فضل الله وابراهيم السفرجلاني وعبد الباقي بن مغيزل وأبا بكر غصين البان وأحمد العطار وسليمان الحموي ومحي الدين السلطي ونجم الدين الغزي وأيوب الخلواتي وابراهيم الفتال وعبد القادر بن عبد الهادي وأحمد بن فرفور ومحمد بن حمزة وفضل الله العمادي واسمعيل بن عبد الغني النابلسي وغيرهم كثير وفي هذا الكتاب 369 ترجمة والأحرى أن يقال ترجمة(96/2)
نثرية شعرية إذ لا يقصد منها التعريف بحقيقة المترجم وأحواله بل وصف أدبه وشعره والمبالغة فيهما وفيه من هذه الوجهة وإلا فقد استوفى المؤلف تراجم من ذكرهم هنا في كتابه خلاصة الأثر حتى لم يبق مجالاً لقائل.
أما طريقته في وصف الرجال فقد سبقه إليها الفتح بن خاقان في قلائد العقيان والثعالبي في يتينة الدهر والخفاجي في الريحانة وابن معصوم في السلافة وهذا مثال منها قال في التعريف بعبد اللطيف المنقاري وهو مما تفهم منه درجة نثر المؤلف: ماجد استوفى شرف لارومة واستغلق مزية النسبة المرومة فما بات بتكميل النفس وجده وكلفه لأنه أتى الفضل وهو لعمري لا يتكلفه فهو معروف بأصله وفصله مشهود له بنبله وفضله له المقام الأحظى ومعارف التي ملئت سمعاً ولفظاً وهو منذ حلت عنه تمائمه ونيطت عليه همائمه مخطوب الحظوى عند الأنام حال من الالتفاف في الذروة والسنام تارة يستفيد منى وتارة يستفيد ثنا.
تروى محاسن لفظه وكأنها ... درر وآراء كمثل دراري
ومأثر قد خلدت فكأنها ... غرر وعزم مثل حد غرارٍ
إلى أن فجع به المجد الأثيل وفقد من الدنيا فقد المثيل وله أدب نقده نض ومقتفه غض أخذت كلمه بمجامع القلوب وملك قلمه الغاية من حسن الأسلوب وقد أثبتت له ما تهديه برداً موشى وتستجليه خداً بالقلم الريحاني محشى فمن قوله من قصيدة
بين حنايا ضلوعي اللهب ... ومن جفوني استهلت السحب
وفي فؤادي عليل ممتزج ... يعاف إلا الديار تقترب
يا بابي اليوم شادن غنج ... يعبث بالقلب وهو ملتهب
يسنح لكم بصفحتي رشا ... والقد أن ماس دونه القضب
ثغر وشاح يزينه هيف ... ليس كخود يزينها القلب
إن لاح في الحي بدر طلعته ... يا برق إلا وفاتك الشنب
تطفو على الثغر من مقبله ... حباب ظلم وحبذا الحبيب ألخ
وله من قصيدة رسلها إلى ديار بكر يتشوق بها إلى دمشق ويذكر منتزهاتها
سقى دار سعدى من دمشق غمام ... وحيّا بقاع الغوطتين سلام
وحاد هضاب الصالحية صيب ... له في رياض النيربين ركام(96/3)
ذكرت الحمى والدار ذكر طريدة ... تذاد كظمآن سلاه أوام
فنحت على تلك الربوع تشوقاً ... كما ناح من فقد الحميم حمام
يا صاحبي نجراي يوم ترحلوا ... وحزن الفلا ما بيننا وأكام
نشدتكما بالود هل جاد بعدنا ... دمشق كأجفاني القراح غمام
وهل غذت البان فيها موايس ... وزهر الربا هل أبرزته كمام
وهل أعشب الروض الدمشقي غبنا ... وهل هب في الوادي السعيد بشام
وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها ... تجول بها الأنهار وهي جمام
وهل شرف الأعلى مطل وقعره ... على المرجة الخضراء فيه كرام
وهل ظل ذاك الدوح ضاف وغصنه ... وريق وبدر الحي فيه يقام
وهل ظبيات في ضمير سوانح ... وعين المها هل قادهن زمام
وهل أموي العلم والدين جامع ... شعائره والذكر فيه يقام
وهل قاسيون قلبه متفطر ... وفيه الرجال الأربعون صيام
ألا ليت شعري هل أبيت بجلق ... وهل لي بوادي النيربين مقام
وهل أردن ماء الجزيرة رائعاً ... بمقصفها والحظ فيه مرام
سلامي على تلك المغاني وأهلها ... وأن ريش لي من نأيهن سهام
لقد جمعت فيها محاسن وأصبحت ... لدرج فخار الشام وهي ختام
بلاد فيها الحصاء درر ... عبير وأنفاس الشمال مدام
وغرتها أضحت بجبهة روضها ... تضئ وخلخال الغدير لزام
تناسيت عنها والفؤاد مشتت ... ووعر الفيافي بيننا ورغام
لقد كنت أقضي من بعادي تشوقاً ... إليها وجسمي قد عراه سقام
وقد ذكر المؤلف زمرة من نوابع بلغاء الروم قدم لهم مقدمة في وصف الأستانة فقال فيه بأندار خلافتها وأن تباين فيها اللسان ففي أهلها حذق لا يعقبه مزية وجدت في نوع الأنسان فسبحان من جمل جبالها السبع بمنزلة الأفلاك مطالع الأضواء ومغارب الأحلاك ومغرد طيور جملة الأملاك وسبب انتظام هذه الأسلاك فسما فيها الفرع السبق والأصل الثابت وطاب لعمري فيها المنبت والنابت كيف وهي حاضرة الدنيا وواحدة المفردة وأثينا ومجمع(96/4)
أهل الفضل تنظمهم في سلك وتنزلهم فيما أنالها الله من ملك وملك وقد أمنت بحمد الله من الصايل وحمدت فيها البكر والأصايل ولها الخطوة التامة والمحاسن الخاصة إلى الخيرات العامة مع اللطافة المشربة بالغضارة والطلاقة المسكنة من مفاضل النضارة فهي قيعة الظل الأبرد وكناس الغيد الخرد ومهوى هوى الغيث الهاتن ومأوى اللفظ الساحر واللحظ الفاتن وبها المباني الشم الأنوف والقصور الجمة الحلي والشفوف رياضها وريقة أريضة وأهويتها صحيحة مريضة ومرابعها مراتع النواظر ومطالع المسرات النواضر تصبو النسمات إلى مسارحهاالرحاب وتبكي شوقاً إليها جنود السحاب ولعهدي بها إذ أخذت بدائع زخارفها ونشرت طرائف مطارفها وقد ساقت إليها أرواح الجنائب زقاق خمر السحائب فسقت مروجها مدام الطل فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحل هناك رأيت كل شعب يحدث من شعب يران وكل منظر يتجلى عن أشكال من الزهر والألوان.
بسطت فوقه برود ربيع ... عندما زاره وفود الشمائل
خط فيه كتاب توحيد ربي ... نقطة النور والمياه الجداول
فتلته طيوره دراسات ... وأعادته مفصحات المنادل
أغنت السمع عن مراء جدال ... راميات لثقل حمل الدلائل
إلى آخر ما وصف به دار الخلافة العثمانية وقد أورد من أدبائها وشعرهم محمد بن لطف الله وعبد الباقي بن محمد الشهير بعارف والسيد عبد الله المعروف بابن سعدي وعبد اللطيف المعروف بانسي وشيخ الإسلام زكريا بن بيرام وولده شيخ الإسلام يحي وعلياً المعروف برضاي سبط المفتي زكريا ومحمد بن بستان المفتي وشيخ الأسلام أسعد بن سعد الدين محمداً البهائي وحسين ابن محمود المعروف باخي زاده وعبد الرحمن بن حسام المفتي وفيض الله بن القاق وعماد الدين بن أحمد طاش كبري قاضي العسكر والنقباء والأجلاء.
وفي تراجم الشعراء وقصائدهم ورسائلهم التي أوردها الشاميين والحلبيين والعراقيين والحجازيين والمصريين والمغاربة نموذج صالح فيتصورات تلك الأقاليم وما كان يغلب عليهم وأسلوبهم في غزلهم وأماديحهم وأهاجيهم والغزل كثير وهذا الكتاب ومن الشعر ما لا تستطيبه النفس وليس فيه من المزايا إلا أنه موزون لكن معناه مبتذل وقد ظهر التكلف(96/5)
بعض الشئ على المؤلف في ترجمة بعض من اوردهم لأنهم ليسوا في الدرجة المطلوبة من الفضل والأدب وأنما أضطرت الحال إلى التعرض لهم والثناء عليهم ولو كان اقتصر على المبرزين في عصره في الأدب والشعر على قلتهم لجاء كتابهم امتع وانفع فيما نرى وما نظن بعض الشعر الذي اورده في كتابه فكبرفيه حجمه وهو يرضى عنه وعن مثله.
وهاك نموذجاً آخر من نثر المؤلف وشعره فمن فصوله القصار ذكرها في خاتمة كتابه قوله: في الأحاديث صحيح وسقيم ومن التراكيب منتج وعقيم للنفوس صبابة بالغرائب وإن لم يكن من الأطايب الروض إن لم يشكر الغمام بعرفه ففي وجهه شاهد من عرفه شفاعة اللسان افضل من زكاة الأنسان. ليست الأذناب كالأعراف ولا الأنذال كالأشراف إذا صحبت فأصحب الأشراف تتل الشريف فإن المضاف يكتسب من المضاف إليه التنكير والتعريف السلعة على قدر الثمن والحركة على قدر تنشيط الزمن أعمار الكرام مشاهرة وأعمار اللثام مداهرة. أععجب الأشياء فاسق يبحث في الحلال والحرام وآلمها للقلب جالسة اللثام للكرام. مثل ما يروج من الأشعار عند من لا يدري ميزان الأشعارمثل الأعاريب لم يروا خبز الحنطة فيكبرون خبز الشعير والقوم لم يروا لجة البحر فهم يعظمون ماء الغدير.
وقال من أرجوزة له في الأمثال:
إن اللبيب يعرف المزايا ... وكم خبايا لحن في الزوايا
ورب جاهل لقد تعلما ... لا ييأسن نائم ان يغنما
من غنم الفرصة أدرك المنى ... ما فاز بالكرم سوى الذي جنا
الناس أخوان وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعهم بيت الأدم
فالبعض منها كالغذاء النافع ... والبعض كالسم الزعاف الناقع
وهكذا بعض الذوات روح ... والبعض منها في الحشا قروح
ورب شخص حسن في الخلق ... وهو أشد من شجى في الحلق
والدهر صرافله تصريف ... يروح فيه النقد والزيوف
لذاك ضاعت خلص الأحرار ... كضيعة المصباح في النهار
تعادل الفاضل والمفضول ... عرفنا الفضل من الفضول(96/6)
ومنها:
والناس إن سألتهم فضل القرب ... حاولت أن تجني من الشرك العنب
هذا زمان الشح والأقتار ... مضى زمان الجود والأيثار
من كلف النفوس ضد طبعها ... أعيا مما لا يرتجى من نفعها
وإن من خص لئيماًبندى ... كان كمن ربى لحتف أسدا
قد يبلغون رتباً في الدنيا ... لكنهم لا يبلغون العليا
إن المعالي صعبة المراقي ... من دونها الأرواح في التراقي
لا تستوي في الراحة الأنامل ... ورب مأمول علاه الآمل
قد تورد الأقدارثم تصدر ... وتدبر الأقمار ثم تبدو
بالجود يرقى المرء مرقى الحمد ... أن السخاءسلم للمجد
وعوذ النعما من الزوال ... بكثرة الأحسان والنوال
يضوع عرف العرف عند الحر ... وأنه يضيع عند الغمر
ومن شعره:
مذ قعقعت عمد للحي وانتجعت ... كرام قطانه لم ألق من سند
مضى الأولى كنت أخشي أن يلمّ بهم ... ريب الزمان فلا أخشى على أحد
فأفرخ الروع إذا شالت نعائهم ... وافسد الدهر منهم بيضة البلد
ومن قوله:
نفر في الدين مذ عبثوا ... بعدوا من خيره الزاهي
فهم ما بين أظهرنا ... ففض من لعنة الله
روي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت لمروان الت فضض من لعنة الله
وقوله:
أرى جسمي تحط به البلايا ... وما شارفت معترك المنايا
فإن ابقاني المولى فأرجو ... بقايا منه في عمري نقايا
معترك المنايا هو بين الستين والسبعين من سن أعمار الناس لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال اكثر اعمار امتي ما بين الستين والسبعين.(96/7)
وقوله:
من رام من حساده نصرة ... كان كمن بالنار يطفي الأنوار
عين أصابت شملنا لا رأت ... شملاً غلى طول المدى يجمع
كنت مستأنساً إلى كل شخص ... فأنا الآن نافر من كل شخص
هذه نموذجات من نفحة الريحانة وهو في 630صفحة كبيرة علقت غليها حواشٍ لغوية وتاريخية جليلةفي ترجمة رجال النفحة ملخصة على الأغلب من خلاصة الأثر للمؤلف نفسه والنسخة التي تكلمنا عليها كتبها محمد بن الحاج باكير الحلبي الدمشقي سنة 1148وهي بخط مشرق جميل وعلى ورق ثقيل وبلغنا أن منه نسختين في بعض خزائن كتب دمشق الخاصة إذا صحت نية أحد على طبعه وجب عليه أن يرجع اليهما ويعتمد هذه النسخة لأنها صحيحة وقعت بيد عارف في الأدب واللغة فخدمها خدمة تليق بها.(96/8)
تفاضل الشعراء
وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران وأجنحةٌ وخفق
ولكن بينما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق
(لأحدهم)
مما لا يختلف به أثنان أن الشعراء يفضل بعضهم بعضاً كما تفضل الأصابع بعضها بعضاً. (فمنهم) من غاص في بحار التصورات وكان في عالم الأوهام فأدنى ذلك البعيد وصاغه بقالب الحقيقة لقربه من الأفهام.
(ومنهم) من وصف ما هو منه أدنى من حبل الوريد. ولم يكن في نظمه غيرأوزانٍ وتقاطيع تسمع في نقر النحاس وطنين الأجراس ما هو أوقع منها في النفوس. بل ربما كان في تصويت الذباب إيقاع وتأثيرليسا فيها ولذلك قال بعضهم مفتخراً:
ولا تحسبن أنّ بالشعر مثلنا ستصير ... فللدجاجة ريشٌ لكنها لا تطير
وقال الأمير علم الدين أيدمر المحيوي:
فإن لم يكن نظم القصائد شيتى ... وليس جدودي يعربٌ وأياد
فقد تسجع الورقاء وهي حمامة ... وقد تنطق الأوتار وهي جماد
وقال الشيخ ناصيف يازجي:
من ضاع أكثر شعره في باطلٍ ... فكأنما قد ضاع أكثر
(ويتفاضل الشعراء) بصور الخيال وجودة القريحة وصفاء الذهن والسواعي التي تحدث لكل منهم إذ للأحوال أسباب تحمل على الأجادة والأبتكار ومع هذا قد يخطئ من أجمع العلماء على مدحه واستحسان منظومه.
فهذا عبد الله بن المعتزّ مع اشتهاره بانسجام أبياته وصحة معانيه قد قال في وصف كتاب:
ودونكه موشى نمئته ... وحاكته الأنامل أيّ حوك
بشكل يرفع الأشكال منه ... كانّ سطوره أغصان شوك
فأخطأ الغرض إذ جعل سطور الكتاب شوكاً والشوك يذمّ ولا يمدح. وإن كان بينه وبين الشكل مشابهة وأين هذا من قول ابن قرناص:
هو مالك قد أصبحت ألفاظه ... حلياً على جيد الزمان العاطل
وكانّ أسطره خلال دروجه ... ظلّ النصون يلوح بين جداول(96/9)
ومن قول الشيخ عبد الغني النابلسي على التشبيه:
ولم تلهني كتب الرياض وقد حوت ... حروف غصونٍ للندى فوقها نقط
ومدت من الأوراق جعد ذوائب ... كأن انعطافات النسيم لها مشط
وقال أبي تمام الطائي:
فإذا كتابك قد تخير لفظه ... إذا كتابي ليس بالمتخير
وإذا رسومٌ في كتابك لم تدع ... شكاً لنظارٍولا متفكر
شكل ونقطُ لايخيل كأنه ... الخيلان لاحت بين تلك الأسطر
وقد يجيد شاعر ولا يجيد الآخرقال الهيثم بن عديّ لقوم: أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا فقيل بيت الزبير الأسدي وهو:
وقد لاح في الغور الثريا كأنما ... به راية بيضاء تخفق للطعن
فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت امرئ القيس:
إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت ... تعرض أثناء الرشاح المفصّل
فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت ابن الطثرية:
إذا ما الثريّا في السماء كأنها ... جمانٌ وهي من سلكه فتسرعا
فقال: أريد أحسن من هذا فقالوا ما عندنا شئ. فقال: قول أبي قيس بن الأسلت الجاهلي:
وقد لاح في الصبح الثريّا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حين نورّا
قال: فحكم له بالتقدم عليهم في هذين المعنيين
وقال الشيخ أحمد المقري في كتابه (نفح الطيب في تاريخ الأندلس الرطيب) في مناظرة فضل فيها شعراء الأندلس ما نصه:
وهل منكم شاعرٌراى أن الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم والخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً. وكليله في الأفكار حديداً. فأغرب أحسن أغراب. وأعرب عن فهمه بحسن تخيله انبل أعراب. وهو أبن الزقاق:
واغيدٍ طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا
والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا(96/10)
قلنا:
ولأين الأقاح قال لنا: ... أودعته ثغر من سقى القدحا
فظلّ ساقي الدام يجحد ما ... قال فلما تبسم أفتضحا
وقال أيضاً:
أديرها على الروض الندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماض
وكاس الراح تنظر عن حبابٍ ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض
وقال أيضاً:
ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى لها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح
قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح
قال المقري: فانظر كيف زاحم بهذا الأختيال المخترعينوكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين أ. هـ وسمع بعضهم قول القائل:
فلا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر
فقال: هذا حسن جيد. ولكن قول القسطليّ أفضل. وهو:
أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ ... وكلني لليث الغاب وهو هصور
فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير
وتنبو الرّدينيات والطول وافرٌ ... ويبعد وقع السهم وهو قصير
ومن ذلك أن عمر بن الشهيد أنشد المعتصم من قصيدة قوله:
سبط البنان كأن كلّ غمامةٍ ... قد ركبت في راحتيه أناملا
لا عيش إلاّ حيث كنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا
فالتفت المعتصم إلى من حضر من الشعراء وقال لهم: هل فيكم من يحسن أن يخلب العقول بمثل هذا؟. فقال أبو جعفر الخرّازالبطوني: نعم. ولكن للسعادة هبات وقد أنشدت قبل هذا أبياتاً أقول منها:(96/11)
وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد
ثمار ايادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظلٌ عليّ ممدّد
يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرد
فأرتاح المعتصم وقال: أأنت أنشدتني هذا؟ قال: نعم. قال: والله كأنها ما مرّت بسمعي إلى الآن. صدقت للسعد هبات. ونحن نجيزك عليها بجائزتين. الأولى لها. زالثانية لمطل راجيها. وغمط إحسانها (اه)
و (من ذلك) أن أعربياً دخل على ثعلب وقال: أنت الذي تزعم أنك أعلم الناس بالأدب. فقال. كذا يزعمون فقال أنشدني أرق بيت قالته العرب سلسلة فقال: قول جرير
إن العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أنسانا
فقال: هذا الشعر غث رث قد لاكته للسفلة بألسنتها. هات غيره فقال ثعلب: أفدنا من عندك يا أعرابي. قال: قول سلم بن الوليد صريع الغواني:
نبارز أبطال الوغى فنبيدهم ... ويقتلنا في السلم لحظ الكراعب
وليس سهام الحرب تفني نفوسنا ... ولكن سهامٌ فوّقت بالحواجب
فقال ثعلب لأصحابه: أكتبوها على الحناجر ولو بالخناجر
(ومن ذلك) قول الشاعر المخزومي:
العيب في الخامل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوفة الظفر تخفى من حقارتها ... ومثلهافي سواد العين مشهور
فقال آخر بمعناه:
قد تخفض الرجل الرفيع دقيقةٌ ... في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر
وقال الخفاجي:
كم من عيوبٍ لفتىً عدّها ... سواه زيناً حسن الصنع
فتكتهُ الياقوت مذمومةٌ ... وهي التي تحمد في الجزع
وربما جاء الشاعر بمعنيين أحدهما يفضل الآخر كثيراً كقول بشار بن برد:(96/12)
إنما عظم سليمى حبّتى ... قصب السكر لا عظم الجمل
وقال بشار نفسهفي موضع آخر بالمعنى نفسه وهو بليغ:
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
فأنظر الفرق بين قوليه والتفاوت بين خياليه ومن أعجب ما يروى عن بشار هذا أنه سمع قول كثير بن عبد الرحمن:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين
فقال: قاتل الله أبا صخر يزعم أنها عصا ويعتذر أنها خيزرانة ولو قال عصا مخ. أو عصا زبد لكان قد هجن مع ذكر العصا فهلا قال كما قالت:
ودمجاء والمحاجرمن معدٍ ... كأن حديثها ثمر الجنان
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ومن المعاني ما يفضل بعضه بعضاُ بدرجات كثيرة مثل قول بشاربن بردالآنف ذكره:
وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلب المسك على ريح البصل
فأساء تخييلاً ولعله أكل البصل فكل ذهنه ولم يتصور ألا ما أكله أين هذا من قول المتنبي:
تحمل المسك عن غدائرها الريح ... وتفترّعن شنيبٍ برود
ومن تفاضل الشعراء ما رواه الهيثم بن عدي قال: كنا جلوساً عند صالح ابن حسان فقال لنا أنشدوني بيتاً في امرأة خفرة شريفة فقلنا قول حاتم.
يضئ بها البيت الظليل خصاصة ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسما
فقل: هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا فقلنا: قول الاعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... كرّ السحابة لا ريث ولا عجل
فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الأختلاف فقلنا ما عندنا شئ فقال: قول أبي قيس بن الأسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن أتيانهنّ فتعذر
وليس لها أن تستهين بجارة ... ولكنا منهنّ تحيا وتحفز
وكثيراً ما يختلف حكم الشعراء في أمرين أو أكثر مثل قول ابن الرومي:
أن يخدم القلم السيف التي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم(96/13)
فالموت والموت لا شئ يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله في الأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أن أرهفت خدم
وقال في ضد هذا أبو الطيب المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيفّ ليس المجد للقلم
وقال في مثل ذلك أبو تمام الطائي:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حده الدّ بين الجدّ واللعب
ولقي خالد الكاتب أمد طلبة المبرد فقال له: ما الذي أنشدكم اليوم؟
قال: أنشدنا:
أعار الغيث نائله ... إذا ما ماؤه نفدا
وأن أسدٌ شكى جبناً ... أعار فؤاده الأسدا
فقال خالد أخطأ القائل هذا الشعر. قال كيف قال خالد ألا تعلم انه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد قال الطالب: فكيف كان يقول؟ قال
علم الغيث الندى حق إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد
فله الغيث مقرٌ بالندى ... وله الليث مقرٌ بالجلد
وأجتمع أبو العتاهية مع محمد بن مناذر فقال له: كم تنظم من الشعر في اليوم؟ فقال له: لا أنظم القصيد إلا في الشهر أو الشهرين فقال له أبو العتاهية: أما أنا فقد يتفق لي في اليوم من النظم الألف فأكثر فقال له نعم أنت تنظم ذلك ولكنك تنظم مثل قولك:
ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
وقولك:
أتراني يا عتاهي ... ناسياً تلك اللاهي
أما أنا فأنظم مثل قولي في رثاء عبد المجيد الثقفي:
إن عبد المجيد يوم تولى ... هدّ ركناّ ما كان بالمهدود
ما درى النعش لا ولا حاملوه ... ما على النعش من عفافٍ وجود
ويظهر تفاضل الشعراء في باب (المآخذ الشعرية) حتى أن الآخذ ربما أجاد وزاد على المأخوذ منه وربما قصر وتأخر منه ولقد نشرت في بعض المجلات كثيراً من المآخذ(96/14)
الشعرية ولا سيما الشعراء بعضهم عن بعض وفي ذلك مسرح لخيال الشعراء ومجال لأحكام أفكارهم الدقيقة في التفاضل وإليك والآن بعض ما صرح به بعض المدققين من هذه المآخذ أوعن لنا قال المجي في خلاصة الأثر: أن قول لطفي بن المنقار الدمشقي:
ظعنّ والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضنى نهب
من فوق خلي وضعت يدي ... فلم أجده وصدها اللهب
هو أدق من قول المتنبي:
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
وقال أبو العلاء المعري:
يُنا في أبن أدم حال الغصون ... فهاتيك أجنت وهذا جنا
تغير حناؤه شيبه ... فهل غير الظهر لما أنحنى
فأخذه الآخر وتصرف بمعناه بحسب خياله فقال وقد أخرجه مخرج الحكمة وأجاد حتى فضل الأول رشاقة:
يا من يدلس بالخضاب مشيبه ... إن المدلس لايزال مريبا
هب ياسمين الشيب عاد بنفسجاً ... أيعود عرجون القوام قضيبا
ومن أبيات الحماسة في هذا الباب قول أحدهم:
أن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيرّا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوءٍعندهم أذنوا
جهلاً عليّو جبناً عن عدوهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن
ومنه تناول القائل قوله (ولي إذن عن الفحشاء صماً) والآخر (إذن الكرام من الفحشاء صماء) ولكن بعضهم زاد على المعنى فقال وله الفضل بالسبق في التقسيم:
مستنجدٌ بجميل الصبر مكتئب ... على بني زمن أفعالهم عجب
أن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شراً لشاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
إلى غير ذلك ما يدل على تفاضل الخيال وتفاوت التصور ويرجع إلى جودة القريحة وصفاء الذهن وفوق كل ذي علم عليم.
(زحلة)(96/15)
عيسى اسكندر المعلوف(96/16)
البيزرة وكتاب فيها
أبواب
الباب الأول
في أولية الصيد واتخاذ البزاة - قال أدهم بن محرز من أهل المعرفة بالجوارح: إن أول من أضنى الصقر الحارث بن معاوية وهو أبو كندة في زمانه فإنه وقت يوماً على قانص قد نصب شبكة للعصافير فانقض صقر من الجو على العصافير التي في الشبكة ليحصل فيها طعمه فلما رآه الحارث أخذه إلى منزله وشده وبقي أياماً يراعيه ويؤنسه فأنس وصار إذا رمي له الطعام أكله وإذا رأى الحمام نهض إليه باتخاذها وتعليمها ورآه يوماً وقد ثارت أرانب في الصحراء بين يديه فطلبها وأكثر النهوض إليها فاقتنصها بعد أن سفها عدة دفعات وصارعها وبعد ذلك علمه على الظبي فأخذه ثم اتخذها العرب وصارت في أيدي الناس وأما الشاهين فإن بعض ملوك الروم رآه يوماً وهو في السماء محلق ثم أنقض على طير ماء فضربه ثم أرتفع دفعات فقال هذا طير ضار فأمر بأن ينصب له فنصب واصطيد واضري وصار يصطاد بين يديه وذكر سعد بن عفير عن هاشم قال خرج قسطنطين ملك الروم يوماً للفرجة فعبر إلى مرج بين الخليج والبحر فرأى شاهيناً ينكفي على طير الماء فأعجب بما رأى من سرعة أنقضاضه والحاجة على صيده فأمر أن ينصب له ويصطاد ففعل لما حصل أمر أن يضرى ويعلم فكان قسطنطين أول من لعب بالشواهين ولما رأى ذلك المرج وطاب له وأعجبه موضعه بين الخليج والبحر أمر أن تحدث هناك مدينة وبنى فيه وبنى الناس وسماها باسمه القسطنطينة وقال الغطريف أول من لعب بالعقبان أهل المغرب وأن حكماء الروم لما رأوا شرها وقوة سلاحها وعظم خلقها قالوا هذه التي لا يقوم خيرها بشرها.
الباب الثاني
في صفة خلق الضواري ومنازلها وأجناسها وما قال أهل المعرفة في كل واحد منها تفضيل بعضها على بعض - قال الغطريف وأدهم بن محرز أن الله تعالى خلق هذه الجوارح على مراتب بحيل بعضها عن بعض وهوي بعضها عن بعض وتختلف أجناسها وهي خمسة أجناس وست مراتب فالأجناس الطرفيل والباز والسنقر والصقر والشاهين والعقاب فأما(96/17)
الطرفيل فهو أفضلها وأجلها لا يحصل في الزمن إلا للملوك واحداً بعد واحد في الأحايين لعزة وجوده فينتقل من ملك إلى ملك ومأواه بلاد الخزر فيما بين خوارزم إلى بلاد أرمينية وقيل أنه لا يعقر بمخلبه شيئاً إلا سمه بحيث أنه كلما برأ جرحه عاد حتى أنه يستمد له عند وقوعه بالدستيانات القوية المحشوة ويتقي بازياريه عقره بمخلبه وهو مجتمع الخلقة عظيم الهامة رقيق الكنيد واسعاً يصيد البازي والشاهين وإذا أطلق على رف كراك فإنه لا يقنع بأقل من عشرة وأي شئ طار له أقتنصه ويليه من بعده البازي الذي هو دون الوافر ويسمى النهيمي بالفارسية ثم الزرق - زنة سكر - وهو في خلق البازي وهو أسمه في العراق وفي الحجاز والشام ومصر يسمونه الساف ويصيد بعد دق البازي - الحقير من البزاة - وما دون ذلك إلى العصفورثم يليه طير أصغر منه يسميه أهل العراق وأهل الحجاز العصفى ويسميه أهل الشام ومصر البيدق صيده السماني والعصافير والجنس الثالث الشاهين وهو ما دونه من أشكاله أربع درجات بعضها أرفع من بعض وكلها على خلق واحد وطبع وأحدها الشاهين وهو أجلها وأفضلها ثم يليه الأنيقى وهو نصف شاهين وسميه أهل العراق الكرك (كذا) ويلعب به أهل الشام والروم ولايصيد صيد الشاهين كله ثم يليه البؤبؤ ويسمي أهل الشام ومصر الجلم - المقص أو المقراض - لخفة جناحيه وهي صغار حادة الرؤوس حادة الأنفس شديدة الصبر تقتل الكركي البرية وما دونها من عصافير الصحراء إلا أنها تتعب بازياريتها لكثرة تنقلها بصيدها ثم يليه القطامي ويسميع أهل العراق الفيزجة وسميه أهل الشام ومصر العوسق وهو طير لطيف يشبه الشاهين في سواده سريع الطيران أسرع طيراناً من البؤبؤ يصيد بها صبيان الشام ومصر العصافير والقنابر ثم الصقر ودونه من أشكاله وهي ثلاث طبقات بعضها أجل من بعض وكلها خلق واحد وطبع واحد أحدها الصقر وهو أجلها ثم يليه الكونخ وهو أسمه بالعراق ويسيه أهل مصر والشام والحجاز السقاوة ويكون بالمغرب والعراق ويصيدون الصقر ولا يأخذ طير الماء إلا النادر من جنسه ولكنه يقتل الأرانب والكروانات ثم يليه السنك وهو أسمه بالفارسية وتفسيره الحجر وهو أزرق العينين يصيد ما يصيده الباشق إلا أنه دونه في الصيد وهو أقوى من الباشق جسماً واضرى وأصبر. ثم العقاب والزّمج - مثال خرد - وأولها العقاب وأجلها وأفضلها لأنه يقتل الظباء والثعالب وبعده الزّمج وهو يصيد الكركي والأرانب وما(96/18)
دونها ولا يقدر على الظبي.
الباب الثالث
في ذكر ما يصلح من غير الضواري أن يربى تربية الضواري ويضرى ضرايتها فيصيد - قال أهل المعرفة والعلم بالجوارح أن الغراب الابقع والحداة التي تصيد الفاو متى أخذ الأنسان من ولد الغراب الابقع فرخاً يكون أكبر فراخه صغيراً زغباً ويربيه تربية الضواري وأطعمه طعم الضواري وأنسه تأنيسها وحمله على يديه وعوده ذلك واستجابة كما يستجيب فراخ الضواري وكسر له مرةً وثنتين الدراج وذبحه في كفه وأشبعه عليه فإنه يصيده فيما بعد وكذلك فرخ الحداة الذي لا يكون مسرولاً بالريش وهذان الفرخان يصطادان فراخ الحجل والدراج إذا ضريا وعلما كما تقدم.
الباب الرابع
في معرفة ذكور الباز من إناثها - قال الحكماء أن ذوات المناقير هي الطير التي لا تصيد وتسميها العرب بغث الطير تكون الذكران منها أعظم أجساماً وأنبل خلقاً من الإناث وتكون الإناث ألطف مقداراً وأصغر أجساماً من الذكران. وذوات المناسر التي تسميها العرب سباع الطير والضواري تكون ألطف خلقاً وأكبر أجساماً وأضخم حجماً وأبهى في الأعين أناثها من ذكرانها وعلى ذلك فقس في البازي والصقر والشاهين وما يجري مجراها.
الباب الخامس
في مدح البزاة وما وصف من فضلها_قال خاقان ملك الترك البازي شجاع وقال كسرى أنو شروان البازي رفيق حسن لا يأخذ إلا في وقت الفرص وقال قيصر البازي ملك كريم أن جاع أخذ وأن استغنى ترك وقالت الفلاسفة حسبك من البازي سرعته في الطلب وقوته في الرزق لاسيما إذا قوادمه وبعد ما بين منكبيه وذلك أبعد لغايته وأجد لسرعته الا ترى أن الصقور والشواهين تطيل مدى طلتها في طرد الصيد ولا ترجع عنه حتى تدرك غايته أو تصل إلى التبنج - لعله التشنج - فيتحصن به منها ولا يلحقها ضجر في ذلك وذلك لطول قوادمها وكثافة أجسامها وقال أرسيخاس الحكيم أن البازي طير عاري الحجاب وهو أضعف الطير شحماً وأشجعه قلباً وفي طبعه حرارة تزيد على حرارت باقي الجوارح وقال وجدنا صدورها منسوجة بالعصب من اللحم وقال جالينوس الدليل على صحة قول(96/19)
أرسيخاس في فرط حرارة الباز أنه لا يتخذ لنفسه وكراً إلا في قعر وادٍ كثير الدغل من غير أن ينتقل فلو أن الدليل على حرارته سرعة حركته وعلوه في الطيران وشراسة خلقه وضرائه وقوة مخالبه وعظيم نفسه لكان أفضل ويطلب برودة الوادي لتواري قعره عن الشمس بكثرة الدغل وانحرافه عن سمت الشمس وإذا حصل الباز في أرض قليلة الدغل والشجر تراه يطلب لحف الجبل أو مرتفعاً من الأرض ذا ظلٍ وشعاب يستتر بها أو يكن ولرقته وترفه أيضاً لا يقدر على البرد والدليل على ذلك أن البزاة لا تشتي في بلادها وتطلب البلدان الدافية فإذا ذهب الشتاء وقرب الصيف عادت إلى بلادها ومواضع أعشاشها مثل بلاد أرمينية وأفريقية وجرجان وما شاكلها وكل أقليم يكون كثير الأشجار والدغل فإنها تطلبه لأن أوكارها تكون هناك ولهذا يشد تحت أرجلها وفوق كنادرها - مجاثمها - في زمان البرد والقر الشديد قطع اللبود وجلود الثعالب وغيرها من الأوبار فإنه متى غفل عنها في الشتاء ربما يلحقا من البرد قصر فتموت وكذلك في الصيف يتخذ لها المواضع الهوية المحتجبة عن حر الشمس وتتعاهد بالغسل وفرش الرمل الندي.
الباب السادس
في سفادها ومعرفته وما تتفرع إليه أخلاق البزاة - قال حكماء الهند أن الأناث من البزاة إذا حان وقت سفاد الطيور وهيجانها يغشاها جميع ما تصادفها من أجناس الضواري من البزاة وغيرها من الزرق إلى الحداة المعروفة والصقر فإنها تعلق من جميع ما يسفدها وليس لها بدّ من زرّق تألفها وتلبث معها على بيضها فلهذا السبب يختلف طبع البزاة وجواهرها في ذكائها وفراهيتها وأدبها وشراستها وقوتها وضعفها وجرأتها وجبنها مما يغشاها من الجوارح المختلفة فتفرغ عنها والدليل على صحة ذلك القول أن البازي يصطاد بالطبع من الكركي إلى العصفور جليلاً ودقيقاً فأي بازٍ لم يصد ما ذكرناه فليس هو بزر بازٍ خالص ويكون نغلاً من بزر تلك الجوارح.
الباب السابع
في نعت أفره أجناس البزاة
قالت الحكماء أن خير البزاة الأرقية والبارقية (كذا) وهي أرمينية وبزاة بلد الديلم وبزاة بلد أفريقية وهذه خيار أجناس البزاة وعلامة الأرقية أنها تكون شهل العيون وإن وجدت منها(96/20)
طيراً أسود الظهر أكحل العين فهو الغاية في الفراهية وعلامة البارقية أنها تكون كحل العيون سود الظهور وكحل عيونها يكون وهي فراخ فإذا قرنصت أحمرت وتكون كبار الأكف عظيمة الجثة وعلامة الديلمية أنها تكون كبيرة الخلق كثيرة الريش غائرة الأعين مشرفة الحواجب زرق العيون واسعة11 وبيض الأكف قال بهرام أخو كسرى وكان مغرماً بالصيد أن خيار البزاة الرومية وبعدها الأرمينية والخزرية فهي تقارب الرومية وأما الهندية والصينية فدون الأرمينية وفوق الحبشية وشر البزاة جميعاً الحبشية.
الباب الثامن
في صفة ألوان البزاة - وأفضلها أن يكون الريش الذي حول أست البازي ويسمى النيفق وشياً مثل وشي صدره والدائرات التي على ريش ذنبه متطاولة كهيئة أظلاف الغزال ويكون أول ريشة في الذنب من الجانب الأيمن ومثلها من الجانب الأيسر كثيرة السواد من أولها إلى أخرها ومن ألوان الفره منها الأحمر الشديد الحمرة والأزرق الغالب عليه السواد الغليظ خطوط الصدر والأشهب شبه الأبيض ثم الأبيض الأصفر.
الباب التاسع
في نعت ما يستحب من شياة البزاة وخلقها - يختار للبازي أن تكون ركبتاه مخدرتين ضخمتين وكذلك مفاصل أصابعه ويكون الذي فوق أصابعه من الريش مما يلي نيفقه طويلاً بحيث إذا حمله بازياريه يصل ذلك الريش إلى يده وهو علامة الفاره عند أهل المعرفة ويكون من البزاة الصغيرة السيقان والأكف وإذا كان البازي طويل القوادم والأكف قصير الخوافي والذنب كان الغاية في طلقه وكان شبهاً بالشاهين والصقر لأنهما على هذه الصفة فإذا كان البازي كما وصفت لك وكان رمحي الوجه ضخم المنسر غاير العينين بعيد ما بين المنكبين عريض الفخذين قصير الساقين كان المختار الفاره.
الباب العاشر
في نعت أفضل الذكور من البزاة - قال الغطربف زعم أهل المعرفة بفره البزاة من طراخنة الترك وحكماء الفرس وعلماء الروم أن أفضل للذكور من البزاة وما كان ضخم المنسر واسع العينين رحب مدار الأذنين قصير الخوافي صلب اللحم رحب المزدرد واسع الحوصلة عريض المنكبين منفرج الصدر طويل القوادم قصير الخوافي شديد مجس(96/21)
الفخذين قصير الساقين واسع الكفين أسود المخاليب كان طوله في عرضه شديد الأنتفاض كثير الأكل متتابع النفس سريع الأستمراء ضخم السلاح واسع الأست بعيد الذرق كأنه إذا أستقبله يقع على يد حامله شبيه الخلق بالغراب الابقع فإن وجدت في مؤخرة هذا سواداً غالبا لصفرته فذلك الطير الفائق النادر القليل المثل وإن كان لسانه أسود فقد أكمل الصفات الحسان.
الباب الحادي عشر
في نعت أفضل الإناث من البزاة - والموصوف من إناث البزاة ما كان صغير الرأس عظيم المنسر رحيب الشدقين واسع العينين صافي الحدقة تام العنق طويل القوادم لين الريش واسع الزمكى صغير الذنب وكان مؤخر ذنبه مغروزاً ويكون أخضر الرجلين ممكن الفخذين قصير الركبتين عاري الرجلين من اللحم كثير الأكل سريع الأستمراء فإذا كمل في البازي الأنثى ذلك كان الغاية الجيدة.
الباب الثاني عشر
في نعت ما يقتل عظام الطير من البزاة - قال أهل المعرفة إذا أردت أن تتخذ بازياً يقتل عظام الطير كالكركي وما شاكله فعليك بالبازي الطويل الوجه كأن وجهه الرمح الأقني السديد المحجز المنخرين الغاير المشرق الحاجبين الأزرق الشدقين التام العنق الأحمر اللون اللين الريش قليلة ويكون بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر عظيم الزور طويل القوادم ضخم الزمكة طويل الفخدين شديد عظام الساقين أبيضهما قصيرهما واسع الكفين أبيضهما مخدد الركبتين حالك سواد المخاليب رزين الوزن جرجاني المعدن أو خزريه والله أعلم.
الباب الثالث عشر
فيما يتخذ من البزاة لصغار الطير - يتخذ لذلك البازي الأصبهرح أوسرخ ديرج (؟؟) أو الأبيض ويكون من بازات خراسان أو خوارزم أو من بزاة الأيواب.
الباب الرابع عشر
في نعت أسرع البزاة وأقدرها على التحليق والسمو في الجو - قال الغطريف أجمع أهل العلم بالضواري أن البازي إذا كان ضارباً إلى البياض والشبهة كان أسرع البزاة وأحسنها وأسهلها رياضة وأقواها على السمو لأن البازي الأشهب والأبيض فيهما من الحرارة ما(96/22)
ليس في غيرها لأن بياضهما لكثرة الثلج في بلادهما من أرمينبة والخزر وجرجان وبلاد الترك قال خاقان ملك الترك أن بزاة أرضنا إذا سقطت فراخها سمت إلى الهواء البارد فأنزلت طيوراً تسكن هناك أبداً فتغذي فراخها بتلك الطيور حتى تقوى فتنهض فبعد ذلك تتغذى بما تصيد وربما وجد في أوكارها أطراف تلك الطيور وأشلاؤها. وسئل جالينوس هل يجوز أن يسكن في الجو حيوان؟ فقال الهواء حار رطب والبرد يعرض فيه لقوة الرياح المرتفعة فلا يخلو المزاج من أن يسوي فيه ساكناً!!!. وقال بليقس إذا كان هذان الأستقصّان الأسفلان يعني التراب والما لا يخلوان من ساكن فكذلك الأستقصان الأعليان يعني الهواء والنار لا يخلوان من ساكن.
الباب السادس عشر
في صفة ما لا يختلف الظن فيه من البزاة - قال إذا أردت أن تتخذ البازي الفاره وتعرف جوهره وأشكل عليك ذلك فأعمد إلى أجمعها خلقاً وأشدها انقباضا وأرزنها محملاً وأصفاها وأوسعها عيناً وألينها ريشاً وأعظمها منسراً وأسرعها أستمراءً وأشدها تشميراً وأكبرها سلاحاً فذلك البازي الذي لا يختلف ظن صاحبه فيه. وقال أهل الصيد يشترون البزاة بالميزان فما كان أثقل كان ثمنه أوفى ولا يسألون عن خيارها ولا عن ألوانها ويقولون قد يوجد في البزاة بخلاف ما وصف به فره البزاة فيكون مضطرب الخلق كثير الريش طويل الذنب مضاداً لفره البزاة ويكون صيوداً وذلك نادر والنادر لا يعتبر به فاعلم بذلك.
الباب الثامن عشر
في أقل البزاة أجابة وأعسرها رياضة - قالوا أن نفار البازي وسوء أدبه وعسر أجابته يكون من ضعف نفسه وجبن قلبه وقلة صبره على التأنيس والبازي المقرنص تكون فيه هذه الصفة وكل بازٍ يشرف حاجباه عل عينيه ويشتد بياضها ويكون لونه أحمر يضرب إلى البياض فهو بطئ الإجابة سيئ الخلق شديد النفار فإن أتفق في البزاة ما يكون بهذه الصفة المقدم ذكرها وكان في أخلاقه لينة وفي إجابته سهولة فإنه يكون أفره البزاة وأكثرها جوهراً وقل أن يوجد له نظير.
الباب التاسع عشر
في شر البزاة وأدبرها - المذموم منها ما كان ضخماً عظيم الهامة متكاثف ريش العنق(96/23)
مسترخي اللحم قصير القوادم قصير الفخذين رقيقهما طويل الساقين جعد الكفين صغيرهما ولونه يضرب إلى السواد فاجتنبه فإنه شر البزاة وإذا رأيت البازي ضخماً كثير الريش فيه يسوسه كدر اللون إذا خرج من لبيت يظن أنه قد خرج من القرنصة لكثرة نفور أحمر العينين منزعجهما وإذا قد على كندرته يثب على وجه بازياريه كان يريد أن يأكله إن هزلته سقطت همته وإن أشبعته هرب منك فلا تقربنه فإنه ردي فاعلم ذلك.
الباب العشرون
في صفة الشواهين وما قال العلماء بها - قال الغطريف وأدهم بن محرز الشاهين أسرع الجوارح وأشجعها وأخفها جناحاً وأحسنها تكفيفاً (لعله تكيفاً) وأستقبالاً وأدباراً أضراها على الصيد إلا أن في بعضها الغدر والأباق وسببها حرصها على الصيد لا أن الغدر فيها طبيعة وخلق وذلك أنها إذا أدبرت وارتفعت وطال دورانها ولم يطر تحتها شئ تنظر إلى البعد طلباً للصيد فيلوح لها فتطلبه ةلا يدركها البازياريه ولا يهتدون إلى مطارحها فيضلون عنها وربما ظفرت بالصيد فأكلته وشبعت عليه وطارت فأوكرت على عض القمامات أو الأشجار والبازياري لا يراها فيقال أنها تعذر لهذا المعنى وقال أرجناجيس الحكيم وجدنا الشواهين صدورها منسوجة بالعصب مجدولة باللحم ووجدناها أقوى الطير من بين الجوارح وأصلبها عظماًَ وأشدها عصباً وأكثرها لحماً وأرقها أفخذاً فلذلك صادت بصدرها وتعلق صيدها بأكفها وقال حكيم اليونان خد مقرنص الشواهين مما قرنص في البيوت فإنها تزداد بالقرنصة ذكاء وجودة وفراهة وأما القرنوص الوحشي فلا تقربنه فما فيه نفع له صلة
النجف
محمد رضا الشبيبي(96/24)
تربية الأطفال
لا يجهل حالة الزمن الحاضر وخطورة أمره فإن إعلان الحرب وتفشي الحميات والأوبئة في دمشق وأرباضها وبقاء أكثر العائلات من دون رجال لتجنيد الآباء والأبناء كل ذلك يستدعي النظر ويستحق الاهتمام.
تضم الفيحاء بين جدرانها اليوم عدة مكاتب تطوف تلامذتها الشوارع في الأيام الرسمية حاملة الأعلام منشدة الأناشيد صادحة الموسيقى لتظهر للملاء تقدم المعارف ورقبها وربما ظل بعضها حتى نصف الليل طائفاً في الخارج مما نص نظام تربية الأطفال على منعه وقضى بعدم جوازه والواجب أن يبرحوا مدرستهم وأن لا يقيموا مجتمعين في محال مغلقة النوافذ رطبة ضيقة الأكتاف مراعاة لحالة الوقت والصحة.
تقسم درجات المكاتب بوجه عام إلى ثلاث عالٍ وتال وابتدائي وسيدور البحث هنا على أولئك الصغار طلاب المدارس الابتدائية لحرمانهم من قوة الإدراك ولكونهم لا يعرفون شيئاً سوى التقليد وما هم في الحقيقة إلا كالببغاء تردد ما تسمعه خلافاً لرفاقهم تلامذة القسمين الباقيين فهم يفرقون بين النافع والضار ويميزون بين الخبيث والطيب.
وعندي أن من الخطأ إرسال الأطفال إلى المكاتب في مثل هذا الزمن وترى الأهالي في البلدان التي نما فيها هذا الفن وأزهر يعتنون بتربية أطفالهم في المدارس أكثر من البيوت أما نحن فبالعكس فإننا مضطرون إلى تربيتهم في البيت
إن أكثر ما ينجم من الأضرار عن إرسال هؤلاء إلى المدارس ناشئ عن حبهم للتقليد كما أسلفنا فتراهم مثلاً يشربون ماء بردى الممنوع تجرعه صحياً اليوم ولا يحجمون عن ابتياع الفواكه الفجة الممنوعة كالمشمش والخوخ وغيرهما من بقية الأثمار وما يتناولونه من المتليكات ويأكلونه بشراهة مما يكون عاملاً مهماً في سراية الأمراض وانتشارها
ولقد ثبت بالاختبار والتجربة أنه إذا أصيب فرد من عائلة بمرض فإن نصيب هذه العائلة الشقاء إذا لم تتخذ التدابير الفنية والاحتياطات اللازمة فلذلك كان من الضروري العناية بتربية هؤلاء الأطفال في العش الذي فيه درجوا والوكر الذي منه خرجوا بعرفة أسرهم في محيط متأخر تضاءلت فيه أنوار العلوم وانحطت الأخلاق وفسدت التربية كهذا المحيط إنقاذاً لهم من شقاء محتم وحفظاً لحياتهم وصوناً لمستقبلهم وهذا على ما أرى لا يحتاج إلى عناء وفرط اهتمام بل هو غاية في السهولة(96/25)
أذكر الآهلين بأن عليهم أن يلقنوا أطفالهم في بيوتهم المعلومات العادية البسيطة عن كل ما يحيط بهم من المرئيات والأشياء لتتسع دائرة أفكارهم وتنفتق براعم أذهانهم خدمة لهم ولوطنهم فإذا شاهد الجند تجتاز الشوارع يخبر عن الحادي لهم على الانتظام في سلك الجندية وعن السر في كونها إجبارية وعن الواجبات الوطنية وعن حقوق الوطن ويسرد له على سبيل الحكاية أحوال المملكة وموقفها من الأعداء. ويبين له الماء الطاهر من الماء الآسن وفوائد غسل اليدين قبل الطعام وبعده وشدة لزوم تعلم القراءة والكتابة وتأثيرهما في رقي الأمة والوطن وتاريخ الحكومة وجغرافيتها وأسباب سراية الأمراض وطرق الوقاية منها وذلك بأسلوب سهل لذيذ يستميل الثابت ويدعوه للاستزادة منه وعدم السآمة من سماعه.
11. العناية قبل كل شيء بإنماء العاطفة الدينية في نفسه والبحث له عن الطهارة والنظافة والدين والإيمان ومتى أنس منه مللاً أو ضجراً يجب طي ذلك الحديث وتنبيهه للطريق القويم بأقاصيص لذيذة وأحاديث مفيدة.
نمو الأطفال
أهم أسباب نماء الأطفال طريفة ألباسهم وإطعامهم وتربيتهم وتدريسهم فهم متحاجون لجسم سليم تتوقف عليه طريقة الإلباس وجودة التغذية ليفكروا جيداً ويجتهدوا ويفقهوا والعقل السليم في الجسم السليم كما يقولون.
ومن الخطأ الفادح أن يمقط الطفل عقب ولادته بمختلف التماطات من صوف وقطن وخام ويبالغ في أسباب وقايته من الحر والقر وترضعه المرضع كل حين ويلبّس صدرة أو يلف في خرق عند نزع القماط عنه ويبيت في غرفة مغلقة النوافذ لا يتخللها هواء ولا تخطر فيها أنوار ذكاء بل يجب أخراجه صباحاً ليستفد من شمس الصباح وأن يحمل إلى الأماكن التي يكثر هواؤها ويعود عند أماطة قماطه الحر والبرد بقدر الإمكان وأما أمر الإرضاع وأصول التغذية فهو بحث آخر له في هذا الباب من المكانة النصيب الأوفر فيجب أن لا ترضع الطفل سوى مرضعه ولا بأس من أرضاعه لبن البقر لكونه أجزل فائدة اللهم إذا كان خالياً من المواد الضارة عارياً من الشوائب معتنى أشد الاعتناء بفحصه وتطهيره.
ٍوخير أنواع اللباس وأفضلها لتنمية الرضع عند أول حبوه الطرق الحديثة المتبعة اليوم في(96/26)
سويسرا وألمانيا وفرنسا إذ ثبتت بالتجارب فوائدها وهي عبارة عن ألباسه سراويل قصيرة وقفطاناً قصيراً لا أكمام له ويجاب به على هاته الهيئة في الحر والقر ولا بأس من إدخاله الأماكن الثلجية لأن ذلك يزيد كثيراً في نشوئه ونمائه ولا يعود يتأثر من حمارّة القيظ ولا صبارة البرد.
ويلزم بعد تعريضه لشمس الصباح وإطعامه طعاماً خفيفاً وأراحته غب ذلك مدة ساعتين أخراجه للنزهة مساءً صحبة والديه أو أحد الخدم وإطعامه بين وقتي الظهر والعصر قطعتين من الحواري (البسكويت) أو كسرة من الخبز فإذا ما كان فارغ المعدة تزداد قوته ويكثر نشاطه ويثب ويعدو ويقع وينهض ومتى ساوره تعب يراح قليلاً ويجب العودة به إلى البيت حالاً عندما يميل ميزان النهار إلى للغروب.
ومن أفضل الطرق العصرية ألباس الطفل دائماً اللباس الخفيف وتغذيته قليلاً قليلاً لئلا تنتفخ معدته وكل طفل لطف غذاؤه وحسن لباسه وكثر أخراجه إلى المنتزهات لا تصيبه أمراض ولا تساوره أسقام.
تربية الطفل
على الأبوين إذا مسهما العوز وحاق بهما الضنك أن يجتهدا في تقليل نسلهما وعدم نمو ذريتهما لكيلا يعجزا عن تربيتهم والعناية بهم وعليهما أن يحرصا متى كبر طفلهما وبلغ أشده على أن يكون لهما أبناء آخرون.
ولقد أجمع الباحثون على أن المولود الثاني ينقص من المحبة الأول ويسبب إهمالاً في تربيته وتغذيته مما يحمله على حسد أخيه أو أخته في المستقبل وهو لكونه في دور الطفولة لا يشعر بذلك ولا يدركه لكنه على الأغلب يكون أذكى من أخيه الأصغر وأشد جسماّ وأكثر قوة وأوفر اجتهاداً ويكون حراً بحركاته وسكناته وغيابه وحضوره فيذهب أنى أراد ويدرج حيثما شاء مما يساعده على نمو جسمه وتكامل أعضائه بالنسبة للصغير الذي تكثر العناية به والمحافظة على صحته فلا يفارق والدته ولا يبعد عن بصرها والذي يحب التدقيق به الآن أي التربيتين أفضل تربية الكبير أم الصغير أتفق أرباب الاختصاص وثبت بالتجارب العديدة أن تربية الكبير تكون أفضل اللهم إذا كان المحيط راقياً والأخلاق سامية لأنه لا يجد من العطف والحنو ما يجده أخوه فلذلك يشب نشيطاً قوياً بخلاف ذاك الذي ينشأ على عكس(96/27)
هاتيك الأخلاق بالنظر للمحيط الذي نما فيه ويعاني مصاعب جمة في آخر الأمر لتغيير أخلاقه وتهذيبها.
وبعد فقد أدراك القارئ من التفاضل الذي أجريناه بين تربية هذين الطفلين أن تربية الأكبر أفضل ونرى أن مصلحة الأسرة التي مسها العوز أن لا يلد لها مولود قبل أن تنتهي من تربية طفلها الأول وبغير ذلك لا يصلح شأنها ولا يرغد عيشها.
حياة الأطفال
من القضايا المتفق على صحتها انتشار الفقر والبؤس في كل قطر وصقع وكونه عاماً شاملاً فلا يكاد يخلو منزل من فقر وفقراء وبؤس وبائسين ومع ذلك فقد أجمع أهل العلم على أنه ليس بعزيز على الأسر التي أتاخ العوز ببابه ونزل الشقاء برحابها أن تربي أفلاذ كبدها تربية جيدة وتنبتهم نباتاً حسناً متى كان أحد ركنيها عارفاً ذكياً ذا خبرة في أصولها وطرائقها.
والذي يجب أن لا نمر به الآن مرور الكرام باللغو هو اختلاف تربية أبناء الفقراء باختلاف المكان والمحيط فانك لترى الفرق ظاهراً بين تربية أبناء الأستانة وتربية أبناء دمشق كما أنك تشاهد بوناً بين تربية أبناء الفيحاء وأبناء معان واختلافاً في طرق حيلتهم ومعايشهم مما حققه علماء هذا الفن وتحتاج الإفاضة فيه إلى زيادة بحث وطول تنقيب يستفيد الأطفال الذين ينشأون في المدن الآهلة الكبرى من كل شيء - من معاشرتهم أبناء الأغنياء من اجتماعهم بأبناء الكبراء من المدارس. يستفيدون من المحيط بعكس أولئك الذين ينشأون في الأقطار القاصية والأصقاع النائية فإنهم يبدأون منذ نعومة أظفارهم عنهم بأكل خبز الشعير ويطوفون حفاة عراة في منظر غريب عجيب الفتة الأنظار في بلادهم.
أمل قد ثبت لدينا من الرسائل الأولى - أن الصغير مفتون بتقليد الكبير راغب في تحديه بأعماله وأطواره - فلذلك كان لأولى لأمثال هؤلاء الأطفال أن يدرجوا في محيط تسامت أخلاقه وطاب ورده وأزهر روضه ومن طاف البلدان الأوربية رأى هذه الحقيقة مجسمة وهبات أن يرى غلاماً مكشوف الرأس عاري الجسم يلعب بالأوحال المتراكمة والماء الآسنة متجولاً في الأزقة والشوارع كما هي الحال في بلادنا وفي كل بلاد لم تنال حظاً من الرقي ونصيباً من النهوض.(96/28)
أني سرت في هذه البلاد وكيفما طفت لا تقع عينك إلا على صبية 11لعابهم سائل أعينهم مملوءة بالعمش أظافرهم طويلة أطمارهم بالية مناظرهم مزعجة تدمي الأفئدة وترمض القلوب والحلوم.
والذي أراه أن الآباء يحملون أصر إغفالهم تربية الأبناء وخير لهم وأبقى أن لا يرزقوا ذرية تكون عبئاً ثقيلاً على المجتمع وعالة على الوطن - بإهمال التربية - ويكونوا أثمين إذا لم يلاحظوا هذه القضية - بل أتبعوا أهواءهم ويجب علينا أن نفكر كثيراً قبل العمل ثم نطبق عملنا على الفن وأصوله.
أذواق الأطفال في لعبهم
يتلذذ الأطفال ويسرون بكل ما يشاهدونه أمامهم منذ تخلصهم من أسر القماط المعروف إلى عام أو عامين ويظلون هكذا يتنعمون بهذه اللذائذ حتى يصلون إلى سن الإدراك فيظنون بكل ما يرونه أمامهم أنه من المشاهد المضحكة وعندما يبلغون سن التمييز يظهر منهم أمور غريبة تلفت الأنظار. وهذه الحلة تحتاج لعناية خطيرة ولأعمال النظر فيها باهتمام فالأطفال الذين ينشأون تحت مراقبة مربي صالح لا يمكن أن يكونوا على عكس ما نشأوا عليه ولا يظهر منهم أمور سيئة.
وفي أغلب الأحايين نرى الأطفال يتلذذون باللعب المختلفة في سن الطفولية وبعد اللعب يأتي دور الملاهي الممنوعة كالتسلي بخوض المياه وغيره فالطفل الذي لم يتكامل دماغه بعد يظهر بمظاهر الإدراك بحسب ما يلقنه محيطه إذ من الأمور الراهنة الطبيعية أن الطفل ينقاد دائماً لتقليد ما يمثل أمامه لأن الأطفال لا ينشأون على حالة واحدة مهما كانت دواعي الألفة مبذولة بينهم أي أننا نرى ما يسر هذا الطفل يسوء ذاك وما ينفر منه ذاك يلذ هذا وهذه القضية ثابتة بأمثالهم بين العائلات التي يوجد بها أكثر من واحد إذ كثيراً ما نرى أنه بين أطفال العائلة الواحدة من يلذ له الاستحمام في أن أخاه ينفر منه أشد النفور وبينما نجد الأول جريئاً حراً نرى الآخر خجولاً خاملاً.
قلنا أن تعلة الأطفال من حيث النظرة العمومية هي الأالأعيب فهذه المسألة الأالأعيب التي نرها تافهة في نظرنا هي ذات شأن تحتاج للبحث والتنقيب في بلادنا فلذلك أريد أن أضع قياساً فارقاً بين الألعاب الأوربية وبين تلك التي يميل إليها أطفالنا في بلادنا وأني على(96/29)
يقين بأن القراء الكرام سيضحكون من هذا القياس الذي سأوضحه هنا لنلاحظ اللعب التي يتسلى بها الأطفال الأوربيون كتب مصورة ضخمة ومجلدة على أحسن حالة لئلا تتمزق بسرعة أدوات زراعية صغيرة الحجم جداً ووسائط نقلية أيضاً من الحجم الصغير وحيوانات متنوعة مصنوعة من الخشب ثم أعلام وعلائم وشعائر كثيرة الخ.
أما اللعب التي أعتدنا أن نقدمها هنا لأطفالنا فهي على الأكثر عبارة عن قطعة خشب صغيرة جعلت لإزعاج سامعيها بصوت دورانها على محورها يعبر عنها في البلاد التركية بثرثرة العجوز ودف صغير وحربة صغيرة ومظلة من ورق وطبل وزمر الخ. وما أظنني مبالغاً فيما قلته بهذا الصدد وأنه ليلذ لي كثيراً تدقيق هذه التوافه وتتبعها فلذلك أقول أن هذه السطور هي نتيجة أبحاثي الدقيقة فلا يمكن أن يكون فيها مبالغة أو زيادة.
تربية الصغار بين الكبار
حينما يأخذ الصغار يستفيدون من محيطهم وتمييز ما يرونه ويشعرون به يجب أن يقضوا معظم أوقاتهم مع الكبار أكثر من أترابهم ونعني بالكبار أفراد العائلة الذين هم منه ولا تزال مسألة حضور الصغار مع الكبار محل الخلاف في محيطنا فبعضهم يرى أن تكلم الصغار في مجالس الكبار ناشئ من عدم التربية ويمنع الصغار من كلام الكبار والتكلم في مجالسهم وأن يظلوا وقوفاً في مجالسهم ولا يجلسوا ويقتصرون على النظر أمامهم إلى غير ذلك وبعضهم يرى عكس هذا ويوصي بمنح الصغار الحرية التامة وباختلاطهم دائماً بالكبار كي يستفيدوا من مجتمعاتهم ويحث على اندماجهم في جمعياتهم وقبولهم فيها وهناك فريق من المتخصصين لهم آراء متباينة في هذه المسألة فنحن نصرف النظر عن الجميع ونفكر فيما يقتضيه محيطنا فنرى العلم لم يرتقي فيه الشعب إلى مستوى متقارب كما هو معلوم بالبداهة وبذلك يجب أن لا نتمسك بأقوال أحد الفريقين في هاته المسألة بصورة مطلقة بل لا بد لنا من التوقي من الإفراط وملازمة الاعتدال فكما شاهدنا الصغار شديدي الوقاحة فيما إذا بش في وجوههم أكثر من اللازم نرى الصغير من فرط العبوس في وجهه ينشأ شديد الخجل كثير السكوت إلى درجة مذمومة ولذلك نرجح أن تربي كل عائلة وبتعبير أصح كل والدين أولادهما حسب تربيتهما الاجتماعية والمسألة المعضلة هنا هي معرفة التربية الاجتماعية لكل عائلة حتى ينتقي منها الأحسن لأن لكل محل من بلادنا أصولاً في التربية(96/30)
مستقلة لا يشاكل فيها غيره فنحصر نظر البحث الآن في القطر السوري ونقول أن حياة العائلي في أوربا تكاد تنحصر في ثلاث طبقات: الأولى الكبار والثانية الأوساط والثالثة الصغار أعني العوام أما عندنا نحن فلا تجد غير طبقتين بوجه عام. وأما في سوريا فقد أرانا البحث بأن الأقسام ثلاث في جهات عديدة تقليداً لأوربا وحينئذ يلزمنا أن ندع الطبقة الأولى ونبحث في الاثنتين ونتخير لهما أصولاً معتدلة فنقول: يجب الاعتناء التام في تربية الصغار على عدم الإفراط في الحرية لتزداد حريتهم تدرجياً بتقدم أعمارهم وبرعاية هذه القاعدة لا ينشأ الصبي وقحاً بل فطناً نير الفكر نعم يجب توقي هذا الشرط في كل محيط يقل فيه سلطان التربية أما في الأسر الكاملة التربية الاجتماعية فيمكن حضور الصغار في مجالس الكبار غالباً بشرط أن تكون تلك المجالس مما يستفيد منه الصغار ولو بعض الاستفادة بحيث يدور حديث تلك المجالس حول مسائل جدية مفيدة وأن يجارب الصغار الحاضرون بصفة مستمعين في هذه المجالس على أسئلتهم البسيطة ويوضح ما غمض على أذهانهم فإن هذا لا يخلو من الفائدة أن الألعاب التي تعطى أطفال الأوربيين النابتين في الأوساط المتمدنة مختلفة في أصولها فيعطى فيها الطفل مثلاً سيارة (اوتوموبيل) صغيرة جداً من وسائط النقل ويشرح لها من مخترعها وما هي وتاريخ اختراعها والبلاد والمعمل الذي صنعت فيه ويذكر له فوائدها ويحلل له تراكيبها كل ذلك بدروس موجزة تلائم ذوقه حتى إذا تعلم الطفل هذا الدرس 11ذهنه بحركة عقله فيخطو خطوة نحو الترقي ثم يناولونه محراثاً ذا عجلات وآلة تذرية مثلاً من الآلات الزراعية ويكن بقياس صغير أيضاً ويشرحون له ما يتعلق بتينك على الآلتين على حسب ما تقدم وفي أثناء الحديث يستطردون إلى بيان ما للآلتين من العلاقة بزراعية المملكة ويزيدونه شرحاً كلما أنسوا فيه رشداً وذكاء ثم يناولونه راية أمته وبلاده مثلاً وبينما هو يلعب بها يفهمونه ما لها من الموقع العظيم في أفئدة الشعب وكيف يلتفون حولها ويدافعون عن حمى بلادهم متحدين منضوين تحت ظلها وما لهم من عظيم السعي لنيل هذه الأمنية وما للعلم والمعرفة من ترقية الأمة في سلم التمدن ومعارج الترقي والكمال كل ذلك بطريقة بسيطة جداً أشبه بالهزل منها بالجد فيحب الطفل هذه الألعاب بطبيعته ويأنس بها ويسعى في حفظها وتعليق الفوائد الخاصة بكل واحدة منها فينشأ على هذه الصورة نير الفكر ثاقب الذهن أما الصغير(96/31)
فعندنا يلعب من الصباح إلى المساء بدف مثلاً وحينما يستوحش من صوته المزعج ولا يحظى بفهم الغرض منه تنقبض روحه فيعمد إلى كسره وتمزيق جلده ويلقي به على الأرض محطماً لا فائدة فيه فيقوم مربيه ويعد هذه الأعمال جريمة منه فيعاقبه عليها بضربه بالعصا أيضاً. وهذا كله واقع لا مبالغة فيه فماذا تستفيد الأطفال التي تربى على هذه الصورة.
لابد أن تضطر للاختفاء عند أرادة أي عمل كان معتاد القبائح أكثر من المحاسن وتجنح إلى الأخلاق السيئة الرديئة وتساق إليها على خط مستقيم. وتشب على ذلك
لا ينبت فيها شعور حب الوطن والأمة والعلم والمعرفة والتضامن وتبقى جاهلة بكل شيء إلى أن تدخل المدارس وتختلط بصبيانها. فحبذا لو بالاستفادة من كل ذرة في محيطهم وتعودهم ذلك فتستنير أفكارهم فينشأون ثاقبة أذهانهم كاملة قوامهم حميدة أخلاقهم.
الأطفال والموسيقى
الموسيقى لازمة للإنسان غير مفارقة له وهذا لا ينكره أحد الناس. فكما أن أكثر من الأخلاق السيئة في العصور الأخيرة قد أصلحت بالموسيقى كذلك نرى بعض الأمراض قد أخوا بمداوتها بالموسيقى وحققت التجارب أن الحيوان كالإنسان يتأثر بالموسيقى ويتلذذ بها. والموسيقى تتبدل في كل أمة بحسب تربيتها ونشأتها فالموسيقى الشرقية مؤثرة جداً من حيث مبادئها بيد أن الموسيقى في الشرق ولاسيما في هذه المملكة قد أهمل أمرها في الدور السابق كما أهمل فيها كل نافع حتى كادت تنقرض بالتدريج
والغاية من هذه المقدمة الصغرى تلقين الأطفال منذ نعومة أظفارهم فوائد الموسيقى وأن يعلم الأبوان أن من واجبهم ولوع أولادهم بالأصوات الموسيقية أو بإحدى الآلات الموسيقية وتعليمهم التلذذ بها فقد أثبتت تجارب الأخصائيين بعلم النفس أن المولعين بالموسيقى يجئ منهم بالنسبة لغيرهم أناس رقيقة عواطفهم مهذبة حواشيهم فالواجب اعتبار الموسيقى وتأثيرها الخارق للعادة على هذا النحو وأن لا يتخذ معياراً للموسيقى ما يسمع من الألحان المغلظة في بعض القهاوي والمسارح من أفواه الموسيقيين المتوسطين وآلاتهم: فالموسيقى شعر والشعر موسيقى.
أن من اعتادوا الموسيقى منذ صغرهم لا يدخل عليهم السأم في أوقات الفراغ ولا القفار(96/32)
والجبال فكل آلة موسيقية مهما كان نوعها تسلي الإنسان وتشغله في أي مكان نزل وتكون له في أوقات الاضطراب خلاً وفياً وعشيراً صفياً تذكره الماضي وتفتح له باب التفكير في المستقبل. وإذا بحثنا في أسباب ارتقاء مدنية أوربا إلى هذا الحد نجد للموسيقى تأثيراً كبيراً فيها فبدلاً من أن يولع الأطفال أوقات الفراغ بالعبث فيجتمعوا أثنين أو ثلاثة في ناحية يلعبون بالنرد أو الورق أو غيرها من الألعاب إذا مالوا للاستفادة مما في أيديهم من لآلات الموسيقية تعلو عواطفهم بالطبيعية وتزيد صلاتهم الودية وروابطهم الأخوية أمام غيرهم وينمو في الوقت نفسه ولوعهم بالشعر وبهذه الصورة تنبعث عواطفهم الوطنية ويزيد ارتباطهم بوطنهم ولا يفوتنا أن كثيراً مما عم بين الناس من الموسيقى قد كتب على صورة عادية بسيطة عامية فكما أن الشاعر يكتب عواطفه في الحوادث المؤلمة المؤثرة فالموسيقار كذلك فالموسيقى كالشعر شقيقان متلازمان. الموسيقى من الأمور الذوقية على كل حال فلأشغال الأولاد بها منذ عهد الطفولية وإشباعهم بعواطف الوطنية والقومية ليكون من الموسيقى فرض يقومون به آونة الفراغ واسطة لذكرى آبائهم وأجدادهم وتخليد لأسمائهم ويلقنوا رقة العاطفة - يجب أن تملأ أسماعهم على هذه الصورة حتى يتعشقوا الموسيقى ويتألف من أفراد الأسرة جوقة موسيقية.
كل مدرسة ابتدائية ووسطى في أوربا تحوي في برنامجها درساً في الموسيقى لا يقل عن ساعتين في الأسبوع فالدروس الأولى يكون منها تعويد الأطفال على الأصوات الموسيقية فقط وبعد سنة أو سنتين يعودون النفخ في آلة موسيقية على صورة لا تضر برنتيهم ومع الأسف أننا لا نجد في هذه الأصول وإذا رأينا في مدارس دمشق آلات موسيقية فإن ذلك منحصر في الطلبة المشتركين بهذا الدرس أما غيرهم فلا يستفيدون من ذلك وهذا ليس من الصواب في شيء ويشترط في تعليم الأطفال المزمار والكرنيتة وغيرهما من الآلات الموسيقية أن تعاين رئاتهم فكما أن الإفراط في كل شيء مضر كذلك الحال في تعليم الموسيقى الآلية للأطفال يجب أن يعلموها بحيث لا تضر برئاتهم.
أثبتت الحر الحاضرة شجاعة خارقة وبسالة فائقة للجند الألماني. وإذا تأملنا في سبب ذلك لم نجده الأمن تشبعهم بلبان الوطنية السارية في عروقهم من تأثير الموسيقى بدرجة فاقوا فيها الجند الفرنساوي. نعم نحن لا نشكر أن الموسيقى أكثر ما تلائم الألسن اللطيفة اللهجة(96/33)
الآخذ طرز أدائها بمجامع القلوب ولذلك رقى فن الموسيقى رقياً عظيماً في ايطالية فاللسان الألماني مع أنه أصعب الألسن من جهة التلفظ به نجد أن الذين يتولون أمر التلحين في أكثر مسارح التمثيل الأوربية بالموسيقى هم أساتذة ألمان.
فقد أظهر الموسيقيان الشهيران بتهوفن وفاغنير وأمثالهما خوارق مدهشة في هذا الفن الجميل وما زالت أسماؤهم تتردد على الألسن كما تردد الأمثال وصدى ألحانهم يقرع الأسماع آناً فآناً وكلما ذكرا هتف ذوو الطرب أعجاباً بذكرهما وتنويهاً بفضلهما إما في بلادنا فنجد آثاراً موسيقية كثيرة مكتوبة باللسان العربي من الألسن القديمة لكن هذا الفن أيضاً قد فيه تشريك الدين كما أريد ذلك في غيره فأصبح فن الموسيقى كأنه من الأمور المحظورة ديناً والفنون النبوذة تعبداً وهكذا الحال عند الأتراك أيضاً أما العثمانيون غير المسلمين فتجد لكل طائفة منهم فن موسيقى مدوناً بلسانها وهذا الفن يشرف لديهم بقدر اهتمامهم في تحسينه وترقيته نعم قد شاهدنا بمزيد المسرة في المدة الأخيرة إضافة فن الموسيقى على دروس المدارس الابتدائية وتأسيس دار للفنون الجميلة في استانبول ومن بحث في علوم النفس وأمعن نظره فيها يجد أولاد أكبر المتبحرين في الموسيقى وكثيرين من أقربائهم المنسوبين إليهم - قد سلكوا هذا المسلك اللطيف أسوة بآبائهم.
أما في بلادنا فقلما نشاهد من يحترف حرفة مطلقاً فضلاً عن أن يشتغل بفن جميل كالموسيقى مثلاً. ولذلك تجدنا في حاجة شديدة إلى ألقاء دروس متوالية حتى على
الأطفال الذين لا صنعة لهم - في محاسن فن الموسيقى ولذائذه بذلك ينتعش في محيطنا الشعور بفوائد الموسيقى فتنهض لترقيته وتحسين طرائقه الجمعيات المختلفة ويجب علينا أن نسمع ناشئتنا ألحاناً موسيقية مؤثرة كلما ما أقتضى الحال الأخذ بجامع قلوبهم من المقرر أن الأمم لا ترقى بغير المعارف لا تنتشر بغير الموسيقى فأنت ترى الكتيبة من الجند الخائضة لجج الوغى تلقي نفسها في أمواجه أن تقدمتها جوقة موسيقية تؤثر في أعصابها بأنغام وطنية وألحان مطربة فلا تعود تفكر في غير حب الوطن ويرخص لدينا بذل الأرواح في سبيل الدفاع عنه وأنك لتجد لكل أمة آلات تخص موسيقاها كما أن لنا آلات موسيقية خاصة بأمتنا ولساننا.
ولا يخطر ببال بعضهم أن آلاتنا الموسيقية عبارة عن الطبل والمزمار فهذا فكر سخيف بل(96/34)
منها الكمنجة والطنبور والعود والقانون والدف فهي معدودة من أهم الآلات الموسيقية بل هي الموّلدة تقريباً للآلات الموسيقية الأوربية وإذا ما خطونا خطوة واسعة في ساحة الرقي في هذا الفن يمكننا أن نحيط علماً حتى بالآلات الأوربية ونؤلف بينها وبين آلاتنا.
وملخص القول أنه يجب علينا أن نعلم الأطفال على كل حال فن الموسيقى ونذيقهم طعمه ليرغبوا في تحصيله.
الصغار والكبار
لا يخفى أن الجواب على الأسئلة التي يلقيها الطفل في أي مجلس كان وشرحها له وتفهيمه ما غمض عليه برفق أوفق بكثير من إسكاته وأنتهاره لأن الطفل يغلب عليه العناد والإصرار في طور طفولته فإذا لم يفهم ما سأل عنه في ذلك المجلس تتوق نفسه لتطلب خارجا عنه وبذلك تفشو مفاوضات المجالس الخصوصية وأما كيفية إفادة الطفل وتلقينه المعلومات في المجالس فهي: الاستفهام منه مثلاً وسؤاله عن رأيه في الموضوع والبحث عن درجة فكره ومحاكمته فإن كل هذا مما يرقيه وينير بصيرته.
ويلزم أيضاً تربية الطفل على مفارقة المجالس بمجرد ما تدعوا الحاجة إلى زيادة التبسيط في الكلام بين الكبار والتكلم في الشؤون الشخصية ويقتضي أيضاً أن يلقن الطفل بأسلوب لطيف وفي أوقات مناسبة كلما سنحت الفرصة بأن لا يفشي الباحث الخصوصية التي تتخلل الأبحاث العامة ويجب على الوالدين يلاطف أبنه في الدار صباحاً وكلما عاد إليها مساءً ويتفقده ويسأله عما استفاد في ذلك اليوم.
ولا مرية في أن أجوبة الطفل في أول الأمر عن تلك الأسئلة تكون تافهة ولكنها تتحسن بقدر عناية والده في تصحيحها وانتقادها وتنبيهه لما يجب كتمه ووصايته باجتناب تكرار الحديث وإفهامه أن جميع ما ذكر مغاير للآداب ويسلك في تربيته على ذلك طريق الإقناع فإن مباحثته بذلك بصورة موجزة كل يوم تؤثر في الطفل تأثيراً شديداً فيتربى على رعاية آداب البحث والمناظرة عندما يتكلم بمحضر أبيه واعتياد حرية القول والفكر في أعمال كل يوم يقضيه وفي محاكمة تلك الأعمال ويلزم أن ينبه على قيمة الوقت وأنه بمثابة النقد لا ينفق إلا في مصلحة ويوصى باحترام النساء والشيوخ أي الطاعنين في السن من الرجال وكل هذه النصائح لا تلقى متعاقبة على شكل درس خاص بل تلقى إليه في المناسبة وفي(96/35)
خلال الحديث.
ومتى أخطأ الطفل يجب أن لا ينهر بألفاظ بذيئة ويحقر بجمل قبيحة بل ينبه إلى خطاءه برفق ويمنع بلطف عن بذاءة اللسان أن سرى إليه من الخطاء والمعاشرين في الخارج ويعود ترك ذلك بالإشارة بالعين والحاجب لا بالسب والشتم.
وعلى كل حال يجب أجادة التدبير في تربية الأطفال فإنا كثيراً ما نرى الأطفال الذين يغشون المجالس الخاصة عندما تمس الحاجة لإخراجهم - يقفون على لبوابهم متجسسين فإذا تربى الطفل على هذه العادة السيئ فشغله بعمل آخر أولى من أخراجه من المجلس كأن يشغل بمناولة كتاب فيه صور وحكايات وقصص إن كان ممن يقرأ وتكليفه ببعض وظائف إلى غير ذلك من الوسائل التي تمنعه عن الاشتراك في خصوصيات المجلس ويتجنب مهما أمكن بذاءة اللسان أمامه حتى لا يعتاد ويربى على أعطاء الجواب عن كل ما يسأل عنه.
الأطفال والمدارس
لا يخفى أن التحصيل الابتدائي إجباري في كل مملكة وهذا القانون مع أنه نفذ عندنا أيضاً ما زلنا نرى بعين الأسف أن عدد الطلبة في مدارسنا الابتدائية قليل جداً فهو عبارة عن 429924تلميذاً مع أن نفوس بلادنا تعد بالملايين هذا من الذكور أما الإناث فهن أقل من القليل ولا يعزب عن فهم اللبيب أن رقي الأمة التي تحررت من ربق الاستبداد ودخلت دور الحكم النيابي منوط بترقيها في معارج المعارف وأنك لا تكاد تجد أمياً في أوربا على أن ملكة الاختراع والاكتشاف والإبداع لا ترسخ في النفس إلا بمزاولة العلوم والبراعة في الصناعة كما أن المدنية لا تنال إلا بالتوغل في التربية العلمية والأخلاقية ومع أن هذه الحقائق مسلمة عند كل أحد لا تزال تجد أطفالنا خابطين في ديجور الجهالة لعدة أسباب يجب أن ننظر فيها.
بينما ترى الصبي في أوربا يسارع للمدرسة بشوق ونشاط تشاهد الطفل يفر منها كلما وجد إلى الفرار سبيلاً لأنه يذوق طعم التحصيل وسبب هذا النفور يحتاج لأضاح وبيان والذي أراه أن أعظم الأسباب في نفرته هذه جهل المعلمين عندنا بطرق التربية والتعليم على أن جهل المعلمين بهذه الأصول لا يعد جريمة منهم فإنهم أيضاً لم يتعلموا تلك الأصول.
تجد عندنا كل شاب نشأ من المدرسة الملكية أو الحقوق يبادر إلى دوائر الحكومة حتى(96/36)
يكون مأموراً ولا تجد المعلمين إلا من أئمة المحلات الذين تعلموا شيئاً يسيراً من القراءة والكتابة أو من العاجزين عن البلوغ إلى درجة مأمور ومن السالكين مسالك تكفل لهم معيشتهم خاصة وزد على هذا أن ما كانت تدفعه الحكومة قبيل الآن إلى معلمي المدارس الابتدائية لا يمكن أن يسد عوزاً أو يكفي أحداً.
وبهذا تعذر على الراغبين في فن التعليم من الشبان المقتدرين القيام بأداء هذا الواجب لكن قد تنبهت الأفكار أخيراً لذلك فشرع في تزيد عدد المدارس الابتدائية وتوفير رواتب معلميها كما هي الحال في سائر البلاد فزال هذا المانع وبقيت عدة موانع منها أن الأطفال في أوربا مع كونهم لا يبلغون في الذكاء والفطنة مبلغ أطفالنا تراهم تعلموا القراءة والكتابة في زمن قليل وأما عندنا فيقضي الطفل زمناً طويلاً ليبلغ ما بلغه الناشئ في أوربا وسبب هذا التفاوت أن الطفل عندنا لم يذق لذة القراءة والكتابة وذلك بسبب أتباع الأصول العقيمة في تعليمه فإننا نبادر بتدريس الكتب في مدارسنا ونلقيها على أطفالنا الصغار بدون أن نفهمهم ما تضمنته ونعامل الطفل بقساوة زائدة أثناء التعليم فتنقبض روحه من شدة التضييق عليه وتنحبس نفسه من الجلوس على تلك المقاعد الملوثة فتميت هذه الأحوال في الطفل حاسة التعليم ورغبته في التحصيل.
ولا يجب أن يعطى الطفل حين دخوله المدرسة الكتب ومماثلها بل يجب تعليمه بعض الموجودات والأشياء بأشكالها الطبيعية وبث محبة العائلة والمدرسة والوطن في روحه وتوصيته باحترام معلمه وقذف بزور الاعتماد والثقة والارتياح والأماني في روحه وتوليد حس فيه يربطه في المدرسة أشد الربط وتعويده الطهارة والنظافة والاستفادة من الوسط والمحيط الذي يعيش فيه وترغيبه في التفريق بين النافع والضار وتحبيبه إلى أخوانه ورفقائه وتشويقه للقراءة في الكتاب المصور الذي يعطى له بعد ذلك وأما إذا ناولته كتاباً من أول الأمر وأجبرته على حفظه بالضرب على رأسه فلا شك أنه يتولد فيه حس يمزق به ذلك الكتاب ويسارع إلى الفور من ذلك الباب ولا يعود يثق بمعلمه وبهذا الأسلوب العقيم لا يمكن أن يتعلم تلميذ أصلاً.(96/37)
آداب المعاشرة
كن عن حسودك معرضاً ولئن بدا ... لك ودّه فالحق ليس ببارح
داء الحسود بطبعه فزواله ... أعيا على جهد الطبيب الكادح
وأحذر معاشرة اللئيم فإنه ... مترصد لك كل شر سانح
وإذا جلست بمجلس فاظهر لمن ... فيه ظهور معاشر متسامح
وتجنّب الدعوى فخجلة مدعٍ ... ما ليس فيه شرّ عار فاضح
نزّه كلامك عن قبيح تصنع ... وإذا مزحت فكن أخف ممازح
ولما رأيت السامعين إليك قد ... أصغوا فلا تذهب لفرط تفاصحٍ
خير الكلام بلغيه فارغب به ... ليس المطيل من الكلام بفالح
وأعلم بأن سواك ممن ضمنه ... ذاك المقام يروم فرصة طامحٍ
فأفسح له وقتاً لبسط حديثه ... لا تحتكر لك كل سمع جانح
وأحذر أشارات اليدين ولاتكن ... متلفتا مثل الخطيب الباجح
وأحذر مقال أنا فعلت وأنني ... أهوى كذا وكذا سوس مصالحي
لا تجعلنّ أمور نفسك محوراً ... يبدو حديثك حواسه بفواتح
كلٌله أمره شغل فلا ... تحسب أمورك ذات قدرٍ راجح
وأختر مواضيع الحديث جميعها ... إلا حديثك عنك غير مسامح
أن الجراح أشدها في كلمة ... فأحفظ لسانك من كلام جارح
لا تثنينّ على مريء بحضوره ... فبغية الممدوح صدق المادح
والمال مثل الغيث يسقط تارةً ... فوق الصخور وتارة في راشح
والفضل ليس ينال يوماً بالمنى ... وتصادف أو حكم بخت رابح
فإذا عصتك من الفنون جماعة ... فانظر إلى ميلٍ بطبعك راجح
من رام جمع محاسن الدنيا فقد ... يبلى بفقدان القليل الصالح
إن التشبه بالكرام فضيلة ... لا باختلاس ظواهر وملامح
فالقرد يحكي كل ما نبديه من ... حركاتنا ويكون هزأة مازح
ليس الفتى بثيابه أو لفظه ... لكن بعرفانٍ أو قلب ناصح
كم ذي ثيابٍ رثة من تحتها ... نفسٌ عزوف عن أذى وفضائح(96/38)
ولكم فتى ذي بزة محمودة ... من خلفها نفس ألوف قبائح
لا تعجبنّ برأي نفسك أو بما ... صنعت يمينك من صنيع ناجح
أو الذي أوحاه فكرك وأنتظر ... كيما يكون سواك شخص المادح
لا تنكرنّ على سواك مزية ... أو تجحدنّ فضيلة لمناصح
وإذا غلطت فقل غلطت صراحةً ... لتنال حظ ذوي الكمال الراجح
وأحذر مجادلة العنيد فما له ... عن غيه وغروره من كابح
وأشكر لمن أولادك خالص نصحه ... حقٌ علينا شكر فضل المانح
حلب
قسطاكي المحصي(96/39)
فوات نهج البلاغة
ومن كلامه لما نزل بذي قار وأخذ البيعة على من حضره ثم تكلم فأكثر من الحمد لله عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال قد جرت أمور صبرنا عليها وفي أعيننا القذى تسليماً لأمر الله تعالى فيما امتحنا به ورجاء الثواب على ذلك وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم نحن أهل بيت النبوة وعترة الرسول وأحق الخلق بسلطان الرسالة ومعدن الكرامة التي ابتدأ لله بها هذه الأمة وهذا طاحة والزبير ليسا من أهل النبوة ة لا من ذرية الرسول حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضيين ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عني ثم دعا عليها.
ومن كلامه عليه السلام.
ما رواه عبد الحميد بن عمران المجلي عن سلمة بن كهيل قال لما التقى أهل الكوفة أمير المؤمنين بذي قار رحبوا به ثم قالوا الحمد لله الذي خصنا بجوارك وأكرمنا بنصرتك فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل الكوفة أنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم تقويماً وأعداهم سنة وأفضلهم سهماً في الإسلام وأجودهم في العرب مركباً ونصانباً أنتم أشد العرب وداً للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته وأما جنتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير وخلفهما طاعتي وإقبالهما بعائشة للفتنة وأخرجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة فأستغروا طغامها وغوغاءها مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم وخبارهم في الدين قد اعتزوا وكرهوا ما صنع طلحة والزبير ثم سكت فقال أهل الكوفة نحن أنصارك وأعوانك على عدوك ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه فدعاهم أمير المؤمنين عليه السلام وأثني عليهم ثم قال لقد علمتم معاشر المسلمين أن طلحة والزبير بايعاني طائعين غير مكرهين راغبين ثم استأذني في العمرة فأذنت لهما فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين وفعلاً المنكر اللهم أنهما قطعاني وظلماتي ونكثا بيعتي وألبا الناس عليّ فاحلل ما عقدا ولا تحكم ما أبرما وارهما المساءة فيما عملا.
ومن كلامه عليه السلام وقد نفر من ذي قار متوجهاً إلى البصرة
بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله أما بعد فإن الله تعالى(96/40)
فرض الجهاد وعظمه وجعله نصرة له والله ما صلحت دنيا قط ولا دين إلا به وأن الشيطان قد جمع حزبه وأستجلب خيله وشبه في ذلك وخدع وقد بانت الأمور وتحمصت والله ما أنكروا علي منكراً ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً وأنهم ليطلبوا حقاً تركوه ودماً سفكوه ولئن كنت شركهم فيه أن لهم لنصيبهم منه وإن كانوا وله دوني فما تبعته إلا قبلهم وأن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم وأني لعلى بصيرتي ما نبست علي وأنها للفئة الباغية فيه اللحم واللحمة قد طالت هلبتها وأمكنت درتها يرضعون ما فطمت ويحيون بيعة تركت ليعود الضلال إلى نصابه ما أعتذر مما فعلت ولا أتبرأ مما صنعت فيا خيبت للداعي ومن دعا لو قيل له إلى من دعوك وإلى من أحببت ومن أمامك وما سنته إذا لزاح الباطل عن مقامه ولصمت لسانه فما نطق. وأيم الله لا فرطن لهم حوضاً أنا ماتحه لا يصدرون ولا يلقون بعده ريا أبدا وأني لراض بحجة الله عليهم وعذره فيهم إذا أنا داعيهم فعذر إليهم فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذولة والحق مقبول وليس على الله كفران وأن أبوا أعطيتهم حد السيف وكفى به شافياً من باطل وناصراً لمؤمن.
ومن كلامه عليه السلام حين دخل البصرة وجمع أصحابه فحرضهم على الجهاد فكان مما قال عباد الله أنهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم بقتالهم فإنهم سكنوا بيعتي وأخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة وقتلوا السيايجة ومثلوا حكيم بن جبلة العبدي وقتلوا رجالاً صالحين ثم تتبعوا منهم من نجا يأخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبراً ما لهم قاتلهم الله أني يؤفكون أنهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم والقوم صابرين محتسبين تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم ولقد وطنتم أنفسكم على الطعن والضرب الطلحفي ومبارزة الأقران وأي أمري منكم أحسن من نفسه رباطة جاش عند اللقاء ورأى من أحد من أخوانه فشلاً فليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله.
ومن كلامه عليه السلام عند تطوانه على القتلى
هذه قريش جدعت أنفي وشفيت نفسي لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيف وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ولكنه الحين وسوء المصرع وأعوذ بالله من سوء المصرع ثم مر على معيد بن المقداد فقال رحم الله الذي أوقعه وجعل الأسفل أنا والله يا أمير المؤمنين لا نبالي(96/41)
من ضد عن الحق من والدٍ وولد فقال أمير المؤمنين رحمك الله وجزاك عن الحق خيراً قال.
ومر بعبد الله بن ربيعة بن دراج وهو في القتلى فقال هذا اليائس ما كان أخرجه.
وأدين أخرجه أم نصر لعثمان والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن
ثم مر بمعبد بن زهير بن أبي أمية فقال لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام والله ما كان فيها بذي نخيزه ولقد أخبرني من أدركه أنه ليولول فرقاً من السيف ثم مر بمسلم بن قرظة فقال البر أخرج هذا والله لقد كلمني أن اكلم عثمان في شيء كان يدعيه قبله فأعطاه عثمان وقال لولا أنت ما أعطيته أن هذا ما علمت بئس أخو العشيرة ثم جاء المشوم المجين ينصر عثمان.
ثم أمر بعبد الله بن حميد بن زهير فقال هذا أيضاً ممن أوضع في قتالنا زعم يطلب الله بذلك ولقد كتب إلي كتباً يؤذي عثمان فيها فأعطاه سيئاً فرضني عنه ثم أمر بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال هذا خالف أباه في الخروج وأبوه حين لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا وإن كان قد كف وجلس حين شك في القتال ما ألوم اليوم من كف عنا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا.
ثم مر بعبد الله بن المغيرة بن الأخلس فقال أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج مغضباً لقتل أبيه وهو غلام حدث جبن لقتله.
ثم مر بعبد الله بن أبي عثمان بن الأخلس بن شريق فقال أما هذا فكأني أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف هارباً يعدو من الصف فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت حتى قتله وكان هذا مما خفي على فتيان قريش أغمار لا علم لهم بالحرب خدعوا وأستزلوا فلما وقفوا لحجوا فقتلوا.
ثم مشى قليلاً فمر بكعب بن سور فقال هذا الذي خرج علينا في عنقه الصحف بزعم أنه ناصر أمه يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعل ما فيه ثم أستفتح فخاب كل جبار عنيد أما أنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله أجلسوا كعب بن سور فاجلس فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا كعب لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ثم قال أضجعوا كعباً ومر على طلحة بي عبيد الله فقال هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة(96/42)
والمجلب علي والداعي إلى قتلي وقتل عترتي أجلسوا طلحة بن عبيد الله فاجلس فقال له أمير المؤمنين عليه السلام يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ثم قال أضجعوا طلحة وسار فقال له بعض ومن كان معه يا أمير المؤمنين أتكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما فقال والله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر.
ومن كلامه عليه السلام بالبصرة حين ظهر على القوم
بعد حمد الله تعالى والثناء عليه أما بعد فإن لله ذو رحمة واسعة ومغفرة دائمة وعفو جم وعقاب اليم قضى أن رحته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلفه وبعد الهدى وما ضل الضالون فما ظنكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم علي عدوي فقام إليه رجل فقال نظن خيراً ونراك قد ظهرت وقدرت فإن عاقبت فقد أجترمنا ذلك وأن عفوت فالعفو أحب إلى الله تعلى فقال قد عفوت عنكم فإياكم والفتنة فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا الأمة قال ثم جلس للناس فبايعوه
وكتب إلى أهل الكوفة بالفتح
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الله الذي لا آله إلا هو أما بعد فإن الله حكم عدل لا يغير ما11 حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال أخبركم عنا وعمن سرن إليه من جموع أهل البصرة ومن تأشب إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ونكثهم صفقة إيمانهم فنهضت من المدينة حتى قدمت ذا قار فبعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر وقيس بن سعد فاستنفرتكم بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحقي فأقبل إلي أخوانكم سراعاً حتى قدموا علي فسرت بهم حتى نزلت ظهر البصرة فاغدرت بالدعاء وقمت بالحجة وأقلت العثرة والزلة من أهل الردة من قريش وغيرهم واستتبتهم من نكثتهم بيعتي وعهد الله عليهم فأبوا إلا قتالي وقتال من معي 11 في الغي فنافستهم بالجهاد فقتل الله من قتل منهم ناكثاً وولى من ولى إلى مصرهم وقتل طلحة والزبير على نكثهما وشقاقهما وكانت المرأة عليهم أشأم من ناقة الحجر فخذلوا وأدبروا وتلطعت بهم الأسباب فلما رأوا ما حل بهم سألوني العفو عنهم فقبلت منهم وأغمدت السيف(96/43)
عنهم وأجريت الحق والسنة فيهم واستعملت عبد الله بن العباس على البصرة وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله وقد بعثت إليكم زجر بن قيس الجعفي أتسألوه فيخبركم عنا وعنهم وردهم الحق علينا ورد الله لهم وهم كارهون والسلام عليكم ورضى الله وبركاته.
ومن كلامه عليه السلام حين قدم الكوفة من البصرة
بعد حمد الله والثناء عليه أما بعد فالحمد لله الذي نصر وليه وخذل الصادق المحق وأذل للكاذب المبطل عليكم يا أهل هذا المصر بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذي هم أولى بطاعتكم من المنتحلين المدعين القائلين إلينا إلينا يتفضلون بفضلنا ويجاروننا أمرنا وينازعونا حقنا ويدفعوننا عنه وقد ذاقوا وبال ما أجترحوا فسوف يلقون غياً قد قعد عن نصرتي منكم رجال وأنا عليهم عاتب زار فاهجروهم واسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبونا ونرى منهم ما نحب ومن كلامه عليه السلام لما عمل على المسير إلى الشام لقتال معاوية بن أبي سفيان بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتقوا الله عباد الله وأطيعوا وأطيعوا أمامكم فإن الرعية الصالحة تنجو بالأمام العادل الأوان الرعية الفاجرة تهلك بالأمام الفاجر وقد أصبح معاوية غاصباً لما في يديه من حقي ناكثاً لبيعتي طاعناً في دين الله عز وجل وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس وجثتموني راغبين إلي في أمركم حتى أستخرجتموني من منزلي لتبايعوني فالتويت عليكم لا بلو ما عندكم فراددتموني القول مراراً راددتكم وتكأكأتم علي تكأكؤ الإبل الهيم على حياضها حرصاً على بيعتي حتى خفت أن يقتل بعضكم بعضاً فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمري وأمركم وقلت أن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحداً منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي وقلت والله لا وهم يعرفون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي وفضلي لكم يدي فبايعتموني يا معشر المسلمين وفيكم المهاجرون والأنصار وتتابعون بإحسان فأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي من عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق لتفن لي ولتسمعن لأمري وتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كل باغ وعاد ومارق أن عرق فأنعمتم لي بذلك جميعاً فأخذت عليكم عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة رسوله فأجبتموني إلى ذلك وأشهدت الله عليكم وأشهدت بعضكم على بعض وقمت فيكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم(96/44)
فالعجي من معاوية بن أبي سفيان ينازعني الخلافة ويجحدني الإمامة ويزعم أنه لحق بها مني جرأة منه على الله وعلى رسوله بغير حق له فيها ولا حجة لم يبايعه عليها المهاجرون ولا سلم له الأنصار والمسلمون يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي او ما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة أما بايعتموني على الرغبة أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي أما كانت بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمر فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا ونقض علي ولم يف لي أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري أما تعلمون أن بيعتي ولم لم يفوا بها وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممن تقدمني أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الغدير في ولايتي وموالاتي فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية الناكث الفاسط وأصحابه القاسطين أسمعوا ما أتلوا عليهم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل لتتعظوا فإنه والله عظة لكم فانتفعوا بمواعظ الله وازدجروا عن معاصي الله فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه صلى الله عليه وآله الم ترى إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم أبعث لهم هل عليكم القتال ألا تقاتلوا قتلوا وما لنا إلا أن نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال أن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم أيها الناس أن لكم في الآيات عبرة لتعلموا أن الله جعل الخلافة والإمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه وزيادته بسطة في العلم والجسم فاتقوا الله عبادة الله وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخط بعصيانكم له قال الله عز وجل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون أنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم ونفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري م تحتها الأنهار ومساكن(96/45)
طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم.
اتقوا الله عبادة الله وتحاثوا على الجهاد مع أمامكم فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم طاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كبير منكم وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض ومن كلامه عليه السلام وقد بلغه عن معاوية وأهل الشام ما يؤذيه من الكلام الحمد لله قديماً وحديثاً ما عاداني الفاسقون فعاداهم الله الم تعجبوا أن هذا له الخطب الجلل أن فساقاً غير مرضيين وعن الإسلام وأهله منحرفين خدعوا بعض هذه الأمة وأشربوا قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهواءهم بالأفك والبهتان قد نصبوا لنا الحرب وهبوا في إطفاء نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون اللهم أن ردوا الحق فأفضض خدمتهم وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم فإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
ومن كلامه عليه السلام في تحضيضه على القتال يوم صفين.
معاشر المسلمين أن الله قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم وتشفي بكم على الخير العظيم الأيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله والجهاد في سبيله وجعل ثوابه مغفرة الذنب ومساكن طيبة في جنات عدن ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص فقدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس فإنه أنبا للسيوف على الهام والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلا في أيدي شجعانكم فإن المانعين للذمار والصابرين على نزول الحقائق أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكشفون رحم الله أمرءاً منكم آسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع قرنه وقرن أخيه فيكتب بذلك لائمة ويأتي به دناءة ولا تعرضوا لمقت الله ولا تفروا من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من الآخرة فاستعينوا بالصبر والصلاة والصدق في النية فإنا لله تعالى بعد الصبر ينزل النصر.
ومن كلامه عليه السلام وقد مر براية لأهل الشام لا يزول أصحابها عن مواقفهم 11 على قتال المؤمنين فقال لأصحابه.(96/46)
أن هؤلاء لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسم ضرب يغلق الهام ويطيح العظام وتسقط منه المعاصم والأكف وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد وتنتشر حواجبهم على الصدور والأذقان أين أهل النصر أين طلاب الأجر فثار إليهم عصابة من المسلمين فكشفوهم.
النبطية
أحمد رضا(96/47)
أدواة الجماعات والإلحاد والدين
غراء أرضك أصبحت حمراء ... ما بال أرضك لا تمج دماء
أأصابها داء الخمار فخيلت ... لشفائه ماء الطلى صهباء
أم مسها كلب فأعضل دواءه ... ورأت له فيض النجيع شفاء
ورأت سماءك تسطال فصيرت ... سبباً لنيل سمائك الأشلاء
أم غراها مدنية قد نافست ... أبناءها بغرورها الجوزاء
فاستبدلت بالأسودين الأرجوا ... ن وباخضرار حلة حمراء
نزلت سويداء القلوب فلم تدع ... للقوم الأ القطة السوداء
ولكم لها يد سوداء لم ... تترك لها صنائعها يداً بيضاء
وما انبتت أن أرض تقل ال ... قوم إلا الظلم والهيجاء
وإذا سماهم أمطرتهم سحبها ... مطرتهم الأسواء والبأساء
ملأت فنونهم البلاد وإنما ... كانت فنونهم ردى وفناء
أغرى العداوة بينهم حدٌ به ... كم أصبحوا يستقبلون شقاء
وأضلهم طرق الهدى طمع به ... خاضوا لداعية الردى داماء
عدوا فخاراً ميتة تحت الظبي ... والحتف في ظل الرماح علاء
* * * *
قد خالفوا الأديان والديان لم ... احلفوا الأوهام والأهواء
زعموا التدين للعقول ضلالة ... وبزعمهم ملؤوا الوجود هراء
أتراهم جهلاً عزو ما قد عزو ... للدين ما قد كان منه براء
فاستبدلوا بالجهل علمهم بما ... فيه وما كانوا به جهلاء
ما الدين إلا وازع يزع العقو ... ل عن الضلال ويصدع الظلماء
ما كان قط يريد ظلماً للورى ... كلا ولن يرضى لهم إغواء
ركبوا الضلالة متن عمياء وما ... بلغوا بها الأعمى وعماء
ولو أنهم سلكوا طريق الدين ما ... تخذوا النزاع طريقة عرجاء
* * * * * * *
قل للأولى زعموا بأنهم غدوا ... في كشف كل حقيقة علماء(96/48)
أظننتم ألحادكم في الدين يد ... فع عنكم الآلام والبرحاء
أم خلتم استكمال أنفسكم به ... وبغيره لن تدركوا الأشياء
فتخذتم عن من تجلى لطفه ... في الكائنات الصدفة العمياء
وعزوتم سنناً لها ونبستم ... حكماً يحير دركها الحكماء
* * * * * * *
هل جامد يهب الحياة وأعجم ... يهب البيان وينطق العجماء
أم هل رأيتم محدثاً مستغنياً ... عن محدث قد شاء ما لا شاء
أرأيتم يوماً بناء قائماً ... في نفسه قد أعجز البناء
خسأت أناس كم رأت من مبدع ... ملاء العيون مهابة ورواء
كم سافرت منها لدرك حماله ... ألبابها فتراجعت إعياء
كم شاهد منه على قد أقا ... م على بوارع صنعه شهداء
وترى الها وهمها وضلالها ... رباً وتعبد صدفة صماء
عرفته في ألبابها ولئن تكن ... جحدت بألسنها له الآلاء
وتراه في الضراء أن عنه اغتدت ... عمياء يوم تصافح السراء
ومن العجائب أن تحول حبه ... أوهاماً وضلالها بغضاة
حثت عزائمها على الإلحاد في ... أسمائه فتبددت أنضاة
ما زادها إنكارها وجحودها ... لالاهها إلا به أغراء
إن أنكرت أسماءه ما أنكرت ... آثاره وصفاته الغراة
ناءت بثقل جحودها ولوان هـ ... ذا الكون حمل بعض ذاك لتاء
* * * * * * *
ونتيجة الإلحاد أهوال بها ... رزح الزمان وأهد إعياء
بلغ الزبى سيلٌ له ما أنفك في ... وكاف كل رزية أتاء
هو رائد الفوضى التي كم قد شكى ... منها الزمان وأهله وأدراء
ألدين أم ألحاد قوم بالذي ... ذرأ الورى ترك الورى أعداء
هل قوّم الأخلاق غير الدين بل ... من غيره قد هذب الآراء(96/49)
لو عانق الدين الصحيح الناس عا ... شوا كلهم في دهرهم سعداء
* * * * * * * * *
كم مهرق ما كان فيه مرقمي ... والنفس إلا الدجن والوجناء
لولا الذي قد خط حرفي في صحي ... فته اغتدى عمر المدى ملساء
أرعى النجوم مملقة وأحيل في ... هذا السواد خواطري البيضاء
لا أشتكي من اللعوب ولا أذ ... م العيس والظلماء والبيداء
لا أشتهي عذب القيان بمسمعي ... دو يردد جوه الأصداء
أهوى القفار مع السكون ولا أر ... ى العمران يملأ مسمعي ضوضاء
* * * * * * * *
ضل الأولى حسبوا السعادة (سلطة) ... سام القوي أذى بها الضعفاء
أو أنها (حرية) فيها أغتدوا ... من قيد كل شريعة طلقاء
أو أنها (مالٌ) يجمعه أمره ... يستام به التيه والخيلاء
وطوراً يفرقه بلذته وآ ... ونة به يستعطف الأمراء
أو أنها (شعر) به الشعراء تن ... تجع الغنى وتصانع العظماء
أو أنها قلم توشي طرسها ا ... لكتاب فيه فتبدع الأيشاء
أو أنها (علم) به يتلمس ا ... لعلماء جاهاًً زائلاً وثراء
أو أنها (حرب) يروح مغامراً ... فيها الشجاع يناجز الأكفاء
وطلابها من غير طرق الدين لا ... يغني عقول الطالبين غناء
وإذا الفتى لم يغتدي في راحة ... من لبه قطع الحياة شقاء
لا العلم يطفي منه غلة ناهل ... إن لم يطأ للدين فيه سواء
وإذا اغتدى في صحة من دينه ... وجد السعادة والشقاء سواء
وإذا أصيب معضل من دائه ... لم يلف إلا الدين فيه دواء
* * * * * * *
قل للأولى جهلوا الحقائق إذا أبوا ... أن يغتدوا لآلههم حنفاء
أخفى الجحود عليهم أنباءهم ... في حيث منه تحسوا الأنباء(96/50)
إن قربوا النائي فبين ضلوعهم ... سرٌ غدوا عن دركه بعداء
من كان يجهل نفسه والآهه ... هيهات يدرك لبه الأشياء
فليرجعوا لعقولهم ولينصتوا ... لندائها أن يملكوا أصغاء
ولهم قوالب غير أن قلوبهم ... رقت فكادت أن تكون هواء
نبذوا تعاليم الشرائع جانباً ... جهلاً وما كانوا بها عرفاء
وعنوا بوضع قواعد حسبوا بها ... ترقى جماعات الورى الطياء
أرأيت يشبه وضع محدود نهىً ... أوضاع من لا يشبه الأحياء
وضعٌ تقلبه السياسية كيفما ... تهوى ويمليه الهوى إملاء
لا يستبين السائرين منارة ... منه ولا يستوضحون ضياء
وضع به أضحى الأنام جميعهم ... متهافتين على الفنا خصماء
كم قوموا سمراً وبيضاً أرهفوا ... لردى وشنوا غارة شعواء
وتسربلوا بسوابغ مسرودة ... خاضوا بها لحتوفهم جأواه
وكأنما قد حاولوا أن يبتنوا ... فوق البسيط من الهباء سماء
تخدراً لها بدلاً عن الشهب القنا ... وعن النيازك أسهماً وسراء
ومن المدافع رعدها ومن الصوا ... رم برقها والديمة الوطفاء
النبطية
سليمان ظاهر(96/51)
الأرواح والمشعوذون
كل رأي لأم تقم عليه الأدلة العلمية لإثباته هو باطل لا يجوز تصديقه وقبوله ولكن ما لا تستطيع البراهين الفنية نقضه وتزييفه جدير بالقبول وإن كلن بعيد الحصول وكثيراً ما تكون العقول قاصرة عن أثبات بطلان الآراء الجديدة فتضطر إلى تصديقها بسائق العجز والتقصير مثال ذلك ناموس الجاذبية الذي قال به الفيلسوف أسحق نيوتن مستنداً على سقوط تفاحة من شجرة على ضفة أحد الأنهار فتضاربت العقول في باديء الأمر لأن الطباع تحرص على قديمها المألوف فلا تقبل الجديد إلا بعد جدال وعراك في ميدان البحث والتنقيب وقد قرأت في كتاب مخطوط من خزانة الديرالكرملي في بغداد أن مسألة طيران العباس بن فرناس من علماء الأندلس قد أثارت عليه العامة والخاصة ولعنته لعناً بليغاً لأنه أراد أن يتشبه بفرعون في الوصول إلى السماء فصنع له ريشاً كسا به جلده وحاول الطيران ولكنه سقط بأمر الرب لأنه لا يريد أن يعطي البشر ما أعطاه للملائكة والأنبياء ثم مضت العصور وتداولت الدهور والعلماء بين مصدق ومكذب حتى البشر وألفناهم يزاحمون الأسماك بغواصاتهم في البحار وينافسون الطيور في السماء بطياراتهم وهيهات أن تصل الطيور إلى الارتفاع الذي تصل إليه الطيارات المتقنة لأن أجنحتها تكل بعد طيران قليل فتضطر إلى النزول بعكس المناطيد أو الطيارات فهي تبقى محلقة في الجو ما دامت مراد البخار متوفرة في مخازنها قام غاليله قبل بضعة عصور قائلاً بكروية الأرض ودورانها ووقوف جرم الشمس مستنداً على الحقائق العلمية التي أدخلها العرب إلى إيطاليا وأسبانيا وجنوبي فرنسا فلم يرق رأيه لعقول هاتيك الأزمنة القاصرة فقتله حرقاً أو صلباً ومثلوا به تمثيلاً شنيعاً على رواية بعضهم وكذلك أحرقوا جثة دانتي الشاعر الإيطالي بعد زمن طويل من وفاته لأنه قال ما لا ينطبق على مصلحة الرهبان والأكليروس وباح بعض الحقائق العلمية التي لا يتنازع فيها اثنان ولا يتناطح فيها عنزان وهكذا كان شأن العلماء والفلاسفة في الشرق أيضاً قبل أن ينضج العلم وتختمر به العقول والأدمغة ولنا في حياة ابن خلدون وابن رشد والفارابي والرازي وابن سينا وابن باجه وغيرهم من أساطين العلم وأقطاب الفلسفة أمثلة صادقة على ما كان يعترض الباحثين في تقرير آرائهم ونشر مبادئهم.
إن الاعتقاد بارتقاء العقل البشري يوماً فيوماً وأنه يسير على ناموس النشر والارتقاء(96/52)
يحملنا قسراً على تصديق كل ما لا يقبله العقل في هذه الأزمنة لأن ما يكذب اليوم قد يصدق غداً وما لا يتحقق في هذا العصور المقبلة فلو قيل لا سلافنا أن الإنسان في القرن العشرين يقطع المسافة بين الأستانة وبرلين وباريز في يومين أو ثلاثة أيام على الأكثر وأن سيأتي يوم تتحارب فيه الأمم فوق اليابسة وتحت البحر وفي الجو وأن الشعوب تتخاير في لحظة من الزمن بالبرق اللاسلكي لقالوا أن هذا الأمر من رابع المستحيلات وبعيد الوقوع لأن عقولهم لم تكن على درجة من الكمال والقوة كما هي عقول المعاصرين المشهورة بالإبداع والاختراع وهذه الحقيقة تثبت أننا اليوم عاجزون عن أدراك ما سيأتي به العلم من العجائب والغرائب فإن الفن الذي قرب البعيد وأدنى الشاسع ورفع العقل البشري إلى هذا المستوى الراقي فزاحم الطيور والأسماك لهو هو الذي يمهد السبيل لكثير من الغرائب التي لا نصدقها ونحمل القائل بها على الشعوذة والتمويه إن ما نسميه اليوم بالشعوذة كاستنطاق الأرواح وأخذ أخبار المستقبل عنها والأنباء بالوقائع قبل حدوثها وكالناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا وطاس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها واستخراج المجهول والسرقات بالتنويم المغناطيسي \ وقلب الماء إلى تراب والتراب إلى ماء واستخراج المسكوكات الذهبية والفضية من الحجارة أو من الورق - قد يكون صحيحاً ويثبته العلم غداً بعد أن تعمل العقول فيه معملها وكثير من هذه الأعمال يثبت العقل بطلانه وكذبه منها مسألة قلب الحجر إلى سكة ذهبية أو غيرها لأنه لو صحت هذه الأعمال لكان العامل بها من أغنى البشر ولما كان في فقر مدقع ولكن الأنباء بحوادث المستقبل واستنطاق الأرواح هي محل النظر والإمعان فقد رأيت قبل ثلاثة أعوام عجوراً شمطاء تأوى إلى مسجد الكيلاني في بغداد يقصدها الناس إلى استخراج السرقات التي تعجز الشرطة عن معرفة أبطالها فهي تنبئهم بأسمائهم واحداً واحداً وتخبر عن أمكنة الأشياء المسروقة كأنها ربة الدار وصاحبة المخزن ولو سألت صاحبها عن مفرداتها لما أستطاع أن يخبرك عنها كما هي تخبر وتقول ولولا أن العجوز زاهدة ومشهورة بالتقوى والصلاح لقلنا أن لها صلات مع السراق ولهم نوادر كثيرة من هذا القبيل تدل على كهانتها وعرافتها وأن لها بصراً نافذاً ونظراً ناقداً ومن هذا القبيل ما ورد من الحكايات والروايات عن شق وسطيح الكاهنين وكانا أنبأ في تأويل رؤيا ربيعة بن مضر عن ملك الحبشة لليمن.(96/53)
وظهور النبوة المحمدية في قريش ورؤيا الموبذان التي فسرها سطيح بالنبوة وخراب فارس وكان للعرب اعتقاد بالعرافة فوردت في أشعارهم كثيراً وقد قال أحدهم:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفياني
فقالا شفاك الله والله ما لنا ... بما حملت منك الضلوع يدان
ومن هذا القبيل شفاء المرض والطلاسم والعزائم والاستحمام بالمياه المقدسة والتبرك بالأحجار والأستار وهذا أمر شائع لدى جميع الأمم ففي فرنسا يغتسل المرضى بمياه القديسة ويعتقدون أنها تشفي من الأسقام المعضلة وفي بغداد بئر ينسبون إليه القدسية قريبة من مرقد الجنيد الصوفي فإذا المرأة وانقطعت عنها الولادة ذهبت يوم الأربعاء أو يوم الاثنين فتغتسل بماء البئر فتحمل ليومها وإذا أعضل المرض على بعضهم ذهب ليلة الأربعاء وقام بين صخور مقدسة في ضريح الجنيد فيخرج صباحاً وهو على جانب عظيم من النشاط وربما أتاه الجنيد ليلاً وباركه ومسح بدنه بيده الكريمة وحينئذ تقام النذور وتتوزع الصدقات وقد عللت أحدى مجلات مصر العلمية ذلك بأن للاعتقاد تأثيراً كبيراً في الشفاء وأطلقت عليه الشفاء بلا درا لأنه متى أعتقد الليل بأن هذا المرض يزول بالتبرك والاغتسال أو الطلاسم والعزائم يكن شافياُ معافى إذ أن أكثر الأمراض منشأوها الأوهام وقد يكون الإنسان سليماً صحيح البدن فيتوهم أنه مريض ويظل في هذا الوهم إلى أن يعتقد بزوال علته.
يمكن القول بانطباق هذا التعليل على العقل والمنطق ففيه مسحة علمية وطلاء عقلي غير أن الأذهان تقف حائرة تجاه بعض الوقائع التي يؤاها النقد بعينه فيبقى بين التصديق والتكذيب مثال ذلك اتصال الأرواح ببعض البشر ومكالمتها إياهم بالإشارات وكالأنباء بالغيب على أثر حدوث انفعال في النفس أو تبدل فجائي فينتقل فيه المرء من عالم إلى عالم آخر تنويم السراق والمجرمين وحملهم على البوح بالأسرار إلى غير ذلك م الأمور الغريبة التي الفكر عن نقضها وتزييفها ربما عرضت هذه الوقائع لكثير من الناس في حياتهم وقد عرض لي حادث من هذا القبيل فقد كنت في إحدى مدن العراق فبل بضعة أعوام أتناول الطعام على مائدة أحد الأعيان فشعرت أثناء الأكل باضطراب عظيم انتقلت به من عالم إلى آخر فخيل لي أن أحد أركان العائلة أجريت له عملية جراحية فمات على(96/54)
أثرها وبعد ما أفقت من الإغماء دونت هذه الحادثة في دفتر ورجعت إلى بغداد فرأيت أن الحادثة وقعت في اليوم الذي شعرت فيه وقوعها وقبل خمسة سنين كانت لي شقيقة ابتلت في عفوان شبابها بمرض عضال كنت أراقب أدواره وأخبر الطبيب عما يعرض لها ثم حملني القلق على جمع فريق من الأطباء لفحص مرضها فاجتمعوا مساء وقرروا ابتلاءها بالسل وأنه يستحيل شفاؤها وقد تطول حياتها على نحو شهرين فخرجت وخرج الأطباء من الدار وجلست مع أحد الأصدقاء في بيت آخر فأصابني اضطراب كالاضطراب في الحادثة الأولى وتخيلت موتها وقد عزلني الصديق على هذه الأوهام بعد أن قال الأطباء ببعد أجلها على ما يعرفون من سير السل ولكن ما كانت تمضي بضع دقائق إلا وأتانا الناعي بمعناها ولما سألت عالماً من علماء مصر الذين اشتغلوا بالفلسفة والطب ثلث عصر أجاب بأنه لا يصدق بوقوع الحادثة الأولى وطلب أن أرسل له المفكرة التي دونت فيها الوقعة وأسماء الشهود الذين حضروه وأما الوقعة الثانية فقال عنها أنها من الأمور الطبيعية وأن الإنسان قد يمرض مائة مرة في عمره وفي كل واحدة يعتقد أقاربه بأنها القاضية على حياته مع أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة وقد بحث غير واحد من المتقدمين في هذه المسائل منهم العلامة ابن خلدون فعقد فصلاً وافياً عب الكهانة والعرافة والأخبار بالغيب وما أشبه: فقال 1 - الكهانة من خواص النفس الإنسانية وذلك أن لها استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية وأن يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركة ولا بأمر من الأمور وإنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة قرب من لمح البصر وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطي التقسيم العقلي أن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه وشتان ما بينهما فإذا أعطى تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزاع لذلك هي ناقصة عنه بالجبلة فيكون لها بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تتشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكهان وما سنح من طير أو(96/55)
حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور من الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية 11 ولأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيهم نفوذاً تاماً في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة 11 تحضرها لمخيلة ونكون لها كالمرآة تنظر فيها الصنف الذي يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ولا يكون موثوقاً به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويهاً على السائلين ثم أنتقل للكلام عن الناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطرق بالحصى والنوى فقال أن كل هؤلاء من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة منهم في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها وأشرفها البصر فكيف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبره عنه وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة ليس كذلك بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر فيبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمام يتمثل فيه صور هي مدار كهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو أثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال وإنما ينشأ لهم هذا النوع من الإدراك وهو نفساني ليس من أدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني المحس كما هو معروف ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبركما أدرك ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة.
وأما الزجر فهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان(96/56)
والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوة النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً فيؤديه إلى أدراك كما تفعله القوة لمخيلة في اليوم وعند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته ومع عقلته فيكون 11 الرؤيا وأما المجانين الذين يخبرون بالغيب فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد غالباً وضعف الروح الحيواني منها فتكون نفسه غير مستغرقة بالحواس ولا فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما يزاحمها على التعلق به روحانية أخرى أو شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد في مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن جسمه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وأنطبع فيها بعض الصور وحرفها الخيال وربما نطق على لسانه بتلك الحال من غير أرادة النطق وأدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق والباطل لأنه لا يحصل له الاتصال وان فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك اه.
والظاهر من قول ابن خلدون أن للنفس عقلين ظاهر وهو الذي يقودنا في حياتنا وباطن وهو الذي يظهر بركود الظاهر فينتقل المرء من عالم إلى آخر وتتنبه فيه القوى الكامنة ومن ذلك الخطيب الذي لا يستطيع القول إلا بعد شرب المسكرات التي تنير دفائن الدماغ ومخزوناته والكاتب الذي لا يملي كلمة إلا بعد تناول التبغ وغيرهم كثير وقد رأيت في الموصل شاباً أعمى ومعتوهاً إلا انه بارع في علم الحساب بصورة عقلية فإذا قلت له وقعت حادثة في السابعة والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1450ميلادية مثلاً فمادا يكون أسم ذلك اليوم وماذا يكون إزاءه من الشهر العربي فيجيب على الفور أنه يكون اليوم الفلاني في العدد الفلاني من الشهر العربي ويسميه أيضاً ويسمي السنة التي هو فيها وكذلك رأيت مكفوفاً آخر من الموصليين في بغداد وكان غاب عنها نحو عشرين عاماً يمسك يد معارفه وهم سكوت فيقول بأسمائهم ولم يكن عرفهم قبلاً وهذا من البراهين التي تثبت خفاء العقل الظاهر وظهور الباطن فهم بحيث تتمثل لهم حوادث الأيام الماضية من لفائف أدمغتهم كما تتمثل الحوادث على لفائف الصور المتحركة فيعرفون أصدقاءهم الذين فارقوهم منذ القديم بلمس أيديهم أو رؤؤسهم أو مسك أكتافهم.(96/57)
وصفوة القول أن أعمال المشعوذين والمعتوهين وطلاسم المشايخ وعزائمهم والتبرك بالأحجار والولادة بالاغتسال من الآبار والأنهار وذهاب المرض بالأدعية والأحجية بعد ما يعجز الطب عن شفائه والأنباء بالغيب واستخراج السرقات والنظر إلى المرايا أو في طساس المياه وقلب الحجارة إلى المسكوكات ذهبية وفضية واستنطاق الأرواح بالإشارات والتنويم المغناطيسي وما أشبه هو فرع من فروع علم النفس الذي أثبت لنا البحث بعضه ورفعه إلى الحقائق العلمية كالتنويم وسيثبت لنا اليوم بعض ما رآه اليوم غريباً ما دام العلم يخرق حجب الأسرار وينفذ إلى أعماق الكائنات وسنظل مثابرين على تحكيم العقل والمنطق في هذه المسائل العويصة إلى أن تتقلب إلى حقائق يصدقها العقول وما أخطأ من يحكم عقله في ما يعرض له الحوادث والوقائع والأسرار والأفكار.
جاءت أحاديث إن صحت فإن لها ... شأناً ولكن فيها ضعف أساد
فشاور العقل وأترك غيره هدراً ... فالعقل خير مشير ضمه البادي
إبراهيم حلمي العمر(96/58)
المكتبة الزراعية
وكتاب الفلاحة
في قرية زمارين التي تبعد عن حيفا زهاء ثلاثين كيلو متراً مكتبة غنية جمعت كل ما عرف إلى الآن من المصنفات الزراعية على مختلف اللغات وقد أتيح لنا زيارتها ربيع هذه السنة فأردنا أن نطلع من يريد الاطلاع على ما هنالك وأن نصف لهم كتاباً عربياً من أجود وأمتع ما كتب في الزراعة فنبدأ بوصف القرية ثم المكتبة ثم الكتاب القريةزمارين أو ذكرون يعقوب على ما يسميها سكانها بليدة صغيرة أستوطنها وتملكها مهاجرة الإسرائيليين القادمين من رومانيا سنة 1882 ميلادية وقد ضاقوا ذرعاً من الأنفاق على أعمارها وإصلاح تربتها قبلاً فاستنجدوا بسراة قومهم فانجدهم البارون يعقوب روتشيلد الذي نسبوهم إليه كما مر بك وأمدهم بالأموال الطائلة حتى أثروا وتنعموا وأخيراً سلمها إلى جمعية الأيكا أحدى جمعيات الاستعمار الإسرائيلي التي تعمل على أسكان الإسرائيليين في فلسطين وفي أميركا وغيرها من البلدان وهي تحوي اليوم 150 بيتاً وفيها من السكان ما يزيد عن 800 نسمة وواقعة على ذروة جبل يطل على البحر المتوسط وعلى ما حولها من السهول الخصبة والحراج الغضة وبالنظر لكونها في منتصف الطريق المؤدي إلى يافا فإن فيها نوعاً من الحركة التجارية وأهلها يعملون بالزراعة وفيها در للبريد والبرق وتجود فيها الكروم إلى حدان معملها الكبير يخرج مقداراً كبيراً من الخمر وغيرها من المشروبات الألكحولية ويصدرها إلى أوربا فوق ما يستهلك منها في فلسطين.
وفي هذه القرية من الجواد والشوارع ما لا تحده في المدن الكبرى ويأتي الماء إليها من بئر غزيرة في جنينة تسمى النزلة تسوقه قوة البخار إلى ما يعلو عن سطح البحر مائتي متر تقريباً ويتوزع على البيوت والسيلان من الخزان الذي يجتمع فيه وفيها فنادق تفي بالغرض وتعنى براحة المسافرين ويتخلل بيوتها القوراء الشمس والهواء النقي.
المكتبة
في أحدى جوانب هذه القرية تجد بناية فخمة بالنسبة إلى ما سواها وأول ما يقع نظرك عليه منها بهو غير واسع الأرجاء ولكنه يكفي لاجتماع مزارعي تلك القرية وفي وسط آلة تدور بصور الحبوب والثمار ليسهل على الخطيب الذي يخطب في موضوع الزراعة(96/59)
تعريف الحاضرين بأصناف الحبوب التي يدور عليها البحث.
وعلى جانبها الأيمن غرفة خاصة بمدير المكتبة وعمالها وخزانة فيها بضع مئات من الكتب الزراعية ومنها تنتقل إلى المكتبة الكبرى التي تضم تحت سقوفها زهاء عشرين ألف مجلد كلها تبحث في الزراعة وما يليها وأغلب الكتب فيها باللغة الإنكليزية ثم الألمانية فالفرنساوية فالطليانية فالاسبانيولية وفيها نزر يسير من الكتب العربية والتركية. وترى خزانة خاصة بالمجلات الزراعية على اختلاف اللغات وبينها مجلة الأرض الباسيفيكية التي صدرت ولا تزال تصدر في سان فرانسيسكو ومن 7كانون ثاني 1871 أي منذ 46عاماً وقد علمنا من أمناء الكتب أن هذه المجلة لا يوجد منها سوى ثلاثة مجاميع تامة الأعداد أحدها في هذه المكتبة وقد أهديت لها من قبل حكومة الولايات المتحدة.
ويوجد غرفة خاصة للطب النباتي وجميع كتب هذه الغرفة تتعلق بالأمراض التي 11 والشجر والنبات وفيها نماذج قد ترى بالعين المجردة ومنها لا يرى إلا بالمجهر وهو قائم في وسط الغرفة للذين يقصدونها للوقوف على أدواء أشجارهم وبقولهم والذي اكتشفوا على الآن من أمراض النبات يبلغ أربعين ألفاً وهناك دائرة خاصة بالكيمياء وفيها من الآلات والعقاقير ما تحلل به الأتربة والحجارة لمعرفة خواص الأرض. ودائرة التجليد وفيها مجلد خاص يشتغل طوال نهاره بتجليد الكتب والمجلات ويتعهد الكتب المجلدة حتى إذا أفسد الدهر شيئاً منها أصلحه.
ومن ألطف ما رأيناه غرفة خاصة بأنواع النبات والأزهار والرياحين التي توجد في سوريا وفلسطين وقد حفظت ضمن ملفات لها على شكلها الأصلي وحرر بأخر كل زهرة أو ورقة منها تاريخ العثور عليها وأي البلاد وجدت وفيها بعض الأعشاب الغريبة التي جيء بها من بلاد المغرب وقد أطلعت على فإذا هي قد وجدت بجوار طنجة من بلاد مراكش سنة 1802 ومع ما مر عليها من السنين تراها كأنها قطعت حديثاً وأدرجت في ملفها ملصقة على ورقة ثخينة جداً وقد تأنقوا في ضبط أنواعها حتى بلغت معهم إلى الآن ثلاثين ألفاً من الأعشاب والأزهار وسواها مما تنبت الأرض من بقولها وهناك خزانة خاصة بالأتربة والحجارة وفيها بعض الأصداف والأسماك والأشجار المتحجرة.
ويوجد من الآلات مقاييس للحرارة والرطوبة والمطر وكل ما له علاقة بالزراعة وآلة لنقل(96/60)
الصوت حتى إذا أضطر مدير المكتبة لمبارحة عمله ليلاً وكان يصعب عليه مقابلة موظفيه أتى إلى المكتبة وتكلم ما شاء الله أن يتكلم فتأخذها الآلة وترسمها على الأسطوانة وهي أشبه بأسطوانات آلة نقل الصوت الفونوغرافوحينما يأتي كاتب المكتبة يفتح الآلة وينقل عبارة المدير بالحرف
الواحد ويبلغها إلى أصحاب العلاقة بعد أن يدونها بدفتره.
أما مؤسس هذه المكتبة الحافلة فهو هارون آينزرون من متخصصي الزراعة وهو من أهل القرية الذين نبغوا واخصوا في ما وقفوا أنفسهم عليه أسسها سنة 1913 بعض سراة الإسرائيليين في أميركا ويتبع هذه المكتبة حقل نموذجي بجوار قرية عثليث يعالجون فيه الأعشاب والنباتات البرية ليجعلوها صالحة للاستغلال
ففي المكتبة تجد ما يعوزك من النظريات العلمية وفي الحقل تلقن ما يفيدك من التطبيقات العلمية.
كتاب الفلاحة
للشيخ الفاضل أبي زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوام الأشبيلي عني بطبعه بعد ترجمته إلى الأسبانيولية الدون يوسف بن أنطونيوس الإنكليزي وقد نسخه من بين كتب خزانة المجمع العلميالأكاديميفي أسبانيا ومثله المطبع على عربي واسبانيولي فجاء في جزأين كبيرين بالقطع الكامل الأول 698 صفحة والثاني 756 ومما ذكره في مقدمته.
أعلم وفقنا الله وإياك أني قسمت هذا التأليف على خمسة وثلاثين باباً وضمنت الأبواب من هذا الفن أنواعاً تقف عليها أن شاء الله تعالى وبه أستعين وعليه أتوكل واعتمدت على ما تضمنه كتاب الشيخ الفقيه الأمام أبي عمر بن حجاج رحمه الله المسمى بالمقنع وهو الذي ألفه سنة ست وستين وأربعمائة وهو مبني على آراء أجلة الفلاحين والمتكلمين نقل فيه نصوص أقوالهم وعزاها إليهم وعددهم ثلاثون رجلاً والمقدمون منهم يونيوس بارون لاقطيوس يوقنصوص طارطيوس بتدون بريعايوس ديماقراطيس الرومي كسينيوس طروراطيقوس لاون سود بورقسطوس عالم الروم سادهس سمانوس سراعوس انتوليوس شولون ميداغوس الأسباني نهاريس مرعوطيس مرسينال الطنيس انوت برورانطوس والمتأخرون في زمانهم منهم إسحاق بن سليمان ثابت بن قره بو حنيفة الدينوري وغيرهم(96/61)
ممن ام نسمه واعتمدت أيضاً مع ذلك على ما استحسنته مما تضمنته الكتب المذكورة بعد منها كتاب الفلاحة البطة تأليف توثامس وهو المبني على أقوال أجلة الحكماء غيرهم وذكر فيه أسماءهم وعددهم منهم آدم وسفريت وسيوشد وخنوخا وماس ودرتا وطامتري وغيرهم وربما اختصرت ذكر هذا الكتاب وأثبتت له علامة وهي (ط) وعلى كتاب الشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن الفضال الأندلسي رحمه الله وهو المبني على تجاربه وعلامته على وجه الاختصار (ص) وعلى كتاب الشيخ الحكيم أبي لاشبيلي رحمه الله وهو مبني على آراء جماعة من الحكماء والفلاحين وعلى تجاربه وعلامته (خ) وكتاب الحاج الغرناطي وعلامته (غ) وكتاب ابن أبي جواد وكتاب غريب بن سعد وغيرهم ونقلت إلى هذا الكتاب أيضاً ما 11 منسوباً إلى الحكماء المذكورين بعد هذا وهم ديمراط وعلامته (د) وجالينوس وعلامته (ج) وأنتريوس الأفريقي وعلامته (ف) والفرس وعلامتهم (ر) وعلامة قسطوس (ق) وعلامة أوسطاطانيس (ط ط) وعلامة اليوناني (م) وأخبر بعض العلماء في التاريخ أن اليوناني كان من الإسكندرية وزعموا أنه كان المعمرين وأنه عمر 800 سنة وسقت أقوالهم على حسب ما وضعوا في كتبهم ولم تكلف أصلاح ألفاظهم وثقلت أيضاً أقوال المسلمين في هذه الجملة ولم عنهم بأن كتبت قيل كذا وقال غيره كذا طلباً للاختصار ولم أثبت فيه شيئاً من رأيي إلا ما جربته مراراً فصح وقسمت هذا التأليف على سفرين ضمنت الأول منهما معرفة أخبار لأرضين والزبزل والمياه وصفة العمل في الغراسة والتركيب وما يتصل بذلك مما هو في معناه ولا حق به وضمنت السفر الثاني الزراعة وما إليها وفلاحة الحيوان والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل وقدمت في فلاحة لأرضين ما ثبته الشيخ الخطيب أبو عمر بن الحجاج رحمه الله في كتابه من آراء القدماء المذكورين فيه وجعلته كالأصل لشهرتهم في العلوم ولم أقطع بأن ذلك يصح في بلادنا لبعد بلادهم عنها وتممت الغرض المقصود إليه بما نقلته من كتب الفلاحين الأندلسيين أو ما جربوه في ذلك وما وافق أقوالهم فيه آراء القدماء هو الذي يصح عندنا إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.
الباب الأول: في معرفة الطيب من أنواع الأرض والوسط والدون منها بدلائل ذلك وشواهد وذكر طبائعها وتسمية ما يصلح أن يزرع أو يغرس في كل نوع منها وما يجوز فيه.
الباب الثاني: في ذكر الزبول وأنواعها وتدبيرها ومنافعها للأرض والشجر وسائر المنابت(96/62)
ووجه استعمالها وما يصلح منها بكل نوع من أنواع الأرض وبكل نوع من المغروسات والمزروعات فيها.
الباب الثالث: في ذكر أنواع المياه المستعملة في سقي الأشجار والخضر وما يرافق من أنواعه كل نوع من ذلك.
الباب الرابع: في اتخاذ البساتين وترتيب غراسة الأشجار فيها على أحسن وجه والاختبارات في ذلك.
الباب الخامس: في صفة العمل في اتخاذ الأشجار أنواع الثمار في البعل وعلى السقي وفيما لا يستغني غارسها عن معرفته.
الباب السادس: في صفة العمل في غراسة الأشجار المطعمة والابقال المدركة بالقول الجملي في ذلك.
الباب السابع: في تسمية الأشجار المعتاد غراستها في أكثر بلاد الأندلس وتقدير أنواعها ووصف بعضها وصف العمل في غراسة كل شجرة منها وذكر كل ما يصلح لكل نوع من أنواع الأرض ومن السقي وسائر التدبير على الإفراد.
الباب الثامن: في تركيب الأشجار المؤتلفة المتفقة بعضها في بعض ومعرفتها.
الباب التاسع: في صفة العمل في تقليم الأشجار ورقت ذلك وذكر ما يحمل ذلك منها وما لا يحتمله.
الباب العاشر: في كيفية العمل في عمارة الأرض المغترسة على حسب ما يصلح لها وبالأشجار المغترسة بها ووقت ذلك واختياره وذكر الصفة التي يصلح أن تكون عليها الأرض في وقت العمارة وتسمية الأشجار التي توقفها كثرة العمارة والتي لا توافقها أكثر منها.
الباب الحادي عشر: في صفة العمل بتزبيل الأرض والأشجار المغروسة وغير المغروسة وفي ما يوافق كل نوع منها من الزبول وعلاج الأرض المالحة وقدر الزبل ووقته وكيفية تزبيل الأشجار بحسب حالها وحسب حال الأرض التي هي مغروسة بها
12: في صفة العمل في سقي الأشجار والخضر بالماء ووقت ذلك وقدره وذكر الأشجار التي يصلحها السقي الكثير والأشجار التي لا تحتمله.(96/63)
13: في تذكير الأشجار الآتي ذكرها وهي الذكار والبكور والتين والخوخ والرمان وشجر المشتهى والكمثرى وحبّ الملوك وهو الراسية الخ.
14: في علاج الأشجار والخضر التي ذكرها من الأدواء والأمراض أن نزلت بها وذلك التفاح والأجاص والنارنج وخلافه.
15: فيه صلح مستظرفة تعمل في بعض الأشجار والخضرة من ذلك صفات في دس الطيب والحلاوة والترياق وكبوب الفاكهة الحلوة والأدوية المسهلة في الأشجار المطعمة وفي القضبان والبقل المغترسة ليؤدي ثمرها مطعم ذلك وفوحه وقوته وصفة عمل يصير به لون الورد أصفر ولازوردياً أيضاً وتدبير في الورد حتى يورد في غير أيامه وتدبير في التفاح حتى يثمر في غير أيامه إلى غير ذلك من الثمار.
16: في صفة العمل في اختزان الحبوب الغضة واليابسة.
17: وهو أول السفر الثاني م هذا التأليف في كيفية القليب ووقته ومنفعته وإصلاح الأرض بعد كلاهما.
18: فيما يريح الأرض ويصلحها من الحبوب القطاني
19: في معرفة وقت الزراعة وكيفية العمل فيها وصفة العمل في زراعة القمح والشعير الخ.
20: في صفة العمل في زراعة الرز والذرة والدخن والعدس والجلباني وغيرها سقياً وبعلاً.
21: في صفة العمل في الزراعة القطاني سقياً وبعلاً مثل الفول والحمص.
22: في زراعة الكتان والقنب والقطن وبصل الزعفران و. . . الخ
23: في اتخاذ واختيار أرضها وكيفية العمل في زراعتها.
24: في زراعة البقول ذات الأصول وشبيها وذلك السلجم والجزر والفجل والبصل الخ.
25: في زراعة القثاء والبطيخ والدلاع الخ
26: في زراعة النابت ذوات البزور المستعملة في الأطعمة وفي بعض الأدوية مثل الكمون والكورية والشونيز الخ
27: في زراعة الأحباق والرياحين مثل ذلك الخيري والسوسن والنيلوفو والبهار الخ(96/64)
28: في زراعة انواع من النبات تتخذ في الحنات وتصرف في وجوه مختلفة من ذلك الماميثا والقنارية والفيجن والكرفس والنيل والصقر الخ
29: في تقدير الزراريع وفيه صفة يتعرف فيها ما ينتخب من البزور في ذلك العام بمشيئة الله.
30: وهو باب جامع يتضمن اختيارات منها اختيار مواضع النبات ووقت قطع الخشب لذلك ولمعاصر الزيت وشبه ذلك وفيه تيبيس الشجر والنبات المضر بالأرض وكيفية تحصين الكروم والجنات بغير حائط وصفة الأعمال في انتقال الأعشاب والأشجار من البرية إلى البساتين وصفة المجرد الذي يعدل به الأرض ووصف أشجار ونبات يصرف ذكرها في هذا الكتاب في باب تركيب.
31: وهو أول في فلاحة الحيوان من ذلك اتخاذ البقر والضان والماعز ذكرانها وإناثها واختيار الجيد منها ومعرفة وقت أنزاء فحوله عليها ومدة حملها قدر أعمارها.
32: في اتخاذ الخيل والبغال والحمير والإبل ذكرانها وإناثها الخ
33: في علاج بعض علل الدواب وأدوائها بالأدوية الينة الموجودة وتعمل اليد بالحديد هنياً لا كلفة فيه ولا كثير مهنة قبل الترويج والتصدير الخ.
34: في اقتناء الحيوان الطائر المتخذ في البيوت وفي البساتين والبقاع والجمال لعلها أحبال مثل الحمام الإوز البرك والطواويس والدجاج وسواه.
35: في اقتناء الكلاب المباح اتخاذها للصيد والزرع والماشية ومعرفة جيدها وسياستها وعلاج أدوائها وذكر ما يصلح به أحوالها.
وجاء في آخره: استضر الله من الخطاء والزلل ولسأله المغفرة والرحمة والتوفيق لصالح النول والعمل لا رب غيره ولا معبود سواه وهو حسبي ونعم الوكيل.
وهنا نموذج صالح من ذلك الكتاب ننقله للقارئ الكريم ليعلم مبلغ اهتمام المؤلف وبعد في ما لأنتدب نفسه إليه ويرى السلاسة البادية على كتابه الممتع وكلامه المشع.
فصل. وأما العمل في غراسة شجر الخروب قال خ: هو أنواع منه الأندلسي وهو نوعان ذكر لا يثمر والآخر يثمر وثمره عريض إلى الطول ومنه الأملير ومنه ذنب الفارة ومنه الشامي وثمره قصير مدور ومنه الخيار شنبر والخروب جبلي ويتميز له من أنواع الأرض(96/65)
في السهل ما يشبه الأرض الجبلية وينجب في الأرض الكريمة السمينة وتغر نواميه معتلق بعروقها ومليسة في مواضعها حتى يصير لها عروق ثم ينقل ويغرس نواه في تراب جبلي مخلوط برمل وزبل قديم أثلاثاً ويغطى بذلك بقدر أصبعين ويسقى بالماء عدل وينقل بعد عامين في يناير وفي فبراير أيضاً ويغرس تفله في حفر عمقها نحو أربعة أشبار ويجعل بين تفلة منه وأخرى نحو عشرين ذراعاً والعمل في كله مثل ما تقدم ولا تنحب ملوخه ويركب في أنواعه ولا يركب من شيء من الأشجار سواها ولتركيبه عمل مختص به باب التركيب إن شاء الله تعالى والبق لا يقرب عود شجر الخروب.
وفي ط: قد تختار من حمل الخروب جربان يؤخذ وهو رطب أو يابس ويكسر صغاراً ويهشش ناعماً ويطحن مع حبه ويخلط معه شيء من دقيق شعير أو حنطة ويعجن دقيقة بخمير من دقيق فإذا اختمر اختمارا متوسطاً يعني بقي بقاء متوسطاً في المدة بعد عجينة فليخبز على الطابق ثم يؤكل بالدسم والأدهان والحلاوات قال ابن حزم الخروب قوت عند الضرورة.
فصل. أما صفة العمل في غراسة الزيتون وهو نوعان بري ينبت في الجبال ولا ينبت في شطوط الأنهار ولا حيث تصل عروته إلى الماء الكثير الدائم والنوع الأخر الأهلي وهو أكثر حباً من البري وأوفر دهناً.
ومن كتاب الحجاج رحمه الله قال يونيوس الأرض التي تصلح لشجر الزيتون جداً هي الأرض الرقيقة ومن أجل ذلك صار شجر الزيتون يخصب في بلاد أطيفي في الترجمة الأسبانية أسطيفيلأن أرضهم أرض رقيقة وإذا غرس فيها يخصب أكثر من في غيرها قال ابن الحجاج يريد بذلك خصب الزيتون لاكثرة تنعم الأغصان قال يونيوس والأرض البيضاء أيضاً تصلح لغرس شجر الزيتون لا سيما إن كانت لينة رطبة فإن شجر الزيتون الذي يكون في مثل هذه الأرض يحمل ثمرة كبيرة لينة كثيرة الزيت والأرض السود لا سيما التي فيها حجارة صغار أو شيء كثير من الصخور إلى البياض والأرض الرملية إذا لم تكن مالحة تصلح لغرس الزيتون وأما الأرض العقيمة فينبغي أن يتجنب شجر الزيتون لأنها تربي شجر الرمان وتصير بها عظيمة وأما ثمرة الزيتون فإنها تكون قليلة الزيت كثيرة الماء يبطئ ويكون درديها أكثر من زيتها وكذلك الأرض اللزجة الكثيرة جداً فغنها(96/66)
لبردها ير موافقة لشجر الزيتون وذلك لأنها حارة أحمى في الصيف من غيرها وربما تشققت شقوقاً عظماً وتفتحت فتبردت في الشتاء.
وقال ديمقراطيس: يغرس الزيتون في الأرض البيضاء الجرداء الجافة غير الندية ولا ينبغي أن يغرس في الأرض الحمراء المتطامنة ولا في الأرض السخية وهي المالحة ولا في الأرض التي تبرد نعما في شدة البرد وتسخن في شدة الحر لا 11 ريحها ولا في الأرض المشققة إلى أن يقول: وقد أجمع الفلاحون على أن الرياح توافقه فلذلك ينبغي أن يكون غرسه في الجبال والربى التي ليست تنزلها الثلوج كثيراً إلا أنه لا يهوى الجليد والهواء البارد ولا الحر المفرط ولكن حظه من الجو وافٍ. ومنه أيضاً أي يونيوس في السرجين: قال يونيوس: أن السرجين الموافق لشجر الزيتون هو بعر الماعز والغنم وسائر المواشي وسرجين الحمير والخيل وسائر الدواب وأما عذران الناس فغير موافق ولا ينبغي أن يلقي السرجين على الأصول بل بعيداً من الساق قليلاً ليختلط الأرض فيرسل الحرارة قليلاً قليلاً إلى الأصول قال وأما المهرة في بالفلاحة فإنهم يرون طرح التراب أولاً على الأصول ثم طرح السرجين ثم بعد
طرح التراب أيضاً على السرجين وينبغي أن يزبل في كل ثلاث سنين أو أربع لا سيما في وقت السقية والمواضع الرطبة ينبغي أن يعمل فيها من السرجين الأقل وفي السنين الكثيرة وأما المواضع التي لا يسرع فيها النبات والمواضع اليابسة فينبغي أن يستعمل فيها السرجين أكثر.
وذكر فصل في صورة غرس نوى الزيتون وفصلاً في كيفية إزالة المحروق من الزيتون وفصلاً في أنه لا يجوز نفض حب الزيتون في يوم مطير وإليك ختام قوله في هذا الفصل: ولا ينفض حب الزيتون في يوم مطير فإن ذلك يضر بشجره ووقت نفض ما غرس منه في الجبال شهر يناير ولا سيما الكثيرة الحمل منه وعلامة بلوغه النضج إذا أحمر الماء في داخل الحبة وينفض ما غرس منه في السهل ولاسيما في أرض الزرع إذا أحمر حبه ولا يترك حتى يسود ويتناهى نضجه وفي شهر يناير يتكامل الدهن في حب الزيتون الجبلي الصحيح منه الذي لم يلحقه موت ولا يبس وينفض في فبراير أني جربت ذلك فصح.
قال ابن حزم رحمه الله. الزيتون قوت عند الضرورة لا عند الرخاء اه.) وعلى ذكر الفلاح(96/67)
والنبت ننقل للقارئ الكريم تعريف هذين العلمين عن بعض الكتب التي عرفتهم فتذكر لهم الكتب التي عرفنا عن طبعها بهذين العلمين في القديم والحديث جاء في كتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم للمولى أبي الخير عصام الدين أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة962وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن بالهند ما يأتي:
علم الفلاحة
علم يتعرف منه كيفية تدبير النبات من أول نشره إلى منتهى كماله بإصلاح الأرض لما بالماء أو بما يخلخلها من كالسماد ونموه أو يحميها في أوقات البرد مع مراعاة الأهوية فيختلف باختلاف الأماكن ولذلك تختلف قوانين الفلاحة باختلاف الأقاليم ومنفعة الحبوب والثمار ونحوهما وهو ضروري للإنسان في معاشه ولذلك أشق أسمه من الفلاحة وهو ومن إيجاد بعض نتائجه في غير أوانه واستخراج بعض مباد هـ من غير أصله وتركيب الأشجار بعضها ببعض إلى غير ذلك ذكر أبو بكر بن وحشية في كتابه المسمى بالفلاحة عن النبط إن ما دار حول شجرة الخطمي وتطلع بالنظر إلى وردها وأدام ذلك فإنها تحدث فرحاً في النفس وتزيل عنه الهم والحزن اه وجاء في كتاب أبجد العلوم من جمع السيد الأمام أبي الطبيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري من المتأخرين المطبوع في بهوبال بالهند على الحجر بعد نقل عبارة مفتاح السعادة إلى غاية من الفلاح وهو البقاء قال ابن خلدون:
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات وهي النظر في النبات من حيث بالسقي والعلاج وتعهده بمثل ذلك وكان المتقدمين بها عناية كثيرة وكان النظر فيها عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت غايتهم به لأجل ذلك وترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير ولما نظر أهل الملة فيما أشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السحر مسدوداً والنظر فيه محظوراً فاقتص وأمنه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك واحذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج وبقي(96/68)
الفن الآخر منه مغفلاً نقل منه مسلمة في كتبه السحرية من مسائله وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدون فيها الكلام في الغراس العلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة انتهى الكلام.
ثم قفى على ذلك بقوله: قال في مدينة العلوم ومن لطائف علم الفلاحة اتخاذ بعض نتائجه إلى آخر العبارة التي جاءت في مفتاح السعادة. أما علم النبات فقد وصفه صاحب المفتاح بما يلي:
علم النبات
وهو علم يبحث فيه عن خواص أنواع النبات وعجائبها وأشغالها ومنافعها ومضارها وموضوعه نوع النبات وفائدته ومنفعته التداوي بها ولابن بيطار فيه تصنيف فائق ولا أجمع ولا أنفع من كتابما لا يسع الطبيب جهلهويوجد نبذ من خواصها في ضمن الكتب الطبية.
أما في أبجد العلوم فقد قيل عنه: علم النباتات. ذكره في كشف الظنون وقال في مدينة العلوم وهو علم يبحث فيه عن خواص نوع النباتات إلى أخر عبارة المفتاح.
وهذه أسماء الكتب والرسائل التي طبعت في علمي الفلاحة والنبات غير التي ذكرناها في مواضعها من مبحثنا هذا.
كتاب الفلاحة اليونانية: ترجمه إلى العربية قسطا بن لوقا الطبيب النصراني الفيلسوف الرياضي الرومي العلبكي نبغ سنة 250 إلى سنة 311هـ ويعرف بوضع 11 من المعنى في قليل من الكلام وقد نقله عن ترجمة سريانية لسرجيوس بن الياس 11 الرومي م رأس العين الذي نبغ في أيام القيصر يوستينيانس طبعت الترجمة العربية في القاهرة سنة 1293هـ.
علم الملاحة في علم الفلاحة: لعبد الغني النابلسي طبع في دمشق 1299 هـ وهو مفيد في بابه ويغلب عليه أنه مختصر عن كتاب الفلاحة الذي نحن بصدده.
لائحة الفلاح لتعليم الزراعة والنجاح طبعت في بولاق سنة 1245وأيضاً سنة 1258 هـ وهي في فن الزراعة ولم يذكر أوضعها.
قانون الزراعة: طبع في بولاق سنة 1255 وأيضاً سنة 1257 وهو في فن الزراعة على(96/69)
الطريقة التي قل أن توافق أغراض الزراعة وأحوالها في الأقاليم المصرية.
الآيات البينات في علم النباتات: لأحمد ندى طبعت ببولاق 1
علم النبات: عربه عن الفرنساوية حنا عنجوري من رجال القرن الثالث عشر طبع في بولاق1257هـ.
كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما خلق بالأجرام السماوية والأرض والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية: لمحمد بن أحمد لاسكدراني الطبيب نزيل دمشق فرغ من تبيضه سنة 1290هـ وطبع في القاهرة في ج 3 سنة1297
منتخبات في فن الزراعة: ترجمه بشارة أبو عن اللغات الأورباوية وجعله على جزأين الأول في فن الزراعة مع بيان كيفية الأتربة والأجسام المعدنية والهواء والماء في تربية الحيوانات الداجنة ومداواتها إلى غير ذلك طبع في بيروت سنة 1884 ويليه رسوم وصور وأشكال أزهار ونباتات سورية وفلسطين والقطر المصري: تأليف الدكتور بوست طبع في بيروت مع صور وأشكال عديدة سنة1884.
مبادئ النبات: من كتاب النقش في الحجر للدكتور فانديك صاحب المؤلفات المعروفة طبع في بيروت.
مصنف في النبات طبع مصر أيلي رياض المتوفى في أوائل القرن الرابع عشر للهجرة.
النجاح للمزارع الفلاح لمحمود عطية طبع في مصر سنة 1305 وهو في الزراعة وما يجب على الزراع فعله.
مختصر تركيب أعضاء النبات ووظائفها: طبع في مصر سنة 1304هـ للطبيب المصري عثمان غالب باشا.
مصنف في 11 لمتلفة الزراعة القطن المصري وكيفية 11 مع وصف شجيرة القطن وذكر الطريقة الزراعية لعلي فهمي بالزقايق طبع في مصر سنة1895.
الآيات البينات في مشابهة النباتات للحيوانات طبع مصر سنة 1888م لمؤلفه محمود فوزي الحكيم.
اللآلي الدرية من النباتات القديمة المصرية لأحمد كمال المصري طبع على الحجر ببولاق سنة1306.(96/70)
الصفوة الزراعية في الفلاحة المصرية: طبع في مصر ولعله يوجد غير هذه من الكتب المطبوعة لم تصل إلينا أسماؤها وفوق كل علم عليم.
حيفا
عبد الله المخلص(96/71)
جمهرة المغنين
تأثير الغناء
ما من أحد ينكر تأثير الغناء في النفس فهو مشاهد دون غيره من الملذات فما يصيب العين يتولد منه البكاء وما يصيب اللسان يحدث منه الصياح وما يصيب اليد يحدث منه تمزيق الثياب واللطم وما يصيب الرجل يحدث منه الرقص قال ابن عبد ربه هل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن وقال أيضاً صنعة الغناء هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكثيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه جامع النفس وقال سهل بن عبد الله السماع علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع فلما ظهر عشقته النفس وحن إليه الروح وقال معبد لقد صنعت ألحاناً لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سقاء يحمل قربة على الترنيم بها ولقد صنعت ألحاناً لا يقدر المتكئ أن يترنم بها حتى يقعد مستوفزاً.
وقال ابن ساعد ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويتها أيضاً لأنه يحركها أما عن مبدئها فيحدث السرور واللذة ويظهر الكرم والشجاعة ونحوها وأما إلى مبدئها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها ولذلك يستعمل في الأفراح والحروب وعلاج المرضى تارة ويستعمل في المآتم وبيوتات العبادات أخرى وقال أفلاطون من حزن فليستمع الأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد نورها فإذا سمعت ما يطربها أشتعل منها ما خمد وكان يقال قديماً إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج وقال الغزالي في الأحياء لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما ينوم ومنها وما يضحكك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار بالأوتار حتى قيل إن لم يحركه الربيع وأزهار والعود
الجزء3 المجلد 9(96/72)
وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج وكيف يكون لك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.
ثم ذكر رضي الله عنه دليلاً على ما قاله قصة العبد الذي أهلك الجمال بطيب صوته إذ جعلها تقطع مسافة ثلاثة أيام في ليلة واحدة وبعده قال فإذاً تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على الجميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب انتهى ومن غريب ما ينقل في تأثير الغناء أنه خرج مخارق المغني مع بغض أصحابه إلى بعض المتنزهات فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأنه المسئول ضمن بها وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس أرأيت أن تغنيت صوتاً فعطف عليك خدود هذه الظباء لتدفع إلي هذه القوس قال نعم فاندفع يغني
ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء
أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء
مرت بنا سانحات ... وقد دنا الإماء
فما أحارت جواباً ... وطال فيها العناء
فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه مصغية إلى صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع العناء فعاودت(96/73)
الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها. وأغرب من ذلك ما روي عن عائشة قيل كان واقفاً بالموسم متحيراً فمر به أصحابه فقال له ما يقيمك ههنا فقال: أني أعرف رجلاً لو تكلم لحبس الناس ههنا فلم يذهب أحد ولم يجيء فقال له الرجل ومن ذاك قال أنا ثم أندفع يغني
جرت سنحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
بنفسي من تذكره سقام ... أعانيه ومطلبه عناء
قال: فحبس الناس واضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت الفتنة أن تقع فأتى به إلى هشام بن عبد الملك فقال له هشام: أرافق بتيهك فقال: حق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تياها. ومثل ذلك ما رواه الأصمعي قال قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السواد فشكا ذلك إلى الدرامي وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد فقال: ما تجعل لي أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك قال: ما شئت قال: فعمد الدرامي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول وقال شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به وكان الشعر.
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء بالمدينة وقالوا قد رجع للدرامي وتعشق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق مليحة بالمدينة إلا أشترت خماراً اسود وباع التاجر جميع ما كان معه فجعل أخوان الدرامي من النساك يمرون فيقولون ماذا صنعت فيقول ستعملون نبأه بعد حين فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدرامي إلى نسكه ولبس ثيابه.
وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صرد من الأرض فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت والله لا توصلن إليه فإذا هو عبد أسود فقلت له أعد ما سمعت فقال. والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلت ولكن أجعله قراك فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط وربما غنيته وأنا عطشان فأروى ثم ابتدأ فغنى(96/74)
وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما أنقضت أحدوثة لو تعيدها
قال عمر: فحفظته منه ثم تغنيت به على الحالات التي وصف فإذا هو كما ذكر ونظير ذلك ما رواه ابن عبد ربه قال: لما ولي عثمان بن حيان المري المدينة أجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار فقالوا له أنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والرثا ففعل وأجلهم ثلاثاً فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً فحط رحله بباب سلامة الزرقاء (المغنية) وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي قالت: وما تدري ما حدث بعدك وأخبرته الخبر فقال: أقيمي إلي السحر حتى ألقاه فلقيه فأخبره أنه أنما أقدمه حب التسليم عليه وقال له إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والرثاء فقال أن أهلك أشاروا عليّ بذلك فقال أنهم وفقوا ووفقت ولكني رسول امرأة إليك تقول قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال عثمان: إذاً أدعها فقال: إذا لا تدعك الناس ولكن تدعو بها فتنظر إليها فإن كان يجوز تركها تركتها قال: فادع بها فأمر بها أبن أبي عتيق فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه فحدثته عن مآثر آبائه ففكه بها فقال ابن أبي عتيق أريد أن أسمع الأمير قراءتها ففعلت فحركه حداؤها ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها فقال له قل لها فلتغن فغنت.
سددت خصاص البيت لما دخلته ... بكل بنان واضح وجبين
فنزل عثمان عن سريره وجلس بين يديها وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة فقال ابن أبي عتيق يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها فقال قد أذنت لهم جميعاً انتهى ولقد ثبت بالتجارب أنه يستشفي بالغناء من كثير من الأمراض حتى أنه تألفت في مدينة سهالنبورغ جمعية من النساء لتصدح كل يوم بالقرب ممن أجريت لهم العمليات بالأنغام الموسيقية صوتية كانت أو آلية. هذا لو أردنا استقصاء ما ورد في هذا الباب من التأثير العجيب لطال بنا البحث ولكنا أكتفينا بما أوردناه لضيق المقام.
آلات الغناء
آلات الغناء كثير تختلف باختلاف الأمم حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم فمنها العود وهو(96/75)
كما وصفه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إذ ذكر عند يزيد بن عبد الملك فقال: ليت شعري ما هو فقال له: أخبرك ما هو هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد الأحراك أعطافه وهز رأسه قيل أن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم وبكى عليه على ولده وقيل أن أول من اتخذه الملك المتلوشلح على مثال فخذ أبنه الميت وقيل بطليموس ويقال بعض حكماء الفرس. وأول من غنى على العود بألحان الفرس من العرب النضر بن الحارث بن كلدة وفد على كسرى بالحيرة فتعلم ضرب العود والغناء وقدم مكة وعلم أهلها ولقد زاد زرياب المغني بالأندلس في العود وتراً خامساً وكان قبلاً ذا أربعة أوتار وهي البم والزير والمثنى والمثلث التي قوبلت بها الطبائع الأربع فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطاً ولون الأوتار وطبقها على الطبائع وهو الذي أخترع مضراب العود من قوادم النسر وكانوا قبله يضربون بالخشب وفيه يقول أبو الفتح كشاجم:
لو لم تحركه أناملها ... كان الهواء يفيده نطقاً
جسته عالمة بحالته ... جس الطبيب لمدنف عرقاً
وفيه يقول أيضاً:
جاءت بعود كأن نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى
محفف حفت العيون به ... كأنما الزهر حوله نبتا
دارت ملاويه فيه فاختلفت ... مثل اختلاف اليدين مذ ثبتا
لو حركته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا
ومن آلات الغناء التي لا تقل عن العود القانون والمشهور أنه من اختراع الفيلسوف أبي نصر الفارابي فقد ذكروا أنه أصطنع آلة مؤلفة من عيدان يركبها ويضرب عليها وتختلف أنغامها باختلاف تركيبها ولكنها في كل حالة غريبة في بابها وقصة ضربه على آلته عند سيف الدولة مشهورة ولنا في القانون:
أصغت لتسمع شكوتي وتظلمي ... لما رأت دمعي جرى كالعندم
واستنطقت قانونها فأجابها ... في حال قتل المستهام المغرم
سل من أباح لها دمي قانونها ... أو قال قانون بأهراق الدم
ومن آلات الغناء الدف والمزهر والطبل والرباب والمزامير والشبابات والصلاصل(96/76)
والطارات والكوبة وكلها لا تحتاج إلى تعريف ومن آلات الغناء التي كانت معروفة بالأندلس (الروطة) هي ضرب من الرباب و (المؤنس) وهو قربة يركب فيها مزمار يتخذها أهل البادية في ملاهيهم وأغلب ما تكون في المزمارين و (الكثيرة) مصحفة عن كثيرة وهي القديم نوع من الرباب ويراد بها اليوم ضرب من السنطور تنقر أوتارها بالأصبع و (القثار) ويراد بها آلة ذات ستة أوتار ولها يد مقسومة إلى أنصاف ألحان مركب عليها دساتين و (الزنامى) نوع من المزمار نسبة إلى زنام الزمار المشهور أيام الرشيد و (الشقرة) و (النورة) وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والأخر رقيق واليوم أتى الفرنج بالأرغن والبيانو وغيرهما ولكن الاعتماد على الثاني لا يخلو منه بيت ذي نعمة ولو قليلة.
من دونت له صنعة في الغناء من الخلفاء وأولادهم
كان للغناء منزلة عظيمة عند الخلفاء كالشعر حتى أنه أشتغل به غير ومن أولادهم وكانت الشعراء تمدحهم بمعرفته قال العماني يمدح الرشيد.
جهير العطاس شديد النياط ... جهير الرواء جهير النعم
حكى ابن خرداذبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تغنى بها
كأن راكبها غصن بمروحة
ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحداً بعد واحد ورد ذلك صاحب الأغاني وقال أول من دونت له صنعة منهم عمر بن عبد العزيز فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيام أمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها كلها وصحح هذه الرواية وقال: كان عمر بن عبد العزيز أحن خلق الله صوتاً وكان حسن القراءة للقرآن أما الألحان التي صنعها فهي محكمة العمل لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق في الغناء وتمكن منه وهي:
الما صاحبي نزر سعادا ... لو شك فراقها وذرا البعادا
علق القلب سعادا ... عادت القلب فعادا
الايادين قلبك من سليمى ... كما قد دين قلب من سعادا
يا سعاد التي سبتني فؤادي ... ورقادي هبي لعيني رقادي
حظ عيني من سعاد ... أبدّاً طول السهاد
سبحان ربي برى سعادا ... لا تعرف الوصل والودادا(96/77)
لعمري لئن كانت سعاد هي المنى ... وجنة خلد لا يمل خلودها
أسعاد جودي لاشقيت سعادا ... وأجزي رأفة وودادا
وممن حكي عنه أن صنع في شعره غناء يزيد بن عبد الملك فإنه صنع لحناً وهو:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر ... ما للفؤاد سوى ذكراهم وطر
وممن غنى منهم الوليد بن يزيد له أصوات صنعها مشهورة وكان بضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز ومن مشهور صناعته في شعره.
وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها التجيبي من عسقلان
وأول من دونت له صنعة من خلفاء بني العباس الواثق على ما وراه صاحب الأغاني أما ابن خرداذبة فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء قال صاحب الأغاني: أخبرني محمد قال: سمعت أحمد بن محمد بن الفرات يقول سمعت تريباً تقول صنع الواثق مائة صوت ما فيها صوت ساقط وكان الواثق يضرب بالعود ومن الألحان التي صنعها:
أيا منشر الموتى من التي ... بها نهلت نفسي سقاماً وعلت
وممن حكى عنه أنه صنع في شعره وشعر غيره المنتصر وكان حسن العلم بالغناء ومن شعره الذي غنى فيه:
متى ترفع الأيام من قد وضعته ... وينقاه لي الدهر عليّ جموح
ومنهم المعتز فمما ذكر أنه غنى فيه:
لعمري لقد أصحوت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب
ومنهم المعتمد صنع لحناً في هذا الشعر:
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
ومنهم المعتضد فإنه صنع لحناً في:
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتاً يوافق نعتي بعض ما فيها
وفي: تشكى الكميت الجري لما جهدته ... وبين لو يسطيع أن يتكلما
وله غير ذلك وممن صنع من الخلفاء فأجاد وأحسن وبرع وتقدم جميع أهل عصره فضلاً وشرفاً وأدباً وشعراً وظرفاً وتصرفاً في سائر الأدب أبو العباس عبد الله بن المعتز وأول من صنع من أولاد الخلفاء وأتقنهم صنعة إبراهيم بن المهدي وعلية بنت الهدي كانت من(96/78)
أحسن الناس وأظرفهم تقول الشعر الجيد وتصوغ فيه الألحان الحسنة وكانت حسنة الدين مقبلة على قراءة الكتب لا تلذ بشيء غير قول الشعر وكانت تقول لا غفر الله لي فاحشة أرتكبها قط وكانت تقدم على أخيها إبراهيم في الغناء ومن صنعتها.
وجد الفؤاد ... وجداً شديداً متعبا
ولها غير ذلك شيء كثير وممن صنع أيضاً من أولاد الخلفاء أبو عيسى أحمد بن الرشيد وله غناء مشهور وعبد الله بن موسى الهادي وكان أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء. وعبد الله بن محمد الأمين كان يقول شعراً صالحة وأبو عيسى عبد الله بن المتوكل جمع له صنعة مقدارها أكثر من ثلثمائة صوت (له تلو)
دمشق
خليل مرد بك(96/79)
عدد الشيعة
ذكرت في مقالي (الشيعة في بر الشام) إن المسلمين يقسمون إلى فرقتين كبيرتين أهل السنة وهي الأكثر عدداً والشيعة وهي التي تتلوها في الكثرة ولا يقل عدد الأولى عن مائة وخمسين مليوناً كما لا يقل عدد الثانية عن تسعين مليوناً وعنيت بالشيعة كل من يدخل تحت اللفظ وهم الذين يقولون بالنص على إمامة علي عليه السلام وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوليوتفترق الشيعة فرقاً متعددةالخ فهو إذا شامل لجميع فرق الشيعة من أمامية أصولية وإخبارية وكشفية وزيدية وأسماعلية بهرة وأغاخانية وواقفية وفطحية وبكداشية لكن المقتبس حسب أن في العدد مبالغة ورجح أن الشيعة عشرون مليوناً ثم أنبرى أحد الأفاضل وهو عبد الله أفندي مخلص للبحث في هذا الموضوع فاستكثر ترجيح المقتبس وقدرهم باثني عشر مليوناً وقدر المسلمين أجمعين بمائتين وأربعين مليوناً الشيعة 12والأحناف164 والشوافعة64 والموالكة 16 والحنابلة 7 وذلك التقدير كما ترى ولو فرض أنه تسنى له تمييز الشيعة من فأحصاهم فكيف له بحصر عدد الأحناف من الشوافعة وبقية المذاهب الأربعة ومعرفتهم في بلد واحد فكيف في سائر أنحاء العالم.
أما تقديري عدد الشيعة بما لا يقل عن التسعين مليوناً فهو إحصاء مبنياً الدقة لأن عدد المسلمين عامة فضلاً عن الشيعة لا يرجع إلى إحصاء مدقق ونما هو تقديري بحت ولهذا بعدت مسلفة الخلاف بين مقدري عدد المسلمين فالدكتور ز جعلهم نحو 175 مليوناً وأستقل المقتطف هذا التقدير وقدرتهم الانسكلوبيد البريطانية المطبوعة سنة1907 م نحو 217مليوناً وقدرتهم المقتطف 262مليوناً وقدرهم الأستاذ غليوث 233 مليوناً في سنة 1906 وفي بعض المجلات أنهم 250 مليوناً ونقل الأمير شكيب أرسلان أنهم يبلغون ثلاثمائة مليون وهو المشهور بين المسلمين.
وليس بغريب على البلاد الشرقية أن يقع الخط في إحصاء نفوسهم وأكثرها لم يقع عليه إحصاء بالكلية والذي أحصي منها لم يكر على شيء من التحقيق هذه دمشق فقد قدرها المقتطف 530ألفاً وهي مع الضواحي 730مع أن أحصاءها الرسمي220 ألفاً والفرق كبير بين الإحصاء التقديري المعقول وبين الإحصاء الرسمي هذه الحال في الشرق عامة وفي المسلمين خاصة 1 الشيعة الذين أخفتهم التقية في كثير من البلاد وخفي بعضهم حتى على(96/80)
ابن بلدة وإن لم يخف على ابن مذهبه أختلف المقدرون في إحصاء الشيعة وأقل ما قيل فيه 12مليوناً كما قال الفاضل الحفاري وقدرهم بعضهم 20 مليوناً وعليه صديقنا صاحب المقتبس إبراهيم أفندي حلمي البغدادي أن عدد الفرقة الجعفرية منهم خمسون مليوناً وفي مقام آخر أن عدد الشيعة كلهم يبلغ 70 مليوناً والكاتب كما علمه قراء المقتبس ناضج التحقيق وقد سأل محمد أفندي جابر أصحاب المقتطف عن عدد الشيعة في الهند وإيران والصين فأجابوه بأنهم يرجحون أن يبلغ عددهم 40 مليوناً.
أن الشيعة مثابة يتوافدون إليها من أقطار الأرض وتكاد تكون محصورة حالاً زهاء 15 ألفاً 1 مثل لنجه وبندر عباس فيها من المسلمين 50 ألفاً وأيالة وكردستان الإيرانية ومقر حكومتها وأهلها كلهم سنيون وبادية جرجان من التركمان وأهلها كلهم سنيون.
قدر القاضي الحيفاوي نفوس الإيرانيين بتسعة ملايين وقدرهم المقتطف بتسعة ملايين ونصف وقال أنه غير معروف تماماً ولكنه يقدر تقديراً وجعلهم فانديك في المرآة المطبوعة في منتصف القرن التاسع عشر أثني عشر مليوناً فيما أتذكر ونقل عن أرفع الدولة العالم السياسي الإيراني المشهور أنهم يبلغون عشرين مليوناً وصاحب البيت أدرى بالذي فيه ويؤيده ما نقل لي الثقات من أفاضل الإيرانيين في العالم الماضي وقد قدم من الأستانة لما سمع من سفير إيران هناك إن حكومته أخذت في إحصاء النفوس فبلغت ثمانية عشر مليوناً وبقي قسم كبير من أطراف البلاد لم يحص بعد.
قلنا أن الدكتور فانديك قدرهم باثني عشر مليوناً في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد وأن بلاداً قضت خمسين عاماً في مهد الراحة والسلام أيام المرحوم ناصر الدين شاه مع خصب ورخاء لا يبعد أن يتضاعف عدد سكانها فضلاً عن زيادته بالمائة سبعين كما قدرنا. ومن عرف أخلاق الإيرانيين من اجتنابهم مخالطة غيرهم وعدم السماح بعرفة أحوالهم الداخلية لغير أبنائهم - أدرك سر الاختلاف في تقديرهم ةالإيرانيون مولعون بتعدد الزوجات ولا تكاد تجد بالغين سن الحلم غير مرتبطين بعقدة النكاح فلا غرابة إذا أزداد عددهم ثمانية ملايين في مدى ستين عاماً.
وأمل الهند فلا جدال في وفرة عددهم هناك وقدرهم بعضهم بنصف مسلمي الهند فإن لم يكونوا النصف فلا أقل من أن يكونوا الثلث.(96/81)
وشيعة الهند فيهم الأمامي والأصولي والإخباري والكشفي والزيدي والأسماعيلي (من بهرة وأغاخانية) والواقفي والفطحني وكانت بلاد كشمير ولم تزل مراداً لأهل العلم والإرشاد من متفقهة وكذلك بلاد حيدرأباد وفي بمباي مطابع للشيعة وفي كالكوتا من جرائدهم جريدة (حبل المتين) المشهورة.
وكانت الهند محل هجرة جماعية علماء جبل عامل ذهبوا إليها وعاشوا بين أهلها حتى وافتهم منيتهم ومن العاملين من تولى الوزارة لأحد ملوك الهند قبل أن يدخلها الانكليز ولم تزل الصلات لطلاب فقه الشيعة في العراق ترد بألوف الألوف من الهند وما في خزائن النجف وأحجار الكريمة والتحف النفيسة أثره من الهند تجارها وملوكها وأخبرني ببعض الخبيرين من العراقيين أن في تلك الخزائن مجموعة من الأحجار الكريمة فيها ما لا يوجد مثله في خزائن الملوك وإن الذي أعاد لمدينة كربلاء بناءها وسورها بسور منيع بعد أن غزاها الوهابيين وانتهبوا مجوهرات خزنة سيدنا الحسين بن علي عليه السلام وما فيها من التحف وباحوا المدينة لعسكرهم حتى أصبحت خراباً يباباً - وهو بعض ملوك الهند.
وأما الصين فتكاثر الشيعة فيها ليس فيه ريب وفي بكين عاصمة الصين مساجد خاصة بالشيعة غير المساجد المشتركة بينهم وبين عامة المسلمين هناك وما زال الوافدون من شيعة الصين وبلاد التيبت يزورون مشاهد آل البيت في العراق وكثير من فضلاء العراق زاروا بلاد التيبت وقاموا بين ظهراني أهلها م الشيعة ورأيت جماعة من شيعة جبل عامل في مكة جماعة من شيعة الصين وتألفوا حتى تبودلت الهدايا بينهم وأما البلاد العربية - فاليمن على أتساع رقعتها وتكاثر نفوسها نحو نصف أهلها من الزيدية الشيعة ولم تخل من الأمامية وعدتهم قليلة هناك - وأما العراق - فثلاثة أتباع أهله من الشيعة وعهدهم بالتشيع قديم وأمرهم مشهور حتى لقب التشيع بدين الكوفة قال أبو تمام
وكوفني ديني على أن منصبي ... شآم ونجري آية ذكر النجر
وأما الحجاز - ففيه كثير من الشيعة الأمامية وهم في البادية أكثر منهم في الحواضر وفي الحجاز نواح عامة أهلها شيعة الفرع والعوالي وأما سورية فقد سبق القول في مقالنا السابق الذكر أن الأمامية منهم يبلغون نحو مائتي ألف نسمة ولكن غير الأمامية منهم والمنتسبين إلى الشيعة في سورية يبلغون قريباً من ضعفي هذا العدد.(96/82)
وفي بلاد عمان كثير من الشيعة وفي نفس مسقط - على تباين ما بينهم وبين الخوارج من أهلها - عدد لا يقل عن إلف رجل بيدهم أزمة تجارتها وهم معروفون بمذهبهم أخبرني أحد العاملين وكان أقام فيها مدة من الزمن ولقي من كبير تجارها الحاج عبد العزيز كل حفاوة وإكرام لأنه شيعي عاملي.
وأما الترك فالبكدشيون منهم - ومعظمهم في بلاد الروملي ومنهم قسم صالح في الأناضول وكريت ونصف بلاد ألبانيا منهم وليس البكداشيون كل شيعة بلاد الأتراك بل يوجد بينهم من الشيعة الأمامية قرى مر بها مجاهد وجبل عاملة في حرب روسيا عام 1203هجرية فتعرفوا في ما بينهم وأكرموا أخبرني غير واحد منهم بهذا الخبر.
وأما روسيا فحسبك أن الأكبر من بلاد قفقاسيا من الشيعة فباكو المعروفة ببادكوبا ونواعيها شيعة ومنها المحسن الكبير الحاج زين العابدين تقيوف صاحب المبرات والخيرات ومشيد المدارس والكليات للمسلمين في روسيا من ماله وكنجه وبلادها شيعة وكذلك ايروان (أريفان) وما إليها وقره باغ وحاليان وضواحيها ولنكران وقواها ونحجوان وما والاها وشاه وما حولها كلهم من الشيعة.
أكثر من النصف شيعة وفي باطوم وتفليس عدد لا يستهان به منهم وفي استراخان وبلادهم منهم كبير وقد جمعتني الأقدار بعامل من أهل العلم والدين من دربند تزوجت ابنته في جبل عامل وجاء لزيارتها فاخبرني بوفرة عدد الشيعة في تلك الأرجاء وأن جماعة من الشيعيين في بنزدوسق دعوه إليهم ليقيم بينهم مدة من الزمان فأجاب دعوتهم فرأى ما يطرب له كل مسلم من التحاب والتآلف الموجود بين المسلمين هناك رأى الملا السني في بنزدوسق كان أكثر الناس ملازمة لصحبته وأنه أصيب بالرماتزم حتى عجز عن النهوض إلا بمعونة شخص آخر فتولى ذلك منه السني ولم يدع أحد غيره يقوم مقامه وأخبرني أنه لما قامت الفتنة في البلاد الساحلية وعامة أهلها شيعة بينهم وبين الروسيين هب سكان الجبال وجمهورهم من أهل السنة لنجدة أخوانهم فرابطوا معهم في الثغور حتى أنجلى الفتنة وفي مرو وطاشقند وسائر بلاد سمرقند من الأملاك الروسية بل في تركستان الروسية عدد وفير منهم.
وفي الأفغان عدد قدره بعض الأفاضل بثلاثة ملايين ولعل فيه مبالغة وفي بخارى قسم(96/83)
عظيم يوازي عدد الشيعة في الأفغان وقد ثار ثائرة الجهل والتعصب في شهر محرم سنة 1328 هجرية هناك بين السنة والشيعة فوقفت الفتنة وأنتجت حرباً بين الطائفتين عجزت الحكومة عن إطفاء جذوتها حتى تدخلت الروسية في الأمر وخمدت لهيباً وذلك دليل على وفرة عدد في بخارى حتى قيل أن الوزير الأول لأمير بخارى منهم وفي بلاد الزنج شيعة أخبرني بعض المسافرين من أبناء جبل عامل وهو علم وصدق أقام في زنجبار مدة من الزمن تاجراً أنه عرف بين المختلفين إلى زنجبار من أهل الفاحية رجلاً شيعياً أخبره لهم سواداً بين سوداني الديار وفي نفس زنجبار جماعة أو لو يسار فاضل آخر عاملي فأكرمه بالجملة فإنه قلما دخل الإسلام بلاداً إلا كان للشيعة فيها رجال ظاهرون أو مستترون تبعاً للحال والموقع.
ومن المحقق وجود جماعة منهم بين مسلمي جزائر فيلبين وبلاد الكاب أكثرهم من الهنديين المهاجرين.
إذا عرفت ذلك فلا تستبعد أن يكون تقديري مقارباً للحقيقة وإليك تفصيل ما قدرته وإن كان لم يخرج عن حيز التقدير ولكنه غير بعيد عن الحقيقة.
عدد المسلمين عامة عدد الشيعة منهممليونمليون65 25 في الهند35 11 في الصين5010 في العرب2510 في الأتارك والأفغان وبلاد التتر المستقلة وتركستان30 >19 في إيران3010 في البلاد الروسية402 في أفريقيا25 1 في جزائر جاوه ومالاقا والبحر المحيط الهندي10 >1 سائر الأقطار30090
ظهر من مقالي السابق الذكر أنني قدرت المسلمين بمائتين وأربعين ولكني لم أقطع بذلك ولا يمنع أنني أذهب إلى أكثر من هذا العدد ومن المقرر أن أكثر للمسلمين التي تأخذها عن طريق أوربا إلى الجمعيات التبشيرية التي لا يرضيها وفرة عدد أتباع النبي لامي صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك لا ينبغي الركون إليها وأخذها مأخذ القضايا المسلمة.
النبطية
أحمد رضا
(المقتبس) يروقنا التحقيق في مثل هذا المبحث المفيد ولكن كنا نرغب من صديقنا كاتب هذه النبذة لو عز أقواله إلى مراجع أو نصوص يركن إليها فإن نسبة الخبر مجرداً إلى أحد(96/84)
الأفاضل أو أحد التجار كما تجد في مقاله لا تكفي لتأكيد أمر إحصائي تشعبت طرق الخلاف فيه وقد رأيناه يكثر من ذكر البلاد والمواضع ويوهم أن الشيعة منتشرون في أنحائها وإذا أراد الدليل أسند الخبر إلى تاجر منهم أو سمى رجلاً أقام في ظهرانيهم كالحاج عبد العزيز والحاج زين العابدين والدربندي لمذكورين في مقاله ولا تجده يأتي بالبرهان المقنع عند كلامه على شيعة الأصقاع الكبيرة كالحجاز والصين والهند وبلاد الزنج وجزائر فيلبين وبلاد الكاب ورأيناه يدمج في بحثه جميع الفرق الإسلامية التي وافقت الشيعة ولو على بعض ما جنحوا إليه والمعروف أن لفظ الشيعة إذا أطلق عند علماء البلدان والإحصائيين اليوم لم يكن فيه ما يدل على شموله عامة من أخذ برأيهم فالزيدية مثلاً وهم نصف سكان اليمن ينفردون في زمننا هذا بلقبهم الذي اشتهروا به وإن كان علماء الكلام والتوحيد والدين من المتقدمين يعدونهم في جملة الشيعة ويرون أنهم فرقة من فرقهم وبالجملة فإن باحثنا توسع في بحثه هذا حرصاً منه على تأييد رأيه الأول وولد من اللفظ الخاص معنى عاماً فتسنى له أن يملأ صحيفته بالأرقام الكثيرة والأعداد الدالة على وفرة عدد أخواننا الشيعة ومن شايعهم وذهب إلى ما ذهبوا إليه من جماعات المسلمين وفرقهم.(96/85)
أخبار وأفكار
ماليتنا
يؤخذ من خطاب جاويد بك وزير المالية في مجلس النواب العثماني أنه لما أعلنت الدولة الحرب على دول الائتلاف لم يكن لديهم من المال غير مليون ومائتين وأثني عشر ألف ليرة كانت مدخرة في المصرف العثماني على أن هذا المبلغ الزهيد لم يكن وافياً بنفقات أسبوع واحد فاضطرت الدولة إلى عقد فروض بربا قليلة لدى الخزينة الألمانية وقد بلغت مقادير هذه القروض تسعة وسبعين مليوناً من الليرات وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ أحد عشر مليوناً ونصف مليون تناولناها من ألمانيا ذهباً وسفائج بلغ المجموع تسعين مليوناً بيد أن قروضنا لم تنحصر في هذه الأموال بل استلفنا من ألمانيا مليونين وثلثمائة وسبعين ألف ليرة وأرصدناها للمشاريع المستعجلة وهذه السلفات أو القروض قد أنفقناها وننفقها على سد الحاجات الداخلية.
وهناك عقود أخرى عقدناها مع ألمانيا والنمسا كأثمان النقل على السكك الشركات الحديدية وقسم تحاويل الأسهم العثمانية في بلاد الحلفاء وأثمان البضائع والذخائر والمواد الحربية التي ابتعناها من الشركات والمعامل في برلين وفينا. فقد اقترضنا من حكومة ألمانيا عشرين مليون مارك لإيفاء ديون سكة حديد الأناضول وخط بغداد وهي النقليات العسكرية وتناولنا منها مائتين وثمانية ملايين مارك لتأدية أثمان الذخائر التي قدمتها إلينا والمعامل المصانع الألمانية وكذلك عقدنا سلفة قدرها مائتان وخمسون مليوناً من الماركات أرصدناها لمشاريع أخرى ويكون المجموع أربعمائة وستة وتسعين مليون مارك أو خمسة وعشرين مليون جنيه ولألمانيا دين أخر على خزينتنا يبلغ عشرين أو خمسة وعشرين مليوناً وهي لقاء الحربية.
وصفوة القول أن مجموع قروضنا التي عقدناها مع ألمانيا سواء بحساب المارك أو بحساب التحاويل على الخزينة أو أثمان الحربية منذ ابتداء الحرب إلى اليوم يبلغ مائة وأثنين وأربعين مليون ليرة على أن هناك قرضاً آخر لم يدخل في هذا الحساب عقدناه مع النمسا لقاء أثمان ما اشتريناه من معاملها وشركاتها ويبلغ هذا القرض نحو مائتين وأربعين مليون 1 أو أثني عشر مليون ليرة وعلينا ديون تراكمت منذ بداية الحرب وهي ثمانية ملايين(96/86)
وثلثمائة وثلاثة وثمانون ألفاً سندات بنك القروض التي لم نقم بتأديتها وبقيت ديون أخرى تبلغ مليون ليرة وهي مائة وستون ألف ليرة قيمة نصف الرواتب التي لم تندفع ومائتان وستة وخمسون ألف ليرة للمتقاعدين في الولايات وثلثمائة ألف لموظفي الولايات أيضاً وأجتمع دين أخر في وزارة الحربية وهو ثلاثة ملايين وأربعمائة وثمانية وثمانون ألف ليرة بسندات الأداء ولكنها بقيت حتى الآن ديناً على الخزينة وهناك دين أخر يناهز ستمائة وأربعة عشر ألف ليرة تراكم في وزارة الحربية غير أنه على وشك التأدية هذا غير الديون التي اجتمعت في الولايات والناطق الأخرى.
وعلى هذا تكون ديونناً إلى نهاية أب في هذه السنة نحو مائة وخمسة وستين مليوناً من الجنيهات ما عدا أثمان التكاليف الحربية وبعد تنزيل خمسة ملايين ليرة من الأوراق النقدية التي أرصدناها على حساب ألمانيا وتبلغ مقادير التكاليف الحربية على وجه التخمين نحو سبعة ملايين وثمانمائة وثلاثة وخمسين ألف ليرة وإذا طرح منها نحو مليون وتسعمائة ألف ليرة صارت محسوبة بموجب قوانين مختلفة بقيت خمسة ملايين وتسعمائة وتسعة وأربعين ألف ليرة وإذا أضفنا إلى ديونناً أثمان التكاليف الحربية الأخرى وهي نحو عشرين مليوناً بلغ مجموع الديون في زمن الحرب نحو مائة وثمانين مليون ليرة فنكون قد أنفقنا في كل شهر نحو خمسة ملايين ليرة.
هذا هو مجموع ما عقدناه من القروض واستلفناه من المصارف وأنفقناه من الأموال والأعتاد في أثناء الحرب وإذا أضفنا هذا المبلغ إلى ما كان على خزينتنا من الديون قبل الحرب وهي مائة وخمسون مليون ليرة بلغ مجموع ديوننا إلى هذا اليوم نحو ثلاثمائة وثلاثين مليوناً من الجنيهات وإذا حسبنا معدل تقاسيطها السنوية مئة في المئة نضطر أن ندفع كل سنة مقدار احد وعشرين مليون ليرة.
أما نقودنا المتداولة بين أيدي الأفراد فهي عبارة عن المسكوكات الذهبية والفضية والمعدنية النيكلوأقدم نقودنا الذهبية هو ما أصدرته الخزينة العامرة في أيام السلطان عبد المجيد بين سنة1260و1276هـ وتبلغ أربعة عشر مليون وأربعمائة وثمانين ألف ليرة وفي أيام السلطان عبد العزيز ضربت الخزينة من الذهب بين سنة1277و1297ما يناهز أربعة عشر مليوناً وتسعمائة وسبعين ألف ليرة وفي أيام السلطان المخلوع سك من المسكوكات(96/87)
الذهبية بين 1292وسنة1320ما ستة عشر مليوناً وستة وثلاثون ومنذ جلوس مولانا السلطان الحالي على أريكة الملك إلى اليوم ضربت الخزينة من نقود الذهب ما يزيد على ثلاثة وعشرين مليوناً وثمانمائة ألف ليرة فيكون مجموع الذهب المتداول في بلاد السلطنة لا يزيد جميعه على تسعة وستين مليون ليرة ومائتين وستة وثمانيين ألف ليرة يخرج منها نحو مليون ليرة أعيد سبكها على أنه يجب أن لا ننسى الحوادث والكوارث التي حدثت في هذا الملك الواسع في مدة سبعين عاماً فقد ذهبت كثيرة بقي فيها 11 كبيرة من النقود ولذلك يعتقد الألمانيون أن نقودنا الذهبية اليوم لا تزيد على أربعين مليوناً على ربع هذا المبلغ لم يبرز إلى ميدان التداول فهو مخزون في البيوتات المالية وفي صناديق أرباب اليسار.
عن النقود الفضية اقل كثيراً من الذهب ففي أيام السلطان عبد الحميد صدر من مسكوكات الفضة ما يقرب من ثلاثة ملايين وثمانمائة وخمسة وستين ألف ليرة وفي أيام السلطان عبد العزيز أبرزت الدولة من نقود الفضة نحو ثلاثة ملايين ومائتين وثمانية آلاف ليرة وفي أيام السلطان عبد الحميد الثاني صدر منها نحو أربعة ملايين 1 وتسعة وعشرين ألف ليرة وفي أيام سلطاننا الحالي أبرز للتداول منها ما قيمته مليون وثلاثمائة وخمسة وسبعون ألف ليرة وبذلك تناهز جميع مسكوكاتنا الفضية ثلاثة عشر مليوناً ومائة وسبعة وسبعين ألف ليرة وقد بقيت المسكوكات الفضية في بلادنا حتى أنه انتقلت إلينا من البلاد التي وقعت في مخالب المستعمرين وهناك مسكوكات معدنية أخرى من النيكل وغيره تبلغ قيمتها مليوناً ومائتي ألف ليرة وبالجملة فإن مقدار ما تتداوله الأمة من النقود على اختلاف الأنواع والأجناس لا يزيد على خمسين مليوناً.
إن هذه الكمية القليلة من النقود لم تكن كافية لإدارة الحركة الاقتصادية في البلاد أيام هذه الحرب ولهذا السبب أصدرت الدولة القوائم النقدية تلافياً لما يحدث من في الأسواق التجارية وقد أبرزت أوراقاً نقدية بقيمة ستة ملايين وخمسمائة وتسعة عشر ألف ليرة لقاء أول قرض عقدناه مع ألمانيا ولكنها استردت منها ما يزيد على ثمانمائة وسبعة وخمسين ألف ليرة وما بقي منها أرصد لقاءه في صناديق الديوان العمومية في ألمانيا ما يناهز ثلاثة ملايين وثلاثمائة وخمسين ألف ليرة وفي النمسا ما يبلغ مائة مليونين ومائة وتسعة وآلاف ليرة وهذا هو القسم الأول من الأوراق النقدية الذي تؤديه الديون العمومية بعد انعقاد(96/88)
الصلح بستة أشهر أما القرضان الثاني والثالث فهما عبارة عن الأوراق النقدية وهي التي تسدد بعد الحرب بسنة واحدة ولكنها لم يكن 1 مال مرصود في الصناديق كما في القسم الأول غير أنه يجب أن نعرف أن هذه القوائم التي تبلغ تسعة عشر مليوناً هي لقاء تحاويل الخزينة على ألمانيا وهي الآن في أيدي الديون العمومية فألمانيا مضطرة إلى دفع هذا المبلغ ذهباً في الأستانة بعد انعقاد الصلح بعام أما القسم الرابع وهو الذي يبلغ سبعة عشر مليوناً وسبعمائة وسبعة وسبعين ألفاً وتسعمائة وأربعين ليرة فشأنها شأن الذهب وهي تحاويل على الخزينة الألمانية التي تدفعها بعد الحرب بثلاث سنين على أقساط ففي كل عام تسترد منها مقدار سبعة ملايين ومائتي ألف ليرة وتدفعها ذهباً في الأستانة لحاملي هذه القوائم وآخر ما أصدرته الدولة ما قيمته اثنان وثلاثون مليوناً تؤديها ألمانيا ذهباً في العاصمة بعد الحرب بسبعة أعوام ففي كل من السنة الثامنة والتاسعة تدفع ستة ملايين وفي كل من السنة العاشرة والحادية عشرة تؤدي عشرة ملايين فلا يدخل العام الثاني عشر إلا وتكون الأوراق قد تحولت إلى ذهب إبريز ولا يبقى منها شيء للتداول.
وإذا قسنا هذه الشروط في إصدار أوراقنا بما تصدره الحكومات الأخرى علمنا أن قوائمنا أكثر اعتبارا وأعظم قيمة من غيرها فإن الأوراق النقدية التي مصرف الإمبراطورية الألمانية لم يذكر فيها زمن تأديتها ذهباً فهي إلى أجل غير معلوم وكذلك أخرجت فرنسا أوراقاً قيمتها ستة عشر ملياراً على هذا النمط بدون أن تعطي ضماناً على زمان تأديتها وهكذا فعلت النمسا والمجر فقد نشرت أوراقاً بقيمة عشرة ملايين كورون بلا وعدة معينة ولذلك فلا محل للاشتباه في أوراقاً والتردد في تداولها فهي صادرة من أعظم حكومة في العالم وتضمنها حكومة ألمانيا المعروفة باقتدارها لمالي وفي غالب أن لا شيء يدعو إلى الريبة والشك غير ما حدث في حرب سنة 1293 مع روسيا على عهد السلطان السابق فقد أصدرت الدولة مقداراً وفيراً من القوائم في زمن الحرب وتنصلت من دفعها أيام السلم هذا هو الذي زعزع الثقة المالية غير أن هذا الأمر هم فاضح لا لأن الدولة اليوم غيرها بالأمس فهي تسير على أصول ونظامات محكمة كما أن الأوراق القديمة لم تكن مضمونة من حكومة عظيمة كما هي أوراقنا اليوم.
لم تكد الحرب تنشب أظفارها في العالم لا واختفت النقود عن الأنظار وأختزنها الناس في(96/89)
صناديقهم لا في بلادنا فقط بل جرى نظيره في بلاد العالم المتمدن أيضاً ففي فرنسا مثلاً لا يستطيع المرء أن يرى بعينه قطعة من النقود حتى في عاصمتها فضلاً عن ولاياتها فاضطرت البلديات أن تصدر أوراقاً بقيمة فرنك واحد تسهيلاً للمعاملات وترويجاً للأشغال لكيلا يقف دولاب الحركة الاقتصادية ولكن لم تكن ثابتة المبدأ وقائمة على أسس التأمين كما هي قراطيسنا وإن ما أصدرناه من الأوراق وهو نحو 46 مليوناً بلا ضمان هو معادل لمقدار النقد المتداول وهذا مما يزيل كل شك وريب في أوراقنا ولا يدع مجالاً لهبوطها إلى أقل من قيمتها الحقيقية.
كانت أميركا قبل الحرب ترسل كل عام مقداراً عظيماً من الذهب إلى خزائن أوربا ومصارفها لأن صادراتها التجارية كانت أقل من وارداتها ولما أعلنت الحرب العامة اضطرت دول الائتلاف إلى ابتياع ذخائر كثيرة من أعتاد الحرب من مصانع أميركا فانتقل الذهب إليها وقد كان ما في خزائنها لا يتجاوز ستة مليارات فأصبح اليوم يناهز خمسة عشر ملياراً وبعث الضيق دول الائتلاف أن تعقد قروضاً طائلة بربا فاحش لم يسبق له نظير في الأسواق الأميركية فأصبحت دولهم رازحة تحت أثقال الديون.
لا فرق بين الذهب والقراطيس المالية المعتبرة لأن الاثنين لا يؤكلان ولا يشربان وقيمتهم اعتبارية ولكن الناس اتفقوا أن تكون لها قيمة أضافية وما دامت الأمم تستطيع أن تدفع احتياجها المبرم بهذه القراطيس فلا يمضي قليل من الزمن إلا وتصبح أكثر شيوعاً واستعمالا في الأسواق المالية ولو اتفقت كلمة شعوب العالم على منع الذهب من التداول وأقامت مقامه الورق لما بقي للذهب ثمن لأنه لا يدفع جرعاً ولا يروي غليلاً وإذا نظرنا إلى نفقات الدول التجارية رأينا أن دول التحالف أقل نفقة من الائتلاف وأن الدولة العثمانية كانت أكثر الأمم اقتصاداً في النفقة فقد أنفقت إنكلترا مائة مليار فرنك وخسرت فرنسا ستين ملياراً وصرفت ألمانيا مثل هذا المبلغ أما الدولار 1 فلم تناهز نفقاتها أكثر من أربعة مليارات غير أن هاتيك الدول استطاعت أن تقترض من شعوبها ومن بيوتاتها المالية فلم تضطر كثيراً إلى استعمال القراطيس المالية فإن ألمانيا لم تصدر من الأوراق أكثر من تسعة مليارات في بلادها وفي ما احتلته من ديار أعدائها كبلجيكا وبولونيا لأنها كانت تستعين بنقود الأمة عند 1 الحاجة وتتناول ما يسد عوزك من البنك الأمبرطوري فتعقد معه(96/90)
سلفات وقروضاً بشروط معتدلة ولما لم يتيسر لنا في بلادنا ما تيسر لألمانيا في مملكتها من عقد قروض داخلية لفقدان المعاهد الاقتصادية اضطررنا إلى إبراز القراطيس وكذلك تفعل ما دامت الحرب ناشبة قلنا أن ألمانيا تعهدت بدفع قيمة الأوراق النقدية ذهباً في العاصمة حسب الشروط المدونة على أننا استطعنا أن نقطف ثماراً يانعة من الائتلاف المنعقد بيننا وبينها فهو مشيد على أسس التساهل والولاء غير أن بلادنا تشتبك بعد الحرب مع جميع دول العالم بعلائق أقتصادية أكثر من الأول وقد كنا قبل الحرب مثقلين بأصفاد الديون لشعوب أوربا لأن الوارد من البضائع والسلع كان أعظم من الصادر حتى أننا كنا مضطرين ندفع مقدار تسعة ملايين للمرابين الأجانب كما أن الأمة تخسر كل عام أضعاف هذا المبلغ في المعاملات التجارية فكان يتسرب إلى مصارف أوربا وبيوتها المالية نحو خمسة وعشرين مليوناً من الليرات يبتزه الإفرنج بافانين متنوعة من ثروة السلطنة مما لا يتيسر لهم بعد الحرب.
وبلغت ميزانية هذه السنة نحو ثلاثة وعشرين مليوناً من الواردات وستة وأربعين مليوناً من النفقات على أن الحقيقة لم تزل مجهولة فقد قال جاويد أن الوردات أقل من هذا التخمين كما أن النفقات تناهز ثلاثة وثمانين مليوناً ففي فصل أعانة العائلات التي لا معين لها أرصدت الدولة مليوناً من الليرات في حين أنها أنفقت على هذا المشروع نحو خمسة ملايين وكذلك يقال عن ميزانية أسكان المهاجرين فهي لا تزيد على خمسمائة ألف ليرة ولكن زادت النفقات على مليون ونصف وتحتاج الدولة إلى تخصيص تسعمائة وثلاثين ألف ليرة حسب قانون التكليف الزراعي اما الواردات فقد أنتقدها فصلاً فصلاً وقال إن واردات الجمرك مشكوك فيها فقد خمنت الواردات بمليونين وسبعمائة وخمسين ألف ليرة إذا كانت نصف السنة نقضيها في الحرب والنصف الأخير منها في السلم بيد أن مجموع ربع الجمارك لم يزد هذا العام على سبعمائة وخمسين ألف ليرة ولهذا وجب طي مليونين من ميزانية الواردات التي لا تنيف حينئذ على احد وعشرين مليوناً على أن معظم فصول النفقات لا يكون له أثر في ميزانيتنا بعد الحرب فيذهب عن كاهلها خمسة ملايين نصف كنا نعطيها للمعوزين والمحاويج وكذلك تهبط ميزانية إسكان المهاجرين ويرتفع عن عاتقها ربا تحاويل الخزينة وهو يبلغ مقداراً جسيماً وأجور السكك الحديدية وهي تزيد على(96/91)
ثلاثمائة ألف ليرة ولا نعود ننفق على مجريتنا وبريتنا كما يفعل اليوم بل على تنشيط الزراعة والتجارة والصناعة وتوليد منابع جديدة نسد بها العجز في ميزانيتنا ونحفظ بها شرفنا المالي على أن نفقاتنا لا تزيد بعد الحرب على أربعين مليوناً من الليرات. نحن لا ننكر أن الأمة تصاب بفتور في حركتها التجارية بعد الحرب لم لاقته من الخسائر في النفوس والنفائس فتنقص النواتج وتقل 1 وهذا طبعاً يولد تناقص واردات الدولة فتكون الواردات بعد الحرب أقل منها قبلها بثلاثة ملايين فتصبح سبعة وعشرين مليوناً بعد أن كانت ثلاثين مليوناً على أننا يمكننا تلافي هذا النقص فقد تيسرت لدينا مصادر ثروة جديدة وهي واردات الجمارك والأعشار والضرائب على التبعية الأجنبية ويمكن تخمينها بأربعة أو خمسة ملايين ولا مناص للدولة من أحداث ضرائب تستقي منها ماليتنا ما يروي غليلها اقتداء بدول العالم وإصلاحا لما أخربته الحرب فقد التمست حكومات العالم طرقاً شتى لا يجاد موارد لها فطرحت رسوماً ومكوساً على المكاسب التي كانت سبباً لإثراء التجار في الحرب وشاركتهم في أرزاقهم وكانت تسد النفقات التي أنشأتها الحرب بالاستقراض وبالمكوس الحديد فقد أحدثت فرنسا ضرائب كانت وارداتها منها نحو مليار مارك واقتدت بها ألمانيا فاستطاعت أن تجمع واردات من المكوس الحديثة نحو مليار ونصف مليار مارك وبلغ ريع المكوس الحربية في إنكلترا نحو ثلاثة مليارات من الليرات.
ومن أهم الضرائب التي على أحداثها ضريبة على المكتسبين من الحرب تفيد الدولة ولا قضر بالأمة وثروتها وهذا عمل مشروع التجأت إليه جميع دول الأرض على الإطلاق فقد رأينا كثيراً من أرباب رؤوس الأموال الصغيرة أصبحوا من أرباب الثروة الطائلة بسبب الحرب وليس من العدل أن يتمتعوا بهذه النعم ويضنوا على امهم الحنون بقليل من المال تنفقه على ما يحفظ ثغورهم ويقيم موازيين العدل بينهم وتحمي متاجرهم وأوطانهم وإذا قسنا مقدار الضرائب التي يؤديها المتوطن في فرنسا أو إنكلترا أو في إيطاليا أو ألمانيا ظهر لنا عطف الدولة على رعاياها ورأفتها بالشعوب الخاضعة لها فهي ارأف الحكومات المتمدنة فلا تحمل الوطني فوق طاقته ولا ترهقه في الضرائب والمكوس كما هي الحال في البلاد الأجنبية. وقد يستكثر بعضهم ويتصور غولاً اقتصاديا يفترس استقلالنا ويزدد موارد حياتنا ومرافق ثروتنا ولكن الذي يعرف غنى البلاد العثمانية بمناجمها ومعادنها(96/92)
ومراعيها وحراجها يزول منه الخوف على المستقبل فديوننا لا تزيد على ثلثمائة وخمسين مليوناً من الليرات في حين كانت ديون فرنسا قبل الحرب نحو مليار جنيه وديون إنكلترا مليارين وديون ألمانيا سبعمائة مليون وديون إيطاليا نصف مليار على أن أوسع ساحة وأخصب تربة وأجمل بقعة وأغنى في الكرة وإذا تمشت فيها روح العصر واستثمرت كنوزها وخزائنها وتعودت الأمة خوض المعارك الاقتصادية فأقيمت المصارف وتألفت الشركات وعمرت البلاد وأنشئت الغابات وسقيت البقاع واشتغلت يد الصانع والعمل في المناجم والمعادن وانتشرت المصانع العقول وتبدلت المحاريث القديمة بسكك بخارية وارتبطت البلاد بشبكة من خطوط الحديد فلا تلبث قليلاً من الزمن إلا وتكون مواردنا أعظم من واردات أكبر دولة في العالم وقد تعلمنا من هذه الحرب الضروس الاعتماد على النفس وأن الحياة عراك عقلي دائم يفوز فيه الشعب العامل ويندحر في ميدان الحامل المكسال أهـ.
حياة أديسون العلمية
لم يبق أحد غير واقف على شهرة أديسون العالم الأميركي المشهور باختراعاته واكتشافاته الكبيرة وقد أقيمت له في جامعات أميركا حفلات عظيمة بمناسبة بلوغه سبعين عاماً من حياته التي قضاها في الجد والاجتهاد.
ولد أديون الأخصائي في علم الكهرباء سنة 1847 في مدينة ميلان وهي من مقاطعة أوهايو في البلاد المتحدة الأميركية وقد توظف بادئ الأمر في الخط الحديدي الكبير بين كندا وميشيكان الوسطى فبقي في هذا العمل بضعة أعوام في غضونها أصدر جريدة علمية تولى بنفسه تحريرها وطبعها بلا مساعدة من أحد دعاها جريدةالخطوط الحديدية الكبرى وكانت من ركاب القطارات.
وفي سنة 1862 تولى أديسون وظيفة في دائرة البرق في بورهرثون بعد عامين أخترع برق دوبليكس وهو إيجاد طريقة لتسهيل مرور برقيتين الواحدة ذاهبة والأخرى آتية في وقت واحد وعلى خط واحد وهو اختراع كان له اثر عظيم في المخابرات البرقية أفاد التجارة والسياسة في اقتصاد الوقت وفي سنة 1868 أختار الإقامة في مدينة بوستون وهناك زاول بعض أرائه وتدقيقاته في مسألة الأدوات الاهتزازية وفي سنة 1869 فتح(96/93)
مصنعاً لأدوات البرق على أحدث طرز وأكمل صناعة.
وفي سنة أسند إليه منصب مهندس شركات الخطوط البرقية على اختلافها وقد باع مخترعاته من هذه الشركات لقاء مبلغ سنوي تدفعه إليه ومن ثم أصبح من أرباب الثروة واليسار فأنشأ معمله الكبير المسمى مثلو - بارق في مدينة وونش من مقاطعة ينوجيرسي الأميركية ومن جملة اختراعاته سنة1877 الاكتشاف المدعوميفروته ليفون وهو الذي كان عاملاً وحيداً في استعمال التليفون وفي السنة نفسها أوجد أداة ميليفون وأعقبها باختراعات كثيرة وقد بلغت اكتشافاته نحو ستمائة من أهمها اختراع الفوتوغراف الحاكي ولا يزال مثابر على أعماله العقلية بهمة ونشاط قلما نرى نظيره في الشبان ففي كل سنة ينال امتيازاً بل امتيازات كثيرة بإبداع جديد وأثر حديث.
الصفر
يرى كثيرون أن عادت استعمال الصفر في الرياضيات كان من علائم الارتقاء وقد تبين أن قدماء البابليين لم يكونوا يعرفوا الصفر في الأعداد وأن الهنود لم يستعملوه إلا نحو سنة 600 للمسيح وأقدم استعمال للصف عند الهنود لم تختلف فيه كان منذ سنة 870 ويؤخذ من البحث الذي وقع في أميركا الوسطى أن شعوب المايا كانوا يعرفوا الصفر قبل الشعوب الآسيوية بستة قرون ولم يكن أهل المايا يحسبون على الطريقة العشرية بل على الطريقة العشرينية أي يحسبون عشرين عشرين والأعداد من الواحد إلى التسعة عشر كانوا يرقمونها بنقط أو أشارات ويكون الصفر أشبه بعين مطبقة على ما عرف من عادياتهم.(96/94)